مفاتيح الرحمة المجلد 1

هوية الكتاب

الكتاب: مفاتيح الرحمة

المؤلف : الشيخ على حيدر المؤيد

الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية

عدد الصفحات و القطع : 764 صفحة وزيري

عدد الطبع : 1000 جلد

سنة الطبع : 1382 - 1424

الطبعة : الأولى

المطبعة : شریعت

السعر: 5000 تومان

شابك: 7 - 05 - 8163 - 964

محرّر الرقمي: محمد رادمرد

ص: 1

اشارة

مفاتيح الرحمة

دراسة موضوعيّة

لادعية أيام شهر رمضانَ المُبَارَكَ

الخطيب

الشيخ على حيدر المويّد

الجزء الاوّل

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ص: 3

بسم اللّه الرحمن الرحيم

(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ)

سورة الفرقان: 77

الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

الدعاء مفتاح الرحمة

إرشاد القلوب: ص 150

ص: 4

مقدّمة

الحمد للّه الذي أذن لنا في دعائه، وقربنا إلى فنائه، ووعدنا بإجابته، فقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (1) والصلاة والسلام على خير خلقه وأفضل بريّته، وأشرف أنبيائه ورسله، محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين الذين بموالاتهم تقبل الصلوات وببركاتهم تستجاب الدعوات وهم خير من دعا اللّه وحرص على الدعاء وبين كيفيته وأصله وفرعه، وآدابه وشرائطه، حتى صار من أعظم السنن، في السر والعلن.

أما بعد: فإن الإنسان يمتاز على سائر المخلوقات بميزات عديدة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (2) وقد يكون من أهمها الجانب الروحي، فالإنسان مركب من الجسم والروح، ولكل منهما طلبات وقد تكفلت التعاليم السماوية بتنمية الإنسان وكماله روحاً وجسماً، بما للكلمة من معنى.. ولكن (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (3)، فنراه اليوم قد نسي الجانب الروحي وهو الأهم في حياته وربما أخذ البعض يستهزئ به وصار ينهمك في الماديات ويغور فيها...

فتجد اليوم التقدم الكبير في الصناعة والزراعة وما أشبه، والتأخر الأكبر في قضايا الروح والمقومات الإنسانية.. المعنوية. فقد سلبت عنه أكبر نعمة وهي مناجاة رب

ص: 5


1- سورة غافر: 60.
2- سورة الإسراء: 70.
3- سورة سبأ: 13.

العالمين، كما أوحى تعالى لداوود (عَلَيهِ السَّلَامُ): (...انزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم) (1).

وفي الحديث القدسي أيضاً: (إن الهم بالدنيا يذهب حلاوة مناجاتي) (2).

ولذلك غطت البشرية كثرة الأمراض النفسية والأسقام الروحية وزادت يوماً بعد يوم أرقام الانتحارات وما أشبه، وخصوصاً في البلاد غير الإسلامية - كما تدل عليه الإحصاءات - والكل يبحث عن علاج وينادي بكله أين الدواء؟ فلم يجد إلا بعض المسكنات الوقتية...

ولا يوجد العلاج الحقيقي إلا في مدرسة السماء في القرآن الكريم والعترة الطاهرة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) فإنهم قد رسموا للبشرية جمعاء أفضل خطط العلاج وأحسنها بل بينوا طرق الوقاية من قبل...

فهنا (مفاتيح الرحمة) يمكنها أن تغير الإنسان من واقعه المزري نحو الأحسن...ألا وهي الدعاء.. والرجوع إلى خالق الداء والدواء.. إلى اللّه سبحانه..

ففي عصر يكتم أنفاس الروح التواقة إلى خالقها، المجبولة على حبّه بالفطرة التي فطر الناس عليها.. وتحت وطأة الحياة المادية التي تكاد تقضي على آخر ومضات هذه الروح، يلوح ذلك الشعاع النوراني الذي يعيد الأمل لهذا الكائن الأرضي المتحيّر ويفتح له أبواب الرحمة والنجاة..

وذلك هو الدعاء..

فالدعاء مدرسة متكاملة تتكفل بكثير من طلبات الإنسان المعنوية، بل والمادية أيضاً، فكما ورد الدعاء لصفاء الروح من الرذائل وتحليتها بالفضائل ولتقرب العبد إلى مولاه جل وعلا، كذلك ورد الدعاء لزيادة الرزق، ولطول العمر، وللشفاء من الأمراض

ص: 6


1- علل الشرائع، ص،394، ب،131، ح،12 باب العلة التي من أجلها حرم اللّه الكبائر، وفيه: (أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داوود (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن اولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم). وراجع أيضاً مشكاة الأنوار ص 140 الفصل الثامن. ومنية المريد ص 138، وص 142،، فصل في لزوم الإخلاص.
2- مسكن الفؤاد ص 85 الباب الثالث في الرضا.

الجسمية وما أشبه.

وهذا الكتاب توضيح لبعض ما ورد في هذه المدرسة المتكاملة.. مدرسة الدعاء والروح.. فهو شرح للأدعية الشريفة الواردة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في أيام شهر رمضان المبارك، وقد سميناه (مفاتيح الرحمة) لما ورد عن علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من أن (الدعاء مفتاح الرحمة) (1).

ولقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (فإذا أذن اللّه للعبدني الدعاء فتح له باب الرحمة) (2)..

ورأينا من المناسب في هذا الكتاب أن نشير إلى بعض الحقائق المعنوية في كنه الدعاء، ونعدها (مدخلاً) إلى الكتاب وتوطئة له.

ونحن إذ نقدم هذا الجهد المتواضع للقارئ الكريم نبتهل إلى اللّه عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ويبعث ثوابه إلى الأرواح الطيبة.. لأئمتنا وسادتنا وشفعائنا، والذين آثرونا بالعلم والمعرفة، وعلمونا آداب العمل والحديث مع اللّه سبحانه وبث الحوائج إليه تعبداً وخشوعاً...

فعليهم صلوات المصلين من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.. وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين (3)

الكويت

1/ شوال / 1414ه_

الشيخ علي حيدر المؤيد

ص: 7


1- إرشاد القلوب ص 150، وتحف العقول ص 85.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 2، ص 237.
3- إشارة إلى قوله تعالى: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) سورة يونس: 10.

ص: 8

المدخل:

جوهر العبادة

لاشك بأن الفاصلة بين عالم الواجب وعالم الممكن كبيرة وكبيرة جداً، بل أكبر مما يدل عليها لفظ أو تعبير.. فإن عالم الواجب هو عالم الخالق تعالى بما فيه من کمالات وغنى مطلق لا يدركه عقل محدود أو فهم قاصر، كما ورد في الدعاء: (يامن لا تُدرك الأفهام جلاله، يا من لا تنال الأوهام كنهه) (1).

كما أن عالم الإمكان هو عالم المخلوق بما فيه من فقر ونقص وعجز مطلق وفي كل المجالات...وقد ورد في الدعاء: (إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي) (2).

فلا قياس بين العالمين ولا تشبيه بالمعنى الفلسفي الدقيق.. ولكن رحمة اللّه الخالق الغني ورأفته العامة فتحت للمخلوقين الفقراء العاجزين باباً للاتصال به والاستمداد من فيضه وفضله، وذلك الباب هو العبادة والدعاء.

ولعل من هنا أصبحت العبادة التي تتضمن سعادة الإنسان وكماله: غاية للخلق والتكوين.. قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (3).

فالعبادة هدف خلق الإنسان، ولها الدور المحوري في حياته.. ومحور العبادة والعبودية وروحها السارية هو الدعاء.. كما ورد في الحديث الشريف: (الدعاء مخ العبادة) (4).

ص: 9


1- مصباح الكفعمي ص 254 الفصل 28 في أدعية لها أسماء معروفة، الدعاء 55.
2- الإقبال ص،348 فصل فيما نذكره من أدعية في يوم عرفة.
3- سورة الذاريات: 56.
4- عدة الداعي (لأحمد بن فهد الحلي) ص 40، وإرشاد القلوب ص 90، ب 22، وص 148، ب 47.

فإن (المخ) في بعض معانيه لغوياً يعني: لب الشيء وخالصه.. قال في لسان العرب المخ: نقي العظم وفي التهذيب : نقي عظام القصب...والمخ حب الزرع: جرى فيه الدقيق...ومخ كل شيء خالصه، ومن مخ قلبي أي صافيه (1).

والعبادة لها مظهر ولها لب..

فمظهرها الأعمال والحركات والسكنات الخاصة في الصلاة والصيام والحج ونحوها.. ولبها الخضوع والتذلل للّه سبحانه..

قال الشيخ أحمد بن فهد الحلي (قدّس سِرُّه):

(إن الدعاء عبادة في نفسه لما فيه من إظهار الخشوع والإفتقار إليه، وهو أمر مطلوب اللّه عز وجل من عبيده...والعبادة في اللغة هي الذلة، يقال: طريق معبد، أي مذلل بكثرة الوطء عليه، وفي الاصطلاح: العبادة أو في ما يكون من التذلل والخشوع للمعبود) (2).

فالدعاء من أجلى مظاهر الخضوع والتذلل والشعور بالنقص والحاجة إليه سبحانه في أصل الوجود وفي كمالاته...

كما ورد عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) : (أفضل العبادة الدعاء) : (3)

وفي الحديث الشريف أيضاً: (أحب الأعمال إلى اللّه عز وجل في الأرض الدعاء) (4).

بل ورد عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (الدعاء بعد الفريضة أفضل من الصلاة

ص: 10


1- لسان العرب: مادة (مخخ)، وفيه أيضاً: (وفي الحديث: الدعاء مخ العبادة، مخ الشيء خالصه، وإنما كان مخاً لأمرين أحدهما إنه امتثال أمر اللّه حيث قال: (ادعوني)، فهو محض العبادة وخالصها، الثاني: إنه إذا رأى نجاح الأمور من اللّه قطع أمله عن سواه ودعاه لحاجته وحده، وهذا هو أصل العبادة، ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء) انتهى.
2- عدة الداعي ص 29.
3- مجمع البيان: ج 4، ص 529 تفسير سورة غافر، ودعائم الإسلام ج 1، ص 166، عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام).
4- عدة الداعي ص 39، ومكارم الأخلاق: ص 269 فيما جاء في فضل الدعاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

تنفلاً) (1).

وعن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه سئل عن رجلين دخلا المسجد في وقت واحد وافتتحا الصلاة في وقت واحد وكان دعاء أحدهما أكثر وكان قرآن الآخر أكثر، أيهما أفضل؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (كل فيه فضل وكل حسن، قيل: قد علمنا ذلك ولكنا أردنا أن نعلم أيهما أفضل؟ قال: الدعاء أفضل، أما سمعت قول اللّه عز وجل يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (2)هي واللّه أفضل.. أليست هي العبادة، هي واللّه العبادة)(3)، الحديث.

وفي بعض معاني (المخ) : الدماغ، ذلك العضو البشري الذي يتحكم بوجود الإنسان ومشاعره وينظم حركاته وسكناته، قال في لسان العرب المخ الدماغ (4)، ولعل الدعاء من حيث الدور يكون مخاً وعقلاً للعبادة، لأنه يرجع العبادة إلى جوهرها وحقيقتها التي ينبغي أن تكون عليها من المعرفة بالمعبود، ثم التأدب في محضره والتقرب إليه والالتزام بما يحب والاجتناب عما يبغض..

هذا من جهة..

ومن جهة أخرى.. فإن العقل يفتح عيون الإنسان على الحياة ويبصره بمستقبله و مصيره، ويصحح سلوكه ويقوم مسيرته، وحيث أن حياة الإنسان وسعادته فيها ما يمكن للإنسان أن يدركه ويتوصل إلى أسبابه الظاهرية، وفيها ما لا يدركه الإنسان ولا يتوصل إلى أسبابه لأنها أسباب خفية وراء الغيب، لذا كان عليه أن يمتلك (مفتاح الغيب) ويتوصل إلى أسبابه..

والدعاء هو ذلك المفتاح الروحاني العجيب.. وقد ورد في الحديث: (الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح) (5).

ص: 11


1- دعائم الإسلام: ج 1، ص 166، ذكر الدعاء بعد الصلاة.
2- سورة غافر: 60.
3- دعائم الإسلام: ج 1، ص 166، ذكر الدعاء بعد الصلاة.
4- لسان العرب: مادة (مخخ).
5- أصول الكافي: ج 2، ص 468، کتاب الدعاء، باب: الدعاء سلاح المؤمن، ح 2.

وفي بعض الروايات: (الدعاء مقاليد الفلاح ومصابيح النجاح) (1).

وفي بعضها: (الدعاء مفتاح الرحمة) (2).

وكثير من أسباب الفلاح والنجاح من الغيب.. حيث أنهما يشكلان مستقبل الإنسان ومصيره، ومن هذه الجهة يكون الدعاء كالعقل للعبادة ومخاً لها أيضاً.

***

كما أن الدعاء مفتاح خزائن اللّه سبحانه، فإن اللّه سبحانه قد جعل الفيض والرزق والبركة ونحوها خزائن، حيث قال عزّ من قائل: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (3).

والخزينة عادة تحتاج إلى مفتاح يفتحها ويستنزل عطاءها.. ولعل في هذا السياق ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته للإمام الحسن المجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول فيها: (أعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه...ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه) (4).

إذ كشف (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن هذه الحقيقة وربطها بالإنسان نفسه وعلمه طريقها وهو الدعاء.. فالدعاء إذا حاجة فطرية وضرورية للإنسان ناشئة من فقره الذاتي وحاجته المطلقة إلى اللّه سبحانه.

كما هو حاجة كبرى في حياته وبناء مستقبله، وهذه حقيقة كونية ينبغي أن يؤمن بها الإنسان ويتعاطى معها بإخلاص ومحبة، ولو استغنى عنها في أموره يكون قد خالف فطرته أولاً، وعرض حياته إلى البؤس والشقاء ثانياً، لأنه حرم نفسه غيث الرحمة الإلهية وأغلق عليه أبوابها.

ص: 12


1- تنبيه الخواطر : ج 2، ص 154.
2- تحف العقول: ص 85 وإرشاد القلوب ص 150.
3- سورة المنافقين: 7.
4- بحار الأنوار، ج 90 ص 301، کتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء والحثّ عليه ح 38، بيروت.

المدخل

وقد ورد عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (1) قال: (هو الدعاء وأفضل العبادة الدعاء) (2).

كما ورد في بعض الأخبار أيضاً إن الدعاء سبب للنجاة وأمان من البلاء...فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (لا يردّ القضاء إلا الدعاء) (3).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن اللّه سبحانه سطوات ونقمات فإذا نزلت بكم فادفعوها بالدعاء فإنه لا يدفع البلاء إلا الدعاء) (4).

وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أفضل العبادة الدعاء فإذا أذن اللّه للعبد في الدعاء فتح له باب الرحمة إنه لن يهلك مع الدعاء أحد) (5).

وفي الروايات: (ولا يدفع القضاء إلا الدعاء) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من سره أن يكشف عنه البلاء فليكثر من الدعاء) (7).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الدعاء شفاء من كل داء) (8).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (فأما الدعاء فيدفع عنكم به البلاء) (9).

هذا في مقام الرفع أي العلاج، فبالدعاء يمكن للإنسان أن يرفع ما نزل من البلاء كما ورد في الروايات المذكورة..

وكذلك في مرحلة الدفع أي الوقاية ترى دور الدعاء، فالدعاء يسبب عدم نزول

ص: 13


1- سورة غافر : 60.
2- الكافي: ج 2، ص 466.
3- مكارم الاخلاق ص 268 فيما جاء في فضل الدعاء.
4- تصنيف غرر الحكم القسم الثاني: ص 192.
5- تنبيه الخواطر: ص 463، وراجع بحار الأنوار: ج 93، ص 300.
6- كشف الغمة : ج 2، ص 118، وشبهه في ص 148.
7- إرشاد القلوب: ص 149، باب 47 في الدعاء وبركته.
8- مكارم الأخلاق ص 268، فيما جاء في فضل الدعاء.
9- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 61، المجلس 15، ح2.

البلاء ابتداءاً، كما قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (تقدّموا في الدعاء قبل نزول البلاء)(1).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الدعاء يردّ ما قدر وما لم يقدر) (2).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا قللوا الدعاء نزل البلاء) (3).

وفي حديث آخر: (إذا قل الدعاء نزل البلاء) (4).

ص: 14


1- تحف العقول: ص 85.
2- الاختصاص ص 219، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعدة الداعي ص 16، عن الإمام الكاظم.
3- جامع الأخبار: ص 180، فصل 141.
4- دعوات الراوندي: ص 22.

الدعاء منهج اجتماعي

تتميّز عبادة الدعاء من حيث أهميتها بتقوية وتنشيط الجانب الاجتماعي في حياة الإنسان أيضاً.. فانضمام المؤمنين في صلاة الجماعة والجمعة التي من جوهرها الدعاء والمتضمنة للقنوت الذي هو الآخر دعاء.. والمشتملة على غيره من الأدعية كقولك في سورة الحمد: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (1).

والدعاء للمؤمنين قبل أن يدعو المؤمن لنفسه، جيراناً كانوا أو أرحاماً أو أصدقاء، كل هذه الأمور تجعل من الدعاء وسيلة اتصال مثالية بين المؤمن وأخيه المؤمن، ففي الحديث الشريف المروي عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من قدَّم أربعين رجلاً من إخوانه فدعا لهم ثم دعا لنفسه استجيب له فيهم وفي نفسه) (2).

ولنا أن نتصور مدى العلاقة الحميمة التي يولدها الدعاء لأربعين مؤمنا، فلو أن كل عشرة من المؤمنين ذكروا في دعائهم هذا العدد من المؤمنين، وهكذا بالنسبة للمؤمنين الآخرين، كان مؤثراً في مدى تلاحم هذا المجتمع الإيماني ومدى تعاطفه وتماسكه بحيث يصعب على الخصوم اختراقه.. هذا من جهة..

