سرشناسه : ال کشف الغطاء، محمد حسین، 1877-1954م
عنوان و نام پدید آور : الدين والاسلام او الدعوة الإسلامية / تاليف محمد حسين كاشف الغطاء النجفي؛ تقديم و تعلیق و تحقيق محمد جاسم الساعدى: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام.
مشخصات نشر : : قم : المجمع العالمى لأهل البيت (عليهم السلام)، 1387. =1429 ق.
مشخصات ظاهری :
شابک :2ج : 329-9 - 978-964-529-328-2 978-964529-
وضعیت فهرست نویسی : فیپا
یادداشت : عربی.
یادداشت : کتابنامه.
یادداشت : نمایه.
موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14.
موضوع : شیعه امامیه - عقاید.
شناسه افزوده : ساعدی، محمد جاسم محقق و مقدمه نویس
شناسه افزوده : مجمع جهانی اهل بیت (عليهم السلام)
رده بندی کنگره : BP 211/5 :1759 1387
رده بندی دیویی: 297/4172
شماره کتابشناسی ملی : 1189619.
اسم الكتاب : الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية / ج 1 المؤلف: الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء النجفي
المحقق: محمّد جاسم الساعدي
الموضوع: عقائد، فلسفة، أديان
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الطبعة: الأولى
المطبعة: المجاب
الكمية: 3000
تاريخ النشر: 1432 ق
ISBN: 978-964-529-328-2
حقوق الطبع و الترجمة محفوظة للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
www.ahl-ul-bayt.org
E-mail: info@ahl- ul- bayt.org
الدين و الإسلام أو الدعوة الإسلامية
تأليف
الإمام الشيخ
محمد الحسين كاشف الغطاء النجفي (رحمه الله)
تقدیم و تعلیق و تحقیق
محمّد جاسم الساعدي
المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
«الجزء الأوّل»
ص: 1
سرشناسه : ال کشف الغطاء، محمد حسین، 1877-1954م
عنوان و نام پدید آور : الدين والاسلام او الدعوة الإسلامية / تاليف محمد حسين كاشف الغطاء النجفي؛ تقديم و تعلیق و تحقيق محمد جاسم الساعدى: المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام.
مشخصات نشر : : قم : المجمع العالمى لأهل البيت (عليهم السلام)، 1387. =1429 ق.
مشخصات ظاهری :
شابک :2ج : 329-9 - 978-964-529-328-2 978-964529-
وضعیت فهرست نویسی : فیپا
یادداشت : عربی.
یادداشت : کتابنامه.
یادداشت : نمایه.
موضوع : کلام شیعه امامیه -- قرن 14.
موضوع : شیعه امامیه - عقاید.
شناسه افزوده : ساعدی، محمد جاسم محقق و مقدمه نویس
شناسه افزوده : مجمع جهانی اهل بیت (عليهم السلام)
رده بندی کنگره : BP 211/5 :1759 1387
رده بندی دیویی: 297/4172
شماره کتابشناسی ملی : 1189619.
اسم الكتاب : الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية / ج 1 المؤلف: الإمام الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء النجفي
المحقق: محمّد جاسم الساعدي
الموضوع: عقائد، فلسفة، أديان
الناشر: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الطبعة: الأولى
المطبعة: المجاب
الكمية: 3000
تاريخ النشر: 1432 ق
ISBN: 978-964-529-328-2
حقوق الطبع و الترجمة محفوظة للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
www.ahl-ul-bayt.org
E-mail: info@ahl- ul- bayt.org
ص: 2
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا
سُورَةُ الأَحزاَب / آية : 33
ص: 3
«إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بهما لَنْ تَضلُّوا أبَداً»
«الصحاح والسانية»
ص: 4
إنّ تراث أهل البيت علیهم السّلام الذي اختزنته مدرستهم وحفظه من الضياع أتباعهم يعبر عن مدرسة جامعة لشتى فروع المعرفة الإسلامية. وقد استطاعت هذه المدرسة أن تربّي النفوس المستعدة للاغتراف من هذا المعين، وتقدّم للأمة الإسلامية كبار العلماء المحتذين لخُطى أهل البيت علیهم السّلام الرسالية، مستوعبين إثارات وأسئلة شتى المذاهب والاتجاهات الفكرية من داخل الحاضرة الإسلامية وخارجها، مقدمين لها أمتن الأجوبة والحلول على مدى القرون المتتالية.
وقد بادر المجمع العالمي لأهل البيت علیهم السّلام- منطلقاً من مسؤولياته التي أخذها على عاتقه - للدفاع عن حريم الرسالة وحقائقها التي ضبّب عليها أرباب الفرق والمذاهب وأصحاب الاتجاهات المناوءة للإسلام، مقتفياً خطى أهل البيت علیهم السّلام وأتباع مدرستهم الرشيدة التي حرصت في الرد على التحديات المستمرة، وحاولت أن تبقى على الدوام في خط المواجهة وبالمستوى المطلوب في كلّ عصر.
إنّ التجارب التي تختزنها كتب علماء مدرسة أهل البيت علیهم السّلام في هذا المضمار فريدة في نوعها؛ لأنها ذات رصيد علمي يحتكم إلى العقل والبرهان ويتجنّب الهوى والتعصب المذموم، ويخاطب العلماء والمفكرين من ذوي
ص: 5
الاختصاص خطاباً يستسيغه العقل وتتقبله الفطرة السليمة.
وقد حاول المجمع العالمي لأهل البيت علیهم السّلام أن يقدم لطلّاب الحقيقة مرحلة جديدة من هذه التجارب الغنيّة من خلال مجموعة من البحوث والمؤلفات التي يقوم بتصنيفها مؤلفون معاصرون من المنتمين لمدرسة أهل البيت علیهم السّلام، أو من الذين أنعم الله عليهم بالإلتحاق بهذه المدرسة الشريفة، فضلاً عن قيام المجمع بنشر وتحقيق ما يتوخى فيه الفائدة من مؤلفات علماء الشيعة الأعلام من القدامى أيضاً؛ لتكون هذه المؤلفات منهلاً عذباً للنفوس الطالبة للحق، لتنفتح على الحقائق التي تقدمها مدرسة أهل البيت علیهم السّلام الرسالية للعالم أجمع، في عصر تتكامل فيه العقول وتتواصل النفوس والأرواح بشكل سريع وفريد.
ونتقدم بالشكر الجزيل لسماحة المحقق الشيخ محمّد جاسم الساعدي لتقديمه وتعليقه وتحقيقه الكتاب، ولكل الإخوة الذين ساهموا في إخراجه.
وكلّنا أمل ورجاء بأن نكون قد قدّمنا ما استطعنا من جهد أداءً لبعض ما علينا تجاه رسالة ربّنا العظيم الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً.
المجمع العالمي لأهل البيت علیهم السّلام
المعاونية الثقافية
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحیم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وأهل بيته الطاهرين وصحبه المنتجبين إلى قيام يوم الدين .
لو قدّر للمرء أن يطّلع على فصول هذا الكتاب (الدين والإسلام ، أو الدعوة الإسلاميّة إلى مذهب الإماميّة) أو يطلّ إطلالةً يسيرة على بعض فصوله المتتابعة، يجد نفسه بلا شكّ يعاشر (الشغف) الكبير في التهام سطوره، ثمّ لا يجد محيصاً عن متابعته حتّى يأتى على آخره !
فلقد حالفني الحظّ والتوفيق في أن أبسط يديّ وأنا أنشر دفّتي هذا الكتاب الجليل محقّقاً، ثمّ صرت أعدو في قراءة بعض سطوره، ولم أحسّ إلّا وأنا أخوض غمار أفكاره الرشيقة وعباب مواضيعه الأنيقة ، فصرت أعتني بالتهام سطوره وكلماته أيّما اعتناء.
قد يحدث أن أقف عند من لم يسمع بهذا الكتاب الشريف، أو أنّ يديه قد قصر تا عن تناول سوى هذين الجزئين المطبوعين من هذا السفر الخلّاق، وأجد الحقّ مع الثاني ؛ إذ لم أجد أحداً يدّعي رؤية باقي الأجزاء بمكان، سوى ما قيل من أنّها تضجّ في خزانة الورثة بكاءً وعويلاً، تطلب السراح الجميل.
لكن لا أخال أحداً من المثقّفين لم يسمع بهذا الاسم : (محمّد الحسين
ص: 7
كاشف الغطاء) ولم يشهد لقب (كاشف الغطاء) بالمرّة، فإننّي لا أكون مغالياً لو ادّعيت بأنّ لهذا الرجل من العظمة ما يخوّله لدخول تاريخ الإبداع الإسلامي بأوسع أبوابه، وعدّه ضمن قائمة عباقرة القرن العشرين.
وهذا الكتاب الذي يمثل بين يديك - عزيزي القارئ - رغم حجمه المتواضع ، يعدّ إحدى المحاولات الهادفة والجادّة في طريق ذات الشوكة، حيث ولد في وقتٍ تعزّ ولادة أمثاله، وظهر في زمانٍ أشدّ ما يكون فيه المؤمن وهو يريد أن يترسّم بفهم أُصول دينه، فلا يجد من يرشده وسط مجموعة هائلة من التيارات الإلحادية، والحركات ذات النزعة الداروينية، والتكتّلات المنحرفة التي تقودها أقطاب المادّية العالمية ذات الهوس بالتطوّر التكنولوجي والتقني الذي اجتاح أُوربا والعالم الغربي آنذاك.
لقد ولد هذا الكتاب في زمن المواجهة العسيرة مع جحافل الكفر والزندقة والإلحاد، وهي تحمل معاولها بأيديها، ولا تريد إلّا القضاء على هذا الدين، من خلال هدم أركانه وإطفاء نوره المستطير.
إنّ التعرّض لهذا النوع من التأليف في زمن (القحط) العقائدي، يعدّ بلا شكّ مبادرة شجاعة من صاحبه، وضميمة حقيقية وحيّة تكشف عن جملة معانٍ سامية وهادفة، تبرزها في ظلّ القهر والتراجع والانحناء للأقوياء، ولذلك لا ينفكّ عن كون هذا المؤلَّف (دراسة جريئة)، تنبض بالحياة وتعيد النشاط في تناول أُصول الشريعة الإسلامية الحقّة، وتعريفاً علمياً ملتهباً بالصدق والأمانة لتعاليم هذا الدين وجوانب من عقائده الصحيحة، بعيداً عن كلّ ما له علاقة بالخرافة والأساطير اللتين احتلتا مكانة (عظيمة) في كتب التراث الديني، و مصنّفات علماء الأديان الأخرى.
ص: 8
فليس ببعيد أن نقول : إنّ الكتاب قد تحوّل إلى بحث عقائديٍّ متكامل، يدافع فيه مؤلّفه عن أصول هذا الدين، وينفي من خلاله كلّ التهم بردّ جميع الشبهات والأوهام التي سعى أعداؤه إلى إلصاقها به، ويكشف عن الوجه الحقيقي الناصع لهذه الشريعة الحقّة.
والسؤال المطروح هنا : تُرى هل من الضروري الدفاع المستميت عن تعاليم الإسلام وأصوله في زمنٍ تجهد في أن تجد أذنا صاغيةً لمثل هذه المواضيع؟
لا أبالغ إن قلت : إنّ ظهور الإسلام كان أعظم حدثٍ في تاريخ العرب، وبداية تحوّل خطير في حياتهم الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية والأدبية، وكان له أكبر الأثر في حياتهم لدرجة أن أدّى إلى حدوث انقلاب تامٍّ في معالم هذه الحياة، وتبدّل في نفسية وأخلاق الإنسان العربي، بل ونمط تفكيره وسيرته.
وبالرجوع إلى المعطيات التاريخية الملموسة يمكن أن تتّضح الرؤية بصورة شفّافة وثاقبة للمدى الواسع الذي بلغته مجريات التحوّلات الاجتماعية التاريخية الكبرى للسكّان القاطنين في شبه الجزيرة العربية، الذين قُدِّر لهم أن يحتضنوا الرسالة الإسلامية العظمى، ويُبدوا اهتماماً كبيراً تجاهها وتجاه صاحبها صلی الله علیه و آله و سلّم.
ولعلّ في مقدّمة هذه المعطيات هو درجة التغيير الكيفي الذي حلّ في العلاقات والبنى الاجتماعية المتخلّقة في الوسط العربي الصعب، الذي تتحكّم
ص: 9
فيه جملة عوامل وظروف جعلت منه أن يكون أشبه ببيئة موبوءة بأمراض عسيرة العلاج، ناشئة إثر رؤى جاهلية تعتمد الخرافة والتعصّب والثأر أساساً لها.
وكذلك التغيير الكيفي قد اشتمل على التطوّر الاقتصادي والسياسي الذي أصاب تلك البقعة الكريمة من على سطح هذا الكوكب الدوّار.
وبالعودة قليلاً إلى قراءة المسوح التي وثّقت بخصوص مسار المراحل التاريخية التي تعاقبت على مرّ التاريخ الإنساني والسياسي لمنطقة شبه الجزيرة العربية ثمّ البلدان المتاخمة لها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وإلى حيث ما وصلت إليه الجيوش الإسلامية الفاتحة، نشهد خطاً بيانياً جليّاً يدلي بقوّة، فيحكي أنّ ثمّة حقباً تاريخية قد مضت على فترات مختلفة شهدت تحوّلات مثيرة، سواء على صعيد التطوّر التقني أم على صعيد بناء النماذج الحياتية الجديدة التي لم تنقطع في يومٍ ما، قد تجسّدت في كلّ منطقة أصابها الطوفان الإلهي، فاقتلع ما هو ماضٍ سخيف، ليحلّ محلّه البديل الرفيع.
وقد استطاعت أنماط الإنتاج عبر الحقب التاريخية المتلاحقة، منذ نشوء الإسلام وتوسّعه في المنطقة وحتّى قيادته العالم الإسلامي والجزء الكبير من القسم المسيحي الجاثم على بقع شاسعة من ذلك العالم الغربي ، فقد استطاعت أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية والأخلاقية الجديدة، ثمّ الخزين الثقافي المتواصل العطاء، والثروة الهائلة من الفكر والمبادئ والقيم التي جاء بها القرآن الكريم للبشرية جمعاء .. كلّ ذلك استطاع أن يقدّم النماذج الرفيعة للإنسانية التي تقطن ربوع الأرض المترامية الأطراف، وتدعم ركائز تطوّرها وتقدّمها لتنافس أنماط الإنتاج الأخرى.
ص: 10
ولهذا يمكن القول : إنّ مضمون الحياة الجديدة التي أنشأها الإسلام، وفي ظلّ شريعته الغرّاء، يحتوي على نماذج حياتية تختلف كلّياً عن تلك التي قامت عليها حياة الناس من قبل من جاهلية مشركة، ومسيحية محرّفة بعدما فقدت بريقها وأصالتها جرّاء أيدي العابثين والمبطلين ممّن تجرّأوا على أن يقدموا على أفعال خشيت الجبال من حملها، وتجاسروا على الانقضاض على أغلب تعليمات السيّد المسيح علیه السّلام وقيم السماء التي جاء بها.
ولم يعد خافياً على أحد أنّ نمط الدين الجديد الذي بات يكتسح كلّ العراقيل التي وُضِعت أمامه، ويخترق كلّ الحدود الموضوعة، وأضحى قوّةً عالميةً جديدة ينبغي أن يقام لها وزن في العالم آنذاك، أنّ نمط هذا الدين بدأ يكتسب بُعداً خاصّاً يُحسب له حسابه، ومفهوماً اجتماعياً شاملاً تلتحم في إطاره جميع الأوجه: الاقتصادية والسياسية والتقنية والثقافية والتعليمية، إضافة إلى الأطر الإيديولوجية الحديثة، ممّا يشكّل في النهاية مدرسة حضارية متكاملة قائمة على أسس ومبانٍ أبهرت الناس، وجذبت اهتمام حتّى من كان يقطن الأقطار البعيدة عن هذه الحوادث المتلاحقة والمتسارعة، من خلال ما تنقل عبر التجّار والمسافرين من أخبار وتطوّرات متعلّقة بهذا الدين الجديد.
ولكن هذا لا يعني أنّ الإسلام كان يلغي بالضرورة جميع تأثيرات التراكمات الحضارية والآثار الموروثة بالمرّة، بل أثبت ما هو صالح وما لا يخالف قيمه ومبادئه وأخلاقياته، وكلّ ما هو يوائم الفطرة ولا يعارضها، ممّا لا يؤدّي إلى خلخلة البنية الاجتماعية التي راح يؤسّس قواعدها ويرفع من
ص: 11
أعمدتها.
كتب المؤرّخ الأميركي (ستودارد) يقول : (كاد يكون نبأ نشوء الإسلام الخبر الأعجب الذي دوّن في تاريخ الإنسان. لقد ظهر الاسلام في أُمَّةٍ كانت قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وفي بلاد منحطّة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتّى انتشر في نصف الأرض ! ممزّقاً مماليك عالية الذرى مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمةً كرّت عليها الحقب والأجيال، ومغيّراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراصّ الأركان ، هو عالم الإسلام)(1).
كما وأثبت التاريخ أيضاً - من خلال قراءة في صفحاته وإلقاء نظرة فاحصة على بياناته المتعدّدة - أنّ التطوّرات الحضارية، سواء على المستوى التقني والمدني، العلمي والعملي، اللذين تهيّاً للغرب عموماً ولدول أوربا خصوصاً، والطفرة النوعية العالية، والكيفية المدهشة التي أنجزتها على كافّة الأصعدة، ولما أدّى إلى نشوء بنية تحتية اجتماعية واقتصادية راقية ، إنّما هو أثر النموذج الجديد الذي أفرزته (الظاهرة) الإسلامية إبّان احتكاكها مع شعوب وأمم ما وراء البحار، ممّا أحدثت سلسلة تفاعلات غيّرت بالضرورة الأنماط القديمة، وأوجدت لها هزّات عنيفة دفعت الغرب برمّته إلى حالة (تقبّل) النمط الجديد، ثمّ استيعاب التغيير الذي تمّ في نماذج مختلفة وعلى أصعدة مختلفة.
كتب المؤرّخ (ه-. أل . فيشر) يقول في هذا الصدد: (لم يكن هنالك في الجزيرة العربية قبل الإسلام أثر لحكومة عربية أو جيش منظّم أو طموح سياسي عامٍّ. كان العرب شعراء خياليّين محاربين وتجّاراً، لم يكونوا سياسييّن إطلاقاً،
ص: 12
إنّهم لم يجدوا في دينهم قوّة تثبّتهم أو توحّدهم، إنّهم كانوا على نظامٍ منحطٍّ من الشرك، ولكن بعد مِئة سنة من ولادة الإسلام فقط انتزعوا أفريقيا من البيزنطيّين والبربر وإسبانيا من الغوط، وهدّدوا فرنسا في الغرب والقسطنطينية في الشرق، ووجدت الدول النصرانية من أقصى أروبا إلى أقصاها منذرة مهدّدة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي، ألا وهو الإسلام)(1).
والكتاب الماثل بين يديك - عزيزي القارئ - يمثّل إحدى المؤلّفات القيّمة الجادّة التي خطّتها يراعة الحجّة آية الله الشيخ (محمّد الحسين كاشف الغطاء)، وأحد الكتب الهادفة التي رسمت سطوره ريشة أحد أعلام الفكر والأدب والفقاهة والاجتهاد، الذي سعى إلى أن ينهض بقوّة بمشروع المساهمة الفعّالة في تعريف رسالة الإسلام وجوانبها العقائدية، والتصدّي لردّ كلّ الشبهات والأوهام التي علقت بأذهان أجيال المسلمين المتلاحقة .
وإذا صحّ التعبير فإنّنا لا نبالغ إذا قلنا : إنّ (تياراً) من الوعي الثقافي والفكري والعقائدي الإسلامي قد نشأ في النصف الأوّل من القرن المنصرم، كان للمؤلّف المرحوم الحظّ الأوفر في تشكيله، ثمّ تمهيده للأجيال المتلاحقة.
إذاً ثمّة (ملفّ) يتعرّض لضمير الأمّة الإسلامية وعقيدتها الدينية ، كان مهدّداً بالتلف أو الضياع في زمن تكالب الأُمم بجميع حشودها وإمكانياتها وطاقاتها المتطوّرة على إحداث (شرخ) يساهم في إتلاف هذا الملفّ المزعج
ص: 13
لهم، وتصفية (رموز) هذا الدين للحيلولة دون تمسّك المسلمين برسالتهم ، وإجبارهم على تركه أو نسيانه على أقلّ تقدير.
في وسط هذا الفضاء (الملوّث) برز هذا المؤلّف ليساهم في ردّ (العدوان) ودحر بعض هذه (الجموع) التي لا همّ لها سوى إعمال الإتلاف والضرر في كيان هذا الدين القويم، فكان الكتاب أشبه ب- (صرخة) أُطلقت وسط الظلام بنبرة صادقة تحكي عن ضرورة إنقاذ الحقيقة التي (تكاتف) العالم (الآخر) على محوها عن البين.
ليست المشكلة في أن (تصرخ)، ولا بأي درجة من (الصراخ) يمكنك أن تطلق صرختك ، فلم يعد الأمر يحتاج آنذاك إلى (شجاعة الشجعان) كما كان يردّدها غيره من الكتّاب والصحفيّين (الإسلاميّين)، ولكن المشكلة تكمن في أنّه متى (تصرخ)، وبأيّ شيء (تصرخ).
ذلك لأنّهم لا يمانعون من (الصراخ) نفسه، ولا يتأفّفون مِمّن يرغب بالصراخ لو أحبّ، شريطة أن يظلّ توقيت الصراخ بأيديهم، وأن يكون ذلك تحت أعينهم!
فإنّ المشكلة الحقيقية لديهم هي أن لا تكون (الصرخة) نافذة إلى أعماق الضمير الإسلامي، وأن لا تمسّ (وجدان) الشارع المسلم، لتستنهضه فتتمزّق (الشرنقة) العتيدة التي بذلوا جهداً مضنياً في نسجها وإحكامها !
وهذه هي الحقيقة التى أدركها الباحث المؤلّف بعدما أحسّ بخطر ظاهرة (اللاقرار) التي تحيط بهذه الجموع الهائلة من مسلمي هذا الجزء من العالم الفسيح، وعجز غيره عن إدراكها، إذ حجبته عن هذه الرؤية السليمة طائفة من الأنوار البرّاقة، والرونق المزيّف التي أحاط الأمّة كهالة مضيئة آنذاك.
ص: 14
لقد كانت العقيدة الإسلامية مهدّدة بالضياع، وكاد الأعداء يدرجونها ضمن (الملفّ) الأكثر سخونة وعداوة (المدنية الحديثة)، ووحشية (الحرّية المعاصرة)، ولأجل ذلك سعى الكتاب إلى ضمّ مجموعات متفرّقة تصبّ في قالب عقائدي واجتماعي وسياسي موحّد، مستعيناً بطائفة من أبرز المواضيع المهمّة التي تشكّل نقاط (انعطاف) خطيرة في ذهنية الفرد المسلم عموماً والشيعي على وجه الخصوص.
إنّ الناقد اللبيب إذا ما توفّرت له فرصة مطالعة هذا الكتاب - وباقي مؤلّفات هذا الرجل - يجده قد توافر على وعي كبير، وثقافة واسعة، وفقه مسلّط، وقلم أدبي راسخ و محبّب ، فاجتمعت فشكّلت أشبه شيء بوظيفة جامعة لإبراز ما هو المعنيّ من الكلام والجدل اللذين كانا ظاهرتين مسترسلتين في ذلك العصر . ثمّ ليستشف من خلال سلسلة كتبه ذكاءه المفرط، وقلمه الفيّاض ونظرته الحانكة ، وفكره الوقّاد ، وإخلاصه لمقدّساته ولولاية أهل البيت الكريم (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ، فراح يترجم حبّه وولاءه في سلسلة كتابات شيّقة، بذل جهداً كبيراً في إبرازها وتقديمها لأبناء جيله الذين طالما (انصرفوا) عن دينهم ومذهبهم وأخلاقهم ، وتركوا (تراثهم) وراء ظهورهم، ذلك التراث الذي كان يوماً الإشراقة العظمى في هذه الدنيا الفانية.
لقد خطا هذا الرجل خطوات واسعة باتّجاه هدم أركان الخرافة وهدّ قواعد الأُسطورة، عبر كتاباته الشيّقة وألفاظه الرشيقة في الكتب أو الرسائل الموجّهة، ولذا فهو يصرّح بذلك في معرض حديثه عن صفة الكاتب والباحث وما ينبغي له أن يتحلّى به إذا ما أراد أن يجرّب (الشوط) في هذا الميدان، فيقول في إحدى صفحات الكتاب : (لو أنّ كلّ باحث وقف عند حدوده، ولم يتجاوز قدر معلوماته
ص: 15
ومحكماته ... لانهدّ جانب كبير من تلك المنازعات والمجادلات التي ضخّمت بها الأساطير ، واتّسع فيها نطاق الصحف).
فمن يقرأ هذا الكتاب لا مناص من أن يلمس فيه اتّزان العالم الملتزم وحصافة رأيه ، ونبوغ قلمه ، وروعة بيانه ، ودقّة إفصاحاته ، ورشاقة عباراته حيث تبرز أنغاماً متوازنة كأنغام السلّم الموسيقي من خلال (الجرس) الأدبي الحاكي عن سعة اطّلاعه في أكثر من مجال.
يضاف إليه ما اتّصف به من براعة خاصّة، امتاز بها على غيره، في صياغة المادّة العلمية الأصيلة في قالب أدبي ، ينطق روعةً ، ويحكي رشاقة وجمالاً، فلا محيص من أن (يفرض) مطالعته - إن صحّ التعبير - على كلّ من فكّر في أن يتصفّح وريقاته ، أو عزم على قراءة سطوره ! لأنّه يمتلك جذّابية عجيبة في (اقتناص) قرّائه ، وإفضاء جوِّ من (الرغبة) و (السعادة) في إكمال صفحاته لو احتفظ بوقت وسيع أو كان فارغاً من بعض أعماله المهمّة !
إنّ من طالع بضع وريقات من هذا (السفر) الخالد بخلود العقيدة الإسلامية ، وقرأ بعض صفحاته على سبيل المطالعة أو البحث، يقف بلا شكٍّ على سلامة ذهن المؤلّف وتفكيره، ومتانة تداخلاته ومجادلاته ، وقوّة طرح موضوعاته ، ورشاقة عباراته في مقام بيان أُطروحاته وأفكاره.
فلا يجد القارئ شيئاً من الملل والضجر ، ولا يحسّ بنوعٍ من الإرهاق أو التعب جرّاء متابعة (تطوالاته) ومجاراة (استرسالاته).
إنّ العمق والأصالة والجزالة في جريان البحث الذي تحلّى بها هذا الكتاب ، وامتداد هذا اللون الذي أضحى طابعاً رشيقاً رافق مباحث ومطالب الكلام الذي عني به، والذي صار (موقفاً) بليغاً، ينمّ عن مقدرة الكاتب الكلامية،
ص: 16
وقدرته على التنقّل من بحث إلى آخر من غير أن يستعين بعنوان خطابي أو جانبي .
فلا غرو أن تكتسح القارئ مشاعر وقّادة باعثة على (الاندماج) مع سير
البحث، ومتابعة نقاطه الجديرة بالمطالعة والاستيعاب.
ذلك لأنّ الأسلوب الذي اتّبعه رحمه الله في هذا الكتاب لم يكن بمعزل عن دائرة النتاجات العلمية والأدبية الهادفة والرائعة التي ظهرت أساساً للدفاع عن قيم وتعاليم وعقيدة الإسلام الحقّة، وتحقيق الحدّ الأقصى من المهمّة التي أزمع رحمه الله تخطّيها وبلوغ الأهداف السامية منها.
فأمر رائع حقاً أن يبرز فقيه وفيلسوف وكلامي اهتماماً خاصّاً بحقول الأدب والبلاغة والبيان ، ممّا يشير إلى رعايته المحضة بالأدوار الأخرى التي ينبغي أن يتحلّى بها الفقيه ومرجع التقليد، شريطة أن يحافظ على مبادئه وقيمه ، وتلقّيه لها عن أهلها ، وسيره على منهجهم، يقول في إحدى صفحات الكتاب : (فلو تهجّم أحد على أيّ علم من العلوم، وفنّ من الفنون، من دون أخذه من مبادئه وتلقّيه عن أهليه ، وسيره على النهج الذي يلزم فيه ، لا يعتم أن يكون مشيه فيه مشية السرطان معكوسةً إلى الوراء).
إنّ شيوع الحسّ الأدبي بين الأوساط العلمية والكلامية ، والمحافل الفقهية والفلسفية، والمراكز الفكرية الصرفة ، وانتشار صيتهم على جميع الأصعدة، يؤدّي بالطبع إلى تزايد شعبيّتهم ، وازدياد معدّلات الانقياد تجاههم ؛ إذ سيصيب أوساطاً أوسع لتشمل الكتّاب والصحفيّين والشعراء ومتذوّقي الأدب من أصحاب الكتب اللغوية والنحوية ، ثمّ التفاف عشّاق العلوم والمعارف والآداب الشعبية والمحلّية ، لتكون المحصّلة ارتفاع نسبة المتوجّهين إليهم، وزيادة أعداد
ص: 17
المريدين والناصرين لهؤلاء الأعلام.
فلا عجب إذاً أن نشهد تهافت العلماء والمفكّرين والأدباء والمثقّفين على قراءة هذا الكتاب ، وتباريهم على طباعته ونشره ، وتقديم النظم الجميل في مدحه والثناء على مصنّفه ، والإطراء على شمائله ومطالب بحوثه .
وهذا بلا شكّ يعد مؤثراً صادقاً يحكى متابعة العلاقة القائمة بين أفراد
الأُمّة من الخواصّ والعوامّ وهذا السفر الجليل، وشدّة اندفاعهم لنشره في الأوساط العالمية.
ومن أجل أنّ المقام لا يسع لدرج جميع شمائل هذا الكتاب، فقد آليت
على نفسي أن أضمّ في هذه السطور التالية باقةً منها :
فرغم أنّ الكتاب قد واجه عقبات كثيرة في سبيل طبعه ونشره آنذاك ، خاصة إذا علمنا أنّه قد ظهر في زمن (القحط) العقائدي، وتضوّر (الجماعات)، وتكالب الأمم والحركات والتيّارات الهائجة على كلّ ما له صلة بالإسلام فكراً وشعائر، فما بالك إذا ظهر من يناقش أُسس هذه الحركات، ويهدّ دعاويها ، ويردّ سهامها إلى نحورها ، وهو يصدح بالدفاع عن العقيدة الحقّة ، عقيدة السماء الخالدة؟!
لقد تجاوز المؤلّف كلّ دعوات الإلحاد الموجّهة من قبل الشيوعية وأتباع الداروينية ، ونداءات التحلّل والمادّية التي تصدّت لنشرها الليبرالية ، ومؤيّدو الراديكالية العربية ، والعلمانيّون الذين ما فتأوا أن وضعوا معاولهم في (جسم) هذا الدين الحنيف ، فصار المؤلّف يصدح عالياً بنداءات الإسلام، والالتزام بقيمه الخيّرة، وتعاليمه السامية ، ويدعو إلى متابعته في ضرورة إطاعة الشرع الإلهي
ص: 18
القويم ، ونبذكلّ المشاريع والقوانين الوضعية الخالية من الأخلاق والسموّ الروحي والعقلي الأصيل.
فقد اتّسم الكتاب بأُسلوب رشيق يعرض من خلاله جملة مطالب واقعية
وضرورية في الأوساط الشبابية المتعطّشة لقيم حقّة ومبادئ رفيعة.
لقد أوضح هذا الكتاب أنّ الرسالة الخاتمة التي بعثها الله (سبحانه) للبشرية جمعاء، هي رسالة الإسلام، جاءت كحلقة أخيرة من حلقات البيان السماوي للأحكام العلوية، نزلت في مرحلة النضج البشري ، لتطرح نفسها أمام العالم والكون برمّته رسالةً إلهيةً خالدة لها القدرة على تجاوز الزمان والمكان، وتنظيم حياة الإنسانية في جميع أطوار حياتها على سطح الأرض ، ولهذا كلّه كانت الحاجة ماسّة إلى رسالة محكمة تبرز أهمّ القواعد التي تساعد على إنشاء منظومة لقيادة العالم، وأن تتمتّع بصفتين رئيسيّتين :
الأولى : تتجلّى فيها معطيات الهداية والإبداع والنظم الرفيع .
والثانية : تتجلّى فيها الشفّافية والواقعية .
يحدّثنا هذا الكتاب من خلال أبوابه بجميع تفريعاتها المتنوّعة عن موقف الإسلام تجاه الأديان الأخرى ، ثمّ المذاهب الوضعية، والنظريات التي صدرت مؤخّراً والتي تتحدّث حول بعض العقائد الدينية ، وتمتلك آراءً تجاه الكون والخلق والعالم والصانع والرسل المبعوثين، ويبدي نظره نحو أساليب (السفسطة) التي تتوسّل بها بعض الاتّجاهات، وينفي بقوّة كل التهم الموجّهة إلى الشرع المقدّس، ويعلن اعتراضه على كلّ ما من شأنه توظيف قضايا فلسفية في سبیل مسائل باطلة، ومطالب وضعية ابتغاء هدم الدين وإبعاد مريديه عنه .
ص: 19
لقد حافظ الكتاب على (سخونة) الموقف الدفاعي عن حياض الإسلام واندفاعه المسهب في الردّ على الاتّهامات الباطلة التي تنطلق من هنا وهناك ، بأسلوب ساخر رشيق، يبعث على التشويق في سبيل بلوغ البحث حّتى نهايته .
فلم يتجاوز أدب الاعتراض القائم على النقاش العلمي الموضوعي ، من دون أن تتخلّله عواطف جيّاشة مفرطة بالسبّ والشتم وتوزيع التهم بالجملة.
فكان مثالاً يحتذى به من أجل الردّ على الطعون الموجّهة إلى هذا الدين، وأنموذجاً سامياً يحظى بالاحترام وكلّ التقدير.
فانطلاقاً من وظيفة الإرشاد والتوعية لأفراد الأمّة عموماً تبنّى المؤلّف رحمه الله مهمّة تعليم القرّاء وهدايتهم إلى طريق الرشاد ، من كلّ طبقات المجتمع ، من طلبة وجامعيّين، وأساتذة ومثقّفين ، وكتّاب ومفكّرين ، وعامّة وخاصّة، ومحاولة بثّ الأفكار الصالحة في جميع هذه الأوساط، ومحو كلّ خيوط الشوائب التي قد تخلّلت أذهانهم أو طغت على أفكارهم.
وكان هذا الأمر بحاجة إلى لغة مشتركة تعيها جميع الآذان وتفهمها كلّ العقول على اختلاف مستوياتها . فحيثما رَسَا القلم أزمع في تحديث قالب مصبوب على أساس متين على جميع الأصعدة، من السياسة إلى الاقتصاد ، إلى الاجتماع ، إلى الأخلاق والتربية .. وإن كان موضوعه البحث في مقاصد عقائدية كالتوحيد مثلاً.
لقد بسط الكلام في المواضيع التي تعدّ من المشكلات القائمة أمام المسلم، وأسهب في بيان أصله وفصله ، ثم شرع في رد الشبهات حوله ، واستخلاص المطلوب منه، ثمّ بيّن المحصلة الأصيلة من كلّ ما طرح، ولا يخلو
ص: 20
من لذعات مؤدّبة وعبارات ساخرة لأصحاب الدعوات (المضحكة) و(الباطلة) التي عُدت من (النظريات الحديثة)، ممّا أعدّها أصحاب الوكالات الإعلامية اليهودية والصحف المموّلة من قبل الجهاز الصهيوني العالمي.
إنّ اللغة مادامت عصرية ملتزمة، بعيدة عن الإجحاف والتعقيد، خالية من مواضع السبّ والشتم المنافيين للأدب والأخلاق العامّة، فإنّ ذلك يكون قميناً بأن تنال الثمرة وتبلغ الهدف المطلوب، وأن تحظى باهتمام الجمهور وتشجيعهم على تناولها.
فلم تنقطع سلسلة المواضيع ذات الاهتمام العقائدي في هذا الكتاب، بل امتدّت في التصدّي بحثاً ومناقشةً لتشمل مواضيع أخر متفرّقة، رأى المرحوم المؤلّف المصلحة في التعرّض لها كعناوين جانبية ذات ارتباط بمنهج الكتاب العامّ، شعوراً منه بمسؤولية المساهمة في بيان وجوه الحقّ وعلى أكثر من موقع، باتّجاه التعريف بالرسالة، وسمّوها على جميع النظريات والأفكار الوضعية.
ففي الوقت الذي يندفع إلى ذكر أدلّة الموحدين في إثبات وجود الصانع الواحد الحكيم، وتعرّضه إلى إبداء رأيه بثبات، وطرحه أدلّة جديدة عمّا ذكرت في كتب القوم في هذا المجال، تراه يعرّج باتّجاه مناقشة كتب العهدين : التوراة والإنجيل، ومناقشة أهم الآراء والأقوال الواردة فيهما . وهكذا الأمر في مسألة إعجاز القرآن من خلال الإلحاح على مسألة خصائصه البلاغية بصورة مسهبة، حيث أعلن أنّ إعجازه ليس بالأمر الهين الذي يسهل إدراكه وفهمه ؛ لأنّه كمال البلاغة ، فهو اضافة إلى ذلك يشتمل على خواصّ ومقتضيات خارجة عن قدرة
البشر، كما يوحي بسرّ أو جلالٍ يعلو فهم العقول، وما تتشوّق إليه النفوس.
ص: 21
هذا في الوقت الذي يناقش مسألة الجبر والاختيار، والقضاء والقدر، ويبرز أهمّ الآراء الجارية حولهما، ويبدي مناقشته لعناصر المتعرّضين في هذا المجال.
فمن روعة الكتاب هذا أنّه يشارك النقاش في أشدّ القضايا (سخونة) عند الجيل الشبابي، فيحاول أن يسجّل النقاط المهمّة المطروحة في هذا السياق، ثمّ يعرّج إلى بيان ضبابيتها والأوهام التي أُحيطت بها، ثمّ - بعد ذلك - يبرز الأدلّة التي تهدمها، وتدعو العقول إلى إحلال التأمّل محلّ اليقين فيها. وهو بهذا المنعطف يثير مسائل هادفة تصبّ في هدفٍ مشتركٍ، يتيح من خلال هذا العرض إبراز الأفكار المعتّم عليها، وتحرير الرأي الأشرف منها.
فما هو الأجدر من الفكر الإسلامي وتعاليمه السامية لأن يكون تجسيداً
لكلّ معاني السموّ والكمال وهداية البشر أجمعين ؟!
إنّنا في حاجة ملحّة - وما زلنا - إلى دراسة تراثنا العقائدي بموضوعية أكبر، ونشره بلغة العصر المحبّبة لتستقطب أكبر عدد ممكن من المثقّفين وطلبة الجامعات الحديثة الذين يستهوون مطالعة كلّ بحث أو دراسة أو مؤلّف يعتني بشؤون العقائد الإسلامية وبتفاصيلها التي غالباً ما تكون مملّة في العرض معقّدة فی الأسلوب مسهبة في البيان بحيث تفتقد إلى الصبر، أو موجزة بشكل كبير لدرجة أن يتصوّر القارئ وكأنّه أمام لائحة قانونية ملخّصة ومرقّمة صادرة من جهة تشريعية أو قانونية !
إنّ المحاولات الجادّة التي يمكن أن ترفد كلّ إيحاءٍ صادق قد يقوم به بعض الكتّاب والمفكّرين في سبيل إعادة مجد ثقافتنا وعقيدتنا الإسلامية السامية وترميم ما ثلم من صرح فكرنا ومشاريعنا الإلهية، تعتبر في نظري
ص: 22
انعكاساً - ولو محدوداً - لثورة عارمة تستنهض أقلام وألسن ذلك الطيف الواسع من المفكّرين الإسلاميّين الذين استوعبوا هموم الرسالة وعاشوا ظروف الأُمّة وهى تجتاز الصعاب والمشاكل بصورة مذهلة.
وهذه المشاريع الفكرية والثقافية لابدّ وأن تورث حالة وعي وإدراك بشقّافية كاملة لأبناء هذه الأُمّة، ولابدّ أن تجد في يومٍ ما الآذان الصاغية، والقلوب الصافية، والأذهان المتّقدة، والسواعد الشجاعة الصلبة، فتثير فيها الوجدان نحو غدٍ واعدٍ كريم.
فالحقّ - والحقّ يقال - أنّ إنجازاتٍ كهذه ستشهد فيضاً إلهياً يشملها، و مباركةً من الناس لها، وأثراً خاصّاً على المدى البعيد، إذ أُريد منها الإخلاص وحسن النيّة، من أجل تجذير الوعي العقائدي والثقافي بين أفراد هذه الأمّة الكبيرة ولا سيّما أتباع أهل البيت الطاهر علیهم السّلام الذين يغطّون مساحةً واسعةً من خارطة العالم الإسلامي الفسيح.
ولذلك فإنّنا لا نتصوّر بأنّ هذا الرجل في مشروعه الثقافي الحيوي، يصنّف ضمن المشاريع الثقافية الأخرى التي يقوم بها بعض الفقهاء والمصلحين، أو طائفة من الفلاسفة النشطين في ضمن مجالات معيّنة من مجالات الحياة الثقافية والحضارية لدى البشر فحسب، بل يعدّ أُنموذجاً مثالياً يُقتدى به؛ لأنّه قد تعاطى مع التراث ومكتسبات الماضي الإسلامي العريق وإنجازاته بكلّ تفانٍ وإخلاص، ساعياً إلى بثّ الوعي الديني الحقيقي القائم على أساس العقل والموضوعية بين أفراد الناس، طالباً من وراء ذلك مرضاة الله (سبحانه وتعالى).
وأروع ما فيه أنّه لم تأسره هذه (الإنجازات) أو تجمّد عقله أو تغلّ قلمه عن لفظ محبرته بلغة عصرية جذّابة، وقدرته على الإبداع الفكري، وبسطه
ص: 23
بأسلوب رصين ولغة عالية تترفّع عن مواطن الضعف وفي حدود الأدب العامّ.
تُرى مَن هذا الرجل الذي يدعى ب- (محمّد الحسين كاشف الغطاء)؟ وما هي أحواله، ومستوى علميّته؟ ومن هم أساتذته وطلّابه؟
دعونا نقرأ بطاقته الشخصيّة، ونتأمّل سيرته!
هو الشيخ محمّد الحسين بن علي بن محمّد رضا بن موسى بن جعفر بن خضر بن يحيى بن مطر بن سيف الدين المالكي النجفي(1).
و من الخطأ الشائع تسمية الشيخ ب- (محمد حسين)، بل الصحيح هو (محمّد الحسين).
والمالكي نسبةً إلى قبيلة بني مالك إحدى قبائل العراق، وهم المعروفون
ص: 24
كذلك بآل علي. وهم طائفة كبيرة بعضهم في نواحي الشاميّة، وبعضهم الآخر في نواحي الحلّة.
ويقال : إنّهم ينتسبون إلى مالك الأشتر رحمه الله(1).
وإلى ذلك أشار السيّد (صادق الأعرجي النجفي) المعروف بالفحّام (2)بقوله - من قصيدة يرثي بها الشيخ (حسين) (3)أخا الشيخ (جعفر الكبير) صاحب کشف الغطاء(4):
ص: 25
يا أيّها الزائر قبراً حوى *** من كان للعلياءِ إنسان عين
يا منتمي فخراً إلى مالك *** ما مالكي إلّاك في المعنيين
وقال الشيخ (صالح التميمي) (1)- من قصيدة يهنّئ بها الشيخ (محمّد) سبط الشيخ جعفر الكبير بتزوجّه إحدى بنات أحد رؤساء آل مالك الذين كانوا في الدغارة :
رأى درّة بيضاء في آل مالك *** تضيء لغوّاص البحار ركوب
رأى أنّه أولى بها لقرابة *** تضمّنها أصل للخير نجيب
وكانت ولادة المترجم له في مدينة النجف الأشرف (محلّة العمارة) عام 1294 ه- ( 1876 م) ، من أبوين كريمين صالحين هما : والده الحجّة الشيخ (علي كاشف الغطاء) الذي كان علماً من أعلام عصره، ووالدته الحاجّة (هديّة آل كبّة)، وهي من أسرة آل كبة البغداديّين المعروفين.
وقد أرّخ عام ولادته الشاعر النجفي المشهور السيّد (موسى الطالقاني)(2)
ص: 26
بقوله :
سرور به خصّ أهل الغري *** فعمّ المشارق والمغربين
بمولد من فيه تمّ الهنا *** وقرّت برؤيته كلّ عين
وقد بشّر الشرع مذ أرّخوا *** (ستثنى وسايده للحسين)
وقد تحقّقت هذه النبوءة التي جرت على لسان هذا الشاعر ، فصار كاشف الغطاء آية عصره وعلماً بارزاً في جميع الميادين العلميّة والاجتماعيّة.
تعدّ أسرة كاشف الغطاء من ألمع الأسر العلميّة والأدبيّة في العراق، وأياديها على الشيعة - في نشر الشريعة وتقوية أركانها والبحث عن مهمّاتها وكشف أسرارها - لا تخفى على أحد.
فلله درّهم وعليه أجرهم.
وللمترجم قدس سرّه كتاب (الطبقات العنبريّة) في ترجمة أُسرته، ومن أراد فليراجعه.
لمّا بلغ السنة العاشرة من عمره الشريف شرع بدراسة العلوم العربيّة الأدبيّة من نحو وصرف ولغة وبلاغة، وتوسّع في طلب العلوم، فقرأ كثيراً من العلوم الأخرى كالهيئة والفلك والرياضيات والمنطق والحكمة والعرفان والكلام والتفسير، ثم أتمّ السطوح ودخل في مراحل الدروس العليا، وتوغّل في دراسة الفقه والأصول على يد أساتذة عصرهم الآتي ذكرهم عمّا قريب.
ص: 27
وقد تميّز بنبوغه ونشاطه العلمي، وكان يتمتّع بموهبة الذكاء الحادّ والألمعيّة الوقّادة، ومن ثمّ حصل على قسط وافر من العلم والفضل، ونبغ نبوغاً باهراً، وتقدّم تقدّماً ملموساً، وأربى علمه وفضله على سنه، وتبوّأ المكانة اللائقة وهو في مقتبل العمر وأوان عهد الشباب، بل صار هو وأخوه المجتهد الشيخ (أحمد) محلّ اعتماد العلماء.
وكان في جميع أدوار حياته يعقد الحلقات والمحاضرات، فيقبل عليها جمهور غفير من طلّاب العلم في النجف، يقدّر عددهم بمئة شخص؛ لسماع إفاضاته النافعة والاستفادة من معارفه الجمّة، وحتّى صار ما يلقيه في أبواب الفقه والحديث والكلام يربو على عشرات المجلّدات، يحتفظ بقسم كبير منها خاصّة تلاميذه وأصحابه وأسرته.
ومازال يزداد إشراق سعده ولمعان نجمه ويكثر مقلّدوه ومريدوه من
العراق وإيران والهند وأفغانستان ولبنان وسوريا حتّى رحيله من الدنيا.
2 - السيّد محمّد الإصفهاني(1).
3 - الشيخ رضا الهمداني(2).
4 - الميرزا محمّد تقى الشيرازي(3)
5 - الشيخ محمّد كاظم الخراساني(4)
6 - الميرزا حسين النوري الطبرسی(5)
ص: 29
7 - الميرزا محمّد باقر الأصطهباناتي(1)
8 - الشيخ محمّد رضا النجف آبادي(2)
9 - الشيخ أحمد الشيرازي(3).
حيث حضر على الأربعة الأوائل الفقه، فكان من حضّار درس الشيخ الهمداني لمدّة عشرة سنوات، وحضر عند الميرزا الشيرازي لمدّة سنتين ، واختصّ بالسيّد اليزدي وصار موضع ثقته، وكان يكل له أمور الفتيا والجواب على ما يرد إليه من الأسئلة الفقهيّة.
وحضر على الخامس وتلقّى منه معارفه الأصوليّة، فحضر عنده درس الكفاية ستّ دورات، وحضر على السادس في الأخبار والحديث حيث أجازه الميرزا رحمه الله بالحديث عنه، وحضر على الثلاثة الأواخر دروس الحكمة وعلم الكلام.
ص: 30
كما أنّ له رحمه الله مجموعة أساتذة آخرين، كالسيّد مصطفى التبريزي(1)، والملّا علي أصغر المازندراني.
3 -الشيخ محمّد رضا الغرّاوي(1).
4 - الشيخ كاظم كاشف الغطاء(2).
5- الشيخ عبد المهدي الخفاجي(3)
6 - الشيخ عبد الواحد المظفّر(4)
ص: 32
7 - الشيخ عبد الحسين القرملي (1)
8 - الشيخ عبد الحميد الخطي (2)
9 - السيد صدر الدين الحسني (3)
10 - الشيخ محمّد علي نعمة العاملي(4)
ص: 33
11 - الشيخ موسى العصامي(1)
12 - الشيخ مهدي صحين الساعدي(2)
13 - الشيخ مهدي الحجّار(3).
14 - الشيخ محمّد تقى الفقيه(4)
ص: 34
18 - الشيخ مهدي الظالمي(1).
19 - الشيخ علي الخاقاني(2)
20 - الأستاذ محمّد جواد الجناجي(3)
ومن جملة تلاميذه أيضاً : السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائي(4)
ص: 36
كان المغفور له من الأفذاذ الذين واصلوا الليل بالنهار في خدمة مجتمعهم، فكان مجمعاً للفضائل والصفات الحميدة.
وقد نظّم حياته اليوميّة على الأسلوب التالي :
يستيقظ الشيخ رحمه الله قبل طلوع الشمس بساعة ونصف، فيصلّي ويقرأ بعض الأدعيّة المأثورة ، ثمّ يقرأ ويكتب ما هو مسؤول عنه آنياً، وعند طلوع الشمس يتناول الفطور، وبعد يعود إلى المطالعة والكتابة حتّى الضحى، وقبل الظهر بثلاث ساعات يخرج إلى ديوانه في مدرسته العلميّة(1)، ويجلس إلى جنب مكتبته العامّة، فيقابل الوافدين عليه وذوي الحاجات ويفصل بين المتخاصمين، وقد ينام أحياناً نوم القيلولة ، وبعد أن يستيقظ يعود إلى الكتابة وقراءة الرسائل والمسائل وكتابة الأجوبة، وعند أذان الظهر يعود إلى الدار أو الحرم العلوي فيؤدّي الفريضة، ثمّ يعود فيتناول الغداء، ثمّ يخرج قبيل الغروب إلى الصحن الحيدري لأداء الفريضة جماعة، ثمّ يدخل الحرم الحيدري ويخرج منه إلى حلقته العلميّة، فيلقي درساً في الفقه(2)وهو جالس على المنبر، وقد أحاط به
ص: 38
تلامذته الذين سمح لهم بمناقشته والاستزادة من التوضيح إذا أشكل عليهم الأمر ، وبعد أن يفرغ من ذلك يعود إلى بيته لتناول العشاء، ثمّ ينصرف إلى بحثه و تدقيقه واستقصاء ما يحتاجه من معلومات مهمّة، وهكذا إلى نصف الليل.
وهذه الأعمال لا يستطيع أن يقوم بها جسم الشاب القوي فضلاً عن
الشيخ، غير أنّه يصدق عليه قول القائل :
وإذا حلّت الهداية قلباً *** نشطت للعبادة الأعضاء
وقد كان معتدّاً بنفسه تمام الاعتداد، حيث كان يرى أنّه المرجع الأوّل للدين والشخصيّة المركّزة لإدارة شؤون الطلبة، وكان لا يعبأ بمن يبتعد عنه، كما لم يشعر بالانتقام لعدوّه الذي قد يكثر من سبابه وعدائه.
وكان مضرب المثل في الخلق الرفيع ، حيث كان الذين يسيؤون إليه ساعة أن يصلوا إليه يجدونه كأنّه الشخص الذي لم يسبق لهم معه شيء ، فلا يكادون يحسّون بما وقع منهم.
وكان كذلك ذا ذاكرة حادّة نقّادة وقّادة تجدها في سيرته، حيث ينقل الشيخ الخاقاني أنّه كان يقرأ على المترجم قدس سره الفصول من سير الشعراء، فكان يذكّره بأرقام وفياتهم والحوادث التي مرّت عليهم دون أن تكون له عناية في الموضوع، وقلّ أن يذكر موضوعاً دون أن يشفعه بشواهد شعريّة من أروع ما قيل في ذاك الموضوع.
وكان في أسلوبه وسلوكه الاجتماعي يخضع للحجّة، ويؤيّد البرهان،
ص: 39
ويؤمن بالمنطق الرزين إذا وجده عند جليسه ، وكانت فيه ظاهرة الوفاء إلى حدّ واسع، فهو يرعى جانبها ويحرص عليها ويقيم الأثر لحسابها .
وكان ذا علم غزير، ومؤلّفاته تكشف عن سعة اطّلاعه وتضلّعه في العلوم ، وكان يجمع إلى علمه قوّة البيان العجيبة واللباقة المدهشة والجرأة المفرطة مع صوت جهوري، فكان بذلك يهيمن على جليسه مهما كان ومن أيّ نوع. وكثيراً ما كان يملي المقالات ذات الشأن أو هي موضع المناقشة والاختلاف دون أن يكون لأحد عليه أيّ إيراد أو انتقاد .
وكان ذا حماس ديني منقطع النظير وقد بلغ فيه الذروة، مع حرصه على إصلاح بعض العادات المستهجنة والتقاليد البالية الموجودة آنذاك بكلّ جرأة وحزم وصراحة .
وكان حديثه عذباً مسترسلاً، لا يملّه السامع على اتّساع الوقت، وقد شهدت الآلاف من البشر قوّة خطابته واندفاعه في التعبير عن مقاصده كالماء المنحدر من الجبل دون أن يتأمّل تأمّل المتحيّر في كلامه، فكان فصيح القول مستحضراً للأمثال والحكم والكلمات المأثورة والحديث النبوي الصحيح.
وقد أدخل على الفقه كثيراً من التطوّر، وأوجد كثيراً من القواعد، وكان من ضمن فتاويه صحّة الزواج بالعقد الدائم من الكتابيّة، وقد أخذ بهذا الرأي في أواخر أيّامه المرحوم السيّد أبو الحسن الإصفهاني قدّس سره(1).
ص: 40
وقد أسدى الشيخ خدمة جليلة للققه الإمامي بإدخاله عنصر التقنين على أحكام الشريعة الإسلامية، حيث وضع بين يدي العلماء نصوصاً شرعية مقنّنة بأسلوب عصري، استوفى فيه الغرض الذي توخّاه المشرّع الأعظم، وذلك بتأليفه لكتاب (تحرير المجلّة).
وهو أوّل من أخذ حقّ الطلاق الذي من المفروض أن يكون بيد من أخذ بالساق من الرجال، وطلّق الزوجة دون أخذ موافقة الزوج عندما قال: (أنا أوّل من حكم بطلاق امرأة من زوج مسلولٍ).
وعندما سئل عن الدليل الفقهى لحكمه المذكور أجاب : بأنّ المجتهد هو
واضع القوانين .
والحقّ أنّ الإمام كاشف الغطاء يعدّ في حدّ ذاته دائرة معارف كبرى في جملة الفنون الإنسانية؛ لاستحضاره كثيراً من العلوم نتيجة مخزونه الثقافي الثرّ، وعبقريته في هذا المجال مترامية الأطراف، وقد اخترنا نموذجاً منها للاستذكار العلمي لديه دون إعداد أو تحضير ، ولا تخطيط أوّلي .
لقد زار النجف الأشرف قبل ستّة وسبعين عاماً تقريباً، وبالضبط في ليلة 21 رمضان / 1349 ه- المصادف لعام 1930م وفد مصري رفيع المستوى برئاسة الأستاذ الدكتور (أحمد أمين) صاحب (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام) وسواها.
وبعد زيارة ضريح أمير المؤمنين الإمام علي علیه السّلام، قرّر الوفد زيارة الشيخ (محمّد الحسين كاشف الغطاء)، فاجتمع به الوفد في داره ، وزار المجتمعون مكتبته العامرة وتمتّعوا كثيراً بنفائسها ، وأعجبوا كثيراً بجهود والده الشيخ (علي) في استنساخ مخطوطات العالم الثمينة بيده وبخطّه الجميل الأخّاذ.
دارت بين الوفد والإمام كاشف الغطاء أحاديث ومناظرات وعتاب
ص: 41
واستغراب، فتوجهوا إليه بالأسئلة في مواضيع شتّى فأجاب.
قال الإمام كاشف الغطاء : من العسير أن يلمّ بأحوال النجف وأوضاعها - تلك المدينة العلمية المهمّة - شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوّلاً في بلدانها باحثاً ومنقّباً، ثمّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً، اللهمّ إلّا قليلاً، ضمّنته أبياتاً، أتذكّر منها :
تبزغ شمس العلى ولكن *** من أفقها ذلك البزوغ
ومثلما تنبغ البرايا *** كذا لبلدانها نبوغ
أكثر شيء يروج فيها *** اللهو والزهو و(النزوغ)
فضحكوا من كلمة (النزوغ)، وقال الأستاذ (أحمد أمين) مخاطباً الشيخ :
قلتم هذا قبل عشرين سنة؟
قال : نعم، وقبل أن ينبغ (طه حسين)، وينزغ (سلامة موسى) ويبزغ (فجر الإسلام)، وقد ضمّنته - مخاطباً أحمد أمين - من التلفيقات عن مذهب الشيعة ما لا يحسن بالباحث المؤرّخ اتّباعه.
أحمد أمين: ولكن ذلك ذنب الشيعة أنفسهم؛ إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطّلع العالم عليه.
الشيخ : هذا كسابقه، فإنّ كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من كتب أيّ مذهب آخر، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلاً عمّا يلزم للمؤرّخ من طلب الأشياء من مصادرها .
أحمد أمين : حسناً، سنجتهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني.
ص: 42
ثمّ قال أحمد أمين : هل يسمح لنا العلامة في بيان العلوم التي تقرأونها؟ الشيخ : هي علوم : النحو والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق،
والحكمة، والكلام، وأصول الفقه، والفقه، وغيرها.
أحمد أمين : ما هي كيفية التدريس عندكم؟
الشيخ : التدريس عندنا على قسمين :
1 - مقدّماتي وسطوحي، وهو: أن يفتح التلميذ كتاباً من كتب العلوم المتقدّمة بين يدي أستاذه ، فيقرأ له هذا عبارة الكتاب ويفهّمها التلميذ، وقد يعلّق عليها ويورد ويعترض ويشكل ويحلّ وغير ذلك ممّا يتعلّق بها .
2 - خارج، وذلك : أن يحضر عدّة تلاميذ بين يدي الأستاذ، فيلقى عليهم الأستاذ محاضرة تخصّ العلم الذي اجتمعوا ليدرسوه، ويكون هذا غالباً في علوم الفقه والأُصول والحكمة والكلام، مع ملاحظة أنّ التلميذ بكلا القسمين يكون ذا حريّة في إبداء آرائه واعتراضاته وغيرها.
أحمد أمين: إنّ البعثة تودّ أن تسمع بحثكم، فهل أنتم فاعلون؟
وقد أجاب الشيخ طلب البعثة بالقبول فيرقى المنبر ويجتمع حوله من حضر الجلسة من تلاميذه. ونظراً لأنّ الشيخ على غير سابقة عهد وعلى غير تهيئة وتمهيد لنوع العلم الذي سيبحث فيه ، لهذا تركوا له الحرّية في اختيار العلم، وهنا أبتدأ سماحته مرتجلاً، فقال :
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد
قال (تعالى) : «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(1)، تشتمل هذه
ص: 43
الآية على عقدين: عقد سلب، وعقد إيجاب.
أمّا عقد السلب «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ»، فهو من الأساليب القرآنية التي اخترعها وارتجلها في الاستعمالات العربية، ولم تكن معروفة من ذي قبل، وقد تكرّرت هذه الجملة في الكتاب الكريم.
وهي تارةً تتعلّق بالأفعال، مثل قوله (تعالى) : «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(1)، وقوله : «وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا»(2)وقوله : «لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى»(3)، ويكون المراد منها حينئذٍ على سبيل الاستعارة بالكناية : المبالغة فى التحذير عن ارتكاب ذلك الفعل، الزنى والصلاة مع السكر، أو غير ذلك .. وشبّه اسم المعنى باسم العين، فحذّر من قربه، فكيف بملاصقته أو الدخول فيه؟! وأُخرى تتعلّق بالأعيان، مثل قوله : «وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ»(4)، وقوله :«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(5)، ومن هذا القبيل آية العنوان التي هي من براعة الصنعة وإبداع البيان بمكان ، وحيث إنّ النهي لا يتعلّق بالأعيان رأساً، بل لا بدّ من توسيط فعل مقدّر في البين يناسب تلك العين، فإذا قيل : حرّمت أُمّهاتكم عليكم، يعني : العقد عليهنّ، وإذا قيل : حرّمت الخمر، يعني : شربها ، وإذا قيل : حرّم الميسر والقمار، يعني : اللعب بهما، وهكذا يقدّر في
ص: 44
كلّ مكان ما يناسبه، بل أظهر ما يتعلّق به الأفعال التي تطلب من تلك العين وممّا هی معدّة له، فلا يراد من قول : حرّمت الخمر ، حرمة كلّ الأفعال التي يمكن أن تتعلّق بها ، فيحرم لمسها أو النظر إليها أو التداوي بها وهكذا .. كلا ! بل ليس المراد إلّا حرمة شربها . وعليه فيكون المراد والمعنى بالآية التي في العنوان : لا تتصرّفوا في مال اليتيم التصرّفات المطلوبة عند العقلاء من المال بالاتّجار به في بيع أو شراء أو صلح أو رهن أو غير ذلك .
والغرض أيضاً بهذا النحو من البيان شدّة التحذير والنهي عن التصرّف في مال اليتيم ، وأنّ قربه لا يجوز ، فكيف الوقوع فيه ؟ ! وليس المراد النهي بوجه عامّ عن القرب لمال اليتيم بحيث يكون المعنى والمقصود النهي عن المعاملة بمال اليتيم بوجه مطلق من رفع أو وضع أو فعل أو ترك إلّا بالتي هي أحسن .
أمّا حيث لا تريدون التصرّف فلا شيء عليكم وإن كان التصرّف أحسن ، بخلافه على الوجه الثاني، فإنّ مفاده لزوم التصرّف بالأحسن بوجه يعمّ الفعل والترك والصرف والإبقاء ، وهذه الجملة - أعنى : عقد السلب - تؤيّد الحكم الضروري من حرمة التصرّف بمال الغير مطلقاً صغيراً أو كبيراً بغير إذنه ، وليس هو المقصود أصالة بالبيان بالضرورة، وإنّما المقصود عقد الإيجاب، وهو إعطاء الرخصة بالتصرّف في مال اليتيم إذا كان في التصرّف مصلحة ، فيكون مخصّصاً لما دلّ على عموم حرمة التصرّف في مال الغير، إنّما الكلام في مقدار تلك الرخصة وحدودها حسبما يستفاد من الآية، فإنّ محور البحث والنظر يدور من هذه الجهة على تشخيص المراد من لفظ (الأحسن)، وهل هو من أفعل التفضيل، نظير : الصلاة خير من النوم ، أو صفة مشبهة ، نظير : النوم خير من الله ؟ وعلى الأوّل، فهل المراد الأحسن بقول مطلق ، أي : مالاً أحسن منه أو الأحسن
ص: 45
نسبياً، أي : الأحسن من تركه وإن كان غيره أحسن منه؟ وعلى الثاني، فهل المراد منه ما اشتمل على مصلحة، أو يكفي خلوّه عن المفسدة، وذلك بناءً على أن كلّ ما ليس بحرام فهو حسن؟
ثمّ لمّا انتهى الكلام إلى هذا المقام طلب بعض الحضور تغيير الموضوع ونقل البحث إلى مسألة من المسائل الاعتقادية وأساسيات أُصول الدين ، فأوصل سماحته الكلام اقتضاباً من غير رويّة ولا تمهّل، ونقل البحث إلى مسألة الحاجة إلى الأنبياء وضرورة البعثة ، فقال :
إنّ النظر في عامّة أحوال البشر يعطى أن أعرق صفاته وألصقها فيه وأقدمها عهداً به هي الخلال الثلاث التي لا يجد عنها محيصاً ولا منها مناصاً مهما كان، ألا وهي الجهل والعجز والحاجة ، وهذه الصفات هي منبع شقائه وأصل بلائه ، وكلّما توغّل الإنسان في العلم والمعرفة تطامن للاعتراف بما توصل إليه من العلم بعظيم جهله، وأنّ نسبة معلوماته إلى مجهولاته نسبة القطرة إلى المحيط ، وكان أكبر علمه جهله البسيط.
وقد سئل (أفلاطون) حين أشرف على الرحلة الأبدية عن الدنيا، فقال : «ما أقول في دار جئتها مضطرّاً، وها أنا أخرج منها مكرهاً، وقد عشت فيها متحيّراً، ولم أستفد فيها من علمي سوى أنّي لا أعلم»، وقال (سولون) الحكيم : «ليس لي من فضيلة العلم سوى علمي بأنّي لا أعلم».
ومن استقصى كلمات حكماء اليونان وغيرهم وجد لكلّ واحد منهم مثل
هذه الكلمات، والتشبع بهذه الروح السارية إلى متضلّع في الفضيلة متشبّع
بروحها من علماء الإسلام وحكمائهم، حتى قال (الشافعي) رضی الله عنه:
وإذا ما ازددت علماً *** زادني علماً بجهلي
ص: 46
و (الرازي) يقول :
نهاية إدراكِ العقولِ عقالُ *** وغاية سعي العالمينَ ضلالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا حتّى أنّ علماء الغرب وكبار المخترعين الذين حوّروا الدنيا إلى هذا الشكل العجيب يعترفون بعدم وصولهم إلى حقائق الأشياء، فهم وإن اخترعوا الكهرباء لا يعرفون حقيقتها، هذا فضلاً عن حقيقة الروح والنفس والحياة.
وهذا مجال لا يأتى عليه الحصر، فالإنسان عريق بالجهل لصيق بالعجز والحاجة، ولا شقاء ولا بلية إلّا وهي منبعثة إليه من ذلك، وعقول البشر بالضرورة غير كافية لرأب هذا الصدع وثأي هذا الثلم وسدّ هذا العوز، فالعناية الأزلية التي أوجدت هذه الخليقة لو تركتها على هذه الصفة تكون قد أساءت إليها بإيجادها وما أحسنت الصنيع بنعمة الوجود عليها، ولكان الأحرى لو تركتها في طوامير العدم وأطمار الفناء، ويكون ذلك نقضاً للحكمة وإفساداً للنعمة.
إذا فلا بدّ من إيجاد رجال كاملين في أنفسهم مكمّلين لغيرهم، يكونون كحلقة الاتّصال بين الخالق والخلق، وهمزة الوصل بين العبد والربّ، فإنّ السعادة منه وإليه، وأولئك هم السفراء والأنبياء الذين بهم تتمّ الحجّة وتستبين المحجّة، وحينئذٍ تكون سعادة كلّ إنسان وشقاؤه باختیاره ، قال (تعالی): «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(1)، وقال : «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُورا»(2)، وتكون حينئذٍ الله على الناس الحجّة البالغة.
ص: 47
نعم، وكلّ هذا موقوف على إثبات الصانع الحكيم المنزّه عن العبث
والظلم ، فضلاً عن الجهل والعجز.
وهناك أدلى الشيخ بالحجّة، وأملى أُصول البرهنة على وجود الإله الحقّ
بعدّة قواعد، لا يساعدنا ضيق المجال لسردها وعدّها تفصيلاً، ولكن نكتفي بالإشارة إليها وعلى وجه الإجمال :
1 - إنّ ما بالعرض لا بدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات .
2 - إنّ معطي الشيء لا يكون فاقده.
3 - إنّ الصدفة فى النواميس الدائمة الكلّية والأشياء المتكرّرة مستحيلة.
4 - إمكان الأشرف .
5 - اللطف .
وأمثال ذلك من أُمّهات قواعد الحكمة وأُصول الفلسفة الحقّة.
ثمّ أرتأى في هذا المقام أن يختم البحث لضيق الوقت، وهكذا كان، وعندما نزل الشيخ من المنبر دارت بينه وبين (أحمد أمين) الأحادي الآتية :
أحمد أمين : هل الاجتهاد عند الشيعة مطلق أو مقيّد؟
يريد بذلك : هل هو اجتهاد في الكتاب والسنّة رأساً، كما اجتهد الأئمّة الأربعة فى الأدلّة الأربعة (الكتاب والسنّة والإجماع والعقل)، ومنه القياس عندهم، أو هو اجتهاد في فتاوى الأئمّة المعروفين، كاجتهاد العلماء الذين جاؤوا بعدهم في كلماتهم وعلى الأصول المقرّرة عندهم، فيكون المجتهد مقيّداً بطريقة ذلك الإمام من حنفي أو شافعي أو غيرهما؟
وهذا جواب الشيخ : الاجتهاد عندنا مطلق، يستنبط كلّ مجتهد الأحكام
الشرعيّة من نفس الكتاب والسنّة غير مقيّد بكلام مجتهد آخر مهما كان، ولكن
ص: 48
على أُصول وقواعد مقرّرة عند الجميع، وهي القواعد التي يتكفّل بها علم أُصول الفقه. وهذه القواعد بعضها متّفق عليه عند الجميع، وبعضها أيضاً موضع نظر واختلاف، فتكون اجتهادية أيضاً، ولكلّ مجتهد فيها رأيه الخاصّ الذي يبرهن ويبني عليه طريقة الاستنباط.
أحمد أمين : ما هي الأدلّة التي يبتني عليها الاجتهاد عندكم؟
الشيخ : هي الكتاب والسنّة، ونعني بها : الأخبار الواردة عن المعصومين. أحمد أمين : هل هناك شيء يعارضها ويتقدّم عليها؟
الشيخ : كلا، لا يعارضها شيء، ولا نرفع اليد عن الخبر الصحيح المعتبر إلّا إذا كان مصادماً لضرورة العقل الفطري، كما لو ورد خبر بجواز شهادة الإنسان لأخيه المؤمن في دعوى يدّعيها على الغير مع عدم علم الشاهد بتلك الدعوى وإن كان عالماً بأنّ ذلك المدّعي لا يدّعي باطلاً، فإنّ مثل ذلك الخبر لا نعمل به مهما كان.
أحمد أمين : هل يوجد تعارض في أخبار الأئمّة؟
الشيخ : نعم .
أحمد أمين : كيف يتناقض كلامهم مع أنّكم تشترطون فيهم العصمة؟ الشيخ : لا تناقض في الجوهر، وإنّما التناقض في الأخبار الواردة عنهم أو في ظواهر كلماتهم ، أمّا في الحقيقة لا تعارض ولا تناقض، وإنّما هو إختلاف في ظاهر الكلام، كالاختلاف الذي يوجد في ظاهر الكتاب الشريف، وهو القرآن العزيز ، وهذا غير عزيز ، قال (تعالى) : «فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ»(1)
ص: 49
وقال (عزّ شأنه) : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّشُؤولُونَ)(1)ولكلّ وجهة وخاصّة.
وعلى الجملة : فحال السنّة والأخبار كحال الكتاب الكريم، فيه النصّ والظاهر والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، والحكم الواقعي والحكم الظاهري، والأحكام الموقّتة التي تقتضيها الأوقات والظروف والأحوال والحوادث الزمنية ، ويقابلها الأحكام المؤبّدة التي لا تتغيّر بتغيّر الأحوال وتبدّل الزمان.
ووظيفة المجتهد الفقيه البالغ تلك المرتبة السامية والملكة الراسخة هي تمييز بعضها عن بعض ، والجمع بين متعارضاتها، وردّ بعضها إلى بعض، واستخراج العلل والأسباب التي أوجبت ذلك التعارض ، واستنباط الحكم الصحيح حسب القواعد من مجموعها، أمّا التعارض والتناقض الواقعي حسب الحقيقة والجوهر فهو مستحيل عندنا بعد البناء على عصمة الأئمّة.
أحمد أمين : ما الدليل على عصمة الأئمّة؟
الشيخ : حكم العقل الضروري.
فهشّ واستبشر، وكان طلب من الشيخ البيان والإيضاح ، فقال : إنّه بسيط
جدّاً. وأنا سائلك : ما الحكمة والغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب؟
أحمد أمين الهداية، والإرشاد، والتهذيب.
الشيخ : إذن فهل يحصل الإرشاد من شخص يقول : لا تكذب، وهو يكذب ، ولا تشرب الخمر ، وهو يشرب الخمر، ولا تزن، وهو يرتكب الزنى؟! وهل يحصل الغرض وتتمّ الفائدة من الهداية من شخص يجوز عليه الغلط والغفلة
ص: 50
والنسيان والاشتباه؟! ولا شكّ في أنّ الجواب بالسلب، وإذا كان إرسال الرسل وبعث الأنبياء واجباً بالحكمة حسب العناية الأزلية، فالعصمة أشدّ لزوماً وأقوى وجوباً، وإلّا بطل الغرض وماتت الفائدة وانتقضت الحكمة.
أحمد أمين : ما الدليل على انفتاح باب الاجتهاد عندكم؟
الشيخ : وما الدليل على انسداده ؟ وأيّ آية أو خبر تدلّ على الحجر على العقول والضغط على الأفكار، وسلب هذه الحرّية الفكرية التي منحها الله لعباده، وكانت من أفضل نعمه على خلقه، غاية ما هناك أنّ الله (سبحانه) رأفة بالعباد، ورفعاً لمشقّة الاجتهاد، ورعاية لحفظ نظام الهيئة الاجتماعية، ووجوب قيام كلّ طائفة بشأن من الشؤون الضرورية، فتتوزّع الأعمال وتتبادل المنافع، لذلك كلّه رفع وجوب الاجتهاد عن كلّ فرد من المكلّفين وأطلق لهم السراح في ذلك، فجعل وجوبه كفائياً، وأجاز رجوع العامّة إلى المجتهدين وتقليدهم فی امور الدين.
أمّا من أنفت نفسه وسمت همّته عن حطّة التقليد وخطّة الاتّباع، وأراد أن يأخذ الحكم من دليله على قواعد الفنّ والصناعة؛ فأيّ دليل على منعه وحجر ذلك عليه؟! وهل تجد عاقلاً في الدنيا يمنع عن العلم ويأمر بالجهل؟! وإنّ مذهباً يكون هذا الحكم من دعائمه وقواعده أحرى بأنّ يسمّى : مذهب الجهالة والتضليل، ومن آراء العصور المظلمة وبقايا أديان الجاهلية والاستبداد! أمّا دين الإسلام فهو أرفع وأنصع من ذلك، ولو لم يكن دليل على شرف مذهب الشيعة وصحّة قواعده وأصوله إلّا هذا لكفى .
انتهى كلام الشيخ مع (أحمد أمين)، ولو أردنا أن نأتي له بأمثال هذه المناظرات والمحاورات لاحتجنا إلى مجلّدات ضخمة على التأكيد، فإنّه كان رحمه الله
ص: 51
مدرسة ممتدّة الجوانب مستطيلة الأركان راسخة القواعد، قد ضمّ بين صدره مجموعة من العلوم، فأفرغها بقوالب تخلب السمع وتستولي على الأفئدة.(1)
وطبع في هذه السفرة كتابيه الشهيرين: (الدين والإسلام، والمراجعات الريحانيّة)، ونشر في أُمّهات الصحف السوريّة مقالات قيّمة وقصائد ملهبة لروح الحماس، وكانت له لقاءات مع أحرار سوريا ولبنان، كالشيخ (أحمد طبّارة)(1)، و (عبد الكريم الخليل)(2)و (عبد الغني العريسي)(3)، وغيرهم.
وفي صيدا عقد أمره على السفر إلى مصر بعد أن تزوّج في لبنان، فسافر إليها، وبقي فيها أكثر من ستّة أشهر، واجتمع فيها إلى علماء الأزهر يتلقّون منه ويتلقّى منهم، حيث كان يدّرس أُصول الفقه عصراً في مسجد رأس الحسين علیه السّلام ويدرّس التفسير فيما بين صلاة المغرب والعشاء في جامعة الأزهر، وألقى عدّة خطب رنّانة في الأزهر، وكذلك في بعض الكنائس لتفنيد مزاعم المبشّرين ممّا أثار سخط بعضهم، حيث اعتدوا عليه ضرباً وأخرجوه من الكنيسة.
ص: 53
وفي عام 1332 ه- قفل راجعاً إلى العراق عن طريق حلب ودير الزور،
ودخل النجف، فانظمّ إلى السيّد (اليزدي) قدس سرّه.
وفي عام 1931 م عُقد المؤتمر الإسلامي في القدس، وبعد عدّة دعوات متكرّرة من لجنة المؤتمر توجّه إليه وشارك فيه، وكان من جملة المشاركين فيه : السيّد (حبيب العبيدي) مفتي الموصل، والسيّد (محمّد زيارة) من اليمن، و (محمّد رشيد رضا)(1)من مصر، و (محمد إقبال اللاهوري)(2)من الباكستان، وكان هذا المؤتمر يضمّ عدداً كبيراً من علماء : الحنفيّة، والشافعيّة، والمالكيّة، والحنبليّة، والوهّابيّة، والإباضيّة، والإسماعيليّة، والزيديّة، والإماميّة. وقد دعی كاشف الغطاء إلى الصلاة جماعة ، فصلّى بالحضور على الطريقة الجعفريّة، وكان عدد جميع أعضاء المؤتمر (150) عضواً، وخلفهم جم غفير من أهالي فلسطين يناهز عددهم (20) ألف نسمة، وقيل : (70) ألف نسمة، وكان ذلك ليلة المعراج في المسجد الأقصى. ثمّ تحوّل لزيارة مدن فلسطين كنابلس وحيفا ويافا.
وفي عام 1933م توجّه إلى إيران عن طريق کرمان شاه، وزار همدان وشيراز وإصفهان وقم وطهران وعبّادان والمحمّرة وشاهرود و بوشهر، واستمرّ
ص: 54
سفره لمدّة ثمانية عشر شهراً ، وقد قام بإمامة الناس في حرم السيّدة معصومة علیها السّلام وبحضور ودعوة الشيخ (عبد الكريم الحائري اليزدي)(1). كما قام بإلقاء المحاضرات في المدة المذكورة، ورجع من طريق البصرة.
وسافر صيف عام 1366 ه إلى مدينة كرند ، فأقام فيها ردحاً من الزمن. وفي سنة 1367ه- سافر إلى طهران، ومنها توجه إلى خراسان لزيارة
الإمام الرضا) علیه السّلام.
وسافر عام 1368 ه- إلى لبنان للمعالجة ، ونزل ضيفاً على الزعيم (يوسف الزين)، ثمّ استضافه (أحمد الأسعد)(2).
وفي سنة 1369 ه- سافر إلى خراسان .
ثمّ سافر الشيخ عام (1371 ه إلى باكستان ، حيث دعي إلى حضور المؤتمر الإسلامي الثاني الذي عُقد في مدينة كراتشي بدعوة جمعية الأخوّة الإسلاميّة، وبعد أن انفضّ المؤتمر زار بعض المدن الباكستانيّة كلاهور وبيشاور وراول وكشمير الحرّة (مظفر آباد)، وبقي أربعين يوماً، ثمّ رجع إلى بغداد، ومنها إلى النجف .
ص: 55
جدّد الشيخ قدس سره مدرسة جدّه الأعلى كاشف الغطاء الموقوفة، وبنى جناحاً خصّصه للمكتبة، وكتب على مقدّمتها هذا البيت :
إذا ما بناء شاده الدين والتقى *** تهدّمت الدنيا ولم يتهدّم
وكتب وصيّة بخطّه وتوقيعه وخاتمه صرّح فيها بوقفيّة المكتبة وتحبيسها، وجعل تولّيها بيد ولده الشيخ (عبد الحليم)، وسمع منه ذلك العشرات من العلماء والأفاضل.
وقد تولّد الشرّ في نفس بعض ورثته أن ينكر هذا الصنيع بإقامة دعوى في المحكمة الشرعيّة بالنجف محاولاً بيعها ، فانبرى له رعيل من الثقات معلنين شهادتهم بوقفيتها، كما أبرز المتولّى للمكتبة نصّ الوقفية، وكانت النتيجة انتصار الحقّ، وحكمت المحكمة بصحّة الوقفيّة.
وكثيراً ما كان يذكر المكتبة ويعبّر عنها في كتبه المطبوعة بأنّها : مكتبة الدنيا ، بل مكتبة الآخرة، كما أنّه أسماها : مكتبة علي والحسين ؛ لأنّ مؤسّسها والده الشيخ (علي) صاحب الحصون ، ومجدّدها هو نفسه قدس سرّه(1).
ووصفها الشيخ (محمّد هادي الأميني) بأنّها مكتبة عامرة نفيسة(2).
ووصفها الأستاذ (جعفر الخليلي) بقوله : (وكان لتلك المكتبة صدى كبير
في الأوساط العلميّة)(3).
ص: 56
57
لم يشغل الشيخ رحمه الله التأليف في الدين الذي اتّجه إليه بكلّه عن حفظ ثغور المسلمين وكرامتهم ، بل راح يسعى لحفظها أيضاً .
ففي عام 1916م ذهب مع السيّد (اليزدي) قدس سرّه ورعيل من العلماء إلى الكوت للوقوف ضدّ القوّات البريطانيّة المحتلّة.
ولا عجب في ذلك وهو المصلح المؤمن بأنّ من أهمّ وظائف الرجل الديني وواجباته الأولى معالجة الشؤون السياسيّة والتدخّل فيها بوعي وتدبير وفهمها حقّ الفهم .
وكان يرى بأنّ المعني بمفهوم السياسة هو الوعظ والإرشاد، والنهي عن الفساد، والنصيحة للحاكمين، بل لعامّة البلاد، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستعباد.
ويقول في انشغاله بالسياسة : (أنا غارق فيها إلى هامتي ، وهي من
واجباتي، وأراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان).
وبعد أن تأسّس الحكم (الديموقراطي) وتركّز، كان شعوره يماشي حركة الإصلاح السياسي، ويحرص على إنمائها ، ويساند الجيل الذي تيقّظ لمسايرة النهضة الحديثة في فتح المدارس وبثّ العلوم وتنوير الأذهان. وكان هو الذي أخمد فتنة ( عبد الرزّاق الحصّان)(1) التي انبعثت من كتابه :
ص: 57
(العروبة في الميزان)، والذي خلاصته : أنّ شيعة العراق هم من الأجانب والأقوام الساسانيين، فمن ثمّ يجب طردهم من العراق! وقد قام لها الجنوب وعشائره عام 1935 م، وقامت المظاهرات التي استمرّت فكان إخمادها على يده حفظاً للمصلحة العامّة، وبعدها قام الملك (فيصل)(1)بإرسال رسالة شكر للشيخ قبل سفره إلى لندن .
ومثلها إخماده لثورة عشائر الفرات على أثر استقالة (جميل المدفعي) وتشكيل وزارة (ياسين الهاشمي)(2)، عندما اجتمع عنده زعماء الديوانيّة والرميثة والناصرية وسوق الشيوخ، وعلى رأسهم الحاجّ (عبد الواحد سكر) والسيّد (محسن أبو طبيخ)؛ لإبرام ميثاق يتضمّن تخفيض الضرائب والعناية
ص: 58
بعمران البلاد ونبذ الطائفية بإنصاف الشيعة في الوظائف، فلما رأى توسّع رقعة الثورة وأنّها تعود على الشعب والحكومة بالخسارة الفادحة طلب منهم الخلود إلى السكينة، فامتثلوا أمره ، وكان ذلك بطلب من (صالح جبر) الذي أرسلته الحكومة عندما كان متصرّفا للواء كربلاء.
وكذلك موقفه من المظاهرات التي حدثت بالنجف في عهد وزارة (نور الدين محمود) عام 1952م، والتي سبّبت احتلال النجف من قبل الجيش ، فكان منشوره ونداؤه البلسم الشافي للفريقين المتخاصمين .
وقد بعث برسالة إلى (محمّد علي جناح)(1)رئيس الوزراء الباكستاني
طالباً منه ألّا يعقد مع أمريكا عهداً عسكرياً.
وفي سنة 1373 ه-سافر الدكتور (فيليب حتّي)(2)أُستاذ التاريخ في جامعة برنستون الأمريكية إلى النجف ، ودعا الشيخ للمشاركة في مؤتمر الثقافة الإسلاميّة والعالم المعاصر الذي قرّر عقده في مكتبة جامعة واشنطن في تلك السنة، ولكن لم يلبّ الشيخ دعوته.
ولمّا زاره السفير البريطاني (سرجون تروتبيك) بمكتبه في النجف الأشرف سنة 1373 ه- (1953م) صارحه - ولمدّة ساعتين - بالأعمال المنكرة التي قام بها البريطانيّون في شرق الأرض وغربها ، وجابهه بدور الإنجليز في ضياع فلسطين، ومعاونتهم للصهاينة على فتح معاقل تلك الأرض المقدّسة واستعمار
ص: 59
أرضها واستعباد أهلها، وأخيراً تشريدهم في كلّ صقع وربع.
ثمّ اجتمع به السفير الأمريكي في العراق (برتون بري)، فلم تكن صراحته بأقلّ من صراحته مع السفير البريطاني، وقد عنّفه كثيراً على مساهمة الولايات المتّحدة الأميركيّة في تثبيت أقدام الصهاينة بأرض فلسطين، وما نجم عن جرّاء ذلك من الأعمال الوحشيّة المنكرة.
وكان يقول للسفير في هذا الخصوص : (إنّ قلوبنا دامية منكم معاشر الأمريكييّن؛ لأنّكم طعنتمونا بالصميم طعنة نجلاء ، لا يمكن السكوت عنها والصبر عليها).
ثمّ يقول : (إنّ القلوب كلّها ضدّكم، وتقطر دماً من فضاعة ضربتكم التي
قصمتم بها ظهر العرب)!
وكان يعني بذلك مأساة فلسطين وضياعها من أيدي العرب والمسلمين. وأخيراً توّج حياته الكريمة الحافلة بجلائل الأعمال والمواقف السياسيّة الإصلاحيّة برفضه حضور مؤتمر بحمدون الذي عقد في بحمدون لبنان بتأريخ الثاني والعشرين من نيسان عام 1954م ، والذي روّجت له محافل الاستعمار الأمريكي، حيث وجّهت دعوة له من قبل (كارلند إيفانز هو بنكز) نائب رئيس جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأمريكيّة، فكان ردّه على دعوة الحضور حاسماً بليغاً جداً.
وما اكتفى قدس سرّه بذلك، بل قام بإصدار كتابه الذي أسماه : (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون).
وقد جاء الكتاب آية في الجرأة والغيرة على المصلحة العامّة والسعي لخدمة البلاد وتنوير أبنائها بما يحوطهم من أخطار الاستعمار وما ينتابهم من شرور أذنابه .
ص: 60
دعا الشيخ قدس سرّه إلى المحافظة على حرّية المذاهب والأديان، حيث يقول : إلى كلّ ذي حسّ وشعور يعلم أنّ المسلمين اليوم بأشدّ الحاجة إلى الاتّفاق والتآلف وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف وأن ينضمّ بعضهم لبعض كالبنيان المرصوص، ولا يدعوا مجالاً لأيّ شيء ممّا يثير الشحناء والبغضاء والتقاطع والعداء).
وقد بارك الشيخ وأثنى على كلّ خطوة تدعو إلى الاتّحاد والتقريب. والشاهد على ذلك ما اقتطفناه من رسالته التي أرسلها إلى دار التقريب في مصر، حيث قال :
(فضيلة العالم الجليل الشيخ محمود شلتوت(1)أيّده الله : اطّلعت على كلمة لکم لفي بعض الصحف، كان فيها الله رضىً وللأمّة صلاح، فحمدناه تعالى على أن جعل في هذه الأمّة وفي هذا العصر من يجمع شمل الأمّة ويوحّد الكلمة ويفهم حقيقة الدين ويزيد الإسلام لأهله بركةً وسلاماً، وما برحنا منذ خمسين عاماً نسعى جهدنا في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة وندعو إلى وحدة أهل التوحيد).
ص: 61
والشاهد الآخر هو موقفه من مؤتمر القدس الذي ضمّ علماء المسلمين
حيث قال :
(.... ودبّت في نفوس المسلمين تلك الروح الطاهرة ، وصار يتقارب بعضهم مع بعض ويتعرّف فريق لفريق، وكان أوّل بزوغ الشمس تلك الحقيقة ونموّ لبذر تلك الفكرة ما حدث بين المسلمين قبل بضعة أعوام في المؤتمر الإسلامي العامّ في القدس الشريف من اجتماع ثلّة من كبار المسلمين وتداولهم في الشؤون الإسلاميّة).
وكذلك طلب الشيخ قدس سرّه من المفكّرين والعلماء والمثقّفين أن يبحثوا بحثاً علمياً موضوعياً بعيداً عن كلّ التراكمات وردود الفعل النفسيّة التي خلقتها الفرقة المذهبيّة ، وكذلك طلب منهم أن يعملوا بكلّ جدٍّ وإخلاص على تهدئة الجوانب العاطفيّة المتأجّجة في المجال الشعبي التي تقف أمام الخلافات بحدّة، وأن يوضّحوا للأُمّة أنّ الخلافات ما هى إلّا اجتهادات اقتنع بها كلّ مجتهد من خلال اجتهاده، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب .
ومن أقواله وكلماته في الوحدة والتقريب :
(إنّ الاتّفاق والاتّحاد ليس من مقولة الأقوال ، ولا من عالم الوهم والخيال، ويستحيل أن توجد حقيقة الاتّفاق والوحدة في أمّةٍ ما لم يقع التناصف والعدل بينها بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، والمساواة في الأعمال والمنافع ، وعدم استئثار فريق على آخر).
(قد بني الإسلام على دعامتين : توحيد الكلمة، وكلمة التوحيد، توحيد
الخالق، وتوحيد بين الخلائق)(1).
ص: 62
(تربط الأمّة الإسلاميّة ثلاث أواصر: إله واحد، وكتاب واحد، وقبلة
واحدة).
بل قد ترقّى كلامه ليشمل حتّى الوحدة بين المسلمين وغيرهم من
الكتابييّن، حيث يقول :
(وحدة الإيمان تدعو إلى وحدة اللسان، ووحدة اللسان واللغة رابطة،
والرابطة إخاء، وأُخوّة الأدب فوق أُخوّة النسب ، وهي التي توحّد العناصر المختلفة والمذاهب المغايرة، فالنصراني واليهودي والمجوسي والصابئي الذين يخدمون لغتنا وثقافتنا ويسالموننا ويواسونا في السرّاء والضرّاء ولا يساعدون الأعداء علينا ويحامون أوطاننا، هم إخوان المسلمين ، وداخلون في ذمّتهم، ويلزمهم حمايتهم لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم).
وقد التقى الإمام (كاشف الغطاء) علماء مصر والشام والمغرب العربي وإيران والهند وباكستان والحجاز والخليج ، فأقام العلاقات الودّية والأخوية بين الجميع، وخفّف من النزعات اللاإنسانية، وعرّف الأُمّة بحقيقة الإسلام بعيداً عن المنحى الطائفي والتعصّب العرقي أو المذهبي ، وبذلك أوجد المناخ الائتلافي بين مختلف طبقات الشعوب العليا من الأفذاذ والأكابر ، بل هو يصرّ ويلحف في المواصلة والمبادرة والمناجاة في القول والعمل والرسائل والكتب، ونماذج ذلك كثيرة جدّاً، نورد هنا نموذجاً منها على سبيل المثال :
كان الشيخ (الإبراهيمي) كبير علماء الإسلام في الجزائر المناضلة ، وقد اجتمع به الإمام (كاشف الغطاء) عدّة مرّات في عدّة مؤتمرات ، فأحبّ تجديد الصلة ، فاستغلّ حلول عيد الفطر المبارك ، فأرسل إليه بالرسالة الهادفة التالية، وذلك قبل وفاته بأكثر من سنة قليلاً، وفيما يأتي نصّ هذه الرسالة :
ص: 63
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد
أخي العزيز أخي في الله داعية الحقّ وناصر الحقيقة ورافع راية الإسلام العلّامة الأستاذ الكبير (محمّد البشير الإبراهيمي) (دامت بركاته) :
سلام الله الأسنى وتحيّاته المباركة الحسنى، يحملها أثير الإخلاص المثار من حصباء النجف إلى الجزائر ذات (البصائر)(1)عبر البحار على بريد الأشواق من العراق في الشرق الأدنى إلى المغرب الأقصى، إلى إخواني حملة مشاعل الدين، ومصابيح الهدى، وأعلام المسلمين من هيئة العلماء وغيرهم.
أخي وردني كتابك العزيز المؤرّخ 3 شوّال من بغداد، الكتاب الذي غفل فيه كاتبكم اللامع عن البداءة فيه ببسم الله العظيم ، «وكلّ أمر ذي بال لم الله فهو أقطع»، وهذه وإن كانت صغيرة قد لا تستحقّ الذكر، ولكن تسامحنا في الصغائر جرّنا إلى إهمال الكبائر أو ارتكاب الكبائر (لا سمح الله) وإنّي أشكر تهانيكم وأسأله (تعالى) أن ينجح مساعيكم ويبارك في أيّامكم ولياليكم ، ويجعله عيداً سعيداً لكم ولعموم المسلمين ، ولا سعادة لهم إلّا بالاتّفاق وتوحيد الكلمة ، ومن كلماتي المؤثرة ما قلته في مؤتمر فلسطين قبل أكثر من عشرين سنة : إنّ الإسلام بني على دعامتين : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة .
ولو أنّ المسلمين تدبّروا آية واحدة من كتاب الله العظيم، وهي قوله
ص: 64
(تعالى) : «قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ»(1)، لو تدبّروها لكفتهم حافزاً على جمع الكلمة وعدم التأثّر بالخلافات المذهبية والنعرات الطائفية .
أترى - يا أخي - يأتي الله بيوم للمسلمين يجمع به كلمتهم ويحقّق وحدتهم، فيكونون شيعة واحدة أو سنّة واحدة أو السنّة والشيعة متّفقة؟! ذاك ما أتمنّاه، وما هو على الله بعزيز.
انشر عنّى هذا إن رأيت فيه خيراً للمسلمين، انشره في بصائركم النيّرة، وبلّغ تسليماتي الصحيحة ودعواتي الصالحة المباركة إلى كلّ فرد من جمعية العلماء عندكم، وخاصّة كتّاب تلك الصحيفة الغرّاء، شاكراً معروفهم بإهدائها إلى مكتبتنا العامّة في النجف الأشرف التي ينتهل من نميرها كلّ صادر ووارد من عطاشى الفضيلة، وحياة العلم أرفع وأنفع من حياة الجسم، نسأله (تعالى) أن يمدّكم بروح منه، ويمنحكم وصحيفتكم عمراً طويلاً وعلماً غزيراً ونشاطاً وقوّة، وهي تصلنا - بحمد الله - تباعاً، فنجدها تمرة الغراب وتخفّف عنّا لوعة البعد
والاغتراب .
على أنّه إن كانت الأجسام قد بعدت ، فقلوب أهل العلم تأتلف، ولربّ مفترقین قد جمعت قلبيهما الأقلام والصحف.
عرّفني وصولك بالسلام إلى وطنك العزيز إن شاء الله، ولا تقطع عنّي في البرهة بعد البرهة مراسلتك ، فالمراسلة - كما يقولون - نصف المواصلة، وإذا
ص: 65
كانت العبرة بالأرواح لا بالأشباح، فهي كلّ المواصلة، فاسلم للإسلام وللمسلمين ولأخيك.
