مفاتيح الرحمة المجلد 2

هوية الكتاب

مَفاتیحُ الرحَمَة

دِراسِةٌ موَضُوعیَة

لِأَدعيَةِ أَيام شَهرَ رَمَضَانَ المُبارَكِ

الخَطِيب

الشيَخ عَلى حَيدرَ الموَیَد

الجزءُ الثاني

محرر الرقمي: عليرضا راهجو

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسمِ الله الَرحمنِ الرحیم

الحَمدُ الله رَبّ العالَمينَ

والصلاة و السلام علی سیدنا محمد و آله الطاهرين

و لعنة الله علی اعدائهم العجمعین

من الآن الا قیاس یوم الدین

ص: 3

ص: 4

أصحاب النفوس السامية

16

دعاء اليوم السادس عشر

اشارة

اللّهُمَّ وَفِّقْنِي فِيهِ لِمُرافَقَةِ الأَبْرَارِ، وَجَنينِي فِيهِ مُرافَقَةَ الأشرار، وَآوِنِي فِيهِ بِرَحْمَتِكَ إِلَى دَارِ القَرارِ ، بالهيَّك يا إلهَ الْعَالَمِينَ

البلد الأمين : ص 308، عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم : ( من دعا به أُعطي يوم خروجه من قبره نور ساطع يمشي به ، وحلّة يلبسها ، وناقة يركبها، وسُقي من شراب الجنّة).

ص: 5

ص: 6

رمضان.. شهر البر والتقوى

يتألف هذا الدعاء من عدة فقرات يسألها الداعي من ربه الكريم:

فيطلب أن يكون من الأبرار ..!

ويتمنّى فيه صحبتهم ...

ويطلب منه المساعدة على ذلك من الله تعالى ..

وأن يرزقه مجانبة الأشرار وعدم صحبتهم ..

وأن يأويه إلى دار القرار ..

فنحن في شهر رمضان المبارك، شهر الله ، شهر تحقيق الرغائب والأحلام الت تملأ عقول وضمائر المؤمنين .. شهر الدعاء والرحمة، الشهر الذي فتحت فيه أبواب الجنّة على مصراعيها لتستقبل وفود الصائمين، وغلقت النار أبوابها لتعتق منها العاصين والمذنبين ، فهل نجد أكثر من هذا فوزاً !!.. فما هو المستفاد هذا الدعاء المروي عن رسول صلی الله عليه و آله.

ربما يمكن أن نفهم من فقرات الدعاء الحقيقة التالية :

فكما أنّ للأشجار والنباتات مواسم فصلية خاصّة ، يكون فيها النبات على أحسن أحواله فى النمو والريعان وإعطاء أفضل ثماره، كالشتاء فصل للبرتقال والحمضيات، والربيع فصل للزهور والسنابل وهكذا، وكما أنّ الفلاح الناضج هو الذي يتمكن أن يستثمر أفضل فصول النبات ويجني أفضل المحاصيل ..

كذلك للإنسان فصول خاصة تعتبر أفضل أوقات نموه وتكامله، والإنسان الحكيم هو الذي يتمكن أن يستثمر حياته بشكل أفضل في مواسمها الخاصة، وللأمثلة على ذلك نقول :

ص: 7

ورد في الأخبار : (لكلّ شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) (1) ، لأنه أفضل أوقات التلاوة والتفاعل مع كلماته وبيّناته ..

وكما أن السحر في هذا الشهر الفضيل أفضل أوقات التفرغ مع الله وللمناجاة والاستغفار من الذنوب ، قال تعالى : (والمستغفرين بالأسحار) (2) .

فإنّ الأسحار من أفضل أوقات الدنوّ والقرب إلى الباري عزّ و جّل، قال سبحانه : (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً) (3) ، وهكذا.

و حسب هذه الحقيقة ربما نستفيد من الكلمات الواردة في الدعاء الشريف (اللهم وفقني فيه لمرافقة الأبرار) أن شهر رمضان هو أفضل فصل زمني لمرافقة الأبرار والصالحين ومعاشرتهم ... لأنّ الإنسان في هذا الشهر يكون قد سمت روحه وزكى لبه أكثر من ذي قبل بحيث يكون أقرب إلى تقبّل المعنويات وأكثر استعداداً للسير نحو

الخير والهدى، لذلك عليه أن يرافق الأبرار ويقول : (وفقني فيه لمرافقة الأبرار).

وكذلك هو أفضل وقت للابتعاد عن أهل الشر فيقول: (وجنبني فيه مرافقة الأشرار).

وبما أن الداعي لابد أن يفهم معنى ما يدعو به ليصل إلى غايته ، ينبغي الإجابة على بعض ما قد يخطر في الذهن من الأسئلة :

فمن هم الأبرار؟

وبماذا يتصفون ؟

ولماذا تمنّى الداعى أن يرافقهم ويتشرف بصحبتهم؟

ومن هم الأشرار ..؟

وبماذا يتصفون ؟

ولماذا تمنّى الداعي مجانبتهم وعدم صحبتهم؟

ص: 8


1- بحار الأنوار: ج 93 ص 386 ب 52 ح 1 عن أبي جعفر علیه السلام . ط بيروت .
2- سورة آل عمران: 17.
3- سورة الإسراء : 79 .

والجواب :

الأبرار : جمع (برّ) وهو اسم فاعل برّ ، وليس جمعاً لبار ، لأنّ جمعه بررة، والمراد هنا بالأبرار : المطيعون .. المتقون ، كما يصرح بذلك أصحاب اللغة(1) .

والبرّ كل عمل خير ينتفع به الناس والمجتمع ، وهو حسن بحكم العقل والشرع بل ممدوح صاحبه وفاعله والساعي فيه ويثاب على ذلك أيضاً.

والأبرار: صفة تطلق على المسلمين الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان.. فأصبحوا مؤمنين وتشربت صدورهم وعقولهم وضمائرهم بالتقوى، فأصبحوا متقين.

ولكي يتضح معنى (البرّ) أكثر ، ولنتعرّف على موارد استعماله لابد من الاستقراء في الآيات والروايات فنجده يكاد يكون ملازماً لا ينفصل عن كلمة التقوى بحال ، فصارت صفة الأبرار صفة ملازمة للمتقين.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى وفي أكثر من مقام ، قال تعالى: ﴿وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنَّ البرَّ من اتقى ). (2)

ففي كلّ مكان تجد فيه برّ .. لابد أن تجد مصدره التقوى .. والبر من أفضل الأعمال الصالحة لأنّ البرّ يعكس الإيمان العملي .. والتقوى العملية، فالبر صورة مجسدة للإيمان والتقوى بمصاديقها العملية ... وللتلازم بين البر والتقوى قال تعالى : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ).(3)

وربما يستفاد من عطف التقوى على البرّ في الآية الشريفة أن التقوى أخص من البر ، لأنّ البركل عمل حسن ممدوح في العقل والشرع سواء كان عن ملكة أو لا، أمّا التقوى فهي تلك الملكة النفسية التي توجب تجنّب المعاصي والسيئات .

وربما يستفاد من تقارن البر والتقوى في هذه الآية النسب الأخرى المنطقية فيمكن أن يصدق التقوى بترك المعاصي ولم يصدق عليه البر؛ لأنّ ظاهر البر الأمر

ص: 9


1- راجع مجمع البحرين : مادة (برر).
2- سورة البقرة : 189 .
3- سورة المائدة : 2 .

الإيجابي، هذا كله والعلم عند الله .

فكأنّ الآية تقول : تعاونوا على إيجاد الإحسان والمعروف بين الناس وفي نفس الوقت تعاونوا على إيجاد حالة التقوى في نفوسكم ونفوس سائر الأفراد ولتنعكس على أعمالكم وأعمالهم .

ومن هذا البيان يتضح معنى (الأبرار) وصفاتهم.. وهم جمع منتخب من المؤمنين نهجهم السلوكي التقوى والعمل الصالح ولقد امتحن الله قلوبهم ، فارتقوا درجات الإيمان، وشملتهم الرعاية الإلهية بالتوفيق والسداد في الدنيا، والراحة والخلود في الجنّة ، ودار الأمان في الآخرة ، قال تعالى : (إنّهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾ (1).

والقرآن الكريم يوضح صفات الأبرار وأعمالهم.. ويبين بدقة ما يجب أن يقوموا به ويتصفوا به.. ليفرّق ما بين الإيمان الظاهري والإيمان الحقيقي المبني على التقوى والرسوخ في القلب والضمير ..

قال تعالى : (ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (2) .

والتقوى : هي ملكة تجنّب المعاصي وحفظ النفس عن المحظورات والمحرّمات وهي حصن دفاعي ليتترس خلفه المؤمن ويتزوّد فيه في الدنيا والآخرة، لذا يأمرنا الله تعالى بها فيقول :( وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى ) (3) .

لأنّ التقوى : هي التي تُعطي للإنسان القدرة على التمحيص والتفحص وانتقاء

ص: 10


1- سورة الكهف : 13 .
2- سورة البقرة : 177.
3- سورة البقرة : 197 .

الأعمال الصالحة .. ومعرفة الناس ورفقة الصالح منهم ومجانبة الفاسد منهم.

قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) (1) .

ومن ظاهر الآية نفهم أنّ التقوى تُعطي المؤمن الحقيقي القياس حتى يفرّق بين الصحيح والخطأ ككفّة القبان التي تفصل بدقة ما بين النموذجين الأنفين (الصالح والفاسد) و (البرّ والفاجر ) و (المؤمن والكافر) و (الجيّد والرديء) وهكذا..

قال تعالى : (وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون ) (2) .

من هم الصادقون؟

والتقوى هي التي تأمرنا أن نكون مع الصادقين والصالحين والمؤمنين، وتجنبنا من الكاذبين والطالحين والفاسقين وغيرهم.

قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (3) .

والآية تأمر بملازمة الصادقين .. وهم الذين يحفظون أحكام الله ويؤدون تعهداتهم أمام الباري تعالى على أحسن وجه ، والمصداق الأتم لذلك هم أهل البیت علیهم السلام .

ففي رواية سليم بن قيس الهلالي في حديث المناشدة قال أمير المؤمنين علیه السلام : (فأنشدتكم الله أتعلمون أن الله أنزل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (4) فقال سلمان : يارسول الله أعامة هي أم خاصة؟ قال صلی الله علیه و آله : أما المأمورون فالعامة من المؤمنين أُمروا بذلك ، وأما الصادقون فخاصّة لأخى على والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة ، قالوا : اللّهمّ نعم ) (5) .

ويروي نافع عن عبدالله بن عمر أيضاً قال:( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) قال : أمر

ص: 11


1- سورة الأنفال : 29 .
2- سورة المجادلة : 9.
3- سورة التوبة : 119.
4- سورة التوبة : 119.
5- تفسير البرهان : ج 2 ص 170 ح 7.

الله الصحابة أن يخافوا الله ثم قال : (وكونوا مع الصادقين) (1) ، يعني مع محمد وأهل بيته علیهم السلام (2) .

لأنّ الرفقة الحقيقية الممتعة التي توجب الفوز في الدُّنيا والآخرة تكون مع المؤمن الصادق لا مع غيره .. لأنها هي الرفقة التي يرتجى بها النجاة في الدنيا والآخرة .

من هم المتّقون؟

الإمام الصادق علیه السلام يفسِّر التقوى فيقول علیه السلام: ( أن لا يفقدك الله حيث آمرك ولا يراك حيث نهاك) (3).

ومعلوم أن الإنسان الذي يطلب التقوى ويسلك سُبلها ويوفّر في نفسه الاستعداد للعمل بشرائطها سوف ينالها بالعمل الصالح والمجاهدة، ورباطة الجأش والصمود، باعتباره وسيلة أسمى لنيل المطالب الكمالية وقد وصف القرآن المتقين في قوله تعالى :( إن المتقين في جنّات وعيون ) (4) .

وتكرّرت كلمة (المتقين) في القرآن تسعاً وأربعين مرّة ، كما استعملت التقوى بمختلف صيغها ومشتقاتها (258) مرّة في القرآن الكريم.

فتعالوا نتعرّف على صفات المتقين وسيرتهم من خلال ما ورد عن أمير المؤمنين الكأعظم نموذج للمؤمنين والمتقين بعد رسول الله حيث عرف الله تعالى حق المعرفة، وخلص الله العبودية وعرف المعنى الحقيقي للتقوى نهجاً وسلوكاً ووصفاً ومعنىً ، فكان علیه السلام هو الأسوة والقدوة للمسلمين بأجمعهم.

فسأله أحد أصحابه - وهو همام (رضوان الله عليه) - عن المتقين وصفاتهم؟ فتجنّب الإمام علیه السلام أول الأمر عن الجواب لهمام؛ لأنّه يعرف تماماً ما سيؤول إليه هذا المؤمن من خوف الله وما سينتهي بالرجل .. نعم سيصعق بعد نهاية كلام أمير

ص: 12


1- سورة التوبة : 119.
2- تفسير البرهان : ج 2 ص 170 ح 11 .
3- بحار الأنوار: ج 70 ص 285 باب 56 الطاعة والتقوى ح 8، ط طهران.
4- سورة الحجر : 45 .

المؤمنين علیه السلام مباشرةً ويموت لشدّة خوفه من الله ولشدة رجائه وتأثره ..

ولا ندري حقيقة ما خالج الرجل (رضوان الله عليه) حتى مات لأننا لا نعرف معنى المتقين بحقيقتهم ولم نصل إلى تلك المرتبة العالية من التقوى حتى نعرف تماماً ماذا حلّ بهمام .. ولماذا وكيف؟ ولكن قبل ذلك دعونا نقتبس قبساً من نور تلك الخطبة العظيمة .. ليتّضح بعض المعنى للمتقين والأبرار .

يبدأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بحمد الله تعالى والثناء عليه ثم يقول: (أما بعد فإنّ الله خلق الخلق حين حنتهم غنيّاً ..) أي أن الله تعالى غني عن العباد على نفسه ومن أحسن فلها ، فلا يضر الله شيئاً لأنه فقد وخلقهم، فمن عصى عزّوجلّ واجب الوجود غني عن الممكنات فهو الغني المطلق وهو المفيض على الخلق بجوده وفضله، والخلق محتاجون إليه لنقصهم وافتقارهم.

لكن هل للعصيان أثر على مسيرة الإنسان أم لا؟ وهل له أثر وضعي كما له أثر تكليفي وعقاب أخروي.

الجواب : نعم له أثر وضعي دنيوي بالإضافة إلى الآثار التكليفية ، أي أنّ هذه الظلامات التي يقوم بها بنو البشر على أنفسهم أو على بني نوعهم، لابد أن يترتب عليها آثار وعقوبات في الدنيا كنتائج طبيعية للعمل ، وفي الآخرة كعقاب لمخالفة أمر المولى عزّ وجل.

قال تعالى: (وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) (1) .

وقال سبحانه: ﴿وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) (2) .

ثم يسترسل الإمام علي علیه السلام في وصف المتقين فيقول : (منطقهم الصواب) (3) .

أي لا يقولون أي كلام اعتباطاً، فالكلام عندهم محسوب ودقيق وليس جزافاً

ص: 13


1- سورة هود: 117.
2- سورة العنكبوت: 40 .
3- نهج البلاغة : خطبة همام ، الرقم : 3 193 .

ولذلك لا يكون كلامهم إلا بحق وصواب، ومطابقاً للفعل والضمير والقصد، فكلامهم يعبر عن فعلهم ، وفعلهم يعبر عن كلامهم ، لأنّ الكلام بلا عمل كالشجر بلا ثمر .

وهنا يكون تجسيد للإيمان وتجسيد للسلوكية التي تطابق الاعتقاد، وبهذا يكون تحويل الإيمان إلى واقع عملي، ونقله من مفاهيم روحية وقلبية إلى مفاهيم مجسّدة ومثمرة.

وهذه الرؤية هي ما يريده الله تعالى من المؤمن ، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا يفعلون ) (1) .

و من صفات المتقين التي ذكرها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : (ملبسهم الاقتصاد).

أي بدون إسراف ، وبلا مضاهاة ومباهاة و تفاخر ، غير مبذرين وغير مسرفين ، بل يصرفون قدر الحاجة أو الضرورة.

وهذه نقطة مهمة لها الأثر الكبير في حياة الناس، فعليّ علیه السلام عندما يصف المتقين الزاهدين يعيش هو بنفسه أسمى معاني الزهد، حيث يقول مفسراً سببه : (أأقنع نفسي بأن يقال هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش) (2) .

وبالفعل كانت حياته علیه السلام في غاية الزهد والإعراض عن الدُّنيا.

وقد يفسر البعض التقوى والزهد بشكل مغلوط، فيتصوّر أن الزهد والتقوى هو اجتناب الدُّنيا وترك حلالها ، فلا يلبس إلّا الثوب الممزق والبالي .. ويترك نفسه للوسخ والقاذورات وما تشبه.

ولكن الزهد ليس ذلك ، بل الزهد هو عدم جعل الدنيا هدفاً وعدم التعلّق بها، فكما قالوا: (الزهد ليس أن لا تملك شيئاً بل أن لا يملكك شيء).

وهذا قدوة الزاهدين يفسِّر الزهد حيث يقول علیه السلام : (الزهد كله بين كلمتين من

ص: 14


1- سورة الصف : 2 و 3.
2- نهج البلاغة : ص 418 باب رسائل أمير المؤمنين / صبحي صالح .

القرآن قال الله سبحانه : (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (1) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه) (2) .

وبهذا المنطلق يريد أمير المؤمنين علیه السلام أن نتعامل مع الحياة ونعيشها بواقعية في مقابل البعض الذي تجده يعيش بالإسراف والتبذير مدعياً أنّ الدُّنيا خلقها الله للناس فعلينا أن نستغلها ، ولم يلتفت إلى قوله تعالى : (إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) (3) .

ولم يتوجه إلى أنّ الدُّنيا قنطرة للآخرة وليست مطلوبة لذاتها.

لذلك جعل الله سبحانه حقوقاً نتقراء في أموال الأغنياء وألزمهم بمراعاتها ليكرّس المفهوم الإنساني للمال ويعطيه بعداً هدفيّاً في الحياة ويمنحه الجمال المعنوي، حتّى لا يكون مادياً بحتاً وعد عدم مشاركة الجياع واحترام مشاعرهم والإنفاق عليهم تضييعاً للقيم التي جاء من أجلها الإسلام، ف-(الاقتصاد) في كلام الإمام علیه السلام من القصد أي التوسط في الأمور وعدم الإفراط والتفريط .

يقول أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً في وصف المتقين : (ومشيهم التواضع )..

يعني بلا تكبر ، ولا تبختر على أطراف الأقدام والأنف فوق الجبال.. ولا تصنّع لقمان الحكيم ابنه وهو يعظه وقد ورد في القرآن الكريم : (ولا و خيلاء كما يوصي تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور ) (4) .

فكلمة : (صعر) هي في الأصل مرض يصيب البعير فيؤدي إلى اعوجاج رقبته، و (المرح) : الغرور والبطر الناشئ لكثرة النعمة ، و (المختال) : من مادة (خيلاء) و(الخيال) وتعني الشخص الذي يرى نفسه عظيماً وكبيراً نتيجة سلسلة من الأوهام والتخيلات التي تصيب الإنسان .. أما (الفخور) : فيعني الشخص الذي يفتخر على الآخرين ، والفرق بين كلمتي (المختال) و (الفخور) هو أن الأول إشارة إلى التخيلات

ص: 15


1- سورة الحديد: 23.
2- نهج البلاغة : غريب كلامه المحتاج إلى تفسير الرقم 439 ، صبحي الصالح .
3- سورة الإسراء : 27 .
4- سورة لقمان : 18 .

والأوهام للكبر والعظمة ، أمّا الثانية فتشير إلى أعمال التكبّر الخارجي (1) ، والمؤمنون يترفّعون عن كلّ هذه الأوهام والمساوئ ، ويعملون بقوله عزّ وجلّ : «ولا تصعرخدّک للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحبّ كلّ مختال فخور» (2) .

ثمّ يسترسل أمير المؤمنين علیه السلام :بوصف المتّقين فيقول علیه السلام : (غضوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم) وهي كناية عن عفّة النفس وصونها عمّا يشينها وحفظها عن المحرّمات ، قال تعالى : (قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) (3).

وهنا كلام لعيسى بن مريم علیه السلام يوضّح ما نريد ، يقول : (إياكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها فتنة، ربّ حربٍ أثارتها لفظة ، ورب صبابة غرستها لحظة).

ويقول الشاعر في هذا المعنى :

وإنّك إن أرسلت طرفك رائداً***إلى القلب يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا بعضه أنت صابر*** عليه ولا عن تركه أنت قادر

ثمّ يقول عنهم الإمام علیه السلام: (وقفوا أنفسهم على العلم النافع لهم)، فهم لا يقدّسون إلّا الحقّ ولا يعتقدون إلّا بالحقيقة ولا ينالون إلّا من العلم النافع بعيداً عن العلم المضلّ وتوافه الأفكار التي تترك آثاراً وخيمة على عقل الإنسان وضميره ثمّ على سلوكه .

نقول هذا لأنّ البعض قد يذهب أحياناً وراء بعض العلوم التي سرعان ما يحرف صاحبها عن شاطئ الأمان لتلقي به في عرض البحر فيكون مصيره التيه والغرق ثمّ الهلاك متصوّراً أنّه انشغل بما فيه النفع ، والحال أنّه انشغل بالضارّ (فرب نافعة ضارّة) كما يُقال ..

وقد روى كميل بن زياد عن أمير المؤمنين علیه السلام كلاماً يلمح إلى العلم النافع الذي ينبغي أن يعمل به الإنسان .. فكان من جملة كلامه : ( يا كميل معرفة العلم دين يُدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته) (4) .. إلى آخر

ص: 16


1- راجع تفسير الأمثل : ج 13 ص 44 و 45 .
2- سورة لقمان : 18 .
3- سورة النور : 30.
4- نهج البلاغة : ج 4 بيان فوائد العلم من حكم أمير المؤمنين علیه السلام الرقم 147 / محمّد عبده .

کلامه علیه السلام .

أمّا العلم الذي يضرّ الإنسان وينتهي به إلى سوء العاقبة ، فورد عن رسول الله علیه السلام : (من طلب العلم لأربع دخل النار !! ليُباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه أو يأخذ به من الأمراء) (1) .

وقال أمير المؤمنين علي علیه السلام في وصفهم : (نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء) أي يرجون رحمة الله دائماً ويخافون بأسه على كلّ حال، فلا يختلف حالهم في الشدّة والرخاء في اتّصالهم بربّهم ومعبودهم وعملهم في سبيل رضاه .

قال الإمام الصادق علیه السلام: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو) (2) .

فالمؤمن يحتاط ويحذر العواقب، ويجتنب العثرات في السراء والضراء، فإذا أقبلت الدُّنيا عليه يحذر الانزلاق والانجراف ، لأنّها (إذا حلّت أو حلت) كما ورد في التعبير (3) .

فعليه أن لا ينسى ذكر الله تعالى وشكره على نعمه .. فيقوم بواجباته ويؤدّي حقوقه .

وهكذا في البأساء والضراء فلا ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته عند الشدّة والبلاء ، لأنّ منهجية المتّقي المؤمن (هو الخوف والرجاء) فملازمته لهما في السراء والضراء .. في النقمة والبلاء .. دليل على سموّه وارتفاع شأنه .

فالهيكلية التي تشكّلت منها التقوى في نفوس المتّقين ، أساسها هذا الخوف وهذا الرجاء ، وهذه فلسفة قد لا يدركها جيّداً إلّا الإنسان الذي عاش التقوى قلباً وروحاً وعملاً وسلوكاً.

فالمتّقي في صراع دائم وحرب دائمة.. ولكن مع أي شيء؟

ص: 17


1- بحار الأنوار: ج 2 ص 38 ح 61 كتاب العلم ، ط طهران.
2- الكافي : ج 2 ص 71 ح 11 ، كتاب الايمان والكفر باب الخوف والرجاء.
3- مصباح الكفعمي : ص 747 .

يمكن الإجابة على ذلك ممّا يستفاد من قول الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لصاحبه همام حيث يقول : (ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم) (1) .

نعم : إنّهم في قلق دائم ورجاء مستمرّ .. ولم تهجع أنفسهم طرفة عين ولم تعرف الهدوء والراحة بل هي في نزاع دائم بين عاملين: رجاء الثواب والخوف من العقاب، وهذان العاملان عندهم متعادلان متوازنان. وهذا نظام دقيق للقوى المتحفّزة في النفوس المؤمنة ، فأنفسهم ساحة لهذا النظام الإلهي المحكوم (بالخوف والرجاء).

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المعادلة المتوازنة بقوله سبحانه: (يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً) (2) .

وقال عزّ وجلّ : (يدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين )(3).

فالآية تشير إلى أنهم متوجهون إلى الله تعالى في جميع الأحوال : الفقر والغنى، والمرض والصحة، والابتلاء بمختلف أقسامه فهم في حالة من الخوف وفي علاقة مستمرّة مع الله سبحانه ، ف- ( رغباً) بمعنى الرغبة والميل والعلاقة ، و (رهباً) بمعنى الخوف والرعب.

يقول أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ بعض ولده : ( يا بني خف الله خوفاً ترى إنّك إن أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك ، وارج الله رجاءً كأنك لو أتيته بسيّئات أهل الأرض غفرها لك) (4) .

ومقام الرجاء والخوف .. ليس مقاماً عادياً بل رتبة لا ينالها إلّا أهل الضمائر والقلوب المتمسّكة بالله تعالى خوفاً ورهباً ، وبما أنّنا تطرّقنا إلى هذا الموضوع سابقاً، نترك التفصيل .

ص: 18


1- نهج البلاغة : ص 303 الخطبة 193 للدكتور صبحي الصالح (يصف فيها المتقين).
2- سورة السجدة : 16 .
3- سورة الأنبياء : 90.
4- جامع السعادات : ج 1 ص 254 مواقع الخوف والرجاء .

فالنفس التي تعظّم الله تعالى سيصغر كلّ شيء سواه عزّ وجلّ في عينها، فلا تقع أسيرة الغرائز والشهوات وهذا لا يأتي من فراغ قطعاً بل عن خلفية الإيمان الراسخ والإدراك واليقين الذي تحمله النفس بين جنبيها فيصبح كلّ شيء دون الله سبحانه هباءً وسراباً .

لأن النفس التي تعظّم الله تعالى تكبر وتعلو ولا تحسّ بالهزيمة قط ، وعندها تتحرّر من الخضوع والاستسلام لغيره .. وهنا تتجلّى معانى العبودية الحقيقيّة ويقبل الإنسان على غاية العبادة، لأنّ العبودية لها وجه آخر هو التحرّر من عبودية غير الله ، ولذلك تصبح النفس التي تعبد الله خائفة راجية زكية صافية فتبدأ تنظر إلى الأمور بعين اليقين والاعتقاد الراسخ فيكون عملها موافقاً لرؤيتها .. يقول الإمام علیه السلام في وصف المتقّين : (فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعمون ، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون) (1) ، وهذه هي مرتبة اليقين التي ذكرها العلماء في كتب الأخلاق .

مراتب اليقين

اليقين له مراتب عدّة (2) ، وهو جامع الفضائل :

1 : علم اليقين : وهو اعتقاد ثابت جازم مطابق للواقع ويحصل من الاستدلال باللوازم والملزومات ، ومثاله : اليقين بوجود النار من مشاهدة الدخان مثلاً .

2 : عين اليقين : وهو مشاهدة المطلوب ورؤيته بعين البصيرة والباطن ، وهذا أقوى في الوضوح بالجلاء من المشاهدة بالبصر ، وفي الحديث (3) عن أمير المؤمنين علیه السلام قال : ( ما كنت أعبد ربّاً لم أره) ، وحين سئل وكيف رأيته؟) قال علیه السلام : (رأته القلوب بحقائق الإيمان )وهذه الرؤية حصلت للإنسان بالتجرّد التامّ للنفس، وتصفيتها من الشوائب والتعلّق بالدُّنيا .

ص: 19


1- نهج البلاغة : ص 303 الخطبة 193 تعليق صبحي الصالح .
2- جامع السعادات : ج 1 ص 16 .
3- الكافي : ج 1 ص 97 ح 6 إبطال الرؤية .

3:حقّ اليقين : وهو حصول رابطة وثيقة معنوية وربط حقيقي بين العاقل والمعقول، بحيث يرى العاقل ذاته ملكاً للمعقول مرتبطاً به غير منفكّ عنه، وذلك لشدّة فقر الإنسان وغناه المطلق تبارك وتعالى، والمشاهدة عنده تكون دائماً ببصيرته الباطنية وهذا لا يكون إلّا من عاش المجاهدة وكبت جماح النفس الأمّارة بالسوء وطَهُرَ من أدناس الدُنيا كما يقول الشاعر :

كيف ترى لیلی بعین تری بها ***سواها وما طهّرتها المدامع

ص: 20

قلوبهم محزونة

يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتّقين أيضاً: (قلوبهم محزونة ، مخافة التقصير في حقّ الله تعالى).

إذ يلزم على الإنسان أن يرى نفسه مقصراً أمام الله دائماً، ولا يرضى بأعماله وما يؤديه تجاه الباري عزّ وجلّ ، كما قالوا : وكفى المرء نقصاً أن يرى نفسه كاملاً). وهذا ما يسمى في الروايات بالعجب.

لأن الرضا عن النفس من أعظم المنزلقات التي تواجه المؤمن إن لم نقل أقواها فإن الإنسان إذا تلبس بالرضا النفسي عن أعماله اتكأ ومال إلى التراخي عن للهوى الذي ما انفك لحظة عنه ، لأنّ النفس تنطوي على زوايا مظلمة لا يمكن للنور أن يصلها بسهولة إلا بتلك المجاهدة والإصرار وترويض الذات حتى تصل إلى مصاف سلوكية الأتقياء وسلوكية الصالحين من البشر ، فإنّ المجاهدة والترويض الدائم يشع نور على زوايا تلك النفس المظلمة العائمة .. وذلك لشدّة فقر الإنسان مهما كان عظيماً وغناه المطلق تبارك وتعالى.

وقد كان الرسول الأعظم صلی الله علیه وآله و أهل البيت علیهم السلام خير نموذج في التعامل مع الله ، فكانوا يرون أنفسهم مقصرين أمام الله عزّ وجلّ مع أنّهم معصومون لا يصدر منهم الخطأ والعصيان.

قال الإمام الصادق علیهم السلام : ( إن رسول الله علیهم السلام كان يتوب إلى الله عزّ وجلّ ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة من غير ذنب) (1) .

ثم يقول أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين : (وشرورهم مأمونة) لأنهم الخير المحض والعمل الصالح والتقوى العملية، فشرّهم مأمون وخيرهم مأمول ، و هل

ص: 21


1- معاني الأخبار : ص 384 ح 15 باب نوادر المعاني.

يمكن للمتقي أن لا يكون محباً للسلام والمحبة بين الناس.

قال علیه السلام في صفة المؤمن : (مقبل خيره ، مدبر شرّه ، غائب مكره ..) (1) .

وقال علیه السلام : (الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون) (2) .

وقال الإمام علیه السلام : إن المتقين (أجسادهم نحيفة) فهل هي من نقص الغذاء يا ترى؟

أم نقص الفيتامينات والبروتينيات؟

أم ماذا؟

الظاهر أنّه من الخوف من الله وترك الدُّنيا والعمل الدائب والسهر والمجاهدة فيما يرضي الله .. فهم قد استبدلوا تخمة المعدة بنحافة الجسد واصفرار الوجه ونحافة البنية!! لأنّ الجسد لا قيمة له إذا لم يرهق في سبيل الله .

والمتقون كلّ شيء عندهم مرتبط بالله تعالى حتّى الأكل فهو عندهم حسب الموازين والآداب الشرعية .. لا يأكلون إلا عندما يجوعون ولا يتركون الطعام إلا وهم جائعون، شعارهم التواضع والبساطة، وزادهم التقوى وطعامهم الذكر والإيمان ، ولذتهم الحمد والثناء والرجاء ، وهمتهم مواساة الآخرين وتذكر الجياع والبطون الغرشى والأكباد الحرّى والبطون التي لا عهد لها بالشبع.

يقول الإمام علیه السلام في صفتهم أيضاً : (أنفسهم عفيفة ) .

فإنّ العفّة من أهم الأشياء التي أكد عليها الإسلام، حيث يثني القرآن على هذا النموذج الرائع .. فيصفهم بقوله تعالى : (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً) (3) .

فالمتقون استغنت أنفسهم بحلال الله عن حرامه ، فلا غنى عندهم إلا برضى الله ، والغنى عندهم القناعة، والقناعة عندهم ما كسبته أيديهم من الحلال وعرق الجبين والتعب في سبيل الله ، نعم الحلال ضالتهم فهو همهم الأوّل وليس غيره .. ونفوسهم متطلعة إليه وتعزف عن غيره مهما طاب لونه وحسن شكله وبرق زخرفه .. فهو

ص: 22


1- أعلام الدين: ص 141 باب صفة المؤمن .
2- مكارم الأخلاق : ص 477 الفصل السابع في خاتمة الكتاب.
3- سورة البقرة : 273 .

عندهم جيفة إن لم يكن من حلال.

ثم يقول عنهم الإمام علیه السلام: (صبروا أياماً قصيرة .. أعقبتهم راحة طويلة)، نعم إنّها أيام قصيرة تحمّلوها (فعضوا على النواجذ) وهي حالة تعرف عند احتدام المواقف الصعبة، ونالوا الرغائب .. فعمت البشرى وجوههم .. زادهم التقوى قال تعالى : (فإنّ خير الزاد التقوى علیه السلام ) (1) .

وكثير من الناس لا يبلغ ما يحتاجه من الدُّنيا إلا بثمن باهظ : كرامته ودينه وعقيدته، أما الأبرار والمتقون فلا يبيعون هذا بذاك! نعم لهم حاجات دنيوية فإنّهم بشر .. وهذا لا يقدح بهم أبداً أن ينالوها بالطرق الشرعية التي فيها رضي الله سبحانه وتعالى .. ولكن كما قلنا برضى الله تعالى لا بسخطه .

وإن كان غير ذلك فيصبرون، إن كان بالصبر الرضا فهو الأفضل ، فيبدلهم الله عنها ما هو خير وأبقى ويعوّضهم الله تعالى عن صبرهم كما قال عزّ وجلّ : (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وما عند الله خير للأبرار) (2) .

ثم يقول الإمام علیه السلام عن المتقين وأوصافهم : (أرادتهم الدنيا فلم يريدوها) .

وإذا قال البعض : بأنّهم لم يستطيعوا النيل من الدنيا فتركوها.

فنقول له : كلا .. أليس بمقدورهم التنازل عن رضى الله للوصول إلى كثير من الأهداف والرغائب غير المشروعة والتي عادةً لا تنال إلا بسخط الخالق ورضى المخلوق .. وهذا كمن يبيع دينه بثمن بخس؟ نعم دراهم معدودات وملك زائل لأيام معدودة ، أليس بمقدورهم أن يفعلوا ذلك كما يفعل الخاسرون .

نعم بمقدورهم ولا نسلبهم الاختيار إن أرادوا ولكن المتقون أبوا إلا مرضاة الله قال تعالى : (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ) (3) .

ص: 23


1- سورة البقرة : 197.
2- سورة آل عمران: 198.
3- سورة الحجرات: 3.

ثم الإمام علیه السلام يصف المتقين بقوله : ( وأسرتهم ، ففدوا أنفسهم فيها ) (1) .

لم يتشبثوا كما يفعل البعض حيث يتشبث بالدُّنيا للدُّنيا، وإنما المتقون عاشوا أحراراً في الدنيا وسعداء في الآخرة جعلنا الله منهم بلطفه وكرمه .

ليالي المتقين

يقول عنهم الإمام علیه السلام : (أمّا الليل فصافّون ،أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً)، فالمتقون يقسمون أوقاتهم ، أما الليل فللمجاهدة وبناء الذات ولمناجاة ربّ العالمين ، وأما النهار فلأعمالهم الخاصة ومعائشهم ..

باعتبار أن للوقت أهمية كبيرة في حياة المؤمن ينبغي أن يستثمره ويكرّسه لمرضاة الله تعالى وللقرآن أيضاً أهمية خاصة في نفوس هؤلاء المتقين الأبرار .. ولا ندري هل للقرآن نفس الأهمية عندنا يا ترى؟

للأسف القرآن يشكو الهجر من المسلمين .. فلا يأخذ مكاناً في بيوتنا إلا ف-ي رفوف المكتبات الخاصة وعندما نأخذه ونتصفّحه للتبرك أو للقراءة أحياناً أو غير ذلك تمتلئ أيدينا بالغبار .

ولكن انظر كيف يتعامل المتقون مع القرآن .. يقول الإمام علیه السلام عنهم : (يحزنون به أنفسهم ويستثیرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم) (2) .

فعلاقتهم علاقة حميمة يستعبرون بما يقرؤون لاكما نقرأ القرآن و همنا آخر السورة ، فإنّ من قرأ القرآن وكان من حملته كأنّما أُدرجت النبوة بين جنبيه إلّا أنّه لا يو حي إليه (3) .

ص: 24


1- البلاغة : ص 304 الخطبة 193 في وصف المتقين، تحقيق صبحي الصالح.
2- نهج البلاغة : ص 304 الخطبة 193 ( يصف فيها المتّقين) تعليق صبحي الصالح .
3- راجع تنبيه الخواطر ونزهة النواظر : ج 2 ص 11 وفيه من حمل القرآن فقد حمل أمراً عظيماً وقد أدرجت النبوّة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه).

ثم يقول أمير المؤمنين علیه السلام في وصف المتقين : (أما النهار فحكماء علماء ، أبرار أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح) (1) .

وهكذا النفوس العظيمة هزلت وتهالكت من شدّة الإعياء وسهر الجفون حتى يظنّ من يراهم أنهم مرضى أو أهل البله .. كلا وألف كلا .. لعمري إنهم ذووا الهمة وأصحاب النفوس العالية التي ذابت بالإيمان كما يقول الشاعر :

وإذا كانت النفوس كباراً***تعبت في مرادها الأجسام

ومع كل هذه الصفات النبيلة فهم یستحقون المديح ، وعلينا أن نقدرهم ونكر مهم ..

وربما يقول القائل إنهم سيطيرون فرحاً بذلك، ولكن الإمام علیه السلام يقول عنهم : (إذا زكى أحد منهم - خاف مما يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربّي أعلم بي مني بنفسي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون) (2) .

نعم للإنسان باطن و ظاهر ، فالظاهر ما يراه الناس والباطن الله تعالى ، لأنّ الله تعالى مطلع على جميع السرائر ، قال سبحانه: (يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ) (3) .

ويقول تعالى : (يعلم ما تسرّون وما تعلنون) (4) .

فصاحب النفس الكبيرة يتوقع الخطأ في أقواله وأفعاله ويخشى النقص والخلل لذا نجده يتحرّس ويحتاط قدر المستطاع لتأخذ أعماله طابع الصحة والابتعاد عن الخطأ، وأما الذي يتصوّر أنه على حق دائماً وأن أعماله لا ينالها خلل أو نقص فهو جاهل مركب ، وهو من أشد أنواع الجهل وأصعبها علاجاً كما قال به علماء الأخلاق.

ص: 25


1- نهج البلاغة : ص 304 الخطبة 193 ( يصف فيها المتقين) تعليق صبحي الصالح .
2- نهج البلاغة : ص 305 الخطبة ،193 ، تعليق صبحي الصالح .
3- سورة غافر : 19 .
4- سورة النحل : 19.

نهاية المطاف

وبعد ذلك يصفهم الإمام بقوله : (الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون )وقد اتضح معناها سابقاً .

ولا ندري أين نحن من هذه الصفات؟ وكيف لنا؟ وكيف سنكون؟

قال الشريف الرضي : ( فما أتم الإمام و وصفه هذا حتى صعق [همام] صعقة كانت نفسه فيها رحمه الله ،عندها قال الإمام : لقد كنت أخافها عليه ، ثم قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها؟).

وهنا قد يقول القائل : إنّ الإمام إنما يصف في هذه الخطبة قوماً في الخيال .. لا في عالم الوجود، أو هو ربما يصف نفسه ، أو هي أمنيته في المؤمنين أي كما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المؤمن لا كما هو كائن بالفعل، حيث إن للإنسان جسماً و عواطف و رغبات و شهوات فكيف ينفصل عنها ؟

الجواب على ذلك ، نقول : هذه ليست أمنية من الإمام للتقوى وحسن السلوك ، بل هي أعلى درجات التقوى ، فإنّ التقوى من الكلّي المشكك الذي له مراتب مختلفة . هذا أوّلاً ..

وثانياً : كلّما تطرق إليه الإمام من الأوصاف أُمور ممكنة بل واقعة، فهناك كثير من الأولياء والعلماء والزهّاد اتصفوا بهذه الأوصاف ... إذن ليست محالاً تستعصي على قدرة المكلف وإرادته حتى لا يستحسنها العقل ..ومن ثمّ الشرع ليكون تكليفاً بما لا يطاق بل كلّ ما فيها ممكن التحلّي به بل واقع.

فهذا القول أو الإشكال الذي قد يخطر على بال البعض إنّما هو ناشئ عن نظرة قاصرة ونظرة غير واقعية لحقيقة الإيمان وحقيقة التكاليف الإلهية فضلاً عن فلسفة

ص: 26

التقوى .

إنّ الارتقاء إلى مصاف المتقين والتحلّي بالوصف الآنف في الخطبة الشريفة حالة يمكن الحصول عليها لو كبح الإنسان أهواءه وجماح رغباته الشهوانية وميوله ولجم غرائزه، وأوكل قيوميّتها للعقل والإيمان والصبر والحكمة لتصبح كلّ غرائزه تحت السيطرة بعيداً عن الانفلات والتهوّر ..

نعم إنّنا نعاني ونعاني .. وليس كلّ إنسان بمثابة (أبي ذرّ ) أو (المقداد) أو (عمار) أو (همام) الذي صعق (رضوان الله عليهم أجمعين )..

بل إنّنا في عالم تحكمه الأهواء وتنشط فيه الإباحية والإنفلات، وغرائزنا بعيدة عن سيطرة العقل وصحوة الضمير. .

إنّنا في عالم يحكمه الشيطان وجنوده، وشريعته شريعة الغاب، والتجارة الرخيصة، وينشط فيه السماسرة، ويسوده الظفر والناب ، وليس للمؤمن الخيار إلّا بشقّ الأنفس.

نسأل الله سبحانه أن يرزقنا مرافقة الأبرار .

هذا وفي بعض النسخ (موافقة الأبرار) والمؤدّى واحد، فالمقصود بالموافقة ما يشمل الموافقة العملية أيضاً ، كما لا يخفى.

ص: 27

صحبة الأخيار وترك الأشرار

وهنا ينبغي أن يسأل الداعي في هذا الشهر المبارك من الله سبحانه مصاحبة الأبرار المتّقين الذين وصفهم الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، وكذلك يطلب من الباري مجانبة الأشرار ، كما ورد في دعاء اليوم السادس عشر من شهر رمضان المبارك.

لأنّ المؤمن الخيّر يميل بذاته إلى الخير فيحبّ فاعله .. لأنّه يجد فيه ذاته وسلوكه، فيستعبر منه ويتقوّى به إذا ضعف بالإضافة إلى أنّه إذا لم يتجنّب الأشرار يخاف أن يصير منهم لأنّ الإنسان يتأثّر تأثراً كبيراً بأصحابه وزملائه.

فعن أمير المؤمنين علیه السلام : (مجالسة الأشرار تورث سوء الظنّ بالأخيار، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار ، ومجالسة الأبرار للفجّار تلحق الأبرار بالفجّار ، فمن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه فانظروا إلى خلطائه فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله وإن كانوا على غير دين الله فلا حظّ له من دين الله ، إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله كان يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤاخين كافراً ولا يخالطن فاجراً و من آخى كافراً أو خالط فاجراً كان كافراً أو فاجراً) (1) .

وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله : (ما من أحد ولي شيئاً من أُمور المسلمين فأراد الله به خيراً إلا جعل الله له وزيراً صالحاً إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه (2).).

وقال الله صلی الله علیه و آله : ( من آمن أخاً في الله رفع له درجة في الجنّة لا ينالها بشيء في عمله) (3).

ص: 28


1- بحار الأنوار: ج 71 ص 197 ح 31 كتاب العشرة ، ط بيروت. بحار الأنوار: ج 71 ص 197 ح 31 كتاب العشرة ، ط بيروت.
2- قرّة العيون : ص316 للفيض الكاشاني، وانظر أيضاً بحار الأنوار: ج 72 ص 359 ب 81 ح 75. ط بيروت.
3- قرّة العيون : ص 316 للفيض الكاشاني .

وقال علیه السلام : (أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله) (1).

نعم تؤكّد الروايات على الحبّ في الله والبغض في الله ... فهل نحن كذلك نحبّ الله ونبغض الله ، لنختبر أنفسنا؟

والمقياس الحقيقي للإيمان هو أن نجعل كلّ شيء الله تعالى ، يقول الإمام الباقر علیه السلام : (إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك فإن كان يحبّ أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبّك ، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك والمرء مع مَنْ أحبّ ) (2) . ويقول الإمام الصادق علیه السلام : (كلّ من لم يحبّ على الدين ولم يبغض على الدين فلا دین له ) (3) .

ومن صفات المؤمن أنّه يحبّ أخيه المؤمن ..

يقول النبي الأكرم صلى الله علیه و آله: (الأرواح جنود مجنّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (4) .

وفي مصباح الشريعة يقول الإمام الصادق علیه السلام : واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض ولو أفنيت عمرك في طلبهم ، فإنّ الله لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيّين وما أنعم الله بمثل ما أنعم به من التوفيق بصحبتهم قال تعالى :

(الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلّا المتّقين ) (5) .

وفي ختام هذا الدعاء نقول : (و آوني برحمتك إلى دار القرار بإلهيّتك يا إله

ص: 29


1- بحار الأنوار: ج 66 ص 242 ح 17 كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله والبغض في الله . ط بيروت.
2- الوافي : ج 3 ص 106 ، والكافي : ج 2 ص 126 ح 11.
3- الكافي : ج 2 ص 127 ح 16 كتاب الإيمان والكفر ، باب الحبّ في الله .
4- بحار الأنوار: ج 65 ص 205 ح 10 باب 22 کتاب الكفر والإيمان، باب في أن الله يعطي الدين من أحبّه . ط بيروت.
5- سورة الزخرف : 67 .

العالمين) حيث يأتي التركيز على الآخرة لأنها دار القرار ، أما الدنيا فليست إلّا دار الفرار .

وهكذا من يتمسّك بالتقوى ومصاحبة الأبرار والمتّقين فتكون عاقبته إلى خير ، قال تعالى : (العاقبة للتقوى )(1).

وجزاء التقوى وصحبة الأبرار وترك الأشرار هو دار القرار الذي فيه النعيم المقيم قال سبحانه : (إنّ المتّقين في جنّات وعيون) (2) ، وكلّ ذلك برحمته الواسعة لا بأعمالنا كما ورد في هذا الدعاء (برحمتك).

ثمّ هناك تأكيد على إلهيّته سبحانه وتعالى حيث يقول (بإلهيّتك يا إله العالمين) فاللازم أن لا ينسى العبد أنّه عبد وأنّ الله إلهه بل إله العالمين..

نسأله تعالى أن يجعلنا كما يحبّ ويرضى إنّه سميع الدعاء .

ص: 30


1- سورة طه : 132.
2- سورة الحجر : 45 .

المؤمن بين العمل الصالح والطموح

17

دعاء اليوم السابع عشر

اشارة

اللهُمَّ اهْدِنِي فِيهِ لِصالِحِ الْأَعْمَالِ، وَاقْضِ لي فِيهِ الْحَوائِجَ وَالأَمَالَ، يا مَنْ لا يَحْتاجُ إلَى التَفسير وَالسُّؤَالِ، يا عالِماً بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ.

البلد الأمين : ص 308، عن النبي صلی الله علیه و آله : ( من دعا به غفر له ولو كان من الخاسرين).

ص: 31

ص: 32

الهداية

في هذا الدعاء الشريف المأثور عن رسول الله صلی الله علیه و آله في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، يطلب الداعي فيه الهداية.. فيقول : (اللّهمَّ اهدني فيه لصالح الأعمال).

ما هو معنى الهداية؟ حتّى نعرف ماذا يطلبها الداعي بدعائه ولماذا يسألها؟

الهداية : هي الدلالة .. أو الطريق الموصل إلى هدفٍ ما .. كما تشير إلى ذلك قواميس اللغة (1) .

وقال تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم ). (2)

وقال تعالى: (فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى) (3) .

والظاهر أنّ المراد بالهدى هنا : الكتاب والشريعة .

ومن هنا يبرز معنيان للهداية ، كما ذكروه في الحكمة والمنطق : الأول : إراءة الطريق ، كما في قوله تعالى: (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (4) .

أي إن شاء أخذ وإن شاء ترك.. فليس على مستوى الإلزام. كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام في ذلك : (أي عرفناه إمّا أخذ وإما تارك ..) (5) .

الثاني : الإيصال إلى المطلوب.

ص: 33


1- راجع مجمع البحرين : ج 1 ص 471.
2- سورة الفاتحة : 6 .
3- سورة طه : 123.
4- سورة الإنسان : 3.
5- البرهان : ج 4 ص 410 ح3.

كما لو سألك شخص عن مكان ما، فمرّة تر شده نظرياً، ومرّة أخرى ترشده عملياً بأن تأخذ بيده حتّى توصله لما هو مطلوبه ..

ففي الأولى : يحتمل الخطأ ، أي قد لا يصل. .

والثانية : لا يحتمل الخطأ .. لأنّك تمسكه، وتأخذ بيده .. حتّى توصله إلى ما يريد، وهنا يتّضح الفرق بين المعنيين .

فالهداية : مرّة تكون دلالة على المطلوب، ومرّة أُخرى تكون دلالة موصلة إلى المطلوب.

وهذا يكون بمعنى التبيين والإيضاح بالمعنى الجليّ الذي لا يقبل الخلاف كما في قوله تعالى: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا) (1) .

أي يبيّنون الطريق ويوضّحونه ، والمقصود بيان الشريعة كما لا يخفى . وأفضل الهداية هي المؤدّية إلى الطريق المستقيم .. كما في قوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم) (2) . فما هو الصراط المستقيم؟

إنّه ورد في التفاسير بمعان عديدة :

فقد قالوا : هو الإسلام.

وقالوا : إنّه القرآن.

وقالوا : إنّه دين الله الذي لا يقبل سواه.

إلّا أنّ في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام تصريح بأنّ المقصود بالصراط المستقيم هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام والأئمّة المعصومين من ذرّيته علیه السلام .

والظاهر أنّ جميع التفاسير تشير إلى جوانب متعدّدة لحقيقة واحدة ذات أصل واحد ، ممّا يدلّ على أنّ تعدّد التفسير من باب تعدّد المصداق وليس الاختلاف في الحقيقة والمفهوم.

ص: 34


1- سورة الأنبياء : 73.
2- سورة الفاتحة : 6 .

فعن رسول الله صلی الله علیه و آله : ( اهدنا الصراط المستقيم : صراط الأنبياء، وهم الذين أنعم الله عليهم) (1) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام في تفسيره لهذه الآية :( اهدنا الصراط المستقيم ).. قال : (الطريق ومعرفة الإمام) (2) .

وعنه علیه السلام أيضاً: (والله نحن الصراط المستقيم) (3) .

و عنه علیه السلام أيضاً : (الصراط المستقيم أمير المؤمنين علیه السلام) (4) .

نعم ، فالهداية الحقيقيّة هي طريقة أهل البيت علیه السلام وهم الذين بيّنوا لنا المقصود من الهداية.

فلأمير المؤمنين علي علیه السلام .. التفاتات قيّمة عظيمة لقيمة الهداية، وهو يقول : (واقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدي واستسنّوا بسنّته فإنّها أهدى السنن ) (5) .

وعنه علیه السلام : (رحم الله امرءاً سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا) (6) .

وعنه علیه السلام: (بنا اهتديتم في الظلماء وتسنّمتم ذروة العلياء) (7) .

فالظاهر ممّا تقدّم أنّ الهداية لها معنى واحد ذو مصاديق متعدّدة، نعم ربما يكون مصداق أكمل من مصداق آخر، وهذا هو الأمر الذي يشير إلى عدم تباين التفاسير والروايات أيضاً.

ص: 35


1- تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 20 ح 86 .
2- تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 21 ح 88.
3- تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 21 ح 89.
4- تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 21 ح 90 .
5- نهج البلاغة : الخطبة 110.
6- نهج البلاغة : الخطبة 76 .
7- نهج البلاغة : الخطبة 4 .

الهداية نعمة ربّانية

الهداية توفيق من الله عزّ وجلّ وسداد إلهي .. لا يناله إلّا ذو حظّ عظيم ، لذا نجد الداعي يطلبه في هذا الشهر العظيم الذي لا تردّ فيه الدعوات الخيّرة الصادقة الخالصة .

قال أمير المؤمنين علیه السلام : (عباد الله ، إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه .. فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى) (1) .

وعنه علیه السلام أيضاً : (أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله ، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل (2) .

ثمّ يظهر من الروايات أنّ بالهداية تحيى النفس ، وبالضلالة تموت وإن كانت تسير وتمشي وتأكل وتشرب ، إذ الحياة المعنوية أهمّ من الحياة المادّية ، كما هو واضح ، ومن هنا تتبيّن أهمّية الهداية حتّى لشخص واحد ونفس واحدة .

قال تعالى: (ومن أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعاً) (3) .

وقد فسّر الإمام الصادق علیه السلام هذه الآية بقوله : ( من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها ومن أخرجها من هدى إلى ضلال فقد قتلها ) (4) .

وعن أبي بصير عن أبي جعفر علیه السلام قال : سألته عن قوله( ومن أحياها ... )قال : (من استخرجها من الكفر إلى الإيمان) (5) .

ص: 36


1- نهج البلاغة : الخطبة 87.
2- نهج البلاغة : الخطبة 201.
3- سورة المائدة : 32 .
4- الكافي : ج 2 ص 210 ح 1 باب إحياء المؤمن.
5- بحار الأنوار: ج 2 ص 21 ح 60 كتاب العلم ، ط طهران.

ثمّ يأتي هنا سؤال ، وهو مَنْ هم الذين ينعمون بتلك الهداية وذلك التوفيق العظيم؟ ومن هم المهتدون؟

علينا أن نرجع إلى الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة لمعرفة ذلك :

قال تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين ) (1) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام : ( من اعتصم بالله عزّ وجلّ هدي) (2) .

وعنه علیه السلام أيضاً : (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء ، فجال القلب يطلب الحقّ ، ثم ّهو إلى أمركم أسرع من الطير إلى وكره) (3) .

كما أنّ أصحاب اليقين والتقوى الذين يذكرون الله تعالى دائماً وفي جميع الأحوال هم أولى من غيرهم بالهداية؛ فعن أمير المؤمنين علیه السلام في صفة أهل الذكر : (فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة ومجالسهم المشهودة .. لرأيت أعلام هدى و مصابيح دجى ..) (4) .

وعنه علیه السلام في أصناف المنكرين للمنكر : ( ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين ..) (5) .

و عنه علیه السلام : ( اللّهم إن فههت عن مسألتي أو عميت - عمهت - عن طلبتي فدلّني على مصالحي، وخذ بقلبي إلى مراشدي ، فليس ذلك بنكر من هداياتك، ولا بيدع من كفاياتك) (6) .

و من مجموع هذه الروايات يمكن أن نفهم المقصود بالهداية وأن نشخّص مصاديقه وأفراده.

ص: 37


1- سورة العنكبوت: 69 .
2- بحار الأنوار: ج 69 ص 399 ح 92 كتاب الإيمان والكفر باب 38 جوامع المكارم ، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 5 ص 204 - 33 كتاب العدل والمعاد، ط طهران.
4- نهج البلاغة : الخطبة .222
5- نهج البلاغة : الحكمة 373 .
6- نهج البلاغة : الخطبة 227 .

ورد عن الإمام الصادق علیه السلام - وهو يوضح معنى الآية المباركة في قوله تعالى : (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً) (1) - (إنّ الله تبارك وتعالى يضلّ الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته ويهدي أهل الإيمان والعمل الصالح إلى جنتّه كما قال عزّوجلّ : ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾ (2) (3) .

ويشير إلى هذا المعنى أمير المؤمنين علي علیه السلام بقوله : (ألّا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل ، ومن لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى) (4) .

ولكن ما هي أفضل مصاديق الهداية؟

قال تعالى : (إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً) (5) .

وعن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام : (اعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضلّ والمحدّث الذي لا يكذب ) (6) .

وعنه علیه السلام : (من انتصح الله واتّخذ قوله دليلاً هداه للتي هي أقوم ووفّقه للرشاد وسدّده ويسره للحسنى) (7) .

وعنه علیه السلام أيضاً : (أيُّها الناس إنّه من استنصح الله وفق ، ومن اتّخذ قوله دليلاً هدي للتي هي أقوم) (8).

ويكفينا لمعرفة أهمية (الهداية) أن نعرف أنّ هذه الكلمة مع سائر صیغها ومشتقّاتها استعملت في القرآن الكريم (316) مرّة.

ولعلّ من هنا يقول الداعي : (اللهمَّ اهدني فيه لصالح الأعمال).

ص: 38


1- سورة الكهف : 17 .
2- سورة إبراهيم : 27 .
3- بحار الأنوار: ج 5 ص 199 ح 21 باب الهداية والإضلال، ط طهران.
4- نهج البلاغة : الخطبة .28
5- سورة الإسراء : 9 .
6- نهج البلاغة : الخطبة 176 .
7- بحار الأنوار: ج 77 ص 370 - 34 كتاب الروضة باب 14 ، ط طهران.
8- نهج البلاغة : الخطبة 147 .

رفيق المرء في الدارين

لماذا العمل الصالح؟

القرآن يجيب على هذا السؤال قائلاً: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) (1) .

وقال تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) (2) . ومن الواضح أنّ للعمل الأهمّية العظمى في حياة الإنسان لما يترتُب عليه من آثار إيجابية أو سلبية .. إذ بالعمل ينجو الإنسان وبه يهلك ، كما بالعمل ينال الجنّة أو النار .. فعن أمير المؤمنين علیه السلام : ( العمل العمل ، ثمّ النهاية النهاية، والاستقامة الاستقامة، ثمّ الصبر الصبر ، والورع الورع ، إنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم) (3) .

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام :( إنّ أحبّكم إلى الله عزّ وجل أحسنكم عملاً، وإنّ أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً ) (4) .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: (لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل ... يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم ويبغض المذنبين وهو أحدهم ... يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه بأكثرمن عمله ... يقصّر إذا عمل ، ويبالغ إذا سأل ... فهو بالقول مدلّ ومن العمل مقلّ) (5) .

والعمل الصالح ذخيرة المؤمن ، كما ورد عن أمير المؤمنين علیه السلام : (إنّما يستدلّ على

ص: 39


1- سورة النحل : 97 .
2- سورة طه : 75 .
3- نهج البلاغة : الخطبة 176 .
4- الكافي : ج 8 ص 68 ح 24 .
5- نهج البلاغة : الحكم 150.

الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح) (1).

وعنه علیه السلام أيضاً : فاعملوا والعمل يرفع والتوبة تنفع والدعاء يسمع والحال هادئة

والأقلام جارية) (2) .

والعمل خليل لا يفارق الإنسان حتى بعد موته ، كما ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر : (إن العمل الصالح يذهب إلى الجنّة فيمهد لصاحبه كما يبعث الرجل غلامه فيفرش له ثم قرأ: (ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون) (3) ) (4) .

والأعمال الصالحة كثيرة جداً.. ولا يمكن حصرها وبيان تفصيلها في هذا الكتاب، ولكن من أفضل الأعمال : الأعمال التي لا تنقطع فوائدها وثوابها حتى بعد وفاة صاحبها ، كما يستفاد من الروايات المأثورة ، فعن مولانا أمير المؤمنين : اعلم أنّ لكلّ عمل نباتاً وكل نبات لا غنى به عن الماء ، والمياه مختلفة ، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلّت - احلولت - ثمرته وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرت ثمرته) (5) .

پوأفضل الأعمال ما كان الله كما في الخبر عن أمير المؤمنين : (أعى العبادة إخلاص العمل) (6) .

وعنه : (أعلى الأعمال إخلاص الإيمان وصدق الورع والإيقان) (7) .

وعنه أيضاً : (إنّ النبي سأل ربه سبحانه وتعالى ليلة المعراج ، فقال : يارب أي الأعمال أفضل؟ فقال تعالى :ليس شيء أفضل عندي من التوكل علي والرضا بما قسمت) (8) .

ص: 40


1- نهج البلاغة : الكتاب 53 .
2- نهج البلاغة : الخطبة 230 .
3- سورة الروم : 44 .
4- بحار الأنوار: ج 71 ص 185 ح 46 باب 64 ، ط طهران.
5- نهج البلاغة : الخطبة 154
6- غرر الحكم : الفصل الثامن ح489 .
7- غرر الحكم : الفصل الثامن ح547 .
8- إرشاد القلوب : ص 199.

بين العمل الصالح والطموح

وكذلك ورد عنه علیه السلام :( أفضل الأعمال ما أكرهت عليه نفسك) (1) .

و عن الإمام الصادق علیه السلام:( العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين) (2) .

وكلّ الأعمال الصالحة التي أمرنا بها الرسول صلی الله علیه و آله وجميع الأعمال غير الصالحة

التي نهى عنها قد وضّحها علیه السلام في سنّته وبيّنها فلا حجّة على العباد أقوى من ذلك ... فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطب وهو في حجّة الوداع: (يا أيها الناس والله ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه) (3).

والأعمال بأجمعها تعرض على الله تعالى، كما تعرض على الرسول صلی الله علیه و آله أيضاً وتعرض على الأئمة علیه السلام .. قال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئّكم بما كنتم تعملون ) (4) .

وعرض الأعمال يكون في طول السنة ، حتّى في الأيّام العادية غير أيّام شهر رمضان فكيف بهذا الشهر العظيم الذي يشتمل على ليلة القدر، شهر الطاعة والغفران الذي فيه تتفتّح أبواب الجنّة وتوصد أبواب النار .

عن أمير المؤمنين علیه السلام :( تعرض الأعمال على رسول الله علیه السلام أعمال العباد كلّ صباح أبرارها وفجّارها، فاحذروها وهو قول الله تعالى: (اعملوا فسيری الله عملكم ورسوله ) (5) ) (6) .

فلابدّ من العمل الصالح الذي يسرّ به النبي صلى الله علیه و آله...والأعمال الصالحة في هذا الشهر كثيرة لا تعدّ ولا تحصى ولكن من أهمّها:

ص: 41


1- بحار الأنوار: ج 75 ص 69 ح 20 باب 16 ، ط بيروت .
2- بحار الأنوار: ج 71 ص 214 ح 10 ، باب 66 ، ط طهران .
3- الكافي : ج 2 ص 74 ح 2 ، باب الطاعة والتقوى.
4- سورة التوبة : 105 .
5- سورة التوبة : 105 .
6- الكافي : ج 1 ص 219 ح 1 باب عرض الأعمال على النبي علیه السلام.

الصلاة والذكر وتلاوة القرآن والكلام الطيّب والإنفاق والتصدّق والسعي في فعل جميع أوجه الخير ، فأبواب الجنّة مشرعة وهنيئاً للعاملين المخلصين.

العمل الصالح ذخيرة

ذكرنا أنّ العمل الصالح ذخيرة الإنسان كما جاء في حديث أمير المؤمنين علیه السلامالسابق وكما قال علیه السلام :

(إنّ العبد إذا كان في آخر يوم من أيّام الدُّنيا وأوّل يومٍ من أيام الآخرة ، مثل له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى ماله فيقول : والله إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟

فيقول: خذ منّي كفنك .

قال : فيلتفت إلى ولده فيقول : والله إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فما لي عندكم؟

فيقولون : نؤويك إلى حفرتك فنواريك فيها .

قال : فيلتفت إلى عمله فيقول : والله إنّي كنت فيك لزاهداً وإنّك كنت عليَّ ثقيلاً .

فمالي عندك؟

فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم نشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك) (1). قال علیه السلام: (فإن كان لله وليّاً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً ، فقال : ابشر بروح وريحان، وفيه نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ارتحل من الدُّنيا إلى الجنّة) (2) .

وقد أحسن الشاعر بقوله :

والناس همّهم الحياة ولا أرى ***طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ***ذخراً يدوم كصالح الأعمال

ص: 42


1- الوافي : ج 13 ص92.
2- الوافي : ج 13 ص92.

وممّا تقدّم يفهم أنّ على الإنسان أن يسعى إلى الطاعة والعمل الصالح ويسأل الله سبحانه أن يهديه إليها ويوصله إليها ، لأنّ الشيطان يقف للإنسان بالمرصاد ليحول بينه وبين الطاعة، ولذا فإنّ العمل الصالح بحاجة إلى تسديد وتوفيق إلهي .

ومن هنا يتبيّن فلسفة هذا الدعاء الوارد في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك.

ومعلوم أنّ الإنسان الذي حظي بالطاعة والعمل الصالح سيكون قريباً من الله سبحانه مؤدّياً لحقّ العبودية، لذا يطمع في أن يستجيب الله سبحانه حوائجه ويحقّق له آماله ورغباته فلذا يقف مبتهلاً يسأل الله سبحانه قائلاً: (واقض لي فيه الحوائج والآمال).

وممّا لا شك فيه أنّ لكلّ منّا كثيراً من الحوائج ، وهذه الحوائج لا تنقضي وهذه الطلبات لا تنتهِی لأنّنا فقراء محتاجون إلى الله تعالى وسنبقى كذلك . قال تعالى : (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنىّ الحميد )

(1) .

فعلى المؤمن أن لا يسأل غير الله ولا تذهب به حاجاته إلى هذا وذاك ، بل يلجأ إلى الله في أُموره كلّها فهو الوحيد القادر على قضائها بلا منّة .

نعم الله عباد صالحون يقومون بأمر عباده حسبة له سبحانه وقربة إليه ، فإنّ الذهاب إلى هؤلاء لا بأس به، حيث إنّ الله سبحانه جعل نظام الكون والخلق وأمر المعاش والمعاد يجري على قاعدة الأسباب والمسبّبات.. ومن هنا ورد في الشرع المقدّس استحباب قضاء حوائج الناس والسعي إليها.. وهذه روايات أهل البيت علیه السلام قد ملأت الآفاق في هذا الصدد:

فقد ورد عن الإمام الكاظم علیه السلام : ( إنّ الله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس هم الأمنون يوم القيامة) (2) .

وعن الإمام الباقر علیه السلام : (من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له

ص: 43


1- سورة فاطر : 15.
2- بحار الأنوار: ج 74 ص 319 ح 84 باب 20، ط طهران .

ألف ألف حسنة) (1) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام في حديث طويل: (لأن أسعى مع أخ لي في حاجة حتّى تقضى أحبّ إليَّ من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل على ألف فرس في سبيل الله مسرجة ملجمة (1) .

وعن رسول الله علیه السلام : ( من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة ( آلاف سنة صائماً نهاره قائماً ليله ...) (2) .

والله سبحانه وتعالى ينظر إلى سؤال العبد وصاحبه الذي يدعوه فإن كان من الذين يسعون في قضاء حوائج إخوانه فإنّه سبحانه يستجيب دعاءه ويقضي حاجته أيضاً، وأمّا إذا كان العكس - والعياذ بالله - فلعلّ الله سبحانه يتركه وشأنه ولا يلبّي حاجته ، ومن هنا ورد عن مولانا الصادق علیه السلام : ( من كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه) (3) .

بل ويعدّ قضاء حوائج الناس من أفضل المقرّبات إلى الله سبحانه حتّى يصبح فيها العبد من أحبّ الخلق إلى الله سبحانه ، كما ورد في الخبر عن مولانا الصادق علیه السلام : (قال الله عزّ وجلّ : الخلق عيالي ، فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم) (4).

وعنه علیه السلام : ( في قوله تعالى : واجعلني مباركاً أينما كنت ) (5) أي نفاعاً) (6) .

و عنه علیه السلام أيضاً في السعي في قضاء حاجة الناس : (من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله حتّى تقضى له كتب الله عزّ وجلّ له بذلك مثل أجر حجّة وعمرة مبرورتين وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام،

ص: 44


1- الكافي : ج 2 ص 197 ح 6 باب السعي في حاجة المؤمن .
2- بحار الأنوار: ج 74 ص 315 ح 72 باب 20، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 71 باب قضاء حاجة المؤمن ص 286 ح 11 باب 20 ، ط بیروت .
4- الكافي : ج 2 ص 199 ح 10 باب السعي في حاجة المؤمن.
5- سورة مريم: 31.
6- الكافي : ج 2 ص 165 ح 11 باب الاهتمام بأمور المسلمين.

ومن مشى فيها بنيّة ولم تقض كتب الله له بذلك مثل حجّة مبرورة) (1).

وعنه علیه السلام : (فإنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل الله عزّ وجلّ به ملكين ، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته) (2) .

وروي : (إنّ عابد بني إسرائيل كان إذا بلغ الغاية في العبادة صار مشاءً في حوائج الناس) (3).

وعن الإمام الصادق علیه السلام : ( ما قصى مسلم المسلم حاجة إلّا ناداه الله تبارك وتعالى: عليَّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنّة) (4) .

وعن الإمام الكاظم علیه السلام: ( إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلا لم يقبل منكم عمل) (5) .

وفي بعض الأخبار إنّ قضاء حاجة المؤمن أفضل من سبعين حجّاً وفي بعضها ألف حجّ.

فعن الإمام الباقر علیه السلام: (لأن أعول أهل بيت من المسلمين أسدّ جوعتهم و أكسو عورتهم فأكفّ وجوههم عن الناس ، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة ومثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها حتّى أبلغ السبعين) (6) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام:( قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجّة متقبلة بمناسكها وعتق ألف رقبة لوجه الله وحُملان ألف فرس في سبيل الله بسُرجها ولُجمها) (7) .

ص: 45


1- الكافي : ج 2 ص 194 ح 9 باب قضاء حاجة المؤمن.
2- الكافي : ج 2 ص 195 ح 10 ب- 1 باب قضاء حاجة المؤمن.
3- الكافي : ج 2 ص 199 ح 11 باب السعي في حاجة المؤمن .
4- الكافي : ج 2 ص 194 ح 7 باب قضاء حاجة المؤمن.
5- بحار الأنوار: ج 75 ص 379 ح 40 باب 82، ط طهران.
6- الكافي : ج 2 ص 195 ح 11 باب قضاء حاجة المؤمن .
7- أمالي الصدوق : ص 197 ح 1 المجلس 42.

لذا ينبغي علينا في هذا الشهر الكريم .. شهر المحبّة والإحسان واللطف بين العباد ، أن نهتم لقضاء حوائج إخواننا مهما أمكن...

فليس من كمال الإيمان ولا الإسلام أن يعيش المسلم شبعاناً وإخوانه جياعاً أو يمكنه أن يساهم في بناء أُسرة صالحة لغيره العاجز عنها لضعف مالي أو أي اعتبار آخر ولا يساهم في بنائها.

ومعلوم أنّ المقصود من الحوائج هنا أعمّ من المادّية والمعنوية ، فإنّ من يحتاجك إلى شراء كتاب ليقرأ، أو طباعة كتاب، أو بناء مؤسسة خيرية ، أو الوساطة له في عمل خير ، أو غير ذلك ، هذه أيضاً تعدّ من الحوائج ، وينبغي على المؤمن أن يسعى في قضائها حسب قدرته واستطاعته فإنّ الله سبحانه ينظر إلينا وإلى أعمالنا، فإذا كنّا نتعامل مع الناس ومع الدين وترويجه بنظرة التعاطف والرحمة والسعي بسدّ النواقص وحلّ المشاكل فإنّه تبارك وتعالى يتعامل معنا مثلما نتعامل نحن مع غيرنا إذ ورد في الخبر : (بالرحمة تستنزل الرحمة ) (1) . وأمّا إذا كنّا لا مبالين تجاه الأُمور ، ولا نهتمّ إلّا بأنفسنا وحوائجنا، فإنّ الله سبحانه يتركنا وما نريد ويقابلنا أيضاً بما نستحقّ.

وعن الإمام الصادق علیه السلام:( أيما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر ، ابتلاه الله عزّ وجلّ بأن يقضي حوائج عدوّ من أعدائنا يعذّبه الله عليه يوم القيامة) (2) .

وهذا الحديث يعبّر عن فكرة حاصلها أنّ الإنسان إذا لم يقض حاجة أخيه ابتلاه الله بقضاء حاجة عدوّه ، فهذا الارتباط وهذه العلقة هي من سنن الله في الحياة وفي الاجتماع، وعلى الإنسان أن لا يتجاوزها.

وعن الإمام الباقر علیه السلام : ( أيما مسلم أتى مسلماً زائراً أو طالب حاجة وهو في منزله فاستأذن له ولم يخرج إليه ، لم يزل في لعنة الله عزّ وجلّ حتّى يلتقيا) (3) .

ص: 46


1- تصنيف غرر الحكم و درر الكلم : باب الرحمة .
2- ثواب الأعمال : ص 249 .
3- الكافي : ج 2 ص 365 ح 4 باب من حجب أخاه المؤمن .

وعن الإمام الصادق : (إنّ الرجل ليسألني الحاجة فأُبادر بقضائها مخافة أن يستغني عنها فلا يجد لها موقعاً إذا جاءته) (1).