ومن جهة أخرى: فإن اللّه تعالى قد حتم على نفسه الإجابة لدعاء المؤمن في حق أخيه، كما في الأخبار العديدة، وهذا بدوره يضمن لأفراد المجتمع إجابة دعواتهم وقضاء حوائجهم واستغنائهم عن الغير، فقد ورد عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أوشك دعوة وأسرع إجابة دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب)(3).

ص: 15


1- سورة الفاتحة: 6 و 7.
2- بحار الأنوار: ج 90، ص 383، كتاب الدعاء، باب 26، الدعاء للإخوان بظهر الغيب، ح2.
3- عدة الداعي ص 183.

وفي رواية أخرى: (بدر الرزق ويدفع المكروه) (1).

ويبدو أنه يكون أسرع إجابة لكونه أقرب إلى الإخلاص، والدعاء المقرون بالإخلاص أسرع إجابة من غيره، أو لأن اللّه سبحانه يكون في عون الداعي لأن اللّه سبحانه في عون العبد مادام العبد في عون أخيه..

وورد أيضاً عن جابر عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (2) : (هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب فيقول له الملك ولك مثل ما سألت وقد أعطيت لحبّك إياه) (3).

والظاهر أن (الأخ) يشمل بإطلاقه الواحد والجماعة من المؤمنين، أحياءً كانوا أم أمواتاً.

كما أن المقصود من المؤمن والأخ الأعم منه ومن المؤمنة والأخت فلا يقتصر على المؤمنين والإخوة بل يشمل المؤمنات والأخوات أيضاً كما ثبت ذلك في علم الأصول، فدعاء المؤمنة لمؤمنة أخرى أو لمؤمن أو بالعكس يكون من مصاديق هذا الحديث الشريف.

والمراد من الملك ربما هو الموكل بالعبد لكتابة أعماله وحفظه عن الشياطين كما في بعض الأخبار.

***

وفضلاً عن الفوائد المعنوية والاجتماعية الكبيرة هذه.. فإن للدعاء دوراً هاماً في تهذيب الجانب الأخلاقي من حياة الإنسان أيضاً، إذ يكسبه الشفافية الروحية وحب إخوانه المؤمنين، والتخلق بأخلاق اللّه تعالى، فيكون ذلك مقتضياً للتحلي بالصفات الحسنة من الصدق وحسن الظن وحسن الخلق والحلم والعفو والرفق واللاعنف

والمداراة والإيثار والضيافة والكرم وصلة الرحم وما أشبه.

ص: 16


1- عدة الداعي ص 185.
2- سورة الشورى: 26.
3- عدة الداعي : 185.

بيان ذلك: إن الإنسان عندما يقرأ الدعاء ويطلب من اللّه سبحانه أن يرزقه هذه الفضائل - كما في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) - يكون كالتلقين إلى نفسه بلزوم التحلي بها، وأثر التلقين غير خفي على من له إلمام بعلم النفس.

وإذا أخذ يدعو لإخوته المؤمنين فمن الواضح أنه سيتحلى بالأخلاق الاجتماعية كحب الآخرين وما أشبه.

كما يكون الدعاء من أسباب ترك كثير من الرذائل الخلقية، كالحسد والغيبة والنميمة وسوء الظن وسوء الخلق والغضب والعنف والانتقام والتكبر والحرص والبخل و...

هذا بالإضافة إلى التأثير النفسي في شخصية الإنسان، فالتوجه إلى اللّه القادر المطلق الرؤوف الرحيم علاج للكثير من الأمراض النفسية والروحية، بل وقاية للعديد منها، كما ثبت ذلك في (علم النفس) قال تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (2).

وبقي هنا أن نشير إلى ميزة أخرى في هذه العبادة الخاصة - أي الدعاء - وهي زرع حالة الاستقلالية عند المؤمن والاكتفاء بالسؤال من اللّه تعالى دون سؤال الناس، وقد أكدت الروايات الشريفة على أن سرعة الاستجابة مرتبطة بمدى تفرغ الإنسان لربه وعدم الاعتماد على غيره والطلب من سواه، فإن من يطلب من غيره تعالى لن ينال سوى الذل والمهانة ومن ثم الفقر...

ففي رواية عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من سأل غير اللّه استحق الحرمان) (3). وفي رواية أخرى: (إنكم إن رجوتم اللّه بلغتم آمالكم وإن رجوتم غير اللّه خابت أمانيكم وآمالكم) (4).

ص: 17


1- الصحيفة السجادية: دعاء مكارم الأخلاق.
2- سورة الرعد: 28.
3- تصنيف غرر الحكم ص 193، الباب الثاني، ذم السؤال عن غير اللّه.
4- تصنيف غرر الحکم ص 193، الباب الثاني، ذم السؤال عن غير اللّه.

وإذا كان الدعاء سلاح الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) كما يشير الحديث الشريف عن مولانا الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث كان يقول لأصحابه: (عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل له: وما سلاح الأنبياء؟ فقال: الدعاء) (1).

فحري بالمؤمن أن يتسلح به أيضاً فقد ورد: (الدعاء سلاح الأولياء) (2).

و: (الدعاء سلاح المؤمن) (3).

وذلك ليدرأ عن نفسه البلاء الدنيوي والعذاب الأخروي، ويضمن لنفسه حياة اجتماعية هانئة وما إلى ذلك من فوائد الدعاء، ولو عرف الإنسان قدر الدعاء كما روي عن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعرف مدى تأثيره لما تركه بحال من الأحوال.

ففي الحديث الشريف: (الدعاء أنفذ من السنان) (4)، فكما أن السنان ينال مطلوبه ويصيب هدفه، فإن الدعاء أكثر نفوذاً في المطلوب وأصابته للهدف.. لأنه يتم بإرادة اللّه سبحانه ولطفه، وإرادته لا يتخلف عنها المراد بحال من الأحوال.

و عن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر) (5).

ولعل تشبيه الدعاء بالسحاب من جهة أن السحاب مظنة هطول المطر، فكذلك الدعاء فإنه مظنة الإجابة.

ص: 18


1- بحار الأنوار: ج 90، ص 300، کتاب الذكر والدعاء، باب فضل الدعاء، ح37، ط بیروت.
2- غرر الحكم ص 192، ح 3743.
3- غوالي اللئالي: ج 4، ص 19.
4- مكارم الأخلاق: ص 270، فيما جاء في فضل الدعاء، وفلاح السائل: ص 28 الفصل الرابع.
5- أصول الكافي: ج 2، ص 471، کتاب الدعاء، باب أن من دعا استجيب له.

الدعاء عمود الدين

العمود في اللغة: هو الأساس الذي يبتني عليه الشيء، فلولاه لما كان ذلك الشيء، وعمود الفسطاط ما يقوم به الفسطاط، كما قال في لسان العرب:

(العمود الذي تحامل الثقل عليه من فوق كالسقف يعمد بالأساطين المنصوبة، وعمد الشيء يعمده عمداً: أقامه، والعماد ما أقيم به وعمدت الشيء فانعمد: أي أقمته بعماد يعتمد عليه...والعمود: الخشبة القائمة في وسط الخباء) (1).

ومن الواضح إن الدين يبتني ويعتمد على أسس ومن أهمها الصلاة، كما ورد ذلك في الأحاديث:

قال أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّه اللّه في الصلاة فإنها عمود دينكم)(2).

وفي رواية: (الصلاة عمود الدين فمن تركها فقد هدم الدين) (3)..

ومن أسس الدين وأعمدته الدعاء أيضاً، فالدين الخالي عن الدعاء لا يكون ديناً، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (الدعاء سلاح المؤمن وعمود الدين) (4).

ولذا نرى أن جميع الأديان حتى المنحرفة منها تشتمل على أبواب من الدعاء بنسبة أو أخرى.

نعم لاترى ديناً كالإسلام ولا مذهباً كمذهب أهل البيت(عَلَيهِم السَّلَامُ) يحتوي على هذه الثروة الهائلة من الأدعية الغنية كماً وكيفاً.

ص: 19


1- لسان العرب مادة (عمد).
2- كشف الغمة ج 1، ص 431.
3- غوالي اللئالي ج 1، ص 322. وهناك أعمدة أخرى للدين أيضاً جاء ذكرها في الروايات، فقد عبر عن أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعمود الدين كما ورد في زيارة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وغيره من الأئمة كالإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فورد: (السلام عليك يا عمود الدين).
4- غوالي اللئالي ج 4، ص 19.

نعم لاترى في سائر الأديان والمذاهب هذه المجموعة الغنية من الأدعية مثل ما تراها عن آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقد زينوا جوانب الحياة المادية ب_(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (1) وأخذوا بيد الإنسان إلى العالم العلوي.. إلى ملكوت السماوات.. إلى رحمة اللّه الواسعة. فأدعيتهم شملت جميع جوانب حياة الإنسان في مختلف الأزمنة والأمكنة والشرائط والظروف:

فهناك أدعية لأول السنة، ولأول الشهر، وعند رؤية الهلال، وفي كل يوم، وفي كل ليلة، وفي كل ساعة، وعند غروب الشمس، وفي ليلة الجمعة، ويوم الغدير، وللأعياد، وليلة النصف من شعبان، ولليالي القدر، وأيام شهر رمضان و....

وهناك أدعية للحرم المكي والمدني ولبيت اللّه الحرام والمسجد النبوي وللمشاعر المحرمة من عرفة والمزدلفة ومنى ودخول الكعبة.

وهناك أدعية عند ختم القرآن، وبعد الفرائض وعند النكاح، وعند النوم، وعند الإفطار، وعند الخوف وفي السير وعلى العدو والصديق ولشفاء المريض، ولحسن الخلق، ولتعجيل الفرج، وعند الأكل، وعند الشرب، ولزيادة العلم، وللمسافر، وللميت، ولصاحب الطعام، وعند لبس الثوب، وعند التعمم، وحتى للبس الخف والنعل وما أشبه..

وكذلك عند نزول المنزل، وعند الرجوع من السفر، وعند أخذ المصحف، وفي الوضوء، وللإحرام وللسواك، وللإستخارة، وعلى الظالم ولمختلف جوانب الحياة الفردية والاجتماعية السياسية والاقتصادية، وغيرها...

قال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء) (2).

و قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (ما من شيء أكرم على اللّه تعالى من الدعاء) (3).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (الدعاء ترس المؤمن) (4).

ص: 20


1- سورة البقرة: 138.
2- الأمالي للشيخ المفيد ص 317، المجلس 38، ح 2.
3- مكارم الأخلاق ص 268 فيما جاء في فضل الدعاء.
4- عدة الداعي ص 16، الباب الأول.

وبعد ما ذكرناه من أهمية الدعاء وأنه عمود الدين يتضح لنا ما ورد في الحديث الشريف من أن (ترك الدعاء معصية) (1).

وهناك من يخطأ في الطريق.. فهو يريد الوصول إلى الكمال الروحي والتقرب المعنوي إلى اللّه سبحانه.. إلى رحمته الواسعة، لكنه يسير في غير اتجاه..

يريد أن يصل إلى رضوان اللّه...وإلى مائدة الرحمان، لكنه يبتعد شيئاً فشيئاً حتى يصير إلى غضبه عز وجل ويقع في حبائل الشيطان، نعوذ باللّه تعالى من ذلك.

فترى كثيراً من المرتاضين في الهند وما أشبه أخذوا يضغطون على أنفسهم في ترك الدنيا وما فيها من الملذات حتى كبتوا شهواتهم بالمرة.

وهناك كثير ممن يسمون أنفسهم ب_ (العرفاء)! أخذوا يبتدعون طرقاً زعموا أنها توصل إلى اللّه...

وهناك بعض الفلاسفة سلكوا مسالك لا تسير بهم إلا لما يخالف الشرع المبين فصاروا يعتقدون بوحدة الوجود والموجود!! والعقول العشرة!! وإنكار المعاد الجسماني !! وما أشبه.

وهناك كثير من المتصوفة زعموا أن طريقتهم هي المنجية ولكن ساروا فيما لا يحمد عقباه. وهناك.. و هناك...

فما هو الطريق إلى اللّه؟

الطريق الصواب والدرب الصحيح الموصل إليه تعالى هو ما بينته مدرسة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقط، الذين قال فيهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي وهما الخليفتان من بعدي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) (2).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إن أخذتم بهما لن تضلوا) (3).

ص: 21


1- مجموعة ورام: ج 2، ص 119.
2- کمال الدین ص 64.
3- الصراط المستقيم: ج 2، ص 32.

فالمتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق، كما ورد في أدعية شهر شعبان شعبان (1).

فأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقط هم الوسيلة إلى اللّه سبحانه، وقد أمرنا تعالي باتخاذ الوسيلة إليه، حيث قال عز وجل: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (2).

وفي الحديث في تفسير هذه الآية المباركة قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (تقربوا إليه بالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ))(3).

وهم (عليهم الصلاة والسلام) قد بيّنوا للبشرية الطريق الموصل إليه سبحانه.. فذكروا ما يحتاجه الإنسان في هذا الصدد من طاعات و عبادات وأذكار وأدعية.

فهذه أدعية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهذه صحيفة على وفاطمة، وأدعية الحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام)، وهذه الصحيفة السجادية، وهي موسوعة كاملة في الدعاء كما تشتمل على كثير من العلوم الدينية والدنيوية أيضاً.

وهذه أدعية الإمام الباقر والصادق والرضا والجواد، والهادي والعسكري (عَلَيهِم السَّلَامُ) المدونة في الأصول، وهذه صحيفة المهدي (عجل اللّه فرجه) وما ورد عنه من الأدعية. فبعد هذه الثروة الغنية من الأدعية المأثورة، هل يبقى هناك حاجة إلى ابتداع أوراد وأذكار ما أنزل اللّه بها من سلطان!

وبعد وضوح الطريق الموصل إلى اللّه، هل نحتاج إلى سلوك طرق لا توصلنا إلا إلى الشيطان!!

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يا علي أنت حجة اللّه وأنت باب اللّه وأنت الطريق إلى اللّه) (4).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (بنا يستجاب الدعاء ويرفع البلاء)(5).

ص: 22


1- الإقبال ص 687، والزيارة الجامعة الكبيرة.
2- سورة المائدة: 35.
3- تفسير القمي: ج 1، ص 168، سورة المائدة.
4- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): ج 2، ص 6، ح 13.
5- تفسیر فرات الكوفي: ص 258.

آداب الدعاء وشروطه

يجتمع الدعاء مع غيره من العبادات في أن له آداباً وشروطاً لتحقق الإجابة، منها ما جاء على سبيل الاستحباب ومنها ندا كين على نحو اللزوم وبغيره قد يصعب أن يرتفع الدعاء إلى اللّه سبحانه، وقد عبر عن ذلك الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسماه (جهة الدعاء).

فعن عثمان بن عيسى عمّن حدثه عن أبي عبد اللّه قال: قلت: آيتان في كتاب اللّه عز وجل أطلبهما فلا أجدهما.

قال: وما هما؟

قلت: قول اللّه عز وجل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (1) فندعوه ولا نرى إجابة.

قال: أفترى اللّه عز وجل أخلف وعده؟

قلت: لا.

قال: فممّ ذلك؟

قلت: لا أدري.

قال: لكني أخبرك، من أطاع اللّه عز وجل فيما أمره ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه.

قلت: وما جهة الدعاء؟

قال: تبدأ فتحمد اللّه وتذكر نعمه عندك ثم تشكره ثم تصلي على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم تذكر ذنوبك فتقرّ بها ثم تستعيذ منها فهذا جهة الدعاء...إلى آخر الحديث (2).

وربما يمكن إطلاق (شروط الدعاء) على المعنى الذي سماه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بجهة الدعاء...

ص: 23


1- سورة غافر: 60.
2- أصول الكافي: ج 2، ص 486، كتاب الدعاء، باب الثناء قبل الدعاء.

وقد قسم العلامة المجلسي (قدّس سِرُّه) شروط الدعاء وآدابه إلى:

1. ما يتقدم الدعاء، وهو الطهارة، وشمّ الطيب، والرواح إلى المسجد، والصدقة، واستقبال القبلة، وحسن الظن باللّه في تعجيل إجابته، وإقباله بقلبه، وأن لا يسأل محرما، و تنظيف البطن من الحرام بالصوم، وتجديد التوبة...

2. ما يقارنه، وهو ترك العجلة فيه، والإسرار به، والتعميم، وتسمية الحاجة، والخشوع، والبكاء، والتباكي، والاعتراف بالذنب، وتقديم الإخوان، ورفع اليدين به، والدعاء بما كان متضمناً للإسم الأعظم، والمدحة اللّه وإنشاء عليه تعالى، وأيسر ذلك سورة التوحيد، وتلاوة الأسماء الحسنى، وقوله: (يامن هو أقرب إلي من حبل الوريد) (1) إلى آخر الدعاء.

3. ما يتأخر عن الدعاء، وهو: معاودة الدعاء مع الإجابة وعدمها، وأن يختم دعاءه بالصلاة على محمد وآل محمد، وقول ما شاء اللّه لاقوة إلا باللّه، وقول، (يا اللّه المانع بقدرته خلقه إلى آخر ذلك). وأن يمسح بيده وجهه وصدره (2) انتهى.

أقول: ومن آداب الدعاء أيضاً: إهداؤه وما يترتب عليه من الثواب إلى الأموات كما ورد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (تدخل على الميت في قبره الصلاة والصوم والحج والصدقة والدعاء والبر ويكتب أجره للذي يفعله وللميت) (3).

ومن الشرائط أيضاً: زمان الدعاء ومكانه، فقد دلت الأخبار المتضافرة على أن للدعاء زماناً ومكاناً يكون فيهما أسرع للإجابة، وعدت من أزمنة الدعاء ليلة القدر، وليالي الإحياء والتي منها: أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلتا العيدين. حيث روي عن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه قال: (كان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: يعجبني أن يفرغ الرجل نفسه في السنة أربع ليال ليلة الفطر وليلة الأضحى وليلة النصف من شعبان وأول ليلة من رجب) (4).