المخلص
محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
16 شوّال 1372
من مدرستنا العلمية بالنجف الأشرف
وأنت تلاحظ هدف هذه التحيّة في عمقها الرسالي، ونقطة البدء الدلالي في دعوتها إلى الوحدة والتفاهم ، ومشروعية إيحاءاتها الخارجية في المحبّة واللقاء والود(1).
كان الفقيد واحداً من أُولئك الأفذاذ الذين جمعوا بين العلم والأدب، فلم يكن تفوّقه وانشغاله بالأوّل منهما مانعاً له من تفوّقه ونبوغه في الثاني، فراح ينظم القصائد الواحدة تلو الأخرى، وكانت له فيها رؤية حاضرة وبديهة باهرة ويد طولى، وقد تصل إحداها إلى أكثر من ثلاث مائة بيت، كلّها بتمام القوّة والانسجام والرقّة والترصيع بأنواع البديع.
ولكنّه بعد العشرين من عمره الشريف رفض تعاطي النظم بالكلّية، إلّا ما يتعلّق بمدائح ومراثي النبي صلی الله علیه و آله و سلّم والأئمة علیهم السّلام.
و مجموع شعره ينوف على سبعة آلاف بيت(2)، بالإضافة إلى بعض
ص: 66
الموشّحات التي برع فيها ونظم الكثير منها.
وهاك هذا النموذج من شعره في رثاء الإمام الحسين علیه السّلام:
دع الدنيا فما دار الفناءِ *** بأهل للمودّة والصفاءِ
متى تصفو وتصفيك الليالي *** وقد كوّنت من طين وماءِ
تروقك في مسرّتها صباحاً *** وتطرق بالمساءة في المساءِ
تناهى كلّ ذي أمل فهلّا *** لعينك - يا شباب - من انتهاءِ
وفازت في سعادتها نفوس *** وليتك لو قصرت عن الشقاءِ
إلى أن يقول :
غدا غرضاً تمرقه سهام ال- *** -عدا قوس بغي واعتداءِ
تفطر قلبه ظمأ وتروى *** به عسالة الأسل الظماءِ
فوا لهفي خضيب الشيب يمسي *** على ظمأ غريقاً بالدماءِ
ويا لهفي عليك أبا على *** عن الأهلين والأوطان نائى
ويا لهفي عليك وأنت ملقى *** على الغبرا ثلاثاً بالعراءِ
ويا لهفى لجسمك والعوادي *** تجول عليه مسلوب الرداءِ
وله - عندما زار الباكستان ووقف على قبر الشاعر الفيلسوف (إقبال اللاهوري)(1)عام 1371 ه- قوله :
ص: 67
يا عارفاً جلّ قدراً في معارفه *** حیّاك مني إكبار وإجلال
إن كان جسمك في هذا الضريح ثوى *** فالروح منك لها في الخلد إقبال
تحيّة لك من خلٍّ أتاك على *** بعد المزار بقول مثل ما قالوا
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال(1)
هذا من حيث الشعر.
أمّا النثر فحدِّث ولا حرج، حيث كان رحمه الله ذا بيان ساحر جذّاب وأُسلوب مشرق وهّاج، يرسل الكلام في تعبير قوي ولسان ذلق وفصاحة نادرة، حتّى لتنقضى الساعات الطويلة على السامع وهو لا يحسبها سوى دقائق قصيرة، وطالما كان يرقى المنابر في شتّى المناسبات، فيملك القلوب بسحر بيانه، ويستولي على العقول بحلاوة منطقه. وكان يصدح بخطاباته الرشيقة في أماكن شتّى، كالنجف، وبغداد والبصرة، والحلّة، والديوانية، والناصرية، ودمشق :
وبيروت، وصيدا، وحيفا، وصور، وجنين، والقدس، وهمدان، وشيراز، و خرّم شهر، وعبّادان، وغيرها .
فمن جملة كلامه في مقدّمة كتابه هذا : (ليس الشرف إلّا أن يكدح الإنسان في معركة الحياة حتّى يكتسب امتلاك مال أو ملكة كمال أيّاً ما كان، علماً أو صناعةً، خطابةً أو شجاعةً، أو غير ذلك من مادّيات الشرف وطلائعه، لا ما هو الشرف نفسه، ثمّ يخدم المرء بمساعيه تلك ومكتسباته أمّته وملّته خدمةً تعود بالهناء والراحة عليهم، أو دفع شيء من الشرور عنهم.
الشرف: حفظ الاستقلال، وتنشيط الأفكار، وتنمية غرس المعارف، والذبّ والمحاماة عن نواميس الدين وأصول السعادة والشريف من يخدم أمّته
ص: 68
خدمةً تخلّد ذكره وتوجب عليهم في شريعة التكافؤ شكره، كلّ يؤدي جهده وينفق ممّا عنده .
بيد أنّي لا أنزع إلى أنّ خلود الذكر وتأبّد الثناء أو التأبين يكون بمجرّده سعادة للإنسان وشرفاً له ما لم أردّه إلى غاية وأقف به على معنى محصّل وأخرج به عن هذا الفراغ وأنتشله من لقلقة اللفظ وفرقعة اللسان، أتغلغل فيه حتّى أصل به إلى حقائق في خارج عالم الخيال ووراء متّسع الأذهان.
الشرف، حسن الذكر ، الذكر الجميل، أمثال ذلك، ألفاظٌ تسيل على أسلات كلّ لسان وتردّد في فم كلّ إنسان، صغيرةً في فضاء الفم كبيرةً في عالم الوجود).
ومن جملة أقواله :
* لولا سبق الوجود على العدم لما وجد شيء.
* قد يستطيع الإنسان أن يصير ملكاً، وقد لا يستطيع الملك أن يصير إنساناً.
* القوّة في الحقّ، وليس الحقّ في القوّة.
* ليس الحقّ أعمى حتّى تأتي القوّة فتقوده، بل القوّة عمياء حتّى يأتي الحقّ فيقودها.
* خلق الله الأكل للإنسان، وما خلق الإنسان للأكل.
* النعم إذا شُكرت كرّت، وإذا كُفرت فرّت.
1 - قال الشيخ (محمّد جواد مغنية) في حقّه : (كان من العلماء الذين هم
ص: 69
أندر من الكبريت الأحمر، ومن أولئك العلماء المتميّزين الذين لم يتحدّدوا في علائقهم مع مقلِّديهم وأتباعهم فحسب، بل التقوا بالعالم، ونقلت عنه فئات شتّى في الشرق والغرب، وعرف بهم البعيد أنّ في الشيعة معجزات من العبقريّة، وأنّ مذهب التشيّع يقوم على أقوى وأمتن أساس)(1).
2 - قال (حرز الدين): (كان عالماً أُصولياً فقيهاً وكاتباً بارعاً لا يدانيه أحد في عصرنا بقلمه وخطابته ومجالسه، صرع الكتّاب بقلمه، وأفحم المتكلّمين بمنطقه ، وأرجف ممثّلى الدول والساسة بحديثه وشخصيّته . إضافة إلى أنّه كان بحّاثة منقّباً مؤرّخاً أديباً شاعراً. انفرد بالزعامة والرئاسة في العراق ... وكان جريئاً بحديثه ونقده بليغاً جهوري الصوت، طالما دوى صوته في النجف في الصحن الغروي بالإرشادات والنصائح العامّة للمسلمين)(2).
3 - قال (المدرّس التبريزي) : (من فحول علماء الإماميّة المتبحّرين الثقات العدول، ومن فقهاء الإثني عشريّة، وحيد عصره وفريد دهره . كان متبحّراً في الفقه والأصول والكلام والحديث والرجال والدراية والتفسير والعلوم الدينيّة الأُخرى)(3).
4 - قال (الخاقاني) : (له شخصيّة فذّة يصعب على الزمن أن يأتي بمثلها، فقد جمع كثيراً من النواحي التي عزّ أن تجمع في فقيه أو في زعيم ديني)(4).
5 - قال (الأعلمي) : (هو من كبار رجال الإسلام أخيراً ومشاهير علمائنا
ص: 70
الشيعة ... يظهر فضله وتبحّره من مؤلّفاته وتقاريضه على كتب الأعلام)(1).
6 - قال :(دهخدا): (من فحول ومتبحّري علماء الإماميّة ومن عدول وثقات فقهاء الإثني عشريّة، وكان وحيد عصره وفريد دهره في كثرة تتبّعاته للعلوم المتنوّعة ... ومن أكابر حماة الدين المبين والمدافعين عن شرع سيّد المرسلين)(2).
7 - قال (الدجيلي) : (وقد تميّز بنبوغه ونشاطه العلمي، حيث انفتح - منذ شبابه - على الثقافة المعاصرة مضافاً إلى الثقافة الحوزويّة، وانعكس ذلك على نشاطه المبكر في حقل اللغة والأدب والسياسة والقانون فيما ألّف، وناقش كبار المفكّرين المعاصرين في مختلف فروع المعرفة التي أشرنا إليها من خلال الصحافة والمؤتمرات والمقابلات)(3).
8 - قال (الخليلي) : (لقد كان الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء نسيج وحده علماً وأدباً وفناً، وكان زعيماً روحياً فذّاً ومصلحاً كبيراً، سيظل التاريخ زمناً طويلاً يبحث عن نظير له بين جماعة الروحانيّين فلا يوفّق ... وكان زعيماً من أكبر الزعماء في عالم الأدب شعراً ونثراً، ثمّ هو - بعد ذلك - محدّث بارع ما خلا حديثه من الملح الأدبيّة والنكت الغنيّة، أمّا الشخصيّة فحدِّث عنها ولا حرج)(4).
ص: 71
9 - قال (الزركلي) : (مجتهد إمامي أديب من زعماء الثورات الوطنيّة في العراق. كان من الكتّاب الشعراء الدعاة إلى الوفاق بين المسلمين ، انتهت إليه الرئاسة في الفتوى والاجتهاد بعد وفاة أخيه أحمد بن علي)(1).
10 - قال (كحّالة) : (فقيه أُصولي مجتهد محدّث أديب شاعر ... ساهم في الثورات العراقيّة ضدّ الاستعمار البريطاني)(2).
11 - قال (الأميني) : (من أعلام الطائفة ومنابع العلم والأدب والفقه والأصول وأئمّة القريض والفصاحة والبيان والتأليف والعلم... اشترك في الحركات الوطنيّة، وكان مهاباً لدى الدولة، وكانت كلمته مسموعة لدى الشعب. وكتب في أُمّهات الصحف العربيّة بحوثاً قيّمة نفيسة وقصائد قويّة متينة)(3).
12 - قال (الغروي) : (من كبار رجال الإسلام المعاصرين ، ومن أشهر مشاهير الشيعة، وله دور كبير في العالم الإسلامي والشيعي)(4).
13 - قال (الصغير) : (عاد كبير علماء الشرق على الإطلاق ، والزعيم الروحي للعالم العربي والإسلامي في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وهو يمثّل أصالة الشيخ المفيد وموسوعية علم الهدى السيّد المرتضى ونهج الشيخ الطوسي، كما يجسّد أفكار السيّد جمال الدين الأفغاني في النهضة والإصلاح)(5).
ص: 72
الإمام (كاشف الغطاء) شخصية رائعة في مجالات شتى ، فهو شديد الغضب في ذات الله ، وهو مرهف الحس في الحضور الذهني، وهو أريحي الطبع في المناخ النفسي، وهو سريع البديهة في إرسال النادرة ، لا يتكلّف أمراً ولا يتعسّف سلوكاً.
وله طرائف تنمّ عن سليقة فطرية في الوقت الذي تطبّق المفصّل، ولديه نوادر يرفق بها حيناً، ويشتدّ حيناً آخر، ولمّا كانت في النجف جارية مجرى الأمثال، أحببت أن أُروّح عن نفس القارئ بذكرها ، فأنفاس (كاشف الغطاء) في السرّاء والضرّاء تعبّر عنه بصدقٍ وهو يتنفّس الصعداء، فلله درّه، وهنا أذكر نماذج ممّا أدركته منها(1):
* كان الشيخ رحمه الله معروفاً بحسن التدبير، والاقتصاد بملبسه ومأكله وشؤونه، واقتصاره في المصارف على الواجب دون الإسراف وفي المعروف بلا تبذير، وقد أطلق حكمته المشهورة في العراق بقوله : (درهمُكَ دَمُكَ، فلا تصرفهُ إلّا في عروقك) .
* أوفد ابن أخيه الأستاذ (عبّاس بن أحمد كاشف الغطاء) للدارسة في الولايات المتّحدة، فسأل الإمام : ما هو الفرع الذي يدرسه؟ فقيل له : علم الاقتصاد، فقال الشيخ رحمه الله : ( عبّاس مشتبه ومغفّل! لو حضر عندي في مدرستي
ص: 73
هذه لدرس علم الاقتصاد، أنا أعرف بالاقتصاد من الولايات المتّحدة !) .
* تسلّم (كاشف الغطاء) مبلغاً من المال بحضور الأستاذ الشيخ (هادي القرشي) أستاذ البلاغة العربية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، والشيخ (القرشى) رحمه الله معروف بالأريحية الفائقة وإرسال النوادر والملح، فالتفت إلى كاشف الغطاء قائلاً : شيخنا، كيف تعرب هذه الجملة: (الشاف شارك)؟ يعنى : الذي يرى الهدية يشارك فيها، وهو مثل دارج. فأجاب كاشف الغطاء فوراً: (هذه الجملة لا محلّ لها من الإعراب !).
* جدّد الإمام (كاشف الغطاء) بناء مدرسته العلمية الواقعة بجوار مسجد آل كاشف الغطاء ومقبرتهم ذات القبّة الزرقاء، وكان الحديد شحيحاً، لظروف الحرب العالمية الثانية في الأربعينات، فأُشير عليه أن يشتري ذلك من مديرية السكك الحديدية العامّة؛ لأنّ سكك القاطرات تصلح لسقوف البناء، فكتب لها بذلك، فأرسلت له كلّ ما أراد، ثمّ طالبته بالمال، فتثاقل عن ذلك ، وعرضت القضية على وزارة المالية ، فما حصلت على المال، وفوتح رئيس الوزراء آنذاك (نوري السعيد)(1)بالأمر، ولدى إحدى زياراته إلى النجف قابل الشيخ، فطالبه بالمال، فقال الشيخ : (لكلّ عراقي حصّة من نفط العراق، وما أخذته لبناء مدرستنا العلمية من الحديد هو جزء ضئيل من حصّتي في نفط العراق)، فأحجم (نوري السعيد) عن الكلام.
* كان الدكتور (ضياء جعفر) وزيراً للإعمار في الخمسينات، وتحت
ص: 74
تصرّفه أموال طائلة، هي ميزانية لمشاريع الإعمار في العراق، وكان يزور الإمام (كاشف الغطاء)، ويتواضع كثيراً بين يديه - وهو متواضع حقّاً ويجلس بين يدي الشيخ جلسة الحَذِر المؤدّب، وكان الشيخ يطالب بمشاريع عديدة للعراق في الريّ والطرق والجسور والمعاهد الثقافية وما شابه ذلك، ويسائله عن ذلك وأمثاله ، والدكتور (ضياء) يجيب تارةً، ويتلكّأ تارةً أُخرى، والإمام يحاوره بلواذعه وقوارصه غيرةً على البلاد، ويردّد كلمته المعروفة : (هذه الوزارة وزارة الاستعمار ، لا وزارة الإعمار)!
* أصدر (كاظم الكفائي) كتاباً يثير النعرات، وقدّم للمحاكمة، ممّا خلق أزمة سياسية في العراق، فأبرق الإمام كاشف الغطاء إلى البلاط الملكي في بغداد بالنصّ الآتي : (الكتاب يحرق ، والكفائي يطلق). فكان له ما أراد، وكان ذلك في أواخر الأربعينيات.
* اتّصل تليفونياً في الأربعينيات بقائم مقام النجف ؛ لقضاء أشغال الناس، وكان الإمام كاشف الغطاء لا يبخل بالجاه، ورفع القائم مقام سمّاعة التلفون، فقال كاشف الغطاء له : الشيخ يتكلّم. فردّ القائم مقام بلهجة فيها شيء من الاستخفاف : نعم، (افهمنه)! ماذا يريد الشيخ؟ فأغلق الشيخ التلفون عند سماع هذه العبارة، وأبرق إلى (عبد الإله) الوصي على العرش بالبرقية الآتية : (أدّبوا موظّفكم، وإلّا أدّبناه). فنقل القائم مقام في تلك الليلة، وما طلعت شمس اليوم التالي للحادث إلّا وهو يغادر النجف إلى بغداد.
* توفّى الشيخ (باقر الجواهري) عام 1950 م، وهو ابن عمّ شاعر العرب الشهير (محمّد مهدي الجواهري)، فرثاه بقصيدة رائعة ، وألقاها في فاتحته في
ص: 75
اليوم الثالث في ديوان آل الجواهري الواقع قرب مسجد الشيخ صاحب الجواهر الشيخ (محمّد حسن النجفي) قدس سرّه، ومطلع القصيدة :
بقلبي أم بنعشك حين مادوا *** ودمعي أم رثاؤك يستعادُ
وبيت صيح نهباً في ذويه *** كأنّ الموتَ بينهم طِرادُ
وكانت القصيدة من غرر الشعر، وكاشف الغطاء يتصدّر المحفل، ومنزلته وزعامته ينافيان عادةً أن يهتزّ للشعر ويستلذّه، ولكن الشيخ كان يستحسن ويستجيد ويستعيد، وكلّما استعاد مورداً قال (الجواهري): سمعاً وطاعةً سيدي، مُكبراً فيه تلك الروح الأدبية.
* في عام 1370 ه- احتفل النجفيّون بعيد الغدير الخالد عصر يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، وهو اليوم الذي نصّ فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم على أمير المؤمنين الإمام علي علیه السّلام بالولاية الإلهية على المسلمين كافّة. وكان الاحتفال رائعاً، وفي مسجد الخضراء بجوار الحرم الحيدري ، وإذا بالإمام (كاشف الغطاء) يدخل المهرجان بسمته المهيب ، وجلس قرب المنصّة، وكانت عادة النجف والعراق وحتّى اليوم أنّ الشاعر المرموق تكون قصيدته آخر القصائد في الإلقاء لينتظره الحضور، وألقى الشيخ (علي الصغير)، قصيدة أوّلها :
ولاكَ من الله إيمانُها *** وحبُّك في النفس قرآنُها
علمتُ بأنّ ولاكَ السفين *** وحبُكَ في الحشرِ ربّانُها
وكان الإمام كاشف الغطاء يستحسن ويستعيد وينطق أغلب القوافي.
* عرف عن الإمام (كاشف الغطاء) اعتداده بنفسه، وهو أهل لهذا الاعتداد مع زهده وتواضعه العجيبين ، وقد اشتهر عنه قوله : (إنّ في صدري لعلماً جمّاً،
ص: 76
وأخشى شياطين الإنس من أن أبوح به، لأنّهم يوجّهون السواد الأعظم وفق مشاربهم ومقاصدهم).
وهو يريد بذلك : أنّ المناخ الاجتماعي العامّ قد لا يطيق الحقائق الناصعة مع توافر عنصر الدجل الديني، والزيف الذي يستغلّ سذاجة العوام من الناس، فيتأوّل كلامه الصريح بالتفسير الخاطئ المتعمّد خلافاً للتوجّه العلمي الأصيل، فيثير الأحاسيس ويهيّج العواطف وفق الرغبات.
* أفاد الشيخ (كاشف الغطاء) قبل وفاته بعام، وهو يرقد في مستشفى الكرخ (مستشفى الكرامة) ببغداد، وكان الحديث عن الأعمار، وقد سئل عن عمره الشريف : (أنا لم أبلغ العشرين)! فقيل كيف ذاك؟ فأجاب : (العمر تابع لشعور الإنسان، فإذا شعر بالشباب وهوايات الشباب، فهو كالشابّ في حيويته، والسنّ تابع للحيوية، وبناءً على هذه المقدّمات، فأنا أعتبر نفسى شابّاً.
وهكذا كان، فقد كان الشيخ - وهو ابن الثمانين - يتمتّع بحيوية الشباب.
أثرى المؤلّف المكتبة العربيّة وغيرها بمختلف المصنّفات المفيدة وفي شتّى العلوم، و من آثاره:
1- الدين والإسلام.
ويسمّى كذلك: بالدعوة الإسلاميّة إلى مذهب الإماميّة، طبع في جزءين في صيدا.
الجزء الأوّل في فلسفة الدين الإسلامي وإثبات الصانع والتوحيد والعدل وما يتعلّق بهما، والجزء الثاني في إثبات النبوّة الخاصّة. ثمّ شفعهما بجزء ين
ص: 77
آخرين لا زالا مخطوطين(1).
وهو هذا الكتاب في طبعته الجديدة المحقّقة.
يقول الشيخ (محمّد الحسين كاشف الغطاء) رحمه الله حوله : (أوّل تأليف لنا لنا في الحكمة والعقائد «الدين والإسلام»، وكنّا وسمناه «الدعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية»، وشرعنا بطبعه بمطبعة دار السلام في بغداد.
وبينا كانت المطبعة تشتغل بطبع الجزء الثاني سنة 1329 ه- وكانت بعض نسخ من الجزء الأوّل المنجز طبعه قد انتشرت وتداولتها الأيدي، وإذا بالسلطة تهاجم المطبعة بغتة وتصادر الكتاب بجزءيه وتحمله إلى حيث لا ندري إلى الآن.
وكان ذلك بأمر الوالي الشهير في عهد دولة (عبد الحميد ورشاد)، (ناظم باشا) وبإيعاز المفتي الشيخ (سعيد الزهّاوي) ، فكبّدونا بهذه الحركة الجائرة خسائر باهضة مادّية ومعنوية، بعثت فينا روح النشاط والحماس إلى السعي بطبعه خارج العراق، فصحّحنا العزيمة على الحجّ إلى بيت الله الحرام من الكاظمية إلى الشام على البغال شهراً كاملاً، ومنها إلى المدينة المنوّرة بالقطار، ومنها إلى مكّة على الجمال، وكتبنا بهذه السفرة رحلة بديعة أسميناها : «نزهة السمر ونهزة السفر»، لا تزال بخطّنا.
ثمّ أقفلنا - بعد الفراغ من أداء المناسك - إلى الشام أيضاً، ومنها إلى بيروت فصيدا، فأنجزنا طبع الجزءين منه، ولطّفنا من أُسلوبه الثقيل في الطبعة الأُولى حتّى ساغ مشربه للجميع)(2).
ص: 78
2- المراجعات الريحانية.
ويسمّى كذلك: بالنقود والردود. طبع الجزء الأوّل منه في بيروت عام 1331 ه-.
وفيه مباحثات تاريخيّة وفلسفيّة مع فيلسوف الفريكة (أمين الريحاني) (1)والنقد لكتابه : (الدين والإسلام)، ومراجعاته مع الأب (أنستاس الكرملي)(2)في نقده على الكتاب المذكور، وغير ذلك .
والجزء الثاني طبع بصيدا سنة 1331 ه- أيضاً، وفيه بعض المراجعات الريحانيّة أيضاً، والنقد لكتاب (تأريخ آداب اللغة العربيّة) ل- (جرجي زيدان)(3)،
ص: 79
وأُعيد طبعه في بوينس آيرس بالأرجنتين(1).
وقد قام بتحقيقه السيّد (محمّد عبدالحكيم الموسوي الصافي)، وذلك في مجلّدين ضخمين، قد أكملا صفّاً في دمشق، وهما في الطريق إلى الطبع(2).
3- الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات.
طبع سنة 1345 ه- بالنجف.
فيه ذكر المواكب الحسينيّة وردود الوهابيّة والطبيعيّة والبابيّة والبهائيّة(3).
4- المغني عن الأغاني.
ويسمّى كذلك: مختارات من شعر الأغاني، أو : مغني الغواني عن الأغاني. طبع في بغداد.
اختار فيه والتقط الزبدة من كتاب الأغاني، وأسقط منه الأغاني والمكرّرات والأسانيد.
أوّله : (بعد الحمد والصلاة والتسليم ...).
فرغ منه أواخر العشر الثالث من المئة الرابعة(4).
5- أصل الشيعة وأُصولها.
طبع أكثر من عشرين طبعة في النجف وبغداد والقاهرة ولبنان، وترجم إلى الفارسيّة بواسطة سماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وإلى الإنجليزيّة والهنديّة والأوردية.
ص: 80
يبحث في عقائد الشيعة، وفي أُصولهم وفروعهم(1).
6- التوضيح في بيان ما هو الإنجيل ومن هو المسيح.
في جزءين، طبع الأوّل في صيدا سنة 1330 ه-، والثاني في بغداد سنة 1346 ه-.(2)
وقد تُرجم إلى اللغة الفارسيّة بقلم (السيد هادي خسروشاهي(3).
7- الميثاق العربي الوطني.
طبع في النجف(4).
وقد طبع ضمن كتاب : في السياسة والحكمة(5).
8- الفردوس الأعلى.
طبع بالنجف سنة 1371 ه- ولمرّتين، ثمّ طبع في تبريز سنة 1372ه-.
وهو مجموعة مسائل في علل بعض الأحكام الشرعيّة، وبيان فوائدها، ومطابقتها للنظم الحديثة(6).
9- المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون .
طبع في النجف ثلاث مرّات، وترجم إلى الفارسيّة(7)والإنجليزية وطبع
ص: 81
عدّة مرّات.
ردّ به على دعوة الأمريكيّين له للاشتراك في مؤتمر عُقد في بحمدون لبنان باسم الدين للأغراض السياسيّة، وكانت وردته رسالة من جمعيّة أصدقاء الشرق الأوسط في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، يدعونه فيها لحضور مؤتمر لرجال الدين من المسلمين والمسيحيّين ، يعقد في لبنان لبحث القيم الروحيّة في الديانتين والأهداف المشتركة وموقف الديانتين من الشيوعيّة. وقد رفض المترجم حضور المؤتمر بحجّة ضعف المزاج وكثرة الأشغال، ثمّ بيّن رأيه في الموضوع بهذا الكتاب ، وقد لاقى إقبالاً منقطع النظير في كافّة البلاد الشرقيّة(1).
10- محاورة مع سفيري بريطانيا وأمريكا.
طبع في النجف ثلاث مرّات، كما طبع في الأرجنتين(2).
11- نبذة من السياسة الحسينيّة.
طبع في النجف عدّة طبعات، أولها سنة 1349 ه- في أربعين صفحة .
أملاها المترجّم على نجله عبد الحكيم في جواب سؤال (عبد الهادي بن المهدي بن عبد الحسين مطر النجفي) عن وجه إقدام سيّد الشهداء علیه السّلام على الشهادة(3).
12- الأرض والتربة الحسينيّة.
طبع في النجف ستّ مرات، وتُرجم إلى الفارسيّة بواسطة (شاه زاده خسرواني)، وكذلك بواسطة (محمّد تقي الشهرستاني) سنة 1326 ه- ش،
ص: 82
وكذلك ترجم إلى الهنديّة. وطبع مؤخراً سنة 1416ه- بنشر المجمع العالمي لأهل البيت علیهم السّلام في مدينة قم.
وهي رسالة قيّمة كتبها المترجم استجابة لطلبات وردت عليه، ضمّنها
تاريخ التربة الحسينيّة وما ورد فيها من فضل ، انتهى منها سنة 1365ه-.
أوّلها : (يقول الله جلّ شأنه في فرقانه المجيد : ...)(1).
13- سؤال وجواب في الفقه .
طبع بالنجف ثلاث مرّات، وترجم إلى الفارسيّة بعنوان : (زاد المقلّدين) سنة 1364 ه- (2).
14- حاشية على التبصرة في الفقه .
طبعت في بغداد سنة 1338 ه- (3)
15 - وجيزة الأحكام .
طبعت في النجف أربع مرّات .
وهي رسالة عمليّة تسمّى كذلك : بنجاة العباد، أو : وجيزة المسائل(4).
والمكتوبة باللغة الفارسيّة تسمّى : الوجيزة الصغرى، والمكتوبة باللغة
العربية تسمّى: الوجيزة الكبرى.
16- المواكب الحسينيّة.
طبع سنة 1345 ه-.
ص: 83
وهو كتاب في الردّ على منكري بعض أنواع إقامة العزاء(1).
17 - ذخيرة الأنام في ترجمة وجيزة الأحكام.
وهي رسالة عملية طبعت سنة 1339 ه-(2).
18 - نظم كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار.
وكتاب كشف الأستار للميرزا (حسين النوري) المتوفى سنة 1320 ه-، الّفه رفعاً لاستبعادات أحد العامّة لوجود الحجّة وبعض إشكالاته المندرجة في قصيدة أرسلها من بغداد إلى علماء النجف، فكتب جوابه في أيّام قلائل سنة 1318 ه-، وطبع في هذه السنة بعينها.
ثمّ إنّ المترجم نظم مضامين الكتاب بقصيدة طبعت في آخر الكشف بتبريز.
أوّلها من حيث النظم :
بنفسي بعيد الدار قرّبه الفكر *** وأدناه من عشّاقه الشوق والذكر(3)
19 - عين الميزان .
رسالة في انتقاد مقالة: (ميزان الجرح والتعديل) للشيخ (جمال الدين
القاسمي الدمشقي)(4)، طبعت في صيدا سنة 1330 ه-(5).
20 - حاشية على عين الحياة في الفقه.
لأخيه المرحوم الشيخ (أحمد).
ص: 84
طبعت في بمبئي بالهند سنة 1345ه- ، وهي حاشية باللغة الفارسيّة(1).
21 - تحرير المجلّة .
طبع في النجف، وأُعيد طبعه بالأُوفسيت في مجلّدين.
وقد وفّقت لتحقيقه في خمسة مجلّدات، ونشره المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة.
22 - مقتل الحسين علیه السّلام.
طبع مؤخّراً طبعة محققة بنشر مكتبة (الشريف الرضي) في مدينة قم سنة 1419ه-.
أوله : (عن الإمام العسكري علیه السّلام في تفسيره المشهور ...).
23 - حاشية على العروة الوثقى .
طبعت في النجف.
24 - تعليقة على كتاب : الوساطة بين المتنبّي وخصومه للقاضي
(الجرجاني)(2).
25 - تعليقة على كتاب : (معالم الإصابة في الكاتب والكتابة).
26 - تعليقة على ديوان السيّد (محمد سعيد الحبّوبي)(3).
ص: 85
27 - تعليقة على ديوان (سحر بابل وسجع البلابل) للسيّد(جعفر
الحلّي)(1).
وقد طبعت هذه التعاليق الأربع في لبنان.
28 - تعليقات على سفينة النجاة.
لأخيه الشيخ (أحمد آل كاشف الغطاء) في أربعة مجلّدات تناولت جميع أبواب الفقه، وقد طبعت مرّتين.
29 - العبقات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة، أو : النفحات العنبريّة في الطبقات الجعفريّة.
وهو أوّل مؤلّف له في الأدب، تكفّل تاريخ أسرته وترجمة رجالها ، كما تناول تاريخ النجف العلمي والأدبي .
طبع مؤخّراً بتحقيق الدكتور (جودت كاظم القزويني).
30 - جنّة المأوى.
وهو على غرار الفردوس الأعلى ، مطبوع.
31 - شرح العروة الوثقى.
في أربعة مجلّدات كبيرة، وهو أوّل تأليفاته في الفقه.
ص: 86
32 - نزهة السمر ونهزة السفر.
وهو مجموعة خواطره التي كتبها في رحلته إلى الحجّ حدود عام
1329ه- ، وكذلك رحلته إلى سوريا ومصر.
33 - تنقيح الكفاية في الأصول.
ويُسمّى : تنقيح الأُصول.
34 - دائرة المعارف العليا.
وهي مجموعة مباحث في أصول الدين وفروعه في عدّة أجزاء.
35 - الشعر الحسن من شعر الحسين .
وهو ديوان شعره، ويتضمّن أكثر من سبعة آلاف بيت.
36 - ملخّص شرح العروة الوثقى.
في مجلد واحد.
37 - الخطب الأربع .
38 - الخطبة التأريخيّة في القدس.
39 - خطبة الاتّحاد والاقتصاد.
40 - خطبة الباكستان.
41 - مناسك الحجّ (عربي - فارسي).
42 - حاشية على مجمع الرسائل .
43 - الدروس الدينيّة .
طبع بصيدا سنة 1377ه-.
44 - حاشية على كتاب: (الأسفار) للشيخ (صدر الدين
ص: 87
الشيرازي)(1).
45 - حاشية على (العرشيّة) للشيخ (الشيرازي) أيضاً.
46 - حاشية على المكاسب.
وقد أسماها : النظر الثاقب ونيل الطالب .
47 - حاشية على الرسائل.
48 - حاشية على كفاية الأصول.
49 - رسالة في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة ومراتب - الحكم.
50 - حاشية على قوانين الأصول .
51 - تعليقة على أمالي (المرتضى)(2).
52 - تعليقات على كتاب : (الفتنة الكبرى) للدكتور (طه حسين)(3).
53 - تعليقة على كتاب : (الوجيز في تفسير القرآن العزيز) للشيخ
(علي محيي الدين)(4).
ص: 88
وقد حقّق هذا الكتاب من قبل الدكتور (عبدالرزّاق محيي الدين) تلبية الرغبة السيّد (محسن الحكيم) قدس سرّه(1).
54 - منتخبات شعريّة .
وهي ثلاث مجاميع من الشعر ، باسم : العصريّات، والمصريّات، وطرائف الحكم.
55 - عقود حياتي .
وهو ترجمة ضافية لشخصه بقلمه. وقد فُقد هذا الكتاب قبل وفاته
بسنتين، ومعه مجموع شعره الذي نظمه بعد الخمسين من عمره.
وقد عثر الأستاذ (كامل سلمان الجبوري ) على هذا الكتاب، وطُبع ضمن كتابه : (النجف الأشرف وحركة الجهاد)(2).
56 - مبادئ الإيمان في الدروس الدينيّة.
والظاهر أنّه كتاب : الدروس الدينيّة المتقدّم برقم ( 43 ) .
57 - نصيحة لعموم المسلمين.
58 - نقد كتاب : (ملوك العرب) للأُستاذ (أمين الريحاني).
نشر في جريدة النجف للمرحوم (يوسف رجيب)(3).
ص: 89
59 - رسالة في إرث الزوجة .
60 - نقض الفتاوى الوهابيّة.
طبع مؤخّراً بتحقيق ونشر دار الغدير البيروتيّة عام 1419ه-.
وقد تكون هذه الرسالة المحقّقة أخيراً مستلةً من كتاب الآيات البيّنات.
61 - مولد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلّم وبعثته .
62 - تعاليق على نهج البلاغة.
63 - التضحية في ضاحية الطفّ.
64 - الحسين علیه السّلام كتاب الله التكويني.
65 - المسائل القندهارية.
وهو كتابٌ باللغة الفارسيّة، تُرجم إلى اللغة العربيّة، وأُلحق بكتاب
الفردوس الأعلى.
66 - رسالة في الاجتهاد والتقليد .
67 - مجموعة الفتاوى .
68 - صحائف الأبرار في وظائف الأسحار .
وقد طبع في تبريز سنة 1387 ه-.
69 - رسالة عن الاجتهاد عند الشيعة.
70 - نقود على بعض شروحات الشيخ (محمّد عبده) لنهج البلاغة.
وقد يكون هو كتاب التعاليق ماضي الذكر ، كما هو الظاهر.
ص: 90
71 - حاشية على الفصول .
72 - حاشية على الهداية الأثيرية.
73 - حاشية على رسالة الوجود (للملّا صدرا).
74 - دائرة المعارف الصغرى .
75 - سدرة المنتهى.
76 - التعليقات على الكلم الجامعة والحكم النافعة (للسيّد اليزدي).
77 - مقالات فلسفيّة.
في : وحدة الوجود، والعقول العشرة ، والحركة الجوهريّة، وقاعدة
(الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد).
78 - في السياسة والحكمة .
وقد طبع أخيراً بنشر دار التوحيد الإسلامي ببيروت لسنة 1401ه-.
79 - تنقيح المقال في مباحث الألفاظ.
80 - منتخبات من الأحاديث والأخبار والتراجم .
81 - المذكّرات .
وقد قام بتحقيقه الأستاذ (كامل سلمان الجبوري) ضمن كتابه : ( النجف الأشرف وحركة الجهاد)، المطبوع في بيروت(1).
82 - تعليقة على أدب الكاتب (لابن قتيبة)(2)وشرحه
ص: 91
(للبطليوسي)(1).
83 - تاريخ القرآن .
وقد ترجم الشيخ رحمه الله من الفارسيّة الكتب التالية :
1 - فارسي هيئت .
متعدّد، ( للخواجة الطوسى) وغيره. والمعروف بهذا العنوان هو (هيئت) للمولى (علي القوشجي)(2)، طبع مكرّراً(3).
2 - حجّة السعادة في حجّة الشهادة.
في بيان وقعة يوم الطفّ بكربلاء وسائر ما وقع في الدنيا سنة 61 ه- من الوقائع التأريخية . والكتاب لاعتماد الدولة (محمّد حسن خان بن علي خان المراغي)(4).
فرغ المصنّف - أي: اعتماد الدولة - منه سنة 1304 ه-، وطبع بإيران سنة 1310 ه- (5).
ص: 92
3 - رحلة ناصر خسرو(1).
كما ترجم بعض الفرائد المعروفة في الأدب الفارسي .
وكذلك قام بالتقديم لبعض الكتب ، ككتاب : (الذريعة)، وكتاب : ( المهدي وأحمد أمين)، وكتاب : (دائرة المعارف الشيعيّة العامّة)، وكتاب : (ماضي النجف وحاضرها)(2).
وله كذلك مئات البحوث والكلمات والخطب والتقاريض والمراسلات العلميّة، ممّا ينهض بعدّة مجلّدات.
أثّر التعب والكدّ في صاحب تلك الروح العظيمة، وكذلك الظروف الصعبة التي كانت تواجه الفقيد، وقبل وفاته بشهر دخل مستشفى الكرخ ببغداد، وذلك بدعوة من وزارة الصحّة عندما أحسّت بتأخّر فى استرداد صحّته نتيجة لإصابته بإلتهاب البروستات.
وقد أرسل خطاباً - وهو على سرير المرض - إلى مسلمي البحرين طالباً
ص: 93
منهم إنهاء الحرب الطائفية التي حدثت بينهم آنذاك.
ولكنّه - بعد إقامة لمدّة قصيرة في المستشفى قرابة الشهر - آثر السفر إلى قرية من قرى مدينة كرمان شاه الإيرانيّة يقال لها : (كرند)، تقع بین کرمان شاه وخانقين - وكان قد سافر إليها سابقاً عام 1366 ه- حيث نزل حينها ضيفاً على الميرزا (حسين احتشامي) - من أجل الاستجمام ، بحيث يقضي بها بعض الأيّام، ثمّ ليرجع إلى زيارة كربلاء عيد الأضحى، فامتنع الأطبّاء عن السماح له بالخروج، ولكنّه قرّر أن يمضي على رأيه، فسافر إليها ليلة السبت في السادس عشر من شهر ذي القعدة.
ولنا هنا وقفة، وهي : أنّه أروع شاهد على قوّة معين الأدب واستمرار دفقه وعدم نضوبه عند المترجم ما حدث له قدس سرّه قبل موته من طغيان هذه المادّة، بعد أن أشغلته الزعامة الدينيّة عن مواصلة النظم إلّا في فترات لا يجد عنها محيصاً، وهو وصفه لقرية (كرند) وجلوسه عند عين ماءٍ فوّارة أهاجت حسّه الأدبي، فانطلق يغرّد بقصيدة تعرب عن خواطر عميقة في حياته، وبعد نظمه لها بعشرة ساعات توفّي، وانطلقت روحه إلى الفردوس الأعلى.
وقد بدأ النظم بقوله : (إنّ قريحة الشاعر كعين الماء، إن استعملت فارت، وإن أهملت غارت).
ثمّ قال :
يدهش اللبّ من كرند رجال *** مثل قلب البخيل جلمود صخره غير أنّ العيون منها جوارٍ *** وعيون البخيل لم تند قطره
كم دروس منها استفدت فكانت *** فكرة ثمّ عِبرة ثمّ عبره
يا جبال الأجيال والدهر يعدو *** للفنا وهي في البقا مستقرّه
ص: 94
وقفت والزمان يمشي عليها *** راكضاً وهي في الفلا مشمخرّه قد سبقن الشعرى العبور عبوراً *** لجّة الكون واحترزن المجرّه هي مثل الحديد صمّ ولكن *** قد كستها الأشجار أينع خضره وينابيعها تفيض زلالاً *** صفق الريح بالعذوبة نهره
وعليها الطيور تشدو بلحنٍ *** جالب للتكول كلّ مسرّه
نطحت جبهة السماءِ ولاحت *** في جبين التأريخ للأرض غرّه
وحدة والسيول قد فرّقتها *** قطعاً فهي وحدة وهي كثره
كلّ طود كالشيخ قد غالب الكون *** عراكاً فقوّس الدهر ظهره سائلوها عن الملوك الخوالي *** أين تيجانها وأين الأسرّه
قصر (شيرين) هاهنا وعليها *** ذاب (فرهاد) حسرة بعد حسره كم ملوك تنعمت في ذراها *** ثمّ راحت في عالم الذّر ذرّه وبهذي الشعاب كم عاش شعب *** قد جهلنا حتّى بِناه وذكره أين ساسان و السلاطين منه *** ملاؤا الأرض بسط حكم وقدره قد أقمنا بها زماناً فعمّنا *** برده والعراق يلفح حرّه
نحن في الصيف والشتاء علينا *** قارص يجلب الأذى والمضرّه خير أوقاتنا الظهيرة فيها *** نتسلّى ظهر النهار وعصره
أوقفتنا تلك الجبال حيارى *** نتحرّى سرّ الجلال وسفره
يذهب الفكر صاعداً ثمّ يهوي *** واجداً في طريقه كلّ عبره
يا بديع الجمال في كلّ قلب *** نور ذاك الجمال أودع جمره قد سقتنا تلك الشمائل كأساً *** فکسرنا ولم نذق قطّ خمره
إنّ هذا الوجود بحر ولكن *** أين من في الوجود يسبر قعره
ص: 95
ولهذي الأكوان لبّ ولكن *** ما عرفنا حتّى لحاه وقشره
ولهذي الحياة معنى ولكن *** علّنا بالممات نعرف سرّه
ثمّ إنّ الشيخ قدس سرّه ما مضت عليه ليلتان في (كرند) حتّى اعتراه عارض مفاجئ ارتحلت روحه الطاهرة على أثره إلى الفردوس الأعلى، وذلك قبل طلوع صباح يوم الاثنين المصادف للثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة 1373 ه-، وللتاسع عشر من شهر تموز عام 1954م(1).
ونقل جثمانه الطاهر إلى بغداد بعد أن حضر (كرند) ممثلوا الحكومة العراقيّة، وما إن وصل بغداد في الساعة الحادية عشرة مساءً، حتّى كانت بغداد تموج بأهلها والمواكب تنتظر وصوله، وكان في مقدّمة المستقبلين أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة والوجوه، فحملوه من منطقة السيّد (سلطان علي) إلى محطّة القطار.
ولمّا وصل الجثمان في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل هُيء له قطار خاصّ مؤلّف من عربات الدرجة الأولى والثانية، وقد ضمّ الشخصياّت من وزراء الدولة والوجهاء وآل كاشف الغطاء، وسار إلى كربلاء فوصلها في الساعة الخامسة صباحاً(2)، ومن ثمّ إلى مدينة النجف الأشرف، فدفن في مقبرة خاصّة
ص: 96
له في وادي السلام في قبر أعدّه الشيخ قدس سرّه لنفسه قبل موته بمدّة مديدة .
قيل : إنّه كان كثير الاختلاف والتردّد على قبره، وكان إذا انتهى إليه اضطجع فيه، وراح يردّد قوله (تعالى) بصوتٍ حزين : «رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيما تَرَكْتُ»(1)ودموعه جارية وحسراته وارية.
وأُقيمت على روحه الفاتحة من قبل الأسرة الكريمة في مسجدهم ، واستمرّت الفواتح إلى يوم الأربعين ، كفاتحة السيّد (محسن الحكيم ) قدس سرّه، وفاتحة السيّد (عبد الهادى الشيرازي)قدس سرّه، وفاتحة السيّد (محمود الشاهرودي)قدس سرّه، وفاتحة السيّد(أبي القاسم الموسوي الخوئي)قدس سرّه، وفاتحة السيّد (محمّد باقر الشخص) قدس سرّه، وفاتحة الشيخ (عبد الكريم الزنجاني)قدس سرّه. كما استمرّت الوفود تتقاطر على الفواتح من مختلف أنحاء العراق ، ورثاه الشعراء، وناحه الخطباء، وأبّنته الجمعيّات، كجمعيّة الرابطة العلميّة الأدبيّة، وجمعيّة التحرير الثقافي، وجمعية منتدى النشر، كما ونعته الصحافة العالميّة.
وممن أرّخوا وفاته السيّد(محمّد حسن الطالقاني) بقوله :
دارت بأرجاء الفضا صرخة *** فطبقت أمواجها الخافقين
هزّت عمود الدين بل ضعضعت *** أركانه وانهار من جانبين قضى حسين بكرند فذي *** النعاة قد عادت بخفّي حنين
يا حسرة الإسلام مذ أرّخوا *** (أبكى الهدى والفضل فقد الحسين)
وكذلك أرّخ وفاته الشيخ (علي البازي)(2)بسبعة تواريخ، أوّلها:
ص: 97
مدينة العلم بكت قطبها *** ومن إلى الإسلام إنسان عين
الحجّة العظمى مثال التقى *** فقيه شرع شافع النشأتين
أبا حليم كيف يجدي البكا *** عليك والنوح وصفق اليدين الدين قد أصبح ينعاك والآي *** التي بها انجلى كلّ رين
قد فقدت خيرة تأريخها *** (وافتقدت فيك الإمام الحسين)
و آخرها قوله عند دفن الفقيد قدس سرّه :
ذا مرقد ضمّ عظيماً بكت *** لفقده لمّا قضى كلّ عين
وشرعة الإسلام تأريخها *** (يندبها عند ضريح الحسين)
وهكذا طوى هذا الفقيه الكبير والمصلح العظيم صفحة مشرقة بالعظمة والأعمال الصالحة والخدمات الإسلاميّة، فجزاه الله خير جزاء المحسنين.
1 - الاعتماد في تحقيق الكتاب على النسخة المطبوعة بدار المعرفة في بیروت(1)
ص: 98
2 - القيام بعملية تقويم النصّ، والإخراج الفنّي له، وتصحيح الأخطاء الموجودة في الكتاب.
3 - التقديم بدراسة مختصرة حول موضوع الكتاب وحول مؤلّفه.
4 - القيام بتخريج الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة والنصوص الكلامية والعقائدية الواردة في الكتاب.
5 - شرح الألفاظ اللغوية الغريبة بالاعتماد على المعاجم اللغوية
المختلفة .
6 - ترجمة الأعلام الواردة أسماؤهم في ثنايا الكتاب بذكر نبذة مختصرة عن حياتهم وأهمّ آثارهم إن وجدت وذكر سنيّ وفياتهم، ثمّ الإحالة على المعاجم الرجالية المتوفّرة.
7 - نسبة أغلب الأشعار الواردة في الكتاب إلى قائليها، وبما فيها الأشعار الفارسيّة، مع ترجمة هذه الأشعار وتعريبها.
8 - إرجاع التعابير المتضمّنة للإحالات مثل (تقدم، سبق، يأتي) وما شاكلها إلى مواضعها من الكتاب.
9 - عنونة أغلب مطالب الكتاب عند الحاجة.
10 - وضع الفهارس الفنّية العامة للكتاب، كفهارس : الموضوعات،
ص: 99
الآيات الأحاديث، الأشعار، الأعلام، المصادر، الأماكن الكتب الواردة في المتن، وغيرها.
11- الإشارة إلى المواضع التي ذكرها المؤلف رحمه الله في هامش الكتاب بعلامة (*)، بالإضافة إلى تعبير (منه رحمه الله). وقد قمت بتحقيق معظم الموارد التي ذكرها المؤلّف في هامش الكتاب.
وأخيراً أود أن أتقدّم بالشكر والتقدير إلى المجمع العالمي لأهل
البيت علیهم السّلام؛ لما بذله من عناية واهتمام في هذا المجال.
كما أتقدّم بالشكر والثناء الجميل إلى سماحة آية الله الشيخ محمّد مهدي الآصفي (حفظه الله) الأمين العامّ السابق للمجمع العالمي لأهل البيت علیهم السّلام؛ لتأكيده على أهمّية تحقيق هذا الكتاب القيّم، وتشجيعه لي على ذلك ، ومتابعته المراحل التحقيق.
كما أودّ أن أهدي ثواب هذا العمل المتواضع إلى روحي الشيخين الجليلين : الشيخ أبي شريف العراقي، والشيخ أبي (محمّد حسن) نزار العيداني، سائلاً المولى العلي القدير أن يرحمهما برحمته الواسعة ويدخلهما فسيح جنّاته.
وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين .
محمّد جاسم الساعدي / ربيع الأول / 1427 م
ص: 100
اللّهم بك وباسمك أدعو إليك
السوانح الدواعي لهذه الدعوة
لا أُحاول في طليعة دعوتي هذه ومقتبل قولي هذا وأوائل نفثاتي تلك التي سأقصّها عليك أن أصوّر لك ما حلّ بالإسلام من الويلات، وما أحدق به من البلاء، وما انتهى إليه من السقوط والضعة بعد تلك العزّة والمنعة .
لا أُحاول أن ألفتَك وأدلّك على ما تتهدّده به مكائد الأغيار من نصب حبائل الغوائل (1)له ، والدأب في السعى على محقه ومحوه وتكدير صفوه وتعكير نميره(2)، وكدّهم وكدحهم سرّاً وجهاراً ليلاً ونهاراً في كلّ الدقائق والثواني والآنات والأزمنة، حتّى أصبح الشرق - والإسلام على الأخصّ - هو الشغل الشاغل والهمّ الطائل الذي لا تتصرّف أفكار أغياره إلّا إليه، ولا تتجوّل إلّا فيه، ولا تعتني وتهمّ إلّا به، ولا تمهّد السبل وتُلَبد(3)الأمل وتوطّد المساعي إلّا إلى الظفر به والإتيان عليه وقلع جراثيمه (4)من رقعة الأرض.
ص: 101
تجهد بكلّ الأسباب والعوامل وتنصب كلّ الأشراك والحبائل لصيد هذا الطائر القدسي وإزهاق روحه وإطفاء جمرات الغيظ بقطرة دم حياته.
لم تدع سبيل حيلة لذلك إلّا سلكته، ولا ملاك خدعة إلّا امتلكته، ولا قوى مكر إلّا استعملتها، ولا ربوة غدر إلّا افترعتها(1)، ولا مظنّة باب عدوان إلّا قرعتها، ولا سيطرة سلطة إلّا ضربتها.
فأقلام تجري، ودعاة تسري، ورسل تبشّر، وكتب تكتب، ورسائل تنشر وأموال تستميل، وأحوال تحيل ولا تستحيل، إلى كثير من أمثال ذلك من إعمال القوى الروحية والكتائب الدينية والجيوش الملّية.
نعم، وتعضدها مدافع في البرّ، وأساطيل في البحر، وطيّارات في الجوّ، ومدمّرات في كلّ دوٍّ(2)، إلى وفير من أمثالها في إعمال القوى القهرية والسلطة الملكية.
وسياسات ومؤتمرات، واتّفاقات واجتماعات، وحلّ وعقود، ونقض وعهود، وبرقشة(3)وخداع، ولين وزماع(4)، وتساهل وامتناع، وأثواب تحبّب وابتشاش، وعلى أجسام حقد واغتشاش، وظاهر نصح ووفاق على باطن خدع ونفاق، وإجهار ودٍّ وولاء، يسر حسواً في ارتغاء(5)، إلى ما لا أُصيه من
ص: 102
استعمال القوى السياسية وتلوّنات حرباء المصانعة وتوليد الغلبة من أُمّ براقش الغدر والمداهنة، وهل روح السياسة إلّا ذلك؟!
كلّ هذه الجلبة والوجبة، والسباق والحلبة، والعجيج والضجيج ، والتفادح والتكادح، دوائر تستدير على نقطة، ومدارات تسير في الحركة على مركزٍ واحد وخطة ، ألا وهو - لا سمح الله - محق الإسلام، وإزهاق هذا الدين، وامتلاك الشرق، واستعباد الشرقيّين.
نعم، لا أُحاول أن أُمثّل لك وأنعى إليك رزية الإسلام في أهله، وبليته من قومه ، ونعيه على أسلافه، ومصيبته من أبنائه، المصيبة التي هي أشدّ عليه من وطأة أعدائه وكيد أغياره.
لا أُحاول أن أُجسّم لك كيف تركه أهلوه فتركهم، ونبذوه فانتبذهم،
وأهلكوه فأهلكهم.
لا أُمثّل لك كيف حاربوه في القول والعمل، وجانبوه في الظاهر والباطن، فتزيّوا بغير أزيائه، وتخلّقوا بضدّ أخلاقه، وعملوا على هدم أساسه وإخماد نبراسه(1).
مصيبة جلّت، وبلية أعضلت وعدوىً سرت وعمّت، وجارف تيار لا يمكن الوقوف في مسيله ولا الصدّ عن سبيله، إلّا بقوى روحية ويد غيبية،
ص: 103
و : «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا»(1).
لا أُحاول أن أسرد عليك تمزّق أشلائه، وتفرّق أعضائه، وتشعّب شعوبه، وتبدّد عناصره وأواصره بالأهواء المختلفة والآراء المختلقة وطفيف من الخلاف في بعض الفروع التي لا يوجب الخلاف فيها كلّ ذلك التضارب والتحارب والمهارشة والتكالب والتغاير والتسابب والتشعّب الشائن الذي ينهاهم عنه كتابهم ولا يبيح شيئاً منه دينهم ويردع بصريح القول وجلي البيان عنه قرآنهم صائحاً فيهم بملء فيه : «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»(2)«لَا تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ»(3)، «لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا»(4)، «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُوا»(5).
أمر غريب وحديث مدهش، لو حُدّثنا به على الغيب لحسبناه ضرباً من التخييل أو نوعاً من الشعر والتمثيل إعظاماً له وإكباراً!
تجد الفِرق الإسلامية - على تباعدها وتقاربها كلّها تنزل القرآن أحسن منازله، تتّخذه قبلة أحكامها ووجهة حلالها، وحرامها، تحلّ كلّ ما أحلّه، وتحرّم كل ما حرّمه، سوى ما اشتملت عليه هذه الآيات الذهبية من الحكمة الأدبية التي لا سعادة ولا سيادة إلّا بها ولا بقاء لملّة أو دولة إلّا بالاحتفاظ عليها، قد أصبحت تلك الآي وكأن لا مسيس لها في الدين ولا هي من مشروعاته وأحكامه.
ص: 104
نفذت الروح الغربية في جسد الشرق وجسم العالم الإسلامي، فانتزعت منه كلّ عاطفة شريفة وإحساس روحي وشرف معنوي ومجد باذخ واستقلال ذاتي.
ما عتمت أن تركته يسخر بدينه ويهزأ بكتابه وينبذ بعهوده من وراء ظهره .. تركت الجسم المؤلّف من ثلاث مائة مليون نسمة فأكثر (1)مقطّع الوشائج منفصم العرى منبتر الروابط، لا تعارف بينهم ولا تآلف ..
تركتهم شذر مذر، جماعاتهم أوزاع وشملهم ضياع ..
تركتهم يقتل بعضهم بعضاً ويكفّر قوم قوماً، يستحلّ جماعة دم آخرين، وهم إخوان بنصّ كتابهم وأوّليات مشروعات دينهم.
ولكن نفذت فيهم روح تلك السياسة وكهربت عقولهم سيّالات تلك البرقشة، فطلسمتهم، بل أعمتهم وأصمتهم.
تسمع بالمسلم الشرقي الذي يلهج بالمحاماة والذبّ عن الدين الإسلامي والتناصر له ، فإذا وقع بصرك عليه وجدته غربياً من قرنه إلى قدمه : غربي الأهواء، غربي الأزياء، غربي ،الأميال غربي الشكل، غربي اللباس، غربي الظاهر كلّه - والله أعلم بالباطن - غربياً في كلّ شيء، وليس عليه من أثر الإسلام شيء ، تقليداً أعمى، وجهلاً مطبقاً ، وإعجاباً بزخارف الدنيا وسفاسف الأُمور(2)،
ص: 105
واغتراراً بالعرضيات عن الحقائق والجوهريات.
كلّا، لا أُحاول بيان شيء من هذه الأحوال المشجية والبحث عن شأن من هذه الشؤون المحزنة المبكية، فإنّك تجد كلّ ذلك نصب عينك، وتنظره بملء بصرك، وتحسّه بكلّ مشاعرك وإحساساتك، ولأوشك من الظهور أن يتجسّم حتّى تلمسه بيدك وتقبض عليه بكفّك . وأيّ حاجة إلى بيان ما أوضحه العيان!
ومهما استطردنا شيئاً من ذلك - فيما يرد بعد - فما هو من القصد والغرض في شيء، وإنّما هو من سبق القلم ودفع حرارة الألم.
إنّ السيّال الذي يبصّ من سماء الفكر على ألواح الضمير فيهزّ اليراعة الساعة للقول ويمرّن أسلات اللسان (1)للبيان، وينشّط الأنامل على الجري والجولان في ميدان هذا الطرس، سوانحُ من بنات الخيال، تفصّل مجملاً من موحيات العناية التي دفعت العزائم إلى نشر ما تضمّنته هذه الدعوة ، تنشر لفّاً من حقائق تتنزّل من عرش الحكمة إلى دارة التدبّر وفلك التفكّر .. سوانحُ حياة تدرّست في مدرسة الأكوان، وأنضجتها تجوّلات العبر وتقلّبات الصروف والغِير ، وشذّبها عجيب ما تسمع وترى من علم الحاضر والغابر ، وأنحت عليها أُمّ دفر (2)حتّى تركتها كلمع قبس أو ومضة برق أو روح تردّد في مثل الخيال.
وإليك بيانها :
ص: 106
1 - أجد وكلّ باحث أنّ كلّ دين من الأديان، أيّاً ما كان ، وكلّ ملّة من الملل ودعوة في العالم، بل وكلّ سلطة في البسيطة وغلبة في السلطان، ما هي في بادئ أمرها وأوّل حداثتها ونشوئها إلّا كفرخ طائر يترعرع في مدرجة الكون، ولا يستطيع من الحركة والنهوض، إلّا دون دبيب النمل على الأرض ، ثمّ لا تبرح العناية في نواميس الطبيعة تصرّفه فيما قضت له ، فإمّا أن تودي به زوابع الكون وفجائع الصروف ، أو تدفعه إلى بلوغ الغاية التي يسّرت له . نعم، ولا ينهض إلى تلك الغاية إلّا بمسعدي جناحين، يطير بهما في الأجواء ويحلّق في الفضاء إلى حيث شاء : الجناح الأوّل : تواصل العلم والعمل ، والثاني : تناصر السيف والقلم .
ما سادت أُمّة، ولا سعدت دعوة، ولا حلّقت في سماء العلو والرفعة ملّة، ولا اتّسعت في البسطة على البسيطة سلطة، ولا طار صوت ملك وانتشر في العالم صيت مملكة ، إلّا بإسعاد هذين الجناحين ، وعلى قدر الحظّ ووفور النصيب منهما يكون الحظّ من القوّة والنفوذ في السطوة والسعة في الملك والسلطان.
تمثّل هذا الطائر القدسي (الإسلام) في أواسط الخلافة العّباسية بمثل أكبر ما يكون من النسور ، فأنشب مخالبه في أعماق البسيطة ، وأثبت رجليه على تخوم الأرض ، واحتكّ بظهره أعنّة السماء من هذا المحيط، واستقبل بوجهه الكعبة المقدّسة من ناحية الجنوب، حتّى أطلع رأسه من وراء خطّ الاستواء، ومدّ ذنبه على أقصى المعمورة من الشمال، ونشر أحد جناحيه على المشرق،
ص: 107
حتّى وضع قوادمه على جدار الصين، وظلّل بالثاني طرف المغرب إلى منتهى المحيط، فقال للشمس : أينما أشرقت ففي ظلالي، وللسحاب : أينما ودقت (1)ففي بيت مالي.
بلغ هذا الطائر المبارك الميمون من الفخامة والعظمة في أقلّ من قرن ونصف ما لم تبلغه أكبر دول العالم في عدّة قرون ، لا قبله ولا بعده ، إعجازاً باهراً وشأناً عظيماً.
ولا تسلني اليوم عمّا حلّ بهذا الطائر الحبيب إليّ ، فتسيل عبراتي وتستثير دفين زفراتي التي تطاير بأفلاذ كبدي وشظايا قلبي وتخمد ضئيل ضوء حياتي قبل رجع الجواب : بأنّه مسحت أطرافه، وبترت ذنائبه، حصّت (2)أجنحته کنعت (3)يداه ورجلاه، دمغت هامته حتّى تداخلت في عنقه، فاختنق صوته وأخفتت دعوته ، وأصبح كجؤجؤ في وسط العراء ، تكتنفه الذئاب والوحوش والقشاعم (4)والنسور. كلّ يوم تنهش قطعة من لحمه وتكسر عظيماً من عظمه ، . وهو ينظر بعينه، لا أيد تدفع ولا جناح سلاح يمنع ، فهو طعمة للحشرات من الهوام وللبغاث من الطير التي تستنسر في أرضه(5)، وتلك زيادة في العلّة وجمرة على غلّة.
ص: 108
فإنّه اليوم بنفسه قد أشفى - لا سمح الله - على الهلكة، من أدواء في داخله، وعلل في فؤاده، ومزمنات أسقام في رئته وكبده . كيف ! وقد عاث الفساد في كلّ باقية من جوارحه ، فهو يعالج معضلات الداخل والخارج وموهنات الظاهر والباطن وصدمات العدوّ والصديق.
دع حديثك هذا، فإنّه شجون(1)، يسيل بذوب القلوب في شآبيب
العيون(2).
وأمّا وحرمته، إنّي لأُحرّر فيما هنا والحسرات تتكسّر في صدري، والدمع قبل القلم يجري، والعبرات أمام العبارات تنهلّ. ويا حبّذا لو سمحت لي العناية بموقف تراق قطرة دم حياتي في سبيل حياته أمام الصفّ الذي تراق فيه دماء أخواني اليوم ويضحّون حياتهم لأجله ، فيحيون الحياة السعيدة، ويعيشون وراءها عيش الرغد والهناء، سعادةً أنا من اليقين بها لأمثالهم على مثل ضوء الفلق : «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(3).
أوشك أن يفوت الغرض ، فعد إلى العلم والعمل والسيف والقلم، عد إلى الجناحين الذين لا تحلق أمّة إلى أوج الفخر ولا تخوض موج العزّ إلّا بدفتيهما والاعتماد عليهما، عد إلى هذه الأركان الأربعة والدعائم الممنعة التي تبنى عليها قبّة كلّ مجد وشرف وكلّ سعادة وسيادة ، وبمقدار قوّتها وارتفاعها ترتفع منازل الأُمم وتقوى العزائم والهمم.
ص: 109
أمّا العلم والعمل فهما فرض في نواميس الحياة وأُصول تنازع البقاء على كلّ فرد من البشر في كلا شعبتيه وكلّ شعوبه وإن اختلفت العلوم وتنوّعت الأعمال. ولكن لا ندحة (1)الذي صحّة عن عمل ما يبتني على علمه اللازم له اللائق به ، وإلّا فالعمل بلا علم كالبناء على غير أساس ، أخلق به وشيكاً أن ينهدم على صاحبه ويقضي على ظمأ حياته .
والعلم بلا عمل كالأساس ولا بناء، لا يزال صاحبه ضاحياً في وهج الشمس عرضة للصروف، لا يعتم أن تمزّقه نفحات الزمهرير ولفحات الهجير من عواصف هذا الكون ، تمزّقه مجاذبة الحدثان بالإهمال ولو أظلّته أدفّة القصور أو انضمّت عليه أجنحة النسور .
فالعلم والعمل هما المعينان ، بل العينان واليدان للرجل والرجلان هما الأداة لكلّ ساع إلى سبل الغايات الحيوية، بل السعادة الأبدية ، فرداً أو أُسرة ، جماعة أو وحداناً.
أمّا السيف والقلم فهما مواضع الميزة ومنازل التفرقة ، يتكافئان على سنن التبادل والمعادلة، لا يلزمان على كلّ أحد ولا على كل حال .
وإنّما هما آلة الملك، وأدوات القوّة، وسياج الملّة، وإطار الدعوة، ومعدّات الرقى، ومولّدات العزّ، ورواصد كيان الشرف. فللسيف رجال وللأقلام أقوام.
وإن قبض شهم على كليهما وقام بحقّهما - ونادراً ما يكون - فمرحباً ومرحى.
ص: 110
أمّا حيث تسوق العناية - كما هو الغالب - زمرة لهذا وطائفة لذاك على نواميسها في كافّة الصنائع وسائر الحاجيات التي يتوقّف عليها نظام المدنية وقوام كلّ هيئة اجتماعية متوازنة في التبادل والتكافؤ بميزان العدل والحكمة التي يتمّ بها بقاء الأكوان وحفظ الكيان وسلامة سلسلة الأنواع في معركة الوجود ، فإذا يسّرت الأسباب والمعدّات لكلٍّ نصيبه من ذينك العاملين، فاللازم أن يقوم كلَّ بوظيفته على آخر وسعه ومجهوده وأبعد نصحه لوطنه وأمّته وحفظ كيان ملّته ودولته؛ سعياً وراء الغاية التي أنبتته العناية من أجلها وأنشأته لتحصيلها، وأودعت ذلك في فطرته وركّزته في غريزته، وما هي إلّا نيل السعادة والشرف الذي هو منتهى منازع الزعماء وذوي الهمم .
ذاك حيث يكون قد انتشل نفسه من حمأة الحيوانية إلى نشأة الإنسانية، وصار يعيش بما هو إنسان كريم، لا بما هو حيوان بهيم وإلّا فليس الكلام معه ولا إليه يساق الحديث.
2 - ما هو الشرف والسعادة التي يكدح اللبيب في السعي إليها، وما هي الغاية التي يجهد في الوقوف عليها التي من أجلها كان وفي سبيلها وجد؟
إنّي وإن منحتني الألطاف المستجنّة بادِئ بدئها شرف الأسرة وكرم الآباء والأجداد الذين سبقت لهم المساعي المشكورة في الوسط الذي نبغوا فيه والتربة التي نبتوا منها وعادوا إليها مجداً متواصلاً وسلسلة مآثر متكانفة، يعرف ذلك لهم كلّ أهل حاضرتهم وأكثر الحواضر الإسلامية، ولكن لا أحسّ أنّ في ذلك شيئاً من الشرف ولا حظّاً من السعادة.
ص: 111
بید انّی أحيف على المرء أن يتلمّظ فوه بذلك، فضلاً عن اتكال النفس إليه واعتمادها عليه.
قد تجلّى اليوم مستنيراً لكلّ متنبّه أو نبيه أنّ الحي إذا افتخر بشرف ميّت فالميّت هو الحيّ والحيّ هو الميّت، وأنّ :
أشرف الأقوام أمّاً وأباً *** من عاف أن يسمو بأمٍّ وبأب
وأنّ خسّة الأبوين زيادة في شرف الشريف بنفسه، وشرفهما - إذا كان خسيساً - زيادة في خسّته .
كلّا، ما الشرف بالمال، ولا بحسن الوجه والجمال، ولا بالآباء والعشائر ولا بسعة العلوم ومعرفة المهن والصنائع ، ولا ولا ... الخ .
ليس الشرف إلّا أن يكدح الإنسان في معركة الحياة حتّى يكتسب امتلاك مال أو ملكة كمال أيّاً ما كان علماً أو صناعة خطابة أو شجاعة أو غير ذلك من مادّيات الشرف وطلائعه، لا ما هو الشرف نفسه، ثمّ يخدم المرء بمساعيه تلك ومكتسباته أُمّته وملّته خدمةً تعود بالهناء والراحة عليهم أو دفع شيء من الشرور عنهم.
الشرف حفظ الاستقلال، وتنشيط الأفكار، وتنمية غرس المعارف،
والذبّ والمحاماة عن نواميس الدين وأُصول السعادة.
الشريف من يخدم أمّته خدمة تخلّد ذكره وتوجب عليهم في شريعة التكافؤ شكره، كلّ يؤدّي جهده وينفق ممّا عنده.
بيد أنّي لا أنزع إلى أنّ خلود الذكر وتأبّد الثناء أو التأبين يكون بمجرّده سعادةً للإنسان وشرفاً له ما لم أردّه إلى غاية وأقف به على معنى محصّل وأخرج به عن هذا الفراغ وانتشله من لقلقة اللفظ وفرقعة اللسان ، أتغلغل فيه حتّى أصل
ص: 112
به إلى حقائق في خارج عالم الخيال ووراء متّسع الأذهان.
الشرف، حسن الذكر، الذكر الجميل، أمثال ذلك، ألفاظٌ تسيل على أسلات كلّ لسان وتردّد في فم كلّ إنسان، صغيرةً في فضاء الفم كبيرةً في عالم الوجود.
ولكنّي كلّما ردّدتها في سلسلة الأوائل والمبادئ وصعّدتها في أعمدة الأمّهات والغايات لم أجدها تقف إلّا على معنى السعادة الأبدية وهناء العيش الدائم والتوفّر من النعيم والابتهاج للنفس في دار أخرى وراء التي نحن فيها اليوم، في حياة سوى هذه الحياة التعيسة المحفوفة بكلّ عناءٍ وشقاءٍ مهما امتدّت حبائلها واتّسعت بالمساعفة أسبابها.
فالدارونية (1)وعبّاد الطبيعة الذين لا يرون الإنسان إلّا خلاياً منضمّة وأجزاءً مجتمعة وشيكاً ما تنحلّ وتذهب أدراج الرياح وليس حياتها سوى وصف لمجموعها فإذا تفرّقت وتلاشت فلا حياة بعدها ، لا يكون للشرف معنى
ص: 113
عندهم ولا للذكر الجميل غاية لديهم، سوى التوفّر من حظوظ النفس البهيمية والتكثّر من استيفاء الشهوات التي مهما تكثّر الإنسان فما هو ببالغ منها مبلغ أخسّ الحيوانات.
إنّ أنفساً ضربت على هذا الأصل وسارت على هذه المبادئ واستحكمت بها هذه الضرائب لا تجد عندها كلاماً أفرغ وأوهى من قول ذلك الفيلسوف الاجتماعي:
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلاد (1)
ولا تتّخذ حكمةً أوثق وأحقّ بالاتّباع من قول : إذا متّ عطشاناً فلا نزل القطر(2).
نعم، وقد برح الخفاء حتّى قال قائلهم :
إنّما دنياي نفسي فإذا *** ذهبت نفسي فلا عاش أحد
ليت أنّ الشمس بعدي غربت *** ثمّ لم تطلع على أهل بلد!
بل انهتك ستركلّ صون وحياء حتّى جاهر الآخر - على رغم نواميس كلّ أدب وبضدّ رابطة كلّ دين - فقال من أبيات إلحادية :
لا يصلح الإنسان مجتمعاً *** ما دام فيه الدين والوطن!
سعياً وراء الغاية التي ينزع إليها من محو أحرف كلّ الأديان عن صفحة الوجود ومحق كلّ غيرة وطنية وعصبية قومية زاعماً أنّها هي التي أضرّت
ص: 114
بالمجتمع البشري والعالم الإنساني.
قاتل الله الجهل بصورة العلم والباطل بزي الحقّ، ما أعمه وأعمى وأبعد هذا الخيال عن الحقيقة وأنقضه لدعائم العقل وأعمدة الحصافة(1)!
يا هل ترى كيف عزب عن هؤلاء الباحثين أنّه لولا النزوع والحنين إلى الأوطان لما انبسط على هذه البسيطة مهاد العمران، ولولا سيطرة القوانين والطقوس شرعية أو وضعية لانتكس هذا النوع البشري من أوج الإنسانية إلى حضيض الحيوانية ؟!
فهل ينتج من رفض تينك الفضيلتين الماديّة والأدبية إلّا رذيلة الهمجية ورجوع الإنسان إلى أقدم عهوده في الحياة الكونية، يوم كان يسكن المغارات والكهوف ويهيم على وجهه في الأرض ، يأكل ما هبّ ودبّ ويريك من الوحشية والعداء كلّ عجب؟!
عساك فيما ههنا تناجي وجدانك وتستفزّ أنت في نفسك عواطفك وترفع عرض هذا الحال إلى محكمة عقلك طالباً الفرق بين قول من يقول : إنّما دنياي نفسي ... الخ، وبين قول ذلك الحماسي الجاهلي بل العالم الأخلاقي القائل :
وأعرض عن مطاعم قد أراها *** فأتركها وفي بطني انطواء
فلا وأبيك ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء (2)
وازن أنت بين من يقول : إنّ الدين والوطن مضرّان بالمجتمع الإنساني، وبين قول الفلسفي الاجتماعي القائل :
ص: 115
فيا وطني إن فاتني بك سائغ *** من العيش فلينعم لساكنك البال(1)
وقول بعض كتّاب العصر :
فلا طلعت عليّ الشمس يوماً *** إذا عن مجد قومي لا أذود أموت وقد بلوت النفس دفعاً *** كما تحمي مواطنها الأُسود
كذلك فلتكن للعُرب نفس *** وإلّا ما الحياة وما الوجود!
وقول بعض العارفين في الدين :
لعمرك ما الأديان إلّا سعادة *** وما الناس - لولا الدين - إلّا بهائم
وقول الآخر :
وأحقّ ما صان الفتى *** ورعى أمانتُه ودينُه
احتكك آراءك في نقد هاتين الضريبتين من ذينك الخطّتين، وانظر أيّهما أصحّ جوهراً وأبقى أثراً وأعود بالنفع على النفس وأقربها إلى السلامة وأدناها من العافية وأجمعها للأخذ بأسباب الحزم والحائطة ، ولكن لا تتبوّأ منصّة الحكم إلّا بعد أن تعزل شهوتك وتجرّد للحكومة عقلك، ثمّ اختر لنفسك ما يحلو إن شئت.
ولست هنا معك كباحث أخلاقي يجمع لك الأسباب والعلل والأدواء لهذا أو ذاك، وإنّما كلمتي التي أُريد نبذها إليك فيما ههنا : أنّه لو تأملت ملياً - ولو لم تكن رجلاً مليّاً - لوجدت أنّ رسوخ تلك السخائم (2)في النفوس وضربها على العقول لا يتولّد منه إلّا سقوط كلّ شرف وشهامة ومجد وكرامة، ولا يحوّر النفس
ص: 116
إلّا على الانهماك في شهواتها الراهنة دون كلّ غاية. وفي هذا ومثله تعجيل قطعها وإعدام نوعها، وأنّ هذا لهواء موبئ قد تنسّم بل تسمّم في الكون، ولئن لم تحمّ له وتتغاير على معالجته أطبّاء الهيئة الاجتماعية أوشك أن يأتي عليها رويداً ولو بعد حين.
النفوس إذا ضربت على ذاك الوتر وسرت على خطّة ما هنالك من الأثر لا تلبث أن تعدّ جميل الذكر وكرم الأخلاق وحسن المساعي للأُمّة ألفاظاً هي أفرغ من كيس ابن المذلّق(1) أو من فؤاد أُمّ موسى(2).
جبل الإنسان على حبّ الذات والعناية بالنفس، وجعلها الغاية المقدّسة لكلّ وجهة.
نعم، هي أوّل معبود بالطبع أطاعه وأقدم آلهة بالطواعية عبده. فما كانت لتهون عليه قدراً أو يعصي لها في شهوة أمراً أو يفسخ لها في رغبة عزيمة أو يقذف بها في لهوات البلاء ويقتحم بها موارد الهلكة ، إلّا حيث لا يرتاب في أنّ ذلك هو الأجدى لها والأعود بالنفع عليها. يظمؤها ليرويها ، ويقتلها ليحييها. أمّا حيث لا حياة إلّا ما هي فيه ولا سعادة إلّا ما تحسّه من العاجلة فهل إلّا من الفشل الفاحش والجهل المطبق أن لا يضحّى كلّ ما نسمّيه مكرمةً في سبيل شهواتها واستيفاء حظوظها؟! وهل إلّا أن يزهق روح كلّ ذي حسّ للبُقيا على حياتها؟!
ص: 117
وكلّ يطلب ذلك لنفسه ولا يقتنع - بدافع الحرص - إلّا باستعباد غيره. وهناك الهرج والمرج ، وتقطّع عرى الهيئة الاجتماعية ، وفساد نظام العالم، وسفك الدماء البُراء، كما تجد بعضه اليوم.
نعم، لا يندّ (1)عنّى أنّ بعض النفوس الكريمة النجر الشريفة الجوهر تنشأ من ذاتها وكأنّها قد طبعت بطابع من كرم الأخلاق وطيب الأعراق، فهي تنزع إلى المحاسن وتفزع من المساوئ جنوحاً ذاتياً وميلاً طبيعياً، خضعت لديانة أم لا، انت بحياة ثانية أم لا . تعشق الجميل وفعل الخير لنفسه، وتحبّ الإحسان والحسن لذاته، وتحبّذ روح الجمال من وجهة جماله من غير التماس مرابحة ولا نظر إلى معاوضة.
ولكن على أنّ من السخف قياس النوع على الأفراد النادرة وجعل الحكم اللصيق بالخاصّ على العامّ.
إنّ موضوع البحث في الخلق النفسي يحور على الطباع الساذجة والنفوس العارية من كلّ صبغة. تلك النفوس الغريرة النابتة في تربة القابلية قبل التربية هي النفوس التي نريد أن ندفع زمامها بيد العقل لتسير على تعاليمه وموحياته ، فتندفع إلى الأعمال الشريفة وتجنح إلى ما به النجاح بدافع الحرّية والاختيار والمعرفة والاستنارة ، لا بدافع الطبع والغريزة والضرائب التي لاكسب للإنسان فيها ولا معالجة له بها.
الأخلاقي يبحث في المجتلبات لا في الجبلّات، يبحث في الخُلق لا في الخَلق، يجهد في تربية الطلائع لا في مرتبة الطبائع.
ص: 118
إنّ سلسلة هذا الكون التي لا أعلم متى كان أوّلها ومتى ينتهي آخرها ما أثبت لنا فيها العلم والتاريخ - إن صحّ - سوى أفراد نادرة تكون على الحال التي وصفت من الشرف الذاتي والكمال الغريزي، وقد قضت النواميس المتنفّذة في الأكوان واستمرّ مريرها على ربط المسبّبات بأسبابها ، والوصول إلى الغايات من
مبادئها، والتكلّة على الصدفة ضلال، والطفرة إلّا بالإعجاز محال . وقصاراي من هذه السانحة : أنّ أقصى منازع الإنسان هو تحصيل الشرف، وأقصى غايات الشرف هو نيل الحياة السعيدة التي ليس لها انتهاء ولا تشوبها شيّة شقاء، وأنّ مبادئ هذا الشرف وأسبابه هو ما يقدّمه الساعي لنفسه من المآثر التي تعود بنفعٍ ما على أمّته وأبناء ملّته، فتخلّد - فيما بينهم - ذكره الجميل.
إنّ الأثر الجميل الّذي سيخلّفه فيما بينهم لا محالة سيعود عليه بما هو أجمل وأهني .. سيعود مضاعفاً عليه من كلّ فرد منهم دائماً بدوام الانتفاع به واصلاً إليه في أيّ وادٍ درج وفي سلّم أيّ سماءٍ عرج ، و : «الجزاء من جنس العمل»(1)، وما : «جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ»(2)
فكثرة الصلاة والصوم والتسبيح وأضرابها من العبادات النفسية وإن كان لكلٍّ فضل، ولكن ليست من الشرف في شيء، فإنّ كيلها موزون وقسطها معلوم ينقطع ولا يدوم، فاحتفظ على هذا وتدبّره، وقف به على حدوده ولا تتطرّف فيه.
ص: 119
3 - ما الذي يبعث الهمم وينشط العزائم وينشئ الرغبات الصادقة والأميال الصحيحة الدافعة إلى تحصيل ذلك الشرف الذي ألمعنا إليه ودللنا عليه؟
كلّما بحثت ونقّبت وأدليت ماتح الفكر في أعماق الأسباب والعلل وصوبت وصعّدت النظر في معارج المبادي لم أجده يرد ويقف إلّا على تحكيم العقائد الحقّة المشذّبة من كلّ تنطّع (1)وخرافة، وتمكين الدين الصحيح من النفوس، ورسوخ الإيمان بمبدئها ومعادها، وأنّ لها صانعاً حكيماً، وأنّ وراء هذا اليوم يوماً عظيماً، إمّا سعادة لازمة أو شقوة دائمة.
أكبر سائق للنفوس على ذلك الشرف هو أن تساط النفوس والأذهان وتنصبغ بتلك الصبغة الثابتة حتّى تتمكّن منها، بل وتتّحد بها اتّحاد الأرواح بالأجسام والماء بالمدام.
وما جرّ الويل على الإسلام سوى انمحاء تلك الصبغة من نفوس أهليه وانطماسها من عقول ذويه، حتّى انبترت العلائق فيما دونه وتقطّعت الأواخي فيما بينهم وبينه .
فلو سألتني : ما السبب الوحيد في ضعف المسلمين ؟
لقلت : الغاية هي ضعف الدين
ولو سألتني : ما سبب ضعف الدين في المسلمين ؟
لقلت : زخارف الدنيا ونفوذ الروح الغربية التي دخلت فيهم ، ففرّقت ما
ص: 120
بينهم، ومزّقتهم كلّ ممزّق، وتركتهم يخرّبون صياصي(1) عزّهم بأيديهم .
ولو قلت : ما الذي أوجب دخول هذه الروح الخبيثة في هذا الجسد الشريف؟ وما الذي ساق هذا الهواء المسمّم إلى هذا الحصن الذي مرّ عليه ردح من الزمان وهو مطلسم؟
قلت : عدم قيام المصلحين ، وسكوت الآمرين بالمعروف والناهين. ولو قلت : ما الذي أوجب سكوتهم وإغضاءهم عن تمزيق دينهم بترقيع دنیاهم ، فلا هذا ولا ذاك؟
قلت : حسبك (في فمي ماء، وهل ينطق من في فيه ماء ؟ !).
4 - إنّي منذ عرفت ليلي ونهاري وميّزت بين خشونة رأسي ونعومة أظفاري لم أصب ولم اعتلق إلّا بمدارسة الكتب ومزاولة العلم والتعلّم واللصوق بأهل الفضل والفضائل والمثول بين يدي الأكابر والأماثل اقتباساً من فوائدهم و تطفّلاً على موائدهم ، وكانت جامعة هواي ونزعة صبوتي وميولى وأشدّ رغباتي إليّ خاصّة فنّين من الفنون، ولعي فيهما وولهي إليهما، على تباعد المسافة ما بينهما وتباين الغايات والمبادئ منهما :
أوّلهما : فنّ تراكيب البيان القمين (2)بتهذيب المنطق وتشذيب اللسان، مانح ملكة الإنشاءات الأدبية في الأساليب العربية ، نظماً ونثراً، خطابةً وكتابةً .
ص: 121
ثانيهما : فنّ الحكمة النظرية والفلسفة الروحية الزعيمة بتوسعة الفكر في المعارف الإلهية الدافعة إلى كلّ خلق أدبي وشرف نفسي وكمال ملكي، ذاك إذا بنيت على أصولها الصحيحة ومبادئها المتقنة ، وأخذت من ينابيعها الغَدِقة ومناهلها المروّقة.
بيد أنّ المحيط والوسط والحاضرة ما كانت تخوّلني سوى التجوّل في العرض العريض ممّا بين ذينك الفنّين من الشرعيات ومبادئها، فكانت هي سجيراي (1)وبها جهدي وعناي، وفيها أنقد أويقاتي، وعليها أعدّ ساعاتي.
غير أنّي لا أبرح اختلس من وقتي لموضع صبوتي من ذينك الفنّين سهماً، وأجعل لهما من وجه عنايتي نصيباً، وانتهز من سوانح الفرص لمزاولتهما شطراً، وعلى الأخصّ علوم المعارف التي أذويت في تحصيلها وريق عمري وأيّامي وريّق دهري وأعوامي، وساقت لي العناية من الولوع بهما والتصابي ما حييته بزهرة شبابي.
وقد تسنّى لي الظفر بعدّة من المهرة المتضلّعين فيه الذين يعزّ وجودهم في مثل هذه الآونة، أحسنت يد الغيب صنيعها بهم عليّ حتّى ألقتهم التجوّلات نزلاء في حاضرتي، وملأت من متمنّع منالهم وممتّع نوالهم قبضتي، فكرعت من مناهل فضلهم ولازمتهم ملازمة ظلّهم، حتّى استوفيت ما تيسّر وما شئت وشاءت العناية.
ومذ وجدتني بلطفه على مثل ضوء الشمس من يقينه قلت : حسبي من معاناته، فقد ارتويت من معينه، فإنّه وإن اتسعت الخطّة، لكن العلم نقطة، نسأله
ص: 122
التوفيق للوقوف عليها والانتهاء إليها، فإنّه لا يصاب إلّا من صوبه، ولا يستتبُ إلّا بسببه.
وما صدّني ذلك عن امتلاك شيء من ملكة الإنشاء، ولا عاقني عن الانتظام في سلك من يقتدر على البيان والإفصاح عمّا شاء.
5 - تدبّرت في مأثور الحكماء الراسخين والعرفاء الشامخين، وسرت في جملة ممّا حقّقوا وبيّنوا، وسبرت (1)جمّاً ممّا صنّفوا ودوّنوا، فعرفت عظيم جدّهم وعنائهم، فللّه درّهم و درّ جدودهم وآبائهم، فإنّهم أو كأنّهم ما تركوا مقالاً لقائل، ولا صولة تحقيق لصائل، ولا موضعاً لمجادلة بحقّ فضلاً عن باطل ، وقد مثّلت لنا مرآة الزمان من حكماء الفرس واليونان آلهة العلم وهياكل الفضل وملائك الحكمة والفلسفة.
سوى أنّي وجدت أكثر ما وقفت عليه من مسفوراتهم بين مصبوبة في قالب القوّة والإحكام موضوعة على طريقة النقض والإبرام، بحيث لا ينتفع بها إلّا الأوحدي من الناس بعد التعب والكدّ وطول المراس، ولا يصلح بل لا بصحّ ذلك للأكثر خوف هجوم الشُبَه ونجوم زيغ الأضاليل نجوماً ربّما يتعذّر دحره ويستشري شرّه.
هي بين مثل هذا ، وبين مختصرات منزورة ،الفوائد ، لم يذكروا فيها سوى متون العقائد من غير ذكر لأدلّتها القاطعة ولا إشارة لبراهينها الساطعة .
ص: 123
وأنت تعلم أنّ القوم - على علّاتهم - من بحرهم نغترف ، وبكلّ الفضل لهم نعترف، ولهم سابقة التأسيس وفضيلة التقدّم، ومنهم التعليم ووظيفتنا منهم التعلّم.
ولكن كلا الطريقتين لا تفيان بتمام الغرض ولا تقعان موقع العلاج الحاسم من المرض ؛ إذ توسيع دائرة البحث وإن كانت في أكثر العلوم ضربة لازمة ولكثير من الشكوك والشبهات حاسمة، والحقيقة بنت البحث، والبحث ولادة الشكّ، ولكنّها طريقة لا تعمّ نفعاً، كما أنّ الثانية من الإيجاز في مثل هذه العلوم لا تفيد ظنّاً ولا قطعاً، ولا يمكن لكلّ الأنام أن يكونوا من أهل الحكمة والكلام ، ولا يلزم عليه أن تبقى الناس مقلّدة في دياناتها لآبائها وأمّهاتها، حطّ أحدهم من مبادئ ديانته وأصول عقائده مجمل كلمات فارغة وجمل عامّية ولعلّها غير سائغة و خیالات موهومة ومعان غير محصّلة ولا مفهومة، وهناك واسطة هي بفضل الله أجمع، وفاصلة هي بسعة رحمته أوسع وأنفع .
حبّذا لو أنّ حزباً من أولئك الباحثين الذين نقدوا أعمارهم الثمينة في بحث دفائن الفلسفة ومساجلات التنازع والمجادلة وضعوا على عاتقهم وأخذوا في عهدتهم التكفّل بأمر له من الأهمية حظّها الوفير وقسطها الوافي..
حبّذا لو انتدب أفراد من أطبّاء المعارف وزعماء الفلسفة لحفظ مبادئ الدين في نفوس الأمّة والتفاني في سبيل الدعوة من أقرب طرقها وأسهل سبلها ..
حبّذا لو عمدوا إلى ما سجّلته كبار الحكماء من الأدلّة والبراهين على أُصول الشريعة الإسلامية ، فيكسونها حلّةً من البيان تقرّبها إلى الأذهان، وتخرج بها عن التعقيدات الصناعية والاصطلاحات الفلسفية، وتنخزل (1)بها عن
ص: 124
المجادلات الكلامية، وتترسّل في الإقناع بها ترسّلاً يكشف عنها القناع، وتلذّ به الأسماع، وتهشّ له الطباع بأسلوب بيان يخرق الحجب الكثيفة، ويهزّ العواطف الشريفة، تتكهرب بسيّال سلاسته أسلاك الأذهان، وتتقبّله القلوب قبل الآذان ، كي تنفسخ هناك شبهات المشكّكين وترتسخ في النفوس أُسس العقائد وأُصول
الدين .
وقفت في وسطة مركزي وأرسلت أشعّة النظر إلى من في محيط دائرتي ، فوجدت الكثير من هذه الأشباح الماثلة والصور المتجوّلة - لا أخصّ منتحلة دين الإسلام بل عامّة الأنام - قد فرغ وطابها (1)ونغل أديمها (2)وحلم إهابها (3)وتملّصت أوابد نفوسها وشوارد قلوبها من عقلة الدين وروابط اليقين ورسوخ العقائد والخضوع إلى قادة الشرائع ، قد مرق الكثير إلى منازع الطبيعة ومخادع الملاحدة، حتّى تغالوا وتطرّفوا فيها بما لا تتغالى وتتناصر به أهل المذاهب الحقّة لأديانها - سيّما الأحداث والأغرار والنشأ الصغار - واقتنع آخرون بظاهر النحلة ومجرد الاعتزاء والنسبة وهم من ضعف العلاقة بما يعتزون إليه على حال يميل بهم عنه لأوّل عارض شبهة ، وينقلبون عليه لأدنى نابض تشكيك .. (حاشا من استحكمت بالمعارف عراهم)، وبالعزيز علىّ أن أقول : وقليل ما هم .
وجدت من أقوى الأسباب والعوامل في سريان الداء وانتشار عدوى هذا الهواء الأصفر على عقائد المسلمين ومروقهم من مشرق هذا الدين إلى منازع
ص: 125
الغربييّن عدمَ قيام الزعماء في الدعوة على تلك الطريقة الوثيقة ، أعني : طريقة الإقناع والإيضاح والتسهيل والإفصاح، إفصاحاً يغرس في النفوس أُصول العقائد، ويكنز في أعماق القلوب بذور الأديان ، حتّى ينمو عليها الصغير ، ويهرم على طقسها (1)الكبير ، وتلتبك (2)في كلّ إحساس منه وشعور، وتمتلك كلّ عاطفة له ووجدان.
امتُهن الإسلام من عهد غير قريب بدائين عضالين كادا أن يقضيا عليه - وليفعلان إن لم تنهض له رجاله وتطبّ له حماته وتبلسمه ضوامده - امتُهن بإهمال زعمائه سبيل الدعوة والإرشاد وصيحة النصيحة في العباد، وإشراب النفوس البشرية ما في هذا الدين من صوالح السعادتين وتربية النشأتين، وتكفّل الهناء والدعة في الدارين، طالما استمسكت بعراه وسارت على أضواء مناره.
والثاني ما قد زاد المرض علّة والصدى غلّة : أنّ رجال هذا الدين لمّا أهملوا الدعوة وتعامت عليهم سبل التعليم، وتركوا نفوس المسلمين على سذاجتها، وألقوا حبلها على غاربها ، ولم يبق من غرائز دینهم سوى ما تلفظ به ألسنتهم وما تسمعه من الآباء والأمّهات آذانهم، أمّا القلوب فصفر عارية وقفر خالية ، لا تسمع فيها للديانة همساً ولا تجد فيها من الحقيقة - لو فتّشت عليها - عيناً ولا أثراً ، أصبحت كقلاع أخلتها حاميتها ونام عنها حرّاسها، هنالك استيقظ العدوّ، فرأى فرصة أمكنت وأمراً حان وقته وأينعت ثماره وحلّ ميعاد حصاده، فهجم بجيوش شبهاته وجنود تشكيكاته فبثّ المنذرين والمبشّرين والدعاة
ص: 126
والمرسلين على تلك القلاع الخلاء من كلّ منعة الفراغ من كلّ حصانة . قلب القلوب عن وجهتها، وأبرد إلى العقول، فحوّلها عن استقامة فطرها، وأجهز على الديانات وكلّية الإصغاء إلى الطقوس والشرائع، فأزهق روح حياتها وأخمد أضواء مصابيحها ، فأصبحت الأمم تتخبّط خبط عشواء (1)في متايه الزندقة والإلحاد ومنازع إنكار المبدأ والمعاد الماحي لصورة كلّ شرف وحقيقة كلّ أدب وكيان كلّ كمال .
ومن جرّاء ذلك التنازع والتجاذب المتجاوزين حدود الأدب خلعت الناس ربقة كلّ ديانة، وفزعت إلى التشبّث بما تمدّه لهم من أسلاك الهباء أوهام الطبيعة، فلا إسلامية ولا نصرانية ولا جنانية ولا جهنمية.
تالّبت زعانفة من الأمّة المسيحية وتغالت وتطرّفت في الطعن على شرف الإسلام، حتّى تجاوزت الحدّ، وخرجت عن الآداب، وخدشت العواطف، ومسّت شرف صاحب الرسالة بما لا يليق في حقّ رعاع الناس وسفلة البشر .
نعم، خرجت عن آداب المناظرة إلى التسابب والمعايرة.
على أنّنا جميعاً لو تدرّبنا في المعرفة وتدبّرنا نواميس أدياننا معاً لما
وجدناها تخوّلنا شيئاً من ذلك التضارب والتهارش والتسابب والتناهش.
إنّ الدين الإنجيلي الذي يقول : «من ضربك على خدك الأيمن فحوّل له الأيسر، ومن سخّرك فرسخاً فسر معه فرسخين»(2)، والآيات الذهبية من القرآن المحمّدي الذي يقول : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ
ص: 127
إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ»(1) القرآن المحمّدي الذي يؤدّب أمته بقوله : «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(2)، إلى كثير من أمثالها من الحكم الأدبية والآيات الذهبية.
ليت شعري، أهل هذه الأديان المقدّسة تخوّلنا شيئاً ممّا نحن عليه من تلك الصفة؟! أم هل تخوّلنا في المسيح ما عليه اليوم أغيارنا من الهملجة (3)في البغي والعدوان والتحطّط على قداسة صاحب الشريعة الإسلامية؟! وهل يحملنا على العقوق ويخرج بنا عن الحدود ويغرينا ويغيرنا ويحمينا على المقابلة بالمثل إلّا تلك البذاءات الفاحشة، (والبادي أظلم)(4)؟!
هذا، وهم يجدون أنّ نواميس الإسلام تتلقّى صاحب شريعتهم بكلّ
ترحيب واحترام ، وتنعته بكلّ طهارة وقداسة.
وفى لهم الإسلام وفاء السموءل(5)، وهم اليوم يجازونه جزاء
ص: 128
سنمار(1)!
على أنّنا لو أردنا أن نقول لوجدنا للقول متّسعاً وللطعن مجالاً، وتلك مزاعم اليهود في البتول العذراء وابنها السيّد الحصور (2)لم تنمح من صفحات التاريخ ولم تنطمس من ألواح النفوس.