يقال : إنّه كان ببلاد الهند شيخ كبير يعبد صنماً دهراً طويلاً ثمّ حصل له أمر أهمّه، فاستغاث بالصنم فلم يغثه ، فقال : أيّها الصنم ارحم ضعفي ، فقد عبدتك دهراً طويلاً، فلم يجبه ، ، فانقطع عند ذلك رجاؤه منه ، ونظر إلى السماء فخطر على قلبه أن يدعو الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فرمق بطرفه نحو السماء وقد وقع في الخجل ، وقال : يا صمد، فسمع صوباس الهواء يقول : لبيك يا عبدي اطلب ما تريد؟ فقالت الملائكة : إلهنا دعا صنمه دهراً طويلاً فلم يجبه ودعاك مرّة واحدة فأجبته، فقال : يا ملائكتي إذا دعا الصنم لم يجبه ودعا الصمد فلم يجبه فأيّ فرق بين الصنم وبين الصمد (2).

ص: 47


1- عيون أخبار الرضاء علیه السلام : ج 2 ص 179 ح 2 باب 44 أخلاق الإمام الرضاء علیه السلام.
2- نزهة المجالس : ج 1 ص 20 .

سَلْ هؤلاء

نعم إنّ الإنسان قد يتعرّض إلى بعض الظروف الصعبة التي تلجئه إلى سؤال بعض إخوانه وأصدقائه فلا بأس بذلك إلّا أنّه عليه أن يعرف من يسأل وإلى أين يذهب في حاجته ، والإمام الحسين علیه السلام يفصّل بدقّة عن ذلك ويعطينا منهجاً تربوياً عظيماً في أدب طلب الحاجة حيث يقول علیه السلام : (لا ترفع حاجتك إلّا إلى أحد ثلاثة : إلى ذي دين أو مروّة أو حسب ، فأمّا ذو الدين فيصون دينه ، وأمّا ذو المروّة فإنّه يستحي لمروّته ، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك)) (1) .

وهناك بعض الناس في المجتمع يتعاملون مع الآخرين بقساوة وغلظة فلا يتعاطفون ولا يحنّون ولا يرحمون، أولئك هم شرار الخلق كما جاء في بعض الروايات ، لذا لا يصحّ أن يجعلهم الإنسان موضعاً لحاجته ومطمحاً لآماله أبداً ...

فعن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام :( اللّهمَّ لا تجعل بي حاجة إلى أحدٍ من شرار خلقك ، وما جعلت بي من حاجة فاجعلها إلى أحسنهم وجهاً وأسخاهم بها نفساً وأطلقهم بها لساناً وأقلهم عليّ بها مناً) (2) .

إذا الأفضل للمؤمن أن يسأل ربّه فقط ويعود إليه في حاجاته وطلباته، والله سبحانه يحبّ هذه الصفة في العبد ويريدها، فقد ورد عن مولانا الباقر علیه السلام : (اتّخذ الله عزّ وجلّ إبراهيم علیه السلام الخليلاً لأنّه لم يرد أحداً ولم يسأل أحداً غير الله) (3) .

ص: 48


1- تحف العقول: ص 178 في قصار مواعظ الإمام الحسين علیه السلام .
2- بحار الأنوار: ج 78 ص 56 ح 111 كتاب الروضة باب 16 ، ط طهران .
3- علل الشرائع : ص 34 ح 2 .

فإنّ الإنسان إذا سأل العبد فهو يحتاج إلى بذل ماء وجهه عادةً ببيان حاجته وذكرها وربّما ذكر أسبابها وتفسيرها وغير ذلك ، وهذا أمر قد يصعب على الكثير من ذوي المروءات والكرامات .

أمّا إذا سأل العبد ربّه تبارك وتعالى فإنّه في نفس الوقت الذي يسأل ربّه يعيش الكرامة والاحترام والشعور بالكمال ، لأنّ الله سبحانه هو موضع حاجات الطالبين وهو الرؤوف الودود وهو العالم بحاجات العبد وبسؤاله والقادر عليها كما قال إبراهيم علیه السلام وهو في لهوات النار عندما جاءته الملائكة مبعوثة من قبل الله سبحانه لتنقذه من شدّته وقالوا له : سَلْ ما تُريد، أجاب علیه السلام بلسان العارف بالله العابد له والراضي بأمره في كلّ الأحوال : ( علمه بحالي يُغني عن سؤالي)، وبهذا الكلام يعبّر إبراهيم الخليل عن ذروة العبودية والخضوع الله ، وهنا جاء الخطاب من الله مباشرةً (يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (1) .

فالمؤمن إذا لجأ إلى الله سبحانه فإنّ الله لا يحتاج إلى السؤال ولا إلى بيان تفسيره وذكر أسبابه بل هو مع العبد أينما كان وأينما حلّ ويعلم ما يخفي وما يُعلن ، نعم ورد في الروايات أنّ الله يحب العبد اللحوح ، فعن أبي عبدالله وأبي جعفر قالا : (والله ما يلح عبد على الله إلا استجاب له) (2) . .

ولكن مع ذلك كلّه جاءت الفقرة التالية في الدعاء قائلة : ( يا من لا يحتاج إلى التفسير والسؤال ، يا عالماً بما في صدور العالمين)، وقد أشارت الروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام إلى العديد من الموارد التي يقضي الله سبحانه فيها حاجات العباد بلا سؤال وطلب .

فعن رسول الله علیه السلام قال : ( قال الله تعالى : من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين) (3). وعنه علیه السلام : ( من شغلته عبادة الله عن مسألته أعطاه الله

ص: 49


1- سورة الأنبياء : 69.
2- مكارم الأخلاق : ص 269 فيما جاء في فضل الدعاء .
3- بحار الأنوار: ج 3 ص 323 ح 36 باب 17 ، ط طهران.

أفضل ما يعطي السائلين)(1).

وعن الإمام الصادق علیه السلام :( إنّ العبد ليكون له الحاجة إلى الله عزّ وجلّ فيبدأ بالثناء والصلاة على محمّد وآل محمّد حتّى ينسى حاجته فيقضيها الله له من قبل أن يسأله) (2) .

وعن أبي حمزة: (إنّ الله أوحى إلى داود علیه السلام : يا داود إنّه ليس عبد من عبادي يطيعني فيما أمره إلّا أعطيته قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني) (3) .

و عن فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين علیه السلام : ( من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عزّ وجلّ له أفضل مصلحته) (4) .

وممّا تقدّم يعرف أنّ العبد الذي يطيع ربّه ليس يحظى بفوز الآخرة فقط بل حتّى في الدنيا، فإنّ حاجاته تكون مقضية ومصالحه منتظمة وأمر معاشه على حسب ما يرام بل وأفضل من ذلك وأرقى، كما في خبر الصدِّيقة الطاهرة علیه السلام : (أهبط الله عزّ وجلّ له أفضل مصلحته) ، وفي القرآن الكريم إشارة إلى هذا المعنى ، قال تعالى: ﴿ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب) (5) .

يتصوّر البعض أنه بطريق الحرام يتمكّن أنّ يحصل على أفضل المغانم، وبالمال الحرام يتمكّن أن يتاجر أربح التجارات إلّا أنّه في اشتباه كبير ، نعم صحيح أنّ العمل بيد الإنسان إلّا أنّ الرزق ليس بيده بل بيد الله سبحانه يرزق من يشاء من عباده وكلّما كان العبد في الطاعة كان رزقه أفضل ، هذا أولاً ..

وثانياً: حتى لو كان لمن يعمل المعاصي ربح وتجارات وأموال إلّا أنّه قد يبتلى ببعض الابتلاءات التي تنغص عليه عيشه وتذهب ببركة أمواله وتجارته ، وليس كذلك المؤمن لذا ينبغي على الإنسان أن يعقد عقوده مع الله سبحانه ويتاجر معه فإنّه أضمن

ص: 50


1- بحار الأنوار: ج 93 ص 342 ح 11 باب 21، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص 342 باب 21، ط طهران .
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 376 ح16 باب 24 ، ط طهران.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر : ج 2 ص 108 .
5- سورة الطلاق: 2 و 3.

بين العمل الصالح والطموح

لدنياه وأضمن لآخرته وأحفظ لماء وجهه وكرامته ..

ولعلّ في أبيات الشاعر (1) خير تصوير لما تطرقنا إليه .. يقول فيها :

راح يقوى على المدى أيماني***فبربي قد امتلأ وجداني

قيل لى هل عرفته بدليل***شهدته هدته أو عيان؟

قلت كلّا إيمان قلبي أقوى***من دعاوي الحواس والبرهان

واضح لي وضوح روحي وعقلي***ماثل في مداركي ككياني

رمز الوجود سر التجلّي***وهو روح الأكوان معنى المعاني

كلّما عفته رجعت إليه***کرجوع الأفياء للأغصان

فاعتقادي بالله روح وجودي***وجحودي له انتحار ثاني

مسك بي وإن تخليت عنه***حافظ لى وإن تركت عناني (2)

ص: 51


1- هذه الأشعار للشاعر المعروف أحمد شوقي.
2- نزهة المجالس : ج 1 ص 20.

الصلوات على النبّي وآله

ثمّ يقول الداعي : (صلّ على محمّد وآله الطاهرين) فإنّ من أفضل الأعمال وأكثرها ثواباً الصلاة على محمّد وآل محمّد، قال تعالى في كتابه الكريم :( إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) (1) .

وقد وردت روايات كثيرة عن الفريقين في فضل ذلك وفي كيفية الصلاة على النبي صلی الله علیه و آله، فهذا ابن حجر الهيتمي في كتابه( الصواعق المحرقة) قد أفرد باباً لذلك تحت عنوان : باب مشروعية الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على مشرفهم صلی الله علیه و آله وقال : صح : ( يارسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال : قولوا : اللّهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، الحديث).

وفي بقيّة الروايات : (كيف نصلّي عليك يارسول الله؟ قال : قولوا : الّلهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) ، الحديث.

وجاء عن واثلة قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله لمّا فاطمة وعليّاً والحسن والحسين تحت ثوبه : الّلهم قد جعلت صلاتك ومغفرتك ورحمتك ورضوانك على إبراهيم وآل إبراهيم إنّهم منّي وأنا منهم فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليَّ وعليهم . الحديث.

وأخرج الدارقطني والبيهقي : (من صلّى صلاة ولم يصلِّ فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه ). وكأن هذا الحديث مستند قول الشافعي : أنّ الصلاة على الآل من واجبات الصلاة كالصلاة عليه صلی الله و آله، فمستنده الأمر في الحديث المتّفق عليه قولوا: (الّلهمَّ صلَّ على

ص: 52


1- سورة الأحزاب : 56 .

محمّد وعلى آل محمّد)، والأمر للوجوب حقيقة على الأصحّ . انتهى (1) .

يقول الشافعي إمام الشافعية :

یا آل بيت رسول الله حبّكم ***فرضُ من الله في القرآن أنزله

يكفيكم من عظيم القدر أنّكم ***من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له

وله أيضاً :

إذا في مجلس ذكروا عليّاً ***وابنيه وفاطمة الزكية

فأجرى بعضهم ذكرا بنیه *** تشاغل بالروايات العلية

وقال: تجاوزوا یا قوم هذا *** فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن أُناس ***يرون الرفض حبّ الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربّي ***ولعنته لتلك الجاهلية

و عن أبي عبدالله الصادق علیه السلام قال : ( ما من عمل يوم الجمعة أفضل من الصلاة على محمّد و آله) (2).

وعنه علیه السلام: (الصلاة على محمّد وآله ليلة الجمعة بألف من الحسنات، ويحطّ الله فيها ألفاً من السيّئات ويرفع فيها ألفاً من الدرجات، وأنّ المصلّي على النبيّ وآله في ليلة الجمعة يزهر نوره في السماوات إلى يوم الساعة وأنّ ملائكة الله عزّ وجلّ في السماوات ليستغفرن له ويستغفر له الملك الموكّل بقبر رسول الله صلی الله علیه و آله إلى أن تقوم الساعة) (3)

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله العلي علیه السلام : (إنّ الرجل من أُمتي إذا صلّى عليّ وأتبع بالصلاة أهل بيتي فتحت له أبواب السماء الدّنيا وصلّت عليه الملائكة سبعين صلاة ، وأنّه لمذنب خطي تحات عنه الذنوب كما تحات الورق عن الشجر، ويقول الله تبارك وتعالى : لبّيك عبدي وسعديك ، يا ملائكتي أنتم تصلّون عليه سبعين صلاة وأنا أُصلّي

ص: 53


1- راجع الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي الشافعي ، باب مشروعية الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على مشرفهم.
2- الخصال: ص 394 باب السبعة ح 101.
3- المقنعة : ص 156 باب العمل في ليلة الجمعة .

عليه سبعمائة صلاة ، وإذا لم يتبع بالصلاة على أهل بيتي كان بينها وبين السماء سبعون حجاباً، ويقول الله : لا لبّيك ولا سعديك ، يا ملائكتي لا تصعدوا دعاءه إلّا أن يلحق بالنبي صلی الله علیه و آله عترته علیه السلام ، فلا يزال محجوباً حتّى يلحق بي أهل بيتي) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( أنا عند الميزان يوم القيامة ، فمن ثقلت سيّئاته على حسناته

جئت بالصلاة عليَّ حتّى أثقل بها حسناته) (2) .

وفي الختام نسأله عزّ و جلّ أن يصلّي على محمّد وآل محمّد وأن يقضي حوائجنا وما في صدورنا إنّه سميعٌ مجيب.

ص: 54


1- تأويل الآيات الظاهرة : ص 452 .
2- تأويل الآيات الظاهرة : ص 453 .

من بركات الأسحار

18

دعاء اليوم الثامن عشر

اشارة

اللهُمَّ نَبِّهُنِي فِيهِ لِبَرَكَاتِ أَسْحَارِهِ، وَنَوِّرٌ فِيهِ قَلْبِي بِضِياءِ أَنْوَارِهِ،وَخُذْ بِكُلِّ أَعْضَانِي إِلَى اتَّبَاعَ آثَارِهِ بنُوركَ يا مُنَوِّرَ قُلُوب العارِفِينَ.

البلد الأمين : ص 308، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا به أُعطي ثواب ألف نبي).

ص: 55

ص: 56

معنى بركات الأسحار

ما هي الأسحار ؟

وهل لها بركات؟

ولماذا يطلب الداعي من الله سبحانه أن ينبهه في الأسحار حتّى لا تضيع بركاتها؟! هذا ما سنتطرق إليه بشكل موجز في هذا البحث.

الأسحار : من السَحَر ، وفي الأصل : هي التغطية والإخفاء ، ولمّا كانت الساعات الأخيرة تغطّي كلّ شيء بستار خاصّ، فقد سمّيت بالسَحَر ....

والسحر : بكسر السين من المادّة نفسها، لأنّ الساحر يقوم بأعمال تخفى أسرارهاعلى الآخرين ...

وقد يطلق العرب اسم (السحر) على الرئة لاختفاء ما فيها (1) ....

وللأسحار أهمّية خاصّة في العبادة والتهجّد وخصوصاً بالنسبة للدعاء ، ويستفاد من الأخبار أنّ وقت السحر من أفضل أوقات الدعاء ، لأنّه يتمتع بمزايا وصفات منها : 1 - هي - الأسحار - الوقت الخاصّ للراحة الذي يأخذ فيه الإنسان حظّه من النوم (حيث جعل الليل وقتاً للراحة والسبات من مشاقّ العمل اليومي ... والاستعداد للنهوض لأداء متطلّبات الحياة اليومية في صباح الغد... ).

قال تعالى : (وجعلنا نومكم سباتاً *وجعلنا الليل لباساً *وجعلنا النهار معاشا )(2). فالذي ينهض سحراً للعبادة يكون قد جاهد نفسه جهاداً كبيراً حتّى يتمكّن أن يقاوم النعاس والنوم.. ولهذا فإنّ أهل السحر ينبغي أن يتمتعوا بحبّ عميق وشوق كبير

ص: 57


1- راجع مجمع البحرين : مادّة سحر .
2- سورة النبأ 9 - 11 .

إلى العبادة يدفعهم نحو مقاومة الراحة والخلود إلى النوم ولذلك يحظون أيضاً بمقامات محمودة لا ينالها غيرهم.

2 - للأسحار جوانب معنوية مهمّة : فإنّ رهبة الليل وسكونه تلقي بظلالها على النفس فيبقى الإنسان وحيداً لا شاغل يشغله وحينئذٍ يناجي ربّه بكلّ هدوء ويستغفر من ذنوبه ..

وقد ذكر القرآن الحكيم كلمة (الأسحار ) مرّتين وجعلها رابحة وناجحة، متضمنّة للبركة والقبول للدعاء والاستغفار والعبادة والمناجاة ... فقال تعالى عنها وعن :(أصحابها كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون *وبالأسحار هم يستغفرون)(1).

ولا بأس هنا بأن نلقي بعض الضوء على هذه الآية المباركة ، لنعيش شيئاً من جوّها العطر ونرى ماذا يفعل هؤلاء الذين يقومون الليل ولا يهجعون ...

فإنّ ( يهجعون) : مشتقّة من الهجوع ومعناه النوم ليلاً .. قال بعض المفسِّرين : إنّ هذا التعبير يدلّ على أنّهم كانوا يقظين يحيون أكثر الليل أو يحيون الليل بكامله ولا ينامون إلا قليلاً ..

أو أنّهم في أكثر الليالي يقظون منشغلون بالعبادة وصلاة الليل. أما الليالي التي يرقدون فيها حتّى مطلع الفجر .. وتفوت عليهم العبادة فيها كلّياً فهي قليلة جداً ... (2).

وهذا التفسير منقول عن الإمام الصادق علیه السلام حيث يقول عنهم : (كانوا أقلّ الليالي تفوتهم لا يقومون فيها ..) (3) .

وقال تعالى في سورة الذاريات: (وبالأسحار هم يستغفرون .. )(4).

وقال تعالى سبحانه في سورة آل عمران: (والمستغفرين بالأسحار) (5)

نعم، في أواخر الليل.. وعند السحر .. أي عندما يسود الهدوء والصفاء، وحين

ص: 58


1- سورة الذاريات : 17 - 18 .
2- راجع تفسير الطبرسي : ج 5 ص 155 .
3- راجع تفسير الطبرسي : ج 5 ص 155 .
4- سورة الذاريات : 18 .
5- سورة آل عمران: 17 .

يغطّ الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادي.. يقوم ذوو القلوب الحية اليقظة فيذكرون الله ويطلبون المغفرة منه ... وهم ذائبون في حبّ الله وجلاله حيث تلهج ألسنتهم بذكر الله. يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : (واجعل لساني بذكرك لهجا) (1) .

فكل ذرّة من وجودهم.. توحد الله وتذكره ..!

نعم، ينهضون ويقفون بين يدي الله عزّوجلّ ويعربون له عن حاجتهم وفاقتهم يصفون أقدامهم ويصلّون ويستغفرون ..

يا لها من لحظات عظيمة وساعات مباركة !

وعن النبي صلی الله علیه وآله قال : (إنّ آخر الليل في التهجّد أحبّ إليَّ من أوّله .. لأنّ الله يقول : (وبالأسحار هم يستغفرون)(2) (3) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام يقول : (كانوا يستغفرون الله في الوتر سبعين مرّة في السحر) (4) .

إذاً هناك بركة خاصة في الأسحار ، ولعله من هنا قال تعالى : (إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر) (5) ، فكان النجاة في السحر.

وعن الإمام الصادق علیه السلام أيضاً : (من قال في آخر صلاة الوتر في السحر : (أستغفر الله وأتوب إليه) سبعين مرّة ، وداوم على ذلك سنة كتبه الله من المستغفرين بالأسحار ) (6).

ربما يخطر على البال السؤال التالي : لماذا يُشار إلى السحر) من بين جميع ساعات الليل والنهار مع أنّ الاستغفار وذكر الله مطلوبان في كلّ وقت؟

ص: 59


1- مفاتيح الجنان : دعاء كميل .
2- سورة الذاريات : 18 .
3- الدر المنثور : ج 6 ص 113.
4- مجمع البيان: ج 9 ص 155 .
5- سورة القمر : 34 .
6- بحار الأنوار: ج 84 ص 205 و 206 ح 14 ط 2 / 1983 بيروت.

والجواب : لأنّ تلك الساعات .. هي التي يحرز فيها التوجه نحو الله تعالى بشكل أفضل ، باعتبار أنّ هذه الساعات يتوفّر فيها الاستعداد المناسب لبيان الحاجة مع حضور القلب وصفاء الفكر وانصراف الذهن إليه سبحانه لا إلى غيره .

وقد أشار عزّ وجلّ إلى أهمية حضور القلب في آيات القرآن الكريم مراراً، وخصوصاً الآيات التي يذكر فيها الصلاة .. باعتبارها أبرز مظهر من مظاهر العلاقة مع الله تعالى..

قال عز وجل : (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (1) .

ص: 60


1- سورة (المؤمنون): 2.

صلاة الليل

ومن أهم الأعمال في الأسحار : صلاة الليل .. فهي صلاة المحبين العاشقين ..!!

صلاة الليل من الصلوات المسبة والنافلة إلّا أن القرآن عدها وسيلة لبلوغ المقام المحمود عند الله سبحانه يلازم كثيراً من الخيرات والبركات، ومنها الدعوة المستجابة والعبادة المقبولة.

قال تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً) (1) .

وتهجد (2) : على وزن تفعل، فإنّها تعني إزالة النوم والانتقال إلى حالة اليقظة ... وهي إشارة واضحة إلى صلاة الليل .. حيث يقال المتهجد للذي يصلي صلاة الليل ...

فيحثّ القرآن على صلاة الليل ، ويقول : نافلة لك علاوة على الفرائض اليومية حيث الآية تعني الرسول الأكرم صلی الله علیه وآله كمصداق ، أكمل ، وكما ذكره الفقهاء فإنّ وجوب صلاة الليل والتهجد كان من اختصاص رسول الله صلی الله علیه وآله أنّ دلالة هذه الآية على رجحان صلاة الليل لا تختص به الا الله لأنّ المورد لا يخصص الوارد كما يقول به الأصوليون ، فجميع الناس بحاجة إلى صلاة الليل.

وعلى العموم .. فهي برنامج روحي رفيع .. ينال صاحبه المقام المحمود، والمقام المحمود على بعض الآراء هو مقام القرب والدنو إلى ساحة الربوبية، وقد أشارت بعض الروايات المستفيضة عن أهل البيت الا إلى تفسير المقام بمقام الشفاعة الكبرى . حيث إن النبي عل له هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم.

ص: 61


1- سورة الإسراء : 79 .
2- معجم مقاييس اللغة : ج 6 ص 32 باب هجد.

قال تعالى : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) (1) .

وفي رواية عن أبي جعفر حيث قال لأحد أصحابه : (إن شئت أخبرتك بأبواب الخير ؟ قال : نعم جعلت فداك . قال : الصوم جُنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل يذكر الله ، ثم قرأ: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) (2) ) (3) .

وروي عن معاذ بن جبل قال بينما نحن مع رسول الله صلی الله علیه وآله في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرق القوم ، فإذا رسول الله أقربهم مني فدنوت منه فقلت: يارسول الله صلی الله علیه وآله ، أنبئني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، فان الله : ( لقد سألت : عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه؛ تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة ، وتصوم شهر رمضان) (4) ، وقرأ الحديث الأنف.

دخل ضرار بن ضمرة الضبابي - وهو من أصحاب الإمام أمير المؤمنين - على معاوية فسأله أن يصف عليا فذكر ضرار جانباً من صفات الإمام في الليل ووصف قيامه وصفاً جعل معاوية على ما فيه من قساوة القلب والعداء يبكي على الإمام وتسيل دموعه وهو يقول : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك ... قال ضرار : (وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قائم في محرابه قابض بيده على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول : يا دنيا .. يا دنيا إليك عنِّي ، أبي تعرّضت أم إليَّ تشوّقت .. هيهات هيهات لا حان حينك ، غرّي غيري .. لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، عيشك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير .. آه .. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وعظيم المورد .. (5) .

إن ساعات السحر هي ساعات لقاء الحبيب بحبيبه !! ساعات العبادة.. وفي

ص: 62


1- سورة السجدة : 16 .
2- سورة السجدة: 16 .
3- سوره السجدة:16.
4- تفسير نور الثقلين : ج 4 ص 229 33 .
5- نهج البلاغة : ج 4 ص 16 ، الشيخ محمد عبده .

الحقيقة لا ينال هذا التوفيق إلا ذو حظ عظيم!! حيث الأرواح زكية، والأذهان صافية خالية من منغصات الحياة اليومية وتعبها.

وهكذا استمرّ علماؤنا الأعلام على نهج أئمتنا الكرام ، فيقومون في جوف الليل لمناجاة ربهم ، وهذا الشهيد الأول (1) من تلك الكوكبة النورانية فقد ورد في کتاب شهداء الفضيلة هذه الأبيات منسوبة للشهيد الأول وهو يناجي ربه، يقول فيها :

عظمت مصيبة عبدك المسحين***في نومه عن مهر حور العين

الأولياء تمتعوا بك في الدجى***بتهجد وتخشعٍ وحنين

فطردتنى من قرع بابك دونهم***أترى لعظم جرائمي سبقوني

أو وجدتهم لم يذنبوا فرحمتهم***أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني

إن لم يكن للعفو عندك موضع***للمذنبين فأين حسن ظنوني

صلاة الليل وأثرها على الإنسان

صلاة الليل هي عبادة روحية .. ذات برامج عالية المضامين وجمة الفوائد للإنسان .. حيث إنّها تتمتّع بنكهة تربوية خاصة ، فإنّ الليل هو المصفاة لسائر أعمال اليوم.. لذا كان النبي عل الله يحث المسلمين على المواظبة على هذا البرنامج الروحي .. والفائدة المتوخاة منه لبناء الشخصية وتطهيرها من الدنس والذنوب والخطايا، لأنّ النفس كلّما قلت ذنوبها وخطاياها كلّما سمت وارتفعت وقربت من الله عزّ وجلّ.

ويمكن لكلّ إنسان الاستفادة من هذا البرنامج التربوي الروحي العظيم..

ومن المناسب هنا ذكر مجموعة مستقاة من روايات أهل البيت الا حيث توضح أهمية هذه الفضيلة العظيمة وكيف كان الرسول الأكرم الله يحتعليها أصحابه

ص: 63


1- الشهيد الأول : هو الشيخ محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن محمد بن أحمد العاملي النبطي الجزيني المستشهد سنة 786ه ويسمّى بالشهيد الأوّل أو الشهيد المطلق ، راجع (شهداء الفضيلة).

ويشوّقهم لها .

فعن النبي صلی الله علیه وآله قال : (خيركم من أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نیام ..) (1)

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب له قال : قيام الليل مصحة للبدن ومرضاة (للربّ عزّوجلّ وتعرّض للرحمة وتمسك بأخلاق النبيّين) (2) .

وعن الإمام الصادق وهو يحثّ أحد أصحابه بقوله : (لا تدع قيام الليل فإنّ المغبون من حرم قيام الليل )(3).

وعن النبي صلی الله علیه وآله : (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) (4) .

وجاء رجل إلى أمير المؤمنين على وقال له : إني قد حُرمت الصلاة بالليل ، فأجابه : (أنت رجل قد قيدتك ذنوبك) (5) .

وعن الإمام الصادق الله قال : (إنّ الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم بها صلاة الليل حرم بها الرزق ) (6) .

وبالرغم من أننا نعلم أن شخصاً مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لا يترك صلاة الليل مطلقاً بل كان يصلّي ألف ركعة في ليلة واحدة ، ولكن نظراً لأهمية هذه الصلاة نرى رسول الله له أوصاه بها في جملة من وصاياه الله حيث قال : (أوصيك في نفسك بخصال احفظها ، ثم قال : اللهم أعنه .. وعليك بصلاة الليل .. وعليك بصلاة الليل .. وعليك بصلاة الليل ..!!) (7) .

والظاهر أنّ وصية النبي العلي الا مع أن الإمام الكان قائم الليل وصائم

ص: 64


1- بحار الأنوار: ج 84 ص 142 - 143 ح 14 باب 75 ، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 84 ص 144 ح 17 باب 75 ، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 84 ص 146 ح 20 باب 75 ، ط بیروت .
4- بحار الأنوار: ج 84 ص 148 ح 22 باب 75 ، ط بیروت.
5- بحار الأنوار: ج 84 ص 145 - 146 ح19 باب 75، ط بيروت.
6- بحار الأنوار: ج 84 ص 146 ح19 باب 75، ط بیروت.
7- وسائل الشيعة : ج 5 ص 268 باب بقية الصلوات المندوبة.

النهار ، إما للإشارة إلى الواقع وبيان فضيلة هذه العبادة ، وإما لتعليمنا وتوجيهنا إليها وذلك من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهناك احتمالات أُخرى لا مجال هنا لتفصيلها.

وعن النبي أنه قال لجبرائيل : عظني ، فقال جبرائيل لرسول الله صلی الله علیه وآله (يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه ، واعلم أنّ شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه كفّه عن الناس) (1)

ولعلّ هذه الوصايا التي ذكرها جبرائيل تدلّ على أن صلاة الليل تربّي الإنسان على ترك أذية الناس التي هي ب عزّه ورفعته في المجتمع، فهناك ترابط وثيق بين الجملتين .

وعن الإمام الصادق قال: (ثلاثة هن فخر المؤمن وزينة في الدنيا والآخرة : الصلاة في آخر الليل ، ويأسه مما في أيدي الناس ، وولاية الإمام من آل محمد ) (2) .

وروي عن الإمام الصادق قوله : ( ما من عمل حسن يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلا صلاة الليل، فإنّ الله لم يبيّن ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون*فلا تعلم نفس ما خفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) (3) ) (4) .

نقل عن آية الله الشيخ جعفر كاشف الغطاء الله أنه كان يوقظ ابنه سحراً لصلاة الليل ولزيارة حرم مولانا أمير المؤمنين وكان ولده شاباً يحب أن ينام فيتكاسل عن الذهاب مع والده إلى الحرم ..

وفي ليلة عندما أيقظ ولده في السحر وخرجا إلى الحرم والولد في حالة كسل مفرط ، فلما وصلا إلى باب الصحن الشريف وإذا برجل فقير جالس وهو يمد يده مستجدياً المال من الناس .. فالتفت الشيخ جعفر إلى ولده وقال لولده : من هذا؟ وماذا

ص: 65


1- وسائل الشيعة : ج 5 ص 269 باب بقية الصلوات المندوبة.
2- بحار الأنوار: ج 84 ص 140 ح 7 باب 75، ط بیروت.
3- سورة السجدة: 16 - 17 .
4- بحار الأنوار: ج 84 ص 140 ح 8 باب 75، ط بیروت.

يريد؟

قال ابنه : هذا فقير جالس هنا ليأخذ من الناس شيئاً من المال!!

فقال الأب : كم يعطى له؟

مفاتيح الرحمة

فقال الابن : درهما واحداً ..

فقال الشيخ : فكر يا بني جيداً وانظر إلى هذا الرجل الذي جلس في هذه الزاوية وفي هذا الوقت من الليل وقد ترك لذة النوم ابتغاء الحصول على مبلغ زهيد جداً ومد يد التذلل للناس .. أفلا تكون يا بني بمثل هذا الشخص في اعتمادك على ما وعد الله سبحانه المستغفرين بالأسحار والمتهجدين بالأذكار والله سبحانه يقول : (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون) (1) .

قيل : فاهتز الولد من أعماقه وتنبه إلى درجة أن حظي إلى آخر عمره بقيام الليل ولم يترك صلاة الليل بعدئذ أبداً.

فصلاة الليل برنامج روحي وتربوي لا غنى للإنسان عنه، وله آثار عظيمة على دنيا الإنسان وآخرته، ولذا نجد النبي الله وأهل بيت العصمة يشوّقون ويرغبون إليها لعلنا ننعم بالتوفيق الإلهي لهذه العبادة العظيمة ونحصل على بركاتها ونصبح من أولئك الذين وصفهم الشاعر بقوله :

لله قوم إذا ما الليل جنّهم***قاموا من الفرش للرحمن عبّادا

ويركبون مطايا لا تملهم***إذا هم بمنادي الصبح قد نادي

هم إذا ما بياض الصبح لاح لهم***قالوا من الشوق ليت الصبح قد

ومن هنا ورد في هذه الدعاء - دعاء اليوم الثامن عشر - عن رسول الله : (اللهم نبهني فيه لبركات أسحاره) ثمّ يلحقه بقوله : (ونوّر فيه قلبي بضياء أنواره).

الله نور السماوات والأرض

حينما يجن الليل تخيّم على الوجود ستارة سوداء فتعيش الموجودات ساعات

ص: 66


1- سورة السجدة: 17 .

حالكة وتغط في نوم عميق ... فتتوقف الحياة وتسكن الحركة نسبياً .. الك-ل ن-ي-ام .. الكلّ في سبات إلا أولياء الله .. ذوو القلوب المبصرة .. فهي مشاعل مضيئة تضيء صفحة الوجود، وما لا يمكن رؤيته بالنور الحسّي ، فنور القلب هو ضياء يسطع بداخله ويستطيع صاحبه النظر من خلاله للأشياء.. وكأنّما هناك أشعة تشرق من هذه القلوب فتخرق الأشياء وتكشف ما ورائها ..

وهذا النور تبعثه وتحييه العبادات، خصوصا عبادات الليل : من صلاة ودعاء ومناجاة وابتهالات مفعمة بخلوص النيّة والتوجه والارتباط بالله سبحانه وتعالى .

لذا بعد أن يطلب الداعي من الله سبحانه أن يوفقه لبركات الأسحار يطلب أيضاً أن يعطيه آثار هذه البركات، ومن أهم هذه الآثار تنوير القلب والروح حيث يقول: (ونوّر فيه قلبي بضياء أنواره) .

والنور من أسماء الله الحسنى، وهو من أسماء الصفات على رأي البعض ومن أسماء الأفعال على رأي آخرين، وقد أكد القرآن على هذه السمة الإلهية في آيات عديدة وهناك سورة في القرآن بهذا الاسم وهي سورة النور .

قال تعالى : (الله نور السماوات والأرض) (1).

وقال عزّ وجلّ : (يهدي الله لنوره من يشاء) (2).

وأما في الروايات والأدعية الواردة عن المعصومين فاستخدم هذا الاء الاسم كثيراً، منها قول سيّد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في دعاء كميل : (وبنور وجهك الذي أضاء له كلّ شيء ) (3) .

و في دعاء السمات أيضاً: (وبنور وجهك الذي تجلّيت به للجبل فجعلته دكاً وخرَّ موسی صعقاً) (4) .

وربما يخطر على البال هذا السؤال وهو : ما معنى النور؟

ص: 67


1- سورة النور : 35 .
2- سورة النور : 35 .
3- مفاتيح الجنان : دعاء كميل .
4- مفاتيح الجنان : دعاء السمات.

لقد تحدّثت الآيات فقالت : (الله نور السماوات والأرض ) (1).

فما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلام !(الله نور السماوات والأرض).

نعم لا يشرق في العالم إلا نور الله ونور رحمته الواسعة ونور عظمته الشاملة، النور الذي يغمر كلّ ما في الكون ويضيء كلّ ما في الوجود (فتبارك الله أحسن الخالقين ) (2) .

وذكر المفسرون عدّة معاني لكلمة النور فلم يحصروها في معنى واحد ، وربما ذلك هو الأصوب باعتبار أن جميع ما ذكروه صحيح يمكن الجمع بينها ، وذلك باعتبار أنّ مفهوم النور أوسع وإن كان المصداق يختلف من آية إلى أُخرى ...

وهكذا الكلام في بعض الروايات، حيث فسرت النور بمعان مختلفة والظاهر أنّ اختلاف التفسير ليس لاختلاف المفاهيم والمعاني وإنّما ذلك إما من باب بيان المصداق الكامل والأكمل وإما بيان المراتب ، إذ النور حقيقة مشككة لها مراتب عديدة، فكلّ تفسير يشير إلى مصداق أو رتبة ..

ولتوضيح المطلب لابد أن نأخذ بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر :

1 . ورد النور بمعنى القرآن الكريم كما في قوله تعالى : (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) (3) .

وقوله تعالى : ( واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (4) .

2. وجاء بمعنى (الإيمان) .. كما في قوله تعالى : (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) (5) .

3. كذلك جاء بمعنى الهداية الإلهية والقلب المنوّر أو ما أشبه كما سأل ذلك الداعي في دعائه المذكور ، والذي نحن بصدد شرحه و توضيحه .

ص: 68


1- سورة النور : 35 .
2- سورة (المؤمنون): 14 .
3- سورة المائدة : 15 .
4- سورة الأعراف: 157.
5- سورة البقرة : 257 .

كما في قوله تعالى : (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) (1) .

فالنور الذي يمنح القلوب الرؤية الحقيقية ، الرؤية الواسعة لتتجاوز الأطر المادية وتخرق جدران عالم المادة إلى عالم أرحب وأوسع، هو الإيمان، فإنّه يرفع من العين أغشية الإنانية والتعصب والمعاندة والأهواء، وبالتالي يريه حقائق لم يكن قادراً على رؤيتها وإدراكها من قبل ، لذا نقرأ في الأحاديث إن (المؤمن ينظر بنور الله)(2). ولعله

يكون إشارة إلى هذه الحقيقة .

ثمَّ إِن مجرّ مجرّد الوصف الظاهري غير كاف لتبيان حقائق وخصائص تلك الرؤية الإيمانية، والتي هي هبة إلهية عظيمة وتوفيق عظيم لا يناله إلّا الأوحدي الذي تنوّر قلبه بالإيمان .

وقد استعملت كلمة (النور) في بعض الآيات في قبال الظلمات، ولكن النور الذي يهدي المؤمنين إلى حقائق الأشياء جاء بصيغة المفرد، بينما (الظلمات) التي يعيشها الكافرون جاءت بصيغة الجمع ، ولعلّ هذا يؤكد ما قلناه من أن معنى النور واحد ولكن مصاديقه تختلف، فإنّ الإيمان الذي هو نور من الله عزّ وجلّ له حقيقة واحدة، ويتلخص بالوحدة والتوحيد وهذا بخلاف الظلمات التي تشير إلى التشتت والتفرقة ..

أكثر.

ولعلّ من هنا نعرف السرّ الذي دعا ذلك الداعي ليطلب النور!!

ثم إن هنالك بعض الصور والمصاديق للنور غير ما ذكرناه نبينه ليتسع المعنى فيأتي النور أيضاً بمعنى الدين الإسلامي بشكل أعم كما في قوله تعالى: ﴿ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) (3) .

ص: 69


1- سورة الأنعام: 122 .
2- عيون أخبار الرضا : ج 2 ص 61 ح 250 .
3- سورة التوبة : 32.

وجاء النور وصفاً لرسول الله الله كما في قوله سبحانه: ﴿وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) (1) .

بل النور يشكل جوهر أرواح أوليائه الطاهرين كما جاء في زيارة الجامعة : (خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدّقين) (2) .

وقول رسول الله : ( كنت نوراً وآدم بين الماء والطين) (3) .

وكذلك ورد في زيارة الجامعة أيضاً : ( وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار ) (4) .

وهذا يدل على أنهم لا نور للأخيار وطريق مضيء للمؤمنين يقتدون بهم ويتعلمون منهم... وقد جاء أيضاً في الزيارة الجامعة أن كلامهم لا نور ، لأنه يهدي إلى الحق ، قال : كلامكم نور وأمركم (رشد) (5) ، فهم نور من نور، ونور على نور ( عليهم أفضل الصلاة والسلام).

وجاء النور أيضاً بمعنى (العلم والمعرفة ، كما في الحديث الشريف عن النبي : (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء) (6) .

تجليات نور الله

وهناك تجليات ومصاديق للنور الإلهي ، والقرآن الكريم يشير لبعض هذه الحقائق بمثال رائع ودقيق حيث يقول : (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكب درّي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية یکاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) (7) .

ص: 70


1- سورة الأحزاب : 46 .
2- مفاتيح الجنان الزيارة الجامعة الكبيرة .
3- راجع غوالي اللئالي : ج 4 ص 121 ح 200 ، وفيه : (كنت نبياً ....). وراجع الإقبال : ص 508
4- مفاتيح الجنان : الزيارة الجامعة الكبيرة.
5- مفاتيح الجنان الزيارة الجامعة الكبيرة .
6- راجع الأمثل : ج 11 ص 90.
7- سورة النور : 35 .

وعلى الرغم من اختلاف المفسّرين في تفسير هذه الآية ، إلا أننا قد ذكرنا بأنّ معنى النور لا يمكن حصره بمصداق واحد ، فالمصاديق كثيرة ، فقد ورد في الروايات المستفيضة عن أهل البيت الا في تفسير هذه الآي-ة إشارات إلى بعض المصاديق المهمة نشير إلى بعضها :

فالمشكاة : صدر محمد صلی الله علیه وآله، والمصباح نور العلم والمصباح في زجاجة : علم رسول الله صلی الله علیه وآله إلى قلب علي الله والشجرة المباركة إبراهيم الخليل الذي يرجع نسب النبوّة إليه (1) .

وفي تفسير آخر لها عن الإمام الباقر : (إن المشكاة نور العلم في صدر النبي الله ، والزجاجة صدر علي ... ونور على نور يعني إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في أثر الإمام من آل محمد وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزّ وجلّ خلفاء في أرضه وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم) (2).

وفسر في حديث آخر عن الإمام الصادق : المشكاة بفاطمة ، والمصباح بالحسن و الزجاجة بالحسين علیه السلام (3) .

قال الإمام الباقر في دعائه الوارد في أسحار شهر رمضان المبارك : (اللهم إنّي أسألك من نورك بأنوره وكلّ نورك نيّر .. اللهم إنّي أسألك بنورك كله . . .) (4) .

پومن هنا ينبغي أن نسأل الله سبحانه أن ينوّر قلوبنا بحبّه ومعرفته والتمسك بحبله والاقتداء بسنن نبيه وأولياءه الطاهرين لنعيش النور في دنيانا وأُخرانا ...

ونسأله تعالى أن ينوّر قلوبنا في شهر رمضان بأنوار هذا الشهر المبارك، فتبين من هذا الدعاء أنّ لهذا الشهر العظيم أنواراً خاصّة .

ويترتب على هذا الطلب من الله تعالى آثار النور على حياتنا وعيشنا ، وإلا فالذى

ص: 71


1- تفسير نور الثقلين : ج 3 ص 603 ح 173 .
2- تفسير نور الثقلين : ج 3 ص 604 ح 174 .
3- تفسير نور الثقلين : ج 3 ص 602 ، ح 169 .
4- مفاتيح الجنان : ص 370 دعاء السحر المشهور.

يعيش بجنب النور ولا يستفيد منه ولا ينعم ببركاته وآثاره لهو من الخاسرين حقّاً، وربّما من هنا أكمل النبي صلی الله علیه و اله دعاءه في اليوم الثامن عشر من شهر رمضان بقوله : (وخذ بكّل أعضائي إلى اتّباع آثاره )أي آثار شهر رمضان المبارك، فاتّباع آثاره يكون بكلّ الأعضاء الظاهرة والباطنة ، حتّى تكون دعوة صادقة إلى الله وتوجب تنزيه أعضاء الإنسان من المعاصي وارتكاب الأخطاء ... فنور اليد أن لا تسرق ولا تظلم، ونور اللسان أن يتكلّم الإنسان بما يُرضي ربّه ولا يكذب ولا يغتاب ، ونور العين أن يحفظها من الخيانة.. وهكذا ولأنّ هذا أمر ليس سهلاً بل يحتاج إلى توفيق وعناية ربّانية خاصّة يسأله العبد في خاتمة دعائه باسم النور الذي هو سبيل كلّ ذلك فيقول : (بنورك يا منوّر قلوب العارفين).

إذ لولا نور الله وهدايته لم يصل الإنسان إلى هذا التوفيق يوماً، لأنّ الإنسان محدود، والمحدود لا يمكنه أن يحيط بكثير من الأشياء، وقد ورد في الأدعية : (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (1) .

وتبقى هنا التفاتة دقيقة حيث ورد في الدعاء : ( يا منوّر قلوب العارفين) فيستفاد من ذلك أنّ العرفان الحقيقي هو سلوك الطريق الذي أمر به الله عزّ وجلّ وبيّنه رسول الله صلی الله علیه و آله الأئمة المعصومون علیه السلام ، والعرفان الصحيح هو النور الذي ينوّر الله به قلوب المؤمنين ، أمّا ما يدعى اليوم من العرفان فهو اسم على غير مسمّى، فالعارف الحقيقي هو من يطيع الله وينهل من نور شهر رمضان المبارك ، لأنّ لهذا الشهر نوراً روحانياً خاصاً يدفع الإنسان نحو الطاعة ويطرد من قلبه ظلمات المعصية ولعلّ من هذا الباب ورد في الأخبار (الصوم جُنّة من النار ) (2) لأنّ القلب الذي يعتمد بالأنوار الإلهية لا تدخله ظلمات الشياطين .. نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا ممّن يستفيد من نور هذا الشهر المبارك.

ص: 72


1- الإقبال : ص 407 .
2- فضائل الأشهر الثلاثة : ص 119 ح 117.

رمضان شهر البركات

19

دعاء اليوم التاسع عشر

اشارة

اللهُمَّ وَفُرْ فِيهِ حَظَّي مِنْ بَرَكاتِهِ،وَسَهَّلْ سَبِيلى إلى خَيْراتِهِ، وَلا تَحْرِمْني قَبُولَ حَسَناتِهِ،يا هَادِياً إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ

البلد الأمين : ص 309 ، عن النبي صلی الله علیه و آله: ( من دعا به استغفر له : ملائكة السماوات والأرض ودعوا له).

ص: 73

ص: 74

من بركات الصوم

لكّل فريضة في الإسلام آثار مادّية ومعنوية جديرة بالاهتمام، سواء كانت الفريضة عبادية أم غيرها، وتسمّى هذه الآثار بالبركات وهي التي تعمّ حياة المجتمع فيما إذا عملوا بها، ومن المناسب التعرّض لهذه البركات حتّى يغترف المسلم منها ما ينفعه في أُولاه وأُخراه .

والصوم من أفضل العبادات التي تحظى بفوائد وبركات عظيمة.. وقد أُشير إلى بعضها في الروايات كما توصّل العلم الحديث إلى العديد منها وسنتعرّض لما تيسّر منها في هذا البحث، لأنّه من الصعب أو المتعذّر إحصاء جميع الفوائد والآثار التي تفیض بها هذه الفريضة المقدّسة على الإنسان، ففي كلّ يوم تثبت الدراسات الطبيّة الحديثة العديد من هذه الآثار والتي بدأ غير المسلمين أيضاً يشهدون بها ويدعون إليها وخصوصاً في معالجة كثير من الأمراض.

وتنبيهاً على بركات الصوم وبركات شهر رمضان جاء دعاء اليوم التاسع عشر مبتدءاً بقوله : (الّلهمَّ وفّر فيه حظّي من بركاته).

فيطلب الداعي هذه البركات من ساحة القدس الربوبية ، لأنّ للدعاء أكبر الأثر .. كما سبق الحديث عن ذلك في مدخل الكتاب . وكما قال عزّ وجلّ: (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم، إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين) (1).

وقد ورد في تفسير هذه الآية (وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم )أنّه يشتمل على دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه ووعد بالاستجابة ، وقد أطلق في الآية المباركة الدعوة والدعاء والاستجابة إطلاقاً من دون تقييد .. كما قال تعالى :( إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين )والدخور يعني الذلّة (2) .

ص: 75


1- سورة غافر : 60 .
2- راجع الميزان : ج 2 ص 34 .

الصوم منشأ البركات

عن رسول الله صلی الله و علیه و آله أنه قال: (نوم الصائم عبادة ، ونفّسه تسبيح) (1) .

وقال أبو الحسن علیه السلام : (نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب ، وعمله مضاعف) (2).

وقال صلی الله و علیه و آله : (دعوة الصائم تستجاب عند إفطاره) (3) .

وكذا كلّ عمل يأتي به المؤمن الصائم في هذا الشهر فإنّه مبارك ومضاعف ثوابه، فعلى المؤمن أن يربّي نفسه على الإكثار من أعمال الخير في شهر رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال رسول الله صلی الله علیه و آله قال الله عزّ وجلّ : (كلّ أعمال بني آدم بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلّا الصبر فإنّه لي وأنا أجزي به ، فثواب الصبر مخزون في علم الله عزّ وجلّ والصبر الصوم) (4) .

ولا تقتصر فوائد الصوم على الثواب فقط ومضاعفته بل إنّ قوى الإنسان البدنية والنفسية تتمرّن على المقاومة والصبر فتصبح قادرة على مواجهة الصعاب بدنياً ...

وفي هذا ورد في الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين علیه السلام يقول فيه :

اصبر على مضض الأدلاج في ***وفي الرواح إلى الطاعات في البكر

إنّي رأيت وفي الأيّام تجربة ***للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يؤمّله ***واستصحب الصبر إلّا فاز بالظفر

وأمّا الجانب النفسي والروحي ففي حديث المعراج : (ياربّ وما ميراث الصوم؟ قال : الصوم يورث الحكمة ،والحكمة تورث المعرفة ، والمعرفة تورث اليقين، فإذا

ص: 76


1- بحار الأنوار: ج 93 ص 258 باب 30 فضل الصوم ح 41 ، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص 255 باب 30 فضل الصوم ح33، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 315 باب 38 فضل الصوم ح 17 ، ط بيروت .
4- بحار الأنوار: ج 93 ص 252 باب 30 فضل الصوم ح 18 ، ط بيروت.

استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر)(1).

ويقول الإمام علی علیه السلام : ( وعن ذلك ما حرس الله عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيّام المفروضات تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم (2).

وعن فاطمة الزهراء علیه السلام أنها قالت في خطبتها : (فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص) (3) .

وقال رسول الله صلی الله علیه وآله الجابر بن سبد الله :( يا جابر هذا شهر رمضان، من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعفّ بطنه وفرجه وكفّ لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر ، فقال جابر : يارسول الله ما أحسن الحديث؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : يا جابر وما أشدّ هذه الشروط) (4) .

وقال أبو عبدالله عليه السلام : قال رسول الله صلی الله و علیه وآله : ( إذا صمت فليصم سمعك وبصرك

وجلدك ) (5) .

فشهر رمضان واحة المؤمن يغتسل فيه من الذنوب ويرتدي فيه ثوب العبادة، والبعض يرى أنّ الصوم على رأس العبادة ومن أهمّها فتمتاز على سائر الفرائض الدينية ..

فالصلاة مثلاً يأتي بها الفرد وقد يكون لاهياً عن معناها أو يدخل عليها الرياء، وهكذا الزكاة وحتّى الجهاد، فقد يكون لغير الله تعالى بل للسمعة أو لأغراض أُخرى.. والأمر ليس كذلك في الصوم، فعندما يعاني المؤمن من الجوع والعطش تضعف حالة الرياء عنده، لأنّه بإمكانه أن يأكل أو يشرب خفية .

ثمّ يتبع ذلك صوم الجوارح لمن وعى معنى الصوم الدقيق ومن هنا جاءت

ص: 77


1- إرشاد القلوب : ص 203 ب 54 .
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ص 163.
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 368 باب 46 ح 47 ، ط بيروت.
4- بحار الأنوار: ج 93 ص 371 باب 46 ح 55 ، ط بیروت.
5- بحار الأنوار: ج 93 ص 292 ح 15 باب 36، ط بیروت.

الروايات لتقول إنّ الله سبحانه وتعالى ما جعل الصوم عبادة ليمنع الإنسان من الطعام والشراب فقط بل إنّ الصوم الكامل هو ترك كلّ محرم في هذا الشهر ، وإخضاع المؤمن إلى حالة امتحان ليثبت فيها قدرته على السموّ إلى مصاف المتّقين ..

يقول الإمام علي علیه السلام :( الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب) (1).

وتقول فاطمة الزهراء علیهم السلام : (ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه)(2).

وواضح أنّ هذه التوسعة في معنى الصوم الواردة في الروايات تؤكّد أنّ للصوم رتباً ودرجات، والرتبة الأعلى تلك التي تجعل من الصوم مدرسة يتهذّب فيها الإنسان وتسمو بها روحه.

ولذا يكون شهر رمضان بحقّ فرصة عظيمة للتحوّل النفسي والتمرّد على الشهوة وإلزام النفس بالرجوع إلى الخط القويم ليتسنّى للإنسان تطهير ذاته وتقويم أي اعوجاج حصل خلال الأحد عشر شهراً من سنته ويجدّد العهد مع ربه على عدم العودة إلى الذنوب والمعاصي عبر تلاوة كتابه العزيز والدعاء وقيامه بالنوافلالرمضانية

وقد نسب إلى الإمام زين العابدين علیه السلام قوله :

وزادي قليل لا أراه مبلغي ***أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي

ومن هنا ورد في بعض الأخبار أنّ المؤمن بعد شهر رمضان يخرج مغفور الذنوب وكأنه في ولادة جديدة، قال علیه السلام : ( وهو شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ) (3) .

ص: 78


1- الغارات : ص 342 عن الأصبغ بن نباتة ، عنه علیه السلام.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص 295 باب 36 ح 25 ، ط بیروت.
3- فضائل الأشهر الثلاثة : ص 128 كتاب فضائل شهر رمضان.

حسنات الصوم

يروى عن الإمام أبي عبدالله علیه السلام قوله : (ألا أخبرك بأصل الإسلام وفرعه وذروته و سنامه؟ قلت : بلى، قال : أصله الصلاة وفرعه الزكاة وذروته وسنامه الجهاد في سبيل الله ، ألا أخبرك بأبواب الخير؟ الصوم جُنّة من النار ) (1) .

وعنه علیه السلام : (من صام يوماً في انحر أصاب ظماً وكل الله به ألف ملك يمسحون جهه ويبشّرونه .. حتّى إذا أفطر قال الله عزّ وجلّ : ما أطيب ريحك وروحك، يا ملائكتي اشهدوا أنّي قد غفرت له) (2) .

وكلّما كان صوم المؤمن وتقرّبه إلى الله مزيداً له في حسن خلقه وحسن معاشرته لإخوانه المؤمنين كان ثوابه أكثر ودرجاته أرفع ، فعن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله قال : (من كفّ غضبه كفَّ الله عنه عذابه ومن حسن خلقه بلغه الله درجة الصائم القائم ) (3).

وعنه علیه السلام أنّه قال : (رجب شهر الله الأصمّ يصبّ الله فيه الرحمة على عباده ، وشهر شعبان تنشعب فيه الخيرات، وفي أوّل ليلة من شهر رمضان تغلّ المردة من الشياطين ويغفر في كلّ ليلة سبعين ألفاً ، فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب و شعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلّا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عزّ وجلّ انظروا هؤلاء حتى يصطلحوا) (4) .

فيتوقّف ثواب المغفرة العظيمة على مصالحة المؤمن لأخيه ممّا يدلنا على أنّ المرء مهما بلغت عبادته وعلمه لن يبّلغ درجة مغفرة الله وحسن ثوابه ما لم تقترن عبادته بالتقوى وعلمه بالعمل الصالح .

وقد سُئل ابن عبّاس عن الصيام فقال : (إن كنت تريد صوم داود علیه السلام فإنّه كان من

ص: 79


1- سفينة البحار : ج 5 ص 214 مادّة صوم.
2- سفينة البحار : ج 5 ص 214 مادّة صوم .
3- عيون أخبار الرضاء علیه السلام : ج 2 ص 71 باب دعاء رسول الله صلی الله علیه و آله عند رؤية الهلال ح328.
4- عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج 2 ص 71 باب دعاء رسول الله صلی الله علیه و آله عند رؤية الهلال ح331.

أعبد الناس وأسمع الناس وكان لا يفرّ إذا لاقى وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتاً وكان إذا بكى على نفسه لم يبق دابّة في برّ ولا بحر إلّا استمعن لصوته وهو يبكي على نفسه، وكان له كلّ يوم سجدة في آخر النهار ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وإن كنت تريد صوم ابنه سليمان علیه السلام فإنّه كان يصوم من أوّل الشهر ثلاثة ومن وسطه ثلاثة ومن آخره ثلاثة ، وإن كنت تريد صوم عيسى علیه السلام فإنّه كان يصوم الدهر ويلبس الشعر ويأكل الشعير ولم يكن له بيت يخرب ولا ولد يموت وكان رامياً لا يخطئ صيداً يريده وحينما غابت الشمس صفّ قدميه فلم يزل يصلّي حتى يراها وكان علیه السلام يمرّ بمجالس بني إسرائيل فمن كانت له حاجة قضاها ، وكان لا يقوم يوماً مقاماً إلّا وصلّى فيه ركعتين وكان ذلك شأنه حتّى رفعه الله إليه ، وإن كنت تريد صوم أ ُمّه مريم علیهم السلام فإنّها كانت تصوم يومين وتفطر يوماً ، وإن كنت تريد صوم النبّي صلی الله علیه و آله فإنّه كان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ويقول هنّ صيام الدهر (1) .

والحديث المتقدّم وإن أشار إلى أنّ لكلّ عبد صالح أو نبي مرسل طريقته في الصوم إلّا أنّ المحصّلة الرئيسيّة المنتقاة من هذا الحديث هو أنّ الصوم ملازم للتقوى كما ورد : ( كان من أعبد الناس) (2) ، ومرتبط بالجهاد والبلاء الحسن فيه : (وكان لا يفرّ إذا لاقى ) (3) .

هذا بالإضافة إلى أنّ صوم الأنبياء علیه السلام باعتبارهم قدوة البشر لا يأتي إلّا بمرافقة الخشوع والبكاء من خشية الله والزهد وقضاء حاجات المؤمنين ، وقد يتوقّف كمال الصوم على ما يرافقه من سيرة المؤمن الواعي الورع الذي يتّصف بالصفات الإسلامية الحّقة .

فعرفنا أنّ الصبر ملازم للصوم، حيث إنّ الصوم يربّي الإنسان على الصبر، وفي القرآن الكريم قال تعالى : (اصبروا وصابروا ورابطوا) (4).

ص: 80


1- سفينة البحار : ج 5 ص 220 و 221 مادّة صوم .
2- سفينة البحار : ج 5 ص 220 و 221.
3- سفينة البحار : ج 5 ص 220 و 221.
4- سورة آل عمران : 200.

ومن قمّة ما قيل في ذلك، الحديث عن الإمام علي بن الحسين علیه السلام: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان من لا صبر له) (1) ..

وكثيرة هي الأحاديث الدالّة على الصبر والتي وردت عن النبّي صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیه السلام إلّا أنّنا لسنا بصدد التفصيل بل نشير إلى البركات الأُخرى للصوم.

الصوم صحّة

اشارة

من أهمّ البركات المترتّبة على الصيام :

1: البركات الصحّية:

فقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله في الحديث المشهور : (صوموا تصحّوا) (2) .

وتؤكّد أحدث النظريات الطبيّة على أنّ الصوم يفيد كثيراً من الإيجابيات في حالات أمراض المعدة والجهاز الهضمي ويعدّ أحد العوامل الوقائية من هذه الأمراض وكذلك السمنة وتأثيراتها على القلب والشرايين ، وبهذا يكون الصوم طريقة علاجية ووقائية تغني عن الأدوية التي تخلّف وراءها عشرات الآثار الجانبية الضارّة بصحّة الإنسان وبهذا يسبق الإسلام الطب الحديث عبر مئات القرون الماضية.

2: البركات النفسية :

ومن أهمّ ما يترتّب على الصوم أيضاً : حالات الاطمئنان واليقين التي تغتبط بها النفس الإنسانية في حالة الصيام وما يرافقها من العبادة وحالة التفرّغ إلى الله ، خاصّة وأنّ المؤمن يحسّ بأنّ هذه الفترة المحدّدة بثلاثين يوماً هي فرصة ثمينة لاستثمارها في سبيل نموّه الروحي وتبعده عن حالة القلق والجري وراء جزئيات الحياة ولو لمدّة من الزمن ، وتنمّي فيه حالة السرور والفرح لأنّه يُسَرّ بما يؤدّيه من أعمال في هذا الشهر

ص: 81


1- سفينة البحار : ج 5 ص 18 .
2- دعائم الإسلام : ج 1 ص 342 ، وغوالي اللئالي : ج 1 ص 268 ، ودعوات الراوندي : ص 76.

الفضيل .. ولعلّ من هذا ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام : (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة يوم

القيامة، ولخلوق فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) (1) .

فالإنسان الصائم يستشعر حالة طيب النفس والسرور اليومي خاصّة بعد الإفطار .. وفي هذا أعظم البركات التي لها آثار كبيرة على حياة الإنسان كما ثبت في علم النفس.

ونحن لو ألقينا نظرة إلى المجتمعات غير المؤمنة لرأينا كيف تنتشر فيهم الأمراض الروحية والتوتُرات العصبية وحالات الاكتئاب واليأس وما ينجم عن من حالات عنف وقتل وانتحار .

جاء في كتاب الإسلام والعلاج النفسي الحديث:

(وما تعيشه المجتمعات الغربية حالياً هو خير دليل على أنّ الابتعاد عن الأخلاق والدين هو من الأسباب الرئيسيّة لتولّد ما يسمّى بأمراض العصر ، ومنها الكآبة بأنواعها المتعدّدة وفصام الشخصية والقلق والهستيريا وتوهّم المرض والشعور بالضعف إضافة إلى الأمراض الأكثر فتكاً وما يسمّونها بالعقلية كجنون الاضطهاد وجنون العظمة وذهان الهوس الاكتئابي . ومن العلل التي تصيب الشخصية في جانبها الخلقي ما يعرف باسم (السيكوباتية) وهي عبارة عن ضعف حادّ في ضمير الفرد وشعوره الخُلقي وأدّت تلك الأمراض بدورها إلى أمراض أخطر جسيمة كضغط الدم والسكري والربو والقرح بأنواعها وبعض الأمراض الجلدية وبعض أمراض الفم والأسنان) (2).

بينما نجد أنّ الإسلام بتشريّع الصوم في العام شهراً واحداً كيف وفّر للإنسان فرصة روحية كبيرة لمعالجة أُزماته النفسية وتسكين أعصابه ودفعه نحو الحياة بأمل وطمأنينة ووثوق .

ص: 82


1- سفينة البحار : ج 5 ص 214 .
2- راجع (الإسلام والعلاج النفسي الحديث) ، د. عبد الرحمن العيسوي.

الحظّ

المقصود بالحظّ الوارد في هذا الدعاء :( اللهمَّ وفّر فيه حظّي من بركاته )ليس المعنى العرفي الرائج، بل المراد هو النصيب ، قال تعالى :( للذكر مثل حظّ الأنثيين )(1).

وقال سبحانه: ﴿وما يلقاها إلّا ذو حظِّ عظيم )(2).

وقال تعالى : (ياليت لنا مثل ما أُوتي قارون انّه لذو حظِّ عظيم (3).

وفي الحديث عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله و علیه و آله : (الحمّى رائد الموت... وهي حظّ كلّ مؤمن من النار ) (4) ، يعني إذا ابتلى المؤمن بها تكون كفّارة عن ذنوبه وتقيه من حرّ النار .

وفي الحديث : (وويل لمن لم يكن له في ذلك المقام حظّ ولا نصيب) (5) .

وعن أمير المؤمنين : (ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه فانظروا إلى خلطائه فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله وإن كانوا على غير دين الله فلا حظِّ له في دين الله ) (6) .

ص: 83


1- سورة النساء : 11 .
2- سورة فصلت : 35.
3- سورة القصص : 79.
4- ثواب الأعمال : ص 192 ثواب الحمى .
5- التوحيد : ص 261 .
6- صفات الشيعة : ص 6 ح9 .

منهج أعمال رمضاني

ثمّ تأتي الفقرة الثانية من الدعاء الوارد في اليوم التاسع عشر بعد طلب البركات لتسأل الله سبحانه أن يسهل طريق الإنسان إلى حسنات هذا الشهر العظيم وخيراته فيقول : ( وسهل سبيلى إلى خيراته ).

ولعلّ من أعظم حسنات هذا الشهر الكريم التفرّغ إلى العبادة والمناجاة وتحصيل العلم والمعرفة وخدمة الناس. فإن شهر رمضان منهج إصلاح كامل يوفّر للإنسان أحسن الفرص إلى كسب الحسنات والاجتناب عن السيئات.

وإننا إذا تأملنا قليلاً نجد أن هناك عناية في مستحبّاته وآدابه وهناك مقدمات تبتدأ قبله ليكون العبد مستعداً لكسب أحسن النتائج وأفضل الآثار .

فتبدأ من شهر رجب ثمّ شعبان وحتى الدخول في شهر رمضان، ونحن بفضل الله نملك من الإرث الدعائي وكنوز الأعمال التي تركها لنا أئمة أهل البيت ما يغني عن العناء في الكيفية التي يؤدّى بها شهر رمضان صياماً وعبادة، وتزخر مكتباتنا بالمصنفات الفريدة والمعاجم المتخصصة في هذه المجالات ففضلاً عن الكتب القديمة مثل : (الصحيفة السجادية) و (مصباح الكفعمي ) و (مهج الدعوات) لابن طاووس، و(إقبال الأعمال)، وغيرها ..

ألفت الكثير من المصنفات الحديثة المبوبة في هذا المجال مثل : (مفاتيح الجنان) للشيخ عباس القمي ، و (ضياء الصالحين ) لجوهرجي ، و (الدعاء والزيارة) للإمام الشيرازي وغيرها ..

وأوّل أعمال المنهج الرمضاني هو حالة الاستعداد النفسي والبدني ، ثمّ الشروع بالأغسال المستحبّة في هذا الشهر ، لتكون الطهارة البدنية مفتاحاً للولوج إلى الطهارة الروحية في هذا الشهر العظيم، ثمّ الاشتغال بالدعاء ، وهناك عدة أدعية لليوم الأوّل من

ص: 84

هذا الشهر ومنها الدعاء المشهور للإمام السجاد علیه السلام وهناك الأدعية اليومية كدعاء الافتتاح المروي عن الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) وهناك الأدعية المعقبة للصلوات والمختصة بهذا الشهر كما روي عن الإمام السجاد قوله : (والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام، وشهر ،الإسلام ، وش- الطهور، وشهر التمحيص ، وشهر القيام ( الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان (1) ) (2) .

ولابد من قيام ليالي هذا الشهر ، سيما الليالي العشر الأواخر منه لما فيه من الثواب ولما تشتمل على ليالي القدر ، وكذا قراءة القرآن ، فإحدى كرامات هذا الشهر هو نزول القرآن الكريم فيه ، وربما كان ذلك السبب في تقديس هذا الشهر الكريم أو من أحد أسبابه ، لذا فقراءة القرآن في هذا الشهر والتأمل فيه والتدبّر في آياته والاستئناس به ممّا يجعل المؤمن أكثر التصاقاً بعظمته.

فعن أبي جعفر الا أنه قال : (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) (3) .

وعن أبي عبدالله قال : (إنّ الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ، يوم خلق السماوات والأرض فغرّة الشهور شهر الله شهر رمضان، و قلب شهر رمضان ليلة القدر ، ونزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان، فاستقبل الشهر بالقرآن) (4) .

ويروى عن الإمام زين العابدين الا أنه قال : (لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معى ) (5) .

وكان إذا قرأ مالك يوم الدين (6) يكررها حتى كاد أن يموت (7) .

ص: 85


1- سورة البقرة : 185 .
2- الصحيفة السجادية : ص 209 و 210 دعاؤه إذا دخل شهر رمضان .
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 386 کتاب الصوم باب 52 ح1 ، ط بیروت.
4- بحار الأنوار: ج 93 ص 386 كتاب الصوم باب 52 ح3، ط بيروت.
5- بحار الأنوار: ج 46 ص 107 تاريخ السجاد ، باب مكارم أخلاقه ، باب 5 ح 101 ، ط طهران.
6- سورة الحمد : 3.
7- بحار الأنوار: ج 46 ص 107 تاريخ السجاد ، باب مكارم أخلاقه، باب 5 ح 101، ط طهران.

و من مفردات المنهج الرمضاني المبارك الذي بإمكان الفرد أن يستفيد منه : حفظ بعض السور القرآنية وكذلك دراسة فقهية أثناء وقت الفراغ في النهار أو الليل من هذا الشهر وخصوصاً (فقه الصوم).

و من البرامج تنشيط العلاقات الاجتماعية مع المؤمنين وزيارتهم وتفقد المعوزين منهم ومحاولة مساعدتهم.

ومن البرامج أيضاً ترك بعض العادات الضارّة للبدن وإن كانت مباحة شرعاً كشرب السجائر، فيلزم ممارسة وزرع عادات حسنة جديدة ليكون بذلك قد جعل من هذا الشهر دورة فعليه لاستعادة نشاطه وقوّة ارتباطه بالخالق جل وعلا.

ومن الواضح أنّ هذا البرنامج الكبير والحاشد بالأعمال يحتاج إلى توفيق ولطف من الله وإلا فإنّ الإنسان وحده لا يتمكّن على أداء كلّ ذلك ما لم يوفقه الله سبحانه ويسهل له سبيل ذلك من إعطائه الصحة والعافية ويدفع عنه البلايا والرزايا لكي يكون صافي البال هادئ الفكر ثمّ يلهمه الخشوع والإقبال على العبادة، لذا لابد للإنسان من السؤال والدعاء فيقول : (وسهل سبيلي إلى خيراته).

ومعلوم أنّ الإنسان الذي وفق لكلّ هذه الأعمال ولكلّ هذه الخيرات لا يُحرم من الحسنات، وذلك في شهر هو من أعظم الشهور الذي يكون الإنسان في ضيافة الله سبحانه حيث قد دعى الله عزّوجلّ عباده إلى الرحمة والمغفرة، وفي هكذا شرائط ، فمن الواضح أن أعمال الإنسان تكون أسرع إلى القبول، فإذا قرنها الإنسان بالدعاء والمسألة من ربه ، سوف يحرز قبولها وبذلك الفوز العظيم لذا نقول في الفقرة الثالثة : (ولا تحرمني قبول حسناته) .

والظاهر أنّ بين هذه الفقرات الثلاث ترتباً طولياً ، لأنّ المؤمن إذا توفّر حظه من البركات سوف يوفق للإتيان بالخيرات لأنّ العمل الصالح وكسب الحسنات هو الآخر من البركات، وبعد ذلك فإنّ من وفقه الله للخير والعمل الحسن سوف يتقبل منه أعماله .. ولأنّ كلّ ذلك يتوقف على التأييد والتسديد والهداية الإلهية ختمه بقوله صلی الله علیه وآله: (يا هادياً إلى الحق المبين).

ص: 86

الحق المبين

وكما يفهم من هذا الدعاء إنّ الله سبحانه هو الذي يهدي إلى الحق المبين لا غيره،

ومن أبرز مصاديق الحق المبين هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وها نحن في 19 من شهر رمضان وهذه المناسبه تتعلق بها فقد ضرب اللعين ابن ملجم بالسيف على رأسه الشريف والإمام في الصلاة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( علي مع الحق والحق مع علي) (1) .

قال تعالى : (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (2) ، وقد نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث تصدّق بالخاتم وهو راكع في الصلاة .

ما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كنت مولاه فعلي مولاه) وذلك في حديث غدير خم المتواتر عند الفريقين (3) .

وقال صلى الله عليه وسلم : (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وهما الخليفتان من بعدي وا وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) (4) .

وهذا البحث مفصل لا يسع المقام لتفصيله .

بقي أن نعرف في خاتمة البحث أن النية هي شرط في صحة العبادات ويبطل بعدمها أي عمل عبادي ، قال تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى

ص: 87


1- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 89 المجلس العشرون ح 1.
2- سورة المائدة : 55 .
3- راجع كتاب الغدير : ج 1 للعلامة الأميني .
4- كمال الدين : ص 64 .

منكم ) (1) .

فإنّ المقصود من إراقة دم القربان ميل القلب عن حبّ الدُّنيا، وبذلها إيثاراً لوجه الله ، دون مجرّد الدم واللحم، وميل القلب إنّما يحصل عن جزم النية والهمة، وإن عاق عن العمل عائق ف ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) (2) .

والتقوى صفة القلب ، وجاء في الحديث النبوي الشريف : (نيّة المؤمن خيرٌ عمله،من ونيّة الكافر شرٌّ من عمله ) (3) ، وعلى هذا فإذا كان صيام المرء من أجل البخل أو التقتير وعدم الإسراف لن يكون عمله الله ولن يرفعه الله إليه .

فنيّة القربة إلى الله تعالى هي روح العمل وحقيقته .. فالمؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفّق لعملها ، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها أو لعدم مساعدة الوقت على عملها .

إذاً لابد من أن نلتفت إلى هذه الحقيقة لدى العمل ، إذ العمل وحده غير كاف ، ما لم نقرنه بقصد القربة إلى الله تعالى والإخلاص إليه وإلا فإنّ العمل العبادي يبطل إن لم يقترن بالقربة ...

وفي الحديث الشريف : (تقرب العبد إلى الله تعالى بإخلاص نيّته) (4) .

نسأل من الله عزّ وجلّ التوفيق لبركات هذا الشهر العظيم.

ص: 88


1- سورة الحج : 37 .
2- سورة الحج : 37.
3- جامع السعادات : ج 3 ص 119 .
4- غرر الحكم : ج 1 ص 311 .

على أبواب الجنان

20

دعاء اليوم العشرين

اشارة

اللهُمَّ افْتَحْ لِي فِيهِ أَبْوَابَ الجِنانِ وأَغْلِقُ عَنِّي فِيهِ أَبْوَابَ النيران، وَوَفِّقْنِي فِيهِ لِتِلاوَةِ القُرآنِ، يا مُنْزِلَ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ .

البلد الأمين : ص 309 عن النبي صلی الله علیه وسلم : ( من دعا به بعث الله إليه ألف ألف ملك يحفظونه من كلّ جبّار وشيطان، وكتب له بكلّ من صام شهر رمضان ستين سنة مقبولة، وجعل الله بينه وبين النار سبعين خندقاً، كلّ خندق كما بين السماء والأرض).

ص: 89

ص: 90

ما هي الجنّة؟

يفتتح الداعي دعاءه الوارد في اليوم العشرين من شهر رمضان وهو يطلب من الله تعالى أن يفتح له في هذا الشهر الكريم أبواب الجنان ...

وهنا تبرز عدة أسئلة ...

ما هي الجنة ؟

وهل هي الهدف الأسمى؟

ولمن تعطى؟

وهل هي موجودة الآن أم أنها ستخلق في الآخرة؟ وغيرها من الأسئلة ..

وقبل الدخول في الإجابة على هذه الأسئلة لابد من توطئة وبيان مقدّمة مختصرة:

إن الله تعالى عندما خلق الإنسان وجعل وجوده الأوّل في الجنة وابتدأ الاختبار الأول فيها لأبينا آدم علیه السلام للوجود فأعطى آدم ضماناً بحقوقه الأولية حيث قال تعالى: (إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) (1) ، ثم امتحن آدم في قصة الأكل من الشجرة ولما حدث ما حدث أخرجه من الجنّة وأنزله إلى عالم الدنيا لأنها دار الامتحان الاختبار و إذ لم يكن الإنسان خلق ليسكن الجنّة إلا أن وجوده فيها وجود استثنائي في بادئ الأمر ..

وقد اختلف العلماء في الجنّة التي أسكن الله آدم فيها فقال بعض المحققين إنّها كانت من جنان الدُّنيا (2) .

ص: 91


1- سورة طه : 118.
2- يظهر من بعض الروايات أنها ليست هي الجنّة التي وعد بها المتقون في الآخرة بل هي جنة جنان الدُّنيا ففي الحديث عن الإمام الصادق الا أنه سُئل عن جنّة آدم فقال : (جنّة من جنان الدُّنيا يطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كان من جنان الآخرة ما خرج منها أبداً) ، نور الثقلين : ج 1 ص 62 .

فموقع الإنسان هو الأرض وذلك ليعمرها ويعيش فيها ويموت فيها ويبعث منها إلى الحياة الآخرة .. كل ذلك من أجل تمحيصه وترقيته إلى مقام الخلافة الربانية ، قال تعالى : (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) (1) .

ثم جعل الله تعالى التكاليف على الناس اختباراً وتنظيماً لحياتهم وإخراجاً لها من الفوضى والغوغاء ، ولأجل هذا الاختبار والتنظيم أرسل تعالى الأنبياء لبيان تلك التكاليف والأحكام ... فجعل للعامل بهذه التكاليف الثواب وللتارك العقاب .. وكان الثواب الأخروي متمثَّلاً بالجنّة.. والعقاب الأخروي متمثلاً بالنار ..

والجنّة : لغةً هي (الحديقة ذات الشجرة ، وقيل ذات النخل ، والجمع جنات وجنان، والجنّة عند العرب : النخل الطوال لذا قال زهير : ( من النواضح تسقى جنة سحقاً) والفردوس الأرضي والسماوي ..) (2) .

أما الجنّة في الاصطلاح : فهو النعيم المقيم الذي وعده الله للمتقين المشتملة على ما لم تره العيون ولم تسمع به الأسماع ولم يخطر على فكر بشر .

وقد رغب الله تعالى الإنسان بالجنة باعتبارها الدار الآخرة والبقاء الحقيقي للمطيعين والمتقين، وخوّف ورهّب من النار باعتبارها دار المخالفين والمعاندين والكافرين .

وقد طفح القرآن الكريم بالكلام عن الجنّة ووصفها، والنار ووصفها.

ونأخذ على سبيل المثال قوله تعالى : (وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين)(3) .

وقوله سبحانه: (سابقوا إلى مغفرة من ربّكم وجنة عرضها كعرض السماء

ص: 92


1- سورة البقرة: 30
2- أقرب الموارد : ج 1 ص 144 .
3- سورة آل عمران : 133.

والأرض ) (1) .

وفي ال الأخبار الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام الكثير عن ذكر الجنة وأوصافها وذكر شرائط الدخول فيها .. ففي الخبر عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام : (ألا وإني لم أر كالجنّة نام طالبها ولا كالنار نام هاربها) (2) .

والإمام الباقر علیه السلام يشير للمعنى الآنف أيضاً فيقول : ( يا طالب الجنة ما أطول نومك وأكلّ مطيّتك وأوهى همّتك فالله أنت من طالب ومطلوب .. ويا هارباً من النار ما أحتّ مطيّتك إليها ما أكسبك لما يوقعك فيها) (3) .

والآيات الشريفة أيضاً حتّت الإنسان على العمل وعدم الكلل والكسل بالنسبة إلى اكتساب الجنان بقولها : (سارعوام) (4) ... و (سابقوا) (5) ، فالحياة الجادة تعني السباق والمنافسة الإيجابية الشريفة باستخدام الأعمال الصالحة والأخلاق الرفيعة ليصل الإنسان إلى هدفه المنشود وهو الجنّة وليبتعد عمّا هو مذموم وقبيح من الفعل والخُلُق وإلا فإنّ مصيره النار .. لأنّ الله تعالى بيّن للعبد مصيره في الحياة الآخرة إذ هو إمّا جنّة مكتسبة بالفعل الصالح ، وإما نار مكتسبة بالفعل الطالح ، إذا الجنّة غاية كبرى من غايات الإنسان في أعماله ومجاهداته ...

قال أمير المؤمنين علیه السلام : ( الجنّة أفضل غاية) (6) .

وقال علیه السلام : ( الجنّة مآل الفائز ) (7) .

وقال علیه السلام : ( الجنّة غاية السابقين ، والنار غاية المفرطين ) (8) .

ص: 93


1- سورة الحديد: 21
2- نهج البلاغة : الخطبة 28 .
3- تحف العقول: 291.
4- سورة آل عمران : 133 .
5- سورة آل عمران : 133 .
6- غرر الحكم باب الهمزة الحكمة 1067.
7- غرر الحكم: الحكمة 1116.
8- شرح نهج البلاغة : ج 9 ص 209.

وقال علیه السلام : (ما خير بخير بعده النار ، وما شرّ بشر بعده الجنّة ، وكل نعيم دون الجنّة فهو محقور وكل بلاء دون النار عافية) (1) .

وللجنة أسماء عديدة نشير إلى بعضها :

1 : جنات عدن .

2: جنات الفردوس .

3: جنّة المأوى .

4 : جنّة النعيم .

5 : جنة الخلد .

6 : جنّة عالية .

7 :الحسنى .

8 :دار السلام.

9 : دار القرار .

10 : دار المقامة .

11: طوبی.

وهذه الأسماء والمعاني مستقاة من العرض القرآني الرائع للجنان ووصفها، وهكذا من الروايات المروية عن رسول الله صلی الله علیه وسلم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام .

قال تعالى : (ومساكن طيبة في جنات عدن ) (2) .

وقال سبحانه:( جنّات عدن يدخلونها ) (3) . وغيرها من الآيات التي استعملت فيها كلمة (جنّات عدن) وهي إحدى عشرة آية. وقال تعالى : (كانت لهم جنات الفردوس نزلاً) (4) .

ص: 94


1- نهج البلاغة : الحكمة 387
2- سورة التوبة: 72.
3- سورة الرعد: 23
4- سورة الكهف : 107 .

لغوب

وقال سبحانه : (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) (1) .

وقال عز وجل : (عندها جنّة المأوى ) (2) .

وقال تعالى : (فى جنّة عالية ) (3) .

وقال سبحانه : (للذين أحسنوا الحسنى ) (4) .

وقال عزّ وجلّ : ( لهم دار السلام عند ربهم ) (5).

وقال تعالى : (والله يدعو إلى دار السلام ) (6) .

وقال سبحانه: (وان الآخرة هي دار القرار ) (7) .

وقال تعالى : (الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمتنا فيها نصب ولا يمتنا فيها لغوب ) (8) .

وقال عزّ وجلّ : (طوبى لهم وحسن مآب) (9) .

ونعيم الجنة نعيم لا يوصف فيقول عنه تعالى: ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) (10) .

وعن رسول الله صلی الله علیه وسلم وهو يصف نعيم الجنّة بقوله : ( قال الله تعالى : أعددت لعبادي

الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) (11) .

إذاً الجنّة نتيجة يحصلها الإنسان بالكد والعمل والجهاد المتواصل .

ص: 95


1- سورة (المؤمنون): 11.
2- سورة النجم : 15 .
3- سورة الحاقة : 22 ، سورة الغاشية : 10 .
4- سورة يونس : 26 .
5- سورة الأنعام: 127.
6- سورة يونس : 25 .
7- سورة غافر : 39.
8- سورة فاطر : 35.
9- سورة الرعد: 29.
10- سورة السجدة : 17 .
11- بحار الأنوار: ج 8 ص 191 ح 18 باب الجنة ونعيمها، ط طهران.

ثمن الجنّة

ولكن ما هو ثمن الجنّة؟

قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( ثمن الجنة لا إله إلا الله) (1).

قال الإمام الصادق علیه السلام : (قول لا إله إلّا الله ثمن الجنّة) (2) .

وقال رسول الله صلی الله علیه وسلم إن الله عزّوجلّ قال : (ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة) (3).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : ( ثمن الجنّة العمل الصالح) (4) .

وعنه : (ثمن الجنّة الزهد في الدُّنيا) (5) .

وقال : ( التوحيد ثمن الجنّة ) (6) .

وقال : (حسن الظن بالله ثمن الجنّة) (7) .

وقال صلی الله علیه وسلم : ( توفيقه لموالاة محمّد وآله الطيبين ومعاداة أعدائهم . . وهو ثمن الجنّة) (8).

وقال أمير المؤمنين : ( ألا وأن الجهاد ثمن الجنّة فمن جاهد نفسه ملكها) (9) .

قال أمير المؤمنين : (جهاد الهوى ثمن الجنّة ) (10) .

وقال أمير المؤمنين : (جهاد النفس ثمن الجنّة ) (11) .

ص: 96


1- ثواب الأعمال : ص 2 ثواب من قال لا إله إلا الله .
2- ثواب الأعمال : ص 4 ثواب من قال لا إله إلا الله .
3- الأمالي للشيخ الصدوق : 386 المجلس 61 ح7.
4- غرر الحكم : ص 154 ح 2876 .
5- غرر الحكم : ص 276 ح 6090 .
6- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر : ج 2 ص 70.
7- وضة الواعظين : ص 503 .
8- تفسير الإمام الحسن العسكري : ص 15 ح2 .
9- غرر الحكم ص 242 ح 4900 .
10- غرر الحكم : ص 242 ح 4917 .
11- غرر الحكم : ص 242 ح 4921 .

وقال : ( لكلّ شيء ثمن وثمن الجنّة الصلوات الخمس) (1).

هذه الروايات ظاهرة المعاني بحيث لا تحتاج إلى تعليق أو شرح.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ، وإخلاصه أن تحجزه لا إله إلا الله عمّا حرم الله عزّ وجلّ) (2) .

فهي لا تعطى اعتباطاً إلّا بالعمل الصالح والعقيدة الكاملة، والعقيدة الكاملة هي التي استوفت كل أجزائها وشرائطها ومن أهم شرائطها ولاية أمير المؤمنين والأئمة من بعده علیهم السلام .

قال الإمام الرضا علیه السلام في حديث (سلسلة الذهب عن آبائه علیهم السلام : (سمعت رسول الله صلی الله علیه وسلم يقول : سمعت جبرائيل علیه السلام يقول : سمعت الله جل جلاله يقول :( لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي ) (3) .

قال الراوي : فلما مرّت الراحلة نادانا بشروطها وأنا من شروطها .. (4) ، أي شرطها ولاية أهل البيت علیهم السلام .

ولعل المرء يصلّي ويتصدّق ويعمل ولكن لا يعرف ولاية أهل البيت علیهم السلام ولا يعرف حجة الله تعالى في أرضه، فهذا لم يكتمل إيمانه ولم يكتمل عمله لذا لا ينتفع منهما يوم القيامة .

وقد صوّر نصير الملة والدين الطوسي قدس سره هذه الشروط بقوله:

ولو أنّ عبداً أتى بالصالحات غداً***يود كل نبي مرسل وولي

وصام ما صام صوّاماً بلا ملل***وقام ما قام قواماً بلا كسل

وعاش في الدهر آلافاً مؤلّفة***عارٍ من الذنب معصوماً بلا زلل

فليس في الحشر يوم البعث ينفعه***إلا بحب أمير المؤمنين علي (5)

ص: 97


1- جامع الأخبار : ص 72 الفصل الثالث والثلاثون.
2- التوحيد : ص 21 ح 13 ، ومعاني الأخبار : ص 370.
3- التوحيد : ص 25 ح 23 باب ثواب الموحدين.
4- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 235 المجلس الحادي والأربعون ح 8.
5- سفينة البحار : ج 1 ص 707 .

إذاً معرفة الأئمة الأطهار علیهم السلام والتمسك بولايتهم من أهم شروط قبول الأعمال والدخول في الجنة.

وهذا ما يؤكده الإمام أبو جعفر علیه السلام للسائل الذي سأله الحديث المروي عن رسول الله صل الله علیه وسلم حيث قال : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فقال أبو جعفر : (الخبر حق)، فولّى الرجل مدبراً.. فلما خرج أمر علیه السلام برده ثم قال : ( يا هذا إنّ ل «لا إله إلا الله» شروطاً ألا وإنى من شروطها ..) (1) .

وقال رسول الله صل الله علیه وسلم : (عشر من لقي الله عزّ وجلّ بهنّ دخل الجنة : شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأن محمداً رسول الله صل الله علیه وسلم ، و الإقرار بما جاء من عند الله عز وجل ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت والولاية لأولياء الله ، والبراءة من أعداء الله ، و اجتناب كل مسكر ) (2) .

وجاء أعرابي إلى النبي صل الله علیه وسلم فأخذ يفرز راحلته وهو يريد بعض غزواته فقال : يارسول الله علّمني عملاً أدخل به الجنّة ، فقال : ( ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فآته إليهم وما كرهت أن لا يأتيه إليك فلا تأته إليهم .. خلّ سبيل الراحلة ) (3) .

وعنه صل الله علیه وسلم قال : (أكلكم يحبّ أن يدخل الجنة؟ قالوا: نعم يارسول الله ، قال : قصروا من الأمل وثبتوا أجالكم بين أبصاركم واستحيوا من الله حق الحياء) (4) .

فالجنّة لا تحصل بالنزهة والراحة ، وطريقها ليس مفروشاً بالورود، بل طريق محفوف بالمكاره والصعاب، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى صراحةً بقوله تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله . وقوله تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم تريب ) (5) .

ص: 98


1- بحار الأنوار: ج 3 ص 13 ح 28 كتاب التوحيد ، ط طهران.
2- الخصال: ح 432 ح 15 باب العشرة .
3- مشكاة الأنوار : ص 181 و 182 .
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر : ص 272 .
5- سورة البقرة : 214 .

ويعلم الصابرين) (1) .

وقال مولانا أمير المؤمنين علیه السلام : ( إن رسول الله كان يقول : إن الجنة حفت بالمكاره وإنّ النار حقت بالشهوات) واعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة، فرحم الله امرء نزع عن شهوته وقمع هوى نفسه) (2) .

وهنا نشير إلى لفتة تربوية مهمة لمن يريد أن يدخل الجنّة ، نستفيدها من أقوال رسول الله : قال له : (تقبلوا لي بس أتقبل لكم بالجنّة ، إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا ، وإذا ائتمنتم فلا تخونوا ، وغضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم، وكفّوا أيديكم وألسنتكم) (3) .

وفي حديث المعراج المروي عن النبي إشارة للمعنى التربوي الآنف الذكر قال عن الله تعالى : ( يا أحمد وعزتي وجلالي ما من عبد مؤمن ضمن لي بأربع خصال إلّا أدخلته الجنّة : يطوي لسانه فلا يفتحه إلا بما يعنيه ، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه ، وتكون قرة عينه الجوع ) (4) .

والظاهر أنّ في الحديث الشريف عدة احتمالات :

1 : الصيام .

2 : الزهد في الدنيا والجوع كناية عنه.

3 : عدم الإسراف في الطعام، وهناك احتمالات أُخرى لا يسعنا المجال لبيانها.

وقال الإمام الصادق : إنّ الله تبارك وتعالى ضمن للمؤمن ضماناً إن هو أقرّ له بالربوبية ولمحمد له بالنبوة ولعليّ بالإمامة وأدّى ما افترض عليه أن يسكنه في جواره) (5) .

ص: 99


1- سورة آل عمران: 142
2- نهج البلاغة : الخطبة .176 .
3- أمالي الشيخ الصدوق : ص 82 ح 2 المجلس 20.
4- إرشاد القلوب : ص 200 الباب 54 .
5- راجع ثواب الأعمال : ص 15 .

الجنّة محرّمة على

قال تعالى : (إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار) (1) .

وعن رسول الله صلی الله علیه وسلم قال : (أخبرني جبرائيل أن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام ما يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء ولافتان ولا منان ولا جعظري ، قال : قلت : ما الجعظري؟ قال : الذي لا يشبع من الدُّنيا ) (2) .

وعن مولانا الصادق علیه السلام أيضاً قال : (إنّ الله تبارك وتعالى آلى على نفسه أن لا يسكن جنّته أصنافاً ثلاثة : رادّ على الله عزّ وجلّ، أو رادّ على إمام هدى ، أو حبس حق امرئ مؤمن) (3) .

وقال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( من صلى علي ولم يصل على آلي لم يجد ريح الجنّة) (4) .

وقال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( من آذى جاره حرّم الله عليه ريح الجنّة) (5) .

و قال صلی الله علیه وسلم : (إن الجنّة ليوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجدها عاق ولا ديوث ، قيل يارسول صلی الله علیه وسلم : (وما الديوث؟ قال : الذي تزني امرأته وهو يعلم) (6).

وقال صلی الله علیه وسلم : ( لا يشم ريح الجنّة جسد نبت على الحرام) (7) .

وقال اصلی الله علیه وسلم : ( من قَبَّلَ غلاماً بشهوة عذبه الله ألف عام في النار ومن جامعه لم يجد

ص: 100


1- سورة المائدة : 72 .
2- معاني الأخبار : ص 330 ح 1.
3- الخصال: ص 151 ح 185 باب الثلاثة .
4- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 200 المجلس 36 ح 12، روضة الواعظين: ص 327.
5- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 427 المجلس 66 ح 1.
6- الخصال : ص 37 - 15 باب الاثنين.
7- إرشاد القلوب : ص 69 الباب 16 .

ريح الجنّة وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام إلّا أن يتوب) (1) .

وقال : (إن العاق لوالديه ما يجد ريح الجنة) (2) .

وقال : ( من احتاج إليه أخوه المسلم في قرض وهو يقدر عليه فلم يفعل حرّم الله عليه ريح الجنة) (3) .

وقال : (من طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنة) (4) .

وقال أمير المؤمنين : (إياك والجور ، فإن الجائر لا يجد رائحة ريح الجنة) (5) .

وقال : ( ولا يشم صاحب الرشوة ريح الجنّة) (6) .

ثم إن للجنة عدة أبواب .. كل باب مختص بفئة من المؤمنين .. كما أن للجنة درجات أيضاً حسب مقامات أهلها .قال تعالى: جنات عدن مفتحة لهم الأبواب (7) .

وهذه الأبواب ثمانية حسب الأخبار الواردة عن أهل بيت العصمة علیهم السلام والأحاديث المروية عن النبي (8) ، منها :

1: باب الريان: لا يدخله إلّا الصائمون.

2: باب المعروف : لا يدخله إلّا أهل المعروف.

3: باب الصبر : وهو باب صغير له ياقوتة حمراء لا حلق لها .

4 : باب الشكر : وهو من ياقوتة بيضاء لها مصراعان مسيرة ما بينهما خمسمائة عام له ضجيج وحنين .

5 : باب البلاء : وهو غير باب الصبر الأنف بل هو باب الأسقام والأمراض والجذام

ص: 101


1- إرشاد القلوب : ص 190 الباب 52 .
2- مكارم الأخلاق : ص 220 فصل في الأولاد.
3- مكارم الأخلاق : ص 431 .
4- مكارم الأخلاق : ص 460 .
5- غرر الحكم : ص 457 ح 10439 .
6- جامع الأخبار : ص 156.
7- سورة ص : 50 .
8- راجع بحار الأنوار: ج 8 ص 116 و 117 ح 1 باب الجنة ونعيمها، ط طهران.

وهو من ياقوتة صفراء له مصراع واحد ما أقلّ من يدخل منه .

6: الباب الأعظم :ويدخل منه العباد الصالحون وهم أهل الزهد والورع والراغبون إلى الله تعالى والمستأنسون به.

7: باب الرحمة .

وعن مولانا أمير المؤمنين قال : ( إنّ للجنة ثمانية أبواب، باب يدخل منه النبيون والصدّيقون وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبّونا .. وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن شهد أن لا إله إلا الله ، ولم يكن في قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت) (1).. ولهذا الحديث معان عدية نتركها لمظانّها .

وللجنة درجات مختلفة .. قال تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) (2) .

وقال تعالى : (انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) (3).

وقال رسول الله : ( إنّ الله جلّ ثناؤه ليدخل قوماً الجنّة فيعطيهم حتى تنتهي أمانيهم وفوقهم قوم في الدرجات العلى ، فإذا نظروا إليهم عرفوهم فيقولون: ربنا إخواننا كنا معهم في الدنيا فيمَ فضّلتهم علينا؟ فيقال : هيهات! إنّهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين ترون، ويقومون حين تنامون ويشخصون حين تخفضون) (4) .

وعن مولانا أمير المؤمنين يقول : ( إنّ أهل الجنّة يتراءون منازل شيعتنا كما يتراءى الرجل منكم الكواكب فى أُفق السماء ) (5) .

ص: 102


1- الخصال: ص 407 - 408 . للجنة ثمانية أبواب .
2- سورة طه : 75
3- سورة الإسراء : 21 .
4- أمالي الطوسي : ص 528 .
5- غرر الحكم الفصل التاسع في لفظ أن ح138.

وقال الإمام الصادق : (... فإن درجات الجنّة على عدد آيات القرآن) (1) .

وقال : (الوسيلة درجة هي أفضل درجات الجنة)(2).

وقال علي : (من قوي مسكيناً في دينه، ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه ... فيقول الله ... فوجبت لك أعالي درجات الجنة) (3) .

وقال رسول الله : ( في الجنة ثلاث درجات وفي النار ثلاث درجات ، فأعلى درجات الجنّة لمن أحبّنا بقلبه ونصرنا بلسانه ويده ، وفي الدرجة الثانية من أحبّنا بقلبه ونصرنا بلسانه ، وفي الدرجة الثالثة من أحبّنا بقلبه ، وفي أسفل درك من النار من أبغضنا بقلبه وأعان علينا بلسانه ويده ، وفي الدرك الثانية من النار من أبغضنا بقلبه وأعان علينا بلسانه ، وفي الدرك الثالثة من النار من أبغضنا بقلبه) (4) .

ص: 103


1- أمالي الصدوق : ص 359 المجلس 57 ح 10.
2- تأويل الآيات الظاهرة : ص 152 في سورة المائدة .
3- تفسير الإمام الحسن العسكري : ص 346 ح 228 .
4- المحاسن : ص 153 باب من أحبّنا بقلبه ح76 .

المنازل الخاصة في الجنّة

قال النبي صلی الله علیه وسلم : (إن في الجنّة منازل لا ينالها العباد بأعمالهم، ليس لها علاقة من فوقها، ولا عماد من تحتها، قيل : يارسول الله من أهلها؟ فقال : أهل البلايا والهموم) (1) .

وعنه صلی الله علیه وسلم : ( إن الله عزّ وجلّ جنّة لا يدخلها إلا ثلاثة : رجل حكم على نفسه بالحق ، ورجل زار أخاه المؤمن في الله ، ورجل آثر أخاه المؤمن في الله) (2) .

و عنه صلی الله علیه وسلم : ( إن في الجنّة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها يسكنها من أُمتي من أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام ، وصلى بالليل والناس نیام) (3) .

وعن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام: ( أطيب شيء في الجنة وألذ حبّ الله والحبّ الله والحمد لله ، قال الله عزّ وجل :( وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين ) (4) وذلك أنّهم إذا عاينوا ما في الجنّة من النعيم هاجت المحبّة في قلوبهم فيتنادون عند ذلك الحمد الله رب العالمين) (5) .

وفي حديث المعراج المروي عن النبي صلی الله علیه وسلم : ( يا أحمد : إن في الجنّة قصراً فيها الخواص ، أنظر إليهم كلّ يوم سبعين مرة فأُكلّمهم .. وإذا تلذذ أهل الجنة بالطعام والشراب تلذذوا أولئك بذكري وكلامي وحديثي ، قال : يارب ما علامة أولئك؟ قال : مسجونون، قد سجنوا ألسنتهم من فضول الكلام وبطونهم من فضول الطعام) (6) .

ص: 104


1- بحار الأنوار: ج 81 ص 194 ح 50 باب 44 كتاب الطهارة ، ط طهران.
2- معاني الأخبار : ص 251.
3- بحار الأنوار: ج 8 ص 119 باب الجنة ونعيمها ح 5 ، ط طهران.
4- سورة يونس: 10.
5- بحار الأنوار: ج 69 ص 25 ح 30.
6- إرشاد القلوب : ص 200.

غروس الجنّة

وللجنة مغارس وذكر الله سبحانه غروسها .. قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : (من قال : (سبحان الله) غرس الله له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال : (الحمد الله) غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال : (لا إله إلا الله) غرس الله له بها شجرة في الجنّة، ومن قال : (الله أكبر) غرس الله له شجرة في الجنة، فقال رجل من قريش: يارسول الله! إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ؟ قال : نعم، ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها وذلك إنّ الله عزّ وجلّ يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) (1) ) (2) .

يستفاد من الروايات الصريحة : إن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام هو أول من يدخل الجنة !!

قال علیه السلام : قال لي رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( أنت أوّل من يدخل الجنة ، فقلت : يارسول الله أدخلها قبلك؟ قال : نعم إنّك صاحب لوائي في الآخرة كما أنك صاحب لوائي في الدنيا ، وصاحب اللواء هو المتقدم) (3) .

ودوّن الشيخ الصدوق رحمة الله في كتاب ( علل الشرائع) باباً ذكر فيها العلة التي من أجلها صار علي بن أبي طالب أول علیه السلام من يدخل الجنة (4) .

قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( ألا أدلكم على أهل الجنة ؟ كلّ ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أدلكم على أهل النار ؟ كل متكبّر جوّاظ ) (5) .

والجواظ : في بعض معانيه الجافي والمحتال .

و عنه صلی الله علیه وسلم : ( إن أهل الجنّة الشعث الغبر ، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذَن

ص: 105


1- سورة محمد : 33.
2- أمالي الصدوق : ص 607 المجلس 88 ح16.
3- بحار الأنوار: ج 8 ص 6 ح 9 باب 18 كتاب العدل والمعاد، ط طهران.
4- علل الشرائع : ص 172 .
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 2 ص 183 فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة، ط دار إحياء الكتب العربية.

لهم ، وإذا خطبوا لم يُنكَحوا ، وإذا قالوا لم يُنصت لهم ، حوائج أحدهم تتلجلج في صدره ، لو قُسِّم نورهم يوم القيامة على الناس لوسعهم ) (1) .

وهذا الحديث يحتاج إلى التفسير لفهم معناه ، وقد فسّر البعض هذا الحديث الشريف بقوله :

إنّ أغلب أهل الجنّة كانوا من المستضعفين في الأرض فلم يكونوا من أصحاب الجاه والأموال .. لأنّ أصحاب المال والجاه في الغالب في معرض العصيان والتكبر والغرور وهذا الأمر كثيراً ما يسوقهم إلى سوء العاقبة .. أما المؤمنون الفقراء والمستضعفون فهم أبعد من ذلك ولكن قد ينظر إليهم في الدنيا ومقاييسها الظاهرية بنظرة وضيعة قليلة الشأن إلا أنهم في مقاييس الآخرة من أهل الشأن والمقام لأنّ الذي يحكم مقاييس الآخرة هو البصيرة لا البصر .

ومن هنا قد يظهر في الآخرة أن كثيراً من أهل الجنّة من هؤلاء الفقراء المؤمنين والبائسين الذين كانوا في طاعة الله والجهاد في سبيله إلّا أنّ الناس كانوا يحسبونهم من الهالكين والخاسرين وذلك حسب نظراتهم الظاهرية للأُمور .

ثمّ إنّ صفات الإنسان في الجنّة تختلف عما هو عليه في هذه الدُّنيا .. وفي الأحاديث بعض الإشارة إلى ذلك، قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : (أهل الجنة جرد مرد كحل لا یفنی شبابهم ولا تبلى ثيابهم) (2) .

وعنه صلی الله علیه وسلم : ( يدخل أهل الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين)(3). وفي الحديث عن جابر عن أبي جعفر قال : (إنّ أهل الجنة جرد مرد مكحلين مكللين مطوّقين مسوّرين مختمین ناعمین محبورین مکرمين ، يعطى أحدهم قوة مائة رجل في الطعام والشراب والشهوة (4) .

ص: 106


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 2 ص 183 فصل في مدح الخمول والجنوح إلى العزلة، ط دار إحياء الكتب العربية .
2- كنز العمال: الحديث 39301 .
3- كنز العمال: الحديث 39329 .
4- الاختصاص : ص 356 باب صفة الجنّة.

وعن أبي جعفر علیه السلام : ( إنّ أهل الجنة يحيون فلا يموتون أبداً، ويستيقظون فلا ينامون أبداً، ويستغنون فلا يفتقرون أبداً، ويفرحون فلا يحزنون أبداً، ويضحكون فلا يبكون أبداً، ويكرمون فلا يهانون أبداً، ويفكهون ولا يقطبون أبداً، ويجبرون ويسرون أبداً، ويأكلون فلا يجوعون أبداً، ويروون فلا يظمئون أبداً، ويكسون فلا يعرون أبداً، ويركبون ويتزاورون أبداً ، يسلّم عليهم الولدان المخلدون أبداً، بأيديهم أباريق الفضّة وآنية الذهب أبداً، متكئين على سررٍ أبداً، على الأرائك ينظرون أبداً، تأتيهم التحيّة والتسليم من الله أبداً) (1) .

وللجنة كنوز لا ينالها أحد إلا إذا عمل بشرائطها ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : (من كنوز الجنّة البرّ وإخفاء العمل، والصبر على الرزايا ، وكتمان المصائب) (2) .

وعن رسول صلی الله علیه وسلم : ( أربعة من كنوز البرّ : كتمان الحاجة ، وكتمان الصدقة، وكتمان المرض ، وكتمان المصيبة) (3) .

فكل عمل خير مفتاح باب من أبواب الجنة ، فمفاتيح تلك الأبواب بأيدينا وعندنا فيلزم أن لا نضيعها فنخسر .

قال تعالى : (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة ) (4) .

وقال مولانا أمير المؤمنين علیه السلام : (إن من باع نفسه بغير الجنّة فقد عظمت عليه المحنة) (5) .

و عنه علیه السلام : ( من باع نفسه بغير نعيم الجنّة فقد ظلمها ) (6) .

فعلى الإنسان المؤمن أن لا يبيع آخرته لدنيا وضيعة لأنّ الدُّنيا ليست دار البقاء وليست الهدف .. بل نافذة يطل من خلالها الإنسان إلى حياة أبدية أُخرى ...

ص: 107


1- الاختصاص : ص 356 ذيل باب صفة الجنّة .
2- بحار الأنوار: ج 75 ص 36 ح 1 باب 16 ، ط بيروت. التمحيص: ص 66 ح153.
3- بحار الأنوار: ج 78 ص 208 باب 45 آداب المريض ح 22 . ودعوات الراوندي: ص 164 .
4- سورة التوبة : 111 .
5- غرر الحكم: الحديث 3474.
6- غرر الحكم الحديث 9164 .

أبواب جهنم والحذر منها

ثمّ يطلب الداعي في هذا الدعاء أن يغلق عنه أبواب النيران فيقول : (وأغلق عنّي فيه أبواب النيران ) .

والنار : هي دار العقاب الأخروي والتي تكون بعد الموت وفي يوم القيامة .. وهي دار جعلها الله للكافرين والجاحدين به عزّ وجلّ، والمشركين والعصاة، ولقد حذر الله تعالى عباده من النار وخوفهم منها .. كما طفحت الآيات القرآنية محذرة من عذابها حتى تكرّرت بما يناهز (120) مرّة .

وجاء التعبير القرآني عنها بألفاظ مختلفة ، أشهرها : (جهنم).

وكلمة جهنّم : قيل فارسية، وقيل أعجمية ، وقيل عبرانية وأصلها (كهنام) (1).

قال تعالى : (جهنّم يدخلونها وبئس القرار ) (2) .

ثمّ إنّ لجهنّم عدّة أسماء أشار إليها القرآن الكريم ، منها :

1: الجحيم .

2 : الحافرة .

3 :الحطمة .

4 : دار البوار .

5 : دار الخلد .

6 : دار الفاسقين

7 : السعير .

8 : السقر .

9 :اللظى .

10 : الهاوية . وغيرها ..

ص: 108


1- أقرب الموارد : ج 1 ص 147 .
2- سورة إبراهيم: 29 .

والظاهر أنّ هذه التسميات جاءت لاختلاف دركات أهلها فلكلّ درك اسم .. إلّا أنّ الجامع المشترك لهذه التسميات هي النار ، وهي تكون مصير كلّ معتد أثيم .. قال تعالى: (ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصمّاً مأواهم جهنّم كلّما خبت زدناهم سعيراً ) (1).

وقد أشار مولانا أمير المؤمنين علیه السلام إلى أهلها ... بقوله : ( النار غاية المفرطين ) (2) ، والظاهر أنّ المراد من المفرّطين الخارجين عن حدود الطاعة سواء في الفكر ، أمثال الكفّار والملحدين ونحوهم، أو في العمل أمثال الفسّاق ..

وقد وصف أمير المؤمنين علیه السلام بعض حالاتها فقال :( إنّها نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفك أسيرها، ولا يجبر كسيرها، حرّها شديد، وقعرها بعيد ، وماؤها صديد )(3).

وقال علیه السلام أيضاً: (فكيف أستطيع الصبر على نار لو قذفت بش-رة إلى الأرض لأحرقت نبتها، ولو اعتصمت نفس بقلة لأنضجها وهج النار في قلّتها وأيما(إنّما) خير لعليّ أن يكون عند ذي العرش مقرّباً أو يكون في لظى خسيئاً مبعداً مسخوطاً عليه بجرمه مكذّباً) (4) .

وللتقريب إلى الذهن ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله تشبيه نار الآخرة بنار الدُّنيا حيث قال : (ناركم هذه جزء من سبعين جزءً من نار جهنّم (5).

وأمّا حالات أهل النار فقد أشار إلى بعضها مولانا الإمام الباقر علیه السلام بقول : (إنّ أهل النار يتعاوون فيها كما يتعاوى الكلاب والذئاب ممّا يلقون من ألم (أليم) العذاب.. كليلة أبصارهم ، صم ٌبكمً عميً مسودّة وجوههم، خاسئين فيها نادمين) (6) .

ولعلّ ممّا يهول الإنسان ويزيد في ذعره ما ورد في بعض الآيات والروايات من أنّ بعض الناس يصبحون وقوداً لنار جهنّم في الآخرة فمن هم وقود النار؟

ص: 109


1- سورة الإسراء : 97 .
2- غرر الحكم : ص 169 الحديث : 3326.
3- كنز العمّال : ج 44225 ، وشبهه في الغارات : ص 152 .
4- أمالي الصدوق : ص 496 ح7.
5- تفسير القمّي: ج 1 ص 366 في سورة الرعد .
6- أمالي الصدوق : مجلس 82 ص 447 ح 14 .

قال تعالى : (وأمّا الفاسقون فكانوا لجهنّم حطباً) (1). وهناك آية أُخرى تقول: (أولئك هم وقود النار) . (2)وآية أُخرى تقول :( حصب جهنّم ) (3) .

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام محذّراً منها :( اعلموا إنّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار فارحموا نفوسكم، فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدُنيا ، أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه والعثرة تدميه ،والرمضاء تحرقه، فكيف إذا كان بين طابقين من نار ، ضجيع حجر وقرين شيطان) (4) .

وقال علیه السلام : (فلو رأيتهم يا أحنف ! ينحدرون في أوديتها ويصعدون جبالها وقد ألبسوا المقطعات من القطران ،وأقرنوا مع فجّارها وشياطينها .. فإذا استغاثوا من حريق شدّت عليهم عقاربها وحياتها) (5) .

وهنا قد يخطر في ذهن البعض هذا السؤال، فيقول : هل لأهل النار جوع وعطش، فإذا جاعوا ما هو طعامهم وإذا عطشوا ما هو شرابهم؟

القرآن يشير في بعض آياته إلى الجواب فيبيّن طعامهم وشرابهم ....

قال تعالى :( ليس لهم طعامٌ إلّا من ضريع *لا يسمن ولا يُغني من جوع )(6).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرٌ من الصبر ،وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرّاً من النار ، سمّاه الله الضريع)(7).

وقال سبحانه : (إنّ شجرة الزقّوم طعام الأثيم )(8)، والأثيم هو الذي به إثم .

وقال تعالى : (فليس له اليوم هاهنا حميم *ولا طعام إلّا من غسلين )(9).

ص: 110


1- سورة الجن : 15 .
2- سورة آل عمران: 10.
3- سورة الأنبياء : 98 .
4- نهج البلاغة : الخطبة 183 .
5- صفات الشيعة : ص 123 .
6- سورة الغاشية : 6 و 7 .
7- نور الثقلين : ج 5 ص 565 ح 4 .
8- سورة الدخان : 43 و 44 .
9- سورة الحاقة : 35 و 36 .

على أبواب الجنان

والغسلين : ما يسيل من جلود أهل النار .

أمّا شرابهم ، فقال سبحانه: (لهم شراب من حميم )(1)،والحميم هو الحارّ شديد الحرارة.

وقال تعالى : (فشاربون عليه من الحميم* فشاربون شرب الهيم )(2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : ( إنّ أهل النار لمّا على الزقوم والضريع في بطونهم كغلي الحميم سألوا الشراب، فأتوا بشراب غساق وصديد يتجرّعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كلّ مكان وما هو بميّت) (3).

قال تعالى : (فادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبّرين ) (4) .

وقال سبحانه : (وإنّ جهنّم لموعدهم أجمعين *لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزءُ مقسوم(5)،والجزء المقسوم : أي النصيب المفروض ...

وقال الإمام الباقر علیه السلام في قوله تعالى : (لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم ) (6) : إنّ الله جعلها سبع درکات :

أعلاها الجحيم ، يقوم أهلها على الصفا منها، تغلي أدمغتهم فيها كغليّ القدور بما فيها.

والثانية : لظى ، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولّى وجمع فأوعى.

والثالثة : سقر ، لا تبقي ولا تذر ، لواحة للبشر ، عليها تسعة عشر .

والرابعة : الحطمة ، ومنها يثور شرر كالقصر كأنّها جمالات صفر ..

والخامسة : الهاوية، فيها ملأ يدعون يا مالك أغثنا ، فإذا أغاثهم جعل لهم آنية من صفر من نار فيه صديد ماء يسيل من جلودهم كأنّه مهل .

ص: 111


1- سورة يونس : 4 .
2- سورة الواقعة : 54 و 55 .
3- بحار الأنوار : ص 302 ح58 .
4- سورة النحل : 29 .
5- سورة الحجر : 43 و 44 .
6- سورة الحجر : 44.

والسادسة : هي السعير ، فيها ثلاثمائة سرادق من نار ...

والسابعة : جهنّم ، وفيها الفلق وهو جبّ في جهنّم إذا فتح أسعر النار سعراً، وهو أشدّ النار عذاباً .. (1)

والمهل ما ينماث من القطران الرقيق والسمّ والمعادن أعاذنا الله وإيّاكم منها بحرمة محمّد وآله الطيبّين الطاهرين.

أصحاب النار

وأصحاب النار : هم الذين تأتيهم آيات الله فلا يتدبّرونها فيعصون الله ما أمرهم .. هم الذين غرّتهم الدُنيا بغرورها فظنّوا أنّهم لن يموتوا .. واستخفّوا بتحذير القرآن لهم ..

قال تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعينُ لا يُبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون ) (2) .

وقال سبحانه: (فأمّا من طغى *وآثر الحياة الدنيا *فإنّ الجحيم هي المأوى) (3) .

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( أهل النار كلّ جعظري جوّاظ مستكبر جمّاع منّاع ، وأهل الجنّة الضعفاء المغلوبون) (4) .

والظاهر أنّ أحد مصاديق الجماع ذلك الذي يجمع المال من دون مراعاة الأحكام الشرعية ثمّ يمنع حقوقه ولا يعطيها لأهلها ، كما أنّ الجعظري الجوّاظ هو المختال في المشي.

ص: 112


1- بحار الأنوار: ج 8 ص 289 ح 27 باب النار ، ط طهران ، وراجع مجمع البيان في تفسير الآيات الشريفة (43و 44) فى سورة الحجر .
2- سورة الأعراف : 179 .
3- سورة النازعات : 37 - 39.
4- كنز العمّال: ح 44064 .

قال رسول الله صلی الله علیه و آله: (أوّل من يدخل النار أمير متسلّط لم يعدل، وذو ثروة من المال لم يعط المال حقّه، وفقير فخور) (1) .

ومن أشدّ الناس عذاباً؟

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : (أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه ) (2) .

و عنه صلی الله علیه و آله : ( أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتل نبيّاً، أو قتله نبيّ، وإمام ضلالة و ممثّل من الممثّلين) (3) .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : ( أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المتسخط لقضاء الله) (4).

قال أمير المؤمنين علیه السلام : (إنّ في جهنّم رحىّ تطحن خمساً أفلا تسألون ما طحنها؟ فقيل له : فما طحنها يا أمير المؤمنين؟ قال : العلماء الفجرة، والقرّاء الفسقة، والجبابرة الظلمة، والوزراء الخونة ، والعرفاء الكذبة) (5) .

قال تعالى : (قيل ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبّرين ) (6) .

وقال الإمام الباقر علیه السلام : (إنّ في جهنّم لجبلاً يُقال له الصعدى وأنّ في الصعدى لوادياً يقال له سقر ، وأنّ في سقر لجبّاً يقال له : هبهب، كلّما كشف غطاء ذلك الجبّ ضجّ أهل النار من حرّه وذلك منازل الجبّارين)(7).

وقد ورد في دعاء كميل بن زياد عن مولانا أمير المؤمنين علیه السلام :( أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنّة والناس أجمعين وأن تخلّد فيها المعاندين) (8).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خمسة لا تطفأ نيرانهم ولا تموت أبدانهم : رجل أشرك بالله ، ورجل عقّ والديه، ورجل سعى بأخيه إلى سلطان فقتله، ورجل قتل نفساً بغير نفس،

ص: 113


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج 2 ص 28 ح 20 باب 31.
2- كنز العمّال: ح 28977 .
3- الدّر المنثور : ج 1 ص 178 .
4- غرر الحكم : الفصل الثامن ح401 .
5- الخصال : ص 296 ح 65 باب الخمسة .
6- سورة الزمر : 72.
7- ثواب الأعمال : ص 324 ح 1.
8- مفاتيح الجنان : دعاء كميل .

ورجل أذنب ذنباً تحمل ذنبه على الله عزّ وجلّ)(1).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : (إنّ قوماً يحرقون بالنار حتّى إذا صاروا حميماً - حما - أدركتهم الشفاعة) (2) .والذي يبدو من روايات أخرى أنّ هذا أدنى منازل أهل الجنّة .

ولكن ما هي علّة الخلود في النار؟

الإمام الصادق علیه السلام يجيب على هذا السؤال بقوله علیه السلام : (إنّما خلد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدُّنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خلد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدُّنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿قل كلُّ يعمل على شاكلته) (3) ، قال : على نيته) (4) .

قال رسول الله صلى الله علیه و آله :( ليس منكم أحد إلّا وله منزلان : أحدهما في الجنّة والآخر في النار) (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : ( ما خلق الله خلقاً إلّا جعل له في الجنّة منزلاً وفي النار منزلاً .... فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، ويورث هؤلاء منازل هؤلاء وذلك قول الله تعالى :( أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس (6) (7) .

مفاتيح الرحمة والعذاب

ومعلوم أنّ لكل باب مفتاح ينبغي على العبد أن يمسك بمفاتيح الجنان لتفتح في وجهه فيدخل الجنّة آمناً .. كما يلزم أن يتجنّب عن مفاتيح النيران لينجو من عذابها ..

ومن أهمّ مفاتيح الجنان :

1 : طاعة الله سبحانه في القول والعمل.

ص: 114


1- مستدرك الوسائل: ج 9 ص 149 ح 10516 .
2- الزهد : ص 96 ح 2610 .
3- سورة الإسراء : 84 .
4- بحار الأنوار: ج 8 ص 347 باب 26 ح 5 ، ط طهران.
5- كنز العمّال: ح 39404 .
6- سورة (المؤمنون) : 10 - 11 .
7- بحار الأنوار: ج 8 ص 287 ح 19 باب 24 ، ط طهران .

2: التمسك بولاية الأئمة علیهم السلام والاقتداء بسيرتهم.

ومن هذا نعرف ما هي مفاتيح النيران من باب أنّه (تعرف الأشياء بأضدادها). وبما أنّ الإنسان لا يمكنه أن يعتمد على نفسه في أعماله وسلوكه ما لم يستند إلى توفيق الله سبحانه وتأييده لذا كان عليه أن يسأل الله سبحانه أن يتولّى إعانته في غلق أبواب النيران وخاصّة في هذا الشهر العظيم شهر الرحمة والمغفرة شهر الصيام الذي هو جنّة من النار لذا يقول في دعائه الوارد في هذا اليوم : (واغلق عنّي فيه أبواب النيران ).

التلاوة مفتاح الجنّة

ومعلوم أنّ تلاوة القرآن في هذا الشهر الكريم من أهمّ مفاتيح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران .. فهذا الشهر هو شهر القرآن .. وشهر نزوله على قلب رسول الله صلی الله علیه و آله وفيه ليلة هي خير من الف شهر وهي لیلة القدر...لذا سألها العبد بعد تلك الفقرات فقال : (ووفقّني فيه لتلاوة القرآن).

وقد حثّ الله تعالى على قراءة القرآن، وأشار إلى مصير أهل القرآن فقال سبحانه وتعالى : إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارة لن تبور) (1) . وقد حثَّ رسول الله صلی الله علیه و آله على تلاوة القرآن أيضاً في غير شهر رمضان فكيف في هذا الشهر العظيم وهو ربيع القرآن وشهر الرحمة الذي صفدت فيه الشياطين بأصفاد وغلت كما في الروايات .

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( عليك بقراءة القرآن، فإن قراءته كفّارة للذنوب وستر في النار وأمان من العذاب ) (2) .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام :( إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل.. وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تُلى حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حُرِّف عن مواضعه ولا في البلاد شيء أنكر من

ص: 115


1- سورة فاطر: 29
2- بحار الأنوار: ج 92 ص 17 ح 18 باب 1، ط طهران .

المعروف ولا أعرف من المنكر فقد نَبَذَ الكتاب حَمَلتُه وتناساه حفظته ، فالكتاب يومئذ وأهلهُ طريدان منفيان ... و من قبلُ ما مثلوا بالصالحين كلَّ مُثلةٍ) (1) .

ومعلوم أنّ التلاوة لها مراتب فمرتبتها الأوّلية هي القراءة والرتبة الأسمى تعني اتّباع القرآن في العمل ، ومعلوم أنّ العمل غاية القول والقراءة .

قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( يتلونه حق تلاوته) (2) (يتبعونه حقّ اتباعه) (3).

السكينة والاطمئنان

ومعلوم أنّ بعد ذكر جهنّم وأهوالها قد يصاب الإنسان بالخوف وقلبه يشعر بالقلق لذا ينقطع إلى ربِّه الكريم لينعم عليه بالأمن والسكينة ويغمر قلبه بالاطمئنان رحمةً وتفضّلاً بعد أن كان مؤمناً وعمل صالحاً .. فقال في خاتمة الدعاء ( يا منزل السكينة فى قلوب المؤمنين )..

والسكينة : من الاطمئنان والاستقرار والثقة والسداد، والظاهر أنّ السكينة ونزولها مختصّ بقلوب المؤمنين ، وهو أيضاً تفضيل وتسديد و تشريف .. قال تعالى : (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) (4) .

والله تعالى تعهّد بنصرة عباده المؤمنين ، وعلى جميع الأصعدة المادّية منها والمعنوية ... والنصرة بجميع أشكالها، سواء كانت على العدو الخارجي .. الظاهري، أو العدو الداخلي النفسي .. وكانت هذه الفقرة توسّل من قبل الداعي لكسب التوفيق والتسديد الإلهي في الدُّنيا والآخرة حيث يقول : (أنزل عليّ سكينتك).. أي أنزلها على قلبي لأنّك تعهّدت المؤمنين ووعدتهم بجميع أنواع السداد والتوفيق ..

نسأل الله عزّ وجل أن يجعلنا منهم .

ص: 116


1- نهج البلاغة : الخطبة 147 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد : ج 9 ص 104 خطبة 147 ، ط دار إحياء الكتب العربية.
2- سورة البقرة : 121.
3- الدرّ المنثور : ج 1 ص 272 .
4- سورة الفتح : 4 .

الدليل إلى مرضاة الله

21

دعاء اليوم الواحد والعشرين

اشارة

اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِيهِ إِلَىٰ مَرْضَاتِكَ دَلِيلاً وَلا تَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ عَلَى سَبِيلاً وَاجْعَل الجَنَّةَ لِى مَنْزِلاً وَمُقِيلاً يَا قَاضِي حَوَائِجَ الطَّالِبِينَ.

البلد الأمين : ص 309 ، عن النبي صلى الله علیه و آله:(من دعا به نوّر الله قبره وبيّض وجهه ومرّ على

الصراط كالبرق الخاطف).

ص: 117

ص: 118

الأدلّاء على مرضاة الله

الإنسان بطبيعته قاصر عن معرفة الطرق الموصلة إلى رضى الله تعالى لذاكان لابدّ له من الاستعانة بالوسائل التي توصله إليه عزّ وجلّ، وإذا كان هذا الدليل هو من صنف البشر فلابدّ أن يشتمل على شروط منها العصمة الإلهية التي تؤهّله لأن يكون الواسطة إلى الله تعالى ..

فمن غير المقبول عقلاً أن يكون الإنسان الذي يصدر منه الخطأ والمعصية واسطة ودليلاً إليه تعالى، فيبقى الترشيح مقتصراً على الأنبياء والأولياء المعصومين علیهم السلام ، فالنبي صلی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیه السلام هم المعصومون عن الخطأ والزلل والمنزّهون عن المعصية وهم الأدلّاء على مرضاة الله .. وقد ورد في الأدلّة والأخبار أنّهم علیه السلام خير وسيلة موصلة إلى رضى الله تعالى .

ويكفي أنّ التاريخ شهد للرسول صلی الله علیه و آله بأنّه أعظم شخصية تاريخية على الإطلاق

ومنزّه عن كلّ عيب ونقص ، وكان الأئمّة الأطهار علیهم السلام الذين هم معدن رسالة النبي صلی الله و علیه و آله بالدرجة التي تليه، وقد شعّت أنوارهم على البشرية فملؤوا الدُّنيا رشداً وهداية وقد وصفهم القرآن الكريم بالطهارة المطلقة بقوله تعالى : (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهرّكم تطهيراً) (1) .

ومعلوم أنّ الطهارة هنا أعمّ من المعنوية والماديّة ، فهم بشهادة القرآن معصومون عن الذنب وعن كلّ عيب وخطأ ، فإذا أراد الإنسان أن يهتدي إلى مرضاة الله عليه أن يتّبع الرسول صلی الله علیه و آله والأئمة الطاهرين علیهم السلام .

إذ جاء في الدعاء المأثور المسمّى بدعاء الصباح والمروي عن أمير المؤمنين علیه السلام:

ص: 119


1- سورة الأحزاب : 33.

(صلَّ الّلهمَّ على الدليل إليك في الليل الأليل والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأوّل وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار ) (1) .

و«الدليل» هو النبي صلی الله علیه و آله و « ذروة الكاهل» الذروة أعالي الشيء والكاهل ما بين الكتفين و «الأعبل »الضخم ،والمراد النبي الخالص حسبه أو الواضح حسبه في مراتب المجد الراسخ والشرف الشامخ . فالرسول صلی الله علیه و آله هو سيّد الأنبياء علیه السلام وإمامهم وهو أول دليل إلى مرضاة الله كما روي عنه علیه السلام قوله : (أنا سيّد المرسلين إذا بعثوا ، وسابقهم إذا وردوا ، ومبشّرهم إذا يئسوا، وإمامهم إذا سجدوا، وأقربهم مجلساً إذا اجتمعوا ، أتكلّم فيصدّقني وأشفع فيشفّعني، وأسأل فيعطيني) (2).

كما تذكر كتب التواريخ وتؤكّد على الحديث المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال

لفاطمة علیهم السلام : ( إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك)(3).

وهو حديث ذكرته أكثر مصادر المسلمين .. والحديث يدلّ على أنّ السيّدة فاطمة الزهراء علیهم السلام هي أيضاً من الأدلّاء على مرضاة الله ، وقد صرّح كبار فقهائنا على حجّية قولها وفعلها وتقريرها وصحّة الاستناد إلى ذلك في استنباط الأحكام الشرعية (4).

ودلالة الحديث واضحة في أنّ تحقّق مرضاة الله تعالى لا يمكن أن تأتي دون الاهتداء بدليل إليه تعالى ، فمن يكون الدليل إلى الله غير هؤلاء المطهّرين من الرجس والذنوب؟

ص: 120


1- بحار الأنوار: ج 91 ص 243 ح 11 كتاب الذكر والدعاء باب أحراز أمير المؤمنين علیه السلام .ط بيروت.
2- كنز العمّال : ج 6 ص 108 ، فضائل الخمسة : ج 1 ص 62 .
3- مستدرك الصحيحين: ج 3 ص 153 ، وأسد الغابة : ج 5 ص 522، والإصابة لابن حجر : ج 8 ص159 ، تهذيب التهذيب : ج 12 ص 441 ، كنز العمّال : ج 7 ص 111 ، و . ..
4- راجع (من فقه الزهراء علیه السلام ) : ج 1 ، المقدّمة .

من صفات الدليل إلى الله

أشرنا أنّ من يتبوّأ مقام الدلالة إلى الله لابدّ وأن يكون معصوماً عن الزلل والخطأ، الأمر الذي لم يجتمع لأحد إلّا عند الرسول الله صلی الله علیه وآله وأهل بيته علیهم السلام ، لأنّ العصمة تختزل في عمقها العلم الربّاني ، بل العلم حقيقة العصمة فيهم السلام علیهم السلام .

يقول ابن المسيب : (ما كان أحد من الأُمّة يقول سلوني غير على علیه السلام ) .

ويقول ابن عبّاس : لقد أُعطي لعلي علیه السلام تسعة أعشار العلم فوالله لقد شاركهم في العشر الباقي) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله في الحديث المتواتر : (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (2) .

وعن الأصبغ بن نباتة قال : لمّا حبس علي علیه السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد متعمّماً بعمامة رسول الله صلی الله علیه و آله لابساً برد رسول الله صلی الله علیه و آله ممتنعلاً نعل رسول الله صلی الله علیه و آله متقلّداً سيف رسول الله صلی الله علیه و آله فصعد المنبر فجلس عليه متحنّكاً.. ثم قال : يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله ، هذا ما زقّني رسول الله زقاً زقاً، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين، أما والله لو تُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوارتهم حتى تنطق التوراة فتقول صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتّى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ماكذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً ، فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه ، ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية: ﴿يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ، أُمّ الكتاب) (3).

ص: 121


1- ينابيع المودّة : ص 447 في فضائل علی علیه السلام .
2- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 345 المجلس 55 ح 1.
3- سورة الرعد: 39.

ثمّ قال علي علیه السلام : (سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أو في نهار أُنزلت ، مكّيها ومدنيّها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها إلّا أخبرتكم) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى يحيى بن زكريا في زهده وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ) (2).

وقال صلی الله علیه وآله : (الكلّ نبي وصيّ ووارث وأنّ عليّاً وصيّي ووارثي) (3).

وهذا الأمر معروف في عصر الخلفاء الذين كانوا يهرعون إلى الإمام علي علیه السلام كلّما داهمتهم معضلة علمية ، فكم من مرّة قالوا : (لولا علي لهلك ..).

وهكذا بقيّة أئمّة أهل البيت علیه السلام فقد اعترف الصديق والعدوّ بغزير علمهم، وبما اتّصفوا به من المعرفة والحكمة التي حيّرت العلماء ولسنا بحاجة إلى إحصاء المناظرات والخطب والأقوال التي غصّت بها كتب المسلمين ، بل يكفينا أنّ أهل البيت علیه السلام قد قرنهم الرسول صلی الله علیه وآله بالقرآن ، فقال في الحديث المتواتر : (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (4) ، كما قرنوا بالرسول صلی الله علیه و آله فأينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا .

وقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال : (لا تصلّوا على الصلاة البتراء فقالوا: ما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون اللّهم َّصل على محمّد وتسكتون بل قولوا: اللّهمَّ صلَّ على محمّد وآل محمّد) (5) .

و عنه صلی الله علیه وآله أنّه قال : (الدعاء محجوب حتّى يصلى على محمّد وآله ) (6) .

ص: 122


1- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 341 المجلس 55 ح 1.
2- كشف الغمّة : ج 1 ص 113 .
3- كشف الغمّة : ج 1 ص 114 .
4- كمال الدين ص 234 .
5- ينابيع المودّة : ص 354 في الآيات الواردة في فضائل أهل البيت علیه السلام .
6- ينابيع المودّة : ص 354 في الآيات الواردة في فضائل أهل البيت علیه السلام .

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين

هذه الليلة الشريفة واحدة من ليالي القدر المباركة كما أشارت الروايات إلى هذا، وهي الليلة التي انتقل فيها أمير المؤمنين علیه السلام إلى ربّه ، وكان الإمام الحسن علیه السلام قد أبّنّ والده العظيم في هذه الليلة بهذه الكلمات : أيّها الناس في هذه الليلة نزل القرآن وفي هذه الليلة رفع عيسى بن مريم وفي هذه الليلة قتل يوشع بن نون وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين والله لا يسبق أبي أحد كان قبله من الأوصياء إلى الجنّة ولا من يكون بعده وإن كان رسول الله صلی الله علیه و آله ليبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وما ترك صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يجمعها ليشتري بها خادماً لأهله (1) .

فهذا علي بن أبي طالب علیه السلام الرجل الاستثنائي.. والموجود العظيم الذي لم تنل الدُنيا بمقدار حبّة خردل أو أصغر من ذلك، الذي قال فيه عمر بن الخطّاب : إنّه مولاي (2).

وقال عنه عمر بن عبد العزيز : ما علمنا أنّ أحداً كان في هذه الأُمة بعد النبي صلی الله علیه و آله أزهد من على بن أبي طالب (3) .

ولمّا أخبر عدوّه اللدود معاوية بمقتله قال : ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب(4).

وقال عنه أيضاً : عقمت الأمّهات أن يلدن مثله (5) .

ص: 123


1- البحار ج 42 ص 202 .
2- المناقب للخوارزمي ص 160 باب 14 ح 190.
3- المصدر نفسه ص 117 فصل 10 ح 128.
4- الاستيعاب : ج 3 ص 1108.
5- ربيع الأبرار : ج 3 ص 80 باب 52 .

وحسب علي علیه السلام ما نزل فيه من القرآن الكريم.

وحسب علي علیه السلام أنّه ولد في بيت الله الحرام ولم ولن يكون ذلك لغيره.

وحسب علي علیه السلام أنّه حارب وحورب من أجل القرآن الكريم.

وحسب علي علیه السلام أنّه رحل في ليالي القرآن الكريم.

وحسب على علیه ا لسلام أنّه كان قرآناً ناطقاً .

فما عسانا أن نقول في مثل هذا الرجل الربّاني الذي جمع الأضداد في نفسه فكان صوَاماً قوّاماً ، زاهداً شجاعاً ، كرّاراً قتالاً رحيماً رؤوفاً ،عادلاً باسلاً ، ... الخ .

وإذا كان الدعاء موقوفة إجابته على الصلاة على النبي وآله علیه السلام فيعرف أنّهم أبواب الله التي منها يُؤتى . والتمسّك بهم وبحبلهم منجاة من الهلاك وقرب من الله تعالى ودليل إلى مرضاة الله تعالى وهكذا يخاطب الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله الإمام أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : (يا علي بشِّر إخوانك ، إن الله قد رضي عنهم ، إذ أرضاك لهم قائداً، ورضوا بك ولياً) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( يا على شيعتك هم الفائزون يوم القيامة) (2) .

وقال رسول الله صلی الله وعلیه وآله : (ترد شيعتك يوم القيامة رواء غير عطاش، ويرد عدوّك عطاشى يستسقون فلا يسقون) (3).

وقال صلی الله علیه و آله : ( أمّا إنّك يابن أبي طالب وشيعتك في الجنّة) (4) .

وقال علي علیه السلام : ( حدّثني رسول الله صلی الله علیه و آله و أنا مسنده إلى صدري .. فقال صلی الله علیه و آله : أي أخي ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ : إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) (5) أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جيئت الأمم تدعون غرّاً

ص: 124


1- شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار : ج 2 ص 397.
2- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 15 المجلس الرابع ح 8.
3- عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج 2 ص 60 ح 238 في مدح علی علیه السلام .
4- كشف الغمّة : ج 1 ص 137.
5- سورة البينة : 7.

محجلين شباعاً مرويين) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله: ( إذا كان يوم القيامة ينادى علي بن أبي طالب علیه السلام بسبعة أسماء أوّلها : يا صدِّيق، يا دالّ ، يا عابد ، يا هادي ، يا مهدي، يا فتى ، يا علي ، مرّ أنت وشيعتك إلى الجنّة بغير حساب) (2).

وهذه بعض فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ونحن في ذكرى استشهاده المفجع ، نسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا من شيعته وممّن تمسّك بالثقلين .

وأخرج الطبراني في الأوسط والصعير ، وأبو يعلى وأحمد بن حنبل عن أبي الطفيل عن أبي ذر وهو آخذ بباب الكعبة ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله : ( أنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك ، وأنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له) (3).

وكثيرة هي الأحاديث التي تشير إلى هذه المعاني ولعلّ النقطة المهمّة التي تؤكّدها الروايات المتظافرة هي منزلة أهل البيت ومقامهم العظيم في طريق الهداية والدلالة إلى الرضوان .

وقد جهر رسول الله له بهذه الحقيقة مرّة أُخرى بقوله صلی الله علیه و آله : ( ألا وأنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله عزّ وجلّ هو حبل الله ،من اتّبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة، وعترتي أهل بيتي) (4) . وقد ذُكر هذا الحديث متواتراً في أُمّهات كتب المسلمين باختلاف يسير في بعض الألفاظ ، وفيه إشارة واضحة جلية على أنّ اتباع طريقاً آخر غير طريق القرآن و ترجمانه الذين هم أهل بيت النبوة علیهم السلام إنّما هو زيغ عن جادّة الصواب.

ومن أراد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً فعليه اتّباع أهل البيت علیه السلام الأدلّاء على مرضاة الله .

ص: 125


1- تأويل الآيات الظاهرة : ص 801.
2- مائة منقبة : ص 151 المنقبة الثالثة والثمانون.
3- ينابيع المودّة : ج 1 ص 30 في حديث سفينة نوح الباب الرابع ح 1.
4- ينابيع المودّة : ج 1 ص 32 في حديث الثقلين الباب الرابع .

قال السيّد شرف الدين تعليقاً على الحديث الشريف: (وحسب أئمّة العترة الطاهرة أن يكونوا عند الله ورسوله بمنزلة الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وكفى بذلك حجّة تأخذ بالأعناق إلى التعبّد بمذهبهم فإنّ المسلم لا يرتضي بكتاب الله بدلاً فكيف يبتغي عن أعد اله حولاً .. ) (1) .

هذا فضلاً عن الثواب العظيم والآثار العظيمة التي تترتّب على حبّ أهل البيت و موالاتهم علیهم السلام ، ففي الحديث قال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( حبّي وحبّ أهل بيتي نافع في سبعة مواطن أهوالهنّ عظيمة : عند الوفاة وفي القبر وعند النشور وعند الكتاب وعند الحساب وعند الصراط وعند الميزان) (2) .

وفي حديث آخر قال رسول الله صلی الله علیه و آله: (من رزقه الله حبّ الأئمّة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدُّنيا والآخرة فلا يشكّن أنّه في الجنّة) (3) .

ولعلّ من هنا ورد الدعاء في هذا الشهر العظيم .. إذ أنّ الداعي يطلب من ربّه تبارك وتعالى أن يجعل له دليلاً إلى مرضاته سبحانه ..

وكأنّه يطلب بلسان حاله ومقاله أن يوفّقه لمعرفة أئمّته وسادته وبعد هذا يوفّقه لطاعتهم والالتزام بنهجهم ليكون مساقاً إلى رضوان ربّه حيث يقول : (الّلهمَّ اجعل لي فيه إلى مرضاتك دليلاً) ...

ولأنّ في الغالب يحول الشيطان بين الإنسان وبين الهدى والرضوان لذا لم يكن يكفي أن يطلب الإنسان الجانب الإيجابي فقط بل لابدّ من رفع الموانع من طريق الرضا أيضاً ، لذا تعقّب الدعاء بسؤاله أن يبعد الشيطان عن سبيله فقال : (ولا تجعل للشيطان فيه على سبيلاً) وذلك لتتوفّر أسباب الهداية التامة.

ص: 126


1- المراجعات : ص 28 الطبعة الثالثة المنقّحة.
2- روضة الواعظين : ج 2 ص 271 .
3- مشكاة الأنوار : ص 81 .

الشيطان يسدّ طريق الرضا

وبعدما دعا المؤمن ربّه أن يوصله إليه بالدليل فإنّه يدعو كذلك بسدّ الطريق على الشيطان ، فإنّ الشيطان هو الذي يفسد العمل الصالح ويستخدم كلّ الأساليب في سبيل الوصول إلى بغيته والانقضاض على فريسته، وغالباً ما يلاحق الشيطان الإنسان المؤمن، حيث يدخل إليه من مداخل العبادة التي هي أساس الإيمان فمرّة يزيّنها له فيدخل العجب في نفسه ، ومرّة أُخرى يحبّب إليه الكسل اعتماداً على ما يتصوّره حججاً شرعية أحياناً في غير موضعها فيوهمه بأنّه على حقّ .. وهكذا في كلّ حركاته وسكناته يحاول أن يوقع بالمؤمن عن طريق العمل بالفحشاء، يقول تعالى: ﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) (1) ، أو بالوعود الكاذبة كما يصف القرآن الكريم ذلك :

(يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلّا غروراً ) (2) .

وتارة أُخرى بالتخويف والترهيب كما يقول الله تعالى في ذلك :( إنّما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم )(3) ، ومتى ما وقعوا تحت تأثير هذا الخوف فستكون الغلبة له ولجنوده.

وقد يأتى الشيطان بسبل أُخرى كتزيين أعمال الإنسان حتّى أعماله السيّئة وإظهارها له بالعمل الحسن: (وزيّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) (4)، فيختلط على الإنسان عمل الخير والشرّ فيقع في حبائل الشيطان .

ولا تتوقّف مكائد الشيطان عند هذا الحدّ بل قد يتدخّل بتطييب الأكل الحرام للإنسان ثمّ يستدرجه إلى الكفر كما يقول تعالى :( كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيباً ولا تتّبعوا خطوات الشيطان )(5).

وقوله سبحانه : (إنّما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا )(6).

ص: 127


1- سورة البقرة : 268 .
2- سورة النساء: 120 .
3- سورة آل عمران: 175 .
4- سورة الأنعام: 43.
5- سورة البقرة : 36.
6- سورة آل عمران: 155.

وعادة يستدرج الشيطان الإنسان بصورة مرحلية وما يسمّيها القرآن الكريم بخطوات الشيطان ، قال تعالى :( ادخلوا في السلم كافّة ولا تّتبعوا خطوات الشيطان )(1).

وعلى ما تقدّم من آيات فإنّ الله تعالى حذّرنا من كيد الشيطان وأساليبه ووساوسه، لذا كان على الإنسان أن يكون على حذر ومراقبة لنفسه ولتصرّفاته ويزنها بالقسطاس المستقيم لكي لا يداخله الإغراء والخداع فيضلّ عن السبيل.

قال علیه السلام : (من يطع الشيطان يعص الله يعذّبه الله) (2) .

وعن علي علیه السلام : (الفتن ثلاث حبّ النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخ الشيطان ، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان، فمن أحبّ النساء لم ينتفع بعيشه ، ومن أحب الأشربة حرمت عليه الجنّة ، ومن أحبّ الدينار والدرهم فهو عبد الدُّنيا) (3).

و قال علیه السلام : ( ما دمت لا ترى الشيطان ميّتاً فلا تأمن مكره) (4) .

وقال علیه السلام : (إذا وسوس الشيطان إلى أحدكم فليتعوّذ بالله ) (5) .

وقال علیه السلام : (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس فإذا ضيعهنّ تجرأ عليه وأوقعه في العظائم) (6).

وقال علیه السلام : (ليس شيء أشدّ على الشيطان من قراءة المصحف نظراً) (7) .

وقال علیه السلام : (ما نام الليل كلّه أحد إلّا بال شيطان في أُذنيه وجاء يوم القيامة مفلساً) (8).

ص: 128


1- سورة البقرة : 208
2- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 487 المجلس 74ح1.
3- الخصال: ص 113 ح 91 باب الثلاثة.
4- الخصال : ص 217 ح 41 باب الأربعة.
5- الخصال : ص 624 حديث الأربعمائة .
6- عيون أخبار الرضاء علیه السلام: ج 2 ص 27 ح 21 ، في فضل أمير المؤمنين علیه السلام.
7- ثواب الأعمال : ص 103.
8- إرشاد القلوب :ص 91 .

كيف نقاوم الشيطان؟

أوّل سهم في مواجهة الشيطان هو ذكر الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيَّض له شيطاناً فهو له قرين) (1).

وقال رسول صلى الله علیه و آلهّ: ( إن الله يبغض الشاب الفارغ) (2) .

ويقول صاحب «جامع السعادات» في تفسير الحديث الشريف : (لأنّ الشاب إذا تعطّل عن عمل مباح يشغل لابدّ أن يدخل في قلبه الشيطان ويعيش فيه ويبّيض ويفرّخ ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد الحيوانات، لأنّ الشيطان طبعه من النار ، والشهوة في نفس الشاب كالحلفاء اليابسة فإذا وجدها كثر تولّده، وتولّدت النار من النار ولم تنقطع أصلاً) (3) .

ومن العلاجات الناجعة لمقاومة الشيطان :

1: سد الأبواب عليه عن طريق نبذ الشهوة والغضب والحرص والحسد والعداوة والعجب إلى آخر الصفات السلبية في الإنسان) و(إذا سدّت لم يكن له إليه سبيل إلّا على طريق الاختلاس والاجتياز)(4).

2: إحلال الصفات الحميدة بدل الرذائل والمواظبة على العبادة وذكر الله عزّ وجلّ.

3: كثرة الذكر بالقلب واللسان . (والذكر يقطع تسلّط الشيطان وتعرفه بالكلّية،

ص: 129


1- سورة الزخرف : 36 .
2- جامع السعادات : ج 1 ص 152.
3- جامع السعادات : ج 1 ص 152.
4- جامع السعادات : ج 1 ص 153 .

ولو لم يسدّ أبوابه أولاً لم ينفع مجرّد الذكر اللساني) (1) .

و (الذكر إنّما ينفع للقلب إذا كان مطهراً عن شوائب الهوى ومنوّراً بأنواع الورع والتقوى) (2) ، كما قال تعالى : (إنّ الذين اتّقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون) (3) .

فأهل التقوى عندما يتعرّضون إلى وساوس الشيطان وحيله يلجئون إلى ذكر الله وتنبيه أنفسهم من الغفلة.

وممّا تقدّم يتوضّح لنا أنّ الدعاء الشريف المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله عندما يحدّد هذه الفقرات إنّما يؤكد أهمّيتها الكبيرة في هذا الشهر الكريم، وبما أنّ الصوم هو درجة من درجات الإخلاص العالية فالدعاء مع الإخلاص يقرب الاستجابة كما قال تعالى : (وادعوه خوفاً وطمعاً إنّ رحمة الله قريبُ من المحسنين) (4) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام : (الإخلاص يجمع حواصل الأعمال وهو معنى القبول وتوقيعه الرضى ، فمن تقبّل الله منه ورضى عنه فهو المخلص وإن قلَّ عمله، ومن لا يتقبّل الله منه فليس بمخلص وإن كثر عمله، اعتباراً بآدم علیه السلام وإبليس وعلامة القبول وجود الاستقامة ببذل كلّ المحاب مع إصابة علم كلّ حركة وسكون) (5) .