ص: 24


1- مصباح الكفعمي: ص 91.
2- بحار الأنوار: ج 90، ص 306، كتاب الذكر والدعاء باب آداب الدعاء والذكر، ط بيروت.
3- عدة الداعى: ص146.
4- راجع وسائل الشيعة : ج 5، ص 367، ب 12، ح 10.

ومن الأزمنة أيضاً: يوم عرفة، وليلة الجمعة، ووقت الزوال، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وفيها وردت الأخبار الكثيرة فراجعها في مضانها.

وأما أمكنة الدعاء التي يكون فيها الدعاء على أحسن حالاته فهي عديدة أيضاً ولعل من أهمها: بيت اللّه الحرام والكعبة المكرمة والمسجد النبوي الشريف و...

وقد أكدت بعض الأخبار أن أشرف أماكن الدعاء هو مرقد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بكربلاء المقدسة، ذكر ذلك الشيخ أحمد بن فهد الحلي في عدة الداعي وقال: (ومن أماكن الدعاء بل أشرفها عند قبر الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد روي أن اللّه سبحانه وتعالى عوّض الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قتله بأربع خصال: جعل الشفاء في تربته، وإجابة الدعاء تحت قبته، والأئمة من ذريته، وأن لا يعد أيام زائريه من أعمارهم) (1).

وقد استفاضت الروايات الشريفة بالتأكيد على بعض الشروط الأخرى، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : ما ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (من كانت له إلى اللّه عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد فإن اللّه عز وجل أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط إذ كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تحجب عنه) (2).

كما أن الصلاة على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تذهب بالنفاق وتكون من أسباب استجابة الدعاء، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (ارفعوا أصواتكم بالصلاة علي فإنها تذهب بالنفاق) (3).

فمن الممكن أن نستفيد من حديث الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إن الصلاة عليه وعلى آله هي مما يهيىء الاستعداد والأرضية الخصبة لاستجابة الدعاء، حيث إن الصفاء الروحي ونبذ النفاق والاستغفار من الذنوب يعجل في استجابة الدعاء.

إلا أننا يجب أن ننتبه إلى نقطة جوهرية وهي: إن القيام بهذه الآداب والشروط يجب أن يكون بالقول والعمل وإلا فلن يتحقق الغرض المطلوب.

ص: 25


1- عدة الداعي ص 56 و 57.
2- بحار الأنوار: ج 90، ص 316، کتاب الذكر والدعاء باب آداب الدعاء والذكر، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 94، ص 59، ح 41، طبعة طهران.

فإن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم كما في الحديث الشريف (1)..

وما أكثر ما نردّد لفظ الاستغفار ولكن ما أقل عملنا بشرائطه وهل يصح أن نكتفي باستغفار اللسان فقط؟

أشرنا فيما تقدم إلى أن للدعاء شرائط إذا روعيت يؤثر الدعاء أثره، ومن هذه الشرائط، زمان الدعاء، فإن اللّه سبحانه جعل لبعض الأشياء أزمنة وأوقاتاً تظهر فيها آثارها أكثر وأسرع.

وشهر رمضان من أفضل أوقات الدعاء والمسألة من اللّه لأنه شهر الضيافة والعبادة والفضل والبركة الشهر الذي يكون فيه العبد أقرب إلى ربه، ولعل من هنا خص أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) شهر رمضان المبارك بأدعية غطت هذا الشهر الفضيل بالروحانية والمعرفة من أول وقت فيه إلى يوم العيد:

فهناك الدعاء المستحب عند رؤية هلال هذا الشهر، وأدعية الليالي والأيام وأدعية السحر، والأدعية اليومية، وأدعية ليالي القدر، وهناك أدعية مهمة بعد كل فريضة من هذا الشهر منتقاة وكل هذه الأدعية هي نماذج منتقاة من الحالات المعنوية لأئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) ضمنوا فيها زخماً كبيراً من المعارف والابتهالات والآداب والسنن والخضوع والخشوع للساحة الربوبية المقدسة.

وهي في نفس الوقت رسمت الخطوط الجذرية لمعالجة النفس وإصلاح المجتمع المسلم وتنشيط حركته...

وقد عمت بركات هذا الشهر الكريم كل عمل فيه بما في ذلك الدعاء، وفي القصة المروية عن وائلة بن الأسقع قال: (حضرنا رمضان ونحن في الصفة فصمناه فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجل فأخذه فانطلق معه فعشاه.. فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد ثم أصبحنا صياماً ثم أتت القابلة علينا فلم يأتنا أحد فانطلقنا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبرناه بالذي كان من أمرنا فأرسل إلى كل امرأة من نسائه هل عندها شيء؟

فما بقيت منهن امرأة إلا أرسلت تقسم ما بقي في بيتها مما يأكل ذو كبد، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ص: 26


1- أعلام الدين: ص 201.

لأهل الصفة: اجتمعوا ثم دعا لهم فقال: (اللّهمّ إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك فلم يكن إلا مستأذن فإذا بشاة مصلية وأرغفة فأمر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فوضعت بين أيدينا فأكلنا حتى شبعنا، فقال: (إنا سألنا اللّه من فضله ورحمته وقد ذخر لنا عنده رحمته) (1).

وقد ورد في خطبة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لشهر رمضان: (أيها الناس: إن أبواب الجنة في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم..) الخطبة (2).

وعلى المؤمن أن يتوجه إلى ربه ويدعوه تضرعاً وخفية ويلتمسه في كل صغيرة وكبيرة ففي الحديث: (وليسأل أحدكم ربه حتى شسع نعله) (3).

وفي الحديث القدسي: (ياموسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك) (4).

وينبغي لنا المداومة على الذكر والدعاء طول الأوقات وخصوصاً في شهر رمضان المبارك وخاصة في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها يفرق كل أمر حكيم وتقدّر فيها الأعمار والأرزاق والآجال...

ومن آداب الدعاء أيضاً ما روي عن أبي بصير وقد سأل الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الدعاء ورفع اليدين فقال: على خمسة أوجه:

الأول: التعوذ فتستقبل القبلة بباطن كفيك.

الثاني: الدعاء في الرزق فتبسط كفيك وتفضي بباطنهما إلى السماء.

ص: 27


1- حدیث :رمضان ص 212.
2- راجع الدعاء والزيارة: ص 339، الباب الثاني في أعمال شهر رمضان المبارك عن الصدوق (عليه الرحمة).
3- بحار الأنوار: ج 93، ص 300، کتاب الدعاء، باب فضل الدعاء والحث عليه، ط طهران.
4- بحار الأنوار: ج 93، ص 303، کتاب الدعاء، باب فضل الدعاء والحث عليه، ط طهران.

الثالث: التبتل فإيماؤك بإصبعك السبابة.

الرابع الابتهال فترفع يديك تجاوز بهما رأسك.

الخامس التضرع أن تحرك إصبعك السبابة مما يلي وجهك وهو دعاء الخيفة. (1)

وأيضاً عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (مابسط عبد يده إلى اللّه عز وجل إلا استحى اللّه أن يردها صفراً حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه) (2). وفي رواية أخرى: (على وجهه وصدره).(3)

وهناك أفضلية للدعاء لغيره، فهو من الآداب أيضاً، فيكون دعاؤه حينئذ عاماً لا

لنفسه فقط، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إذا دعا أحدكم فليعم فإنه أوجب للدعاء) (4).

ص: 28


1- بحار الأنوار: ج 90، ص 307، کتاب الذکر، باب آداب الدعاء ح3، ط بیروت.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- أصول الكافي ج 2، ص 487، كتاب الدعاء، باب العموم في الدعاء.

لماذا الإبطاء في الإجابة؟

قد يدعو المؤمن فلايرى أثراً محسوساً أو سريعاً للإجابة..ترى ما هي العلة وراء هذا الإبطاء؟

هناك علل وأسباب كثيرة ولكن نشير إلى بعضها فقط ونترك الباقي المظانه...

فمنها: الحجب التي تمنع رفع الدعاء وبالتالي تقطع الطريق أمام الاستجابة، كما ورد في الدعاء المروي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) المعروف بدعاء كميل بن زياد: (اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء) (1).

مما يكشف أن الدعاء له اقتضاء الإجابة وليس علة تامة لها، ومعلوم أن المقتضي إنما يؤثر أثره إذا لم يحل المانع دونه....والموانع التي تحجب الدعاء عديدة:

منها ما يحجب الدعاء مؤقتاً بحيث يمكن إزالته..

ومنها: ما يحجبه على الدوام إذا لم يلتفت العبد إلى نفسه ويتدارك حاله بالرجوع إلى ما يرفع هذا المانع ويزيح هذه الحجب..

وفي الرواية عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): من سره أن يستجاب له دعوته فليطب مكسبه) (2).

فطلب المال الحرام هو حاجز منيع أمام استجابة الدعاء ربما لاشتماله على ظلم الناس وسلب حقوقهم...كما أن العصيان مانع آخر، فعن جميل عن مولانا أبي عبداللّه الصادق قال: قال له رجل: جعلت فداك إن اللّه يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (3) فإنّا

ص: 29


1- راجع مفاتيح الجنان.
2- الكافي ج 2، ص،486، كتاب الدعاء، باب الثناء قبل الدعاء، وفي البحار ج 93، ص 321، ط طهران: فليطيِّب.
3- سورة غافر: 60.

ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم لا تفون اللّه بعهده وإن اللّه يقول: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (1)، واللّه لو وفيتم اللّه لو فى اللّه لكم (2).

ومنها عقوق الوالدين حيث قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (تحبس الدعاء عقوق الوالدين) (3).

والحجب التي تمنع الدعاء كثيرة لا يسمح المجال بذكرها هنا، فمن أراد التفصيل فليراجع كتاب (عدة الداعي ونجاح الساعي) لابن فهد الحلي (قدّس سِرُّه) فقد أفاض الحديث في ذلك، كما سيأتي بعض الكلام فيه في مطاوي موضوعات الكتاب إن شاء اللّه تعالى.

***

وهنا لسائل أن يقول: إن في الناس من لم يرتكب عملاً يحول بينه وبين الاستجابة ولكن مع ذلك نراه يدعو ولم يجد أثر الاستجابة سريعاً لماذا؟

نقول: إن هذا لوجود مسألة مهمة لها تأثير كبير في تأخير الاستجابة لبعض الأدعية قد يغفل عنها الشخص.. وهذه المسألة ليست كالأولى تدل على أن سبب منع الاستجابة النقمة الإلهية وابتعاد العبد عن ساحة الرحمة كلا.. وإنما هي عكس الأولى مسألة إيجابية وربما تشير إلى مستوى قرب العبد من ربه.

وتلك هي مسألة الحب.. فإن حب اللّه تعالى لعبده و لسماع صوته ودعائه لطفاً به ورحمة.. ربما كان من دواعي تأخير الاستجابة.

فقد ورد في الأخبار: إن اللّه تعالى يحب سماع صوت عبده المؤمن وهو يلح في الدعاء فعن أبي عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (إن العبد الولي اللّه يدعو اللّه في الأمر ينوبه فيقال للملك الموكل به اقض لعبدي حاجته ولا تعجّلها فأني اشتهي أن أسمع نداءه وصوته، وإن العبد العدو اللّه ليدعو اللّه في الأمر ينوبه فيقال للملك الموكل به: اقض لعبدي حاجته وعجلها فإني أكره أن أسمع نداءه وصوته) (4).

ص: 30


1- سورة البقرة: 40.
2- بحار الأنوار: ج 90، ص 368، كتاب الذكر والدعاء، ح3، ط بيروت.
3- الاختصاص: 238.
4- بحار الأنوار: ج 93، ص 374، طبعة طهران.

و عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (إن اللّه عز وجل يعلم مايريد العبد إذا دعا ولكن يحب أن تبث إليه الحوائج) (1).

وعن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إن اللّه يحب الملحين في الدعاء)(2).

فعلى المؤمن أن يؤمن بأن الإبطاء في إجابة الدعاء ترجع إلى الحكمة الإلهية والمصالح والمفاسد التي يراها اللّه سبحانه وليس العبد نفسه، ولهذا فإن الإبطاء قد يكون خيراً للعبد عاجلاً أو آجلاً إلا أن العبد ينسى أو يغفل عن الحكمة أحياناً.

كما ورد في دعاء الافتتاح المروي عن مولانا الحجة المنتظر (عجل اللّه فرجه): (ولعل الذى أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور) (3).

وإضافة إلى أن الإجابة ليست الهدف الوحيد من الدعاء.. فإن الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعطينا درساً أخلاقياً وتربوياً في التعامل مع اللّه سبحانه ومحادثته وإظهار الخشوع والخضوع إليه..

فهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي وضع أسساً وضوابط للدعاء في الإسلام، والصحيفة السجادية هي الشاهد الماثل أمامنا وقد ملئت بالشكوى إلى اللّه تعالى والتذلل إليه سبحانه وسبل التعبد.. مع كل ما في هذا السفر العظيم فإننا نرى أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوشح هذه الصحيفة بالتقصير عن أداء الشكر اللّه تعالى وهو القائل: (سبحان من جعل الاعتراف بالنعمة له حمداً، سبحان من جعل الاعتراف بالعجز عن الشكر شكراً) (4).

وهذه الفلسفة التي يعطيها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) للدعاء تدل على أن أهمية الدعاء ليست في الإجابة التي تعقبه فحسب، بل لأنه يعطي المعنى الروحي لعلاقة الإنسان بربه وصميمية هذه العلاقة وبأنه مقصر في حق خالقه وبارئه ولو عبد الدهر كله.

فقد حرص أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) حرصاً شديداً على تقديم الدروس الروحية

ص: 31


1- بحار الأنوار: ج 93، ص 296، طبعة طهران.
2- بحار الأنوار: ج 90، ص 300، كتاب الذكر والدعاء، ط بيروت.
3- راجع (مفاتيح الجنان): دعاء الافتتاح.
4- تحف العقول عن آل الرسول ص 205.

والعقائدية وغيرها لأتباعهم عبر الدعاء.. ولهذا أخذوا يؤكدون على أهميتها وضرورة المحافظة عليها..

فعندما يذكر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أهمية دعاء الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويؤكد على قراءته ضمن أحاديثه العامة للمسلمين يذهب إليه كميل بن زياد في نصف الليل فيسأله الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن سبب مجيئه ليرد عليه هذا الحواري الجليل إنه دعاء الخضر يا مولاي!!

ويملي عليه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذا الدعاء الشريف الذي يعرف بدعاء كميل مؤكداً على ما فيه من المعارف والآداب وإظهار الخضوع والتذلل للحضرة الربوبية التي لاغنى للمؤمن عنها...

ولن يقل دعاء أبي حمزة الثمالي عن دعاء كميل في الأهمية والعمق والحالة الروحانية المحلقة التي يسلط فيها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الضوء على كل جوانب الشخصية الإنسانية العاجزة الفقيرة المخلوقة، ويركز فيها على التقصير والإسراف والإساءة إظهاراً للعبودية أمام المعبود حباً وتواضعاً وشوقاً..

وهكذا سائر الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ).. فيعطي الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء الجوشن الصغير بعداً آخر للدعاء قد يمكن أن نسميه (أمن المسلم) وهو الإمام السجين الذي عاني حالة اللاأمن من قبل الطغاة طيلة حياته الشريفة فعندما يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) داعياً شاكراً ربه: (إلهي وسيدي وكم من عبد أمسى وأصبح مغلولاً مكبلاً في الحديد بأيدي العداة لا يرحمونه فقيداً من أهله وولده منقطعاً عن إخوانه وبلده يتوقع كل ساعة بأي قتلة يقتل وبأي مثلة يمثل وأنا في عافية من ذلك كله) (1).

إنما يعني في هذا الدعاء شكر النعمة أولاً.. نعمة الأمن ثم شرح الوضع السياسي القائم على السجن والتعذيب، كما يتضمن نوعاً من الثورة الداخلية عبر الدعاء والذي يفهمه متبعوه المطاردون المعذبون على أنه درس ثوري لهم لكي لا يقعوا في هذا الفخ السلطوي.

ص: 32


1- مهج الدعوات: ص 223 و مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الصغير.

كما أنه يُحمل على أن دعاء المؤمن ومناجاته ربه تمنع عنه حالة الظلم والسجن الأمر الذي قد يدلنا - في بعض مضامينه - على أن المعني بهذا الدعاء هو غير الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عاش حالة السجن والظلم والتعذيب بأبشع أنواعه من قبل السلطة الظالمة، فيكون الدعاء على لسان: (إياك أعني وأسمعي يا جارة).

***

روي عن مولانا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن أباه الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) دخل على جده علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد وقد أصفر لونه من السهر ورمدت عيناه من البكاء ودَبَرت جبهته من السجود وورمت قدماه من القيام في الصلاة، فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): فلم أملك حين رأيته بتلك الحال من البكاء فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة جدى علي،، فأعطيته، فقرأ فيها يسيراً ثم تركها من يده تضجراً، وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب !!(1)

وإذا كانت عبادة الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) هي التي تصفها الرواية التي ذكرناها فكيف هي عبادة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟ وكيف كان دعاؤه (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟

ومما يروي كذلك أن الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يُخشى عليه من كثرة عبادته ودعائه وكثيراً ما كان يغشى عليه.

وفي رواية عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أن فاطمة (2) أتته فقالت له: (يا صاحب رسول اللّه إن لنا عليكم حقوقاً ومن حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهاداً أن تذكروه اللّه وتدعوه إلى البقيا على نفسه وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم أنفه ونقبت جبهته وركبتاه وراحتاه أذاب نفسه في العبادة).

فأتى جابر إلى بابه واستأذن، فلما دخل عليه وجده في محرابه قد أنضته العبادة، فنهض علي فسأله عن حاله سؤالاً حفيا وأجلسه بجانبه.

ص: 33


1- المناقب: ج 4، ص 149.
2- فاطمة بنت أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) البحار، ج 46: 60.