ولكنّنا معاذ الله أن ندمغ الباطل بمثله أو نقتل الجاهل بسلاح من جهله، وإنّ في الحقّ لمندوحة وفي السداد لسعة.
يا هل ترى علم أولئك الرعاع وسقط المتاع المتالّبون على الإسلام ماذا كانت مغبّة تلك المصاف ومساجلات (3)ذلك الطعن بيننا؟!
هل استدخلوا شيئاً من الأُمم الإسلامية في الديانة المسيحية؟
كلا، وربّها! وإنّما انجلت قساطل(4)تلك المجالدات الجدلية عن خلع
ص: 129
العامّة والبسطاء نير كلا الديانتين عن أعناقهم، فلا نصرانية راسخة على الحقيقة ولا إسلامية، زالتا من أعماق القلوب وإن بقيت النحلة إليهما على أطراف الألسنة.
ما العاقبة إلّا أنّنا فتحنا للدارونية والطبيعية باباً واسعاً على كلّية الأديان والمذاهب، فأصبحت دياناتنا المقدّسة وطقوسنا الشريفة ألاعيب ل- (شبلي شميّل)(1)و(سلامة موسى)(2)وأمثالهما، يمزّقونها كلّ ممزّق، ويرمون بها في
ص: 130
الهزء والمسخرة إلى كلّ فجٍّ عميق!
انظر مواضيع من (فلسفة النشوء والارتقاء) و (رسالة السبرمان)، ثمّ املك هنالك قلبك أن لا ينخلع ودمعك أن لا يندفع إن كنت مسلماً أو مسيحياً حقّاً، لا بل إن كنت متديّناً بأيّ دين مستسلماً لأيّ عقيدة !
انظر بالمجهر الكبير إلى زوبعة في الكون وعاصفة في الوجود تريد أن تأتى على كافّة الأديان وكلّية المذاهب، وبعبارة ثانية : على كلّ الآداب والكمالات ونواميس الشرف ..
تريد أن تردّ الإنسان - بعد كماله ورقيه - إلى أبعد عهده وأوّل نشوئه ..
تريد أن تردّه إلى عهده الأوّل، يوم كان كأبناء جنسه من بهيم الحيوان - يركب بعضه بعضاً، ويفترس كلٌّ كلاً، يأكل ما شاء وينكح ما شاء ، لا قوانين محدودة ولا آداب مسنونة، إلّا ما تشاؤه الطبيعة وتوجبه الهمجية ..
وسوف تعجّل نفوذها إن لم ينهض لدفع هذا الاعتداء حماة أشداء ..
الفؤاد مشحون ، والحديث شجون(1)!
والقصارى : أنّي غبّ (2)ما وقفت على تشدّد أولئك الزعانفة من الأغيار في التحامل على شريعة الإسلام - بإدخال مفتريات النبز ومختلقات الوخز والتلاعب بمتشابهات الكتاب والسنّة لإضلال العامّة وتحيير الخاصّة وتشكيك السذّج - طفقت أرتأي أن أضع مشروعاً لدفع تلك الشبه ودحض تلك الحجج
ص: 131
ورحض تلك المدانس عن شريعة الإسلام المطهّرة من كلّ دناسة الحرية بكلّ قداسة، ثمّ استدركت في الرأي وناجيت الفكر، فرأيت أنّ بحر ظلمات الإفك والباطل لا يكاد ينتهي إلى ساحل، وأنّه :
يطول إذاً همّي إذا كان كلّما *** سمعت نباحاً من كلاب خسأتها أعني به : نباح جهلة جيراننا المسيحيّين، حاشا العقلاء والأصحّاء وأهل السلامة منهم، فإنّ لهم منّا كلّ السلم والموادعة.
علماً بأنّهم يستاؤون معي من ذلك النباح الذي يهرف به طغامهم (1)على أشعّة أنوار محمّد (نبح الكلاب على نجوم الأسعد)(2)، النبح الذي يختلقونه إفكاً ويفترونه زوراً ويفتحرونه بهتاناً، (من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة)، جعلت تلفّ للإسلام الحابل على النابل(3)، وتمزج الحقّ بالباطل، وتضرب للمسلمين أخماساً بأسداس(4).
استنزلت موحیات قلم العناية على لوح الضمير فيما عزمت عليه فأوعزت إليّ أنّ قلع الشجرة خير من قتل العصافير، وأنّ في تحقيق الحقّ إبطال للباطل، وبتوطيد الأُسس تستقيم المباني ويندفع عنها خطر الانهدام بمكافحة
ص: 132
العواصف.
فمن خطور كلّ هاتيك السوانح على هواجسي اندفعت إلى نشر هذه الدعوة التي أودعتها زبدة ما مخضته في عمري من ألبان العلوم ورائب المعارف .
ومعاذ الله أن أحسب أنّي من أهل الدعوة والإرشاد، أو أرى صلاحيتي لهذه المنزلة العليا والخطّة المتقاعسة، ولكنّي أردت أن لا أخلّ بوظيفتي، ولا أبخل بما عندي على ملّتي وأبناء جلدتي، بل كلّ راغب في الحقّ طالب للحقيقة.
أحببت خدمة جميع الملل والنحل والشعوب والأمم، فِرق الإسلام وغيره، إلفاً غريزياً وحباً جنسياً وحناناً طبيعياً وإخلاص ودٍّ لكلّ من تضمّني وإيّاه روابط الجنسية وأواخى البشرية.
أحببت أن أقدّم إليهم وجيزة في الأُصول الإسلامية ونواميسه الأوّلية التي تبتني عليها كلّ شريعة وديانة ، «رحم الله امرءاً عرف قدره ولم يتعدّ طوره»(1)وعلم من أين، وفي أين، وإلى أين، عرف مبدأه ووسطه ومعاده، مفصّلاً هذه الأصول في عدّة فصول، ملمعاً في غضونها إلى أنّ الدين هو الإسلام، وأنّ الإسلام هو الدين، هو الدين الأصيل الذي تطابق نواميسه العقول، وتقبله الفطرة، ويتكفّل بكلّ شرف وسعادة، ببراهين بيّنة متقنة مكسوة بالعبارات الرشيقة والفِقَر الأنيقة التي تقرّب البعيد وتسهّل الشديد، جامعة بين الرصانة والرقّة والوضوح والقوّة وفصاحة الكلام والإفصاح عن المرام، متوخّياً جهدي تجنّب ما يوجب التعقيد من الاصطلاحات الفلسفية والمجادلات الكلامية،
ص: 133
بمألوف من البيان مأنوسه، وواضح من القول يعيد معقول الفكر كمحسوسه.
كلّ ذلك تسهيلاً لمطالبها وطلباً لانتفاع العالم والعامّي بها، حسب جهدی وطاقتي وما في مزجات بضاعتي.
فها هي ضاحية (1)لك بارزة إليك، بحيث لو راجعها طالب الحقّ بإنصافه وعرضها على صريح عقله - بعد تجريده عن غواشي العصبية لما ألفه من أيّام صباه ونشأ عليه من مستحكم عاديّاته ومعتقداته - لوجدها حرية بالقبول مطابقة الضرورة العقول.
وإلى الله (جلّ شأنه) أرغب في أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وذريعة للقرب منه في دار النعيم، وكفّارة تضع ما كان في ميزان سيّئاتي أو سيكون، وترفع ديوان حسناتي إلى مقام يشهده المقرّبون ، نافعة لي ولغيري يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وبعد ذا كله، فكلّ قسمي وإليّتي(2) ورجائي وأمنيتي من جميع أهل الأديان والملل وأرباب الآراء والنحل - أخصّ الملّة المسيحية وأحبار النصرانية الذين لهم حريّة الضمائر ونفوذ الخواطر - سؤالي بالتماس ورجائي من الجميع ولا يأس، أن ينظروا في دعوتي هذه بعين الموادعة والإنصاف، لا بعين المنازعة والاعتساف، ويلحظوها لحاظ الإشفاق والقبول، لا لحاظ الساخط الملول، ويحملوها على مهاد التأمّل والأناة، ولا يحلّوها وهاد التحمّل والترات.
رغبتي إليهم أن لا يملّوها قبل أن يتأمّلوها، ولا يتمحّلوها قبل أن
ص: 134
يتحمّلوها، ولا يستدبروها قبل أن يتدبّروها، ولا يحطّوها قدراً قبل أن يحيطوا بها خُبراً.
فإنّي - وعظمة من وحّدته فيها وقصدت الدعوة إليه والدلالة عليه بباديها وخافيها - ما قصدت بها الشقاق والمجادلة ، ولا إظهار الغلبة والمماحلة(1)، ولا ركنت فيها - معاذ الله إلى العصبية، ولا أخذتني بها الحمية (حمية الجاهلية)، بل جرّدت نفسي بادئ بدءٍ عن كلّ عقيدة، وأقمتها أوّل الأمر وآخره مقام المحاسبة والمجاهدة الشديدة، وأعملت جميع قواي وحدسي وعقلي وحسّي، وشايعت ما دلّني عليه البرهان، واتّبعت ما قادني إليه العقل والميزان.
الله يعلم أنّى ما كتبتها للردّ والإيراد، ولا لإلقاح الفتنة والفساد، جمعتها للجمع لا للتفريق، والّفتها لتألّف الفِرق لا لاختلاف الفريق.
فمن قبل فبفضل الله وجميل جزائه عليه، ومن ردّ فجوابه على الله لا عليّ وحسابه إليه.
ولكن ثقتي بالله أنّهم إن تخلّوا في أنفسهم وتجرّدوا وصوّبوا أفكارهم وصعّدوا واعتبروا وأنصفوا وطلبوا الحقّ وتعرّفوا، لسوف يجمعنا الله وإيّاهم على الطريقة المثلى. إنّه حقيق بالفضل جدير بالإجابة، وبه المستعان.
وما أردت إلّا الإصلاح والنصيحة ما استطعت : «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(2).
ص: 135
ص: 136
«قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(1)(وحي معجز) .
اللهمّ إليك دعوتي توحيداً، وعليك مدحتي تمجيداً، ولك رغبتي وثنائي وأنت بغيتي ورجائي، وعلى نبيّك وأطائب آله وكرام صحبه صلواتي وشرائف تسليماتي وتحيّاتي، داعياً إليك بالدعوة الإسلامية مائلاً فيك إلى الملّة الحنيفية بالبراهين الحقّة لا بالمجادلات الخصامية.
وبعد .. فإنّ الغرض من عقد دعوتي هذه يتمّ وينتظم بسلك أجزاءٍ وفصول ومقدّمة قبل الشروع في المقاصد، وهي :
وهو باب جرت عادة القديم عند البعض على الافتتاح به وتجاذب أطراف الكلام فيه، ونحن لا يهمّنا ذلك، ولا ننزع إلى سبر مخاضته ، وإنّما لي فيما هنا كلمة عسى أن يقتنع بها الناظر عن كلّ تلك الأساطير :
ص: 137
إنّ من النواميس الأوّلية والضرائب الطبيعية التي لم تعتورها(1)عوامل الدثور والظهور ولم تغيّرها فواعل التبدّل والتحوّل أنّ أوّل خطوة فكرية يتخطّاها هذا الكائن الحي الحسّاس الناطق من مجهلة الحيوانية إلى معالم الإنسانية بعد ما طوى شطراً من صحيفة أيّامه في بلهنية العيش (2)وسذاجة الخيال وفراغ البال، إلّا من تقاضي مقوّمات مادّي حياته والدفاع عمّا يحسّ به من مؤلمات واهن وجوده، أوّل قدم يضعها في مفازة البحث والنظر بعد تلك النعسة الطبيعية وأسبق روح دبّ فيه بعد هاتيك الميتة الجاهلية، هو ما بثّته فيه لحظة العناية من تطلّب الأسباب والعلل لسائر ما يقع عليه حسّه من حوادث الطبيعة وكوائن المادّة، ولا سيّما الكوائن الفجائية التي لم يرضخ لها ولم يعتدّ عليها ولم يتكرّر له شهودها، يستغرب ويعجب من طلوع الكوكب المذنّب ما لا يستغربه لبزوغ الشمس وطلوع القمر، يندهش للخسوف والكسوف ولا يندهش لمغيب الشمس كلّ ليلة ومحاق القمر كلّ شهر، والغاية في الجميع واحدة وإن اختلفت الأسباب وتعدّدت المبادي.
بيد أنّه يندفع بدافع الغريزة إلى التقاضي والطلب لمعرفة سبب كلّ حادث وكائن أيّاً ما كان ، غير أنّ هذه الحركة الفكرية قد تكون حالاً ، أعني : مرور
ص: 138
خطور (المعة البرق) أسرع ما يلمع، ثمّ يزول ويعود المرء على عدوائه في سنن تلك النعسة الأولى والتغافل عن الإمعان في فجاج هذه الأودية السحيقة ، فيغدو وقد صار كهلاً كما هو وقد كان طفلاً سوى ما يعانيه من مزاولة المادّيات ومقوّمات أود الحياة، فيستخدم ذلك الروح المجرّد العاقل لهذا الجسد الكثيف الباطل الذي سوف لا يحصل منه على طائل.
نعم ، وقد تستمّر تلك الحركة وتتكانف وتلزم حتّى تصير ملكة، فتترامى من سبب إلى سبب ومن طلب إلى طلب، ولا يجد أريحية ولا راحة من هذه المتاعب الفكرية والتجوّلات النظرية مادام في أسر هذا الهيكل وفي سجن هذا البناء الذي سينهدم عليه ، فيتركه ويفرّ منه طالبا عسى أن يجد الحقيقة وراءه، ولا أدري أيجدها أم لا؟!
مهما جهلتُ ذلك أو علمته فإنّي لا أشكّ أنّ أهل السلامة والاستقامة - أعني بها : سلامة القرائح والفِطر واستقامة الألباب وصحّة النظر - لا تزال أفكارهم المثقّفة تترامى في معارج النظر والمعرفة ، تتصاعد في سلّم المراقي إلى حيث شاءت لها القابليات والأسباب والمعدّات كلّ ذلك بدافع طبيعي وسائق غريزي ، ثمّ لا محيص له في النهاية من الوقوف على غاية ، يطوي عليها سلسلة سائر الممكنات، ويتّخذها غاية الأسباب والمسبّبات ، يجعلها مبدأ لكلّ شيء، ولا مبدأ لها من شيء .
والناس في ذلك على ثلاثة أصناف لا رابع لها أبداً:
صنف يقول : لا أدري ولا يهمّنى ولا يعنيني طلب هذه المواضيع المظلمة
ص: 139
والمغارات الموحشة، وما عناي وهمّي إلّا في توسعة العيش وترفيه مآزق هذه الحياة ومعالجة معامع (1)هذا الدهر ، ولا أعرف ولا أطلب شيئاً وراء ذلك.
وهذا الصنف قد استراح إلى الجهل، وسكن إلى ظلّه ، وأخمد مصباح عقله وتدرّع بلا أدري عن كلّ واردة ترد عليه ، فهو والبهيم سواء : «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» (2)
وصنف سمت همّته وكبرت نفسه عن التلوّث بهذه الرذيلة - رذيلة الجهل التي هي أُمّ الرذائل وسمّ الفضائل - فبحث وسار ونقّب في الأثير وتطلّب الآثار وركب متن أفكاره السيّارة ، فجالت فيه حتّى وقفت به على أمر محسوس متحيّز متجرّد عن مبدأ كلّ شعور وإدراك ، فرأى أنّه هو المبدأ الأوّل لسائر المبادئ والغاية الأزلية التي ليس بعدها غاية .
واختلفت الأسماء والعبارات عن هذا الشيء بين أهل هذا الصنف ، فبعض يسمّيها : بالطبيعة، وبعض : بالمادّة الأولى ، وآخرون : بالأثير ، وقوم : بهيولى الكلّ ، وطائفة تعبّر عنها : بالدهر ، أو الجوهر ، أو الزمان ، أو : القوّة والفعل(3)، إلى غير ذلك من ألفاظ مختلفة المباني متقاربة المعاني ، اتّخذوها لمواليد الأكوان كلّها أباً وأُمّاً ، وجعلوها خرقاء حمقاء، فأوسعوها لعناً وذمّاً، وبالحري لها ذلك على ما أنتجت من هذا النتاج التعيس !
سار هذا الصنف مع الثالث مترافقين كتفاً لكتف وجنباً إلى جنب،
يتطلّبون الضالّة المنشودة والحقيقة الضائعة ، وما هي منهم ببعيدة
ص: 140
اتّفقوا في مبادي السير والحركة ووحدة الغاية والمقصد، وطووا بسير واحد جمّ مراحل وجملة منازل، حتّى إذا بلغوا ذلك المجهل ووقفوا على دارة أمّ الطبائع والأجسام تنابذوا فيه وتشاغبوا وتشظّوا وتوزّعوا:
فقال بعض : هذه هي الغاية التي نتطلّبها والضالّة التي ننشدها .
وقال آخرون: بل هذه إحدى منازل السير ومراحل الطريق، والغاية من وراءها، وكيف تكون هي ضالّتنا وليس عليها أثر من آثارها ولا سِمة من سماتها؟!
وبعد طول الشغب والصخب افترقوا غير وادعين، والخلاف جوهري ما بينهم.
فسار قوم إلى حيث تيسّر لهم السير بعد أن عرفوا أنّ تلك التي تسمّى : بالمادّة أو الطبيعة إنّما هي نَشَاء الإرادة وإحدى نابتات أرضها المقدّسة.
أمّا الآخرون فأخلدوا إلى أرض الطبيعة، وهاموا بالبحث فيها، وقصروا النظر عليها.
وليس الغرض هنا الخوض في ذلك وفصل الخصومة فيما بينهم، فإنّ لهذا المقام ما بعده ، وإنّما الأصيل بالقصد فيما هنا : أنّ الطبائع البشرية والغرائز الأوّلية مجتبلة ومفطورة حتّى كأنّها مقهورة على الطلب والبحث في العلل والأسباب والمبادي والغايات لكلّ شيء ، حتّى تجد وتعرف أو تكلّ وتقف .
وهذه الغريزة من أكبر النواميس المتمّمة بل المقوّمة لنظام الكون
والعمران، كما لا يخفى على جهابذة الباحثين .
فمغزى القوم من حكمهم بوجوب النظر ولزوم المعرفة إن كان إشارة إلى هذا الدافع الطبيعي والسائق الغريزي في النفوس فهو ممّا لا ريب فيه، وإن كان
ص: 141
مرادهم غير ذلك تمهّلنا ريثما ننظر فيه .
نعم، إنّ القوم سلكوا إليه من طريق وجوب شكر المنعم(1).
ونحن يتسنّى لنا تقرير دليلهم هذا على وجه يليق بالخاصّة، ولا يعسر تفهّمه على العامّة .
و تقريبه - على توضيح وتنقيح : أنّ كلّ مدرك شاعر - ولا أخصّ الإنسان إلّا لكونه محلّ البحث وإليه النظر - إذا التفت إلى نفسه يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة ما لا يحصى، ثمّ بأدنى التفات يعلم أنّ لها موجداً وسبباً، وليس هو نفسه ولا من يشاكله من الناس ضرورة، ثمّ لكون النفس مجبولة على تعرّف ما تجهل - لأنّها قد كانت في أصل فطرتها وأوّل مبادئها من الجواهر العلّامة - لا محالة تبقى أفكاره جائلة في طلب معرفة ذلك المنعم ، ثمّ من تطرّق الاحتمالات وجولان الأفكار ينقدح في ذهنه - ولو تجويزاً - أنّ من المحتمل الممكن أن يكون مع بقائه على جهله بمن أنعم عليه تلك النعم يسلبها عنه، وذلك أعظم ضرر عليه، بل لا ضرر أعظم منه ؛ إذ إحدى تلك النعم وجوده ، ولا شيء أضرّ على الموجود من عدم نفسه وذهاب ذاته .
ص: 142
وبعبارة صناعية: أنّ من المحتمل أن يكون بقاء تلك النعم - بعد الالتفات إليها - منوطاً بشكره عليها، وشكره ضرورياً منوط وموقوف على معرفته؛ إذ الشكر هو: الثناء عليه بما يليق به وينبغي له ، فتجب المعرفة دفعاً لذلك الضرر المحتمل، إمّا مقدّمة للشكر أو بنفسها.
ويحصل من هذا البيان برهان صناعي ، وهو : أنّ المعرفة مقدّمة للشكر الواجب دفعاً للضرر، وكلّ واجب فمقدّمته واجبة عقلاً، فالمعرفة إذاً واجبة عقلاً.
ويصحّ جعل الوسط نفس دفع الضرر ، لتكون المعرفة واجبة بالذات لا بالمقدّمة .
والمراد بالشكر هنا كما عرفت - الثناء الجميل أو فعل المحبوب أو الأعمّ منهما، لا خصوص الطاعة وامتثال الأمر، ليتطرّق المنع من وجوبه بهذا المعنى إلّا بعد ثبوت وجوب الطاعة ومعرفة المطاع وما يطاع به، فيلزم ما يسمّونه (1): بالدور (2) ؛ إذ هو بالمعنى المتقدّم لا يتوقّف إلّا على معرفة المنعم ؛ ليمكن الثناء عليه بما هو أهله وما يسوّغه للمرء عقله أو بموافقة ما فيه رضاه وما هو محبوبه ذاتاً لا أمراً وتكليفاً، فنديّره جيّداً.
هذا تحرير دليلهم على أتقن وأبين وجه .
ونحن نطويه على غرّه وبللاته (3)، ولا نعقّبه من القول إلّا من وجهة واحدة نجدها عميمة الجدوى :
ص: 143
وهي : : أنّ الذي يساعده الاعتبار وتشهد له صحاح الأخبار أنّ المعرفة لا تجب على الخلق ، بل على الله (جلّ شأنه) أن يعرّف نفسه لخلقه ويدلّهم على ثبوت ذاته، حتّى إنّ شيخ المحدّثين وأجلّ رواة أهل البيت المعروف بثقة الإسلام (1) عقد في كتابه الشهير (بالكافي) باباً لذلك، فقال : (باب البيان ولزوم
ص: 144
التعريف والحجّة)(1)، وسرد فيه عدّة أخبار صريحة فيما ذكرناه.
(منها): رواية (ابن أبي عمير)(2)، عن (محمّد بن حكيم)(3)، قال : قلت لأبي عبد الله - يعني : صادق أهل البيت لذكرهم الشرف : المعرفة من صنع من هي؟ قال : « من صنع الله ... »(4).
ص: 145
وأصرح منها رواية (بريد بن معاوية)(1)، عنه علیه السّلام: أنّه قال : «ليس الله على خلقه أن يعرفوا، وللخلق على الله أن يُعرّفهم، والله على الخلق - إذا عرّفهم - أن يقبلوا»(2).
إلى كثير من أمثالها(3).
وبينها وبين ما تقدّم من الدليل العقلي تدافع وتناف ظاهر؛ إذ مقتضاه وجوب السعي والطلب في تحصيلها، ومقتضى الأخبار خلافه.
ويمكن الجمع والتوفيق بينهما على وجه يصطلحان ويرتفع تنافيهما ، ذاك بما عرف من أنّ العقل أوّل رسول من الله إلى خلقه، وأعظم حجّة على بريّته، وأكبر شاهد على عباده، وأعدل خليفة في خليقته ، وهو الحكم العدل بين الخالق والمخلوق، والفيصل الحقّ بين العابد والمعبود، وهو الحجّة القاطعة بين العبد
والمولى .
ص: 146
والمراد بالعقل هنا: مرتبة قوّة للنفس بها تستعدّ للانتقال من المشاهد إلى الغائب والالتفات من المحسوس إلى الغائب والالتفات من المحسوس إلى المعقول استعداداً فعلياً أو قريباً منه(1).
وبهذه القوّة يصير الإنسان محلّاً للتكاليف، ويمتاز عن الحيوانات ،ويستعد لتحصيل الملكات .
ونوع البشر بجميع أفراده يشترك في حصول هذه القوّة في الوقت المخصوص الذي قضت به العناية له وكشفت عنه الشريعة على الأغلب بعلائم البلوغ ووضعت في عنقه نير مشروعاتها ونواميسها.
وهو الذي عرفه بعض العارفين (2) : (أنّه الغريزة التي بها يمتاز الإنسان عن
ص: 147
ص: 148
البهائم ويستعدّ لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الفكرية، ويستوي فيه الأحمق والذكي، ويوجد في النائم والمغمى عليه والغافل.
وكما أنّ الحياة غريزة فى الحيوان بها يفعل ويتهيّأ جسمه للحركات الاختيارية والإدراكات الحسّية، فكذلك هذا العقل غريزة يتهيّأ بها الإنسان لاكتساب العلوم النظرية.
وكما أنّ المرآة تمتاز عن سائر الأجسام بصفة مخصوصة كالصقالة بها تحصل حكاية الصور فيها والألوان، وكذلك العين تفارق سائر الأعضاء بصفة غريزية بها استعدّت للرؤية، فنسبة هذه الغريزة فى استعدادها للعلوم والانكشافات كنسبة المرآة إلى صور الألوان ونسبة العين إلى المرئيات.
والعقل بهذا المعنى يستعمله الحكماء في كتاب البرهان، ويعنون به : قوّة النفس التي بها يحصل اليقين بالمقدّمات الصادقة الضرورية لا عن قياس وفكر بل بالفطرة والطبع ومن حيث لا يشعر من أين حصلت ، فإذا هو جزء ما من النفس تحصل بها أوائل العلوم) اه-.
وقوله : (جزء من النفس) أراد أنّه مرتبة منها، وإلّا فالنفس لا جزء لها ولا تركيب فيها، كما حققّه هو في غير واحد من كتبه الجليلة(1).
ثمّ إنّ تمثيل نور العقل في عالم العلوم والإدراكات بنور الشمس في عالم
ص: 149
المحسوسات أحسن من تمثيله بالمرآة؛ إذ كما أنّ عين البصر تدرك بنور الشمس كلّ مرئي في هذا العالم، ولولاه لما أبصرت شيئاً، فكذلك عين البصيرة والقلب تدرك بنور العقل كلّ نظري في عالم المعقولات ، ولولاه لما اهتدى إلى شيء من العلوم.
ألا وإنّ حقيقة الإنسان التي بها قد امتاز عن الحيوان إنّما هي بهذه الغريزة والمنحة، إنّما هي بهذا العقل الذي هو شمس عين القلوب والأفئدة وضياء حاستي البصر والبصيرة.
ألا ترى الكتاب العزيز كيف نسب العمى إلى القلب دون البصر : «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(1)؟!
هل يبصر القلب بعين بصيرته شيئا من العلوم النافعة إذا فقد نور العقل؟ كلّا، إن هو - عند ذلك - إلّا كالأعمى وإن أبصر المحسوسات.
ولكن - يا ترى - هل يتجاوز سطحها أو ينفذ شيء من فكره - لولا العقل - إلى أعماقها؟ أو هل يهتدي لولا دلالته إلى شيءٍ من خواصّها أو آثارها ومنافعها ومضارّها؟
أنت - أيّها الإنسان - تعلم أن ليس الإنسان بانفتاح عينيه وحركة فكّيه وانبساط يديه ورجليه ولا ولا ليس هو بذاك قد صار إنساناً، وأكثر الحيوانات تشاركه بهاتيك ، وإنّما هو إنسان بذلك العقل الغريزي الفطري الذي تفرّد الله بصنعه ، وقال له في الحديث الشريف المتواتر : «ما خلقت خلقاً أحبّ إلىّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ، وبك أُثيب ، وبك أُعاقب(2).
ص: 150
وهذا العقل الفطري هو الذي يصير بالاحتكاك والتمرين والتجارب والتدرّب عقلاً كسبياً، لا أنّهما شيئان منحازان وأمران مختلفان . نعم ، هما بذر وشجر ، وأصل وثمر ، وناقص وكامل.
وإليهما أشير فيما ينسب لأمير المؤمنين (علي) (سلام الله عليه) من قوله :
رأيتُ العقل عقلين *** فمطبوعٌ ومسموع
ولا ينفع مسموع *** إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس *** وضوء العين ممنوع(1)
وهذا ضرب آخر من التمثيل أشار فيه علیه السّلام إلى أنّ التعليم والأدب والتجارب والتدرّب إنّما تنفع وتنجع في مواضيع القابلية والمحال المستعدّة، وهي الممنوحة تلك الغريزة الفطرية، أمّا من ليس له ذلك المطبوع فلا ينفعه المسموع، بل يكون مثال الشمس لفاقد حاسّة البصر سواءٌ عنده الأنوار والظلم ووجود الضوء والعدم، وإنّما ينتفع بنور الشمس أو التعليم من كانت باصرته أو بصيرته صحيحة سوية ولها قابلية الرؤية.
نعم ، قد تكون عديمة من ذاتها، وقد يعرض لها ما يبطلها من بعض آفاتها، كما أنّ قوّة الإبصار قد تكون عديمة بالكمه وقد تنعدم بالعمى، فكذلك قوّة العقل قد تكون عديمة بالعُته والحمق عن محلّها المستعدّ، كما قد يعدمها ويزيلها الجنون، وقد يبطل أثرها بالبطالة أو الهوى والشهوة :
وآفة العقل الهوى فمن علا *** على هواه عقله فقد نجا(2)
ص: 151
العقل جماع الخيرات ونتاج الكمالات.
ومن أحسن ما نبغت به الفرس من كلماتها : ما ترجمته قولهم في العقل خطاباً لمبدعه وواهبه : (من أعطيته العقل فأيّ شيء لم تعطه ، ومن لم تعطه العقل فأيّ شيء أعطيته ؟!) . «ماذا وجد من فقدك ، وماذا فقد من وجدك ؟!(1).
ولا يكمل ولن يكمل مادّي الإنسان وأدبيّه إلّا بعقله المادّي والأدبي :
ما وهبَ الله لامريٍ هبةً *** أحسن من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقدا *** ففقده للحياة أجملُ به(2)
وبالجملة : فمعرفة العقل على إجماله من الوضوح بمكان، ولم يكن بمحتاج إلى ما ذكرناه من البيان ؛ إذ كلّ ذي شعور - وإن كان من كلّ حلي الكمال عاطل - يعرف ويجد الفرق والتمييز بين المجنون والعاقل ، وهذا المقدار من المعرفة الإجمالية كافٍ في ما نحن فيه . وأمّا الاطّلاع على كنهه وماهيته فليس إلّا لمبدعه وواهبه والأمثل فالأمثل من عباده، وإلّا فكلّما ازداد الفكر في البحث عنه عناءً ازداد غموضاً وخفاءً، إلّا بموهبة منه جلّ شأنه) .
وأحسن ما يعبّر عنه هو ما تقدّم من : أنّه قوّة نفسانية ... الخ.
وتلك القوّة التي يستعدّ بها لاكتساب العلوم النظرية والصنائع الفكرية وإخراجها من القوّة إلى الفعل والخارج تدريجاً هي أوّل مراتب فعلية العقل، ثمّ ترتقي إلى عرض عريض ومقام شامخ لا يصل طائر الفكر إليه إلّا بجناح مهيض(3)، ثمّ على تفاوته في الشدّة والقوة يتفاوت ابتلاؤه في التكاليف الإلهية
ص: 152
علمية وعملية، فلا يقنع من صاحب المرتبة العالية بما يقنع به من صاحب المرتبة الدانية، ولا يطلب من الناقص السافل ما يطلب من الشخص الكامل.
كلّ ذلك تحاشياً عن الجور والاعتساف وجرياً على قانون العدل والإنصاف. فبقدر ما يأتي البيان بالإلهام أو الإعلام تصحّ الموء اخذة والإلزام، وعلى سعة النفوس في مداركها وقواها ألهمها فجورها وتقواها، ثمّ لم يكن ليؤ آخذها بأكثر ممّا أعطاها.
وحينئذٍ فالمراد بتلك الأخبار الشريفة : أنّ الله (سبحانه) هو يتعرّف لخلقه بعقولهم التي هي الحجّة الأُولى بينه وبينهم، وهي من صنعه وخلقه فيهم، ولا يكلّفهم أن يحصّلوا من المعرفة ما ليس في قدرتهم ووسعهم وما تقف دونه عقولهم وألبابهم.
وطريق تعريفه نفسه (جلّت عظمته) لهم أن يلقي ذلك الدليل العقلي في عقولهم ؛ لتتمّ عليهم الحجّة وتزاح به عنهم العلّة . وخلاصة القول هنا : إنّه لابدّ فى العناية الإلهية والرحمة الواسعة الكلّية أن يعرف الله (سبحانه) عباده - إمّا بالوحي والإلهام أو بتعليم الأنبياء والمرسلين أو تنبيه الأئمّة والمعلّمين - أنّ لهم مبدِىً صانعاً يجب طاعته ومعاداً يلزم - بحسب إمكان العبد واستعداده - السعي في تحصيل زاده، ويمكّنهم حتّى يمكنهم اكتساب العلم واليقين وملكة الطهارة والتقوى، ويُقدِرهم ويُهيّأ لهم كلّ ما يتوقّف عليه هذا الاكتساب من المعارف الضرورية وغيرها، كالقدرة على اكتساب النظريات من البديهيات والثواني من الأوّليات.
وهذا معنى قوله علیه السّلام: «وللخلق على الله أن يعرّفهم»(1).
ص: 153
و تلك الأمور هي التي يجب على الله (تقدّست آلاؤه) أن يبتدِئ بها عباده ، وجوب اللطف منه والعدل والكرم ، لا وجوب الحكم والإلزام عليه من أحد .
فإنّا نقول : إنّ عقولنا الفطرية تحكم بقبح التكليف من دون إعطاء القدرة وتهيئة الأسباب والمقدّمات، وإن الله (سبحانه) منزّه مقدّس عن القبيح، فلا يكلّفنا حتّى يُقدرنا ويعرّفنا عدلاً منه وتقدّساً، ونعبّر عن هذا بالوجوب، أي : لازم الوقوع لا بمعناه المتعارف .
وحينئذٍ فإذا أنعم الله على عبده بما هو عليه ومن صنعه ولا مدخلية ف--ي-ه للعبد أبداً من وجوده وسلامته وعقله وتنبيه العقل وتنويره بالإرشاد إلى ما فيه نفعه وضرّه وخيره وشرّه وهكذا حتّى يصل به عقله إلى التفطّن لصانعه والمنعم عليه والميل إلى معرفته. كلّ ذلك بألطافه وفضله إلهاماً أو تعليماً ونحو ذلك .
وإلى هنا فقد تمّت من الله الحجّة، ولزمت بحكم العقل المعرفة ، ووجب على العبد أن يتصدّى لطلب اليقين والمعرفة تفصيلاً لذلك المبدأ الذي عرّف نفسه ونبه عليها إجمالاً.
فالذي لا يجب السعي له - والأخبار ناظرة إليه - هو مقام خطور ذلك الدليل والتفطّن له، والذي يجب السعي له وتحصيل معرفته بذلك الدليل هو ما وراءه من المعرفة التفصيلية بثبوت الصانع له وصفاته وما يليق به حسب ما يمكن للممكن من معرفة الواجب .
فاحتمال الصانع والمنعم يقع في الذهن قهراً ولطفاً، وتحصيل اليقين بذلك المحتمل ثبوتاً أو نفياً يلزم عقلاً.
فلو فرضنا أنّ رجلاً لم يخطر بباله ولا مرّ بفكره مدّة عمره احتمال أنّ له صانعاً أو منعماً أو لم يحتمل الضرر بجهله وبقي على غفلته ولم يلتفت إلى حكم
ص: 154
عقله، فهو عندنا غير مكلّف بالمعرفة ولا تامة عليه الحجّة ، بل لا يعقل تكليفه .
وأمّا أنّ هذا الفرض هل يقع في الخارج أم لا، وعلى تقدير وقوعه فهل هو كافر أم مؤمن أم واسطة بينهما ، وما يجري عليه من أحكامهما ، فهو خارج عمّا نحن فيه.
وإنّما الغرض هنا إيضاح أنّ تعريف العبد بأنّ له مبدِيٍّ إجمالاً بعد احتماله ثمّ تعريف لزوم معرفته تفصيلاً حسب الطاقة والوسع من أحواله ليس إلّا من (جلّ شأنه).
ثمّ بعد تحقّق هذين الأمرين لدى العبد وحصولهما يجب عليه - بحسب ذلك الدليل العقلي الذي ألقاه الله عليه إتماماً للحجّة - أن يتصدّى ويسعى بالفكر والتدبّر في معرفته ومعرفة ما يليق بشأنه من التوصيف والتعريف والثناء الجميل والحمد والمدح بأهدى سبيل .
والأخبار الشريفة ليس نظرها إلى هذا ، بل إلى المقام الأوّل .
وعلى هذا فقد ارتفعت المنافاة بمنّ الله (تعالى) وفضله .
وبعد الفراغ من تحرير هذا المقام على ما قدّمناه واستفدناه فضلاً من الله (تعالى) بالفكر والتأمّل ، عثرنا على خبر شريف في كتاب (العلم والجهل) من (الكافي) عن مولانا (الصادق) (الذكره وذكر آبائه الصلاة) أشار فيه إلى فذلكة المقام وخلاصة الحقّ، حيث قال علیه السّلام: «حجة الله على العباد النبي صلی الله علیه و آله و سلّم، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل(1).
أراد (سلام الله عليه) أنّ الله يحتجّ على عباده بنبيه، فإنّه (جلّ شأنه) يرسله
ص: 155
لينبّه العقول من غفلتها ويدلّها على ما هو من فطرتها وجبلتها، ثمّ يكون شاهداً عليها [بحيث] أن لا تقول أُمّة : «رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً»(1) وأقمت لنا علماً هادياً يهدي عقولنا من الضلالة ويوقظها من نومة الغفلة ، فهو الحجّة الله على عباده الذي تنقطع به المعاذير وتزول به المحاذير.
وأمّا العقل فهو كما ذكرنا - الحكم العدل بين العابد والمعبود ، فهو حجّة للعبد وعليه، كما أنّه حجّة الله على العبد ورسول باطن منه معاضد لرسوله الظاهر منه وإليه وله وعليه.
والغرض أنّ الإمام علیه السّلام أشار بقوله : «حجّة الله على العباد النبي صلی الله علیه و آله و سلّم» إلى مقام التعريف والتنبيه الذي قلنا بوجوب صدوره من الله (تعالى) لطفاً وكرماً منه، لا إلزاماً وتحتيماً عليه (تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً).
ثمّ لا يخفى عليك أنّ دليل وجوب المعرفة التفصيلية لا يختصّ طريقه بذلك الدليل على ذلك النحو والترتيب؛ إذ هو صناعة علمية وترتيبات فكرية، بل المراد : أنّ العبد يجد من نفسه ضرورة - بعد أن عرف أنّ له صانعاً منعماً عليه بمالا يحصى من النعم - قبح إهماله وترك التعرّض لمعرفته بحسب ما يمكنه من المعرفة ويليق بشأن ذلك المنعم في الذات والصفة، ويرى أنّ إخلاله بذلك من أعظم الكفران ومقابلة الإساءة منه للإحسان، وأيّ قبيح أسوأ من هذه المعاملة عند ذوي الهمم العالية والعقول الكاملة والآراء الفاضلة؟!
وحينئذٍ فيجب التعرّض للمعرفة التفصيلية بالضرورة، ولا ينحصر طريقها في علمي الحكمة والكلام والاطّلاع على تلك لاصطلاحات والمباحثات، فإنّه
ص: 156
قد يحصل من التدبّر والفكر في آيات الله آفاقية وأنفسية تكوينية وتدوينية. مراجعة كلمات الأنبياء والمرسلين والأئمّة والصدّيقين (صلوات الله عليهم جميعاً) والتأمّل في أخبارهم النورانية وأحاديثهم القدسية من نور العلم واليقين ما لم يحصل لأجلّة الحكماء والأساطين.
وأنا أعلم يقيناً وأحلف يميناً - ويصدّقني على ذلك كلّ صادق ويشهد لي كل مطّلع حاذق - أنّه قد كان من المعرفة واليقين (لسلمان) (1)و(أبي ذرّ)(2)
ص: 157
وأمثالهما من حواري رسول الله والأئمة علیهم السّلام ما لم يكن (للشيخ الرئيس)(1) و (الرازي) (2) وغيرهما من الحكماء المبرّزين فضلاً عن المتكلّمين .
(2) فخر الدين أبو عبدالله محمد بن عمر الرازي المعروف بالفخر وابن خطيب الري وشيخ الإسلام. فقيه متكلّم
فيلسوف مفسّر. ولد في الري سنة 543 ه-. ودرس علوم اللغة والفقه والتفسير والكلام ، وعمل في التدريس، فكثر مريدوه وتبعوه في تنقلاته . نال حظوة أمير خوارزم شاه و احتفى به شهاب الدين الغوري سلطان غزنة . انقطع في أواخر أيامه للوعظ والتفسير مبتعداً عن المجادلات الكلامية. توفي سنة 605 ه-. من مؤلفاته : مفاتيح الغيب ، المباحث المشرقية، المحصول ، لباب الإشارات.
ص: 158
ولكن ذلك إنّما هو من شرف صحبتهم، والسعادة بخدمتهم، والتلقّي من فيوض نفحاتهم وبركاتهم، والترقّي في معارج الكمال بمشاهدتهم وتربيتهم : «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ» (1)
نعم، الصحيح من تلك العلوم نِعم المعين والمساعد على تصحيح
العقائد و دفع شبه المعاند، ونِعم سبيل السداد للهداية والإرشاد وتحصيل الجزم والاعتقاد.
ولكن لمن كان من أهل القرائح السليمة والأذواق المستقيمة، لا من تناهى في طرفي الإفراط والتفريط إلى الحدّة والجربزة (2)أو الخمود والبلادة، فإنّ الخوض في تلك العلوم لهؤلاء سمّ قاتل وهلاك عاجل، يعرف ذلك منهم العارف الحاذق والطبيب المرافق ، فيجب عليه - إذا أحرز منهم ذلك - أن يتلطّف لهم في تحصيل الاعتقاد الصحيح بالإقناعيات والمسلّمات، لا بالبراهين التي هي معرض التشكيكات ومجال المناقشات، حتّى يوصلهم بلطائف الحيل إلى نجاتهم بالعلم والعمل، و : «كل ميسّر لما خلق له»(3)، «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ»(4)، «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(5). وحيث استبان أنّنا مجبولون - حسب طباعنا وغرائزنا -على البحث
ص: 159
والنظر، فأوّل ما هو الحري بالبحث الجدير بالفحص الأولى باحتكاك الآراء واصطكاك الأفكار أن نبحث عن أسباب وجودنا ومبادي كياننا ، وننظر من أين وجدنا، ولماذا وجدنا، وإلى أيّ غاية تنتهي بنا سلسلة هذه الحياة وسلّم هذه الأكوان ..
ننظر هل كان وجودنا مصادفة واتّفاقاً وعبثاً واعتباطاً ، أم قصداً وعناية ونظراً إلى حكمة وغاية ..
ننظر من أين، وفي أين، وإلى أين، وأنّنا في نشأة واحدة، أم في نشأتين .. تنظر هل كان وجودنا من مبادٍ عاقلة وقوى مدركة ، أم هي من أصول عجم و مبادٍ صمٍّ بكم!
لا جرم أنّ اجتبال النفس على حبّ ذاتها وعنائها بشؤونها وتضحية كلّ شيء في سبيلها يجعل لهذه المباحث من الأهمية عندها والتقدّم لديها ما ليس لغيرها، ويخوّلها من العناية ما لا يخاله في شيء من النظريات سواها .
وعسى أن يستبين بعض ذلك في طيّات دعوتنا هذه، وعلى الله نعتمد ومن فیضه نستمد مستودعين ما نحاوله من البحث عن الحقّ في هاتيك الحقائق ضمن فصول هي الأصول والمقاصد :
ص: 160
في إثبات الصانع الحيّ جلّ صنعه وعمّت حياته وعظمت حكمته)
وهذه هي المعضلة التي أشغلت كلّ قلب والمسألة التي استولت على كلّ لبّ، التي كادت النفوس أن تطير شعاعاً إلى استكناهها والوقوف على صميم حقيقتها، فتضاربت فيها الآراء وتمزقت عندها الأهواء على عاديات الدهر وأُوليات الأزمان والقرون ناموسَ حرب سجال(1)، جرت سنّة الكون عليه فيما لا يزال أن لا يستنير ولا يستطير شرر الحقائق إلّا بذلك التحكّك والتضارب .
بل هذه هي المسألة التي كادت من وضوحها أن تخفى، وأوشكت من حضورها أن تغيب.
هي الفطرة الأولى التي فطرت عليها العقول، والعاطفة التي يحسّ بها عنده كلّ ذي وجدان، التي يجهد جاحدها في إماتتها ويتفانى على قلع جراثيمها، فلا تزداد إلّا حياة ونموّاً وجلاءً وعلوًاً.
ص: 161
والفلاسفة الباحثون ما زالوا - ولا يزالون - تترامى بهم النظريات فيها إلى نزعات ثلاث لا رابع لها أبداً: معطّلة، ومتعطّلة، وإلهية.
وبقول آخر : إلحادية مادّية، ومشكّكة لا أدرية، ومستيقنة إلهية .
أمّا المتعطّلة المشكّكة فبالحري إسقاطها وحطّها عن مدرجة العلم ومذكّرة العلماء، وتسجيل الحقّ على إحدى الفئتين يقضي به على الثالثة لا محالة، فاستدار النزاع ثنائياً بين الإلهييّن والمادّيين، وقد عرفت اتّفاق الجميع على تحقّق مبدءٍ ما لهذه الكائنات، لا يختلف في ذلك اثنان.
وكأنّ محور الكلام في نزعات ذلك التنازع إنّما يدور على نعوت ذلك المبدأ ، وبالأخصّ منها صفة العلم والإدراك والحياة ، وكلّها تؤول إلى واحد ، وهذا آخر ما تنتهي إليه هذه الملحمة التي بلغت من العمر عتياً، جعلناهما طائفتين واعتبرناهما فريقين.
وما هما - لعمر الحقّ والحقيقة - في أيّ آونة من الدهر وعصر من العصور إن نسبت الثانية إلى الأُولى إلا كنسبة الواحد إلى المائين أو المائة إلى الملايين مهما تكثّرت وفشت و توفّرت.
على أنّنا لا نريد أن نعتضد هنا بالإجماع، أو نتوفّر بالكثرة، أو نعتدّ بالسواد الأعظم عن الأدلّة والبراهين.
غير أنّ من أعظم الدواهي وأنكأ ما اقترفته جرائر الليالي والأيّام قضاؤها على العقلاء وأرباب المعرفة وأصحّاء العلم والفلسفة واعتسافها لهم بأن يقيموا الأدلّة والبراهين ويصرفوا نقداً من العمر الثمين على أمر لم تشرق آفاق البداهة بأجلى منه نوراً وأسنى ظهوراً وأشدّ وضوحاً، ولا جبلت البشر على أغرز منه في طباعها وأعلق به في نفوسها ، حتّى لكأنّه أقرب إليها منها أو أنّه أجلى لها من
ص: 162
حقيقتها وذاتها .
وممّا زاد البلية على أصحّاء العلم في هذا الموقف الحرج أنّ المعارضين فيه ما اعتمدوا في مناكرته على ساعد حجّة، ولا استندوا إلى شبهة برهان حتّى يكون النزاع علمياً بين الفئتين، فيجري البحث على أصوله ومجاريه وتتمشّى آداب المناظرة فيه.
وكلّما تصفّحنا ونقّبنا وبحثنا وطلبنا ونظرنا في كلمات غابرهم ودابرهم وأوّلهم وآخرهم وقديمهم وحديثهم لم نجد عندهم سوى المكافحة بالوهم والخيال ومكابحة اليقين بالاحتمال ، معارضة الشراب بالسراب ومقارضة الشمس بالشهاب، أقوى سلاحهم في ذلك التشكيك في الحقائق بالأوهام الفارغة إلّا من زخرف القول، وتنميق الألفاظ، وبناء صروح الأوهام على دعائم الدعاوى المجرّدة، وإنكار كلّ حقيقة راهنة، وإماتة كلّ عاطفة شريفة ، ليس إلّا بالاحتمالات والسفسطة (1)التي عكّرت صفو نمير (2)العلم ودمّرت سلّم كلّ سلم.
ولقد كان بالعزيز على أولى الحصافة وأولياء الحقّ إضاعة الوقت وإجالة الأقلام على المهارق (3)في ردّ تلك السمادير (4)وسدّ فوّارة تلك الهذيانات التي
ص: 163
تبتعد عن العلم ابتعاد نبات الدأماء (1)عن بنات السماء.
بيد أنّ ذلك وإن عزّ وعنّى، ولكن شيئاً منه لم يقف سدّاً في سبيل نصراء الحقيقة، ولم يقعد بهم عن القيام بعباء هذه الوظيفة، فلا تجد عصراً من العصور على ربوات السنين وكتلات الليالي والأيّام إلّا وتجد لهم في ذلك إشراقات شموس بازغة وضربات حجج دامغة، كما تجد - على ناموس التنازع - الشرذمة من المهوّسين ما هو من نقيق الضفادع عند زمجرة الأُسود.
نعم، لم تزل تلك الهوسات والسمادير سنّة في الكون، تتمالى على متون الملوين (2)، وتستجدّ على كرّ الجديدين (3)، تقوى وتضعف وترقّ وتكثف، حتّى قذفت لنا أعاصير عصورنا هذه بخشارة (4)من الناس وسفلة من صورة البشر حسبوا أنّ الفلسفة إنّما هي بتشقيق الكلام وتزويق الألفاظ والعكوف على غرائب الغربيّين وكلمات المادّيين والطبيعيّين، فما لبثوا أن تمادى فيهم الغرور وطغى بهم طوفان الجهل حتّى قال قائلهم (سلّ الله أسلة لسانه كما سلّ عقله بيد شيطانه) : (إنّا قد قتلنا إلهنا واسترحنا !).
نعم، قد أحيا جهله، وأمات عقله، وقتل وجدانه، وأخمد إحساسه
و خنق شعوره.
ص: 164
نعم، أمات حسّه، وأنكر نفسه، وأحيا وهمه، وناكر علمه، (وهكذا فعل ويفعل).
إنّ أوّل حجر وضعه في هذا السبيل وأوّل مقدّمة مهدّها في مبادي ذلك الموضوع التعيس إنكار الوجدانيات والمسلّمات والحضّ على خلع عنان الفطريات والغرائز الأوّلية، وافترضها من الأوهام والأباطيل التي لا حقيقة لها متأصّلة ولا معانى متحصّلة ، وقد تشدّق هنا وتفيهق (1)وزخرف ونمّق وقال ما شاء وشاءت له الغواية والجهل ..
زعم أنّ فلسفته وبحثه أبانت له أنّ الآلهة وهم من الأوهام، ومختلق من الأذهان، ومضلّة من زعماء البشر وأنبياء الأُمم.
تربت يد البحث والفلسفة إن كانت تلك نتائجها وهاتيك غاياتها، وحنظلت شجرات العلم إن كان هذه ثمراتها وعلى تلك الأصول والمبادئ مغارسها!
يا من تفلسفَ كي يؤيّد كفرَهُ *** مع أنّه لم يدرِ كنه وجوده
خسرت بسوق الفضل صفقة جاهل *** اتّخذ العلوم ذريعةً لجحوده
ألا بذمّة الإنصاف والمروّة انظر ما أعظم البليّة على العلماء وذوي الألباب حيث تضطرّهم ألعوبة الدهر وتصاريف الحدثان إلى مباحثة مثل هؤلاء الطغمة الذين ينكرون كلّ البديهيات والفطريات والوجدانيات وكلّ أصل موضوعى!
إذاً فعلى أيّ غاية تنقطع سلسلة المجادلات، وعلى أيّ نقطة تقف سيّارة
ص: 165
المخاصمات، وعلى محضر أيّ محكمة - بعد العقل والوجدان - تعرض المخاصمة وتفصل المحاكمة، وعلى ماذا يعوّل العلم والأعلام ويبتني سند الحكماء والأحكام؟!
يقولون : (لا معوّل للعلم إلّا على ما يحسّ بإحدى الحواسّ
الخمس)(1).
إذاً فقد جحدوا نفوسهم وأنكروا عقولهم؛ إذ من المتسالم عليه - حتّى عندهم - أنّهم لو وضعوا أعظم تلسكوب أو مكرسكوب وأكبر مجهر من النظّارات، ونظروا إلى كلّ خليّة من خلايا الجسد وكلّ دقيقة من دقائق المادّة، وفصّلوا كلّ جزءٍ من أجزائه عن أخواته، ونفذوا إلى أعمق أغواره وأغور أعماقه
ص: 166
وأقصى أبعاده، لما أبصر وا شيئاً من النفس ولا العقل بنظّاراتهم، ولا قبضوا عليها بأيديهم، ولا سمعوا لها همساً بآذانهم، ولا ذاقوا لها طعماً، ولا انتشقوا لها فغماً(1).
وعليه فلا وجود للنفس ولا حقيقة للعقل، بل وعليه فلا حقيقة لشيءٍ من شؤون النفس مجرّدة أو جسمانية ، فلا إدراك ولا خيال، ولا حافظة ولا ذاكرة ولا مصوّرة ولا مفكّرة، ولا لذّة ولا ألم، ولا صحّة ولا سقم، ولا جوع ولا شبع؛ إذ كلّ هذه محسوسات، ولكن لا بشيء من تلك الحواسّ الظاهرة، فلو قصرنا الأشياء الراهنة على مدركات تلك الحواسّ لكنّا قذفنا بالعلوم والحقائق في هوّة حالق وخسرت صفقة العلم وأهله وخاب كلّ إنسان من جدوى عقله!
وهل تحسّ النفس إلّا بآثارها، وتُعرف إلّا بأعمالها، وتمتاز إلّا
بخواصّها؟!
الخواصّ التي تقود الإنسان قهراً وتسوقه قسراً إلى الإذعان بأنّ هناك كائن مهما جهل حقيقته فإنّه لا يجهل أنّه حيٌّ موجود مدرك ليس بجسم ولا من جوهر المادّة ولا من حقيقتها وإن حلّ فيها واستعملها واستكمل حقيته باستخدامها وتوصّل بها إلى ما لم يكن ليتوصّل إليه بدونها.
وليس الغرض الخوض هنا في هذه اللجّة العميقة والغوص إلى قعرها السحيق، وعسى أن يجيء له محلّ غير هذا.
ولكن أيّ خير ترجو أو جدوى علم تأمل وعائدة فضل ترتقب ممّن قصر إدراكه وضاقت سعة خطاه عن إدراك ذات نفسه، وهي أبده البديهيات إليه
ص: 167
وأقرب الأشياء منه، فأنكرها من حيث يدري ولا يدري، وجحدها من حيث يشعر ولا يشعر؟!
ثمّ أيّ بليّة أعظم من أن تسوقنا الصروف وتقضي علينا الضرورات بالوقوف في صفّ البحث مع مثل هذه الناشئة الحمقاء، التي كسدت عندها الحقائق وراج لديها سوق الأوهام، التي جاءتنا بتيّار من الجحود المحض والإنكار المجرّد وتعتدّه آلة وأداة لإبطال كلّ شاهقة راسخة الدعائم مبتنية قصرها المشيّد على كلّ أساس وطيد من العلم والمعارف؟!
وهكذا يفنى الفضل، وتذهب الفضائل، ويدرس العلم، وتضيع الحقائق :
هكذا يفسد الزمان ويفنى ال- ***-علم فيه ويَدرسُ الأثرُ أفترجو ممّن أنكر نفسه وضغط على شعوره وتهالك على إماتة وجدانه أن يصل به العلم إلى معرفة خالقه والإلمام بمبدأه ومعاده؟!
كلّا، ذلك رجع بعيد وأمر إن لم يكن من المستحيل فهو من الصعب الشديد.
أتعجب - بعد هذا - ممّا تجاهر به قائلهم ولم يخش في قوله حيث يقول :
(ما الله خلق الإنسان، إنّما الجواهر الفردة أنشأته، وما بمجد الله تحدّث السماوات، إنّما تذيع مجد علماء الأفلاك!)
أوَ تضحك ولا تبكي أو تبكي ولا تضحك من هلج (1)الآخر وهملجته (2)في العمى حيث يقول :
ص: 168
(لقد مُحي رسم الألوهية تجاه أعيننا (عميت عيناه!)، وانقشعت سحبه من سماء تصوّراتنا، وقد وضح لنا أنّ الإنسان أوجد الآلهة، وأنّه هو الذي يلاشيها، وتجلّى لنا وجه أبينا من وراء حجب القدم ينظر إلينا بعينين تتوقّدان بنيران الشبيبة الأزلية قائلاً : قبل الله كنت !)(1).
إلى كثير من أمثال هذه الجراءات الفظيعة والبذاءات الشنيعة والمباهتات التي هي ضدّ كل أدب وخرق كلّ ناموس، التي يهون عندي أن يجري دونها دمي قبل أن يجري بها قلمي!
ولكن أنت - أيّها المحبّ للدين وحبيبه الذي هو أحبّ لديك من كلّ محبوب وأنفس من كلّ مرغوب الذي لعلّك تتفاداه بنفسك وتضحّي في قربانه دماء أعزّتك وأفلاذ كبدك - لا يسوؤنّك ما تسمع وترى من تحامل هؤلاء على دينك العزيز وربّك الحبيب الذي تجد أنّك لا تجد الخير والسعادة إلّا به والتفاني على حبّه والتزلّف إلى قربه.
كلّا، لا يسوؤنّك ذلك جازعاً كنت أم صبوراً :
فأعظم الناس منذ كانوا *** ما قدروا الله حقّ قدره
لا يسوؤنّك ذلك، بل ليكن باعثاً لك على شدّة التمسّك وصحّة الاعتقاد وقوّة اليقين، واجعل ذلك من آيات صدقه وبرهانات ثبوته . فإذا كان هؤلاء قد أنكروا نفوسهم وجحدوا وجداناتهم، فكيف لا تكون المعقولات والمجرّدات منهم بحيث النجم من يد المتناول، وكيف لا يعدّونه من الوهم الباطل ، والمرء -
ص: 169
كما قيل (1)- عدوّ ما جهل؟!
إذا أنكروا أنفسهم بحجّة أنّهم لا يرونها والعلم هو المحسوس، فحقّاً لو أنكروا خالقهم!
ألستَ تذكر ما لهج به زعماء الأديان من قولهم: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(2)، «اعرف نفسك - يا إنسان - تعرف ربّك» (3)، وبالعكس من جهل نفسه فأحر به أن يجهل ربّه؟!
وهذه القضية متبادلة فى المبدأ والغاية والسبب والمسبّب متعاكسة (ردّ الفعل) (نسوا أنفسهم، فنسوا الله)، و : «نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ»(4).
مغزى ذلك أنّ الإنسان إمّا أن يعرف نفسه ويبحث بعض البحث والنظر فيها، ومنها يتوصّل إلى معرفة ربّه، أو يعرف ربّه ويبحث في عظمة ملكوته، ومنه يتوصّل إلى معرفة نفسه.
فهما في النهاية متلازمان في الجهل والعرفان، فإذا عرف أحدهما عرف الآخر، وبالعكس لا ينفكّ أحدهما عن صاحبه. وترتّب أحد المتلازمين على الثاني سنّة سارية وضرورة جارية في النواميس، فلا موضع للعجب.
نعم، وصيتي إلى نفسي وإلى أبناء جلدتي وجنسي من كافّة أهل الأديان أن لا نشفي غيظنا من هؤلاء الذين خدشوا عواطفنا ، وهتكوا بالجرأة والجهل
ص: 170
حرمة أعظم نواميسنا، ووقذوا أكبادنا بجمرات جهلاتهم، وجرحوا قلوبنا بمواسي هوساتهم، أن لا نشفي غيظنا ولا ننتصر لأدياننا منهم إلّا بإقامة الحجج والبراهين وبثّ روح الدين في هياكل هذا الكون وإحساسات كلّ موجود، ونستمدّ ونستعين بروحانية أدياننا على تمزيق سدف (1)هاتيك الغياهب(2)وتقشيع تلك الجهامات والجهالات.
وللتوضيح والتنقيح أبدأ - قبل ذلك - [ب] أمور :
1 - إنّي لست معك في هذه الدعوة كباحث طبيعي، ولا ناظر وإيّاك في أمر مادّي، ولا خائض في شيءٍ من فنون الطبيعيات من الفسولوجيا ، أو البيولوجيا أو الجيولوجيا(3)، أو الكيمياويات، أو الميكانيكيات، أو غير ذلك من أمثالها.
كما أنّي غير واقف معك في صفّ النظر في الخلق الفجائي، أو الانتخاب الطبيعي، أو أنّ بدء نوع البشر كان من بذور تناثرت من هذه الكرات السماوية، فنبتت على سطح الكرة الأرضية حتّى نمت وأثمرت هذا الثمر المرّ وأينعت بهذا الينع الفاسد، أو أن نَشء العالم كلّه جماده وحيّه كان من بخار الفضاء ومن نتيجة
ص: 171
تفاعل الجواهر الفردة ودقائق المادّة الجاري على نواميس معيّنة، ومن الجواهر تركّب سديم العوالم، وأنّ ذلك التفاعل من الحركة الاضطرارية وتضادّ الدفع والجذب، وأنّ تلك المادّة والحركة هما الأزليتان الفعّالتان في نواميس الكون وظواهر الوجود.
لا أبحث في هذا ، ولا في خصوص أنّ الإنسان كيف كان ، وهل هو كما ذكر (حي بن يقظان)(1)- ربيب تلك الظبية الوحشية التي أنست إليه وأنس إليها فأصبحت ظئراً له حتّى كان من أمره ما كان ، أم هو كما يقول (بخنر) (2)في مقالته الأُولى من شرح مذهب (داروين) مكفّر الملايين وأُستاذ المعطّلين في هذه العصور التي هي الأجدر بأن تسمّى : بالعصور المظلمة لا ما تقدّمها - هل هو كما يقول : (إنّه تجلّى لنا وجه أبينا من وراء حجب القدم ينظر إلينا بعينين تتوقّدان بنيران الشبيبة الأزلية قائلاً : قبل الله كنت)، وإنّ هذا الأب الأزلي - على رأيه - كان في بعض الأزمنة قرداً، وكان قبل ذلك - كُييساً هلامياً أو مخاطاً، وإنّه كان قيعاً في الماء لاصقاً بصخره، وما زال يتدرّج في سلّم النشوء والارتقاء حتّى بلغ إلى طوره اليوم(3)، (وليته لا بلغ !) .
ص: 172
كما أنّني لا أُريد أن أتربّع على منصّة الحكم بينه وبين خصومه من أبناء جلدته وأكابر فلاسفة عصره فضلاً عن معارضته هو لنفسه ومناقضته بذاته لقوله ..
لا أُريد أن أدفعه بأمثاله وأقتله بأبطاله، وأبطله بمثل قول الإنجليزي الشهير (تندل)(1): (إنّ ذلك القول خطأ وعرضة للبطلان)، وقول (فرخو البرليني) من أكابر علماء التشريح : (ما للارتقاء من ركن علمي) ، وقول الدكتور (دوسون) من أكابر الجيولوجيا : (قلنا بالأدلّة الصحيحة : إنّ الإنسان خلق في الأصل إنساناً، ولم يكن يوماً ما قرداً ولا سلالة قرد، ويقال على غيره من حيوانات الرتبة العليا ما قيل عليه، ولا دليل على استحالة نوع من الحيوان إلى غيره)، وكمقالات الفلكي الطبيعي الشهير (كاميل فلامريون) (2)الفرنسي، وكثير من أمثاله من رجالات الغربيّين ومشاهيرهم)
ليست تلك المباحث من عنايتي ، ولا إليها قصدي ووجهتي، ولا هي من(3)
ص: 173
شأني ووظيفتي، سواء كان لي إلمام بها وذرو منها أم لا، وسواء كنت من أهلها أو على الأغلب - لست بما هناك .
لا أنحو إليها ولا أُلمّ في دعوتي هذه ومقامي هذا بها ؛ لأنّي لا أجد له-ا مسيساً ولا لما أُريد إثباته توقّفاً واحتياجاً إلى إثبات شيء من تلك الأصول أو تأييد قول من تلك الأقوال ، فإنّ الذي نعني به وننزع إليه راهن على كلّ تلك المزاعم ثابت على فرض صحّة أيّ قول من الأقوال، صحيحاً كان بالنظر إلى نفسه أم باطلاً. ولا يتوقّف إثبات الصانع الحكيم على إثبات أنّ الإنسان أيّ شيء كان ، وهذه المسألة الطبيعية منفصلة بتاتاً عن تلك المسألة الإلهية ، كما هو ظاهر لأوّل نظرة .
إنّنا نريد - فيما هنا - إثبات قوّة مدبّرة فى الكون مدركة حكيمة أزلية قديمة يخضع كلّ شيء تحت سيطرتها ويعنوكلّ موجود لحكمها ..
وبالخلاصة : تؤثّر في كلّ شيء، ولا يؤثّر فيها شيء، حتّى ولا هي في نفسها : (شيء واحد فاعل و قابل ، چه نازیباستي) (1)
ومن هوسات المادّيين وخبطاتهم ربط هذه المسألة بتلك ، وما هي منها في شيء.
ولكن لي في هذا الموضوع - أعني : مسألة النشوء والارتقاء كلمة واحدة ، وهى : أنّ العجب كان يأخذ منا قسطه حين ننظر إلى بعض ما ذكره الفلكيّون الأقدمون في ترتيب الهيئة القديمة (هيئة بطليموس (2)من كيفية نضد
ص: 174
الأفلاك التسع، وترتيب وضع السيارات وأجزاء كلّ فلك، وما يشتمل عليه من الحاوي والمحوي والمتمّمات(1)، وكثير من أمثال هذه المسائل التي اتّخذوها
ص: 175
كأصول موضوعة ومبادئ مسلّمة.
وإذا فتّشت في خزانة الدليل لم تجد عليها هنالك من سلطان ولا حجّة ولا برهان، وإنّما مرجعها إلى استحسانات ومناسبات وافتراضات يتمّ بها المقصود المهمّ في ملاحظاتهم، فكنّا نستهدفهم لسهام الملام، ونعجب كيف مثل أُولئك الأساطين حكموا بتلك الأحكام في محكمة هذا الفنّ المهمّ على غير أساسات وطيدة ولا دعائم ثابتة ولا حقائق حجج راهنة، والعلم أعلى وأجلّ من أن يبتني على غير ذلك، ولكن وبالأسف أنّه ما مضت الليالي والأيّام حتّى قاء الغرب الأغرار الشرق وطغمتهم بما لم تنضجه أحشاؤه من متفلسفة هذه القرون الأخيرة، فصاروا يعكّرون نمير العلم ويكدّرون صفو العلماء بل العالم!
جاؤونا بما هو أمرّ وأدهى وأسخف وأوهى ، فتارة يجعلون القرد أباً للإنسان، وأُخرى يجعلونهما من أصل واحد، يترضّخون فيه كلّ هوة، ويترامون به في كلّ فجٍّ عميق من كُييس هلامي، أو مخاط شيطاني، أو مستنقع على صخر حجري، إلى أمثال ذلك من الهلجات السخفة واللهجات الفارغة!
ثمّ ولا أدري بعد ذلك العناء كلّه، فأيّ فائدة تترتّب على ذلك علمية أو عملية، وأيّ غاية تعود منه على الباحث فيه سوى إضاعة الوقت وتقوية شياطين
ص: 176
الوهم والخيال؟!
أقسم بكلّ المحرّجات أنّه ما ابتُلى العلم بمثل هذه البلية، ولا امتُحن بمثل هذه المحنة على أوّليات عهوده وأبعد أدواره!
ألا وإنّ الطامّة الكبرى صغو بعض ناشئة الشرقيّين وأغرارهم إلى تلك الفلسفة الخرقاء والبقلة الحمقاء، واعتدادهم أنّ أهلها من أكابر الفلاسفة والعلماء حتّى إنّي رأيت في مجلّة بعض الصحافيّين من العراق يقول : (قال أكبر فلاسفة العرب شبلي شميّل)!
تعست العرب والفلاسفة - يا هذا - إن كان هذا من أكابرهم، أو إن كان يعدّ في عدادهم!
تعست الفلسفة ولا كانت إن كانت هي عبارة عن خبط عشواء في الليلة الظلماء(1)!
أتلك المقالات وهاتيك المضلّات التي فضلاً عن كونها ما شمّت رائحة من العلم ولا استظلّت شبحاً من الأدلّة والبراهين ، لم تعتضد حتّى بشيء من المناسبات والاستحسانات، وما هي إلّا اغترار ببعض المشابهات والتسوية من بعض الوجوه في الأنواع المختلفة الحقائق المندرجة تحت جنسية واحدة ه-ي التي قضت لها بالشبه وصار كلّ نوع منها سيّ (2)الآخر في تلك الجهة .
ولا يخوّل هذا القدر من التساوي أن يقال : إنّ هذا من ذاك، أو إنّ هذا أصل لذاك.
ص: 177
فإنّك لا تجد نوعاً من أنواع الحيوانات - على تباعدها وعرضها العريض - إلّا وتقدر على تحصيل جهة مشابهة بين كلّ واحد وجميع ما عداه من أنواع ذلك الجنس، بل هذا سار في جميع الكونيات من الوجود بالبداهة .
وليس القول بأنّ القرد أصل للإنسان، أو هما معاً من أصل واحد ، إلّا كالقول : بأنّ شجر الخلاف (1)من النخل، أو الزيتون من الكرم ، أو العكس؛ لتحصّل بعض وجوه التشابه بينهما على كثرة الميّیزات والخواصّ المتباينة فيهما!
وكلّما فحصنا ومحّصنا أساطيرهم لم نجد فيها ما يصلح لتقريب هذا البعيد فضلاً عمّا يصلح بأن يسمّى دليلاً أو برهاناً.
دونك فلسفة النشوء والارتقاء - أيّها المتطلّع الكامل لا الغرّ الجاهل الذي يختلس من حيث لا يدري ويسقط من حيث لا يشعر - دونك فانظر هل تجد فيه للدليل أثراً، أو تسمع من الحجّة همساً، أو تحسّ لها ركزاً؟!
كلّا، فدع عنك - أيّها القلم - الخوض في هذه الأوحال المنتنة والمحالّ المتعفّنة! دع عنك المسابقة في ميدان القرود وخلّه لأهله، فكلّ إنسان هو أعرف بأصله، ولا يسوغ إقراره إلّا عليه!
ولأجل ما ذكر - من عدم ارتباط هذه المسألة الطبيعية بتلك المسألة الإلهية التي هي همّنا وإليها وجهة قصدنا - تركنا البحث في أصل خلق الإنسان، ولقد كانت لنا فيه مطالب جمّة ونظرات مهمّة، ولكنّا خشينا أن يفوت الغرض بالعرض والمقصد بالمستطرد ، فعدلنا عنه إلى البغية ، وبالله التوفيق.
ص: 178
2 - إنّ جميع الكوائن المادّية - وبالأخصّ كلّ ما هو على سطح هذه الكرة الأرضية من جماد أو نبات أو حيوان - إنّما هو في بدء أمره وأوّل نشأة وجوده كأنه قوّة مجرّدة وخليّة من البذور المستعدّة، ولا يبلغ الغاية التي تليق به من الكمال والانتفاع بكونه وترتّب الآثار على وجوده إلّا بعد العمل عليه والسعى فيه والإدمان على تربيته بالنواميس المعدّة لمثله، وذلك بعد ردح من الزمان وبرهة من الأيّام تتداوله فيها التطوّرات والتقلّبات في أيدي العوامل الفعّالة في الكون كما تسمع وترى. المعدن رقعة من الأرض وقطعة من الهضاب، ولكن لا تسطع لمعاناً، ولا تستطيع أن تبلغ من غاياتها مكاناً، ولا تتأهّل لأن تكون زينة إكليل أو قلادة جيد جميل أو ترصّع بها آنية أو توضع في حلية غانية إلّا بعد مزاولة أعمال طائلة فيها ومضي برهة من الدهر عليها.
وعجمة النواة أو حبّة القمح نبذة من الأجسام الجمادية، ولكنّها تختصّ باستعداد في خليّتها وقابلية، ولكن لا يبرز ذلك المستعدّ له إلى الوجود ولا تعود جسماً نباتياً حيّاً نامياً مثمراً إلّا بعد مكابدة عمل وطول أمل وتربّص ليال وأيّام والسير فيه على سنن مخصوصة.
وعلى هذه النواميس الكونية سارت سنّة الكائنات البشرية، فإنّ الإنسان في أوّل وجوده على سطح هذه الدائرة ما كان إلّا كناجمة نبات في الأرض، يؤلمها حتّى مرّ النسيم، ويؤدي به البرد والحميم، ويحتاج في بلوغه إلى مرتبة حفظ استقلاله وبلوغه أشدّه إلى باهض عناية ومراقبة وعمليات أفكار ثاقبة
ص: 179
وانطواء سلسلة من الزمان وجملة من العمر.
هكذا يرتقي الإنسان في هيكل جسمه وأعضائه، وبمثل ذلك رقيّه في علومه وأفكاره وآرائه.
فسير قواه المادّية والأدبية على سنن واحد، يسيران - على الأغلب - معاً كتفاً إلى كتف وجنباً إلى جنب، والكلّ على نواميس محدودة وقواميس مجارٍ مقرّرة، لا طفرة في الكون ولا فجأة.
وجميع العلوم والصنائع والكمالات كلّها مرتهنة بهذه السنّة، لا تحيد عنها ولا تزول إلّا بخرق عادة ممّا لا يقاس عليه، ولا يلتفت في الحكم بالكلّيات إلى مثله.
وجد الإنسان بمكان من الضعف في جميع قواه حتّى من القبض والبسط والأخذ والدفع والقيام والقعود، ولكن في صميمه الجوهرة المستعدّة لبلوغ أقصى غايات المجد والتربّع على منصّة عرش الشرف، لا كيفما كان وكلّما اتّفق، بل حيث يستنّ ويتسنّى له السير على لاحب من التربية الصحيحة وجدد من الخطّة العادلة.
ذاك حيث يدخل إلى كلّ فنٍّ من بابه، ويطلب كلّ شيء من أسبابه، ويرجع في كلّ علم إلى أربابه، ويتحصّل الغايات من مبادئها المقرّرة لها والطرق المسلوكة إليها، ثمّ له - بعد ذلك - حرّية الإرادة وسلامة الاختيار ومكانة الجرح والتعديل.
وإلّا فلو تهجّم أحد على أيّ علم من العلوم وفنّ من الفنون - من دون أخذه من مبادئه وتلقّيه عن أهليه وسيره على النهج الذي يلزم فيه - لا يعتم أن يكون مشيه فيه مشية السرطان معكوسةً إلى وراء، لا تزيده كثرة السير عن غايات ذلك
ص: 180
العلم إلّا بعداً.
وكم رأينا من قوم دخلوا في العلوم على غرّة فيها وجهل بمبادئها وعدم تلقّىً لها من جهابذتها ونُطّاسها (1)الخبيرين بطرقها ومسالكها، فجعلوا أولئك يرتقون ويفتقون ويحكمون فيها بما يشاؤون من تلقاء أنفسهم ومن عند فطير أفكارهم ضدّ فطرتهم، يمزّقون بمخالب أوهامهم إهاب قواعد ذلك العلم،
ويهرفون على زعمائه وعلمائه بما لا يعرفون.
وما السبب الوحيد في ذلك كلّه سوى الجهالة والخروج عن النواميس المقرّرة في تحصيل استكمال كلّ شيء، وما هم إلّا على حدّ قوله :
ومن البلوى التي ليس لها في الناس كُنهٌ *** أنّ من يعرف شيئاً يدّعي أكثر منهُ !
إنّ فلاسفة المادّة وعبّاد الطبيعة بعد أن صرفوا أعمارهم وأجهدوا أفكارهم ودأبوا ليلهم ونهارهم في علوم المادّيات واستخراج خواصّها واستخدام وسائطها، والحقّ يقال : إنّهم بلغوا في ذلك المقام الذي لا ينكر فضلهم وتقدّمهم فيه، سوى أنّه كان من اللازم عليهم في الإلهيات أن يدعوها لأهلها ويتركوها لعشّاقها وعبّادها الذين صنعوا فيها ما صنعوا هم في الطبيعيات من العناء والكدّ وبذل الجدّ والجهد وصرف الأعمار والدأب على مزاولتها وتحصيلها، ولكنّهم - بدلاً عن ذلك - باغتوها بالإنكار على حين لم تسبق لهم من العناية بها قدر عنايتهم بأقلّ مسألة من الطبيعيات، فكأنّهم يعملون على خرق النواميس المطّردة في سلسلة الاستكمال في كلّ شيء، فيرون أنّ الطبيعيات إنّما هي
ص: 181
بالكسب واستفراغ الوسع وطول الجهد والعناء، وأنّ الإلهيات يلزم أن تتنزّل عليهم بالوحي والإلهام، وحيث لم يكن ذلك فهي أباطيل لا حقيقة لها وأوهام لا طائل تحتها!
وهذه سخيمة (1)أُخرى وسنّة ثانية في أكثر النفوس الساقطة، وهي : أنّها إذا أرادت أن ترحض (2)عنها دناسة الجهل بقداسة أيّ حقيقة راهنة تذرّعت إلى ذلك بالجحود والإنكار والنخوة والاستكبار وادّعاء أنّ ذلك العلم مثلاً ليس بشيء وأنّه ممّا لا حقيقة له ، فتدفع عار الجهل عنها بما هو أشدّ معرّة منه من التهجّم على جحوده وغمط (3)حقوقه.
وهنا تسمع قائلهم يقول (فضّ الله فاه) : (إنّا قد قتلنا إلهنا واسترحنا)(4)!
قاتل الله الجهل - يا هذا - وأعمى عين المكابرة! ما هذا التهجّم الفظيع والظلم الذريع والصلف تحت الراعدة والجرأة والبذاءة؟! ولعلّها الدعوى التي ليس عندك سواها من دليل ، ولا سوى إعادة أمثالها من برهان!
أفهل من النصف - لو أنصف الحكم - أن تسمح بعنائك كلّه للمادة ، ولا تدع شيئاً منه لما وراء الطبيعة، ثمّ تتحامل ذريع الجهل على قداسة الأديان هذا التحامل، ثم تعدّها بما أنّك لا تعرف شيئاً منها أضاليل وأباطيل؟!
والغاية أنّه لو أنّ كلّ باحث وقف عند حدوده ولم يتجاوز قدر معلوماته ومحكماته، أو لو أنّ كلّ إنسان وسّع لمجهولاته قدراً من العناية وتطلّبها من
ص: 182
أسبابها ومبادئها وسار رويداً دون العدو والوثوب، لانهدّ جانب كبير من تلك المنازعات والمجادلات التي ضخّمت بها الأساطير واتّسع فيها نطاق الصحف وصيّرت العلم بالحقائق أبعد من العيّوق (1)وأعزّ من بيض الأنوق(2).
ولكن هيهات ، ولا يزالون مختلفين : «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً»(3).
3 - إنّك - وكلّ أحد - عرفت وتعرف كيف كان الإنسان في أوّل كونه من الجهل والسذاجة المطبقة، ثمّ يصير كلّما يشبّ ويترعرع يجد في نفسه أحوالاً وغرائز كأنّها كانت مكمّمة في برعمة نفسه ثمّ تفتّحت أكمامها وتفتّقت أزهارها وتأرّجت نفحاتها، ولكن من حيث لا يدري كيف وجدت، ومن أين إلى أين وجدت، لا يعلم إلّا أنّها هي ذا وهي هكذا.
أوّل تلك الإحساسات والفطريات اندفاعه إلى البكاء عند طلب الغذاء وسكونه عند الشبع والرواء، ولم يكن تعلّم هذه الواسطة المفهمة من معلّم ولا تعرّفها من معرّف، ولا رأى غيره عليها فاحتذى مثاله واتّخذ منواله، بل فطرة وجدها من ذاته واندفع إليها من تلقاء نفسه.
ص: 183
ثمّ تتوارد عليه هكذا تلك الغرائز والفطر، تنبع من ينبوع نفسه وتبرز من خزانة صميمه، لا يفتاً أن يفرّق بين الموجود والمعدوم وبين النافع وغيره، فيميل إلى الأوّل ويسكن إليه من ظئر ترضعه أو أُمّ تربيه، فيهشّ إليها ويبتهج بها ولا يأوي إلى جناح غيرها ..
وهكذا تربو و تتزايد معه تلك الخلال - حسب نموّه وتربيته - فيكون لها من نفسه المكانة السامية والمقام الأعلى، حتّى كأنّه هي نفسه وبها كيانه .
وهذه هي البديهيات الأوّلية التي تردّ إليها جميع النظريات وتنتهي إلى حكومتها سائر الأدلّة، وإلّا فلا غناء بها ولا معوّل عليها.
وفلسفة ذلك وأقصى أثر سرّه وأسبابه: أنّ الإنسان كما يجد كلّ أحد من ذاته ويحسّ به من نفسه - لا يزال - كما نبّهناك عليه - يدأب في حركة فكرية وتجوّلات نظرية في تعرّف كلّ مجهول والإحاطة بكلّ موجود و تحصيل كلّ مفقود منها بعيد عنها، كأنّها ترى أنّ عدم دخول شيء في حيطتها وخروجه عن سيطرة ملكوتها نقص في استكمالها وضيق في سعتها، وهي ممّا لا ترضى بالنقص ولا ترغب إلّا في البسطة والكمال.
فعند كلّ نظرة إلى كلّ شيء ينقدح لها السؤال : ما هو؟ ومن أين هو؟
فيرجع لسان الفكرة منها عن الجواب وهو كليل، ويرتدّ طرف النظر خاسئاً وهو حسير.
وحين تجد عوزها وفقدها لذلك الشيء وعدم وجدانها له ينبعث لها الشوق الأكيد إلى طلبه وتحصيله، فتردّده في معقولاتها وتقول : هل هو كذا، أم كذا شجر مثلاً، أم حجر؟
وهذا التشكيك والترديد هو الذي يدفع إلى الطلب والبحث .
ص: 184
فالحاجة والعوز يدفع إلى السؤال والطلب، والطلب يدفع إلى الشكّ، والشكّ يدفع إلى البحث، والبحث ينتهي إلى الحصول والوجدان، أو اليأس والسكون.
نعم، البحث المتواصل لابدّ وأن ينتهى إلى الطمأنينة، إمّا بالوجدان للحقيقة، أو ما يحسبها هي، أو بالاقتناع عنها بالصوارف إلى غيرها.
ومهما كان، فإنّ النفس لا ترتاح بعد الطلب حتّى تجد.
فجميع النظريات لا تقتنع بها النفس ولا ترتاح وتسكن إليها حتّى تعود وتنتهي إلى وجدانها ، وتصير حالاً من أحوالها، وتنتظم في سلك غرائزها ومحصولاتها الأولّية، وإلّا فهي بعد في عناء التشكيك وتعب الطلب.
فالانتهاء إلى الوجدانيات واتّخاذها حقائق راهنة يعوّل عليها ويرجع في كلّ العلوم إليها إنّما هو من نواميس الحكمة التي لا محيد ولا محيص عنها ، وهي من أوّل الأوائل وأبده البدائه .
كما أنّ رفضها وإلغاءها تعطيل لكلّ العلوم، وإبطال لكافّة النظريات، وفوضوية على الباحثين، لا تنتهي بهم إلى غاية ولا تقف فيهم على حدّ.
الوجدانيات هي التي ألفها الإنسان في أوّل عهده وسدكت (1)به من مهده إلى لحده ..
هي التي عرفها قبل أن يعرف كلّ شيء، وبها توصل إلى كلّ شيء، عرفها قبل معرفة أمّه وأبيه، وأحسّ بها قبل أن يندفع إلى طلب ما يحفظ وجوده ويغذّيه ..
ص: 185
هي الأساس الذي وضعته العناية لبلوغ الإنسان إلى ما قدّر له من الغاية .
والمناكر لها مكابر، يجحدها بلسانه وهي قائمة بعيانه مسيطرة على كلّ إراداته وسلطانه، لا ينفكّ عنها لحظة ولا يفارقها آونة ..
وهي الحكم على الإنسان، والقاضية عليه بالردّ والقبول.
ولا تعمل الأدلّة والبراهين هنا شيئاً، بل تقف أمام الوجدان وبين يديه خاضعةً له.
والمرجع في ذلك إلى صميم الإنسان وما يحسّ به من نفسه ويتقاضی به في محكمة إنصافه وعدله وصحّة نواياه في طلب الحقّ، وإلّا فميدان الجدل والجحود سهل واسع يقتدر عليه كلّ ذي شفة ولسان.
وقد اندفعت القرائح والطباع إلى مضمون هذه الجملة - على بساطتها - ونظرت إلى تحكيم قضاء الوجدان من وراء ستار في أمثال قوله :
وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهار إلى دليل(1)
أنت تجد الفرق بين مقام الاقتناع والإذعان النفسي وبين مقام الجدل القولي والجحود اللساني، وما أكثر ما يختلف ويتخلّف الظاهر عن الباطن والصورة عن الحقيقة!
فكم من شخص تعترف في نفسك بفضله، وتقتدر أو تفعل بدافع الحسد على جحوده ومناكرته وهضم حقوقه .
قل لي بأبيك القريب (الإنسان لا القرد!) لو أنّ أحداً ادّعى أنّ النار مظلمة وأنّ الدخّان مضيء، بأيّ شيء تدفعه [إلّا بأنّه] خلاف الوجدان والبداهة، وإلّا
ص: 186
فبماذا تمتاز السفسطة عن العلوم الحقّة؟! ولولا الوجدان لوقفت حركة العلوم و تلاشت ملكات البحث والنظر.
وما ذكرناه هو السرّ في ما شاع من أنّ البديهيات لا يستدلّ عليها، وأنّها كاسبة لا مكتسبة، وطالبها بالدليل يكون كمن يطلب الشمس بالشمع والرؤية بالسمع.
وبعد هذا كلّه فاعرف حال من ينكر الوجدانيات والفطريات ، وانظر مقامه من العلم والفلسفة، واستعذ بالله!
4 - إنّ الدين - أعني : الخضوع لقوّة مدبّرة للعالم أزلية مدركة حكيمة عادلة - فضلاً عن كونه من أوّل الفطريات وأجلى الوجدانيات والبديهيات - كما سيتّضح - فإنّه أعظم وأكبر ناموسٍ في حفظ نظام العالم وأنفذ وازع ورادع للنفوس عن حرصها وجشعها إلى حبّ التغلّب والتفوّق واستيفاء الحظوظ من الشهوات الحيوانية والقوى الغضبية والطمّ والرمّ والاستكثار من الحطام الجمّ.
ويستحيل بدون الدين قمع هذه الشرور وقلع هذه البذور من نفوس البشر عامّة وخاصّة، إلّا برهبة الدين وتسليط سيطرته عليها ؛ إذ أعظم مصلح يقوم في العالم وأكبر مدبّر ينهض لخدمة المجتمع البشري لا يكون - لولا الدين - إلّا أكبر أهوج خائر مضيّع لحقوق شهواته من غير فائدة تعود إليه ولا عائدة ترجع بالعوض عليه ؛ إذ ما الغاية في تحمّل ذلك العناء ورفض تلك اللذائذ والصبر على شظف (1)العيش والرزوح تحت أغلال البلاء مع علمه بأنّه سيفني ويذهب
ص: 187
متلاشياً في عرصات العدم المحض والفناء المؤبّد؟!
ولو أنّ جميع العالم إلى آخر الأبد صلّوا وسلّموا عليه بكرة وعشيّاً وسبّحوا وقدّسوا بحمده غدوّاً ورواحاً لم تصل إليه ذرّة من النفع بكلّ ذلك، وكان هو واستبداله بلعنه وذمّه سواء، فهل تحمّله تلك المشاقّ إلّا الحمق والخور وضعف الرأي وسوء التدبّر وعدم النظر لنفسه ؟ !
أنت حاكم نفسك أمام وجدانك، فإن صادقتني على هذه الجملة سرنا معاً في طلب الدين، وإلّا فعرّفني بما عندك وما تحصّل لديك من نتائج الفكر حتّى أشطب على هذه الكلمات إن وجدته حقّاً، وهيهات!
ثمّ بعد، فإنّ الدين من أرأف المسلّين وأشفق الواعظين وأبلغ المعزّين لهذا الإنسان البائس المحفوف ظماء حياته بكلّ عناء وشقاء ومصيبة وبلاء مهما ساعدته العناية وتمهدّت له الأسباب وتربّع على عرش الملك، فضلاً عن البائسين والمساكين الذين يرزحون تحت مجهدات الفقر والفاقة والبؤس والمسكنة.
قل لي بأبيك الحسّاس (لا الكُييس الهلامي أو المخاطي الحجري!) إذا أُصيب الإنسان - ملكاً كان أو سوقة - بمصيبة أفقدته أحد أعزّته أو فلذة كبده ومجسّمة روحه، حتّى تلظّى فؤاده ناراً وطارت نفسه شعاعاً ولم يُغن عنه ماله ولا رجاله، ولقد كان لو يستطيع لافتداه بكلّ ذلك، قل لي إذا أحسّ بضعفه عند ذلك ووهنه، وشعر بضؤولة قواه وحوله وتقاصر تعاليه وطوله ، وعرف محطّ مركزه من هذا الكون الدهش والمفزع الهائل الذي تتعاوره في كلّ لحظة عوامل البقاء والفناء وقوّتا الدفع والجذب، فهو يموت قليلاً قليلاً ويفني رويداً رويداً ويمشي إلى الفناء من حيث هو في البقاء ، فهو :
ص: 188
بالذي يغتذي يموت ويحيى *** أقتلُ الداء للنفوس الدواء
قل لي أيّ ملك لا يأسف لماضي عمره، ولا يبكي على فقد شبابه وريعان صباه، ولا يهمّ لطول بقائه ويجزع لتذكّر موته؟
وكفى بهذا همّاً قاتلاً ووجداً رسيساً (1)وداءً دخيلاً، يكدر كلّ صفو، ويذهب بكلّ زهو، ويعكّر كلّ نمير.
بله، ما يتوارد عليه من صروف الزمان وعثرات الليالي والأيّام ونكبات الدهر من غلبة أضعف الدول عليه، أو ثورة الرعايا وترصّدهم له وتربّصهم فيه العزل أو المنون ، إلى ما لا يحصى من أمثال ذلك.
هذا حال الملوك، فما ظنّك بالسوقة والرعايا ؟ !
وإنِّي لأرى من العبث توسيع نطاق هذه الجملة وإطالة أمراس(2)البيان فيها، وهل بعد المشاهدة والعيان من حاجة إلى البيان؟!
كم رأيت أنت وسمعت من رجال بلغوا من عظمة السلطان وسعة الملك أن سجد الناس أمام أرائكهم، وعبدوهم دون خالقهم، وطافوا يستدّرون أخلاف الأرزاق بأكفّ الضراعة والإملاق حول عروشهم ، قل لي ماذا كان مصيرهم، وإلى أيّ غاية وصل صغيرهم وكبيرهم ؟!
ألم يدسّوا في حفائر الأرض كما تدسّ الجيف والأقذار؟! ألم يستنزلوا من مشرفات القصور إلى مظلمات القبور، وطاشت بهم أهواء الفخفخة والرفعة الخادعة ثمّ أهوت بهم كما تهوي الزوابع بعاليات الشجر إلى وهدة الحضيض،
ص: 189
فلا لجاء ولا وزر؟!
أين عزب حلمك عنك يا هذا، وأين طاحت بك الطوائح؟!
وأمّا والحرمات والذمم، لولا أنّ العناية لطفت بالعباد والَهت أفكارهم بالشواغل المادّية عن التوغّل والإمعان في هذه الخواطر الراهنة لترك الناس عمارة الدنيا وسكنوا في شعف الجبال (1)ومغارات الأرض، ولَعجّوا عجيج الوحوش في الفلوات، أو لخفتوا خفوت النينان (2)في قعر الغمرات، ولأنقطع النسل وبطل العمل ، وعادت الأرض إلى شكلها الأوّل، ويا حبّذا لو يكون! وإنّه لكائن.
قل لى إذا أبصر الإنسان هذا الخطر المحدودق به والبلاء المطلّ عليه وأمعن الفكر في ذلك وذهب به كلّ مذهب، فأيّ شيء يسكّن لوعته ويبرّد غلّته ويكفّ من غرب جماحه وهيجان أشجانه وجزعه من كلّ الحياة ولذائذها والدنيا ونعيمها؟!
تلك اللذائذ التي هي كالسمّ في الدسم وتخيّل السمن في الورم..
تلك اللذائذ التي ما من واحدة منها إلّا وهي محفوفة بالآلاف من العناء والشقاء والكدر والبلاء ..
كيف يهدأ والحوادث والصروف كلّ أنٍ تتهدّده بكلّ خطر وكلّ رزية، لا يعرف بأيّ حجر يرمى، وبأيّ عثرة يعثر، وبأيّ بقعة يموت ويقبر!
أقسم بكلّ غموس من الأيمان المحرّجة إنّ الإنسان لولا سلوة الدين
ص: 190
الاستسلام له داعية كلّ فضيلة، لكان جديراً بالإنسان وحريّاً به بل وحتماً عليه أن ينتحر من ساعته ويقضي على حياته من أوائل عمره!
فإنّ كلّ إنسان لو عمل الإحصائيات المدقّقة وقاس ما يناله في هذه الدنيا من المتاعب والأرزاء والمصائب والأخطار الماضية والمستقبلة إلى ما يحظى به من النعيم واللذّة والهناء والراحة، لوجد هاتيك إلى هذه أضعافاً مضاعفة الأعداد نسبة الملايين إلى الآحاد.
وأيّ عاقل يرضى لنفسه بهذه الخطّة، ويختار التواطِئ لهذه المنزلة التعيسة؟!
وما ألم الموت إلّا لحظة تمرّ عليه أمثالها في بقاء الحياة.
أمّا بارقة الأمل والرجاء فقد أوشكت أن تظهر خلابتها (1)للعيون، ويبدو جهام (2)غيمها للنفوس وتنقشع غشاوتها عن الأبصار.
كم من حرقة في الصميم أبيت لها الليل مسهّداً، أتقلّب لها على مثل جمر الغضى (3)أو حسك (4)السعدان! حبستني على أشجاني وتركتني مشرداً عن أعزّتي وأوطاني، تتلاعب بي أيدي الحدثان لعب الصوالج بالأُكر(5)، وتتدافعني
ص: 191
أيدي الصروف إلى مذاقة أجنات الموارد وتعرك أديم اصطباري بمخالب المزعجات كاشرة الأنياب مسوّدة الجلباب !
على أنّي - بفضل العناية - إذا أرسلت رائد النظر في مطارح البشر وجدتني في عافية من كثير ما ابتُلي به غيري واضطهد بأغلاله سواي من الفقر والفلاكة والضعة والمهانة والسقم والزمانة وكلّ ما تقشعر من تصوّره الأبشار فضلاً عن النظر إلى منظره الهائل وموقعه المدهش.
قل لي فإلى أيّ عماد يستند، وعلى أيّ سند يعتمد؟ بأيّ ركن يعتصم هذا المسكين البائس ، وإلى أيّ ملاذ يلوذ ومن أيّ مساعد يؤمّل النجاة أو إراحته من سوء هذه الحياة؟!
كلّا، ليس أمامه في التأسّي إلا التوسّل بتلك القوّة الأزلية التي هي أخرجته من كتم العدم إلى عرصة هذا الوجود ، وقضت عليه بما هو فيه من المحنة والشقاء نظراً إلى الحكمة التي بها أقامت دعائم هذا الكون، ولم تضع شيئاً في غير محلّه،
، ولا منعت حقّاً عن أهله ، ولا فعلت عبثاً، ولا ابتلت العباد جزافاً، بل كلّ ما في الكون إنّما هو لحكمة بالغة ومقصد عظيم. وإذا ألقى الإنسان بنفسه بين أيدي هذه القوّة معترفاً بها مذعناً لها عن صدق عزيمة وصحيح نيّة - لا محالة - ثلُج صدره واطمأنّت نفسه ؛ لتحقّقه أنّ تلك القوّة الحاكمة عادلة غير ظالمة ، رحيمة غير قاسية، عالمة غير جاهلة، غنية غير مفتقرة حتّى تستوفى حظوظها بظلم غيرها.