فالصوم مع الإخلاص مرفوعاً بالدعاء يحقّق رضى الله تعالى والجنّة قال تعالى :

(والعمل الصالح يرفعه )(6).

ولذا ورد في هذا الدعاء المبارك : (الّلهمَّ اجعل لي فيه إلى مرضاتك دليلاً ولا تجعل للشيطان فيه عليَّ سبيلاً واجعل الجنّة لي منزلاً ومقيلاً يا قاضي حوائج الطالبين).

ص: 130


1- جامع السعادات : ج 1 ص 154 .
2- جامع السعادات : ج 1 ص 154 .
3- سورة الأعراف : 201 .
4- سورة الأعراف: 56 .
5- بحار الأنوار: ج 67 ص 245 ح 18 باب 54 ، ط بيروت.
6- سورة فاطر : 10 .

معنى المقيل

ورد في هذا الدعاء : ( واجعل لي الجنّة منزلاً ومقيلاً) فما هو معنى المقيل؟

المقيل له عدّة معان ، منها : الموضع ، قال تعالى :( أصحاب الجنّة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً) (1) .

ومنها : الاستراحة نصف النهار ، إذا اشتدّ الحرّ وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل على ذلك أنّ الجنّة لا نوم فيها. وفي شعر ابن رواحة:

اليوم نضربكم على تنزيله *** ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ومنها : المنزل : النزول وهو الحلول .. كقول الشاعر :

أو إن ذكرتك الدار منزلها جمل *** بكيت، مدمع العين منحدر سجل

كما أنّ المنزل والمنزلة : موضع النزول .. والمنزل أيضاً الدار (2) .

ويبدو أنّ المقصود في هذه الفقرة من الدعاء الشريف أنّ المؤمن يطلب من الله سبحانه أن يجعل الجنّة داره ومحلّ راحته واستراحته من الأتعاب والغموم ومعلوم أنّ الوصول لذلك يتمّ بالاقتداء بالرسول الأعظم صلی الله علیه و آله والالتزام بسيرة المعصومين علیه السلام ، لأنّهم الأدلّاء على الله تعالى كما ذكرنا ذلك في بداية بحثنا ، وواضح أنّ مسايرة أهل البيت علیه السلام في الإيمان والعمل تقطع السبيل أمام الشيطان، خصوصاً إذا اقترنت

بالإخلاص ، لأنّ الشيطان لا يستطيع أن يجتاز الحصون المنيعة للعابد المتّقي المخلص لأنّه أغلق كلّ المنافذ عليه ، والدعاء يعتبر من أهمّ هذه الحصون أيضاً، فعن الإمام الصادق علیه السلام عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال : ( عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء ، فأمّا الدعاء فيدفع عنكم به البلاء ، وأمّا الاستغفار فتمحى به ذنوبكم) (3) ، وعند ذلك سيكون الجزاء الجنّة والرضوان.

ص: 131


1- سورة الفرقان : 24 .
2- لسان العرب : ج 11 ص 577 باب قيل وأنزل.
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 378 و 379 باب الدعاء ح 2 .

الجنّة وشهر رمضان

روي عن عبدالله بن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه سمع النبيّ صلی الله علیه و آله يقول : (إنّ الجنّة لتنجّد وتزيّن من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان فإذا كان أول ليلة منه هبّت ريح من تحت العرش يقال له المثيرة تصفق ورق أشجار الجنان وحلق المصاريع فيسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه ويبرزن الحور العين حتّى يقفن بين شرف الجنّة ، فينادين هل من خاطب إلى الله فيزوّجه ؟ ثمّ يقلن يارضوان ما هذه الليلة فيجيبهنّ بالتلبية ثمّ يقول : يا خيرات حسان هذه أوّل ليلة من شهر رمضان قد فتحت أبواب الجنان ، يا مالك اغلق أبواب جهنّم عن الصائمين من أُمة محمّد صلی الله علیه و آله يا جبرائيل اهبط إلى الأرض فصفد مردة الشياطين وغلّهم بالأغلال ، ثمّ اقذف بهم في لجج البحار حتّى لا يفسدوا على أُمّة محمّد حبيبي صيامهم) (1) .

ومّما تقدّم من البيان يتّضح أنّ دعاء اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان يتضمّن ثلاثة مضامين هي :

1: مرضاة الله سبحانه وتعالى .

2: وقطع السبيل أمام الشيطان لكي لا يكون حائلاً دون بلوغ هدف المؤمن.

3: وأخيراً رجاؤه وهي الجنّة وهي من نتائج رضى الله تعالى أو من مصاديقه على اختلاف الآراء في ذلك .

ويعدّ العلماء العارفون بتعاليم أهل البيت علیه السلام درجة الرضا أسمى ما يصل إليه الإنسان عبر رحلته الدنيوية إلى مراتب القرب من الله جلّت قدرته :( رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ) (2) .

ص: 132


1- بحار الأنوار: ج 93 ص 338 باب 46 وجوب صوم شهر رمضان وفضله ح 1 ، ط بيروت.
2- سورة المجادلة: 22.

وعن أبي عبد الله علیه السلام قال : لقي الحسن بن علي علیه السلام عبد الله بن جعفر فقال : (يا عبد الله كيف يكون المؤمن مؤمناً وهو يسخط قسمه ويحقِّر منزلته والحاكم عليه الله ، فأنا الضامن لمن لا يهجس في قلبه إلّا الرضا أن يدعو الله فيستجاب له) (1).

وعنه علیه السلام أنّه قال : ( فيما أوحى الله إلى موسى يا موسى ما خلقت خلقاً أحبّ إليَّ من عبدي المؤمن وإنّي أنا أبتليه بما هو خير له وأُعطيه لما هو خيرٌ له، وأزوي عنه لما هو خيرٌ له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه فليصبر على بلائي وليرض بقضائي وليشكر نعمائي أُكتبه في الصدِّيقين عندي إذا عمل برضاي وأطاع أمري) (2) .

و ممّا سبق نستنتج أنّ حالة الرضا والتسليم المطلق لله تعالى ليست حصراً على فئة من البشر ، نعم هناك تفاوت في المقامات والرتب، فدرجة المعصومين علیه السلام لا تضاهيها درجة الناس بأجمعهم ، نعم هم - الناس - يقتربون من درجة الرضا أكثر كلّما اقتدوا بهم أكثر وتابعوا في أعمالهم أعمال المعصومين علیه السلام وتعلّموا منهم ، لذلك كان يحظى بعض أصحاب الأئمّة بتأييدهم وتسديدهم علیه السلام في الدُّنيا وبشفاعتهم في

الآخرة ..

ونحن إذ لا نجد أنفسنا في الدرجات العالية من أتباع الأئمة علیه السلام والمقتدين بهديهم لا نملك إلّا أن نسأل الله سبحانه بأن يسدّدنا ويوفّقنا لأن نكون كذلك عسى أن نكون من الفائزين بمعرفتهم أوّلاً ، والمقتدين بهم ثانياً والناجين بشفاعتهم في الآخرة ثالثاً.. فإنه سبحانه قاضي حوائج الطالبين.. كما ورد في آخر هذا الدعاء الشريف المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله

ص: 133


1- بحار الأنوار: ج 68 ص 159 كتاب الإيمان والكفر باب 63 ، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 68 ص 160 كتاب الإيمان والكفر ح 77، ومكارم الأخلاق باب التوكّل والتفويض .. ط بيروت .

ص: 134

أبواب الفضل الإلهي

22

دعاء اليوم الثاني والعشرين

اشارة

اللّهُمَّ افْتَحْ لِي فِيهِ أَبْوَابَ فَضْلِكَ، وَأَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ بَرَكَاتِكَ ، وَوَفِّقْنِي فِيهِ لِمُوجِبَاتِ مَرْضَاتِكَ ، وَأَسْكِنِّي فِيهِ بُحْبُوحَاتِ جَنَّاتِك، يَا مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ.

البلد الأمين : ص 309 عن النبّي صلی الله علیه و آله : ( من دعا به هوّن الله عليه مسألة منكر ونكير وسكرات الموت وثبته بالقول الثابت).

ص: 135

ص: 136

أبواب الفضل

يفتتح الداعي دعاءه في هذا اليوم من شهر رمضان المبارك وهو يطلب من الله عزّ وجل أن يفتح له الأبواب! فأي أبواب قصدها؟ ..

أبواب الفضل ..

ولكن ما هو الفضل؟ وهل له أبواب؟ وكيف تفتح؟

لابدّ من توضيح ذلك قبل شرح مضمون الدعاء ...

الفضل بالضم (1): مصدر بمعنى الزيادة ومنه يروى الحديث (إنّ الله ملائكة سيّارة فضلاً ...) ، أي زيادة من الملائكة (التاج).

(ذات الفضول) بالضمّ وبالفتح : اسم الدرع للنبيّ صلی الله علیه و آله.. سميّت لفضلة كانت فيها أي وسعة .. (التاج).

(والفضل) : مطلق الزيادة والرحمة الإلهية .. والسعة.

قال تعالى : (فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من من الخاسرين) (2).

وقال سبحانه : (والله يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)(3).

هذا المعنى يتّضح بأنّ الفضل : هو الخير والرحمة الإلهية التي يختصّ بها الله تعالى من يشاء فيعطيها لمن أراد من عباده ، بقدرته وعظمته ورحمته .. فطوبى لمن شمله الفضل الإلهي، ومن هنا نجد الداعي يطلبه في دعائه ويقول: (الّلهم َّافتح لي أبواب فضلك.)

ولكن علينا أن نعرف كيف يفتح هذا الباب؟ باب الفضل .. باب الرحمة .. باب

ص: 137


1- أقرب الموارد : ج 3 ص 325 باب (فضل).
2- سورة البقرة : 64 .
3- سورة البقرة : 105 .

الخير .. وباب السعة والبركة .. فإنّ فتح الباب لا يتمّ إلّا بالعمل والجهد الحثيث والدؤوب .. وبما أنّ للفضل صوراً متعدّدة تؤول إلى الخير والرحمة لذا نجد أبوابها متعدّدة أيضاً ....

فهنا لابدّ من مسلك آمن يوصلنا إلى هذا الباب .. باب الرحمة .. باب الخیر...وجميع أبواب الفضل الربّاني ، والوصول إلى هذه الأبواب هو مبتغى المؤمنين المريدين لرحمة الله وفضله ولولا رحمة الله وفضله علينا الاضاقت بنا الطرق.

و هذا ما ورد في مناجاة زين العابدين علیه السلام حيث يقول : (سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله ، وما أوضح الحقّ عند من هديته سبيله، إلهي فاسلك بنا سُبل الوصول إليك ، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك ، قرّب علينا البعيد وسهِّل علينا العسير الشديد) (1).

ويقول علیه السلام : ( ألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون)..

ثمّ يسترسل علیه السلام فيقول : (الذين صفيت لهم المشارب وبلّغتهم الرغائب - أي الآمال والحوائج - وأنجحت لهم المطالب وقضيت لهم من فضلك المآرب) أي الأهداف والغايات .

إذاً هناك طرق متعدّدة قريبة وبعيدة للوصول إلى فضل الله تعالى .. ولها أبواب، فكيف نصل إليها .. وبأي سبيل تصبح قريبة ويمكن نيلها؟

ولمّا كان الفضل متعدّد الوجوه : إذ هو مطلق الخير والرحمة، فلا يمكن تحديده بوجه من الوجوه فقط ، فالمطالب الدنيوية رحمة وخير إذا كانت مشروعة للإنسان، وهكذا الكثير من الأمور:

فالعلم : رحمة وخير وله باب للوصول إليه وهو الجهد والدراسة والبحث .

والثروة : رحمة وخير ، ولها باب وهو التجارة الصحيحة والمواظبة عليها.

والجاه : بابه العلاقات الاجتماعية وخدمة الناس وما أشبه .

ص: 138


1- مفاتيح الجنان : المناجاة الثامنة ، مناجاة المريدين.

فالأبواب هي المداخل والسبل المؤدية إلى الغايات والأهداف.

ومعنى فتح الباب : أي فتح المداخل المؤديّة إلى تلك الرحمة وذلك الخير الذي يتأمّله الداعي ويرجوه من الله تعالى .. ولكن هل يستجيب الله تعالى لجميع البشر.. .لكلّ الناس .. وأيّاً كان الداعي!

الجواب: كلا.

لابد ّمن شروط وأُمور تساعد وتؤدّي إلى الإجابة ، وبالتالي فتح أبواب الفضل . .فالفضل لا يكون إلا بتوفيق من الله تعالى وسداد منه .

ولكن كيف يمكن أن ننعم بهذا التوفيق وهذا السداد .. لننال الفضل الإلهي والرحمة الربّانية والخير الأبدي؟

الجواب : لا يكون ذلك إلّا بارتقاء صهوة العمل والتشمير عن السواعد لبلوغ الأهداف والغايات ، فالعمل الصالح وتقوية العلاقة الخالصة مع الله عزّوجلّ والصلاة التامّة بين العبد وربّه كفيلة بكسب رضى الله تعالى .. وبالتالي فتح تلك الأبواب التي لا يفتحها الله تعالى إلّا لمحبّيه ومطيعيه ممّن ثابروا وجاهدوا وتمسّكوا بالله عزّ وجلّ في جميع مجالات الحياة .

فالإنسان لا ينال ما يصبو إليه من سعادة وسلام وطمأنينة وتوفيق ورفاه إلّا بالطاعة .. وانتهاج شريعة الله تعالى وقوانينه المباركة.

فالتقوى هي التي علّق الله تعالى عليها خير الدُّنيا والآخرة وأناط بها أعزّ الأماني والآمال والرغائب حيث يترتب عليها فتح أبواب الفضل.

من صور الفضل الإلهي

ومن صور هذا الفضل، وعلى سبيل المثال لا الحصر : النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الرزق . قال تعالى: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً* ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (1).

ص: 139


1- سورة الطلاق: 2 و 3.

كما أنّ التوبة من أبواب الفضل .. وقبولها ينتهي إلى الغفران ..

قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إن تتّقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفِّر عنكم سيّئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )(1).

ثمّ إنّ القرآن الكريم والإسلام المبين فضلٌ عظيم من الله عزّ وجلّ للبشرية جمعاء لأنّ فيه الهداية وشفاء الصدور من الأمراض النفسية والروحية والاجتماعية وهي من أعظم الفضل على الإنسان ..

قال تعالى: (يا أيُّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين* قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون ) (2) .

وفي مقابل هذا الفضل والرحمة الإلهية والتسديد الربّاني والنعم الجسيمة ينبغي للإنسان أن يشكر ربّه ، ولكن الكثير من الناس لا يشكرون، والقرآن يبيّن ذلك صراحةً فيقول تعالى :( إنّ الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون ) (3) .

وقال أيضاً : (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (4) .

والشكر من قمم الفضائل والمقامات المعنوية وليس لكلّ سالك أن يصل إليه ، بل ليس الوصول إلى درجاته العالية إلّا لأولياء الله المقربين، وقد عدّه علماء الأخلاق من أفضل منازل المتّقين والأبرار وعمدة زاد المسافرين إلى عالم الأنوار ، وهو موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء ، ولذا ورد به الترغيب وجعله الله سبباً للمزيد .

قال سبحانه : (لئن شكرتم لأزيدنكم ) (5) .

ص: 140


1- سورة الأنفال : 29 .
2- سورة يونس : 57 - 58 .
3- سورة يونس : 60 .
4- سورة يوسف: 38.
5- سورة إبراهيم : 7.

وقال سبحانه: ﴿وسنجزي الشاكرين) (1) .

ولمّا كان الشكر فضلاً ونعمة عظيمة .. فهل الإنسان - عادةً - يدرك هذه النعمة ويؤدّي حقّها .. ويعرف قيمتها وآثارها من بقاء النعمة وديمومتها؟

الجواب: كلّا ، لذا قال تعالى: (وقليل من عبادي الشكور)(2).

وغاية الشكر هو أن يعرف العبد عجزه عن أداء حقّ شكر الله تعالى، لأنّ عرفان عجزه مسبّب عن عرفان جميع النعم ولو إجمالاً ، أمّا التفصيل فقد قال تعالى : (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) (3) ، حتى شكر الله سبحانه هو الآخر نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر .. وهذا غاية ما يمكن للعبد.

وقد ورد في الحديث القدسي : (إنّ الله تعالى أوحى إلى موسى علیه السلام : يا موسى اشكرني حقّ شكري . فقال : ياربّ كيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به علي ؟ قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي ) (4) .

وقال أبو الحسن علیه السلام : ( من حمد الله على النعمة فقد شكره وكان الحمد أفضل من تلك النعمة) (5) ، يعني أنّه نعمة فوق تلك النعمة فيستدعي شكراً آخر ..

ص: 141


1- سورة آل عمران : 145
2- سورة سبأ : 13.
3- سورة إبراهيم : 34 .
4- الكافي : ج 2 باب الشكر ص 98 ح 27 .
5- الوافي : ج 3 ص 322 باب الشكر .

الفرق بين الفضل والرحمة

هناك بحث طويل بين المفسِّرين في الفرق بين (الفضل) و (الرحمة) نشير إليه باختصار :

1: إنّ البعض اعتبر الفضل الإلهي نعماً ظاهرية .. أمّا الرحمة فهي النعم الباطنية، وبتعبير آخر فإنّهم يقولون إنّ إحداها النعم المادّية والأُخرى النعم المعنوية و وقد وردت إشارات إلى هذا الفرق في آيات القرآن، منها قوله تعالى: ﴿وابتغوا من فضل الله ). (1)

أو (لتبتغوا من فضله ) (2) ، بمعنى تحصيل الرزق والموارد المادّية .

ويؤكّده أيضاً قوله تعالى : (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم )(3).

وأمّا النعم الباطنة فجاءت بمعنى الرحمة في عدّة آيات ، منها قوله تعالى: ﴿وربك الغني ذو الرحمة ) (4)، وقوله سبحانه : (المغفرة من الله ورحمة خير ممّا يجمعون )(5).

ومنها قوله سبحانه : (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميدٌ مجيد ) (6) .

والظاهر أنّ الرحمة هنا معنوية .

2: وقال البعض الآخر : إنّ الفضل الإلهي بداية النعمة ، ورحمته دوام النعمة ، وإذا

ص: 142


1- سورة الجمعة: 10.
2- سورة الإسراء : 66 .
3- سورة البقرة : 268 .
4- سورة الأنعام: 133.
5- سورة آل عمران: 157.
6- سورة هود: 73

ما لاحظنا أنّ الفضل هو بذل النعمة وهبتها ، فإنّ ذكر الرحمة بعد ذلك يجب أن يكون شيئاً مضافاً عليه.

وقد ورد في روايات متعدّدة أنّ المراد من الفضل الإلهي هو وجود النبيّ صلی الله علیه و آله ونعمة النبوّة، وأنّ المراد من رحمة الله وجود أمير المؤمنين علي علیه السلام ونعمة الولاية (1) .

وهذا تأكيد للتفسير الآنف لأنّ النبي صلی الله علیه و آله هو بداية الإسلام، وعلي علیه السلام هو سبب بقائه واستمرار حياته، فأحدهما علّة محدثة موجدة والآخر علّة مبقية الاصطلاح العلمي. وهذا يعطي للتفسير المذكور مصداقاً أكمل وأتمّ.

3:و احتمل البعض الآخر أنّ يكون الفضل إشارة إلى نعم الجنّة، والرحمة إشارة إلى العفو عن الذنب وغفرانه . 4:وقد احتمل البعض أنّ الفضل إشارة إلى نعمة الله العامّة التي تعمّ العدوّ والصديق ، والرحمة تذكر عادة بقيد (المؤمنين) باعتبارها خاصّة لهم .

5 : والبعض الآخر قال : إنّ فضل الله إشارة إلى الإيمان، والرحمة إشارة إلى القرآن المجيد كما في الآية الكريمة (يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةً للمؤمنين *قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ ممّا يجمعون )(2).

من هنا يتبيّن لنا بأنّه لا يمكن حصر معنى (الفضل) في نعمة محدّدة سواء كانت تلك النعمة باطنية ( كالرحمة ، والهدى، والتوبة وغيرها) أو ظاهرية كالمال والعلم والجاه وغيرها .. فكلّ نعم الله تعالى هي فضل ، وبما أنّه لا يمكن عدّ تلك النعم وإحصائها كما في قوله تعالى : (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ) (3) كذلك الفضل والأفضال لا يمكن حصرها وعدها وتحديدها ..

ولولا هذا الفضل العظيم الربّاني لساخت الأرض بمن عليها من كثرة اقتراف

ص: 143


1- راجع تفسير نور الثقلين : ج 2 ص 307 - 308.
2- سورة يونس : 57 و 58 .
3- سورة النحل : 18 .

الذنوب وارتكاب الفواحش ولكن سبقت رحمة ربّك غضبه .

قال تعالى : ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدُّنيا والآخرة لمسّكم في ما أفضتم فيه عذاب عظیم )(1).

فالفضل واسع .. ويشمل الجميع ماديّاً ومعنويّاً، ومن هنا ينبغي للمؤمن أن يستثمر فرصة شهر رمضان المبارك ليحصل على فضل الله ورحمته، ويطلب من الله تعالى أن يفتح عليه أبواب الفضل في دنياه وآخرته ولسائر شؤونه المادّية والمعنوية فيقول : (الّلهمَ افتح لي فيه أبواب فضلك ).

ص: 144


1- سورة النور : 14 .

البركة تمام الفضل

ومن بعد ذلك ماذا يطلب الداعي؟

يطلب نزول البركة حيث يقول : (وأنزل عليّ فيه بركاتك).

والبركة (1). : هي النماء وبارك الله فيه : زاد فيه وأنماه .. فهو مبارك، والمتبارك أي المستقرّ الثابت .

لماذا يطلب الداعي البركة؟

إنّ فضل الله ونعمه التي لا تحصى.. قد ينال منها الإنسان قدراً معيّناً ومحدوداً وذلك لأمور ، منها ما تتعلّق بالعبد نفسه ومنها ما تتعلّق بإرادة الله تعالى ومشيئته فكلّ نعمة لا تشملها البركة فهي نعمة محدودة فإنّ وجود البركة بجانب نعمة ما يعني نماءها وسعتها وربما ديمومتها .

ولذا تجد أنّ كثيراً من الناس يحصل على أموال كثيرة جداً ولكنّها فاقدة للبركة فسرعان ما تذهب وتزول أو لا يمكنه الاستفادة منها فكم من ثريّ لا يتمكن أن يأكل كثيراً من الطيّبات !ومن جانب آخر قد تجد من يكسب مالاً حلالاً قليلاً.. تنزل فيه البركة فيكون أكثر فائدة وعطاءً لصاحبه .

وللبركة قوانين وشروط لها التأثير الأكبر في نزولها أو حبسها ولكن ما هذه الشروط التي بها تحصل البركة ..؟

يجيب القرآن الكريم إجابة واضحة ودقيقة لا لبس فيها فيقول عزّ من قائل: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (2)

ص: 145


1- أقرب الموارد : ص 36 مادة (برك) .
2- سورة الأعراف : 96.

تقول الآية الكريمة : إنّ السبيل إلى البركة وحصولها : هو الإيمان والتقوى .. الذي هو مصدر كلّ خير وفضل.. ومديم النعم.. وبعكسه الطغيان والتمرّد والعصيان و تکذیب آيات الله والظلم والفساد فإنّها تمحق البركة .. وتمنع النعم والفضل والخير و تقلّل النماء إن لم نقل ستؤدّي إلى رفع النعم وزوالها تماماً..

ومن هنا ورد في دعاء كميل : (الّلهمَّ اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم) (1) . ولابدّ من الوقوف على معاني ومصاديق البركات .. بركات الأرض والسماء التي أشارت لها الآية الكريمة المتقدّمة وغيرها.

قال تعالى :( إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين )(2).

وقال سبحانه: (وهذا كتابٌ أنزلناه مبارك فاتّبعوه ) (3) .

وقال تعالى : (إنّ ربّكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام ثمّ استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين )(4).

وقال سبحانه : (قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممّن معك) (5) .

وقال تعالى : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) (6) .

وقال سبحانه: ﴿وجعلني مباركاً أينما كنت) (7).

وقال تعالى: (وهذا ذكرٌ مبارك أنزلناه (8) .

ص: 146


1- الدعاء والزيارة: دعاء كميل .
2- سورة آل عمران : 96 .
3- سورة الأنعام: 155 .
4- سورة الأعراف: 54.
5- سورة هود : 48 .
6- سورة الإسراء : 1.
7- سورة مريم: 31.
8- سورة الأنبياء : 50 .

وقال سبحانه: (إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة )(1).

وقال تعالى :( ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً) (2) .

فبركات الأرض والسماء مصاديقها كثيرة :منها القرآن الكريم ومنها الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ، و منها مكّة المكرّمة وبيت المقدس وليلة القدر و هكذا..منها المطر ومنها النباتات التي تنبت من الأرض ..

فمنها بركات مادّية وأُخرى معنوية مثل : العلم ، والتوبة ، والغفران و ،، والهداية .. ودفع البلاء وغيره ، فليس بمقدورنا إعطاء مصداق محدّد لمعنى البركة وذلك من خلال المعنى العام للبركة سواء كانت بركات أرضية أو بركات سماوية.

فوجود الإيمان والتقوى بمكان ما يعني الخير والنعمة والبركة والطمأنينة والرفاه! وفقدها يعني العقاب والبلاء والسيول وطغيان الأنهار والينابيع كما هو في طوفان نوح علیه السلام وربما كانت حتّى الصواعق السماوية والزلازل الأرضية وغيرها من المصاديق الأخرى للبركة، لكن لا نفهم سرّها ، فالقرآن أشار بوضوح لمعاني البركة، كما أشار إلى مسألة لها غاية الأهميّة وهي أنّ بعض العقوبات والبلاءات ما هي إلّا ردود أفعال لأعمال الإنسان وكسبه اليومي ومدى بعده أو قربه عن الله تعالى والإيمان به و خشيته وتقواه .. فلو كان الإنسان مؤمناً تقيّاً لتواترت عليه البركات الإلهية من السماء والأرض، ولو كان عاصياً متمرّداً حلَّ به العذاب ونزل البلاء بساحته وحبست عنه البركات .

إذاً البركة يكون من معانيها الثبات والاستقرار .. كما أشرنا إليه سابقاً .. كما تطلق على كلّ نعمة تبقى ولا تزول في مقابل النعم العارية عن البركة السريعة الفناء والزوال.

ص: 147


1- سورة الدخان: 3.
2- سورة ق : 9 .

رضى الله ورضى العبد

ثمّ يطلب الداعي بعد ذلك الرضا منه سبحانه و موجباته وأسبابه، فيقول: (ووفّقني فيه لموجبات مرضاتك).

وهناك فرق بين رضا الإنسان ورضا الله سبحانه، فالرضا في الإنسان عبارة عن سرور القلب وهي حالة في النفس توجب تغيّرها وانبساطها لإيصال النفع إلى الغير أو الانقياد إلى حكمه . أمّا رضى الله تعالى : فعبارة عن ثوابه وفضله وإحسانه ، كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال :( رضاه تعالى عبارة عن ثوابه) (1) .

وقال البحراني في شرح نهج البلاغة : (رضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه بموافقته لأمره وطاعته، وغضبه تعالى يعود إلى علمه بمخالفة أوامره وعدم طاعته له ) (2) .

ثمّ إنّه لرضى الله سبحانه و تعالی مراتب و مصادیق :

فمنها : الرضى الأزلي ، وهو ما لا يقابله سخط ولا يمازجه شوب ، فهو كونه بحيث تصدر عنه الأشياء موافقة لعلمه بها على أفضل وجهه وأتمّه .

ومنها : ثواب الله والجنّة ويقابله سخطه والنار .

وبداية الرضى قد تكون من جملة المقامات التي يكتسبها العبد اكتساباً ونهايته ربما كانت من جملة الأحوال التي يوجبها الله تعالى إيجاباً، ومن حُلي بالرضا فقد لقي بالترحيب الأوفى والأكرم.

ثمّ إِنَّه قد قد يكون ترابط بين رضا العبد و رضا ربّه ، كما قال تعالى: ﴿رضي الله عنهم

ص: 148


1- التوحيد : ج 3 باب 26 معنى رضاه عزّوجلّ ح3 ص 169 .
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : ج 1 ص 328 في رياض السالكين.

ورضوا عنه)(1).

فما هي موجبات رضوان الله تعالى؟

وماذا يجب أن يفعل الإنسان ليحصل على رضوان الله عزّ وجلّ؟

قال موسى علیه السلام مخاطباً ربّه : ( يارب دلّني على عمل إذا أنا عملته نلت به رضاك ، قال : يا ابن عمران إنّ رضائي في كرهك ولن تطيق ذلك ، فخرّ موسى علیه السلام ساجداً باكياً.. فأوحى الله إليه : إنّ رضاي في رضاك بقضائي) (2).

إذاً السبيل إلى مرضاة الله تعالى : طاعته وعدم معصيته والصبر على قضائه وعدم الجزع في الابتلاء والاستغفار عند البلاء والشكر على النعماء .. لذا قال بعضهم :

(الرضى استقبال الأحكام بالفرح) (3).

وعن الإمام علي بن الحسين علیه السلام قال : (الصبر والرضى عن الله رأس طاعة الله ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره لم يقض الله عزّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلّا ما هو خيرٌ له) (4). ومن هذه الرواية يفهم أنّ المرضاة الإلهية لا تحصل بدون التقوى والطاعة وإخلاص العبودية لله .. لأنّ مرضاة الله لا تكون إلّا للمؤمنين الصادقين المتقين فكيف إذا كان الرضوان أكبر .

ص: 149


1- سورة المائدة : 119.
2- بحار الأنوار: ج 13 ص 358 - 68 باب مناجاة موسى ، ط طهران.
3- راجع رياض السالكين : ج 3 ص 505.
4- الكافي : ج 2 ص 60 ح 3 ، باب الرضا بالقضاء .

الحسين علیه السلام وعبيد الله بن الحرّ

ورد في التاريخ أنّه عندما نزل الإمام الحسين علیه السلام قصر بني مقاتل رأى فسطاطاً مضروباً ورمحاً مركوزاً وفرساً واقفاً فسأل عنه ، فقيل : هو لعبيد الله بن الحرّ الجعفي، فبعث إليه الحجّاج بن مسروق الجعفي فسأله ابن الحرّ عما وراءه ، قال : هدية إليك وكرامة إن قبلتها .. هذا الحسين يدعوك إلى نصرته فإن قاتلت بين يديه أجرت وإن قتلت استشهدت، فقال ابن الحرّ : والله ما خرجت من الكوفة إلّا لكثرة ما رأيته خارجاً لمحاربته وخذلان شيعته فعلمت أنّه مقتول ولا أقدر على نصره ولست أحبّ أن يراني وأراه (1).

فأعاد الحجّاج كلامه على الإمام الحسين علیه السلام فقام صلوات الله عليه ومشى إليه في جماعة من أهل بيته وصحبه فدخل عليه الفسطاط فوسّع له عن صدر المجلس .. يقول ابن الحرّ : ما رأيت أحداً قط أحسن من الحسين ولا أملأ للعين منه(2).

وبعد كلام له مع الإمام الحسين علیه السلام قال له الإمام : إنّ عليك ذنوباً كثيرة فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟ (3)

قال : وما هي يابن رسول الله ؟

فقال : تنصر ابن بنت نبيّك وتقاتل معه .

فقال ابن الحرّ : والله إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً فأنشدك الله أن تحملني على هذه

ص: 150


1- الأخبار الطوال : ص 246 .
2- خزانة الأدب : ج 1 ص 297 ط بولاق ، وأنساب الأشراف : ج 5 ص 291.
3- أسرار الشهادة : ص 233.

الخطّة فإنّ نفسي لا تسمح بالموت !ولكن فرسي هذه( الملحقة) والله ما طلبت عليها شيئاً قط إلّا لحقته ولا طلبني أحد وأنا عليها إلّا سبقته فخذها فهي لك .

قال الإمام الحسين علیه السلام : أما إذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك وما كنت متَخذ المضلّين عضدا وإنّي أنصحك كما نصحتني إن استطعت أن لا تسمع صراخنا ولا تشهد وقعتنا فافعل فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلّا أكبّه الله في نار جهنّم (1) .

وقد نسي ابن الحرّ قيمة رضى الإمام علیه السلام التي هي من رضى الله ، فأبى عن نصرة الإمام الذي كان فيها السعادة الأبدية والرفعة المعنوية في الدارين.

وروى الطبري عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن جندب الأزدي أنّ عبيد الله بن زیاد بعد قتل الإمام الحسين علیه السلام تفقّد أشراف أهل الكوفة فلم ير عبيدالله بن الحرّ ، ثمّ جاءه بعد أيّام حتّى دخل عليه فقال : أين كنت يابن الحرّ؟

قال : كنت مريضاً.

قال : مريض القلب أو مريض البدن؟

قال : أمّا قلبي فلم يمرض وأمّا بدني فقد منَّ الله عليَّ بالعافية.

فقال: ابن زیاد كذبت ولكنّك كنت مع عدوّنا .

قال : لو كنت مع عدوّك لرأى مكاني وماكان مثل مكاني يخفى .

قال : وغفل عنه ابن زياد غفلة فخرج ابن الحرّ فقعد على فرسه ..

فقال ابن زياد أين ابن الحرّ؟

قالوا : خرج الساعة .

قال : عليَّ به ..

فجاءته الشرطة، فقالوا: أجب الأمير ، فدفع فرسه ثمّ قال: أبلغوه إنِّي لا آتيه والله طائعاً أبداً، ثمّ خرج حتّى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع القوم، فاستغفر لهم هو وأصحابه ثمّ مضى حتّى نزل المدائن وقال في ذلك :

ص: 151


1- خزانة الأدب : ج 1 ص 298 .

يقول أمير غادر وابن غادر ***ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة

فیاندمي ألا أكون نصرته *** ألا كلّ نفس لا تسددّ نادمة (1)

وهي أبيات تخبر عن ندامته على قعوده عن نصرة الإمام الحسين علیه السلام .

وحكي أيضاً أنّه كان يضرب يده على الأُخرى ويقول ما فعلت بنفسي وأنشأ یقول:

فيالك حسرة ما دمت حيّاً ***تردّد بين صدري والتراقي

حسين حين يطلب بذل نصري ***على أهل العداوة والشقاق

غداة يقول لي بالقصر قولاً *** أتتركنا وتزمع بالفراق

ولو أنّي أواسیه بنفسي *** لنلت كرامةً يوم التلاقِ

مع ابن المصطفى نفسي فداه ***تولّى ثمّ ودّع بانطلاق

فلو فلق التلهّف قلت حي*** لهم اليوم قلبي بانفلاق

فقد فاز الأولى نصروا حسينا *** وخاب الآخرون ذوي النفاق (2)

هذا موقف .. وموقف آخر على النقيض من هذا تماماً .. لإنسان طلب رضوان الله وسعى وراءه ..

روی ابن سعد وابن عساكر عن العريان قال : كان أبي يبتدي - أي يقيم في البادية - فنزل قريباً من الموضع الذي كانت فيه معركة الحسين علیه السلام فكنّا نبدو فوجدنا رجلاً من بني أسد هناك، فقال له أبي : إنّي أراك ملازماً هذا المكان؟

قال : بلغني أّنّ حسيناً يقتل هاهنا فأنا أخرج لعلّي أصادفه فأُقتل معه .

فلمّا قتل الحسين علیه السلام قال أبي : انطلقوا ننظر هل الأسدي فيمن قتل؟ فأتينا المعركة فطُفنا فإذا الأسدي مقتول (3).

نعم رضا الإمام الحسين علیه السلام هو رضا الله تعالى و سخط الله عزّ وجلّ.

ص: 152


1- تاريخ الطبري : ج 7 ص 388.
2- مقتل الحسين علیه السلام للخوارزمي : ج 1 ص 288 .
3- معالم المدرستين : ج 3 ص 44 .

بحبوحات الجنان

ثمّ يسترسل الداعي بالدعاء .. فيقول : (وأسكني فيه بحبوحات جنّاتك).

ما هي البحبوحات؟

البحبوحة (1) : من (بحبح ) إذا توسّط المنزل والمكان ، البحبحي الواسع .. ولعلّ البحبوحة من وسط الشيء، الذي يكون عادةً أفضل من الأطراف من جهات متعدّدة، والوسط في الأصل : اسم لما تستوي نسبة الجوانب إليه كمركز الدائرة وهي استعارة للصفات والأماكن المحدودة.

يقول الإمام زين العابدين علیه السلام في مناجاته العاشرة المسمّاة بمناجاة المتوسِّلين : (فحقّق فيك أملي واختم بالخير عملي، واجعلني من صفوتك الذين أحللتهم بحبوحة جنّتك ، وبوأتهم دار كرامتك) (2) .

ف (بحبوحة الجنّة) هذه مدخر للصفوة من العباد والمخلصين المتّقين المؤمنين. وهؤلاء ثلّة مختارة مميّزة حتّى في الجنّة ...

والجنّة هي نعمة إلهية ذات خصائص مادّية ومعنوية عظيمة وهي دار الراحة والطمأنينة لا زوال ولا فناء بل خلود أبدي ... (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبّة في جنّات عدن) (3).

و ربما يكون المراد ب- ( عدن) التي طلبها الداعي للسكن فيها كما قال تعالى : (مساكن طيّبة في جنّات عدن ): ما أعدّها الله تعالى وسط الجنان. وعدن : محلّ خاصّ

ص: 153


1- أقرب الموارد : مادّة (بحبح) .
2- الصحيفة السجادية : المناجاة العاشرة ، مناجاة المتوسلين.
3- سورة التوبة : 72.

في الجنّة يمتاز على سائر الجنان.

وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله : ( عدن) دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على

قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة النبيين والصدِّيقين والشهداء) (1).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( من سرّه أن يحيى حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّتي التي وعدني الله ربّي، جنّات عدن .. فليوال عليّ بن أبي طالب علیه السلام وذرّيته علیه السلام من بعده) (2).

فيتّضح من هذا الحديث أنّ جنّات عدن سيستقرّ فيها خاصّة : النبيّ صلی الله علیه وآله علیهم السلام وجماعة من خلّص الأصحاب والأتباع .

دعوة المضطّرين

ثمّ يقول الداعي بعدها في آخر الدعاء : ( يا مجيب دعوة المضطرّين)..

فن هم المضطرّون؟ وما هو الاضطرار؟

الاضطرار : افتعال من الضرورة والاحتياج والإلجاء(3).

والمضطرّ : اسم مفعول من اضطرّه إليه، أي أحوجه وألجأه إليه وليس له من بدّ.. أي الذي أحوجته نازلة أو مرض أو فاقة أو حاجة من حوائج الدُّنيا أو الآخرة.

ويشير القرآن إلى هذا المعنى فيقول تعالى :( أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء ) (4) .

ويقول الإمام زين العابدين علیه السلام في الصحيفة السجّادية : (سبحانك نحن المضطرّون الذين أو جبت إجابتهم ، وأهل السوء الذين وعدت الكشف عنهم) (5).

ص: 154


1- مجمع البيان : ج 6 ص 50 تفسير سورة التوبة : 71 و 72.
2- نور الثقلين : ج 2 ص 241 ح 235 .
3- رياض السالكين : ج 2 معنى الاضطرار ص 435 .
4- سورة النمل : 62 .
5- الصحيفة السجّادية : الدعاء العاشر .

فلماذا وردت الإجابة بالنسبة إلى المضطرّ؟ ومن هم هؤلاء؟

إنّ الله تعالى يجيب دعوة الجميع بلا استثناء وذلك عند تحقيق شروط الدعاء إلّا أنّ الكلام في المضطرّ .. لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض الإنسان عينيه من كلّ ما سوى الله ، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله تعالى.. وأن يرى كلّ شيء منه وله !! وأنّ حلّ كلّ معضلة بيده ، وهذه الحالة لا تتحقّق إلّا في حالة الاضطرار في الأغلب!! فالاضطرار من أهمّ الحالات التي يدعو فيها العبد فيجاب .

وهنا أرى من المناسب الإشارة إلى حقيقة وردت في الأخبار في تفسير الآية الشريفة بالمصداق : (أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء) فالروايات تدلّ على أنّ المضطرّ هو مولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف).

قال الإمام الباقر علیه السلام : (والله لكأنّي أنظر إلى القائم (عجّل الله فرجه الشريف) وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه . إلى أن قال علیه السلام : هو والله هو المضطرّ في كتاب الله في قوله تعالى: (أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) (1) ) (2).

وفي حديث عن الإمام الصادق علیه السلام قال :( نزلت في القائم من آل محمّد علیه السلام هو والله المضطرّ ، إذا صلّى في المقام ركعتين ودعا الله عزّ وجلّ فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض) (3) .

وواضح أن الإمام الحجّة علیه السلام من أكمل مصاديق المضطرّين الذين ينتظرون الفرج آناً فاناً، ومن هنا جاء في الأخبار عنه (عجّل الله فرجه الشريف) يأمر شيعته بأن يدعوا له بالفرج لإصلاح الأرض وتطبيق العدل الذي ضاع بين شهوات الناس وانحرافاتهم ولكي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلما وجوراً.

ولذا ينبغي للمؤمن في هذه الأيّام أن يطلب ضمن ما يطلب من الله سبحانه أن

ص: 155


1- سورة النمل: 62 .
2- تفسير نور الثقلين : ج 4 ص 94 ، ح 94 .
3- تفسير نور الثقلين : ج 4 ص 94، ح93 .

يعجِّل لمولانا الحجّة بن الحسن المهدي عجّل الله له في الفرج وسهل له المخرج...

فإنّ في ذلك نجاة الإنسانية وخلاصها من الواقع المأساوي الذي تعيشه..

وعلى أي حال فإنّ في فقرة الدعاء : ( يا مجيب دعوة المضطرين) اعتراف صريح على أنّ الإنسان عاجز أمام ربه ولا يملك من الأمر شيئاً .. وهو مضطر دائماً إذ أبواب فضل الله لو غلقت عليه لا يفتحها إلّا فضله سبحانه، وبركاته لو حبست لا تنزلها إلّا رحمته وفضله ، وكسب رضاه لا يحصل إلا بمنّه وفضله ... والجنة لا يحصلها الإنسان إلا بفضله عزّ وجلّ ...

فكل نعمة ورحمة ينالها الإنسان لا ينالها استحقاقاً ، بل منةٌ وتفضلاً منه سبحانه وتعالى .

لذا ينبغي أن يعلم الإنسان المؤمن أنه يعيش دائماً حالة الاضطرار إلى رحمة الله عز وجل ليكسب بذلك ما يرجوه من ربه ويريد .. فهو المجيب لدعوة المضطرين.

ص: 156

طهارة الإنسان روحاً وجسداً

23

دعاء اليوم الثالث والعشرين

اشارة

اللّهُمَّ اغْسِلْنِي فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ ، وَطَهُرْني فِيهِ مِنَ الْعُيُوب، وَامْتَحِنْ قَلْبِي فِيهِ بِتَقْوَى الْقُلُوبِ، يَا مُقِيلَ عَشَرَاتِ الْمُذْنِبِينَ.

البلد الأمين : ص 309، عن النبي الله : ( من دعا به مرّ على الصراط كالبرق الخاطف مع النبيين والشهداء والصالحين ).

ص: 157

ص: 158

الطهارة المعنوية والمادية

وردت مادة الطهر بمعنى الطهارة المعنوية في الآية الشريفة : (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) (1) .

فطهارة القلب تعني النظافة المعنوية ورفع الأدران الروحية عنه، فإنّ الأدران والأوساخ كثيرة، منها حبّ الدُّنيا ومنها مختلف أنواع الأخلاق الرديئة كالحقد والغضب والحسد إلى غير ذلك مما يرين على القلب ويحجبه عن رؤية الحقيقة فيستحيل إلى حجرصلد لا يعرف العاطفة ولا الرقّة فيبدأ ببث سمومه إلى هذا الجسم الذي يتحوّل بدوره إلى آلة تستجيب لرغبات القلب المنحرف .. قال تعالى : (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) (2) .

وليس المقصود بالقلب هنا تلك العضلة التي يحملها الصدر والمسؤولة عن ضخّ الدم إلى الجسم وفصل مواده ، وإنما هو مركز الأحاسيس والفعاليات الجسمية والروحية عند الإنسان المحرّكة له .. وقد يكون الوجه في تسمية ذلك بالقلب أنّ القلب - بمعنى العضلة المعروفة - متوقف عليه حياة الأجهزة الجسمية الأخرى .. - فتتوقف عليه حياة الإنسان فإذا توقفت عضلة القلب كانت نهاية الإنسان، ومن هنا سُمّي مركز الروح بالقلب أيضاً .. فكأنّ القلب مركزاً للعواطف والأحاسيس في الأدب وفي الشعر عند كل شعوب العالم.

أما الطهارة المادية فوردت في قوله تعالى : (وثيابك فطهر) (3) .

ص: 159


1- سورة المائدة : 41 .
2- سورة البقرة : 74.
3- سورة المدثر : 4.

فإنّ الطهارة هنا تعني النظافة وقد تكون بمعنى عدم النجاسة وقد تكون بمعنى عدم الوساخة ، لأنّ عدم النظافة قد يكون بالوسخ من غير نجاسة وقد يكون بالنجاسة، ويكون معنى الآية : وثيابك الملبوسة فطهرها من النجاسة للصلاة (1) .

ومعلوم أن نظافة اللباس في مرحلة الظاهر تدلّ على حس-ن آداب الشخص وثقافته خصوصاً في العصر الجاهلي فقد كانوا في الغالب لا يجتنبون من النجاسة كما كانت ملابسهم وسخة غالباً، بل وكان من الشائع عند بعضهم تطويل أطراف الملابس بحيث كان يزحف على الأرض تكبّراً فكانت ثيابهم تتسخ جراء ذلك ، ولعلّ من هنا ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في معنى الآية الشريفة (وثيابك فطهر) أي ثيابك فقصر (2) .

كما فسرت الآية الشريفة (وثيابك فطهّر) بالطهارة الجامعة بين والمعنوية .. فقد قيل : إنّ المراد من الثياب هنا - كناية - عمل الإنسان لأنه بمنزلة لباسه الظاهر ، ولأن الظاهر يكشف عن الباطن فورد الحثّ عليهما بهذا التعبير (وثيابك فطهر ) .

وقيل : المراد منه القلب والروح، فالآية تدعو النبي صلى الله عليه وسلم - بإياك أعني واسمعي يا جارة - لأن يطهر قلبه وروحه من كلّ الأدران، أي أن يطهر المسلمون قلوبهم من الأدران.

والظاهر أنّ هذه المعاني كلها صحيحة والجمع بينها ممكن ووارد، ولا يبعد أن تشير الآية الكريمة إلى أنّ الأولياء والقادة الربانيين بحاجة إلى الطهارة أكثر وذلك في سبيل إبلاغ الرسالة الإلهية، فإنّ طهارة الجانب من الأدران ونقاء القلب وصفاء الروح وسلامة التقوى من أهم المعاني التي تنعكس على سلوك الإنسان وتؤثر فيه تأثيراً عظيماً ممّا يجعله يخترق القلوب والأفئدة فيوجب ذلك سرعة إيمان الناس به .. فيحبونه ويتولونه ويتبعونه في الأقوال والأفعال...

ومما جاء في هذه المعاني أيضاً قوله تعالى في صدقات الأموال : (خذ من أموالهم

ص: 160


1- راجع مجمع البيان : ج 9 - 10 ص 385 .
2- راجع مجمع البيان : ج 9 - 10 ص 385 .

صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) (1) .

وقد جاء في تفسير (تقريب القرآن إلى الأذهان) في بيان معنى الآية، قوله : (خذ) يارسول الله (من أموال )هؤلاء الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً (صدقة) وهي بعض أموالهم ولذا جاء ب- (من) والظاهر من السياق أنّها غير الصدقة المفروضة التي هي الزكاة، وقد قال المفسرون : إنّ الرسول صلی الله علیه و آله أخذ ثلث أموال التائبين وترك لهم الثلثين، فإنّ تلك الصدقة( تطهّرهم )من دنس الذنوب والخطايا، أو المراد تطهّرهم أنت بتلك الصدقة، وتطهير الإنسان بالصدقة إنّما هو تطهير معنوي فإنّ للذنوب نجاسة والصدقه توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة لأنّها موجبة للغفران وطرد الآثام (وتزكّيهم بها )لأنّ التزكية هي التنمية ، إذ الصدقة توجب النمو ، والمراد من النمو الأعمّ من الخُلقي والخَلقي وسائر أقسام النمو وسمّيت زكاة لأنها توجب نموّ صاحبها) (2) .

ووردت في القرآن الكريم مادة الطهارة في مجالات أُخرى لتدلّ على معان أُخرى أيضاً، ففي سورة المائدة : (وإن كنتم جنباً فاطهّروا) (3) ، فعبّر عن الغسل - أي غسل الجنابة - بالطهارة.

كما أنّ رفض الرجس والأعمال القبيحة هو طهارة كذلك وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى : (اخرجوا آل لوط من قريتكم إنّهم أناس يتطهرون) (4) .

وكذلك في غسل الحيض ، قال تعالى: (فإذا تطهرّن فآتوهنّ من حيث أمركم الله ) .(5)

وقد تعني الطهارة إبعاد كلّ نجاسة من أيّ نوع كما في قوله تعالى لإبراهيم علیه السلام :

ص: 161


1- سورة التوبة : 103 .
2- تقريب الأذهان : ج 10 - 12 ص 22 و 23 .
3- سورة المائدة : 6 .
4- سورة النمل : 56 .
5- سورة البقرة :222.

(وطهِّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود) (1) ، فالأصنام نجاسة والمشركين نجس (2) ،إلى آخر ما يشمله هذا اللفظ .

كما وردت الطهارة في القرآن الكريم في معناها المادّي والمعنوي صفة لأهل البيت علیه السلام .. و تعدّ من أسمى صفاتهم علیه السلام حيث قال تعالى :( إنّما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً) (3) ، وهذه الآية المباركة معروفة باسم : (آية التطهير) وهي تدلّ على عصمة أهل البيت علیه السلام .

كما يتحدّث القرآن الكريم عن مريم علیه السلام بقوله :( إنّ الله اصطفاك وطهِّرك واصطفاك على نساء العالمين )(4).

وقصة مريم علیه السلام وطهارتها من القصص المعروفة والمسلّمة .. إلّا أنّه لابدّ من الإشارة إلى عظمة سيّدتنا فاطمة الزهراء عليه السلام حيث سمّيت ب- (الطاهرة) و(المطهّرة) فقد طهّرها الله عن كلّ ما يصيب النساء من نجاسة وعن كلّ دنس ورجس كيف لا وهي خامسة أهل الكساء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وفيهم نزلت آية التطهير :( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً) (5) كما ورد ذلك في مختلف التفاسير والروايات في كتب الفريقين سنةً وشيعة .

ص: 162


1- سورة الحج : 26 .
2- إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا )سورة التوبة : 28 .
3- سورة الأحزاب : 33.
4- سورة آل عمران : 42 .
5- سورة الأحزاب : 33.

تطهير الروح

وكما يهتمّ الإنسان بمظهره الخارجي ونظافته الظاهرية كلّما همَّ بالخروج إلى الناس .. فيحسن وجهه ويطيّب بدنه فكذلك هو بحاجة إلى أن يطهِّر نفسه عن الأوساخ الباطنية في كل وقت.. وكما أنّ هناك مطهِّرات مادّية ومطيّبات يتفنّن الخبراء في تنويعها أو اختيار أفضلها فكذلك للروح مطهّراتها ومطيّباتها الخاصّة ..

فالعبادة والاشتغال بالذكر والمداومة عليه من أولى مستلزمات تطهير الروح وعلوّها إلى المراتب الموصلة إلى الحياة الأبدية.

وكلّما ابتعد الإنسان عن عالم الروح بدأت الذنوب تترى عليه فيُسوَد قلبه وتتراكم عليه الخطايا والآثام، روي عن أمير المؤمنين علیه السلام قوله : (أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ ، وإن سعد بالرضا نسي التحفّظ ، وإن ناله الخوف شغله الحذر ، وإن اتّسع له الأمن استلبته العزّة، وإن جدّدت له النعمة أخذته العزّة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن استفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن جهده الجزع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كفته البطنة، فكلّ تقصير به مضرّ وكل إفراط به مفسدة) (1) .

وبهذا ينبغي على الإنسان أن يراقب توازنه الإيماني فلا يفرّط في شيء أو يفرّط به فيزلّ عن جادّة الصواب ويقسو قلبه بتراكم الذنوب عليه فعندئذٍ يجب عليه الاغتسال منها بهجرها وإحلال الفضائل الحميدة مكانها ويدعو ربّه ويلحٌ عليه بالدعاء وخصوصاً في شهر رمضان الكريم .. شهر التطهير والمغفرة، ولعلّ من هنا ورد في هذا الدعاء قائلاً : (الّلهمَّ اغسلني فيه من الذنوب ، وطهِّرني فيه من العيوب).

ص: 163


1- سفينة البحار : ج 7 ص 340.

وعندما يجد العبد نفسه وقد اغتسل من الذنوب وتبعاتها .. يسعى إلى مرحلة أُخرى في تطهير نفسه ممّا يعيبها أيضاً وممّا لا يليق بشأن الإنسان وبالأخصّ المؤمن، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء ب- (منافيات المروّة) فهي ليست ذنوباً ولكنّها ممّا يعيب الشخصية وإن كانت مباحة في حدّ ذاتها .

ففي الوقت الذي نستحسن لباس ما - مثلاً - نجد من لا يراه كذلك ، وربما لا يكون مناسباً لشخص لبعض الظروف الخاصّة ...

وجاء في هذا المعنى إنّه قيل لسلمان (رضوان الله عليه) : لِمَ لا تلبس ثوباً جديداً؟

فقال : (إنّما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً) (1) ، مشيراً إلى العتق في الآخرة .

وأمّا عن الكيفية التي يمكن معها تطهير النفس من العيوب وما ينافي المروءة وإجراء الإصلاحات أو الترقيعات على ما يطرأ عليها جرّاء الولوج إلى عالم المادّة المليء بالأوبئة والأمراض والتي لابدّ وأن تحدث لها تبعات وعيوب على الإنسان - إلّا من عصمه الله - وتترك هذه أثراً بارزاً على نفسه وكيانه ، فقد تكفّل علم الأخلاق بيان

ذلك .

وقد يجد المرء صعوبة في إصلاح العيوب بادئ الأمر وقد يعجز عنها إلّا أنّه عندما يسلّم بأنّ الإرادة والثبات كفيلان بالتغيير المنشود إذا أُضيف عليهما التوكّل على الله عزّ وجلّ ، عندئذ يحصل على قوّة إضافية تمنحه القدرة على التغيير وإيجاد الحلول المناسبة لكلّ شرخ في شخصيته .

ثمّ إنّ مشاكل النفس غير محسوسة في الغالب بواسطة الحواس الظاهرة إلّا أنّ الإنسان من حيث إنّه أبصر الناس بعيوبه و مداخلات نفسه يمكنه كشفها والتعرّف عليها .. ولعلّ هذا ما يشير إليه القرآن الكريم بقوله تعالى : (بل الإنسان على نفسه بصیرة ) (2) . فهو أدرى بكلّ ما فعل .. وكذلك يدري صلاح وفساد عمله، وبذا يتحمّل

أيّة تبعة تلحقه إثر فعله .

ص: 164


1- جامع السعادات : ج 1 ص 356 العلاج العملي للكبر .
2- سورة القيامة : 14 .

بين الستر والتطهير

وهناك مرحلة لعلّها أسمى وأرفع من مرحلة الستر، وهي أن يسأل العبد ربّه أن يطهّره من العيوب وليس فقط أن يستره حيث يقول: (وطهِّرني فيه من العيوب).

والتطهير بمعانيه المادّية والمعنوية يتحقّق بطريقين :

1: بالدفع .

2 : بالرفع كما يعبّر عنه علماء المعقول والفقهاء أيضاً...

بمعنى أن يطهّره بأن يدفع عنه الآثام والذنوب والعيوب المنقصة الواردة عليه من الخارج ولم يكن قد اتّصف بها بعد .. فهو يسأل ربّه أن ينجيه منها سلفاً لكي لا يقع فيها ..

وأمّا برفع النواقص والعيوب التي كان قد ابتلي بها في حياته فيمحي آثارها وتبعاتها ...

وكلا المعنيين محتمل .. وينبغي أن يسأله العبد لكي يحظى بطهارة عامّة وشاملة في الروح والجسد..

ص: 165

القلب وعاء التقوى

ومن بعد ذلك يسأل العبد ربّه قائلاً: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب).

قال تعالى : ( إنّما يتقبل الله من المتّقين )(1) .

وقال سبحانه: ( إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم ) (2) .

فما علاقة التقوى بالقلب؟

يعتبر القلب المركز الأساسي لفساد أو صلاح الإنسان، فقد ورد عن الرسول صلی الله علیه و آله قوله : ( في الإنسان مضغة إذا هي سلمت وصحّت سلم بها سائر الجسد، فإذا سقمت سقم بها سائر الجسد وفسد .. وهي القلب) (3).

وقال تعالى في محكم كتابه العزيز : (وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) (4). فلا يمكن أن يكون المرء كافراً ومؤمناً في نفس الوقت .. أو متّقياً وعاصياً .. وهكذا..

ومن هنا يأتي طلب التقوى من الله تعالى في هذا الدعاء حيث يقول: (وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب) أي اجعله خاضعاً لك حذراً ممّا يغضبك.

ولابدّ للمؤمن من خطوات مدروسة تنمي حالة التقوى في قلبه .. منها ما يذكرها الحديث الوارد عن الإمام الباقر علیه السلام في وصيّته لجابر ، يقول علیه السلام : (و تخلص إلى راحة النفس بصحّة التفويض، واطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى اجمام (5)

ص: 166


1- سورة المائدة : 27 .
2- سورة الشعراء: 89.
3- سفينة البحار : ج 7 ص 339 و 340 .
4- سورة الأحزاب : 4 .
5- جمام کسحاب : يقال جمّ الفرس إذا ذهب أعياؤه (حاشية سفينة البحار).

القلب بقلّة الخطأ، وتعرّض لرقّة القلب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، وتحرز من إبليس بالخوف الصادق) (1) .

فإذا ما درب الإنسان نفسه وقلبه على الخشية من الله والخوف من العقاب الذي يترتّب على المعاصي والذنوب فإنّه يبدأ باجتناب النواهي التي حدّره الله منها .. وكلّما ابتعد عن هذه المحذورات كلّما سمت درجته في التقوى وسارت نحو الكمال الإنساني فمثلاً يقول تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميّتاً فكرهتموه واتقوا الله إنّ الله تواب رحيم) (2) .

فجاء التأكيد على تقوى الله في آخر الآية الكريمة بعدما ورد في أوّلها من النهي والتحذير من سوء الظنّ والتجسّس على المؤمنين والغيبة ، فإنّ الغيبة تأكل الحسنات كما روي عن سعيد بن جبير عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال : (يؤتى بأحد يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول إلهي ليس هذا كتابي فإنّي لا أرى فيها طاعتي ، فيقال : إنّ ربك لا يضلّ ولا ينسى ذهب عملك باغتياب (الناس) (3) . فالتقوى بمعناها الواسع ما يوجب اجتناب الذنوب والعيوب معاً وقد ذكرنا بعض مصاديق الأعمال التي تعدّ من الذنوب والتي تنقسم كذلك إلى كبيرة وصغيرة. أما العيوب فقد ألمحنا إلى أنّها أقلّ خطراً من التبعات التي تليها والعقاب الإلهي الذي يشتمل الذنوب بنوعيها .

وعلى هذا فإنّ الذنوب هي الأعمال السيئة التي يأتي بها الإنسان في حياته ويعاقب عليها دنيوياً أو أُخرويّاً، وقد أطلق عليها القرآن لفظاً آخر وهو (السيّئات) عكس عمل الخير (الحسنات).

وللذنوب آثار دنيوية تترتب عليها ممّا يميّزها عن العيوب التي تعدّ أخطاء في شخصية الإنسان وتصرّفاته.

ص: 167


1- سفينة البحار : ج 3 ص 343.
2- سورة الحجرات: 12.
3- جامع الأخبار : ص 143 .

فيروى عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتّى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً) (1) .

وعن الإمام الرضا علیه السلام قوله : ( كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) (2) .

فهناك معادلة طردية بين الذنب والبلاء ، وبقدر حجم الذنب يأتي البلاء عقبه ، بل يذهب إلى أكثر من ذلك إلى تقصير الآجال كما ورد في الخبر المروي عن الإمام الصادق الذي يقول : (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال ومن يعيش بالإحسان أكثر ممّا يعيش بالأعمار ) (3) .

فتبقى العيوب هي كلّ ما يقع تحت عنوان ما لا يليق بشأن الإنسان وبالخصوص المؤمن رغم أنّ بعضها يعد من المباحات شرعاً، وتتداخل أحياناً الذنوب مع العيوب في حالات، منها الجهل بالأحكام الشرعية فيقدم المباح على الواجب أو العكس وهو كثير الورود في أيامنا هذه.

من آثار التقوى

ومن آثار التقوى الخوف من الله عزّ وجلّ ، قال تعالى : (ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) (4) .

وجاء في تفسير هذه الآية : (أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات . الأعمال ويدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا، رهبة من غضبنا أو عقابنا ، أو يدعوننا راغبين راهبين وكانوا لنا خاشعين بقلوبهم) (5) .

ص: 168


1- الحكم الزاهرة : ص 269 ح 1523 ، الفصل الرابع الذنوب وآثارها القسم السادس تربية النفس والابتعاد عن المعاصي.
2- الحكم الزاهرة : ص 269 ح 1526.
3- الحكم الزاهرة : ص 270 1528 .
4- سورة الأنبياء : 90.
5- الميزان : ج 17 ص 316.

ولا يأتي الخوف والخشوع إلا بالمعرفة أي معرفة الله عز وجل، فقد ورد في الحديث الشريف عن الرسول الله : ( من كان بالله أعرف كان من الله أخوف) (1) .

فالطفل يولد وينشأ لا يعرف الخوف وهو تحت الرقابة المشدّدة من قبل ذويه ..

فهو يجهل أثر النار مثلاً أو عاقبة أي أمر إلا أن يتدرب على المعرفة شيئاً فشيئاً، فتتجمع عنده الخبرات ليجتاز مرحلة الطفولة ، وهكذا حال الإنسان فإنه إذا لم يصل إلى معرفة الله الخالق عزّ وجلّ ولم يعلم بصفاته جل وعلا، لم يكن خائفاً من الله تعالى ح-ق الخوف، وبمقدار معرفته تكون درجة خوفه .

ومن هنا كان النبي الله (يصلي وقلبه كالمرجل يغلي من خشية الله تعالى) (2) ،لأنه أكثر من عرف الله وأدرك عظمته وجلاله ..

وهكذا كان حال أئمة أهل البيت فقد كانت تتغيّر ألوان وجوههم عند القيام للصلاة، وكثيرة هي الروايات الواردة في ذلك .

ورد عن أمير المؤمنين قوله : ( يا بني خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يقبلها منك ، وارج الله رجاءً إنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ) (3) .

وقال لقمان وهو يوصي ابنه : (خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك) (4) .

وتؤكد بعض الأحاديث أنّ رجاء الله وحسن الظنّ به أرجح كفة من الخوف .

يروى أنه كان في زمن النبي موسى بن عمران رجلان في الحبس فأخرجا فأما أحدهما فسمن وغلظ ، وأما الآخر فنحل فصار مثل الهدبة، فقال موسى بن عمران للسمين : ما الذي أرى بك من حسن الحال في بدنك؟

قال : حسن ظنّي بالله .

ص: 169


1- الميزان : ج 17 ص 316.
2- جامع الأخبار : ص93.
3- جامع الأخبار : ص93.
4- جامع الأخبار : ص 93 .

وقال للآخر : ما الذي أرى منك من سوء الحال في بدنك؟

قال : الخوف من الله .

قال : فرفع موسى يده إلى الله فقال : يارب قد سمعت مقالتهما فأعلمني أيهما أفضل ، فأوحى الله إليه : صاحب حسن الظن بي (1) .

ونستظهر مما سبق أن التقوى الكاملة ليست مظهراً فقط ، فلو كان التقوى بالمظهر لصح أن نحكم على كلّ من يؤدّي الفروض أو الطقوس الدينية الشكلية بأنه متقي .. إلا أن التقوى التي أرادها الله وأمر بها رسول الله و أهل البيت غير ذلك .. فالمتقون هم من التزموا الدين ظاهراً وباطناً ولا يخافون في الله لومة لائم .. ولهذا فإنّ العبد المسلم يدعو ربه بقوله : ( وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب) أي اجعله خاشعاً خاضعاً لك ومحصه ليكون خالصاً لك في الشكل والمضمون.

وجاء في آخر وصيّة للنبي الأكرم محمد وهو في مرضه : ( أيها الناس لا يتمنّى متمن ولا يدعي مدع فإنه والله لا ينجي إلّا العمل ورحمة الله ولو عصيت لهويت) (2) .

وجاءت الرسالة الإسلامية وهي تؤكد على العمل وتحثّ عليه كقاعدة وأساس للتقوى، حتّى عد قليل العمل مع التقوى كثيراً، كما ورد في حديث عن أمير المؤمنين علیه السلام قال : (لا يقل مع التقوى عمل وكيف يقلّ ما يتقبل) (3) .

وحسب هذا الحديث فإن أعمال المتقي مقبولة ، بل تضاعف .. على عكس من يعمل كثيراً ويتظاهر بالعبادة وفعل الخيرات ولكن دون تقوى تحجزه من فعل المعاصي.

والإسلام يحدّد معالم التقوى بصورة دقيقة فقد روي عن الإمام الصادق قوله : (أعمل بفرائض الله تكن من أتقى الناس) (4) .

ولكن هل يعني هذا أن من أدّى هذه العبادات أداءً صورياً كان من المتقين؟

ص: 170


1- جامع الأخبار : ص 95.
2- محاسبة النفس : ص 75 ، نقلاً عن الإرشاد .
3- أمالي المفيد : ص 284 المجلس 34 ح 1.
4- أمالي الصدوق : مجلس 36 ح16 .

كلا.. إذ يضيف الإمام الصادق في نفس الحديث : (وارض بقسم الله تكن من أغنى الناس ، وكفّ عن محارم الله تكن من أورع الناس، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً، وأحسن مصاحبة من صاحبك تكن مسلماً) (1) .

وعنه قال: (أما والله إنكم لعلى دين الله وملائكته فأعينونا على ذلك بورعٍ واجتهاد، عليكم بالصلاة والعبادة، عليكم بالورع) (2) .

ص: 171


1- أمالي الصدوق : مجلس 36 ح16.
2- أمالي المفيد : ص 270 المجلس 32 ح 1.

التقوى سر قوة المسلمين

الإسلام دين عمل .. ويحذِّر من الكسل والخمول، لأنه مشروع حضاري متكامل ، فهو يعمد إلى خلق مجتمع صالح ذي بنية قوية تصمد بوجه التيارات المنحرفة، فإنّ الإسلام يعد المشروع الكامل لصلاح البشرية في كل أصقاع الأرض، الأمر الذي أدّى بأعداء الإسلام لأن يعدّوا الهجوم تلو الآخر مصوّبين سهامهم إلى المجتمع الإسلامي لينالوا من بنيته الاجتماعية ويهدّموه من الداخل ..

وقد تمثل ذلك بالغزو الثقافي الذي ما فتئ ينفث سمومه داخل الجسم الإسلامي واجتازت الهجمة هذه المرّة في أنها عرفت سر قوة المسلمين الروحية والأخلاقية فراحت تنصب شراكها بشراسة منقطعة النظير، وقد جاء في نص أحد أهم الكتب اليهودية العبارة التالية :

(عليكم أن توجهوا التفاتاً خاصاً في استعمال مبادئنا إلى الأخلاق الخاصة بالأمة التي أنتم بها محاطون وفيها تعملون ، وعليكم أن لا تتوقعوا النجاح خلالها في استعمال مبادئنا بكلّ مشتملاتها حتى يعاد تعليم الأمة بآرائنا، ولكنكم إذا تصرّفتم بسداد في استعمال مبادئنا فستكتشفون أنه قبل مضي عشر سنوات سيتغيّر أشدّ الأخلاق تماسكاً، وسنضيف كذلك أُمّة أُخرى إلى مراتب تلك الأمم التي خضعت لنا من قبل) (1) .

وقد تمكنوا من بسط نفوذهم على الكثير من البلدان الإسلامية وحولوها إلى منتجعات لأفكارهم الوضيعة، ثمّ شخصوا نقاط القوة الأخرى في الدين الإسلامي وهي مكانة علماء الدين ودورهم في قيادة المجتمع الفاضل في قيادة المجتمع الفاضل ، وهو ما ورد في الكتاب

ص: 172


1- الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) : ص 143 بروتوكول 9.

ذاته :

(وقد عنينا عناية عظيمة بالحطّ من كرامة رجال الدين من الأمميين - يعني من غير اليهود - في أعين الناس وفي ذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كئوداً في طريقنا، وأن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً) (1) .

وإن محاولة اليهود في تغيير المجتمع المسيحي ومسخه قد نجحت ، الأمر الذي جعل هدفهم الثاني والمركزي هو محاربة الإسلام وبالذات أخلاق الإسلام من كلّ النواحي الاقتصادية والسياسية، وهم يدركون جيداً القيمة العليا التي يوليها الدين الإسلامي للأخلاق ، فالقرآن الكريم يصف النبي بقوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظیم ) (2) .

وقال له : ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (3) .

وسُئل النبي: أي الأعمال أفضل ؟ قال : (حسن الخلق) (4) .

إذاً فالواجب على المسلمين أن يتوجّهوا جيداً خصوصاً بعد التقدم العلمي الكبير الاتصالات والتي دخلت وتغلغلت عبر الأقمار الصناعية وما أشبه في شريان الجسد الإسلامي .. ألا وهي العائلة فأصبح التلفزيون وسائر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمبصرة خطراً حقيقياً يهدد كيان الأسرة المسلمة .. وإذا لم ينتبه علماء هادفة الأمة بصياغة برنامج مضاد لهذا الغزو الثقافي الكاسح وإيجاد وسائل إعلام هونزيهة تروّج الدين والأخلاق والفضيلة فإن خطط الأعداء سيكتب له-ا النجاح ولن تقف بهذه الهجمة عند هذا الحد بل ستشتد وعندها سيكون من العسير جداً مقاومتها.

ولنجعل من شهر رمضان المبارك فرصة للتفكير والتخطيط والعمل الدؤوب من أجل تحصين المجتمع الإسلامي وإنقاذه من المفاسد التي تحيط به، بل وحنّه نحو

ص: 173


1- الخطر اليهودي (بروتوكولات حكماء صهيون) ص 187 بروتوكول 17.
2- سورة القلم : 4 .
3- جامع الأخبار : ص 103.
4- جامع الأخبار : ص 103.

التقوى والعمل الصالح، والدعاء هو أقصر الطرق لنيل التوفيق في ذلك إذا اقترن بالعمل المناسب، لذا ينبغي أن نكرّر دعاءنا صباحاً ومساءً ونلجأ إلى الله سبحانه ليهدينا إلى تقوى القلوب قائلين :

(وامتحن قلبي فيه بتقوى القلوب يا مقيل عثرات المذنبين)..

و (إقالة العثرة) من أهم صفات الله وقد تطرقنا إليها سابقاً.

اللهم وفقنا لخدمة خلقك ودينك وأعنا على طاعتك والاجتناب عن معصيتك بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 174

في رحاب الرضا

24

دعاء اليوم الرابع والعشرين

اشارة

اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِيهِ مَا يُرْضِيكَ وَأعُوذُ بكَ مِمَّا يُؤذِيكَ، وَأَسْأَلُكَ التَّوْفِيقَ فيه لأنْ أطيعك ولا أعصيك يَا جَوَادَ السَّائِلِينَ.

البلد الأمين : ص 309 ، عن النبي : (من دعا به أُعطي بعدد كل شعرة على رأسه وجسده ألف خادم وألف غلام كالياقوت والمرجان).

ص: 175

ص: 176

الأسباب والمسبّبات

لاشك أنّ لكلّ شيء سبباً .. إذ أنّ الصدفة محال كما يقول به علماء المعقول، والله سبحانه وتعالى هو مسبّب الأسباب ومرجعها ، فكل سبب ينتهي إليه ويستمد منه قوته وتأثيره. إذ لا مؤثر في الوجود سوى الله سبحانه إلا أن حكمته اقتضت على أن يؤثر في الأشياء عبر أسبابها، قال تعالى: (إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً) (1).

قال سبحانه : (فأتبع سببا) (2) .

قال تعالى : (ثم أتبع سببا ) (3) .

وقال عزّ وجلّ : (فليمدد بسبب إلى السماء ) (4) .

وقال سبحانه: (فليرتقوا في الأسباب) (5) .

كما ورد في الأدعية : ( يا وهاب يا مسبب الأسباب يا مفتح الأبواب) (6) .

وهذا القانون - أي قانون الأسباب والمسببات كما يجري في عالم الماديات كذلك يجري في المعنويات أيضاً.

ومن هنا كان على العبد دائماً أن يسأل ربه سبحانه أن يهيىء له أسباب النجاح والعمل الصالح كما أن يجنّبه أسباب الفشل والعصيان، وبما أن كسب رضى الله سبحانه واجتناب غضبه من أهم غايات المؤمنين سألها العبد في الفقرات الأولى من الدعاء

ص: 177


1- سورة الكهف : 84.
2- سورة الكهف : 85.
3- سورة الكهف : 89، 92.
4- سورة الحج : 15 .
5- سورة ص : 10 .
6- البلد الأمين : ص 338 دعاء المشلول.