ثم أقبل جابر يقول: يابن رسول اللّه أما علمت أن اللّه خلق الجنة لكم ولمن أحبكم وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك؟

فقال له علي بن الحسين (يا صاحب رسول اللّه: أما علمت أن جدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد وتعبد هو بأبي وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم وقيل له أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!

فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول قائل قال له يابن رسول اللّه البقيا على نفسك فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء وتستكشف اللأواء وبهم تستمسك السماء!!

فقال: ياجابر.. لا أزال على منهاج أبوي متأسياً بهما حتى ألقاهما.

فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: ما رؤي من أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب واللّه لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف) (1).

هذا وقد ورد في أحوال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه كان يتضرع عند الدعاء حتى كاد يسقط رداؤه (2).

ص: 34


1- المناقب: ج 4، ص 149، والبحار ج 46: 78 طبعة طهران.
2- دعوات الراوندي: ص 22.

قاعدة التسامح في أدلة السنن

رب قائل يقول: إن هذه الأدعية الشريفة لم يعرف لها سند معتبر يصحح نسبتها إلى المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبالتالي يشكل التعبد ومناجاة اللّه بها طلباً للثواب وتوصلاً إلى القربات المعنوية، حتى أن الشيخ القمي وبعض كتب الأدعية الأخرى رفعوها إلى النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بلا ذكر لسندها أو التعليق عليها سندياً، كما يشكل القول باستحقاقها الثواب؟

نقول:

أولاً: من الممكن البحث في الكتب والمصادر للوصول إلى أسنادها المعتبرة.

ثانياً: على فرض صحة ما ذكر نرى أن هذا لا يحظى بالصواب وذلك للقاعدة المشهورة - إن لم يكن متفقاً عليها بين الفقهاء والأصوليين، المعروفة ب_(قاعدة التسامح في أدلة السنن) فقد قسم العلماء الأحكام إلى الاقتضائيات واللااقتضائيات.. وبعبارة أخرى: الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية..

وصرحوا بجريان قاعدة التسامح في اللااقتضائيات واستندوا إليها في الأحكام غير الملزمة - الواجبات والمحرمات - كالآداب والسنن والفضائل ونحوها التي قامت على بعضها روايات قد تكون ضعيفة أو مجهولة وتعاملوا معها معاملة المستحبات وذلك بعد إسقاط شرائط حجية الأخبار من العدالة أو الوثاقة ونحوها، كل ذلك لقيام الأدلة الصحيحة المعتبرة على القاعدة في باب التسامح والمنة والفضل الإلهي على العباد.

وفي ذلك روى الشيخ الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ): (إن من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل) (1).

وروي أيضاً بإسناده إلى صفوان عن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن من بلغه شيء من

ص: 35


1- عدة الداعي ص 13.

الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه لم يقله) (1).

هذه بعض ما ورد من طرق الخاصة، ومثله أيضاً ورد من طرق العامة كما روي عبد الرحمن الحلوان مرفوعاً إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (من بلغه عن اللّه فضيلة فأخذها وعمل بما فيها إيماناً باللّه ورجاء ثوابه أعطاه اللّه تعالى ذلك وإن لم يكن كذلك) (2).

وفي حاشية عدة الداعي نقل عن مرآة العقول للعلامة المجلسي (قدّس سِرُّه) كما يبدو قوله في ذلك: (أعلم أن أصحابنا رضوان اللّه عليهم كثيراً ما يستدلون بالأخبار الضعيفة والمجهولة على السنن والآداب ويحكمون بالكراهة والاستحباب) (3).

وقال الإمام الشيرازي (دام ظله) فى كتابه (الأصول) تعليقاً على الروايات: (لا إشكال في سند الروايات الدالة على ذلك وأما دلالتها فالظاهر إنها تدل على إسقاط شرائط حجية الخبر في بابي المستحبات وترك المكروهات) (4).

والظاهر إن المسألة متفق عليها بين الفريقين لتضافر الروايات الصحيحة في ذلك فضلاً عن السيرة.

وبهذا تدخل الأدعية المذكورة في هذا الباب ويصح العمل بها وينال عليها الثواب، وإن قال أحد بأنها ضعيفة السند أو مجهولة.

ثالثاً : وربما يكون تضافر الحديث وإن كان حسناً أو ضعيفاً سبباً لحصول الوثوق به والاطمئنان بصدوره عن المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا هو الداعي لضبط الأخبار جميعاً صحيحها وضعيفها لأنه يؤيد بعضه بعضاً ويشد بعضه بعضاً.

فانطلاقاً من هذه القاعدة المتعارفة عند العلماء يمكن الركون والأخذ بالادعية الواردة عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

ص: 36


1- عدة الداعي : ص 13، وراجع أيضاً ثواب الأعمال: ص 132، والإقبال: ص 556 و 627، والمحاسن ص 25، وأعلام الدين ص 389، وفلاح السائل: ص 11، وجمال الأسبوع: ص 159.
2- عدة الداعي: ص 13.
3- عدة الداعي 13 الحاشية.
4- الأصول: ص 168 بتصرف.

وأخيراً نقول : لقد تنوعت مضامين الكتاب واستوعبت العديد من المواضيع العقائدية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها التي تهم كل فرد ومجتمع يطمح إلى الخير والسعادة.

وحين قمنا بشرح مضامين ما ورد في الأدعية الشريفة والتزمنا بنصها مضموناً وترتيباً لم يكن بوسعنا اختيار موضوع على موضوع أو تقديم موضوع على آخر، لذا أخرجناه بهذه الهيئة التي يجدها القارئ بين يديه متوقفين على تسلسل الأدعية كما وردت وبالتالي تسلسل موضوعات: ابلا تصرف أو تغيير.

ونظراً لأهمية الدعاء ودوره الكبير في حياة الإنسان والمجتمع وما يتضمنه الدعاء من كنوز معنوية عظيمة كشف عنها أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في حالاتهم المعنوية مع ربهم تبارك وتعالى.. رأينا من المناسب أن نتعرض إلى شرح بعض ما ورد من الأدعية في أيام شهر رمضان المبارك بشكل مجالس.

فانتخبنا أدعية الأيام الثلاثين التي أوردها الشيخ القمي وغيره من العلماء في ضمن أعمال شهر رمضان نقلاً عن ابن عباس عن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لما فيها من

مضامين عالية تمس حياة الإنسان ومستقبله...

وحيث أنها ثلاثون دعاءً كان لنا في كل ليلة من شهر رمضان دعاء نستلهم منه ونستفهم بعض مضامينه ومعانيه. وبعد أن وفقنا اللّه سبحانه لإتمامه جمعناها في كتاب عسى أن ينفع اللّه به المؤمنين.

ونشير هنا إلى أهم المصادر القديمة والحديثة التي وردت فيها هذه الأدعية الشريفة وهي:

1: إقبال الأعمال، للسيد ابن طاووس.

2: المصباح للشيخ الكفعمي.

3:البلد الأمين، للشيخ الكفعمي.

4: مفتاح الجنات، للسيد الأمين.

5: مفاتيح الجنان للمحدث القمي.

6: الدعاء والزيارة، للإمام الشيرازي.

ص: 37

ص: 38

الصوم وأبعاده التربوية

دعاء اليوم الأول

1

اللّهمّ اجْعَل صِيَامِي فِيهِ صِيامَ الصَّائِمِينَ وَقِيامِي فِيهِ قِيامَ القَائِمِينَ ونَبِّهني فِيهِ عَنْ نَوْمَةِ الغَافِلِينَ وهَبْ لِي جُرْمِي يَا إِلهَ العَالَمِينَ وَاعْفُ عَنِّي يَا عَافِياً عَنِ المُجْرِمِينَ

البلد الأمين ص 306 عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (من دعا به أعطي ألف ألف حسنة، ورفع له ألف ألف درجة، ومحي عنه ألف ألف سيئة).

ص: 39

ص: 40

معنى الصوم: لغةً وشرعاً

ورد في هذا الدعاء الشريف موضوعات مهمة لابد للصائم من الالتفات إليها، وسنتطرق إليها بإيجاز.. يقول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (اللّهمّ اجعل صيامي فيه صيام الصائمين) فما هو مفهوم الصوم لغةً وشرعاً؟

الصوم من أهم العبادات الشرعية وأعظمها في الإسلام، وله جوانب تربوية عالية جداً، كما له تأثير كبير في تربية روح الإنسان على التقوى والخوف من اللّه في جميع المجالات والأبعاد.

فالصوم في اللغة: الإمساك، قال في لسان العرب: (الصوم: الإمساك عن الشيء والترك له، وقيل للصائم صائم لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرس صائم لإمساكه عن العلف مع قیامه)(1).

قال تعالى حكاية عن مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) (2) أي صمتاً.

وقال النابغة الذبياني:

خيل صيام وخيل غير صائمة***تحت العجاج وخيل تعلك اللجى

وذكر ابن الأثير في معنى الصوم أيضاً (3):

(وقال الخليل: الصوم قيام بلا عمل، وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ومصام الفرس ومصامته مقامه و موقفه قال امرؤ القيس :

ص: 41


1- لسان العرب مادة (صوم).
2- سورة مريم: 26.
3- راجع لسان العرب مادة (صوم).

كأن الثريا علقت في مصامها***بأمراس كتان إلى صم جندل

وصامت الريح: ركدت، والصوم: ركود الريح، وصام النهار صوماً إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة.

قال الراجز : شر البكرات الصائمة، يعني التي لاتدور) انتهى.

هذا هو المعنى اللغوي للصوم.

أما المعنى الشرعي: فهو الإمساك الخاص عن المفطرات المذكورة في الفقه، وقد وردت آيات عديدة وروايات كثيرة في الصوم.

ولأهمية هذه العبادة: ذكرت مادة (الصوم) بمختلف صيغها في القرآن الكريم، أربعة عشر مرة:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1).

وقال سبحانه: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (2)

وقال عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (3).

وقال تعالى: (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (4).

وقال سبحانه: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ)(5).

وقال عز وجل: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) (6).

وقال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) (7).

ص: 42


1- سورة البقرة: 183.
2- سورة البقرة: 184.
3- سورة البقرة: 187.
4- سورة البقرة: 187.
5- سورة البقرة: 196.
6- سورة البقرة: 196.
7- سورة النساء: 92.

وقال سبحانه: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) (1).

وقال عز وجل: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) (2).

وقال تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) (3).

وقال سبحانه: (وَالصَّائِمِينَ) (4).

وقال عز وجل: (وَالصَّائِمَاتِ) (5).

وقال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (6).

و قال سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (7).

ثم يظهر من قوله تعالى: (يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (8)، بأن الصوم كان مفروضاً على سائر الأمم السابقة على الإسلام، وهذا يكشف مدى أهميته وعظمة شأنه...ولعل من هنا جاءت أول فقرة من هذا الدعاء المأثور في أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك تؤكد على أهمية الصيام وتحث الإنسان على أن يطلب من ربه التوفيق لصيام الصائمين، فهل هناك صوم لغير الصائمين؟!

نعم، فإن كثيراً من الناس لا ينالون من صيامهم سوى الجوع والعطش كما قال الامام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ) (9).

وعلى أي حال فقد ابتدأ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دعاؤه بقوله: (اللّهمّ اجعل صيامي فيه

ص: 43


1- سورة المائدة: 89.
2- سورة المائدة: 95.
3- سورة مريم: 26.
4- سورة الأحزاب: 35.
5- سورة الأحزاب: 35.
6- سورة المجادلة: 4.
7- سورة البقرة: 185.
8- سورة البقرة 183.
9- روضة الواعظين ص 350، وغرر الحكم ص 176، ح 3361، وخصائص الأئمة ص 104، ونهج البلاغة الكلمات القصار.

صيام الصائمين) وأمرنا أن نطلب ذلك من اللّه حتى يكون صيامنا صيام الصائمين وليس أي صوم!!

وقد يكون هذا الدعاء إشارة إلى ما وعده اللّه للصائمين من المغفرة والأجر العظيم حيث قال عز وجل: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (1).

فيالها من جائزة كبرى و عظيمة!!

ويبدو من سياق الدعاء أن هذا القيد (أي أن يكون صيامه صيام الصائمين) لم يكن اعتباطاً بل هو مبني على بشارة القرآن للصائمين فنتمنى أن نكون من هؤلاء المشمولين بتلك الرحمة الواسعة وتلك البشارة العظيمة!! وهؤلاء هم الذين اتبعوا أحكام اللّه سبحانه، وراعوا في صومهم شرائط الإخلاص والقبول، ورتبوا على عباداتهم آثارها من الطاعة والتقوى والورع عن المحارم.

ولكن كيف يرتقي صوم الإنسان إلى (صيام الصائمين) وما هو مطلوب رب العالمين ليحصل فيه على الرضوان والقبول؟

إذ هناك فرق بين الصحة والقبول، ومن المناسب هنا الإشارة إلى هذين المفهومين الفقهيين في الأعمال العبادية:

1: مفهوم (الصحة).

2: مفهوم (القبول).

يقول الفقهاء: إن العمل العبادي(2) الذي يقوم به العبد قد يكون صحيحاً إذا. اشتمل على جميع الأجزاء والشرائط، وقد يكون مقبولاً أيضاً، إذ ليس كل عمل صحيح يعد مقبولاً عند اللّه سبحانه، فمرتبة القبول أسمى من الصحة.

والعمل الذي يحظى بالقبول من قبل المولى عز وجل ينبغي أن يتحلى بشرائط

ص: 44


1- سورة الأحزاب: 35.
2- وهذا في قبال العمل التوصلي الذي لا يشترط فيه القربة كتطهير البدن من النجاسة الخبثية فإنه لا يكون فيه القبول وإن كان يتصف بالصحة وعدمها.

أهم وأكثر من شرائط الصحة، وذلك لأن الصحة ملاكها (مطابقة المأتي به للمأمور به) بمعنى أن ما أتى به العبد إذا طابق ما أمر به اللّه، بمعنى أنه كان جامعاً للشرائط فاقداً للموانع فحينئذ يسمى العمل صحيحاً، ومعلوم أن للعمل الصحيح شرعاً آثار شرعية فمثلاً عندما يؤدي الإنسان صلاته وقد أتى بكل شرائطها الشرعية فحينئذ تترتب آثار، مثلاً: سقوط القضاء في خارج الوقت، وسقوط الإعادة في داخل الوقت.

وهذا المفهوم يختلف عن مفهوم (القبول)..

فالقبول: هو قبول الشيء من قبل اللّه بحيث يحتسبه سبحانه من العبد عبادة ويرضى بذلك، فيكون مقربة للعبد إلى ربه، وهذا المعنى يسري في سائر العبادات والأعمال التعبدية.. فكثير من العبادات قد يؤديها الإنسان صحيحة ولكن هل هي مقبولة ؟!

ومما يُنقل من القصص في هذا الصدد قصة عن آية اللّه العظمى السيد البروجردي (قدّس سِرُّه) الذي كان من المراجع الكبار في قم المقدسة وصار في زمانه مرجعا أعلى للطائفة الشيعية وكان - بالإضافة إلى التصدي لشؤون الفتيا - من الموفقين في بناء المساجد والمؤسسات الدينية في مختلف بلاد العالم.. فقد بنى (المسجد الأعظم) الشهير بجوار مقام السيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقم المقدسة، كما بنى عشرات المساجد في طهران وغيرها.

وعندما أراد أن يلبي دعوة ربه ويلتحق بالرفيق الأعلى ويفارق الدنيا أخذ يبكي بكاءً عالياً، فجاءه خادمه واسمه الحاج أحمد وقال: سيدي مم بكاؤك؟

فقال: أبكي لذهاب عمري ولم أدخر شيئاً لآخرتي!!

فقال الحاج أحمد سيدي كيف تقول ذلك وقد بنيت عشرات المساجد في طهران فقط ؟

فقال بصوت ضعیف یا حاج أحمد، أيها قبلت؟!

ولا يخفى أن هذه القصة تدل على تواضع السيد البروجردي (قدّس سِرُّه) أمام اللّه سبحانه

ص: 45

بحيث كان يرى نفسه مقصراً دائماً، فإنه تربى في مدرسة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) (1).

فالقبول: معنى عام له شروط عدة أشارت إليها الآيات والروايات، منها: التقوى، فالعمل من دون التقوى غير مقبول كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (2).

وقصة سارق الرمان والخبز الذي كان يتصدق بهما معروفة فإن صدقته غير مقبولة لأنها كانت عن سرقة.

كما أن أهم شروط قبول الأعمال ولاية أمير المؤمنين علي والأئمة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فجميع الأعمال بدونها غير مقبولة، قال اللّه تعالى في حديث قدسي: (يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي) (3).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (لو أن عبداً عبد اللّه مائة عام بين الركن والمقام يصوم نهاراً ويقوم ليلاً حتى يسقط حاجباه على عينيه وتلتقي تراقيه هرماً، جاهلاً بحقنا لم يكن له ثواب) (4).

وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً، ما قبل اللّه ذلك منه حتى يلقاه بولايتي وولاية أهل بيتي) (5).

ومعلوم أن للعمل المقبول آثاراً تترتب عليه، منها الحظوة بدرجة القرب الإلهي الذي هو من أعظم الآثار، ومنها ظهور الآثار الوضعية للعمل على روح الإنسان وقلبه كما في الأخبار، ومنها ترتب الثواب على هذا العمل..

وبهذا انجلى المفهوم الفارق بين أداء العبادة بوجهها الصحيح وقبولها.

فالصوم سبيل من تلك السبل التي يحصل بها العبد على مرامه من الجوائز الربانية

ص: 46


1- سمعت هذه القصة من المرجع الديني الكبير الإمام السيد محمد الشيرازي (دام ظله) عندما كنا في قم المقدسة.
2- سورة المائدة: 27.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ج 1، ص 58، ح27.
4- ثواب الأعمال ص 204، باب عقاب من جهل حق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
5- كشف الغمة، ج 1، ص 384.

والهدايا الإلهية العظيمة، كما يشير إلى هذا المعنى الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعائه: (والحمد للّه الذي جعل من تلك السبل شهره، شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور..) (1).