فلا جرم أن يكون هذا العناء لما هو أعود عليها بالنفع، وأقرب منها إلى الحكمة، وأجمل لها في العاقبة.
وهناك الصبر والعزاء والدعة والهناء، وإلّا فليتّخذ : «نَفَقَا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً
ص: 192
فِي السَّمَاء»(1)
قل لي من يهبط روح السكينة على عزيز قوم ذلّ أو غني افتقر إذا احتبى القرفصاء (2)يفتكر في مثابته بعد فناء ثروته في كبد الظلام الحالك، يتنفّس الصعداء وتصوب أجفانه بجمان (3)الدموع ؟ !
قل لي من يمسح بجناح الصبر والسلوان وينزل ملاك السكينة على فؤاداً اُمٍّ فقدت واحدها في ريعان شبابه وزهرة أيّامه وميعة صباه غير إيمانها بأنّه أصبح وديعةً لدى مبدعه الذي هو أشفق عليه منها، وسيجمع بينه وبينها في أهني من هذه الدار وأطيب من هذا العيش؟!
ألا وإنّي ممّن دهمته فجائع الدهر بمثل هذه الرزية في ريعان شبابي وميعة أيّامي، وبلغ بي الوجد حدّاً كنت أفتكر هل أرمي بنفسي من حالق، أو أقذف بها في مكان سحيق، أو انتظر حتّى يقضي الحزن عليها، فإنّه منها قريب ؟! ثمّ لم يكن غير ليالٍ حتّى فزعت إلى ديني، وأخذت بعروة يقيني، وسلّمت الأمر إليه ثقةً به وتفويضاً إليه.
فهل بعد هذا كلّه إلّا أن نقول : إنّ الدين هو الراحة الكبرى والنعمة العظمى وأعظم لوازم الإنسانية وأهمّ ما يجب للطباع البشرية ؟ !
هل إلّا أن نقول : إنّ الأديان سياج العمران وحصن الحياة ومعقل الأُمم، وأنّ الحياة لا تطيب لأحد إلّا به، ولو قبض السماوات بيمينه والأرض بشماله لما
ص: 193
أغناه ذلك عن الدين شيئاً، وإن قبض على الدين فقد قبض على راحة الأبد وسعادة النشأتين ولو كان في أنياب الفقر وبين لهوات البلاء ؟ !
هل من دافع للنفوس إلى مآزق الحروب ومضائق الحتوف ومتكاثف الصفوف في سبيل الدفاع والجهاد لحفظ الكيان إلّا الأديان؟!
فإلى الدين إلى الدين أيّها الملوك والسلاطين والبؤساء والمساكين، وإلى الانتحار إلى الانتحار يا عبّاد السديم والبخار !
5 - إنّ من تلك الضروريات الأوّلية والغرائز الطبيعية التي وجدت مع الإنسان لحكمة وغاية، وجدت مع الإنسان ليستدلّ ويعرف ويرقى ويستكمل، إنّ من أعظمها لصوقاً بالعقل ورسوخاً بالنفس أنّ الصدفة والاتّفاق وأخواتها مضلّة عمياء ومجهلة خرقاء وشيء مستحيل باطل الذات لو تصوّر كنهه وتغلغل النظر إلى أقصى مغزاه ومعناه .
إنّ الصدفة بمعنى : أن يحصل الفعل من دون عناية الفاعل به وقصده إليه ، هو مساوق لكون الفعل بلا فاعل ، والأثر بلا مؤثّر ، والحادث بلا محدث.
واستحالة هذه كاستحالة كون الواحد ضعف الاثنين، والجزء أعظم من الكلّ، فإنّ معنى الفعل : كونه أثر الفاعل، ومعنى الأثر كونه نعت المؤثّر، ومعنى الاثنين : كونهما تكرار الواحد مرّتين، وهكذا.
فالقول بأنّ الفعل قد حصل بلا فاعل مناقضة وإحالة، أساطير أحلام وسمادير أوهام، كالقول بأنّ الشيء موجود معدوم مع تمام الجهات في الوحدة .
فالصدفة إذاً بهذا المعنى باطلة مستحيلة بأوّل الفطريات والقرائح.
ص: 194
أمّا هي بمعنى : فعل الفاعل المقتدر شيئاً على خلاف ما جرت به نوامیس العادة وطباع الكون بحيث كان من المستحيل عادةً ثمّ عني بإيجاده كذلك لحكمة دعت إليه من إعجاز أو عظة أو انتقام أو غيره، فذلك ممكن واقع محسوس مشاهد.
ولكن ليس هو بالذي يذهب إليه عبّاد الطبيعة وحملة عرش المادّة.
فحديث الصدفة إذاً ضلال والاتّفاق بذلك المعنى ممتنع محال . إنّ من المدهش الغريب والعجب الذي يهون عنده كلّ عجيب أنّك تجد كلّ أحد لو دخل إلى أيّ عمارة أو دار أو شاهد أيّ أثر من الآثار في هذا الكون لا يشكّ أنّ لذلك البناء بان ولتلك العمارة عمّار ولذلك الزرع زارع ولهذه الصنائع صانع، بحيث لو قلت له : إنّ هذه الدار وجدت من نفسها هكذا أو أوجدتها الطبيعة وأحدثتها المادّة، لاستوخم عقلك واستوباً قولك وعدّه من السخف والترهات فطرةً من نفسه وغريزةً من ذاته، لم يستفدها من معلّم، ولا اكتسبها من مكتب أو مدرسة.
إذا قلت له : قد كوّنته الطبيعة، يقول لك:
وقالوا: الطبيعة مبدِئ الكيان *** ويا ليت شعري ما هي الطبيعة؟!
أقادرةٌ طبعت نفسها *** على ذاك أم ليس بالمستطيعة؟!
ثمّ يجي أُولئك الزعانفة المدّعون مقاماً من العلم والفلسفة، فيحكمون على كلّية هذا العالم البديع الصنع الذي تخطف أشعّته الأبصار وتبهر حكمته العقول العالم الذي يحتوي على كائن صغير مثل الإنسان، وما أكبره الذي ملأت فيه علماء التشريح القماطير(1)، وما جاؤوا منه إلّا بقليل من كثير، وما
ص: 195
خفي عليهم بعد أعظم ..
يحكمون على ذلك كلّه بأنّه وجد صدفة(1)، وما هي - يا ترى - هذه الصدفة؟!
هل هي سوى تلك الكلمة الفارغة التي عرفت أنّها لا تقع إلّا على معنى مستحيل باطل الحقيقة والذات، يحكم عليه بالصدفة التي لا يحكم بها على أقلّ موجودات هذا الكون من عمارة دار أو غرس شجرة أو نتيجة صناعة .
ثمّ قل لهؤلاء الذين يزعمون أنّهم حلفاء العلم الناهجون على أمثلته المدّعون أنّهم لا يسيرون إلّا على مناره وأنواره، سلهم : أيّ دليل لكم على هذا الحكم والزعم بأنّ العالم قد وجد صدفة ، أو لعلّما كانت هوساتكم هذه كوجوداتكم بزعمكم صدفة ، وحياتكم كموتكم صدفة ، ودخولكم جهنّم - إن شاء الله - صدفة! ويا حبّذا لو خرستم صدفة، وعميتم صدفة، وكنتم تركتم الناس على مبادئها الصحيحة وأديانها الحقّة صدفة !!
ولا سبيل لكم إلى دفع شيء من ذلك؛ إذ العالم كلّه عندكم صدفة في صدفة !!
حقّ للعلم أن يرثى وللمعارف أن تقام لها المآتم ويبكي عليها الباكون إن كان هذا سبيل العلم وتلك غاية المعرفة!
إنّ أوّل من تنسب إليه هذه المقالة من الفلاسفة الأقدمين (ديموكريت)(2)وفي لسان حكماء العرب (ذيمقراطيس) المولود قبل الميلاد بأربعة قرون(3).
ص: 196
على أنّ صدر المتالّهين في (الأسفار) - لحسن ظنّه بعامّة الحكماء وتنزيههم عن مثل هذه السخافات والخرافات ومصادمة ضرورة العقول التي هي مبادئهم وعليها ابتناء كافّة علومهم - قد أوّل كلامه، وأخرجه من ظلمة التعطيل إلى أظلّة التوحيد، وجعله من أكبر الموحّدين(1).
وعلى أيّ حال، فلو كان العلم بالرجال لا بالبرهان والاستدلال لعددنا في قبالة هذا آلاف الملايين من عيون الرجال وأجلّة الأكابر والمشاهير.
6 - إنّ من القواعد والمبادئ المقرّرة في العقول الثابتة في النفوس التي هي من غزائزها الأوّلية وفطرتها الطبيعية ، وكفى بالامتحان والتجارب شاهد صدق عليها، ألا وهي ما قرّرته الحكماء من : (أنّ معطي الشيء لا يكون فاقد الشيء،
ص: 197
كما أنّ فاقد الشيء لا يكون معطي الشيء)(1).
وهذه القاعدة من المسجّلات في الكون واللزوميات التي ما انتقضت ولا تخلّفت أبداً.
أفهل ترى أنّ فاقد التربية يكون مربياً، والجاهل يصبح معلّماً، والبائس العادم لقيراط يبذل قنطاراً؟!
كلّا، إنّ هذه القاعدة ما انتقضت، ولن تنتقض أبداً، إلّا في الطبيعة العمياء الخرساء الصمّاء العديمة لكلّ كمال الواجدة لكلّ نقص.
ولكنّها - مع كلّ فقرها هذا وعوزها من الإدراك والشعور - أوجدت مثل : (الدارونيّين) ذوى المدارك العالية والوجدانات الصحيحة والفلسفة الباهرة فللّه درّ الطبيعة ما أقدرها وأبهرها وأسخاها وأكرمها ! تجود على غيرها بما لا تجود به على نفسها، وتؤتي (الداروني) عبدها ممّا ليس عندها!
7 - إنّ الميزان في تمييز البديهي عن النظري هو كون الحكم في القضية نفس تصوّره، وتصوّر طرفيه كافٍ في التصديق والجزم به من دون حاجة إلى توسیط دلیل وبرهان أو ردّه إلى شيء آخر.
وذلك ككون الواحد نصف الاثنين، فإنّ تصوّر معنى الواحد والاثنين كافٍ في الحكم بكون هذا نصف ذاك مع تصوّر معنى النصف، ولا حاجة إلى الاستدلال على هذه الجملة ، بل لا دليل عليها سوى نفسها.
ص: 198
وهكذا سائر البديهات الأولى، كمثل : كون الجزء أعظم من الكلّ، وأنّ النار مضيئة، والشمس مشرقة، والإنسان حسّاس مدرك، والشجر جسم نامٍ، وما أشبه هذا.
أمّا النظري فما لا يكون كذلك ، مثل : أنّ النفس من المجرّدات ، وأنّ المجرّدات يستحيل عليها الفناء وبطلان الذات، وأنّ واجب الوجود كلّي منحصر في فرد ، ويستحيل عليه الإثنينية والتعدّد، إلى كثير من أمثالها ممّا تشاجرت فيه ذوو الألباب وقام النزاع فيه بينهم على ساق(1).
8 - إنّ شبهة التسلسل - وهو : أنّ كلّ لاحق معلول لسابقه إلى غير النهاية فكلّ معلول علّة وكلّ علّة معلول - قد دُحضت ودُحرت منذ عهد بعيد، بحيث لم يبق فيها مجال لخيال .
حتّى إنّ متفلسفة هذه العصور الأخيرة من (الدارونية) أو إخوان القرود ذهبوا من الخزعبلات كلّ مذهب، سوى أنّهم عافوا الإلمام بهذه السفسطة وتباعدوا عن الاقتحام في عمياء هذه المغلطة ؛ لشدّة اتّضاح حالها من الفساد.
وإن طلبت المزيد على ذلك من الإشارة إلى موجز الدليل على دحضها فناهيك بالبرهان الأسدّ الأخصر، وزبدة مخضه : أنّ سلسلة العلل والمعلولات لو تسلسلت ولم يكن فيها واجب بالذات هو علّة غير معلول للزم أن لا يوجد شيء، فإنّ العقل ينظر نظراً واحداً إلى جميع تلك السلسلة على عدم تناهيها ، ويحكم
ص: 199
بأنّ الجميع إمّا أن تكون ممكنة بالذات جميعاً ، أو فيها واجب على تلك الصفة من العّلية وعدم المعلولية.
وعلى الأوّل يلزم أن لا يوجد شيء منها؛ لأنّ الممكن من مقتضى طباعه أنّه لا يوجد من ذاته ولا يترجّح من قبل نفسه، بل لابدّ له من مرجّح خارج عن تلك السلسلة - أعني : سلسلة الممكنات - وحيث لا مرجّح خارج - لتساوي الجميع بالإمكان - فلا شيء منها بموجود ، وهو باطل بالحسّ والضرورة.
وعلى الثاني فهو العلّة، وكلّ السلسلة معلولة له.
وأوضح منه بطلان احتمال الدور؛ فإنّ المعدوم لا يؤثّر في نفسه ولا في غيره.
وسيأتي لهذا كلّه زيادة توضيح فيما يلي إن شاء الله(1).
ثمّ حيث توطّدت هذه المبادئ وتمهّدت هذه المقدّمات، فقد انثلّت عروش الإلحاد، وتهاوت على أهلها صروح الزندقة، وتداعت أركان دعاة التعطيل لو كان لها من أركان.
ونحن إبانةً للحقّ وإماتةً للباطل وإصراراً على تجلّى الحقيقة ووضوح شاكلة الصواب نبتني على تلك الأسس الرصينة والدعائم المحكمة التي شهدت بها ضرورة العقول وأوائل الغرائز وجذع القرائح فضلاً عن قوارحها(2)، نبتني عليها ما يلقى الله علينا ويفتح لنا من أبواب الدليل والبرهان على هذا الموضوع
ونقول :
ص: 200
إنّ دائرة الخلاف بيننا وبين المعطلة تستدير على محور واحد كما سبق (1)، وهو : أنّ مبدأ العالم ومصدره هل هو قوّة جسمانية عمياء صمّاء خرقاء لا إدراك لها ولا شعور منغمسة في الظلمة عديمة النور ، أم هي قوّة عقلانية روحية مجرّدة أزلية قديمة عالمة حكيمة نورانية صمدانية مقدّسة عن كلّ شيء من التغيّر والتبدّل والحلول والتحوّل واجدة لكلّ صفة من صفات الكمال موجدّة إيّاه في غيرها : «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(2)؟
أمّا لو افترضنا تلك القوّة كما يقولون - عديمة الشعور فيستحيل أن تكون هي التي كوّنت هذه الكائنات الجارية على أبدع النواميس وأتقن الحكمة ؛ لما عرفت من أنّ الفاقد لا يكون معطياً، وصانع السرير ما لم تحصل صورته في ذهنه يستحيل أن يوجده.
وكأنّ هذه النظرية الفطرية مرتكزة في النفوس ارتكازاً لم يدع لها فسحة في الخروج بتاتاً وجهاراً.
فلذلك تجد المادّيين لمّا جعلوا التكوين مستنداً لتك المادّة - وهي على ذلك الحال من العوز والفاقة - جعلوا يتطلّبون المخرج من هذا الحرج والمضيق، فصاروا يتشبّثون بالخزعبلات والأوهام :
فتارةً يقولون : إنّ تكوين هذه العوالم من تلك المادّة العمياء إنّما كان
ص: 201
بالصدفة والاتّفاق، لا بالقصد والاختيار والشعور والإدراك((1).
ولكنّي لا أزيدك بياناً على ما سبق في أمر الصدفة وبيان مكانها من الفساد والبطلان(2).
وحيث تجلّى فساد هذه المضلّة لآخرين، تملّصوا عنها وحسبوا أنّهم بلغوا المقام السامي من الفلسفة والعلم، وقالوا : إنّ ارتقاء الكون إلى الحدّ الذي هو عليه الآن إنّما هو بالانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأصلح ، أو تفاعل العناصر وتركّبها على الأنحاء المخصوصة (3)، وما أشبه ذلك من الألفاظ الفارغة عن كلّ معنى محصّل صريح أو مأوّل ، خبط عشواء في غارة شعواء(4)!
ليت شعري ألا سائل يسألهم : ما هو الانتخاب الطبيعي ؟ ومن هو ؟ ومن أين جاء ؟ وممّ تكوّن ؟ ومن كوّنه ؟ وهل المنتخب هو تلك القوّة المجرّدة الروحية التي نذهب إليها ، فيا حبّذا الوفاق ! أو تلك المادّة العمياء ، فقد خُرتم أيّ خوار ، وعدتم إلى ما كنتم عليه ، ودرتم دور الحمار في الطاحونة ، يسري في نهاره طول زمانه وهو لم يخرج من دائرة مكانه !!
سلهم : أيّهم بذلك زعيم(5)؟
سلهم : من المنتخب لذلك الانتخاب الطبيعي ؟ أهي نفس الطبيعة العمياء انتخبت نفسها، وعملت في ذاتها، وأصلحت مواليدها ، وخرقت في ذلك
ص: 202
نواميس القواعد البديهية من أنّ الشيء الواحد البسيط لا يكون فاعلاً ومنفعلاً ولا مؤثّراً ومتأثّراً؟!
نعم، المركّب قد يؤثّر بعضه في بعض كالإنسان ، على أنّ الفاعل والقابل فيه وفي سائر المركّبات شيئان، كما لا يخفى .
ثمّ كيف أصلحت وهي غير صالحة، وأوجدت وهي غير واجدة، وهذّبت وهي غير مهذّبة، وانتخبت وهى المنتخَبة؟!
سلهم، ولا أحسبك تجد سوى السكوت جواباً منهم ، أو إعادة نفس المدّعى وترديد تلك الألفاظ : الانتخاب الطبيعي، بقاء الأصلح ، قوّة الجذب والدفع ، وهلمّ جرّاً على هذا المجرى من الجعجعة التافهة والعبارات الفارغة!
لا أقول : إنّها فارغة بتاتاً خالية تماماً، ولكن الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح أو تفاعل العناصر أو كلّ ما هو من سبيل الطبيعيات ، كلّ ذلك - حقّاً كان أم باطلاً صحيحاً في واقعه أم فاسداً على كلّ الفروض والأحوال - لا ربط له ولا علاقة ولا مسيس ولا دخالة فى أنّ تلك المادّة لا موجد لها ولا مؤثّر فيها، وأنّ ذلك الانتخاب الذي لو كنّا نحسّ به ونراه والنشوء والارتقاء الذي لو سلّم في كلّ الكوائن سيره ومجراه لم يكن فيه دلالة على أن ليس له مُنتَخِب ولا وراءه مدبّر سوى نفسه ، ولا أنّ المادّة هي المدبّرة وهي المنتخبة في مواليدها والمؤثّرة. كلّ تلك الأُمور الطبيعية بمعزل عن تعيين هذه الجهات الإلهية.
الطبيعي يبحث عن خواصّ المادّة وآثارها وتراكيبها .. الطبيعي يبحث عمّا بعد الطبيعة وبعد تحقّق وجودها، لا عن ما قبل الطبيعة ، وما قبل وجودها، وعمّن أوجدها.
والغرض أنّ مباحث الطبيعيات لا ربط لها أبداً بالإلهيات، ولكن هذا
ص: 203
الخلط أدّى إلى ذلك الخبط، وهذا الغلط أنتج ذلك الشطط.
يقول المادّيون : (أزليان متلازمان : القوّة والمادّة، فلا مادّة بلا قوّة، ولا قوّة بلا مادّة)(1).
فكأيّن من قائل لهم : إن أردتم بالأزلي : ما لا أوّل لوجوده وما لم يسبق بالعدم والذي لم يقف العلم والتاريخ والفحص والطلب على بدايته وأوّل حدوثه، فذاك شيء ربّما لا ندافعكم عنه ولا نعارضكم فيه؛ فإنّه لا يصدم ما نحن بصدده من إثبات تلك القوّة المجرّدة التي هي مصدر كلّ قوّة ومنبع كلّ إفاضة.
ومن يدّعيه لا يدّعي أكثر من أنّ العقل يحكم - بما لديه من المبادئ الموطّدة والمقدّمات الممهّدة - أنّ لها أوّلاً وإن كان غير محدود ولا معدود، لا نحدّه بالزمان والأعوام ولا نعدّه بالليالي والأيّام، كيف! والزمان متأخّر عنه بمراتب.
وإن أردتم بالأزلية الوجوب الذاتي وعدم المعلولية ، فهذا هو الخلاف الجوهري فيما بيننا .
وعليه، فنسألكم: هل القوّة بذاتها وفعلها غنية عن المادّة، والمادّة كذلك غنية عن القوّة، أم كل محتاج إلى قرينه متوقّف الوجود والتأثير على اقترانه بشقيقه؟
فإن كان كلُّ مستغنياً عن الآخر فما بال القوّة لم توجد أبداً منفصلة عن
ص: 204
المادّة منفكّة عن الافتقار والحاجة ؟! ما بالها لا توجد من سنخها قوّة مجرّدة ولا تؤثّر أثراً منفرداً منفكّاً عن الطبيعة ، كما يقوله الإلهيون المتمسّكون بالمجرّدات عن المادّيات التي هي من فيض تلك القوّة التي يدينون بها ويألهون إليها، ويرون - وحقّاً ما يرون - أنّ جميع العوالم (عوالم الغيب والشهادة) كلّها رشحة من رشحاتها ونفحة من نفحاتها ولمحة من قبساتها(1)؟!
وإن كان الحال على العكس من ذلك، بأن كان كلٌّ من المادّة والقوّة محتاجاً في وجوده وتأثيره إلى الآخر منوطاً به مفتقراً إليه فهما - لا محالة - ممكنان؛ إذكلّ محتاج ممكن ، وكلّ ممكن محتاج في حدوث وجوده وبقائه إلى علّة، كاحتياجه إليها في ربطه بمثله وتركيبه مع غيره، وتلك العلّة إمّا هي نفس المادّة والقوّة لولا أنّ المعدوم لا يؤثّر شيئاً لا في نفسه ولا في غيره، فكيف يؤثّر في إيجاد ذاته؟! فلا محالة علّتهما سواهما لا أنفسهما.
والكلام في تلك العلّة جارٍ بمثل ما ذكرناه فيهما، فإمّا أن ينتهي الأمر إلى قوّة مجرّدة قائمة بنفسها غنية بذاتها قيُومة على كلّ شيء، وعند ذا يسكن الجأش وتطمأنّ النفس ويرتاح العقل من عناء السؤال وتعب الطلب ، أو لا. وعليه ، فيبقى السؤال متسلسلاً والطلب متتابعاً والعقل حيراناً مدلّها، أو يضغط المادّيون عليه ويأخذون منه بالمخنق قائلين له : اقتنع بالمادة وتعبّد بهذه الغاية واخضع لهذه الآلهة طوعاً أو كرهاً، فإنها هي التي جعلتك إنساناً وسوّتك رجلاً!
لا يا هؤلاء، كلّ شيء يمكن الضغط عليه ولا يتعذّر خنقه، إلّا العقول، فإنّ
ص: 205
هذا الهيكل الإنساني إذا تعلّقت به تلك الذبالة الإلهية استحال إغواؤه بالباطل وإقناعه بالتمويهات دون الحقيقة، وإنّما استغوت شياطينكم البسطاء وضعفاء العقول ممّن لم تكمل بعدُ فيه تلك الغريزة ولا تحيّزت إلى كمال الاستقلال به تلك النحيزة(1)، فاختطفتهم أوهامكم وعلقت بهم حبائلكم، فأرديتموهم كما تردّيتم وأسقطتموهم إلى حيث سقطتم!
فوا حسرةً على العباد الذين أغويتموهم! بل واحسرةً عليكم أيّها المادّيون والدارونيّون! يا حسرة على شريف نسب أضعتموه ورفيع أصل وضعتموه، فجعلتم بينكم وبين القردة نسباً، والّفتم بين الكلاب والشمبانزي وأُخوتها وبينكم رحماً أو أصر قربى ووشائج أرحام مع أخسّ الوحوش وأسفل الهوام!
اخسأ لها من نفوس سافلة، وأبخس فيها من همم ساقطة، أسفت أن لا تشارك البهائم في انتكاس رؤوسها ومحدودية عقولها ونفوسها، فألحقت آباءها بتلك السلائل وتقرّبت إليها بأخس الوسائل!
نعم، وما هي - لولا الأشكال والصور - منها ببعيد .
جنّب - يا هذا - ريشة يراعك النقية عن هذه الأوحال، ونزّه أطلس طرسك الأغرّ عن هاتيك المقاذير، فليست العناية مصروفة إلى تصفية ذلك التعكير ولا الرغبة مسوقة إلى إبانة الكدر فيها من النمير.
وإنّما الغرض الوحيد هنا هو إثبات تلك القوّة المقدّسة عن لوثة المادّة وتراكيب الطبيعة وخسّة النقص والحاجة وسفلة الخلق والإمكان.
ص: 206
إنّ تلك البرهنة التي تقدّمت من كتب آخذة من الحقيقة بكلّ سبب ونسب، تلك وإن كانت محكمة الأُصول وطيدة المباني سامقة (1)المعاني مدرّعة بكلّ منعة وحصانة عن كلّ نقض وخلل، لكن ربّما لا تروق للطبيعي، فلا يصغي لها أذناً ولا يفتح إليها من البصيرة - لو كانت له - عيناً، وذلك لابتنائها على بعض مصطلحات الفلسفة الإلهية، وهو يعدّ ويفترض الإلهيات وجميع مصطلحاتها أوهاماً في أوهام.
على أن ليس في برهنتنا تلك ممّا يظنّ أنّه من ذلك القبيل سوى لفظي الممكن والواجب، وهي حقائق راهنة ومفاهيم عامّة ومعانٍ في ذاتها متأصّلة، لا علاقة لها باصطلاح قوم دون قوم، ولا تبتني على تواضع طائفة دون طائفة، بل هي كالألفاظ التي تدلّ على سائر الحقائق.
ومداليل الواجب والممكن المقصودة في الأقيسة والبراهين هي معانيها الذاتية الجلية لدى كلّ متصوّر ، ولا سيما بعد أدنى بيان ؛ إذ هي بمكان من البساطة والتباعد عن الغموض والتقعير .
بيد أنّنا تجافياً عن تلك المزعمة وحذراً من التشبّث بهذه التعلّة الواهية نسدّد له برهنة لا تبتني على شيء من ذلك، وندمغه بحجّة لو أنّ الثقلين - لا قدّر الله - أصبحوا مادّيين ودراونة وتألّبوا بالمظاهرة والمعاونة على أن يلتمسوا له حلّاً أو يهدموا منه أصلاً أو يسدّوا له باباً أو يجدوا عنده آخر الأمر سوى
ص: 207
السكوت جواباً، لضاقوا فكراً وقصروا يداً، ولوجدوا التعلّق بحبال الش- أقرب إليهم أمداً!
برهنةً تجسّم لك الحقيقة، حتّى كأنّك تمسّها بكفّك، وترمقها بطرفك ، وتتجلّى لك من ستّ جهاتك وعشر حواسّك .
على أنّها من البساطة والسهولة بحيث ينالها من أمم(1) الأُمِّي فضلاً عن الإمام، والعامّي فضلاً عن العالم.
أنا لا أريد أن أتمسّك بأذيال (الإسبر تزم) وأتشبّث بأسلاك أوهام (الأنبوتزم) و (المانيتزم)(2).
وسواء كانت هذه المزاعم حقيقة أو وهماً باطلاً أم حقّاً، فإنّ الأمر أجلى من أن يستدلّ عليه بهذه الملتويات المعقّدة والظلمات المشتبهة، والحقيقة أجلّ من أن يستدلّ عليها بالباطل أو الأُمور المجهولة الحقيقة : «أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(3).
ولكنّي أقول : يا ذا المبدأ ويا أخا اليقين ويا صاحب الدين، إذا قذفتك أعاصير الدهر وزوابع الحدثان بأحد أولئك الطغمة من صور البشر والجُفاء من أشكال الأنام ، لا واستغفر الله ، بل أحد إخوان الخنازير وأبناء القردة
ص: 208
والشمبانزي (كما يزعمون هم عن أنفسهم)، وامتهنتك الصروف والمحن بالخصام معه وتسجيل الحجّة عليه في صحّة مبدئك، فسله سؤالاً لا تجد أنت ولا هو أبسط منه ، وقل له :
يا هذا، أتفرّق بين الوجود والعدم وتميّز بين الموجود والمعدوم ، أم لا ميزة بينهما عندك ولا مغايرة فيهما لديك؟
فإن قال : نعم، الفرق جلي بينهما والتغاير بديهي فيهما، وكيف يغيب على الإنسان ما لا يغيب عن أخسّ الحيوانات بتمام أنواعها وأصنافها؟!
فقل له : هذه الأشياء الكونية التي تمسّها يدك وتبصرها عينك من قريب وبعيد وحادث وتليد وكلّ ما تحسّ به عيناً أو ذهناً، هل هي موجودة، أو معدومة؟
لا محالة هي موجودة.
فهل هي نفس حقيقة الوجود وعين ذاته، أو حقائق مختلفة الذوات والوجود أمر وراء حقيقتها ، وهو وصف طارٍ عليها مشترك بينها؟
لا محالة أنّها ليست نفس حقيقة الوجود، وإلّا لكانت جميع الموجودات حقيقة واحدة ذات أثر واحد وخواصٍّ متّفقة، وهو خلاف المحسوس بالضرورة، فهي إذاً سوى حقيقة الوجود، ولكنّها متّصفة به ثابتة بثبوته، وهو في نفس ذاته زائد عليها عارض لها.
وعليه، فمن أين عرضت لها هذه الصفة؟ ومن ذا الذي أفاض عليها تلك الصبغة؟ من ذا أوجد هاتيك الحقائق ؟ أهي أنفسها أوجدت أنفسها ؟ فيكون المعدوم قد أوجد نفسه حين لا حظّ له من الوجود، أم المادّة أوجدتها؟
والسؤال بعينه جارٍ فيها : أهي نفس الوجود، أم شيء موجود؟
ص: 209
والثاني هو الجواب لا محالة.
إذاً فهل من سبيل - بعد هذا السبر والاستقراء والجولان العقلى والحركة الفكرية - إلّا إلى الخضوع والإذعان بأنّ هناك قوّة فعّالة وراء المادّة وجميع المادّيات؟!
وتلك القوّة هي روحية محضة لا اقتران لها بالمادّة ولا بغيرها من أيّ شيء يفترض، أعني : أنّها وجود صرف لا تركيب فيها أبداً، حتّى لا يبقى مجال سؤال عند العقل عن سبب التركيب والانظمام فيه مع غيره، ولا يفترض فيه انفكاك الوجود حتّى يقال : من أوجدها ؛ إذ بعد أن كان هو نفس حقيقة الوجود لم يعقل انفكاكه عن نفسه حتّى يتطلّب العقل الوصول إلى موجده والوقوف على علّته ، وإيجاد الموجود ممتنع ، فكيف بإيجاد ذات الوجود؟!
وهذا البرهان - بعد الاعتراف بأنّ هذه الكائنات حقائق موجودة - بسيطٌ جداً.
أمّا لو قال المماحك(1): إنّي لا أُفرّق حتّى ولا بين الوجود والعدم ولا الموجود والمعدوم، فإن كان ممّن لا يعنيك أمره ولا سبيل لك عليه فدعه ورأيه، واتركه وشأنه، وقل كلمتك وامش ، وابذل له ما عندك وامض ، وإن كنت معنياً بأمره قميناً بتربيته مؤاخذاً بفساده مدفوعاً إلى صلاحه فابسط كفّك عند قوله : لا أُفرّق بين الموجود والمعدوم، واضرب بها جلدة وجهه ضربة منكرة ! فإذا
ص: 210
امتعض وامتقع، فقل له : ما عراك وما دهاك؟! وهل وجود الضربة وعدمها عندك إلّا سواء ؟ ! اضربه ولا تبالي واصفعه ولا تمالي ، أجلده ولا تأخذك به رأفة في دین الله ! اضربه وأنا الضمين لك أنّها ستكون هي الضربة القاضية على أُمّ جهله وخانقة عقله وسوس وسوسته ! هي الضربة القاضية على سفسطته التي لا يفرّق بها بين الموجود والمعدوم، فيسدّ على نفسه باب كلّ علم وسبيل كلّ معرفة ؛ إذ النظريات كلّها - كما علمت - لابدّ وأن تنتهي إلى البديهيات وأجلى البدائه، وأوّلها وأولاها بالرسوخ والاعتماد هي تلك الجلية، بل هي أوّل حجر وضعته العناية للإنسان في أساس علومه ومعارفه وابتناء نظرياته.
قال بعض أكابر الإلهيّين - في آخر كلام له عقده لبيان الفرق بين الحقّ والباطل وشرح معانيهما - ما هو ذا :
(وأحقّ الأقاويل ما كان صدقه دائماً، وأحقّ من ذلك ما كان صدقه أوّلياً، وأوّل الأقاويل الحقّة الأوّلية الذي إنكاره مبنى كلّ سفسطة هو القول : بأنّه لا واسطة بين الإيجاب والسلب، فإنّه إليه تنتهى جميع الأقاويل عند التحليل، وإنكاره إنكار لجميع المقدّمات والنتائج)(1).
ثمّ ذكر كلاماً للشيخ الرئيس عن السوفسطائية، والإزراء عليهم ، وكيف ينبغي أن يكون الحوار معهم
قال في آخره: (فإن اعترفوا بأنّهم شاكّون أو منكرون أو أنّهم يعلمون شيئاً معيّناً من الأشياء ، فقد اعترفوا بعلم ما وحقٌّ ما، وإن قالوا : إنّا لا نفهم شيئاً أبداً، ولا نفهم أنّا لا نفهم، ونشكّ في جميع الأشياء حتّى في وجودنا وعدمنا، ونشكّ
ص: 211
حتّى في شكنا أيضاً، وننكر جميع الأشياء حتّى إنكارنا لها أيضاً، ولعلّ هذا ممّا يتلفّظ به لسانهم معاندین، فسقط الاحتجاج معهم ، ولا يرجى استرشادهم وليس علاجهم إلّا أن يكلّفوا بدخول النار ؛ إذ النار واللانار واحد ، ويضربوا ؛ فإنّ الألم واللا ألم واحد) (1)انتهى نصّه.
والغرض أنّ أساسية التمييز بين الوجود والعدم هي أوّل الأوائل وأساس النظريات وأجلى البديهيات، وبها يتوصّل إلى ما يشاء من الغايات وما تشاء له العناية، وقد عرفت كيف التوصّل بها إلى قطع ألسنة المادّيين وإفحامهم وإزاحة بلية تشكيكاتهم وأوهامهم.
وبعد هذا كلّه، فمن تجده أقوم حجّة، وأعدل محجّة، وأسدّ برهاناً، وأشدّ أركاناً، وأدنى من الحقّ، وأبعد عن الإفك والباطل ؟! ومن تراه أولى بأن يُنحى عليه باللائمة ، ويقال له :
أيّ داءٍ أصاب عقلك يا مسكين *** حتّى رميتَ بالوسواس؟ الملحدُ حيث يقوله للموحّد، أم الموحّد حيث يعكس عليه قوله،
ويقول له :
أيّ خبل أصاب عقلك ياماً *** فون حتّى وقعتَ بالإلحاد؟!
ولكنّي مزيداً في الاستظهار وتأكيداً للحجّة والبرهان استطرد القول هنا في أُمور عسى أن تكون معينة على جلاء الحقيقة وإيضاح ما قدّمناه من الصواب
ص: 212
للألبّاء وذوي الأفكار النافذة والقرائح القويمة إن شاء الله :
الأوّل : أنّ اليقين بوجود قوّة مجرّدة عن المادّة هي مبدأ الكلّ وإليها ينتهي الكلّ - وهي الإله - مساوق ومقترن أشدّ الاقتران لليقين بوجود جوهر مجرّد في الإنسان سوى أعضائه الجسدية ودقائقه المادّية ، وهي (النفس) و(الروح).
وهاتان العقيدتان الجوهريتان اللتان هما الأساس والينبوع لكلّ شرف وسعادة والوازعان عن كلّ شرِّ وشقاء متلازمتان أقوى التلازم مرتبطتان بأوثق عرى الربط.
والماديون المعطّلون لمّا جحدوا الصانع وأنكروه وغمطوا الحقّ وكفروه اضطرّوا - ولا جرم - إلى إنكار النفس والروح وأن يكون في الإنسان شيء سوى هذا الهيكل المحسوس والبنية المشاهدة زاعمين - ضلّت مزاعمهم - أنّ ما يصدر من الإنسان من الحركات الفكرية والتجوّلات النظرية وسائر الإحساسات ليس هو إلّا من وظائف المادّة ومقتضيات هذا المزاج والتركيب ، فهو في ذلك كأصناف النبات وأنواع الحيوانات، أو لعلّه على نواميس الارتقاء قد صار أكمل منها(1).
فليس في الوجود - حسب فلسفتهم سوى المادّة والقوّة، والقوّة مضطرّة على العمل بلا اختيار والعالم أزلي متحرّك بالطبع، وفيه مبدأ حركة ذاتية تنشأ هذه الصوادر والمظاهر عنها.
والإله (معاذ الله) والنفس والروح كلّها - على آرائهم - صور خيالية لا
ص: 213
حقيقة لها ، بل اخترعته المتخيّلة اضطراراً كسائر الموهومات، فعبدتها الناس واتّخذتها آلهة، ولكنّها - بتقدّم العلم - سوف تزول شيئا فشيئاً.
هذه فلسفتهم وذاك علمهم.
عفاً على العلم والفلسفة إن كان هذا سبيلها وتلك نتائجها !
والغرض أنّ الاعتقاد بالروح المجرّدة متاخم ومتآخ مع الاعتقاد بالإله نفياً وإثباتاً وسلباً وإيجاباً.
والله (جلّت عظمته) أنبأ عن ذلك في صادع وحيه ومعجز فرقانه ، حيث حكى عن أهل الفسوق والخطايا ومجترحى السيّئات بقوله : «نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ»(1).
والمادّيون بهذا النسق، ولذلك السبب جحدوا الله ، فجحدوا أنفسهم.
وعن طرد هذه الجملة أنبأ خاتم النبوّة في جوامع كلمه، حيث يقول (صلوات الله عليه) : «من عرف نفسه عرف ربّه»(2)، «اعرف نفسك - يا إنسان - تعرف ربّك»(3).
والاعتراف بوجود مجرّد حادث بالضرورة يضطرّ إلى الإذعان بوجود مجرّد قديم، والبرهنة عليه جليّة .
ولكن الشأن كلّه في وضع المقدّم، أعني: ثبوت النفس المجرّدة.
ومن هنا سلك جمع من الإلهيّين إلى إثبات القوّة المدبّرة للعالم المجرّدة
ص: 214
عن المادّة من طريق إثبات الروح والنفس(1).
ونهض خلف لهم في هذه العصور حاول إثبات المجرّدات الروحية على سبيل الإلزام من طريق (الما ينتيزم)، و (الإبنوتزم) : التنويم المغناطي، و (الإسبرتزم) : استحضار الأرواح، ونظائر ذلك(2).
والفلاسفة الإلهيّون قديماً وحديثاً كلُّ سلك إلى إثبات الواجب الصانع مسلكاً، وكلّ طائفة نهجت له طريقاً وأخذت إليه سبيلاً.
وكلّ هاتيك الطرق وإن اختلفت مشاربها ومشارعها، ولكنّها تؤدّي إلى غاية واحدة وتنتهي إلى منهل واحد وإن اختلفت في القرب والبعد والظهور والخفاء، ولكن لكلٍّ وجهة صحيحة وطريقة موصلة، و(الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق).
فبعض سلك من الطبيعيّات، وبعض من الرياضيّات، وآخرون من إثبات المجرّدات ، وطائفة من سبيل الحركة والمتحرّكات، وهلمّ جرّاً!
وليس تعدّد هذه الطرق والمسالك إلّا لشدّة جلاء الأمر ووضوحه، بحيث من أيّ طريق سلكت وصلت إليه، ومن أين ما تدلّيت وقعت عليه ، وفي كلّ موجود سبيل إليه ودليل عليه، (وفي كلّ شيء له آية)(3).
بل القول الذي ما عليه من مزيد إنّه أقرب إلى المرء من حبل الوريد.
أمّا طريقتنا التي تقدّمت في إثبات الواجب (جلّ شأنه) فهي سوى تلك الطرق كلّها ، فإنّنا نرى أنّ الواجب (بهرت عظمته) أجلّ وأجلى من أن يُستدلّ
ص: 215
عليه بشيء من مصنوعاته، وأعزّ وأمنع من أن يطلب من سوى ذاته : «يا من دلّ على ذاته بذاته»(1)، «بك عرفتك، وأنت دللتني عليك»(2)، ونرى أنّه (جلّ شأنه) أجلى من كلّ حقيقة، وهو أقرب في الإيصال إلى نفسه المقدّسة من كلّ طريقة، وأنّه إنّما خفى لشدّة ظهوره، وإنّما عميت عنه العيون لعجزها عن مقاومة ساطع نوره (3).
ولذلك سلكنا إليه من طريق الحكمة المتعالية والفلسفة السامية، وهى طريقة الوجود التي هي من أمتن الطرق وأسهلها وأسلّها لوسوسة الإلحاد وسفسطة الزنادقة وتشكيكاتهم في أجلى الحقائق .
أمّا البحث عن الروح المجرّدة الجزئية وإثبات النفس فقد أرجأنا الخوض فيه على تخوم ما ينبغي له إلى آخر أجزاء هذه الدعوة - أعني : جزء المعاد وجعلنا البحث في النفس أصلاً برأسه، لا واسطة إلى غيره.
وسنسجّل - بعونه (تعالى) - هنالك أنّ النفس هي التي تُدرَك وتُعلم قبل كلّ شيء، بل وهي المدرك والمحسوس بالحواسّ أوّلاً وآخراً، وأنّ المادّة التي يقولون : إنّها هي المشاهدة المحسوسة(4)، لا تحسّ ولا تدرك أبداً، وأنّ المُدرِك
ص: 216
والمُدرَك - حتّى فيما هو المحسوس بالحواسّ الظاهرة من الألوان والطعوم والأشكال والأصوات وغيرها - ما هو إلّا النفس ، كما رمز إلى ذلك أساطين
الحكمة وكبراء العلم والمعرفة والواصلون إلى مراتب النهايات البشرية(1)
وقلّ من اهتدى إلى هذا الرمز أو تعمّق في غوره، وسنشير إليه في مواضع
من دعوتنا هذه.
ولعلّك يكبر في نفسك هذا القول، وتعظم عندك هذه الدعوى .
وحقّاً لك ذلك، وأنت تحسب أنّك لا تسمع ولا ترى حفافيك وحواليك سوى المادّة، وزاد على ذلك أنّ المادّيين قد أشربوا ذهنك أن لا وجود لغيرها وأنّ كلّ شيء خلافها فهو وهم باطل.
ولكن أمهلني رويداً ريثما نبلغ إلى الميعاد بيني وبينك من مباحث المعاد إن شاء الله ، فعسى يتطامن هناك تعاظمك ويسلس جماحك وتلين شدّتك، فانتظر ذلك، وما ثقتي واعتمادي إلّا على من منه مبدأي وإليه معادي.
الثاني : أنّ تلك الطينة السوداء وألعوبة شياطين الأهواء التي سفهت أحلامها وخسرت عقولها وأنكرت صانعها قد عرفت أنّ مزاعمها تلك هوسات خالية ووساوس فارغة، ما تفيّأت ظلّ حجّة، ولا آوت إلى شبح برهان، وما سلكت مسلكاً علميّاً حتّى يهون على أهل العلم الجولان معهم في رهان البحث ومجالدة الجدال، سوى أنّهم باهتوا تلك الحقائق الجلية الراهنة بدعاوى ظنّية
ص: 217
و خیالات وهمية، يريدون أن يقتلعوا بها أهوام تلك الأسس التي يزول الأبد ولا تزول ويبيد الدهر ولا تبيد وهيهات صدع الصبح فحمة الدجى، وهتكت الشمس أستار الظلام.
وكلّما ضربنا الفكر في مزخرفات أقوالهم ومخرفة آرائهم لم نجد فيها ما يمكن أن يلصق به اسم الدليل والحجّة أو ما يوسم به سمة الإقناع والخطابة ، بل وبالأحرى ليس فيها ما يمكن أن يعوّل عليه العقل أو يكون - على الأقل - سبب حيرة له أو موضع صغو إليه.
كلّا، بل جاؤونا بالقحّة والصلف وصلابة الوجه وبذاءة اللسان!
يحسب الملحد (شميّل) وأخوانه أنّه إذا نمّق ألفاظه وزخرف أقواله وسوّد صفحات قراطيسه أو وجهه بسبّ الآلهة والاستهزاء بها، حتّى جرح القلوب وخدش العواطف وأهاج لوعة ملايين من البشر، يحسب أنّه - عند ذلك - قد صار فيلسوفاً وعُدّ حكيماً، وأنّ مجاهرته تلك بتنديد عامّة الأديان والهزء بها ما هي إلّا شجاعة أدبية منه.
وهكذا يحسب جراميزه وجراميقه (1)الذين أعشتهم زبرجة عباراته وقادهم حبّ الشهوات إلى اتّباعه، حيث حبّذ لهم اتّباع الشهوات وطرح نير الدين عن أعناقهم ، فصاروا يرونه ممّن يجاهر برأيه، ويحسبون تلك فضيلة ويعدّونه شجاعاً أدبياً، ويسمّونه (معاذ الله) : حكيماً فيلسوفاً!
عميت عين الأدب وسال ماؤها إن كان هذا هو الأدب ، وغارت ينابيع
ص: 218
الحكمة إن كانت تلك هي الحكمة والفلسفة !
والغرض أن ليس في زخرف تلك الأباطيل ما يستحقّ أن يطلق عليه اسم الحجّة أو الدليل حتّى نصرف إليه العناية أو نستوقف عليه البحث والنظر.
نعم، إنّ عويصة وقوع الشرور في العالم قد ينقدح منها شرر الشكّ في أنفس الضعفاء والقاصرين من الموحّدين، أو يفزع إلى التشبّث في الاستناد إليها بعض الملحدين ، فيتوهّم واهم أو يزعم زاعم أنّ تلك الشرور تنبئ عن عدم مدبّر
حكيم للعالم، وأنّ الأمر في الكون على فوضى الطبيعة وصدف المادّة ..
فإنّ من يسبر أحوال الأمم الغابرة والحاضرة ، بل من يرنو إليهم بمُوق عينه، يجدهم بصفة دائمة ينصبّ عليهم من مارج المصائب والنكبات والمظالم والتعدّيات والشرور والآثام وسفك الدماء وهتك الأعراض لأجل طفيف من الغايات والأغراض ما يودّ الإنسان - من هول تلك المناظر الفظيعة والتصوّرات الهائلة - أن ليت العالم لا كان ولم يكن !
فأيّ عناية في هذا العالم الذي كلّما توسّع أهلوه في ما يسمّونه : (بالمدنية)
ازدادوا في العِداء والهمجية حتّى على النفوس البرية من أبناء جنسهم؟!
وبالجملة : فشرور هذا الكون وشقاؤه وما فيه أهلوه من البلاء الواقع منهم عليهم ، فضلاً عما ينزل بهم من غيرهم من الأوجاع والأسقام والمحن والفقر وضروب الرزايا ، كلّ ذلك ممّا يبعث الحيرة ويقضي بالعجب، ويكاد المتفكّر في هذه العويصة المظلمة أن يخرج من إهابه ، ويستيقن أنّ الأمر على حال من الفوضى وعدم التدبير لا يمكن أن تصفها يراعة البليغ ولا آلة التصوير، فإن كان الإله الذي يدين به الملايين من الملّيين يعلم ويرى ما فيه العالم من ذلك الهرج والمرج وما ارتطم عليه من الشرور والبليّات، فإمّا أن يكون غير قادر على
ص: 219
دفعها، فهو كما لو كان غير عالم بها ليس بإله، وإمّا أن يكون عالماً قادراً على إزاحتها وإراحة العالم منها ، ومع ذلك لا يفعل ، فهو ظالم (معاذ الله) أو بخيل ، والظالم والبخيل لا يصلحان لأدنى ولاية فضلاً عن الربوبية .
فلو كانت الألوهية والوحدانية والعناية والعلم والقدرة والجود حقائق راهنة ونواميس ثابتة لما وقع شيء من الشرور، ولصار العالم وسار على أبدع نسق ونظام، وحيث كان الحال على ضدّ ذلك فبالحري أن يكون من صنع تلك المادّة الخرقاء وأثر الطبيعة الحمقاء الخرساء الصمّاء التي لا عقل ولا نور ولا إحساس [لها] ولا شعور.
وهذا أقصى ما في الوسع من الاحتجاج عن الملحدين وتصوير ما لعلّه يختلج في ضمائرهم أو تبوح به ألسنتهم أو أقلامهم على الجملة أو التفصيل .
ونحن - بعون تلك العناية التي ندين بها ونفزع في كلّ نازلة إليها - نمزّق غيوم ذلك الوهم المتراكم حتّى تتجلّى شمس الحقيقة ناصعة من ورائه، وإليك البيان:
ذكر عن أشهر الفلاسفة الأقدمين وأقدم مشاهيرهم : أنّ ما في العالم - من حيث الخير والشرّ - لا يخلو - بحسب القسمة الحاصرة العقلية - من خمس صور:
إمّا أن يكون خيراً محضاً، أو شرّاً محضاً، أو غالب الخيرية، أو غالب الشرّية، أو متساوي الطرفين(1).
ص: 220
ويشهد السبر والاستقراء أنّ ما في العالم اثنان من تلك الخمس : إمّا الخير المحض أو غالب الخيرية، وليس فيه واحد من الثلاثة الباقية أبداً.
هذا ما نقل عن ذلك الفيلسوف الإلهي .
ولكنّها جملة لم تخرج بعد عن دائرة الدعوى المجرّدة، ولم يدعمها السند والبرهان ، ولا أوضحها الشرح والبيان، وهي في أشدّ الحاجة إلى ذلك.
وعليه، فنقول : إنّ جميع ما مرّت الإشارة إليه من الشرور التي تقع في العالم سواء كانت من جرائم البشر أو استندت إلى علّة مجهولة وأسباب خفية - لا تعدو أن تكون واحدة من ثلاث.
وببيان أجلى : أنّ الاستقراء الصحيح والحصر العقلي يجعل الشرور كلّها ضمن ثلاث دوائر، نبحث عن كلّ واحدة لنرى كيف نسبتها من العناية؟ وأين محلّها من الحكمة؟وهل أخلّ التدبير الإلهي بصالحها أم لا؟
الدائرة الأولى : الشرور الإمكانية والنقائص الذاتية، أعني بها : اللازمة لطبيعة الممكن من حيث إمكانه ونقص كيانه.
وهي التي يقتضيها تناهي الكائنات والممكنات ومحدوديتها، بمعنى : أنّ لازم ذات الممكن أن يكون محدود العلم محدود القدرة متناهي العجز متلاشي القوّة، فلا يعلم بكلّ شيء، ولا يقدر على كلّ شيء، ولا يملك أيّ شيء.
وسواء كان تسمية مثل هذه بالشرّ حقيقياً أو مجازياً فهو ممّا لا مدخلية للعناية به؛ إذ هو ناشىٌ من قبل ذات الممكن لا من صنع العناية، كما أن ليس في
ص: 221
سعتها إزالته وقلبه - بأن تجعل مكان الجهل الذاتي علماً ذاتياً وقدرة ذاتية وحياة أزلية وهلمّ جرّاً - أي : تجعل الممكن واجباً والحادث قديماً.
وهذا من قلب الحقائق وتحوير الذوات ، وهو من أوّل المستحيلات.
وليس هذا من نقص في قدرته (معاذ الله) أو جهل في علمه أو بخل في جوده، بل لاستحالة ذات الشيء وتناقضه، فإنّه يلزم أن يكون الإنسان مثلاً إنساناً ولا إنسان معاً في ظرف واحد.
إذاً فالقصور من القابل، لا من الفاعل.
نعم، الذي يلزم في العناية أن تمنحه الاستعداد للعلم والقدرة والبقاء والخلود والسعادة.
وقد تكرّمت بذلك له على منتهى حدوده و آخر تخومه، وصيّرته في حالة كافية للبلوغ إلى درجة الكمال ومرتبة السعادة دون أن تعوقها تلك الشرور الذاتية عن ذلك الفيض وتلك المنح.
فالعناية المقدّسة ما أخلّت بوظيفتها في هذه الدائرة بوجه من الوجوه، بل دبّرت فوفّرت، وجادت فزادت.
والاعتراض بمثل هذه الشرور ساقط بتاتاً.
الدائرة الثانية : الشرور الطبيعية .
وهي إمّا ما ينشأ من اقتضاء الطبيعة ومزاجات العناصر وتراكيب الأُصول واستبدالها عمّا يتحلّل منها واستكمالها في نواميس نشوئها ونموّها، ومن هنا تعرض طائفة من الشرور ، كالعلل والأمراض والضعف والنحول والمزمنات من الآفات والعاهات على شتّى أنواعها وأصنافها واختلاف مواضعها ومحالّها وتعدّد أسبابها وعللها .
ص: 222
وإمّا ما ينشأ من كائنات الطبيعة وإيجاد أنواعها وأفرادها ، كإيجاد الحيوانات المفترسة من سباع الطير والبهائم والحشرات المسمّمة كالحيّات والعقارب، وكإيجاد الآلات المزهقة للنفوس المبيدة للأرواح، أو كخلق النيران المحرقة والمياه المغرقة والزوابع الممزّقة، وما أشبه ذلك مما لا يحصيه الحصر ولا يستوفيه العدّ.
ولكنّها قد تحسب بأنفسها شرّاً، أو ربّما يترتّب عليها شيء من الشرّ.
أمّا إيجاد مثل هذه الكائنات فبالحري أن تعدّ خيراً محضاً لأنفسها وإحساناً خالصاً في حقّ ذواتها .
وقد قيل - وما أصدقه من قول : (لو كان السمّ شرّاً بنفسه لقتل العقرب قبل كلّ شيء ، ولو كان السلاح شرّاً بذاته لقتل حامله قبل كلّ أحد).
بل هو خير للنوع أيضاً كما هو خير لخصوص ذاته ؛ إذ ما أكثر ما يترتّب على تلك الكائنات من الخواصّ والمنافع اللازمة في صالح النوع البشري، ولولاها لم يكمل النظام، ولا سدّدت مواضع الحاجة، ولا تّسع الخرق وفشا الخلل.
فحقّاً هي خير بالذات وشرّها بالعرض، فإنّ حدوث الشرّ منها ناشىٌ من سوء استعمالها ووضعها في غير مواضعها التي وضعتها العناية فيها .
وإلى هذا رمز الحكماء حيث قالوا : (الوجود خير محض، والشرور أعدام)(1).
فالعناية ما أخلّت بالحكمة اللازمة حيث أوجدت تلك الكوائن نظراً
ص: 223
لخيرها في أنفسها وضرورة النوع إليها في صالح حاجياتها لا في فاسد شهواتها، فالخير من العناية، والشرّ من البشر.
ومنشأ الشرّ هنا هو منشأ الشرّ في مقتضيات الطبيعة من حدوث الأوجاع والأسقام والعاهات والزمانات وسائر النقائص المادّية والخسائر البدنية.
فإنّ العناية الأزلية وضعت لهذا الهيكل المؤلّف من العناصر المختلفة والطبائع المتباينة نواميس ومناهج لو سار عليها ربّاني ذلك الهيكل ولم يتعدّ به حدودها لحفظ بنيته واستبقى جامعته ورابطته إلى أجلها المحدود وعمرها الطبيعي.
ولكن الجهل والجشع وغلبة الشهوات وضعف الإرادات وسيّئات العادات هي التي جرّت الويلات والبليّات على البشر.
وليست الجناية فيه من العناية، بل من سوء ما كسبت أيديهم .
فهل لو بحثت عن أيّ سقم وأيّة عاهة، أكنت تجد علّة تلك العلّة وأبعد أسبابها أو أقربها سوى إفراط في مطعم أو منكح أو جهد متاعب فوق الطاقة بدافع الحرص والتفاني على التوفّر من الحطام؟!
ولو ملك الإنسان من نفسه أن لا يسير في جميع تلك السبل إلّا على خطّ الاعتدال والاستقامة التي وضعها واضع هذه البُنى وباني هذه الهياكل لعاش المرء
رافلاً بمجلّلات الصحّة حافلاً بمهنّئات النعيم والراحة.
أتراك تجهل ما يجرّه ويجنيه الأبوان على أولادهم من أوّل حرث بذورهم إلى منتهى تربيتهم؟!
أتجهل ما يصيب النطف من العاهات من عمىً، أو إقعاد، أو خرس، أو صمم، أو غير ذلك؟!
ص: 224
وكلّها من سوء إدارة الآباء فيما يجب مراعاته من عدم الإفراط في الشهوات و استعمال الحرث ووضع البذر على النواميس الشريفة والطقوس المقدّسة التي وضعتها الشرائع الإلهية والعناية الكلّية والنطاسيّون من أطبّاء العقول والنفوس والأخلاق والأبدان.
على أنّ في تلك المصائب والأسقام والعاهات والرزايا من المنافع النوعية والمصالح العامّة ما لا يغيب عن أوائل العقول، وكفى بتلك واعظاً وزاجراً وعبرة وإنذاراً وإن قلّ المزدجر والمعتبر، ولكن حقيق بها أن تلين قسوة الإنسان، و تخفّف شدّته، وتدفعه عن غلوائه في أهوائه، وتكون له أبلغ عظة ومدّكر.
أمّا الاعتراض : بالموت وافتراضه شرّاً، بل من أعظم الشرور، والسؤال : بأنّه لماذا لم يبق الإنسان مخلّداً في الدنيا ..
فهو كالاعتراض : بأنّه لماذا لم تبق الأجنّة في أرحام أُمّهاتها وكان أقرّ لها وأهني ، فلأيّ شيء أخرجت إلى الدنيا وهي دار العناء؟! أفليس المكث في المشيمة خيراً من هذه الحياة الذميمة؟!
تدبّره جيّداً، فإنّه رمز لطيف وسرّ شريف .
وبمثل هذا الذي قلناه في البحث عن أسباب هذه الشرور يتّضح القول في : الدائرة الثالثة : وهى الشرور الأدبية .
وهذه هي الطامة الكبرى والبلية العظمى في النوع البشري، وعليه ومنه وإليه !
وهل يجد الباحث المنقّب واللبيب المتدبّر منشأً لهذه الشرور سوى إطلاق النفوس وتسريحها في مراعي شهواتها، وعدم اعتقالها بشكيمة العقل وانقيادها بمقادة الشرائع ، وجماحها عن السير على سنن الآداب المقدّسة واتّباع القادة؟!
ص: 225
وهل إلّا خروجها عن جادّة الصراط المستقيم الذي وضعته العناية الإلهية لتكميلها وتربيتها وحفظ شرف جوهره ها؟!
وما الغاية والغرض الوحيد من وضع الأديان ونواميس الشرائع وبعثة الأطبّاء الروحانيّين وصحف الوحى سوى معالجة هذه النفوس وحفظ صحّتها والسير بها على الاعتدال والاستقامة حتّى يصير هذا الكائن الحي إنساناً بحقيقة الإنسانية.
وبالأحرى ليس الغرض سوى قلع جراثيم الفساد وإبادة جذور الشرور من الأرض.
وخلاصة القول هنا : إنّ العناية الحكيمة لمّا شاءت - بدافع الجود والسخاء الذاتي - أن تمنح هذا الخلق الإنساني أشرف جوهر يمكن فيه ويستعدّ له، وهو حرّية الإرادة وجوهر الاختيار، فجعل في كيان طباعه ولازم ذاته غريزة مبدأين : مبدأ ميل إلى الخير بجوهر عقله، وآخر إلى الشرّ بجوهر نفسه وطبيعته. والتجاذب بين هذين المبدأين على صفة دائمة حتّى يمتلك أحدهما الآخر ويكون مسخّراً له، فيتمحّض للخير أو الشرّ، أو يتردّى ما بينهما.
ولو أنّ العناية جعلت الإنسان مجبوراً على الخير ليس إلّا لكانت دفعته عن التمتّع بأشرف نعم الوجود، ولباء من ذلك إلى شرّ مباءة، فلم يبق له استحقاق محمدة على إحسان ولا مذمّة على إساءة، ولتساوت الأفراد مع اختلافها في الاستعداد، فلا يمتاز الخبيث من الطيّب ولا الجيّد من الرديء.
وهذا بخس في الكيل ، ونقص في الموازنة ، وإبطال للحكمة ، وتطفيف في
ميزان العدل.
فالعناية ما صنعت في ذلك إلّا جميلاً وما فعلت إلّا خيراً، وإنّما الشرّ من
ص: 226
سوء اختيار البشر.
تمثيل ذلك : أنّ تمكين اليد من القبض على السيف ووضع القوّة فيها على الضرب متى شاء ذو اليد ما هو إلّا خير وإحسان من العناية إليه، ولكن اختيار الإنسان أن يستعمل هذه القوّة في قتل النفس البريئة وإزهاق النفحة الإلهية من هذه الهياكل المحترمة - بما أنّها صنع الله - هو الشرّ والفساد في الأرض، غير أنّه لا يمسّ شرف العناية ولا هو من صنعها أبداً ، وإنّما كلّ الوزر فيه على سوء اختيار الإنسان، واستعماله النعمة في الكفران والصالح في الفاسد ، ووضعه الشيء في
غير موضعه .
وهكذا حال سائر القوى المودعة فيه، فإنّ جعل اللسان بحيث يقتدر على النطق والحركة متى توجّهت الإرادة وتكهربت أسلاك العروق بسيّال المشيئة هو من أعظم النعم ومنح الخير للإنسان، ولكن تحريكه بالسباب والبذاءة والإلحاد والإفساد والصدّ عن سبل الهدى إلى مجاهل الضلال هذا هو الشرّ الناشئ من سوء الاختيار وخبث الجوهر : «لِيَمِينَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ»(1).
والسؤال : بأنّ العناية لماذا خلقت الخبيث ولم تجعل كلّ نوع البشر من الطيّب؟ ما هو إلّا كالسؤال : بأنّه لماذا خلقت الشوك ولم تجعل الكلّ ورداً؟ ولماذا خلقت الملح ولم تجعله سكراً؟ ولماذا خلقت الصبر ولم تجعله عسلاً؟
وتجد جواب هذا على غاية ما يمكن من الشرح في مباحث الجبر والاختيار والقضاء والقدر من آخر هذا الجزء ، فراجع إذا شئت(2)
ص: 227
ثمّ إنّ العناية (جلّ تقديسها) بعد أن منحت الإنسان تلك النعمة العظمى وذلك الجوهر المقدّس - ألا وهو حرّية الاختيار - لم تهمله وشأنه وتتركه ونفسه، فيتردّى - بجهله وسوء اختياره - في مهاوي الهلكة المؤبّدة، ويكون منحه الاختيار مع جهله كدفع السلاح إلى الطفل مع إهماله .
كلّا، بل لم تزل عين المراقبة تحوطه وترصده ، وعواطف الإشفاق والحنان تسعده على سلوك سبل الخير والنجاة وترفده فبعثت الرسل إليه ، ونشرت الكتب بين يديه، وسنّت له القوانين وشرّعت له الشرائع، واستظهرت بالإعذار والإنذار والوعد والوعيد والجنّة والنار.
كلّ ذلك تعديلاً واستدراكاً لتلك المنحة الجوهرية، وأخذاً به إلى جانب الخير ، وإبعاداً له عن هاوية الشرّ. ولكن باختياره؛ ليكون ذلك أسمى له وأسنى وأبقى لاستحقاقه مراتب الكرامة ووسامات المجد والشرف دون ما إذا أُجبر على الخير ، فإنّه - عند ذلك كالحجر في قبضة صاحبه، أين ما شاء وضعه، موضع سوء أو إحسان، وكيفما وضعه، فالحمد والذمّ له لا للحجر، ولكن : «قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ» (1)وأشدّه!
كلّ تلك العنايات والألطاف والتدابير الباهرة لم تنجع فيه ولم تعمل إلّا في أقلّه، وبالرغم على كلّ تلك المسعفات الجاذبة إلى مناحي السعادة أبى إلّا الميل مع الهوى إلى مهاوي الشقاء.
لطفت العناية بالإنسان وأشفقت عليه إشفاق الأُمّ على جنينها، وحافظت عليه محافظة اليد على عيونها، فما حرّمت عليه شيئاً لصالحه إلّا وجعلت له
ص: 228
مندوحة في غيره خلواً من ضرره.
فما حرّمت الزنى حتّى رغّبت في النكاح، وما حرّمت الربا والسرقة حتّى أحلّت البيع والتجارة، وما حظرت الخمر حتّى أباحت الوفاً من المشروبات الطيّبة مع سلامة العقل وإرفاد النشاط والقوّة.
ولكن إذا أمعنت النظر وضربت الفكرة في الأسباب والعلل وجدت من أقوى الدوافع والبواعث إلى ارتكاب تلك الجرائم ونشر هاتيك الشرور وسير النفوس البشرية على خطّة من الشقاء هي ضدّ العناية الإلهية ، أقوى الأسباب والبواعث - إن لم أقل : إنّها السبب الوحيد - هي الروح الخبيثة التي بثّها المادّيون والملحدون في العالم من أبعد عهوده وإلى اليوم.
تنبعث العناية إلى رحمة العباد ، فترسل (إبراهيم)، و(موسى)، و(عیسی) و(محمّد)، فتتجسّد تلك الأرواح المطهّرة، وتتنازل هاتيك الأنوار المقدّسة، وتتهالك على إصلاح البشر وسنّ النواميس الشريفة فيهم، وتلاقي الألاقي وكلّ طاحنة القرى والفقار في سبيل ذلك، وريثما تدبّ نسمة الصلاح في العالم أو أوشكت يقوم مثل : (مزدك)(1)، و(ماني)(2)، و(فول الشميشاطي)،
ص: 229
و(أبيقور)(1)، و(ديوجنيس الكلبي) (2)وأمثالهم إلى عصورنا هذه التي قذفت فيها طبيعة الإلحاد رجيعاً من هضمها ، فظهر أفراد بل أوغاد من الغربيّين ومقلّدتهم صاروا يعيدون مخرّفات أولئك الأقدمين من المفسدين في الأرض، وكلّ أُولئك
وهؤلاء من حاضر وغابر يضربون على وتر واحد، وهو نشر الإباحة العامّة
ص: 230
والاشتراكية المطلقة، وبالأخصّ محوكلّ فضيلة، وحثّ الناس على كلّ رذيلة وإبطال عامّة الشرائع والأديان.
ولمّا انتشر بين البشر ميكروب هذه الكروب وسرت في البلاد عدوى هذا الهواء الأصفر، تسمّمت العقائد بهذا السمّ الناقع وأزهقت هذه الروح الخبيثة تلك الروح الطاهرة (الدين)، فبعض جاهر بالإلحاد والزندقة ، وهو الكثير أو الأكثر، وآخرون اعتنقوها من وراء ستار شفّت عنه خطّتهم الخاطئة ونبذهم نواميس الدين وراءهم ظهرياً.
والغرض أنّ بمساعي (الدارونيّين) والمادّيّين والعاكفين على أنقاض ضلالتهم ضعفت ثقة الناس عامّة - إلّا من شاء الله - بالأديان عامّة، وطرحوا نيرها من أعناقهم، واستأمنوا مواقف العدل الإلهي ومقاوم الجزاء والقصاص والعقاب والحساب، وأطلقوا أنفسهم من تلك القيود ، وخرجوا من هاتيك الحبوس : فهرعوا يركبون رؤوسهم إلى شهواتهم، يسحق بعضهم على بعض ويفترس قوم آخرين ! القوي يحطّم الضعيف، والضعيف يقضم الأضعف، وخدّ الأرض إذ ذاك - محمرٌ خجلاً من دم الأبرياء وأشلاء الضعفاء، يحمرّ تارةً من دم أعراض تهتك، وأُخرى من دم نفوس بغير حقٌّ تُسفك. وبالحري أن يستكثروا من ذلك؛ إذ لا دار سوى هذه الدار (بزعم أولئك)، ولا غاية لذّة وراء لذّاتها! ثمّ لا رادّ ولا رادع، ولا وزر ولا وازع.
إذا قال الديني للإنسان : خفّف من غلوائك واذكر موقفك يوم جزائك ، قال له الداروني : هذا حديث خرافة وأقاصيص سخافة ، لا تقف بنفسك عن غاية ولا تردّها عن شهوة، فإنّك ابن الطبيعة وعبدها، فاعمل بما توحيه إليك، فإنّ (الطبيعة
مقدّسة)!
ص: 231
وأنت جدّ خبير بما عليه الإنسان من غريزة حبّ الذات والميل إلى الشرّ والشهوات، وأنّه حيوان قبلما هو إنسان ، وبهيم هامل قبل ما هو عاقل كامل، فلا جرم أن يزفن(1) فرحاً ويطير طرباً بأقوال المادّيين و (شميّل) وإخوانه نابذاً وراءه نصائح قاطبة الأنبياء والكتب الإلهية والحكماء والفلاسفة وجماهير المصلحين في العالم ؛ إذ الشهوة تبعث الشوق، والشوق يبعث الحبّ، و: «الحبّ يعمي ويصمّ»(2)، ويدفع إلى الشهوة بنفسه، فكيف مع المرغّب والمساعد والمؤمّن والمطمّن؟!
هذه هي بواعث النفوس البشرية إلى الشرور الأدبية بل والمادّية - أيّها السائل - لا العناية الإلهية ، كما سردت في سؤالك وقرّرته عنك في إشكالك.
بل لعلّك إلى هنا قد أحطت خبراً بأسباب كلّية الشرور في العالم بحسب دوائرها الثلاث التي لا يخرج عن حيطتها شرٌّ من الشرور، وهي : الإمكانية، والمادّية، والأدبية، وأصبت - بما قدّمناه لك من الشرح الذي لا أظنّك تعثر على مثله في غير هذه الصفحات من هذه الدعوة - نعم ، عساك أصبت من ذلك البيان رمز ما أوعزت إليه الحكماء من الفلاسفة والواصلون من أرباب المعارف في قولهم : (إنّ جميع ما في العالم خير بالذات وإن ترتب على بعضه شرٌّ بالعرض)(3)، وما أشرنا إليه أوّل البحث من قولهم : (لا يوجد في الكون إلّا الخير المحض، أو
ص: 232
غالب الخيرية).
وخلاصة كلّ ذلك فيما أقول : إنّ الموجودات كلّها خير من جهتها الربوبية وإن كان بعضها شرّاً من جهتها البشرية. إذاً فأين الخلل، وأين الجناية من الألطاف المقدّسة والعناية؟!
وأختم لك هذه المباحث بكلمة واحدة هي من موادّ العلوم الإلهية وينابيعها، وهي : أنّ أثر كلّ شيء لا يكون إلّا من سنخه، والله (سبحانه) نوركلّه، ووجود كلّه وجود وخير كلّه، والخير لا يصدر أبداً منه إلّا الخير، والعدم شرٌّ كلّه، ومنه نشأت الشرور ، والخلق والأمر كلّه الله، حتّى إنّ الخير والشرّ أيضاً من الله، ولكن بمعنىً لا يخفى عليك إذا شاء الله، فتدبّر رعاك الله، واستعذ بالله من أضاليل المادّيين والملحدين، فإنّهم الشرّ، ومنهم وعليهم يعود الشرّ، والله (سبحانه) يتولّانا وإيّاك - أيّها الناظر الكريم - بعنايته المنيعة التي لا ترام ولا تضام إن شاء الله.
الثالث: من الأمور التي جعلناها نافلة وتعقيباً واستظهاراً ومزيداً لما سجّلناه من الدليل والبرهان على تلك الحقيقة الجلية الغنية بذاتها عن كلّ حجّة، وكلّ دليل عليها فهو دونها في الجلاء والوضوح والإنارة والسطوع : «سبحانك أيكون لغيرك من الوضوح ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم
ص: 233
تجعل له من حبّك نصيباً»(1).
ص: 234
وهو المنهج الذي سلكناه من الاستدلال به عليه والتوصّل منه إليه، والأمر الذي نحاول التعريج عليه في سيرنا هذا هو البحث عن أصل الأديان، كما بحث الطبيعيّون عن أصل الإنسان .
ولكن هل إذا ارتقى الباحث في معارج بحثه وتجوّل في مناهج العلم والتاريخ يصل إلى غاية وفاق يقف عندها وينتهي إليها؟
نعم، ومهما استعصت هذه النظرية واقتمت أرجاؤها وانسدّت مسالكها، ولكن لا أظنّ المنصف يجدني مجافياً للحقّ أو مجانفاً لو قلت : إنّ أوّل معبود عُبد في الأرض هو الله، بل ما عُبد في الأرض سوى الله!
والإنسان وإن كان لا يعبد - على الأغلب - إلّا هواه، ولكن ليس وجهتنا إلى ذلك، وإنّما الكلام فيما يتّخذه الإنسان شعاراً ويعتدّه تعبداً وديناً ويتسمّى به وينزع إليه، لا ما هو العامل الأقوى في عامّة شؤونه وما هو المركز الجوهري لفلك حركته وسكونه.
يسعني أن أقول : إنّ المعبود أوّلاً وآخراً هو الله .
ولو حاولت تسجيل هذه الدعوى من كلمات فلاسفة التاريخ ونوابغ الحكمة من اليونانيّين وغيرهم لعلّى كنت أسد على الخصم أن ينبس بحركة شفة.
نعم، لمّا كان الإنسان مادّياً قبل كونه مجرّداً، وجسمانياً قبل كونه
ص: 235
روحانياً، أبى له هذا الكيان المادّي إلّا أن يستنزل الحقائق المعقولة من ذروة تجردها إلى حضيض التمثيل والتجسيم ، ولا سيّما بعد أن رأى نفسه مضطرّاً إلى الإذعان بها مع عجزه عن اكتناهها وتحصيل جواهر معانيها، فلا جرم تدرّج إلى إقامة الأشباح والهياكل ونصب الصور والتماثيل؛ ليرى من تلك الحقيقة شبحاً
بعينه ، ويلتمس مثالاً لها في مظاهره، ويمسّ شيئاً منها بملامسه.
بيد أنّك لو تدبّرت أحوال كلّ هاتيك الأمم - على اختلافها وتنوّعاتها في
معبوداتها الوثنية - لم تجد فيها من تناهي الجهل به إلى افتراض تلك الهياكل المادّية والصور الحيوانية أو الجمادية هي ذات الآلهة التي تأله إليها النفوس، وتضطرّ إلى الإذعان بها العقول، وتنقاد قسراً إلى عرفانها والاعتراف بها الفِطر.
لا تجد من يزعم أنّ تلك الأوثان والتماثيل التي يصنعونها ثمّ يعكفون عليها هي الصانعة المدبّرة والخالقة الموجدة والعلّة الأولى والأزلية القديمة.
وإنّما اتّخذتها البشر واسطة ، وجعلتها وسيلة، ونصبتها مظاهر وتماثيل، تتطلّب بها الزلفى، وتلتمس منها الشفاعة، وتستدرّ بها أنواء المفازة وأنوار الرحمة وحظوظ القربى والكرامة : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»(1).
والغرض أنّ الوثنیّين والثنويّين والبراهمة والصابئة والمجوس والبوذة وكلّ عبدة المظاهر المحسوسة والمدهشات الكونية ما عبدت سوى الله، ولا قصدت إلّا إليه، ولا حنّت وولهت إلى غيره، ولكن تاهت في سبيله وعشت في طريقه، وما ضلّت فيه ، ولكن فيما يقرّبها إليه ويستدنيها منه : «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»(2).
ص: 236
وقد تجلّى هذا الشأن وانكشف الستار عن هذا السرّ، فأصابه جماعة من فلاسفة العصور الأخيرة وكتّابهم الباحثين.
ولو انفسح لنا المقام لأكثرنا من نقل كلماتهم في ذلك، ولكن حسبك ما ذكره الفيلسوف (ماكس مولر) الأميركي الذي استبحر في البحث عن أصل الأديان في كتاب سمّاه : (أصل الدين وارتقاؤه)، سجّل من نصوص الهند القديمة التي هي أبعد الديانات عصراً وأقدمها عهداً وأوّلها في العالم تاريخاً : أنّ الإنسان ما عبد غير الصانع الحقّ على صفته التي لا تحدّ ولا تكتنه، وأمّا ما عبده البشر من الأوثان والأصنام والكائنات الطبيعية من حيوان أو شجر أو نجم أو غير ذلك فإنّما هي من منشِئات خيال ، تقاضى إيجادها أو إيجاد الخضوع لها حبّ الإنسان المشاهدة كلّ ما يشعر به في نفسه ويهجس به في ضميره.
قال : (إنّ هذه الآلهة المجسّمة ليست إلّا تمثيلاً طرأ على الإنسان بعد تلك الفكرة الطبيعية . وبناءً على هذا، فقد ركع آباؤنا وسجدوا أمام الله الحقّ حتّى قبل أن يجسر وا على الإشارة إليه باسمه.
نعم ، وإنّ هذا الفكر الحصيف (1)والرأي المرير لأجلى من أن يحتاج إلى توسعة في النقل واستعراض للشواهد.
وكان من الحري بادئ الرأي أن نستثني المادّيين والمعطّلين من تلك الكلمة العمومية، وهي قولنا : (ما عبد أحد سوى الأحد، ولا جحد الخالق مخلوق أبداً).
ولكنّا لا نرتاب في اطّرادها وعدم انثلامها حتّى في تلك الشرذمة، فإنّهم
ص: 237
على اليقين يهجسون بها في ضمائرهم، ويجدونها - قبل كلّ شيء - في وجدانهم، ويحسّون على الفطرة كغيرهم أنّ لهم صانعاً حكيماً وموجداً مدبّراً، ولكن نزوعاً إلى الشهوات واندفاعاً إلى الحرّية المطلقة والإباحة العامّة والتخلّي عن كلّ قيد أنكروه بعد عرفانهم وجحدوه وهو ملءُ وجدانهم.
وكان من عظيم العناية وواسع الحكمة وجود مثل أولئك النوابغ في الإلحاد وجراثيم الفساد وسفلة العباد، فهم من الشرّ القليل الذي يترتّب عليه خير كثير!
وأيّ خير أكثر من أن تتجلّى باحتكاكهم أشعّة الدين، وترسخ أصوله في نفوس المعتقدين، وتظهر أدلّته وبراهينه على صفحات الصحف، كما ظهرت واستنارت على صفحات الكون؟!
قيّضت العناية أن يقوم في كلّ عصر شذّاذ من دعّارة البشر ودعاة الشرّ وحملة عرش الضلال والباطل، فتنابذ تلك الحقيقة الراهنة، وتسعى جهدها في تشويش النظام وإفساد العقائد واختلاس الصحّة الدينية من النفوس المستقيمة بإلقاء الشكوك والأوهام وتبديل الاستقامة الفطرية بالاعوجاج والانحراف عن لاحب المحجّة وواضح الحجّة.
ولكن أبت نواميس العناية إلّا أن تجري على مجاريها وتسير على مناهجها، فلا يصحّ إلّا الصحيح، ولا يحقّ إلّا الحق: «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيء إِلَّا بِأَهْلِهِ»(1)، «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ»(2).
ص: 238
فأصبحت تلك الحقيقة لا تزداد بمنابذة المناوين والجاحدين لها إلّا تجلّياً ووضوحاً واستنارة وسطوعاً ، فهم منها كالفراش يلقي نفسه على النار ليطفئها، فيحترق بها ويزيدها اشتعالاً.
ما ينبس نابس منهم ببنت شفة من الزيغ والإلحاد إلّا وتهيج العواطف وتثور الأفكار وتجول الأقلام وتنشر الصحف وتمور(1)الأرض موراً بالكتبة من أهل الأديان وفلاسفة الموحّدين من مسلمين ومسيحيّين، ولا تعتم تلك الحقيقة على أثر ذلك أن تعود من الظهور بحيث تكاد - بعد أن تحسّ - تمسّ وغبّ ما تُهجس تلمس، ويرجع فيها الأمر - حتّى للسذّج والبسطاء - قريب المنال بارزاً
من التعقّل والخيال إلى شبه المعاينة والمشاهدة.
على ذا ما مضى من العصور الغابرة والأيّام الخالية، وعليه تمضي الأزمنة الحاضرة والتالية : «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً»(2).
و قصاراي من هذا الأمر : أنّي لا أريد أن أجعل أحد الأدلّة والبراهين إجماع أمم العالم على التمسّك بالدين والاعتراف بتلك الحقيقة المدبّرة مهما اتّسع نطاقه وتباعدت أطرافه وكان له وجه صحّة وقبول.
كما لا أُريد أن أستدلّ بالأكثرية والغلبة التي لا مجال لها، ولا للإجماع في المعقولات.
لا أُريد أن أتمسّك بكلمات الأنبياء والرسل وقادة الشرائع من صحف (إبراهيم) وتوراة (موسى) وإنجيل ( عيسى) وفرقان (محمّد)، ولا ببراهين
ص: 239
الفلاسفة وحكماء الهند والفرس واليونان والرومان والعرب، ک- (هرمس)،
و(فيثاغور)(1)، و(سقراط)(2)، و(أفلاط)(3)
ص: 240
و(بزرجمهر)(1)، و(حنظلة) (2)، و(خالد)(3)، و(قسّ)(4)، وكثير من أمثال هؤلاء من نوابغ الأُمم ورجال العلم والحكمة وأساطين الفلسفة ومشاهير الدهور ومهبط وحي الفضل والمعارف، الذين أفنوا طويل أعمارهم وسحابة ليلهم
ص: 242
ونهارهم في نصرة تلك الحقيقة حتّى استشهد بعضهم في سبيلها وبذل جوهرة
حياته إحياءً لها.
ولو قصرنا النظر على أُمّة واحدة من الأمم من اليونان أو غيرهم وأردنا نقل كلمات حكمائهم في إثبات هذا الموضوع - أعني : وجود الصانع الحكيم والبرهنة عليه - لما وفى أوسع عمر طبيعي بذلك ، فما ظنّك بإحصاء جميعهم؟!
حتّى إنّ (ديموكريت) [أو] (ذيمقراطيس) الذي وهم الكثير من كبار الكتّاب في عصورنا الأخيرة كالفيلسوف جمال الدين(1)وغيره أنّه في مقدّمة المادّيين والملحدين وواضع أوّل حجر الأساسهم(2)، قد أشرنا لك أنّه من أكابر الموحّدين وفطاحل الإلهيّين، وقد أشبع القول في ذلك صدر المتألّهين.
راجع مبحث حدوث العالم من ثالث (أسفاره) تجد من بعض ما ذكر فيه ما نصّه :
(قال بعض العلماء : إنّ هذا الرجل قد تصفّحنا من كلامه القدر الذي وجدناه، فدلّ على قوّة سلوكه وذوقه ومشاهدات له رفيعة قدسية، وأكثر ما نُسب إليه افتراء ،محض ، بل القدماء لهم ألغاز ورموز وأغراض صحيحة، ومن
ص: 243
أتى بعدهم ردّ على ظواهر رموزهم إمّا غفلة أو تعمّداً لما يطلب من الرئاسة) (1)انتهى.
ثمّ ذكر بعض كلماته، وأشار إلى تأويلها، وشحن عدّة أوراق بكلمات أمثاله من أراكين الحكمة وأساطين الفلسفة، ك (الس)، و(أنكسيمايس)(2)، و(أغاثا ذيمون)(3)، و(فرفوريوس)(4)، و(أنباذقلس)(5)، و(يوذاسف)،
ص: 244
و(أرشميدس)(1)، وكثير من أضرابهم، سوى من عرفت من حكماء اليونان ومشاهير هم(2).
ولكنّي لا أنحو إلى نقل شيء من ذلك مهما كان فيه من الإقناع وواضح الحجّة، وإنّما أُريد التنبيه على ما أجده أحرى من ذلك بالبيان ولو على الإشارة والإجمال.
ربّما يقول الغرّ من الناشئة والطريف من الصبية: إنّه لو كان الدين والصانع الحكيم أمراً راهناً وحقيقة جلية لما أنكره فلاسفة الغرب ، وكيف تغيب عنهم تلك الحقيقة مع ما هم عليه من الأفكار السامية والعقول الثاقبة والاختراعات الباهرة التي أدهشوا بها العالم وكادت أن تكون إعجازاً ونبوّة؟!
يحسب أولئك الفتية أنّ جميع نوابغ الغرب وفلاسفتهم من المعطّلين والملحدين، مع أنّ الواقع على ضدّ ذلك بتاً، حتّى إنّ رئيس المعطّلة في هذه العصور الأخيرة (داروين) الشهير الذي إليه تنسب (الدارونية) قد اعترف في بعض كلماته بالاضطرار إلى الاعتراف بوجود تلك القوّة المدبّرة المجرّدة عن
ص: 245
المادّة، وتردّد في مقام آخر، وقطع بنفيها وإنكارها في غير مورد(1). على أنّ أهمّ عنايته كانت مصروفة إلى البحث عن أصل الإنسان وفلسفة نشوئه وارتقائه.
دع (دارون) يبحث في الانتخاب الطبيعي وأنّ أصل الإنسان هو الأرنج والجوري أو (الشامبانزي) أو غيرها من أنواع القرود، ولنرجع إلى غيره من فلاسفة الغرب وأركان المدنيّة الجديدة.
بيد أنّنا لا نحاول الإحصاء والاستيعاب من كلماتهم وأقوال مشاهيرهم، فإنّ ذلك ممّا يحتاج إلى مؤلّف ضخم ومشروع متّسع، ولكنّنا نورد لك نموذجاً من ذلك، نعطيهم النصف به، ونعرّفك كيف أنّهم فلاسفة روحيّون إلهيّون، كما هم فلاسفة مادّيون طبيعيّون وأساتذة مخترعون :
قال الأستاذ الفلكي الشهير (نيوتن)(2):
(من المستحيل تصوّر أنّ الضرورة هي المؤثّرة وحدها على هذا الكون؛ لأنّ هذا التخالف في الكائنات لا يمكن أن يتأتّى من ضرورة عمياء هي هي في كلّ زمان ومكان.
ص: 246
والخلاصة: أنّ الكون في تناسق أجزائه وتناسبها - مع تغيّرات الأزمنة والأمكنة - لا يمكن أن يصدر إلّا من ذات أوّلية لها علم وإرادة)(1).
وقال الأُستاذ الشهير (هرشل)(2):
(كلّما اتّسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القويّة على وجود خالق أزلي لا حدّ لقدرته ولا نهاية . فالجيولوجيّون والرياضيّون والطبيعيّون قد تعاونوا وتضامنوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده)(3).
وقال (كاميل فلامريون)(4):
(لقد عجز الأساتذة عن حلّ مسألة استمرار الوجود ودوامه، ولذلك فهم مقرّون بضرورة وجود الخالق وتأثيره الدائم المستمرّ؛ ليمكنهم تفسير تعاقب الكائنات وإدراك سرّ أُصول الأشياء)(5).
وقال الأستاذ الطبيعي الإنجليزي (ميلين إدوارد)(6):
(يجب أن يندهش الإنسان لما يرى أنّ أمام هذه المشاهدات الناطقة
ص: 247
المتكرّرة رجال يدعون لك أنّ كلّ هذه العجائب الكونية ليس إلّا نتائج الصدفة، أو بعبارة أخرى : نتائج الخواصّ العامّة للمادّة وأثر لتلك الطبيعة التي تكوّن مادّة الخشب ومادّة الأحجار، وأنّ إلهامات النمل مثل أسمى مدركات القوّة الإنسانية ليست إلّا نتيجة عمل القوى الطبيعية أو الكيماوية.
إنّ هذه الفروض الباطلة أو بالأولى هذه الأضاليل العقلية التي يسترون باسم العلم الحسّي قد دحضها العلم الصحيح دحضاً، فإنّ الطبيعي لا يستطيع أن يعتقدها أبداً. وإذا أطلّ الإنسان على وكر من أوكار بعض الحشرات الضعيفة يسمع بغاية الجلاء والوضوح صوت العناية الإلهية ترشد مخلوقاتها إلى أُصول أعمالها اليومية)(1) وقال (سبنسر)(2):
(ترى من كلّ هذه الأسرار التي تزداد غموضاً كلّما زاد بحثنا فيها حقيقة
ص: 248
واضحة لابدّ منها، وهي أنّه يوجد فوق الإنسان قوّة أزلية أبدية ينشأ عنها كلّ
شيء)(1).
وقال العلّامة (فنوتل)(2):
(إنّ أهمية العلوم الطبيعية لا تنحصر في نهمة عقولنا فقط، ولكن أهميتها الكبرى هي رفع عقولنا إلى خالق الكون، وتحلّينا بإحساسات الإعجاب والإجلال الواجب لذاته المقدّسة)(3).
وقال العلّامة (لينيه)(4):
ص: 249
(إنّ الله الأزلي الكبير العالم بكلّ شيء والمقتدر على كل شيء قد تجلّى لي
يبدائع صنائعه حتّى صرت مندهشاً مبهوتاً.
إنّ المنافع التي نستمدّها من هذه الكائنات تشهد بعظيم رحمة الله الذي سخّرها لنا ، كما أنّ جمالها وتناسقها تنبي عن واسع حكمته، وكما أنّ حفظها عن التلاشي وتجدّدها يقرّ بجلاله وعظمته)(1).
وألصق الأقوال بالصدق وأقربها إلى الصواب وأدفعها إلى الاستحسان والإعجاب قول علّامة الطبيعة وأستاذ الطبيعيّين (باكون)(2).
(إنّ العلوم الطبيعية إذا رشفت بأطراف الشفاه أبعدت عن الله، ولكنّها إذا شربت عباً أوصلت إليه).
إلى كثير من أمثال هذه الكلمات لأمثال أُولئك الجهابذة(3)الروحيّين
ص: 250
والأساتذة الطبيعيّين، على أنّهم من أكابر الإلهيّين، مثل : (وليم طمسن)(1)، و(أون)، و(دوسون)، و(غراي)(2)، و(كربنتر)(3)، و(فولتير)(4)، بل وحتّى
ص: 251
(داروين) أحياناً، فإنّه قال في كتاب (أصل الأنواع) :
الأرجح - بدليل التمثيل - أنّ أصل كلّ الأحياء التي عاشت على الأرض صورة واحدة أوّلية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة)(1).
ولكن عصفت به زوابع أوهامه ، فقلبته منكوساً على أُمّ رأسه، فقال : (ولكن التمثيل دليل خادع !
نعم، وليس بعازب عنّي أنّ هناك طائفة أُخرى على شقاق هؤلاء أقلّ منهم أو أكثر ، أشدّهم وألدّهم : (بخنر)(2)، و(هيكل)(3)، و(كليفرد)(4).
ص: 252
وهم الذين يقولون «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ»(1): (لا حاجة لنا إلى القول بالله)(2)!
فهم يستغنون عنه (تعالى شأنه) بالكُييس الهلامي، والمخاط الحجري، وما بعد ذلك من سلاسل القرود وسلائلها !
ولكن هل من قائل عنّي للأغرار من الناشئة الحديثة : إنّه إن كان ولابدّ من التقليد للغربيّين والعكوف على مبادئهم والتطفّل على فضلات موائدهم والجمود على رشحات أقلامهم، فهلّا يكون التقليد لتلك الطائفة الروحية منهم التي هي إلى مبادئكم أدنى، وبها أشبه، وبالحجّة أدلّ، وبالبراهين أجلى، وإلى الأدب أقرب، وبحفظ النظام ونواميس الشرف أوفى وأكفى، ولدرء المفاسد والشرور ألزم وأتمّ ؟! أم كان حبّ الذات والميل إلى الشهوات هو الذي زيّن لكم هوسات تلك الفاغة التي تكاد القرود تهزأ بها والنقاعيات الهلامية تسخر منها؟! على أنّ فيها محو كلّ فضيلة، ومحق كلّ أدب، وإزهاق روح كلّ علم ومعرفة!
قال الفاضل اللاهوتي الدكتور (أنس) في كتاب : (نظام التعليم في علم اللاهوت القويم) :
(إنّ أقوال المادّيين أدّت إلى نفى كلّ علامات القصد في المبروءات وعناية الله بخلقه وحكمه الأدبى والاختيار والتكليف وخلود النفس والمعاد، وجعل التعقّل والوجدان والحسّ وكلّ إدراك حركات مادّية ناشئة من الدماغ).
ص: 253
أقول : نعم، ولقد بلغ بهم منابذة العلم إلى إنكار عامّة البديهيات، حتّى قال قائلهم : (ما هي إلّا مبادئ وهمية ورثناها من السلف)!
وزاد بعضهم، فقال : لعلّ من بديهيات سكّان بعض السيّارات أنّ اثنين واثنين خمسة )!
يريد حقيقة الخمسة لا لفظها ، كما لا يخفى.
فانظر واعجب، واضحك وابكِ!
نعم ، وحيث بلغ الكلام بنا إلى هذه الهلجات التي هي أشبه بسمادير (1)السكارى أو المجانين ، فقد وجب علينا أن نكفّ ونقف.
وبالأكيد أنّ شمس الحقيقة قد نصعت وسطعت، ولم يبق عليها ستار ولا غبار.
وإنِّي وإن كنت قد أسهبت وأطلت، ولكنّي - بالعز و لما طويته - أجدني قد اقتنعت بجرعه واجتزأت بلمعه.
ومهما يكن من شيء، فإنّي - والله هو الشهيد - قد محضت لك النصيحة، ومخضت لك الزبدة، وأعطيتك مصاص(2)الحقّ، ولم آل جهداً في تقريب البعيد ، وتسهيل الشديد عليك، والأخذ بيدك إلى سعادتك ونجاتك، ولم يبق سوى الضراعة إلى من هو الغاية ومنه العناية أن يتولّاك بهدايته وتوفيقه .
فعلى عنايته المعوّل، فإنّها تمام السبب أو السبب التامّ، وإليه أرغب في أن يجعل عنائي له وجزائي عليه وسعيي خالصاً لوجهه الكريم : «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ
ص: 254
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»(1).
وكانت في النفس بقية أُمور مهمّة في هذا المقام، لم يتّسع لها المجال، وعسی الله (سبحانه) أن يوفّق لذكرها في غضون هذه الدعوة حسب المناسبات التي ربّما تتّفق وتسنح إن شاء الله.
ص: 255
ص: 256
في توحيد الصانع (جلّ مجده) ونفي الشريك عنه
نحن نبحث في هذه النظرية وإن كان في الجلاء عن البحث غنية. كيف ! وقد:
تجلّت لوحدانية الحق أنوار *** فدلّت على أنّ الجحود هو العارُ
سوى أنّ هذه المسألة على التحقيق ليست كسابقتها بديهية، بل هي استدلالية نظرية ؛ إذ نفس تصوّرها لا يكفى في حصول التصديق بها، بل يتوقّف ذلك على توسيط دليل وبرهان والنظر في آية وتبيان .
ولكن هذا المقصد - على غموضه - هو أيضاً من أوضح المقاصد ؛ إذ :
في كلّ شيء له آيةٌ *** تدل على أنه واحد(1)
فلو تأمّلت في مملكة نفسك وجنودها وعدّة قواها وعديدها وباهر سلطانها وعظيم شأنها، ثمّ عطفت النظر إلى جسمك وما اشتمل عليه من عجيب الصنع وغريب الوضع وبديع الحكمة ومحكمات الربط والإتقان، فضلاً عن أن
ص: 257
تُوجّه حواسّ الإدراك إلى عجيب صنع الأفلاك، وما أحاطت به الأرضون
والسماوات من عجائب المخلوقات، واختلاف الليل والنهار، واستقامة الفلك الدوّار ، وما للشمس في الأرض من عجائب الآثار، وتربيتها للمعادن والحيوانات والأشجار، وما يترتّب على حركتها أو حركة الأرض عليها من الفصول ، وما اشتملت عليه من الحكم والأسرار في الطلوع على الناس والأفول، وما اشتمل عليه عرش الملك الجليل من الدقيق والجليل وغوادي حوادثه في الغدو والأصيل : انظر إلى العرش على مائه *** سفينة تجري بأسمائه
واعجب له من مركبٍ دائر *** قد أودع الخلق بأحشائه
يسبحُ في لجٍّ بلا ساحل *** في جندل الغيب وظلمائه
موجه أحوال عشّاقه *** وريحه أنفاس أبنائه
فلو تراه بالوری سائراً *** من ألف الخطّ إلى يائه
ويرجع العود إلى بدئه *** ولا نهايات لإبدائه
يكوّر الليل على صبحه *** وصبحُه يفنى بإمسائه
وبالجملة : فكلّ شيء يقع عليه بصرك وكلّ معنى يتصوّره فكرك - إذا دققّت النظر فيه وتوصّلت من باديه إلى خافيه - وجدته كتاباً مبيناً ودفتراً بأدلّة التوحيد مشحوناً.