الشريف فقال : ( اللهم إني أسألك فيه ما يرضيك وأعوذ بك مما يؤذيك).

وبما أن هذه الغايات لها سبب .. وسببها هو التوفيق الإلهي وذلك لأن الإنسان لا يتمكن أن يحصل على شيء من الخير أو يتجنّب شيئاً من الشر من دون توفيق الله سبحانه وعنايته، لذا عطف على الفقرتين الأوليتين الفقرة الثالثة من الدعاء فقال :

(وأسألك التوفيق فيه لأن أطيعك ولا أعصيك) فالتوفيق بمنزلة السبب لكلّ ذلك .

هذه إشارة إجمالية إلى مضامين الدعاء ولكنّها بحاجة إلى نوع من التفصيل : فالمؤمن هو الذي يتمسّك بأسباب الإيمان ويلتزم بمظاهره .. فإنّه ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق الا أنه قيل له : (بأي شيء يعلم المؤمن أنه مؤ من؟ قال : بالتسليم الله والرضى فيما ورد عليه من سرور أو سخط ) (1) .

وعلى هذا فالمؤمن يجب أن يكون على أهبة الاستعداد دائماً لتقبل ما يرد عليه من قبل الله عزّ وجلّ، فأمره قد أوكله إلى بارئه وباع نفسه لقاء رضى الله ، قال تعالى : (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) (2) .

ولعلّ من فقرات الرواية المتقدّمة قد نفهم أن من لم يتسم بصفة الصبر على المكاره ويسلّم أمره الله سبحانه فهو ليس بمؤ من كامل الإيمان ، وهذا ما تصرح به بعض الروايات، كما ورد عن أمير المؤمنين : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) (3).

ص: 178


1- سفينة البحار : ج 3 ص 365 .
2- سورة البقرة : 207 .
3- الخصال : ص 315 ح 95 و 96 باب الخمسة .

من أسباب الرضى

وللحصول على رضى الله سبحانه وتعالى أسباب خاصة مذكورة في الآيات القرآنية والروايات الشريفة، نشير إلى بعضها :

فإن من أسباب رضى الله تعالى : جهاد النفس وإخضاعها لقوانين الخالق عزّوجلّ في كلّ شأن من شؤون الحياة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : (إن رسول الله بعث سرية فلما رجعوا :قال مر. رجعوا قال : مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل : يارسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : جهاد النفس) (1) .

وقال علیه السلام : (أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه) (2) .

وقال علیه السلام : (أفضل الجهاد جهاد النفس عن الهوى و فطامها عن لذات الدنيا ) (3).

وقال علیه السلام : (جهاد النفس ثمن الجنّة فمن جاهدها ملكها وهى أكرم ثواب الله لمن عرفها) (4) .

و قال علیه السلام : (جهاد النفس مهر الجنّة) (5) .

وقد ضرب مجاهدو الرعيل الأول من أتباع رسول الله وأمير المؤمنين علیه السلام أروع الأمثلة في فناء أنفسهم ليثبتوا الأسس التي تقوم عليها شخصية المجاهد الساعي إلى رضى الله تعالى بكل ما أُوتى من جهدٍ وقوّة.

ص: 179


1- معاني الأخبار : ص 160 باب معنى الجهاد الأكبر ح 1.
2- معاني الأخبار : ص 160 باب معنى الجهاد الأكبر ح 1.
3- غرر الحكم و درر الكلم : ص 242 ح 4904 .
4- غرر الحكم و درر الكلم : ص 242 ح 4921 .
5- غرر الحكم و درر الكلم : ص 242 ح 4916 .

منهم الصحابي الجليل عمّار بن ياسر (رضوان الله عليه) ، فقد حکی نصر بن مزاحم عنه قال : قال عمار في صفّين : (اللهم إنّك تعلم أنّي لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت ، اللهم إنك تعلم أنّي لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم انحني عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت ، اللهم إني أعلم ممّا علمتني إنّي لا أعمل عملاً اليوم هذا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين) (1) .

وإذا كان قضاء الله نافذاً بمشيئته فالأولى بالمؤمن التسليم والإذعان، وذلك لينال أجر الصبر على القضاء، وأما الجزع والتضجر فإنّه لن يمنع من نزول القضاء ، وفي نفس الوقت يعدّ من محبطات الأجر.

قال الإمام الصادق : ( أحق خلق الله أن يسلم لما قضى الله عزّ وجلّ، من عرف الله عزّ وجلّ ، ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره) (2) .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام أنه قال : (الإيمان أربعة أركان : الرضى بقضاء الله ، والتوكل على الله ، وتفويض الأمر إلى الله ، والتسليم لأمر الله) (3) .

ومن طرق تحصیل رضی الله تعالى كذلك رفض رضى المخلوق الذي يتعارض مع رضى الخالق تعالى، وقد حذر رسول الله وأمير المؤمنين علیه السلام من طلب رضى المخلوق بسخط الخالق عزّ وجلّ فيقول رسول الله : (من طلب رضی مخلوق بسخط الخالق سلّط الله عزّ وجلّ عليه ذلك المخلوق) (4) .

وفي موعظة لأمير المؤمنين علیه السلام : فلا تسخط الله برضى أحد من خلقه فإنّ في الله خلفاً من غيره وليس من الله خلف من غيره) (5) .

ص: 180


1- سفينة البحار : ج 3 ص 365 باب الراء بعد الضاد، وراجع شرح النهج لابن أبي الحديد : ج 5 ص 252 .
2- سفينة البحار : ج 3 ص 364 .
3- سفينة البحار : ج 3 ص 364 .
4- سفينة البحار : ج 3 ص 365 .
5- سفينة البحار : ج 3 ص 365 .

وقال الإمام الصادق علیه السلام : حدّثني أبي عن أبيه علیه السلام قال : إنّ رجلاً من أهل الكوفة كتب إلى الحسين بن علي علیه السلام : يا سيّدي اخبرني بخير الدُّنيا والآخرة ، فكتب علیه السلام : (بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فإنّ من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس ، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس ، والسلام) (1) .

وقال علیه السلام : (علامة رضى الله في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم) (2) .

وقال الإمام الصادق علیه السلام: (واعلموا أنّ أحداً من خلق الله لم يصب رضى الله إلا بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة الأمر من آل محمّد صلی الله علیه وآله ولأنّ معصيتهم من معصية الله ) (3) .

وفي الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله: (رضی الله مع رضى الوالدين)(4).

ومن مصاديق كسب رضى الله سبحانه : التوبة، حيث إنّه قد وضع الله سبحانه وتعالى باباً رحيباً لعباده المذنبين وسمّاه (باب التوبة) وهي بمعنى عدم الإصرار على الذنوب والندم والاستغفار عليها ..

وهذه الأمور من أسباب دخول الجنّة واستحقاق ثواب الله تعالى ورضوانه وقد تواترت الأحاديث في أنّ الله يحبّ التائبين، وأنّ التائب عن الذنب كمن لا ذنب له .. فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : ( إنّ الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنّة، قيل : يدخل الله بالذنب الجنّة ؟ قال علیه السلام : نعم إنّه ليذنب الذنب فلا يزل منه خائفاً ماقتاً لنفسه ، فيرحمه الله ، فيدخله الجنّة) (5) .

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد فتح لعباده باب الاستغفار وأوجب على نفسه رحمة عبده حيث (سبقت رحمته غضبه ) (5) ، فالأحرى بالعبد العودة العاجلة إلى تأويل الآيات : ص146 في سورة النساء .

ص: 181


1- الاختصاص : ص 225 .
2- فقه القرآن : ج 2 ص 52 .
3- روضة الواعظين : ص 368.
4- جامع السعادات ج 3 ص 68 .
5- مصباح الكفعمي : 249 ، الفصل 28 .

النهج والطريق القويم الذي يفضي به إلى رضى الله تعالى وأن يستعيذ دوماً من همزات الشياطين، الذين ما برحوا يوقعون العبد في مهالك المعصية حتّى يتبرءوا منه (فلمّا كفر قال إنّي بريء منك ) (1) .

لذا فدعاء المؤمن في الاستعاذة ممّا يوجب سخط الله في شهر رمضان يكون بمثابة التوبة ممّا سبق وعقد العزم على عدم العودة إلى الذنوب.

ص: 182


1- سورة الحشر : 16 .

قضاء حوائج الناس

ومن أسباب تحصیل رضى الله تعالى قضاء حوائج المؤمنين، وقد تواترت الأحاديث في أنّ قضاء حاجة المؤمن من أفضل العبادات، ولنا في سبط الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله الإمام الحسن المجتبى علیه السلام مَثَل أعلى، فانظر إلى فعل الإمام عندما يطلب أحد المؤمنين حاجة منه وهو في الطواف :

فعن ابن عبّاس قال : كنت مع الحسن بن علي علیه السلام في المسجد الحرام وهو معتكف وهو يطوف بالكعبة فعرض له رجل من شيعته فقال : يابن رسول الله إنّ عليَّ ديناً لفلان فإن رأيت أن تقضيه عنّي .

فقال : وربّ هذه البنيّة ما أصبح عندي شيء .

فقال : إن رأيت أن تستمهله عنّي فقد تهدّدني بالحبس!..

قال ابن عباّس : فقطع علیه السلام الطواف وسعی معه فقلت : یابن رسول الله أنسيت أنّك معتكف؟

فقال : لا ، ولكن سمعت أبي علیه السلام يقول : سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول : (من قضى

(أخاه) المؤمن حاجة كان كمن عبد الله تسعة آلاف سنة صائماً نهاره وقائماً ليله) (1) .

وفي الكافي عن أبي عبد الله علیه السلام قال : (لأن أمشي في حاجة أخ لي مسلم أحبّ إليّ من أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرّجة ملجمة) (2).

وفي الحديث عن أبي عبد الله علیه السلام قال : (من طاف بهذا البيت طوافاً واحداً كتب الله له ألف حسنة ومحا عنه ألف سيّئة ورفع له ألف درجة وغرس له ألف شجرة في الجنّة وكتب له ثواب عتق ألف نسمة حتّى إذا وصل إلى الملتزم فتح الله له ثمانية أبواب الجنّة يقال له : أدخل من أيّها شئت، قال الراوي : جعلت فداك هذا كلّه لمن طاف ، قال : نعم ، أفلا أخبرك بما هو أفضل من هذا؟ قلت: بلى ،قال من قضى لأخيه المؤمن حاجة

ص: 183


1- سفينة البحار : ج 2 ص 489 .
2- سفينة البحار : ج 2 ص 485 .

كتب الله له طوافاً حتّى بلغ عشراً) (1).

وقال علي بن الحسين علیه السلام : ( من قضى لأخيه حاجة فيحاجّه الله بها وقضى الله بها مائة حاجة في إحداهن الجنّة ، ومن نفس عن أخيه كربة نفّس الله عنه كربه يوم القيامة بالغاً ما بلغت ، ومن أعانه على ظالم له أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسر بقضائها فكان كإدخال السرور على رسول الله صلی الله عليه و آله ، و من سقاه من ظمأ فسقاه الله من الرحيق المختوم، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنّة ، و من كساه من عري كساه الله من استبرق وحرير ، و من كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسو من الثوب سلك ، و من كفاه بما هو يمتهنه ويكف وجهه ويصل به يديه يخدمه الولدان ، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنّة يباهي به الملائكة ، ومن كفّنه عند موته فكأنّما كساه يوم ولدته أُمه إلى يوم يموت، ومن زوّجه زوجة يأنس بها ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحبّ أهله إليه ، ومن عاده عند مرضه حفّته الملائكة تدعو له حتّى ينصرف وتقول : طبت وطابت لك الجنّة ، والله لقضاء حاجته أحبّ إلى الله من صيام شهرین متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام) (2) .

وقال علیه السلام: (من قضى حاجة لأخيه كنت واقفاً عند ميزانه فإن رجح وإلّا شفعت له) (3) .

وتدلّ الأحاديث السالفة على أنّ تحصيل رضى الله تعالى والقرب منه إنّما يتحقّق بذوبان الفرد المؤمن في سبيل الله وذوبانه في خدمة الإسلام والمسلمين وما يوجب الوصول إلى مجتمع إسلامي فاضل .

وفي دعاء هذا اليوم الشريف وهو اليوم الرابع والعشرون من شهر رمضان المبارك ورد : (اللهمَّ إِنِّي أسألك فيه ما يرضيك) ومرَّ عليك بعض الشيء عن الرضى ..

ص: 184


1- ثواب الأعمال : ص 49.
2- ثواب الأعمال : ص 146 .
3- غوالي اللئالي : ج 1 ص 374 ح89.

موجبات سخط الله تعالى

أمّا الفقرة الثانية في الدعاء ، فأشارت إلى الاستعاذة من إيذاء الربّ تبارك وتعالى حيث يقول : ( وأعوذ بك ممّا يؤذيك ) فما هي موجبات الإيذاء؟

قال تعالى :( إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدُّنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهينا )(1).

ومن البديهي أنّ الله تعالى لا يتأذّى بمثل ما يتأذّى الإنسان ، لأنّه ليس بجسم مادّي بل هو المجرّد فلا يجري عليه ما يجري علينا وأمثالنا من ذوي الأجسام.

ومعلوم أنّ غضب الله سبحانه يعني إظهار آثار الغضب لأنّ الله سبحانه لا ينفعل عن شيء.

هذا ولعلّ المراد من إيذاء الله سبحانه إيذاء رسوله الله صلی الله و علیه و آله لأن الذي يؤذي رسول الله صلی الله علیه و آله بمنزلة إيذاء الله ، كما أنّ الرادّ على رسول الله صلی الله علیه و آله بمنزلة الرّاد على الله سبحانه ... وهكذا إيذاء أهل البيت علیه السلام إيذاء الله سبحانه .. فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال : ( إنّ فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها) (2).

وهذا الحديث المروي عن الفريقين ...

فإيذاء الله يعني إيذاء أوليائه ولا غرابة في ذلك لأنّ من خلقت الأكوان من أجلهم وفي حبّهم، لهم من الكرامة عند الله فوق ما نتصوّره فلا غرابة في أن يتأذّى رب العزّة لأجلهم كما ورد في الخبر في خطبة للنبّي صلی الله علیه و آله قال فيها : (ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألا من آذى ذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)(3).

ص: 185


1- سورة الأحزاب : 57 .
2- صحیح مسلم : ج 5 ص 1903 باب فضائل فاطمة سلام الله علیه و آله ح 94 .
3- ينابيع المودة : ج 1 ص 364 في فضائل أهل البيت علیه السلام.

والمعاصي بصورة عامّة ممّا يوجب سخط الله تعالى، فالكفر والفسوق والعصيان والظلم والطغيان كلّها مفردات موجبة لسخط الله تعالى، وتوجب استحقاق العاصي لعقوبة اللعنة والطرد من الرحمة الإلهية .

وفي الأخبار المتظافرة أنّ المعصية توجب زوال النعمة كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر علیه السلام : (إنّ الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتّى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة ) (1) .

وعنه علیه السلام : (إنّ العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق) (2) ، وذلك حسب قانون الأسباب والمسبّبات كما تقدّم .

ص: 186


1- جامع السعادات ج 3 ص 47 .
2- جامع السعادات ج 3 ص 47 .

التوفيق لطاعة الله تعالى

ثم ّيقول الداعي ( وأسألك التوفيق فيه لأن أطيعك ولا أعصيك).

طاعة الله سبحانه وتعالى و اجتناب معاصيه نعمة إلهية يغدقها المولى جلّت قدرته على من شاء من عباده، فلا كلّ من ائتزر اعتمر ولا كلّ من شمّر عن ساعديه للصلاة صلّى الفريضة كما كتبها الله تعالى بشرطها وشروطها، وإنّما أعمال العبد وقبولها منوطة بالتوفيق الإلهى والذي لا يحصل هو الآخر إلّا بشروط قد تكون قاسية على بعض القلوب الضعيفة التي لا ترى من العبادة إلّا هذه الأفعال والحركات دون التمعّن والنظر في محتواها وفلسفة تشريعها.

لذا أشارت بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام إلى ضرورة التدبّر في العبادة بكلّ فروعها، ولكي يفهم المصلّي فلسفة ما يقرأه فى الصلاة من السور والأذكار وما أشبه ، يلزم أن يعرف لمن يقوم في صلاته؟

ولماذا بهذه الكيفية؟ و ...

ولا يمكن أن تحصل هذه المعارف إلا بالغور في روايات أهل البيت علیه السلام وبالتمرين والمجاهدات الربّانية والتي تشقّ على البعض ممارستها إلّا أنّه يجد نفسه في آخر الأمر وقد غرق حبّاً فيها وعاش الحياة الحقيقيّة التي يريدها الله سبحانه وتعالى له ، فهنا لا يكون للجسد مكان في هذا العالم المليء بالروح المتسامية .. فلا الحزن ولا المرض بمانع له عن عبادة ربّه والاتصال بحضرته ..

وفي الحديث القدسي : أنّ موسى علیه السلام قال : أرني أحبّ خلقك إليك وأكثرهم لك عبادة ، فأمره الله تعالى أن ينتهي إلى قرية على ساحل بحر وأخبره بأنّه يجده في مكان قد سمّاه له ، فوصل علیه السلام إلى ذلك المكان .. فوقع على رجل مجذوم مقعد أبرص يسبِّح الله تعالى، فقال موسى علیه السلام: يا جبرائيل أين الرجل الذي سألت ربّي أن يريني إيّاه؟ فقال جبرائيل : هو يا كليم الله هذا ، فقال : يا جبرائيل إنّي كنت أحبَ أن أراه صوّامًاقوّاماً،

ص: 187

فقال جبرائيل : هذا أحبّ إلى الله تعالى وأعبد له من الصوّام والقوام وقد أمرت بإذهاب کريمتيه فاسمع ما يقول ، فأشار جبرائيل إلى عينيه فسالتا على خدّيه ، فقال : متّعتني بهما حيث شئت وسلبتني إياّهما حيث شئت وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارّ يا وصول ، فقال له موسى علیه السلام: يا عبد الله إنّي رجل مجاب الدعوة فإن أحببت أن أدعو الله تعالى يردّ عليك ما ذهب من جوارحك ويبريك من العلّة .. فعلت ، فقال : لا أريد شيئاً من ذلك ، اختياره لي أحبّ إليَّ من اختياري لنفسي ، وهذا هو الرضى المحض كما تری، فقال له موسی : سمعتك تقول : يا بارّ يا وصول ،ما هذا البرّ والصلة الواصلان إليك من ربّك ؟ فقال : ما أحد في هذا البلد يعرفه غيري، أو قال : يعبده ، فراح علیه السلام متعّجباً وقال : هذا أعبد أهل الدُّنيا .. (1) .

فهذا كليم الله علیه السلام العابد الزاهد والذي بانت عظام جسمه من شدّة جوعه يتعجّب من هذا المبتلى الذي يرى في ابتلائه ومرضه معرفة الله تعالى وأُنساً به وقرباً منه فهو يردّد: (يابارّ یا وصول)..

ولا يخفى ما في معنى البرّ والصلة من درجة القرب حتىّ اقترنت الأولى بالوالدين والثانية بالرحم ، فإذا كان العبد وصل إلى هذه الدرجة من القرب من ربه فحريّ برب العزّة أن يقترب منه أكثر ، قال الشاعر :

فإن تدن منّي تدن منك مودّتي ***وإن تنأ عنّي تلقني عنك نائيا

وعلى عكس هؤلاء المحبّين التوّاقين إلى لقاء الله تعالى ونيل رحمته هناك من ينأى بعيداً عن ربه فيشتغل بالمعاصي والذنوب ولكن مع كلّ ذلك فهو ليس ببعيد عن ربه! بل الله تعالى يشتاق لأن يرجع هؤلاء إلى ربّهم ويتركوا معاصيهم ويؤوبوا إلى بارئهم .. وفي الخبر أنّ الله تعالى أوحى إلى داود: (يا داود لو يعلم المدبرون عنّي كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلىّ وتقطّعت أوصالهم عن محبّتي ) (2) .

ص: 188


1- سفينة البحار : ج 2 ص 316.
2- جامع السعادات : ج 3 ص 130 ، باب أفضل مراتب الشوق. جامع السعادات : ج 3 ص 130 ، باب أفضل مراتب الشوق.

ونستنتج ممّا سلف ذكره أنّ طاعه الله تعالى والبُعد عن معاصيه لا يتحققّان إلّا بالتوفيق الإلهي الحاصل عبر هجر العبد للأرض والتصاقه بالسماء ، أي أن تكون روحه في شغل عن الأهواء والنزوات الدنيوية، ويسمو إلى العالم الذي يوصله إلى خالقه تعالى ويجلب حبّه والأُّنس به

ومعلوم أنّ من نالته رحمة التوفيق الإلهي يظلّ يرتقي الدرجات إلى أن يبلغ المراتب السامية حتّى الذوبان في الحبّ الإلهي ..

إذا لولا التوفيق لم يحظ الإنسان بسعادة في الدُّنيا والآخرة، ولأنّ الله سبحانه جواد ٌكريم يعطي بلا مقابل .. على عباده أن يطرقوا هذا الباب في خاتمة الدعاء والمسألة فينادوا ربهم : (يا جواد السائلين). هذا وفي بعض النسخ: (يا أجود السائلين).

إن تسأل فاسأل جواداً

سئل الإمام أبي الحسن علیه السلام وهو في الطواف عن الجواد، فقال علیه السلام: (إنّ لكلامك وجهين ، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنّ الجواد الذي يؤدّي ما افترض الله عزّ وجلّ عليه ، والبخيل من بخل بما افترض الله عليه ، وإن كنت تعني الخالق فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع ، لأنّه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له وإن منع منع ما ليس له) (1) .

وعندما يسأل العبد ربّه إنّما يسأل من أعطاه قبل أن يسأله ، وقد ورد في الدعاء : (يا من يعطي من سأله يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة) (2) .

والجود الإلهي هنا لا يحدّه حدّ فهو عطاء دون مقابل، وقد أدّب الله سبحانه نبيّه الأكرم صلی الله علیه و آله وأوليائه المعصومين علیه السلام بآدابه ، فكان رسول الله صلی الله علیه و آله يجود بما عنده حتّى لا يبقي له شيئاً، فقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام :( إنّ رسول الله صلی الله علیه و آله أقبل إلى

ص: 189


1- سفينة البحار : ج 1 ص 690 .
2- راجع ضياء الصالحين : ص 15 دعاء بعد كلّ فريضة في شهر رجب، ط بيروت.

الجعرانة (1) فقسّم فيها الأموال وجعل الناس يسألونه حتّى الجأوه إلى شجرة ، فأخذت برده و خدشت ظهره حتّى جلوه عنها وهم يسألونه ، فقال : أيّها الناس ردّوا عليَّ بردي والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم ، ثمّ ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً، ثم خرج عن الجعرانة في ذي القعدة ، قال : فما رأيت تلك الشجرة إلّا خضراء كأنّما يرضٌ عليها الماء ) (2) .

وقد نظم الشيخ الحرّ العاملي رحمة الله هذه الأبيات في سخاء الرسول له يقول فيها:

إن محمداً أجل الأنبياء***قد جار في الجود جميع الأغنياء

له هبات جمة مشهورة***مذكورة في كتب مسطورة

من ذاك في يوم حنين وهبا***ما مثله بین الورى ما وهبا

خمسين ألفاً كملت من الإبل***رد بها عصر النوال المقتبل (3)

قال تعالى : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانية فلهم أجرهم عند ربِّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (4) .

وفي الحديث أنّ هذه الآية نزلت في علم اهلها وكانت عنده أربعة دراهم فتصدق بواحد منها ليلاً وبواحد منها نهاراً وبواحد سرّاً وبواحد علانية (5) .

وقال النبي الله : (الجود شجرة من أشجار الجنّة) (6) .

وسوء :

وقال رسول الله : ( خصلتان لا تجتمعان في مسلم : البخل وسوء الخلق) (7) .

وقال : (أقل الناس راحة البخيل ) (8) .

ص: 190


1- اسم موضع في المدينة.
2- سفينة البحار : ج 4 ص 103 سخاء النبي
3- سفينة البحار : ج 4 ص 103 سخاء النبى
4- سورة البقرة : 274 .
5- روضة الواعظين : ص 383 مجلس في ذكر حسن الجود والسخاء وذم البخل .
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 19 ص 317.
7- روضة الواعظين : ص 383 مجلس في ذكر حسن الجود والسخاء وذم البخل .
8- روضة الواعظين : ص 384 مجلس في ذكر حسن الجود والسخاء وذم البخل.

وقال علي : (لا خير في القول إلّا مع العمل، ولا في المنظر إلّا مع المخبر ، ولا في المال إلا مع الجود) (1).

وقال : (غاية الجواد أن تعطي من نفسك المجهود) (2) .

وقال : (الجود من كرم الطبيعة والمن مفسدة للصنيعة ) (3) .

وقال : (منع الجود سوء الظن بالمعبود) (4) .

وقال : (سادة الناس في الدنيا الأسخياء وفي الآخرة الأتقياء)(5).

وقال : الجود حارس الأعراس ) (6)

وقال : (الجود عزّ موجود) (7) .

وقال أبو عبدالله : (خياركم سمحاؤكم و شراركم بخلاؤكم) (8).

وهكذا كانت أخلاق آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجود والكرم وهم الذين نهلوا من بحر جود النبي الله فكان أمير المؤمنين مثلاً رائعاً في الجود والكرم وكما وصفه القرآن الكريم بقوله تعالى : (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (9) .

ويصفه الشعبي وقد ذكره : ( كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحب الله السخاء والجود ، ما قال لا لسائل قط).

وقال عدوّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمته وعيبه - حاشاه - معاوية بن أبي سفيان لمحقن بن أبي محقن الضبي لما قال : جئتك من عند أبخل الناس :

ص: 191


1- الاختصاص : ص 243 .
2- الإرشاد : ج 1 ص 299
3- الإرشاد : ج 1 ص 303 .
4- کشف الغمّة : ج 2 ص 206 .
5- روضة الواعظين : ص 384 مجلس في ذكر حسن الجود والسخاء وذم البخل .
6- غرر الحكم : ص 378 ح 8532 .
7- غرر الحكم : ص 380 ح 8597 .
8- روضة الواعظين : ص 384 مجلس في ذكر حسن الجود والسخاء وذم البخل .
9- سورة المائدة : 55 .

( ويحك كيف تقول إنّه أبخل الناس ولو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن قبل تبنه ، وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلّي فيها، وهو الذي قال : يا صفراء و يا بيضاء غرّي غيري ، وهو الذي لم يخلف ميراثاً وكانت الدُّنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام) (1) .

ويروى عنه الكثير من المآثر والتي فصلت في كتب التاريخ والحديث، ممّا لم يسع المقام لبيانها.

وكان الإمام الحسين والذي جاد بنفسه وعياله وصحبه في سبيل الله كريماً جواداً وصولاً ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتى ترك أثراً على ظهره ، كيف لا وهو الذي يقول :

إذا جادت الدنيا عليك فجد بها***على الناس طرّاً قبل أن تنفلت

فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت***ولا البخل يبقيها إذا هي ولّت (2)

أما الإمام زين العابدين فكان يدعو اليتامى والمساكين إلى بيته ، وكان يحبّ ذلك ، وكان يناولهم الطعام بيده ، ويوزّع الطعام إلى بيوت فقراء المدينة من دون أن يعلمهم بالأمر حتى أنهم ما عرفوه إلا بعد وفاتها لأنه كان يتصدق بها ليلاً وسراً.. وكذا كان الأئمة من بعدهم ، حملة المشعل الإلهي إلى العالمين، بحراً من الجود إلى أن يقوم قائمهم (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)..

فإذا كان أولياء الله يجودون على الناس بما سمحت منهم أكفّهم الشريفة فما بالك بصانعهم وبارئهم وهو الجواد المطلق.

لذا ينبغي على المؤمن أن يسأل الله حاجته دائماً.. ويطلب منه ما يريد من حوائج الدنيا والآخرة، فإنّ الله سبحانه جواد السائلين، ولا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً إنّه هو العزيز الوهاب ..

ص: 192


1- سفينة البحار : ج 4 ص 105 سخاء أمير المؤمنين .
2- سفينة البحار : ج 4 ص 107 .

السعادة في الدارين

25

دعاء اليوم الخامس والعشرين

اشارة

اللهُمَّ اجْعَلْنِي فِيهِ مُحِباً لِأَوْلِيَائكَ، وَمُعَادِياً لأعْدائِكَ ، مُسْتَنَاً بِسُنَّةِ خَاتَم أَنْبِيَائِكَ ، يَا عَاصِمَ قُلُوبِ النَّبِيِّينَ.

البلد الأمين : ص 309 عن النبي له الله : ( من دعا به بني له في الجنة مائة قصر على رأس كل قصر خيمة خضراء).

ص: 193

ص: 194

طرق السعادة

لا شك أنّ كلّ إنسان يحبّ أن يعيش سعيداً في الدُّنيا وسعيداً في الآخرة، وهذه السعادة هدف الجميع ولكن الإنسان لا يصل إلى سعادته في الدارين إلا باتباع الطرق التي وضعها الله لذلك ، ومن هذه الطرق:

1 : موالاة أولياء الله والتبرّي من أعدائه .

2 : الاستنان بسنّة سيّد المرسلين محمد عبيد الله

3 : الاعتصام بالله عزّ وجلّ.

وقد ورد في فقرات الدعاء الشريف ذكر لهذه الطرق، فلا بأس بالتطرق إليها حسب ما يقتضيه المجال :

الولاية

يطلب الداعي في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك أن يكون موالياً لأولياء الله ، ومعادياً لأعداء الله تعالى بقوله : (اللهم اجعلني فيه محبّاً لأوليائك، ومعادياً لأعدائك ) .

فما معنى الموالاة؟

وما هو التولي؟

وما هي الولاية؟

وكيف تكون؟

الولي : بتسكين اللام هو الدنو والقرب.. والولي بكسر اللام هو المحبّ والصديق والنصير، والولاية : هي الإمارة والسلطان .. والولاء : الملك ، والمولى : المالك والصاحب والعبد والقريب والحليف والجار وابن الأخت ... تولاه : اتخذه ولياً .. (1) .

ص: 195


1- القاموس المحيط : ص 1732 باب ولي .

والتولي من الأمور المحورية والمهمة في الدين .. أي الولاء لله ولرسوله وللأئمة من أهل البيت .. وكذلك موالاة الأولياء والصالحين والتابعين المؤمنين .. وهكذا.

فالولاية لأولياء الله تعالى .. ولكن من هم أولياء الله؟ وماذا تعني محبّتهم موالاتهم؟

أولياء الله تعالى : هم الأنبياء والأوصياء والصالحون، ومن أسمى مصاديقهم أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ( عليهم أفضل الصلاة والسلام).

قال تعالى : (إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) .

وقد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين علیه السلام .

وقال سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولى الأمر منكم ) (2) .

لقد أوجب الله تعالى على الناس في الآية الكريمة بعد طاعته عزّ وجلّ وطاعة رسوله الله طاعة الأئمة من أهل البيت الله من آل محمد الله بصفتهم خلفاء للنبي وأُمناء على الرسالة وأمراء الناس .. فبهم الهداية وبهم النجاة . ومن الخطأ جداً تأويل (أُولي الأمر) بأمراء المسلمين وكل من تسلّم الحكم كما يرى البعض .

فعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : لما أنزل الله عزّ وجلّ على نبيه محمد (ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر ...) قلت : يارسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أُولوا الأمر؟ الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال له : خلفائي يا جابر ، وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه یا جابر فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمد بن علي ، ثمّ علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثمّ

ص: 196


1- سورة المائدة : 55 .
2- سورة النساء : 59 .

سميّي وكنتي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان) (1).

لذا فيجب معرفة أولياء الله تعالى وتحديدهم بأشخاصهم حتى لا يتيه الإنسان ...

فقد ورد في الأحاديث المتواترة قوله : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) (2) .

و قال : ( يا أيها الناس إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل)(3).

فوجود الإمام في الأمة أمر ضروري جداً.. وهذه الضرورة ناتجة من عدة أُمور يشير إلى بعضها الحديث التالي :

قال : ( في كل خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله ، فانظروا مَنْ توفدون) (4).

و قال : ( لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(5).

هل تكفى المعرفة وحدها ؟

إذاً لابد من معرفة الأئمة وتحديدهم .. ولكن معرفتهم لوحدها لا تكفي ولا تحقق الأماني والآمال المعقودة عليها .. لو لم تكن مقرونة بالولاء والحبّ والنصرة والطاعة واتباع أوامرهم والامتثال لها والانتهاء عند نواهيهم وهكذا..

ص: 197


1- نور الثقلين : ج 1 ص 499 ح 331 .
2- الغدير : ج 10 ص 360.
3- المراجعات: ص 33 المراجعة 10.
4- المراجعات: ص 33 المراجعة 10 .
5- صحیح مسلم : ج 4 كتاب الإمارة ح 10 .

فهم أعلى القيم في الجهاد والدفاع عن الرسالة وعن الدين وقد بذلوا الغالي والنفيس لأجلنا وللحفاظ على ديننا حتى أوصلوه لنا جيلاً بعد جيل!

فهم الحق حيث ما داروا دار معهم، كما قال رسول الله : ( علي مع الحق والحق مع علي اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار ) (1) .

وفي حديث آخر : (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) (2) .

فالتخلّف عنهم وعدم موالاتهم وعدم الاقتداء بهم .. يعني التيه والضلال والتخلف عما رسمه لنا رسول الله الله من قبل الله ، قال عل الله : ( إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) و قال : ( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (3).

وقد أوضح أمير المؤمنين المعنى العترة بقوله عندما سُئل عنها فقال : (أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين ، تاسعهم مهديهم وقائمهم لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول الله حوضه) (4) . فهذا الحديث وغيره يدلّ بوضوح لا لبس فيه أنّ القرآن الكريم والعترة النبوية الطاهرة صنوان مقترنان مدى الدهر لا يفترقان ، وكلاهما حجّة على العباد.

قال : ( من أحب أن يحيى حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة التي وعدني جنة الخلد، فليتولّ عليّاً وذريته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم من باب ربّي وهي هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة) (5) .

ص: 198


1- الجمل : ص 81.
2- الفصول المختارة : ص 135.
3- المراجعات : ص 25 المراجعة 8.
4- بحار الأنوار: ج 25 ص 215 كتاب الإمامة معنى آل محمد وعترته ح 10 ، ط طهران .
5- المراجعات : ص 36 المراجعة 10 .

مروسنامه، ويحدثنا زرارة وهو من أجل المحدثين والرواة عن فضل موالاة أهل البيت ، عن أبي جعفر قال : (بني الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ، قال زرارة : فقلت : وأي شيء من ذلك أفضل؟ قال : الولاية لأنّها مفتاحهن والولي هو الدليل عليهن - إلى أن قال - ثم قال : ذروة الأمر و مفتاحه وباب الأشياء، ورضى الرحمن ، والطاعة للإمام بعد معرفته إن الله عزّ وجل يقول : (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) (1) ، أما لو أنّ رجلاً قام ليله وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله وحج دهره، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حق في ثواب ولاكان من أهل الإيمان) (2) .

إن بعض الناس يتصوّر الدين هو الموالاة والتولي لأولياء الله فقط ، ولكن حسب المستفاد من الروايات هذا وحده لا يكفي ما لم يكمله موقف آخر وهو التبري، فكما أنّ التولّي واجب فكذلك التبري، فهما كالوجهين للشيء الواحد إلا أن أحدهما في طرف الإيجاب وهو التولي ، والآخر في طرف السلب وهو التبرّي .

والمقصود من التبرّي : هو المنابذة والمعاداة لأعداء الله سبحانه وأعداء أوليائه .

قال : (وهل الدين إلّا الحب والبغض ) .

وفي حديث آخر : (وهل الإيمان إلا الحب والبغض ) (3) .

ص: 199


1- سورة النساء : 8.
2- سفينة البحار : ج 2 ص 691 .
3- المحاسن : ص 262 ح326.

مودّة أهل البيت

لقد فرض الله تعالى مودة أهل البيت وهي مودّة أولياءه وجعل ذلك أجراً للرسالة النبوية، واعتبره حقاً مفروضاً من حقوق النبى الله وحق الله تعالى على الناس أيضاً.

قال تعالى : (قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا المودة في القربى * ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إنّ الله غفور شكور ) (1) .

وعن أبي الحسن قال : حدثني أبي عن جدّي عن آبائه عن الحسين ب-ن علي ام قال : (اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول الله فقالوا : إنّ لك يا رسول الله مؤونة في نفقتك وفي من يأتيك من الوفود ، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها باراً مأجوراً ، أعط ما شئت وامسك ما شئت من غير حرج ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ عليه الروح الأمين فقال : يا محمد قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى (2) ، يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي) (3).

وفي الحديث عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (4) سُئل رسول الله من هؤلاء الذين يجب علينا حبّهم؟ قال : (عليّ وفاطمة وابناهما قالها ثلاث مرّات، رواه سعید بن جبير عن ابن عبّاس (5) .

ثمّ إنّ دواعي الحبّ والإخلاص والإعجاب والمودّة تختلف عند الناس باختلاف

ص: 200


1- سورة الشورى 23
2- سورة الشورى 23 .
3- عيون أخبار الرضا : ج 1 ص 235 ح 1.
4- سورة الشورى 23 .
5- کشف الغمة : ج 1 ص 324 .

نزعاتهم وميولهم، وهذا أمر طبيعي ولا ضير فيه ، فمن الناس من يحب الجمال ويقدسه، ومنهم من يحبّ البطولة والأبطال ويمجدهم، ومنهم من يحب سائر مصاديق الكمال والجمال المختلفة والتي قد لا يمكن حصرها بوجه من الوجوه.

فمثلاً شخصية النبي صلی الله علیه وسلم هي مدعاة للإعجاب والحب فقد أودع الله تعالى فيها كلّ ما تهواه النفوس من صور الجمال والكمال ومصاديقه ، فجعله تعالى نموذجاً فريداً لا يمكن أن يفوقه أي إنسان مهما امتلك من صور جمالية وكمالية .. فشخصية النبي صلی الله علیه وسلم لا يملك الإنسان إزاءها إلّا الحبّ والإجلال والاقتداء .. وكذلك أهل البيت الذين عصمهم الله تعالى .. وأوجد فيهم أسمى صور الجمال والكمال وجعلهم نموذجاً يقتدى به، باعتبارهم حفظة رسالة السماء بعد النبي صلی الله علیه وسلم .. فتميل لهم الروح الصافية والضمائر الطاهرة ويقتدي بهم ذووا الألباب، ومن هنا فرض الله سبحانه حبّهم وموالاتهم ..

جاء رجل من أهل البادية يسأل النبي صلی الله علیه وسلم فقال : يارسول الله متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة ، فلما قضى صلاته صلی الله علیه وسلم قال : أين السائل عن الساعة؟

قال : أنا يارسول الله .

قال : فما أعددت لها؟

قال : والله ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم إلا أنّي أحبّ الله ورسوله ..

فقال النبي صلی الله علیه وسلم : المرء مع من أحبّ.

قال راوي الحديث وهو أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدّ من فرحهم بهذا .. (1)

فمن أحب أهل البيت الله فقد أحب النبي صلی الله علیه وسلم و من أحب النبي صلی الله علیه وسلم فقد أحب الله تعالى ومن أحب الله سبحانه أحبّه الله تعالى ..

قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( من أحبّ علياً أحبّني ومن أحبّني فقد رضي الله عنه وم-ن رضي الله عنه كافأه الجنّة ، ومن أحبَّ علياً لا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر

ص: 201


1- بحار الأنوار: ج 17 ص 13 باب وجوب طاعته وحبه والتفويض إليه ح26، ط طهران .

ويأكل من طوبى ويرى مكانه في الجنة ، ألا ومن أحبَّ عليّاً قبل صلاته وصيامه وقيامه واستجيب له دعاؤه ، ألا ومن أحبّ علياً استغفرت له الملائكة وفتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخلها من أيّ باب شاء بغير حساب ، ألا ومن أحب عليّاً أعطاه الله كتابه بيمينه وحسابه حساب الأنبياء ، ألا ومن أحب عليّاً هوّن الله عليه سكرات الموت وجعل قبره روضة من رياض الجنّة ، ألا ومن أحبَّ عليّاً بعث الله إليه ملك الموت كما يبعث إلى الأنبياء ودفع الله عنه هول منكر ونكير وبيض وجهه وكان مع حمزة سيّد الشهداء ... ألا أحبَّ عليّاً جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ألا ومن أحبَّ عليّاً وضع ومن على رأسه تاج الملك والبس حلة الكرامة ، ألا ومن أحب عليّاً جاز على الصراط كالبرق الخاطف ، ألا و من أحبَّ عليّاً كتب له براءة من النار وجواز على الصراط وأمان من العذاب ..) (1) الحديث .

قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( يا علي من أحبني وأحبك وأحب الأئمة من ولدك فليحمد الله على طيب مولده فإنّه لا يحبّنا إلا من طابت ولادته ولا يبغضنا إلا من خبثت ولادته) (2) .

لقد اتصف أهل البيت علیهم السلام بجميع خصائص المحبة ودواعيها وموجباتها وبواعثها حتى وجب بذلك ولائهم .

قال الشاعر عنهم علیهم السلام :

من معشر حبّهم دين وبغضهم***كفر وقربهم منجى ومعتصمُ

إن عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم***أو قيل من خير أهل الأرض قيل هُمُ

نعم فهم علیهم السلام صفوة الخلق ، وحجج الله تعالى على الناس، وسفن النجاة، وخير من أقلته الأرض وأظلّته السماء بعد جدهم الأعظم صلی الله علیه وسلم حسباً ونسباً وفضلاً ومجداً.

والوجدان السليم لا يرتضي محبّة النبي عل الله دون أهل بيتها وكلّ محبّة بدون ذلك فهي ناقصة.

ص: 202


1- فضائل الشيعة: ص 3 - 5 ح1
2- الأمالي للصدوق : ص 475 المجلس 72ح 14.

روي عن عبدالله بن مسعود قال : كنا مع النبي صلی الله علیه وسلم في بعض أسفاره إذ هتف بنا أعرابي بصوت جهوري فقال : يا محمد ، فقال له النبي صلی الله علیه وسلم : ما تشاء؟ فقال : المرء يحبّ القوم ولا يعمل بأعمالهم ، فقال النبي صلی الله علیه وسلم : المرء مع من أحب ، فقال : يا محمد ، اعرض عليَّ الإسلام ، فقال : إشهد أن لا إله إلا الله ، وإني رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان و تحج البيت ، فقال : يا محمد، تأخذ على هذا أجراً؟ فقال : لا ، إلا المودة في القربى.

قال؛ قرباي أو قرباك ؟ فقال : بل قرباي ، قال : هلم يدك حتى أُبايعك .. لا خير فيمن يودّك ولا يود قرباك .. (1) .

وقد أجمع الإمامية على أن المراد بالقربى في الآية إلا نفسه وهم : الأئمة من أهل البيت ووافقهم بذلك ثلة من أعلام الجمهور كأحمد بن حنبل والطبراني والحاكم، وعن ابن عباس : (هم : على وفاطمة وابناهما ) (2) .

وقال الإمام الصادق : قال رسول الله صلی الله علیه وسلم : ( من أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أوّل النعم ، قيل : وما أوّل النعم؟ قال: طيب الولادة، ولا يحبّنا إلا من طابت ولادته) (3) .

قال رسول الله صلی الله علیه وسلم العلي علیه السلام : ( هذا حبيبي جبرئيل يخبرني عن الله جل جلاله أنّه قد أعطى محبّك وشيعتك خصال الرفق عند الموت والأنس عند الوحشة والنور عند الظلمة والأمن عند الفزع والقسط عند الميزان والجواز على الصراط ودخول الجنّة قبل سائر الناس من الأمم بثمانين عاماً ) (4) .

وعن الإمام الباقر علیه السلام قال : (لا تزول قدم عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته ، ومالك من أين اكتسبته

ص: 203


1- بحار الأنوار: ج 27 كتاب الإمامة باب ثواب حبهم ل ص 102 ح 67 ، ط طهران .
2- الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء للإمام شرف الدين الله ص 18 في آية المودة.
3- بحار الأنوار: ج 27 ص 145 - 146 كتاب الإمامة ب 5 ح3 ، ط طهران.
4- بحار الأنوار: ج 65 ص 9 باب 15 فضائل الشيعة ح4 ، ط بيروت. وأمالي الصدوق في صوم 9 رجب وحبّ أهل البيت الام .

وأين وضعته ، وعن حبنا أهل البيت) (1) .

لذا فالموالاة لا تكون إلا بالحب.. والحب لا يكمل إلا بالتبرّي من أعداء أهل البيت علیهم السلام والإنسان ليستغرب أشدّ الاستغراب عندما يجد من يدعي الإسلام ويدعي حبّ النبي صلی الله علیه وسلم وهو يعادي أهل البيت ويبغضهم .. ويكن لهم العداوة والمناصبة والبغضاء .

إن الإسلام عقيدة وإيمان وموالاة ومبادئ ثابتة لا تقبل هذه التناقضات ولا يجتمع فيها الهدى والضلال والعدل والظلم والكفر والإيمان .

وقد جاء في شأن نزول سورة (قل يا أيها الكافرون) إنّها نزلت في نفر من قريش :قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا نتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كله، تعبد الهتنا سنة ، ونعبد الهتك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه ، فقال صلی الله علیه وسلم : ( معاذ الله أن أشرك به غيره) (2) .

فالإسلام لا يقبل بغير الصراط المستقيم .. وديننا الحنيف دين واضح لا لبس فيه وهو يحوي البعدين، بعد النفي، وبعد الإثبات أي التولّي والتبري، كما في كلمة التوحيد ( لا إله) (إلا الله).. والآية تشير لذلك : (فمن يكفربالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) (3) .

فالإسلام: ملخصه في كلمة رفض هي (لا إله) واستثناء واحد مما سبق من هذا الرفض وهو (إلّا الله).. وهنا تنهار كل الحلول الوسطى بين الله وبين غيره من الطواغيت ، فلا مجال للأهواء والميول والعصبية والمصالح وغيرها.

ومن هنا يتضح خطأ كل من يدعي الإسلام والإيمان وهو يعادي أهل بيت النبوة علیهم السلام

ص: 204


1- تحف العقول: ص 45 ، مواعظ النبي وحكمه .
2- مجمع البيان: ج 5 ص 551 .
3- سورة البقرة : 256 .

مواقف ولائية

روي أن معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي هدية من حلوى يريد بذلك عليه استمالته وصرفه عن حبّ أمير المؤمنين الله فدخلت عليه ابنة صغيرة له خماسية أو سداسية ، فأخذت لقمة تلك الحلوى وجعلتها في فمها ، فقال لها أبو الأسود: يا من بنيتي ألقيه فإنّه سمّ، هذه حلوى أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ويردنا عن محبّة أهل البيت ، وطالب الصبية : قبحه الله يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر! تباً لمرسله وأكله، فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلته ثم قالت :

أبالشهد المزعفر يابن هند***نبيع عليك أحساباً ودينا

معاذ الله كيف يكون هذا***ومولانا أمير المؤمنينا (1)

ص: 205


1- الكنى والألقاب : ج 1 ص 10، وبحار الأنوار: ج 1 ص 669.

أهل البيت علیهم السلام في كتب العامة

وهناك روايات كثيرة وردت في فضل أهل البيت علیهم السلام ولزوم محبّتهم في مختلف كتب العامة ، نشير إلى بعضها فقط :

جاء في مستدرك الصحيحين ج 3 ص 127 عن ابن عبّاس قال : نظر النبي إلى علي فقال : ( يا علي أنت سيّد في الدُّنيا وسيّد في الآخرة، حبيبك حبيبي ،حبيبي و حبيب الله ، وعدوّك عدوّي ، وعدوّي عدو الله ، والويل لمن أبغضك بعدي) (1) وقد أخرج الحافظ الطبري في كتاب الولاية بإسناده عن علي قال : (لا يحبّني ثلاثة : ولد زنا، ومنافق ، ورجل حملت به أُمه في بعض حيضها ..) (2) .

وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير قال : قال رسول الله : ( من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حب آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثمّ منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح الله له في قبره باباً إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا وم- و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بین عینیه آيس من رحمة الله ... ) (3) .

ص: 206


1- فضائل الخمسة من الصحاح الستة : ج 2 ص 223 .
2- الغدير : ج 4 ص 322 لا يبغض علياً إلا دعي ح6.
3- تفسير الكشاف ج 4 ص 220 .

أخرج الطبراني في الأوسط، والسيوطي في إحياء الميت، وابن حجر ف--ي صواعقه في باب الحث على حبّهم ، قال رسول الله : ( ألزموا مودتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلّا بمعرفة حقنا ) (1) .

وعن الحكم قال : بينما أنا مع أبي جعفر ، والبيت غاص بأهله ، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له حتى وقف على باب البيت فقال : السلام عليك يابن رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم سكت، فعان أبو جعفر : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال : السلام عليكم ، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً وردوا عليه السلام ، ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر ثم قال : يابن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك فوالله إنّي لأحبّكم وأحب من يحبّكم، والله ما أحبّكم وما أحب من يحبّكم لطمع في الدُّنيا، وإنّي لأبغض عدوّكم وأبرأ منه، والله ما أبغضه وأبرأ منه لوثر كان بيني وبينه ، والله إنّي لأحل حلالكم، وأحرّم حرامكم، وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟

فقال أبو جعفر : (إلي .. إليّ ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال : أيها الشيخ إن أبي علي بن الحسين أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه ، فقال له أبي : إن مت ترد على رسول الله ل ل لله ، وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين الا ويثلج ، قلبك ، ويبرد فؤادك ، وتقرّ عينيك ، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك هاهنا - وأهوى بيده إلى حلقه - وإن تعش تر ما يقر الله به عينيك ، وتكون معنا في السنام الأعلى) (2) .

لذا فعلى المؤمن الحقيقي أن يوالي أهل البيت الا ويتبرأ من أعدائهم ولا يواليهم.. ولا تأخذه في الله لومة لائم .. ولا تغرّه إغراءات المبطلين .. ولا تخويف المرجفين ..

ص: 207


1- المراجعات : ص 22 المراجعة 10.
2- سفينة البحار : ج 2 فضل حب آل محمد علیهم السلام .

ضريبة الولاية

قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: (أحب أن أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرب إلى الله بدمه، فقيل له: ما نعلم أحداً أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فأُتي به :

فقال له : أنت قنبر ؟

قال : نعم .

قال : أبو حمدان (همدان).

قال : نعم .

قال : مولى علي بن أبي طالب

قال : الله مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي.

قال : ابرأ من دينه .

قال : فإذا برئت من دينه تدلّني على دين غيره أفضل منه؟

قال : إنّي قاتلك ، فاختر أي قتلة أحبّ إليك .

فقال : صيّرتُ ذلك إليك ..

قال : ولم؟

قال : لأنك لا تقتلنى قتلة إلا قتلتك مثلها .. وقد أخبرني أمير المؤمنين أنّ ميتتي تكون ذبحاً ظلماً بغير حق .. قال : فأمر به فذبح) (1) .

وهذا هو الحب الحقيقي والولاء الواقعي ، فهو مبدأ وثبات وعقيدة وليس لقلقة لسان ..

وفي هذا الباب ما روي أنّ رجلاً أموياً وفد إلى الصاحب بن عباد وقد كتب له في رقعة هذه الأبيات:

أيا صاحب الدُّنيا ويا مالك الأرض***أتاك كريم الناس من الطول والعرض

له نسب من آل حرب مؤثل***مرائره لا تستمل إلى النقض

ص: 208


1- بحار الأنوار: ج 42 ص 126 تاريخ أمير المؤمنين ب 122 ذیل ح 7، ط طهران.

فزوده بالجدوى ودثّره بالعطا***لتقضى حق الدين والشرف المحض

فلمّا وصلت إليه تأملها الصاحب الله وكتب في جوانبها على نفس القافية والروي والوزن :

أنا رجل يرمونني الناس بالرفض***فلا عاش حربي لدي على خفض

ذروني وآل المصطفى خيرة الورى***فإنّ لهم حبّي كما لكم بغضي

ولو أنّ عضواً مال عن آل أحمد***لشاهدت بعضي قد تبرّأ من بعضي (1)

وقيل : إنّ العلامة الحلي ناظر أهل الخلاف في مجلس (السلطان خدابنده) وبعد إتمام المناظرة وبيان أحقية مذهب الإمامية الاثنى عشرية خطب العلّامة خطبة بليغة مشتملة على حمد الله والصلاة على رسوله لله والأئمة فلما استمع السيد الموصلي وكان من جملة المفحمين في المناظرة قال : ما الدليل على جواز توجيه الصلاة على غير الأنبياء؟

فقرأ العلامة في جوابه بلا انقطاع للكلام الآية : (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون*أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك المهتدون ) (2) .

فقال الموصلي على طريق المكابرة : ما المصيبة التي أصابت آله حتّى أنّهم يستوجبون لها الصلاة؟

فقال العلامة : من أشنع المصائب وأشدّها أن حصل من ذراريهم مثلك الذي يرجح غيرهم عليهم.

فاستضحك الحاضرون وتعجبوا من بداهة جواب آية الله في العالمين .. (3)

فعلى المؤمن أن يسأل الله سبحانه أن يوفقه لمحبّة أوليائه والتبرّي من أعدائه .. وأن يعينه على الثبات في محبّتهم والتمسك بحبلهم .. كما ورد في هذا الدعاء : (اللّهمَّ اجعلني فيه محبّاً لأوليائك ومعادياً لأعدائك).

ص: 209


1- روضات الجنّات : ج 2 ص 27 .
2- سورة البقرة : 156 - 157 .
3- روضات الجنّات : ج 2 ص 83 .

الاستنان بسنّة النبي صلى الله عليه واله

ثمّ يطلب الداعي بعد طلب الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعدائه أن يتسنّن بسنّة رسول رب العالمين عل الله بقوله : (مستناً بسنّة خاتم أنبيائك ..) .

فعلينا أن نعرف ما هي السنة؟

السنّة : هي الطريق أو النهج أو الشريعة الواضحة أو السيرة .

إنّ الاستنان بسنّة النبي الأكرم صلى الله عليه واله .. له مرتبتان :

الأولى : في فعل الواجبات وترك المحرمات ..

والثانية : الاستنان والاقتداء بكل ما مارسه النبي صلى الله عليه واله من آداب وسنن وأخلاق وممارسات يومية ومستمرّة طيلة حياته العظيمة .. وهذا في واقعه لثرائه وتشعبه لا يمكن حصر كلّ مفرداته في هذا المقام .. إلّا أننا سنحاول تسليط الضوء على ما تيسر منها هاهنا :

لقد أمرنا الله تعالى في قرآنه الكريم بالاقتداء والاستنان بسنّة النبي صلى الله عليه واله والتي هي الطريقة الواضحة السمحاء .

قال تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (1).

لماذا أمرنا الله بالاستنان بسنّة النبي ؟

القرآن يجيب على ذلك حيث يصف النبي الأعظم بقوله تعالى: ﴿وأنك لعلى خلق عظیم ) (2) .

ص: 210


1- سورة الأحزاب : 21.
2- سورة القلم : 4 .

وقوله تعالى: (يا أيّها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً *وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً *وبشِّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً) (1).

وهنا سؤال آخر أيضاً : ماذا تقدّم لنا رسالة النبي صلی الله علیه و آله وسنتّه لو التزمنا بها؟

إنّ رسالة النبي صلی الله علیه و آله وسنّته هي رسالة الإسلام، والإسلام أرقى شريعة سماوية جعلها الله للبشر لسعادة حياتهم الدينية والدنيوية فكلّ توجيه منها يقود الإنسان نحو الكمال ويهديه إلى الرشاد في العيش الكريم في الدُّنيا والآخرة وقد ورد في القرآن وجوب متابعة النبي صلی الله علیه و آله والاقتداء به .

قال تعالى : (لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة ) (2)

وقال سبحانه: (قل إن كنتم تحبُون الله فاتّبعوني يحببكم الله )(3).

فالرسول الكريم صلی لله علیه و آله جاء ليبلّغ الناس الرسالة ويبّين كلّ أمر ونهي أو أدب وسنّة يلبّي بذلك حاجة ضرورية أو تكاملية للإنسان، فالإسلام هو الجانب التشريعي للوضع الكوني العام و به تُنال السعادة، ولنضرب بعض الأمثلة لهذا التشريع ..

من حكمة التشريع

التقيد بالواجبات في الإسلام هي ضرورات تتطلّبها الحياة.. وتركها يضرّ بالمجتمع أيضاً فضلاً عن أنّه يضرّ بالفرد نفسه بالإضافة إلى أنّ التقيد بالواجبات نوع علاقة وثيقة مع الله تعالى ولا يخفى ما سيترتب على تلك العلاقة من آثار إيجابية وضعية مختلفة على مختلف شؤون الحياة .

فالصوم .. له جوانب أخلاقية مهمّة في المجتمع ، قال تعالى : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون ) (4) .

فالجوع والعطش اللّذان يلازمان الصوم والعناء والتعب والمشقّة، يجعل من

ص: 211


1- سورة الأحزاب : 45 - 47 .
2- سورة الأحزاب: 21.
3- سورة آل عمران: 31.
4- سورة البقرة : 183 .

الإنسان يشعر بأخيه الإنسان ويحسّ بجوعه وعطشه ويعرف بأنّ هناك أناساً يتضوّرون جوعاً .. وحينئذٍ كيف يمكنه أن ينام وجاره جائع؟

إضافة إلى أنّ الصوم عبادة روحية أخلاقية عظيمة يستطيع الإنسان بها أن يقاوم شهواته و لذائذه .. ويتغلّب على هواه ويفسد على الشيطان مساعيه ونفثه وكيده .. طبعاً إذا راعى شرائطه .. لأنّ الأكل والشرب الزائد والإسراف فيها يفتح على الإنسان أبواباً كثيرة يصعب غلقها لذا كان النبي صلی الله علیه و آله يحذّر من أنّ الشيطان يجري في الإنسان كمجرى الدم في العروق .. وكان يطلب تضييق تلك العروق والمجاري على الشيطان حتّى لا يتمكّن من المرور والسيطرة على الإنسان.

قال النبي صلی الله علیه و آله : ( إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع والعطش) (1).

وعن أمير المؤمنين علیه السلام و هو يبيّن الحكمة من فرض الصوم على الناس : (فرض الله ... والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق) (2) .

فالقرآن والسنّة النبوية أو جدت مناهج وإرشادات لكّل جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها .. وزينتها بالجانب التربوي الأخلاقي، وبذلك يتّخذ الإسلام معنىً شمولياً فهو ليس عقيدة فحسب وليس منهجاً فحسب بل هو مزيج بينهما .

فالإسلام عندما يشرّع .. والقرآن عندما يأمر .. والسنّة النبوية عندما تنطق ، كلّها تسعى في سبيل تحقيق حاجات الإنسان الدنيوية والأخروية مع حفظ التوازن وذلك بقدر ما تطيقه طبائع البشر .. وبنفس الوقت تستجيب لمطالب الجسد ومطالب الروح في توازن تامّ... كما ورد: (من لا معاش له لا معاد له).

فهذا القرآن الكريم وآياته التي تعتبر المادّة الرئيسية والمصدر الأساسي في التشريع الإسلامي تتجاوز ال- (ستّة آلاف آية) فبعض منها ترتبط بالعبادات وبقيّة الآيات تعالج سائر مشاكل الحياة وتلبّي حاجاتها.

ص: 212


1- الإسلام دین و تمدن : ص 506 .
2- نهج البلاغة : ج 4 ص 55 للشيخ محمّد عبده .

وكذلك الفقه الإسلامي الذي قسّمه بعض الفقهاء إلى أربعة وعشرين باباً، وهناك من كبار الفقهاء الذي قسّم الفقه إلى أبواب أكثر (1) ، ولكن لا يرتبط بالعبادات منها سوى البعض فقط ، أمّا الباقي فيهتمّ بمعالجة سائر شؤون الحياة الأخرى.

إنّ ما جاء به الإسلام من الخيرات كثير وكثير جدّاً وما قدّمته الرسالة النبوية الشريفة من البركات لا يمكن حصرها وتحديدها بوجه من الوجوه .

فالنبي صلی الله علیه و آله برسالته العظيمة جاء ليضع منهجاً شمولياً يستهدف وضع العلاقة الحميمة ما بين الإنسان وربه تعالى من جهة وما بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة أُخرى ، وما بينه وبين الحياة أيضاً إن صحّ التعبير !!

فالإسلام بقرآنه الكريم وسنّته العظيمة يؤكّد على الحرية وتكافؤ الفرص والناس عنده سواء كأسنان المشط من خط شروع واحد (2).

نعم قد تختلف الاستعدادات والقابليات بالإضافة إلى دور الإنسان نفسه في تقدّمه في الحياة لذلك يهتمّ الإسلام بوضع مناخ طبيعي لا يشعر فيه أحد بالغبن ، فعلى الناس أن يستثمروا الفرص ويستعمزوا الأرض ويسخّروا نعمها لأهدافهم وغاياتهم النبيلة .

قال تعالى :( الذين يتّبعون الرسول النبيّ الأمّي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(3).

فهدف الإسلام بقرآنه وسنّته هو أن يمنع المنكر ويحرّم الخبيث الذي يضرّ بالفرد والجماعة على حدِّ سواء ويقوم من ثمّ بتحرير الإنسان وفكّ رباط التخلّف والجهل والخرافة عنه ..

فالرسالة الإسلامية جماهيرية .. تدخل في صميم حياة الناس حتّى الصغيرة منها .. والنبي صلی الله علیه و آله وضع إرشادات مهمّة شملت كلّ أجزاء الحياة ما يرتبط

ص: 213


1- راجع موسوعة الفقه ،للإمام الشيرازي التي تقع في 150 مجلداً.
2- إشارة إلى قوله صلی الله علیه و آله : ( الناس سواء كأسنان المشط )تحف العقول: ص 368 .
3- سورة الأعراف : 157 .

بالبيت : داخله و خارجه، والعلاقة بين الزوج والزوجة، والابن والأب والأمّ والبنت ، والجار والصديق ، وهكذا لم يترك شريحة لم تأخذ نصيبها ..

فالإسلام جاء لخدمة الإنسان وخدمة المجتمع الإنساني وفضل مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد في الموارد اللازمة، وهذا بعض ما ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله في ذلك.

قال صلی الله علیه و آله: ( إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصوم)(1).

لماذا ؟

لعلّه لأنّ الأولى «الإصلاح» تعني المجتمع والثانية «الصلاة و ..» تعني الإنسان، وإذا صلح المجتمع صلح الإنسان أيضاً.

وفي التاريخ : أنّه رأى أصحاب النبي صلی الله علیه و آله رجلاً قوياً شديد البنية، صلب العضلات ، فتمنّوا أن يصرف ذلك الرجل قوّته في سبيل الله تعالى ، ظانّين بأنّ سبيل الله يختلف عن سبيل الناس ويناقضه ، فماذا أجابهم النبي صلی الله علیه و آله؟

قال : (إن كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على صبية صغار فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على زوجة يمنعها عن حرام فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج على نفسه يمنعها السؤال فهو في سبيل الله ) .

فالإنسان بإمكانه أن يجعل كلّ خطوة من خطواته عبادة وينال منها الأجر والثواب إذا حقّق في نفسه التسامي والكمال الذي تريده العبادة منه . والنبي صلی الله علیه و آله بسنّته يريد أن يوضح للأُمة أنّ العمل جهاد أيضاً ولا تنافي بينه وبين جهاد السيف .

قال صلی الله علیه و آله : ( الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله ) (2) .

وورد أيضاً: (ملعون من ألقى كلّه على الناس ) (3) .

إذاً رسالة النبيّ صلی الله علیه و آله هي دين ودنيا، فالدين يأمرنا بأكل( الطيّبات من الرزق ) (4) ،ولكن ليس إلى حدّ الإفراط في الشبع والتخمة .. والجار جائع .. لذا تأمرنا السنّة

ص: 214


1- بحار الأنوار: ج 73 ص 43 باب 101 الإصلاح بين الناس ح 2 .
2- غوالي اللئالي : ج 1 ص 268 ح73.
3- تحف العقول: مواعظ النبي وحكمه ص 32 .
4- سورة الأعراف : 32.

الشريفة بأن لا يأكل الإنسان وحده بقولها : (شرّ الناس من أكل وحده) (1) .

وقال علیه السلام : (طعام الواحد يكفي الاثنین (2) .

وقال تعالى :( كلوا واشربوا ولا تسرفوا ) (3)

والسنّة المطهّرة تحثّ على الجانب الاجتماعي أيضاً بقولها : (الإنسان أخو الإنسان أحبّ أم كره ) (4) .

ويقول صلی الله علیه و آله : (خالطوا الناس مخالطة إن متّم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم) (5) .

وعن الباقر علیه السلام : ( أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لنفسك) (6) .

وقد وردت أعداد ضخمة من الروايات في باب الآداب والسنن جمعها بعض علمائنا في كتب خاصّة، منها كتاب مكارم الأخلاق، وتحف العقول، ومرآة الكمال، وأخيراً جمعها الإمام الشيرازي في كتابه( الآداب والسنن) حيث بوّب العديد من الروايات وكتب لها شروحاً مهمة توضّح بعض أبعادها.

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف النبي صلی الله علیه و آله : ( كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم ذمّة ، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة ، ومن رآه بديهة هابه ، ومن خالطه فعرفه أحبّه ، لم أرَ مثله قبله ولا بعده) (7) .

وروي أنّ يهودياً من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيّام خلافته فقال : أخبرني عن أخلاق رسولكم ، فقال عمر : اطلبه من بلال فهو أعلم به منّي، ثمّ إنّ بلالاً دلّه على

ص: 215


1- غوالي اللئالي : ج 1 ص 287 ح 139.
2- دعائم الإسلام : ج 2 ص 110 ح 359، والكافي : ج 6 ص 273 كتاب الأطعمة، اجتماع الأيدي على الطعام.
3- سورة الأعراف : 31.
4- بحار الأنوار: ج 71 ص 222 کتاب العشرة حقوق الإخوان ح5 ، ط بيروت.
5- غرر الحكم و درر الكلم : ص 437 ح 10028 .
6- الأمالي للصدوق : ص 323 المجلس 52 ح13.
7- بحار الأنوار: ج 16 ص 231 باب 9 مكارم أخلاقه ح 35.

فاطمة علیه سلام فدلّته على علیه السلام فلمّا سأل عليّاً قال : ( ِصف لي متاع الدُّنيا حتى أصف لك أخلاقه ؟ فقال الرجل : هذا لا يتيسّر لي ، فقال علي علیه السلام: عجزت عن وصف متاع الدُّنيا قد شهد الله على قلّته حيث قال :( قل متاع الدُّنيا قليل) (1) فكيف أصف أخلاق النبي صلی الله علیه و آله وقد شهد الله تعالى بأنّه عظيم حيث قال : (وإنّك لعلى خلقٍ عظيم ﴾ (2) )(3).

لقد ترك النبيّ صلی الله علیه و آله كمّاً هائلاً وثراءً سخيّاً من المكارم والخصال الحميدة ما يعجز عنه الوصف ويكلّ اللسان عن بيانه .

وقد وصف الإمام الحسن علیه السلام بعض أخلاقيات الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وقال: (كان رسول الله صلی الله علیه و آله دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظَ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش ، ولا عيّاب ومدّاح ، يتغافل عمّا لا يشتهي ، فلا يؤيس منه ، ولا يخيب فيه مؤمّليه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء والإكثار وممّا لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذ مّ أحداً ولا يعيّره ولا يطلب عورته، ولا يتكلّم إلّا فيما يرجو ثوابه إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنّما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلّموا، ولا يتنازعون عنده الحديث ، من تكلّم أنصتوا له حتّى يفرغ حديثهم عنده حديث أوليهم، يضحك ممّا يضحكون منه ، ويتعجّب ممّا يتعجّبون منه ، ويصير للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتّى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرفدوه ، ولا يقبل الثناء إلّا عن مكافئ، ولا قطع على أحد حديثه حتّى يجوز فيقطعه بانتهاء وقيام) (4) .

وكان رسول الله صلی الله علیه و آله يجلس على الأرض ، وينام عليها ويأكل عليها، وكان يخصف النعل ، ويرقع الثوب ويفتح الباب، ويحلب الشاة ويعقل البعير فيحلبها، ويطحن مع الخادم إذا أعيا ، ويضع طهوره بالليل بيده ولا يتقدّمه مطرق، ولا يجلس متّكئاً... وإذا جلس على الطعام جلس محقّراً ، وكان يلطع أصابعه، ولم يتجشأ قط

ص: 216


1- سورة النساء: 77 .
2- سورة القلم : 4 .
3- راجع السبيل إلى إنهاض المسلمين : ص 312 .
4- مكارم الأخلاق : ص 14 في وصف النبي صلی الله علیه و آله.

ويجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على ذراع أو كراع ويقبل الهدية ولو أنّها جرعة لبن ويأكلها ولا يأكل الصدقة) (1) .

( وكان الله يسلّم على الصبيان إذا مرّ بهم وقد مرّ بنسوة فسلّم عليهنّ) (2) .

أي كان كثير السلام على الناس .

قال أنس بن مالك : صحبت رسول الله صلی الله علیه و آله عشر سنين وشممت العطر كلّه، فلم أشمّ نكهة أطيب من نكهة رسول الله صلی الله علیه و آله (3) .

وقال الإمام الباقر علیه السلام : (كان صلی الله علیه و آله شديد الاهتمام بمنظره، ولا يعرض عليه طيب

إلّا تطيّب منه ) (4) .

وكان يقول صلی الله علیه و آله : (إنّ الله يحبُ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمّل) (5) .والإنسان مطالب باتّباع سنّة رسول الله صلی الله علیه و آله لأنّ حجّيتها على الناس كحجّية القرآن .. وهي التي تفسّر القرآن وتوضحه وتيسّره لنا ..

والحديث عن سنّة النبيّ صلی الله علیه و آله وسيرته ليس بالسهل اليسير الذي قد تتعرّض له الأقلام وتجيد به القرائح فهو بحر مترامي الأطراف لا يمكن خوضه .. كيف ونحن نتكلّم عن سيرة النبيّ صلی الله علیه و آله وهو ربيب الله كما وصف نفسه، ولكن يتمكّن الإنسان أن يقتدي به علیه السلام ويستنّ بسنّته بقدر ما يمكنه لذا ينبغي أن نطلب من الله تعالى أن يوفّقنا لأن نكون مستنين بسنّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله فيها سعادة الدُّنيا والآخرة .

إذاً الاستنان بسنّة النبي صلی الله علیه و آله و الاقتداء به والثبات عليه أمر ليس بالسهل ما لم يشمل الإنسان التسديد الإلهي ويوفّق بالاعتصام الربّاني ، لأنّ الإنسان يواجه في سيره وسلوكه شدائد كثيرة قد تحول دون العمل الصالح، وتلك تغري الإنسان وتخدعه

ص: 217


1- بحار الأنوار: ج 16 ص 227 مكارم أخلاقه ح 34 ، ط طهران .
2- بحار الأنوار: ج 16 ص 229 مكارم أخلاقه ح 35.
3- الطبقات : ج 1 ص 378.
4- مكارم الأخلاق : ص 35 في طيبه وفي نظره في المرآة.
5- مكارم الأخلاق : ص 35 .

بأساليب مختلفة من أجل جرّه إليها.

فإنّ هذه الإغراءات تنتصر عادةً على الإنسان ما لم يعتصم بالله ويلتجئ إليه .. ولأنّ الله سبحانه هو الذي عصم أنبياءه وسدّد خطاهم لذا ينبغي أن يسأله المؤمن بهذه الصفة الكمالية لكي يوفّقه للاستنان بسنن سيّد المرسلين، فجاءت آخر فقرة في هذا الدعاء لتطرق هذا الباب حيث يقول : (يا عاصم قلوب النبييّن ).

عصمة الأنبياء علیه السلام

ولكن نتعرّف على مفهوم هذا الدعاء وعلى عصمة الأنبياء علیه السلام وأهميّتها في تبليغ الرسالة ، علينا أن نتعمّق في بعض ما ورد فيه من المفردات ، فما معنى عاصم في اللغة؟

عصم الشيء : منعه ، ومن ذلك العصمة أن يعصم الله تعالی أن عبده من سوء يقع فيه ، عصم الله فلاناً من المكروه : حفظه ووقاه، عصم إلى فلان : اعتصم به والتجأ إليه(1).

والعصم : الإمساك ، والاعتصام : الاستمساك .. قال تعالى : (لا عاصم اليوم من أمر الله ) (2) ، أي لا شيء يعصم منه .

وقال تعالى : (ما لهم من الله من عاصم )(3).

وقال سبحانه: ﴿ما لكم من الله من عاصم)(4).

والاعتصام : التمسّك (5) ، قال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ) (6) .

وقد تكون العصمة بمعنى الملازمة ، فعصمة الشخص أي ملازمته وتسديده على رأي صحيح .

ص: 218


1- معجم مقاييس اللغة ج 4 ص 331.
2- سورة هود : 43 .
3- سورة يونس : 27 .
4- سورة غافر : 33 .
5- مفردات الراغب : باب العين مادّة (عصم) .
6- سورة آل عمران: 103 .