ولهذا الشهر خصوصية عند اللّه تعالى كما ورد في الحديث القدسي الشريف وقد رواه العامة والخاصة: (الصوم لي وأنا أجزي عليه) (2).

و (رمضان) اسم من أسماء اللّه تعالى يلزم احترامه، كما قال الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ): (لا تقولوا رمضان فإنكم لا تدرون مارمضان ومن قاله فليتصدق وليصم كفارة لقوله، ولكن قولواكما قال اللّه عز وجل: شهر رمضان) (3).

وللصوم أبعاد تربوية مهمة وآثار اجتماعية وصحية كثيرة، وبمعنى أوضح: للصوم أبعاد متعددة غزيرة مادية ومعنوية لها تأثيرها الكبير في وجود الإنسان وجسمه وروحه، وأهمها البعد التربوي والأخلاقي، فهو من جانب يقوي الإرادة، ويكبت جماح الغرائز من الانفلات، ويجعلها منضبطة ومنضوية تحت حكم العقل.. ومن جانب آخر يكون مؤثراً في صحة الجسم وسلامته كما ثبت ذلك في العلم الحديث، بالإضافة إلى الفوائد الأخرى..

ولكن ما هي الفلسفة الأساسية للصوم؟

وهل الصوم مجرد إمساك عن الطعام والشراب والامتناع عن المفطرات فقط؟ أم ماذا ؟

ص: 47


1- الصحيفة السجادية الدعاء: 44.
2- الكافي ج 4، ص 63، كتاب الصيام، ح6.
3- مجمع البحرين، ج 4، ص 209.

فلسفة الصوم

إن للصوم فلسفة، كما لسائر العبادات، قد لا يعرفها كل صائم.

فصحيح أن في الصوم بعض القيود، ربما يصعب على البعض تحملها ولكن قيوده مؤقتة وفي المقابل آثاره دائمة في الروح والنفس والسلوك والتربية والأخلاق وما أشبه، ولعل من مهمات آثاره أن يقوّي الإنسان إرادته، ويجعله بالمستوى المطلوب ويربيه متماسكاً متوازناً في الهزات والشدائد.

انظر إلى الأشجار التي تنبت بين الصخور أو في الصحاري المقفرة وتتعرض منذ أوائل إنباتها إلى الرياح العاتية، وحرارة الشمس المحرقة حيناً، وبرودة الجو القارصة حيناً آخر، كما تواجه سائر التحديات الطبيعية والبيئية، ولكن تجدها أشجاراً قوية صلبة، على عكس الأشجار التي تعيش بقرب الأنهار وعلى ضفافها، فبمجرد انقطاع الماء عنها، تصفرّ وتذبل وربما تموت ولا تستطيع المقاومة!!

وقد قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتاب له لابن حنيف الأنصاري: (ألا وأن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً) (1).

هكذا يفعل الصوم في النفس الإنسانية، فإن التقيد بقيود مؤقتة في الأكل والشرب ونحوها يمنح روح الكفاح والمقاومة والعزيمة والصمود، كما يبعث النور والضياء في نفس الإنسان.. فالصوم بعبارة موجزة:

ينقل الإنسان من الترف والميوعة وعالم البهيمية إلى عالم الشموخ والرفعة، فيتحلى الصائم بالتقوى وهو من أهم فوائد الصوم بل قد يكون التقوى هو الفلسفة

ص: 48


1- نهج البلاغة الكتاب 54.

والحكمة في فرض الصوم على العباد كما تشير لذلك الآية: (و كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ...لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (1) ، حيث جعل سبحانه وتعالى التقوى سبباً لوجوب الصوم على الإنسان.

ولا يخفى أن الصوم له تأثيراته الطيبة في الدنيا وفي الآخرة، ففي الحديث الشريف: (الصوم جُنّة من النار) (2).

ولا يبعد أن يكون الصوم جنة من نار الدنيا والآخرة معاً، لأن عباد الشهوات وضعفاء النفوس والإرادة هم في نار وإن كانوا لا يشعرون.

فالصوم إذاً من أهم وسائل محاربة الشيطان كما يشير لذلك الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عندما سئل عن أثر الصيام على الشيطان وموقفه منه فقال: (الصوم يسود وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في اللّه والمواظبة على العمل الصالح يقطع دابره والاستغفار يقطع وتينه)(3).

وأيضاً من آثاره المهمة تمييز المخلصين من العباد عن غيرهم، كما يقول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذلك: (والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق) (4).

وكما قالت فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في خطبتها الشريفة في مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (فرض اللّه الصيام تثبيتاً للإخلاص) (5).

فإن الإخلاص الذي في الصوم عميق جداً، إذ يستطيع الإنسان عادة أن يتظاهر بالصوم ولكنه يرتكب المفطرات سراً، فالإخلاص يثبت ويتقوى بالصيام حيث يروّض الإنسان نفسه بالامتناع عن المفطرات مع شدة الشوق إليها، ولعل هذا هو سرّ قوله سبحانه في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي عليه) (6) أي جزاؤه على اللّه،

ص: 49


1- سورة البقرة: 183.
2- بحار الأنوار: ج 93، ص 256، باب الصوم ح 35، ط بیروت.
3- بحار الأنوار: ج 93، ص 255، باب الصوم ح 32، ط بیروت.
4- نهج البلاغة حكم أمير المؤمنين الكلمات القصار رقم 252.
5- بحار الأنوار: ج 93، ص 368، ب 46، ح47، ط بيروت.
6- الكافي ج 4، ص 63، كتاب الصيام ح6.

أو أن اللّه هو جزاؤه، كناية عن أنه سبحانه يحكم للصائم في الآخرة فيما يشاء، إذ مع امتناع الحقيقة فإن أقرب المجازات يكون هو المتعين (1).

***

ثم إن للصوم أثراً اجتماعياً كبيراً لا يخفى على المتتبعين، وقد ثبت ذلك في علم الاجتماع، فالصوم درس في المساواة بين أفراد المجتمع، فمعه يمكن للأغنياء والموسرين أن يحسوا بما يعانيه الفقراء، ويكابدونه، فيرأف الناس بعضهم على بعض، يقول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): عندما سأله السائل عن علة الصوم وحكمته: (إنما فرض اللّه الصيام ليستوي له الغني والفقير، وذلك إن الغني لم يكن ليجد حس الجوع فيرحم الفقير، وإن الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه فأراد اللّه تعالى أن يسوي بين خلقه، و أن يذيق الغني حس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع) (2).

وبالفعل هذه طريقة ناجحة جداً فلو أن الذين يتحكمون في الدول الغنية في العالم وينهبون ثروات وجهود الآخرين كانوا يصومون عدة أيام في السنة ويذوقون مرارة الجوع، ربما يتناهون عن ممارسة سياسة تجويع الضعفاء والفقراء.

وهناك للصوم آثار صحية مهمة لسلامة البدن والجسم من الأمراض والأعراض، كما صرح بذلك الأطباء، وكما في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (صوموا تصحوا) (3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : (المعدة بيت كل داء والحمية رأس كل دواء) (4).

وواضح أن الصوم نوع من الحمية في الطعام والشراب إذ أنه يحرق السموم المتراكمة في الجسم، ويقوم بعملية تطهير شاملة للبدن، وكذلك عملية تطهير للروح والنفس الأمارة بالسوء من الذنوب والخطايا، كما يشير لهذا المعنى قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

ص: 50


1- من فقه الزهراء : ج 2، ص 367.
2- وسائل الشيعة : ج 7، ص 3، أول كتاب الصوم.
3- بحار الأنوار: ج 96 ص 255، ح 33 کتاب الصوم باب فضل الصوم، ط طهران.
4- بحار الأنوار: ج 62، ص 290، ح 72، باب 89 ط طهران.

(إنما سمي رمضان لأن رمضان يروض الذنوب) (1).

فياله من شهر عظيم تنال به الأماني والبشارات والجوائز والهدايا الإلهية العظيمة لمن عرفه وعرف حقه وعرف فلسفته، ولعل ذلك هو الذي جعل الداعي يطلب في أول يوم من هذا الشهر المبارك أن يجعل صيامه صيام الصائمين.

باب الريان

قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إن للجنة باباً يدعى الريان لا يدخل فيها إلا الصائمون) (2).

وفي حديث آخر: (وللجنة باب يقال له الريان لا يفتح ذلك إلى يوم القيامة، ثم يفتح للصائمين والصائمات من أمة محمد) (3) الحديث.

يقول الشيخ الصدوق (قدّس سِرُّه) في كتابه (معاني الأخبار) معلقاً على هذا الحديث: (إنما سمي هذا الباب بالريان لأن الصائم يجهده العطش أكثر مما يجهده الجوع، فإذا دخل الصائم من هذا الباب يلقاه الري الذي لا يعطش بعده أبدا) (4).

ثم لا يخفى إن بعض الروايات قد بينت أبواب الجنة وعددها وأسماءها فإذا رأينا روايات أخرى تذكر أسماء أُخر! فربما يكون ذلك لتعدد أسماء بعض الأبواب أي أن الباب الواحد له أكثر من إسم أو أن هناك أبواباً أصلية وأبواباً فرعية، أو ما أشبه ذلك، واللّه العالم.

ثم إن صيام شهر رمضان على وجه الصحة والقبول ليس أمراً عادياً سهل المنال إلا بتوفيق من اللّه تعالى..

يقول الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّهمّ صل على محمد وآله وألهمنا معرفة فضله

ص: 51


1- الدر المنثور : ج 1، ص 183.
2- معاني الأخبار: ص 409، والمقنعة ص 304، باب ثواب الصيام، والبحار ج 96، ص 256، ط طهران، باختلاف يسير في العبارة.
3- الأمالي للشيخ الصدوق ص 53 المجلس الثاني عشر، ح 79 وروضة الواعظين ص 345، وفضائل الأشهر الثلاثة: ص 85 وثواب الأعمال: ص 71.
4- معاني الأخبار: ص 409.

وإجلال حرمته والتحفظ مما حظرت فيه، وأعنا على صيامه، بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا نعي بطوننا إلا ما أحللت ولا ننطق بألسنتنا إلا بما مثلت) (1).

فلهذا الشهر خصوصيات وفضائل لا تنال بالامتناع عن الطعام والشراب فقط بل بالامتثال الكامل - وبما للكلمة من معنى - والتسلح بالتقوى والصبر على الطاعة والابتعاد عن المعصية، والتحلي بالإيمان والتقوى، حتى لا يحرم المرء فائدة هذا من الشهر، لأن من فاتته رحمة اللّه تعالى في هذا الشهر فقد خسر خسراناً عظيماً..

يقول الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2) لما حضر شهر رمضان وذلك في ثلاث بقين من شعبان، قال لبلال ناد في الناس، فجمع الناس، ثم صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

(أيها الناس إن هذا الشهر قد خصكم اللّه به وحضركم وهو سيد الشهور، ليلة فيه خير من ألف شهر، تغلق فيه أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنان، فمن أدركه ولم يغفر له فأبعده اللّه، ومن أدرك والديه فلم يغفر له فأبعده اللّه، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليّ فلم يُغفر له فأبعده اللّه).

ويقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أيها الناس إنه قد أظلكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر فرض اللّه صيامه، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة كتطوع سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، وجعل فيه من تطوع فيه من خصال الخير كأجر من أدى فريضة من فرائض اللّه عزّ وجل، وهو شهر الصبر يزيد اللّه في رزق المؤمن فيه، ومن فطر فيه مؤمناً صائماً كان له بذلك عند اللّه عتق رقبة ومغفرة لذنوبه فيما مضى).

إلى أن قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره الإجابة والعتق من النار، ولا غناء بكم عن أربع خصال: خصلتين ترضون اللّه بهما وخصلتين لا غنى لكم

ص: 52


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 44.
2- الكافي ج 4، ص 67، ح 5، كتاب الصيام.

عنهما، فأما اللتان ترضون اللّه بهما: شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه، وأما اللتان لاغنى بكم عنهما فتسألون اللّه فيه حوائجكم والجنة وتسألون العافية وتعوذون به من النار...) (1).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له؟) (2).

صوم الجوارح والجوانح

يقول الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) صحيفته السجادية: (وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح) (3)، وهذه إشارة إلى آداب الصائم وقد وردت أخبار كثيرة عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في ذلك، منها:

قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك، وعدَّدَ أشياء كثيرة غير هذا، وقال: لا يكون يوم صومك كيوم فطرك) (4).

وعن صوم الجوانح مضافاً إلى الجوارح يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إن مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) قالت: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) (5) أي صمتاً فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تحاسدوا ولا تنازعوا فإن الحسد يأكل الإيمان كم تأكل النار الحطب) (6).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (سمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) امرأة تسب جارية لها وهي صائمة فدعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بطعام لها فقال لها كلي فقالت: إني صائمة، فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جارتك إن الصوم ليس من الطعام والشراب) (7).

ص: 53


1- الكافي ج 4، ص 66، كتاب الصيام ح 4.
2- الأمالي للشيخ الصدوق ص 53، المجلس الثاني عشر، ح79.
3- الصحيفة السجادية الدعاء 44.
4- الكافي ج 4، ص 87 كتاب الصيام، ح1.
5- سورة مريم: 26.
6- الكافي ج 4، ص 87 آداب الصائم، ح 9.
7- الكافي: ج 4، ص 87 آداب الصائم، ح3.

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم ولا تجعل يوم صومك، كيوم فطرك) (1).

ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (كان علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): إذا كان شهر رمضان لم يتكلم إلا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير فإذا أفطر قال: اللّهمّ إن شئت أن تفعل فعلت) (2).

وواضح أن هذا العمل لا يقف عند اجتناب الطعام والشراب أو ما أشبه، بل لابد من الإخلاص في النية إذ هو كسائر العبادات والواجبات التعبدية يحتاج إلى إخلاص النية في العمل، لأن العمل بدون النية وإخلاصها يصبح ظرعاً لا محتوى له، بل ويعد باطلاً شرعاً، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إنما الأعمال بالنيات)(3).

وقد أشار الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذا المعنى بقوله: (لا نشرك فيه أحداً دونك ولا نبتغي فيه مراداً سواك) (4)، وهو يدل على لزوم إخلاص العمل، أي تصفيته عن أن يكون لغير اللّه.

وقيل: هو أن لا يريد عامله عليه عوضاً في الدارين، وهذا التعريف ربما يكون أشد انطباقاً على قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ولا نبتغي فيه مراداً سواك) وهي درجة عالية عظيمة المنال في التعبد، حيث أشار أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لها بقوله: (إن قوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار) (5).

فشهر رمضان شهر العبادة وشهر التوجه إلى اللّه تعالى، ومن أكبر نعمه سبحانه توفيق الطاعة وفرض الصيام فيه، فهي نعمة وفضل عظيم من اللّه على الناس، يقول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللّه وجعلتم فيه من أهل كرامة اللّه، أنفاسكم

ص: 54


1- الكافي ج 4، ص 88 آداب الصائم، ح3.
2- الكافي: ج 4، ص 88 آداب الصائم، ح 8.
3- بحار الأنوار: ج 67، ص 210، ب 53، ح32.
4- الصحيفة السجادية الدعاء 44.
5- بحار الأنوار: ج 41، ص 14، ح4، ط طهران.

فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اللّه ربكم بنية صادقة، وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه) (1).

قيام القائمين

وبعد ما طلب الإنسان في هذا الدعاء (2) المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يكون صيامه صيام الصائمين يطلب من اللّه أن يجعل قيامه قيام القائمين! حيث يقول: (وقيامي فيه قيام القائمين)، فمن سر القائمون؟

القائمون هم الذين يؤدون الصلاة بما فيها من روح وعظمة وخشوع، لا كما تؤدّى آليا فقط، كأداء الحركات للركوع والسجود؟

القائمون هم الذين يعرفون فلسفة الصلاة وأهميتها وآثارها التربوية باعتبارها برنامجاً تربوياً يخضع لشروط وقيود معينة ثم يؤدونها بشرائطها، إلا أن الكثير من الناس قد يتجاهلون هذه الحقيقة فيؤدونها إسقاطاً للتكليف ليس إلا، قال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (3).

القائمون هم الذين يؤدون الصلاة بتلازم التفكر باللّه تعالى، والنظر إلى رحمته وطلب مغفرته، ويشير القرآن بلغة رائعة لهذا المعنى فيقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (4).

ومن المحتمل أن يكون المراد بالقيام، خصوصاً في هذا الدعاء الوارد في شهر رمضان المبارك هو: إحياء الليل بالعبادة، كالصلاة وما أشبه، وقد يكون هذا أقرب من المعنى الأول، وذلك لمناسبة الحكم والموضوع كما يذكره علماء الأصول والفقه.

ص: 55


1- الكافي ج 4، ص 66، ح4.
2- أي الدعاء الوارد في أول يوم من شهر رمضان.
3- سورة الحج: 26.
4- سورة آل عمران: 191.

وفي الحديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حول أول ليلة من شهر رمضان: (يقول اللّه عز وجل يا رضوان افتح أبواب الجنان، يا مالك اغلق أبواب الجحيم عن الصائمين القائمين من أمة محمد) (1) الحديث.

وهناك روايات أخرى تدلّ على أن المراد من القيام: القيام في الليل نشير إلى بعضها:

عن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن أول رحمة نزلت من السماء إلى الأرض في خمس وعشرين من ذي القعدة فمن صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة فله عبادة مائة سنة صام نهارها وقام ليلها) (2).

وفي حديث الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع الجاليق قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إن عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة فقال الجائليق وما أفطر عيسى يوماً قط ولا نام بليل قط وما زال صائم الدهر قائم الليل، فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) الي فلمن كان يصوم ويصلي؟! فخرس الجائليق وانقطع) (3).

وقد ورد في الروايات كثيراً هذه الكلمات: (صائم النهار قائم الليل) و(صائم نهاره وقائم ليله) و (القيام في الليل) و (يقوم الليل ويصوم النهار) وما أشبه، فقد يكون الأقرب أن المراد من قوله : (واجعل قيامي فيه قيام القائمين) أي إحياء ليالي شهر رمضان بالدعاء والصلاة والعبادة.