ففي كلّ عضو من الإنسان ألف دليل على ذلك وبرهان، ولكلّ نفس إلى ذلك النبأ الصادق عدّة سنن وطرائق .
كيف لا ! (والطرق إلى الله [الخالق] بعدد أنفاس الخلائق) :
وجميعُ أوراق الغصون دفاترٌ *** مشحونةٌ بأدلّة التوحيد
ص: 258
«أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهُ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»(1).
ووجه الاستدلال بهذا البيان - بحيث يعود إلى البرهان - هو : أنّ كلّ من تأمّل واعتبر ودقّق النظر وفكّر في كلّ جزء من أجزاء العالم الكبير، من الحقير والخطير ، من الذرّة إلى الذرى، ومن العرش إلى الثرى، وفسّر من كتاب الله التكويني آية من آياته في أرضه أو سماواته ، وعرف من العالم حسن موضعها ولزوم موقعها ، واحتياج باقي الأجزاء إليها ، وتوقف النظام عليها ، وارتباط بعض الأجزاء ببعض ، وما تعمل السماء ومائها في الأرض، وتوقّف حياة أهلها على حياتها ، وحلاوة عيشهم بنباتها ، إلى غير ذلك ممّا يقصر عنه البيان ويكل دون أقلّه اللسان، وإنّما يأتي عليه المتفكّر في نفسه ويصيبه المتأمّل بقوّة حدسه. وهكذا لو نظر في العالم الصغير وطبّقه على العالم الكبير كتطبيق الكتابين الأنفسي، والآفاقي، وأجال بصيرة القلب وبصر العين في الغابر والباقي واستبطن الظاهر الجلي حتّى وصل إلى سرّه الباطن الخفي، وعرف ما اشتملت عليه أجزاء بدنه من دقائق الحكم وعجائب الصنع وغرائب الإبداع وبواهر الاختراع، وتلطّف حتّى رأى بمستحكم الإيقان ونيّر العرفان ما روعي في خلق الإنسان من الحكمة والإتقان، حتّى صارت العين في ملوحة ، والأُذن في مرارة ، والفمّ في عذوبة، ورُبطت الجوارح بعضها ببعض، بحيث صار يتوقّف حصول الفائدة من كلّ جارحةٍ على حصول فائدة الأُخرى، وعاد فقد بعضها موجباً لعدم الانتفاع بأخواتها وإن كانت صحيحة المجرى ..
ص: 259
الله عليك! ألا ما نظرت في يديك أو رجليك، ثمّ انسبهما إلى عينيك ، فإنّك تجدهما في وهلة النظر وجذع الفكر ممّا لا ربط لأحديهما بالأُخرى، ولا توقّف لفائدة اليد على العين وإن عظمت قدراً ؛ إذ العين فائدتها الإبصار ، واليد فائدتها الأخذ والدفع والقبض والبسط ، وليس بينهما علاقة جامعة ، ولا بين وج-ود أحدهما وعدم الآخر ممانعة ؛ إذ الأشلّ يبصر ، والأعمى عن بسط اليد وقبضها لا
يقصر .
ولكن إذا حقّقت ودقّقت وتعمّقت في الفكرة وأغرقت وجدت أنّ فائدة كلَّ من الجوارح بدون أختها وبال وحسرة ونكال .
واعتبر في ذلك حال من دخل صحيحاً سويّاً إلى بستان قد أثمرت أشجارها وأزهرت ثمارها ، وحين هشّت نفسه وهمّ أن يتناول شيئاً منها شُلّت ويا حرسك الله - يداه، أو جُذمت - ويا أعاذك الله - رجلاه، فعيناه تبصران، ويداه ورجلاه تقصران ، أو عميت - ويا أجارك الله - عيناه ، ويداه مبسوطتان. فهل تراه يجتنى إلّا الحسرة أو يتزوّد إلّا الزفرة ؟ !
وقس على هذا من بدنك سائر الأجزاء وجميع الجوارح والأعضاء.
ثمّ اعتبر من حال هذا العالم الصغير حال العالم الكبير، ولطّف فكرتك، ورجّع نظرتك ، وانظر فى ارتباط أرضه بسمائه ، ونباته بمائه ، وحيوانه بإنسانه ، وشمسه بقمره ، وفلكه بملكه ، إلى غير ذلك ممّا يختلّل باختلاله النظام ولا يتمّ إلّا به الصلاح العامّ.
وحينئذٍ فإذا تفطّن المتدبّر وبلغت فكرة المفكّر إلى عجيب هذا الصنع
ص: 260
والاختراع وما اشتمل عليه من الحكمة والإبداع ، بل عرف الحكمة في البعض من ذلك الصنع البديع فضلاً عن الجميع، وتيقن بمقتضى جبلته وفطرته وبحسب ما دلّه عليه عقله كما استبان لك وجهه - أنّ لهذا العالم صانعاً ، أداه ذلك - لا محالة - إلى الجزم واليقين بحكمة ذلك الصانع ، ثم بوحدانيته ، وأنه لكمال قدرته لا شريك له ولا معين ؛ إذ لو كان أكثر من واحد لكان لا يخلو - بحسب بحسب القسمة الحاصرة العقلية - من أن يكونا ناقصين معاً، بمعنى : كون كلّ منهما قاصراً في حدّ ذاته وواقع أمره ناقصاً - بحسب جوهره - عن إنشاء مثل هذا الصنع وإيجاده في الخارج، أو يكونا معاً كاملين في القوّة متوازنين في القدرة، بمعنى : أنّ في ك--ل منهما - بحسب ذاته كفاءة للقيام بهذا الأمر ، أو يكون أحدهما كاملاً والآخر ناقصاً.
وهذه القسمة الثلاثية حاصرة ، لا سبيل إلى تربيعها أبداً.
أما الثاني فلا سبيل إليه ؛ لما تحكم به ضرورة العقول من أن المعونة والمشاركة إنّما يقتضيها النقص والحاجة ويستدعيها الفقر والفاقة ، وحيث لا نقص - حسب الفرض - فلا معونة ولا مشاركة ، وإلا كانت استعانة كلَّ منهما بالآخر واشتراكهما - مع قدرة كلُّ منهما على الاستقلال - عبثاً ، والعبث لا يقع من الحكيم، وقد فرضناه وعرفناه - بحسب ما رأينا من عجيب صنعه - حكيماً ، فلا يمكن تطرّق العبث إليه .
وحينئذ فأحد الكاملين هو المتفرد بالصنع الواجب الوجود ، والآخر لا حاجة ولا ضرورة في وجوده أو عدمه ، فهو إذاً ممكن ، والآخر هو الواجب
والضائع .
ومن هنا ظهر بطلان الفرض الثالث كالأوّل ؛ إذ الحاجة والنقصان تستلزم
الدين والإسلام / ج 1
ص: 261
262
الإمكان ، أو هي عين الإمكان .
وحينئذ فالناقص أو الناقصان يندرجان في عداد الممكنات ، ويخرج عن الوجوب ما فرضناه واجباً بالذات، أعني به : ما أدانا إليه النظر الثاقب من لزوم الصانع الواجب ، كما عرفت في المقدمة والفصل الأوّل .
ولكنّي أخالك - حيث تكون واسع الخيال ذا فطنة فسيحة المجال - لا تقنع بما قدمناه لك من تحقيق الحال ، وتطالبني بسند هذه الدعوى ، وهي : أنّ الحاجة والنقصان يستلزمان الإمكان، أو هي عينه في الذهن والعيان، ولا تكتفي م-نّي بذلك البيان حتى أكشف لك عن السرّ المصون والعلم المخزون الذي كنت أنفس على كشف ستره وإظهار سرّه ، وأغار على غرّاء غُرته وعصماء عصمته أن
يستطلعها كل شارد ووارد ، أو يستضيء بها إلا الواحد من الناس بعد الواحد . وهو الأصل والأساس الذي تبتنى عليه جميع مسائل التوحيد ، والحديث
الذي ما عليه في الأدلّة على وحدانية القديم من مزيد . ولولا الرغبة والتنافس على إظهار الحق وتحقيقه والوله إلى إيضاح طريقه
لما كنت سخيّاً ببيانه ولا حريصاً إلا على كتمانه ! ولكنّى امتثالاً لما أمر الله به من بذل الجهد والاجتهاد في الهداية والإرشاد
الخص لك لبابه وأكشف عن نير وجهه حجابه ، وأقول - والثقة بالله (تعالى) -:
إن كل موجود تجده في الخارج أو تحكم بتحققه في نفس الأمر والواقع ، فلا شكّ أنّ العقل يحكم بأنّ ذلك الموجود لا يخلو إما أن تكون ذاته وحقيقته ليس إلا تمام حقيقة الوجود وذاته ، فليس في ذاته شيء سوى الوجود ، ولا في
ص: 262
حقيقة الوجود شيء سوى ذاته.
وبعبارة أجلى بياناً وأعلى برهاناً : أنّ العقل لا يرى لما يفرضه في عالم التصوّر ويدركه في عالم الخارج إلّا الوجود أو العدم، فالشيء من حيث التحقّق والثبوت - إمّا موجود أو معدوم ، لا ثالث لهما، ثمّ الموجود لا يخلو عنده إمّا أن يكون صرف الوجود ، بحيث لا يتطرّق إليه شيء من أنحاء العدم والنقص ، فيكون ذاته الوجود ليس إلّا، أي : لا يرى فيه شيئاً وتركيباً من ضدّه، وهو العدم أصلاً، أو لا يكون كذلك، بل يرى أنّ وجوده شيء زائد عليه لاحق به، فهو مركّبٌ من الوجود ومن ذلك الشيء الذي انضمّ إلى الوجود انضماماً اعتبارياً وتركّب معه تركّباً ذهنياً عقلياً لا واقعياً خارجياً، بل ليس في الخارج إلّا الوجود الناقص المحدود المشوب بالعدم.
فهو بذلك النظر الفرضي الاعتباري يرى التركيب والانضمام، وبالنظر الواقعي الدقيقي لا يرى سوى الوجود المحدود على مراتبه في الشدّة والضعف والنقص والكمال ؛ إذ القسمة حاصرة : إمّا الوجود المحض، أو العدم المحض، أو المركّب منهما ، أعنى : الوجود الناقص.
أمّا العدم المحض فهو باطل الذات والحقيقة .
فلم يبق في الخارج إلّا الوجود التامّ أو الناقص على مراتبه المختلفة غير المتناهية.
ثمّ إنّ العقل - بعد ذلك التقسيم الصحيح - يحكم بتّاً أنّ القسم الأوّل من الوجود لا يحتاج إلى علّة وسبب في وجوده ؛ إذ قد فرضنا أنّ ذاته الوجود، والذاتي لا يعلّل ضرورةً، فالوجود وجود بنفسه وموجود بنفسه ؛ إذ ثبوت الشيء لنفسه ضروري أيضاً.
ص: 263
لا أعني بقولي : إنّه موجود بنفسه أنّ ذاته علّة لوجوده، فإنّه واضح الاستحالة ، بل المراد : أنّه قائم بنفسه غني عن غيره ، فوجوده وغناه عين ذاته، لا شيء لاحق به عارض عليه.
ولباب المراد واضح جلي لذوي الألباب وإن كانت العبارة لعلّها قاصرة عن بيانه منحطّة عن رفيع شأنه، ولكنّها غاية ما يمكن في الأداء، والمقصود - بعد التأمّل - في غاية الوضوح والجلاء.
واستبن ذلك من النظر في الوجودات الإمكانية ، فإنّك لا ترى منها موجوداً خالياً من نقص وحاجة وفقر وفاقة بحيث لم يطر عليه العدم خارجاً ولا صحّ عروضه له ذهناً، وما هو إلّا من كون وجودها عرضياً لذاتها ، وكلّ ما بالعرض لابدّ وأن ينتهى إلى ما بالذات .
وسند ذلك أنّه لا ينقطع صحّة السؤال من العقل حتّى ينتهي إلى الذاتي، فيتّضح الحال وينقطع السؤال .
ألا ترى أنّ بياض الأجسام بعروض البياض لها، والبياض بذاته أبيض، وإذا كان عروض البياض لغيره به فثبوته لنفسه أولى.
وقد حكمت بداهة العقول كما سبق(1)- من أنّ معطي الشيء لا يكون فاقداً له ، فإذاً لابدّ أن تنتهي هذه الوجودات العرضية الإمكانية إلى وجود ذاتي وجوده بنفسه، وهو الذي نسمّيه : بواجب الوجود تسميةً مطابقةً لنفس الأمر وحاقّ الواقع.
وهذا هو القسم الأوّل من الوجود الذي لا مدخل فيه للعدم والنقص والفقد
ص: 264
لشيءٍ من الكمالات أصلاً، لا ذهناً ولا عقلاً ولا خارجاً.
والكمالات كلّها من ناحية الوجود، والشرور كلّها من العدم، فإذا تمّ الوجود فقد تمّ الكمال وثبت استحالة الشريك ؛ لأنّ واجب الوجود هو تمام تلك الحقيقة ، وصرف حقيقة الشيء لا تتثنّى ولا تتكرّر ، كما هو ظاهر جدّاً لمن تدبّر ، وإلّا لزم الخلف الواضح. فإذاً حقيقة الوجود لا ثاني لها أبداً .
والناقص والناقصان يندرجان في القسم الثاني من الوجود، وهو عبارة عن : الممكنات المحتاجة في وجودها إلى واجب بالذات ؛ إذ ذواتها ليس صرف الوجود ، بل هي مركّبة منه ومن العدم، وموجودة لا عن قِدم، فبالضرورة يحكم العقل بأنّ لوجودها سبباً وعلّة غير محتاج في وجوده إلى ذلك، وإلّا لكان حكمه حكمها ، بل لَما صحّ ولا أمكن وجود ممكن أبداً.
وقد سردنا هنا لك بفضل الله (تعالى) من براهين التوحيد ما ليس عليها من مزيد، تغنيك بوضوحها وإتقانها عند التأمّل عن الدوران حول دائرة الدور والتمسّك بسلسلة التسلسل، وتندفع به جميع ما أورد في هذا المقام من الشبهات، وينحلّ ما انعقد وأعضل عندهم من التشكيكات .
وانقلع أساس الشركة في الألوهية والتعدّد في الربوبية، ولم يبق لشبهة (ابن كمّونة) (1)وأمثالها مجال صدور في الصدور فضلاً عن ورود أو ظهور أو
ص: 265
احتمال تقريب أو ترتيب ، فنافس عليه واغتنمه إن كنت من أهله، وتدبّر فيه واستعن بمنّ الله وفضله فإنّه من كنوز المعارف الإلهية ورموز اللطائف الربّانية . وهو المرموز إليه بقوله (تعالى) : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1)؛ إذ لو تعدّدا لأمكنا، ولو أمكنا ولم يكن ثمّة واجب الوجود بالذات تهاوت الأرض
والسماوات ، فإنّ العلّة إذا بطلت بطلت المعلولات ؛ لعدم قيّوم يمسكها : «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولاً»(2).
وهذا كافٍ لك إن شاء الله، وكلّه ممّا دلّنا عليه وقادنا إليه التفكّر في الوجود والموجودات وما فيها من الآيات والبيّنات والدلائل الواضحات: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى حُ-لِ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(3).
ص: 266
ومن هنا يستبين لك الوجه في الحثّ على التفكّر في آيات الله (جلّت عظمته) والنظر في ملكوت السماوات والأرض من الآيات والروايات، حتّى استفاض في الأخبار : «إنّ تفكّر ساعة خيرٌ من عبادة سبعين سنة)(1).
وذلك أنّ التفكّر طاعة النفس التي توصلها إلى أعلى علّيين من منازل المعرفة واليقين ، والعبادة طاعة البدن، والفرق في الشرف بين الطاعتين كالفرق في الفضيلة بين المطيعين، والنفس جوهر مجرّد من عالم الملكوت الأعلى، والبدن من المواد الدائرة السفلى، وأين المادّي من المجرّد والفاني من المؤبّد؟!
ثمّ إنّ هنا تتمّة مهمّة، وهي : أنّ الطرق إلى الله وتوحيده (جلّت عظمة تمجيده) وإن كانت عند أرباب الحقائق بعدد أنفاس الخلائق(2)، ولكن مرجعها إلى ثلاثة على التعيين، كما ذكره (جلّ ذكره) في كتابه المبين، حيث قال (جلّ من قائل) لنبيّه الأكرم صلی الله علیه و آله و سلّم : «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(3).
فالأوّل: هو التدرّب في معارج المعرفة والإيمان الحاصل من الترقّي
ص: 267
والطيران بجناحي العلم والعمل، وتهذيب النفس بتحلّيها بالفضائل بعد تخلّيها عن الرذائل ، حتّى يحصل لها من الصفاء والتجرّد ما تنال به نوعاً من الدلالة ينتهى إلى ما هو أقوى من المشاهدة والمعاينة ، حيث ينفتح لقلبه الأسماع والأبصار
الباطنة.
وأعني بالعلم هنا : علم الأخلاق وتهذيب النفس، فإنّه من أحسن الطرق إلى تحصيل العلوم والمعارف، فإنّ العبد إذا واظب وألزم نفسه على التخلّق بالأخلاق المأنوسة الكريمة، والتخلّي عن الرذائل الموحشة الذميمة التي يحكم عقله بحسنها بمقتضى الإنسانية وعلى صرف الطبيعة ، مع قطع النظر عن كلّ شارع وشريعة ، وذلك كالصدق والأمانة والعدل والإنصاف والحياء والعفاف والإحسان والشفقة والرأفة بنوع الإنسان بل سائر مخلوقات الله ذوات الأنفس والأرواح حتّى النبات والحيوان، بل وعظمة جلال الله، ما بُعثت الرسل والأنبياء ولا نزّلت الكتب على أيدي السفراء إلّا ليتخلّق الخلق بتلك الأخلاق ولتبرأ من أضدادها الراجعة إلى الظلم والنفاق : «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(1).
والحكمة هنا هي التي ذكر (سبحانه وتعالى) جملةً منها في سورة الإسراء(2)، فإنّه (جلّت حكمته) - بعد أن نهى عن الشرك ، وأمر بأداء حقوق الوالدين والمسكين وابن السبيل، ونهى عن البخل والتبذير والزنى وقتل النفس والكبر، وحثّ على الوزن بالقسط ، وغير ذلك من حميد الخصال وجميل
ص: 268
الأفعال - قال (جلّ من قائل) : «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» (1)
ولذا قال صلی الله علیه و آله و سلّم : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2).
وحينئذٍ فإذا جاهد العبد على تحصيل تلك الصفات حتّى صارت أحوالاً له بل ملكات ، وسار على صراط العدل والاستقامة التي أمر الله بها نبيّه صلی الله علیه و آله و سلّم بقوله : «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ»(3)، وحسنت مع الله والناس سيرته وسريرته، وبرأ وزكى من رذائل البهيمية والحيوانية، وصار إنساناً بما تقتضيه حقيقة الإنسانية، فعند ذلك يستعدّ لقبول الواردات القلبية والفيوضات الغيبية والتعليمات الإلهية، ويصير من المعرفة واليقين على طرفٍ من الكمال يضيق عن وصفه القلم والمقال، حتّى يصل إلى مقام من الإيمان فوق المشاهدة والعيان، وينكشف له من أسرار العلوم والمعارف وأنوار الحكم واللطائف والأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة ما لم يخطر ببال ولا ألمّ بخيال ولا مرّ على أحد ممّن صرف عمره في البحث والجدال
ص: 269
والنظر والاستدلال فيما ينسجه الوهم وينسفه الخيال من البراهين والأشكال :
پاي استدلالیان چوبین بود *** پاي چوبين سخت بي تمکین بود(1)
وإليه الإشارة بالحديث المروي في (الكافي) وغيره من قول الصادقين (سلام الله عليهم) : «من أخلص الله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(2).
كلّ ذلك ببركة تصفية النفس بالأخلاق الزكية من الحكمة العملية، فإنّها من أحسن الطرق لنيل الحكمة النظرية العلمية .
وإلى هذا كلّه أشار بقوله (صلوات الله عليه) : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم»(3)، وقوله (سلام الله عليه) : «ليس العلم في السماء فينزل عليكم، ولا في الأرض فيخرج إليكم، ولكنّه مودع في نفوسكم، تخلّقوا بأخلاق الروحانيّين يظهر لكم»(4).
ص: 270
وهذا باب واسع ومقام شاسع، وبسط الكلام فيه - كما هو حقه - يوجب
الخروج عن خطّة هذه الوجيزة.
وإنّما الغرض أنّ العلم والعمل متعاضدان مترافدان، كلُّ منهما يكمّل الآخر ويقوّيه ويوسعه ويزيد فيه ، كما هو صريح الحديث.
وهذا هو دليل الحكمة المشار إليه في الآية الشريفة .
ولكن المرتبة الكاملة منه غالباً لا تحصل إلّا بتربية وليّ من أولياء الله الكاملين بل المعصومين والأمثل فالأمثل ممّن اقتدى بآثارهم واقتبس الهدى من مشكاة .أنوارهم.
وهو يرتقي إلى شامخ مقام من عوالم الغيوب تكلّ الألسنة والأقلام عنه وتعرفه القلوب :
در آنجایی که نور حقّ دلیل است *** چه جاي گفتگوي جبرائیل است(1)؟ !
الثاني - من الطرق والأدلّة : التفكّر في الآيات والآثار بصحيح العقل وصريح الاعتبار.
وهذا ممّا يفيد العلم واليقين غالباً للمعتبر المفكّر بالنسبة إلى خصوص ذاته وفي حدّ نفسه وإن لم يقدر على رفع الشبهات ودفع الخصم بإقامة الحجج والبيّنات .
وهو طريق الموعظة الحسنة، وتدخل فيه البراهين الإقناعية ممّا يفيد العلم واليقين لمن كان من أهل السلامة من متعارف الناس .
ص: 271
الثالث : المجادلة بالتي هي أحسن .
وهو طريق البحث والجدل، لكن بالبراهين الحقّة والقضايا الصادقة، لا بالجدليات والمغالطات ونظائرها من الشعريات وغيرها، فإنّها لا تخرج عن الكذب والباطل وإن كانت مجادلة عن الحقّ والحقّ أجلّ وأعلى من أن يأمر نبيّه بذلك .
فإذا اتّضحت طرق الأدلّة الإلهية لديك فنقول :
إنّ ما ذكرناه من التوصّل إلى وحدانيته (تعالى) بالتفكّر في آياته وإن أرجعناه وأتممناه بالدليل المسلّم وأعدناه إلى البرهان المحكم المفيد للجزم القاطع للخصم ، ولكنّه على وجهه وتقريره الأوّل وقبل التعمّق والإغراق فيه يعدّ من طريق الموعظة الحسنة الذي يفيد العلم واليقين وإن لم يوجب الاقتدار على دفع شبهات المشكّكين .
وقد كان الغرض في هذه الوجيزة هو ذكر خصوص ما يوجب الاعتقاد الصحيح ، ثمّ إذا حصل ما يقتدر به على دفع شبه الجاحدين وردّ المعاندين فذاك تفضّل من فضل الله ونعمته وتوسّع في المعرفة من سعة رحمته.
وحينئذٍ فإن حصل لك الجزم واليقين بما ذكرناه من البراهين فنعم المطلوب، وإن أبيت إلّا عن الدليل الاصطلاحي على وجه لا يحتاج إلى طول تلك المقدّمة من التفكّر في المصنوعات والنظر في الآيات ويكون أقرب ف-ي الوصول إلى المقصود من ذلك الوجه وإن كان وجيهاً بحيث يكون على طريق المجادلة بالتي هي أحسن وقاطعاً للخصم وإن كان ألدّاً ألسن، فنقول بعون الله (تعالی):
ص: 272
إنّ أهل الله قد أقاموا على توحيده من البراهين ما لا تسعه الدفاتر والدواوين ، ونحن نذكر لك برهاناً واحداً من أوضحها وأنقحها وأسهلها وأقربها إيصالاً إلى الغرض المقصود ، بحيث يهجم بك على الحقّ الواضح بغتة، ويفجأ لك بالمراد وهلة ، ويعطيك الصواب حبوة ، ويقرّب لك بعيد الشقّة بلا كلفة وعلى غير
مؤنة ومشقّة ..
وهو : أنّه لو كان في الوجود واجبان أو أكثر لكانا مشتركين في وجوب الوجود البتّة تحقيقاً للإلهية، ولو كانا كذلك لوجب أن يمتاز كلٌّ منهما عن الآخر بصفة ليست في شريكه تحقيقاً للإثنينية ..
ولو كانا كذلك - أعني : كونهما مشتركين في شيء ممتازين في آخر - جاء التركيب والإمكان ، وبطل الوجوب ؛ إذ يبقى صحّة السؤال من العقل : بأنّه لِمَ
تركّيا؟ ومن ركّبهما؟
فإن قلت : هما، لزم أن يؤثّر الشيء في إيجاد حقيقته وتركيب أجزائه، وهو باطل بضرورة العقول .
وإن قلت : غيرهما ، نقلنا الكلام إليه، وهلّم جراً.
على أنّ التركيب مستلزم للحاجة، والحاجة - كما عرفت - تستلزم الإمكان، بل هي بالنظر الأدقّ عين الإمكان. وحينئذٍ فقد صار ما فرضناه واجباً ممكناً، وهذا خلف .
وأيضاً فتلك الصفة على كلّ حال إمّا أن تكون صفة نقص، أو صفة كمال. وعلى التقديرين فقد صارا ناقصين محتاجين .
ص: 273
أمّا على الأوّل فواضح، وأمّا على الثاني فلفقد كلٍّ منهما صفة الكمال التي في الآخر، وهي التي اختصّ بها وامتاز عن شريكه فيها، وإذا جاء النقص جاءت الحاجة والفقر والفاقة، وواجب الوجود بالذات يستحيل عليه تطرّق النقص من جميع الجهات، ويمتنع فيه فقد كمال من الكمالات، وإلّا لصار الواجب ممكناً، وهو فاسد فساداً بيّناً.
فإن حصل من جميع ما ذكرناه لك الإيقان ورسخ في قلبك الإيمان فاحمد الواهب المنّان، فإنّه (جلّ شأنه) هو المتفرّد بالفضل والإحسان، وإلّا - والعياذ بالله - فاجتهد في إصلاح نفسك وزكّها بالأخلاق الكريمة، فإنّي لا أظنّها إلّا محجوبة عن الصفاء ببعض الصفات الذميمة، وهو الذي عاقها عن بلوغ الكمال وأخرجها عن حدّ الاعتدال، واجهد في أن تنالك دعوة برّ من عباد الله الصالحين فی أن تسعك رحمته التي وسعت كلّ شيء في العالمين .
وإيّاك والخوض في كتب القوم، فإنّها لا تزيدك إلّا شكّاً وحيرة، ولا تنتفع منها بحقيقة ولا صورة؛ إذ لا أظنّك تعثر على أنقح من تلك البراهين والإشارات،
في ولا أوضح من هاتيك العِبر والعبارات، والله وليّ التوفيق والهداية.
ثمّ إن استيقنت ممّا ذكرناه عرفانا وكملت إيقانا بوحدانية واجب الوجود (جلّت عظمته) وعرفت معنى وجوب الوجود تحقّقاً وشهوداً لا تلقّفاً وتقليداً، يظهر لك عياناً ويستبين عندك وجداناً وجوب كونه (تقدّست آلاؤه) مستجمعاً لصفات الجمال والجلال والتقدّس والكمال.
ومن تلك الصفات ما اشتهر عند المتكلّمين من الصفات الثبوتية
ص: 274
والسلبية(1):
أمّا الأُولى : فثمانية :
القدم، وهو الأزلية والأبدية، ويجمعهما السرمدية.
ثمّ العلم، وهو فيه (جلّ شأنه وبهر برهانه) عبارة عن : حصول الأشياء عنده، وحضورها لديه، وشهوده لجزئيّها وكلّيها :« لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ»(2).
وليس هو بمعناه المشهور المعروف عند أرباب الفنون الرسمية الذي يرجع حاصله إلى إحدى المقولات التسع من الفعل والانفعال أو الكيف (3)(تعالى ذلك علوّاً كبيراً)، فإنّه (جلّ شأنه) مقدّس عن الجوهرية والكميّة والكيفية وغيرها من المقولات العرضية، ويجلّ عن أن يحلّ في شيءٍ أو يحلّ فيه شيءٌ.
الا هو الله واجب الوجود الحيٌّ الأحد الفرد الصمد المعبود.
ثمّ القدرة، بمعنى : أنّه إن شاء فعل، وإن شاء ترك، لا بمعنى (4) : صحّة الفعل
والترك؛ لما فيه من الخلل الذي لا يسع المجال بيانه .
ثمّ الحياة، وهي الصفة المصحّحة للاتّصاف بالعلم والقدرة .
وهذه هي أُمّهات الصفات الثمانية، والباقي كلّه من الثبوتية والسلبية راجع إليها.
ص: 275
فأمّا الأربعة الباقية من الثبوتية فهى:
الإرادة والإدراك، وهما راجعان إلى العلم وناشئان منه .
ثمّ الكلام والصدق، وهما راجعان إلى القدرة بنحو من الاعتبار أيضاً.
فهذه هى الثبوتية عند المتكلّمين.
وأمّا السلبية فسبعة عندهم(1):
نفي التركيب، ونفي الجسمية والعرضية، ونفي محليّته للحوادث، ونفي الرؤية، ونفي الشريك ، ونفي الأحوال ، ونفي الاحتياج.
وليت شعري وما أدري ما الذي دعاهم إلى هذا الاصطلاح؟! وما الذي أوجب ضيق أفكارهم في متّسع هذه الخطط الفساح؟! ولا أعلم لماذا خصّوا صفاته الكمالية بهذا العدد، وهي لا تحصى ولا تُحدّ؟!
ولو أنّهم قالوا : إنّ صفاته الثبوتية : كلّ صفة تدلّ على الكمال وتثبت المجد والعظمة والجمال من غير حدوث ولا تغيير ولا محلّية ولا حال، وصفاته السلبية : كلّ صفة هى على ضدّ ذلك ممّا يوجب النقص والعجز والمحدودية وجميع ما يدلّ على الحدوث والتغيّر وغير ذلك من لوازم المخلوقية والمعلولية، لأصابوا التوفيق وقاربوا التحقيق.
وبالجملة : فالعارفون بالله (جل شأنه وعزّ سلطانه) يثبتون له كلّ صفة توجب التقديس والتنزيه وتدلّ على الكمال من غير شائبة تعطيل ولا تشبيه، من دون حصر لها بحدٍّ ولا ضبط لها بعدٍّ : «سبحانك إلا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما
أثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون»(2).
ص: 276
ثمّ إنّ كلّ تلك الصفات ثبوتيّها وسلبیّها، فرعيّها وأصليّها، ذاتيّها وإضافیّها، صفات الفعل أو صفات الذات، جميع ذلك ممّا يقتضيه ويستدعيه وجوب الوجود، بحيث إذا تمّ كونه واجب الوجود بالذات لزمه لزوماً بتّياً جميع تلك الصفات.
وكان بودّي هنا أن أبسط الكلام بعض البسط في صفاته المقدّسة، والفرق بين الفرعي والأصلي، وصفات الفعل وصفات الذات ، وذوات الإضافة منها وغيرها، وما الفرق بين الاسم والصفة ، والفعل والذات، وما معنى قِدَم بعض الصفات وحدوث بعضها مع تقدّسه عن الحوادث، وما معنى حدوث الأسماء الذي عقد له شيخنا ثقة الإسلام (الكليني) رضی الله عنه باباً في (الكافي)، فقال : (باب حدوث الأسماء)، وذكر فيه عدّة أخبار صحيحة صريحة :
أوّلها : ما رواه بسند معتبر عن أبي عبدالله علیه السّلام : قال : «إنّ الله (تعالى) خلق اسماً بالحروف غير مصوّت، وباللفظ غير مُنطق، وبالشخص غير مُجسّد،
وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ. منفي عنه الأقطار، مبعّد عنه الحدود، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم»(1)... الحديث على طوله وإشكاله(2).
وعن معنى ما تظافر عن أئمّة الهدى علیهم السّلام ممّا هو بمضمون ما رواه في (الكافي) أيضاً في (باب صفات الذات)، عن أبي عبدالله علیه السّلام أيضاً : قال : قال أبو بصير : سمعته علیه السّلام يقول : «لم يزل الله ربّنا، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور. فلمّا أحدث
ص: 277
الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على المبصر، والقدرة على المقدور» . قال : فقلت : فلم يزل متحرّكاً ؟ فقال علیه السّلام: «تعالى الله، إنّ الحركة صفة محدثة بالفعل» . قلت : فلم يزل متكلّماً ؟ فقال علیه السّلام : «إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزلية، كان الله (تعالى) ولا متكلّم»(1).
إلى غير ذلك من اسرار الحقيقة والمباحث الغامضة الدقيقة.
ولكن وجدت أنّ تحقيق هذه المطالب - مع احتياجه إلى إفراد بالتأليف لا تسعه هذه الوجيزة - يشتمل على بيان أسرار غامضة إلهية، وكشف ما يجب ستره من أستار الربوبية، ومثل ذلك لا تحتمله عقول العامّة، بل ولا الخاصّة، إلّا من هداه الله بألطافه إلى سواء السبيل وأذاقه جرعة من ذلك السلسبيل .
ومن أجل ذلك كانت الأنبياء والأوصياء والعرفاء والحكماء تقنع منه بالإشارة والإيماء، وتأبى أن تكشف عنه قناع الخفاء، وتجد ألفاظها في مقام التعبير عنه رموزاً، على أنّك لو فتشتها وجدت تحتها كنوزاً.
ولعلّه بلغك ما شاع من قول النبي صلی الله علیه و آله و سلّم - وفي بعض الروايات أنّه عن الوصی علیه السّلام: «لو علم أبو ذرٍّ (2)ما في قلب سلمان(3)لكفّره، أو لاستحلّ دمه» الحديث.
ص: 278
يقول سيّد أولياء الله علي علیه السّلام: «هذا، وقد آخى بينهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم، فما ظنّك بغيره؟!»(1).
ص: 279
وبالجملة : فهناك دقائق أسرار لا تحتملها عقول عامّة البشر، ومن باح بها
ص: 280
استباحوا دمه وقالوا إنّه ألحد وكفر :
بالسرّ إن باحوا تباح دماؤهم *** وكذا دماءُ العاشقين تباحُ
فلذلك كتمناها في الصدور وأرخينا دونها الحجب والستور مكتفين من ذلك بقوله (تعالى) : «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(1).
ولكن لا يذهبنّ عليك (أحسن الله مذهبك) أنّ هنا - أعني : في مبحث الصفات - مطلب لابدّ من بيانه والتنبيه عليه، وإلّا فالتوحيد بدونه لا يخلو عن شائبة شرك .
ونحن أيضاً نقنع منه بالاختصار والإجمال، ولكن على نحو يتّضح به الحال وترتفع به المحاذير.
وذلك أن تعلم : أنّ صفاته (جلّت عظمته) منتزعة من حاقّ ذاته ونفس وجوده وثبوته وحاقّ حقيقته المقدّسة عن شائبة التركيب والالتئام ولوثة التحليل والانقسام وخسّة التأليف والانضمام، بل ذاته البسيطة التي هي في أشدّ وأقوى ما يكون من الوحدة والبساطة - مع ما هي عليه من الشمول والسعة والإحاطة - منشأ لانتزاع تلك الصفات من غير تكثّر أو تركّب في الذات أو شيء زائد عليها خارج عنها هو منشأ انتزاع تلك الكمالات .
فالعجب حينئذٍ ممّن ذهب إلى : زيادة الصفات على الذات من أهل
ص: 281
التوحيد(1)، وغفلته عن خطل هذه المقالة وما تستلزمه من الضلالة بلزوم تعدّد القدماء الثمانية(2)، والآلهة إذا تعدّدت كانت كلّها ساقطة واهية.
بل الحقّ الصريح والمذهب الصحيح الذي قامت عليه براهين الحكمة وصرّحت به على الاستفاضة أخبار أهل بيت العصمة (3)واتّفقت عليه جميع الحكماء الراسخين (4)وكوشف به قاطبة العرفاء الشامخين : كون صفاته (تقدّس عن الاكتناه قدسيُّ ذاته) زائدةً على الذات المقدّسة في الاعتبار العقلي والتحليل الفكري، لا في العين والخارج والحقيقة والواقع .
وإن شئت تقريب ذلك بوجهٍ ما وتمثيله - والله المثل الأعلى - فانظر إلى نفسك العاقلة المجرّدة البسيطة : ف- «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(5)، فإنّك تجد فيها من الصفات ما لا الصفات ما لا يحصى من: الحبّ، والبغض، والإرادة والكراهة،
ص: 282
والعلم، والفطانة، والجود والشجاعة، إلى غير ذلك من الملكات النفسانية. وبكلّها توصف وبجميعها تعرف، وهي - على بساطتها وتجرّدها - ما انثلمت بتلك الكثرة ،وحدتها، ولا تركّبت من تلك المتغايرات المختلفات حقيقتها، بل وحدتها
محفوظة، مع كون تلك الكثرة منها منتزعة وفيها ملحوظة.
وهذا شبح من المثال ضربناه لتقريب الأمر عليك وكسر سورة الاستبعاد من ضيق المجال، وإلّا فيجلّ ذو العظمة والجلال عن أن تحكي عنه الأشباه أو تضرب له الأمثال :
أي برون أز وهم وقال وقيل من *** خاك بر فرق من وتمثيل من(1)!
أين الممكن من الواجب، وأنّى تقاس الأحجار السود بنيّر الوجود الثاقب؟! بل أين ملك العظمة والجلال ممّن لا يملك أن يقف عنده ولا بصفّ النعال ؟ !
سبحانك ما عرفناك حقّ معرفتك، ولا عبدناك على ما يحقّ لك ولا بعض
عبادتك، ولا أنست أناسي العقول النوافذ بالوصول إلى كنه إحدى صفاتك فيكف بقدسيّ أحديّ ذاتك؟!
آخر چه بلائي تو که در وصف نيائي *** بسیار بگفتیم و نکردیم بیانت(2)
ولكنّي أعطف مقالتي على أخي في الدين قائلاً له : يا طالب الحقّ
ص: 283
واليقين، لابدّ لي أن أطهّر شراب توحيدك من شائبة دنس الشرك، وأنشر عليك لطائم البيان حتّى تفوح منه نوافح المسك، وحيث إنّي قد جعلت على نفسي في صدر هذه الوجيزة أن أقرّب لك المطالب الغامضة والمعانى المشكلة المتعارضة بواضح من البيان محكم البرهان يعيد المعقول محسوساً ووحشى المطالب الحكمية لذهنك مأنوساً وينتفع به العامّي والعالم وعليل الفكر والسالم، فلذلك عدلت عمّا ذكره أساطين الحكمة من البراهين مخافة أن يصعب عليك فهمها ويرتجّ بباب الغموض دونك علمها، ونذكر لك ما لم نعثر عليه في شيء من كتبهم ولا تعرّض له أحد من علمائهم، على كثرة ما حرّروا وحبّروا في هذه المسألة .
ونحن - بلطف الله وموهبته وتوفيقه ومعونته - نبدي لك أُموراً بديهية تؤدّيك قسراً بضرورة الاعتراف بها إلى ذلك الأمر النظري، فنقول - والثقة بالله - :
إنّا ننظر في نفوسنا ونتمثّل بها الأمر ونتصوّره، ولكن من غير الجهة التي ذكرناها وعلى غير تلك الصورة التي حكيناها.
وذلك أنّ كلّ أحد يجد من نفسه ضرورةً أنّها كانت جاهلة مهملة في أيّام الصبا والشباب قبل مراجعة الكتب والكتّاب، ثمّ صارت - بعد ذلك - عالمة عارفة بعلوم ومعارف شتّى، ثمّ يجدها كانت عاجزة ضعيفة، ثمّ تمكّنت - بعد ذلك - وقدرت على صنائع شتّى وأفعال مختلفة.
ويجدها أيضاً كانت أكمهة عمياء، ثمّ أبصرت ورأت صوراً وأشكالاً وخططاً وبلداناً كثيرة.
ويراها أيضاً وكأنّها كانت خرساء صمّاء، ثمّ نطقت وسمعت أصواتاً ونغمات وألفاظاً ولغات بأنحاءٍ وطرق متّسعة.
وعلى هذا القياس في سائر صفاتها وملكاتها ممّا لا نطيل عليك بتعداده.
ص: 284
ثمّ إذا نظرنا في هذه الحالات والصفات ونسبناها إلى نفوسنا وجدناها بضرورة العقل غير ذواتنا، وليست هي عين أنفسنا، ولا جزءاً من حقائقنا وماهيّاتنا، وإلّا لوجدت بوجودها ولتصوّرت بتصوّرها.
وقد عرفت أنّ نفوسنا كانت برهة من الزمان موجودة، وليست هذه فيها بمتحقّقة ولا ثابتة وإن كانت على التحقيق - بعد حصولها للنفس هي متّحدة معها موجودة بوجودها، بل في هذا التعبير أيضاً نوع مسامحة.
ولباب الصواب أنّها من قبيل قوّة الضعيف وكمال الناقص النحيف، ومن نحو سريان البرء في العليل، لا من قبيل كثرة القليل ومن نوع السعة في الشيء والتمام، لا من نوع ضِعة التركيب والانضمام.
ولهذا قالت الحكماء باتّحاد العقل والعاقل والمعقول، وأقاموا عليه في محلّه براهين محكمة الأُصول(1).
ولكن كلّ ذلك لا ينافي حكم العقل بالمغايرة بعد تحقّق الانفكاك بينهما لا المباينة والمنافرة، فلا محالة يحكم العقل بزيادتها ومغايرتها للذات، كحكمه بمغايرة بعضها البعض؛ لما نجد ضرورةً من انفكاك بعضها عن بعض، فكم من عالم غير قادر، وقادر غير عالم، وسميع غير بصير، وبصير غير سميع، إلى غير ذلك.
ص: 285
ثمّ لا ريب أنّا نجد - بضرورة عقولنا - أنّ هذه الملكات فضائل وكمالات، وأنّ عدمها فينا كان ضعفاً وضِعة وخسّة ونقيصة. وحيث إنّها قد وجدت فينا لا عن قِدم وحدثت بعد العدم، فلا نشكّ أنّه قد أوجدها موجد وحصّلها ثابت متحصّل. فكما أنّ ذوات وجود الممكنات لابدّ وأن تنتهي إلى موجود واجب بالذات، فكذلك تلك الصفات، فالعلم الممكن والقدرة الممكنة والحياة والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات الحادثة لابدّ أن تنتهى وتوجد بوجود علم وقدرة وحياة واجبات بنفسها غير حاصلة من غيرها، كما كانت هي كذلك فينا.
فالحكم إذا بوجوبها وقدمها مساوق للحكم بعدم زيادتها؛ إذ سبيل الحكم بزيادتها فينا عروضها وحدوثها علينا، وإلّا فلا يخلو إمّا أن يكون الواجب كلّ واحد منها، فجميع ما تقدّم من براهين التوحيد تدفعه وتردّه، أو المجموع من حيث المجموع، لزم التركيب في الواجب واحتاج إلى مركّب لأجزائه مؤلّف جامع لشتاته، فانقلب الواجب إلى الممكن بعد الوجوب، وهذا خلاف الفرض وعكس المطلوب.
فإذاً لا محيص للعقل من الحكم باتّصاف الواجب بتلك النعوت الكمالية صوناً للذات المقدّسة عن التعطيل من الحمد والثناء عليها بالصفات الجمالية والجلالية ومن كونها في الواقع ونفس الأمر نفس ذاته ، لا بمعنى : أنّ ذاته (جلّ شأنها) هي هذا المعنى الذي نتصوّره من لفظ العلم والقدرة والحياة وغيرها (تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً)، بل بمعنى : أنّ تلك الذات الأحدية البسيطة على بساطتها ومن سعة جامعيتها للكمالات وإحاطتها ثابت لها هذا الكمال وذاك الكمال وكلّ كمال، فإنّا لمّا وجدنا فينا العلم وعرفنا احتياجه إلى موجد هو في
ص: 286
العلم أكمل منّا قلنا: هو بذاته عالم لا يعلم زائد، وإلّا لكان محتاجاً إلى موجد لعلمه (تعالى الله) كاحتياجنا، فاعتبرنا الذات على إجمالها في الموضوع، ثمّ حملنا العلم عليها بلحاظ التفصيل، ثمّ قيّدناه بقولنا: بذاته، حذراً من أن يتطرّق احتمال كونه كقولنا (معاذ الله) : زيد عالم.
فجميع تلك الصفات من العالم والقادر والحيّ وغير ذلك حاكية عن تلك الذات المقدّسة البسيطة باعتبار تعيّنات كمالاتها الخاصّة.
فالرحمن يدلّ على تلك الذات باعتبار ترتّب أثر الرحمة عليها والفيض منها، وكذلك سائر الأسماء الخاصّة.
كما أنّ لفظ الجلالة دالّ على تلك الذات باعتبار جامعيتها على نحو البساطة والوحدة لجميع الكمالات.
وقد ظهر لك من جميع ذلك أنّ الصفات الزائدة منفية، والذاتية له ثابتة على سبيل العينية؛ إذ ثبوت تلك يستلزم الحدوث أو الشرك، ونفي هذه يستلزم التعطيل، بل التعطيل لازم لكلا الوجهين، كما لا يخفى.
وهذا هو المراد من قول مولانا الصادق (سلام الله عليه) : «لم يزل الله ربّنا والعلم ذاته ... والقدرة ذاته»(1)، كما مرّ في الحديث المتقدّم.
أي : أنّ العلم والقدرة وغيرها من الكمالات الوجودية ثابتة له، ولكن غير زائدة عليه، بل هي ذاته.
وإليه يومئ ويشير بقوله علیه السّلام في حديثٍ آخر، بل في أحاديث مضمونها، بل لفظها : «من عبد الاسم دون المعنى أو دون المسمّى فقد كفر، ومن عبد الاسم
ص: 287
والمسمّى فقد أشرك، ومن عبد المسمّى دون الاسم فذاك هو المؤمن»(1).
وقد همّ أئمتنا الأطهار علیهم السّلام شأن هذه المسألة أشدّ الاهتمام، وورد عنهم
من الأدلّة والبراهين في ضمن الخطب والأخبار ما يُلزم بها أعظم الإلزام.
وما ذاك إلّا من جهة أنّ الالتزام بخلافها هو على حدّ الشرك بالله، بل الكفر به وبنعمه، عصمنا الله بلطفه وكرمه.
ومن بليغ ما ورد فيها ما في (نهج البلاغه) من خطبة طويلة لمولانا وإمامنا مولى العارفين وإمام الموحّدين، ذكر فيها (صلوات الله عليه) ما يدلّ على نفي زيادة الصفات بأبلغ وجه وآكده، نذكر منها بعض كلماتها الشريفة:
قال (سلام الله عليه) :
«أوّل الدين معرفته، وكمال المعرفة التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال التوحيد الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة.
فمن وصفه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزأه، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن [جهله فقد أشار إليه]، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال : فِيمَ، فقد ضمّنه، ومن قال : علامَ، فقد أخلى منه»(2)
ص: 288
انتهى ما أردنا من كلامه ومعجز نظامه.
فانظر كيف سجّل تلك المقدّمات كلّها لنفي زيادة الصفة، وعقّبها بتلك الفقرات الموجزة المشتملة على البراهين المحكمات والقضايا المسلّمات المبيّنة المراده من نفي الصفة، وأنّ المقصود من نفيها عدم ثبوتها له على نحو يستلزم الحدوث الذي هو فرع الزيادة، كما عرفت.
وأُقسم قسم صدق ويمين حقِّ بربّ تلك البلاغة المعجزة ونبي تلک البراهين المتقنة على التوحيد في هاتيك الفقرات الموجزة، إنّه لو لم يكن للإسلام دليل حقٍّ وبرهان صدق، إلّا كلماته وأمثالها من كلمات النبي وأولاده المعصومين علیهم السّلام لكفى في وجوب اتّباعه وعلوّه بالحقّ وارتفاعه! فإنّ رجلاً نشأ وشبّ وتدرّب وتربّى بين قوم من العُرب والأعراب، ليس لهم من شيء من العلوم - لا سيّما الإلهية - نصيب ولا نصاب، ثمّ يأتي ذلك الواحد منهم بهذه الأعاجيب ويصبّ تلك البراهين الحكمية بهذه الأساليب من غير أن يكون قد ساح وسار، أو ضرب في الأقطار والأمصار، أو جاءه معلّم من البشر فأدّبه، أو حكيم متألّه فدرّبه ، أو أدخله أبوه أو جدّه مدرسة أو مكتبة :
نِگار من که بمكتب نرفت و خط ننوشت *** به غمزه مسئله آموزِ صد مُدرّس شد(1)!
ص: 289
وهو - مع ذلك - لا يزال يملي على الناس طول عمره العلوم السياسية والمعارف الإلهية بأقوم بيان وأقوى برهان..
ولا أجدني مفرطاً مغالياً ولا في القول متعالياً لو قلت : إنّه لو اجتمعت الحكماء الأساطين من الأوّلين والآخرين من : الفرس، واليونانيّين، والآشوريّين، والفهلويّين، والمشّائين، والإشراقيّين، إلى غير ذلك من الطبقات، وأعانهم في البيان فصحاء جميع اللغات، على أن يأتوا بخطبة من خطبه الشهيرة، لا بل بفصل من فصولها الخطيرة، لوقفوا حياري، واعترفوا إقراراً، وما وجدوا إلّا إلى العجز مصيراً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً!
احضر بقلبك، وانظر بلبّك، واصغ بسمع فؤادك، ولا تبغ سوى الحقّ بجدّك واجتهادك، وتأمّل في قوله علیه السّلام من خطبة أخرى من (النهج) تعرّض فيها لإبطال زيادة الصفة أيضاً، حيث يقول :
«من وصفه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله، ومن قال : كيف، فقد استوصفه، ومن قال : أين ، فقد حيّزه. عالم إذ لا معلوم، وربّ إذ لا مربوب، وقادر إذ لا مقدور»(1).
يقول المستضيء بأنواره الراجي منه (عزّ شأنه) أن يجعله من المقتدين بآثاره:
إنّك لو أعطيت التأمّل حقّه في هذه الكلمات وأمثالها من خطبه في التوحيد والموعظة وسائر العلوم لخشيت عليك أن تنشقّ قلباً وتتمزّق عَجباً وعُجباً، و لعلمت علماً يقينياً ووجدت وجداناً حسّياً، بعد ملاحظة تلك الجهات
ص: 290
الواضحة والدلالات اللائحة، من تصفّح أحوال تلك الذات الكريمة وكمالاتها الجسيمة، مع عدم رجوعه إلى مؤدّب معلّم، ولا مراجعته لشيءٍ من الكتب حادثة أو قديمة، وما أراك مع هذا كلّه تقول إلّا: أنّ له معلم إلهي وأنّه ينتهي إلى علم غير متناهي، وإلّا فمن أين عرف هذا العربي البحت الناشئ بين أُمّة تعبد الحجارة بعد النحت أنّ الوصف يوجب الحدّية، وأنّ الحدّ ينافي الأحدية، وأنّ العدّ والإثنينية يبطلان القدم والأزلية، إلى غير ذلك ممّا صرفت حكماء اليونان وغيرهم في تحصيله أعمارها، وأتعبت في البحث عنه عقولها وأفكارها، وقضت في تعليمه وتعلّمه والتصنيف فيه ليلها ونهارها، وهو علیه السّلام يجيء به على صرف طبعه وترسّله من دون إتعاب فكرته وتأمّله، فكأنّما يُملى عليه فيُمليه، أو يقرأ في كتاب قد أُدرج كلُّ ذلك فيه، أو يلوح له لوح سُطّرت تلك المعارف في مطاويه، لا بل كأنّه يجري من سلسال أو ينحدر من جبال أو يفيض من ينبوع، فتراها - مع أنّها على البديهة والارتجال - في غاية السهولة والاسترسال ، على أنّها محكمة البراهين والمعاني جزلة الألفاظ والمباني، تزفّ لك من النفائس عرائس ومن الفرائد خرائد، تملأُك بهجة ونوراً، وتملؤُ لك كأساً تسقيك به شراباً طهوراً، فيها برد الغليل وبرء العليل وشفاء الداء الدخيل.
وعلى العلّات فمن لي بأن أنعت فضلها، إلّا إذا أُعطيت قوّةً مثلها، ولكن ما أظنّك - إذا أعطيتَ الإنصاف حقّه ودقّقت النظر في هذا المقام - إلّا مستسلماً في نفسك لحقّية مذهب الإسلام عارفاً بأنّ له سرّاً عظيماً وخطراً كبيراً، فإنّ لكل حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً.
وإنّي - وحرمة الصدق وكلمته والحقّ وذمّته - لأعجب من أهل الفضل والكمال من علماء اليهود والنصارى ممّن أحرزوا بحرّية الأفكار وصحّة
ص: 291
الضمائر صيتاً وفخاراً، واستخرجوا من العلوم والصنائع ما ليس لأمره في الزمن الماضي مضارع، ومع ذلك كيف تساهلوا في أمر الدين وتغافلوا عن طلب الحقّ المبين، وبماذا يجيب أهل النَصف منهم إذا احتجّ الإسلام بمثل هذه الآية التي لا تُبارى والحجّة التي لا يستطيعون لها رداً ولا إنكاراً؟!
وأعجب من ذلك من قدّم عليها في الإسلام سواها، وعدل بها من لم يقاربها في الفضل فضلاً عن أن يكون قد ساواها! ولكنّكَ : «لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء»(1).
فنسأله (تعالى) الهداية لنا ولكافّة عباده، والسعي لما يسعف برضاه ومراده.
وقد جرّنا استطراد الكلام في المقالة إلى الخروج عمّا هو الغرض بالأصالة، ولكن يشهد الله (تعالى) أنّه ما حدانا على ذلك إلّا حبّ النصيحة والشفقة بأبناء النوع، وأن أبدي لهم المذهب الحقّ والكلمة الصحيحة ، و : «اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ».(2)
ص: 292
ولنعد إلى تمام المسألة التي كنّا فيها، فنقول :
قد تجلّى بحمد الله عليك واتّضح وضوح الشمس لديك أنّ القول بعينية
ص: 293
الصفات وعدم زيادتها على الذات، هو المذهب الصحيح والحقّ الصريح الوافي بتمام التقديس والتنزيه المتجافي عن نقيصتي التعطيل والتشبيه، وأنّه هو الصراط المستقيم والقول المتوسّط بين مقالتي المُفرِط والمُفرّط؛ إذ كما أنّ بعضاً قال بزيادة الصفات ووجوبها وانفصالها عن الذات(1) - وقد عرفت بما لا مزيد عليه فساده وأنّه ينجرّ إلى الكفر والإلحاد - فاعلم أنّ في مقابله قولاً يضاهيه في وضوح الفساد :
وهو مذهب من قال باتّحاد الصفات مع الذات مفهوماً وخارجاً، وأنّ قولنا : الله (جلّت عظمته) عالم قادر حىّ حكيم إلى آخرها، مترادفة مع الذات کترادف بعضها مع بعض ، فهي بمنزلة قولك : الله الله(2).
وهذا مخالف لضرورة الإدراك والوجدان، مضافاً إلى استلزامه التعطيل كالأوّل.
ولا حجّة لهم في تلك الأخبار والخطب الشريفة، كقوله : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات» ؛ إذ هو بمقتضى التعليل بقوله علیه السّلام : «لشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ...» الخ، صريحٌ في أنّ المراد : نفيها باعتبار الزيادة المستلزم للحدوث، لا النفى المطلق، كيف! وهو تعطيل للذات عن جميع الكمالات.
وقد وردت عنهم علیهم السّلام أخبار فوق حدّ الإحصاء في النهي عن التعطيل
ص: 294
والتشبيه(1)؛ لما فيه من سدّ باب الحمد لله والثناء والمجد والبهاء.
وعليه، فجميع ما في الخطب والأدعية وسائر الاستعمالات من التحميد والتمجيد والمناجاة تكلّفات باردة أو مفردات بلا فائدة، وهذا ممّا لا يرتضيه عاقل لنفسه، إلّا أن يكون مغلوباً على عقله وحسّه !
وبالجملة: فهذا القول في الشناعة كالسابق، بل أشنع وإن تخيّل قائله أنّه إلى خلوص التوحيد أقرب ولشوائب الشرك أقطع، ولكنّك قد عرفت أنّ مفاسده
وبليّته أفظع.
وأنت إذا عرفت الحقّ بفضل الله ودريت فلا يضرّك من ضلّ إذا اهتديت، ولكن حفظاً لناموس شرف الإنسان ورغبةً في النصيحة والإحسان، يلزمك إذا عثرت بأحد أرباب هذين القولين أن تُقيلهما بالله العثرات وتريهما الحقّ رأي العين تالياً عليهما ما تلوناه عليك، فإن أصابا الحقّ به وبمثله فاحمد الله على ذلك، فإنّه بمنّه وفضله، وإن وجدتهما مأسورين في سلاسل العصبية مسجونين في سجن الجهل والجاهلية فجادلهما بالرأفة والرعاية، واسأل لهما من الله الهداية، واتلو عليهما عسى أن يخلصا من ذلك السجن ببركة هذه الآية ، وقل لهما : «يَا صَاحِبَيِ السَّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(2)، فإِنّها هي النهاية في هذا الباب والغاية في الدلالة على تعيين الحقّ والصواب.
ص: 295
وبعد هذا كلّه، فقد ثبت - يمنّ الله وفضله - ما أردنا إثباته من أنّه (جلّ شأنه وبهر سلطانه) عالم بالأشياء بنفس ذاته لا يعلم زائد، وقادر على كل شيء لا بقدرة زائدة، وسميع لا بسمع، وبصير لا ببصر، وفاعل لا بآلة، ومدرك لا بحاسّة : «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»(1).
ثمّ إنّا وإن أطلنا الكلام في هذا المقام بما لا مزيد عليه في إيضاح المرام، ولكن بعدُ هنا مباحث ومطالب جليلة فيها خيرات حسان وفيوضات جزيلة، عدلنا عنها؛ حيث إنّ القصد بالأصالة من وضع هذه الرسالة هو بيان خصوص ما يجب على عامّة المكلّفين اعتقاده ويكفيهم في مقام التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي أنّه (تعالى) واحد في الإلهية، فرد في الربوبية، أحدیٌّ الذات، لا مجال فيه للتركيب والتأليف من الأجزاء والأدوات، ولا سبيل لانتزاع الحدود منه والماهيّات، لا عقلاً ولا ذهناً ولا خارجاً، وأنّه (عزّ ذكره) متّصف - على وحدته وبساطته - بكلّ جميل، منزّه مقدّس عن كلّ قبيح، وأنّه لا مؤثّر في عوالم الوجود والإيجاد سواه. وسبيل ذلك كلّه يستبين من القول واليقين بوجوب وجوده ووحدانيته.
وقد صفّينا لك من سجال المعارف الإلهية هنا نميراً غدِقاً ومنهلاً مروّقاً، ووصفنا لك من نعوت التوحيد كلّ قريب وبعيد، واستقدناك إلى غاية من طرق أدلّته الثلاثة التي لا أحسب خفاء تطبيقها عليك.
نعم، لو أردت الترقّي في مدارج اليقين والمعرفة والعروج في تلك المعارج من غرفة إلى غرفة، فعليك - بعد الإخلاص والمحافظة على آداب
ص: 296
الشرائع المقدّسة - باستفادة تلك المعارف من أهلها وطلبها من محلّها ، والله هو الموفّق والمعين : «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(1).
قف معي هنا هنيئة ريثما أُوفيك فلسفة تلك الفصول وخلاصة تلك الأبحاث: وذاك : أنّك عرفت - حسبما قدّمناه لك - أنّ أصل الإيمان واليقين بوجود الصانع في الجملة أمر قد فُطرت طبائع البشر عليه، وانقادت بضرورة عقولها إليه، ولم تحتج فيه إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل.
وليس من أجله وجب في العناية ذلك، بل ما وجدت في العالم أُمّة من الأمم من بدء الخليقة إلى يومك هذا أنكرت الصانع أو جحدت به حتّى الطبيعيّون والدهريّون وعبدة الأصنام من المشركين وسائر الوثنيّين، فإنّ الجميع قالوا بثبوت قوّة مدبّرة لا تدرك بحقيقتها، ولا تتكيّف بكنهها، وأنّها هي التي تتصرّف فی الكائنات على قوانين ملتئمة ونواميس منتظمة(2).
وكلّ يعبّر عن تلك القوّة بعبارة ويشير إليها بإشارة : «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»(3).
ولكن العباد - بعد العلم بتحقّقه وثبوته - إنّما ضلّت في طريق معرفته، وتاهت في سبيل عبادته وطاعته، وحارت فيما ينبغي له ويجب من الحمد
ص: 297
والثناء والرغبة إليه والدعاء، ووقفت عن تعيين أسباب الزلفى عنده والقرب إليه والوفود بالكرامة عليه ، وعقول البشر لا تسل عن مقدار ضعفها ، تعجز عن حمل أثقال الأحدية ، والنهوض بأطواد الأزلية، وتنحطّ عن العروج إلى أوج الإدراك لذات ترفّعت عن الزمان والمكان والنهاية والشبه والمثيل والمثال وأمثال هذه، وهي لا ترى إلّا محفوفاً بذلك مغموراً بما هنالك ..
فمن أجل شدّة البعد عن ساحته والعجز عن كمال معرفته بُعدَ الممكن عن الواجب وعجز المادّي عن المجرّد، والنفوس مجبولة على معرفة ما هو من سنخها وإدراك ما هو قريب منها، لذلك عبدوا وأطاعوا غيره بحسبانه من بشر أو حجر أو حيوان أو أملاك أو كواكب أو غيرها.
ثمّ بعد مراجعة عقولهم ومطالعة وجداناتهم في أنّ تلك ذوات مثلهم مخلوقة وبالعدم مسبوقة، مهّدوا لأنفسهم عذراً، فجمعوا شركاً وكفراً، وقالوا : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»(1)، فنظراً إلى انتشالهم من هوّة الكفر وشَرَك الشرك والهلاك المؤبّد قضت العناية الأزلية والرحمة الواسعة بإرسال الرسل وبعثة الأنبياء ونصب الأوصياء وإنزال الكتب ؛ ليقودوا الناس إلى سبل المعرفة وطرق العبادة والطاعة، ويعرّفوهم ما ينبغى له ويليق به من الثناء والحمد والسناء والمجد، وما به السعادة والنجاة والمفازة ، وما ينتظم به شؤون معاشهم ومعادهم. وجلّ الغرض من هذه المقالة أن ليس الجهد والعناء والسرّ من بعثة الأنبياء دلالة الخلق وتعريفهم أنّ لهم صانعاً إليه يرجع الأمر والخلق، فإنّها مفطورة عليه
ص: 298
منقادة بالجبّلة إليه، وإنّما العناء كلّه والغرض جلّه من ذلك هو : دلالة الخلق وإرشادهم إلى ما يرتبكون فيه ولا يهتدون بأنفسهم إليه من تعريفهم وتعليمهم صفات ذلك الصانع، وإشراب قلوبهم وعقولهم توحيده وتمجيده، وتخليص العباد من شوائب الشرك واستنقاذهم من لحود الإلحاد إخلاصاً له بالطاعة وإفراداً له بالعبودية وتوحيداً له بالربوبية.
ولكن ويل أُمّ البشر، وقُتِلَ الإنسان ما أكفره، وتعساً للمرء ما أجهله! ينقاد إلى شرّ الشرك بشعرة مع وضوح بطلانه، ولا ينجذب إلى بركة التوحيد بألف شطن (1)مع سطوع برهانه ! «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ»(2).
ما ذهب (موسى) لميقات ربّه حتّى اتّخذ قومه العجل من بعده وجعلوه إلها، وما ارتفع (عيسى) إلى السماء حتّى جعلته النصارى مع الله أُقنوماً وربّاً ودعوهما أباً وابناً، وما غاب (محمّد) للقاء ربّه حتّى اختلفت أمّته في وصيّه، فقومٌ جهلوا مقامه وانتزعوه وسامه، ثمّ دان الله بعضهم ببغضه، وزاغ ونزغ فريقٌ إلى كفره وشركه (معاذ الله) كالخوارج والنواصب، وضلّ آخرون که (ابن سبأ)(3)
ص: 299
وأصحابه، فغلوا فيه حتّى جعلوه إلها وخالقاً طباقاً، لما أخبره به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلّم ممّا استفاض عنه من قوله له : «يا علي يهلك فيك اثنان : محبٌّ غالٍ، ومبغض قالٍ»(1).
ومعرفة التوسّط فى الأمور عزيزة، واستقامة السير عليه أعزّ : «وَلَكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(2).
فتدبّر هذه النفئة واغتنمها، وأجعلها خاتمة تلك المباحث راغباً إلى الله في حسن الخاتمة لنا ولك، وأن يجعلنا من الوافدين عليه بالثبات على شهادة : أن لا إله إلّا الله، لا نعبد إلّا إِيَّاه : «مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(3).
وسيأتي زيادة بسط لهذه المقالة في الجزء الثاني(4)عند التعرّض لمسألة الأقانيم إن شاء الله (تعالى).
ص: 300
في العدل
«عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة»(1).
[العدل] بمعنى : وضع الشيء في محلّه وإعطاء الحقّ لمستحقّه.
والعدل ميزان الله خلقه، وبالعدل قامت السماوات وثبتت الأرض حيث أوجدهما العدلُ الحكيم على طبقه ..
وما أدري بأيّ لسان أثني على العدل، وماذا أقول بعدما قضت الضرورة بعظيم شرفه وتطابق على وجوبه المعقول والمنقول، حتّى صار من أوضح موارد أحكام العقل فيما انفرد به واستقلّ، ولم يتوقّف على شارع ملّة ولا على واضع نحلة، بل ممّا اتّضح وتجلّى أنّ العقل يحكم مستقلّاً بوجوب العدل وحسن الإحسان وحرمة الظلم وقبح العدوان.
ص: 301
كيف! والعدل روح المدنية، وحياة الإنسانية، ونفوذ قوى المملكة، و تریاق سمومها المهلكة.
العدل مطلع شموس الرحمة، ومنبع عيون الحكمة، والسلطنة والسلطة،
والمنفعة والغبطة، والعلوّ والرفعة، والحصون والمنعة، والمساجد والقلعة، والبيت والحرم ، والكعبة والأمم ، والجيش والسريّة، والقسمة بالسويّة، والرعاية للرعيّة، والعسكر والجنود والرايات والبنود(1)، والطبل والعَلم، والحُكم والحِكم، والمال والجباية ، والخراج والجراية، والقائد والزعيم، والحاكم والحكيم.
العدل ظلّ الله في أرضه، والحاكم في بسطه وقبضه، إليه يأوي الضعفاء، وبه يلوذ الفقراء، وفيه ينتصف المظلوم، وبه يرزق المحروم، ومنه تشرق شمس المعارف والعلوم.
العدل خصب البلاد، وأمن العباد، ومعطى الواحد من الرعية قوى الأحاد وقوّة الأجناد.
العدل هو الشوكة والقوّة، والبهاء والسطوة، والرأفة والمروّة، والصدق والفتوّة، والمفازة والحظوة.
العدل مدافع وسيوف، ومدارع وحتوف، وجيش وصفوف، والثابت كلّ واحد به ثبات الألوف.
العدل هو الزرع والنماء، والري والرواء، وسيح الأرض وسحّ السماء.
العدل نظام شتات الأُمّة، ومنبع الفضائل الجمّة، وسحاب سماء الرحمة،
ص: 302
وجماع تفارق الكلمة، وطلاع تسامق (1)العظمة .
العدل نواميس الحياة، ومقاييس البركات .
العدل هو الحرز في المهالك، والحرس للقوافل في الفيافي والمسالك، والعسعس (2)إذا عسعس الليل بالظلام الحالك.
العدل سُلّم السلامة، ومعراج كلّ كرامة، والظلم ظلمات يوم القيامة.
العدل منبع البركة، والظلم موضع الهلكة.
العدل هو الرقى للسعادة والرقى، والظلم هو الشقى وبه العاهة والشقاء.
العدل به قوت الدول الضعيفة، واستفحلت الأمم المخنّثة السخيفة، وعُرفت الممالك الخاملة غير المعروفة، وتألّفت الشعوب المتفرّقة، وأمنت وأخافت وكانت هي الخائفة الفرقة، ونبهت بعد الخمول، وطلعت بعد الأُفول، وترقّت بعد الضعة، وأخذت غبّ الضيق بالسعة، وعادت بالثروة والرفاهية منفرجة، بعد أن كانت حرجة، وعزّت بعد الذلّة، ولبست من العلوم والصنائع أبهى حُلّة، وأنست بالتمدّن وكانت وحشية، ورست قواعدها على العلم والتعلّم وكانت أُمماً حشوية.
والظلم (أبعد الله داره وأخمد ناره) به ذلّ الإسلام بعد العزّة، وخفت صوته بعد الصيت وعظيم الهزّة.
تالله لا ينطلق لساني ولا يطيق إحصائي لتعداد ما جرى على ملك قومي وملك آبائي، وما جهّم محيّا مساعي بهاليل(3)الحقّ من سادتي وزعمائي، وما
ص: 303
هجم على حصون الدين المنيعة التي أقامت قواعدها أئمّة الهدى من أوليائي التي بنوها بالجماجم ، وسقوها من دمائهم بالطوس لا المحاجم ، فذرني وشجوني، ودمع عيوني وشؤوني ! فها أنا ذا واليأس يميتني والرجاء يحييني، والمقال ينشرني والفعال تطويني، حتّى يُظهر الحقّ أهلُه، وينشر القسطُ عدلَه، فلا تسلني عن شأني ودعني وأحزاني :
فلم أرَ مثل العدل للملك رافعاً *** ولم أر مثل الجور للملك واضعاً
«يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(1)، فإنّه على ولاة الأمر أعظم كلّ فرض .
إنّ الله يأمر بالعدل، ومن لم يسعه العدل فبالإحسان : «اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(2).
بل هو عين التقوى وحقيقة الإيمان، فبالعدل تُنزِل السماء غيوثها بالبركات، وتظهر الأرض معادن خزائن الخيرات، وترتع الحيوانات، ويمرع (3)النبات ، وبه يتوفّر النماء وتتضاعف الأشياء ، فيدرّ الضرع، وينمو الزرع .
وجد في خزائن كسرى (أنوشروان)(4) العادل
ص: 304
سفطٌ (1)حسبوا أنّ فيه بعض الأحجار التي ليس لها معادل، ومذ فتحوه وجدوا فيه حبّةً كأكبر ما يكون من النواة، ومعها رقعة مكتوب فيها : هذه حبّه رمّان عمل في خراجه بالعدل ، فجاء بهذه الرفعة(2).
ومثل ذلك يشهد لما يحكى عنه حين كظّه (3)الظمأ ، فجاء الى بستان عصر له صاحبها بعض رمّانه، فعاد القدح بها مفعماً، فنوى الملك في نفسه أن يزيد في خراجه وطقسه، فلمّا أراد الخروج أمره بقطع رمّانة أخرى، فعصرها بحضرة الملك، فكان ماؤها قليلاً نزراً، فسأله والرجل لا يعرف أنّه الملك، فقال : لعلّ الملك في مكانه قد عزم أو حكم بتغيير عادته من عدله وإحسانه، فإنّا لا نعرف سبباً لنموّ هذه الثمار وإسعافها، إلّا من عدل الملوك وإنصافها(4)!
ومن هنا لا يبعد صحّة ما يروى عن سيّد الأواخر فى العدل والأوائل : أنّه قال مبتهجاً : «وُلدت في زمان الملك العادل»(5).
ص: 305
وأعجب من ذلك ما يحكى : أنّ الملك المكين السلطان (محمود سبكتكين)(1)أرسل إلى بعض ملوك الهند أو الصين رسولاً يسأله : ما سبب طول أعماركم مع جحودكم للصانع وتكذيبكم للرسل والوسائط، ونحن قصار الأعمار مع تصديقنا وإيماننا؟!
فحبس الملك في بلده رسول السلطان، وأبقاه بعد أن قرّبه وأدناه، وقال له : لا أُجيب عن سؤالك حتّى تنقلع هذه الشجرة المثمرة من نفسها وتنقطع من أُصول غرسها!
فبقى الرسول على ذلك زماناً، وقد ضاق صدره وامتلأ أحزاناً من الحبس والانتظار والفرقة وبعد الدار ، فصار في سائر وقته يعمل أفكاره ليله ونهاره في السبيل إلى قلع تلك الشجرة.
فبينا هو كذلك إذ سمع هدّة عظيمة، والناس يهرعون وإليها يفزعون، فجاء معهم، وإذا بتلك الشجرة قد قُلعت من أُصولها وقرارها، ووقعت على الأرض بأثمارها.
ص: 306
فسعى إلى الملك قائلاً: بشراي! فقد نجحت آمالي، فهاتني جواب سؤالي.
فقال له : اذهب، فقل له : هذه همّة مظلوم واحد قد أثّرت في قلع شجرة عظيمة، فكيف لا تؤثّر في قلع أعمار الظالمين همم جماعة من الناس مظلومة؟! ودعاء المظلومين محمول على الغمام ، وأنفاسهم عندنا مؤثّرة كتأثير أرباب الاستسقاء في الأفلاك العظام.
ومثل هذا كثير لا يعدّ(1)، فلا نخرج أكثر من هذا عن الصدد.
ص: 307
والغرض أنّ العدل - وما أدراك ما العدل؟! حتم على الخالق والمخلوق، وفرض على الرازق والمرزوق، ولطف بين العابد والمعبود، ونصف بين القاصد والمقصود. ما خرج شيءٌ عن حيطته ولا اتّسع شيءٌ - بعد رحمة الله كسعته .
وهو من الحقوق المتوازنة المتضاعفة والنسب المكرّرة المتضايفة .
فكما يجب على الله - بحسب لطفه وكرمه وغناه وعظمه - أن يعدل في خلقه ويوصل كلّ ذي حقٌّ إلى حقّه - هو الذي أتى كلّ نفس هداها : «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(1)ولا يظلم ربّك أحداً - فكذا يجب على الخلق معاملته بالعدل والخروج ممّا يجب له عليهم بحسب وسعهم وطاقتهم. وما هو إلّا لتحصيل استعدادهم لسعادتهم، وإلّا فهو الغني عن طاعتهم وعبادتهم.
ويتفرّع هذا العدل على عدل الإنسان في نفسه بحسب مرتبة عقله وحسّه، بأن يرشدها العقل إلى ما فيه صلاحها ونجاحها، وتحصيل العلوم النافعة الكاملة، والتخلّق بالأخلاق الكريمة الفاضلة، والترفّع عن السجايا الذميمة السافلة، ومداومة الصدق، وملازمة الحقّ، قولاً وفعلاً، وعلماً وعملاً، وقلباً وقالباً، حاضراً وغائباً، خفية وجهراً، علانية وسرّاً.
والميزان في كلّ ذلك من تعيين المحاسن والمقابح والمفاسد والمصالح
ص: 308
والنافع والضارّ والضعة والفخار هو العقل، فقد عرفت أنّه هو الحكم العدل الذي إليه المرجع في هذه الأمور وعليه المعوّل .
فحقّ النفس عليه وعدله فيها : إرشادها، ودلالتها على محاسنها ومساوئها وما يسعدها ويشقيها ويهلكها وينجيها.
وحقّه عليها وعدلها معه: الرجوع إليه والمراجعة والانقياد له والمطاوعة والأخذ بأحكامه والوقوف على ما يرد عليها من ناحيته ومقامه، فإنّ علومه عن تعليم وأحكامه من لدن عليم حكيم.
فإذا وقعت بين العقل والنفس هذه المعادلة وحصل الصلح بينهما ولزمت تلك المعاملة وقام كلّ بما يجب عليه من وظيفته وعمل كلّ منهما على شاكلته (1)وأخذت النفس بالسير على تلك الدلالة، فقد تمّت لها جميع مراتب العدالة وأدت كلّ ما عليها من الحقوق للخالق والمخلوق لا محالة .
وحينئذٍ فقد صار الإنسان إنساناً كاملاً وملكاً عادلاً وخيرّاً فاضلاً مصدراً للخيرات وغوثاً يعمّ منه النفع والبركات.
وهذه هي أعلى مراتب العدالة، ولكنّها لا تحصل إلا للأوحدي من الناس ممّن اختاره الله واصطفاه وانتجبه وارتضاه ، واستحقّ خلافته على عباده وولاية الأمر في بلاده ؛ إذ معرفة تلك الحقوق تفاصيلاً وجملاً وأسباباً وعللاً، وتمييز الراجح منها والأرجح، والصالح والأصلح مع ما هي عليه من الكثرة والوفور
ص: 309
والتشعّب، والاختلاف بحسب الأزمنة والأحوال، والتغيّر والتقلّب، والتعارض والتزاحم، والتدافع والتصادم، فاستحضار جميع ذلك في نفسه - فضلاً عن العمل به - أمر عسير ومرمى خطير ومقام شاسع ومجال واسع وعظيم منزلة ورفيع مرتبة، لا تحصل إلّا بمنحة من الله وموهبة لمن خصّه الله من عباده بالكمال وخلّصه من شوائب النقص في الأفعال والأقوال حتّى صار لا يخيس(1) ولا يظلم حقّاً من الحقوق للخالق أو لنفسه أو للمخلوق.
وذاك هو الذي جعل الله التصرّف في الأمور كفالته، ورئاسة الدين والدنيا حوالته، وأوجب على عامّة الخلق طاعته وولايته .
وما ذاك إلّا لأنّه (جلّ شأنه) نزّهه كما نزّه نفسه عن الظلم وأكمل عدالته : «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(2).
وحيث إنّ ذلك الاستعداد وتلك القابلية من الملكات النفسانية والمعاني الخفية الباطنية التي لا تشاهدها الحواسّ ولا يطّلع عليها الخاصّة فضلاً عن عامّة الناس ؛ إذ ليست تلك العدالة الكاملة ممّا تقع عليها العين ولا تُعرف بالأفعال الجميلة مرّة أو مرّتين، بل هى رابطة إلهية وملكة قدسية .
ومن هنا قالت الفرقة الإمامية - ولعلها أصابت واستيقنت وما استرابت - إنّه لابدّ لصاحب تلك الولاية العامّة والرئاسة المطلقة من تعيين عليه ودلالة ونصّ من صاحب الوحي والرسالة(3)؛ إذ هو الشريك له في تلك المرحلة ، بل الأعلى
ص: 310
منه منزلة والمحيط به خبراً والمطّلع عليه علانية وسرّاً.
ثمّ إذا فاتت على الخلق هذه النعمة وسُدّ دونهم باب هذه الرحمة - لأسباب يطول بل يعسر بيانها ويرجح بل يلزم في مذهبي كتمانها - وجب أن يتولّى على
الرعية الأقرب فالأقرب إليه عدلاً والأشبه فالأشبه به سيرة قولاً وفعلاً.
وكلّما امتدّ باع الولاية والإمارة واتّسع نطاق السلطة والإدارة اشتدّت الحاجة إلى العدل ومعرفة الحقوق.
فأوّل ولاية للإنسان ولايته على نفسه بحسب حاله أوّل بلوغه وبدوّ كماله
وصلاحيته لانفراده واستقلاله.
وهو محتاج إلى العدل بذلك المقدار والسير فيها بسيرة العقل والاعتبار طلباً لإصلاح معاده ومعاشه وتحصيل ما يقوده إلى ثروته ورياشه وما ينتظم به حاله ويتّسع به كماله، وإلّا عاش في عيش وبي وعاد في حال ردي ، وكان إبرامه نقضاً وأحواله فوضىً.
ثمّ بعد الولاية على نفسه ولايته على أولاده وأهله وعرسه ممّن جعلهم الله تحت ولايته واستودعهم في كنف رعايته، حتى الحيوانات الصامتة والأشجار والزروع النابتة، بل العقار وسائر الأموال الثابتة وغير الثابتة.
فإنّ لجميعها حدوداً قائمة وحقوقاً لازمة.
والله (سبحانه) بكلّ ذلك محاسبه وسائله عنها ومطالبه، حتّى يضع كلّ شيء منها في محلّه، ويعامله بعدله، ويُعمله بوظيفته، ويقوم بحقّه وما يلزم من
مؤنته .
ص: 311
وهكذا تشتدّ الحاجة إلى العدل - بحسب ترقّي الإنسان في سعة الولاية على قدر ما له من اللياقة والكفاية - من سائر طبقات الناس في تفاضلهم وأصنافهم ومنازلهم، من مناصب الحكومة والدولة ومراتب الشرع والملّة، كالوزراء، والأمراء والقضاة، والولاة وشيوخ الإسلام، وأمراء الأقلام والكتّاب، والحجّاب، وزعماء الجيوش والفيالق، وحرّاس الحبوس والمضايق، وحاملي الرايات والبوارق، ومن بأيديهم الأقلام والمهارق ، وأهل الخراج والجباية ودفع المؤن والجراية ، وخزّان بيوت الأموال وأُمنائها، ونقباء بيوتات الشرف وزعمائها، لا بل حتّى العبيد والسادات، وخدّام الدوابّ والحيوانات. فإنّ لجميع هؤلاء عدلاً في من له الولاية عليه، وميزاناً يجعله في جميع معاملاته بين عينيه ..
ولا تزال تتصاعد المراقي والمقامات في المناصب والحكومات والإمارة والولايات، حتّى تنتهى إلى زعيمها الكبير صاحب التاج والسرير والشرف الخطير والباب العالي وعلم الإسلام الهلالي ، فهناك مطمح الأنظار ومسرح الآراء
والأفكار، وتوقّع ظهور العدالة الكاملة وترقّب صدور الآراء الفاضلة.
وما من ملك سار بالعدل في ملكه، وجرت أنوار عزماته في صلاح ممالکه مجرى النيّر في فلكه، ورعى رعاياه بأحسن سجاياه، و وعامل أهل مملكته ببرّه ورأفته، وأشفق عليهم إشفاقه بولده ولحمته وقومه وعشيرته، وسار فيهم سيرة السري الشريف في سريته، وطبّق على الحقّ والعدالة أقواله وأفعاله، إلّا وأنا لك عنه بشير : «وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ»(1)أنّك لا ترى تلك المملكة غبّ
ص: 312
يسير إلّا وقد بثّ ملكها بالعدل روح السعادة والرقي فيها، وأجرى عيون الحياة في مجاريها، وطبع على العدل بسيرته العادلة طباع جميع أمرائه ووزرائه، وجمع على الصدق والأمانة أهواء سائر خزّانه وأُمنائه، وكال النصيحة والخلوص لكافّة نوّابه ووكلائه، وزرع في ضمائر رعيته زروع الإخاء والاتّحاد، ونثر في ألواح قلوبهم بذور الطاعة له والانقياد، وقادهم بأشطان (1)المحبّة والهوى إلى سبيل الهدى والرشاد.
وحين إذ يتوافق على العمل بالعدل الرئيس والمرؤوس، ويتطابق على لزوم المعاملة به السائس والمسوس، ويتعامل بميزانه الملك والرعيّة، ويتواصل بعنوانه السري والسريّة، وتنتقش برسمه الصحائف والألواح، وتنتعش باسمه الأشباح والأرواح، حتّى تعود الرعيّة جسماً والرئيس لها رأساً، لا بل حياةً ونفساً، لا بل عقلاً مدبّراً وحسّاً.
ذاك حيث يكون الرأس رأساً موافقاً، والجسم للرأس مطابقاً، لا كرأس جمل على جسم شاة ، أو رأس شاة على جسم جمل!
فإذا كانت الحال على تلك الصفة فهنيئاً لتلك الأُمّة بالعيش الهنى والشرف السني ، والطالع السعيد والزمن الرغيد، والمجد المؤبّد والذكر المخلّد، والرّقى والسعادة والحسنى من الله والزيادة، والعزّة والمنعة والعلوّ والرفعة، والجموع والقوّة والسطوع والسطوة، وإذعان الممالك والأُمم وخضوع العرب لها والعجم، والعيش على الصدق والوفاء عيشة إخوان الصفاء على الموازرة والمعاضدة والمشاورة والمساعدة والمساواة والموازنة والمؤاخاة والمعاونة، في ثروة
ص: 313
باهرة وقوّة قاهرة ونعمة زاهرة.
أحيانا الله في ذلك العيش الأنيق، أو حيّانا بلطفه بغتةً، فأشهدنا ذلك الغصن الرشيق، أو أبقانا بمنّه إلى ظهور ذلك العصر الوريق، فإنّي أصفه وأحمده ولا أعرف من يعرفه أو يجده، وأذكر سجاياه ولا أنظره ولا أراه، وأسمع بتذكاره و تتلو الصحف عليّ جميل أخباره ولا أرى في أُفقي شيئاً من آثاره.
لا، واعتدال مذهبك وعدل آبائك وما سبكه الإسلام في شرائعه المقدّسة من أحسن السبائك، إنّ العدل إذا استمرّ هجره أزماناً وسُدّ باب العمل به عمىً وطغياناً، استحالت الطباع لا محالة ظلماً وعدواناً، وعادوا أعداءً وقد جعلهم الله بفضله إخواناً، وصار المتغلّبون سباعاً ضارية، والمتأمّرون ذئاباً عادية، وضعفاء الرعيّة كأنضاء (1)الإبل الأنقاض أو كقطيع الماشية، حتّى راح كلّ واحد وهمّته من عجزه و تراخيه هضم حقوق أخيه، وسلب نعم الله عليه وأياديه، والسعي في أن يهلكه ويرديه!
فلو تجسّمت لك أعمالهم لما رأيت إلّا نهشاً وعضاً، ولو كشف لك عن قلوبهم لما وجدت - بعد ظلمة الجهل - إلّا حقداً وبغضاً، ولو بلوت أحوالهم لما بلوت إلّا أخلاقاً سبعية أو بهائم وحشية يفترس بعضها بعضاً!
فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان!
لا، وأنّى لك منهم بطباع الحيوانات، بل ليتهم كانوا كالوحوش الضاريات! فإنّك لا تجد فيها من لا تأخذه على أبناء نوعه الغيرة والحمية، ولا تعدّ بها إلا القليل ممّن لا تعطفه على أبناء جنسه عواطف الجنسية وروابط السنخية.
ص: 314
وأمّا نحن - إلّا من عصم الله - فأشدّ بلائنا وعدواننا ليس إلّا على أبناء جنسنا وإخواننا :
وإنّ الذئب يترك لحم ذئب *** ويأكل بعضنا بعضاً عياناً!
ثمّ إذا دبّ هذا الداء العياء في النفوس واستحكم، واستفحل أمره في الطباع واستعظم، ومضى عليه دور بل أدوار، وشبّ عليه الصغار وربت عليه الكبار، فلا محالة صعب على المهرة من ناشئة العدل علاجه، وعسر - بعد تمكّنه - إزالته من المكامن، بل تعدّر - ولو بأدقّ المكائن - استخراجه ، ولكن :
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ***إذا استعنت بصبرٍ ان تری فرجاً(1)
وإذا أُهمل حتّى جرى في أُصول المملكة وفروعها، وأُمهل إلى أن سرى إلى آحادها وجموعها، ودبّ - والعياذ بالله - داء الشقاق من السوق إلى الأعناق، وراج في الأنفاق سوق الغدر والنفاق، وارتكز في الأعماق والعروق حبّ هضم الحقوق، وتُرك الشعب حتّى انشعب، وقلب الملك حتّى انقلب والعقل حتّى اعتقُل ،واحتجب ، فأنا لتلك المملكة نذير مبين، وعند جهينة الخبر اليقين(2): أن سوف تثب عليها الليوث الخوادر(3)، وتتعقّبها العقبان الكواسر، لا بل تفترسها والعياذ بالله - تلك النسور ، وتختلسها - إلّا إذا حفظ الله - ولو كان عليها ألف
ص: 315
سور، فإنّها لانتهاز الفرصة من ورائها، وقد استدارت عليها بعيونها ورقبائها، وهی لا تنفكّ تجهد إمّا لزوالها، أو لذهاب شرف استقلالها.
فلا يغرّنّها ما تبدي لها من الملق والبشاشة، فما هي إلّا لانتزاع ما أبقت فيها من الرمق والحشاشة :
إنّ العدّو وإن أبدى مسالمة *** إذا رأى منك يوماً فرصةً وثبا
فليبذل الجدّ والجهد أهلُ الحلّ والعقد في نشر لواء العدل وبثّ روحه في الممالك ، ولتجهد أن تعدل إلى العدل بطباع من تعوّد من أمرائها على خلاف ذلك، وإلّا فلتقطعه ولو بقلعه من أسّ بنائه ؛ فإنّ الظالم في الأرض كالعضو الفاسد في البدن، قطعه - إذا عسر علاجه - خير من إبقائه ، والعادل هو الحياة للأوطان وناموس السعادة والعمران و به تلتئم الشعوب وتتألّف القلوب، وتسعد المملكة وتقوى الملكة .
وليس العدل كما عرفت - سوى أداء الحقوق، وترك الميل والإجحاف، ومعاملة كلِّ بما يستحقه من الموازنة والإنصاف.
وميزان العدل واللباب فى هذا الباب ما امتنّ ببيانه وتفصيله أعدل سياسيٍّ عالِمٍ في العالَم، ومن هو - بعد أخيه - سيّد ولد آدم، إمام الموحّدين ويعسوب(1) الدنيا والدين، في خطبة ذكر فيها جملاً من حقوق الرعيّة على الملوك والأُمراء، و حقوق كلٍّ على الآخر من هؤلاء وهؤلاء، ونصب فيها موازين القسط وقوانين
ص: 316
الحقّ ومكائيل العدل في السياسة وتفاصيل ما يجب على من ألقى الله إليه أزمّة
الرئاسة .
وهي إحدى خطبه الجوامع وآيات (نهج بلاغته) الساطع .
وجميع ما ذكرناه في هذا الفصل من الحثّ على العدل وفوائده وثمراته وعوائد بركاته ما هو إلّا لمحة من لمحاتها، لا بل لمعة من قبساتها، لا بل غيض من فيضها، لا بل ضغت (1)من روضها .
ألا وهي خطبته التي خطبها بصفّين(2)التي يقول في أوّلها علیه السّلام.
«أمّا بعد، فقد جعل الله لي عليكم حقّاً بولاية أمركم، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم .
فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلّا جرى له .
ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله (سبحانه)
دون خلقه؛ لقدرته على عباده ولعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه.
ولكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله .
ثمّ جعل (سبحانه) من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يُستوجب بعضها إلّا ببعض.
ص: 317
وأعظم ما افترض (سبحانه) من تلك الحقوق : حقّ الوالي على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على الوالي.
فريضة فرضها الله (سبحانه) لكلٍّ على كلٍّ نظاماً لألفتهم وعزّاً لدينهم.
فليست تصلح الرعيّة إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعيّة.
فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه، وأدّى الوالي إليها حقّها، عزّ الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها (1)السنن، فصلُح بذلك الزمان، وطُمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعيّة واليها، وأجحف الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الإدغال (2)في الدين، وتُركت محاجّ السنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يُستوحش لعظيم حقّ عُطّل، ولا لعظيم باطل فُعل، فهنالك تذلّ الأبرار، وتعزّ الأشرار(3).
إلى أن قال (صلوات الله عليه) في وصف نفسه ليكون قانوناً لولاة العدل من بعده :
«وإنّ من أسخف حالات الولاة عند صالحي الناس أن يُضنّ بهم حبّ الفخر، ويُوضع أمرهم على الكبر .
وقد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أنّي أُحبّ الإطراء واستماع الثناء.
ص: 318
ولست - بحمد الله كذلك ، ولو كنت أُحبّ ذلك لتركته انحطاطا لله (سبحانه) عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة والكبرياء.
وربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علىّ بجميل ثناءٍ لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقيّة في حقوق لم أفرغ من أدائها وفرائض لابدّ من إمضائها. فلا تكلّموني بما تُكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة(1)، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له والعدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما عليه أثقل .
فلا تكفّوا عن مقالة بحقِّ، أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطِئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلّا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربِّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنّا فيه إلى ما أصلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى»(2)انتهى ما أردنا التشرّف والاستنارة بنقله من هذه الخطبة الشريفة.
يقول الملتزم بحبل ولايته المعتصم بعصمته وإمامته : إنّ الله (جلّ شأنه) قد
ص: 319
كفاه من نفسه من أن يخطِئ في قول أو فعل أو رأي أو تدبير أو غير ذلك بما منحه من العصمة التي تقول بها الإمامية المبتنية على أصولهم الصحيحة وبراهينهم التي هي بذلك صريحة(1)، وستمرّ عليك الإشارة إليها في محلّها إن شاء الله. ومراده علیه السّلام بقوله : «فإنّى لست بفوق أن أخطِئ» وكذا ما قبلها وما بعدها ممّا هو قريب منها : الاعتراف والإذعان بالبشرية ولوازمها، وأنّه يصحّ عليه جميع ما يصحّ على البشر، ويمكن عليه الخطأ والنسيان بالإمكان الذاتي من حيث إنّه إنسان وبشر ، وطبيعة الإنسان بذاتها تقتضي تلك الأُمور .
فهو علیه السّلام يريد المبالغة والتأكيد الشديد في إثبات أنّه إنسان وعبد الله ردّاً
على من أدّعى الألوهية في حقّه وقضى بالربوبية في شأنه .
وحيث كانت هذه المقالة الردية من أبغض الأشياء إليه حسب ما هو فيه من المعرفة بالله والعبودية، فلذلك جدّ في البيان واجتهد وأكّد الحجة وشدّد، فحقّق لذاته الطبيعة البشرية، وأثبت لنفسه لوازمها اعترافاً بالعجز والمخلوقية، وسجّل أنّ الخطأ والنسيان وغيرهما من النقائص له كغيره لازمة، إلّا أن يسدّده الله ويعصمه.
والإمامية تقول : نعم، من شدّة عبوديته الله وطاعته له ومجاهدته في سبيله ومخالفته لهوى نفسه قد سدّده الله وعصمه وأدّبه وعلّمه وكفاه من نفسه ما يحذر(2)؛ إذ النفس وهواها هو العدوّ الأكبر.
ولعلّ ما يروى عن النبي صلی الله علیه و آله و سلّم قد تُلي عليك من قوله : « أعدى عدوّك
ص: 320
نفسُك التي بين جنبيك»(1).
ومذ عرفها علیه السّلام وعرف شدّة مكرها وبلائها وما جبلت عليه واجتلبته من النقص بشهواتها وأهوائها، اعتصم بالله من شرّها المتفاقم، فكان الله له خير عاصم.
وعند ذلك أطاعته نفسه وما أطاعها، فبدل من النقص بأقصى الكمال طباعها .
والقول : بأنّ هذه العصمة لا تختصّ إذاً بالإمام، بل يصلح أن تحصل في كلّ واحد من الأنام.
قلنا : نعم، ولكن أين حقيقة الاعتصام حتّى يبعث العصمة، وأين الالتجاء إلى الله والكرامة عليه حتّى يستوجب العبد ذلك النصيب وتلك القسمة؟!
على أنّا لا نأبى من حصول تلك العصمة في الجملة لكثير من عباد الله الكاملين وأوليائه المخلصين .