هذا مفهوم العصمة في اللغة، وأمّا المعنى الاصطلاحي فسنذكره في محلّه .

فعلى طول الخط الرسالي النبوي .. منذ آدم علیه السلام إلى خاتم النبيّين محمّد صلی الله علیه و آله كان

الله تعالى مسدّداً لأنبيائه علیه السلام فكانوا بأجمعهم معصومين عن الخطأ والذنب ..

والقرآن الكريم مشحون بالآيات الكريمة التي تسلّط الضوء على السيرة الرسالية للأنبياء علیه السلاه وكيف أنّ الله تعالى بلطفه وتوفيقه يعصمهم ولم يتركهم أبداً حيث كانوا يتعرّضون إلى أشدّ الأذى وأشدّ التحدّي من قبل مناوئيهم من المشركين والمعاندين وأصحاب الأهواء والسائرين على نهج الشيطان .. فكلّما كانت الهجمة شرسة كلّما كان التوفيق والسداد لتثبيت الأنبياء علیه السلاه أقوى وأكثر فاعلية لأنّها إرادة الله تعالى ومشيئته،

ولا يعني هذا إجبارهم على المقاومة وإنّما نوع من التسديد مضافاً إلى نفسياتهم الرفيعة القوية.

قال تعالى: (لأغلبن أنا ورسلي )(1).

فالغلبة الله تعالى وللأنبياء علیه السلام ، لا للأعداء !

وذلك كان ناتجاً عن عدّة أُمور منها : التوكّل الذي كان الأنبياء علیه السلام يعتمدون عليه .. قال تعالى وهو يعرّف حالة الأنبياء علیه السلام وكيف كانوا يعانون من أهل زمانهم :

(قالت لهم رسلهم إن نحن إلّا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلّا بإذن الله وعلى الله فليتوكّل المؤمنون)(2).

فكان من أهمّ طرق التسديد الإلهي لأنبيائه علیه السلام إثبات نبوّ تهم بالبيّنات وإجراء المعاجز على أيديهم وحمايتهم من طواغيت زمانهم ومن المؤامرات التي كانت تُحاك ضدّهم وهكذا.

فالنبي نوح علیه السلام عندما لاقى ما لاقى من قومه سخّر الله له سفينة النجاة .. بعد أن عمَّ الطوفان في الأرض ... قال تعالى : (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربي لغفور رحيم *وهي تجري بهم في موج كالجبال )(3).

ص: 219


1- سورة المجادلة : 21.
2- سورة إبراهيم : 11.
3- سورة هود: 41 و 42 .

ثمّ قال عزّ وجلّ:( قيل يا نوح اهبط بسلام منّا وبركات عليك وعلى أُمم ممّن معک) (1).

والصورة الثانية لإبراهيم علیه السلام : حيث سدّده الله تعالى من كيد نمرود وأنجاه من النار وقال: (يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)(2).

وقد ورد في الأخبار : (إنّه لمّا أُلقي إبراهيم الا في النار ، تلقّاه جبرائيل في الهواء فقال : هل لك من حاجة ؟ فقال : أمّا إليك ،فلا ، وقال : يا الله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد نجّني من النار برحمتك ، فأوحى الله تعالى إلى النار : کونی برداً وسلاماً على إبراهيم (3).

أي أنّه يعلم بما أُريد وإنّي تحت رعايته وتوفيقه فلا أخشى شيء ، فعصمه الله سبحانه من أذى النار حتّى كانت عليه برداً وسلاماً .

والنبي يوسف علیه السلام سدّده الله تعالى وحفظه في أصعب الظروف والمحن ، قال سبحانه حكاية عن إخوة يوسف :( لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجبّ يلتقطه بعض السيّارة ) (4) ، وذلك عندما أرادوا قتله فمنعهم الله تعالى وعصم يوسف علیه السلام فتحوّل قرارهم بأن يلقوه في البئر .. ثمّ أنقذه الله تعالى من البئر بطريقة قلّ ما يحصل مثلها ، قال تعالى: ﴿وجاءت سيّارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام ) (5) .

ثمّ لم ينته الأمر بذلك فالتسديد لا زال مستمرّاً، قال تعالى: ﴿وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض ) (6) .

ولم تنقطع العصمة الإلهية بعد ذلك فعصمه عزّ وجلّ من فتنة النساء وهي من

ص: 220


1- سورة هود: 48 .
2- سورة الأنبياء : 69 .
3- راجع بحار الأنوار: ج 12 ص 39 ح 24 باب قصص ولادة إبراهيم إلى كسره الأصنام ، ط طهران .
4- سورة يوسف : 10 .
5- سورة يوسف : 19.
6- سورة يوسف : 21 .

مسم

أصعب الفتن قال تعالى : ﴿ولقد همّت به وهم َّبها لولا أن رأى برهان ربّه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين ) (1) .

وكذلك النبي أيّوب علیه السلام حيث قال تعالى عنه علیه السلام : (وأيّوب إذ نادى ربّه أني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين ) (2) .

وقال تعالى :( فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمةً من عندنا )(3).

وهكذا بالنسبة إلى النبي يوس علیه السلام، قال تعالى : (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين* فاستجبنا له ونجيّناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين) (4) .

وهكذا النبي موسى علیه السلام وقصصه المختلفة وكيف انفلق له البحر ونجا من فرعون وجنوده ، قال تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كلّ فرق كالطود العظيم )(5).

نعم لقد غلب موسى علیه السلام ومن معه في أكثر من موقع وأكثر من مواجهة من خلال التسديد الإلهي والتوفيق والملازمة الإلهية له ، قال تعالى : (اذهبا إلى فرعون إنّه طغى * فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى * قالا ربنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى * قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى )(6).

أمّا مع السحرة فكان له موقف آخر ، قال تعالى :( قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيّهم يخيل إليه من سحرهم إنّها تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنّك أنت الأعلى ) (7).

ص: 221


1- سورة يوسف : 24 .
2- سورة الأنبياء : 83.
3- سورة الأنبياء : 84.
4- سورة الأنبياء : 87 و 88.
5- سورة الشعراء : 63 .
6- سورة طه : 43 - 46 .
7- سورة طه : 66 - 68 .

أمّا النبي الأكرم صلی الله علیه و آله فكان أعظم من سائر الأنبياء، فشمله التوفيق والسداد والعصمة والملازمة الإلهية بشكل أكثر كمّاً وكيفاً التي ما انفكّت عنه أبداً .. قال تعالى : (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل عليك من ربِّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (1) .

فالله تعالى عصم أنبياءه علیه السلام جميعاً .. بالتوفيق والسداد، ليهدوا عباده وينصروا دينه .

وقال عنهم لا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاعه: (فاستودعهم في أفضل مستودع وأقرّهم في خير مستقرّ، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلّما مضى منهم سلف قام منهم بدين الله خلف، حتّى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمّد صلی الله علیه و آله فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً وأعزّ الأرومات مغرساً من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتخب منها أُمناءه، عترته خير العتر وأُسرته خير الأُسر وشجرته

خيرالشجر ) (2) .

فإذا كان أنبياء الله علیه السلام وقد عصمهم الله سبحانه من الذنوب هم بأمسّ الحاجة إلى ملازمة تسديده وتأييده عزّ وجلّ حتّى يوفّقوا لهداية خلقه وتبلیغ رسالاته ، فكيف بنا نحن البشر العاديّين فما أحوجنا في كلّ خطوة من خطواتنا إلى التمسّك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم؟ ونلتجئ إليه سبحانه ليسدّدنا ويوفّقنا لما هو خير في الدُّنيا والآخرة والذي جمعته فقرات هذا الدعاء الشريف المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله في

اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان المبارك :

1: ولاية أولياء الله ومعاداة أعدائه .

2: الاستنان بسنّة خاتم أنبيائه علیه السلام .

3: الاعتصام بعصمة الله تبارك وتعالى.

ص: 222


1- سورة المائدة : 67.
2- نهج البلاغة ، الخطبة : 94 .

ترك الأولى

من ذنوب إبليس إصراره على مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى، وربما لو لم يصرّ على معصيته وخطيئته،واستغفر الله وتاب إليه في حينه لتاب الله عليه، ولكنه طغى وعاند واستكبر وأصرّ على ذنبه ، فأخرجه الله من رحمته ووعده بالعذاب الشديد، لكن إبليس لم يكتف بذلك بل أراد أن يوح الآخرين في شراكه، ولهذا بدأ بآدم علیه السلام فأخذ يوسوس له ولزوجته حوّاء، قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) (1) .

وهنا نرى الفرق بين آدم علیه السلام وبين إبليس، فإن آدم وحوّاء تابا إلى الله بعد أن استطاع الشيطان أن يغويهما، حيث إنهما أنابا إلى الله تعالى فوراً بعد أن عرفا بذنبهما، قال سبحانه: (وَعصى آدَمُ رَبَّهُ ،فَغَوى، ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى ) (2)

وهنا قد يتبادر إلى ذهن البعض هذا السؤال وهو: هل ارتكب آدم علیه السلام معصية؟ ألم يكن أنبياء الله معصومين؟

وما معنى عصيان آدم علیه السلام في قول الله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى )؟ (3)

وللإجابة على ذلك نقول: مع أن العصيان يأتي في عرفنا - عادة - بمعنى الذنب والمعصية، إلا أنه في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر، وهو أعم من أن يكون هذا الأمر أمراً واجباً أو مستحباً، ففي لسان العرب:

(العصيان خلاف الطاعة، وعصى العبد ربه إذا خالف أمره، وعصى فلان أميره

يعصيه عصياً ومعصية إذا لم يطعه... وفي الحديث «لولا أن نعصي الله ما عصانا» أي لم يمتنع عن إجابتنا إذا دعوناه) انتهى ما في لسان العرب (4) .

وبناءً على هذا، فان استعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب أو

ص: 223


1- سورة الأعراف: 20.
2- سورة طه: 121 - 122 .
3- سورة طه 121 .
4- لسان العرب: مادة (عصى).

ارتکاب محرم، بل يمكن أن يكون ترك أمر مستحب أو ارتكاب مكروه.

ونحن نعلم -كما ورد في الأدلة النقلية والعقلية - أنه لا يمكن لأحد من الأنبياء علیه السلام أن يرتكب إثماً او معصية، وأن النبوة لا تعطى لمن يتركب ذنباً ويقترف معصية، كما نعلم أن آدم علیه السلام كان من الأنبياء الإلهيين المعصومين من الذنوب، ولهذا كل ما ورد في هذه الآيات وغيرها التي قد يفهم من ظاهر بعضها نسبة العصيان إلى أنبياء الله علیه السلام لا بد أن نرجع في معرفة معانيها إلى حملة القرآن ،وهم أهل البيت علیه السلام ، فانه يستفاد من مدرسة أهل البيت علیه السلام أن المراد :هو ترك الأولى، فنحمل العصيان على المعنى اللغوي المطلق، لا المعنى المصطلح عندنا والذي يعني الذنب الشرعي.

إضافة إلى أن المعصية هنا قد تكون نسبية، وتوضيح ذلك:

أن المعصية على نوعين: (المعصية المطلقة) و (المعصية النسبية )والأولى هي مخالفة النهي التحريمي وتجاهل الأمر الإلهي القطعي، وهي تشمل كل نوع من أنواع ترك الواجب وإتيان الحرام، وهذا ما يعبَّر عنه بالإلزاميات والاقتضائيات، كما ذكره علماء الأصول، ولكن (المعصية النسبية) أن يصدر من شخصية كبيرة عمل غير حرام شرعاً لكنه لا يناسب شأنه ولا يليق بمقامه، وربما يكون إتيان عمل مباح - بل ومستحب - لا يليق بشأن الشخصيات الكبيرة ، ففي هذه الصورة يعد إتيان ذلك العمل (معصية نسبية) عرفاً من باب صدور ما لا يليق بشأنه، كما لو ساعد رجل ثري جداً فقيراً لإنقادة من مخالب الفقر بمبلغ صغير جداً، فإنه ليس من شك في أن هذه المعونة المالية مهما كانت صغيرة وحقيرة لا تكون فعلاً حراماً، بل هو أمر مستحب في نفسه، ولكن من يسمع بها يذمّ ذلك الغني حتى كأنه ارتكب معصية واقترف ذنباً، وذلك لأنه يتوقع من مثل هذا الغني المؤمن أن يقوم بمساعدةٍ أكبر لقضاء حاجة الفقير، لا أن يعطيه ما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولهذا قد تعتبر صلاة يصليها الإنسان العادي صلاة ممتازة، ولكنها تعدّ معصية إذا صدر مثلها من أولياء الله، لأن لحظة من الغفلة - مثلاً - في حال العبادة لا تناسب مقامهم ولا تليق بشأنهم..

وهكذا الحال في سائر أعمالهم، فإنها على غرار عباداتهم وتقاس بمنازلهم

ص: 224

وشؤونهم، ولهذا إذا صدر منهم (ترك أولى) سمي ذلك بالمعصية وإن لم يكن حراماً، فالمراد من ترك الأولى إذن هو أن يترك الإنسان فعل ما هو أفضل، كترك عمل مستحب، أو ما أشبه.

ولذا فإن نهي آدم علیه السلام عن الشجرة لم يكن نهياً تحريمياً، بل كان من باب ترك الأولى، ولكن نظراً إلى مكانة آدم علیه السلام و مقامه عُدّ صدوره أمراً مهماً وخطيراً واستوجب مخالفة هذا النهى - وإن كان نهياً كراهياً وتنزيهياً - تلك العقوبة والمؤاخذة من جانب الله تعالى. (1)

و هذا ما يعبَّر عنه ب- (حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين)، ونحن نعبّر عنه بالذنب النسبي الذي لا يعدّ ذنباً، ولا يخالف مقام العصمة.

وقد جاء في بعض الأحاديث إطلاق المعصية على مخالفة المستحبات أيضاً، ففي حديث عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال في النوافل اليومية: (... وإنما هذا كله تطوّع وليس بمفروض.. ولكنها معصية، لأنه يستحب إذا عمل الرجل عملاً من الخير أن يدوم عليه). (2)

هذا وهناك احتمالات أخرى في تفسير آية:( وعصى آدم ربه) (3) كاحتمال أن لا يكون الأمر مولوياً بل هو أمر إرشادي أو ما اشبه ذلك، ولكن المجال لا يسع لتفصيل ذلك.

ص: 225


1- وللمزيد راجع تفاسير علماء الشيعة للقرآن الكريم.
2- نور الثقلين: ج 3، ص 404 ، ح 165. في تفسير سورة طه عند قوله «وعصى آدم ربه».
3- سورة طه: 121.

ص: 226

آثار السعى المشكور

26

دعاء اليوم السادس والعشرين

اشارة

اللّهُمَّ اجْعَلْ سَعْيِي فِيهِ مَشْكوراً وَذَنْبي فِيهِ مَغْفُوراً، وَعَمَلى فِيهِ مَقْبُولاً، يبي فِيهِ مَسْتُوراً، یا أَسْمَعَ السَّامِعِينَ.

البلد الأمين : ص 301، عن النبي صلی الله علیه و آله: ( من دعا به نُودي يوم القيامة لا تخف ولا تحزن فقد غفر لك).

ص: 227

ص: 228

معنى السعى

لقد افتتح الداعي دعاءه في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان المبارك وهو يطلب من الله عزّوجلّ أن يجعل سعيه مشكوراً في هذا الشهر العظيم، وذلك بقوله : (اللهم اجعل سعيي فيه مشكوراً...).

فما هو السعي؟

وكيف يكون مشكوراً؟

الجواب :

السعي لغة : (من سعى ويسعى سعياً: أي قصد ، وعمل .. ومشى وعدا وأسعى إسعاء ، جعله يسعى : أي يكسب

واستسعى : تكليف في طلب العمل ...

والساعي : الوالي على أمر قوم، ويقال عادةً على الحياة ولاة الصدقة إلا من أنّ الواضح منها : هو الكسب (1) .

ولاستجلاء المعنى الوافي لمعنى السعي .. دعنا نقرأ القرآن الكريم كي يتضح لنا مفهوم السعي بشكل أفضل ، حيث إن السعي ذكر في أكثر من موضع في القرآن العظيم وقد خاطب الله تعالى الساعين وتكلّم عنهم حيث استعملت كلمة (السعي) بمشتقاتها ( 30) مرّة .

قال تعالى: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً) (2) .

ص: 229


1- أقرب الموارد : ج 1 ص 528 باب سعي .
2- سورة الإسراء : 19.

وقال سبحانه: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون) (1).

وقال عز وجل : (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ) (2) .

وقال تعالى: ( والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) (3) .

وقال سبحانه: (يوم يتذكّر الإنسان ما سعى ) (4) .

وقال عز وجل : (إنّ سعيكم لشتّى) (5) .

وقال تعالى : (إنّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) (6) .

إذن المراد من السعى هو طلب العمل والكسب والقصد إليه .

فمن خلال سياق الآيات العامة يبدو أنّ الإنسان الساعي يكون على فئتين :

الأولى : من يسعى لأجل الدُّنيا .

والثانية : من يسعى لأجل الآخرة .

الفئة الأولى تسعى من أجل الوصول إلى غايات دنيوية زائلة، بقرينة الآية ، قال تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) (7) .

يعني أن من يسعى وراء الدُّنيا ويجعلها كلّ همه وشغله الشاغل يحصل على ما يريد عادةً حسب قاعدة الأسباب والمسبّبات ولكن هذا الحصول لا يكون دائماً بل يبدو أنّه مقيّد ببعض الأمور والشرائط ، فكثيراً ما يحصل الساعي للدُّنيا على جزء ممّا يريد فقط ، وهذا الجزء هو المقدار الذي يريده الله تعالى له أي ما نشاء

ص: 230


1- سورة الأنبياء : 94 .
2- سورة الحديد: 12
3- سورة سبأ: 38 .
4- سورة النازعات: 35.
5- سورة الليل : 4 .
6- سورة الإنسان : 22.
7- سورة الإسراء : 18 .

والمسألة الأخرى التي تقيّد رغبة الساعي نحو الدُّنيا : هي أن كل من سعى لا يحصل على كلّ ما يريد دائماً .. وإنما سيحصل على قسم منها، ولعله إلى هذا المعنى أشار قوله تعالى في الآية المباركة: (لمن نريد) .

وبناءً على ذلك يتضح أنه ليس كل طلاب الدُّنيا يحصلون عليها ولا أولئك الذين يحصلون على شيء منها يهنئون بها، ومسير الحياة اليومية يثبت هذا، وما أكثر الذين يسعون ويكدّون ليلاً ونهاراً ولكنهم لا يحصلون على شيء، وما أكثر ما يطمعه الإنسان إلا أنه لا يتوصل إلى شيء أو لا يتحقق له إلا النزر اليسير من رغبته وأُمنيته ... وهذا يشكل تحذيراً لعبّاد الدُّنيا والساعين إليها ، وطلابها الذين يتخذون الدنيا هدفاً فيضحون بالأثمن من أجل الأهداف الزائلة الدنيوية، ويستفاد من القرآن أنّه يخاطبهم ويوصيهم بأن لا يجهدوا أنفسهم ويجعلوا همهم الدُّنيا فإنّهم كثيراً ما لا يحصلون في آخر المطاف على شيء يذكر .. فرغبات الإنسان رغبات عديدة ولا يمكن إشباعها بشكل من الأشكال ما لم يلجم تلك الرغبات والأماني بالقناعة!!.

فهذه التوصيات ربما تكون وسيلة لإنقاذه من غوائل السعي وراء الدُّنيا وحطامها الزائل فإنّ السعي في ذلك سيكون سبباً لفساده وسبباً لطغيانه وبالتالي سبباً لخسارته الآخرة .. قال تعالى : (إنّ الإنسان ليطغى * إن رآه استغنى ) (1) .

فما أروع هذا الخطاب القرآني وهو يشير إلى غفلة الإنسان إذا خاض في مغريات الدنيا فيوقظه الله تعالى من نومته حتّى لا يذهب بعيداً عن الشاطئ فيغرق.

شروط النجاح

أما المجموعة الثانية من البشر فهم الساعون نحو الخير : وهم المجموعة التي تسعى من أجل الآخرة كما قالت الآية الكريمة : (من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ) (2) .

وإذا كان السعي من وراء الدنيا وطلبها مقيد بشروط فإنّ السعي للآخرة هو أيضاً

ص: 231


1- سورة العلق : 6 و 7 .
2- سورة الإسراء : 19.

مقيد بشروط من باب أولى، وهؤلاء هم الفائزون، لأنّ سعي الآخرة ينتهي إلى السعادة الأبدية والملك الخالد!!

فما هي هذه الشروط ؟

يمكننا أن نتوصل إلى بعض هذه الشروط من خلال كلمات الآية الشريفة : فالشرط الأول : إرادة الإنسان، وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم المؤقتة والأهداف المادية ، فالإرادة القوية والروحية العالية، تجعلان من الإنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدُّنيا، وتخلقان منه إنساناً ساعياً نحو دار الآخرة.

الشرط الثاني : قوة الإرادة، وهذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرّات الوجود الإنساني وتدفعه للحركة، حتّى يبذل الإنسان كلّ ما يستطيع من السعي في هذا المجال.

وجاءت كلمة (سعيها ) في هذه الآية الكريمة للتأكيد وهي تعني أن على الإنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع من السعي في سبيل الآخرة.

الشرط الثالث: الإيمان الكامل ، فإنّ كلّ ما سبق من الحديث عن الإرادة ينبغي أن يقترن وأن يكون توأماً للإيمان ، الإيمان الثابت القوي .. لأنّ أي تصميم وجهد ، إذا أُريد له أن يثمر يجب أن يكون في طريقه إلى أهدافه الصحيحة ، وفي قمة هذه الأهداف هو الإيمان بالله عز وجل.

إذا السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون الإيمان حيث إن مفهوم الإيمان داخل ضمنه على نحو الدلالة التضمّنية وربما كان على نحو الدلالة الالتزامية ، بل الإيمان يعتبر أمراً أساسياً وركناً مهماً في هذا الطريق، ولذا ركزت الآية على ذكر الإيمان مقروناً بالسعي فقالت : (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) وبعد ذلك يأتي دور ما يترتب على هذا السعي المقترن بالإيمان فتشير الآية إلى النتيجة و تخاطب طلاب الآخرة وتقول (فأولئك كان سعيهم مشكوراً).

إن استخدام هذا التعبير البلاغي أشمل وأجمل من استخدام تعبيرات طويلة الدلالة على شروط النجاح الأخروي ولوازمه.

ص: 232

وهنا سؤال قد يخطر بالبال وهو أنّه : ما معنى شكر الله تعالى الذي تحدثت عنه الآية الشريفة : (فأولئك كان سعيهم مشكوراً) ؟

قد فسر بعض المفسرين كلمة مشكوراً بمعنى الأجر المضاعف (1) .

وبعضهم بمعنى قبول العمل (2) .

إلا أنه من الواضح أن كلمة (مشكوراً) لا يمكن حصرها في معنى واحد أو مصداق واحد جزئي ، بل لها معنى كلّي واسع ينطبق على مصاديق عديدة.

وهنا ينبغي التذكير بأصل مهم في المقام : وهو التناسب بين السعي والأجر ، ففي هذه الدنيا نجد بوضوح أنه يتفاوت السعي وتتفاوت الأجور حسب السعي .. وكذلك يكون الأمر في الآخرة .. فكلّ يحصل بقدر ما سعى ، قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلّا ما سعی) (3) .

ولكن ربما يقول قائل : إننا نرى أناساً يحصلون على أرباح كثيرة بدون سعي وبدون جهد فكيف يُقرّر أصل التناسب بين السعي والأجر؟

وفي الجواب نقول : إن السعي لا يعني الجهد المادّي فقط بل يشمل الفكري والمعنوي وما أشبه أيضاً، بالإضافة إلى أن ترتب الآثار على السعي أعم من السعي المشروع.

ويستفاد من الروايات أنّ الدُّنيا طريق الآخرة، وبالسعي فيها يمكن للإنسان أن يجعله سبباً لكسب الآخرة ونيل نعيمها، قال أمير المؤمنين : (الدنيا مزرعة الآخرة) (4) .

كما أشار الإمام إلى بعض جوانب هذه المزرعة فقال : (مسجد أحباء الله ومصلّى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله) (5).

ص: 233


1- القرطبي : ج 5 ص 206 ح 10 .
2- الصافي : ج 3 ص 183 تفسير الآية 19 من سورة الإسراء .
3- سورة النجم : 39 .
4- غوالي اللئالي : ج 1 ص 267 .
5- نهج البلاغة : ص 493 حكم أمير المؤمنين ، الحكمة 131 للأستاذ صبحي صالح.

وبهذا تعتبر الدنيا ممدوحة والساعي لها في هذا الإطار مشكوراً..

أمّا الدُّنيا المذمومة والسعي غير المحبّذ فيها فهي التي صارت هدفاً لطلابها فجعلوا يبيعون الدين بالدُّنيا كما قال تعالى : (أرضيتم بالحياة الدُّنيا من الآخرة ) (1) .

ولعلّ خلاصة ما أرادته الآية الكريمة هي : إنّه إذا تمت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تعتبر من النعم الإلهية ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود.. وكانت طريقاً في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فهذا هو السعي المشكور ، أما إذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية عندها سيصاب الإنسان بالغرور والطغيان والبغي والفساد، وعاقبة هذا الخسران في النار .

فما أجمل وصف الإمام أمير المؤمنين للدنيا حينما يقول : (من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته) (2).

والفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة هو نفس الفرق الدقيق الموجود بين كلمة (إليها) وكلمة (بها) في حديث مولانا أمير المؤمنين إذ تعني الأولى أنّ الدنيا هدف بينما تعني الثانية أنها مجرد وسيلة.

وهذه ليست الآية الوحيدة التي يؤكد بها القرآن على السعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب ، ويحذر العاطلين والكسالى بأنّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بمجرد الكلام والتظاهر بالإيمان، بل الطريق إليها يتمثل بالسعي .. وبذل الجهد فإنّ هذه الحقيقة جاءت مؤكدة في كثير من الآيات القرآنية كما في قوله تعالى : (كل نفس بما

كسبت رهينة ) (3) .

وقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى وأنّ سعيه سوف يرى ) (4) .

فكما أنّ الرغبات الدنيوية لا يمكن استحصالها إلا بالجهد والسعي المناسب

ص: 234


1- سورة التوبة : 38.
2- نهج البلاغة : الخطبة 82 في ذمّ صفة الدنيا.
3- سورة المدثر : 38
4- سورة النجم : 39 و 40 .

كذلك السعادة الأخروية الخالدة .

فشكر الله تعالى لعمل العبد: أي المكافأة التي يمنحها الله سبحانه للعبد مقابل عمله الخالص وجهده في سبيل الله كما ورد عن الإمام الباقر : أوحى الله عز وجل إلى رسوله له : (إني شكرت لجعفر بن أبي طالب أربع خصال : فدعاه النبي عله فأخبره فقال جعفر : لولا أنّ الله أخبرك ما أخبرت ما شربت خمراً قط لأني علمت أنّي لو شربتها لزال عقلي ، وما كذبت قط لأنّ الكذب ينقص المروءة، وما زنيت قط لأنّى خفت إذا عملت عمل بي ، وما عبدت صنماً قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع ، قال : فضرب النبي الله يده على عاتقه وقال له : حق الله عز وجل أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة) (1).

فهذه الخصال تجعل الله تعالى يشكر جعفر ، لأن ما يفعله العبد من عمل وسعي، وما يتحلى به من خصال وفضائل ممدوحة يثاب عليها ويشكره عزّ وجلّ أي يكافئه . قال سبحانه: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له کاتبون ) (2) .

فالسعي يوجب المكافأة الجميلة والجائزة الحسنة ، أي يوجب نزول النعمة ويوجب الشكر والمديح من قبل المولى عزّ وجلّ ، قال تعالى : (إنّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً) (3) .

من هنا نحصل على حقيقة هامة وهي الترابط الكامل بين العمل والجزاء، فسعي الإنسان أي كده وكسبه هو الذي يجلب المكافأة أو يسبب الجزاء والعقوبة ، أي السعي يؤثر في ما يكسبه ويحصله الإنسان سلباً أو إيجاباً.

يقول الإمام زين العابدين في دعائه: (واستوجبت بسوء سعيي لا سخطتك) (4) ، أى غضبك وجزاءك العدل، فالإنسان هو الذي يختار بسعيه الشقاء،

ص: 235


1- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 74 المجلس 17 ح12.
2- سورة الأنبياء : 94 .
3- سورة الإنسان : 22 .
4- الصحيفة السجادية : الدعاء 32.

كما يختار بسعيه السعادة، حسب قانون الأسباب والمسببات وقانون اختيار الإنسان.

وهنا إشارة دقيقة وجميلة من الإمام زين العابدين وهو يقول: (فسبحانك ما أبين كرمك في معاملة من أطاعك أو عصاك ، تشكر للمطيع ما أنت تولّيته له، وتملي للعاصي فيما تملك معاجلته فيه، أعطيت كلاً منهما ما لم يجب له وتفضّلت على كلّ منهما بما يقتصر عمله عنه) (1) .

فإنّ هذه العبارة غاية في الجمال (و تشكر للمطيع ما أنت توليته) ، أي أنّ الله تعالى هو الذي أقدر المطيع على الطاعة ، ووفقه للعبادة ، وهيئ له أسباب السعي برحمته ولطفه وإفاضاته العظيمة ، ثمّ بعد ذلك ( شكره ) أي كافأه لعظيم كرمه وجوده ولطفه .. وهذا يدل على أنّ التوفيق للسعي فضل ومِنّة ، كما أن جزاءه وثوابه هو الآخر

فضل ومنة .

ثم يكمل الإمام مناجاته بقوله : ( ولو كافأت المطيع على ما أنت توليته ، لأوشك أن يفقد ثوابك، وأن تزول عنه نعمتك ، ولكنك بكرمك جازيته على المدة القصيرة الفانية بالمدّة الطويلة الخالدة ، وعلى الغاية القريبة الزائلة بالغاية المديدة الباقية) (2) .

و حقيق على المؤمن وهو يرى الله سبحانه رحیم به لطیف بحاله أن يهتم لآخرته ويسعى لرضا ربه تاركاً غيره ...

حيث يرى أن السعي من أجل الآخرة فيها النعم الباقية الأبدية التي لا تزول ويتجنّب السعى لأجل الدُّنيا وزخرفتها وزينتها الزائلة .. بل عليه أن يجعل منها جسراً في سعيه وكده للآخرة، وعليه أن يعلم بأنه سوف يجني ثمار ما زرعته يداه ، إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر .. قال تعالى : (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربّك كدحاً

فملاقیه ) (3) .

ص: 236


1- الصحيفة السجادية : الدعاء 37 .
2- الصحيفة السجادية : الدعاء 37 .
3- سورة الانشقاق : 6.

غفران الذنوب

ثمّ يسأل المؤمن من الله سبحانه أن يجعل في هذا الشهر الكريم ذنبه مغفوراً بقوله: (وذنبي فيه مغفوراً).

والذنوب : هي المعاصي والانام والتقصير في أداء الواجبات المفروضة، والتجاوز على الآخرين، واقتراف الموبقات ونحوها.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من مفاهيم أو مصاديق الذنوب لأنّ الذنوب لا يمكن لنا حصرها في هذا المجال وقد كتب عدة من العلماء كتباً مفصلة في هذا الباب ..

وبشكل عام فالذنب : كلّ ما يجلب السخط ويباعد الرحمة ويمنع النعمة وينزل النقمة والبلاء ..

فترك الواجبات المفروضة : كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر العبادات أو التقصير في أدائها، تعتبر ذنباً.

وفعل المحرمات : كالزنا وشرب الخمر والقمار والسرقة والغناء وغيرها تعتبر مصداقاً للذنوب أيضاً.

والذنوب مختلفة الأسباب ومختلفة الآثار والتبعات، فهناك ذنوب تعتبر صغيرة يمكن تداركها طالما بقيت كذلك ، وأُخرى تعدّ من الكبائر التي يستحق العبد باقترافها العقاب الشديد ..

وأياً كانت الذنوب صغيرة أو كبيرة فهي ذنوب ما لم يسارع الإنسان لتداركها والاستغفار منها ومعالجة تبعاتها وقطع أسبابها .. وقد ذكرنا بعض الكلام عن الذنوب وما يوجب غفرانها سابقاً فلا داعي لتفصيلها هنا .. إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى حقيقة التوبة وذلك لأهميتها في حياة الإنسان .

إن الله تعالى فتح باباً أسماه باب التوبة، وهو باب الرحمة الإلهية ولم يغلقه بوجه أحد أيّاً كان فيما لو أراد أن يترك ما كان عليه ويُطهر نفسه من الآثام والذنوب والمعاصي.

ص: 237

فهذا الباب : باب الإنابة إلى الله عزّ وجلّ فهو بلسم الجراح وسفينة النجاة.. فأبى الله تعالى وهو الرحيم أن يترك الجناة والعصاة في دياجير الذنوب وظلمات العصيان يتخبطون ويعيثون فساداً، فشوّقهم إلى الإنابة والتوبة ، فقال سبحانه وتعالى : (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربّكم على نفسه الرحمة، أنّه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثمّ تاب من بعده وأصلح فإنّه غفور رحيم) (1) .

وألم يكن من أسمائه عزّ وجلّ : الرحيم الغفور، التوّاب ، الرؤوف الرحمن ، السلام ، العفو ، الغفّار ، الكريم ، اللطيف ، المنعم (2) .

فهو الرحمة بأوسع مصاديقها ومضامينها، فلماذا لا يستغل الإنسان هذا الباب الواسع ليلقي بكلّ ذنوبه جانباً ويتطهر منها طالما أن هناك متسع من الوقت لذلك ، قال تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم ) (3) .

والغفران إما بالعفو عن الذنب والصفح عنه ، أو بالستر عليه ، قال الإمام الصادق : (إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبّه الله تعالى فستر عليه في الدنيا والآخرة. قال الراوي : وكيف يستر عليه؟ قال : ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي عليه ماكان يعمل عليك من الذنوب، فليقى الله تعالى حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب) (4) .

فعلى الإنسان أن يتوب إلى الله ويتطهر من آثامه وذنوبه .. لأن للتوابين منزلة خاصة عند الله تعالى ويغبطهم فيها كثير من العباد .. ويحبّهم الله سبحانه عليها، وربما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى : إنّ الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين) (5).

قال الإمام الرضا : قال رسول الله : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (6) .

ص: 238


1- سورة الأنعام: 54.
2- راجع مفاتيح الجنان : دعاء الجوشن الكبير .
3- سورة الزمر : 53 .
4- الكافي : ج 2 ص 430 ح 1 كتاب الايمان والكفر باب التوبة .
5- سورة البقرة : 222 .
6- الكافي : ج 2 ص 435 ح 10 كتاب الايمان والكفر باب التوبة.

حقيقة التوبة

الذنوب والآثام نوعان :

منها ما يكون مخالفة الله تعالى خاصة ، كما أشرنا في بداية الحديث عن الذنوب، ترك الواجبات المفروضة أو التقصير فيها .. والتوبة فيها تكون بقضاء تلك الفروض ، وأداء ماكان متعلّقاً في الذمة ، وهذا أمر يخص الله تعالى والعبد مباشرة ، فالله تعالى جعل التوبة فيه منوطة به ..

ولكن هناك ذنوباً ومعاص، قد جناها العبد واقترفتها يداه بالتجاوز على الآخرين وظلم الناس وسرقتهم أو اغتيابهم أو قذفهم أو سبهم أو شتمهم أو التشهير بهم ، إلى غيرها من الذنوب والآثام المذكورة في باب حقوق الناس، فكيف التوبة منها؟

وفي هذا المقام التوبة لا يكفي فيها الندم ولا يكفي فيها مجرد إيلام الضمير أو الاستغفار أو ما أشبه ذلك، بل التوبة لا تتمّ إلّا بأخذ براءة الذمة من صاحب الحق .. وذلك عن طريق الاعتذار منه وتدارك ما أضره عليه وإرجاع حقه إليه إن كان مأخوذاً عنوة وغصباً، أو الاعتذار فيه إن أغتيب أو شتم أو قذف وهكذا ..

فطرق التوبة عديدة ومختلفة تختلف تبعاً لنوع الذنوب ولكن باب القبول مفتوح وباب الرحمة والعفو غير مغلق خصوصاً في هذا الشهر العظيم وقد غلقت فيه أبواب النار وفتحت فيه أبواب الجنّة، وغُلّت فيه الشياطين ، فلماذا لا نسارع إلى رحمة الله تعالى ولطفه ونستغفر من ذنوبنا ونتخلّى عن أثامنا ..

قال الإمام الصادق : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجله الله سبع ساعات فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء وإن مضت ساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة ، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له وإنّ الكافر لينساه من

ص: 239

ساعته) (1) .

فالصغائر تكبر مع الإصرار والكبائر تصغر مع الاستغفار .. كما قال به علماء الأخلاق.

روي عن الإمام الصادق أنه قال : ( ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم : «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام وأسأله أن يُصلّي على محمد وآل محمد وأن يتوب علي إلّا غفر الله له ولا ضير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين (كبيرة) (2) .

أدلّة وجوب التوبة

إن من البديهيات والمسلّمات الضرورية أنّه يلزم على الإنسان أن يتحرّز من موجبات الضرر والأخطار التي تسبب شقاءه وهلاكه ، ومن هنا يلزم الاجتناب عن المعاصي، وذلك لأنّ للذنوب آثاراً خطيرة وتبعات جسيمة فردية كانت أو اجتماعية ، أي على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة ..

فالذنوب والمعاصي إن كانت بالنسبة إلى حقوق الله والفروض والواجبات فهي تؤدّي إلى البعد من رحمة الله تعالى وبالتالي توجب سخط المنعم وغضبه ومن ثمّ الشقاء والبلاء.

وإن كانت حقوق الناس فهي تعني التجاوز على أفراد المجتمع ، وكلها مما لا يقبلها العقل السليم ويتوخاها ، وهذا الحكم العقلي يلزم الإنسان بضرورة اجتنابها ووجوب الاحتراز منها، وإذا ارتكبها فيلزمه أن يتداركها، فيبحث العقل عن باب للتحرّز من تلك الذنوب والتخلص منها ومن آثارها السيئة، والتوبة هي أفضل باب.. هذا هو الدليل العقلي على لزوم التوبة .

أما نقلاً:

ص: 240


1- الكافي : ج 2، ص 437 باب الاستغفار من الذنب ح3.
2- ثواب الأعمال : ص 169 ثواب المؤمن يقارف الذنوب ثم يندم .

فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة المطهرة فرضاً محتماً وشوقت إليها بألوان التشويق المختلفة .. وقد أشرنا قبل ذلك إلى بعض الآيات الكريمة وهنا نشير إلى بعض الروايات بهذا الخصوص..

فعن الإمام أبي عبدالله الصادق قال : قال رسول الله : ( من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ السنة لكثيرةٌ ، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته ، ثمّ قال : إنّ الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته ، ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثمّ قال : إن يوماً لكثير ، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته) (1) .

وعنه أيضاً قال : قال رسول الله : ( إن الله عز وجل فضولاً من رزقه ينحله من خلقه ، والله باسط يديه عند كلّ فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له ، ويبسط يشاء من يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له) (2) .

فعلى الإنسان أن يستثمر هذا الشهر الكريم ليتحرّر من الذنوب التي تكبله و آثامه ومعاصيه التي تثقله .. فعليه أن يدخل باب التوبة وباب الرحمة فهو باب النجاة والمغفرة الذي فتحه الله تعالى لعباده.

ص: 241


1- الكافي : ج 2 كتاب الايمان والكفر باب ما أعطى الله عزّ وجلّ آدم وقت التوبة ح2.
2- بحار الأنوار: ج 6 ص 29 باب 20 التوبة وأنواعها وشروطها ح 34، ط طهران.

الإخلاص في العمل

ثم يقول الداعي : «وعملي فيه مقبولاً».

ويبدو أنّ (الإخلاص في العمل ) هو الذي يحدّد قبوله في آخر المطاف، فالنية عند وقوع العمل وصدوره هل كانت خالصة الله أم لا؟

والإخلاص كما فسره البعض : ضدّ الرياء .. وهو صفاء الأعمال ممّا يشعر بها من الرياء والمصالح الأخرى التي لا تمت بصلة إلى العبادة أو الشعيرة ..

فالإخلاص : قوام الفضائل وملاك الطاعة وجوهر العبادة ومناط للصحة وبالتالي قبولها لدى المولى عز وجل .

وهناك جملة من الآيات القرآنية وطائفة كبيرة من الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام أشارت إليه ونوهت عنه وشوّقت عليه وبينت فضائله وكيف أنه يرتقي بالعمل إلى درجة القبول :

قال تعالى : (فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا له الدين الخالص ) (1) .

وقال سبحانه: (وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) (2) .

وقال الإمام الجواد : (أفضل العبادة الإخلاص) (3) .

فقيم الأعمال تتفاوت بتفاوت غاياتها وموجباتها الباعثة لها، فكلما سمت الغاية وطهرت السريرة من شوائب الغش والنفاق والمصلحة الذاتية ، كان ذلك أزكى للأعمال وسبب لقبولها لدى الله تعالى ..

ص: 242


1- سورة الزمر : 2 و 3.
2- سورة البينة : 5 .
3- بحار الأنوار: ج 67 ص 245 ح 19 باب الإخلاص ومعنى قربه تعالى ، ط طهران.

فالنّية والإخلاص تشكِّل الزاوية الدقيقة في الأعمال وشرطاً واقعياً لصحّتها، فهي أساس عقدها وبالتالي نيل الثمرة منها لأنّها إن وقعت صحيحة ومقبولة نال العبد ثمارها عاجلاً أو آجلاً!!

كما أنّ النيّة قد تحرف العمل عن مساره وغايته فيتحوّل إلى عمل لا يمثِّل إلَّا الذاتية .. والنفس والأهواء والمصالح وهذا كلّه من عمل الشيطان وخداعه ومكره ووسوسته التي تنمي النفس الأمّارة بالسوء وحبّ السمعة والجاه وكسب المحامد والأطماع ، فيمسخ الضمائر والسرائر ويمحق الأعمال ويجعلها قفاراً يباساً من الجمال و الكمال .. وبالتالي يسلبها لذّة العطاء والتفاني في سبيل الله ، فتموت في النفوس لذّة استمتاع بقبول الأعمال وتذوّق ثمارها، والتي لا يوصف طعمها وحلاوتها.. وهذا أمر يعلمه المؤمنون ويدركه المخلصون.

أمّا إذا كسيت هذه الأعمال بالرياء .. وخلط بينها وبين الأعمال الأُخرى.. فلا يميّز العبد عندها العبادة المقبولة، فيزعم أنّها ممّا أمر الله تعالى به فيتصوّر أنّ فعله هذا يجلب له الصحّة والقبول وبالتالي الرضوان، لكنّها في الواقع وقعت ميتة لا ثمرة فيها، عندها ليخسر العبد الدارين الدُّنيا والآخرة.

وقد ذكروا أن رجلاً كان قد قضى صلاة ثلاثين سنة إذ كان يصلّيها في المسجد وفي الصفّ الأوّل، ولكنه تأخّر يوماً لعذر ، فصلّى في الصفّ الثاني فاعترته حينها خجلة من الناس حيث رأوه في الصفّ الثاني، عندها تنبّه فعرف أنّ نظر الناس إليه في الصفّ الأوّل كان يسرّه وكان سبب ،راحته، لأفضلية الكون في الصفّ الأوّل في صلاة الجماعة ، فقال في نفسه: إنّ صلاتك طيلة ثلاثين سنة لم تكن خالصة لله عزّ وجلّ، فأعادها.

ومن هنا يحرص المؤمنون المتّقون على كتمان أعمالهم وطاعاتهم خشية من اختلاطها بتلك الشوائب التي تفقدها القبول، فإنّ المرائي مذموم على لسان القرآن والروايات المنقولة عن أهل البيت علیه السلام.

ص: 243

قال تعالى : (يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً) (1).

وقال سبحانه : (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) (2) .

قال الإمام الصادق علیه السلام : (كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس و من عمل الله كان ثوابه على الله) . (3)

و عن الإمام الصادق علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : ( سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدُّنيا ، لا يريدون به ما عند ربهم يكون دينهم رياء لا يخالطهم خوف ، يعمّهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم) (4).

ص: 244


1- سورة النساء : 142 .
2- سورة البقرة : 264 .
3- الكافي : ج 2 ص 293 کتاب الايمان والكفر باب الرياء ح3.
4- الوافي : ج 3 ص 147 عن الكافي ج 2 ص 296 ح 14 باب الرياء .

ستر العيوب

ثمّ يطلب الداعي من الله تعالى أن يجعل عيبه مستوراً فيقول : ( وعيبي فيه مستوراً).

العيب : هو النقيصة .. والوصمة وما يخالف أصل الفطرة السليمة، ومنه العيّاب : الكثير العيب للناس ، والعيب : كلّ ما يستحي منه الإنسان إذا ظهر (1) .

والستر : أضمر ، وارى ، غطى ، وهو عكس الكشف .

والفضح : ومنه الفضيحة ، وهي كشف المساوئ وتبيانها (2) ...

وقد ورد في دعاء كميل : (ولا تفضحني بخفي ما اطلّعت عليه من سرّي) (3) .

وستر العيوب وعدم فضحها ، أمر يتمنّاه المؤمن، بل يتمنّاه حتّى غير المؤمن، لأنّ الإنسان عادة لا يريد أن يطلّع أحد على عيوبه وذنوبه .

هذا بالنسبة إلى الناس !! ولكن كيف لا يخشى الإنسان من الله تعالى وهو يقترف المعاصي والآثام .. والله عليم بكلّ شيء.. كيف يستحي من الناس ولا يستحي من (إله الناس ) (4) ؟

ومعلوم أنّ ستر العيوب تفضّل ورحمة من الله تعالى وعافية ونعمة كبيرة تستحقّ الشكر.. .

قال الإمام زين العابدين علیه السلام : ( اللّهمَّ لك الحمد على سترك بعد علمك ، ومعافاتك بعد خبرك ، فكلّنا قد اقترف العائبة فلم تشهره ، وارتكب الفاحشة فلم

ص: 245


1- أقرب الموارد : ج 2 ص 852 باب ((عيب).
2- أقرب الموارد: ص 930 باب (ستر).
3- مفاتيح الجنان : دعاء كميل عن أمير المؤمنين علیه السلام .
4- سورة الناس : 3.

تفضحه، وتستر بالمساوئ فلم تدلّل عليه) (1) .

وبما أنّ الإنسان له عثرات وله عيوب عادة وهي منقصات لشخصيته لا يريد لأحد الاطلّاع عليها ، فقد صرّحت الكثير من روايات أهل البيت علیه السلام بضرورة اهتمام الإنسان بعيوبه و اشتغاله بإصلاح نفسه ومنعته من تتّبع عيوب الآخرين.

قال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام : (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) (2) .

و قال : ( يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعلّه مغفورٌ له ، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلّك معذّب عليه ، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته ممّا ابتلي به غيره) (3) .

و عنه علیه السلام : (أعقل الناس من كان بعيبه بصيراً وعن عيب غيره ضريراً ) (4) .

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : ( ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة منهن كان في ظلّ عرش الله عزّ وجلّ القيامة يوم لا ظلٌ إلا ظلّه ... رجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتّى ينفي ذلك العيب من نفسه فإنّه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب ، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس ) (5) .

فإنّ من صفات المؤمن الحقيقي أن يستر عيوب إخوانه ولا يشهِّر بها ويظهرها، وفي هذا المقام روايات عدّة وهي تمدح من يستر عيوب أخيه .

منها : عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : ( من ستر على مؤمن فاحشة فكأنّما أحيى موءودة) (6).

و عنه صلی الله علیه و آله : ( من ستر أخاه المسلم في الدُّنيا ستره الله يوم القيامة) (7) .

ص: 246


1- الصحيفة السجادية : ص 178 دعاؤه عند الابتلاء بفضيحة وذنب ، دعاء رقم 34.
2- نهج البلاغة : الخطبة 176 لزوم الطاعة.
3- نهج البلاغة : الخطبة 140 في النهي عن غيبة الناس.
4- غرر الحكم : ج 1 حرف الألف في ألف التعظيم كلمة 409.
5- الخصال : ص 8 باب الثلاثة ح3.
6- كنز العمّال : ح 6388 .
7- كنز العمّال : ح 6382 .

وقال رسول الله صلى الله علیه و آله : (كان بالمدينة أقوام لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس، فأسكت الله عن عيوبهم الناس، فماتوا ولا عيوب لهم عند الناس ، وكان بالمدينة أقوام لا عيوب لهم فتكلّموا في عيوب الناس فأظهر الله لهم عيوباً لم يزالوا يعرفون بها إلى أن ماتوا) (1) .

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : ( لا تتبعوا عثرات المؤمنين فإنّه من اتّبع عثرة مؤمن اتّبع الله عثراته يوم القيامة ، وفضحه ولو في جوف بيته)(2).

والله تعالى يبغض العائبين للناس المتتبعين لعوراتهم ليظهروها، فيقول عنهم تعالى : (ويلٌ لكلّ همزة لمزة ) (3)

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : (الهمّاز مذموم مجروح)(4).

نعم ستار العيوب بالمعنى الحقيقي هو الله عزّ وجلّ لأنّه العالم بجميع الأعمال، قال تعالى : (يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور (5).

و قال سبحانه: (وإن تجهر بالقول فإنّه يعلم السرّ وأخفى) (6).

والله تعالى لا ينسب لنفسه المقدّسة صفة جزافاً فهو الستّار للعيوب والنواقص. ..ولكن كيف يجعل الإنسان من نفسه قابلاً حتّى يكون عيبه مستوراً؟

والجواب عن هذا السؤال هو أنّ أبواب ستر العيوب عديدة :

فمنها : التقوى والإيمان والتمسّك بالله تعالى ، واتّباع أوامره وترك نواهيه والتحلّي بالفضائل التي يأمر بها الله تعالى عباده المؤمنين .

ومن تلك الأبواب : هو أن يستر الإنسان عيوب إخوانه وبذلك ينال جائزة وهدية عظيمة وعافية تستحقّ الحمد، وهي أن يستر الله تعالى عيبه في الدُّنيا وفي الآخرة ، كما

ص: 247


1- بحار الأنوار: ج 75 ص 213 ح 4 باب 65، ط طهران.
2- كشف الريبة : 93 .
3- سورة الهمزة : 1.
4- غرر الحكم : الفصل الأول ح427.
5- سورة غافر : 19.
6- سورة طه : 7 .

ورد في الأحاديث النبوية الآنفة.

وستر العيوب رحمة وعافية ، لأنّ فضح العيوب لها آثار اجتماعية وأخلاقية خطيرة في المجتمع، فهي تهدم العلاقات بين الناس وتولّد حالة الظنّ والشك حول الشخص وتخلق حالة من الارتباك والقلق، هذا فضلاً عن بعض الآثار السلبية الأخرى، والتي تعدّ تجاوزاً وظلماً وانتهاكاً للإنسان وحقوقه وحريّاته .. لأنّه ليس من الإنصاف أن تجد من يتبع أعمالك وتصرّفاتك ويحصي عثراتك وأنفاسك ، فالإنسان بطبيعته لا يحبّ ذلك ويعدّه هدماً لكيانه وشخصيته، قال أمير المؤمنين علیه السلام : (لو تكاشفتم ما تدافنتم) (1) .

وهذا هو أمير المؤمنين علیه السلام لا يترك مجالاً لهؤلاء العائبين للآخرين ، لذا تجده يحرص في كتابه لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر فقال علیه السلام له :

( وليكن أبعد رعيتك منك وأشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس فإنّ في الناس عيوباً، الوالى أحقّ من سترها فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك ، والله يحكم على ما غاب عنك ، فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحبّ ستره من رعيّتك) (2) .

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وقد سأله رجل : أحبّ أن يستر الله علىَّ عيوبي؟ قال صلی الله علیه و آله: (استر عيوب اخوانك الله عليك عيوبك) (3) .

ص: 248


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام : ج 2 ص 54 ح 204.
2- نهج البلاغة : الكتاب 53 رسائل أمير المؤمنين علیه السلام من كتابه إلى الأشتر النخعي .
3- كنز العمّال: ح 4454 ، ستر العيوب.

أسمع السامعين

ثمّ يختم الداعي دعاءه بقوله (يا أسمع السامعين).

والسمع وسيلة من وسائل الإدراك التي أنعم بها الله تعالى على الإنسان وحقّاً هي

نعمة لا تقدِّر بثمن.

والله تعالى هو السميع ، فمن أسمائه الحسنى التي سمّى الله بها ذاته المقدّسة : (السميع) ، كما ورد ذلك كثيراً في القرآن الكريم والروايات والأدعية المأثورة ، فقد استعملت مادّة (سمع) بمختلف مشتقّاتها في القرآن : (185) مرّة .. أمّا كلمة (السميع )و (سميع) ف- (41) مرّة .

قال تعالى:(لقد سمع الله قول الذين قالوا إنّ الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا ) (1).

و قال سبحانه :( وقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إنّ الله سميعٌ بصير ) (2).

وقال عزّ وجلّ: (إنّ الله يسمع من يشاء )(3).

والله تعالى وهب للناس أسماعاً تعتبر هي من أكبر النعم الرّبانية والهبات العظيمة، وهبها عزّ وجلّ لنا لنعي ونعقل حتّى نفوز بسعادة الدارين .

قال تعالى حكاية : (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا من أصحاب السعير (4) .

كما أنّ للأسماع الواعية العاقلة فضل عظيم يذكره القرآن ويشير إليه بقوله تعالى :

ص: 249


1- سورة آل عمران: 181.
2- سورة المجادلة: 1.
3- سورة فاطر : 22.
4- سورة الملك : 10.

(لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أُذن واعية ) (1) .

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : (رحم الله امرءاً سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا) (2) .

فالسمع باب من أبواب الوعي والعقل، وعلى الإنسان أن لا يغلق أسماعه عن الحقّ وذلك باستماع المآثم والمعاصي واللغو وغيرها من الأسباب التي تؤدّي إلى كفران هذه النعمة العظيمة، وإلّا كان ممّن يشمله قول الله تعالى في الذين لا يسمعون قول الحقّ حيث يقول عنهم : (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعينُ لا يبصرون بها ولهم آذانُ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ ) (3) .

فهؤلاء أغلقوا آذانهم أمام استماع الحقائق فلم يستمعوا للدعوة إلى الله تعالى .. وحينئذٍ فما فائدة نعمة السمع عندهم ؟ قال تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون )(4).

قال أمير المؤمنين علیه السلام : (ما كلّ ذي قلب بلبيب ولا كلّ ذي سمع بسميع ولا كلّ ناظر ببصير) (5) .

إذاً فللسمع أهمّية كبيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية كإصلاح الناس وهدايتهم لذا حثّت الروايات الواردة عن أهل البيت علیه السلام على حسن الاستماع وأشارت إلى فضله ..

قال الإمام زين العابدين علیه السلام : (لكلّ شيء فاكهة وفاكهة السمع الكلام الحسن) (6) .

وقال أمير المؤمنين علیه السلام :( عوّد إذنك حسن الاستماع ولا تصغ إلّا إلى ما يزيد في

ص: 250


1- سورة الحاقة : 12 .
2- نهج البلاغة : الخطبة 76.
3- سورة الأعراف : 179.
4- سورة الأنفال : 23 .
5- نهج البلاغة : الخطبة 88 بيان الأسباب التي تهلك الناس.
6- بحار الأنوار: ج 78 ص 160 ح 21 باب 21 مواعظ علي بن الحسين علیه السلام ، ط طهران .

صلاحك ) (1).

وعنه علیه السلام قال: (من أحسن الاستماع تعجّل الانتفاع)(2) .

ومن هنا جاء ما فرضه القرآن على السمع من الواجبات ، قال تعالى في ذلك : ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً)(3).

(فالسامع شريك القائل) (4) كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام . ..

نعم فالسامع خيراً يشمله الخير والرحمة والمنفعة، والسامع للشرّ والفسق واللغو هو شريك للقائل بفعله وقوله ، فيشمله السخط والنقمة والإثم..

والله تعالى قد حذّر من ذلك بقوله سبحانه: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره إنّكم إذاً مثلهم )(5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : (فرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم الله ، وأن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى الله عزّ وجلّ عنه ، والإصغاء إلى ما أسخط الله عزّ وجلّ ، فقال في ذلك :( وقد نّزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله ..) (6) (7) .

وعن الإمام الرضا علیه السلام : (ففرض على السمع أن لا تصغي به إلى المعاصي فقال عزّ وجلّ : (وقد نزل عليكم ..) (8).

وقال الإمام زين العابدين علیه السلام في رسالة الحقوق :(وحقّ السمع تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحلّ سماعه) (9) .

ص: 251


1- غرر الحکم : ج 2 حرف العين في لفظ (عود) ، ح6 .
2- غرر الحكم : ص 43 ح 92 .
3- سورة الإسراء : 36 .
4- غرر الحكم: ح518.
5- سورة النساء : 140 .
6- سورة النساء : 140 .
7- الكافي : ج 2 ص 35 ح 1 كتاب الايمان والكفر .
8- نور الثقلين : ج 1 ص 564 ح 624 .
9- مكارم الأخلاق : ص 418 الباب الثاني ، الفصل الأوّل في ذكر الحقوق لزين العابدين علیه السلام .

و من كلّ ما تقدّم في شرح فقرات الدعاء الشريف قد نستخلص الحقيقة التالية : إنّ سعي الإنسان وكّده وجهده وجهاده تسوق الإنسان في نهاية المطاف إلى تسنّم أرفع الدرجات والفوز في دنياه وآخرته ، إذ أنّ كسب النتائج وغفران الذنوب والمعاصي وقبول الأعمال والعبادات وستر العيوب والنواقص .. كلّ ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسعي والعمل .. نسأل الله التوفيق لذلك.

ص: 252

ليلة المواهب الإلهية

27

دعاء اليوم السابع والعشرين

اشارة

اللهُمَّ ارْزُقْني فِيهِ فَضْلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَصَيَّرْ أُمُورِي فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ إِلَى الْيُسْرِ، وَاقْبَلْ مَعَاذيري، وَحُطَّ عَنِّي الذَّنْبَ وَالْوِزْرَ، يَا رَؤوفاً بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.

البلد الأمين : ص 221، عن النبي صلی الله علیه و آله : (من دعا به بُني له ألف مدينة في الجنّة من

الذهب والفضّة والزمرّد واللؤلؤ).

ص: 253

ص: 254

روايات في ليلة القدر

عن حسّان بن مهران عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن ليلة القدر ؟ فقال : (التمسها ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين) (1) .

وعن أبي عبدالله عليه السلام قال: (ليلة القدر هي أوّل السنة وهي آخرها) (2) .

وعن فضيل بن يسار قال : ( كان أبو جعفر علیه السلام إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتّى يزول الليل فإذا زال الليل صلّى ) (3) .

وعن أمير المؤمنين علیه السلام : (إنّ ليلة القدر في كلّ سنة وأنّه ينزل في تلك الليلة أمر السنة) (4) .

وقد ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي قدس سره في تفسير( إنّا أنزلناه في ليلة القدر) (5) . في كتاب التبيان ما هذا لفظه : ( وليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان بلا خلاف ، وهي في ليلة الإفراد بلا خلاف ، وقال أصحابنا هي إحدى الليلتين إمّا ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ، وجوّز قوم أن يكون سائر ليالي الإفراد : إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين ، قلت : وإذا كان الأمر كما ذكره أنّها في الأواخر وأنّها في المفردات منها فقد صارت ليلة القدر في إحدى خمس ليال المذكورة فماذا يمنع من الاهتمام بكلّ طريق مشكورة في تحصيل ليلة القدر بالله جلّ جلاله في هذه الخمس ليال المذكورة ، وأيّ عذر في إهمال ذلك (6) ).

ص: 255


1- الخصال : ص 519 أبواب العشرين ح 8 باب ما جاء في ليلة 21 و 23 من شهر رمضان.
2- الخصال : ص 519 أبواب العشرين ح 7 باب ما جاء في 7 باب ما جاء في ليلة 21 و 23 من شهر رمضان.
3- الخصال : ص 519 أبواب العشرين ح 5 باب ما جاء في ليلة 21 و 23 من شهر رمضان.
4- كمال الدين : ص 305 ب 26 ح 19.
5- سورة القدر : 1.
6- الإقبال : ص 64 .

وفي بعض الروايات أنّ مولانا زين العابدين علیه السلام كان يتصدّق كلّ يوم من شهر رمضان بدرهم رجاء أن يظفر بالصدقة في ليلة القدر(1).

وروي عن النبيّ صلی الله علیه و آله : (التمسواليلة القدر في أوّل ليلة من شهر رمضان أو في تسع أو أربع عشرة أو في إحدى وعشرين أو في آخر ليلة منه) (2) .

وفي رواية عن بلال عن النبي صلی الله علیه و آله : ( إنّها في ليلة أربع وعشرين) (3) .

وفي رواية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلی الله علیه و آله : ( إنّها في العشر الأواخر) (4) .

وفي رواية عنه صلی الله علیه و آله : (التمسوها في سبع بقين أو خمس بقين أو ثلاث بقين) (5) .

وفي رواية عنه صلی الله علیه و آله : (إنّها في خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين)(6).

وفي رواية: (إنّها تنتقل في العشر ) (7) .

وفي رواية: (إنّها إذا كانت سنة في ليلة تكون في السنة الأُخرى في ليلة أُخرى) (8) .

إلى غيرها من الروايات .

ولكن الأقوى كما يستفاد من أكثر الروايات أنّها إمّا ليلة 19 أو 21 أو 23 من شهر رمضان المبارك ، والاحتمال في الليلتين الأخيرتين أقوى.

ويأتي هنا سؤال وهو : لماذا هذا الاختلاف في الروايات؟

ولماذا هذا الإبهام؟

ص: 256


1- الإقبال : ص 64 .
2- الإقبال : ص 66 .
3- الإقبال : ص 66 .
4- الإقبال : ص 66 .
5- الإقبال : ص 66 .
6- الإقبال : ص 67 .
7- الإقبال : ص 67 .
8- الإقبال : ص 67 .

ولماذا لم تعيّن ليلة واحدة كي يتوجّه العبد فيها إلى ربّه ويسأله عزّ وجلّ أن يمنحه خير الدُّنيا والآخرة ويقدّر له الخير كلّه؟

ربما كان السبب في ذلك هو أن يتوجّه العبد إلى ربه في عدّة ليال مختلفة ، ولا يقتصر على ليلة واحدة في طول السنة، فمن المحبّذ أن يتضرّع الإنسان إلى بارئه في أكثر من ليلة ، كما لا يخفى.

وربما كان السبب في عدم التعيين أنّه إذا لم يوفّق العبد في أداء الأعمال المأثورة في تلك الليلة المعيّنة قد يصاب باليأس والخيبة، فلكي لا يتصوّر أنّه انتهى كلّ شيء وفاته الكثير من الخيرات والبركات ولكي يبقى احتمال درك ليلة القدر باقياً لم يقتصر على تعيين ليلة واحدة حتّى يشتغل بالأعمال المقرّرة ويتوسل إلى ربّه لكي يقدّر له من كلّ أمر ما يرضيه ، ومن هنا صارت الليلة مردّدة بين عدة ليال .

هذا ومن المحتمل أن يكون هناك تقسيم في الأمور التي تقدّر ، فمنها ما تقدّر في ليلة 19 من شهر رمضان ، ومنها ما تقدّر في ليلة 21 أو 23 أو 27 من هذا الشهر العظيم وهكذا ..

إذاً تحصّل ممّا سبق أنّ هناك روايات مختلفة وكلّ واحدة منها تبيّن وتؤكِّد على ليلة خاصّة وذلك من دون أن تنفي الليالي الأُخرى كما قالوا في علم الأُصول: (إثبات الشيء لا ينفي ما عداه ).

ومنها هذه الرواية وهذا الدعاء الذي يستشمّ منه أنّ ليلة 27 هي ليلة القدر ولكن هذا لا نفي الاحتمالات الأُخرى ، بل إنّ الروايات التي تقول بأنّ ليلة القدر إمّا ليلة 19 أو 21 أو 23 من شهر رمضان هي أقوى وأشهر ممّا ورد في هذا الدعاء ..

بالإضافة إلى أنّ العبارة التي جاءت في هذا الدعاء تقول : (اللّهمَّ ارزقني فيه فضل ليلة القدر ) حيث يطلب الداعي أن يرزقه في هذه الليلة فضل ليلة القدر وليس فيها تصريح بأنّ هذه الليلة هي ليلة القدر، وربما يحتمل أن يكون المقصود والمعنى : أنّه يسأل إذا فاته فضل ليلة القدر ، أن يعوّضه الله بهذه الليلة ويرزقه فضل ليلة القدر .

ص: 257

ثمّ إنّ هذا الدعاء بعينه ورد في (مصباح الكفعمي) في اليوم التاسع والعشرين (1) .وعلى أيّ حال فلا بأس بذكر شيء من التفصيل عن ليلة القدر في شرح هذا الدعاء لاشتماله على كلمة (ليلة القدر).

فليلة القدر في شهر رمضان المبارك ليلة عظيمة جدّاً عند الله تعالى .. فضلاً عن أنّ الشهر كلّه شهر عظيم وشهر عبادة وغفران ، فهو شهر يمتاز على سائر شهور السنة، وهذه الليلة تمتاز على سائر ليالي وأيّام هذا الشهر المبارك، هكذا تحدّث عنها القرآن الكريم والروايات .

قال تعالى :( ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر* تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمرٍ *سلام هي حتّى مطلع الفجر)(2).

وفي أدعية الصحيفة السجّادية ورد عن الإمام زين العابدين علیه السلام: (ثمّ فضّل ليلة واحدة من لياليه على ليالي ألف شهر وسمّاها ليلة القدر تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمرٍ سلامٌ دائم البركة إلى طلوع الفجر على مَن يشاء من عباده بما أحكم من قضائه) (3) .

فهي ليلة متميِّزة بالشأن والعظمة .. والسؤال هو : لماذا تكون العبادة فيها خيرٌ من ألف شهر ؟!!

الظاهر أنّ ذلك يعود إلى عدّة أسباب جعلها الله سبحانه وتعالى ، منها : الخير والبركة المعطاة في هذه الليلة فإنّها مضاعفة إلى الآلاف وربما أكثر ، وفي هذه الليلة تقدّر الأرزاق والمنافع الدينية والدنيوية، فهي ليلة يتقرّر فيها مصير الإنسان طيلة حياته التي قد لا تتجاوز ألف شهر ..

كما يروى عن مولانا الصادق علیه السلام حيث قال له بعض الأصحاب : كيف تكون ليلة القدر خيراً من ألف شهر ؟ قال : ( العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة

ص: 258


1- مصباح الكفعمي : ص 616 .
2- سورة القدر : 3 - 5 .
3- رياض السالكين : ج 6 ص 28 .

القدر) (1)

وسئل الإمام أبو جعفر علیه السلام عن( ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر) ، أيّ شيء عنى بذلك؟ فقال : (العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات) (2) .

ص: 259


1- الفروع من الكافي : ج 4 ص 157 كتاب الصيام ح 4 .
2- الفروع من الكافي : ج 4 ص 158 كتاب الصيام ح6 .

على بساط المعنى

ذكر العلماء والمفسِّرون (1) وجوهاً في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر ، فقال أكثر المفسِّرين : القدر بمعنى التقدير .

يقول صاحب تفسير القمّي المحدِّث الكبير علي بن إبراهيم (رضوان الله عليه): (إنّ معنى ليلة القدر : إنّ الله يقدّر الآجال والأرزاق وكلّ أمر يحدث من موت أو حياة أو خطب أو جدب أو خير أو شرّ ، كما قال تعالى : (فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيم ) (2) سنة إلى سنة) (3) . ..

كما يروى عن أبي جعفر علیه السلام قال : ( يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل ،خير أو شرّ ، وطاعة ومعصية، ومولود وأجل ورزق، فما قدّر في تلك السنة وقُضي فهو المحتوم والله عزّ وجلّ فيه المشيئة) (4) .

وهذه المسألة لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الاختيار كما هو واضح، لأّنّ التقدير الإلهي ناتج من علم الله المطلق بالكون قبل وبعد الإيجاد، فالتقدير ليس جزافاً بل حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم وما إلى ذلك .

وبتعبير آخر : أرضية التقدير يوفّرها الإنسان نفسه وهذا لا يتنافى مع الاختيار بل يؤكّده لأنّ ما بالاختيار لا ينافي الاختيار وهذا بحث مفصّل ذكره العلماء في الكتب الكلامية .. وقد فصّلنا الكلام عن الجبر والاختيار في المباحث السابقة.

ص: 260


1- رياض السالكين : ج 6 ص 29 .
2- سورة الدخان : 4.
3- تفسير القمّي : ج 2 ص 431 .
4- الكافي : ج 4 ص 157 ح6.

وقال البعض (1) : إنّ ليلة القدر بمعنى الشرف والخطر، وهي الليلة المعظّمة كما يقال لفلان قدر عند الناس : أي منزلة وخطر ، كما يناسبه قوله تعالى: ﴿ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر ) (2) .

وقيل : إنّها الليلة التي قدّر فيها القرآن.

وقيل : إنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتّى تضيق بهم الأرض لكثرتهم، فإنّ من معاني القدر الضيق لقوله تعالى : (ومن قدر عليه رزقه )(3).

والظاهر أنّ كلّ هذه المعاني والتفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر وإن كان التفسير الأوّل أنسب وأشهر لأنّه مأخوذ من تفسير الأئمّة الأطهار علیه السلام حسب الروايات الواردة عنهم ، ولكن الظاهر أنّهم علیه السلام عندما يذكرون معاني أمثال هذه الآيات لا يقصدون بكلامهم حصر المعنى بمفهوم خاص وإنّما المراد بيان المصداق أو أظهر المصاديق أو إحدى المفاهيم ، لأنّ القرآن يشتمل على عدّة بطون كما جاء في الروايات .

كما روى علي بن محمّد، عن محمّد بن الفضيل ، عن شريس ، عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ، ثمّ سألته ثانية فأجابني بجواب آخر ، فقلت له : جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا، فقال لي : (يا جابر ، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطناً، وله ظهراً وللظهر ظهراً، وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، وإنّ الآية ينزل أوّله في شيء وآخره في شيء) (4)

ولذا لا يبعد أن يكون المراد من (القدر ) الأعمّ ممّا ذكره المفسِّرون وغيرهم.

كما روي عن الإمام أبو عبد الله عليه السلام: (أُري رسول الله صلی الله علیه و آله بني أُميّة يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس الصراط القهقرى فأصبح كئيباً حزيناً ، قال : فهبط

ص: 261


1- رياض السالكين : ج 6 ص 30.
2- سورة القدر : 3.
3- سورة الطلاق: 7
4- تأويل الآيات الظاهرة : ص23.

جبرائيل علیه السلام فقال : يارسول الله ما لي أراك كثيباً حزيناً؟ قال : يا جبرائيل إنّي رأيت بني أُميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي ويضلّون الناس عن الصراط القهقرى، قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت على ذلك ، فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها ، قال :( أفرأيت إن متّعناهم سنين* ثم جاءهم ما كانوا بوعدون *ما أغنى عنهم ماكانوا يمتعون) (1) وأنزل عليه :( إنّا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر) (2) ، فجعل الله عزّ وجلّ ليلة القدر لنبيّه صلی الله علیه و آله خيراً من ألف شهر ملك بني أُميّة) (3) .

ص: 262


1- سورة الشعراء : 205 - 207
2- سورة القدر : 1 - 3.
3- الكافي : ج 4 ص 159 ح 10 .

العطاء المستمرّ

ومن الأسئلة التي تُطرح : هل كانت ليلة القدر موجودة في الأُمم السابقة؟ وهل هي من مختصّات زمن الرسول صلی الله علیه و آله؟

الجواب : إنّ هناك روايات متعدّدة يستفاد منها أنّ هذه الليلة من المواهب الإلهية لهذه الأُمّة ، فعن النبي صلی الله علیه و آله قال : ( إنّ الله وهب لأُمّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم) (1).

هذا بالنسبة إلى الأُمم السابقة .

وأمّا بالنسبة إلى الفترة التي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستفاد من ظاهر آيات (سورة القدر ) أنّ ليلة القدر ليست خاصّة بزمان نزول القرآن ولا تختص بمعاصري رسول الله صلی الله علیه و آله بل تتكرّر كلّ سنة إلى حين يرث الله الأرض ومن عليها .

ولعلّ التعبير في الآية :( تنزّل) الدالّ على الاستمرار وعدم التخصيص في زمن محدّد يؤكد هذا المعنى.

وهكذا التعبير بالجملة الاسمية التي بعدها (سلامٌ هي حتّى مطلع الفجر) (2) فإنّها تدلّ على الدوام والاستمرار ..

ولذا ورد في الأخبار : إنّ الملائكة في كلّ ليلة قدر من كلّ عام تنزل على وليّ الله الأعظم الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) وتعرض عليه مقادير أُمور العباد و مصائرهم .. ممّا يؤكّد على أنّها لا تختصٌ بزمن خاصّ بل ستكون إلى يوم القيامة .

وأيضاً ورد في الحديث : ( فكان كلّ ليلة قدر ينزل فيها جبرائيل على عليه السلام

ص: 263


1- تفسير الأمثل : ج 20 ص 319.
2- سورة القدر: 5.

فيسلّم عليه من ربه) (1) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام : (إنّها باقية إلى يوم القيامة لأنّه لو رفعت لارتفع القرآن بأجمعه) (2) .