وهكذا كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) والأئمة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) حيث كانوا يقومون بالعبادة والتضرع إلى اللّه.

ففي الحديث (4) : عن عطاء بن رباح قال سألت بعض زوجات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : عن أعجب ما رأت من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ قالت: وأي شأن لم يكن عجباً، إنه أتاني ليلة فدخل

ص: 56


1- فضائل الأشهر الثلاثة، ص 126، كتاب فضائل شهر رمضان، ح133.
2- الإقبال: ص 312، فصل فيما نذكره من فضل زائد لليلة يوم دحو الأرض ويومها.
3- راجع التوحيد ص 422 باب ذكر مجالس الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ).
4- تفسير الدر المنثور: ج 2، ص 111.

معي في لحافي حتى قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام يصلي، فبكى حتى سالت دموعه على صدره، فركع، فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذنه بالصلاة، فقلت: يارسول اللّه ما يبكيك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

قال: أفلا أكون عبداً شكوراً ولم لا أفعل وقد أنزل علي هذه الليلة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) الألباب إلى قوله (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (1).

وورد عن أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الأمر بقراءة هذه الآيات وقت القيام بالليل للصلاة.. كما في رواية منقولة عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان إذا قام لصلاة الليل يسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله تعالى: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (2).

وعن نوف البكالي قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن فمر بي بعد هدوء الليل، فقال: أراقد أنت أم رامق؟

قلت: بل رامق ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: (يانوف طوبي للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً) (3).

وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (4)، ففي عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء، حرموا على أنفسهم لذة النوم ونهضوا إلى ما هو ألذ من ذلك.. حيث ذكر اللّه

ص: 57


1- سورة آل عمران: 190 و 191.
2- مجمع البیان ج 2، ص 554، ذيل آية 190.
3- سفينة البحار ج 2، ص 622، مادة نوف.
4- سورة الفرقان: 64.

والقيام والسجود بين يدي رب العالمين، يقضون جزء من الليل في مناجاة المحبوب وينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره واسمه..

وهنا قدمت الآية: (سجداً) على (قياماً) بسبب أهميته وإن كان القيام مقدماً على السجود عملياً في حالة الصلاة، و(سجّداً): هي جمع ساجد، و (قياماً): جمع قائم.

ولعل ما طلبه الداعي هنا بقوله: (وقيامي فيه قيام القائمين) بناء على المعنى الأول وهو الصلاة، هو ما يشير إليه الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله:

(اللّهمّ صل على محمد وآله وفقنا فيه على مواقيت الصلوات الخمس بحدودها التي حددت وفروضها التي فرضت ووظائفها التي وظفت، وأوقاتها التي وقتْ، وأنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها، الحافظين لأركانها المؤدين لها في أوقاتها، على ما سنه عبدك ورسول صلواتك عليه و آله في ركوعها وسجودها وجميع فواضلها على أتم الطهور وأسبغه وأبين الخشوع وأبلغه) (1).

فيكون قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بياناً لقيام القائمين، فالقيام يشمل الصلوات الواجبة والمندوبة، والتي ينبغي أن يؤديها الصائم لنيل المثوبات والفضائل الروحية العظيمة، إضافة إلى شموله لمطلق إحياء الليل بالعبادة كما مر تفصيل ذلك.

ص: 58


1- الصحيفة السجادية: الدعاء 44.

التنبيه من الغفلة

يشتمل هذا الدعاء الشريف الذي نحن بصدد توضيحه وكسب المعرفة من مضامينه العالية بعد طلب كون صيامه صيام الصائمين وقيامه قيام القائمين على أن ينبهه ربه من نومه الغافلين حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (و نبهني فيه عن نومة الغافلين).

فما هي الغفلة؟

الغفلة لغة: هي سهو يعتري الإنسان من سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وقيل: هي متابعة النفس على ما تشتهيه وهي من الإهمال، وقيل: إبطال الوقت بالبطالة، وقيل: هي التفريط والتقصير(1).

إذاً الغفلة من أمراض القلب وهو السهو الذي يدخل الإنسان ويسيطر على وجوده، قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (2)، وهذا ناتج من كثرة التشبث بالدنيا والتمسك بحبائلها وأهوائها، فتولد فيه نوعاً من النوم والغفوة، فما فائدة أن تكون عيون الإنسان مفتوحة وقلبه نائم وعقله مغلق، وبصره حديد ولكن بصيرته في غفلة وغفوة، فإنك قد تجد إنساناً يرى بعينيه اللتين أنعم اللّه تعالى بهما عليه مسافات بعيدة، ولكنه لا يرى أبسط الحقائق التي أمام عينيه، فتحسبه يقظاً ولكنه نائم، غفلة القلب ونومة العقل وخمود الضمير لا تعني النوم بالمعنى المتعارف بل تعني اللهو والانشغال عن اللّه تعالى بما لا يستحق الانشغال به.

ولذا ورد التأكيد على التنبيه من الغفلة في كثير من الأدعية، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ونبهني من رقدة الغافلين) (3).

ص: 59


1- معجم مقاييس اللغة : ج 4، ص 386، مادة (عقل).
2- سورة البقرة: 10.
3- الإقبال ص 355، ومصباح الكفعمي ص 667.

وفي الصحيفة السجادية : (ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة) (1).

فهناك الكثير ممن تعتريه الغفلة عن التوجه إلى اللّه تعالى، ويغلبه عدم التيقظ والتحسب لما تؤول إليه هذه الغفلة التي تعم أحياناً حتى الضمائر وتغطي الوجدان! وتسبب عدم الاكتراث بالأمور وارتكاب المعاصي والذنوب! إن هؤلاء لابد لهم من تنبيه وتحذير، وربما يصابون بصدمة توقظهم من نومتهم وغفلتهم..

ثم لا يخفى أن هذا التنبيه واليقظة لا يكون إلا برحمة من اللّه تعالى وتوفيقه، كما نقرأ في هذا الدعاء: (ونبهني عن نومة الغافلين) وإلا فستكون النتيجة قاسية جداً إذا لم يتنبه الإنسان من تلك الغفلة.

ولابد من القول إن الإنسان عادة أو في الغالب يغفل ويسهو إلا من عصمه اللّه سبحانه من الأنبياء والأولياء والأئمة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) فهؤلاء لا يغفلون أبداً كما دلّ على عصمتهم بالأدلة الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، قال تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2).

والعصمة ملكة راسخة وقوة تمنع النبي والإمام عن الإتيان بما يخالف اللّه صغير وكبير عن عمد وغير عمد، وهذه لا تبلغ حد الإلجاء والاضطرار، فالنبي والإمام لا يعصيان...بالاختيار والمشيئة وإن تمكنا منها، إذ معرفتهم باللّه بلغت حداً لا يعقل معه من أن يذهلوا عنه طرفة عين، وذلك كالأم العاقلة التي لا تقتل طفلها وإن تمكنت من ذلك (3).

ولكن عامة الناس تغفل، وهذا مما لا مفر منه فيلزم على الإنسان أن يتضرع إلى اللّه سبحانه ويطلب التوفيق منه تعالى حتى تشمله الرحمة الربانية وتوفيق التنبيه من تلك النومة ومن تلك الغفلة حتى لا تتفاقم الأمور وتتعاظم الصغائر، وعندها تصبح الغفلة والغفوة سباتاً ونوماً عميقاً، نعوذ باللّه تعالى منه.

ص: 60


1- الصحيفة السجادية ص 111 وكان من دعائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مكارم الأخلاق.
2- سورة الأحزاب: 33.
3- راجع العقائد الإسلامية: ص 164 العصمة.

والقرآن الكريم يشير إلى مخاطر وتفاقم هذه الغفلة والإعراض عن اللّه بقوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (1)، إذ هم ينامون ويأكلون ويدأبون من أجل الحياة الفانية وفي كل يوم يزدادون جداً وتعباً وحبا لتوفير حياة أفضل ومستقبل أحسن، ولكن في نفس الوقت العمر يتقدم بهم ويسوقهم نحو القبر الذي هو الآخر يطالبهم بالعمل والجد والتعب ولانشغالهم بالدنيا يغفلون عن الآخرة، فيهتمون بإعمار هذه الدنيا الدنية ويغفلون عن إعمار الآخرة وقد قال تعالى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) (2)، وهذه غفلة كبيرة تنهى عصر الناس إلى الخسران ولذلك تحذر الآية المباركة وتؤكد على اقتراب حساب الناس ولكنهم غافلون عن ذلك !!

ومولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يؤكد هذه الحقيقة فيقول: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) (3)، إذ يغفلون في الدنيا عن الآخرة وعندما يرحلون إليها يجدون ميزانهم خفيف الوزن وأعمالهم قليلة، فعند ذلك ينتبهون إلى غفلتهم في دار الدنيا ويندمون على ما قدموا ولكن ما فائدة هذا الندم!!

ولذلك ينبغي للمؤمن أن يطلب من اللّه أن يوفقه دائماً للتنبه حتى يوقظه من غفلته قبل فوات الأوان، وحتى لا يكون من الغافلين الذين وصفهم القرآن بقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (4).

يعني إن هؤلاء الغافلين في نوم عميق وإن كانوا يسيرون في الأرض ويأكلون من نعم اللّه ويتحركون من هنا وهناك ولكن كل ذلك بدون تعقل ولا بصيرة.. فيصفهم القرآن بأنهم كالأنعام بل أشد ضلالة، وما أدق هذا التعبير، لماذا؟ لأن الأنعام

ص: 61


1- سورة الأنبياء: 1.
2- سورة الضحى: 4.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 1، ص 150، وغوالي اللئالي، ج 4، ص 150، وخصائص الأئمة ص 112.
4- سورة الأعراف: 179.

والحيوانات لا تكليف عليها! أما الإنسان المكلف الذي امتاز بقدرة العقل إذا صار يتغافل يصبح كالأنعام ويكون كالحيوانات فيلغي عقله وضميره! ويركض وراء شهواته وأهوائه فهو أضل..

وماذا سيكون مصيره؟ (إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (1)، نعوذ باللّه تعالى، لأنه لم ينتبه من غفلته وغفوته، فتعاظم عليه نومه وكسله حتى جعله من أولياء الشيطان وآثر النوم والغفلة على النهوض والاستعداد واليقظة!!

ص: 62


1- سورة آل عمران: 12.

غفران الذنوب

ثم نصل إلى مقطع آخر من هذا الدعاء الشريف الوارد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في أول يوم من شهر رمضان حيث يقول: (وهب لي جرمي يا إله العالمين واعف عني يا عافياً عن المجرمين).

ولا يخفى ما في هذا الدعاء من الدقة والترتيب، فبعدما يذعن الإنسان بغفلته عن اللّه وأنه قد ابتلى بنومة الغافلين، يتضرع إلى اللّه تبارك وتعالى ويسأله أن يغفر له ذنوبه ويعفو عما صدر عنه في هذه الغفلة، فيقول بقلب متوجه إلى بارئه وخالقه: (وهب لي جرمي).

وكلمة (هب): فعل أمر، وهو من الهبة: أي العطية الخالية من الأعواض والأغراض، وإذا كثرت سمي صاحبها وهاباً وهو من أبنية المبالغة، ومنه سمي اللّه بالوهاب، وكانت من صفاته تعالى ومن أسمائه الحسنى، وهو المنعم على العباد، وهو الواهب الوهاب لهذه النعم الكثيرة، وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أي لا أقبل هبة إلا من هؤلاء لأنهم أعرف بمكارم الأخلاق) (1)، واللّه تعالى كثير العطايا، كتب على نفسه الرحمة وهو صاحب الهبات بما للكلمة من معنى وهو الوهاب المطلق يهب للداعي جرمه، أي ذنوبه، والجرم: يعني الذنوب والمعاصي.

ولعل جاء طلب العفو والمغفرة بصيغة الهبة في هذا الدعاء حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (وهب لي جرمي) ولم يقل: (واغفر لي ذنبي) مثلاً، لأن في الهبة مبالغة في العفو

ص: 63


1- لسان العرب مادة (وهب).

والسماح، إذ هي طلب أن يعفو عن ذنبه ويهبه من دون مؤاخذة أو حساب....

بينما الغفران قد يتضمن معنى الحساب والعتاب وبعد ذلك يترتب عليه العفو والمغفرة، فيهب له ذنوبه من قبل أن يقدمه للحساب ويحكم عليه بالذنب ثم يعفو عنه تفضلاً واللّه سبحانه العالم.

والآن نأتي إلى معنى المجرم في كلمة (المجرمين)، فمن المجرم؟

الجرم في اللغة (1): هو الذنب، ويأتي بمعنى الكسب أيضاً، أي ما حازه الشخص ومنها الجريمة وهي من الكسب، وقالوا في قولهم (لا) جرم) من قولهم جرمت أي كسبت، وأنشدوا:

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة***جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا(2)

والمجرم في القرآن من يعصي اللّه سبحانه ويخالف الدين الإسلامي، أما غيره فلايكون مجرماً وإن اعتبره القانون كذلك.

فحيث أنه لا جمارك في الإسلام، ولا حدود جغرافية، ولا ضرائب باهضة ولا...ولا...فمخالفة هذه القوانين التي جاء بها الغرب والشرق، لا تكون في منظار القرآن جرماً، كما أنه من الممكن تصور عكسه أيضاً: فمن غش الناس فهو مجرم وإن لم يعتبره القانون مجرماً، وعلى الاصطلاح المنطقي بين الجرم في الإسلام والجرم في القانون الوضعي عموم وخصوص من وجه كما هو واضح.

والقرآن الكريم وصف المجرمين في أكثر من موقع، وتوعدهم بعذاب أليم كما في قوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) (3)، أي الخلود والعذاب.

والظاهر من المعنى اللغوي للجرم كل من يقترف خطيئة، سواء في العقيدة كالكافر، أو فى العمل كالفاسق، والمنافق على وجه، ونحو ذلك.

كما لا يخفى أن بين المجرمين تفاوتاً في الدركات والعقوبات إذ المجرم العقيدي

ص: 64


1- معجم مقاييس اللغة: ص 446، مادة جرم.
2- معجم مقاييس اللغة، ص 446، مادة جرم.
3- سورة طه: 74.

ليس كالمجرم العملي، وهكذا يتفاوتون في العقائد نفسها والأعمال نفسها، ولعل الآية الشريفة تشير إلى بعض هذا المعنى قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (1)، وواضح أن أعداء الأنبياء كانوا يختلفون بحسب درجات العدوان وآثاره الخارجية.. فالجرم والمجرم وما أشبه كلي مشكك على الاصطلاح المنطقي، له درجات و مراتب والإنسان يطلب في هذا الشهر العظيم شهر الرحمة والمغفرة شهر رمضان المبارك أن يهب اللّه له مطلق جرمه صغيره وكبيره.. حيث يقول: (وهب لي جرمی)، قال الشاعر:

أنا مجرم أنا مذنب أنا عاصي***هو غافر هو راحم هو عافي

قابلتهن ثلاثة بثلاثة***فستغلب أوصافه أوصافي

فإن اقتراف الذنب وإن كان بسيطاً يعد كسباً واكتساباً للإثم، وقد تكون المعصية من المصاديق الخفية للجرم بحيث لا يعرفه الإنسان نفسه، فيرتكب خطيئة وهو يزعمها طاعة، مما يسمى ذلك بالجهل المركب، ومعلوم أن الثابت في الأدلة أن اللّه سبحانه يغفر للإنسان ذنوبه إذا تاب ورجع إليه تعالى وطلب صفحه، فهو العافي عن المجرمين.. فعلينا أن نردد ونقول: (وهب لي جرمي يا إله العالمين واعف عني يا عافياً عن المجرمين) لكن بشرطها وشروطها.

قال محمد بن نافع: رأيت أبانواس في المنام بعد موته، فقلت: يا أبانواس، فقال: لاتكن، فقلت: الحسن بن هاني قال: نعم، قلت: ما فعل اللّه بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في علّتي قبل موتي وهي تحت الوسادة.

قال: فأتيت أهله فقلت: هل قال أخي شعراً قبل موته؟

قالوا: لا نعلم إلا أنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئاً لا ندري ماهو ؟

قال: فدخلت ورفعت وسادته فإذا أنا برقعة مكتوب فيها:

ياربّ إن عظمت ذنوبي كثرة***فلقد علمت بأن عفوك أعظم

ص: 65


1- سورة الفرقان: 31.

إن كان لا يرجوك إلا محسن***فمن الذي يدعو ويرجو المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرعاً***فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليك وسيلة إلا الرجا***وجميل عفوك ثم إني مسلم(1)

فهذا الشهر هو شهر الصفح والعفو.. وطلب المغفرة والتجاوز عن السيئات، شهر الرحمة شهر الهبات والعطايا.. والتوفيق والتقرّب إلى اللّه عز وجل.

انظر إلى قول الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعائه في هذا الشهر حيث يقول: (وإذا كان لك في كل ليلة من ليالي شهرنا هذا رقاب يعتقها عفوك أو يهبها صفحك فاقبل رقابنا من تلك الرقاب) (2).

والصفح: ترك التثريب والتقرير بالذنب، وهو أبلغ من العفو، إذ قد يعفو الإنسان مثلاً ولكن لا يصفح، وصفحت عنه : أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عن ذنبه، أو لفت صفحتي متجافياً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها(3).

وقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الكرام (عَلَيهِم السَّلَامُ) أفضل نموذج للصفح، اضافة إلى العفو، فقد ورد:

إن رجلاً سبّ الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأغضى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه، حتى يشعره بأنه لم يسمع.

فسبّه مرة ثانية.. والإمام ساكت، مغض عنه..

ثم سبّه مرة ثالثة.

والإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساكت.

فلم يتحمل الرجل سكوت الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال للإمام: إياك أعني!