ولكنا نقول : إنّهم وإن كانوا معصومين، ولكنّهم غير واجبي العصمة .
وتحقيق ذلك موكول إلى محلّه إن شاء الله .
وإنما الغرض دفع ما يترائى في بادِئ النظر من منافاة بعض فقرات الخطبة للقول بالعصمة .
وحملها على ذلك بعد قيام الدليل القطعي على وجوب عصمته - كما سيأتي إن شاء الله(2)- ممّا لا محيص عنه .
ص: 321
على أنّه في نفسه غير بعيد عن ظاهر الكلام.
ألا ترى قوله علیه السّلام- بعد تلك الفقرات : «وإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربٍّ لا ربّ غيره .... الخ، فإنّه كالصريح في أنّ مراده إثبات مشاركتهم في العبودية لله والمخلوقية له، لا المشاركة في الخطأ والجهل، إلّا بحسب أصل الطبيعة ، لا بحسب الحال الحاضر.
هذا كلّه مضافاً إلى ما في هذه الكلمات من فائدة التعليم والتدريب لسائر ولاة الأمر من بعده كي لا يحملهم الكبر والفخر والهوى وحبّ النفس والأنفة والترفّع والتعاظم والتمنّع عن احتمالهم تطرّق الخطأ والغفلة في حقّ أنفسهم، فيستقلّون في آرائهم ويستأثرون في التصرّف بحسب شهواتهم وأهوائهم قضاءً لوطر تلك الشهوة اللازمة وإعوازاً لتلك الملكة العاصمة؛ إذ هم بعدُ على أصل طبيعة البشرية، والخطأ جائز في حقّهم في الساعة الحاضرة والحالة الفعلية، فوجب - طلباً لصلاح المملكة ونجاحها - مراجعتهم لذوي الألباب المستقيمة والآراء القويمة والجدّ والعزيمة والدين والنصيحة والأغراض الصحيحة في كلّ نقض وإبرام وحلّ وإحكام ووقوف وإقدام.
فيكون كلامه علیه السّلام وارداً مورد قوله (تعالى) لنبيّه الأكرم الذي طهّره وأهل
بيته من الرجس تطهيراً : «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ»(1)، «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»(2).
ومن المعلوم المسجّل استغناء حبيبه المبجّل عن مراجعة قومه وأصحابه، وأكثرهم عُرب بوادي، ليس لهم في شيء من العلوم قدم ولا أيادی!
ص: 322
كيف ! وهو بالوحي المبين صادع والروح الأمين إليه ذاهب وراجع.
لا، بل قد استكفى عن كلّ ذلك واستغنى بما لا تسعه العبارة من المكان المكين والمنزلة الحسنى ومقام قاب قوسين أو أدنى .
فما أمره بذلك إلّا لتعليم العباد ودلالتهم على الحزم والسداد.
وماكلّ ولاة الأمر والسلاطين بذلك المقام المكين، ولا كلّ خليفة كعلى أمير المؤمنين.
وإذا أظهر الحاجة إلى الشيء من هو الغني الكامل، فما أعظم حاجتنا إليه ونحن على ما نحن عليه من النقص والقصور والضعف عن نيل حقائق الأُمور وعواقب الدهور!
على أنّ هنا فائدة أُخرى ومزية لعلّها بالذكر أحرى، وهي : أنّا وإن كنّا نقول : بأنّ علوم ذوي العصمة لدنية غير محتاجة إلى طريقة التعاليم البشرية، ولكنّا لا نقول بأنّها جميعاً حضورية، بل كثير منها تدريجية كسبية، لها أسباب وطرق خاصّة غير الطرق المتعارفة.
وهي : الوحي مثلاً ،والإلهام والرؤيا والمنام، ومحاورة الملائكة الكرام، وغير ذلك ممّا ليس القصد هنا بيانه .
ولكن لا يبعد أن يكون أحد الطرق مراجعة النبي أو الوصى أنفسهم لعظماء الأُمّة في خصوص ما يتعلّق بتدبير المملكة من السياسات ووقائعها المهمّة، ويكون مبدأ المبادئ (جلّ شأنه) قد جعل اليُمن والبركة في ذلك الاجتماع، فيلقي الصواب على لسان أحدهم، وينتقده صاحب الولاية والإمرة بقوّة حدسه وصحّة تمييزه وما أعطاه الله من القوّة والكمال، فينفذه ويمضيه ويحكم به ويجريه، فيكون عرض الآراء عليه أحد طرق تنبّهه وإصابته للصواب كالوحی
ص: 323
والإلهام وغيرهما.
وعلى هذا ، فالآيات الشريفة - على ظاهرها وحقيقتها - لا تنحصر بالحمل
على صرف التعليم وإن كان هو أحد مقاصدها .
وهذا أحد فوائد الاجتماع والتألّف الذي بني عليه أساس الإسلام، ولولا خوف الإطالة البسطنا فيه بعض الكلام.
ولعلّ إليه الإشارة بما رووا عن النبي صلی الله علیه و آله و سلّم - إن صحّ - من مضمون قوله : «ید الله مع الجماعة»(1)، وقوله : «لا تجتمع أُمّتى على الخطأ(2)، وأمثال ذلك ممّا يدلّ على فضل الاتّفاق والاجتماع، أو وجوب اتّباع ما وقع عليه الإجماع. ولكن الشأن كلّه في حضور عظماء الأمّة واجتماعها، وثبوت اتّفاقها جميعاً على ما وقع من دعوى إجماعها.
والغرض : أنّ تلك الخطبة الشريفة ممّا يلزم على جميع الملوك وأرباب الدول وولاة الأمر أن يتّخذوها وِرداً به يلهجون ومنوالاً عليه ينسجون، ويجعلوها غرّة في جباه سجلّاتهم وطرّة في نواصي مجلّاتهم.
وأوسع منها في تفاصيل الحقوق ومراتب العدل بين طبقات الناس على
ص: 324
اختلافهم ومعاملة كلّ واحد مع الآخر من الملوك والرعايا وما يلزم كلّاً منها لصاحبه من الأحكام والقضايا، هو كتابه الجليل وعهده المفصّل المستطيل الذي عهده إلى صاحبه وحواريّه وواليه ووليّه، بل أخصّ أصحابه وثقاته وأوثق أوليائه وولاته، قائد فرسانه وزعيم جيوشه وعين أعوانه، فارس الحروب وكاشف الغمّاء عنه والكروب، الحربي المشهّر (مالك بن الحارث الأشتر) (1) (تغمّده الله برضوانه الأكبر) حين أرسله والياً على مصر.
فليرجع إليه من أراد معرفة سياسة المدن ودقائق الرقي والتمدّن وأسباب العمران والشرف والأخذ بموازين العدل والنصف طبقات بین جميع الناس من : الوزراء والأمراء، والكتّاب والحجّاب، والعساكر والأكابر، والتجّار، وأهل الحرف والصنائع، والعمّال، وأرباب البضائع، ومعاملة الأشراف، والسفل، والمعاهدين من أهل الكتاب وسائر الملل، إلى غير ذلك من : النفوذ الإداري والروح التجاري، والمعمل الزراعي والعمل الصناعي، والجند والأسلحة والقلب والأجنحة، وتدبير الأهل والمنزل ومعرفة المبدأ والموئل، والنفس وكمالها وجورها واعتدالها، وما يزين ويشين من الصاحب والقرين.
ألاكلّ ذلك قد أحصاه عهده ، وحواه علاه ومجده، وضبطه حصره وعدّه
(1) مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة الأشتر المذحجي النخعي. كان من زعماء العراق الأشداء فارساً صنديداً شديد البأس حليماً كريماً خطيباً شاعراً. شهد اليرموك، وشترت عينه في وقعتها ، وقيل : بل شترت في حروب الردّة . توجه إلى مصر لما اضطربت الأوضاع على محمد بن أبي بكر ، وكان يومئذ في نصيبين ، فسم في الطريق بتدبير من عمرو بن العاص ومعاوية سنة 39ه-. التاريخ الكبير 7: 311 ، سير أعلام النبلاء 4: 34 - 35 العبر 1: 45. الإصابة 6: 161 - 162 . تهذيب التهذيب 10 : 10 - 11 ، أعيان الشيعة 9 : 38 - 42 .
ص: 325
ألاكلّ ذلك قد أوضحه علیه السّلام وأبانه، ونصب بالقسط والعدل مكياله وميزانه،
وعيّن ما يجري له وعليه وما يساق منه وإليه .
ألا كلّ ذلك ممّا اختصّ به علماً وعملاً، وقام به تفاصيلاً وجُملاً.
فراجع ذلك العهد (1)تجد جميع جميع معاهد المحاسن في عهدته وسائر تفاصيل العدل والحقوق في جملته .
ثمّ اعطف في ذلك النهج على سائر عهوده وكتبه ووصاياه وخطبه، فستری هنالك من العلوم الأعاجيب، ومن معجز الفصاحة والبلاغة ما يحيّر الألباب ويذهل اللبيب، ومن الأحكام السياسية والحكم الإلهية غرائب الأساليب.
ثمّ إذا قضيت وطرك من مراجعتها وفرغت من تدبّرها و مطالعتها، وأخذتك هزّة طرب المعرفة والعلم لا العزّة بالإثم، فقف هناك وصلّ وسلّم، وزد وبارك عليه، وابتهل إلى الله قائلاً : اللَّهمّ، هذا هو الإمام العادل، فلا أعدل عنه إلّا إليه. فالحقّ أحق أن يتّبع، وما لأحد مع الحقّ عداوة أو خُدع.
ونحن - طبع الله على الإنصاف قريحتك وطبعك - قد أتعبنا بطول الكلام سمعك، ولكن يشهد الله أنّا ما قصدنا بذلك إلّا نصيحتك ونفعك، فامنحنا - عافاك الله - عفوك، وخلّ كدرك، وابذل لنا صفوك.
وهاك فذلكة المقام وخلاصة ما سيق لأجله الكلام، فنقول :
إنّ الاتّصاف بالعدل وإقامة موازينه وإجراء أصوله واستعمال قوانينه
ص: 326
موقوف على معرفة الحقوق . وهي كثيرة تكاد أن لا تحصى ولا تحصر ، ولكنّها - على كثرتها واختلافها وتباين أنواعها وأصنافها - تندرج كلّية في ثلاثة أُصول ،
ولا يخرج شيء من الحقوق عنها بضرورة العقول :
الأوّل : الحقوق التي بينه وبين نفسه.
والأصلان الآخران يتفرّعان عليه كما عرفت ، وهو أصل برأسه .
الثاني : ما بينه وبين الخالق من الحقوق .
الثالث : ما بينه وبين المخلوق.
وقد أشار إلى ضابطة العدل وكلّيته في كلّ واحد منها ذلك العالم الربّاني والمعلّم بالتعاليم الإلهية، فما المعلّم الأول والثاني؟!
وكلماته في ضابطة كلّ واحد منها كثيرة يضيق المقام عن حصرها ويقصر عن أقلّها، فكيف بأكثرها، ولكن نقنع في كلّ أصل بواحدة مما فيه من كلماته العديدة ؛ إذ تغنيك من البحر الفريدة.
فضابطة العدل في الأوّل : ما ذكره علیه السّلام في إحدى خطب (النهج) يصف بها العبد الذي أعانه الله على نفسه وجعله من المقرّبين في حظيرة قدسه الذي : «قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحقّ ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلّا أمّها ، ولا مظنّةٌ إلّا قصدها ، فهو مصباح ظلمات ، كشّاف عشوات ، دفّاع معضلات، دليل فلوات . يقول فيفهم، ويسكت فيسلم . قد أخلص الله فاستخلصه فهو من معادن دينه ، وأوتاد أرضه»(1).
يقول أقلّ شيعته : لا يخفى عليك وجه جعله علیه السّلام نفي الهوى أوّل العدل في
ص: 327
النفس؛ فإنّها به تستعدّ لتحصيل الكمالات وتتهيّأ لنيل السعادات.
وإلّا فما دامت تتّبع الهوى والشهوات وتسعى جهدها لنيل اللذائذ الداثرات ، من : التأنّق في الملابس والتفوّق فى المجالس، والتبصبص كلبيّاً للأطماع والتلصّص ثعلبيّاً في الخداع، والتنعّم في الشراب والطعام واحتكاك الأجسام بالأجسام، إلى غير ذلك من الشهوات البهيمية والرذائل السبعية التي مهما نال الإنسان فيها من وافر الحظّ والنصيب فلا يبلغ منها مقدار شهوة حمار أو كلب أو ذيب! ومهما كان الإنسان على مثل ذلك أحرص وهو إليه أرغب فهو بالبهيمة أشبه وإليها أقرب!
أترى أنّ أحداً من الناس يُدرِك بنفسه ما للسبع من القوّة والقدرة على الافتراس، وأنّ الإنسان وإن بلغ الغاية في الشبق وحبّ الجماع ينال من الشهوة واللذّة ما يناله أقلّ الحمير عند الوقاع! ولولا استقدار ذكرها لشرحت في التفاوت حقيقة أمرها.
والغرض أنّ النفس إذا تُركت وهواها وأرسلت في طلب ما يلائم قواها فلا ترتج أبداً فلاحها ولا ترتقب صحّتها وصلاحها، ولا تنكسر منها سورة تلك القوى إلا بالرياضة على مخالفة الهوى.
ومثلها في ذلك مثل الحرث لأرض الزراعة، فإنّها وإن كانت - بحسب ذاتها - عذبة طيّبة التربة، ولكنّها لا تنال تلك السهولة والدماثة إلّا إذا خولف وضعها بالحراثة، وبعد الحرث والقلب تصلح للزرع ونثر الحبّ، فتُسيم النظر وتسمو وتمنّ بالثمر وتنمو.
وأرض النفس إذا لم يحرثها العقل بمخالفة الهوى ولم يوجّه سائس العدل ليعدّل منها تلك القوى، لا تثمر ولا تنمو بها بذور الحكمة، ولا تنتفع بما ينزل من
ص: 328
الماء سماء الرحمة، ولا يحصل لها شيء من مراتب العدل قبل تحصيل هذه المرتبة، ولا تبلغ منزلاً من منازل السعادة قبل قطع هذه المرحلة .
بل من نالها فقد نال السعادة كلّها ؛ فإنّها تستدعيها وتستلزمها وتقتضيها :
«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(1).
وقد أشار علیه السّلام إلى وظيفة هذا الأصل وميزان العدل فيه.
وفي الأصل الثاني - أعني : حقّ الخالق - بعهده إلى (مالك الأشتر) الذي مرّت الإشارة إليه، وبدأ به، وجعله أوّل عهوده ووصاياه نظراً إلى تقدّمه بحسب الشرف والرتبة وإن كان الأوّل في تقسيمنا متقدّماً بحسب التحقّق في الخارج، فلكلٍّ وجهٌ .
قال (سلام الله عليه ) : «بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أمر به عبدالله علىٌّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر جبّوة خراجها، وجهاد عدوّها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها ، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلّا باتّباعها، ولا يشقى إلّا بجحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله (سبحانه) بيده وقلبه ولسانه(2).
ثمّ ذكر حقّ النفس وميزان العدل فيها ، فقال : «وأمره أن يكسر نفسه عند
الشهوات، ويزَعها عند الجمحات، فإنّ النفس الأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحم الله(3)»(4)
ص: 329
وأشار إلى ذلك والحثّ عليه والاهتمام به في سائر كلماته وخطبه، حتّى يوشك أن لا توجد له خطبة أو خطاب أو كلام أو كتاب أو دعاء أو ثناء أو عهد أو وصية عمومية أو خصوصية - ممّا اشتمل عليه (النهج) أو أُدرج في غير ذلك الدرج - إلّا وفيها الحثّ على تقوى الله، وتطبيق الحركة والسكون على ما يوافق رضاه.
وما برح علیه السّلام يُلزم بذلك ويُحتّمه، وبه يبتدِئ كلامه و به يختمه .
شرّف نظرك واصرف عقلك وفكرك إلى وصيته لولده الحسن علیه السّلام التي كتبها إليه بحاضرين(1)منصرفاً من صفّين.
وهي من أطول وصاياه وأجمعها لخصائص الحسن ومزاياه، ومن أفصح الكلام وأبلغه وأجمعه لدقائق الحكمة العلمية والعملية ولطائفهما، وهي تشتمل على فصول في مطالب شتّى.
وأوّلها : «من الوالد الفاني المقرّ للزمان المدير العمر المستسلم للدهر إلى المولود المؤمّل ما لا يُدرك السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام ورهينة الأيّام، ورمية المصائب وعبد الدنيا وتاجر الغرور وغريم المنايا وأسير الموت وحليف الهموم وقرين الأحزان ونصب الآفات وصريع الشهوات وخليفة
ص: 330
الأموات»(1).
إلى أن قال علیه السّلام لولده : «وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي حتّى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من ما من أمر نفسي، فكتبتُ إليك مستظهراً إن أنا بقيت لك أو فنيت : فإنِّي أُوصيك بتقوى الله - أي بُنيّ - ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله . وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به؟!»ک(2).
ثمّ قال في فصل آخر - بعد كلام طويل : «واعلم - يا بُنيّ - أن أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيتي تقوى الله ، والاقتصار على ما فرضه عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك والصالحون من أهل بيتك»(3).
ثمّ - بعدما أمره بالعدل مع الله وأداء حقّه إليه بالتقوى - عطف القول ع-ل-ى حقوق النفس في تأديبها وتدريبها إلى ما فيه سلامتها وسعادتها في الدارين
واستقامتها.
فقال (صلوات الله عليه): «أحيي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من قبلك من الأوّلين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيمَ فعلوا وعمّا انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا، تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة
ص: 331
وحلّوا ديار الغربة. وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فاصلح مثواك ، ولا تبع
آخرتك بدنياك ... »(1).
إلى آخر ما ذكره (رفع الله في الملأ الأعلى ذكره) من لطائف الأخلاق وطرائف الحكمة وأسرار العلم وأنوار المعرفة .
والغرض انّ التقوى هى جامعة حقوق الله على العبد، فعدل العبد مع مولاه أن يتّقيه ويخشاه ، ولا يرضى إلّا بما يرضاه .
ووجه ذلك في نفسه واضح بيّن إن كنت بوجود صانع لك تستيقن.
فإنّك - بناءً عليه - تعلم أنّ ذاتك ونفسك وعقلك وحسّك، بل جميع أنفاسك وحواسّك من عينك وأذنك وفمك ولسانك وبنانك وكلمك، بل جميع أعضائك من قرنك إلى قدمك ، بل جميع ما فيها من قواك ، بلّ كلّ أقوالك وأفعالك وخيالك وهواك وسخطك ورضاك ، كلّ ذلك ملك له بحقيقة الملكية والسلطنة والولاية من دون شائبة تجوّز أو مسامحة أو كناية، فالتصرف في شيء منها بدون إذنه ومراضيه وعلى غير الوجه الذي أباحه ورخّص فيه ظلمٌ وعدوان وجور على وليّ الإحسان.
فحقيقة التقوى إذاً: أن يجعل العبد مالك تلك الأُمور نصب عينه في جميع حركاته وسكناته وأهوائه وخيالاته، فلا يتصرّف في شيء منها إلّا على الوجه الذي يعلم فيه برضاه ورخصته ، ويداوم على هذه المراقبة والمحاسبة والخيفة والخشية حتّى تصير له ملَكَة تنجيه من كلّ هلكة ، فلا يصدر منه قبض أو بسط أو رفع أو حطّ أو هوى أو خيال أو فعل أو مقال إلّا على طبق ذلك ووفق رضا المالك.
ص: 332
فإذا بلغ العبد إلى هذا المقام فقد أدّى المخلوق حقوق الخالق، وخرج ممّا له عليه ، وقام بميزان العدل فيما بينه وبينه.
وهذه هي المرتبة العليا والغاية القصوى التي عرفت أنّها لا تحصل إلّا لخاصّة عباده.
ثمّ تتنازل مراتب التقوى إلى حيث يكون العبد ظالماً لجميع حقوق ربّه، حتّى يموت - والعياذ بالله - مستغرقاً بذنبه غاصباً لجميع ما جعله الله أمانة في يده.
عصمنا الله بمنّه ولطفه، فإنّه لا عصمة إلّا بسببه، ولا توفيق إلّا به.(1)
وأمّا الميزان والضابطة الكلّية في :
الأصل الثالث: أعني : حقوق المخلوق التي عرفت أنّها في غاية الكثرة
ص: 333
والوفور بحيث لا تكاد تحصي كلّياتها - فضلاً عن جزئيّاتها - الأرقام، ولا تعدّها
ألسنة ولا أقلام.
وحقّ تفاصيلها أن تذكر في جزئي الحكمة العملية، أعني : تدبير المنزل وسياسة المدن.
ولكنّهم ما ذكروا فيها إلّا أيسر اليسير، وما ليس هو إلّا كالقطرة من البحر الغزير.
مضافاً إلى قلّة من صنّف فيهما بحسب ما بأيدينا اليوم من تصانيف القوم.
ولم أعثر في ذلك إلّا على كلمات قلائل أو موجزات رسائل للمعلّم الأوّل وأُستاذه(1) من اليونانيّين، و(أبي نصر)(2)و (أبي علي)(3)من الإسلاميّين، وبعض
ص: 334
رسائل إخوان الصفا (1)التي هي من أجلّ الكتب الإسلامية وأقدمها.
ولكن الجميع ما وفّوه حقّه، كما ينبغي له من حسن التحرير والتبويب والتنقيح والتهذيب والإفراد بالتصنيف ، كما صنعوا مثل ذلك في الجزء الآخر من الحكمة العملية - أعنى : تدبير النفس - حيث أفردوا له علم الأخلاق ، وملأوا به الصحف والأوراق، وأجادوا وأحسنوا وأحكموا وأتقنوا، وصنّفوا فيه أُلوفاً، وصيّروه علماً شريفاً، سيّما الصدر الأوّل من أساطين علماء الإسلام وحكمائهم : ك- (ابن مسکویه)(2)،
ص: 335
و (سلطان المحقّقين الطوسي)(1)(شكر الله مساعيهم الجميلة وضاعف في حقّهم ألطافه الجزيلة).
ونحن نبدي عذرهم في إهمال ذينك الجزءين المندرجين في الأصل الذي ذكرناه ، فإنّه متشعّب الجهات مختلف الوجوه متشتّت المسائل، ينطوي كثير منه في تضاعيف العلوم، جملة منه في الفقه، وكثير منه في الأخلاق، وبعض في الطبيعيات، فلا يكاد يُضبط؛ لاتّساعه وتشتّت أصنافه وأنواعه .
ولكنّك إذا أدمنت النظر في كلمات مولانا أمير المؤمنين وتصفّحتها بالتأمل والتدبّر ، فسوف تجد فيها من قوانين العدل وموازين القسط التي ينبغي أن يعامل الإنسان بها غيره من سائر طبقات المخلوقين ، بل يجب على كلّ طالب شأوٍ من الكمال أن يُنعم النظر في جميع الخلائق - على اختلافهم - من : القريب والبعيد، والطارف والتليد، والولد والذراري، والأزواج والسراري والأهل والعشيرة، والآباء والأمّهات، والأخوان والأخوات ، والأصدقاء والأصحاب، والأقران والأخدان. فيستوفي من كلّ واحد من هؤلاء حقوقه التي له عليهم - ولو
ص: 337
بالمناواة لهم والمعاناة - ويوفّيهم حقوقهم التي لهم عليه، كلُّ بمكانه وعلى قسطه وميزانه ، بتعيين عقل مطاع، أو عرف متّبع، أو شريعة عادلة، أو أخلاق فاضلة، أو غير ذلك من نافذ الحكم في سنّة طلب السعادة وتحصيل الكمال. ولا يزال عاملاً على الأخذ بهذه القوانين والكيل بتلك الموازين مع كافّة أهل بلده ومصره، بل سائر أبناء عصره، بل ومع السلطان والرعايا، والأمراء والسرايا، بل متنازلاً إلى أسفل من ذلك حتّى ولو من غير هذا الجنس من : الحيوان والنبات، والأثاث
والعقار، والعروض والنقود، والمعاملات والعقود.
تجد كلّ ذلك قد أجرى ذلك الإمام العادل سنّة العدل فيه، وبيّن ما يوجبه النصف في معاملته ويقتضيه.
تجده بين غضون كلماته وفي تضاعيف خطبه وكتبه ودعواته ، مؤتلفة في تفاريق وصاياه وعهوده ، مجموعة في جوامع كلمه وعقوده، مفصّلة في تفاصيل فصوله لدقيقه وجليله .
ولكن الميزان في ذلك كلّه والضابطة الجامعة لفرعه وأصله : ما أشار إليه بعض فصول تلك الوصيّة التي مرّ عليك بعضها، وذاك قوله علیه السّلام: «يا بُنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك»(1).
وقوله علیه السّلام من جملتها في بعض تفاصيل تلك الحقوق : «قارن أهل الخير
ص: 338
تكن منهم، وباين أهل الشرّتين عنهم، وحفظ ما في يديك أحبّ إليّ من طلب ما في يد غيرك، ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس، والحرفة مع العفّة خير من الغنى مع الفجور، وظلم الضعيف أفحش الظلم»(1).
إلى أن قال : «لا خير في معين مهين، ولا في صديق ضنين. احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل، وعند شدّته على اللين، وعند جرمه على العذر، حتّى كأنّك له عبد وكأنّه ذو نعمة عليك. وإيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله»(2).
ثمّ ذكر علیه السّلام جملة من حقوق الأُخوان، وكيف ينبغي معاملتهم، ومعاملة الأهل والعشيرة والنساء والخدم، وغير ذلك. فليرجع إليها (3)لتهذيب نفسه من أراد الله به وأراد لنفسه خيراً.
ومثل ذلك كثير في كلماته وكلمات أولاده المعصومين، بحيث إنّهم علیه السّلام ما تركوا حقّاً من تلك الحقوق إلّا وقد أوضحوا سبيله وبيّنوا صفوته ونخيله وخالصه
و دخيله وتراجيحه وتعاديله .
ولكن القول الجامع الفصل في هذا الأصل هو : ما تقدّم من قوله علیه السّلام: «اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ...» الخ.
وقد تكثّرت هذه الكلمة الشريفة في ما ورد عن نبيّنا وأئمّتنا علیهم السّلام، وهي (4):
ص: 339
أن يحبّ الإنسان لأخيه ما يحبّ لنفسه(1).
ولكن من أنعم النظر وأمعن التدبّر فيها والفكر ووصل إلى غور لوازمها ومعانيها، تيقّن أنّه ليس لهذه الصفة مصداق، بل لم تقع في الخارج لسواهم وسوى أمثالهم من خاصّة الله وإن بلغ العبد ما بلغ من كرم الأخلاق، فإنّ لازمها انتفاء الحسد والعجب والكبر وغير ذلك من الرذائل، بل لازمها أيضاً ثبوت جملة من الفضائل التي منها المشاركة والمساواة فيما في يدكلٍّ منهما للآخر من الغنى والثروة، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الفطن العارف.
وأمّا نحن اليوم (عافاك الله) فليتنا وعسانا نكف عن غيرنا شرّنا وأذانا!
وكيف نكفّ وها نحن نهشّ إلى الغلبة، فلا نزال ننهش وننبش قبور المعائب لنهتك إخواننا، فنفرح بذلك ونبتشّ!
فأين نحن (رعاك الله) وهذه المآثر، وقد ذهبت، وذكرها اليوم ذهاب أمس الدابر ؟!
فالحديث بها عند الناس في هذا العصر سخافة، حتّى كأنّهم يحسبونها
ص: 340
أحاديث خرافة !
والله وليّ الهداية والإصلاح لنا ولهم، وهو أرحم الراحمين.
ولكن لا يحتجبنّ عنك (رفع الله لك الحجاب عن باب الصواب) أنّا إنّما أكثرنا من إيراد كلمات أمير المؤمنين علي علیه السّلام في تفاصيل العدل وتقاسيمه؛ لتعرف أنّه هو الإمام الصدّيق العادل والفاروق بين الحقّ والباطل، فلا تعدل به من عداه ولا تساوي به من سواه .
وقد جشّمناك سهوب الإسهاب، وضربنا عليك من أخبية الكلام في العدل أطناب الإطناب، ونخشى أن نكون في تفاصيل العدالة قد جرنا عليك بالإطالة، وسُمناك السأم والكسل وأملينا عليك ما يوجب الملل.
وها نحن نستميح سماحك ونستعطف بالعذر إليك شدّتك وجماحك، فأنا بما أقول زعيم والله به عليم : إنّ ذلك كلّه ما كان من قصدنا ونيّتنا، ولا أعملنا فيه شيئاً من فكرنا ورويتنا، بل سال القلم به وسفح وطفى لجّ البيان به وطفح، وأشجانا حديث العدل والحديث شجون وجرّنا إلى بعض الكلام فيه لهجة أبناء العصر بذكره وهم فرحون .
نسأله (تعالى) أن يحقّق الآمال بظهور زمان الاستقامة والاعتدال، وانتشار راية العدل والإنصاف بين سائر الأصناف.
ولكن أين - يا حبيبي - لأين ؟! يا حسن ما تسمع الأُذن وبا قُبح ما ترى العين:
ولم أرَ إلا من يسرّك قوله *** ولكن وشيكاً ما يسؤوك فعله
وقد كان حسن الظنّ بعض مذاهبى *** فأفسده هذا الزمان وأهله
ولنردد جامح القلم عن شنّ هذه الغارة، فعهدي بك حرّ الطبع والحرّ تكفيه
ص: 341
الإشارة(1).
ثمّ إنّ ما بسطنا الكلام فيه من (العدل الأخلاقي) وإن كان خارجاً عمّا عُقد له هذا الفصل - أعنى به : الثالث المتكفّل لبيان (العدل الاعتقادي) بالأصالة - إلّا أنّه - بفضل الله - ما جاء خارجاً عن خطّة هذه الرسالة، كما ينبّه عليه تسميتها: (بالدعوة الإسلامية).
فإنّا وجدنا من العدل لنا أعدل شاهد، وعددنا من شرف مساعي ذلك المذهب ما هو أقوى معين على صحّته ومساعد.
وبعد أن محضناك النصيحة ونصبنا لك في العقائد والأخلاق موازين العدل الصحيحة، فلنعد إلى الأصل فيما عُقد له هذا الفصل من :
فنقول - ومن الله المعونة - : إنّه قد اتّفقت قاطبة المسلمين - على اختلاف مذاهبها وأذواقها ومشاربها - على اتّصاف ذاته (تعالى) بالعدل في الجملة(2)، بل ظنّي أنّ ذلك مذهب كلّ من يقول بثبوت الفاعل المختار في المبدأ، حتّى الأشاعرة.
وجعلهم في مقابلة العدلية إنّما هو باعتبار لازم قولهم ومذهبهم في مسألة
ص: 342
أُخرى، كما سيتّضح لك ذلك إن شاء الله .
وإلا فهم قائلون: بأنّه (جلّ شأنّه) متّصف بالعدل منزّه عن الظلم(1).
كيف ! والكتاب العزيز طافح بذلك على وجه الصراحة والنصوصية(2).
بحيث لا يصح من مسلم إنكاره.
نعم، لهم مذهب يستلزم ذلك لزوماً بتيّاً ويؤدى إليه أداءً بديهيّاً
وذلك أنّهم أنكروا الحسن والقبح العقليين(3)، بمعنى : أن يكون للعقل حكم بأحد الأمرين على الأفعال بذواتها وأنفسها، مع قطع النظر عن كونها ملائمة للطبع أو منافرة له بتحصيل غرض أو مصلحة أو دفع مضرّة ومفسدة أو اعتياد عرفي أو انقياد ديني يوجبان الألفة أو النفرة.
فالأفعال عندهم بالذات ومع قطع النظر عن تلك الجهات شرع سواء لا
ص: 343
تفاوت فيها حسناً وقبحاً، وفاعلوها لا يختلفون في الاستحقاق مدحاً ولا قدحاً. فلو أنّ رجلاً أسدى عظيم الإحسان إلى إنسان، ثمّ احتاج إليه بأهون شيء، فقابله بالردّ والهوان أو القتل والحرمان ، ولم يكن ذلك الفعل ممّا يعود إلينا أبداً بمنفعة أو مضرّة، وقطعنا النظر عن حكم الديانة بتقبيحه وتحريمه ، لم نجد فيه عندهم شناعة ولا استغراباً وبشاعة!
وهذا الحكم عندهم سارٍ في أفعال الخالق والمخلوق جميعاً(1).
سوى أنّ أفعال المخلوق قد تصير حسنة أو قبيحة بعد تعلّق أحكام الديانات بها إيجاباً أو تحريماً، بخلاف أفعاله المقدّسة، فإنّه لا مجال للعقل فيها بتحسين أو تقبيح أبداً.
فلو عذّب العبد الذي أفنى عمره بالطاعة والعبادة وخلّده في جهنّم، وأنعم على الشقى الذي أهلك العباد وأفسد البلاد بالقتل والظلم وأدخله الجنّة، لم يكن ذلك منه قبيحاً ولا خلافه حسناً، بل كلّ ما يفعله ويأمر به هو الحسن، وكلّ ما يتركه أو ينهى عنه فهو القبيح، لا أنّه يفعل ما هو الحسن لحسنٍ ذاتي يدعوه إلى فعله، أو يترك الشيء لقبح ذاتي يوجب تركه.
و من هنا لزم مقالتهم هذه إنكار كونه (تعالى) عادلاً بالمعنى الآتي قريباً، بل صرّحوا بإنكاره وجواز أن يُدخل النار من أطاعه والجنّة من عصاه قائلين : بأنّ كلّ ما يفعله هو العدل كيف ما كان(2)!
وقد خالفهم في ذلك قاطبة العقلاء وضرورة العقول وتظاهر في خلافهم
ص: 344
والردّ عليهم من المسلمين طوائف عُرفوا بالعدلية(1)، وهم : كافّة مشائخ العرفاء ، وسادة الصوفية، وأساطين الحكمة والفلاسفة الإلهية، وقاطبة المعتزلة، وجمهور الإمامية، وسائر السلفية، والظاهرية .
ونحن نوضّح لك الحقيقة بأجلى بيان :
وذلك أنّ لكلّ واحدة من الحواسّ الظاهرة بالضرورة ملائمات ومنافرات من الأفعال الخارجية، بل سائر الموجودات ممّا تقع عليه تلك الحواسّ، فكما أنّ السمع تلذّه أصوات القماري والبلابل بسجعها، وتُؤنسه نغمات الأوتار في تناسب وقعها، وتزعجه أصوات الحمير وقعاقع الرعد المهول وعواصف الريح وزجل الطبول، واللمس تلائمه النعومة وتؤلمه الخشونة، والشمّ تُنعشه روائح المسك وتكمده العفونة، وهكذا الذوق والبصر في مدركاتهما من الطعوم والصور، فكما أنّ لكلّ واحدة من هذه الحواسّ منافراً وملائماً ومصالحاً ومصادماً، فكذا لرئيسها وحاكمها ومُسيّسها الذي به صار الإنسان إنساناً، وإلّا فهو بتلك الأمور وحدها لم يكن إلّا حيواناً !
لولا العقول لكان أدنى ضيغم *** أدنى إلى شرف من الإنسان(2)
فلا محالة له منافرات وملائمات بضرورة أنّ له مدركات ومعقولات، وإلّا فهو معدوم باطل الذات، وما القول بوجوده حينئذٍ إلّا كالقول بالغول والعنقاء وسائر الخرافات! ضرورة أن لا سبيل لنا للإيمان بوجود شيء من القوى
ص: 345
الحسّاسة إلّا بظهور آثارها؛ إذ كم من واجد لجارحة العين والأُذن وهو أعمى أو أصمّ، وفاقد لحاسة الشمّ وهو ذو أنف أشمّ!
هذا حال النفس وقواها مع أنّ-[ه] لها جوارح وأدوات وأعوان وآلات.
ولهذا كانت مجرّدة في ذاتها مادّية في فعلها، (والنفس في وحدتها كلّ القوى).
فكيف بالعقل وهو المجرّد في ذاته وفي فعله ؟ !
والقول : بأنّه لا يلزم من عزله عن تلك الحكومة والإدراك بطلانه من أصله، بل يبقى له إدراك الكلّيات؛ لاستقلاله بها من بين سائر القوى.
قولٌ خالٍ عن التحصيل بعيد عن التحقيق .
وبيان ذلك يحتاج إلى الإشارة إلى حقيقة الإدراك ولبّ معناه بحثاً فلسفياً لا نظراً سطحياً، وفهم ذلك وإن كان لا يخلو عن صعوبة؛ لما فيه من الغموض والغرابة على ذوي العقول الصحيحة ومن له لطف قريحة، فكيف بمن سدّ باب العقول وأحكامها بحكمه، بل أبطل حقيقتها بفاسد زعمه؟!
ولكن حيث إنّ لبيانه دخلاً في أصل هذه المسألة وبتحقيقه يتّضح أقصى الحقّ وينكشف سرّ هذه المعضلة، فنحن بعون الله - نذكر هنا ما يجريه قلم الغيب على أقلام من يشاء من عباده، ونبثّ منه ما يمليه لوح الملأ الأعلى على لسانه وفؤاده، ولا نبسط من القول فيه إلّا على قدر ما يباح لنا من إفشاء سرّه، ولا نکشف حقيقته إلّا على وجه يجوز عندنا كشف ستره ..
فنقول - ومنه المؤونة والمعونة - : إنّ حقيقة الإدراك كما هو معناه لغةً -:
ص: 346
اللحوق (1)وحضور المُدرَك عند المُدرِك. وهو يختلف باختلاف طرفي هذه النسبة المتقوّمة بهما المنتزعة منهما.
ففي إدراك زيد لعمر مثلاً في الطريق إذا لحق به ظاهر، وأمّا في إدراك القوى النفسانية الظاهرية والباطنية لمدركاتها المحسوسة والمعقولة الصورية والمعنوية فإنّما هو بضرب من الاتّحاد ونحوٍ من الإحاطة والسعة .
فالنفس - بتوسّط هذه الحواسّ التي هي كالآلات الموصلة لها كمالها بل هي كالجنود والأعوان للنفس في ذبّ الأذى عنها وجلب الخير لها - تتّحد مع مدركاتها التي أوصلتها الحواسّ إليها بالنحو اللائق بها من الاتّحاد.
والاتّحاد كلّية على نحو الحقيقة والوحدة لا التركيب والانضمام لا يتحقّق بين المادّيين أصلاً؛ فإنّ المادّة مثار الكثرة والمغايرة .
ولقد أحسنوا فيما قالوا من : أنّ المادّي غائب عن نفسه ؛ فضلاً عن غيره(2)؛ نظراً إلى أنّ المادّي لا يُدرِك شيئاً من حيث المادّة، فهو غائب حتّى عن نفسه؛ إذ حيث لا إدراك فلا حضور.
وبالجملة : فالمادّي لابدّ أن يصير من سنخ مُدرِكه حتّى يُدرك ويتّحد معه.
ألا ترى العناية الأزلية كيف جعلت آلة الإدراك التي هي الواسطة بين النفس ومدركاتها المادّية ذات جهتين : فمن جهةٍ تناسب المدرِك، وهى الجارحة كالعين مثلاً؛ لتنطبع فيها بالانعكاس أو الارتسام صور الأجسام وتتّحد معها بهذا النحو من الاتّحاد، ومن جهةٍ أخرى تناسب المدرَك في التجرّد، وهي
ص: 347
قوّة الإبصار التي أودعتها الحكمة في تلك الجارحة؛ لتقدر على تجريد صور الجسمانيات كي تتّحد مع النفس ، فإنّ تلك القوّة شأن من شؤونها، بل كالناحية والطرف منها ، ولكن طرفها الأدنى هو ما اتّصل بالأجسام وامتزج بالمادّة، كما أنّ طرفها الأعلى هو ما اتّصل بالمجرّدات الخالصة من شوائبها .
وتلك المرتبة من النفس هي التي نسمّيها : بالعقل .
وظنّي أنّ ما نروم توضيحه من أنّ الإدراك للأشياء في القوى المدركة عبارة عن الحضور، وأنّ الحضور ثمّة لا يعقل إلّا بنحو من الاتّحاد بل الوحدة وسعة الوجود ، وأنّ ذلك لا يحصل إلّا مع المناسبة والسنخية ؛ إذ بالضرورة والوجدان يستحيل أن يتّحد المتباينان من حيث هما كذلك.
كلّ هذه الأمور واضحةٌ لمن تدبّر وتدرّب في فكرته وفتح الله بصر عقله وعين بصیرته.
وإن طلبت في إيضاحه مزيداً وأردت مثالاً يقرّب عليك منه أمداً بعيداً فقس الحال على وجدانك الذي هو فوق سمعك في الإدراك وعيانك، فإنّك تجد في تن-ا نفسك عند العطش والظمأ نقصاً وانقباضاً وضيقاً وألماً. وكلّ ذلك راجع إلى
أمر واحد ، وهو الإعواز والفقدان والنقص والحرمان.
ولا يرفع ذلك تصوّرها لمعنى الماء وأنّه رافع للعطش موجب للرواء، ولا حضور الماء البارد بين يديك ومشاهدته بعينيك.
نعم، إذا باشرته بأعضائك، أو أجريته في أمعائك، وأحسّت به نفسك بواسطة تلك الأدوات التي هي أيضاً من قواها ومنها وإليها قوّتها ومجراها، حصلت لك - بتوسّط هذه الآلات - تلك الملابسة ووقع للنفس مع الماء ذلك الاتحاد والمؤانسة.
ص: 348
فهناك تجد للنفس سعةً وانشراحاً وبسطاً وانفساحاً، وما هو إلّا وجدان بعد فقدان وكمال غبّ نقصان، ورفع مرض وألم وصحة عقيب سقم .
وكذا القياس في النار، فإنّ تصوّر أنّها جسم بسيط عنصري يقتضي تفريق المجتمعات ، ليس هي إلّا ألفاظٌ مفرادتُها مفهومة ومفاهيمها موهومة، ليس لها من حقيقة النار ذكر ولا قلامة ظفر. نعم، هي شبح وخيال وحكاية ومثال.
وإنما أحسّ بالنار وأدركها من مسّها وأمسكها، وعرف آثارها ومقتضاها من باشر بجسمه لظاها : (سل) عن النار جسم من عاناها).
والفرق بين المثالين إنّما هو بالملائم والمنافر، وسيأتي بيانه في سياقة هذا التحقيق إن شاء الله.
ولكن ذاك (أصلحك الله وعافاك) حقيقة المعرفة وتمام الإدراك وإن كان هناك مقامٌ في المعرفة أعلى منه، ولكن لا يسع بيانه مضيق هذه الباحة، بل لا أجد في كشفه رجحاناً ولا إباحة.
ثمّ لا ينافي ذلك الإدراك عدم إحاطة المُدرِك بتمام حقيقة المُدرَك؛ إذ معرفة حقائق الأشياء مقامٌ فوق ما نحن فيه، وإنّما الغرض إثبات أنّ الإدراك عبارةٌ عن الحضور وسعة الوجود، ولا يلزم من ذلك الاطّلاع على الكنه والحقيقة؛ فإنّ أشدّ الأشياء حضوراً إلى الإنسان وأقربها إليه نفسه، وهي من أجهل الأشياء عنده كنها وحقيقة وأوضحها إدراكاً وسعة.
نعم، الشيء لا علم بكنهه وحقيقته إلّا لعلّته أو من قِبل علّته.
واقنع من أنوار هذه الحقائق بهذا الومض، فقد وصل الكلام إلى مقامٍ يجد الندب قطعه من الفرض!
أمّا إذا أدركت حقيقة الإدراك فاعلم أنّ عناية التدبير قضت واقتضت أنّ
ص: 349
لكلّ قوّة من القوى وحاسة من الحواسّ ملائماً ومنافراً، باطناً أو ظاهراً، فعلاً من
الأفعال أو عيناً من الأعيان، جوهراً أو عرضاً، مقدّمةً أو غرضاً.
وكلّ ذلك عائد إلى ملائمة ذات النفس ومنافرتها؛ لما عرفت من أنّ الحواسّ والقوى مجارٍ وآلات لها وطرق إليها، بل هي هي وأفعالها متعاكسة منها وإليها.
إلّا أنّ الحكيم الخبير جعل النفس الإنسانية ناقصة بحسب الفطرة، مستعدّة للكمال في سعيها بحسب القوّة والقدرة، سارية في صراط الحركة إمّا إلى الرقي أو الانحطاط على التوسّط أو الإفراط .
فمن ثمّة ألهمها فجورها وتقواها ؛ ليفلح من زكّاها ويشقى من دسّاها.
فحقيقة تلك الملائمات والمنافرات الراجعة إلى النفس إنّما هي كمالها أو فقدانها وتمامها أو نقصانها، والشيء لا يطلب ولا يسعى إلّا لكماله وتمامه، ولا يهرب إلّا من نقصه وإعدامه، فميل القوى إلى تلك الملائمات إنّما هو لكونها سعة للنفس وكمالات.
ألا تراك كيف تحبّ الثروة في الجاه والمال والأولاد، وما الثروة - كما علمت في اللغة (1)والاستعمال - إلّا الزيادة والتوسعة .
فإذا كانت النفس لتوسعتها فى علائقها الخارجية بهذا المقام من المحبّة فهي لتوسعتها في ذاتها أحبّ وإليها أرغب.
وهذا ما وعدناك به من بيان وجه الملائمة والمنافرة.
نعم، حيث إنّ النفس - بحسب فطرتها - قاصرة ، قد تحسب ما هو مضرٌّ لها
ص: 350
نافعاً وما هو موجب لنقصانها مكمّلاً، ألا ذاك من كثرة آفاتها وغلبة شهواتها ..
ألا ذاك من انحرافها عن الاعتدال الطبيعي والصراط المستقيم المنصوب بين عينيها ، وميلها عن الاستقامة الفطرية التي فطرها المبدع عليها ..
ألا ذاك من سوء اختيارها، وسيّء اعتبارها، وخسّة مقدارها، وضعة همّتها، وضعف تربيتها!
فوجب - نظراً إلى ذلك كلّه - أن يجعل لها ذلك المدبّر الذي أنشأها للصلاح لا للفساد، وللألفة من مباديها لا للحياد، وللرحمة لا للغضب، وللنجاة لا للعطب، وللرقي لا للانحطاط، وللصحّة لا للأغلاط، مسدّداً عاصماً، وملكاً حاكماً، وميزاناً عدلاً، وحَكَماً فصلاً، وقيداً لها عن السوء وعقالاً، ومرشداً لها هداية وضلالاً، فوهبها ذلك الصانع المقدّر والحكيم المدبّر تلك القوّة الكاملة التي نسمّيها : بالعاقلة ، ذات الآراء الفاضلة، فإنّها هي التي تميّز للنفس بين النافع والضارّ، والمصلح والمفسد، والمضلّ والمرشد، والداء والدواء، والمرض والشفاء، والسعادة والشقاء.
لا أُريد بالنافع والضارّ ما يرجع إلى المأكل والمشارب من البارد أو الحارّ، أو العقاقير والأدوية، أو الاستلذاذ بالروائح الطيّبة واستكراه المؤذية، والأُنس والطرب بترجيع النغمات، والوحشة والتنفّر من أنكر الأصوات، فإنّ جميع ذلك قد تكفلّت به الحواسّ وتساوت به مع الحيوان عامّة الناس، وما هو بالذي به التفاوت والتفاضل والتعالى والتسافل والتأخّر والتقدّم والخسة والتكرّم، بل أقصد وأريد ما به الفضل والمزيد بين عامّة أفراد الإنسان، وبه الامتياز بين نوعه وسائر أنواع الحيوان الذي اختصّ به البشر وانفرد واستأثر واستبدّ، ولم يترك منه لأنواع جنسه حظّاً لا معنى ولا لفظاً، تدبير حكيم وتقدير عزيز عليم، غير جائرٍ
ص: 351
في حكمه ولا قاصر في علمه.
تلك هي القوّة التي يسعى بها الإنسان للرقي والسعادة والسعة والزيادة والعلم والإفادة ..
هي التي يميّز بها الأفعال الحسنة من القبيحة، والفاسدة من الصحيحة، والأخلاق الشريفة من الدنية، والجيّدة من الردية.
هی التي بها يكتشف ويخترع، وينفع وينتفع ، ويعلو ويرتفع، ولا ينفكّ بها ولا يزال ينتقل ويرتقى من حال إلى حال.
أترغب في أن تحسّها وجداناً وتدركها معرفة وإيقاناً حتّى كأنّك تراها عياناً؟!
هاك فانظر إلى عامّة الحيوانات - على كثرتها واختلافها في أنواعها وأصنافها - تجدها في حالتها الهمجية، وعاداتها الوحشية، وعيشها البسيط، وأقواتها الزهيدة، وملابسها الطبيعية، ومساكنها الأصلية من مغارٍ أو وجارٍ أو عشٍّ أو أوكارٍ، كلّ ذلك لم يزل طول حياتها على حال واحد ووضع قديم بائد، لا تبرح عنه ولا تزول ولا تنتقل إلى غيره ولا تحول ..
تجدها لا تكدح أبداً ولا تسعى إلّا لتحصيل المورد والمرعى، ولا ترتقي على مرور الأعوام إلّا في ضخامة العظام ونموّ الأجسام، الذي شاركها فيه النبات والأشجار، وإن امتازت بقليلٍ من القدرة على دفع المهالك والأخطار، لكن لا علم لا ،اختراع، لا رقي لا ارتفاع، لا اكتشاف لا صناعة، لا استهلال لا براعة.
أحسن ما ذكروا للحيوانات من الصناعات : ما ينسج النحل والعنكبوت من مسدسات البيوت.
ص: 352
لكن هل سمعت أو رأيت أنّ فرداً منه أو من غيره من الأنواع قد أحدث في ذلك الشكل صفة أخرى، أو وضعاً وجد أنّه أليق به من الوضع القديم وأحرى؟!
وهذا الإنسان كما تراه - لا يبرح كادحاً طول عمره في السعي لإصلاح أمره. كلّ ذلك طلباً للكمال والسعادة والسعة والزيادة.
نعم، بعضٌ سعى لسعادة حاله الحاضرة وأعرض عن تحصيل سعادة داره الآخرة التي هي دار قراره ومقام بقائه ومنزل خلوده في نعيمه مه أو شقائه.
وبعضٌ - وإليك اللهمّ نرغب في ذلك - قد أخذ من كلا الدارين حظّه وأجزل
من كلتا السعادتين نصيبه، أولئك عباد الله وصفوته، وقليلٌ ما هم!
وصفوة القول : إنّا وجدنا حياة الوحش والطير والبهائم، وهي في طمأنينة وهدوٍّ وسكون دائم، وكأنّها في فراغ، إلّا من أن تتسافح وتتناكح، وتأكل وتشرب، وتلهو وتلعب.
أمّا الإنسان ففي جولان وحركة دائبة، ومساع واصبة، وأعمال ناصبة.
فلو تأمّلت في طول حياته حالته وجدته كهائم في الأرض يطلب ضالّته، أو كصادٍ (1)يجول على الماء في القفار ليطفي حرّ الأُوار(2).
تجد ذاك غريزة منه وطبعاً، يكدح في السعي ولا يدري لأيّ شيء يسعى؟!
أنا أُنبّئك بالخبر اليقين واكشف لك عن السرّ المبين : إنّما يسعى طلباً لسعادته وكماله، ورفع ما يجده من نقصه وسوء حاله، و «كلٌّ ميسّرٌ لما
ص: 353
خُلق له»(1).
فتلك الأحوال والآثار هي التي أوجبت لنا أن نحكم بأنّ للإنسان قوّة غير القوى التي يشترك بها مع الحيوان، سمّيناها : بالقوّة العاقلة، والنفس الناطقة.
فمن ميّز بين ما به الشقاء والسعادة والنقص والزيادة ، فسعى في طلب هذا ورفض ذاك، وشارك بل فاق على الأملاك، فهذا هو الإنسان.
لكن لا تجده في أفراد من تسمّى به إلّا قليلاً، كيف! وأكثر من فيه كما يقول باريه : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(2).
وأراد (جلّ شأنه) بالإضراب والترقّي التلويح والإشارة إلى قوله (تعالى): «قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ»(3).
فذاك ما يستحقّ به المرء حقيقة الإنسانية، لا ما سمعته زمان الصبا في الفنون الرسمية والعلوم الآلية من : أنّ الإنسان هو الذي يدرك الكلّيات، إذ أيّ شرف بهذا، وأيّ فائدة وأيّ دليل، ومن أيّ سبيل يصحّ لنا الحكم بأنّ الحيوان غير موصل القوى الحسّية بهذه القوّة الزائدة، لنحكم بتمايزهما من ذلك واختلاف نوعيهما؟!
وهل هذا إلّا خبطٌ في القول وخطلٌ(4)في الرأي، تأباه الرصانة في العلوم والمتانة؟!
وهذه القوّة هى العقل الغريزي المطبوع الذي عرفت جملة من مباحثه في
ص: 354
صدر هذه الرسالة.
أمّا لو كمل وتمّ وقوي واشتدّ بانضمام العقل الكسبى المسموع المستفاد من التجربة والتدرّب والتدبّر، فذاك مقام التصاعد والتسامي في معارج الإنسانية و تحصيل الملكات القدسية.
ولا أعني بالانضمام اجتماع المختلفين واتّصال المنفصلين، بل المراد : تقوّي الضعيف، وكمال الناقص ؛ فإنّ جميع ما ذكروا للعقل من الأقسام والمعاني (1)مراتب و درجاتٌ له، بل العقل بجميع مراتبه مع النفس بجميع قواه
ص: 355
متصلٌ واحد ممتدٌّ، طرفه الأعلى متعلّقٌ بالمجرّدات والأسفل متعلقٌ بالمادّيات، ولذلك الواحد المتّصل شؤون ومراتب وآثار وخواصٌّ، نعبّر عن كلّ واحدة من تلك المراتب باعتبار أثرٍ من تلك الآثار بعبارة خاصّة وباسم غير اسم الآخر. فهذا سمع، وهذا بصر، وهذه هاضمة، وهذه دافعة، وهذه مخيّلة، وتلك حافظة، وهكذا حتّى ينتهي الأمر إلى العاقلة التي هي منتهى المراتب وآخر منازل النفس . وطريق السعادة التي ينبعث الإنسان على تحصيلها بقوّته العاقلة إنّما هو العلم والعمل، وإلّا كان كالظامئ الذي تصوّر الماء ولم يشربه.
والحاجة إلى العقل ظاهرة في كلا المقامين؛ إذ هو المميّز لما به السعادة، كما أنّه هو الباعث للنفس وقواها إلى تحصيله.
ألا تراه كيف يسوقها إلى أبغض الأشياء إليها وأشدّ الأُمور منافرةً لها، وهو الجوع والظمأ، وتحمّل المشقّة والأذى، بل إلقاء النفس في المهالك واستقبال السيوف وشرب الحتوف تحت السنابك(1)، حيث يحرز لها به السعادة ونيل مقام
ص: 356
الشهادة، أو دفع العار وحفظ الذمار، كما كانت تصنعه عرب الجاهلية وغيرهم
ممّن لم تكن تبعثه على ذلك الديانة ولا تسوقه إليه الشريعة؟!
فهل يتأتّى ذلك من شيء من هذه القوى الظاهرة أو الباطنة مع شدّة منافرتها له وفرارها عنه؟!
وهل هو إلّا من خواصّ تلك القوّة القدسية واللطيفة الإلهية؟!
ولكن كلّ ذاك منها حيث لا يكون القلب - والعياذ بالله - مقلوباً والهوى غالباً والعقل مغلوباً، وإلّا كان كملك عادل ظلمته رعاياه وسرت عن مقام طاعته جنوده وسراياه ، فعاد في أيديها أسيراً وظلمت أنفسها حيث أظلمت، وهو في زاوية البيت يتوقّد نوراً، فلم تستضئ بمصباحه ولا استشرقت بصباحه.
بل العبارة التي هي أشدّ للواقع مطابقة وأحسن هنا موافقة هو : أن نقول : إنّ ذاك الأمر الواحد المتّصل إن غلبت وظهرت عليه أحكام طرفه الأعلى تعالى وتقدّس كلّه وتكامل، وإن غلبت عليه أحكام طرفه الأسفل وخواصّه تناقص وتردّى وتسافل.
ولا يخفى عليك ما في هذا التعبير من اندفاع كثير من الإشكالات والمحاذير، فتدبّره واغتنمه من فضله (تعالى).
وبعد هذا كلّه، ما أظنّ أنّه قد بقيت عندك ريبة أو شبهة في أنّ للإنسان قوة بها استحقّ صدق حقيقة الإنسانية والخروج عن البهيمية والحيوانية.
والسبيل إلى الحكم بها آثارُها وخواصّها.
ووظيفتها تمييز الحسن من القبيح والخير من الشرّ، والحثّ عليهما.
وإنّ العقل إذا لاحظ الأفعال بذاتها مع قطع النظر عن كلّ شيء وجهةٍ سواها - سواء كان صدورها من ذيه أو من غيره - فلابدّ أن تكون إمّا ملائمة له،
ص: 357
فتكون عنده حسنة كالإحسان ، أو منافرة فقبيحة كالظلم والعدوان، أو خالية من الجهتين ، فتختلف بالوجوه والاعتبار حُسناً أو قبحاً، أو تبقى على ما هی عليه لا تقتضي ذمّاً ولا مدحاً.
وإنّ ذلك أمرٌ ما هو ببدع فيه، بل لكلّ قوّة من قوى النفس في مدركاتها ملائم ومنافر.
وإنّ سرّ الملائمة والمنافرة أمرٌ يعود إلى ما يقتضي كمال المدرِك ونقصانه من حيث السنخية والمناسبة.
فالإحسان من الغير ولو على الغير مثلاً لما فيه من الجهة الخيرية الدالّة على سعة نطاق الوجود وكماله صار ملائماً للعقل محبوباً إليه حسناً عنده؛ لما بينهما من شدّة التناسب والتقارب؛ إذ العقل معدن الخيرات ومصبّ البركات ومقود السعادات ..
العقل أحبّ خلق الله إليه وأكرمهم كما علمت - عليه ..
العقل مقيم قواعد العدل وناصب موازين القسط ..
العقل والعدل قرينان مؤتلفان وصاحبان لا يختلفان ، بل أص--ل وف--رع ،
وواضع ووضع العقل دليل والعدل سبيل ..
العقل ضياء ، والعدل فضاء وبه استضاء ..
العقل معانٍ وعيان ، والعدل لسان وترجمان ..
العقل أدلّة وبراهين ، والعدل فصول وقوانين .
لعمر العقل وعقائله والحقّ وحقائقه والدين وشرائعه أنّه منذ برأ الله النسم وشرع الأديان للأمم ما من أمّة ولا شريعة بسيطة أو ممتزجة حقّة أو باطلة أعطت العقل ما ينبغى له من شؤون شرفه وجليل وظائفه كهذه الشريعة السامية
ص: 358
الإسلامية والملّة المحمودة المحمّدية ، فإنّها هي التي شحذت العقول، وفتحت لها أبوابها، وأطلقت سبيلها ، وقامت بها على نواميس العلم والمعرفة ، وبثّت منها في الوجود روح التدبّر والبصيرة حتّى بزغت أنوارها وتنوّرت أفكارها، وأعطت لكلّ واحد من عقول البشر ما هو الحري بها من حرّيتها في التصرّف بالعلوم والمعارف ، والتصدّي لطلب الفوت في الكمال والسبقة ، وتحصيل العقائد الحقّة، والنجاة من كلّ ورطة، والنهوض من كلّ سقطة، وحثّت على العبرة والفكرة والبصيرة والنظر في ملكوت السماوات والأرض للتوصّل إلى أسرارها الدقيقة والغور في طلب الحقيقة.
وإذا شئت برهان ما نقول فهاك انظر إلى سجل قوانين هذا الدين (القرآن) المبين تجده -ده مشحوناً بأمثال قوله (تعالى) : «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ»(1)، أفلا «يَذَّكَّرُونَ»(2)، «أَفَلَا يَعْقِلُونَ»(3)، وأمثال قوله (تعالى) في التأنيب على ترك التعقّل : «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(4)وأمثال قوله (تعالى): «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(5)، وأمثال قوله (تعالى) : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(6)، الخ إلى
ص: 359
كثير من نظائر ذلك ممّا يضيق المقام عن إحصائه ويدلّ بفحواه ومنطوقه على حسن التفكّر والتدبّر وإعمال القوّة العاقلة في النظر والعبرة، بل لزوم ذلك ووجوبه وانحصار نيل السعادة والكمالات به.
ثمّ أكّد ذلك برفض التقليد وقبح التظنّي والتخمين وذمّ اتّباع الآباء والأُمّهات : «إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ»(1)، «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ»(2)، «مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا : اتِّبَاعَ الظَّنِّ»(3)، «بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ»(4).
وهذه المزية ممّا اختصّت به هذه الشريعة المقدّسة وأنافت بها على سائر الشرائع والملل المنبثّة على هذه البسيطة، كالبوذة والبراهمة والزرادشتية والصابئة، بل وحتّى على أُختيها الكتابيتين : اليهودية والنصرانية .
أمّا الأُولى فبما ضغطت به أُمّتها من التلمود والكهنوت، وأمّا الثانية فقد زادت الطين بلّة والمريض علّة بما صنعته البابوات والقسس منذ عهد غير حديث، وذاك فيما لا تزال تعلن به في منشوراتها من الحجر عن الخوض في معرفة سرّ التثليث(5)المستحيل بضرورة العقول الممتنع لدى أوائل الأذهان.
وحذراً من التفات أُمّتها إلى بداهة فساده وانفلالتها من إشراك هذا الشرك ومضلّات هذا الضلال شرّعوا لهم في كثير من المنشورات لعن كلّ من يقول بجواز خضوع الكنيسة لسلطة مدنية، أو جواز أن يفسّر أحد شيئاً على خلاف ما
ص: 360
ترى الكنيسة أو يعتقد بأنّ الشخص حرٌّ فيما يعتقد ويدين به ربِّه .
وإذا سُئل المسيحي عن الأقانيم الثلاث وطلب الباحث منه تصوير معقوليتها وإمكانها - فضلاً عن تحقّقها وثبوتها - قال : هو سرٌّ لا يدرك!
وصار القسس تتهدّد بالهلاك الأبدي واللعنة الخالدة كلّ من يتعرّض لأدنى بحث أو تحرّي لفهم ذلك، وقالوا : هو موضوع إيمان وتسليم، لا بحث واستقراء.
ولهذا شؤون وتفاصيل وبيانات وتتمّات، عسى أن نتوفّق لإيضاح الحقّ فی الإشارة إليها لدى أواخر الجزء الثانى من مباحث النبوّات إن شاء الله.
ولكن - وللإسلام مزيد الشكر والمنّة والسلام - فإنّه على الرغم من أُولئك
المشرّعين بل المبتدعين في شرائعهم، قد جاءت شريعته وكتابه الكريم وهو لا
يبرح عاملاً على فكّ العقول من فك العقول من ذلك العقال وإطلاقها من تلك الأغلال وسراحها من هاتيك السجون أمراً بإعمالها والتدبّر بها وعرض كلّ قضية عليها؛ وثوقاً منه بصحّة ما جاءت به هذه الشريعة من مشروعاتها في أصولها وفروعها ومعاملاتها وسياساتها وجميع شؤونها، وأنّه ليس فيها شيء يأباه العقل، وقانون ترفضه السياسة، وعقيدة تتعقّد على الفهم، وأدب تمجّه الطباع، كما هو في أخواتها التي ضغطت على حرّية الأفكار وحجرت عن استعمالها ستراً على ما فيها من منافيات العقول ومصادمات البديهة وصدّاً عن ذلك الدين القيّم : «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ»(1).
اللهمّ، فليحىَ العلم والعقل ، وليهلك الجور والجهل، ولتنحلّ النحل الباطلة العاتية، ولتقوَ الملّة الإسلامية السامية.
ص: 361
اللهمّ، فاحمل عبادك عليها واهدهم إليها، فإنّهم تائهون في الضلالة خابطون في الجهالة، كبراؤهم أضلّوهم وأهل الفتيا فيهم فتنتهم الدنيا ففتنوهم، ومنك العون والعناية وأنت ولى التوفيق والهداية.
حناناً منك يا من عمّت نعمته ووسعت كلّ شيء رحمته، يا مكوّن الأكوان ومبدِئ الكيان، يا هادي المضلّين.
لعمر العقل إنّه ما من أثر خير وبركة ونجاة من سوء وهلكة إلّا وهي به وإليه وعنه وعليه. وإنّي طالما أُخاطبه بالتحية وأسوق إليه ثنائي عن ابتهاج ومودّة قلبية قائلاً في خطابه : لله أنت ما أشرفك! ما أمجدك! وسلام عليك : (ماذا فقد من وجدك ، وماذا وجد من فقدك؟) وهل انتشر صيت عالِم في العالَم إلّا بك؟ وهل طار في الآفاق صوت نبل وشرف إلّا بتعليمك وأدبك؟ فلا حَرَمنا الله من خيراتك، ولا أعدمنا جزيل بركاتك.
ولا تحسبنّ أنّى أُحيى معدوماً، أو أنّى قد جرّدت لخطابي أمراً موهوماً.
كلّا، فإنّك ما صرت محلّاً للخطاب إلّا به وما نلت شرف الشعور إلّا بسببه .
ولو ساعدنا الوقت والفراغ لأريناك جميل أثره في نواميس حياة العالم، وما صبّه من السعادة على نوع بني آدم.
لا أعني ما أفاده من كرم الأخلاق وتهذيب النفس بالعفّة والحياء، والصدق والصفاء، والكرم والوفاء، والصبر والصيانة، والرصانة والمتانة، وحفظ العهد والأمانة ، وترك الكذب والرياء، والعجب والكبرياء ، إلى غير ذلك ممّا تكفّل به علم الأخلاق، فإنّ ذلك كله أثرٌ من آثاره ولمحةٌ من أنواره، بل ما لم تسمع بطرزه ولا كشف لك أحدٌ عن سرّه ورمزه، ولكن :
ص: 362
شرح این هجران و این درد جگر *** این زمان بگذار تا وقت دیگر (1)
وهل - بعد هذا كلّه - تحسن المخاطبة والمجادلة الصحيحة مع من أنكر تحسينه وتقبيحه، وقد اتّضح أشدّه لديك وتجلّى غايته عليك أنّ من أنكر ذلك فقد أبطل آثاره، ومن أبطل آثاره فقد أبطل ذاته وحقيقته، ومن أبطل ذاته فذاك لأنّه للعقل والشعور عادم وهو ملحق بالبهائم! وأنّها:
منزلة ما خلته يرضى بها *** لنفسه ذو أدب ولا حجا
وبحمد الله قد جرى الوادي فطمّ على القري، وبعد ذا فليقل ما شاء الأشعري!
وقد امتاز الحقّ من الباطل، والصواب من الخطأ لمن يعقل، وجرى سيل العقل، وإذا جاء نهر الله فقد بطل نهر معقل(2)!
ولعمر الحقّ إنّ عنائى كلّه ما كان ردّاً على تلك المقالة وتنبيهاً على هاتيك الضلالة، فإنّي - والله - لأرى الخوض فيها من العبث؛ إذ التشكيك في تحسين العقل وتقبيحه تشكيكٌ في البديهيات الأوّلية، والشبهة فيه شبهة سفسطائية.
ولكن أحببنا تحقيق القول في أصل هذه المسألة، وبيان حقيقة الإدراك، وما وجه الملائمة والمنافرة في القوى الباطنة والظاهرة، وغير ذلك ممّا مرّ من التحقيقات التي أرجو أن تقع منك موقعاً لائقاً وتصادف محلّاً فائقاً، فإنّي ما
ص: 363
عثرت عليها في تحرير ولا ظفرت بها ولا من ماهر أو تحرير، والفضل والمنّة الله وحده، فإنّه هو الملهم والموفّق عبده.
وهذا يغنيك في تحقيق الحقّ عمّا ذكروه في المباحث الكلامية ويكفيك عمّا سردوه من الحجج الخصامية، فإنّها توجب كلالة الطبع وملالة الخاطر وتعب الفكر ، ثمّ لا تقع - بعد ذلك - على غاية محصّلة ولا ثمرة واضحة.
وظنّي أنّ الحامل للأشعري على الالتزام بهذا الأصل - أعني : إنكار الحسن والقبح - التزامه بأصلين آخرين يبتني عليهما هذا الأصل، وكلٌّ من المبتنى والمبتني عليه بناءٌ هار وقد انهدم وانهار!
والأصلان اللذان بنى عليهما :
أحدهما : في أفعال الخالق .
وهو : أنّ جميع الموجودات ملكه وفي قبضته، فهو يتصرّف بها كيف شاء، وكيفما تصرّف بها فهو حسن وعدل، بل تقييده في ملكه ومنعه عن بعض أنحاء التصرّف فيه هو عين القبح والظلم : «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(1).
ونحن نقول : نعم ، هو المالك بالحقّ والحقيقة والاستحقاق من غير تجوّز في الاستعمال أو الإطلاق، فهو يتصرّف على إرادته واختياره كيف شاء وفيم
ص: 364
شاء، لا ضدّ له فيمانعه، ولا شريك معه فيحكم عليه أو يزاحمه.
ولكنّا نقول : إنّ الأفعال بأسرها كالأقوال بالنسبة إلى عقولنا الثابتة المحقّقة المخلوقة لهذه الوظيفة، فمنها محكمٌ بقسميه نصّ وظاهر، ومنها متشابه بقسميه مجمل ومأوّل.
فالمحكم : ما ظهرت وجه المصلحة والحسن فيه على القطع أو الرجحان لعامّة العقول المتدبّرة المتدرّبة، لا يختصّ به عقل دون عقل ورجل دون دون آخر،
كحسن الإحسان وقبح الظلم والتكليف بالمحال مثلاً.
والمتشابه - سواء تزاحمت فيه الاحتمالات أو انسدّ بابها كلّية - فهو : الذي لا يعلم تأويله ووجه الحسن والمصلحة فيه إلّا الله والراسخون في العلم، وأمّا عامّة العقول فتقف دونه وتعتقد فيه الحسن على الجملة لا التفصيل تنزيهاً لفاعله عن الجهل أو العبث؛ لما تعتقده من علمه وحكمته وكمال قدرته .
ومع ذلك فالعقول حاكمة جازمة بأنّه (تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً) لو أراد أن يفعل القبيح بأن يكلّف بالمحال ويدخل العاصي الجنّة والمطيع النار - لم يكن له دافع ولا مانع؛ إذ له القدرة والتصرّف وحده ولا ربّ ولا مالك سواه، ولكن كرماً منه ولطفاً وغناءً محضاً وجوداً صرفاً وتعظيماً لشأنه وتقديساً لذاته، لا يفعل ذلك بإرادة منه واختيار، لا بتقييد مقيّد له أو حكم حاكم عليه.
فأيّ منافاة في ذلك لما ذكروه من أنّه لا يسئل عمّا يفعل، ومن أنّه يتصرّف
في ملكه كيف شاء؟!
وكم من الفرق بين من لا يفعل الشيء لطفاً وكرماً، وبين من لا يفعله قصوراً وعجزاً !
والمقام - يا هؤلاء - من الأوّل لا الثاني.
ص: 365
فإنا نقول : سبحان من تنزّه عن الظلم والفحشاء ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء، فما الداعي لسدّ باب العقل الحاكم، وإلحاق من خلقه الله مستعدّاً للأفضلية على الملائكة بالبهائم؟!
اللهمّ، إنّا نعوذ بك من الضلال والظلم والظلام، فإنّك أنت العاصم وليس إلّا بك الاعتصام.
وثانيهما : في أفعال المخلوق.
وقد زادوا في النغمات وجاءوا بأقبح ما في العالم من الشبهات، ألا وهي شبهة الجبر.
حيث ذهبوا إلى : أنّ العباد مجبورون على أفعالهم ، وليس لهم اختيار فيها
وإن كانوا معاقبين عليها(1).
ثمّ إنّ بعضهم ضمّ إليها ما هو كضمّ الحجر إلى جنب الإنسان، وبعضهم قال بها على بساطتها.
ثمّ قالوا : وإذا كان العباد مجبورين فى أفعالهم فلا معنى لتحسينها وتقبيحها وذّمهم أو مدحهم عليها، فإنّ المدح والذمّ والملامة إنّما تصحّ في الأفعال
ص: 366
الاختيارية لا الإكراهية(1).
نعم، صدقوا فيما قالوا، والله درّهم فيما أجازوا وأحالوا! ومثلهم فليجر في أُصول الديانات وتحقيق الحقّ بالبراهين والبيّنات! فلقد بيّضت مقالتهم وجه الإسلام والمسلمين وكشفت عن حقّية هذا الدين المبين، حتّى صحّ لنا أن نكتفي في الاحتجاج على صحته : بأنّ ما فيه من العقائد والأصول هي التي تقبلها العقول .
وقد تسنّى بهذا لنا الاستظهار على سائر الملل من اليهود والنصارى والمجوس في أنّ مذهب الإسلام هو الذي لا تمجّه الطباع السليمة، بل تتنافس على أخذه النفوس.
أمّا شبهة الجبر فهي وإن ذكروا فيها من الشبه والتشكيكات ما رجعت المسألة به على وضوحها من المعضلات، ولكن بحمد الله - لم يخف علينا موقع الخطأ منها، وموضع الجواب عنها ومحلّ الصواب فيها .
ولو وسع المجال لأريناك من التحقيق عجباً بيّناً، ولخطبنا عليك من البيان خطباً تعرّفك كيف صعّبوا الخطب وقد كان هيّناً.
بيدَ أنّها تنجرّ إلى مسألة القضاء والقدر، والسعادة والشقاوة، وأخبار الطينة، وكيفية الثواب والعقاب، إلى غير ذلك من المسائل المتشعّبة والمطالب الغامضة الصعبة، سيّما وقد ورد المنع عن الخوض في بعضها بما لا يخفى وجهه والسرّ فيه.
ص: 367
فقد سُئل سيّد العارفين إمامنا أمير المؤمنين علیه السّلام عن القدر، فقال : «طريقٌ
مظلم، فلا تسلكوه»، وسُئل ثانياً، فقال : «بحرٌ عميق، فلا تلجّوه»، وسُئل ثالثاً،
فقال: «سرُّ الله، فلا تتكلّفوه».
ومثل ذلك عن أئمّة الهالدى علیهم السّلام كثير(1).
نعم، وجوهها لا تخفى على الناقد البصير. ونحن بعون الله - سوف نعطيك صفوة تلك المناهل ولباب تلك المسائل.
ولكن الأولى أوّلاً أن نحيلك على حسّك ووجدانك وبداهتك وفطنتك، ونطوي الدليل والبرهان في طي البيان.
وذاك أنّك تجد فى نفسك أنّ كلّ فعل يصدر منك فهو بإرادتك واختيارك
وعن ميلك وشهوتك، وأنت قادر على فعله وتركه.
وقد يبدو لك وجه فساده و مقتضيات تركه، ومع ذلك لا ترتدع عنه ترجيحاً لشهوتك وغلبةً لهواك على عقلك، كما قال أمير المؤمنين علیه السّلام: «كم من عقل أسير تحت هوىً أمير»(2).
وما تفعل من فعل إلّا وأنت تجد القدرة في نفسك على تركه.
وهل الاختيار إلّا هذا؟! أعنى : صدور الفعل عن قدرة وعلم وإرادة.
ولا ينافي ذلك كون هذه الأمور كلّها من الله (جل شأنه)، كما أنّ وجودك
أيضاً منه، بل جميع شؤونك، ولكنّه جعلها لك على نحوٍ أنت تُصرّفها كيف تشاء
تَصرِفها فيما تشاء تصرّف المالك في مملكته وذي السلطان في سلطنته.
ص: 368
وهذا لا ينافي الاختيار، بل عينه.
كما لا ينافيه أيضاً كون الفعل - بعد تمام علّته - يجب وقوعه، و (الشيء إذا وجب وجد) كما أنّه (إذا وُجد وجب) قاعدتان مسلّمتان(1) فإنّ وجوبه بالاختيار لا ينافي الاختيار، والقدرة عند المحقّقين هو : أنّه لو شاء فعل، ولو شاء ترك(2)، وعند إشاءة الفعل ووقوعه يبقى صدق هذه القضية - أعنى : أنّه لو شاء ترك - ولا تزول صفة القدرة حتّى ينتفى الاختيار، كما هو ظاهر.
وإقدار الله (سبحانه) للقادرين وتقويته للأقوياء وتيسير الأمور ليس بجابر لأحد منهم على فعل من الأفعال، ولا على عمل من الأعمال، ولا على ترك شيء منها ؛ ضرورة وضوح الفرق بين الإقدار والإجبار وتناقضهما، ومع اتّصافنا بالقدرة بديهةً لا جبر ضرورةً.
كما أنّ العلم منه (تعالى) لا يؤثّر ذلك بالضرورة أيضاً ؛ إذ العلم مرآة تحكي عن المعلوم على واقعه، لا علّة أو جزء علّة لتحقّقه، وإلّا لتقدّم المعلول على علّته، فتدبّره جيّداً.
ثمّ إنّ كلّ قدرة وقوّة منحها الله لعباده على عمل وفعل فهم قادرون على الترك بعين تلك القوّة التي هم قادرون بها على الفعل.
فقدرة اليد على البسط هي التي بها يقتدر على القبض، وكذا سائر القوى.
ولكن ربّ فعل تركه أسهل من أخذه، وربّ فعل بالعكس، والعبد قادر
ص: 369
على الحالين مختار في الأمرين، وإنّما الدواعي ترجّح له أحدهما الأسهل أو
الأثقل.
مثال ذلك : اللصّ وسرقته بالليل، فإنّ النوم على الفراش الوطية على كلّ حال أسهل من الذهاب في ظُلم الليالي إلى المواضع الشاقّة ونقب الدور والجدران وتسوّر الحيطان والتعرّض للمهالك، ولكنّ الحرص والرغبة وشدّة الحاجة وشهوات النفوس وترك النظر في العواقب والغرور بالأماني ووساوس الشيطان وما أشبه ذلك من الأسباب يدعوهم إلى فعل ما هو أصعب وعمل ما هو أشقّ واختيار ما هو أشقى وترك ما هو أسهل وأبقى .
فهذه الدواعى هى أسباب اختيار العبد لأحد الأمرين من الفعل أو الترك و ترجيح هذا على ذاك.
وليس القصد من إثبات الاختيار كون الفعل يقع جزافاً وبلا سبب وعلّة وبغير جهة ، بل المراد : أنّ الفعل بعد أن كان ممكناً في ذاته من ذلك الفاعل جائزاً وقوعه منه وعدمه، فالجزء الأخير من العلّة التامّة لوقوعه المرجّحة له على تركه وعدمه - بعد تساوي الطرفين في حقّه - هو إرادته الحاتمة الجازمة المنبعثة عن تلك الدواعي الحسنة أو القبيحة المصادفة تلك الإرادة لباقي الأسباب والمعدّات التي يتوقّف عليها حصول الفعل ووجوده منه في الخارج ، وبهذا الميل والإرادة - بعد الالتفات الى الدواعي المتقابلة والجهات المتزاحمة وتبيّتها له القاطع لسبيل حجّته وميله إلى أحد الطرفين - صار العبد مختاراً، وسمّينا تلك الحالة والصفة اختياراً.
و مخالفنا إن وافقنا على هذا المعنى فيا حبّذا الوفاق! ثمّ فليسمّها بما شاء كسباً أو غيره، وإن أنكر ذلك استناد الفعل إلى تلك الإرادة فقد أنكر عرفانه
ص: 370
وخالف حسّه ووجدانه، وإن شطح وطفح ونقل الكلام إلى السؤال عن علّة ميله وترجيحه لدواعي الخير أو الشرّ مع اطّلاعه عليهما ومعرفته على التفصيل بهما فصار هذا شقياً وهذا سعيداً مع تساويهما في المقدّمات حسب الفرض، قلنا له : هذا سرّ القدر الذي لا قدرة لك أو لنا على الخوض فيه، ومقام اللوح المحفوظ الذي أنت أو نحن أقصر باعاً عن الاطّلاع على أسراره ومعانيه، بل هو سرّ الله المقنّع بالخفاء، فلا يجوز إفشاؤه، ومكنون علمه المدرّع بالغيب والعماء الذي تعظم بين أبناء المعرفة أنباؤه.
وقد كنت - أصلحك الله - في عهدة أن أُثبت لك أنّ العبد مختار في فعله، وما كنت في عهدة أن أُثبت لك أنّه مختار في اختياره أو مجبور عليه.
والدخول في هذه الدقائق يستلزم خروجي عن عهدي وبعد شقّتي عن قصدي ..
فقد وعدتك أن أسير بك إلى الحقّ سيراً جميلاً، وأن لا أحمل على جذع بصيرتك عباً ثقيلاً، والأمر الذي كنّا نحاول حلّه وتتوخّى بيانه قد حصل لك منه المقنع إن شاء الله، فما الوجه في تجشّم هذه المصاعب وتكلّف هذه المتاعب التي لا أثق لك فيها بالسلامة. وإذا طمحت نفسك إليها وأسعدتك على تقحّمها فأنا أولى منك بالملامة .
ونحن يكفينا لإبطال ذلك الأصل الفاسد الذي بنوا عليه إنكار الحسن والقبح إثبات اختيار العبد في أفعاله، وأنّها مستندة إلى ميله وإرادته .
وقد اتّضح لك ذلك لو أنصفت وتدبّرت، واستبان لك أنّ الألطاف الإلهية بالبيان والإعذار والإنذار والأمر والنهي والوعد والوعيد وتهيئة الأسباب للطاعة والمعصية وإعطاء القوّة والقدرة على الفعل والترك والعلم بما يقع في المستقبل
ص: 371
منهما والتمكّن من المنع عن أحدهما والقسر على الآخر، ليس شيء من ذلك بموجب للجبر وعدم إسناد الفعل إلى العبد مع علمه وإرادته وقدرته ومباشرته.
كلّ ذلك بالحسّ والوجدان والضرورة والعيان.
واستبان لك أيضاً فساد ما لعلّه هو الحامل لهم على إنكار هذا الأمر، وذاك الضروري، تخيّلهم أنّ إثبات القدرة للعبد وإسناد الفعل إليه استقلالاً أو مع الله (سبحانه) يستلزم ثبوت الشريك له (جلّ شأنه) في التصرّف(1).
وهذا من السخافة بمكان! بل ممّا ينبغي أن يقضي من العجب فيه كلّ إنسان!
فإن ذلك إنّما يلزم حيث يكون للعبد وجود وشأن وقدرة باستقلاله وعلى حياله. أمّا وهو محتاج إليه في وجوده وقدرته وجميع شؤونه، بل قولنا : محتاج، تسامح في الإطلاق من ضيق الخناق ، كقوله (تعالى) : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ»(2)، فإنّه جرياً على دأب المحاورة وما تفهمه تلك الأمّة الحاضرة، وإلّا فالناس - بالنظر الدقيق عند أهل التحقيق - هم كسائر الوجودات الممكنة، عين الفقر والحاجة، لا شيء مفتقر محتاج.
وإذا كان الأمر على هذا فكيف وأنّى يلزم ما ذكروه والغني الملي القادر القوي إذا أعطى الضعيف وأغنى الفقير وهو قادر في كلّ حين على سلبه وانتزاعه وإبقائه وارتجاعه، هل يحسن أو يصحّ عند ذي مسكة - ولو تشكيكاً - أن يعدّ أحدهما للآخر شريكاً؟!
وهذا التمثيل والتنظير دون ما نحن فيه بكثير.
ص: 372
وإنّما الغرض أنّك قد عرفت أنّ الإيجاد والإقدار لا يوجبان الشركة ولا سلب الاختيار.
كيف! ولو كان العبد على حالٍ ليس إلّا أن يفعل أو يترك لم يكن قادراً؛ إذ القدرة ما يمكن معها الفعل والترك، والقادر الموجود هو الذي أعطى القدرة كما أعطى الوجود، فإنّه الجواد المطلق، وهو بكلّ كمال أحقّ، والبخل لا يتطرّق إليه ؛ إذ هو نقص ، والنقص يستحيل عليه.
وكما أنّ الإقدار لا يوجب الشركة ولا سلب الاختيار ، فكذلك نسبة الفعل إلى العبد حقيقة وإسنادها إليه من العقل بالنظر الدقيق واقعاً لا يوجب - والعياذ
بالله - عزل الله عن ملكه أو تصرّف الغير في سلطانه .
كيف ! والعبد وقدرته وجميع شؤونه في قبضته (تعالى)، بل هو وهي عدمٌ إلا بإيجاده وإمداده ، (ولا مؤثّر في الوجود إلّا الله).
وظنّي أنّ العرقلة التي أصابت الباحثين عن هذه المسألة وحجر العثرة الذي عاقهم عن الوصول إلى ملحوب(1)تلك المرحلة حتّى عُرفت بالإعضال واشتهرت بالإشكال هو تلك القاعدة المسلّمة المبرهنة وأمثالها من الكتاب الكريم والسنّة النبويّة، كقوله (تعالى): «قُلْ كُلّ مِنْ عِندِ الله»(2)وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «كلّ شيء بقضاء وقدر»(3)، وقوله صلی الله علیه و آله و سلّم: «جفّ القلم بما
ص: 373
هو كائن»(1)، إلى كثير من نظائرها.
ومن هنا جاءت الشبهة واعترضت الشكوك والحيرة وضلّت الألباب والأوهام وزلّت الأقلام والأقدام.
كلّ ذلك غفلةً عن شرائع الله المقدّسة ونواميسه الكونية في خلقه وإبداعه وربطه الأسباب بالمسبّبات والعلل بالمعلولات، وذهولاً عن كون الفعل الصادر من ذوي الإدراك والشعور والإرادة والقدرة والاختيار مستنداً إليه حقيقة ومعلولاً له بحكم العقل واقعاً باعتبار السبب القريب والعلّة الأخيرة، ومستنداً إلى العلّة الأولى أيضاً كذلك حقيقة وواقعاً باعتبار كونها علة للقدرة والاختيار.
وبذلك صحّ كونه هو المؤثّر في وجود الفعل أيضاً، فلا إلجاء ولا إجبار؛ لتوسّط القدرة والاختيار، ولا شركة ولا عزلة ؛ لكونه (تعالى) علّة العلّة، أعني : علّة القدرة وكلّية الاتّصاف بالإرادة والاختيار، لا ذات الفعل بلا واسطة وإن صحّ إسناد إيجاده إليه حقيقة؛ إذ لا مؤثّر في الوجود سواه.
واجتماع فاعلين مترتّبين غير متزاحمين على فعل واحد هنا مباشرة من أحدهما وتسبيباً من الآخر قضاءً وإرادة (إرادة قضاء لا إرادة رضاء) في بغيض الأفعال إلّا من العلّة المعلولة، لا مانع منه، بل لا محيص عنه عقلاً.
وهذا هو السرّ المرموز إليه في كلمات أئمّتنا المعصومين (سلام الله عليهم)
فيما سيأتي عليك من قولهم : «لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين الأمرين»(2).
وهذا التحقيق ممّا لم نعثر عليه في تحرير ولا استفدناه ولا من مشافهة
ص: 374
تحرير، بل هو ممّا أفاضه المولى (جلّ شأنه) علينا من التدبّر في شرائع الكون و نواميس الخلق وتقديس الخالق عن الظلم والعبث مع بقاء تصرّفه في ملكه
وتوحيده في سلطانه.
بيد أنّ ذلك ممّا كشفه التأمّل في حلّ الرموز وفتح الكنوز التي أشارت إليها وسائط الفيض ومعادن الحقائق (سلام الله عليهم)، ولا سيّما من تفاريق كلمات سيّد العارفين وإمام الموحّدين من قوله علیه السّلام لمن سأله : أكان مسيرنا هذا إلى الشام لا بقضاءٍ وقدر؟ فقال : «ويحك! أظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً؟! ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد ... »(1)، إلى آخر تلك الفقر التي يفتقر إليها العارفون ويستنير بها السالكون، إلى كثير من أخواتها في (النهج) وغيره.
وأنت خبير أنّه إنّما لا يكون الفعل قضاء حتم وإلزام؛ لأنّ القدرة والاختيار قد توسّطا بين الفعل وفاعله في جميع الآثار.
وهذا هو الوجه الخالص من شوائب الجبر وماجرياته وتفاهة التفويض وشبهاته .
فا خمد ضرام أوهامك أيّها الجبري! فالفعل ثابتٌ لك بإرادتك واختيارك
وقدرتك عليه ومباشرتك له وقيامه بك أو صدوره عنك.
وسكّن جأشك أيّها القدري! فإنّ الفعل مسلوب عنك من حيث أنت أنت ومع قطع النظر عن فيض علّتك : «فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(2).
فهذا هو الصراط المستقيم والحدّ الوسط الذي طلبه الباحثون فما أصابوه،
ص: 375
و سلكوا إليه فتباعد عنه قوم وقوم قاربوه.
وإذا نظرت ما قدّمناه مقيساً إلى جملة مما حرّر في هذه الغامضة تجد الفرق وتعرف الحقّ إن شاء الله.
ولكن على الرغم من عنائي وبغيتي أخشى أن يكون البيان لم يكن وافياً بإيضاحه ، ولا كافياً بتمهيد مقدّماته وتتمّاته.
نعم، وإنّ ضيق المجال قضى بذلك وصدّ عمّا يلزم في مثله.
فرجائي أيّها الناظر في هذه النفثة ملتمساً منك أن تقف فيها، ولك الفضل على حدّك ولا تبادرني بإيرادك وردّك، فأنا ملقٍ في هذا المضمار سلاح النزاع معك والمجادلة ناكص في مضيق ميدان هذه الوجيزة عن المطاردة والمجاولة.
فإن وقع ما ذكرناه منك موقع الاستحسان والقبول فالمنّة والشكر الله وحده، وإن عرضت لك المؤاخذات فيه والمناقشات فأنا في الساعة الحاضرة تسكيناً لفورتك وتبريداً لبادرتك اعترف لك بكلّ ما تقول بجملته وقبل نشرطيّته، فانتظر حتّى يسمح العمر - بمنّ الله - لانتهاز فرصة أفتح لك بها تلك المقفلات وأحلّ بها ما اعتاص من تلك المعضلات إن شاء الله .
ومهما استيقنت بشيء فاستيقن بأنّ عقيدتي - ويشهد الله والملائكة والأنبياء عليها - عقيدة ساذجة إسلامية ، وطويتي على تعمّقها في غور الفلسفة، ولكن ديانتي بسيطة سلفية رهينة - والله هو الشهيد - بشهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ أهل بيته الكرام أئمّتنا وسادتنا على ما يعتقده العامّة من سنّج الأذهان وبسطاء العقول.
وهذا هو جوهر الإسلام وأصول كيانه ، وليس ما وراء ذلك كمسألتنا هذه
وأمثالها - إلّا مسائل نظر واستدلال ومراتب فضل في الدين وكمال، المصيب
ص: 376
والمخطئ فيها معذور إن شاء الله، بل الكلّ مأجور بفضل الله، إلّا أن يكون معتقداً
خلاف الواقع عن تسامح في النظر وتقصير في الطلب معاذ الله.
وأنا ألقى بالموادعة والسلام العامّ عامة الإسلام، بل كافّة الأنام، سوى من عادى الحقّ وعانده وعرفه ثمّ جحده، فإنّه العدو الذي لا نواليه والحزب الذي لا نصافيه .
وأرغب إليه (جلّ شأنه) في أن يخلص له نيّتي ويُصِح في سبيله قصدي وبغيتي، وإذا امتنّ عليّ بذلك فليقل القائلون بعدها ما شاؤوا، فلحمي موفّر عليهم وعرضي عرضة لديهم :
أحباي إنّي في سبيل هواكم *** أبحتُ مصون العرض منّي لشاتمي
إذا ما عداني منكم اللوم جانباً *** فأهونُ ما ألقاه لوم اللوائم
دعوني أُوفي من عظيم ثنائكم *** وإن قذفوني فيكم بالعظائم
ومن جميع ما قدّمناه ظهر لك الوجه - والله العالم - في قوله (تعالى) : «قُلْ
كُلّ مِنْ عِندِ اللهِ»(1)، وما هو في سياقتها.
وأمّا أمثال قوله صلی الله علیه و آله و سلّم : «كلّ شيء بقضاء وقدر» ، و : « جفّ القلم ... »(2)فهي ممّا لا نظر فيها إلى هذه المسألة البتة، وإنّما النظر فيها إلى اللوح المحفوظ من التغيير والتبديل في قبال لوح المحو والإثبات وعالم البداء الذي : «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُنْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(3).
وهذا هو اللوح الذي جفّ القلم فيه بما هو كائن، لا يغيّر ولا يبدّل :
ص: 377
«سبحان من لا تغيّر حكمته الوسائل»(1).
وهذا لجّ عميق وفجّ سحيق لا يجد الخرّيت (2)الماهر إلى سلوكه والخوض فيه من طريق إلّا خواصٌ يعرفون ولا يُعرفون ويَعلمون ولا يُعلمون.
وكلّ هاتيك المباحث إنّما هي من شعب مسألة العلم الواجبي (تعالى و تقدّس) وشؤون مباحثه التي أحجمنا عن الخوض فيها في محلّها اللائق بها من فصل التوحيد، فكيف بها ههنا؟!
وإن كان لدينا منها شيء فنحن لا نرى الرخصة والمساغ في إباحتها وإذاعتها في الصحف الموضوعة لعامّة الناس لتصحيح سطوح عقائدهم وتنبيههم على المحاسن والمساوئ من بسيط أخلاقهم خدمهً للأخلاق ونصرةً للنصيحة وتفادياً للدين وشيك ما كاد أن يصبح أضحية الشهوات والأهواء وذبيحة غوائل الأغيار والأعداء.
وأنت - أصلحك الله - تعلم أن لو تعرّضنا لتلك الغوامض كيف كانت تأخذ منّا ألسنة الطعن كلّ مأخذ! فلذلك أرجأناها إلى أمد بعيد ، بل ضربنا دونها سوراً
من حديد!
ولكن حيث إنّي قد جعلت نفسي وقفاً على الدعوة الإسلامية ورهيناً بنشر العظات والنصائح العلمية والعملية أودّ - حرصاً على استيفاء الحقائق - أن أنبّهك على شيء، فقف معي هنيهة وإن طال الموقف عليك وبعدت شقّة الفصل بين ما سبق وما بين يديك، ولكنّها حكمة ذوقية وكلمة أخلاقية لا تعدم الروابط بينها
ص: 378
وبين ما نحن فيه إن شاء الله.
وهي : أنّ أكابر العرفاء قد ذكروا : أنّ للعبد في منتهى سيره وسلوكه مقاماً شامخاً ومعراجاً باذخاً، وهو مقام الفناء في الله .
وذاك على وجهه المعقول أن تفنى جميع إرادات العبد وخواطره وأمياله وشهواته في إرادة الله (تعالى)، وتموت كلّ جارحة منه وعزيمة في أوامره (تعالى) وعزائمه دون رُخَصِه وإباحاته، إلّا إذا عرضت لها جهة رجحان من غير ذاتها من تشريع أو تعليم أو غير ذلك(1).
و على الخلاصة : يصل العبد إلى حيث لا يبقى له خاطر من نفسه ولا إرادة من قبل ذاته ، بل يكون - والله المثل الأعلى كالآلة في يد ذيها والسفينة في قبضة مجريها، بل متعالياً إلى ما هو أجلّ وأعلى، فيكون العبد - وتعالى الله عن الأدوات والجوارح - عينه الناظرة وأذنه الواعية ويده الباسطة، بل ينعكس على ما في حديثه القدسي (تقدّست آلاؤه) : « فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر ، ويده التي بها يبطش»(2).
وليس هذا من الجبر بشيء، بل من الاستهلاك في الجبروتية والفناء في التوحيد والأحدية ، ولكن هو أشبه شيء به.