وقال صاحب كتاب ( تأويل الآيات الظاهرة )قال سبحانه (تنزّل )بلفظ المستقبل ولم يقل نزل بلفظ الماضي ، وذلك حق لأنّها لا تجيء لقوم دون قوم ، بل لسائر الخلق ، فلابدّ من رجل تنزل عليه الملائكة والروح فيها بالأمر المحتوم في ليلة القدر في كلّ سنة ولو لم يكن كذلك لم يكن أمر ، ففي زمن النبي صلی الله عاله و آله كان هو المنزل عليه ومن بعده على أوصيائه أوّلهم أمير المؤمنين وآخرهم القائم (عجّل الله فرجه الشريف) وهو المنزل عليه إلى يوم القيامة ، (عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام) (3) .

وفي حديث أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قرأ سورة القدر ثمّ ضرب على كتف أمير المؤمنين علیه السلام وقال : (يا أخي ووصيّي وولي أُمّتي من بعدي وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون هذه السورة لك من بعدي ولولدك من بعدك) (4) .

والروايات الواردة بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها من كتب الشيعة والسنّة متّفقة في هذا المضمون، بالإضافة إلى ما سبق في رجحان هذه الليلة، وذلك لما راه رسول الله صلی الله علیه و آله في المنام ، حيث رأى صعود أُناس غير لائقين على منبره الشريف، فنزلت الآية لتقول : إنّ ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر من حكومتهم .

كما أنّ من أسباب عظمة هذه الليلة نزول القرآن فيها حيث نزل بأجمعه في هذه الليلة على قلب رسول الله صلی الله علیه و آله وهو من أعظم ما يجعلها خيراً من ألف شهر .

و من هنا لابدّ من الاهتمام بهذه الليلة والجدّ في إحيائها لتحصيل فيوضاتها والتنعّم ببركاتها .

وكان الأئمة يحلُّون علیه السلام الأصحاب على الاهتمام بهذه الليلة المباركة وعدم

ص: 264


1- المناقب : ج 2 ص 245 .
2- تأويل الآيات الظاهرة : ص793.
3- تأويل الآيات الظاهرة : ص 793.
4- تأويل الآيات الظاهرة : ص 794 .

التفريط في ساعاتها (1) .

فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام قال لأحد أصحابه : (فاطلبها - أى ليلة القدر - في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وصلِّ في كل واحدة منهما مائة ركعة، وأحيهما إن استطعت إلى النور ، واغتسل فيهما ، قال : قلت : فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم ..؟ قال: فصلِّ وأنت جالس ، قال : قلت : فإن لم أستطع ؟ قال : فعلى فراشك ، قلت : فإن لم أستطع قال : فلا عليك أن تكتحل أوّل ليلة بشيء من النوم، فإنّ أبواب السماء تفتح في رمضان، وتصفد (تقيّد) الشياطين وتقبل أعمال المؤمنين) (2) .

ويرى بعض الأعلام أنّ المناسبة بين نزول القرآن وليلة القدر ترجع إلى كون ليلة القدر ليلة تقدير مصائر الناس في سنة كاملة وربما طيلة العمر ، والقرآن باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها ومصيرها ويهديها إلى طريق السعادة والطمأنينة ، فهناك ارتباط وثيق بين القرآن وبين ليلة القدر وهو من أسباب نزوله في هذه الليلة العظيمة المباركة .. ليلة تعيين المصير..

فما أجمل هذه العلاقة بين القرآن وبين هذه الليلة وأعمق الارتباط بين القرآن ونزوله في هذه الليلة.. وتقدير مصائر البشر ..

يقول العلّامة الطبرسي قدس سره: اختلف في قوله (أنزل فيه القرآن) (3) ...

فقيل : إنّ الله تعالى أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى سماء الدُّنيا ثمّ أنزل على النبي الله صلی الله علیه و آله نجوماً طوال عشرين سنة ، كما عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والمروي عن أبي عبدالله علیه السلام.

وقيل : إنّ الله تعالى ابتدأ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان كما عن أبي إسحاق .

وقيل : إنّه كان ينزل إلى السماء الدُّنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة، ثمّ ينزل على مواقع النجوم إرسالاً في الشهور والأيّام، وروي عن أبي

ص: 265


1- نور الثقلين : ج 5 ص 626 ح 58 .
2- راجع بحار الأنوار: ج 94 ص 3 ب 53 ح 4 ، ط بیروت .
3- سورة البقرة : 185 .

ذر الغفاري عن النبي صلی الله علیه و آله قال : (نزلت صحف إبراهيم علیه السلام الثلاث مضين من شهر رمضان - وعلى رواية أوّل ليلة منه - وأنزلت توراة موسى علیه السلام لستَ مضين من شهر رمضان وأنزل إنجيل عيسى علیه السلام لثلاث خلت من رمضان وأنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من شهر رمضان وأنزل الفرقان على محمّد صلی الله علیه و آله لأربع وعشرين مضين من شهر رمضان) (1) .

وهذا ما رواه العياشي عن أبي عبد الله علیه السلام عن آبائه عن النبيّ (2).

ص: 266


1- مجمع البيان : ج 1 - 2 ص 276 .
2- مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 276 .

سلام هي

لقد وصف القرآن بعض بركات ليلة القد فقال تعالى : (سلام ٌهي حتّى مطلع الفجر ) (1) .

وقال عنها الإمام زين العابدين علیه السلام في دعائه الرابع والأربعين : (سلام دائم البركة إلى طلوع الفجر على من يشاء من عباده بما أحكم من قضائه) (2) .

فهذه الليلة - كما هو مفهوم من النصّين الآنفين - ليلة مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتّى الصباح .. فهي مختلفة عن سائر الليالي التي قد تكون فيها سلامة وقد تكون فيها بلاء ..

فليلة القدر كلّها سلام ..

وإطلاق كلمة (سلام) على هذه الليلة هو نوع من التأكيد كأن تقول : (فلان عدل) للتأكيد على أنه عادل.

والروايات تذكر بأنّ الشيطان يكبّل بالسلاسل في هذه الليلة ، بالإضافة إلى أنّ هذه الليلة ( على رواية) سالمة من الصواعق والرياح المزعجة ونحوها.

وفي الخبر (من كلّ أمرٍ سلام) أي تحيّة يحيى بها الإمام إلى أن يطلع الفجر (3) . وهي ليلة البركة والخيرات .. كما في قوله تعالى : (إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنّا كنّا منذرين * فيها يفرق كلّ أمرٍ حكيم ) (4) .

فالبركة ثابتة ومتتابعة في هذه الليلة بدوام السلام فيها إلى أن يطلع الفجر ، فإنّ

ص: 267


1- سورة القدر : 5 .
2- الصحيفة السجّادية : دعاؤه إذا دخل شهر رمضان.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمّي : ج 2 ص 431 .
4- سورة الدخان : 3 و 4 .

المبارك ما فيه النماء والخير والكثرة ..

وهي ليلة الملائكة ونزولها في الأرض ، وهي تطوف هنا وهناك .. وما أعظم سلام الملائكة وبشارتها!!

وقد جاء في قصة إبراهيم الخليل علیه السلام : أنّ عدداً من الملائكة جاءت إليه وبشّرته بالولد وسلّمت عليه ، قال تعالى : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاماً قال سلام) (1) ، فأحسّ إبراهيم علیه السلام لبلذّة كبيرة من سلام الملائكة لا تعدلها لذّة .

إذاً فأيّة لذّة وبركة ولطف تكون في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزّل في ليلة القدر !!

وحين أُلقي إبراهيم علیه السلام في نار نمرود جاءت الملائكة وسلّمت عليه ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ سلامه على إبراهيم علیه السلام الله فتحوّلت النار إلى برد و سلام ، قال تعالى: (يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (2) .

وحينئذٍ ألا تتحوّل نار جهنّم ببركة سلام الله والملائكة على المؤمنين إلى برد و سلام؟

نعم ما أعظم هذه الليلة - ليلة القدر - من كرامة لأُّمة محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيم لها حيث تتنزّل هناك على الخليل علیه السلام وتتنزّل على أُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم (3) .

ولأنّها ليلة سلام وصفاء ومحبّة.

ولأنّها ليلة ترفع فيها الأعمال وتستجاب فيها الدعوات .. لذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك أن يرزقه الله فضل هذه الليلة العظيمة أوّلاً، ثمّ تصير أُموره من العسر إلى اليسر ، وتبدّل حياته إلى الأحسن ، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( وصيِّر أُموري فيه من العسر إلى اليُسر).

ص: 268


1- سورة هود : 69.
2- سورة الأنبياء : 69.
3- راجع تفسير الرازي : ج 32 ص 36.

بين العسر واليُسر

ما هو العسر ..؟

وما هو اليُسر ..؟

ولماذا يطلب الداعي تسيير أُموره إلى اليسر ؟

العَسر : هي الصعوبة والشدّة وهي نقيض اليسر (1) ، قال تعالى : (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) (2) .

والعَسَر : الخلاف والالتواء .. ويقال أمر عسير .. ويومٌ عسير .. ورجلٌ عسير ..

قال جرير :

بشّر أبو مروان إن عاسرته***عسير وعند يساره میسور (3)

ويقال : أعسرت المرأة : إذا عسر عليها ولادتها.

وأمّا اليسر : فهو أصل يدلّ على الانفتاح والخفّة وهو ضد العسر ، ويقال : يسَرت الغنم إذا كثر لبنها ونسلها (4) ، قال الشاعر :

هما سيدانا يزعمان وإنّما***يسوداننا أن يسرت غنماهما (5)

ولكن ما هو الطريق لتسير به الأُمور من العسر إلى اليسر؟

هل الدعاء كاف أم يحتاج الداعي إلى أسباب أُخرى ليحصل على المراد؟

وقبل البدء بالإجابة على السؤال ، لابدَ من التذكير والإشارة إلى أنّ الله تعالى يريد

ص: 269


1- معجم مقايسس اللغة : ج 4 ص 320 باب عسر .
2- سورة البقرة : 280 .
3- دیوان جرير : ص 301 باب عسر .
4- راجع معجم مقاييس اللغة : ج 6 ص 155 .
5- أنظر تهذيب الألفاظ ص 135 ، والشعر لأبي السيّد الزبيري.

بالناس اليسر ولا يرد بهم العسر أبداً إلا أن الإنسان هو الذي يُصيّر أُموره إلى عسر ، قال تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (1) .

وربما يقول البعض بأنّ ما ذكرناه يخصّ الصوم أو بعض العبادات أو بعض التكاليف فقط ؟

فنقول في جوابه : كلّا ، إنّ قوانين الإسلام حثّت على التسهيل لأٌمور العباد والبلاد في جميع مجالات الحياة ولذلك ترتفع الأحكام في موارد الضرر والحرج ونحوها، ومن هنا يفتي الفقهاء بجواز التيمّم لمن يشقّ عليه الوصوء، وبجواز الصلاة جلوساً لمن يشقّ عليه الوقوف، وبحلّية الإفطار لمن يضرّه الصوم، وهكذا بالنسبة إلى سائر الأحكام الشرعية ويشير القرآن إلى هذه القاعدة بقوله عزّ وجلّ : (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (2) .

وروي عن النبي صلی الله علیه و آله : (بعثت على الشريعة السمحة السهلة) (3) .

إذاً فالإسلام بني على اليسر لا على العسر ، ولكن كيف يعيش الإنسان اليسر؟

اليسر : توفيق إلهي ونعمة ربانية وهو عام ولا يمكن تقييده وحصره في مجال ،واحد ، مادياً كان أو معنوياً.. دنيوياً كان أم أُخروياً .. فالدعاء المروي عن رسول الله : ( صيّر أموري فيه من العسر إلى اليسر) عام وطلب الداعي عام يشمل التيسير الطاعة .. والتيسير إلى طريق الجنّة .. والتيسير إلى التقوى .. والتيسير في الوقوف بين يدي الله تعالى يوم الحساب .. كذلك تيسير الحياة في هذه الدُّنيا .. وتيسير المشاقّ اليومية في المعيشة .. وتيسير ضنك الحياة وضيق العيش ، ولا يكون ذلك إلّا بتوفيق الله تعالى.

فتحويل الأُمور إلى اليسر لا يأتي جزافاً واعتباطاً بل لابدّ من عناية وتوفيق ، وهذه بحاجة إلى شرائط ومن شرائطها : التقوى وما يترتّب عليها من طاعة واستغفار وانابة

ص: 270


1- سورة البقرة : 185 .
2- سورة الحج : 78 .
3- تفسير الأمثل : ج 1 ص 461 .

وتوبة والتزام بالتكاليف والعبادات والوصايا الربّانية .. فالتقوى والطاعة الله تعالى توجب تذليل الصعاب والمشاكل وتعني السكينة والاطمئنان.

وذلك لأنّ الحياة الدُّنيا ليست مفروشة بالورود بل بالمشقّة والضيق والابتلاءات عادةً، فلابدٌ من توطين النفس على هذا الواقع الحياتي الدنيوي، وهذا لا يكون إلّا بالعمل الصالح الدائب والمستمرّ لتغييره وتصييره إلى يسر وخير وعافية.

وقد أعطى الله تعالى البشارة للمؤمنين المتّقين في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى : (وبشّر الذين أمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون )(1).

كما أنّ في معظم الآيات التي يذكر فيها العسر نجد إلى جانبها اليسر...

قال عزّ وجلّ :( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )(2).

وقال تعالى :( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )(3).

وقال سبحانه: ﴿سيجعل الله بعد عسر بعد عسر يسرا )(4).

وقال سبحانه: ﴿فإن مع العسر يسرا )(5).

وقال عزّ وجلّ : (إنّ مع العسر يسرا )(6).

فرسول الله صلی عانى ما عانى من كثير المشاكل وعظيم العقبات ودسائس الأعداء وصعوبة العيش وفقر المسلمين ومختلف العواصف والصعاب حتّى قال صلی الله علیه و آله ( ما أُوذي نبي مثل ما أُوذيت) (7) ، وكلّ ذلك كان عسراً شديداً، لكن نزلت عليه الآيات

ص: 271


1- سورة البقرة : 25.
2- سورة البقرة : 185 .
3- سورة البقرة : 280 .
4- سورة الطلاق : 7.
5- سورة الانشراح : 5 .
6- سورة الانشراح : 6 .
7- بحار الأنوار: ج 39 ص 56 ب 73 تاريخ أمير المؤمنين علیه السلام ح 15 ، ط طهران.

الكريمة من الله عزّ وجلّ لتبشّره بقرب الفرج .. وزوال العسر والشدّة والضيق .. قال تعالى: ﴿فإنّ مع العسر يسرا ، إنّ مع العسر يسرا)(1).

فنزلت هذه الآيات والمسلمون في أقصى درجات العسر و الضيق والشدّة، وجاء الوحي من السماء ليبشِّر النبي صلی الله علیه و آله بالبشارة الإلهية والوعد الربّاني ويقول له : إنّ الحال لا يبقى هكذا ، ودسائس الأعداء لا تستمرّ وفقر المسلمين لا يدوم .. بل من ورائه فرج ومخرج.

فكشفت هذه الآيات للمسلمين المستقبل الزاهر وأعطت درساً لجميع الأجيال : بأنّ من قاوم الصعاب سوف ينال يوماً ثمار جهوده، وستؤول أُموره إلى يسر وخير .. فكانت الآيات المباركة وعداً إلهياً يغمر القلب نوراً وصفاء .. تقول الروايات : فخرج النبي صلی الله علیه و آله ضاحكاً مبتسماً وهو يقول: (لا يغلب عسر يسرين) (2) .

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ المستفاد من الآية الكريمة هو درس تربوي عام لا يختصّ بشخص النبي صلی الله علیه وآله ولا بزمانه ، بل يعمّ الجميع وفي كلّ زمان ومكان .. فهو قاعدة كونية وسنّة من سنن الحياة .

وهذه القاعدة بشارة لكلّ المؤمنين المتّقين والمخلصين الكادحين من أجل لقاء الله .. بل لكلّ الناس لكلّ من يعمل فإنّه سينال من بعد العسر يسراً ..

فالآية المباركة تريد أن تؤسّس مفهوماً واقعيّاً مبنيّاً على البشارة والإخبار بالثمرة التي لا تنال إلّا بالعمل الجاد، فتصرّح بأنّ كلّ عسر إلى جانبه يسر ..

ومن هنا لم ترد في الآية كلمة (بعد) بل جاءت كلمة (مع) للدلالة على الاقتران . نعم.. كلّ معضلة ممزوجة بالانفراج، وكلّ صعوبة ستؤول إلى اليسر .. والاقتران قائم بين الأمرين، قال رسول الله صلی الله و علیه و آله : ( واعلم أنّ مع العسر يسراً وإنّ مع الصبر النصر وإنّ الفرج مع الكرب)(3).

ص: 272


1- سورة الانشراح : 5 و 6 .
2- الصافي : ج 5 ص 344 سورة الانشراح .
3- تفسير نور الثقلين : ج 5 ص 604 ح13 .

وروي أنّ امرأة شكت زوجها لأمير المؤمنين علیه السلام لعدم إنفاقه عليها وكان الزوج معسراً .. فأبى علیه السلام أن يسجن الزوج وقال للمرأة : (إنّ مع العسر يسرا) (1) .

فكلّ عسر إلى جنبه يسر ولكن لا ينال ذلك إلّا بالعمل والكدح والصبر ، لأنّ من أراد الورود لابدّ أن يتحمّل أذى الأشواك كما قالوا ، ومن يريد العسل لابدّ أن يتحمّل أذى لسع النحل ، كما في معنى البيت التالي حيث يخاطب الشاعر نفسه قائلاً:

تريدين إدراك المعالي رخيصة ***ولابدّ دون الشهد من إبر النحل

هذا بالنسبة للمؤمنين ... فإنّهم يحصدون من أُمورهم اليسر ولو في الخواتم ، قال عزّ وجلّ : (والعاقبة للمتّقين )(2).

أمّا الكافرون فهم لا يحصلون من عملهم وكسبهم إلّا العسر ، قال تعالى : (يقول الكافرون هذا يوم عسير) (3)

والخلاصة أنّ الحياة ممزوجة بالمشاكل والمرارات كما يقول الشاعر :

كلّ من تلقاه يشكو ألماً ***ليت شعري هذه الدُّنيا لمن

وقال آخر في ذلك :

حلاوتها ممزوجة بمرارة ***وراحتها مقرونة بعناء

ولكن مرّة لك ومرّة عليك ، لذا على الإنسان أن يطلب من ربه أن يحول حاله من العسر إلى اليسر ، ومن العناء إلى الراحة .. في الدُّنيا والآخرة.

ص: 273


1- تفسير نور الثقلين : ج 5 ص 604 ح 11.
2- سورة الأعراف: 128.
3- سورة القمر : 8.

قبول المعاذير

ثمّ يقول الداعي( واقبل معاذيري ، وحطّ عنّي الذنب والوزر).

فما معنى المعاذير؟

المعاذير : هي جمع معذرة ، وهي ذكر الموانع التي تقطع الفعل المطلوب ..

وقد يكون المقصود هنا : أنّ الإنسان ذو بصيرة على نفسه ولو جادل واعتذر بالمعاذير غير المقبولة لِصَرْف العذاب عنه، فيسأل الباري أن يقبل تلك المعاذير .

وقيل المعاذير : جمع معذار وهو الستر .. والمعنى إسدال الستور ليخفى ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه .

وربما كان مآل الوجهين واحداً .. كما ينقل السيّد الطباطبائي في الميزان (1) ، إلّا أنّ الأوجه هو المعنى الأوّل ..

وحقيقة الأمر أنّ الإنسان مهما أعطى من أعذار عن تقصيره أو قصوره في أداء الواجبات والطاعات .. فالله تعالى يعلم بحقيقة حاله وهل أنّه صادق أم لا؟

هذا من ناحية .. والناحية الأُخرى كما تقول الآية الكريمة في سورة القيامة :( بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ) (2) .

وسياق هذه الآية ربما أشارت إلى نفس سياق الآيات التي تدلّ على شهادة الأعضاء على أعمال الإنسان في يوم القيامة ، قال تعالى : (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ) .(3)

ص: 274


1- راجع الميزان : ج 20 ص 107 .
2- سورة القيامة : 14 و 15 .
3- سورة فصلت : 20.

وكذلك في قوله تعالى : (وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) (1) .

وعلى هذا فالإنسان هو أفضل شاهد على نفسه يوم القيامة في تلك المحكمة الإلهية وإن كان الله تعالى قد جعل شهوداً أُخرى لإتمام الحجّة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام في دعاء كميل : (اللّهمَّ فاقبل عذري وارحم شدّة ضرّي وفكّني من شدّ وثاقي) (2) .

وحقيقة قبول المعاذير تحتاج إلى عناية ربّانية عظيمة لا ينالها إلّا أصحاب السرائر الصادقة النظيفة من الدرن والهوى! يقول الإمام الصادق علیه السلام : (ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً ويسرّ سيّئاً ، أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك ، والله سبحانه يقول : (بل الإنسان على نفسه بصيرة ) (3) إنّ السريرة إذا صَلُحَت قويت العلانية) (4) .

فإذاً العذر لا يُقبل إلّا بصدق السريرة وصحّة القول .. وعندئذٍ يرتقي العذر إلى مستوى القبول عند الله تعالى ..

ولكن (إذا كان العذر عند كرام الناس مقبول) - كما يقال - فكيف لا يقبل الله تعالى عذر عبيده وهو أكرم الناس!.

ص: 275


1- سورة يس : 65 .
2- مفاتيح الجنان : دعاء كميل .
3- سورة القيامة : 14 .
4- مجمع البيان : ج 10 ص 396.

الوزر ومعناه

بعد ذلك يطلب الداعي من الله تعالى أن يحطّ عنه الذنب والوزر فيقول: (وحطّ عنّي الذنب والوزر)..

ومعنى الذنب واضح ، فما هو معنى الوزر؟

الوزر من وزر، يزر: حمل ما يثقل الظهر..

وزر : أثم .. وقع في الخطيئة.

فالوزر الذي يريد الداعي من الله تعالى أن يحطّه عنه هل هو الحمل الثقيل !! أم الإثم والذنب العظيم!!

الوزر هنا استعمل في المعنى المطلق الذي يجمع بين المعنيين وهو الذنب الذي يكون ثقلاً على الإنسان .

ويشير القرآن الكريم إلى كلا المعنيين بقوله تعالى : ( ووضعنا عنك وزرك ﴾ (1)

فالوزر هنا بمعنى الثقل ، ومنها الوزير الذي يحمل أعباء الدولة وأثقالها، وهكذا الذنوب التي تثقل كاهل صاحبها.

وأمّا الآية الآنفة التي تخاطب رسول الله صلی الله علیه و آله فالمراد بها مشاكل الرسالة وأعباء النبوّة .. فإنّها حمل كبير وثقل عظيم .. لأنّ التكليف بتلك الرسالة الخالدة وتطهير المجتمع من الفساد المتجذِّر كله حمل ثقيل ومسؤولية عظيمة.

وقيل في تفسير الآية أيضاً : ثقل الوحي في بداية نزوله .. وأيّاً كان القول، فالوزر هنا الحمل الثقيل الذي تعهّد الله تعالى بوضعه وحطّه عن نبيّه الكريم صلی الله علیه و آله أي تسديده في ذلك .

ص: 276


1- سورة الانشراح : 2 .

ومن المعلوم أنّ حطّ الوزر الذي يطلبه الداعي في هذا الدعاء الوارد في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك .. لا يكون إلّا بالعمل الصالح والتقوى وتطهير النفس من الهوى ..

وهذا كلام عام يدفع الإنسان نحو ترك المعاصي والذنوب.. والعمل بالإنابة وطلب المغفرة حتّى ينحط عنه الوزر ..

وكثير من الآيات تشير إلى مواضيع ترتبط بالوزر الفردي أو الاجتماعي ، منها قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (1) .

فالآيات القرآنية بمعانيها الواضحة تبين أصلين مهمّين من الأصول المنطقية المسلّم بها والتي تعمل بها جميع الشرائع السماوية ويقرّ بها كافة العقلاء وهي :

1 . مبدأ (أنّ ليس للإنسان إلّا ما سعى).

2-ومبدأ ( لا تزر وازرة وزر أخرى).

فعمل كلّ إنسان يعود إلى نفسه خيراً أو شرّاً.. ولا يحمل أحد وزر غيره ولا يعاقب بذنب غيره .. إلّا أنّ البعض قد يتوهّم بأن ما ذكرناه لا ينجسم مع ظاهر بعض الآيات الأخرى ولا يتوافق مع ظاهر جملة من الروايات الواردة ، كما في قوله تعالى :

(ليحملوا أوزارهم كاملة القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (2) .

فإذا لم يحمل أحد وزر أحد فكيف يحمل هؤلاء المضلّون وزر الضالين؟

كذلك كثير من الأحاديث المرتبطة ب- (سنّ السنّة الحسنة) أو (سنّ السنّة السيّئة)

المروية من طرق الشيعة والسنّة ، كما ورد :( إنّ من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، وكذلك من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من دون أن ينقص من وزر العامل شيء) (3) ، ألا يتنافى هذا مع ما ذكرناه؟

وللإجابة على ذلك نقول : إنّ بعد التأمل في ما سبق من الآيات يتبيّن الانسجام

ص: 277


1- سورة الأنعام : 164 .
2- سورة النحل : 25 .
3- راجع الصراط المستقيم : ج 3 ص 80، وثواب الأعمال : ص 132 باب ثواب من سنّ سنّة هدى. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ص 145.

الكامل والارتباط المطلق بين هاتين الفئتين : فالآيات الآنفة تقول : لا يحمل أحد وزر أحد من دون سبب .. والآيات والروايات الأخرى تقول إذا كان الإنسان مؤسساً لعمل صالح أو عمل سيء وعمل وفقه الآخرون، أي كان له التسبيب والدلالة في قيام الآخرين باتّباع عمله، وكان له تأثير في وقوعه فإنّه - وهذا ممّا لا شك فيه عند العقلاء - شريك بنسبة أو بأخرى في النتائج والعواقب والآثار المترتّبة على ما سنّه من عمل .. وذلك لأنّ حقيقة ما حدث هو عمله وفعله فلا مناص من تحمّل التبعات والنتائج .. إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر .. لأنّه أسس ووضع الأساس الذي قام عليه العمل !!

أمّا تلك الآيات والروايات التي تقول: (ولا تزر وازرة وزر أُخرى )تعني الأعمال التي تخصّ كلّ إنسان ونفسه ولم تكن منهجاً يعمل عليه الآخرون.. فليس بين المجموعتين تناف بل كلّ مجموعة تتحدّث عن موضوع ، وإن كان بينهما بعض الارتباط .

وهكذا تكون الأعمال الصالحة التي تهدى إلى الأموات ، بل حتّى إلى الأحياء أحياناً .. فينتفع بهذه الأعمال المُهدي والمُهدى إليه معاً، وقد تواترت الروايات عن النبي صلی الله علیه و آله و أهل البيت مؤكّدة على نفع تلك الأعمال .. وهذا ينطبق على الجميع فلا يخصّ بعمل الولد لوالديه فقط بل يتعدّاه إلى كلّ عمل مهدى ثوابه للآخرين.

قال الإمام الصادق علیه السلام :( ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له) (1) .

نعم هناك روايات كثيرة عن أهل البيت علیه السلام تؤكّد على برّ الوالدين بعد وفاتهما وقضاء ديونهما المالية والعبادية .. والقيام بجميع المبرّات وإسداء الخيرات لهما .

قال الإمام الباقر علیه السلام : (إنّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما ، ثمّ يموتان فلا

ص: 278


1- الوافي : ج 3 ص 95 عن الكافي والتهذيب.

يقضي عنهما ديونهما ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقاً) (1) .

ولكن يجب أن يعلم بأنّ المثوبات التي تصل إلى الميّت بسبب المبرّات التي يعملها أقرباؤه وأصدقاؤه بعد الموت ، كلّ ذلك تأتي لتكمل حسناته وتزيد من خيراته ، كما تعتبر من طرق حطّ أوزاره ، وهذا كلّه من لطف الله تعالى ولرأفته سبحانه بعباده الصالحين .. ومن هنا ينهي الداعي دعاءه في هذا اليوم بقوله : ( يارؤوفاً بعباده الصالحين).

الرؤوف الرحيم

الرؤوف : من رأف أي رحم وهو أشدّ الرحمة، والرؤوف : اسم من الأسماء الحسنى التي سمّى بها الله تعالى نفسه، أي كتب على نفسه الرحمة فهو يرحم العباد الصالحين .

ولكن من هم الصالحون؟

يقول الإمام زين العابدين علیه السلام في دعائه : ( واجعلنا من عبادك الصالحين)(2).

فالصالحون هم المؤمنون المتّقون الذين لا يعملون إلّا بما يرضي الله تعالى .. كما في قوله تعالى : (قد أفلح المؤمنون * والذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون *والذين هم لفروجهم حافظون* إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلاتهم يحافظون ) (3)

ص: 279


1- الوافي : ج 3 ص 93 عن الكافي ج 2 ص 163 باب البرّ بالوالدين ح 21 .
2- الصحيفة السجادية : دعاؤه إذا دخل شهر رمضان.
3- سورة (المؤمنون): 1- 9.

وتجمع تلك الصفات المذكورة في الآيات الكريمة صفات الصلاح .. ومن فسّروا الصالح بأنّه القائم بما يلزمه من حقوق الله سبحانه وحقوق الناس.. وواضح أنّ الذي يؤدّي ما عليه من الحقوق والواجبات يكون أهلاً للتنعّم بالرأفة والرحمة من الله تعالى ...

وهنا التفاتة ينبغي لنا أن نتوجّه إليها من خلال فقرات هذا الدعاء المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وهى أنّ الإنسان قد لا يقبل عذر من أساء إليه .. إلّا أنّ الله سبحانه لو أتاه العبد مسيّئاً مذنباً حتّى بعد عصيان دام كلّ عمره فإنّه سبحانه يقبل عذره ويعفو عن خطيئته لو دعاه بكلمات من عمق قلبه وناجاه من واقع ضميره:

( واقبل معاذيري وحطّ عنّي الذنب والوزر ) فيا له سبحانه من عفو حليم وكريم رحيم .. يا رؤوفاً بعباده الصالحين).

ص: 280

الإیمان علم و عبادة

28

دعاء اليوم الثامن والعشرين

اشارة

اللهُم وَفُرْ حَظَى فِيهِ مِنَ النَّوافِل، وَأَكْرِمْني فِيهِ بِإِحْضَارِ الْمَسَائِلِ ، وَقَرِّبْ فِيهِ وَسيلَتِي إِلَيْكَ مِنْ بَيْنِ الْوَسَائِلِ،

يا مَنْ لا يَشْغَلُهُ الْحَاحُ الْمُلِحينَ.

البلد الأمين : ص 221 ، عن النبي صلی الله علیه و آله : ( من دعا به فكأنّما أطعم كلّ جائع ، وأروى : (من كلّ عطشان، وأكسى كلّ مؤمن ومؤمنة كانوا في الدُّنيا).

ص: 281

ص: 282

العبادة حاجة فطرية

يولد الإنسان وفطرته تدعوه إلى الإيمان .. ففطرته التي خلقها الله نقيّة طاهرة خالية من الشوائب، ولكن ما أن يخوض عباب الحياة المتلاطم بالفتن والمزالق حتّى يبدأ الانحراف ويجرّ نفسه وفطرته ويحرفها عن المسار الذي رسمه الله تعالى له ، قال سبحانه: ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها )(1).

وممّا تقتضيه الفطرة السليمة : العبادة للرب عزّوجلّ، ومنذ نزول آدم علیه السلام إلى يومنا هذا لم يترك شعب من الشعوب أو أُمّة من الأمم العبادة .. فلكلّ أُمّة طريقة خاصّة يتعبّدون بها القوّة المطلقة التي في اعتقادهم أنّها أصل الوجود ومنبع الحياة ..

نعم البشرية عموماً قد تختلف بعضها مع بعض في تحديد المعبود وأنّه من هو الخالق والقوّة المطلقة التي يرجع إليها كلّ شيء، فبعض يسوقه الجهل أو الانحراف فيتصوّر أنّها الشمس .. وبعض القمر .. وبعض الكواكب والنجوم ولذا يقومون بعبادتها .. كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قصّة إبراهيم علیه السلام ..

كما أنّ البعض يتصوّر أنّ الخالق هو النار فيعبدها ويغفل عن خالق السماوات والأرض تبارك وتعالى وهكذا..

إذاً لكلّ أُمّة عبادة خاصّة ومعبود خاص .. إلّا أنّ الأُمّة التي تتبع الأنبياء ورسالات السماوات تتوجّه إلى المعبود الحقيقي الذي أعطى كلّ شيء خلقه .. وعلى خلاف بعض الأمم التي تعيش في الخرافة والجهل فتنحرف عن الخالق الحقيقي فتجعل لها آلهة ما أنزل الله بها من سلطان .

فروح الإنسان وفطرته تبحث عن العبادة الحقيقية ومن هنا جاءت النبوّة

ص: 283


1- سورة الروم : 30.

كمخلص وأمل المؤمنين ، وينمو المجتمع الإيماني في ظّل الفضيلة الربّانية، وهكذا تنشأ المعابد والمساجد ومجالس الوعظ للبحث عن المعارف الإلهية، وفي الأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت علیه السلام ما يدلَ على أنّ العبادة هي المطلب الأساس في كلّ الديانات السماوية، وهي معرفة الله سبحانه وتعالى ومعرفة الأحكام والسنن والقوانين والثواب والعقاب كنتيجتين لعمل هذا الإنسان في هذه الدُّنيا، قال تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون )(1) .

وفي ما يروى عن عيسى بن مريم علیه السلام ، قال الحواريون لعيسى : يا روح الله مَن نجالس؟ قال : (من يذكركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغَبكم في الآخرة عمله) (2) .

فتحصّل ممّا سبق أنّ الإنسان يولد على الفطرة متوجّهاً إلى بارئه عزّ وجلّ إلى أن تبتدئ رحلته التربوية، فيأتي هنا دور المجتمع والوالدين ليقوّماه على فطرته أو ليحرفاه عن دينه الأصلي بالفطرة كما قال صلی الله علیه و آله : ( كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه) (3) .

كما يأتى فى مسألة العبادة ومعرفة المعبود دور الحاكم الداخلي للإنسان، وهو عقله .. إذ يحثّه نحو البحث والتقصّي حتّى يصل إلى الحقيقة ..

وكم من المفكِّرين والمنظّرين لمذاهب الإلحاد والشرك الذين وصلوا إلى مراحل عالية وأصبحوا أعلاماً لهذه المذاهب الباطلة .. ولكن عندما رجعوا إلى أنفسهم اكتشفوا خطأهم ووصلوا إلى نتائج أدّت بهم إلى سلوك مذهب الإيمان فكراً وعقيدة (4) ، والأمثلة على ذلك عديدة في طول التاريخ ولا مجال لذكرها .

ص: 284


1- سورة الذاريات : 56 .
2- الكافي : ج 1 ص 39 کتاب فضل العلم، باب مجالسة العلماء ح3.
3- سفينة البحار : ج 7 ص 115 فطرة الله .
4- من أمثال (روجيه غارودي )المفكِّر الفرنسي والفيلسوف الذي أمضى دهراً في ظلمات الشيوعية وتبوّأ أعلى المناصب في سلّم الحزب الشيوعي الفرنسي ، إلّا أنّه استطاع بتفكيره والرجوع إلى عقله وربما فطرته أن يثور على ذاته ويواصل البحث لسنين عديدة حتّى يتراجع ويؤمن بالإسلام ويدافع عنه .

وجهان لحقيقة واحدة

العبادة لها وجهان : وجه سلبي وآخر إيجابي.

أمّا الوجه الإيجابي : فقد عرّفه البعض بأنّه العمل الذي يؤدّي إلى التقرّب إلى الله .. وكذلك اختصاص العبادة بالخالق جلّ وعلا.

أمّا الوجه السلبي : ففسّره البعض بترك العمل لغير الله سبحانه ، بمعنى نفي كلّ إله آخر سوى الله تعالى . فنقول: (لا إله إلا الله)، فكلمة التوحيد هذه تحمل الوجهين فتلغي الإلوهية بشكل مطلق عن كلّ ما سوى الله وتثبتها الله عزّ وجلّ فقط .

وللعبادة تأثيرات إيجابية كبيرة على شخصية المؤمن في سيره نحو الكمال الإنساني إذا أدّاها حقّها ، أمّا إذا أخذ يتعبّد وينزوي في أحد أركان المسجد ويسبِّح ويهلّل قائماً أو قاعداً من غير أن يدخل إلى معترك الحياة الحقيقي، فربما لا يجد ذلك التأثير الواضح على نفسه ووضعه لأنّه لم يلتفت إلى مختلف الجوانب التي تعطي للعبادة آثارها .. إذ أنّ العبادة لو روعيت آدابها وشرائطها فإنّها ستنعكس أماراتها وآثارها على حياة الإنسان وتصرفاته ..

ولنا في أئمّة أهل البيت علیه السلام القدوة الحسنة الرائعة في العبادة كما هو شأنهم في الكمالات الإنسانية الأخرى .. فهذا الإمام أمير المؤمنين علیه السلام لا يقتل عمرو بن عبد ودّ مع تمكّنه منه ويتركه لأنّ الأخير اعتدى على الإمام أمير المؤمنين علیه السلام فمشى الإمام علیه السلام خطوات ثمّ عادة مرّة أُخرى وقتله ثأراً الله لا لنفسه لأنه لا يريد إلّا القربة إلى الله تعالى وعبادة الله وحده . وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله في علي علیه السلام : (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)(1).

و قال الله صلی الله علیه و آله : ( ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين)(2).

ص: 285


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 13 ص 261، وأيضاً ج 19 ص 61.
2- راجع الإقبال : ص 467 .

إخفاء العبادة أم إظهارها؟

وردت في بعض الأحاديث الشريفة عن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و أئمّة أهل البيت علیه السلام

ذمّ التظاهر بالعبادة وبالخصوص النوافل ، فعن الإمام الرضا علیه السلام قال : (من شهر نفسه بالعبادة فاتّهموه على دينه فإنّ الله عزّ وجلّ يبغض شهرة العبادة وشهرة اللباس )(1).

كما روي عن الإمام الصادق علیه السلام في رواية المفضل بن صالح قال : قال لي مولاي الصادق علیه السلام : ( يا مفضّل إنّ الله تعالى عباداً عاملوه بخالص من سرّه فقابلهم بخالص من برّه ، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فارغةً فإذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه ، فقلت : وكيف ذاك يا مولاي ؟ فقال : أجلّهم أن تطّلع الحفظة على ما بينه وبينهم) (2).

فمن الممكن أحياناً أنّ الملائكة الموكّلين بسجّلات العبد أيضاً لا يرون أعماله العبادية كرامة له ، لأنّه أراد إخفاءها عن كلّ أحد سوى الله فيأتي يوم القيامة ليفاجئ المحشر بكثير أعماله .. ويكون هذا في قبال الرياء والسمعة فإنّ الله تعالى قد أعطى الضمانات المادّية والمعنوية لكلّ من يعمل خالصاً لوجهه الكريم.. وهو القائل عزّ من قائل: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب)(3).

هذا بالنسبة إلى إخفاء الأعمال الصالحة ، ولكن قد نرى بعض العبادات من المحبّذ إظهارها والإتيان بها أمام الناس ، طبعاً الإظهار لا يعني الرياء كما هو واضح، فمثلاً صلاة الجماعة هي عبادة لها مظهر وتكون أمام الناس وفي الملأ العام وقد ورد في فضلها الكثير من الروايات .. وهكذا صلاة العيدين وصلاة الجمعة وما أشبه، وكذلك كثير من المواكب الدينية والحسينية فإنّ إظهارها هو المستحسن .

فتحصّل أنّ هناك من العبادات إخفاؤها أفضل من إظهارها وهناك العكس ، وكلّ ذلك يختلف عن الرياء اختلافاً بيّناً.

ص: 286


1- بحار الأنوار: ج 67 ص 252 كتاب الايمان والكفر باب العبادة ح 5 ، باب 55 ، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 67 ص 252 كتاب الايمان والكفر باب العبادة ح7، باب 55 ، ط بيروت.
3- سورة الطلاق : 2 و 3.

توقيفيةّ العبادة

ومن الثابت في علم الكلام والفقه : أنّ العبادات توقيفية، إذ لا يصحّ للإنسان أن يعبد الله سبحانه بأي طريقة يريدها أو يتصوّرها من دون الرجوع إلى الشريعة ..

إذ أنّ العبادة تعدّ نوعاً من شكر المنعم وامتثال أوامره الذي هو من الواجبات العقلية، ومعلوم أنّ شكر المنعم وامتثال الأوامر لا يتمّ بأي طريق كان ، وإنّما يصحّ الشكر وامتثال الأمر عبر الطرير الذي يحبّه ويريده المشكور والمولى وإلّا كان نقضاً للغرض ، لذا كان لابدّ من التوقيفية في عبادة الله سبحانه على الطرق التي حدّدتها الشريعة سواء في الواجبات أو المستحبّات ..

ولا يجوز للناس أن يؤسِّسوا طرق التعبّد كما كان يحدث ذلك أحياناً في التاريخ ، فقد روي أنه : (لمّا كان أمير المؤمنين علیه السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا : اجعل لنا إماماً منّا في رمضان - يقصدون به صلاة التراويح - فقال : لا ، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أمسوا جعلوا يقولون : ابكوا في رمضان، وارمضاناه ، فأتاه الحارث الأعور في أُناس فقال : يا أمير المؤمنين ضجِّ الناس وكرهوا قولك ، فقال عند ذلك : دعوهم وما يريدون ليصلّي بهم من شاؤوا ، ثمّ قال : (ومن يشاقق الرسول من بعدما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرا (1) )(2).

وجاء في موسوعة البحار عن العالم علیه السلام - أي الإمام الكاظم علیه السلام - قال : ( قيام - أي قيام صلاة التراويح - شهر رمضان بدعة وصيامه مفروض ، فقلت : كيف أُصلّي في شهر رمضان؟ فقال : عشر ركعات، والوتر والركعتان قبل الفجر ، كذلك كان يصلّي رسول الله صلی الله علیه و آله ولو كان خيراً لم يتركه) (3) .

وعن سليم بن قيس الهلالي قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام : (قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلی الله علیه و آله متعمّدين لخلافه، ولو حملت الناس على تركها

ص: 287


1- سورة النساء : 115.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص 385 باب 51 نوافل شهر رمضان ح 5 ، ط بیروت.
3- بحار الأنوار: ج 93 ص 385 ح 3، ط بیروت.

لتفرّقوا عنّي ، وساق الخطبة الطويلة إلى أن قال : والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيّرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري، ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار ) (1) الخبر .

بين النافلة والفرض

أكدت الروايات الشريفة على الفروض والواجبات ، كما جعلت النوافل من العبادات لعدة أسباب، منها : التقرّب الأكثر الله عزّ وجلّ، ومنها : أنها مكملة للنقص الذي ربما يحصل في أداء الفرض.

وإذا ما زاحمت النافلة الفريضة فتترك النافلة ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : (إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها) (2) .

وقال علیه السلام : (لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض) (3).

والنوافل يؤدّيها الإنسان المؤمن رغبة في استزادة الثواب على عكس الواجب الذي في تركه عقاب ويترتب عليه في بعضها كفارات وقضاء بينما النافلة يأتي بها عندما يكون قلبه مستقبلاً لنفحات الإيمان، فقد روي عن النبي صلی الله علیه وسلم أنه قال : ( فإن الله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) (4) .

إلّا أنّ بعض النوافل من السمو بحيث يصل ثوابها إلى درجة عظيمة .. كنافلة الليل ، فهي النفحة الإيمانية وهي شرف المؤمن إلى آخر ما ذكر في فضلها .

وعلى المسلم المؤمن أن يستغل لحظات السموّ الروحي والتي تأتي غالباً في ساعات الليل الأخيرة، وقد ورد في الحديث الشريف المروي عن النبي صلی الله علیه وسلم :

ص: 288


1- بحار الأنوار: ج 93 ص 385 کتاب الصوم باب 51 نوافل شهر رمضان ح 1، ط بیروت.
2- نهج البلاغة : الحكمة .279
3- غرر الحكم ص 177 ح 3381 .
4- كنز العمال : ج 7 ص 769 ب 6 صلاة النوافل ح 21325.

(إنّ لربّكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا له لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبداً) (1) .

وقال تعالى في محكم كتابه العزيز : (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) (2) .

وجاء في الحديث الشريف: (استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل ) (3) .

بمعنى ناموا القيلولة، لتتمكنوا من أداء صلاة الليل في السحر .

وعن أبي عبدالله قال : (صلاة الليل تبيض الوجه ، وصلاة الليل تطيب الروح ،

وصلاة الليل تجلب الرزق ) (4) .

وعن الإمام الصادق علیه السلام : (لا تدع قيام الليل ، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل)(5).

وعن أبي عبد الله قال : (عليكم بصلاة الليل فإنّها سنة نبيكم ودأب الصالحين

قبلكم ومطردة الداء عن أجسادكم) (6) .

والكرامة الكبيرة التي خصّ الله تعالى بها شهر رمضان بأن جعل فيه الكثير من النوافل والصلوات المستحبّة، فجعله واحة للنوافل النهارية والليلية، ومن هنا يدعو المؤمن ويبتهل إلى الله تعالى في أن يوفر حظه ويكرمه بالقيام بنوافل شهر رمضان المضاعفة الأجر والثواب بقوله : (اللهم وفّر حظي فيه من النوافل).

وربما يقال : إنّ كلمة (النوافل ) هنا عامة لا تختص بالصلوات المستحبة، فإنّها جمع محلّى باللام ، وهو يفيد العموم كما يقوله الأصوليون، لذا قد تشمل أكثر الأعمال المستحبة في هذا الشهر المبارك ، فالأعمال الصالحة والأدعية المأثورة وما أشبه تكون من ضمنها أيضاً ، نعم المصداق الأظهر هو الصلوات المستحبة كما لا يخفى . وهناك نوافل كثيرة في مختلف أيّام السنة ، ومن النوافل المؤكدة إحياء ذكرى أهل

ص: 289


1- كنز العمّال : ج 7 ص 769 ب 6 صلاة النوافل 21324.
2- سورة الإسراء : 79.
3- کنز العمال : ج 7 ص 803 ب 6 ح 21484 .
4- علل الشرائع : ص 363 ب 84.
5- علل الشرائع : ص 363 ب 84.
6- علل الشرائع : ص 362 ب 84.

البيت علیهم السلام في مواليدهم ، ووفياتهم ، وخاصة الشعائر الحسينية بمختلف أنواعها الاسلام وأشكالها في أيام محرم وصفر ..

كما أن هناك أدعية لمختلف الأيام والأوقات..

وهناك الصوم المندوب في رجب وشعبان وغيرها من الأوقات التي وردت في الكتب المختصّة ...

وليوم الجمعة أوراده الخاصة وصلواته وأدعيته ..

وتضمّ كتب الأدعية كمّاً هائلاً من هذه الأعمال .. وهي لكلّ يوم .. بل لكلّ ساعة من النهار والليل .. وكلّها مروية عن رسول الله صلی الله علیه وسلم وأهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام .

بينما يضمّ شهر رمضان الحظ الأوفر لذلك، فعبادة الصوم هي الحاوية للفضائل العديدة، وشهر رمضان موسم التعبّد والعبادات وهو شهر التفرغ لله تعالى .. شهر التقرب إليه، ولأنّ عبادة الصوم تمنح النفس الإنسانية الصفاء والذي بدوره يهيى الأرضية الخصبة للتنفّل والتعبد ..

وقد اعتاد المسلمون أن يختموا القرآن خلال هذا الشهر مرة أو مرتين أو أكثر ويتسارعون في ذلك .. لما لهذه القراءة من ثواب عظيم يفوق قراءته في أوقات أُخرى بأضعاف مضاعفة ، لذا ينبغي أن يستثمر العبد هذا الشهر العظيم ويزيد من نوافله تقرباً إلى الله سبحانه ..

قال الشاعر :

فطوبى لمن أرضى الإله مسارعاً***إلى سُبل تهديه للرحلة الأُخرى

وقام وصلّى في الدياجي ودمعه***على خدّه يجري بمقلته العبرا

وأخلص الله العظيم قيامه***وعاهده سرّاً وراقبه جهرا (1)

ص: 290


1- حديث رمضان: 240 .

إحضار المسائل

وفي الفقرة الثانية من الدعاء الشريف الوارد في اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك يقول المؤمن : ( واكرمني فيه بإحضار المسائل).

فما هي المسائل التي يطلب المؤمن إحضارها ؟

ولماذا يطلب ذلك؟

الذي يبدو أن المسائل لها عدة معان عالية ، منها :

مسائل الحلال والحرام

1: إحضار مسائل الحلال والحرام، لأن شهر رمضان شهر العبادة والورع ع--ن محارم الله ، وهذا يتوقف على أن يتعرّف الإنسان ويستحضر مسائله وأحكامه حتى يندفع نحو الواجب والمستحب بالشكل المطلوب وليتجنّب عن الحرام والمكروه، لذا يسأل العبد أن يكرمه الله بإحضار المسائل ليحقق بعض أهداف الصوم ويتوصل إلى بعض كمالاته .

المسائل الاعتقادية

2: إحضار الأمور العقائدية التي يُسأل عنها العبد بعد الموت ، إذ يسأله الملكان عن ربه وعن نبيه وعن كتابه وعن إمامه و ..

ومن الواضح أنه إذا أراد المؤمن أن يستحضر هذه المسائل يتوقف ذلك على مقدمات ، فتدفع الإنسان نحو العلم والعمل الصالح وتحقيق بعض مستحبّات الصيام لأنّ الذي يستذكر أن وراءه موتاً وسؤالاً وجواباً سيسعى أكثر للتورع عن المحارم والالتزام بالطاعات والاجتناب عن المعاصي.

ص: 291

مسائل العلوم والمعارف

3 : إحضار مسائل العلوم والمعارف ، ولا يخفى على أحد أنّ الإسلام الحنيف أكد على العلم، ووضعه في مرتبة لم تضعه فيه أي رسالة أُخرى ، سماوية أو غير سماوية ..

فإنّ أوّل آية نزلت من القرآن الكريم قوله تعالى : (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (1) .

وهناك مجال واسع للتدبّر في هذه الآية فيعطينا المعنى الواسع لهذه الكلمات الكريمة اقتران العلم بالخلق.

كما أشارت الأحاديث النبوية إلى ضرورة الغلم بشكل لا يخفى على كل مسلم وغير مسلم، قال الرسول صلی الله علیه وسلم : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ) (2) .

و قال صلی الله علیه وسلم : (الطالبوا العلم ولو بالصين) (3) .

وهذه الأحاديث من بديهيات وأوليات المعرفة الإسلامية ، فأوّل ما يبتدئ الطفل المسلم أو الشاب المؤمن بتعلم المسائل الدينية فإنه يستهل دراسته بمثل هذه الأحاديث الشريفة .

كما أنّ الروايات المستفيضة الواردة عن أئمة أهل البيت تؤكد وبشكل جلي على أنّ العلم هو الطريق السالك لسعادة الدارين للوصول إلى معرفة الله تعالى ورحمته الواسعة والتي هي أُمّ العلوم وأُمّ المعارف

ومعلوم أنّ هناك بعض العلوم يعتبر تعلّمها في الجملة من الواجبات، وقد ذكر العلماء والفقهاء في كتب الفقه والكلام بعض ذلك، نعم يوجد بعض الاختلاف الجزئي في تعيين مصاديق العلوم الواجب تعلّمها، فطائفة تقتصر على علم الكلام والعقائد لأنه يبحث عن مبدأ العالم والخالق الأعظم وصفاته وأفعاله ، لذا هو مقدّم على كل علم وأصل كلّ علم .

وبعض يعتبر الفقه من العلوم الواجبة دراستها، فهو العلم الأساسي في التشريع

ص: 292


1- سورة العلق : 1 .
2- بحار الأنوار: ج 1 ص 177 کتاب العلم ح 54 ، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 1 ص 177 کتاب العلم ح 55 ، ط طهران.

والذي بموجبه يقترب الإنسان من ربه وينال به المرتبة المطلوبة، وذلك لأن الفقه يهتم بشؤون الإنسان من حيث الطاعة والمعصية، وغايته الفوز بسعادة الدنيا والآخرة وخاصة في يوم الجزاء برضوان الله وجنانه.. وبما أن السعادة هي الهدف للإنسان المؤمن ، إذا علم الفقه مقدّم على سائر العلوم بعد علم التوحيد.

وهناك من يهتم بعلوم الأخلاق لأنّها تنظم حياة الإنسان الاجتماعية والنفسية .. والإنسان إذا انتظمت أخلاقه وآدابه يكون أقرب إلى ربه ..

وهناك من يقول بأهمية غير ذلك ، ولكن الظاهر أن العلوم التي ينبغي لكلّ إنسان مؤمن أن يتعلّمها هي ما ذكرناه من العلوم الثلاثة بالخصوص فيجب معرفتها في الجملة .. فيتعلم ما يرتبط بعقائده من الإلهيات في علم الكلام، وما يرتبط بأعماله من مسائل الفقه ومسائل الأخلاق التي تنظم حياته ..

أما سائر العلوم فالظاهر أنّه يجب منها المقدار الذي يرتبط بأصل حياة الإنسان ويقوم عليه معاشه ومعاده في الجملة ، والظاهر أنّ الوجوب في هذه العلوم الأخيرة كفائي ، أما بعض مسائل العلوم الثلاثة المتقدمة فوجوبها عيني.

وقد ذكر المحقق النراقي رحمة الله في كتاب (جامع السعادات) بعض النقاط في فضل بعض العلوم وعلاقتها بالإنسان فقال : (سعادة النفس وخلاصها عن العذاب لا تحصل بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله وأحوال النشأة الآخرة، والعلم بذائل الأخلاق وشرائعها ، ثمّ تهذيب الباطن بفضائل الأخلاق وعمارة الظاهر بصوالح الطاعات والأعمال، فكل من يعلم بعض العلوم وترك ما هو المهم من العلم .. أعني معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات النفس التي هي الصفات المذمومة المانعة عن الوصول إلى الله .. وظنّ أنّه على خير كان مغروراً ، وإذا مات ملوّثاً بتلك الصفات كان محجوباً عن الله) (1) .

ومعلوم أن العلم بحاجة إلى عمل وإلا لم يحقق غرضه .. يقول أمير المؤمنين : (رب عالم قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه) (2) .

ص: 293


1- جامع السعادات : ج 3 ص 16 المقام الرابع أهل العلم.
2- ينابيع المودة : ص 279 المناقب السبعون في فضائل أهل البيت .

فضل العلم والعلماء

في الخبر المروي عن أبي محمد العسكري أنه اتصل به أنّ رجلاً من فقهاء شيعته كلّم بعض النصاب فأفحمه بحجته حتى أبان عن فضيحته ، فدخل على علي بن محمد الله وفي صدر مجلسه دست عظیم منصوب وهو قاعد خارج الدست، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه، فاشتدّ ذلك على أولئك الأشراف، فأما العلوية فأجلوه عن العتاب، وأما الهاشميون فقال له شيخهم يا ابن رسول الله هكذا تؤثر عامياً على سادات بني هاشم من الطالبين والعباسيين؟

فقال : (إياكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثمّ يتولّى فريق منهم وهم معرضون) (1) ، أترضون بكتاب الله عزّوجلّ حكماً؟

قالوا: بلى.

قال : أليس الله يقول : (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم) (2) ، إلى قوله : (والذين أوتوا العلم درجات) (3) ، فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن، أخبروني عنه؟

قال : (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (4) أو قال : يرفع

ص: 294


1- سورة آل عمران : 23 .
2- سورة المجادلة: 11.
3- سورة المجادلة : 11.
4- سورة المجادلة : 11 .

الله الذين أُتوا العلم شرف النسب درجات؟ أوليس قال الله : (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (1) . فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله؟ إن كسر هذا لفلان الناصب بحجج الله التي علمه إيَّاها لأفضل له من كل شرف في النسب) (2).

ولم يأت هذا التكريم من لدن الإمام لهذا الرجل العالم جزافاً وإنّما كان مستنداً إلى رسول الله وإلى القرآن الكريم الذي هو كلمة الله تعالى، فالله هو الذي رفع العلماء وأعزّهم، سيما العاملين منهم على وجه الخصوص، قال رسول الله : (من حفظ عنّي من أمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عز وجل والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً)(3).

والظاهر أن أكمل المصاديق لهذه الرواية هو المؤ من الحافظ لهذه الأحاديث الذي يعمل بها ، ولعلّ في كلمة (حفظ) إشارة إلى ذلك ، لأن من يتركها لم يحفظها.

وفي رواية عن جابر عن أبي جعفر قال : (يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم)(4).

والروايات في مدح العلماء ووجوب تكريمهم كثيرة ومتواترة، وقد أفرد العلماء لها مجلدات خاصة .. وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أهمية الع-ل-م ف-ي الدين الإسلامي الحنيف والذي يعتبره من الأولويات الضرورية لكل مسلم ومسلمة.

ص: 295


1- سورة الزمر : 9.
2- بحار الأنوار: ج 2 ص 13 - 14 كتاب العلم ح 25 ، ط طهران .
3- بحار الأنوار: ج 2 ص 154 كتاب العلم ح 5 ، ط طهران .
4- بحار الأنوار: ج 2 ص 172 کتاب العلم ح 1 ، ط طهران .

الوسيلة الأقرب إلى الله

ومن جملة ما يدعو به المؤمن ربه في هذا الشهر المبارك هو أن يُقرّب وسيلته إلى الله تعالى ويهديه إلى أقرب الوسائل حيث يقول: (وقرّب فيه وسيلتي إليك من بين الوسائل) ..

وقد قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ) (1) .

وجاء في «الميزان» في تفسير الآية: (والوسيلة على ما فسوه هي التوصل والتقرّب ، وربما استعملت بمعنی ما به التوصل والتقرّب) (2) .

وفي موضع آخر يقول : والتوسل إلى الله يكون ببعض المقربين إليه على ما في الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) وهذا غير ما يرومه المشركون من الوثنيين فإنّهم يتوسلون ويتقربون بالأصنام على سبيل العبادة والشرك، وهذا لا يجوز ، وأما التقرّب بالأولياء الصالحين وجعلهم شفعاء عند الله فمما لا شك في جوازه ورجحانه وقد دلّت الأدلة الكثيرة على ذلك.

ومن المعلوم أن الوسائل إلى الله سبحانه عديدة .. إلا أنّ أقرب وسيلة للوصول إلى رضاه سبحانه هم أهل البيت وفي الحديث الشريف: (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) (3).

وقد ورد في تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) (4) ، عن أبي سعيد الخدري أنه حينما سأل رسول الله له عن تفسيرها قال:

ص: 296


1- سورة المائدة : 35
2- راجع الميزان : ج 13 ص 130 .
3- ينابيع المودة : ص 370 باب الأحاديث الواردة في فضائل أهل البيت
4- سورة الرعد: 43 .

(ذاك أخي علي بن أبي طالب)(1).

وقد روي أيضاً عن أهل البيت عل هذا الحديث ، فعن الإمام الباقر قال : (هذه

الآية نزلت في على أنه عالم هذه الأمة)(2).

وتأسيساً على ما تقدّم فإن أهل البيت هم من أجلى مصاديق الوسيلة وأقربها إلى الله .. وبحبّهم يدخل المؤمنون الجنّة فكيف باتباعهم والسير على نهجهم و هداهم.. وفي الحديث المروي عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخبرني رسول الله الا الله أن أول من يدخل الجنة أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، قلت :

يارسول الله فمحبّونا؟ قال : من ورائنا) (3)

وإذا كان شأن حب آل البيت و منزلة محبّيهم هذه فإنّهم أقرب وأهم وسيلة إلى الله تعالى من بين الوسائل الأخرى من الطاعات والأعمال الصالحة .. لأن ولا يتهم اللا شرط في قبول الأعمال...

وشهر رمضان بعباداته و نوافله وبرامجه المختلفة كليالي القدر وذكرى شهادة أمير المؤمنين علي لا يكون من مظاهر إظهار المحبة والولاء لأهل البيت والتمسك بنهجهم، لأنّ المتمسك بنهجهم يتمسك بطريقهم في العبادة والدعاء والابتهال إلى الله سبحانه ، لينال بذلك خير الدنيا والآخرة .

نسأله سبحانه أن يجعلنا من المتمسكين بنهجهم والفائزين بمحبتهم إنه سميع الدعاء .

ص: 297


1- ينابيع المودة : ص 120 في تفسير بعض الآيات .
2- ينابيع المودة : ص 119 في تفسير بعض الآيات.
3- ينابيع المودة : ص 358 في تفسير بعض الآيات.

ص: 298

في رحاب الرحمة الإلهية

29

دعاء اليوم التاسع والعشرين

اشارة

اللهُمَّ غَنّنِي فِيهِ بِالرَّحْمَةِ، وَارْزُقْني فِيهِ التَّوْفِيقَ وَالْعِصْمَةَ وَطَهِّرْ قَلْبِي مِن غَيَاهِبِ النُّهْمَةِ يا رَحيماً بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.

البلد الأمين : ص 310 ، عن النبي صلی الله علیه وسلم : ( من دعا به جعل الله تعالى له في الجنّة نصيباً وافراً، لو قيس نصيبه بالدُّنيا لكان مثلها أربعين مرّة).

ص: 299

ص: 300

الرحمة فوق کلّ شيء

في الدعاء الشريف المروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك موضوعات هامة سنتطرّق إليها بإجمال :

فقد ورد في الاخبار أنّ رحمة الله تعالى هي النعمة الكبيرة التي تسير بفضلها حركة الكون والوجود، وبها تحيى الخلائق جميعاً، حتّى أنّ عمل الإنسان وكدحه في سبيل الله لا يكون إلّا بفضل رحمة الله الواسعة، ويفيض القرآن الكريم علينا بالآيات التي توضح أنّ رحمة الله هي الأمل الذي يثبّت به الأنبياء والأولياء وجميع عباد الله ..

ففي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى :

(لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم وأفنوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلا في جواري.. ولكن برحمتي فليثقوا، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنوا فإنّ رحمتي ذلك تدركهم، ومتى يبلغهم رضواني ومغفرتي تلبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك سمّيت) (1) .

وهذا الحديث القدسي يشير إلى واحد من أهمّ مفاتيح الرحمة الإلهية .. وهو حسن الظنّ بالله تبارك وتعالى، وقد ورد في بعض الأخبار أنّ حسن الظنّ بالله تعالى من أهمّ الصفات المؤدّية إلى رضاه عزّ وجلّ واستحقاق جنّته ..

على العكس من اتّكل على عمله فإنّه قد يوصله فهمه القاصر إلى اليأس والقنوط ، لأنّه يرى أنّ عمله لا يوصله إلى الجنّة ولو عبد الدهر كلّه ، أو أنّ له ذنوباً

ص: 301


1- كلمة الله : ص 38 ح 20 أنا الرحمن الرحيم

كبيرة ، فيجزم أنّها لن تغفر ، وهو حينئذٍ ينسى أنّ رحمة الله فوق كلّ شيء.. قال تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً. (1)

ولكن كلّما حسن ظنّ العبد بالله كان حريّاً بربّ العزّة أن لا يخيب ظنّه وهو القائل عزّ من قائل : (كتب على نفسه الرحمة ) (2) ، وهو الذي وصف ذاته المقدّسة بالرحمن الرحيم وابتدأ بهذه الصفات قرآنه الحكيم الذي هو الآخر رحمة من الله جلّت قدرته، قال تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )(3). فلا ينبغي للعبد أن ييأس من رحمة الله ويقنطع أمله في الملمّات والنوائب لأنّ رحمة الله قريبة ، وفرجه غير بعيد، وفي هذا ورد في الشعر المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين علیه السلام :

أتاك على قنوط منك غوتُ ***يمنّ به اللطيف المستجيب

وكلّ الحادثات إذا تناهت ***فموصول بها فرجٌ قريب

قال النبي صلی الله علیه و آله: ( والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً ، إنّ الله باباً في السماء الدُّنيا يقال له باب الرحمة )) (4).

وقال علیه السلام : (ارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة من الله عزّ وجلّ بالرحمة لهم ))(5).

وقال علي علیه السلام : (بذكر الله تستنزل الرحمة) (6) .

وقال علیه السلام : (البكاء من خشية الله مفتاح الرحمة)(7).

ص: 302


1- سورة الزمر : 53 .
2- سورة الأنعام : 12 .
3- سورة الأعراف : 52 .
4- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 194 المجلس 35 ح 1.
5- الخصال: ص 622 باب الأربعمائة .
6- غرر الحكم : ص 188 ح 3612 . ح3612.
7- غرر الحكم : ص 192 ح 3731

وقال علیه السلام : (التوبة تستنزل الرحمة) (1) .

وقال علیه السلام : ( ببذل الرحمة تستنزل الرحمة) (2) .

وقال علیه السلام: (ازهد في الدنيا تنزل عليك الرحمة) (3) .

وقال علیه السلام: ( من عدل في البلاد نشر الله عليه الرحمة) (4) .

وقال : ( مع البّر تدرّ الرحمة) (5) .

و قال : (ابلغ ما تستدرّ به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة) (6) .

تجلّيات رحمة الله

و تمثّلت ر في عدة صور من أعظمها : هو وجود رسول الله فهو رحمة من الله لجميع الخلائق كما قال سبحانه : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (7) ، ثمّ يأتي دور أهل بيت العصمة السلام بعد النبي .

قال أبو عبد الله : (إنّ الله خلقنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه وبابه الذي يدلّ عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عُبد الله ولولا نحن ما عبد الله ) (8) .

ص: 303


1- غرر الحكم : ص 195 ح 3835.
2- غرر الحكم : ص 246 ح 5054 .
3- غرر الحكم : ص 276 ح 6084 .
4- غرر الحكم : ص 340 7773 .
5- غرر الحكم : ص 449 ح 10329 .
6- غرر الحكم : ص 450 ح 10344 .
7- سورة الأنبياء : 107.
8- الكافي : ج 1 ص 144 كتاب التوحيد ، باب النوادر ح5 .

والظاهر أنّ الباء في (بنا) للسببية بلحاظ أنّهم وسائط الفيض الإلهي على الخلق كما ذكر في علم الكلام ، فهم الواسطة في الخلق والإيجاد .. لذلك بهم تثمر الأشجار وتجري الأنهار وهكذا..

قال الإمام السجاد : (نحن أئمة المسلمين وحجج الله على العالمين وسادة المؤمنين وقادة الغر المحجلين وموالي المؤمنين ونحن أمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث وبنا ينشر الرحمة ويخرج بركات الأرض ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها(1).

وعن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي قال : (دخلت على رسول الله وهو في مسجد قبا وعنده نفر من أصحابه، فلما بصر بي تهلل وجهه وتبسم حتى نظرت إلى بياض أسنانه تبرق ، ثمّ قال : إليَّ يا علي .. إليَّ يا علي .. ثم أقبل على أصحابه فقال : معاشر أصحابي أقلبت إليكم الرحمة بإقبال علي أخي إليكم ، معاشر أصحابي أنّ عليّاً منّي وأنا من علي ، روحه من روحي وطينته من طينتي وهو أخي ووصيّي وخليفتي على أُمتي في حياتي وبعد موتي ، من أطاعه فقد أطاعني ومن واف-ق-ه ف-ق-د وافقني ومن خالفه خالفني ) (2) . وقال : ( نحن أهل بيت الرحمة) (3) .

وفي الحديث : (إن الله بعث محمّداً الرأفة والرحمة) (4) .

وعلى هذا فهم من أوسع أبواب الرحمة الإلهية ..

وبناءً على ما ذكرناه فلربما يكون من معاني ما طلب المؤمن من ربه في هذا الدعاء الشريف (اللهم غشني فيه بالرحمة) : أن يوفقه للالتزام بنهج ولاية أهل البيت والتمسك بحبهم ، لأنهم باب الرحمة ومفتاحها. مضافاً إلى المعاني الأخرى للرحمة. ومما يؤيد هذا المعنى وصفه تبارك وتعالى الرسول الكريم الله بأنه رحمة

ص: 304


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 186 المجلس 34 ح15.
2- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 35 و 36 المجلس 9 ح 10.
3- الإرشاد : ج 2 ص 168 .
4- راجع كشف الريبة : ص 82.

للعالمين.. وما ورد من أنّهم الشفعاء في يوم القيامة ، فإنّ الشفاعة من الرحمة الخاصة، فعن محمد بن علي : (أية آية في كتاب الله أرجى ؟ قال : فما يقول فيها قومك؟ قلت : يقولون :( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) (1) قال : لكنا أهل البيت نقول ذلك ، قال : قلت : فأي شيء تقولون فيها ؟ قال : نقول: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى) (2) ، الشفاعة والله الشفاعة والله الشفاعة ) (3) .

ومن الواضح أنهم أوعية رحمة الله ومشيئته .. وبشفاعتهم ينال الخلق الرحمة الإلهية، وعلى ذلك أقسم الله ثلاثاً .

ص: 305


1- سورة الزمر : 53 .
2- سورة الضحى : 5 .
3- راجع الميزان : ج 1 ص 176 سورة البقرة : 47 و 48 .

الاعتصام بالله

ثمّ يسأل الداعي من الله عزّ وجل أن يرزقه التوفيق والعصمة : (وارزقني فيه التوفيق والعصمة) ، فإنّ من مفاتيح الرحمة الإلهية الاعتصام بالله سبحانه وكسب توفقه إذ أن أعمال العبد بحاجة إلى التوفيق والسداد الرباني طيلة مسيرته في الكدح فبالتوفيق تفتح له أبواب الخير ومسالك البرّ فيستزيد منها ، وبالعصمة والسداد يقوم عمله فهو ماض إلى هدفه ، وطريقه مليء بالأشواك والحفر والتي كلّما اجتاز عقبة منها تسامى إلى درجة أرقى .

وواضح أنّ العبد يلزمه الدعاء لأن يهبه الله التوفيق لأعمال الخير وأن يعصمه من الخطأ والزلل ليصل إلى غايته، لأنه بمفرده لا يقوى على شيء ولا يضمن لنفسه السلامة ولا يمكنه اجتياز الأخطاء بتفوق ونجاح.

وكثيراً ما يصل الإنسان إلى مرحلة الحضيض والانحطاط ولكن يتداركه الله برحمته فيوفقه إلى تغيير منحنى حياته السيئة إلى حياة الخير والإيمان والعمل الصالح ...

ويذكر لنا التاريخ حادثة الحرّ بن يزيد الرياحي والذي شملته الرحمة الإلهية، فسلك طريق الحق ونصر الإمام الحسين ال لافتاب إلى الله واستشهد في سبيل سيد الشهداء الله الذي هو سبيل الله تعالى ، فصار من كبار الشهداء في أعلى عليين ، وقد ورد زيارته : (السلام على الحرّ بن يزيد الرياحي ) (1) .

وهكذا في قصة بشر الحافي ما يدل على الانقلاب على الذات والتحوّل من عالم السوء إلى عالم الخير والبركة.

وكان أئمة أهل البيت أسباب هذا التغيير دائماً.. وطرق الانقلاب والثورة والهداية .. ففي قصة الإمام الباقر و النصراني شاهد آخر على ما أوردناه حيث يذكر

ص: 306


1- الإقبال : ص 576 .

التاريخ أنّ رجلاً نصرانياً استهزأ بالإمام محمد بن علي الباقر فقال : وهو يستهزئ بلقبه : أنت بقر!

فلم يجبه الإمام إلّا بالسماحة واللطف قائلاً : لا ، أنا الباقر .

ومضى النصراني يمعن باستخفافه بالإمام فقال : أنت ابن الطباخة .

فقال : تلك حِرفَتُها .

قال النصراني : أنت ابن السوداء الزنجية البذيئة .

فأجابه الإمام : إن كنت صادقاً غفر الله لها وإن كذبت غفر الله لك!!

وإذا بالنصراني يتحوّل بفضل هذه الأخلاق العالية إلى عالم الإسلام ويحدث انقلاباً نوعياً في حياته ، فلولا أن من الله تعالى على هذا الشخص بنعمة التوفيق وبركة إمام زمانه التي كانت فيضاً من الرحمة الإلهية لما صلحت بها حالته، فعلى الإنسان أن يزين حياته في دار الدنيا بنعمة الإيمان ويرجو ثواب الآخرة ونعيمها، قال تعالى : (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى(1).

مراتب العصمة

والعصمة حقيقة مشككة لها مراتب متفاوتة في الدرجة.. ومن مراتبها :

1 : العصمة الإلهية الخاصة التي منحها الله سبحانه لأوليائه الخاصين من الأنبياء والأئمة وهي أعلى مراتب العصمة وهذه لها شرائط وخصوصيات ذكرها العلماء في كتب الكلام لا مجال لذكرها هنا .

2 : العصمة الاكتسابية ، وهي تحصل بالرياضات والمجاهدات الروحية الشاقة .. وصاحبها لا يصل إلى مقام المعصوم بالعصمة الإلهية بل يصل إلى مقام معنوي رفيع بحيث يجد نفسه حاضرة عند ربه دوماً، فيستحي منه سبحانه أن يقوم بأعمال لا تليق بمقام العبودية ، وربما تصل إلى حد مجاهدة النفس وترك الملذات حتى في المباحات وذلك تقرّباً إلى الله سبحانه ، وهناك الكثير من علمائنا العاملين ممن وصل إلى هذه الدرجة الرفيعة .

ص: 307


1- سورة النازعات : 40 و 41 .