ص: 66


1- حياة الحيوان: ج 1، ص 46.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 44.
3- مفردات الراغب: ص 444 و 445.

فأجابه الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): وعنك أغضي (1).

كما ورد أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جاءه أعرابي خشن وهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جالس في مسجده وحوله جماعة من أصحابه، فطلب من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حاجته.

فلم يتمكن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من قضائها في ذلك الوقت، فأرجأه إلى وقت آخر.

لكن الأعرابي كان سيئ الأدب، فتكلم بما لا يليق أن يقال عند النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فثارت حمية الأصحاب، وأرادوا تأديبه، الا أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمرهم بالكف عنه، ثم توجه إلى الدار وأعطاه ما يرضيه وقال له: هل رضيت عنّي؟ قال الأعرابي: نعم، رضي اللّه عنك يا رسول اللّه، ومدحه.

فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اذهب وقل لأصحابي إني أرضيتك وإنك راض عني.

فجاء إليهم في المسجد وأظهر رضاه عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2).

ص: 67


1- كشف الغمة : ج 2: 643، ط الشريف الرضي.
2- فاعتبروا يا أولي الأبصار : ص 162، القصة 93.

شهر الرحمة والتوبة

وهذا ما أدب اللّه به نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأولياءه (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما ورد في الحديث :

إن مجوسياً استضافه النبي ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: تأكل بشرط أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

فمضى المجوسي في طريقه بدون أن يأكل.

فأوحى اللّه إلى ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنا أطعمه منذ خمسين سنة على كفره، فلو ناولته لقمة من غير أن تطالبه بتغيير دينه.

فمضى النبي ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) على أثره واعتذر منه.

فسأله المجوسي عن سبب ذلك.

فذكر النبي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إن اللّه أوحى إليه بما أوحى...فأمن المجوسي عندما عرف عفو ربه و صفحه (1).

فعلى العبد أن يطلب من ربه العفو ويسأله الصفح ويقول: (وهب لي جرمي) أو (يهبها صفحك)، لأن الذنب عندما يرتكبه الإنسان يتحول إلى صحيفة، فكأنه قد خرج من ملك الإنسان إلى ربه، فعندها يستحق العقاب عليه...فكأن الداعي يريد أن يقول: ربي اعف عني، واصفح عني، وهب لي ذنبي، أي اجعله في ملكي ولا تخرجه من يدي حتى لا تعاقبني عليه.

وعن الإمام أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقبل بوجهه إلى الناس فيقول: يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غلت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة، وغلقت أبواب النار واستجيب الدعاء، وكان اللّه

ص: 68


1- من قصص التاريخ: ص 159، القصة 96.

فيه عن كل فطر عتقاء يعتقهم اللّه من النار وينادي مناد كل ليلة هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) (1).

وروى شيخ الطائفة في التهذيب عن الإمام أبي عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (إن للّه في كل يوم من شهر رمضان عتقاء من النار إلا من أفطر على مسكر أو مشاحن أو صاحب شاهين، قال: قلت: وأي شيء صاحب شاهين؟ قال: الشطرنج، والمراد بالمشاحن: صاحب البدعة والضلالة ومن خالف حكم اللّه والمعادي لأوليائه) (2).

إذاً شهر هر رمضان شهر تصفیه اندرب ومحقها ورمضها، لذا يؤكد الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعائه ويقول: (وأمحق من ذنوبنا مع إمحاق هلاله وأسلخ عنا تبعاتنا مع انسلاخ أيامه حتى ينقضي عنا وقد صفيتنا فيه من الخطيئات) (3).

فلماذا لا يستلهم الإنسان هذه الرحمة وهذا العطاء الإلهي العظيم ويستثمره لبنائه الروحي، وبناء مستقبله الأخروي، فالوسائل موجودة ومتاحة...والوسائط ميسورة فلمَ لا؟!

قال الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك وسميته التوبة وجعلت على ذلك الباب دليلاً من وحيك لئلا يضلوا عنه فقلت تبارك اسمك: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (4) فما عذر من أغفل دخول ذلك المنزل بعد فتح الباب وإقامة الدليل) (5).

وعن علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من أكابر بني أمية فقال لي: استأذن على لي أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فاستأذنت له فلما دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني

ص: 69


1- الكافي: ج 4، ص 67، فضل شهر رمضان، ح6.
2- تهذيب الأحكام: ج 3، ص 60، في فضل شهر رمضان، ح 2 و 3.
3- الصحيفة السجادية: دعاء 44، إذا دخل شهر رمضان...
4- سورة التحريم: 8.
5- الصحيفة السجادية: الدعاء 45.

كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيرا، وأغمضت في مطالبه.

فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): لو لا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفئ ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم.

فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي من مخرج منه ؟

قال : إن قلت لك تفعل ؟

قال: أفعل.

قال: أخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدقت به، وأنا أضمن لك على اللّه الجنة.

قال: فأطرق الفتى طويلاً، فقال: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه قال فقسمنا له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا له بنفقة.

قال: فما أتى عليه أشهر قلائل حتى مرض فكنا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السياق (أي نزوع الروح) ففتح عينيه ثم قال: يا علي وفى واللّه صاحبك.

قال: ثم مات فولينا أمره فخرجت حتى دخلت على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلما نظر إلي قال: يا علي وفينا لصاحبك.

قال فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا قال لي واللّه عند موته (1).

جعلنا اللّه ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه.. وفي الختام نردد هذا الدعاء:

(اللّهمّ اجعل صيامي فيه صيام الصائمين وقيامي فيه قيام القائمين ونبهني فيه عن نومة الغافلين، وهب لي جر يا إله العالمين، واعف عني يا عافياً عن المجرمين).

ص: 70


1- مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 240.

المؤمن ومرضاة اللّه

دعاء اليوم الثاني

2

اللّهمّ قَرِّبْني فِيهِ إِلَى مَرْضَاتِكَ، وجَنِّبْنِي فِيهِ مِنْ سَخَطِكَ ونَقِمَاتِكَ، وَوَفِّقْنِي فِيهِ لِقَرَاءَةِ آيَاتِكَ برَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

البلد الأمين ص 306 عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطي بكل خطوة له في جميع عمره عبادة سنة، صائماً نهارها، قائماً ليلها).

ص: 71

ص: 72

معنى القرب من اللّه سبحانه

هناك مقاطع ثلاثة في هذا الدعاء الشريف تشير إلى موضوعات هامة في حياة كل إنسان، فينبغي للمؤمن أن يركز عليها وأن يسألها ويطلبها في هذا الشهر العظيم من اللّه تبارك وتعالى ويسعى من أجلها وهي:

1: نیل مرضاة اللّه سبحانه.

2: الابتعاد عن سخطه ونقمته.

3: كسب التوفيق لتلاوة كتابه الكريم.

وسنتعرض إليها بقدر ما يناسب حجم الكتاب..

ورد عن رسول اللّه في هذا الدعاء: (اللّهمّ قربني فيه إلى مرضاتك...).

فما معنى أن يكون العبد قريباً من اللّه عز وجل؟

و متى كان اللّه تعالى بعيداً عن الناس حتى نطلب قربه!!

أليس هو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ كما قال في القرآن العظيم: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (1).

ولتوضيح ذلك نقول:

القرب في اللغة: نقيض البعد، كما في لسان العرب (2)، يقال: قرب الشيء بالضم، يقرب قرباً وقرباناً وقرباناً، أي: دنا فهو قريب.

قال تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (3).

وقال سبحانه: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (4).

ص: 73


1- سورة ق: 16.
2- لسان العرب مادة (قرب).
3- سورة الشورى: 17.
4- سورة البقرة: 35، وسورة الأعراف: 19.

وقال عز وجل: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) (1).

وقال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (2).

وفي المصباح المنير : قرب الشيء منا قرباً وقرابة وقربة وقربى...

ويقال: القرب في المكان، والقربة في المنزلة، والقربى والقرابة في النسب (3)...

ومعلوم أن القرب المكاني محال على اللّه سبحانه، لأنه تعالى ليس بجسم حتى يكون له زمان أو مكان، فلا يتصور بالنسبة إليه القرب والبعد بالمعنى الحقيقي، وإنما المراد من القرب، القرب المعنوي وهو التقرب إلى رحمته ولطفه، مما يعبر عنه بالقرب المجازي، بمعنى أن المؤمن إذا أطاع اللّه سبحانه وتقرب إليه، فتكون منزلته عند اللّه قريبة بحيث يقع محلاً للعناية الإلهية، واللّه سبحانه يدنو من العبد أي يرسل عليه رحمته كلما دنت منزلة العبد إلى اللّه أكثر، وفي دعاء الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يامن يدنو إلى من دنا منه) (4)، أي يدنو برحمته لمن دنا بطاعته كما هو واضح.

وفي الحديث القدسي: (إن من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن مشى إلي هرولت إليه) (5).

ومن الواضح أن الذراع والشبر هنا ليست قياس المسافة والمكان كما في سائر الموجودات، بل هي من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، ولذا قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (اللّهمّ قربني فيه إلى مرضاتك) (6)، وواضح أن هذا المقام الرفيع لا يحصل عليه كل أحد إلا بتوفيق من اللّه سبحانه، ومعنى التوفيق على ما قاله بعض العلماء: جعل الأسباب متوافقة في التأدي إلى المسبب الذي هو المطلوب.. خيراً كان أو شراً، ولكنه

ص: 74


1- سورة الإسراء: 32.
2- سورة الأعراف: 56.
3- المصباح المنير: ص 495.
4- الصحيفة السجادية: دعاؤه (عَلَيهِ السَّلَامُ) للعيدين والجمعة.
5- تعليقات على الصحيفة السجادية للفيض الكاشاني ص 91، وغوالي اللئالي، ج 1، ص 56، الفصل الرابع، والغوالي ج 4، ص 116.
6- مصباح الكفعمي ص 607، دعاء اليوم الثاني من شهر رمضان.

خص هنا بالخير وهذا المعنى اللغوي (1).

وعند بعض المتكلمين التوفيق هو الدعوة إلى الطاعة..

وعند البعض الآخر هو خلق إرادة الطاعة..

فلايكون شيء إلا بتوفيق من اللّه تعالى وإرادته ورحمته.

وعلى هذا الأساس يسأل الإنسان المؤمن في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك القرب إلى مرضاة اللّه تعالى فما معنى مرضاة اللّه و ما معنى الرضا والرضوان؟ الرضا هو خلاف السخط، يقال: رضى ويرضى، وهو راض، والأصل فيه (الواو):

ومنه الرضوان (2).

ويختلف معنى الرضا في اللّه وفي الإنسان، فالرضا في الإنسان: حالة في النفس توجب فرحها وانبساطها وقد يكون بمعنى الانقياد إلى حكم الغير، أما من اللّه تعالى: فهو عبارة عن ثوابه كما روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (رضاه ثوابه و سخطه عقابه) (3).

ويمكن أن يقال: بأن رضاه تعالى إرادة الثواب وسخطه إرادة العقاب أو العلم بذلك، ولكن الأول أظهر.

قال ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة (رضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه بموافقته لأمره وطاعته، وغضبه تعالى يعود إلى علمه بمخالفة أوامره وعدم طاعته له) (4).

ورضوان اللّه تعالى هو أعظم السعادات وأشرف المرغوبات وأعظم التوفيقات، كما قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (5).

ولما كان دخول الجنات وسكناها والفوز بها من مقتضيات رضوانه، لذا سمى اللّه تعالی، رئیس خزان الجنان ب_ (رضوان).

ص: 75


1- رياض السالكين ج 2، ص 260 معنى التوفيق.
2- معجم مقاييس اللغة: ج 2، ص 402، باب (رضي).
3- توحيد الصدوق: ص 169، ح3.
4- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني عن رياض السالكين، ج 1، ص 328.
5- سورة التوبة: 72.

مراتب الرضا

وللرضا مراتب فهو كالكلي المشكك، وذلك باعتبار أن الرضا إن كان من اللّه فهو بمعنى الثواب والعقاب، ولا شك أن ثوابه وعقابه ذو مراتب مختلفة حسب ما قرر في الحكمة الإلهية فيكون الرضا ذو مراتب أيضاً.

وأقرب الناس إلى رضا اللّه هم: الرسول المصطفى محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الطاهرون (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ثم الأمثل فالأمثل.

وللرضا الإلهي مصاديق في الدنيا والآخرة، فمن مصاديق الرضا في الدنيا: أن يوفق اللّه العبد لطاعته، ويقضي حوائجه، وينعم عليه ويرزقه الخير والبركة، ويدفع عنه البلاء، ويصرف عنه الشيطان وما أشبه.

وفي الآخرة: بمعنى العفو عن سيئاته ومنحه الثواب والجنة، الذي يقابله السخط والنار كما ورد في الرواية، وعلى هذا المعنى يصبح الرضا متأخراً رتبة عن العفو وأعلى درجة منه، وقد أمرنا اللّه بالمسارعة إلى رضاه ومغفرته وجنته، حيث قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (1).

يقال: إن رجلاً غضب على غلام له، فأشفع الغلام إلى سيده إنساناً فشفعه، فأخذ الغلام يعفر خده ويبكي فقال الشفيع ولم كل ذلك وقد عفا عنك...فقال السيد: إنه يطلب الرضا إضافة إلى العفو وليس له ذلك فإنما يبكي لأجله فإني قد عفوت عنه ولكن لم أرض عنه.

هذا ويستفاد من بعض الروايات أن عفوه جل شأنه ليس كعفو غيره، فقد يكون عفوه أبلغ من رضاه، فإن الرضا بمعنى الثواب كما سبق، والثواب: هو النفع المستحق، وأما عفوه فيتضمن النفع من غير استحقاق، لأنه كريم العفو، ومعنى كرم عفوه تبديل السيئة بالحسنة.

وقد يكون الرضا أبلغ من العفو ويناسبه ما ورد في الدعاء: (إن لم ترض عني فاعف عني) (2)..

ص: 76


1- سورة آل عمران 133.
2- مصباح الكفعمي ص 374، والبلد الأمين 394، ومهج الدعوات 281، وفلاح السائل 115.

وربما يفسر الرضوان: بإرادة الخير للعبد، فيكون سبباً للسعادة وموجباً للمفازات ونيل الكرامات، والهدايا الإلهية العظيمة، والتي هي من أكبر أصناف الثواب..

كما تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (1).

وأياً كان المعنى، فالرضوان نعمة ورحمة إلهية لا يوفّق لها إلا ذو حظ عظيم..!! فعندما يطلب الإنسان من اللّه سبحانه وتعالى رضوانه ويقول: (اللّهمّ قربني فيه إلى مرضاتك) لابد وأن يسلك سبيل الرضوان، فإن اللّه قد جعل الدنيا دار أسباب ومسببات.

وللرضوان سبل عدة بينها لنا المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما قد يشير إلى هذا المعنى دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الحمد للّه الذي حبانا بدينه.. واختصنا بملته وسبلنا في سبل إحسانه لنسلكها بمنه إلى رضوانه، حمداً يتقبله منا ويرضى به عنا) (2).

فهناك سبل مختلفة إلى الرضوان الإلهى ولكن من أبرزها العمل بالطاعات والابتعاد عن المعاصي والآثام، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا...وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (3).

فالآية لم تقتصر على الجانب المادي فقط.. بل أشارت إلى الجانب المعنوي أيضاً لأن جملة (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) تدل بالدلالة المطابقية على أنه أكبر النعم، خصوصاً وأنها وردت بصيغة النكرة، وهذا يدل على المبالغة، كما هو مذكور في علم البلاغة لتبيّن كم هي قيّمة هذه النعمة العظيمة.

والملفت أنه قد ذكرت في هذه الآية الجنة ونعيمها، ثم جاء وصف الرضوان بأنه أكبر من ذلك كله.. قد يفهم من الجانب المعنوي والروحي من النعم الإلهية، فتشير إلى أن المعنويات أكبر لذة، لأن اللذائذ الروحية لا يمكن قياسها باللذائذ المادية، كما أن الآلام الروحية أشد ألماً و أذى من الآلام الجسدية.

ص: 77


1- سورة التوبة: 72.
2- الصحيفة السجادية: دعاؤه إذا دخل شهر رمضان.
3- سورة التوبة: 72.

فتشمل هذه الآية المباركة جميع النعم المادية والمعنوية، ثم تقول في خاتمتها: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (1).

ولما كانت مرضاة اللّه.. أعلى المثوبات والدرجات نجد أولياء اللّه سبحانه يُحمدون من أجلها، وهذا ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليلة المبيت في فراش رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حيث فداه بنفسه فباهى اللّه تعالى به الملائكة، حتى أنزل اللّه تعالى الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (2).

وفي كتاب كشف الغمة (3) قال:

(وذكر ابن الأثير في كتابه كتاب الإنصاف الذي جمع فيه بين الكاشف والكشاف أنها أي هذه الآية نزلت في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وذلك حين هاجر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وترك علياً في بيته بمكة وأمره أن ينام على فراشه....فقال اللّه عز وجل لجبرائيل وميكائيل: إني قد آخيت بينكما و جعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر أخاه بالبقاء، فاختار كل منهما الحياة، فأوحى اللّه إليهما ألا كنتما مثل علي أخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إليه فاحفظاه من عدوه، فنزلا إليه فحفظاه، جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل يقول: بخٍ بخٍ يابن أبي طالب من مثلك وقد باهى اللّه بك الملائكة).

فالسبيل إلى مرضاة اللّه تعالى هو العمل الصالح.. بشتى صوره.. وجميع مصاديقه.

فالأعمال الصالحة هي التي تسمو بالإنسان وتقربه من اللّه تعالى و هي كفيلة لضمان مرضاة اللّه سبحانه.. وموجبة لسعادة الإنسان ونيل الجوائز الإلهية المادية والمعنوية.. الدنيوية منها والأخروية.

فالإنسان بعمره القليل.. لابد له من صرفه لابتغاء مرضاة اللّه تعالى وبالتالي نيل السعادة المرجوة..