ص: 379
وعليه يحمل ما في كلمات بعض أكابر العرفاء الذي قد تكرّر مضمونه منهم نظماً ونثراً، ولا سيّما في منظومات عرفاء الفرس ، وذاك كقول القائل منهم :
در پس آینه طوطی صفتم داشته اند *** آنچه اُستاد ازل گفت بگو میگویم
من اگر خارم اگر گل چمن آرائی هست *** هر چه آن دست که میپروردم میرویم(1).
وعلى العلّات فليس الغرض بسط الكلام في حال هذا المقام والخوض في إمكانه ووقوعه أو عدم ذلك، ولئن كان فهو خاصٌّ للخاصّة من عباد الله من الملائكة المقرّبين وأكابر الأنبياء والمرسلين والصفوة من أوصيائهم وخلفائهم.
وهؤلاء من نقوله فيهم على الجزم واليقين، وأمّا في غيرهم ممّن يدّعيه أو يُدعى له فهو على التجويز والاحتمال حيث لا يكون من مختلس دجّال، والله أعلم بحقيقة الحال : كلّ ما قرع سمعك من غرائب الأكوان فذره في بقعة الإمكان حتّى يذودك عنه قائم البرهان(2).
وإنّما الغرض أنّنا نحن عامّة البشر - سوى من عرفت ممّن عرف الله - لنا جميعاً مقام على العكس من ذلك المقام، وذاك هو مقام الفناء في النفس والعكوف على أهوائها وشهواتها!
ص: 380
تجد الأكثر منّا منذ أدرك رشده و تمييزه ومنحه المنعم من العقل تلك الغريزة لا يزال عاملاً على الجري في سوم طباعه ومشيّة مشتهياته، كأن ليس فوقه ملك قاهر ولا ناهٍ عليه ولا آمر !
يسعى كادحاً معتمداً على أفكاره ومساعيه متوسّلاً بالأسباب وحدها إلى
مقاصدة متّكلاً عليها غافلاً عن مسبّبها ومُجريها ومُنشئِه ومنشيها!
وهذا - والعياذ بالله - مقام فوق مقامات الجبر والتفويض؛ إذ وحتّى التفويض يقضي بالالتفات إلى مُفوّض إليه سواه ومقتدر فوقه، وأمّا ذاك فلا يرى سوى نفسه، ولا يتّكل ويعتمد إلّا على أفكاره وحدسه ومعاناته وسعيه وجرأته وجريه، كادحاً في هواه آبقاً من مولاه على الرغم من الفطرة التي فطرنا المبدع عليها واضطرنا بضرورة العقول عليها : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(1).
ولو أنصفنا لقلنا جميعاً : نعم، كلّنا كذلك، وما الناس إلّا هالك وابن هالك، إلّا من اعتصم وعصمه المالك.
وما أقلّ ما نحصي من أعمالنا التي هي على صحّة الخلوص وصدق الامتثال والإجابة.
نعم، وإذا ارتقينا عن هذا المقام وجدتنا في أعمال الخير نرتقب عوامل التوفيق وجواذب القسر والجبر إليه، وإلّا فما شئت من التواني والكسل.
أمّا إذا هبت ريح الشهوات النفسانية وتحرّكت بدوافع الرغبة بواعث الأغراض الذاتية، فهناك الجدّ والنشاط والسعى والانبساط.
فنحن بالطاعات والخير أمّة جبرية، وفي الأهواء والشهوات مفوّضة قدرية.
ص: 381
ويتفرّع على ذلك مقام آخر غير ذينك المقامين، وهو : مقام التفصيل، مقام تقديس النفس عن الكيل البخس. وما هو إلّا من سقوطها وتعاستها وتسويلها
ودسائسها.
وذاك أنّه إذا جاءت بأقلّ حسنة أو وُفّقت لأدنى مكرمة أخذت في التبجّح وغالت وتعالت في التفوّق والترجّح، وحسبت أنّ ذلك لها وحدها لم يكن لأحد قبلها ولا يكون لمن بعدها، وجرت في ذلك على غلوائها وتكبّرها واستعلائها، وأخذت في الحماس والزهو به فعل المستبدّ بالصنع المتفرّد بالإيجاد!
وهي في أشدّ غشاء من الغفلة عن أنّ لها خالقاً هو الذي يسّر لها ذلك، ومهّد لها السبل إليه والمسالك، وأوجد سلسلة الأسباب الموصلة إليه، ودلّها بلطائف التنبيهات عليه، ذاهلة عن كون ما جاءت به من الفعل الجميل والإحسان القليل قد كان نِتاج ما لا يعدّ ولا يحصى من المعدّات والأسباب طبيعية وصناعية حيوية وجمادية، بحيث لو افتقدت أضعف سبب منها لعجزت وجميع البشر عن تكوينه وإيجاده. فهي في بيداء هذه المجهلة والمتاهة بمكان من التفويض والقدر، وما هو فوقه بكثير.
نعم، وقد تتمادى في الجهل وتمتدّ بالغرور حتّى تعدّ السيّئة حسنة، وترى الهناءة بالهنة، فتستسمن ذاورم ، وتنفخ في غير ضرم.
هذا حالها في محاسنها، أو ما تعدّه منها.
أمّا إذا أصابها القصور وعرفت الجهل من ذاتها والغرور والفتور، أو وقعت وما أكثر ما تقع - في البطالة والكسل والعي عن السعي والعمل، والأناة عن الجدّ والطلب وتحمّل النَصب والتعب فى سبيل الراحة اللازمة وتحصيل السعادة الدائمة، جعلت ذلك كلّه في عهدة القضاء والقدر، وتشبّئت بأذيال الجبر
ص: 382
رحضاً (1)لعارها وستراً على نقائصها على ما هو العادي من أحوالنا والمألوف من أقوالنا، حيث نقول : ما ساعدنا الحظّ والنصيب، ولا وافقنا التوفيق، وما أشبه ذلك من العبارات الدارجة على ألسنتنا.
فلو تدبّرنا أحوالنا هذه وتمثّلناها لوجدنا نفوسنا تارةً في الأوج، وأُخرى فی الحضيض! تتخبّط بين مزالّ الجبر ومزالق التفويض! تدور على محور محو كلّ تقصير عن ذاتها ومنقصة وجعل الكمالات لها خالصةً مخلّصة.
أمّا حديث الحظّ والنصيب فقد بطل، ولعلّه منذ عهد غير قريب، كبطلان مرادفاته من الصدفة والبخت والاتّفاق.
فقد حقّق الباحثون في ماجريات الأكوان وطباع عناصر الوجود وحلقات عوالم الغيب والشهادة أنّ جميع الأمور مقرونة بأسبابها منوطة بعللها لا يقع شيء منها على سبيل الصدفة والاتّفاق، وأنّ الله (جلّت حكمته) قد جعل لكلّ شيء سبباً لن يستطيع المرء له بدون ذلك طلباً(2).
فالإنسان الكامل من عرف الأسباب وتوصّل بها إلى مسبّباتها، (والعمل ضمين النجاح).
أمّا حديث التوفيق فهو حقٌّ، ولكن لمن سلك الطريق : (يقيس ذراعاً كلّما قست إصبعاً).
ولو أنّ الإنسان لا يزال عاملاً على الالتفات إلى أنّ كلّ ما يقع منه من صالح و جميل فهو بتوفيق الله وبحسن تيسيره، وكلّ ما فاته من كمال وسعادة فهو من
ص: 383
توانيه وتقصيره، لألقى عن عاتقه أصر كثير من الرذائل كالعجب والكبر وحبّ التفوّق والتعالي على أبناء جنسه، ولجدّ واجتهد وأعدّ واستعدّ، ولأوشك أن يحوز السعادة بأطرافها ويقف على أعرافها.
ولكن ليس الغرض من كلّ هذه النبذة إلا كلمةً فذة، وهي : نصيحة نفسي ومن بلغته دعوتي في التحذير من البطالة والكسل وما يستتبعان من الخمود والخمول والخور والفشل.
فالجد الجدّ يا عباد الله، والعمل العمل !
أما هذه النفوس فمن أوضح سخائمها وذمائمها أنها تحبّ الجاه ونباهة الذكر والتعالي والترفّع، ومع ذلك فهي أيضاً تحبّ البطالة والراحة والقرار والطمأنينة. فكأنّها تعمل على التفكيك بين الأسباب ومسبّباتها والعلل ومعلولاتها، وقد أبى الله في بديع حكمته لخليقته ذلك ، فمن أجل ما هنالك تجدها تتزيّن بالتافه الحقير وتتحلّى بالنزر اليسير، بل وبالدعاوي الكاذبة والأماني الخائبة التي هي أقلّ كلفةً من الواقع وأخفّ مؤنةً من الحقيقة .
فجدّوا - يا عباد الله - واعملوا، وعلى الله بالنجاح فاتّكلوا، لا على هذه الأنفس الضعيفة والقوى النحيفة، فإنّه :
إذا لم يكن عون من الله للفتى *** فأكثر ما يجني عليه اجتهاده(1)
أليس من الأسف والحيف أسفاً - والله - يُميت الغيور ويشقّ الصدور قبل القبور أنّ من أمامكم من الأمم الراقية أوجَ الحضارة والعمران تقتدي بل ترتقي
ص: 384
بحسنات مذهبكم السامي ودينكم الإسلامي، وتقتدون أنتم بسيّئات مذهبهم الأسوأ مذهب الكفر والضلالة والشرك والجهالة؟!
أفليس مِن هذا ما شاع اليوم في عاصمة القطر العراقي وغيرها من عواصم الإسلام - أصلحها الله - من مجالس اللهو ومحافل الطرب ومحاضر القصف(1)وملاعب الراقصات ومساكب المسكرات، والناس يتهافتون عليها على تکشّف وجهار، كتهافت الفراش على النار، لا بل (هو هو) والسميع العليم، ثمّ لا زاج ولا مزدجر ولا ناكر ولا مستنكر:
يا ناعي الإسلام قم فانعه *** قدمات عرفُ وبدا منكرٌ(2)
فيا لله ولما يلقى الإسلام من بلوى المسلمين وسوء أعمالهم التي زوت مزاياه وحجبت - وما محت - محاسن محيّاه! نعم، كانت لأعدائه أعظم عون عليه وأسوأ مُسيء إليه !
وأمّا - والعفّة والحياء والتكرّم والمجد والعلاء - إنّ ذلك لممّا يأباه لكم الله والحمية وشرف الآباء والنفوس الأبية والشيم العربية والأخلاق الأدبية!
يأباه لكم هذا الدين الحنيف والمذهب الشريف!
يأباه لكم شرف أسلافكم الذين بنوا دعائم الإسلام المشيّدة وأساطينه الوطيدة بالجماجم منهم والدماء بدل الحجارة والماء! وأنتم اليوم تعمدون إلى هدمها بالمعاول وتعملون على نقضها بكلّ الأسباب والعوامل :
بنوا لكم مجد الحياة فما لكم *** أسأتم إلى تلك العظام الرمائم؟
أرى ألف بانٍ لا يقوم بهادم *** فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟!
ص: 385
بيد أنّ الله قد أعدّ لكم ما هو أهنى من ذلك وأسنى، وأعدكم لما هو أشرف
من المراتب الرفيعة والمنزلة الحسنى :
قد رشّحوكَ لأمرٍ لو فطنتَ له *** فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
تحسبون أنّ بأمثال تلك الحفلات والمساجلات تساجلون الأم وتباهونها أو تضاهونها في مقاوم العزّ وحلبات الفخر ومدارج السموّ ومعارج الارتقاء، وما هي إلّا من أقوى أسباب التقهقر والانحطاط، بل ولا شيء أشدّ منها تأثيراً في زهوق روح النواميس الحيوية وتلاشي العناصر الأدبية والمادّية!
فالله الله يا عباد الله! نافسوا بأنفسكم عن تلك الدنايا والخلاعات، وانتبهوا من هذه الرقدة والسبات، وانتشلوا أنفسكم من حضيض هذه الوهدة، يا أرباب العزائم والنجدة!
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، وأسأله العفو عنّي وعنكم!
وهاكها تتّقد جمراً عن كبد حرّى ما كانت من قصدي ولا من شأني، ولا من خطّتي وعنواني ، ولكن لمّا امتلأ القلب بالشجى والألم نفث قهراً علي بها القلم!
فرحم الله من أبصر خيراً فعمل به ودعى إليه، ورأى منكراً فأنكره وأنكر عليه، ورعى الله امرءاً رأى مقالتي هذه العادلة فرعاها ووعاها، وتروّى بها فنشرها ورواها؛ نصرةً للنصيحة وخدمةً للدين والملّة وغيرةً على الحقيقة.
وقد كان في نفسي نصائح مهمّة ومقالات جمّة قطعت دونها لفظى وكظمت عليها غيظى خوفاً ممّا كدت أو وقعت فيه من الخروج عن الخطّة كثيراً.
وأنا أرتقب من الله أن يهب لها الفرصة في غير هذه الدعوة إن شاء الله .
كما أرغب إليه في أن يمنّ بالعصمة من كلّ وصمة لي ولكافّة المسلمين، إنّه خير العاصمين وأكرم الأكرمين.
ص: 386
القضاء، والقدر، والعناية، واللوح المحفوظ، ولوح المحو والإثبات، والكتاب المبين، وأُمّ الكتاب واللوح والقلم، والبداء، والعقل، والأمانة، والسعادة والشقاوة، والجبر والاختيار، والأسماء الظاهرة والأسماء المخزونة في علم الغيب، ونظائر ذلك.
نعم، إنّ شأن العلم والمعرفة لغريب، وكلّ شيء له ناموسٌ أبت العناية إلّا أن يجري عليه، وناموس الأشياء أن تظهر بالعلم، وناموس العلم أن يظهر بنفسه ويندفع إلى الخارج بذاته مهما حاولت كتمانه وأردت إخفاءه كالنور، بل هو هو في خاصّيته : به تستنير الأشياء، وهو يستنير بنفسه ويظهر بذاته، كما أنّه يتطلّب المخرج لأشعّته على رغم الحُجُب الكثيفة والموانع العنيفة حتّى يشعّ ويستنير.
كلّما حاولتُ أن أتجاوز هذا المقام وأطوي هذه المباحث دون أن أخوض هذه اللجّة (لجّة القضاء والقدر) وجدتُ كأنّ دافعاً يهزّني ورقيباً عليّ من ضميري يستفزّني إلا عن مشاطرتها بعضاً من الكلام فيها على ساقة أخواتها من المستعصيات التي مرّ البحث عليها .
ولكنّي راغبٌ في أن أجلو جوهرتها المخبّأة ومنيعتها المخدّرة بأبدع زينة وأزهى حُلّة وأسهل تقريب وبيان.
وبالحري أن نقدّم مثلاً للتقريب أمام المقصود :
ألست أنت وكلّ بصير جدّ خبير أنّ كلّ جماعة وأُمّة دخلت تحت جامعة واحدة وجهة عامّة لا محالة تحتاج إلى وضع نواميس تجري عليها وتخرج بها
ص: 387
عن الفوضى والسراح المودي بها والمؤدّي إلى هلاكها بدون إقامة تلك الحدود والموازين، مهما كان واضعها وشارعها، فرداً أو جماعة، ملكاً حكيماً، أو رئيساً متّبعاً، أو مؤتمراً منتخباً، أو غير ذلك؟
ولنفرض أنّ ملكاً حكيماً نظر في صالح رعاياه، فرأى أن يضع لها نواميس تتكفّل بنظم سعادتها وجعلها في صفوف الأمم الراقية التي لا ندحة لها عن تلك النظامات، وهذا هو ما تنهج على منواله اليوم كلّ إدارة وجمعية في العالم، ولا ترى لنفسها حياة ومجداً إلّا به.
ومهما اختلفت المشروعات والأحكام فإنّ ضرورة الأُمم إلى النظام لا تختلف على حال من الأحوال، وبحسب صحّة قوانين كلّ أمّة وانطباقها على الوسط التي هي فيه وجريها على تلك النواميس الموافقة الجالبة لخيرها وسعادتها يكون حظّها من التمدّن والعمران، وعلى مثل هذا سير الحكومات المتمدّنة اليوم .
كما أنّ من الجلي أن ليست تلك النظامات أُموراً خصوصية وأحكاماً شخصية وموادّاً جزئية، كالحكم على هذا الشخص أو تلك الذات أو هذا الموجود الخصوصي، وإنّما هي قضايا كلّية وأحكام عمومية تجري على جمهور من الناس في دهور من العصور، حتّى يحدث ما يقضي بتغييرها حسب الظروف، فتُغيّر أيضاً على ذلك الوجه الكلّى.
وضع ذلك الملك الحكيم كلّ حكم من الأحكام التي يتوقّف عليها النظام والسير إلى السعادة النوعية حسب علمه بصالح أُمّته، ولم يدع نقيراً ولا فتيلاً(1)
ص: 388
إلّا وعين كلّياً ما يجري له وما يجري عليه .
فالجندي ومهنته ومؤنته، والزارع وعمله وضريبته، وكلّ صانع ومحترف،
وجانٍ ومقترف، وقاسط وجائر، وواقف وسائر، ومتوانٍ ومجدّ، وساعٍ وواهن، وأمين وخائن .
وجعل لكلّ ذلك أسباباً ومسبّبات وعللاً وغايات، يوجب بعضها بعضاً وينجر بعضها إلى بعض على نواميس معيّنة وحدود مبيّنة.
سبقت كلمته وقضت حكمته أن تسير على ذلك ولا تقف، ولا تنخرم ولا تختلف .
ثمّ أمر بعض مهرة كتّابه أن يسجّل تلك القضايا الكلّية والنواميس العامّة بأسبابها ومسبّباتها وعللها ومعلولاتها ومباديها وغاياتها وأصولها وثمراتها، أمره بعناية منه ملحوظة أن يسجّلها في ألواح محفوظة، لا حذراً من أن ينسى الملك شيئاً منها، أو مخافة أن تغيب عنه أو يغيب عنها، كلّا، فإنّه الحفيظ الذي لا ينسى، والحكيم الذي لا يغفل ، والعليم الذي لا يجهل، ولكن إظهاراً لسعة علمه وتعاظم قدرته ونفوذ مشيّته وسعة سلطانه وملكه، ولكي يُوقف عليها الخاصّة من حاشيته وملازمي حضرته والمهيمنين على أسراره، فيتكاملون معرفةً ويقيناً وتعبداً وخضوعاً.
ثمّ بعد أن أبرم أحكامه وأحكم إبرامه وأجرى في اللوح بما شاء أقلامه ذراً(1)بريته واستبرأ فيهم مشيّته، ومنحهم فأفضل، وأعطاهم فأجزل.
فكان أشرف ما منحهم به ووهبهم إيَّاه جوهرين شريفين انتزعهما من
ص: 389
وساماته واخترعهما من خزانة ذاته.
ألا وهما : جوهر العقل، والثاني : جوهر حرّية الاختيار وإطلاق الإرادة وسراح المشيّة.
وتلك هي الكلمة التي سبقت من ربّك، ولولاها لما تأنّست المدن، ولا تمدّن الإنسان، ولا اعتمر النظام، ولا انتظم العمران .
عرض هذين الجوهرين الشريفين أمانةً على السماوات والأرض، فأبين عن حملها وحملها الإنسان ، فكان ظلوماً لهما (1)باستعبادهما لشهواته واستعمالهما تحت سيطرة أمّارته جهولاً بالغاية التي وجد لها والثمرة التي أُودعا فيه من أجلها. أعلن الملك منشوراً في رعيته يقرؤه كلّ أحد من وجدانه وصحيفة نفسه، يحسّ ويجد قائلاً يقول له همساً في ضميره قبل كلّ شيء : «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(2).
ليعمل كلّ عامل ما أراد وما اختار لنفسه، وليضعها أينما شاء وحيثما أراد، فإنّ السبل له ميسّرة، والأسباب والوسائل حاضرة، وغاية كلّ سبيل معلومة، والغايات لازمة، والعنايات قائمة، والمحجّة واضحة، والأعلام لائحة، والحجّة بالغة، والأعمال كلّها - حسب التمكين والتكوين - سائغة، والمعونة والمساعدة - حسب الإرادة والسعي - لكلّ عامل مبذولة : «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
ص: 390
نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً»(1)
فهداه النجدين (2): نجد الخير والشرّ والسعادة والشقاء.
ثمّ بعد أن استتبت هذه المقامات واستحكمت عند الملك وخاصّته تلك النظامات أمر ذلك الكاتب الذي جعله خزانة أسراره ومستودع مفاتيح غيبه وهو من صقعه وعالمه ، أمره أن يسجّل في لوحٍ خصوصي له جميع الموادّ الجزئية والقضايا الشخصية، فجعل يملى على كاتبه إظهاراً لمزيد علمه وشمول قدرته وإحاطته بشؤون أفراد رعيته ومقتضيات استعداداتهم وأهوائهم ورغباتهم وشقاوتهم وسعادتهم ، جعل يملي ما يجري على حياة كل فرد فرد منهم و ما سيختاره بحرّية إرادته وصرف مشيّته دون أدنى إجبار أو إكراه أو تعمية أو اشتباه، وضمّنه كلّ ما يمرّ عليه في صحائف أيّامه ولياليه ممّا يدخل في قدرته وإرادته، وما ليس من ذلك من مدّة أجله وغاية عمله وحظوظه من نِعم الحياة وبسط العيش ونعيم الدنيا بالأولاد والأحفاد والصحّة والعافية والملك والسلطنة وامتداد البقاء ومساعدة الأيّام بالهدوّ والسكينة والراحة والطمأنينة وأشباه ذلك ممّا ليس هو على الحقيقة الراهنة من مجهودات المرء وخصوصياته.
فإنّ في وسع الإنسان أن يسعى، فيصير عالماً أخلاقيّاً أو طبيباً نطاسيّاً (3)أو حكيماً فلسفيّاً أو مخترعاً صناعيّاً، ولكن ليس في وسعه أن يسعى فيصير ملكاً مطاعاً أو قهرماناً شجاعاً أو ذا نسل متكاثر بعدد مخصوص أو ما أشبه هذه
ص: 391
المناحي، فإنّ جميع هذه النعم والغايات مقادير وحدود وأحاظٍ(1)قسّمت وجدود.
والغرض أنّه سجّل في هذا اللوح تفاصيل كلّ ما يجري على كلّ واحد من الرعية ممّا هو خارج عن دائرة اختياره وما هو داخل فيها.
ولكن لا يعزبنّ عنك أسلوب ذلك الكَتب في ما هو مفوّض إلى العبد وله فيه حرّية الإرادة والاختيار.
فإنّه كُتب في سجل التكوين لا التشريع أن سيفعل كذا، وأنّه يختار كذا، لا كُتب عليه أن يفعل كذا، وأن يختار كذا، حتّى تبطل الإرادة وينقلب الاختيار إلى ضدّه وتتحوّر المشيّة عن حقيقته.
والفرق بين العبارتين كالفرق بين الحقيقتين في غاية الجلاء والوضوح.
وقد أصبح اليوم من الجليات أنّ العلم لا أثر له في المعلوم، وأنّ المعلوم يوجد بأسبابه وسلسلة علله، لا بعلم العالم أو جهل الجاهل.
بيد أنّ العلم لا يتعلّق إلّا بحقيقة راهنة، فلو أنّ صيرورته حقيقة راهنة بالعلم لدار واستحال ، وهذا اللوح كسجل التفصيل، كما أن السابق كسجل الجملة.
وحيث قضى الملك ما أراد من النظام جملةً وتفصيلاً، وأبرم القضاء فيما شاء إنشاء وتسجيلاً، وبلغ المقام إلى دور العمل ومرحلة العين وفسحة الوجود، جعل يوجد ما في العين على طبق تلك الألواح المسطورة والنواميس المقرّرة، ولكلّ إيجاد وإنشاء تعيّن خاصٌّ وطور من أطوار الملك ومظهر قوّة له نعبّر عنه
ص: 392
باسم موعزٍ إلى معنىً خصوصي يشار به إلى ذات الملك باعتبار هذا الأثر الصادر
منه ، ولكثرة الصوادر تكثّرت الأسماء والصفات.
ولكن أُمّهات الأسماء ومفاتيحها محصورة، وهي أُمّهات الأنواع ومفاتيح أغلاقها ومقدّسات هياكلها .
فباعتبار الخلق خلّاق، وبالنظر إلى الرزق رزّاق، ومن حيث إيجاده موجد، ونظراً لرحمته رحيم، وهكذا.
سوى أنّ جلالة الملك بعد أن كتب ما كتب، وسطّر ما سطّر، ودبّر ما دبّر، وربط تلك القضايا المسطورة خاصّها وعامّها بأسمائه الخاصّة والعامّة (تعالى وتعاظم)، فجعل لنفسه حرّية الإرادة المقدّسة وسراح المشيّة المنيعة وإطلاق الاختيار الأقدس، كما جعل شيئاً منها لرعيته، فإنّه هو أحقّ منهم بذلك وأحرى أن تكون له تلك الميزة والخاصّة؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ويتقلّب في حقوقه، فأولى أن لا تكون يده مغلولة وتصرّفاته محجورة ، بل يداه مبسوطتان ، وهو : «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(1)، وأن لا تسلبه مستودعات قضائه ومستطرات ألواحه شيئاً من حرّية اختياره وإطلاق مشيئته، بل تكون هي نظراً إلى حسب الاقتضاءات والأغلبية، فإنّه هو رابط الأسباب بالمسبّبات والعلل بالمعلولات، فلو شاء في مقامٍ أن لا يجعل النار مؤثّرة في الإحراق ولا الماء مقتضياً للرواء ولا الدواء ناجعاً من الداء كان له ذلك ، وكثيراً ما يفعله حسب الظروف التي تقتضيه وتخرجه عن نواميسه الأُولى.
وهذه المرتبة - أعني : السيطرة والحاكمية للإرادة والمشية على تلك
ص: 393
المسجّلات - هو المقام الذي اختصّه الملك لنفسه ولم يُطلع على شيء منه أحداً من رعيته، لا كاتب ولا وزير ولا نديم ولا سمير، وهو مقام الغيب، وأُم الكتاب الذي لا يُغيّر ولا يبدّل، والذي جفّ فيه القلم، وبه ترتبط الأسماء المخزونات المكنونات التي لم يظهر عليها أحد من خلقه، لا ملك مقرّب ولا نبي منتَجب ولا عبد مصطفى، وهي التي استأثر بها في علم الغيب عنده وجعل مفاتحها لديه : «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ»(1).
وهذا الكتاب المبين الذي هو مجموع لوحي الجملة والتفصيل هو مظهر تنزّلات البداء وتغيّرات ما يتجلّى فيه لمطالعيه من المقرّبين وذوي الكرامة.
أمّا مبادى البداء فهي تنشأ من ذلك الكتاب المخزون المغلق بمفاتيح الغيب وأقفال العلم المصون التي لا سبيل لأحد إلى استطلاع ما ورائها.
ومن هنا مقام الخوف والفزع والحزن والجزع والرهبة والرغبة التي تلازم المقرّبين وملازمي الحضرة، فإنّهم وإن وجدوا في ألواح الكتاب المبين أنّهم من الأولياء الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ، ولكن لا يعلمون ما خبّأ لهم الغيب وراء أستاره من التقلّبات والمحو والإثبات المنبعثة من الإرادة الحرّة والمشيّة المطلقة ، فهم على أبواب حصونها المنيعة ضارعون خاشعون خائفون فزعون يرصدون أن لا يلمّ بخواطرهم وظواهرهم من الخطأ ما يتخطّى بنظر العناية عنهم، فتزلّ بهم مزالق التوفيق إلى حيث لا يعلمون.
ثمّ بعد هذا كلّه لا أراك إلّا وقد عرفت جهات التطبيق والموازنة في هذا
ص: 394
المثل الجلي، فليكن الملك هو مالك الملك، وعزيمته على وضع النواميس لصالح من في قبضته هي العناية الأولى، والكاتب بين يديه هو القلم الأعلى، واللوح الذي رسم فيه الكلّيات وسلسلة الأسباب والمسبّبات هو لوح القضاء، والآخر الذي قدّر وفصّل فيه الاختصاصيات وأعيان الموجودات ومجاري الكائنات هو لوح القدر (لوح المحو والإثبات)، وعلى نحو ذلك فقس سائر خواص التمثيل.
ونحن - بعونه (تعالى) - نفصّل لك هذه الجملة، ونوضّح بعض تلك المبهمات على طراز الصناعة ولسان العلم ، ونضع بيانها في عدة أمور:
الأوّل: في العناية الأُولى، والقضاء والقدر، والفرق فيما بينها.
أمّا القضاء فهو عبارة عن : ثبوت صور جميع الأشياء على وجهٍ كلّي في مجرد نسمّيه : بالعالم العقلى.
والقدر عبارة عن : حصول صور الموجودات على وجه جزئي في مجرّدٍ نسمّيه : بالعالم النفسي. أعني : ما يرتبط بعض الارتباط بالمادّة، ولا يكون مجرداً عنها بتاتاً كالأوّل.
ولكن ذلك الحصول والارتسام مطابق لما في الخارج من الكوائن المترتّبة مستنداً لأسبابها واجبةً بها لازمةً لأوقاتها.
أمّا العناية الأولى فهى عبارة عن : إحاطة علمه (تعالى) بالكلّ إحاطة كلّية
تامّة في مقام الكشف التفصيلي.
فهى محيطة بالقضاء مشتملة عليه، وهو مشتمل على القدر محيط به،
ص: 395
والقدر محيط بالواقع مشتمل عليه.
سوى أنّ العناية لا محلّ لها ؛ إذ ليس هي سوى علمه (تعالى) بذاته الذي هو حضوره لذاته على وحدتها الذاتية وما يلزم لحضرته من التعيّنات اللازمة لذاته بالمرتبة التفصيلية.
وتلك الحقيقة الأحدية اقتضت أوّل ما اقتضت من تعيّناتها جوهراً روحانيّاً يسمى : بالروح الأوّل، و : العقل الأوّل، و : القلم الأعلى، وغير ذلك.
ثمّ تسلسلت الموجودات مجرّدة ومادّية طولية وعرضية على ترتيب الأنوار المتعاكسة في المرايا المتقابلة على ما ذكره حكماء الإشراق (1)ممّا لا يتّسع المقام لذكره .
سوى أنّ ذلك الجوهر المجرّد هو روح العالم، وفيه تنتقش جميع صور الأشياء على ما عليه نظامه وهيئاتها وكمالاتها على وجه كلّى، والباري يعلمه بتمامه مع الصور الثابتة فيه بأعيانها، لا بصور زائدة عليها، بل بمجرّد حضورها له كحضور منشئات النفس لها، وذلك الحضور هو العناية العامّة.
فإذا تدبّرت هذه النظرية وأحطت علماً بصفايا هذه الجملة ظهر لك أنّ العناية لا محلّ لها.
الثاني : في محلّ القضاء.
حيث ثبت وجود مجرّد قادر قاهر حيّ وبه حياة كلّ موجود وكيانه، أمكنك من هنا أن تتفطّن وتحصّل البرهان على وجود وسائط في الفيض.
وهي جواهر مجرّدة عن الموادّ منزّهة عن الفساد خالية عن القوّة
ص: 396
والاستعداد؛ إذ هي فعليات محضة غير واقعة في صراط الحركة والاستكمال مدركة لذواتها ولما عداها بذواتها، فهى أنوار قاهرة مؤثّرة فيما دونها من النفوس والأجرام بتأثير الله فيها.
فقاهريتها التي هي تأثيرها في غيرها رشحٌ من قاهرية الله وأثر من آثار قدرته، كما أنّ ذواتها ونوريتها سُبحة من سُبحات وجهه.
وبهذا الاعتبار تسمّى هذه المجرّدات: بالملائكة المقرّبين والروحانيّين والكرّوبيّين . وهم سادات الملائكة، وعالَمها عالم القوّة والقدرة، وجبر نقصانات إمكانها وإمكانات ما دونها بما تُفيضه من فيضان الحقّ عليها من الكمالات.
وبهذا الاعتبار من الجبر والقاهرية تسمّى : بعالم الجبروت، وهي صورة صفة جبّاريته (تعالى).
ومعلوم أنّ تلك الحقائق والكمالات الفائضة منها لو لم تكن ثابتة فيها حاصلة لها لم يمكن فيضانها عنها.
فإذاً تلك الحقائق الإمكانية بأعيانها وكمالاتها منتقشة فيها، وهذا النقش والارتسام هو صورة القضاء الإلهي، ومحلّه عالم الجبروت وأمّ الكتاب واللوح المحفوظ الذي رسم القلم الأعلى والعقل الأوّل فيه تلك النواميس، وعنه يفيض إلينا كلّ ما نصيبه من الحقائق والعلوم الصحيحة : «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1).
وتلك الجواهر المجرّدة هي إحدى خزائن غيبه : «وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا
خَزَائِنُهُ»(2).
ص: 397
ولا شكّ أنّها متعالية عن تعلّق الزمان مقدّسة عن تغيّر الحدثان، فالقضاء مثلها. الثالث : في محلّ القدر.
كما أنّ العالم الروحاني بجوهره المجرّد محلّ القضاء، فالعالم الجسماني أعني : هذه الكرات المتحرّكة على مداراتها والنظامات المستديرة على شموسها ومنه نظامنا الشمسي بسيّاراته وأقماره وأُروضه - هو محلّ القدر باعتبار نفوسه المحرّكة له.
فإنّ كلّ متحرّك لا بدّ له لا محالة من قوىً محرّكة دافعة أو جاذبة، ولا شكّ أنّ تلك القوى ليست أُموراً محسوسة ولا هى المادّة نفسها، فهي من عوالم ما وراء الشهادة وممّا بعد الطبيعة.
وهذه القوى هي محلّ القدر؛ إذ الصور الكلّية في عالم القضاء لغاية الصفاء لا تترائى ولا تتمثّل لغيرها ؛ لشدّة نوريّتها كمرآة مضيئة تردّ البصر عن إدراك ما فيها من الصور بشعاعها، فتنتسخ تلك الصور الجزئية في لوح تلك النفوس، كما تنتقش في قوّتنا الخيالية صورٌ شخصية من معلوماتنا الجزئية.
وهذا العالم هو : عالم الملكوت وصقع الملائكة العمّالة بإذنه (تعالى) المسخّرة بأمره المدبّرة لأمور العالم بإعداد الموادّ وتهيئة الأسباب.
فمحلّ القدر هو عالم الملكوت، كما أنّ محلّ القضاء هو عالم الجبروت.
وفي هذا العالم - أعني : عالم الملكوت - تتعاقب الحركات وتتلاحق الأوضاع، فتتوالى الصور على تلك القوى الجسمانية المعبّر عنها عندهم : بالنفوس الفلكية(1)، ويتواتر الفيض على الموادّ متتاليةً حسب استعدادها للصور
ص: 398
المتعاقبة متشخّصة مقدّرة في الأجرام الشخصية، وارتسام تلك الصور هو طبق عالم القدر، وفيه يتحقّق المحو والإثبات، ويتبعها الكون والفساد في الجسمانيات والطبيعيات من خلع وليس أو لبس صورة بعد أُخرى، كما تجده في عالم الكون فيما لا يزال، وهذا معنىً آخر للمحو والإثبات، فتدبّره.
وعلى أيًّ، فالقصارى أنّ من الأوضاع أوضاعاً كلّية يتبعها كون الأعيان الخارجية وفسادها، ومنها جزئيات يتبعها أحوالها المترادفة وكمالاتها المتعاقبة.
وهذه الجزئيات متخلّلة بين تلك الكلّيات متداخلة فيها ، فتكون كلّ طائفة في الأوضاع المترتّبة الموجبة لكمال كائن ما أو حدوث حال من أحواله وتغيّرها منحصرة بين وضعين منها، أحدها يقتضي حدوث ذلك الكائن، والآخر زواله أو تبدّله بصورة أُخرى.
والامتداد الواقع بين هذين الوضعين المستمرّ مع تلك الأوضاع المتخلّلة الذي هو مجموع مقادير تلك الحركات الموجبة لتلك الأوضاع هو مدّة بقاء ذلك الحادث ومنتهى أجله، والنقش الحادث عند وضعه الأخير هو كتابه، وإليه الإشارة بقوله (تعالى) : «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ».
وهذه التقادير كلّها تفاصيل قضائه، والله بكلّ شيء محيط.
الرابع: [توضيح المشكلات المزبورة بمثل مناسب].
ص: 399
قد ذكروا لتوضيح هذه المشكلات مثلاً مناسباً لاستنزال تلك الشامخات من أوج منعتها إلى فسحة الأذهان بحسن البيان(1)، ويحسن هنا إيراده بتوضيح واختصار.
وهو : أنّ صورة العالم بعينها كصورة إنسان، فكما أنّ لأفعال الإنسان - عند صدورها منه وبروزها من مكامن غيبها إلى مظاهر شهادتها - أربع مراتب، فهي أوّلاً فى مكمن روحه الذي هو غيب غيوبه على غاية الخفاء، كأنّها غير مشعور بها لغاية الصفاء والقرب من التجرّد، ثم تتنزّل إلى مخزن قلبه عند استحضارها وإخطارها بالبال كلّية، ثمّ تتنزّل إلى مخزن خياله مشخّصة جزئية، ثمّ ينبعث شوقه وإرادته إليها، فتتحرّك الأعضاء عند إرادة إيجادها، فتظهر منه في الخارج، فكذلك لما يحدث في الخارج من الحوادث بحسب مادّته وأسبابه؛ إذ الأولى بمنزلة العناية، والثانية بمنزلة القضاء، والثالثة بمقام القدر، والرابعة بمثابة الصور الحادثة فى الموادّ العنصرية.
ولعلّك إذا نظرت إلى حالك في محفوظاتك من قرآن أو حديث أو شعر أو
غير ذلك - عند إرادة تلاوتها وإبرازها إلى خارج الوجود - وجدتها مطابقة لذلك .
ولعلّ إلى بعض هذه المراتب الإشارة بقوله (تعالى): «وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ»(2).
ومن الجائز - والعلم لله - أن يكون الطور إشارة إلى العرش والعناية
ص: 400
المحيطة، والكتاب المسطور هو نقش القضاء الأوّل، والرقّ المنشور هو ما فصّله القدر ونشره من عالم القضاء، والبيت المعمور هو النفس الناطقة الكلّية التي بها حياة عالم الأجسام، والسقف المرفوع هو عالم الفلكيات والأجرام السماوية وقرنت بالبيت المعمور؛ لنزول الصور منها ونفخ الروح منه، فيتمّ خلق الحيوان بهما ، والبحر المسجور هو العمق الأكبر المذكور في دعاء السِمات(1)، وهو بحر الهيولى السيّالة المملوء بالصور.
والحقائق الله (جلّت عظمته)، وهو بها أعلم.
الخامس : في البداء.
يحسب عامّة المسلمين - جمع الله كلمتهم - أنّ هذه الكلمة ممّا انفردت بها الإمامية(2)، واعتدّوها شناعة كبرى عليهم(3).
ولو تمحّصت الحقائق واستُوضحت المقاصد وزالت أغشية الأوهام التي تحول بين الحقيقة والأفهام لانكسرت السورة وانكبحت الشرّة ولعرف الجميع أنّهم متّفقون على مقالة واحدة وأنّ النزاع بينهم لم يكن إلّا لفظياً.
وهكذا أكثر الخلافيات التي تضارب فيها المسلمون التضارب الذي جرّ
ص: 401
عليهم الويلات وآل بجمعهم إلى الشتات، وصيّرهم بالحالة التي تراها وتسمع بها اليوم!
كلّ تلك المنازعات - إلّا الطفيف - قد عملت فيها عوامل الشدّة ونظر الشنآن والحدّة، وعدم التروّي والأناة في تبلّغ المقاصد وتفهّم المرامي والغايات، حتّى بلغ الأمر إلى أوخم عاقبة وأسوأ مغبّة وأوباً مباءة !
وإلى الله المشتكى والرغبة في إدالة هذه الحال والنزوع عن تلك الضرائب، إنّه الحري بالإجابة إن شاء الله .
أمّا مسألة البداء فهي من أوائل الأُمور المعقولة، وأجلى الحقائق الراهنة، وأبين النواميس الإسلامية، وأشرف النعوت الإلهية، وأعزّ الصفات القدسية .
هل البداء إلّا ثمر حرّية الإرادة ونتاج إطلاق الاختيار والمشيّة الذي هو حقٌّ خصوصي لذات العزّة ومالك الملك على الحقيقة؟!
هل البداء إلّا أن لا تكون يد الله مغلولة ، وأن يكون كلّ يوم في شأن، وأن يتصرّف في ملكه كيف ما شاء وحيث ما أراد، وأن يكون الفيض منه دائماً والتصرّف متتالياً، فلا يكون فارغاً معطّلاً ولا منبوذاً مهملاً (تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً)؟!
يريد الإنسان أن تسلم له حرّية إرادته وطلاقة اختياره وتمشية مشيّته، ولا يكون ذلك للمالك الذي وهبه هذه الروح الحيوية التي هي إحدى مقوّمات الحقيقة الإنسانية!
يريد الإنسان أن يجعل نفسه حقيقاً بالتصرّف حرياً بحرّية الاختيار مطلق الإرادة، ويجعل باريه مقيّداً محدوداً لا فسحة له في التصرّف ولا حصّة له في التكوين والتدبير، ولا سبيل له إلى الإحداث والتجديد والتغيير والتبديل ذاهلاً
ص: 402
عن صراحة قوله ملأ كتابه الكريم : «يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)، «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ»(2)، وما لا يحصى من نظائر ذلك!
ولكن حسب المنكرون للبداء المالّبون بالشناعة على من يقول به أنّ هذه المزعمة تستلزم الجهل في حقّه (تعالى) وتقضي بمشاركته لخلقه في ظهور الشيء لهم بعد خفائه وبروزه بعد استتاره حيث يتعاور عليهم العلم والجهل ويتمشّى فيهم الحدوث والتجدّد، وتلك خاصّة الممكنات وصفة المحدثات يتقدّس ويتعالى عنها الواجب بالذات.
يا هل ترى أنّ البدائيّين أرادوا - معاذ الله - أن يثبتوا الجهل لحضرته وينسبوا النقص إلى كماله ويبخسوا أقدس صفاته، أم أنّهم جهلوا هذا الاستلزام الجلي ومفسدة التالي ومضلّة هذه الغاية؟
كلّا، فإنّ الأمر أوضح وأجلى.
وسنجهّز لك من البيان ما ستقطع جهيزته قول كلّ خطيب(3)، وتريك أنّ من لم يعرف البداء ويعترف به فليس له من كامل المعرفة حظّ ولا نصيب، بل تعرف أنّ جميع المسلمين قائلون به على الجملة دون التفصيل، وليس لهم إلى إنكاره ودفعه من سبيل.
ص: 403
عرفت - ممّا مرّ عليك - أنّ الباري (جلّت قدرته) أوّل ما أنشأ من مكنون غيبه جوهراً قدسيّاً في غاية النور والسناء والعلم والإحاطة، ثمّ أنشأ بتوسّطه (لا استعانةً) جواهر أخرى قدسية مترتّبة فى الشرف والكمال وشدّة النورية على حسب ترتّبها في القرب منه (تعالى)، ثمّ حصل منها بواسطة جهات فقرها وإمكانها موجودات نفسانية، يتعلّق طرفها الأعلى بتلك العقول القادسة الفعّالة، ويرتبط الأدنى بالأجرام الطبيعية التي نشأت هي وما معها من العناصر والمركّبات بواسطة تلك المجرّدات في مراتب نقصها وضعف وجودها عن علّتها.
ويعبّر عن تلك الموجودات العليا بعبارات حسب اختلاف الاعتبارات :
فتارة بالعقل ؛ لتعقّلها وعلمها .
وبالقلم؛ لنقشها وتصويرها المعلومات في ما دونها من قوابل الألواح المستمدّة على وجه الدوام والتجدّد.
وبعالم الأمر؛ باعتبار تأثيرها الوسطي في ما هو أسفل منها من العوالم.
ومفاتح غيبه وبكلمات الله التامّات؛ باعتبار دلالتها على عظمة باريها وما استودعه من الكمالات فيها دلالة الكلمات على معانيها، فهي قلم تارة، وكلمة أُخرى، ومفتاح من جهة، وخزانة من جهة أُخرى.
فهذه صفات القلم الإلهى وشؤونه واعتباراته.
ثمّ اندفع هذا القلم يكتب في لوح النفس الناطقة الكلّية كلّ ما جرى أو سيجري من الكائنات. ولكن على وجه كلّي بصور مضبوطة معلومة بعللها وأسبابها.
هي اللوح المحفوظ باعتبار حفظها للصور الفائضة عليها بصفة دائمة من
ص: 404
تلك المبادي العالية على وجه بسيط، ثمّ ينتقش في القوى الجزئية المعبّر عنها :
بالنفوس الفلكية.
والقوى المحرّكة الفعّالة في تلك الأجرام العظيمة صور جزئية متشخّصة بأشكال وهيئات مقدّرة مقارنة لأوقات معيّنة مطابقة لما يظهر في المادّة الخارجية.
وهذه الصور - على حسب وجودها الخارجي - كما لا تزال في صراط الحركة وتجدّد الصور، لاجرم تكون متبدّلة متجدّدة في تلك المبادي التي هی ألواح قدرية ، وفيها المحو والإثبات، وعالمها عالم الخيال والمثال، كالصور التي ترتسم في لوح خيالنا ثمّ تزول وتتبدّل.
وهذا بخلاف اللوح المحفوظ، فإنّ نقوشه محفوظة مستمرّة، كالكلّيات في عقولنا.
وكلا الكتابين كتاب مبين : «وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ»(1)، «وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ».
إلّا أنّ اللوح المحفوظ هو أمّ الكتاب، والثاني كتاب المحو والإثبات.
فهذه المبادي العالية هي أصول الكتب الإلهية. وأمّا فروعها فكلّ ما في الوجود من مواضع الإدراك والشعور، كالقوى الحيوانية والنفوس الإنسانية بمراتبها المتصاعدة حتّى تنتهى إلى الإنسان والجميع كلمات الله، إلّا أنّ بعضها كلماته التامّة، وبعضها كلماته الناقصة.
وكما أنّ الفيض لا يتناهى ولا ينقطع ، فتلك الكلمات لا تنفذ ولا تقف : «قُل
ص: 405
لَّوْ كَانَا كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً»(1).
ولئن كان شيء أقرب إلى الحقيقة فهو تلك الأساسيات والرموز التي كشفنا نقابها؛ إذ لا أخالك تفهم من قلم الله (جلّت عظمته) ما يفهمه الجامدون من المعطّلة والمشبّهة، فتحسب أنّ القلم هنا آلةً جمادية من حديد أو قصب، واللوح صفحة ملساء من عاج أو خشب، أو أنّ الكتابة تحريك اليد بتلك الأدوات وتصوير أشكال الحروف والكلمات.
وقد قال بعض الأكابر : (إنّ ذات الله وصفاته كما لا يشبه ذات الخلق وصفاتهم، كذلك لا يشبه قلمه ولوحه وكتابه أقلامهم وألواحهم وكتابتهم)(2).
على أنّك لو نظرت في مدلولات هذه الألفاظ وجرّدتها عن الزوائد غير الداخلة في أصل مفهومها وروح معناها وجدت أنّ هذه الخصوصيات - ككونها قصباً أو خشباً أو مداداً - خارجة عن أصل ماهيتها وجوهر حقيقتها.
وما الكتابة سوى : تصوير الحقائق على أيّة صورت كانت، ولا اللوح سوى : الجوهر القابل لذلك التصوير، سواء كان جسماً محسوساً أو غير محسوس.
وإذا تدبّرت ذلك فحمل هذه الأُمور على ما يناسب الإلهية أولى من حملها على ما يناسب الخلق.
ثمّ إنّ قلوب الملائكة العمّالة ونفوس المدبّرات العلوية المشار إليها بقوله
ص: 406
(تعالى) : «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً»(1)كلّها من تلك الصحف الإلهية والألواح القدرية، و هي من كتاب المحو والإثبات.
ولا تزال تستمد الفيض من مباديها العالية وبحسب مراتبها ومراكزها، لا تستطيع أن تنطبق في قواها كافّة العلوم وترتسم فيها جميع الحوادث دفعة واحدة، فإنّها وإن تكن روحانية القوى، ولكنها جسمانية التعلّق، وكلّ جسم أو جسماني فهو محدود قابل للتغيير والتجدّد والسير في صراط التكميل والاستزادة .
والذي يستحيل عليه ذلك إنّما هو ذات الواجب وصفاته الحقيقية لا الإضافية وعالم أمره وقضاؤه السابق وعلمه الأزلیّ.
أمّا مصنوعاته ومخترعاته - وهم ضرب من ملائكته - فمن السائغ لهم بل الواقع التجدّد في العلوم والأحوال.
وأولئك الملائك هم الكرام الكاتبون الذين يفعلون ما يؤمرون .
ولنفوس الأنبياء والرسل تعلّق وارتباط في بعض مراتبهم وأحوالهم بهذا الصنف من الملائكة، كتعلّقهم - حسب مقاماتهم بما هو أعلى وأرفع ممّا مرّ ذكره عليك من تلك المبادى العالية.
وعليه، فقد يرتسم في إحدى تلك القوى المدبّرة العمّالة حادثة مخصوصة كموت زيد غداً مثلاً، فتتّصل بتلك القوّة نفس النبي أو الولي ويطّلع على ذلك الرسم، فيخبر بما رآه بعين لُبّه وما سمعه بأذن قلبه، ويكون إخباره حقّاً وصدقاً، لا كقول الكاهن والمنجّم وأضرابهما القائلين لا عن كشف يقيني وشهود عيني،
ص: 407
بل على أمارات الظنّ والتخمين .
ثمّ يفاض على تلك القوّة من ينبوعها لحوق شرط أو حصول مانع بذلك الحادث، كأن يكون موته غداً مشروطاً بعدم تصدّقه أو عمله العمل الخاصّ المانع من وقوع الموت عليه، ويكون رسم موته أوّلاً على حسب الاقتضاء الأوّلي والاستعداد الذاتي لا بحسب ظرف الوقوع، فيطّلع عليه النبي تارة أُخرى ويخبر بخلاف خبره الأوّل معلّلاً بذلك الوجه، ويقول عند ذلك : بدا الله في شأن زيد بقاؤه وإرجاء أجله ، كما وقع ل-(عيسى بن مريم) و(يونس بن متّى) وكثير من الأنبياء (سلام الله عليهم) مثل ذلك في أقاصيص مشهورة.
والبداء وإن كان جوهر معناه هو : ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله (جلّ شأنه) بعد خفائه عنه معاذ الله، وأيّ ذي خريجة ومسكة يقول بهذه المضلّة؟!
بل المراد : ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم .
: وقولنا : بدا الله ، أي : بدا حكم الله أو شأن الله، فإنّه كلّ آن في شأن.
وهذا معنىً كما تراه - ليس شيء أجلى منه حقيقة وأوسع دائرة وأعرق بالصدق والانقياد إليه من كلّ ذي شعور.
والمؤاخذة في التعبير - بعد صراحة المراد وإيضاح القصد - عازبةٌ عن الصواب، وليست من العلم في شيء.
وأيّ شناعة في هذا وبشاعة؟! بل أيّ مسلم يسعه إنكار شيء ممّا سبق؟! أكتاب المحو والإثبات، أم القوى المدبّرة : «فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرا»(1)، أم اتّصال
ص: 408
النفس النبوية بتلك القوى وبما هو أعلى منها ؟ ! «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى»(1).
ثم أشار (جلّ شأنه) إلى تعاليه عن ذلك المقام واستغنائه عن الاستمداد منه بقوله (تعالى) : «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى»(2)۔
وحيث قد حصل لك بعض الإلمام بالبداء وعرفت ماذا يعنون منه القائلون به، فاستمع لما نتلو عليك من بعض أحاديث أهل البيت فيه، فإنّهم أدرى وبالاتّباع أحرى :
روى في (الكافي) بسنده الصحيح عن الصادق جعفر بن محمّد الباقر (سلام الله عليهما) : قال : «إنّ الله علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلّا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علّمه ملائكته وأنبيائه ورسله ، فنحن نعلمه»(3).
أشار بالعلم المخزون إلى علم الغيب الذي استأثر به ولم يطلع عليه أحداً من خلقه أبداً، ولكنّه (جلّ شأنه) يفيض منه - حسب حكمته - على تلك النفوس شيئاً فشيئاً تدريجاً بمقتضى علمه بالصالح.
ومن هذه الوجهة يكون منه البداء .
فقد يعرف بعض أنبيائه أو أوليائه عدّة من الحوادث التي تجري عليهم أو على غيرهم، ولكنّهم يلبثون واقفين عندها ؛ لجواز ظهور البداء فيها من علمه المخزون ، فإمّا أن يظهره بواسطة تلك المبادي أو بغير وساطتها.
نعم، قد يعلمون ببعض الحوادث المستقبلة ويعرفون أنّه من المبرم
ص: 409
المحتوم الذي لا يغيّر ولا يبدّل.
وهذا من الذي علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه، والجميع ممّا فيه البداء وممّا ليس فيه معلومٌ لله على حقيقته وواقعه.
روى في الكتاب المتقدّم عن الصادق علیه السّلام : قال : «ما بدا لله في شيء إلّا
كان في علمه قبل أن يبدو له»(1).
وفيه عنه علیه السّلام: قال : «إنّ الله لم يبدُ له من جهل»(2).
وعنه علیه السّلام: قال : «إنّ الله أخبر محمّداً صلی الله علیه و آله و سلّم بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضائها، وأخبره بالمحتوم، واستثنى عليه فيما سواه»(3).
يعني : جعل له المشيّة فيه، فبقي موقوفاً.
ثمّ هل بعد هذه الأحاديث الشريفة من مساغ للقول: بأنّ القول بالبداء يستلزم الجهل على الله - معاذ الله - أو وصفه بصفة المخلوقين؟!
ولكن بعض الباحثين أخذوا على أنفسهم أن يتضاربوا بمبرمات من الجدل قبل أن يعرف كلٌّ حقيقة مزعمة الآخر، ولعلّه يقول بها قبل كلّ شيء.
روى في (الكافي) أيضاً عن (منصور بن حازم)(4)، قال : سألت أبا عبدالله
ص: 410
الصادق علیه السّلام : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال : «لا . من قال هذا (أخزاه الله)؟!» قلت : أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟ قال : «بلی، قبل أن يخلق الخلق»(1).
ثمّ العجب من منكري البداء إيمانهم بالنسخ والتخصيص(2)!
وهل النسخ في التشريع إلّا أخو البداء في التكوين ؟ !
والجميع ممّا يدخل في لوح المحو والإثبات الذي عرفت اشتماله على معنيين :
ص: 411
[الأوّل] : المحو والإثبات في الصور المرتسمة على الألواح طبق الموجودات الخارجية الواقعة في سنّة التغيير والتبديل وناموس الارتقاء والتكميل . فهي الى بلوغ غايتها الميسّرة لها في خلع ولبس أو لبس بعد لبس .
والثاني : المحو والإثبات بالنظر إلى ما يرتسم فيها، ثمّ يبدّل قبل وقوعه الخارجي و تحقّقه العيني .
والبداء شامل لكلا المعنيين .
ثمّ لا يعزبنّ عنك أنّ روح الغرض من تأسيس القول بالبداء هو الردّ على من يقول من اليهود أو غيرهم : إنّ الله قد قدر كلّ شيء على وفق علمه، وإنّه فرغ من الأمر ولا يحدث بعد ذلك شيئاً: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»(1).
وحاصل الردّ عليهم بالبداء : أنّ الله (تعالى ذكره) تقديرات وإرادات متجدّدة يظهرها حسب المصالح التي يريدها في أيّ وقت يشاء، ولا يزال الفيض منه متّصلاً متتالياً : «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا»(2).
ومن هنا تجد للبداء فضل عناية في أخبار أهل البيت، حتّى ورد في كثير من أخبارهم : «إنّ الله ما بعث نبيّاً قط إلّا بتحريم الخمر، وأن يقرّ الله بالبداء، ولو علم الناس ما في القول به من الأجر ما فتروا عنه»(3).
ثمّ لنختم هذه المباحث المقدّسة بحديث شريف مشتمل على أسرار الحكمة اللاهوتية ولباب التقادير الإلهية من علمه (تعالى) وتفاصيل مناحي القضاء والقدر وشؤونهما وسلسلة مباديهما وغاياتهما، ويكون هو السند
ص: 412
والحجّة لجميع ما قدّمناه سوى ما اشتمل عليه ممّا لم نتعرّض لبيانه :
روى في (الكافي) أيضاً بسنده عن (معلّی بن محمد)(1)، قال : سُئل العالم يعني : الإمام (موسى بن جعفر) (سلام الله عليهما ) : كيف علم الله ؟ قال : «وشاء وأراد وقدّر وقضى، وأمضى فأمضى ما قضى، وقضى ما قدّر، وقدّر ما أراد .
فبعلمه كانت المشيئة، وبمشيئته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء .
والعلم متقدّم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء.
فلّله (تبارك وتعالى) البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المُنشأ قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عياناً ووقتاً، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات وذات الأجسام المدركات بالحواسّ من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دبّ ودرج من إنس وجنٍّ وطير وسباع وغير ذلك ممّا يُدرك بالحواسّ.
فلّله (تبارك وتعالى) فيه البداء ممّا لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم
ص: 413
المدرك فلا بداء ، والله يفعل ما يشاء.
فبالعلم علم الأشياء قبل كونها وبالمشيئة عرّف صفاتها وحدودها وإنشاءها قبل إظهارها، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلّهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم»(1).
حقّ للإسلام أن يبتهج ويفتخر على سواه بمثل هذه الآثار والأنوار والعلوم الساطعة والمعارف الدقيقة والوصول إلى تخوم الحقيقة!
حقّ للإسلام أن يعدّها من أكبر حسناته ومن محاسن آياته وبيّناته!
ولولا الصروف والصوارف لشرحنا هذا الخبر النيّر شرحاً وافياً يطلعك على ما حوى من أسرار المعارف وكنوز العلم، ولكنّه يستلزم توسيع الموضوع كثيراً، ولا سيّما في المسألتين المهمّتين : مسألة العلم والإرادة اللتين هما من بعض محتوياته.
وعلى أيّ، فهو الغاية فيما أوردناه لأجله وأردناه من تحقيق مسألة البداء وحلّ عقدتها، وقد حصل القصد فيما أحسب، ولله الفضل والمنّة.
السادس من الأمور في الأفعال الاختيارية ومباديها ومقدّماتها ومزلّة أقدام الأعلام في هذا المقام [ومسألة الجبر والتفويض].
لا يشكّ أحد أنّ جميع الأميال والإرادات إنّما هي أوّلاً فرع العلم والإدراك والإحساس والشعور، وكلّها متقاربة المعنى، والإدراك أعمّها، والأفعال الصادرة من الإنسان إنّما هي نَشَأ تلك الإرادة التي هي ولادة الإدراك والشعور، ولكن مع
ص: 414
شيء آخر، وهو القدرة والاستطاعة.
فهذه ثلاث أساسيات ومقدّمات للأفعال هي : العلم، والإرادة، والقدرة.
أمّا العلم فقد بلغك أقوالهم فيه من : أنّه حصول صورة الشيء في النفس، وما أشبه ذلك من العبارات(1)، وكلُّ نظر إلى جهة من العلم ، فقال قولاً فيه.
وقد عرفت ما نراه سالفاً عند بحثنا عن الإدراك وأنّه نوع اتّحاد وسعة في النفس وخلّاقية لها ، والعلم هو الإدراك بوجه.
نعم، وهذه الحيويات الثلاث كلّها من الكيفيات النفسانية، فإنّ القدرة أيضاً كالعلم : هيئة نفسانية يتمكّن بها الإنسان من الفعل والترك متى شاء، وأمّا الإرادة : فهي : توجّه النفس بالعزيمة والطلب الجازم إلى حصول الفعل أو الترك.
ولكلِّ من هذا الثلاث مبادٍ لا تتحقّق بدونها ..
أمّا مبدأ الإرادة فقد علمت أنّه العلم والإدراك . فإذا أدركنا شيئاً علمناه ، وإذا علمناه فإمّا أن نجده ملائماً للنفس أو منافراً، والحاكم بالمنافرة أو الملائمة إمّا الوهم أو بديهة العقل السليم.
فإذا أحسسنا بالملائمة أو المنافرة انبعث منّا شوق أكيد إلى جذبه أو دفعه، وذلك الشوق هو العزم الجازم الذي نسمّيه : بالإرادة ، وإذا انضمّت إليها القدرة التي هي القوّة الفاعلة انبعثت هذه القوّة بدافع الإرادة والشوق الأكيد إلى تحريك الأعضاء.
أمّا العلم والقدرة فمبدؤهما الحياة . وهي - بحسب ما أراه - تختلف
ص: 415
باختلاف ملابساتها ومواضع الاتّصاف بها.
فهي في المفارقات للمادّة نفس وجوداتها الخاصّة التي هي جواهر مجرّدة مصحّحة لانتزاع العلم والقدرة من ذواتها .
أمّا الحياة في المادّيات فهي: ارتباط الجسم المادّي بتلك الروح المجرّدة واتّحادهما بضرب من الاتّحاد.
وعلى كلٍّ فهي كما ذكر وا (1) - مصحّحة الاتّصاف بالعلم والقدرة، وبدونها لا يتحقق شيءٌ منهما .
وجميع هذه النعوت مراتب للنفس وشؤون وأطوار لها من أعلى مقامها الشامخ مقام التعقّل إلى أدنى مراتبها وبرزاتها وهو مقام اللمس الموجود حتّى في ديدان الأرض وحشراتها، وليس لها من الإحساس سواه.
ثمّ حيث تجتمع تلك المبادي الأربعة - الحياة والعلم والقدرة والإرادة - في متعلّق خصوصي انبعثت لتحريك الأعضاء إليه عند الشعور بملائمته، فتحصل الحركة الواجبة لحصول علّتها التامّة، ولكنّها تحصل بالاختيار، وهو انضمام الإرادة إلى العلم والقدرة.
وعلى الحقيقة أنّ جوهر الاختيار هو الإرادة وإن كانت لا تكفي في وقوع الفعل إلّا مع القدرة ، ولكن القدرة بمعزل عنه .
نعم، بانضمامها يقع الفعل واجباً بالاختيار ؛ إذ ليس الفعل الاختياري- كما سبق - إلّا ما صدر عن علم وإرادة .
ص: 416
أمّا إذا لم نجد الملائمة أو المنافرة في الشيء المدرك ابتداءً استعمل العقل لا محالة قوّة التفكّر والوهم قوّة التخيّل في طلب الترجيح بوجهٍ وهمي أو عقلي، فيتحرّكان حركة اختيارية إرادية في الطلب، فربّما كان ملائماً ببعض الوجوه غير ملائم ببعضها ؛ لملائمة بعض الحواسّ دون بعض ، أو بعض الأعضاء دون الآخر، أو للحسّ لا للعقل، أو في العاجل دون الآجل، أو العكس، أو بالنظر إلى بعض المصالح دون بعض .
ويحدث بحسب كلّ مصلحة و ترجيح داع وبحسب كلّ منافرة صارف، فإن ترجّحت الدواعي حدث العزم الجازم على الفعل فيجب، وإن ترجّحت الصوارف حدث العزم على الترك فيجب كذلك . وكلاهما بالاختيار .
وهناك تتّجه اللائمة أو الثناء والمدح أو المذمّة بحسب حسن الاختيار وقبحه.
وعليه يترتّب الثواب والعقاب، ويظهر الفرق بين المكره والمختار .
وقد لا يظهر وجه الرجحان ، فتبقى النفس في الحيرة والترديد .
وقد نظر بعضٌ إلى أنّ وجود بعض تلك المبادي من قوّة الإدراك والعلم والقدرة كنفس وجودنا ليس باختيارنا، وإلّا لتسلسلت القدرة والعلوم والإرادات إلى غير النهاية أو دارت ، فطمح بنظره الحديد إلى أبعد أسبابها ، فرأى أنّ الوسائط والأسباب القريبة كلّها مستندة على الترتيب المعلوم في سلسلة العلل والمعلولات إلى العلّة الأولى استناداً واجباً، فقال بالجبر وخلق الأفعال مطلقاً له (تعالى)(1)، ولم يفرّق بين أفعال ذوي الشعور وأفعال الجمادات بغير أنّ الله
ص: 417
(سبحانه) جرت عادته أن يخلق الإرادة للإنسان مع خلق الفعل منه من دون تأثير لها فيه أو أدنى استنادٍ به إليها، وسمّى ذلك : بالكسب.
وبعض نظر إلى أنّ تلك المبادي مستندة إلى النفس معلولة لها، فاستوقف نظره القاصر على الأسباب القريبة ورآها مؤثّرة بالاستقلال، فقال بالقدرة والتفويض(1)
فبعضٌ اطّرد هذه المعضلة في كافّة الأفعال(2)، وبعضٌ فصّل بين أفعال الخير والشرّ، فجعل مبدأ الأولى الباري ومبدأ الثانية الإنسان، فأثبت مبدأين(3).
ولعلّ إليهم الإشارة بقوله (صلوات الله عليه) : «القدرية مجوس هذه الأُمّة»(4).
وأفرط بعض هؤلاء حتّى قال : (إنّ الشرور تقع منّا لا بإرادة الله (تعالى) ولا بمشيّته )(5)
فجعلوا الله شريكاً في ملكه وسلطانه !
وكما أفرط هؤلاء وتطرّفوا وزلّت بأقدامهم خُطى أوهامهم إلى أتعس هوّة ، فكذلك قد فرّط أُولئك وخبطوا خبطاً مدهشاً واجترأوا على الله (تقدّست
ص: 418
عظمته) وجاءوا شيئاً إدّاً تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ! فنسبوا إلى خالقهم ما لا ينسبونه إلى أشقى الخلائق ، وجاهروا بذلك على رؤوس الأشهاد من غير مواربة (1)ولا حجاب، فقال أحد المشاهير المعروف (بابن غانم المقدسي)(2)المتوفّى في حدود القرن العاشر :
(إنّ الله أمرٌ بالكلام وإرادةٌ للفعل فقط، ثمّ هو قبل أن يخلق الخلق قسّمهم هذا للجنّة والسعادة والعلم الصالح، وذاك للنار والشقاء وعمل الفساد. فإذا وجدوا في هذه الحياة وابتدأ الشقى أن يقتل مثلاً أو يزنى أو يسرق ، فيأمره الله بالكلام فقط : لا تقتل ، لا تزن لا تسرق ولكنّه في آن واحد يجرّه بقوّته الخفية إلى أن يقتل أو يزني أو يسرق ؛ لعلّة أنّه يستحيل أن يفعل غير ذلك ؛ لأنّه مكتوب قبل وجود العالم : شقىٌّ للنار !
والأمر الذي يقوله الله (تعالى) له في الدين : لا تقتل، لا تزن، لا تسرق ، ليس إلّا صورة بصفة حجّة ظاهرية فقط لا تأثير منها ولا فائدة في منعه .
حتّى قد يجوز إذا كان قد عمل أعمالاً طيّبة صالحة إلى النهاية وكان مكتوباً من الأشقياء كإبليس، فهي لا تنفعه مطلقاً وكأنّها في هباءٍ، وبالعكس ...) إلى آخر ما ذكره .
ص: 419
وضرب على هذا الوتر الشنيع والنأمة الغرابية جملةٌ ممن سبقه ولحقه ممّن يعدّون في طليعة العلماء وساقة الكبراء(1)!
يقول هو وأحزابه : (الآمر يهب والإرادة تنهب ، الأمر يقول : لا تفعل، والإرادة تقول : افعل . والله أن يعذّب بلا سبب، وأن يسعد بلا نسب ولا مكتسب) !
ثمّ يصلون حجّتهم الداحضة بقوله (تعالى) : «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(2).
أمّا أنا فأقول : حنانك اللهمّ ورحماك بعبادك المسلمين، فإنّي لا أظنّ أحداً منهم اليوم يرضى بنسبة هذه المضلّة والظلامة لقدسي ذاتك وسبحات وجهك الكريم عن كلّ خسيسة ومنقصة وحيف وظلامة.
تكرّمت عن ظلم عبادك الذين عدلت فيهم وأمرتهم بالعدل، وتفضّلت عليهم، وحبّبت إليهم التفضّل .
حاشا وجهك الكريم أن تكلّفهم المحال أو تقودهم بالجبر إلى مدانس الأفعال التي تنهاهم عنها قولاً وتجبرهم عليها - بزعمهم - فعلاً .
حاشاك من العيث والعبث والحيف والجنف(3)، وأنت الغني الكريم.
أنشأ تهم لترحمهم لا لتظلمهم، وأوجدتهم لتسعدهم لا لتنكدهم .
ولكن عبادك بدل لطفك فيهم اتّهموك ، وعوض رحمتك لهم ظلموك !
لا ، بل ظلموا أنفسهم وأتعسوا جدودهم(4)، فإنّك العزيز شأناً المنيع جانباً،
ص: 420
فلا حول ولا قوّة إلّا بك.
ونحن إذا قايسنا بين ذينك المقالتين بل المضلّتين وجدنا الأُولى - على شناعتها وزيغها - أهون الشرّين وأقلّ الضررين، نجدها أهون على الأُمّة شرّاً أو أقلّ في المجتمع البشري خطراً، نجدها أخفّ رزية وأضعف بلية ؛ إذ أيّ بلية أعظم من الاتّكال على القضاء والقدر، والإفساح للنفوس في السباق إلى كلّ شرّ وشره، والتقاعد عن كلّ كمال وكرامة، وجعل ذلك في عهدة القضاء ، والتعلّل بأنّه ممّا لا محيص للإنسان عنه، وأنّه مجبور عليه، وتهمة ذات العزّة بوصمته وإحالته على عهدة الحقّ (جلّ شأنه) دون عهدته، فينزّه نفسه ويتّهم ربّه؟!
أيّ إنسان يراجع وجدانه ومحكمة عقله وضميره ، فيفسح لها العذر - بحجّة القضاء والقدر - في ارتكاب كبيرة أو اجتراح جريرة من قتل نفس بريئة أو اغتصاب مال محترم أو هتك حرمة مقدّسة ؟!
الإنسان إذا أطلّ وأشرف على واحدة من تلك الجرائر أيجد وجدانه وضميره يقول له : دونك فارتكبها ، فإنّها مقدّرة لك مكتوبة في لوح القضاء عليك ، ولا محيص لك عنها ، وهو في الحال نفسه يحسّ ببداهة حسّه أنّ فعلها وتركها شرع لديه سيّان بالنسبة إليه كلاهما في قبضة اقتداره و تحت سلطان اختیاره ؟ !
دع عنك - يا هذا - هذه الخزعبلات والمخرفات والأباطيل والتعلّلات فإنّ الله (جلّ شأنه) ما جعل القضاء والقدر لتتّخذه ستاراً لسيّئاتك وتمشية لشهواتك وعصىً تتوصّل بها إلى معاصيك وأهوائك ، وإنّما جعلهما إظهاراً لعظمته وبياناً لسعة علمه وإحاطته ونفوذ سلطانه وبلاغ قدرته .
ألا تعجب سائلاً من أولئك المسلمين القائلين : (إنّ الله أن يعذّب بلا سبب)(1): كيف غابت عنهم آيات كتابهم الكريم ونصوصه الصراح ومحكماته
ص: 421
الجلية، مثل قوله (تعالى) : «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى»(1)، «إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(2)، «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»(3)، «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(4)، «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ»(5)، «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ»(6)، إلى كثير من نظائرها؟!
وهي من الصراحة بمكان لا يمكن أن تمسّها يد التأويل والتصرف فيه.
وهب ورد أمثال قوله (عزّت عظمته) : «وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ»(7)، «قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ»(8)، «قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا»(9)، «يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء»(10)، «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا»(11)، «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(12)، وأمثال ذلك ممّا يوهم المخالفة لذلك الفريق من الآيات، ولكن هل يلبث هذا الوهم أكثر من
ص: 422
لحظة وأطول من ومضة حتّى ينقشع غشاؤه وتتجلّى سماء الحقيقة ناصعةً من ورائه ؟!
هل يجد أوائل المتدرّبين والمتدبّرين أدنى تدافع بين أن تكون أفعال الإنسان بسعيه واختياره وبقدرته وإرادته وله خيرها وثمراتها وعليه شرورها وتبعاتها كما هو مؤدّى الطائفة الأولى من الآيات - وبين أن يكون كلّية اتّصافه بالقدرة والاختيار والإرادة كوجوده وحياته ومشاعره كلّها من الله، كما هو مؤدّى الطائفة الثانية؟!
وهل فى هذا استلزام أن يقول الله لعبده : افعل، ويجبره على أن لا يفعل، وبالعكس، كما يزعم أولئك الزاعمون؟!
أم هل في حديث إظهار الله لبعض الصور في مراتب العلم ثمّ محوها وإثبات غيرها لمصالح جلية أو خفية أو لعدم تحمّل تلك المراتب لتلقّي تلك المعلومات دفعةً دلالةٌ أو إشعارٌ بالجبر وسلب الاختيار؟!
وهل كتابة ما يجرّه الإنسان إلى نفسه من المصائب بسوء اختياره وتفريطاته وإهماله يقضى ببرائته منها وتهمة باريه بها؟!
أم هل يسوغ - والحال هذه - أن يقول - وهو الحكيم العادل : «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(1)، إلى كثير من نظائرها؟!
أم هل بعد كريمة قوله (تعالى) : «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(2)وقوله (عزّ سلطانه) : «وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون»(3)من سبيل
ص: 423
لتلك المزعمة الأثيمة والمضلّة الداحضة؟!
ولعلّ من تستّر عن الجبر بالقول بالكسب أخذه من هذه الآية وأمثالها.
ولكن هل نزل القرآن على اصطلاحه الأخير الذي لم يفهم المراد منه حتّى الآن، أم نزلت الألفاظ على معانيها اللغوية حتّى يثبت البرهان القاطع على خلافها ؟!
أمّا آية العذاب والمغفرة فليس موضوعها سوى أهل الجرائم، كما هو جلي منها ومن سياقها .
فهو (سبحانه) يعذّب من شاء من العاصين ، ويغفر لمن شاء منهم .
الألمعى(1)يعرف أنّ الله (سبحانه) يوجد للإنسان ما يريده ويختاره الإنسان لنفسه من خير أو شرٍّ، لا أنّه يوجد ما يريده هو ثمّ يوجد له الإرادة والاختيار بما أراد وأوجد .
نعم، عبثاً نحاول الاحتجاج وإقامة البراهين على أمرٍ ضروري يشهد به الضمير والوجدان لكلّ إنسان.
بيد أنّ تلك البراهين مهما سطعت واستنارت سوف لا تكون إلّا هباءً عند من يرى أنّ الله (عزّت عظمة جلاله) يناقض - معاذ الله - بين أقواله وأفعاله .
الذي يذهب في متاهة هذه الضلالة فأيّ آيةٍ تنجع فيه، أم أيّ دلالة؟! وهل سبيل الجميع عنده إلّا واحد ؟ !
ولعلّ بعض السبب أو كله في تأخّر المسلمين وسقوطهم في أعمق مهابط الخمول - كما أحسّ به اليوم كلّ واحد منهم - هو سريان هذه الروح الوبيئة في نفوسهم ..
ص: 424
فلطأوا (1)بأرض الهوان وأخلدوا إليها ينتظرون أن تأخذ بأيديهم يد القضاء والقدر، فتعيدهم إلى مراكزهم الأولى من التقدّم على سائر الأُمم .
وهيهات، ما لم ينهضوا تلك النهضة التي تأخذ بها أيديهم على يد القضاء والقدر، فلا يُقضى ولا يُقدّر لهم إلّا بالحسنى، فإنّه لا يجري القضاء والقدر على أُمّة أو فردٍ إلّا على حسب مساعيها وقدر جدّها واتّفاق كلمتها.
وليست العناية الساعة مصروفةً إلى هذه الغاية وإن كنت أرى لزوم الدعوة إليها قبل كلّ شيء ومع كلّ شيء، ولكن لعلّ من أكبر المساعدات عليها فكّ أغلال القضاء والقدر من الأعناق، وتبليغ كلّ ذي شعور معانيها التي تحوّرت عنها وانسلخت منها إلى غيرها بل إلى ضدّها، ودحر ذلك الوهم الرجيم، وتطهير أديم الشريعة الإسلامية من هذه اللوثة الشائنة لها.
على حين أنّ تلك الشريعة المطهّرة تصرخ إلى الله بالبراءة من تلك الأوهام المختلقة التي ألصقت بها واستُدخلت فيها، وما هي منها بشيء.
كما أنّني بلسان جميع الأُمّة الإسلامية اليوم أبرأ أشدّ البراءة من ذينك المقالتين، واختار حدّ الوسط الذي هو الخير كلّه، ونرى أنّ العلم مع الدين يناديان أنّه لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ بين الأمرين على الوجه الذي أوضحنا لك فيما سبق - سبيله ووفّيناك دليله وأعطيناك جوهر القول فيه.
وخلاصة البيان الذي لا أحسبك تجده في غير دعوتنا هذه ولا تعثر على
ص: 425
مثله في غير هذه الشريعة المقدّسة الإسلامية، ونحن - بعد كتاب الله الكريم وآياته المقدّسة التي تلونا بعضها عليك - لا نزيدك هنا في الاستظهار على ذلك الرأي الوثيق الذي هو مصاصة الدين وخلاصة الفلسفة الحقّة إلّا بأخبار النبي والمعصومين من أهل بيته الأمناء على حفظ نواميس شريعته، نذكر عدّة من أخبارهم المتظافرة بل المتوافرة حتّى يتجلّى لسائر الشعوب والأمم أنّ الدين منزّه عن تلك الخزعبلات والمخرفات التي تصادم ضرورة العقول وتُعدّ من أعظم الهنات على الشريعة الإسلامية، وحاشاها.
فمن قول رسول الله (صلوات الله عليه) برواية ولده (الصادق) عنه : أنّه قال : «من زعم بأنّ الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله فقد أخرج الله عن سلطانه»(1)الحديث .
والقول الشارح المفسّر لهذا وغيره من الآيات التي ربّما ذهب الواهمون إلى أنّها من المجملات كلامُ أمير المؤمنين علیه السّلام، وهو الغاية في الباب :
روى (السيّد) (2)في (النهج) وثقة الإسلام في (الكافي): قالا : كان
ص: 426
أمير المؤمنين علیه السّلام جالساً في الكوفة بعد منصرفه من صفّين، إذ أقبل شيخ، فجثا بين يديه، ثمّ قال له : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام : بقضاء من الله وقدر ؟ فقال له أمير المؤمنين : «أجل يا شيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر» . فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين! فقال له : «مه يا شيخ! فوالله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرّين». فقال الشيخ : كيف لم نكن مكرهين مضطرّين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له : «أتظنّ أنّه كان قضاءً حتماً وقدراً لازماً؟! إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمةٌ للمذنب ولا محمدةٌ للمحسن، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب . تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمان وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمّة ومجوسها. إنّ الله (تبارك وتعالى) كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً، ولا يُملِّك مُفوّضاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولم يبعث النبيّين مبشّرين ومنذرين عبثاً، «ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»(1)(2).
ص: 427
ولمولانا الإمام (علي الهادي بن الجواد بن الرضا بن الكاظم بن الصادق) (سلام الله عليهم وعلى جدّهم) رسالة، ليس عليها لطالب الحقيقة من مزيد، جمعت فأوعت، وتجلّت نيّرات الحقيقة بها فشعّت، وهي تكاد أن تكون مفرد كتاب في هذا الباب، سلك بها مسلك الحجّة والبرهان، واستدلّ فيها على الاختيار بالعقل بعد السنة والقرآن ، وضمّنها جملة شافية من حديث آبائه أهل البيت (سلام الله عليهم)، وكان كتبها لشيعته من أهل الأهواز حينما سألوه عن تلك المسألة التي أخذت دوراً مهمّاً في تلك العصور، أوّلها(1):
«من (علي بن محمّد) :
سلام على من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته.
فإنّه ورد عليّ كتابكم، وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القدر، ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثمّ سألتموني بيانه لكم:
ص: 428
اعلموا - رحمكم الله - أنّا إذا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار وجدناها عند جميع من ينتحل الإسلام ممّن يعقل عن الله (عزّ وجلّ) لا تخلو عن معنيين : إمّا حقٌّ فيتّبع، وإمّا باطل فيجتنب .
وقد اجتمعت الأمّة قاطبة أنّ القرآن حقٌّ لا ريب فيه عند جميع الفِرق»(1).
ثمّ ذكر (سلام الله عليه) مقدّمة شريفة استوسع فيها البحث إلى ذكر القرآن وذكر أهل البيت وحديث الثقلين(2)، ثمّ تخلّص بألطف أُسلوب إلى القصد(3).
والتوفيق والظروف لا تسعف دعوتنا هذه بإمكان نشر تلك الرسالة بتمامها، ولكنّا نلتقط منها بعض ما رواه عن آبائه الطاهرين (سلام الله عليهم جميعاً).
قال علیه السّلام في أُخرياتها : «وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويض، وبذلك أخبر أمير المؤمنين (عباية بن ربعي الأسدي)(4)حين سأله عن الاستطاعة التي يقوم بها ويقعد ويفعل ويترك، فقال له أمير المؤمنين : أسألك عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين :
ص: 429
قل يا عباية، قال : وما أقول ؟ قال : إن قلت : إنّك تملكها من دون الله، قتلتك، وإن قلت : تملكها مع الله ، قتلتك ! قال : فما أقول؟ قال : تقول : إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه . هو المالك لما ملّكك والقادر على ما أقدرك . أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة حين يقولون : لا حول ولا قوّة إلّا بالله؟ فقال عباية : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول عن معاصي الله إلّا بعصمة الله، ولا قوّة على طاعة الله إلّا بعون الله.
وروي عن أمير المؤمنين حين أتاه (نجدة) يسأله عن معرفة الله: قال : يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربّك؟ قال : بالتمييز الذي خوّلني، والعقل الذي دلّني . قال : فمجبولٌ أنت عليه ؟ قال : لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على إحسان ولا مذموماً على إساءة ، وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء. فقلت : إنّ الله قديم باقٍ وما دونه حدث حائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل. قال نجدة : أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين ! قال : أصبحت مخيّراً، فإن أتيت السيّئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها»(1).
أقول : أمّا صادق أهل البيت علیهم السّلام فقد برح به الخفاء، فكفى وشفى ، ولم يدع على هذه الحقيقة من ستارٍ ولا غبار ، وقد طفحت كلماته الشريفة في هذا الموضوع وفاضت .
وقد روى عنه حفيده الإمام الهادي) في تلك الرسالة فأكثر ، وقال علیه السّلام: « فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق : لا جبر ولا تفويض، ولكن منزلة بين
ص: 430
المنزلتين ، وهي : صحّة الخلقة، وتخلية السرب، والمهلة في الوقت، ومثل الزاد
والراحلة ، والسبب المهيّج للفاعل على الفعل .
فهذه خمسة أشياء جمع بها الصادق جوامع الفضل ..
وسئل : هل أجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال علیه السّلام: هو أعدل من ذلك.
فقيل : فهل فوّض إليهم ؟ فقال : هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك .
وقال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه :
رجلٌ يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه ، فقد وهّن الله في سلطانه ، فهو هالك .
ورجلٌ يزعم أنّ الله (عزّ وجلّ) أجبر العباد على المعاصي وكلّفهم ما لا يطيقون، فقد ظلم الله في حكمه، فهو هالك.
ورجلٌ يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ»(1).
ثمّ أخذ (الهادي) (سلام الله عليه) في شرح تلك الجملة وتوضيحها والاحتجاج عليها، حتّى صيّرها أجلى في الأفق من شمسه وأقرب إلى الإنسان من نفسه(2).
على أنّ لكلّ واحد من الأئمّة الاثنى عشر علیهم السّلام مقالات ضافية وكلمات شافية في هذا الموضوع، أبينها وأجلاها وأوفرها وأجلّها: ما ورد كما عرفت - عن صادقهم (صلوات الله عليهم) :
فمن شرائف كلماته التي رواها في الكافي ولم تتضمّنها تلك الرسالة : قوله علیه السّلام في جواب من سأله عن الاستطاعة في حديث طويل يقول فيه :
ص: 431
«إنّ الله لم يجبر أحداً على معصيته ولا أراد (إرادة حتم) الكفرَ من أحد، ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر، وهم في إرادة الله وعلمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير» . قلت : أراد منهم أن يكفروا؟ قال : «ليس هكذا أقول، ولكنّي أقول : علم أنّهم سيكفرون ، فأراد الكفر؛ لعلمه فيهم، وليست هي إرادة حتم، إنّما هي إرادة اختيار»(1)انتهى .
والإرادة في لسان حديث أهل البيت تطلق على معنيين : الخلق والإيجاد، ثمّ العلم ، حسبما استقصيناه من أحاديثهم . فقوله : «ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر » من الثاني لا الأول، وقوله أخيراً : «فأراد الكفر ؛ لعلمه فيهم» من الأوّل لا الثاني. ثمّ أكّده (سلام الله عليه) بقوله : «وليست هي إرادة حتم»، أي : ليس هو خلق حتم عليه ، بل خلق اختيار ، يعني : خلق للعبد ما اختاره العبد لنفسه، فتدبّر.
نعم، ولقد أوجز الإمام (على بن موسى الرضا) (سلام الله عليهما) فأنبأ عن شاكلة الغرض ونفى الطرفين من الإفراط والتفريط بكلمة واحدة، وهي قوله : «هو المالك لما ملّكهم».
فبقوله : «هو المالك» نفى التفويض والعزلة، وبقوله : «ملّكهم» نفى الجبر في الجملة ، أعني : ما هو محلّ النزاع، لا من قبيل الموت والحياة والعمر وأمثالها ممّا هو خارج عن قدرة العبد فقوله علیه السّلام: «ملّكهم» إشارة إلى تعيين محلّ النزاع
والدلالة على الحقّ فيه .
ص: 432
وهذه الكلمة من حديثٍ رواه الشيخ الصدوق ابن بابويه)(1)في كتابي (التوحيد والعيون)(2)بسنده الصحيح عن (سليمان بن جعفر الجعفري)(3)، عن أبي الحسن الرضا علیه السّلام، قال : ذُكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : «ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه، ولا يخاصمكم عليه أحد إلّا كسر تموه» ؟ قلنا : إن رأيت ذلك . فقال علیه السّلام : (إنّ الله (عزّ وجلّ) لم يُطع بإكراه، ولم يُعص بغلبة، ولم يمهل العباد في ملكه. هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم، فإن ائتمر العباد بطاعة لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن
ص: 433
يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».
ثمَّ قال : «من ضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه».
وقد عرفت كيف ينبغي أن تضبط حدود هذا الكلام، وكيف تكون الحجة به والخصام.
وظهر لك أنّ جميع ما ذكرناه مأخوذ منهم ووارد عنهم علیهم السّلام، وأنّهم ما تركوا
شيئاً من الحقّ إلّا وقد أوضحوا منهاجه وقوّموا اعوجاجه.
فإلى أخبارهم وآثارهم يا مُريد معرفة الحقائق وشهودها على أوساطها وحدودها، وإلى كلماتهم ونيّرات تعليماتهم يا طالب شُعب العلم وفنون المعارف.
فوالذي جعلهم وجدّهم معادن حكمته وحُكمه وخزّان آياته وعلمه، إنّك لا تجد ما يزيح العلّة ويبرد الغلّة إلّا في كلماتهم ورموز إشاراتهم، فارجع إليها عساك تنتصف لهم وتنصفهم وتعترف بحقّهم وتعرفهم.
فوالله ما أسوقك إلّا إلى سعادتك، ولا أدلّك إلّا على منفعتك، والله وأولياؤه
أغنياء عنّى وعنك، ولكنّه بعباده رؤوف رحيم.
السابع : في بيان فائدة التكاليف والدعوة والوعد والوعيد، والترغيب والتهديد وتأثير السعي والجهد والطلب والجدّ.
لم يبرح عنك ما قدّمناه من أنّ الأشياء الداخلة في وجود الإنسان كالعلم والقدرة والإرادة من جملة أسباب الفعل ومباديه التي يستحيل حصوله بدونها.
وليس بعزيز عليك التنبّه إلى أنّ تلك الأمور أيضاً أسباب ومبادٍ خارجية، كما أنّ هذه مبادٍ داخلية.
فالدعوة والتكليف والإرشاد والتهذيب والتربية والوعد والوعيد أُمورٌ
ص: 434
جعلها الله مهيّجةً للأشواق ودواع إلى الخيرات واكتساب الفضائل، محرّضة على الأعمال الحسنة والعادات الحميدة والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة، تمهّد
السبيل لصالح المعاش والمعاد، وتُعِدّ الضمانة لسعادة الدنيا والآخرة .
فإنّ الدعوة والإرشاد والتربية تبعث الشوق وتحرّك العاطفة وتلبد الإرادة، والشوق والإرادة يبعثان على السعي والجدّ والتدبير والحذر.
وقد جعل الله في محكم قضائه وسابق علمه أن يكون الجدّ والسعي والحركة والعزيمة مهيّئة لمطالبنا موصلة إلى مقاصدنا مخرجة من القوّة إلى الفعل كا من كمالاتنا .
كما جعلها الله أسباباً مقترناً بها ما يصل إلينا من أرزاقنا، وما قُدّر لنا من معائشنا، أو لما يصرفه الله عنّا من المكاره ويدفعه عنّا من المضارّ.
وكلّ هذه الغايات لا تحصل لنا إلّا باجتماع كلّ هاتيك المبادي والوسائط نظراً إلى نواميس الكون الأوّلية، لا إلى النوادر وخوارق العادات، فإنّ لتلك أيضاً سلسلة أسباب ومجارٍ أخر؛ إذ من الجلي أنّه لا يحدث ممكن في الكون إلّا بأسبابه وسلسلة علله .
ثمّ إنّ تلك الأسباب والوسائط من السعى والجدّ والنشاط وأضدادها أيضاً واجبة لنا مقدّرة علينا، ولكن سنخ وجوبها كما عرفت - ليس تقدير إجبارٍ وحتم، بل على أنّها تقع باختيارنا وتنشأ من ضعف أو قوّة عزائمنا التي يكون ضعفها وقوّتها في إمكاننا واقتدارنا.
ولعلّ إلى هذه المناحي والمقاصد وقع الإيمان ببعض الأحاديث الشريفة، مثل : قوله صلی الله علیه و آله و سلّم لمن سأله : هل يغني الدواء والرقية من قدر الله ؟ قال : «الدواء
ص: 435
والرقية أيضاً من قدر الله»(1).
ولمّا قال (صلوات الله عليه) : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة». قيل : ففيم العمل؟ قال : «اعملوا، فكلٌّ ميسر لما خُلق له»(2).
ولمّا سُئل : أنحن في أمرٍ فُرغ منه، أو أمر مستأنف؟ قال : «في أمر فُرغ منه، وأمر مستأنف(3)»(4).
وبهذا يُعلم أنّ كلّ ما يصدر منّا من الحركات والسكنات والسيّئات والحسنات مقدّرة لنا واجبة علينا . لكن لا كما يظنّه القاصرون ويزعمه الزاعمون من : أنّه لو أراد أن يفعل غير ما صدر منه لم يكن له ذلك ولا كان قادراً عليه(5)، بل بمعنى: أنّ وجوبها يكون باختيارنا وإرادتنا ، ولو أردنا خلافها كان لنا ذلك، كما هو المحسوس . وصدور هذا الفعل - مثلاً - على هذه الكيفية هو المقدّر المعلوم المكتوب، كما قال (جلّ شأنه: «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»(6).
وهذا النسخ والسطر الواقع في الذكر الأوّل قبل العمل موافقٌ ومطابقٌ
ص: 436
للنسخ الذي يقع مقارناً له ، وهي صحف الحشر والنشر : «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابِاً يَلْقَاهُ مَنشُوراً»(1)، «وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(2)، «هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).
فصفّ وهمك ولطّف فهمك، واعرف أنّ كلّ تلك الكتب والكتابات معرّفاتٌ لسعادتنا أو شقاوتنا، لا موجبات.
هذا مصاص القول وخلاصة الحقيقة، وعليه فاحمل كلّ ما ورد في كلمات صاحب الشريعة، مثل : قوله (صلوات الله عليه) : «اعلم أنّ الأُمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعت على أن يضرّوك لم يضرّوك إلّا بشيء كتبه عليك، رُفعت الإقلام وجفّت الصحف»(4)إلى كثير من أمثاله في الكتاب والسنّة المقدّسين .
أمّا الابتلاء والامتحان والتمحيص فهو إظهار ما كُتب علينا في القدر وإبراز ما أُودع فينا وغرز في طباعنا بالقوّة.
وتلك الوقائع والحوادث والآلام والمصائب والتكاليف الشاقّة تنمية غروسنا وتربية بذورنا وتكميل استعدادنا وتحصيل ثمراتنا.
ولو لم تُبتلَ وتُمحص لما ظهرت تلك الغرائز والركائز التي في بذرة وجودنا
ص: 437
ونُطف حياتنا ممّا هو معلوم الله (جلّ شأنه) بالفعل ومستودع فينا بالقوّة.
وكيف تحصل ثمراتها وتبعاتها ما لم تنضجها الفواعل وتعمل فيها العوامل؟!
قال (جلّ شأنه) : «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ»(1)وأمثالها ، أي : نعلمهم موصوفين بهذه الصفة بحيث يترتّب عليها الجزاء. وأمّا قبل ذلك الابتلاء فإنّه (جلّ شأنه) عَلمهم مستعدّين للمجاهدة والصبر صائرين إليها بعد حين ، والعلم لا يتبدّل ولا يتغيّر، وإنّما التغيّر في المعلوم، فتدبّر.
نعم، وإذا ضربت الفكر في أعماق قوله تعالى شأنه) : «أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِيَّ مِنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ»(2)يظهر لك في التكاليف سرٌّ عظيم وفلسفة جليلة.
والقصارى : أنّ التكاليف والعبودية رياضات سرّية ومعالجات قسرية ومطرقة تُمرّن عليها صلابة النفوس البشرية، لا بل هي تربية إلهية مهيّئة لانتقالها إلى أسمى المقامات وأسنى الكرامات.
تلك النطفة المنوية التي هي كأخسّ فضلات الإنسان كيف ترتقي إلى أن تصير عقلاً قادساً وجوهراً مجرّداً وروحاً مكرّماً وخلقاً شريفاً؟!
كيف تعرج من الدرك الأخسّ إلى مقامها الأقدس، وتنتقل من تلك الخسّة والقذارة إلى عالم القدس والطهارة؟!
كيف تخرج من طور الجمادية إلى نشأة ملكوتية بدون التصفية والتهذيب
ص: 438
والتربية والتشذيب وبعد التقلّبات الطويلة والتنقّلات العديدة ؟ ! «أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى هِ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ مِّن مَّنِي يُمْنَى»(1).
ولا تجد فرضاً من فرائض الشريعة الإسلامية إلّا وهو لغاية أخلاقية سامية.
وليست العناية والحكمة من كلّ تلك النواميس سوى الأخذ بالنفوس إلى حدود الاعتدال وإيقافها على أوساط الكمالات ومراكز محاسن الأخلاق غضّاً من جماحها، وكسراً من سورتها(2)، واستلانةً لشدّتها، واستنزالاً لها من عروش كبريائها ونخوتها، وتعويداً لها على كرم المساواة وحسن الصنيعة وإسداء البرّ وصنائع المعروف ممّا يكون داعية التعاطف والتآلف وإحكام روابط الوحدة الجنسية وإبرام أسباب الأخوّة البشرية، وأخذاً بأتقن أصول الاشتراكية العامّة والتسوية الصحيحة المؤسّسة على أشرف الأصول وأقوى القواعد والقائمة على أقوم الدعائم وأدعم القوائم التي لا يجد العقل فيها بالوزن الدقيق انحرافاً ولا حيفاً ولا جنفاً ولا فجوراً ولا عهراً .
لا الاشتراكية التي تحاولها اليوم بعض الأُمم التي هي - على الأغلب على
العكس من ذلك!