يحكى عن آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسِّس الحوزة العلمية في قمّ المقدّسة أنّه دُعي مرّة إلى بيت ذات حديقة كبيرة وكان صاحب البيت على معرفة بما يحبّ الشيخ من العنب، فأمر الفلاح بأن يجلب لهم من العنب الحلو ، وبعد قليل أحضر الفلاح العنب، فمدّ الشيخ يده إلى الطبق ، ثمّ سحبها ممتنعاً عن الأكل ،فتعجّب الحاضرون من ذلك ، فلمّا خرج سأله أحد الطلبة ، فأسرّه الشيخ بقوله : إنّ هذا العنب حرام وأنا لا أكل الطعام الحرام.

فسأله الطالب عن سرّ معرفته بذلك؟

فقال الشيخ : إنّ لي حالة إذا تقرّبت إلى الحرام تشمئز نفسي وأتأذّى.

قيل : إنّ الطالب حاول أن يستفسر الأمر من صاحب الدار ، فسأله : هل تخمّس مالک؟

قال : نعم .

فسأله الطالب : ولكن أفي مالك حرام؟

قال : كلّا! ، فأخبره بعلّة عدم أكل الشيخ العنب !

فسأل صاحب الدار الفلّاح عن مصدر العنب الذي أتى به؟

فقال : إنّ عنب حديقتنا حامض وأنت طلبت للشيخ عنباً حلواً.. فذهبت إلى حديقة الجار وجلبت العنب الحلو على أن أخبرهم لاحقاً !!.

وفي هذه القصّة مثال رائع للعصمة الاكتسابية .. إذ أهل التقوى والعمل الصالح يحسّون بالأذى من الحرام ويميّزونه عن الحلال.. وكثيرة هي القصص في هذا المجال .

طهارة القلب

ومن سبل العصمة : طهارة القلب من الشكوك والأوهام، لذا جاءت الفقرة الثالثة الدعاء طالبة من الله تعالى أن يطهّر قلب الداعي ويزكّيه .. حيث تقول : ( وطهِّر قلبي من غياهب التهمة ). ...

فإنّ التهمة تنشأ من الشك أحياناً .. ولأنّ القلب مركز القرار الفكري والعملي في

ص: 308

البشر .. فينبغي أن يكون طاهراً من الشكوك والتردّدات التي تجعل الإنسان متحيّراً أو ضالاًّ بين الاحتمالات.

لذا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه أن يطهِّر قلبه من التهم وغياهبها التي تعيشه في الظلام وتسلب قراره واستقراره في الفكر والعمل حتّى يعيش آمناً ومطمئناً راسخ العقيدة واثق الخطوة نظيف السلوك.

وفي الحديث :( ما شيء ء أفسد للقلب من الخطيئة إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه وأعلاه أسفله) (1) .

وقال صلی الله علیه و آله: (إذا خبث القلب خبث الجسد) (2) .

وقال صلی الله علیه و آله : (إنّ في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ، ألا وهي القلب ) (3)

وقال علي علیه السلام : (خير ما دام في القلب اليقين )(4).

لأنّ التهمة وسوء الظنّ من الصفات القبيحة التي تتولّد عند الإنسان نتيجة تراكم الذنوب فيقسو قلبه وعندها لا يرى أمام ناظريه إلّا السيء،و قد حذّرنا الله عزّ وجلّ بقوله تعالى من ذلك : ( إنّ بعض الظنّ إثم )(5).

وقد يتضاعف هذا الظنّ فيمحو كل صلة مع الخالق جلّ وعلا كما جاء في القرآن الكريم :( كلّا بل ران على قلوبهم ) (6) .

فنفوس بعض البشر لا تكون قابلة لرحمة الله تعالى فتتدرّج عليه ظلمات الكفر من الغشاوة إلى الرين والشك والعمى فالختم على القلب حتّى لا يرجى له هدى أو نور ، قال تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة )(7).

ص: 309


1- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 397 المجلس 62 ح9.
2- الخصال : ص 31 باب الواحد ح 110 .
3- غوالي اللئالي : ج 4 ص 7ح 8.
4- التمحيص : ص 61 .
5- سورة الحجرات: 12.
6- سورة المطففين: 14 .
7- سورة البقرة : 7.

وعندها يكون حاله كحالة البهائم : (إن هم إلّا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ) (1) .

وفي الحديث الشريف : (مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ) (2) .

وعنه علیه السلام : (إياكم وسوء الظن فإنّه يحبط العمل ) (3) .

وقال علیه السلام : (فإن سوء الظن يفسد العبادة ويعظم الوزر ) (4) .

وقال علیه السلام : (آفة الدين سوء الظن ) (5) .

وقال علیه السلام : (أولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة) (6) .

وقال علیه السلام : (إياك ومواطن التهمة)(7).

وقال علیه السلام : ( ملعون من اتهم أخاه ) (8) .

وقال علیه السلام : ( إذا اتهم المؤمن أخاه ينماث الإيمان من قلبه) (9) .

وقال علیه السلام : ( من أتّهم أخاه في دينه فلا حرمة بينهما) (10) .

ويمثل العلّامة النراقي في جامع السعادات ويقول : (إنّ الدُّنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذرة، والطاعة هي الماء الذي تسقى به الأرض، وتطهير القلب من المعاصي والأخلاق الذميمة بمنزلة تنقية الأرض من الشوك والأحجار والنباتات الخبيثة، ويوم القيامة هو وقت الحصاد.. فينبغي أن يقاس رجاء العبد (المغفرة) برجاء صاحب الزرع (التنمية)(11).

ص: 310


1- سورة الفرقان : 44 .
2- صفات الشيعة : ص 6 ح 9 .
3- دعائم الإسلام : ج 2 ص 352 .
4- غرر الحكم : ص 263 ح 5668 .
5- غرر الحكم : ص 263 ح 5669 .
6- الأمالي للشيخ الصدوق : ص 20 المجلس 6 ح 4 .
7- الأمالي للشيخ المفيد: ص 220 المجلس 26.
8- أعلام الدين : ص 125 باب صفة المؤمن .
9- کشف الريبة : ص 21 .
10- کشف الريبة : ص 21 .
11- جامع السعادات : ج 1 ص 244 التلازم بين الخوف والرجاء .

من سمات المؤمنين

إن من الملفت في دعاء الأئمة علیهم السلام وتوسلهم وتضرعهم إلى الله عز وجل أن-ه-م يلحون على الله ويتوسلون إليه في طلب الرحمة ويكرّرون ذلك مراراً، ويعترفون بالقصور والتقصير أمام الله عزّ وجلّ ، نعم مما لا شك أنهم لا لا معصومون من كل خطأ وذنب ولا تصدر عنهم علیهم السلام أية معصية، صغيرة ولا كبيرة.

قال علیه السلام : (والله ما يلح عبد على الله إلّا استجاب له) (1) .

وعن أبي جعفر علیه السلام قال : (كان أبي يلح في الدعاء يقول : يارب يارب، حتّى ينقطع النفس ثم يعود ثمّ يعود)(2) .

وفي الحديث القدسي : (من رجا معرو في ألح في مسألتي) (3).

ففي الدعاء المروي عن الإمام زين العابدين علیه السلام والمعروف بدعاء الحزين يقول علیه السلام : (مولاي يا مولاي حتى متى وإلى متى أقول لك العتبى مرة بعد أُخرى ، ثم لا تجد عندي صدقاً ولا وفاء)..

إلى أن يقول علیه السلام : (إن كنت رحمت مثلي فارحمني ، وإن كنت قبلت مثلي فاقبلني يا قابل السحرة اقبلني) (4)

والذي يتتبع ما ورد عنهم علیهم السلام من أدعية ومناجاة يجد لهم حالات رفيعة من الابتهال والتضرّع والتذلل أمام ربهم طلباً للرحمة وشوقاً إليها.. وهذا المعنى يتبين في دعاء كميل بن زياد ودعاء أبي حمزة الثمالي وأمثالهما.

ص: 311


1- مكارم الأخلاق : ص 269.
2- محاسبة النفس : ص 38
3- أعلام الدين : ص 327
4- الصحيفة السجادية : ص 175 دعاؤه الا بعد صلاة الليل .

وقد وصف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أهل الإيمان في نهج البلاغة وصفاً عجيباً جاء فيه : ( عباد الله ، إن من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به ، فقرب على نفسه البعيد وهوّن الشديد ، نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً، قد خلع سرابيل الشهوات ، و تخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره)(1).

إلى أن يقول علیه السلام : (فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس، قد نصب نفسه الله سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كلّ وارد عليه، وتصيير كلّ فرع إلى أصله، مصباح ظلمات ، کشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفاع ،معضلات، دليل فلوات ، يقول فيفهم) (2) .. إلى آخر الخطبة .

لذلك فإنّ المؤمنين الذين يرجون الرحمة الخاصة هم ممن اتصفوا بالشمائل التي ذكرت في خطبة أمير المؤمنين علیه السلام وهم ممن تخلق بأخلاق الله .. ويسألونه دائماً أن يغشيهم برحمته الواسعة ويقولون : ( يا رحيماً بعباده المؤمنين).

وعند ذلك يستشعرون ببرد رحمة ربهم .. بل قد يصلون إلى اليقين في أنهم من المغفور لهم لحسن ظنّهم بربّهم ولصفاء نيّاتهم إلّا أنّهم يظلون تحت الميزان بين الخوف والرجاء إلى أن يلاقوا ربهم ..

وأئمة أهل البيت علیه السلام عندما يعيشون هذه الحالة من الخضوع والخشوع أمام الله عزّ وجلّ ليس لشعورهم بالذنب بمعنى المعصية، بل لشعورهم بالتقصير في أداء حقوق ربهم وشكر أنعمه تعالى، وبعبارة أخرى هو من أداء حق العبودية.

وهناك حجب مانعة من الوصول إلى رحمة الله سبحانه، فعلى الإنسان أن

ص: 312


1- نهج البلاغة : الخطبة 87 بين صفات المتّقين .
2- نهج البلاغة : الخطبة 87 بين صفات المتّقين .

يتجنبها، قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (1) .

وتعتبر هذه الدنيا ساحة اختبار فعلية للإنسان وتأتي تلك الاختبارات على شكل مرحلي أحياناً فتعترض المرء حالة الشدائد والمحن فيوضع عندها على المحك الحقيقي وينظر ميزانه بنفسه ويقيم حاله ، فإما أن يجتاز هذا الاختبار ويسير إلى الأمام، وإما أن يكبو فيضل الطريق القويم دون رجعة ويخرج من عالم الرحمة لأنّ نفسه وقعت في مهالك الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا) (2) .

وعلى الإنسان أن لا يغتر بعبادته وسلوكه ما دام لم يجرب السلطان وسطوته، والمال وغروره، ويأتي دور الشيطان هنا كجندي متمرّس يتربص بالعباد (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ) (3) .

وأياً كانت تسمية النهاية التي يؤول إليها حال العبد كاليأس وسوء العاقبة - فإنّها تعني العدول عن عبادة الله إلى عبادة الشيطان، وفي الحديث : (إنّ صغار الذنوب و محقراته من مكائد إبليس) (4) .

يحكى أن عابداً في بني إسرائيل اسمه برصيصا كان مستجاب الدعوة.. فكان بنو إسرائيل يستشفون به وأصبح ممن تنال به البركة.. وقد وصل إلى درجة من القرب الإلهي أهّلته إلى أن يشفي المجنون .

وذات يوم عرضوا عليه فتاة مجنونة، فباتت عنده، فسوّل له الشيطان أن يفعل معها الحرام!

وبعد أن أفاق من فعلته الشنيعة أراد أن يواري فعلته.. فقتلها.. وأخفى جثتها. وشاء الله أن يفضحه فحكم عليه بالصلب أمام أنظار الناس ، وقبل أن ينفذ عليه حكم الإعدام عرض له الشيطان مرة أخرى وقال : ألا تريد الخلاص من هذا الموت؟

ص: 313


1- سورة العنكبوت: 2 و 3.
2- سورة التوبة : 49 .
3- سورة الأعراف : 16 .
4- تحف العقول: ص392.

قال الإسرائيلي : بلى وكيف لي ذلك!

قال الشيطان : بأن تسجد لي فقط!

أجابه العابد : ولكنّي مقيّد ولا أستطيع ذلك!

قال الشيطان : يكفيك الإشارة أو الإيماء.. ففعل وخسر كلّ شيء في الدُّنيا والآخرة معاً.

فما الذي طرأ على حياة هذا العابد المسكين ليسقط في وحل الحرام والرذيلة ثمّ الشرك بالله تعالى والبُعد عن رحمته الواسعة ، لقد استزلّه الشيطان فأرداه من عليائه دون أن يجابهه.. فوضع حجاباً بينه وبين ربه، ثمّ توالت الحجب تنسدل على عينيه، ففقد توازنه الطبيعي وانهارت حصونه الروحية الرفيعة ليحلّ مكانها الطرد من رحمة

الله ، نعوذ بالله من ذلك .

ص: 314

هكذا الدعاء

شروط الدعاء عديدة نذكر بعضها :

1 : الابتداء بالحمد والثناء على الله سبحانه .

2: الصلاة على محمّد وآل محمّد .

3: الاستغفار من الذنوب لأنّها تمنع من الاستجابة.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: (إيّاكم أن يسأل أحدٌ منكم ربّه شيئاً من حوائج الدُّنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثناء على الله تعالى والمدحة له ، والصلاة على النبي وآله ، ثمّ الاعتراف بالذنب ثمّ المسألة (1) .

وكذلك يلزم أن تكون صيغة إتيانه بالدعاء حسب ما أمر به الله عزّ وجلّ .. وحينئذٍ يصبح الداعي في حالة اليقين بالاستجابة فيكون مطمئناً من أنّه مجاب في دعوته عاجلاً أم آجلاً .. وقد ورد عن الإمام الصادق علیه السلام : (عليكم بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء وإذا دعوت فظنّ أنّ حاجتك بالباب) (2) .

أمّا عن استجابة الدعاء فقد صرّح القرآن الكريم بقوله تعالى : (ادعوني أستجب لکم).(3)

وعن رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال : (ما من مسلم دعا الله تعالى بدعوة ليست فيها قطيعة رحم، ولا استجلاب إثم إلّا أعطاه الله تعالى بها إحدى خصال ثلاث : إمّا أن يعجّل له الدعوة، وإمّا أن يدّخرها في الآخرة ، وإمّا أن يرفع عنه مثلها من السوء) (4) .

ص: 315


1- بحار الأنوار: ج 90 ص 312 كتاب الذكر والدعاء ح 17، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 90 ص 312 كتاب الذكر والدعاء ح 17، ط بيروت.
3- سورة غافر : 60 .
4- بحار الأنوار: ج 90 ص 294 كتاب الذكر والدعاء ح 23 باب 16 ، ط بيروت.

وأخيراً

اشتمل هذا الدعاء الشريف الوارد في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان العظيم على عدّة موضوعات مهمّة لها مدخل كبير في حياة الإنسان من حيث الفكر والعمل ..

وقد تطرّفنا إلى بعض التوضيح في ذلك ..

وإذا سأل الإنسان ربه أن يعطيه إيَّاها فتحت عليه أبواب الرحمة ونال حظه الأوفى في الدُّنيا والآخرة وهي :

1 : مشايعة محمّد وآل محمد علیه السلام وموالاتهم واتباعهم في العلم والعمل، لأنّهم أوسع أبواب الرحمة ووسائط الفيض الإلهي على العباد.

2 : الاعتصام بالله سبحانه دائماً في كلّ خطوة وعمل ..

3: تطهير القلب من الشبهات والشكوك.

وفي الختام نسأل الله التوفيق لكلّ ذلك إنّه الولي النصير .

ص: 316

في رحاب العترة الطاهرة

30

دعاء اليوم الثلاثين

اشارة

اللهُمَّ اجْعَلْ صِيَامِي فِيهِ بِالشَّكْرِ وَالْقَبُولِ عَلى ما تَرْضَاهُ وَيَرْضَاهُ الرَّسُولُ، مُحْكَمَةٌ فُرُوعُهُ بِالأصول، بِحَقِّ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

راجع مصباح الكفعمي : ص 616 عن النبيّ صلی الله علیه و آله : (من دعا به أكرمه الله تعالى كرامة

الأنبياء والأوصياء) .

ص: 317

ص: 318

العدل شريعة الكون

العدل والعدالة في معناها الواسع تعني إعطاء الحقّ لأصحابه من دون أي تبعيض أو تفرقة بينهم أو ما أشبه ، وإذا لم يعط كلّ ذي حقّ حقّه فهذا هو الظلم بعينه، وكذلك إذا أُعطى البعض حقّهم دون البعض الآخر فهو إجحاف بحقّ الغير وهو يخالف مفهوم العدل .

نعم إنّ للكون قوانين وأنظمة تحكم أفلاكه وتسيّر مجرّاته على وفق قانون العدل التكويني، فكلّ جرم وفلك إنّما يدور حسب معادلة دقيقة وناموس إلهي معيّن ، فلو أخلَّ شيء ما في هذا الكون وانحرف عمله عن مساره الدقيق لأدّى ذلك إلى مضاعفات خطيرة ونتائج مدمّرة .

مثلاً لو اقتربت الالكترونات من النواة قليلاً لصغرت مكوّرات مساراتها وبالتالي جميع الأحجام.. ولو التصقت الالكترونات بالنواة نفسها لما استطعنا أن نبصر الإنسان تحت الميكروسكوب (المجهر).

ولو ابتعدت الأرض عن الشمس متراً واحداً لأدّى ذلك بها إمّا إلى الانفلات من مسارها حول الشمس، ومعنى ذلك الدمار والتفتت في الفضاء بعد الاصطدام بأحد الأجرام السماوية الأخرى ، وأمّا أن يختلّ ميزان الطاقة فيما إذا اتّخذت مساراً جديداً، وهذا يعني تجمّد الحياة فوقها، حسب ما ذكره علماء الفضاء والأخصّائيّون، والأمثلة على ذلك كثيرة .

والإنسان أيضاً يخضع لهذا النظام الدقيق في الكون ولذلك فإنّه هو الآخر عليه الانضباط ضمن هذه المنظومة الكونية والسنن الإلهية، ومن هنا وضع الله سبحانه لتنظيم حياة البشر منظومة دقيقة من القوانين والسنن ترتبط بها سعادة الإنسان وراحته في الدنيا والآخرة ..

ص: 319

فتقدّم أو تخلّف أيّ أُمّة لا يمكن أن يأتي اعتباطاً أو صدفة، وإنمّا وفق هذه القوانين والأنظمة .. وقد ذكّرنا بها الله سبحانه أكثر من مرّة فيقول تعالى: ﴿سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا ).(1)

ويقول سبحانه : (ولن تجد لسنّة الله تحويلاً) (2) .

ويقول تعالى أيضاً :( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليمٌ حكيم )(3).

ومن هنا فإنّ لكلّ شيء وفق هذا النظام الدقيق المحكم خطّة وعملاً لا يحيد عنها، ولو حاد لاضطرب في ذاته حسب الأُسس التي بُني عليها الكون.

فعندما يطرح الإسلام مسألة العدل والعدالة كقضية رئيسية يدعو للإيمان بها كعقيدة راسخة وكبرنامج عملي وكواحدة من دعاماته الأساسية.. فمن الحقّ الذي يتمتّع به كلّ إنسان أن يعيش بملء إرادته حياة تسودها العدالة الاجتماعية وتبرز فيها القيم الكريمة والرفاه .. دون التلاعب والمساس بذلك الحقّ من أيّ كائن كان .

ومن خلال هذه المقدّمة الوجيزة يظهر أنّ الذي شرّع العدالة وأمر بها لهو أجلّ وأقدس وأعظم من أن يتخلّى عن هذه الصفة، بل هو متحلُّ بالعدالة وبالفضل وهو درجة أرفع من العدالة، فالعبد الذي أدّى الأمانة ولم يقصُر في حقّها واستجاب لدعوة السماء الذي جاء فيها: (يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون) (4) ، فصام شهراً كاملاً امتثالاً لأمر الله تعالى ولأجل الله عزّ وجلّ وحده لا شريك له ، ولا خوفاً من العائلة، أو الطاغوت ولا حبّاً للجوع والعطش .. فإنّ الإرادة التي ترفض الأكل رغم توفّره وترفض الماء رغم عذوبته وترفض الملذّات رغم ميل النفس إليها .. إنّها إرادة تستحقٌ الأجر الذي أعدّه الله لها حيث يقول : (وأمّا من

ص: 320


1- سورة الأحزاب : 62 .
2- سورة فاطر : 43 .
3- سورة النساء : 26 .
4- سورة البقرة : 183 .

خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى *فإنّ الجنّة هي المأوى (1) ، وهذا وفقاً لعدله (1) التشريعي بأن يجازي المؤمن الجزاء الأوفى.

ثمّ إنّ الخوف من الله سبحانه يجعل الإنسان عبدا لله مطيعاً له في السراء والضراء فيجعله أمام شهواته عبداً عفيفاً و أمام طاغية زمانه إنساناً عزيزاً، وهو في الجهاد شجاعاً صامداً مقداماً، وفي المشكلات مؤمناً صابراً محتسباً، وأمام المسؤوليات أميناً معتمداً، لا تغرّه المطامع ولا تزلزله الهواجس، إنّه في ذكر الله أين ما حلّ.

وبمجموع هذه الصفات يعيش الإنسان المؤمن المتعبّد وكأنّه يشعر أنّه مارس وظيفة العبودية لله سبحانه، وسار في حدوده المعيّنة ودار في إطاره الصحيح، ومشى نحو واجبه ومسؤوليّته ، ونال غايته الحقيقيّة التي خلقه الله سبحانه من أجلها.

وشهر رمضان من أفضل المواسم التي تتجلّى فيها عبودية الإنسان لربه إذ يعيش الإنسان في ساعاته وأيّامه وأوقاته في طاعة الله عزّ وجلّ وينتقل من طاعة إلى طاعة و من عبودية إلى عبودية في الجوارح والجوانح . ولمّا أخذ هذا الشهر الفضيل على الانتهاء يبدأ الإنسان يلتفت إلى ما قدّمه فيه من أعمال صالحات ومن طاعات .. ويتوجّه إلى ربه تبارك وتعالى ويتوسّل إليه لكي يقبل ما قدَم من عمل ويتفضّل عليه بنعمة الشكر فيقول : (اللَّهمَّ اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول ).

وحيث إنّ هذا هو اليوم الأخير من شهر رمضان المبارك ، يوم انتهاء العمل الذي فرضه الله سبحانه عليه فهو يوم الشكر والأجر والثواب.. فكما يطلب العامل أُجور تعبه عند انتهائه من عمله فكذلك المؤمن الذي عمل الله تعالى وخاف مقام ربه يأمل في فضل الله عزّ وجلّ .. ومعلوم أنّ ثمار الخوف لا تنحصر في الآخرة فقط بل تظهرحتّی في الدُّنيا أيضاً.

ص: 321


1- سورة النازعات: 40 و 41 .

هل هذا شرك؟

ولعلّ سائلاً يسأل عن فقرة الدعاء القائلة: (الّلهم اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول) ويقول : رضى الله وحده يكفي فلا داعي لأن يجعل رضى الله تعالى مع رضى الرسول صلی الله علیه و آله ممّا يلزم منه الشرك، فضلاً عن كون الرسول صلی الله علیه و آله قد مات.

نقول : إنّ تقديس الشخص أو الأشخاص المرتبطين بالله سبحانه وإعظام دورهم وإجلال مكانتهم ليس تقديساً وإعظاماً لشخصهم بما هم بشر ، وإنّما تقديس وإجلال لقيم الله ومبادئه وشعائره المتجسِّدة فيهم.

فلا يكون إجلال قدرهم إلّا لأنّهم قد ارتبطوا بالله تعالى ونذروا أنفسهم في سبيله ولخدمة دينه .. ولهذا فهم تجسيد لإرادة الله سواءً كانوا أحياء أو أمواتاً، لأنّ مثل هؤلاء لا يموتون لأنّهم شهداء عند ربّهم أحياء يرزقون، كما عبّر القرآن الكريم بذلك قائلاً : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءً عند ربّهم يرزقون) (1) .

فاحترامهم وتقديس أمرهم أمواتاً كإجلال قدرهم وهم أحياء.. وقد ورد عن رسول الله صلی الله علیه و آله بالنسبة إلى المؤمن العادي :(حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً) فكيف بالأنبياء والأولياء علیه السلام ؟

ثمّ إنّ من كفّر أحداً أو فريقاً من المسلمين لأنّهم يعظِّمون أنبياء الله وأولياءه الصالحين الذين تساقطوا شهداء على هذا الطريق الدامي فإنّه قد أوقع نفسه في شبهة كبيرة .. فإنّ المظاهر المختلفة من زيارة القبور أو التوسّل بمكانتهم وحقّهم عند الله ، وحتّى نداءهم ليشفعوا عند ربّ العالمين ليس إلّا إظهاراً للولاء لهم وبالتالي فهو ولاء

ص: 322


1- سورة آل عمران: 169 .

الله سبحانه وحده لا شريك له وعمل بما أمره الله سبحانه حيث قال: (وابتغوا إليه الوسيلة ) (1) .

و على أيّ حال نستنتج مما ذكرنا أنّ التوسّل بأنبياء الله وأوليائه ليس شركاً بل هو ولاء لهم ، باعتبار أنّ هذا الولاء هو ولاء الله تعالى وحده لا شريك له وبأمر منه عزّ وجّل، وقد ورد في هذا الباب عدّة روايات عن رسول الله صلی الله علیه و آله.

كما (2) أنّ الصحابة في زمن حياة الرسول صلی الله علیه و آله وبعد وفاته كانوا يتوسّلون به ، ولم يكن الرسول نفسه ولا أحد من بقيّة الصحابة يمنعونهم عن ذلك ، ولو كان التوسّل بغير الله شركاً لكانوا ينهون عنه .

وإليك بعض النماذج من ذلك :

روى البيهقي ، وابن أبي شيبة بإسناد صحيح -كما عن أحمد بن زيني دحلان -: أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر ، فجاء بلال بن الحرث إلى قبر النبي صلی الله علیه و آله وقال : يارسول الله استسق لأُمّتك فإنّهم هلكوا (3).

ولو كان نداء النبي ، والتوسّل به شركاً لما فعله بلال - الذي صحب النبي مدّة غیرقليلة - وأخذ الأحكام عن شفتي الرسول صلی الله علیه و آله ولنهى عنه بقية الصحابة .

وروى البيهقي (4) عن عمر بن الخطّاب ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لمّا اقترف آدم

الخطيئة قال : يارب أسألك بحق محمّد إلّا ما غفرت لى ، إلى آخر الحديث ..

ولو كان التوسّل بالنبي صلی الله علیه و آله حراماً وشركاً لما فعله النبي آدم علیه السلام .

وروي (5) أنّه لما حجّ المنصور الدوانيقي، وزار قبر النبي صلی الله علیه و آله سأل الإمام مالكاً - إمام المالكية - وقال له :

يا أبا عبدالله استقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله؟

ص: 323


1- سورة المائدة : 35
2- راجع ( حقائق عن الشيعة) : ص 45 - 58 .
3- راجع أيضاً : الدرر السنية ص 18.
4- راجع أيضاً : خلاصة الكلام ص 17 للسمهودي ، والمعجم الكبير للطبراني ج 9 ص 18.
5- خلاصة الكلام ص 17 للسمهودي.

فقال مالك : (لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله) ، بل استقبله، واستشفع به فيشفعه الله فيك، قال الله تعالى :( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً) (1) .

وفي قول مالك : (هو وسيلتك، ووسيلة أبيك آدم إلى الله) (2) لدليل صريح على جواز التوسّل ، بل واستحبابه أيضاً.

وروى الدارمي في صحيحه (3) عن أبي الجوزاء ، قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً ، فشكوا إلى عائشة ، فقالت : انظروا قبر النبي فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف . ففعلوا، فمطر وا حتّى نبت العشب .

وهناك المئات من الشواهد لذلك تجدها في الكتب المفصّلة ، فإذا كان التوسّل برسول الله صلی الله علیه و آله جائزاً غير محرّم ، ولا شركاً كان التوسّل بالأئمّة والملائكة والصالحين من عباد الله أيضاً جائزاً.

فإنّ التوسّل إن كان شركاً يجب أن يحرم التوسل حتّى برسول الله صلی الله علیه و آله، وإن كان جائزاً لزم أن يجوز التوسّل لا برسول الله فقط بل بجميع الصالحين من عباد الله .

ثمّ إنّه سبحانه جعل طاعته مقرونة بطاعتهم علیه السلام ورضاه مقروناً برضاهم كما جعل أمره سبحانه أمر الرسول وقضاءه قضاء الرسول صلی الله علیه و آله وذلك لأنّ الرسول الله صلی الله علیه و آله لا يأمر إلّا

بما أمر الله به ولا ينهى إلّا عمّا نهى الله عنه .

كما تحدّث عنه القرآن الكريم قائلاً : (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلّا وحيٌ یوحی)(4).

إذاً عندما يدعو العبد قائلاً: (اللّهم اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول) هو عين التوحيد وفي طريق عبودية الله عزّ وجّل لا غير، باعتبار أنّ رضى الرسول صلی الله علیه و آله حقّ جعله الله على نفسه فمن أرضى الرسول صلی الله علیه و آله فقد

ص: 324


1- سورة النساء : 64 .
2- خلاصة الكلام: ص 17 ، للسمهودي.
3- سنن الدارمي : ج 1 ص 43 - 44 باب ما أكرم الله تعالى نبيّه صلی الله علیه و آله بعد موته».
4- سورة النجم : 3 و 4 .

أرضى الله و من عصى الرسول صلی الله علیه و آله فقد عصى الله كما في الآية المباركة : (وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً) (1) .

و (قضى) هنا بمعنى القضاء التشريعي والقانون والأمر والحكم، ومن البديهي أنّ الله تعالى غني عن طاعة الناس وتسليمهم ، وهكذا النبي صلی الله علیه و آله ، لا تكون الطاعة له إلّا في مصلحة الناس ومنفعتهم، لكن الناس قد يجهلون ذلك لضيق أُفقهم الفكري والقلبي إلّا أنّ الله تعالى يعلّمها فيأمر نبيّه صلی الله علیه و آله بإبلاغها .

ثمّ قالت الآية: (ومن يعص ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً) لأنّه يضلّ طريق السعادة ويسلك طريق الضلال والضياع حيث لم يعبأ بأمر رب الكون الرحيم وبأمر رسوله الكريم، ذلك الأمر الضامن لخيره وسعادته ، وأيّة ضلالة أضلّ من هذه .

ص: 325


1- سورة الأحزاب: 36.

الإحكام بالأصول

ثمّ يسأله الداعي من ربه أن يكون صيامه ( محكمة فروعه بالأصول) فما المراد بذلك؟

الإحكام بمعنى الإتقان والمطابقة ، ولعلّ المراد منها أمرين :

1 : أن يكون المراد إتقان الفروع مع الأصول أي تطابق فروع الدين مع أصول الدين، لأنّ الدين كلّ متكامل والذي يقبله ينبغي أن يقبله كلّاً وإلّا لا يقبل منه الإيمان. فلا يصحّ للمؤمن أن يؤمن بأُصول الدين ويترك فروعه، وكذلك العكس، وقد ذمّ القرآن الكريم الذين يؤمنون ببعض الكتاب دون بعض فقال تعالى :( أفتؤمنون ببعض

الكتاب وتكفرون ببعض ) (1) .

ومعلوم أنّ الصيام واحد من فروع الدين فيدعو المؤمن أن يطبّق هذا الفرع مع ما كان عليه من الأصل حتّى يعدّ مقبولاً منه .

2 : أو أنّ المراد من الأصول هنا : القواعد، لأنّ الأصل ورد بمعنى القاعدة، فيكون المعنى أنّ ما عمل به العبد من صيام وعبادة يدعو أن يكون مطابقاً للقواعد الصحيحة من الأحكام الشرعية التي أرادها الله سبحانه ..

وهناك احتمالات أُخرى لا مجال لذكرها ..

باعتبار ما ورد في هذا الدعاء من قوله صلی الله علیه و آله : (محكمة فروعه بالأصول) لا بأس بالإشارة إلى الحديث عن فروع الدين، فإنّه مختلف عن الحديث في أُصول الدين .. والحقيقة التي لابدّ من ذكرها هنا هي شدّة التداخل والترابط بين الاثنين في الواقع الخارجي فيشكّلا بناءً واحداً تماماً، كما إذا رأينا بيتاً على القواعد فإنّنا قد لا نستطيع

ص: 326


1- سورة البقرة : 85.

الفصل بين القواعد والسقف، وكذلك الحال بین أصول الدين وفروعه...

فإن كانت الأصول عقائد تترسّخ في الذات وتتمحور في الأعماق وتتجذّر في النفس البشرية، فإنّ الفروع تجسيد لتلك المبادئ والعقائد، إذ تنعكس سلوكاً وممارسات في حياة المؤمن حتّى لتكاد أفعاله جميعاً أن تكون مناسك وعبادة ..

فالمؤمن دائماً على صلة بالله وفي حالة خشوع وتقوى.. وما دعاؤه بهذه العبارات التي وردت في الدعاء : (محكمة فروعه بالأصول) إلّا تكريس لتلك الحالة وبما أنّ كلّ فرع لابدّ له من أصل فلذلك يدعو قائلاً: (محكمة فروعه بالأصول) .. ثم ّيقول العبد : (بحقّ سيّدنا محمّد وآله الطاهرين).

ص: 327

أهل البيت علیه السلام في القرآن

إنّ ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ للنبيّ صلی الله علیه و آله وأهل بيته الطاهرين علیه السلام المقام الأرفع والجاه الأعلى والمكانة السامية عند الله تعالى .. مكانة لم يتوصّل إليها أحد من المخلوقات والكائنات من الأوّلين والآخرين، ومقاماً فاق مقام أوليائه الصالحين وملائكته المقرّبين ..

وليس هذا الكلام ادّعاءً مجرّداً بل هو ما شهدت به الآيات الكريمة وصرّحت به الأحاديث الشريفة الصحيحة المعتبرة المتواترة.

فمن مثلهم علیه السلام وقد جعل الله تعالى القرآن الكريم يزهر بآيات الثناء عليهم ويتلألأ بذكر فضائلهم ومزاياهم؟

فخذ على سبيل المثال وليس الحصر :

1. آية التطهير:

وهي قوله تعالى: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهرِّكم تطهيراً) (1) ، حيث ذكر المفسِّرون أنّها نزلت في النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام).

2. وآية المباهلة:

وهي قوله سبحانه :( فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على

ص: 328


1- سورة الأحزاب : 33 .

الكاذبين ) (1) ، وقد جاء رسول الله صلی الله علیه و آله و معه علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

3. وآية المودة:

وهي قوله تعالى : (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى(2)، القربى هم آل محمد الاسلام علیه السلام .

4. وآية الولاية :

وهي قوله سبحانه : (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (3) ، وقد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين علیه السلام.

5. وآية التبليغ:

وهي قوله تعالى : (يا أيّها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس) (4) . وقد نزلت هذه الآية المباركة في يوم غدير خم، وذلك لأجل نصب الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام وصيّاً لرسول الله صلی الله علیه و آله وخليفة له من بعده.

6 . وسورة الإنسان

وفيها آية التصدّق على المسكين واليتيم والأسير وقد نزلت في مدح أمير المؤمنين علي وفاطمة والحسن والحسين علیه السلام ، إلى غيرها من مئات الآيات (5) .

ص: 329


1- سورة آل عمران: 61 .
2- سورة الشورى : 23 .
3- سورة المائدة : 55 .
4- سورة المائدة : 67 .
5- راجع كتاب (علي في القرآن) لآية الله المعظّم السيّد صادق الشيرازي وفيه يذكر المؤلّف أكثر من 600 آية نزلت في شأن علي علیه السلام وكلّها من مصادر موثوقة ومعتبرة عند المسلمين، وكذلك كتاب ((أهل البيت في القرآن )للمؤلّف نفسه.

فالله تعالى جعل أهل البيت علیه السلام الوسيلة إليه والشفعاء لديه حيث قال عزّوجلّ: (وابتغوا إليه الوسيلة ) (1)

ولو أراد الإنسان أن يطرق باب عظيم ويضمن ما يريده فإنّه يأتيه من الباب الذي يحبه ويرضاه، وأهل البيت لیه السلام هم باب الله عزّ وجلّ، وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه .. فلذلك ترى العبد يدعو قائلاً : (الَّلهمَّ اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول محكمة فروعه بالأصول بحقّ سيّدنا محمّد وآله الطاهرين) الدعاء .

فهو يقسم على الله تعالى بحقّ النبي وآله علیه السلام لأنّه يعلم أنّ لمحمّد صلی الله علیه وآله علیه السلام حقاً على الله، جعله هو تعالى على نفسه تفضيلاً وتشريفاً لهم، وهناك العديد من الموارد التي يعلّمنا القرآن بها اسلوب الحديث مع الله سبحانه وطريقة الرجوع إليه ونيل رضاه .. قال تعالى:( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً ) (2) .

فإنّ مجيء المستغفرين إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وطلبهم من الرسول أن يستغفر لهم الله

أضمن للغفران..

وقال تعالى عن أولاد يعقوب علیه السلام لمّا جاؤوا إليه يطلبون منه الشفاعة إلى الله تعالى كي يغفر ذنوبهم (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين ) (3) ، ولم ينكر النبي يعقوب علیه السلام ذلك بل قال : (سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم )(4).

فهذا دليل قاطع وساطع على جواز التوسّل والتشفّع بأولياء الله وأحبائه، ولا شك أنّ النبي صلی الله علیه و آله وأهل البيت علیه السلام هم أفضل أوليائه وأحبّائه .

ص: 330


1- سورة المائدة : 35
2- سورة النساء : 64 .
3- سورة يوسف : 97 .
4- سورة يوسف : 98 .

أهل بیت علیه السلام في الحدیث

وقد ورد في الروايات آلاف الأحاديث في فضل أهل البيت علیه السلام فمثلاً :

عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله أنّه قال لجابر بن عبدالله الأنصاري وقد سأله عن علي وفاطمة والحسن والحسين علیه السلام ومنزلتهم ؟ : ( يا جابر إذا أردت أن تدعو الله فيستجيب لك فادعه بأسمائهم فإنّها أحبّ الأسماء إلى الله عزّ و جلّ ) (1) .

وعن ابن عبّاس قال : سألت النبي صلی الله علیه و آله عن الكلمات التي تلقّاها آدم علیه السلام من ربه

فتاب عليه ؟ فقال علیه السلام : (سأله بحقّ محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ، فتاب عليه) (2) .

وروي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : (إنّ عبداً مكث في النار سبعين خريفاً، والخريف سبعون سنة، ثمّ إنّه سأل الله عزّ وجلّ بحقّ محمّد وأهل بيته لمّا رحمتني، قال : فأوحى الله جلّ جلاله إلى جبرائيل علیه السلام : أن اهبط إلى عبدي فأخرجه، قال: يارب وكيف لي بالهبوط في النار ؟ قال : إنّي قد أمرتها أن تكون عليك برداً وسلاماً، قال: يارب فما علمي بموضعه؟ قال : إنّه في جبّ من سجّين، قال : فهبط في النار فوجده وهو معقول على وجهه فأخرجه، فقال عزّ وجلّ : يا عبدي كم لبثت تناشدني في النار؟ قال : ما أحصي يارب، قال : أما وعزّتي لولا ما سألتني به لأطلت هوانك في النار ولكنّه حتم على نفسي أن لا يسألني عبد بحقّ محمّد صلی الله علیه و آله وأهل بيته إلّا وغفرت له ماكان بيني و بينه وقد غفرت لك اليوم . (3)

ص: 331


1- الاختصاص : ص223 .
2- کنز العمّال: ج 1 ص 234، والكلمات إشارة إلى قوله تعالى : (فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه) سورة البقرة : 37 .
3- بحار الأنوار: ج 91 ص 1 كتاب الذكر والدعاء باب الاستشفاع بمحمد وآل محمد علیه السلام . ط بيروت.

روي عن الإمام جعفر الصادق أنه كان جالساً في الحرم في مقام إبراهيم فجاء رجل شيخ كبير قد أفنى عمره في المعصية فنظر إلى الإمام الصادق فقال : نعم الشفيع إلى الله للمذنبين فأخذ بأستار الكعبة وأنشأ يقول:

بحق جد هذا يا وليي***بحق الهاشمي الأبطحي

بحق الذكر إذ يوحى إليه***بحق وصيه البطل الكمي

بحق الطاهرين ابني علي***وأُمهما ابنة البرّ الزكي

بحق أئمّة سلفوا جميعاً***على منهاج جدهم النبي

بحق القائم المهدي إلا***غفرت خطيئة العبد المسيء

قال : فسمع هاتفاً يقول : ( ياشيخ كان ذنبك عظيماً ولكن غفرنا لك جميع ذنوبك بحرمة شفعائك، فلو سألتنا ذنوب أهل الأرض لغفرنا لهم، غير عاقر الناقة وقتلة الأنبياء والأئمة الطاهرين) (1).

نعم هناك الكثير من الروايات التي تدلّ على هذا المعنى ولو أردنا ذكرها لطال بنا المقام .

قال رسول الله في حديث المعراج : قال الرب تبارك وتعالى : (أنا المحمود وأنت محمّد، شققتُ لك اسماً من اسمي، من وصلك وصلته ومن قطعك بتكته، أنزل إلى خلقي فأعلمهم بكرامتي إيّاك ) (2) .

ولا يخفى على القارئ الفطن أنّ هذا الحديث القدسي يشمل لوحدة الملاك وما أشبه الإمام أمير المؤمنين على وباقي أهل البيت الا بالتبع .. وذلك لأنهم نور واحد كما جاء في الروايات الشريفة

فقد روي : (إنّ محمداً وعلياً كانا نوراً بين يدي الله قبل خلق الخلق بألفي عام، وأنّ الملائكة لما رأت ذلك النور، رأت له أصلاً قد انشعب منه شعاع لامع، فقالوا : إلهنا

ص: 332


1- بحار الأنوار: ج 91 ص 20 ح 14 كتاب الذكر والدعاء باب الاستشفاع بمحمد وآل محمد ، ط بيروت.
2- كلمة الله : ص 91

وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم : (هذا نور من نوري أصله نبوّة وفرعه إمامة، أمّا النبوة فلمحمد عبدي ورسولي وأما الإمامة فلعليّ حجّتي ووليي ولولاهما ما خلقت خلقي) (1).

وروي أيضاً عن رسول الله له في حديث طويل :

(ومن علي ربّي وقال لي : يا محمّد صلّى الله عليك، فقد أرسلت كلّ رسول إلى أُمّته بلسانها، وأرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود من خلقي، ونصرتك بالرعب الذي لم أنصر به أحداً، وأحللت لك الغنيمه ولم تحلّ لأحد قبلك، وأعطيت لك ولأمتك كنزاً من كنوز العرش : فاتحة الكتاب وخاتمة سورة البقرة، وجعلت لك ولأمتك الأرض كلها مسجداً وطهوراً، وأعطيت لك ولأمتك التكبير، وقرنت ذكرك بذكري فلا يذكرني أحد من أُمتك إلا ذكرك مع ذكري فطوبى لك يا محمد)(2).

أهل البيت والأنبياء

ومن هنا فإنّنا نلاحظ في كتب الأخبار والأحاديث أن الأنبياء قد توسلوا إلى الله تعالى بأهل البيت وذلك في ساعات المحن والشدائد، وفي أوقات العسر والحرج .. ففرج الله عنهم واستجاب دعاءهم .

فعن ابن عبّاس قال : (لما خلق الله تعالى آدم و نفخ فيه من روحه، عطس فقال : الحمد لله، فقال له ربه : يرحمك ربك .. فقال : يارب خلقت خلقاً هو أحبّ إليك مني ؟ قال : نعم، ولولاهم لما خلقتك، قال : يارب فأرينهم ؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إلى ملائكته : أن ارفعوا الحجب ؟ فلما رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش، فقال : يارب من هؤلاء؟ قال عز وجل : يا آدم هذا محمّد نبيّي وهذا علي أمير المؤمنين ابن عم نبي ووصيه، وهذه فاطمة بنت نبيّي، وهذان الحسن والحسين ابنا علي وولدا بنت نبيّي، ثمّ قال تعالى : يا آدم هم ولدك، ففرح بذلك، فلما اقترف الخطيئة قال : يارب أسألك بحق

ص: 333


1- كلمة الله : ص 91
2- كلمة الله : ص 96 .

محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين لما غفرت لي، فغفر الله له، فهذا الذي قال الله تعالى: (فتلقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه ) (1) .

وروى أنس بن مالك عن رسول الله قال: (لما أراد الله عزّ وجلّ أن يهلك قوم نوح أوحى إليه: أن شق ألواح الساج، فلما شقها لم يدر ما يصنع بها، فهبط جبرائيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار فسمر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى مسمار منها فأشرق في يده وأضاء كما يضيء الكوكب الدرّي في أفق السماء، فتحيّر من ذلك نوح . فهبط جبرائیل فقال له نوح : يا جبرائيل ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟ فقال : هذا باسم خير الأولين والآخرين محمد بن عبد الله أسمره في أولها على جانب السفينة الأيمن.

ثمّ ضرب بيده على مسمار ثان فأشرق وأنار فقال نوح : وما هذا المسمار ؟

قال جبرائيل : مسمار أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب فأسمره على الجانب الأيسر أيسر من السفينة في أوّلها.

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار فقال (جبرائيل) هذا مسمار فاطمة فأسمره إلى جانب مسمار أبيها .

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار رابع فأزهر وأنار .. فقال له : هذا مسمار الحسن فأسمره إلى جانب مسمار أبيه .

ثمّ ضرب بيده إلى مسمار خامس فأشرق وأنار ووجد فيه نداوة فقال : يا جبرائيل ما هذه النداوة؟

فقال : هذا مسمار الحسين بن على سيّد الشهداء فأسمره إلى جانب مسمار أخيه . ثم قال النبي : قال الله تعالى : (وحملناه على ذات ألواح ودسر)(2)، والألواح

ص: 334


1- البرهان في تفسير القرآن : ج 1 ص 89 ح 15. وسورة البقرة: 37.
2- سورة القمر : 13.

خشب السفينة، ونحن الدسر لولانا ما سارت السفينة بأهلها) (1) .

وروي أيضاً عن النبي في حديث له قال : ( وإن نوحاً لما ركب السفينة وخاف الغرق قال : اللهمَّ إِنِّي أسألك بحق محمد وآل محمد لما نجيتني من الغرق فنجاه الله ) (2)، والروايات في مثل ذلك كثيرة .

ولقد توسل بهم النبي إبراهيم خليل الرحمن عندما أُلقي في النار فجعل الله النار عليه برداً وسلاماً بفضلهم وبركتهم، فقد ورد عن النبي :

(وإنّ إبراهيم لما أُلقي في النار : اللهمَّ إنِّي أسألك بحق محمد وآل محمد لما نجيتني منها فجعلها عليه برداً وسلاماً) (3) .

وفي هذا يقول شاعر أهل البيت ابن العرندس :

ولولاهم نار الخليل لما غدت***سلاماً وبرداً وانطفى ذلك الجمر (4)

وتوسل بهم النبي يوسف الا لما أُلقي في البئر لينجيه الله سبحانه منها، فقد روي عن الإمام الصادق الا أنه قال : (لما أُلقي يوسف في الجب(5)، نزل عليه

جبرئيل .. وقال له: أتحب أن تخرج من هذا الجبّ؟ فقال : ذلك إلى إله إبراه وإسحاق ويعقوب، فقال جبرائيل : إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمرك أن تقول: اللهمَّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب، فقالها يوسف، فجعل الله له من الجب يومئذٍ فرجاً ومن كيد المرأة مخرجاً، وآتاه ملك مصر ، لم يحتسب) (6) .

كما توسل بهم نبي الله موسى : فقد روي عن رسول الله له في حديث له قال : (وإن موسى لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال : اللهمَّ إِنِّي أسألك بحق محمد

ص: 335


1- راجع بحار الأنوار: ج 26 ص 332 - 14، ط طهران .
2- البرهان في تفسير القرآن : ج 1 ص 89 ح 14 .
3- البرهان في تفسير القرآن : ج 1 ص 89 ح 14 .
4- الغدير : ج 7 ص 18 .
5- الجب بضم الجيم البئر .
6- البرهان في تفسير القرآن : ج 2 ص 247 ح6 .

وآل محمد لما نجيتني، فقال الله جلّ جلاله : لا تخف إنك أنت الأعلى ) (1) .

وعيسى روح الله ا لما أراد اليهود قتله وسأل نجاته من الله بحقهم نجاه الله سبحانه .. فقد روي عن الإمام الرضا أنه قال :

(إنّ عيسى لما أراد اليهود قتله دعا الله بحقنا فنجي من القتل فرفعه إليه)(2).

الملائكة وأهل البيت

كما روي عن رسول الله في حديث طويل أنه : (افتخر إسرافيل على جبرائيل إلى أن قال - فاختصما إلى الله تعالى، فأوحى إليهما : اسكتا، فوعزتي وجلالي لقد خلقت من هو خيرٌ منكما قالا : يارب أو تخلق خيراً منا ونحن خلقنا من نور؟ قال الله تعالى : نعم، وأوحى إلى حجب القدرة : انكشفي، فانكشفت فإذا على ساق العرش الأيمن مكتوب : لا إله إلا الله محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أحباء الله، فقال جبرائيل : يارب فإنّي أسألك بحقهم إلا جعلتني خادمهم؟ قال الله تعالى : قد جعلت، ثمّ قال : فجبرائيل من أهل البيت وأنّه لخادمنا ) (3) .

هذا ويستفاد من بعض الأحاديث الشريفة أنّ الله تعالى قد زين الجنان والسماوات والعرش والكرسي بأسماء أهل البيت وأنوارهم، فقد روي عن رسول الله أنه قال : رأيت على باب الجنّة مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله، الحسن والحسين صفوة الله فاطمة أمة الله على باغضيهم لعنة الله ) (4) .

أسماء أهل البيت المعجزة الإلهية

بعد هذه الجولة الخاطفة السريعة في رحاب أهل البيت وفضائلهم ومنزلتهم

ص: 336


1- البرهان في تفسير القرآن : ج 1 ص 89ح 14 .
2- بحار الأنوار: ج 26 ص 325 ح 7، ط طهران.
3- إرشاد القلوب ص 214 .
4- إرشاد القلوب : ص 214 .

عند الله تعالى هلم أيها القارئ الكريم لنقرأ ما جاء في عظمتهم في مجلة البذرة النجفية في عدديها الثاني والثالث بتاريخ شوّال ذي القعدة عام 1385ه- وذلك نقلاً عما نشرته الجمعية الخيرية الإسلامية في كربلاء المقدّسة إذ نشرت بحثاً مترجماً عن كتاب (إليا) والذي نشرته دار المعارف الإسلامية ب- ( لاهور - باكستان) تحت عنوان : أسماء مباركة توسل بها نوح :

في تموز عام 1951م حينما كان جماعة من العلماء السوفييت المختصين بالآثار القديمة ينقبون في منطقة ب- (وادي قاف) عثروا على قطع متناثرة من أخشاب قديمة منخورة وبالية مما دعاهم إلى التنقيب والحفر أكثر وأعمق ..

فوقفوا على أخشاب أُخرى متحجرة وكثيرة كانت بعيدة في أعماق الأرض ومن بين تلك الأخشاب التي توصلوا إليها نتيجة التنقيب : خشبة على شكل مستطيل طولها (14) عقداً وعرضها (10) عقود، سببت دهشتهم واستغرابهم، إذ أنها لم تتغيّر ولم تتسوّس ولم تتأثر كغيرها من الأخشاب الأخرى.

وفي أواخر أيام عام 1952م أكمل التحقيق حول هذه الآثار فظهر أن اللوحة المشار إليها كانت ضمن سفينة النبي نوح وأن الأخشاب الأخرى هي حطام سفينة نوح ..

وشوهد أنّ هذه اللوحة قد نقشت عليها بعض الحروف التي تعود إلى أقدم لغة .

وبعد الانتهاء من الحفر عام 1953م شكلت الحكومة السوفيتية لجنة قوامها سبعة من . علماء اللغات القديمة ومن أهم علماء الآثار هم :

1: (سوله نوف) أُستاذ الألسن في جامعة موسكو .

2 : (ایفاهان فينو) عالم الألسن القديمة في كلية لولوهان بالعين.

3: (میشاتن تو) مدير الآثار القديمة .

4: (تانمول كورف) اُستاذ اللغات في كلية كيفنزو .

5: (دي راكن) أستاذ الآثار القديمة في معهد لينين .

6: (إيم أحمد كولاد) مدير التنقيب والاكتشافات العام.

7: (میجر کولتوف) رئيس جامعة ستالين .

ص: 337

وبعد ثمانية أشهر من دراسة تلك اللوحة والحروف المنقوشة عليها : اتفقوا على أنّ هذه اللوحة كانت مصنوعة من نفس الخشب الذي صنعت منه سفينة نوح ، وأن النبي نوح كان قد وضع هذه اللوحة في سفينته للتبرك والحفظ، وكانت حروف هذه اللوحة باللغة السامانية وقد ترجمها إلى اللغة الإنجليزية العالم البريطاني (ايف ماكس) أستاذ الألسن القديمة في جامعة مانجستر وهذه ترجمتها بالعربية :

يا إلهي ويا معيني برحمتك وكرمك ساعدني ولأجل هذه النفوس المقدّسة : محمد، إيليا، شبّر ،شبير فاطمة .. الذين هم جميعهم عظماء ومكرمون، العالم قائم لأجلهم ساعدني لأجل أسمائهم، أنت فقط تستطيع أن توجه نحو الطريق المستقيم (1) .

وأخيراً بقي هؤلاء العلماء في دهشة كبيرة أمام عظمة هذه الأسماء الخمسة المقدّسة ومنزلة أصحابها عند الله تعالى حيث توسل بها النبي نوح ، واللغز الأهم الذي لم يستطع تفسيره أي واحد منهم هو عدم تفسّخ هذه اللوحة بالذات رغم مرور آلاف السنين عليها، وأنها موجودة الآن في (متحف الآثار القديمة) في موسكو في الاتحاد السوفيتى وقد شاهدها البعض.

العطاء المقترن بالرضا

يقول تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)(2)، وهذا أعظم إكرام وأسمى احترام من رب العالمين لعبده المصطفى محمد الله ، فالعطاء الرباني سيغدق عليه حتى يرضى في الدُّنيا والآخرة فينتصر على الأعداء ويعم نور الإسلام الخافقين، كما أنه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإلهية .

ثم إن النبي الأعظم الله باعتباره خاتم الأنبياء وقائد البشرية لا يمكن أن يتحقق

ص: 338


1- لا يخفى على القارئ : أنّ إليا وشبّر وشبير أسماء باللغة السامانية ومعناها بالعربية علي وحسن وحسين .
2- سورة الضحى : 5 .

رضاه في نجاته فحسب، بل إنه سيكون راضياً حين تقبل منه شفاعته في أُمته ..

ومن هنا جاءت الروايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه أفضل الصلاة والسلام.

إذاً مما تقدّم يمكن أن نفهم بعض السرّ في التوسل بأهل البيت حينما يدعو العبد قائلاً : (اللهم اجعل صيامي فيه بالشكر والقبول على ما ترضاه ويرضاه الرسول، محكمة فروعه بالأصول، بحق سيّدنا محمد وآله الطاهرين).

فإنّه بذلك يكون أقرب إلى ربّه، كما يكون دعاؤه وأعماله وصيامه وقيامه في هذا الشهر الفضيل أقرب إلى القبول، لأن محمداً لله وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) باب الله ورحمته الواسعة .. خاصة بعد أن وعد ربه سبحانه بأنه سوف يُعطيه حتى يرضى قال تعالى : (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (1) .

ولا شك أن رسول الله وهو الرحمة المهداة لا يرضى لمن شايعه وأحبه ووالاه وتمسّك بعترته وأهل بيته وأحبهم وأخلص لهم الولاية أن تردّ حاجته ويطرد من ساحة الرحمة الإلهية من دون أن يشفع له عند ربه ويدخله في جنان الخلد.

الحمد أوّلاً وآخراً

ثم يختم الداعي في آخر يوم من شهر رمضان المبارك هذا الدعاء المروي عن رسول الله بقوله : (والحمد لله رب العالمين).

وهو يحتمل عدة احتمالات كما يبدو :

الأول : إنه جاء من باب دعاء الختم لشهر الصيام وأعماله بعد المسيرة التي قطعها العبد ثلاثين يوماً في الدعاء والابتهال إلى الله عزّ وجلّ إذ تحدث مع ربه في كل يوم بكامل الخضوع والخشوع وذكر مختلف حوائجه وختمها بأجمل ما يختم به الإنسان كلامه مع ربه كما في قوله تعالى : (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (2) .

ص: 339


1- سورة الضحى : 5 .
2- سورة يونس : 10.

الثاني : إنما جاء من باب السرور والفرح بما اطمأن به العبد من قبول أعماله وطاعاته بعد توسله برسول الله الله و أهل البيت الله ، ومعلوم أن قبول الأعمال نعمة عظيمة تستحق الشكر والحمد لذاكان من الأدب أن يختم العبد كلامه بكلمة الشكر هذه (الحمد لله رب العالمين ) .. بعدما وعده الله من الاستجابة والقبول ..

الثالث : لعلّه كلمة شكر وحمد لنعمة التوفيق والعافية التى رزقها الله عبده حيث أمكنه أن يكمل الصيام والقيام في طول أيام الشهر المبارك ولياليه ..

وهناك احتمالات أُخرى نتركها لمجال آخر .

الخاتمة

وهذا آخر ما أردنا بيانه في هذا الكتاب وهو ما تيسر لنا من توضيح أدعية أيام شهر رمضان المبارك الواردة عن رسول الله الله وهي من أظهر مصاديق (مفاتيح الرحمة) الإلهية .. حيث قال : ( الدعاء مفتاح الرحمة) (1) .

نسأل الله سبحانه وتعالى بحق محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين أن يمن علينا برحمته الواسعة وبالشكر والقبول، وأن يتفضّل علينا بالعافية في الدين والدنيا، وأن يعيده علينا باليمن والبركة في كلّ عام، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين والحمد الله رب العالمين ..

ص: 340


1- إرشاد القلوب : ص 150 عن أمير المؤمنين علیه السلام .

المصادر

1 - القرآن الكريم

2 - نهج البلاغة

3 - الصحيفة السجادية

4 - أخلاق أهل البيت علیه السلام / السيد مهدي الصدر

ه - إرشاد القلوب / الشيخ الديلمي

6 - أسباب النزول / النيسابوري

7- أسد الغابة / ابن الأثير

8 - أسرار الشهادة / العلامة الدربندي

9 - أصول الكافي / الشيخ الكليني

10 - أعلام الدين / الشيخ الديلمي

11 - أقرب الموارد

12 - أنساب الأشراف / البلاذري

13 - الأخبار الطوال / الدينوري

14 - الاسلام دين وتمدن / الحوماني

15 - الإسلام والعلاج النفسي / د. عبد الرحمان البسيوني

16 - الإصابة / ابن حجر العسقلاني

17 - الإقبال / السيد ابن طاووس

ص: 341

18 - الأم / الشافعي

19 - الأمالي / الشيخ الصدوق

20 - الأمالي / الشيخ الطوسي

21 - الأمالي / الشيخ المفيد

22 - الاحتجاج / الشيخ الطبرسي

23 - الاختصاص / الشيخ المفيد

24 - الاعتقادات / الشيخ الصدوق

25 - الباقيات الصالحات / المحدث القمي

26 - البلاغة الواضحة / على الجارم ومصطفى الأمين

27 - البلد الأمين والدرع الحصين / الشيخ الكفعمي

28 - الترغيب والترهيب / المنذري

29 - التفسير الكبير / الفخر الرازي

30 - التمحيص / الشيخ الاسكافي

31 - الجمل / الشيخ الطوسي

32 - الحقائق / الفيض الكاشاني

33 - الحكم الزاهرة

34 - الحياة الأخرى / المطهري

35 - الخصال / الشيخ الصدوق

36 - الدرر السنية / دحلان

37 - الروضة / الشيخ الكليني

38 - الزهد / الحسين بن سعيد (من مصادر البحار)

39 - السياسة / أرسطو

40 - الشفاء / ابن سينا

41 - الصراط المستقيم / زين الدين البياضي العاملي (من مصادر البحار)

ص: 342

42 - الطبقات / ابن سعد

43 - الغارات السياسة / أرسطو طاليس

44 - الغدير / العلامة الأميني

45 - الفائق في غريب الحديث

46 - الفصول المختارة / الشيخ المفيد

47 - القاموس المحيط / الفيروزآبادي

48 - القول السديد / السيّد الشيرازي

49 - الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء / السيد شرف الدين

50 - الكنى والألقاب / المحدث القمي

51 - المؤمن / الشيخ الحسين بن سعيد (من مصادر البحار)

52 - المحاسن / الشيخ البرقي

53 - المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني

54 - المراجعات / الإمام شرف الدين

55 - المزار / الشيخ محمد بن المشهدي (من مصادر البحار)

56 - المستطرف / الابشيهي

57 - المصباح المنير / الفيومي

58 - المعجم الكبير / الطبراني

59 - المعجم الوسيط / الطبراني

60 - المقعنة في الأصول والفروع / الشيخ المفيد

61 - المكاسب / الشيخ الأنصاري

62 - المناقب / ابن شهر آشوب

63 - الموعظة الحسنة / الشيخ علي حيدر المؤيد (المؤلف)

64 - الوافي بالوفيات | الصفدي

65 - الوافي | الفيض الكاشاني

ص: 343

66 - الوصول إلى كفاية الأصول / السيّد الشيرازي

67 - بحار الأنوار / العلامة المجلسي

68 - تأويل الآيات الظاهرة / الشيخ شرف الدين الإسترابادي

69 - تاريخ الطبرى / الطبري

70 - تحف العقول / ابن شعبة الحراني

71 - تعليقات على الصحيفة السجادية / الفيض الكاشاني

72 - تفسير الإمام الحسن العسكري علیه السلام / منسوب إلى الامام العسكري علیه السلام

73 - التفسير الأمثل / الشيخ مكارم الشيرازي

74 - تفسير البرهان / السيد هاشم البحراني

75 - تفسير الجامع لأحكام القرآن / القرطبي

76 - تفسير الدرر المنثور / السيوطي

77 - تفسير الشبر / السيد عبد الله الشبر

78 - تفسير الصافي / الفيض الكاشاني

79 - تفسير العياشي / العياشي

80 - تفسير القمي / علي بن إبراهيم القمي

81 - تفسير الكاشف / الشيخ محمد جواد مغنية

82 - تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي

83 - تفسیر روح المعاني / الآلوسي

84 - تفسير فرات الكوفي | فرات الكوفي

85 - تفسير مجمع البيان / الشيخ الطبرسي

86 - تفسير نور الثقلين / الحويزي

87 - تقريب القرآن إلى الأذهان / السيّد الشيرازي

88 - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة (ورام) / الشيخ ورام بن أبي فراس

89 - تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي

ص: 344

90 - تهذيب الأسماء واللغات / النووي

91 - تهذيب الألفاظ

92 - تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني

93 - توحيد الصدوق / الشيخ الصدوق

94 - ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق

95 - جامع الأخبار / الشعيري (من مصادر البحار)

96 - جامع الأخبار / محمد بن محمد السبزواري

97 - جامع السعادات / المولى النراقي

98 - جمال الأسبوع / السيد ابن طاووس

99 - جمهورية أفلاطون / أفلاطون ، نقله الى العربية حنا خباز

100 - حضارة الإسلام

101 - حلية الأبرار / السيد هاشم البحراني

102 - حياة الإمام موسى بن جعفرعلیه السلام / القرشي

103 - حياة الحيوان / الدميري

104 - خزانة الأدب / البغدادى

105 - خصائص الأئمة / الشريف الرضي

106 - خلاصة الكلام / السمهودي

107 - دعائم الإسلام / القاضي نعمان المصري

108 - دعوات الراوندي / الراوندي

109 - دیوان جرير

110 - ربيع الأبرار / الزمخشري

111 - روضات الجنات / الخونساري

112 - روضة الواعظين / محمد بن الحسن النيشابوري

113 - رياض السالكين / السيد علي خان المدني

ص: 345

114 - سفينة البحار / المحدث القمي

115 - سنن الترمذي / محمد بن عيبسى البوغي

116 - سنن الدارمي / الدارمي

117 - شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهارعلیه السلام / التميمي المغربي

118 - شرح الباب الحادي عشر / العلامة الحلي

119 - شرح ديوان المتنبي / العكبري

120 - شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي

121 - شرح نهج البلاغة / ابن ميثم البحراني

122 - شهداء الفضيلة / الشيخ الأميني

123 - صحیح مسلم | مسلم بن الحجاج القشيري

124 - صحيفة الإمام الرضا علیه السلام / منسوب إلى الامام الرضا علیه السلام

125 - صفات الشيعة / الشيخ الصدوق

126 - طب النبي صلى الله عليه وسلم

127 - عدة الداعي / ابن فهد الحلي

128 - علل الشرائع / الشيخ الصدوق

129 - عوالم العلوم والمعارف / الشيخ عبد الله البحراني

130 - عيون أخبار الرضا علیه السلام / الشيخ الصدوق

131 - غرر الحكم / الآمدي

132 - غوالي اللئالي / أبو جمهور الأحسائي

133 - فروع الكافي / الشيخ الكليني

134 - فضائل الأشهر الثلاثة / الشيخ الصدوق

135 - فضائل الخمسة من الصحاح الستة / السيد مرتضى الفيروزآبادي

136 - فقه الرضاء علیه السلام / منسوب الى الإمام الرضا علیه السلام

137 - فقه القرآن / قطب الدين الراوندي

ص: 346

138 - فلاح السائل / السيد ابن طاووس

139 - قرة العيون / الفيض الكاشاني

140 - قصص الانبياء / الجزائري

141 - كحل البصر / المحدث القمي

142 - كشف الريبة

143 - كشف الغمة / الشيخ الأربلي

144 - كمال الدين / الشيخ الصدوق

145 - كنز العمال / المتقي الهندي

146 - كنز الكراجكي / الكراجكي

147 - لسان العرب / ابن منظور

148 - مائة منقبة / ابن شاذان

149 - مثير الأحزان / ابن نما الحلي

150 - مجاني الأدب

151 - مجمع البحرين / الطريحي

152 - محاسبة النفس / السيد ابن طاووس

153 - المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري

154 - مستدرك الوسائل / العلامة النوري

155 - مسكن الفؤاد / الشهيد الثاني

156 - مشكاة الأنوار في غرر الأخبار / أبو الفضل الطبرسي

157 - مصباح الشريعة / منسوب الى الإمام الصادق علیه السلام(من مصادر البحار)

158 - مصباح الكفعمي / الكفعمي

159 - مصباح المتهجد / الشيخ الطوسي

160- - معجم ألفاظ القرآن الكريم / الشيخ فؤاد عبد الباقي

161 - معجم مقاييس اللغة / أبو الحسين القزويني الرازي

ص: 347

162 - مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الاصفهاني

163 - مقتل الحسين علیه السلام/ الخوارزمي

164 - مقتل الحسين علسه السلام / السيد المقرم

165 - مكارم الأخلاق / الشيخ الطبرسعي

166 - من روائع القرآن / البوطي

167 - منية المريد / الشهيد الثاني

169- من فقه الزهراء علیه الزهرا/ السيّد الشيرازي

170 - نزهة المجالس

171 - وسائل الشيعة / الحر العاملي

172 - ينابيع المودة / القندوزي

ص: 348

الفهرس

دعاء اليوم السادس عشر

أصحاب النفوس السامية ...5

رمضان شهر البرّ والتقوى...7

من هم الصادقون؟ ...11

من هم المتّقون؟ ...12

مراتب اليقين...19

قلوبهم محزونة...21

ليالي المتّقين ...24

نهاية المطاف...26

صحبة الأخيار وترك الأشرار ...28

دعاء اليوم السابع عشر

المؤمن بين العمل الصالح والطموح...31

الهداية ...33

الهداية نعمة رباّنية ...36

رفيق المرء في الدارين ...39

العمل الصالح ذخيرة ...42

سَلْ هؤلاء...48

الصلوات على النبيّ وآله...52

ص: 349

دعاء اليوم الثامن عشر

من بركات الأسحار ...55

معنى بركات الأسحار...57

صلاة الليل...61

صلاة الليل وأثرها على الإنسان...63

الله نور السماوات والأرض ...66

تجلّيات نور الله...70

دعاء اليوم التاسع عشر

رمضان شهر البركات...73

من بركات الصوم ...75

الصوم منشأ البركات ...76

حسنات الصوم ...79

الصوم صحّة ...81

1 البركات الصحّية ...81

2 البركات النفسية ...81

الحظّ....83

منهج أعمال رمضاني ...84

الحّق المبين...87

دعاء اليوم العشرين

على أبواب الجنان ...89

ما هي الجنّة؟ ...91

ثمن الجنّة ...96

الجنّة محرّمة على ...100

المنازل الخاصّة في الجنّة...104

ص: 350

غروس الجنّة ...105

أبواب جهنّم والحذر منها ...108

أصحاب النار...112

مفاتيح الرحمة والعذاب ...114

التلاوة مفتاح الجنّة...115

السكينة والاطمئنان ...116

دعاء اليوم الواحد والعشرين

الدليل إلى مرضاة الله...117

الأدلّاء على مرضاة الله ...119

من صفات الدليل إلى الله ...121

في ذكرى استشهاد أمير المؤمنين علیه السلام ...123

الشيطان يسدّ طريق الرضا ...127

كيف نقاوم الشيطان؟ ...129

معنى المقيل ...131

الجنّة وشهر رمضان ...132

دعاء اليوم الثاني والعشرين

أبواب الفضل الإلهى...135

أبواب الفضل ...137

من صور الفضل الإلهي...139

الفرق بين الفضل والرحمة ...142

البركة تمام الفضل ...145

رضى الله ورضى العبد ...148

الحسين علیه السلام وعبيد الله بن الحرّ...150

بحبوحات الجنان ...153

دعوة المضطرّين ...154

ص: 351

دعاء اليوم الثالث والعشرين

طهارة الإنسان روحاً وجسداً...157

الطهارة المعنوية والمادّية ...159

تطهير الروح ...163

بين الستر والتطهير ...165

القلب وعاء التقوى ...166

من آثار التقوى ...168

التقوى سرّقوّة المسلمين ...172

دعاء اليوم الرابع والعشرين

فى رحاب الرضا ...175

الأسباب والمسببات...177

من أسباب الرضى ...179

قضاء حوائج الناس ...183

موجبات سخط الله تعالى...185

التوفيق لطاعة الله تعالى...187

إن تسأل فاسأل جواداً ...189

دعاء اليوم الخامس والعشرين

السعادة في الدارين...193

طرق السعادة ...195

الولاية ...195

هل تكفى المعرفة وحدها؟ ...197

مودة أهل البيت علیه السلام...200

مواقف ولائية ...205

أهل البيت علیه السلام في كتب العامّة ...206

ص: 352

ضريبة الولاية ...208

الاستنان بسنّة النبي صلی الله علیه و آله...210

من حكمة التشريع...211

عصمة الأنبياء علیه السلام ...218

ترك الأولى...223

دعاء اليوم السادس والعشرين

آثار السعى المشكور...227

معنى السعي...229

شروط النجاح...231

غفران الذنوب ...237

حقيقة التوبة...239

أدلّة وجوب التوبة ...240

الإخلاص في العمل...242

ستر العيوب...245

أسمع السامعين ...249

دعاء اليوم السابع والعشرين

ليلة المواهب الإلهية ...253

روايات في ليلة القدر...255

على بساط المعنى ...260

العطاء المستمرّ...263

سلام هي...267

بين العسر واليسر ...269

قبول المعاذير...274

الوزر ومعناه ...276

الرؤوف الرحيم ...279

ص: 353

دعاء اليوم الثامن والعشرين

الإيمان علم وعبادة ...281

العبادة حاجة فطرية ...283

وجهان لحقيقة واحدة ...285

إخفاء العبادة أم إظهارها؟...286

توقيفية العبادة ...287

بین النافلة والفرض...288

إحضار المسائل...291

مسائل الحلال والحرام...291

المسائل الاعتقادية...291

مسائل العلوم والمعارف...292

فضل العلم والعلماء...294

الوسيلة الأقرب إلى الله ...296

دعاء اليوم التاسع والعشرين

فى رحاب الرحمة الإلهية ...299

الرحمة فوق كلّ شيء...301

تجلّيات رحمة الله...303

الاعتصام بالله...306

مراتب العصمة ...307

طهارة القلب ...308

من سمات المؤمنين...311

هكذا الدعاء ...315

وأخيراً ...316

ص: 354

دعاء اليوم الثلاثين

فى رحاب العترة الطاهرة ...317

العدل شريعة الكون ...319

هل هذا شرك؟...322

الإحكام بالأصول...326

أهل البيت علیه السلام في القرآن ...328

1 . آية التطهير...328

2. وآية المباهلة ...328

3. وآية المودّة ...329

4. وآية الولاية ...329

5. وآية التبليغ ...329

6. وسورة الإنسان ...329

أهل البيت علیه السلام في الحديث ...331

أهل البيت والأنبياء علیه السلام ...333

الملائكة وأهل البيت علیه السلام ...336

أسماء أهل البيت علیه السلام المعجزة الإلهية ...336

العطاء المقترن بالرضا...338

الحمد أوّلاً وآخراً...339

الخاتمة ...340

المصادر ...341

الفهرس...349

ص: 355

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.