ولو صحّت المقاصد وأخلصت النيّات وتجرّدت الأغراض لإجراء ما هو الصالح للنوع البشري لتحزّب أولئك النفر للأخذ بالاشتراكية القرآنية ونشر نواميسها في المجتمع نظراً لتلك الغايات الشريفة [التي] طالما تساهل المسلمون
ص: 439
فيها واستناموا عزائمهم عن القيام بها، حتّى كان ما ترى من أمرهم، وبلغوا إلى ما
تجده من تفرّق جامعتهم.
وإلى الله الضراعة وعلى أنفسنا اللائمة حتّى نعود إلى التمسّك بتلك الأسباب المحكمة العُرى التي حفظتنا ردحاً من الدهر وما حفظناها، وانغمسنا في حمأة الضعة والخمول ضائعين حينما وضعناها وأضعناها.
هذا، وكما أنّ تشريع التكاليف والتعبّديات إنّما هو لتلك الغايات الشريفة والحكم العالية التي ألمعنا إلى أقلّ مراتبها وأدنى مقاماتها، فكذلك السعي والنشاط والجدّ والجهد والعزيمة والثبات والمداومة على الطلب قد جعلها الله (جلّ شأنه) أسباباً للنجاح، وقرن بها حصول الغايات المطلوبة في سائر الأعمال، وصيّرها مجاريَ لرزقه وتوفيقه ومفاتيحَ لأبواب رحمته .
فإنّ العناية (جلّت حكمتها) قضت وأبت إلّا أن تكون الأمور منوطة بالأسباب المتكانفة والوسائط المترامية، وأن لا تحصل للإنسان غايةٌ إلّا بالسعى إليها من أبوابها وجرّها بسلسلة أسبابها.
فتراه (جل شأنه) تكفّل بالرزق وضمن لخليقته أقواتها بأوقاتها، ولكنّه أمر بالسعي وحثّ على العمل للدنيا، كما حثّ على العمل للآخرة سواءً بسواءٍ، حتّى ذكر (جلّ شأنه) البطالة في معرض التعاسة والتنديد، وضربها مثلاً للتحقير والتنكيد ، فقال تعالى) : «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ»(1). ولمّا قال: «وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» (2)عقّبه رفعاً
ص: 440
لوهم أنّه مسوق إلى الإنسان على رغم توانيه ونشاطه سعى إليه أم تقاعد عنه، فقال في مقام آخر من تعداد مننه وألطافه : «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِزْقِهِ»(1)، فقرن الرزق بالسعي في الأرض التي ذلّلها للسعي
والطلب.
وإذا تصفّحت الكتاب والسنّة المقدّسين وجدت فيهما شواهد صدقٍ على ذلك لا تُحدّ ولا تُجحد، وسيمرّ عليك كثير منها في غضون دعوتنا هذه قصداً أو استطراداً.
ولا يصادم شيئاً من ذلك ما ورد من الحثّ على الزهد في الدنيا والرغبة عنها، وهو الأكثر والأظهر على لهجة الكتاب الكريم ولسان السنّة النبويّة(2)، بل وكأنّ إليه القصد والعناية، وهو الأصيل بالبيان والغاية من البعثة والرسالة.
ولكن الأفهام والأوهام وبالأسف كأنّها قد حوّرته عن وجهته وحارت به عن قصده وخِطَّته، وأضاعت جوهر ما توعز إليه تلك العلاجات الناجعة
ص: 441
والألطاف النافعة.
وبالعزيز على شرف الإسلام وشريعته وعلى رغم موحياتها المقدّسة أن يُفهم منها خلاف مناحيها الحيّة ومقاصدها الجليّة .
فإنّ المراد بتلك العظات والآيات : أن لا تركن النفوس إلى الدنيا وتخلد إليها وتشتدّ علاقتها بزينتها وزخرفها، حتى لا تحسب شيئاً من النعيم سواها ولا ترى منزلة من السعادة وراءها .
وليس المراد أن تركن إلى البطالة وتخلد إلى الكسل وتتقاعد ضاربةً بكفّها على وجه السعي والعمل.
كلّا، ثمّ كلا، وإنّما جوهر الغرض وغاية القصد هو ما ذكرناه من : أنّ الغاية الفذّة من نواميس هذه الشريعة التي امتازت عن كلّ شريعة سواها هي تعديل النفوس ووضعها في حدّ الوسط من الكمالات، (والوسط هو الكمال كلّه) . يُراد من النفوس أن لا تتّكل على القضاء والقدر وتتوانى عن العمل، فيختلّ نظام العالم المبتني على دعائمَ من أحكمها الحرصُ وحبّ الاستكثار الباعثان على الجدّ والجهد، ويتفرّع عليهما توسعة العمران وتمهيد الحضارة.
ثمّ تعديلاً لهذه الغريزة أن تذهب بالإنسان كلّ مذهب من الشرّ والجشع فتفوته السعادة الجوهرية والحياة الدائمة - وهي الخير كلّه وما سواه مقدّمة له - استُصلحت تلك الغريزة بالتوكل على مسبّب تلك الأسباب والاستعانة به، والنظر في كلّ حركة ومسعاة إلى أنّه هو الميسّر والمدبّر الذي أوجد كلّ سلسلة الأسباب والمسبّبات، بل والسعاة إليها.
ثمّ هي بعدُ لم تخرج عن حيطة ملكوته وسلطان مشيّته، فلا يعتمد الإنسان على سعيه كلّيةً، ويحسب أنّه المؤثّر والموجد، فيعزل الله أنّه المؤثر والموجد، فيعزل الله عن سلطانه، ويخرجه
ص: 442
عن ملكوته، ويبخسه حقّه، ويسدّ على نفسه أبواب ألطافه التي لا تتناهى، فيسيء إلى نفسه ويحجر عليها أقصى ما هي مستعدّة له من الكمالات ونيل الكرامات .
وفي إزاء ذلك أيضاً لا يعتمد ويتّكل على القضاء والقدر، وعلى ما في السماء من الرزق، فيخالف سنّة الله وكلمته الحسنى التي سبقت لعباده نظراً لهم ورحمة بهم من ربط الأمور بأسبابها ودخول البيوت من أبوابها : «فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ»(1)، هم الذين يخالفون حكمة الله في سابق علمه وأزلي تدبيره.
فالإنسان حتم عليه أن يسعى، لكن متّكلاً على الله لا على سعيه ناظراً إلى أنّه (تعالى) هو الذي يسّره للسعي، وأوجد له الأسباب، ومهّد له السبل ، وأعطاه غريزة العقل والاهتداء إليها بتعليم خارجي أو تنبّه داخلي.
كما أنّ من الحري به أن يسعى للدنيا، ولا ينسَ نصيبه من الآخرة ، ولا يركن إلى المتاع الفاني عاشقاً له هائماً به.
وأيّ عناية وشفقة على الإنسان أبرٌ وأرحم به من هذه التربية الحنون وهذه العظة البالغة (عظة الزهد في الدنيا وعدم الاعتداد والشغف بها) طالما أن الله (جلّ شأنه) والخلق جميعاً عالمون علماً يقينياً لا يشوبه ريب أنّهم لا محالة مفارقون لهذا المتاع الزائل والحطام البائد والزخرف الغرور؟!
أفليس من عظيم الشفقة والرحمة بالإنسان تعليمه وتقويمه على أن لا يعشقها حتّى لا تشتدّ الحسرة والرزيّة عليه عند فراقها طالما هو مفارقها لا محالة؟!
ص: 443
فانظر هنا إلى شرف شريعة الإسلام، وانظر كيف جمعت من السعادة فأوعت، وأخذت بأطراف الحكمة ونواميس الاعتدال والصحّة!
وحقّ لها أن تكون خاتمة الشرائع بما أنّها أكمل الأديان وأتمّ المقومات والمسنونات الإلهية لصالح البشر.
وإذا أحطت ببعض أسرارها علماً ووقفت على لمعة من رموزها مستيقناً فاسجد صعقاً لأنوارها شاكراً لألطافها مستسلماً لحقيقتها، ولا تذكر عندها يهوديةً ولا نصرانيةً ولا برهميةً ولا مجوسيةً .
والله الموفّق للسعي والوصول إلى الحقائق لي ولك إن شاء الله .
وحينما عرفت أنّ الجدّ والسعى والطلب له مقام من الأهمية في الشريعة الإسلامية ، وأنّه من نواميس عمارة العالم، ولولاه لاختلّ النظام وبطل الإتقان والإحكام، وأنّ شيئاً من حديث القضاء والقدر والتوكّل على الله والزهد في الدنيا لا يثلّ شيئاً من ذلك العرش ولا يصدم حاشية من ذلك الحصن المنيع، فسوف يتجلّى لك خطل بعض الأقوال وخطأ الخطوات عن مدرجة الصواب ومحجّة الحقيقة، وتودّ أن لا يكون جرى قلم القائل بقوله :
جرى قلم القضاء بما يكون *** فسيّان التحرّك والسكون
بل وتعدّ ضرباً من الجنون قوله بعد ذلك :
جنونٌ منك أن تسعى لرزقٍ *** ويُرزقُ في غشاوتِه الجنين !
وهو وإن أحسن شعراً، ولكنّي أحسبه أساء شعوراً!
أفلست ترى ما أفيل الحجّة (1)وأفسد القياس وأضعف البرهان؟!
ص: 444
ألست تعلم أنّ الله (جلّت حكمته) إنّما رزق الجنين وهو في غشاوته بلا سعي وطلب إنّما هو لأنّه لم يملّكه بعدُ أدوات الطلب ولم يمكّنه من آلات الكسب ؟ !
وحاشا لعنايته أن تضيع صنعاً، أو تهمل خلقاً، أو تكلّف محالاً وشططاً.
أمّا الإنسان فقد مكّنه وملّكه، وقوّاه وأقدره، وسهّل السبيل له ويسّره، ودلّه بغريزة العقل الداخلي والتعليم الخارجي على كلّ ما به صلاحه وفساده وما يكمل ويهنأ به معاشه ومعاده.
فكيف يصحّ القياس ويتمّ التمثيل ؟ !
ولكنّه شعر، والشعر إلى تمثيل الصور والأوهام أقرب منه إلى تمثيل الحقائق على الأغلب!
وفي هذا مقنع وكفاية إن شاء الله .
الثامن : في الاستعدادات واختلافها وتنوّعاتها.
عساك في وهلة النظر وبادئ الأمر تبادر في السؤال : أنّه إذا كانت الفضائل والرذائل والمحاسن والمقابح والخيرات والشرور كلّها مقدّرة علينا قبل صدورها معجونة فينا قبل وقوعها تصدر عنّا بأوقاتها باختيارنا ودواعينا والمبادئ المتيسّرة لنا، فما بالنا لا نتساوى فيها ولا نتماثل ولا نتشابه ولا نتشاكل؟!
وإذا كانت مختلفة باختلاف الطبائع والغرائز والأصول والمعادن -كما ورد : «الناس معادن، كمعادن الذهب والفضّة» (1)- عادت المحاذير، ولم يمكن فعل الحسن ولا ترك القبيح، ولم يفضّل السعيد على الشقي؛ لأنّ كلّ امريٍ حينئذٍ يجري على
ص: 445
مقتضیات طباعه و نوامیس کيانه وضروريات ذاته التي لا يمكنه المحيص عنها ولا التفصي منها، وقد قالوا : الذاتي لا يتخلّف ولا يختلف.
وكيف العدل! وقد جعل هذا شقيّاً وهذا سعيداً، «وقبض قبضة وقال : للنار ولا أبالي، وقبض أُخرى ، وقال : للجنّة ولا أبالي»(1).
فأين عدم الظلم الذي ذكره (جلّ شأنه) لذاته المقدّسة في قوله : «وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(2)، «وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ»(3)؟!
فنقول : هوّن ما شقّ عليك واستمع لما نلقيه إليك، فإنّ سرّ القدر وإن كان لا ينبغي بل لا يجوز الخوض فيه، ولكنّا نرى أنّ ذلك مصروف إلى الضعفة والعجّز من الناس، فإنّ خوض هؤلاء فيه - نظراً إلى قصورهم - ينجرّ إلى ضلالهم وارتباكهم وتردّيهم وهلاكهم.
والشريعة المقدّسة الإسلامية ما حجرت كحجر غيرها على العقول، ولا سدّت كسواها على الأفكار في أيّ مسألة كانت وأيّ نظرية فُرضت .
نعم، هناك عويصات وملتويات لا يجد العقل لنفسه سبيلاً إليها ويعترف هو نفسه بالعجز عنها، لا أنّ أحداً صدّه أو منعه دونها .
فالعقل في هذه الشريعة المحمّدية له تمام الاختيار وأحرى مبالغ الحرّية .
أمّا هذه النظرية الدقيقة فنتكلّم فيها يسيراً على حسب ما يتّسع له هذا الظرف وتحتمله البيئة، ولا نُحمّل الظروف فوق وسعها، ولا أنفسنا فوق طاقتها.
وعليه، فقبل كلّ شيء يجدر بك أن تعلم أنّ استعدادات البشر وإن اختلفت
ص: 446
أشدّ الاختلاف وتباينت أبعد التباين، حتّى لا تكاد تجداً امرأين متساويين من كلّ جهة، ولكن ما أُنيطت التكاليف به من الاستعداد لابد وأن يكون متساوياً حيث تتساوى التكاليف.
بمعنى : أنّ الله (سبحانه) لا يعقد من أطواق التكاليف على أعناق البشر إلّا على قدر طاقتهم ومبالغ قوّتهم، ويزيد تكليف كلٍّ وينقص على حسب زيادة استعداده ونقصه. وقد تقدّم بعض هذا في أوائل هذا الجزء(1).
والذي نريد ذكره هنا من ذلك : أنّ في مرحلة التكاليف لا يتصوّر ولا يقع إلّا العدل والموازنة الصحيحة، وليس فيها من مجال لذلك السؤال، كما هو - بعد التنبيه عليه - جلى ظاهر .
أمّا في غير ذلك فالاستعدادات متنوّعة والحقائق مختلفة، والأرواح البشرية في فطرتها الأولى متغايرةٌ في الصفاء والكدر والضعف والقوّة، مترتّبة في درجات القرب والبعد ترتّب ضوء الشمس منها ومركّبات المواد الطبيعية بحسب طباعها، متباعدةٌ في اللطافة والكثافة ومزاجاتها، متباينةٌ في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي.
فقابليتها لما يتعلّق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدّر بإزاء كلٍّ ما يناسبه، فحصل من مجموع ذلك استعدادات خصوصية مناسبة لبعض العلوم والإدراكات والطباع والأحوال والمهن والأشغال .
وذلك الاختلاف حصل من أنحاء التركيبات الطبيعية التي اقتضت صفات خصوصية من الحدّة واللين، والشراسة والدعة، والقوة والضعف، والذكاء
ص: 447
والبلادة، والانحراف والاستقامة في سائر الغرائز والخلال. ومن تلك الاختلافات التي في تراكيبها حصل الاختلاف في الأميال والأشواق والعقول والإرادات إلى أنواع الأعمال والصناعات وأنحاء العلوم والحرف والمهن والأشغال.
فنزع كلُّ بطبعه إلى عمل أو علم ينفر أو لا يميل إليه الآخر، ويستحسن كلُّ ما يستقبحه غيره.
وهذا من أعظم مظاهر العنايات الإلهية وأسرار الحكمة الأزلية؛ إذ العناية اقتضت نظام الكون على أحسن ما يمكن ولو تساوت الاستعدادات والأهواء والأميال والرغبات لاختلّ النظام وارتفع الصلاح العامّ، ولفسد العالم وتلاشى من فيه.
فإنّ بقاء هم طبقة واحدة على حالة واحدة في مرتبة واحدة يخلّ بصالحهم ويذهب براحتهم، بل يأتي على وجودهم ويمحق روح كيانهم، كما هو جلي واضح غني عن الشرح .
مع ما يلزمه من بقاء سائر المراتب في كتم العدم مع إمكانها ، فكان حيفاً عليهم وجوراً، لا قسطاً وعدلاً، وبقي الاحتياج في العالم إليها وافتقاره عند عدمها.
أترى أنّ السؤال بأنّه : لماذا لم يكن السوقي ملكاً، والجاهل عالماً، والأُمّى كاتباً، والبدوي حاضراً، والجندي أميراً ، والأمير وزيراً، والكاسب كاتباً، والزارع حاطباً، وهكذا إلى غير نهاية، هل هذه الأسئلة إلا كالسؤال بأنّه : لماذا لم يكن البصل زعفراناً، والشوك ورداً، والفحم عسجداً(1)، والكلب أسداً، والحمار
ص: 448
جملاً، وهلمّ جراً؟! كالسؤال عن باقل : لماذا لم يكن سحبان؟(1)والفقير كيف لم يصر سلطاناً؟ والشقي كيف لا كان سعيداً؟ والشرّيرِ لم لا خُلق خيّراً؟ والإنسان هلّا كان ملكاً ؟ إلى أضراب هذه المناحي المترامية إلى غير أمد .
وهل الجواب عن كلّ ذلك إلّا واحد وهو : أنّ العناية لو صنعت ذلك لاضطرّ السلطان إلى مباشرة الكنس ، والحكيم المتألّه إلى كلّ عمل بخس!
وعند ذلك لا يبقى التناسب على وزان التماثل، ولم يكن السلطان سلطاناً، ولا الملك ملكاً، ولا الإنسان إنساناً!
وهل من اختلال في النظام أضرّ وأسوأ من هذا؟! أم هل يعدّ هذا في شيء من العدل؟!
كلّا، فإنّ هذا هو الظلم بعينه والجهل بتمام حقيقته .
وما العدل إلّا تعديل المواد والأشباح بحسب الصور والأرواح ..
ما العدل إلّا الموازنة والتناسب، ووضع كلّ شيء في محلّه اللائق به ومقامه الذي ينزع إليه ..
ما العدل إلّا تسوية الأمزجة بحسب الأنواع، وتوزيعها على الأصناف
ص: 449
والأشخاص، وتكميل الحاجيات، وتقويم أود (1)الكلّ، وصلاح حال الجميع.
على أنّ كلّ تلك المعارضات مجازفات جلية لدى أوّل نظرة ؛ فإنّ السؤال - مثلاً - عن الإنسان : لماذا لم يكن ملَكاً؟ والجنّ كيف لم تصر بشراً؟ وهمٌ حائل وافتراض باطل؛ لأنّه تسويل وتبديل في الحقائق، ولو جاز التبدّل في الحقائق انقلب العالم كلّه إلى الوهم، ولم يبق في الوجود حقيقة راهنة ولا ذوات متعيّنة.
على أنّ هناك نظرة أخرى في فساد تلك المراجعات، حيث إنّ العناية قد أوجدت الملائك والبشر مثلاً، فالسؤال عن كون البشر لماذا لم يكن ملكاً يعود إلى السؤال عن أنّه : لماذا أوجد الإنسان، لا أنّه : لماذا لم يجعل الإنسان ملكاً ؟
والجواب : أنّ الملائكة قد أوجدتهم العناية على آخر ما في الإمكان .
والإنسان أيضاً حقيقة من الحقائق مستعدّة - بحسب الإمكان -- للوجود ، فعدم إفاضته أيضاً عليها بخل وحرمان، والمبدِئ الأوّل لا بخل فيه ، بل : «أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(2)، هداه إلى مقوّمات أوده ومتمّمات حياته ومكمّلات وجوده حسب استعداده.
أترى لو أنّ مهندساً ماهراً بنى قصراً أو داراً وأعمل في صنعها كلّ حذاقته ولباقته حتّى استكمل مرافقها ولم يدع جهة نقص فيها لوضعه كلّ مرفق في وضعه المناسب له من تلك الدار حتّى المطبخ والمستراح ، فهل يحسن مراجعته بأنّه لماذا لم تجعل المطبخ حجرة والإسطبل غرفة وهكذا ؟! وهل هو إلّا عين السؤال عن أنّه : لماذا جعلتَ في الدار مطبخاً وإسطبلاً ومستراحاً ؟!
ص: 450
على حين أنّه لو لم يضع هذه المرافق في تلك الدار لما أمكن الارتفاق بها والانتفاع فيها، ولذهب عناؤه باطلاً وسعيه هدراً.
فالمطبخ بالنظر إلى نفسه وإن كان حقيراً، ولكنّه بالنظر إلى توقّف الانتفاع بالدار عليه ومسيس حاجتها إليه يعدّ لازماً كبيراً.
وإذا نظرت إلى مجموع هيئة تلك الدار وجدت كلاًّ بموقعه حسناً، ولا يخطر على خلدك أنّ الغرفة أولى من الصُفّة، ولا الإيوان أولى من غير مكان، بل لكلٍّ في مقامه وموقعه مقام من الأهمية واللزوم والحاجة والاقتضاء يجعله في صفّ غيره وبإزاء ما سواه .
نعم، تفاوت الأفراد إنّما هو بالنظر إلى مقايسة بعضها إلى بعض.
وأمّا بالنظر إلى المجموع فالورد كالشوك، والجلمد كالعسجد، والماء كالنار، والنُضّار(1)كالأحجار:
وإذا نظرت الكائنات بأسرها *** كلّاً بموقعه تراه جميلاً
وكما لا نعترض على المشوّهين في الخلقة أنّهم هلّا كانوا بحسن يوسف وصورة بلقيس، ونعذر البشر فى اختلاف الأشكال والصور بحيث لا يتشابه اثنان منهم شبهاً تامّاً، فكذا يجدر بنا أن نعذرهم في اختلاف الغرائز والشمائل، كاختلاف الأشكال والطبائع وسائر الأميال والأهواء، ونعرف أنّ ذلك لأمر ذاتي في أصل فِطرهم وبدو تكوينهم ومزيج أسناخهم وأُصولهم، وأنّ هذا الاختلاف لا بدّ منه في حفظ النظام الأتمّ والوجود الأكمل .
ولو تنازلنا إلى تسليم كونه جوراً فى حقّ الفرد الخصوصي السافل - ولا
ص: 451
نسلّم - فهو عدل في حقّ النوع المتكامل، ولا مندوحة للحكيم عن ارتكابه بمقتضى حكمته .
ولو كان من الممكن أحسن من هذا الصنع وأبدع من ذا الاختراع لأوجده القادر الحكيم والجواد الغني والفياض المطلق.
ومن هنا قالت أساطين الحكمة وكبراء الفلسفة : (ليس في الإمكان أبدع ممّا كان)(1).
أمّا سبيل الاحتراز عن المساوئ والشرور والاهتداء إلى سلوك سبل الخيرات والمحاسن فتمام الحقيقة في ذلك : أنّ شريف النفس نجيب الأصل طيّب الجوهر - أعني : من كانت نفسه أشدّ صفاءً وأقوى تجرّداً وأقرب إلى مباديها شرفاً وفضلاً - فمثل هذا قلمّا يهمّ بشيء ممّا ليس في فطرته ولا في طباعه من الفواحش والرذائل ؛ لعدم المناسبة .
ولو همّ بشيء من ذلك نادراً - لاستيلاء داعية من دواعي وهمه وهواه أو هيجان من شهوته أو غضبه - زجره في الحال زاجر من عقله وهداه وملكوت ضميره ووجدانه .
وإذا كان دون ذلك من صفاء الاستعداد ونقاء الجوهر ، فإذا همّ بوهم لم ينزجر إلّا بزاجر خارجي من شرع أو سياسة أو ناصح أو مربّي .
أمّا إذا همّ بشيء من المحاسن ممّا هو في فطرته وجد باعثاً من عقله ودرايته وناصراً من توفيقه وهدايته، فيميل إليه شوقاً وشغفاً ؛ لمناسبته إيّاه، وهكذا حسب الحظ الحظّ من سلامة النفس وصفائها .
ص: 452
أمّا خسيس النفس خبيث الجوهر رديء الأصل من مزيج عناصره ومختلطات طبائعه فبالعكس ، يندفع إلى الشرّ والسوء بطبعه، ويميل إلى الخبيث من تلقاء ذاته ؛ لمناسبته ذلك ، ولا يندفع إلى الخير إلّا تكلّفاً وتطبّعاً مع كثير من الدوافع الخارجية من داع ومرشد وواعظ ومسعد .
وكلّ تلك الأفعال المستندة إلى الشهوات والأميال المنبعثة عن الاستعدادات الخصوصية لم تصدر إلّا عن اختيار وقدرة على الطرفين.
وإنّما الاستعدادات ترجّح أحد الطرفين في تعلّق الإرادة، لا أنّها توجبه .
ومن أجلى الضرورات بداهة أنّ تعلّق الإرادة بشيء من فعل أو ترك لا تصيّر ضدّه ممتنعاً عليه غير مقدور له .
وكما أنّه لا يصدر إلّا عن اختيار ، فكذلك لا يُؤاخذ به إلّا بعد إتمام الحجّة والإعذار والإنذار.
ولكن كلّ يفعل ما يشتاق إليه بطبعه ويميل إليه من جرّاء مناسبته ، وإن كان قد يعلم أنّ خلاف فعله هذا أجود وأحسن، ولكن طبعه يمجّ الحسن ويجد انّه يضرّه كما تضرّ رياح الورد بالجعل !
هذا خلاصة النظر في الاستعدادات التي عرفت اختلافها بالنظر إلى سائر الأشياء سوى التكاليف؛ فإنّ عامّة المكلّفين يتساوى استعدادهم بالنظر إلى التكاليف العامّة والنواميس الأولى وشعائر الدين الضرورية ، فإذا اختلفوا اختلفت أيضاً ، كتساويهم في مناط التكاليف، وهو العقل .
وتلك المرتبة التي يلزم تساويهم بها لصحّة التكليف نسمّيها : بالعقل المشترك، ثمّ التزايد فيما عدا ذلك .
أمّا حديث القبضة فلابدّ من تأويله، ككلّ دليل خالف بداهة العقل.
ص: 453
وهو محمول على مراتب العلم، وأنّه (جلّ شأنه) علم باختيار هؤلاء طريق الضلال المؤدّي بهم إلى النار، فخذلهم وتركهم للنار ولم يبال، وعلم باختيار أولئك لطرق الرشاد المؤدّي بهم إلى الجنّة، فأبقاهم لها ولم يبال.
أمّا حديث السعادة والشقاوة فقد كُشف لك عن بعض القول فيه، وسيُكشف لك عن باقيه .
الأمر التاسع: في السعادة (رزقنا الله)، والشقاء (أعاذنا الله).
أطنب الباحثون من الحكماء وجهابذة الفلسفة وغيرهم من الإسلاميّين وغيرهم عن هاتين الكلمتين وما ينطويان عليه ويوعزان إليه، وكلَّ أبدى وجهاً و استصوب نظراً وسرد بياناً(1).
وهم - على اختلاف العبارات - يترامون إلى معنى واحد ويحومون حول حقيقة واحدة، ونحن في مشيّة الله عسى أن ندلّك على النقطة المركزية التي يستديرون عليها وبيت الكعبة التي يطوفون حولها.
إنّ من يتدبّر في سبر صحيفة الكون وسير عوالم الشهود ويمعن النظر في الكوائن من حقائق الوجود يجدها لا محالة بين ثابتات قارّة في ظاهر العيان وسیّالات نامية متحرّكة طبق حركة الزمان، ويجد هذا الفريق منها لا يزال تحت عوامل التجدّد والحدوث والنشوء والنمو والانتقال من حال إلى حالٍ.
فهو على صفة كميّة غير مجتمعة الأجزاء في الوجود مركّبة القوام من قوى وفعليّات متتالية. كلّ قوّة هي فعليّة لما قبلها وقوّة لما بعدها.
ص: 454
وهكذا يترامى الكائن في معارج تلك الصور والنشآت حتّى يصل إلى فعليّة أخيرة ليس وراءها لصورته النوعية من فعليّة.
إذا ألقيت حبّة قمح في أرض صالحة مستعدّة أخذت تتطوّر في أشكال مختلفة وفعليّات متنوّعة بعد خروجها أوّل يومها من الجمادية إلى النباتية، وذهبت في نشوئها ونموّها إلى غاية من الارتقاء تقف عندها، بل تأخذ ضدّها معرّجةً على التنازل فى درك الانحلال والتلاشى والاضمحلال، وتتفرّق موادّها و تنحلّ أصولها، وترجع إلى جماديتها الأولى، وتعود هشيماً تذروه الرياح.
فذاك صعودها، وهذا هبوطها، وتلك الفعليّة التي ابتدأت بالانحلال منها هي غايتها التي كانت تسير إليها، وثمرتها التي ترتجى منها، وأزهى أُويقات زهوها وانتعاشها وأبلغها قوّة وأشعلها غريزة وأتمّها دفعاً لثمرة.
وهذا يختلف في الأفراد والأصناف - على تقاربها ووحدة حقيقتها - أشدّ الاختلاف الذي يتحصّل بين متباينات الحقيقة.
ولكلٍّ من التربة والماء والهواء والجوّ والإقليم والزارع والحرث والبذرة وسائر شؤون الظروف أعظمُ دخل وتأثير في حسن نمائها ووفور ريعها وضخامة سنبلها وجودة حبّها وطيب طعمها وسائر الكمالات الممكنة الوقوع في نوع هذا النبات، أعني : مطلق نوع القمح مثلاً.
والفرد الذي ساعدته العناية وساقت له كلّ ما هو دخيل في تحسين حاله وبلوغه كلّ صفات كماله ومنتهى ما يراد منه وما يمكن أن يتحصّل في نوعه من دواعي الطلب وبواعث الرغبة وموادّ النفع ومخايل الخير مع افتقاد كلّ صفة ردية ومنقصة عرضية أو طبيعية من العيوب الممكنة في ذلك النوع أيضاً، فذاك الفرد هو السعيد في نوعه الكامل في حقيقته البالغ غاية ما يستعدّ له نوعه من الكمال
ص: 455
وخلال الخير ومآثر الوجود.
ثمّ تتناقص مراتب الأفراد وحظّها من السعادة بحسب تباعدها وتقاربها من تلك المرتبة .
وبإزاء كلّ مرتبة من السعادة مرتبةٌ من الشقاء تقابلها، حتّى تنتهي إلى مرتبة الشقاء المحض والعياذ بالله، وهي التي توازي وتقابل تلك المرتبة العليا من السعادة ..
تلك السعادة الصراح التي لا يشوبها شيّة شرّ ولا يدخلها شقّة شقاءٍ.
فكلّ مرتبة - على حكم التقابل - تناظرها مرتبة بقدرها من ضدّها.
فلكلّ آدم إبليس، ولكلّ موسى فرعون، ولكلّ عيسى قيصر، ولكلّ محمّد أبو جهل .
إذاً فلو أردنا أن نعبّر عن السعادة بأقرب قول يشفّ عن روحها ويكشف عن جوهر معناها لقلنا : إنّ سعادة كلّ كائن هى : بلوغه منتهى كماله وغاية فعليته وأتمّ أنحاء وجوده بحسب نوعه .
فهي غايته المطلوبة وكماله الأخير وفعليته التامّة من مجموع ما لنوعه من الاستعداد.
وهذا سارٍ في جميع الكوائن، ولكنّها على عزّتها وندورها في كافّة الموجودات هى فى الإنسان أندر وأعزّ.
وكما أنّ لسائر الشؤون والظروف دخلاً كبيراً وتأثيراً عظيماً في حصولها لكلّ كائن متحرّك أو ساكن والإنسان على الأخصّ، فإنّ للعنايات والمساعدات الإلهية في طيب الجوهر ودمائة التربة وصحّة المنبت وسلامة البذر كذلك أعظم تأثير وأكبر مدخلية.
ص: 456
وكما أنّ الإنسان أشرف الموجودات وسعادته أكبر السعادات، فكذلك هي أصعب وأعزّ وأشذّ وأندر من كلّ سعادة؛ إذ لا تكاد تجد تحت الأثير موجوداً أشدّ منه تركيباً وأكثر امتزاجاً وأعند عناصراً وأبعد طبائعاً وأنفر خلائقاً، مع ما يعتوره من عوامل الكون وفواعل الحدثان وتأثير النشأة والتربية والمجاورة والصحبة، إلى ما لا يحيط به الفكر ويستحضره الذهن.
و من جرّاء ذلك كلّه تعسّر بل تعذّر على الدهر أن يسخو في البرهة بعد البرهة والأحقاب بعد الأحقاب بإنسان كامل بحقيقة الإنسانية بالغاً من هذا ا النوع الغاية من مراتب الفعلية.
عزّ على الأحقاب والدهور أن يتسنّى لها الظفر بهذا الخطر الشاسع والعِلق النفيس والجوهر اليتيم والإكسير الخطير!
وبعد أن عزّت على الدهر وأبنائه وامتنعت تلك المرتبة - إلّا لمن شاء الله من رجال قلّوا نفراً وعظموا في الكون أثراً - صارت العنايات والظروف والمساعي والهمم وكلّ المؤثّرات تهب لكلّ إنسان حظّاً من السعادة وتخوّله نصيباً منها قليلاً أو كثيراً جليلاً أو حقيراً.
فسعادة كلّ إنسان إذاً لا محالة ممزوجةٌ بشقاءٍ محفوفة بعناءٍ، وبمقدار نقص حظّ الإنسان من السعادة يكون حظّه من الشقاوة، وبين أقصى الطرفين من محوضة السعادة وصرافة الشقاوة عرضٌ عريض وفسحةٌ شاسعة ومراتبُ بحسب الوجودات غير متناهية، وتعسر بل تمتنع الإحاطة بها على تفاصيلها وأطباقها لغير موجدها وخلّاقها.
نعم، بمعونته (تعالى) واستمداده قد يتسنّى لنا أن نشير إلى أُمّهات مراتب السعادة وأصولها وأنواعها على ضابطة إجمالية وتقاسيم كلّية.
ص: 457
ومنها تُعلم مراتب الشقاء ؛ إذ بضدّها تتبيّن الأشياء.
ونحن لا ندّعي الحصر والإحاطة، كلّا، ولا بكلّياتها، ولكنّنا نملي ونسطّر ما يحضر على الفكر في بادهته ويجري به اليراع على ترسّله، ولعلّ وراء ذلك شيء كثير.
أمّا السعادات فهي (أولاً) بعد أن عرفت أنّها الوجود الكامل في أيّ نوع، أعني : أكمل وجوداته، وهي السعادة المطلقة، أو كمالٌ وجوديّ في ذلك النوع حيث تكون ناقصة مقيّدة، قسمان :
سعادة دنيوية، وهي : الفعليّة من الكمال النسبي الذي يكون الغاية فيه مؤقّتة والمنفعة فيه محدودة.
وأُخروية، وهي : الكمال الذي لا تحدّ منفعته ولا تقيّد بأمدٍ غايتُه.
والدنيوية أيضاً قسمان:
بدنية : كالصحّة، والاستقامة، واستدامة العافية والسلامة، ووفور القوّة والأيد، ومباعدة العجز والوهن.
وخارجية : كنعمة المال والأولاد والأزواج، والعزّ والجاه، وشرف الآباء والعشيرة، وكلّ ما ينتظم به المعاش و تحسن به الرياش، وما ينعطف على ذلك النسق من حكومات وإمارات ومناصب ووسامات وغيرها من الاعتبارات الموهومة والخيالات المتصوّرة أنّها هي الوجود، وما هي إلّا أوهام معدومة!
والأخروية أيضاً قسمان:
علمية : كإصابة الحقائق، وتعرّف المعارف، والتحقّق وجوداً بالجوهريات، والتعلّق والملابسة بالمبادئ العالية.
وعملية : كالسير على سنن الشرائع المقدّسة، وتطبيق الأعمال والحركات
ص: 458
والتقلّبات والتصرّفات على النواميس الإلهية، والأخذ بأحسن ما يسمع قولاً وفعلاً، وكفّ الأذى والشرّ عن كلّ خليقة الله، وحبّ الخير لهم، وإسدائه إليهم حسب الجهد والاستطاعة.
وكما أنّ الحسن والجمال من عوارض القسم الأوّل من الدنيوية - أعني : السعادة البدنية - فكذلك الأخلاق الجميلة والفضائل الكاملة والنعوت العادلة والملكات الفاضلة كلّها من عوارض القسم الأوّل من الأخروية ؛ إذ لا نعنى بالأُخروية كما عرفت - إلّا ما ينفع ويدوم من مكتسبات الإنسان في دنياه أو موهوباته ..
أُريد بالأخروي : ما لا تحدّ منفعته ولا تتلاشى غايته وإن تلاشي الهيكل وزالت البنية وانهدم المسكن وتجرّد الساكن محلّقاً في طيرانه إلى حيث يعلم الله.
فهذه أُمّهات أنواع السعادة ودعائم أُصولها على وجه كلّي.
ولكلّ واحدٍ منها عرضٌ عريض ومراتبُ لا تتناهى.
و في إزاء كلّ مرتبة من السعادة من الأمّهات والفروع مرتبةٌ تقابلها من الشقاء، كما عرفت.
فالشقاء ينقسم بانقسام السعادة في جميع المراتب .
قيل لأمير المؤمنين علیه السّلام: صف لنا العالم، فوصفه. فقيل له : صف الجاهل، فقال : «قد فعلت »(1).
والتقابل بين السعادة والشقاء تقابل العدم بالملكة؛ فإنّ السعادة سعةٌ في
ص: 459
الوجود، والوجود كما قالوا(1)- خيرٌ محض، والشقاء عدم كمالٍ عن موضوع قابل له، والعدم هو الشقاء، وهو شرٌّ محض.
ثمّ إنّ هذين الجوهرين كسبيّان وذاتيّان، أعني : أنّ كلّ واحد من السعادة ونقيضها يتحصّل من امور ذاتية غير اختيارية وأمور كسبية إرادية، وهما ثابتان للموجود أزلاً وأبداً مخلّدان معه دائماً وسرمداً، بل هو نحو وجوده وجوهر کیانه، فهو ثابت بثبوته معلوم مع علمه حتّى قبل وجوده.
ولعلّ إلى ذلك الإشارة في الحديث المستفيض : «السعيد سعيد في بطن أُمّه، والشقي شقي في بطن أمّه(2)».
ثمّ لو أردنا أن نقول بقولٍ كلّي : إنّ أُصول السعادة والشقاء تنبعث من
() وبهذا ورد حديث أهل البيت : ففي كتاب (التوحيد) للصدوق بسنده إلى (ابن أبي عمير) : قال : سألت (أبا الحسن الكاظم موسى بن جعفر) عن معنى قول رسول الله (صلوات الله عليه): «الشقي من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه» ، فقال : «الشقي من علم الله - وهو في بطن أمّه - أنّه سيعمل عمل الأشقياء. والسعيد من علم [الله] - وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل السعداء» . قلت له : فما معنى قوله : « عملوا، فكلُّ ميسّر لما خلق له»؟ فقال : «إنّ الله (عزّ وجلّ) خلق الإنس والجنّ ليعبدوه؛ ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله تعالى: «مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» فيسّر كلاً لما خلق له، فالويل لمن استحب العمى على الهدى» انتهى .
انظر ما أشرف هذا البيان وأعلاه، فتدبّره تجد فيه كنزاً من المعارف، وكذلك سائر أحاديثهم (سلام الله عليهم). (منه رحمه الله).
أقول : لاحظ التوحيد للصدوق 356.
ص: 460
أصلين آخرين، وهما : العلم والجهل، وتختلف شدّة وضعفاً، وتنقسم فروعاً وأُصولاً بحسب اختلاف العلم والجهل وانقسامهما، وتتفاوت مراتب ذينك باختلاف مراتبهما، لمّا كنّا مباعدين عن الحقيقة ولا منحرفين عن جادة الصواب.
كما أنّ أكثر السيّئات وأكبرها يتبع الجهل، وأتمّ الحسنات وأعظمها يتبع العلم، بل هو الحسنة الكبرى والنعمة العظمى، رزقنا الله العلم من فضله وجعلنا من أهله.
وهو الذي يحصل به الاختلاف في معارج الفضل ومدارج القرب والبعد، وتتفاوت به منازل المقرّبين وحظائر الروحانيّين .
أمّا العقل الذي هو مدار التكليف في الكلّ فهو واحد على تباعد درجاتهم في السعادة وتباينهم في الذكاء والبلادة، وهو القدر المشترك في العقلاء، أي : ما يسمّى به الإنسان عاقلاً.
ولهذا كلّفوا بتكليف واحد، وما علمهم بعلم واحد، ولا هم في الفضل والعلوم بمرتبة واحدة ، فإنّ الترقّى فى العلوم أمر وراء التكليف، واختلافهم هذا في العلوم كاختلافهم في الأعمال : «وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا»(1).
فمن حُجب عن بلوغ الغاية التي يقتضيها استعداده الخصوصي، وهي سعادته الخصوصية لا سعادته بحسب نوعه(2)، وكان تأخّره عنها لتقصير وتوانٍ
ص: 461
منه كما هو الأغلب - أو ارتكاب أعمال تنافي حصولها - كما هو الغالب أيضاً - فلا محالة يعذّب تعذيباً يناسبه بحسب حرمانه عن بلوغ مرتبة إمكانه، أو تدركه عناية خاصّة تخفّف عنه وطأة هذا العذاب.
وأمّا الواصل إلى ما أمكن له وهيّأ فى استعداده من السعادة فهو الناجي والمنعّم، وإن كانت سعادته أدنى وأدون من كثيرٍ من السعداء وأسفل مرتبة منهم، فإنّ ذلك لا يكون موجباً لحسرته وعذابه؛ إذ هو لا يدرك كنه سعادة من هو أعلى منه، وحيث لا إدراك فلا ذوق، وحيث لا ذوق فلا شوق، وحيث لا شوق فلا عذاب ولا حسرة .
وإن هو إلّا كفاقد حاسّة الشمّ المدفوع عن التمتّع بنعمة كبرى من نعم الوجود، وهي التلذّذ بشمّ أريج الأزهار ونفحات الورود وما يوازيها أو يفوقها من سائر الروائح العطرة والنوافح المسكيّة .
ولكن ذاك الذي ما أحسّ بها ولا أدركها مدّة عمره لا يجد شيئاً من العذاب بفقدانها، ولا يرى النعيم إلّا التمتّع بما عداها من الحواسّ.
نعم، وكلّ ما ذكرناه من مراتب السعادات وأضدادها إنّما هو بقدرٍ وجب باعتبار وأمكن باعتبارٍ آخر، فلا ينافي كونه بالاختيار.
ثمّ لا يذهبن عنك أنّ السعادتين (الدنيوية والأُخروية) متلازمتان أشدّ
ص: 462
التلازم مرتبطتان بأقوى عرى الربط.
وقد ذكروا : أنّ الإنسان مادام إنساناً فلا تتمّ له السعادة إلّا بتحصيل الحالين جميعاً، وهما : الفضائل الجسمانية ، والفضائل الروحانية(1).
نعم، فإنّ العناية الأولى حيث جعلت الكمال في الإنسان تدريجي الحصول وأنشأت النفس الناطقة على نعت أنّها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، لا جرم كان البلوغ إلى سعادتها الروحية موقوفاً على مبادٍ كثيرة وطيّ بوادٍ فسيحة لا يتيسّر للإنسان وصلها وقطعها ونشرها وطيّها إلّا باستكمال أدواته وصحّة آلاته وسلامة مركبه وسائر مقدّماته.
ولا ينافي ذلك أنّ السائر - بعد الوصول إلى الغاية والنزول في المنزل - ينبذ تلك الأدوات ويستغنى عنها ولا تكون من سعادته هناك في شيء، فإنّ تيسّر الطريق إلى السعادة من أعظم السعادة، وهي ضرورية في حصولها وإن لم تكن من الحقيقية بصفة دائمية .
وقد ذكروا : أنّ أوّل مراتب السعادة أن يصرف الإنسان إراداته ومحاولاته إلى مصالحه في العالم المحسوس من أمور النفس والبدن وما يتّصل بهما ويشترك فيهما من الكيوف النفسية والنعوت الجسدية(2).
وهو في هذه المرتبة لا يخلو من التلبّس بالمحسوس من المادّيات وعلائق الأهواء والشهوات، ولكن يلزم أن يكون ذلك على قدر معتدل.
وعلى مثل هذا اطّردوا الكلام في باقي المراتب، فعرّفوا الغايات
ص: 463
بالمبادي، وعبّروا عن السعادات بمقدّماتها وأسبابها(1).
وعلى مثله جروا في ذكر الأخيرة من مراتب السعادة، حيث قالوا: هي أن تكون أفعال الإنسان كلّها أفعالاً إلهية، وهذه الأفعال هي هي خير محض، والفعل إذا كان خيراً محضاً فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه. وعند ذلك تموت وتنهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين والتخيّل المتولّد عنهما، إلى آخر ما ذكروا في هذه المنزلة العصماء والمرتبة القعساء (2) .
والذي أراه أنّ كون أفعال الإنسان على تلك الخاصّة والصفة إنّما هو من آثار السعادة وثمراتها ولوازمها ونتاجاتها، لا هي نفسها. وما هي إلّا وصول الموجود إلى أقصى مرتبة من الكمال ميسّرة له أو مستعدٌّ هو لها بعموم نوعه أو بخصوص ذاته. فإذا بلغ هذه المرتبة ترتّب عليها ذلك الأثر الذي ذكروا .
ولكن الذين نهجوا ذلك السبيل في هذه المباحث هم جهابذة علم الأخلاق، وتلك الطريقة من المعانى والتعاريف هي بفنّهم أشبه وإلى موضوع علمهم أقرب، فتلك أخلاقية، وطريقتنا فلسفية، ولكلِّ وجهةً .
والغاية أنّ منتهى مراتب السعادة للإنسان أن يحيى حياة لا موت بعدها، ويصحّ صحّة لا سقم معها، ويقدر قدرة لا عجز فيها، ويغنى غنى لا فقر معه، ويبتهج بهجة لا حزن معها، ويلذّ لذّة لا انقطاع لها ولا فتور فيها، ويقوى قوّةً لا ضعف بها ولا آخر لأوّلها.
ص: 464
وبأوجز لفظ : أن يصير الإنسان خيراً لا شرّ فيه ووجوداً لا عدم معه .
وليس هذه الحياة والنشأة من خصائص دار الحيوان كما قد يقال، بل هو من الممكن الجائز حتّى في دار الموات .
وذلك فيما لو تحقّق التخلّق لأحد بأخلاق الروحانيّين ومات حيّاً بالاختيار، واختار أن يحيى ميّتاً بالطبيعة .
ودون ذلك عقبات ومراتب حظّ الإنسان منها حظّه من الاعتدال والاستقامة .
ولعلّك وقفت على ما قدّمناه في أوّل هذا الفصل من تقاسيم العدالة ومراتبها .
ولا ريب أنّ تطبيق العمل والأخلاق وحركة الأفكار والمعتقدات على نواميس العدالة هو أكبر مادّة وأغزر منبع وأوفر استعداد للسعادة، بل لعلّه السبب الوحيد لها .
ويعبّر عن جماع ذلك كلّه في لسان الشريعة : بالتقوى .
ولعلّ الشاعر انتشق شميماً من تلك النفحة، فأصاب ثغرة الحقيقة الراهنة في قوله :
ولست أرى السعادةَ جمع مالٍ *** ولكن التقىّ هو السعيد(1)
وحيث بلغنا إلى هذه الغاية فبالحري أن نقف عليها ونجعلها خاتمة ما أردنا بيانه من تلك الأمور راغبين إلى وليّ السعادة أن يختم لي ولك بها أيّها الناظر الكريم ، وأن يعمّنا وإيّاك ذلك الفوز والنعيم إن شاء الله.
ص: 465
وعليه، فنعود إلى تكملة ما دخلنا فيه ولم نستوفه وابتدأنا به ولم نبلغ غاية ما نتوخّى منه، وقد جرّنا الكلام إلى سلوك أودية سحيقة والخوض في تيّار لجج عميقة ، ليس المعوّل بالخروج منها على صحّة وسلامة إلّا على الله (جل شأنه) وألطافه الخفية .
وكان الأصيل بالغرض الذي خرجنا منه إلى كلّ تلك المباحث هو : أنّ العقل كسائر القوى - يدرك حسن الأفعال وقبحها مع قطع النظر عن سائر الجهات من شرع وعرف أو عادة، سوى ما عرفت من الملائمة والسنخية والاشتراك في جهة الخيرية وسعة الوجود.
ولذا كلّما اتّسع وجوده واشتدّت خيريته وكماله اشتدّ إدراكه لحسن الأفعال وقبحها، حتّى ينتهى إلى أكمل العقول وأشرفها، وهو العقل المحمّدي ومرآة العلم الأحدي .
ثمّ تتنازل في قوّتها وكمالها على حسب ما شاءت لها العناية، وقضت لها به الحكمة، وأسعفتها به الظروف والمراكز .
وكلٌّ يدرك من حسن الأشياء ومنافعها في نظم الكون ومسيس الحاجة إليها في نسق العالم على قدر ما عنده من الصحّة ما أوتي من تلك الموهبة والمنحة .
فعدم وصول أكثر العقول إلى مصالح أكثر الأفعال ومحاسن عامّة الأعمال ككثير من الموظّفات الدينية وأحكام الشرائع والنواميس الإلهية بل كأكثر الحوادث الكونية - ليس لخلوّها عن جهات المصالح والمحاسن أو المقابح، بل
ص: 466
لقصور عامّة العقول عن إدراكها و تحصیل ملاكها.
أمّا العقول الشريفة فهى عليها مُشرفة، ولها بتلك الجهات تمام العلم وكمال المعرفة .
نعم، سائر العقول المتعارفة تشترك في معرفتها على الجملة لا التفصيل مذعنة بأنّ جميع ما أحكم ذلك المدبّر الحكيم في الأكوان وما حكم به في نواميس الشرائع والأديان كلّه لا يخلو من حكمة ولم يقع حيف في القسمة؛ لتنزّهه عن الجهل والجزاف والتهمة : «التوحيد : أن لا تتوهّمه والعدل: أن لا تتّهمه»(1).
ومن هنا صارت المدركات العقلية - بحسب القسمة الحاصرة - رباعية ؛ إذ مطلق العقل بالنسبة إلى مطلق الأفعال إمّا أن يدرك على التفصيل حسنها، أو قبحها، أو خلوّها من الجهتين، أو لا يدرك شيئاً من ذلك.
والمدّعى هو الإيجاب الجزئي دفعاً لدعوى السلب الكلّي، لا الإيجاب كلياً.
وعلى هذا الأصل الأصيل والمبحث الجليل - أعنى : مبحث الحسن والقبح العقلييّن - قد بنت الإماميةُ جملةً من قواعدها في الأصولين، كقاعدة : (اللطف) التي هي من أمّهات المسائل العقلية (2)المتفرّع عليها جملة من الأصول
ص: 467
الاعتقادية، وستمرّ الإشارة والتنبيه على كثير منها إن شاء الله، وكقاعدة (الملازمة) المبحوث عنها في أُصول الفقه(1)، وكقاعدة: (إمكان الأشرف) الموروثة عن أساطين الحكمة(2)، وكقاعدة : ((عموم الفيض) المرموز إليه بقول بعض الأساتذة من قدماء الفلسفة : (إنّ ترك الخير الكثير لاستلزامه الشرّ القليل شرُّ كثير»(3).
وبهذا تنحلّ الشكوك والشبهات في وجه وقوع الشرور في العالم وصدورها من الخير المحض.
وبالجملة : فالتعداد يطول والتطويل فضول، وسدّ باب الحسن والقبح سدٌّ الجميع الأُمور العقلية وإيقاف عن كافّة الأصول الاعتقادية، كما ظهر لك ذلك، وسيتّضح لك قريباً بما لا مزيد عليه بحيث تسمح لنا بالعذر في إشباع الكلام في هذه المسألة، ويحسن عندك خروجنا فيها عن خطّة هذه الرسالة من الالتزام بالإيجاز وعدم الإطالة.
على أنّ كلّ واحدة ممّا استطردناه فيها من المسائل هي بذاتها مسألة مهمّة ذات فوائد جمّة، كانت حرية بالبيان جديرة بأن نفردها بالعنوان، فالتعرّض لها
ص: 468
بذاك القدر وإن كان قليلاً لم يكن - بفضل الله - إلّا جميلاً.
وحيث بلّغنا الله بمنّه أقصى الغرض من إثبات هذا الأصل الذي عرفت مزيد الاهتمام به وعظيم ما يتفرّع عليه، فلنرجع إلى أشرف فروعه التي تبتني وترجع إليه الذي عُقد هذا الفصل له بالأصالة، وهو العدل الذي تقول بثبوته وتحقّقه فيه (جلّ شأنه) عامّة الإمامية، بل قاطبة الأمّة الإسلامية، عدا من عرفت.
فنقول : إنّ خلاصة القول هنا على طرز آخر من البيان: إنّ كلّ فعل عرضته على العقل فإمّا أن يتنفّر منه ويستكرهه أو لا، والأوّل هو القبيح، والثانى الحسن بالمعنى الأعمّ، أعني : ما خلا عن النقص والمفسدة ، لا ما اشتمل على المصلحة .
ثمّ إنّ القبيح محال فعله على الله (جلّت عظمته) ؛ لأنّ ارتكابه لا يخلو إمّا لحاجة إليه أو لجهل به، وكلاهما محال علیه (تعالى)، فالقبيح عليه محال .
ثمّ أيّ قبيح أعظم من الظلم وأشدّ منافرةً للعقل منه، فالظلم إذاً محالٌ عليه.
ثمّ إذا كان مثل التكليف بالمحال وبغير المقدور وجواز العقاب والعتاب على تركه من المولى : بأنّه لماذا لم تفعل؟ وصحّة إدخال المطيع مبلغ وسعه وأقصى جهده إلى النار، والعاصي كذلك إلى الجنّة على سبيل المجازاة والاستحقاق لا العفو والتكرّم، كلّ ذلك ليس بظلم ولا قبيح؛ لأنّه تصرّفٌ من المالك في ملكه :
فقل لنفوس أهل الشرّ بِشراً *** فبعد اليوم أنتِ وما تشائي!
وإذا لم يكن مثل هذا ظلماً ولا قبيحاً فأيّ شيء يكون عده من ذلك صحيحاً؟!
ص: 469
أترى لو أنّ رجلاً عذّب بعض دوابّه أو عبيده بأنواع العذاب من التنكيل والتمثيل وباءت منه بالعيش الوبيل(1)، مع طاعتها له وانقيادها إليه، وكان الرجل بین أُمّة وحشية وجماعة جاهلية لا تميل إلى ملّة ولا تنحو لنحلة، أكانت تبسط له العذر في ذلك وتقول : لا يملك اللوم عليه أحد، فإنّه مالك؟!
أنت واختيارك، فالحكم إنصافك واعتبارك.
وبعد أن ثبت إدراك العقل للحسن و القبح، فكلّ ما يدرك العقل قبحه لا محالة يستحيل عليه (تعالى)، فثبت كونه عادلاً ؛ إذ لا نعني من العدل فيه (جلّت آلاؤه) إلّا : كون ما يصدر عنه من الأفعال غير منافر للعقل ولا يعدّه قبيحاً.
غاية ما هناك أنّ العقل لقصوره وضعفه يعجز عن إدراك مصالح أفعاله (تعالى)، لا أنّه يقبّحها ويجدها منافرةً له.
والحقّ المحض وزبدة المخض : أنّ كون الظلم قبيحاً وكون القبيح محالاً عليه (تعالى) أمرٌ ضروريٌ ، مع ما عرفت من إقامة البرهان عليه .
على أنّي لا أظنّك ترضى أن تنسب لربّك ما لا ترضى به لنفسك إن كنت من أهل التكرّم والكمال وسداد الأفعال والأقوال، فأدنى من له مسكة - ولو قاصرة - يجزم في شعوره ببطلان مقالة الأشاعرة.
ومن ذلك كلّه ظهر جليّاً أن الشريعة المقدّسة الإسلامية تقول : إنّه (جلّ شأنه وعزّ سلطانه) لا يحيف في قضائه ولا يجور في بلائه، ولابدّ أن يثيب المطيعين وينتقم بقدر الذنب من العاصين، ويكلّف الخلق بمقدورهم ويعاقبهم على تقصيرهم دون قصورهم، ولا يكافي المطيع بالعقاب والعاصي بالثواب، ولا
ص: 470
يأمر العباد إلّا بالصلاح ولا يكلّف إلّا بما به الفوز لهم والنجاح، والخير بتوفيقه وإرشاده ومنشأه منه ، والشرّ بخذلانه بعد إتمام الحجّة ببيانه، فهو صادر عنهم لا عنه؛ فإنّ من تمخضت ذاته بالخيرية والكمال والنور يستحيل عليه بالأصالة فعل الشرور.
ومن ذلك ذهبوا إلى: أنّ العباد في أفعالهم غير مجبورين، بل باختیار وإرادة منهم لا يزالون طائعين أو عاصين.
كلّ ذلك ؛ لكونه (جلّت عظمته) منزّهاً عن القبيح، كما يشهد به العقل الصريح والبرهان الصحيح .
كيف! وقد أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والعدوان، ولعن الظلم في صريح القرآن، ونزّه ذاته المقدّسة عن ذلك في كتابه المبين، وأخرج الظلم عن أهلية الخلافة عنه في الأرضين ، حيث قال : «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»(1).
وبعد هذا كلّه، فلا أظنّ عدم حصول الجزم لأحد بهذا المذهب الواضح والسبيل اللاحب، مع ما يترتّب على إنكاره ممّا اطّلعت وستطّلع عليه من الفضائح .
ولكن من سدّ باب حكم العقل بنفي التحسين والتقبيح حسُنت عنده تلك القبائح!
حتّى إنّه لا سبيل له إلى إثبات النبوّة ووجوب البعثة بالدليل العقلي؛ لانحصاره بوجوبها من باب اللطف الذى ما تلطّف له ذهنه ولا أدركه يقينه ولا ظنّه!
ص: 471
وشنائع هذا القول لا تحتاج إلى بيان، فلا يستزلنّك الشيطان، والله ولىّ التوفيق لي ولك، وهو أرحم الراحمين.
ثمّ بعد أن تجلّى لك وجوب اتّصافه (تعالى شأنه) بالعدل على الوجه الذي ذكرناه وأوضحناه ، فاعلم أنّ عدّ هذا الأصل من أصول الدين ليس على نحو الأصول السابقة، ولا هو في عرضها وعدادها، بل هو من أحد صفاته الكمالية تقدّست ذاته وجلّت أسماؤه وصفاته).
فهو من شعب مسألة التوحيد وفروع ذلك الأصل السديد على ما مرّ من أنّ وجوب وجوده مستلزم بل أقوى دليل على توحيده وعلى جميع صفاته الكمالية الجمالية والجلالية .
وهي وإن رجعت مع وحدتها إلى القدم والعلم والقدرة والحياة، ولكن صفاته (جلّ شأنه) كما لا تُضاهى لا تتناهى، وكما أنّ ذاته المنزّهة عن الاكتناه لا تُحدّ فصفاته المقدّسة لا تُحصى ولا تُعدّ :
وعلى افتتان الواصفين بوصفه *** یفنى الزمان وفيه ما لم يُوصف
هر کس صفتي دارد و رنگي و نشاني *** تو ترك صفت کن که از این به صفتی نیست(1)
عجز الواصفون عن صفتك *** فاعتصامُ الورى بمغفرتكَ
ص: 472
تُب علینا فانّنا بشرٌ *** ما عرفناکَ حقٌ معرفتکَ(1)
وذاك أنّ جميع العقول والنفوس، بل كلّ معقول ومحسوس، بل كلّ معنى مشهود ومعيّن موجود وممكن محدود من الأفلاك والملائك، والمجرّدات السوامك(2)، والجماد والحيوان، والإنس والجانّ إلى غير ذلك من مخلوقاته وما لا يتناهى من مصنوعاته، كلّ واحد من أشخاصها وأفرادها آيةٌ من آياته، تنبئ عن اسم من أسمائه وصفة من صفاته.
فما من موجود إلّا وهو حرف من حروف كتابه التكويني، أو كلمة من كلماته، وفيضه لا ينقطع أبداً، وجوده لا ينتهي أمداً: «وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(3).
أشرقت منك لمحة نشأ ال *** عالَمُ منها وكوّن التكوين
فجيمعُ الأكوان ما هنّ مهما *** كُن إلّا كتابُك المستبين
وحيث إنّ جميع الأكوان والكائنات كلّها كلمات الله وكتبه، فما (المسيح ابن مريم) علیه السّلام إلّا كلمة من تلك الكلمات وآية من هاتيك الآيات، غير أنّ الآيات ( والعلامات تختلف قوّة وضعفاً في الدلالة على معلومها عند المستعلمين، لا في الحقيقة.
ص: 473
ف- (المسيح) نظراً إلى خلقه الفجائي ووجوده الخارق للناموس الطبيعي هو أحرى أن يوسم بوسام : «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ»(1)، وإلّا فالمسيح وسائر المخلوقات كلّهم عبيد الله وخلقه، و: «لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ»(2).
وكلّ مصنوعاته سواء في جهة العبودية والنسبة إليه (جلّ شأنه)، وإنّما التفاوت فيما بين أنفسها، لا فيما بينها بالنظر إلى صانعها.
نعم، والعوالم كلّها نسخةٌ كتبها الله بيد قدرته، وما قرأ أحد شيئاً منها على وجهه إلّا وتوصّل به إلى سرّ أحديته.
بل هذه هي حقيقة الكتابة لو وُفّقتَ للإصابة.
وإلى ذاك ما يشير العارفون بمضمون قولهم : إنّك لو قسمت الحدّ من الشفرة وفلقت بحدّ تدبّرك الهباء والذرّة لوجدت فيها كنزاً خطيراً وملكاً كبيراً، وظهرت لك كنوز اللطائف وشموس المعارف :
دل هر ذرّه را که بشکافی *** آفتابیش در میان بینی(3)
ولنأخذ على جامع القلم هنا بعنان الإمساك، فإنّا نخشى أن يبثٌ من الأسرار ما لا تتحمّله الأملاك ولا الأفلاك :
يقولون حدّثنا فأنت أمينها *** وما أنا - إن حدّثتهم - بأمين(4)!
والغرض أنّ عدد صفاته المتعالية لا تنحصر في تلك الثمانية، وإنّما هي
ص: 474
كما عرفت - اصطلاح من المتكلّمين على عادتهم في أغلب مباحثهم من قصور النظر ومحدوديته.
وأمّا ما شاع من أنّ أسماءه (تعالى) توقيفية (1)فذاك شيءٌ ذكر في مبادئ العلوم استطراداً واشتهر ، ولم نعرف له مأخذاً ولا استناداً.
وقد تصفحتُ ما عليه الاعتماد من الأخبار في مظانّ هذه الوظيفة، فلم أجد فيها ما يدلّ على ذلك ولا أدنى دلالة.
بل الذي يظهر منها الإباحة والرخصة، وعدم التحديد والتقييد، وجواز أن تسمّى ذاته المقدّسة بكلّ اسم دلّ على معنى كمالي وصفة مقدّسة، وأن تُنعت حضرته المتعالية بكلّ نعت مجرّد عن لوثة النقص والإمكان، ووصمة الخلق والتركيب، وكلّ ما هو من صفات المخلوقين التي يجمعها جهة المحدودية وتنتهى إلى العدم والفقدان والحاجة والنقصان، وأمّا فيما عدا ذلك فالإباحة
ص: 475
العامّة والرخصة المطلقة.
وقانون الشريعة في ذلك مطابقٌ لقانون العقل مطابقةً تامّة، وهو سواءٌ له في كلّ جهة.
وأسماء الله الحسنى وإن كانت محدودةً بتسعين أو أقلّ أو أكثر، ولكن ليست هي كلّ أسمائه المباركة.
فقد ورد في الحديث الذي تقدّمت الإشارة إليه في باب التوحيد المشتمل على أسرار المعارف وغوامض العلوم في أصول أسمائه القدسية، الذي يقول (الصادق) علیه السّلام في أوّله : «خلق الله اسماً * بالحروف غير مصوّت، وباللفظ غير
() قد سبق ذكر هذا الحديث الشريف، وأحلنا بعض الكلام فيه إلى غير دعوتنا هذه من تحاريرنا . ونحن نذكر هنا لطيفاً من الإشارة إلى ما لعلّه هو مراد الإمام منه ، وهذه الإشارة وإن كانت غير مجدية البيان للأغلب ولا ينتفع بها العامة بل ولا يليق إلقاؤها إليهم، ولكن عسى أن تصادف لها أهلاً يرتاحون إليها ويصلون إلى لباب معانيها وأسرار مطاويها . فنقول : حيث إن حقيقة الاسم وجوهر معناه هو : ما دلّ على المسمّى ، فلعل الاسم الذي نعته الإمام علیه السّلام هو الوجود المطلق المنبسط على هياكل الموجودات وقوابل الممكنات، وهو النفس الرحماني والفيض المنبسط
والحق المخلوق به. وهذا من أقوى الدوال على ذاته المقدسة ووجوده الحق ، فهو اسم دال على مسماه كاشف عن مقوم ومحقّق معناه. والاسم الذي هو من قبيل الحروف والأصوات هو الدال على هذا الاسم، وهو اسم الاسم. وبأجلى عبارة وأوضح إشارة : أنّ الاسم الإلهي هو : ما دلّ على الذات مع تعيّن خاص من التعينات الإلهية أو الكونية . وأول التعينات الكونية هو فيضه الإطلاقي في ذراري الممكنات المترفع عن أفق الزمان والأبعاد والجهات الموصوف بتلك النعوت التي وصفها الإمام في حديثه السامي. وهو أعظم الأسماء الكونية الإلهية لا الإلهية المتمحضة، ومن هذا الاسم خلق الأسماء الأخر الكونية التي هي من تعينات هذا الاسم الإطلاقي.
ولا فرق بين هذا الاسم وبين مسمّاه ، إلّا أنّه عبده وهو ربّه : «أنا أصغر من ربّي بسنتين». الحدوث والإمكان إشارة إلى حقيقته المصطفوية المتحققة بتلك المرتبة التي تقاعس الروح الأمين عنها في المعراج، وقال: «لو دنوت أنملة لاحترقت». ولا تنقص حقيقة هذا الاسم عن الذات في الكمالات إلا بالنقص الإمكاني والمتأخر المعلولي اللازم لذات المتعين بالله إلى المتعيّن.
وليس هذا الاسم المخلوق من الأسماء الإلهية الثابتة في مرتبة الربوبية كالعلم والحياة وأمثالها ، بل هذه الأسماء لها السلطنة والربوبية المطلقة على الاسم المخلوق، وإن كان الاسم المخلوق هو حق مخلوق به الأسماء الخلقية الأُخر ، فالاسم الإلهي - سواء كان في مرتبة الخلق أو في مرتبة الربوبية المطلقة - ليس ما هو في الأوهام العامة من الحروف والكلمات، بل هي أسماء الأسماء ، وإن كانت تلك الحروف المركبة والأصوات المؤلّفة أيضاً أسماء بملاحظة أنها موجودات كونية كسائر الكونيات. ومن هنا ظهر أنّ الأسماء الإلهية التي هي عبارة عن الذات المتعينة بتعينات كونية خلقية حادثة بالحدوث الاسمي، بمعنى : تأخر التعين عن الذات المطلقة ، بل هذا جارٍ في مطلق الأسماء. أما الأركان الثلاثة فلعل المراد بها في مرتبة الربوبية : الحياة والعلم والقدرة وفي الكونيات : العرش واللوح والكرسي ، أو : القلم والعرش والكرسي إن جعلنا اللوح والعرش بمعنى واحد .
أرخي الستر ، فقد أوشك أن ينكشف السر والسلام ! وأسفني عدم وقوفي على (شرح كتاب أصول الكافي) في مقامي هذا الصدر المتألهين)، فإنه لم يحضرني في ساعتي لأنظر إلى نظرياته العالية وفلسفته الوثيقة في شرح هذا الحديث لكي أُفيد قراء (الدعوة) بخلاصته. فمن أراد الاستبحار والتوسع فعليه بمراجعة ذلك السفر الجليل لذلك العارف المتأله ، فهو في أمثال هذه
الغوامض ابن بجدتها وعرابة رايتها . وما دفعنا إلى نفث هذه الكلمة إلا الاعتراف بفضل أهل الفضل وعدم بخس حقوقهم، ثم إرشاد طالبي المعارف الإلهية إلى مواضعها ، والله (سبحانه) هو ولي الإرشاد والهداية. (منه رحمه الله).
أقول : أما قوله رحمه الله في أوّل كلامه : (قد سبق ذكر هذا الحديث .... فقد سبق في ص 277 .
وأما حديث: «أنا أصغر من ربي بسنتين » فراجعه في مستدرك سفينة البحار 6: 285. وأما حديث: «لو دنوت أنملة لاحترقت» فراجعه في المناقب لابن شهر آشوب 1: 229 ریاض السالكين 1: 256.وأمّا قوله رحمه الله : (فمن أراد الاستبحار والتوسّع فعليه بمراجعة ذلك السفر ...) فلاحظ شرح أصول الكافي لصدرا 236:1 - 250.وأما قوله رحمه الله : (ابن بجدتها) فإنّ هذا التعبير يقال للرجل العالم. لاحظ: تهذيب اللغة 15: 362 ، جمهرة الأمثال 1 : 38.
ص: 476
ص: 477
منطق، وبالشخص غير مجسّد»(1).
إلى أن قال بعد عدّ وفيرٍ من أوصاف هذا الاسم الأقدس : «فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معاً ليس واحد منها قبل الآخر، فأظهر منها ثلاثة؛ لفاقة الخلق إليها، وحجب واحداً منها، وهو الاسم المكنون المخزون، وسخّر (سبحانه) لكلّ اسم أربعة أركان، فذلك اثني شعر ركناً، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها ، فهو : الرحمن الرحيم»(2).
وبعد عدّ جملة من الأسماء قال : «فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى يتمّ ثلاث مائة وستّين فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة»(3).
ثمّ ختم حديثه الشريف بقوله : « وذلك قوله (تعالى) : «قُلِ ادْعُوا اللهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى»(4).
وربّما يستظهر من هذه الكريمة الموحاة فحوىً أو منطوقاً الإشارة إلى ما ارتأيناه من عدم التحديد والتضييق، كما أنّه جلي من ملاحظة الأوراد والأذكار
ص: 478
والأدعية والخطب والمناجاة وسائر ما ورد عن أساطين الدين وسدنة الملّة.
نعم، والقول الفصل في هذا المقام والضابطة الكلّية فيه : ما أجاب به (أبو جعفر محمّد الجواد) علیه السّلام لمن سأله : أيجوز أن يقال الله : شيء؟ قال : «نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ التشبيه، وحدّ التعطيل(1).
وتأكيداً لدفع تلك الأوهام ورد أنّه شيءٌ لا كالأشياء، وبخلاف الأشياء، وأنّه شيء بحقيقة الشيئية، وأنّ كلّ ما وقع عليه اسم الشيء فهو مخلوق، والله خالق كلّ شيء(2)، وكثير من نظائرها.
أمّا ذلك الحجر والتوقيف وما شاع من المنع عن التسمية والتوصيف (3)فلعلّه كان استصواباً من علماء الدين وكبراء الملّة وسديد ملاحظةٍ منهم أن لا يبقى الأمر فوضى، فتقتحم العامّة والقاصرون على استعمال كلّ ما يقع على ألسنتهم ويجري على خواطرهم من الأسماء التي لا تليق بقداسة تلك الحضرة المنيعة ؛ لما في تلك الأسماء من دلالات النقص التي تخفى عليهم ولا تصلها عقولهم، ثمّ يستمرّ مرير ذلك الاستعمال حتّى يلتصق ذلك الاسم السافل بذلك المقام العالي، ويحسب من بعدهم من القرون أنّها من الشريعة، وما هي منها في شيء.
ونعمت النظرية الملحوظة هذه!
ويرشد إلى ذلك ما رواه في (الكافي) في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه (تعالى) من حديث مكاتبة عن (الصادق ) علیه السّلام، فيها : «اعلم -
ص: 479
رحمك الله - أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله (عزّ وجلّ) ، فانف عن الله (تعالى) البطلان والتشبيه، فلا نفي ولا تشبيه. هو الله الثابت الموجود تعالى الله عمّا يصفه الواصفون، ولا تعدوا القرآن فتضلوا بعد البيان»(1)انتهى.
ونظراً لتلك الحكمة الجديرة بالاتّباع يكون الأولى عدم استعمال بعض ما لم يرد استعماله في الشريعة الإسلامية من الألفاظ التي يكون جوهر معناها المجرّد ثابتاً له (جلّ شأنه)، ولكنّه محفوف وضعاً أو إطلاقاً بجهة نقص (جلّ شأنه) عنها، وذلك كلفظ : العاقل والفاهم مثلاً، فإنّ جواهر معانيها الكمالية المجرّدة عن اللصيق حقيقٌ به (تعالى) بالأوّلية والأولوية، فإنّها لا تعدو حينئذٍ أن ترجع إلى العلم، أو هي نفسه.
ولكن الذي يستبق إلى الذهن منها أنّ العقل قوّة للنفس تعقلها عن اتّباع ما يضرّ بها من شهواتها وتقودها إلى صالح خيراتها، وما قارب ذلك من القول والمعاني التي يجلّ حضرة الحقّ عنها ويبعد منها بعد الواجب من الممكن، وكذلك الفاهم والعارف والصحيح والسليم، وكلّ ما انعطف عليها والتحق بها ولم يرد في شيء من أبواب الشريعة لا في الدعاء والثناء ولا في غيرهما، إذاً فالحري عدم التجاوز عمّا في الكتاب الكريم من ذلك، إلّا إلى المتيقّن الضروري صدقه وعدم شائبة نقص فيه ، كالموجود والثابت والمتحقّق ونظائرها، فإنّها وإن لم ترد فی الكتاب، فقد وردت في ضروب أبواب السنّة صريحاً أو فحوىً(2).
ص: 480
أمّا العدل خصوصياً فكأنّ الراسخين من العلماء أيضاً إنّما عدوه أصلاً من
ص: 481
أُصول الشريعة وأفردوه بالعنوان من بين سائر الصفات والأسماء (1)ما هو إلّا لأنّه وقع محلّاً للخلاف في أوائل الإسلام بين أكبر طائفتين منه، وكان القول بما يؤدّي إلى إنكار العدل من منع الحسن والقبح العقليين ودعوى أنّه لا يدرك شيئاً منها قميناً بالبطلان حرياً بالخذلان ؛ لما يترتّب عليه من المفاسد التي يرفضها العقل والإسلام براءةً منها ..
تلك المفاسد التي من أشدّها سدّ الباب على العقول والألباب ومنعها عن الحكم والحكومة التي أوجدها الله في الإنسان لهذه الغاية، وإلّا فأشرف المخلوقات لا ميزة بينه وبين البهائم والحيوانات .
ويتفرّع على عدم تحسينه وتقبيحه عدم وجوب العدل منه (تعالى)، وصحّة وصفه بالظلم (تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً).
ومن أعظم تبعات الحجر على العقل ومنعه عن الحكومة سقوط قاعدة : (اللطف) ووجوبه منه (تعالى).
وهى قاعدة أساسية شريفة يبتني عليها جملة من أُمّهات أُصول الدين، كوجوب إتمام الحجّة والتبليغ، ووجوب بعثة الأنبياء ونصب الأوصياء، ووجوب النظر في المعجزة، ووجوب دفع الضرر، ووجوب المعرفة عقلاً.
ومن جرّاء إخفات صوت العدل وإخفاء نوره حكموا بأنّ وجوب المعرفة من باب السمع ودليل النقل، لا العقل(2).
ص: 482
وذهلوا عن استلزامه الدور الواضح وما يفضي إلى الفواضح!
واعطف على ما سبق كثيراً من هذا النسق، كالجبر في أفعال العباد المستلزم لعبثية إرسال الرسل وإنزال الكتب، وبطلان ثمرات الوعد والوعيد، إلى غير ذلك من التوالى الفاسدة.
عصمنا الله وسائر المسلمين من كلّ ما يشين في الدنيا والدين، إنّه هو الراحم والعاصم.
نعم، وما انفكّ لطوائف المسلمين وزعماء أُممهم صرخة مُنكرٍ وضجّة نكيرٍ على تلك المزاعم من يوم نجوم أوهامها وانتشار قتامها إلى هذه الآونة.
فقد شدّد في نكيرها وردّها أكثر علماء السنّة النبويّة، وأشياخ الطريقة السلفية، وسادات سلاسل الصوفية، وقاطبة متكلّمي المعتزلة، وعامّة الإمامية فضلاً عن فلاسفتهم ومتكلّميهم وحكمائهم(1).
أمّا الفيلسوف (ابن رشد الأندلسي) فقد أصاب المحزّ وطبّق المفصل(2).
وهو على توغّله في الأبحاث الفلسفية لم يضع الطريقة السلفية، وقد ضلّل تلك الطائفة في أكثر أصولها، وخطّأها في معقولها ومنقولها، وعدد كثيراً من منکر آرائها، وشدّد في نكيرها، وتطرّف وأفرط حتّى صرّح بتكفيرها.
راجع من مناهجه صحيفة (90) طبعة القاهرة [سنة] (1319 ه-)(3)، وسيّر نظرك في باب العدل منها، فإنّه - بعد أن أطنب بالتشنيع على من أنكره وصرّح بأنّها ضالّة كافرة وأورد جملة كافية من الآيات ودليل العقل على وجوب العدل
ص: 483
فيه (تعالى) - قال : (وما تقوله الأ... من أنّه يجوز على الله أن يفعل ما لا يرضاه أو يأمر بما لا يريده، فنعوذ بالله من هذا الاعتقاد في الله سبحانه ، وهو كفر)(1).
وقال في صدر البحث : (إنّهم قد التزموا أنّه ليس هنا شيء في نفسه عدل ولا شيء هو في نفسه جور. وهذا في غاية الشناعة بأنّه ليس هاهنا شيء في نفسه خير ولا شيء هو في نفسه شرٌّ، فيكون الشرك بالله ليس في نفسه جوراً ولا ظلماً إلّا من جهة الشرع، وأنّه لو ورد الشرع بوجوب اعتقاد الشريك له لكان عدلاً، وكذا لو ورد بالمعصية. وهذا خلاف المسموع والمعقول)(2)إلى آخر كلامه.
وأراد بهذه الجملة ما قدّمنا نقله من إنكار الحسن والقبح، وأنّه ليس الحسن إلّا ما حسّنه الشارع، ولا القبيح إلّا ما قبّحه.
وقد أحسن البحث أيضاً في مسألة الجبر والاختيار، وقد أبان الاختلاف تفصيلاً، وجمع الإشارة إلى الأدلّة معقولاً ومنقولاً، وذكر الصحيح من معنى الكسب، وزيّف ما ذكروه وأبطله، وذكر أنّه بما يقولون لفظ لا محصّل له(3).
وقد أصاب محزّ الصواب في أكثر آرائه ونظرياته، ولكن على الجملة لا التفصيل، وقد وافق أئمّة أهل البيت علیهم السّلام في جملة من أصوله ونظرياته وفلسفته ومعتقداته، كما شدّ عن ملحوب الحجّة في كثير منها، ولكن ما العصمة إلّا الله ولمن عصمه الله.
والقصارى : أنّ الأساطين - حذراً من وقوع السواد في حمأة هذه المزاعم وأوحال هذه الأضاليل - جعلوا العدل أصلاً من أصول الدين، حتّى إنّهم من مزيد
ص: 484
الاعتناء به والأهمية سمّوا أنفسهم ومن وافقهم عليه : بالعدلية.
وليس الغاية والغرض من كلّ ما ذكرناه من النقد والردّ سوى بيان قداسة شريعة الإسلام عن تلك الأوهام، وتمحيصها عن كلّ ما يعوقها من موافقة العقل ومساوقته، فإنّ بين الدين والعلم والعقل أخوّة واشجة ورحم ماسّة وأسباب نسب وثيقة.
ولكن بعض من لا دُربة ولا درية له أراد من حيث يدري ولا يدري أن يقطع بين هذه الرحم المتواصلة والقرابة الوشيجة.
وهيهات، فإنّ تلك المبادئ المقدّسة قد أشرقت من مشرق فذٍّ ونبعت من ينبوع واحد مترابطةً متكانفة كارتباط البسيط في نفسه والشيء الواحد بذاته.
وحيث إنّهم ألصقوا بالإسلام بعض منافراته عن أخويه : العلم والعقل - وما منه في شيء كان كلّ ما تقدّم من عنائنا خدمةً نعتدّها للإسلام وفريضة على كلّ من في وسعه شيء من ذلك إزاحةً لما ألصق بهذا الدين الكريم من الدخائل وما الحق به من الأباطيل ، والله حسبنا ونعم الوكيل .
ثمّ من العدل أن نكتفي من مبحث العدل بهذا القدر ونجعله خاتمة هذا الجزء، فإنّنا لو ملأنا الصحف والدفاتر وأفنينا الأقلام والمحابر لما أحصينا تمام خيراته ولا استوعبنا عظيم بركاته، ولكن هذا ما أنهزته الفرصة وأمهلنا له ما يجرّ عنا الزمان من الغصّة، ولذا كان كلّه كما يشهد الله - على جري القلم وترسّل الطبع وبما يستحضره الخاطر على تشوّشه وأخطاره المانعة من الفراغ له أشدّ المنع.
وختام العدل أنّا نرغب إليه (جلّت ألطافه) أن يعاملنا بلطفه وفضله، ويتفضّل علينا بأن لا يعاملنا بما نستحقّ، فيهلكنا بعدله، فإنّا نبرأ إليه من حسناتنا، وإليه نلجأ من سيّئاتنا، والحمد له أوّلاً وآخراً وباطناً وظاهراً.
ص: 485
أستلفت بها نظر القراء الكرام إلى أُمور :
الأول : أنّنا وسمنا هذه الدعوة (بالدين والإسلام) نظراً لبحثنا في أوائل هذا الجزء بل في تمامه عن صحّة الدين وتوطيد دعائمه، ونافحنا (1)عنه منافحة الكمي (2)عن مقاتله والغيور عن حلائله.
وكان النظر فيه على كلّيته وعمومه من غير وجهة اختصاصية ولا قصداً إلى نحلة معيّنة، إلّا كونه ديناً، وأن للإنسان صانعاً حكيماً.
وقد بحثنا في ما يلي من الأجزاء عن خصوص شريعة الإسلام المقدّسة، وأنّها هى الدين الحقّ وحقّ الدين، وجعلنا العناية في سرد وجوه إعجاز القرآن الكريم، وتسجيل أنّه ما هو وسائر الكتب المنزّلة من السماء بسواء، ونظرنا نظرات فلسفية فى عامّة النبوّات، ونسبة النبوّة المحمّدية منها، ونهضنا للمحاماة والذبّ عنها، ودفع كلّ شبهة تقال عليها، أو وصمة سوءٍ يصمها الجاهلون بها أو
المناوئون لها.
وسوف تبرز لك تلك الأجزاء بعونه (تعالى) حافلة بالمباحث الشريفة حاشدة بالمقاصد المهمّة على طرزٍ لم يُعهد وطورٍ لم يُسبق وما سبق برهان ما
ص: 486
سيجيء إن شاء الله.
وعلى هذا، فأحرِ بهذا المشروع أن يتسمّى: (بالدين والإسلام)، أو : (الدعوة الإسلامية).
الثاني : أنّ هذه الدعوة السامية الإسلامية حلقات متّصلة وعرى مرتبطة يستدعي بعضها بعضاً، ويتوقّف بعضها على بعض، أواخرها منوطة بأوائلها وأوائلها مرتبطة بأواخرها ارتباط النتيجة بالمقدّمات والمبادي بالغايات، ابتناء على أُصول محكمة وقوانين متقنة، تحكم بها الإحساسات الحية والوجدانات السليمة والأُسس العقلية.
فنحن نستميح من عواطف الناظرين فيها والواقفين عليها أن لا ينظروا فيها نظراً سطحياً، ولا يستطر فوا طرفاً منها، ثمّ ينبذوها ظهريّاً نظرة مستعجل وأخذة مسترسل ومراجعة مستوفز، بل الرجاء - ولهم الفضل - أن يغرقوا نزعاً في مضامينها، ويستوفوا النظر في فصولها، ويأتوا بالسبر على كلّ واحد من أجزائها ولو في طيّ ساعات وغضون أيّام من أُويقات الفراغ وآونات الراحة والمهلة. فإنّي على أمل وثيق أن يجد مطالع هذا الكتاب ما يرتاح الفكر إلى النظر فيه وتنبسط النفس إلى مطالعة مطاويه؛ لسهولة عباراته وسلاسة مجاريه.
ثمّ هم بعدُ وما تقترح قرائحهم ويحكم به إنصافهم من ردٍّ أو قبول أو استحسان أو استهجان.
لا أبتغى من الكتّاب والأفاضل الثناء عليه والإطراء فيه وتصفيف الأقوال الضخيمة والمقالات الضافية الفخيمة في تقريضه وتوصيفه، بل بغيتي منهم ورغبتي إليهم أن ينظروا إليه نظراً مجرّداً، ويضعوه ف-ي محكمة التمحيص والتدقيق عارياً، فيذكرون - فضلاً منهم - ما له وما عليه، وما يستحقّه على الواقع
ص: 487
والحقيقة بنفسه من مدح أو ذمّ، ويعرفوني محاسنه ومساوئه، فالإنسان - مهما كان - أعمى عن عيوبه وأصمّ بنفسه عن سيّئاته.
وإنِّى لا محالة أعتدّ ذلك منهم علىّ فضلاً وشهامةً ونُبلاً.
كما أنّي على يقين أنّهم إذا تربّعوا على منصّة الحكم سوف لا يحكمون إلّا عدلاً ولا يقولون إلّا قسطاً من غير ما تعصّب ديني وسوء أدب أخلاقي ولا مداخلةٍ للأغراض والأهواء، والله (سبحانه) هو الرقيب على ذلك والحسيب، فهو (جلّ شأنه) الذي لا تخفى عليه خافية، وهو على كلّ شيء شهيد.
كما أن أشدّ رجائي وبغيتي ممّن يقع في يده كتابي هذا أن لا ينبذه في زاوية الإهمال، ولا يضعه في روزنة الإغفال، ولا يأخذه ليملأ به فراغاً من قماطير كتبه، أو يسد به فوّهة من غرفة بيته! فمن لا يجد في نفسه نشاطاً لمطالعته وسبره إلى غايته فالله والذمّة والضمير رقباء عليه خصماء له أن يرجعه من حيث استلمه، ويردّه من حيث أخذه، ويسترجع ما دفع بإزائه من ثمنه الزهيد فضلاً عمّا لو وصل إليه بغير ذلك، ويكون قد صنع جميلاً وأسدى معروفاً!
الثالث : أنّه قد مضت سنّة القديم وجرت عادة الحديث عند أكثر أرباب التأليف أن يقدّموا مؤلّفهم هدية لملك من ملوك زمانهم أو لوزير من الوزراء أو رئيس من الأعيان والوجهاء، أو لأستاذ معلّم، أو لمربٍّ مقوّم، أو لصديق عريق، أو لأخ في الفضل شقيق، أو لغير ذلك من ذوي الميزة والاختصاصيات وذوي الحقوق على صاحب ذلك التأليف أو الشهرة الكافية.
أمّا هذا الضعيف فلا أجد أحقّ وأليق من أن أجعل دعوتي هذه هديةً باسم روحانية صاحب هذا الدين المقدّس وأوصيائه وخلفائه الكرام، فإنّنا إن علمنا شيئاً فمن رشحات علومهم، أو أصبنا حسناً فمن نفحات حسناتهم، وإن تقدّمنا
ص: 488
فمن يمن بركاتهم والسير على سنتهم ومنهاجهم، وإن تأخّرنا فمن قصورنا أو تقصيرنا عن صحّة اتّباعهم والاقتداء بهم وتدبّر معارفهم وحكمهم.
والقصارى : أنّ الأوّل والأولى بالحمد والمنّة والفضل والإحسان هو الله الواحد الأحد، ثمّ سفراؤه ووسائط فيضه وسدنة وحيه وخزنة هدايته وإرشاده.
ثمّ أنّنى غبّ ذلك أُسدي بكلّ عاطفة منّي جميل الثناء وصالح الدعاء ووثيق الودّ وصحيح الإخاء والحبّ شاكراًكلّ من أعانني على نشر دعوتي هذه، ونشّطني لها، وحثّني عليها، ومدّ إلىّ يد المساعدة، وأتحفنى بعاطفة المساعفة، أخصّ من بينهم خاصّة إخواني الذين وازروني ونصروني على طبعها ونشرها، ونفثوا فيّ روح الهمّة والنشاط للقيام بهذا العناء الباهض والعباء الثقيل.
وما نسيت من شيء فما أنا بناس أياديهم الجميلة، وعواطفهم الشريفة، وما جُبلوا عليه من الصدق والحميّة والغيرة الدينية، وصحيح الوفاء وصادق الإخاء.
وإلى الله (سبحانه) أرغب مبتهلاً في حسن جزائهم وعظيم حبائهم، فإنّه وليّ المثوبة والإحسان، والله لا يضيّع أجر من أحسن عملاً.
ونحن مهما حاولنا الإحصاء والتدقيق نعرف ونعترف أنّنا لسنا ببالغيه، ولا ندّعي السلامة في باقيه من هفوات الطبع أو المطبعة طالما نعلم أنّ الإنسان مهما كان فهو مظنّة الخطأ والنسيان، ولكن لا نشكّ أنّه أقلّ المطبوعات غلطاً وأحسنها ضبطاً وإتقاناً.
ولا يخفى أنّ هذه الطبعة الثانية قد زادت على الأُولى بقدر الضعف، فكأنّ تلك الظلامة والمصادرة قد جرّت إلى العلم نفعاً وجلبت على طلّاب الحقائق خيراً، وقد أصبحنا في ذلك على حدّ المثل القائل:
ص: 489
كم نخلة يرمونها بالحجر *** ظلماً فترمي بجني الثمر
وكذلك نفعل ويفعلون، وما التوفيق إلّا بالله ولا العناء كلّه إلّا له وفي سبيله إن شاء الله.
ص: 490
كلمة المجمع ... ا - ب
مقدّمة التحقيق ... 7
أعظم حدث ... 9
الإسلام .. النمط الجديد ... 11
هذا الكتاب ... 13
ترجمة المؤلّف : ... 24
اسمه ونسبه وولادته ... 24
أُسرته ... 27
نشأته وطلبه للعلم ... 27
أساتذته ... 28
تلامذته ... 31
إجازاته ... 37
قبس من سيرته ... 38
أسفاره ورحلاته ... 52
مكتبته ...
ص: 491
مواقفه السياسية والإصلاحية ... 57
جهوده في مجال التقريب ... 61
أدبه ... 66
ما قيل فيه ... 69
طرائف نادرة للمترجم ... 73
مؤلّفاته وآثاره ... 77
مرضه ووفاته ومدفنه ... 93
منهجية تحقيق الكتاب ... 98
مقدّمة المؤلّف ... 101
ذكر سوانح في المقام : ... 106
السانحة الأولى : الأديان وعوامل نشوئها ورقيّها ... 107
السانحة الثانية : ماهية الشرف والسعادة ... 111
السانحة الثالثة : العوامل المنشّطة لتحصيل الشرف ... 120
السانحة الرابعة : كلمة عن المؤلّف وعلوقه بالفلسفة وفنون اللغة العربية ... 121
السانحة الخامسة : الحكماء ومؤلّفاتهم، والدعوة الإسلامية ... 123
مقدّمة : في وجوب النظر ولزوم المعرفة ... 138
فطرة الإنسان على تطلّب الأسباب لكلّ محسوس ... 138
تقسيم الناس في طلب المعارف والسير في طلب الحقيقة ... 139
الاستدلال على وجوب المعرفة بوجوب شكر المنعم ... 142
ص: 492
بنذة في تعريف العقل وأقسامه ومنافعه ... 147
الفصل الأوّل: في إثبات الصانع الحيّ ... 161
الفلاسفة وهذه المسألة ... 161
تمهيد أمور لإثبات الصانع ودحض أباطيل الملاحدة: ... 171
الأمر الأول : في أصل الإنسان ... 171
الأمر الثاني : حاجة الكوائن المادّية إلى التقلّبات لبلوغ حدّ الفعلية... 179
الأمر الثالث : في الوجدانيات وبيان مبادي الوجود في الإنسان ..... 183
الأمر الرابع : أكبر ناموس في حفظ نظام العالم هو الدين ... 187
الأمر الخامس: في الصدفة ونقدها ... 194
الأمر السادس : إشارة إلى قاعدة أنّ فاقد الشيء لا يعطيه ... 197
الأمر السابع : في تمييز البديهي من النظري ... 198
الأمر الثامن : في بطلان الدور والتسلسل ... 199
تعيين موضع النزاع في المقام ، ومناقشة ذلك ... 201
أبسط وأوضح برهان على إثبات الصانع الحكيم ... 207
في الوجود والعدم والسوفسطائية ... 210
الاستظهار على إثبات الصانع بأمور لمزيد التأكيد : ... 212
الأمر الأوّل : ملازمة الاعتراف بوجود النفس لوجود الخالق ... 213
الأمر الثاني : في شبهة وقوع الشرور في العالم، والجواب عنها ... 217
الأمر الثالث : في البحث عن أصل الأديان ... 233
نقل كلمات بعض فلاسفة الغرب وأدلّتهم على ثبوت الصانع ... 246
ص: 493
الفصل الثاني : في توحيد الصانع ونفي الشريك عنه ... 257
التفكّر في بديع الصنع الدالّ على وحدة الصانع ... 257
البرهان الصناعي على وحدة الصانع ... 260
الاستدلال على التوحيد من نفس الوجود ... 262
تعداد مرجع الطرق والأدلّة إلى الصانع وتوحيده : ... 267
الأوّل : التدرّب في معارج المعرفة والإيمان ... 267
الثاني : التفكّر في الآيات والآثار ... 271
الثالث : المجادلة بالتي هي أحسن ... 272
أدلّة برهانية على امتناع تعدّد الواجب ...
الكلام في صفات الواجب الثبوتية والسلبية ... 274
هل صفات الواجب هي عين ذاته أو لا ؟ كلام في حقّ أمير المؤمنين علیه السّلام وعلوّ مرتبته ... 289
عود على بدء ... 293
كلمة ختامية في خلاصة مباحث التوحيد ... 297
الفصل الثالث : في العدل ... 301
مزايا العدل وآثاره والثناء عليه ... 301
أعلى مراتب العدالة ومحلّ تحقّقها ... 309
مراتب الولايات وتدرّجاتها ... 311
تعیین موازين العدل حسب الحقوق وبيان ضابطتها ... 316
بعض الكلام في العصمة ... 319
ص: 494
عود علی بدء ... 324
خلاصه و فذلکه المقام ... 326
العدل الاعتقادي ... 342
اتّصاف الواجب بالعدل عند جميع المسلمين ... 342
مباحث الحسن والقبح العقليّين ... 343
الأصلان الدافعان للأشعري على إنكار الحسن و القبح، ومناقشتهما... 364
مباحث الجبر والاختيار ... 366
نصيحة أخلاقية ... 384
مبحث القضاء والقدر ... 387
بيان المسألة بعدّة أمور : ... 395
الأمر الأوّل: في العناية الأولى، والقضاء والقدر، والفرق فيما بينها ... 395
الأمر الثاني : في محلّ القضاء ... 396
الأمر الثالث : في محلّ القدر ... 398
الأمر الرابع توضيح المشكلات المزبورة بمثل مناسب ... 399
الأمر الخامس : في البداء ... 401
الأمر السادس: في الأفعال الاختيارية ومباديها ومقدماتها والجبر والتفويض ... 414
خلاصة البيان في هذا المقام، والاستشهاد بروايات الأئمّة ... 425
الأمر السابع : في بيان فائدة التكاليف والدعوة، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وتأثير السعي والجهد والطلب والجدّ ... 434
ص: 495
الأمر الثامن : في الاستعدادات واختلافها وتنوّعاتها ... 445
الأمر التاسع : في السعادة والشقاء ... 454
عود إلى تتمّة مباحث الحسن و القبح ... 466
هل أسماء الله سبحانه وتعالى توقيفية أو لا ؟ ... 475
عود إلى مبحث العدل ... 481
ذكرى وبیان ... 486
فهرس المحتوى ... 491
ص: 496