ص: 78


1- سورة التوبة: 72.
2- سورة البقرة: 207.
3- كشف الغمة : ج 1، ص 310.

وقد ترك لنا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الكرام (عَلَيهِم السَّلَامُ) المواعظ العديدة لاستثمار العمر وجعله فرصة ينال به المرء السعادة والمرضاة الإلهية.

قال النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (يا علي لا ينبغي للعاقل أن يكون ظاعناً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم) (1).

وذلك لأن الإنسان محصور حقيقة في جانبين مهمين هما:

1: العقل.

2: الغرائز والأهواء.

وللأخيرة أكبر الأثر في تقريب العبد من اللّه تعالى أو إبعاده.

ثم لا يخفى إن التقرب إلى مرضاة اللّه يكون عبر العمل للدنيا والآخرة معاً، كما هو ظاهر حديث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فالكسب النزيه أيضاً موجب للتقرب إلى مرضاته كما ورد في الروايات:

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ):(ليس منا من ترك دنياه لدينه ودينه لدنياه) (2).

فالاشتغال بالآخرة فقط وترك الدنيا غير مقبول في الإسلام كما قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (لارهبانية في الإسلام) (3). والانشغال بالدنيا عن الآخرة مرفوض أيضاً.

فمن الخطأ أن يتوهم الشخص بأنه قد حصل على المتع واللذائذ المادية فيطلق غرائزه الشهوانية للاغتراف من نهر تلك اللذائذ فإنه هلاك الإنسان، وإذا صرف عمره في الشهوات تمضي الأيام دون أن يشعر بها حتى يجد نفسه وقد اقترب منه أجله وهو لم يصرف هذا العمر الثمين الذي لا يعوض بشيء من الأعمال الصالحة.. عندها يجد نفسه مبتعدا عن مرضاة اللّه تعالى ورحمته، لأن الإنسان حاصد ما زرعته يداه في خير أو شر.. كما قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الدنيا مزرعة الآخرة) (4).

ص: 79


1- الخصال للصدوق باب الثلاثة ص 120، ح 110.
2- تحف العقول: ص 409، وفقه الرضا: ص 337، باب حق النفوس.
3- دعائم الإسلام: ج 2، ص 193.
4- إرشاد القلوب ص 89 الباب،22 مجموعة ورام: ج 1، ص 92.

وقال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (1).

فعلى الإنسان أن يضع ذلك نصب عينيه وكما يعمل لكسب معاشه.. عليه أن يكون عاملاً لكسب معاده أيضاً.

قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (2).

وقال سبحانه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (3).

فتحصيل مرضاة اللّه تعالى لاتتم إلا بالعمل الصالح والتقوى والطاعة للّه تعالى، والابتعاد عن المعصية، فإن المعاصي تبعد الإنسان عن رضوانه تعالى المادية والمعنوية.

كما أن العمل لا يكون صالحاً ولا يعتبر طاعة إلا بإطاعة اللّه تعالى وإطاعة رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و إطاعة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...فهم الوقاية لنا من غضب اللّه تعالى.. اذ لا يمكن نيل رضوان اللّه تعالى ورضا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورضا أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلا بالتقوى والعمل الصالح، الذي أمر به أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

كما في الرواية: عن جابر الجعفي: قال: قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت فو اللّه ما شيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه...إلى أن قال: فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى اللّه تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته.. يا جابر واللّه ما يُتقرب إلى اللّه إلا بالطاعة ما معنا هنا براءة من النار، ولا على اللّه لأحد من صحبة، من كان اللّه مطيعاً فهو لنا ولي، و من كان اللّه عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع..)(4).

ص: 80


1- سورة الزلزلة: 7 و 8.
2- سورة النحل 97.
3- سورة البقرة: 201.
4- الوافي: ج 2، ص 60، نقلاً عن الكافي.

سنن اللّه في الحياة

ثم نأتي إلى الفقرة الثانية من الدعاء فنطلب من اللّه سبحانه وتعالى أن يجنبنا نقمته وسخطه، حيث ورد عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (وجنبني فيه من سخطك ونقماتك).

ماهو السخط ؟

قال في أقرب الموارد (1) (السخط والسخط : ضد الرضى، وقيل إنه لا يكون إلا من الكبراء والعظماء).

قال في لسان العرب (2): (السَخَط والسَخْط : ضد الرضا مثل العَدْم والعَدَم، والفعل منه سَخِطَ يَسْخَطَ سَخَطاً. وتسخّطَ وسخط الشيء سَخَطاً: كرهه، وسخط أي غضب، فهو ساخط وأسخطه أغضبه.. السخط والسخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به ومنه الحديث: إن اللّه يسخط لكم كذا، أي يكرهه لكم ويمنعكم منه ويعاقبكم عليه أو يرجع إلى إرادة العقوبة عليه) انتهى.

والمسخطة ما يدعو إلى السخط. ويقال: (البر مرضاة للرب ومسخطة للشيطان).

وأسخطه: أغضبه.

ماهي النقمة؟

و (النقمة) (3): اسم من انتقم منه، إذا عاقبه أو بالغ في العقوبة، من: نقم إذا بلغت به الكراهة.

ص: 81


1- أقرب الموارد: ج 1، باب سخط.
2- لسان العرب: مادة سخط.
3- أقرب الموارد: ج 3، باب نقم ص 411.

ومن أسماء اللّه تعالى: (المنتقم) (1)، فإنه ينتقم من الظالمين، وهو عادل في العقوبة والنقمة وهذا مبحث مذكور تفصيله في علم الكلام.

وللنقمة أبواب منها: عدم العرفان بالجميل وشكر الإحسان: فإنها موجبة للنقمة وموجبة لإزالة النعمة كما في العديد من الأخبار، وكما قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (2).

ولكن لما كانت العناية الإلهية توجب سوق كل ناقص إلى كماله.. كان من سننه تعالى عدم مبادرة العصاة بالانتقام والمعالجة بالعقاب، بل ينظرهم ويمهلهم ليرجعوا من عصيانهم وفيهم إلى الطاعة والرشد وليخرجوا من ظلمات الجهل والمآثم إلى نور الحق ومتسع الجود..

وهنا إشارات رائعة يشير إليها الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعائه: (يامن لا يغير النعمة، ولا يبادر بالنقمة ويا من يثمر بالحسنة حتى ينميها، ويتجاوز عن السيئة حتى يعفيها) (3).

وقد يكون قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) إشارة إلى أن اللّه سبحانه رحيم ولا ينتقم من عبده وإنما العبد بسبب عمله هو الذي ينزل على نفسه النقمد، فهو سبحانه لا يغير النعمة ولا يبادر بالنقمة ولكن الإنسان يسبب ذلك.

ومعلوم أن النقمة والسخط تعني البعد عن اللّه تعالى.. لأن من بعد عن اللّه تعالى بعد عن رحمته وبعد عن عطائه وبعد عن فيض آلائه.. ومن كان كذلك أحاطت به النقم وكبلته العذابات النفسية والمادية..

والدنو يعني الرحمة والإفضال والإحسان والنعمة واللطف الإلهي الذي لا يمكن للإنسان أن يحيى بدونه.

فإن اللّه تعالى، كما يشير الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا يبادر بالانتقام والنقمة، والتي

ص: 82


1- راجع التوحيد ص 220، وعلل الشرايع ص 43.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- الصحيفة السجادية: الدعاء 46، دعاؤه في يوم الفطر.

من آثارها إزالة النعمة، إلا إذا بادر الإنسان وأصر على المعاصي والذنوب بعد الإمهال.. عندها يكون العبد قد أقر بالعقوبة على نفسه بعناده.

وهذا ما تدل عليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (1).

وقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (2) يشير صراحة إلى أنّ اللّه تعالى لا يغير النعم مطلقاً ما دامت موجباتها، والتي هي في أنفسهم، من الأقوال والأعمال الصالحة التي أدت إلى وجود تلك النعمة وديمومتها فإن ذلك بيد العبد..

فالسخط والغضب بالنسبة إلى اللّه تعالى من مقتضيات عصيان العبد وجحوده وكفره وتجاوزه عن حده، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وأيم اللّه ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها لأن اللّه ليس بظلام للعبيد، ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم وتزول عنهم النعم فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم ووله من قلوبهم لرد عليهم كل شارد، وأصلح لهم كل فاسد) (3).

فالإنسان بأفعاله وأعماله.. هو الذي ينزل السخط الإلهي عليه، وهذا السخط ليس دنيوياً فحسب، بل أخروياً أيضاً، كما تشير لذلك الآية الكريمة قال تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (4).

وفي دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (واستوجبت بسوء سعي سخطك) (5).

ومن أهم موجبات السخط الإلهي الذنوب والآثام.. وهي من أسباب نزول البلاء أيضاً، فإن بعض مصاديق البلاء ناشئ من السخط والغضب الإلهي.

ص: 83


1- سورة الأنفال: 53.
2- سورة الرعد: 11.
3- نهج البلاغة: خ 178.
4- سورة المائدة: 80.
5- الصحيفة السجادية: الدعاء 32.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء،...) (1).

وهذه إشارة صادقة ودقيقة تبين أن غوائل الذنوب والمعاصي هي التي تمنع من الرحمة الربانية وتصد من نيل المدد الإلهي العظيم، وتقف أمام النعم وترفع البركات، إلى غيرها من الآثار والتبعات التي لا يمكن حصرها في هذا المقام.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (2).

وقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (3).

الذنوب وآثارها على المجتمع

الذنوب والمعاصي تعتبر من أخطر الأمراض في المجتمع وتؤدي إلى البلاء والنقمة والسخط.. وتجعل المجتمع مجتمعاً مريضاً، وربما صيرته مشرفا على الموت، والنار، كما كان كذلك في المجتمع الجاهلي، قال تعالى:

(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) (4).

وكما قالت فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في خطبتها في المسجد وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلة خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم اللّه

ص: 84


1- الإقبال ص 706، دعوات في ليلة النصف من شعبان.
2- سورة الأعراف: 96.
3- سورة الشورى: 30.
4- سورة آل عمران 103.

تبارك وتعالى بمحمد) (1).

ومع الأسف فإن مجتمعاتنا في هذا اليوم أخذت تبتعد عن التعاليم الإلهية وصارت الذنوب والمعاصي فاشية فيها، وهذا أكبر الأخطار على سلامة المجتمع.

فإن الذنب لا يكون خطراً على الفرد فقط، بل يكون كالمرض المعدي يؤثر تأثيره البالغ في سائر أفراد المجتمع أيضاً.

وهذا من الحكم في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكر في محله، فكما لا يحق لراكب السفينه أن ينقب مكانه الخاص فيها، لأنه يؤدي إلى غرق الآخرين أيضاً، فكذلك يكون تأثير المعصية، ولذلك جاءت توصيات أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) محذرة من خطر المعاصي والذنوب، والتحذير من آثارها وتبعاتها التي لا تحمد عقباها.

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار) (2).

إلا أن الإنسان لم يتعظ ولم يعبأ بذلك، ولا يرى الأسباب الحقيقية للبلاءات والنقم والمصائب.

قال الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يقول تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (يابن آدم ما تنصفني، أتحبب إليك بالنعم، وتتمقت إليّ بالمعاصي، خيري عليك منزل، وشرك إليّ صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، یابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لسارعت إلى مقته) (3).

وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يشير إلى سبب زوال النعم واستبدالها بالنقم: (قال:

ص: 85


1- الاحتجاج ص 100، احتجاج فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) على القوم لما منعوها فدك.
2- بحار الأنوار: ج 73، ص 347، ح 34، باب 137، كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 73، ص 352، ح 50، باب 127، وص 365، ح 97، كتاب الإيمان والكفر باب الذنوب، ط طهران.

أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن اللّه قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه، حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة) (1).

وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إن العبد يسأل اللّه الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقضي حاجته، واحرمه إياها فإنه تعرض لسخطي، واستوجب الحرمان مني) (2).

فكلما أوغل الناس بالذنوب كلما زاد البلاء ونزل الانتقام والسخط الإلهي و غلقت أبواب الرحمة والبركة.

قال الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(3).

ثم البلاء أو السخط الإلهي متعدد الأشكال والصور.. في الدنيا والآخرة.

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إذا غضب اللّه عز وجل على أمة، ولم ينزل بها العذاب، غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم يربح تجارها، ولم تنزل ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحبس عنها أمطارها، وسلط عليها شرارها) (4).

فكما أن الذنوب والمعاصي مختلفة ومصاديقها متعددة فكذلك العذاب والسخط يكون متفاوتاً في الكم والكيف، وكلها نتائج أفعال الإنسان وثمار ما زرعته يده في هذه الحياة.

وقد ثبت في علم المعقول أن السخط والبلاء والعذاب الإلهي يأتى على مقدار ما فعله العبد من المعاصي.. ولكل ذنب ومعصية نوع من البلاء يناسبه ويجانسه، وهذا القانون سار في العقوبات الدنيوية والأخروية، فترى في جميع القوانين الجزائية الإسلامية: العدالة الكاملة و السنخية التامة التي تناسب مقدار الفعل ونوعه، وهذا بحث

ص: 86


1- الوافي: ج 3، ص 167، نقلاً عن الكافي.
2- الوافي: ج 3، ص 167، نقلاً عن الكافي.
3- الوافي: ج 3، ص 168، نقلاً عن الكافي.
4- الوافي : ج 3، ص 173، نقلاً عن التهذيب والفقيه.

طويل مذكور في علم الكلام، وفي الفقه أيضاً في باب الحدود والتعزيرات) نتركه رعاية للاختصار (1).

وهذا ما يشير إليه الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (وجدنا في كتاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا تتضوا العهد سلط اللّه عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم) (2).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (توقوا الذنوب، فما من بلية ولا نقص رزق إلا بذنب حتى الخدش والنكبة والمصيبة، قال اللّه عز وجل: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (3)) (4).

من مكائد الشيطان

إن الشيطان يغري بعض الناس ممن تركوا الباب على مصراعيها ليدخلها إبليس فيوسوس لهم بأن الذنوب لا تجلب السخط والغضب الإلهي، ولو كانت كذلك لشقى المنهمكين عليها والمقترفين لها ولكنك تجدهم رغم ذلك في أرغد عيش أو أسعد حياة!!

فأين غضب اللّه وانتقامه؟

ولكن خفي على هؤلاء جملة من الحقائق...

ص: 87


1- راجع كتاب (العقوبات في الإسلام).
2- الوافي: ج 3، ص 173، نقلاً عن الكافي.
3- سورة الشورى: 30.
4- بحار الأنوار: ج 70، ص 362، باب الذنوب وآثارها، ط 1983/2 بيروت.

ومن هذه الحقائق أنهم نسوا أو تناسوا الحكمة الإلهية في ذلك، وجهلوا قدرة اللّه تعالى على الكون.

فإن اللّه تعالى لا يعجزه عقوبة هؤلاء ممن يقترفون تلك المعاصي والذنوب وإنما يمهل العصاة لحكمة وقد يؤخر عقابهم رعاية لبعض المصالح الخفية التي لا ندركها، إضافة إلى أن اللّه جعل الآخرة دار جزاء وجعل الدنيا دار عمل كما ورد في الحديث الشريف: (اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل) (1).

هذا مضافاً إلى أن بعض الذنوب لها آثارها السيئة في هذه الدنيا فيصاب المذنب بها قبل الآخرة، فيجب أن لا يغتر الإنسان بتأخير العقوبة.

قال تعالى: (أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا) (2).

وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (3).

وقال تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (4).

وقد تكون المصلحة في تأخير العقوبة رحمة اللّه التي سبقت غضبه، فيترك الفرصة عسى أن يتدارك هؤلاء العصاة ويثوبوا إلى الطاعة والرشد وينتبهوا من الغفلة.

أو ربما يمهلهم إشفاقاً على الأبرياء والضعفاء الذين يعيشون تحت ظلهم ممن تضرهم مجازاة المذنبين وعقوبتهم وهم براء من تلك المعاصي وتلك الذنوب!

وكذلك يفتح المجال أمام العصاة والمردة، لأن الدنيا دار امتحان وليزدادوا إثماً ليقروا هم بأنفسهم باستحقاق تلك العقوبة فيأخذهم بعدئذ بالانتقام والنقمة، كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

ص: 88


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص 207، والإرشاد: ج 1، ص 235، وغرر الحكم ودرر الكلم: ص الفصل الثاني في الآخرة، ح 2695 و 2698.
2- سورة غافر: 59.
3- سورة الأعراف: 152.
4- سورة طه: 127.

قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (1).

وقال سبحانه: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (2).

وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا أراد اللّه بعبد خيرا، فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة، ويذكره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) (3) بالنعم عن المعاصي) (4).

فعلى الإنسان أن يتدارك الذنوب بالاستغفار والتوبة والإنابة.. خصوصاً في هذا الشهر الكريم شهر رمضان المبارك.. فهو شهر الرحمة وشهر العتق من النار، وشهر العطايا والنعم.. ورفع البلايا والنقم...

ويجب أن نطلب المدد والسداد الإلهي لمجانبة كل ما يغضب اللّه تعالى ويسبب سخطه...ومن هنا فعلى المؤمن أن يسأل اللّه سبحانه في هذا الشهر العظيم وبكل توجه وإخلاص أن يجنبه المعاصي والآثام فيقول كما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (وجنبني فيه من سخطك ونقماتك...).

ص: 89


1- سورة آل عمران: 178.
2- سورة فاطر: 45.
3- سورة الأعراف: 182.
4- الوافي: ج 3، ص 173، نقلاً عن الكافي، وعلل الشرائع: ص 159.

القرآن المعجزة الخالدة

ثم يطلب الإنسان في هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يوفقه اللّه لقراءة القرآن، فيقول: (ووفقني فيه لقراءة آياتك برحمتك يا أرحم الراحمين).

ولتوضيح هذه الفقرة ينبغي التحدث عن النقاط التالية:

القرآن: اسم الكتاب المنزل على نبينا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، كما أن التوراة اسم الكتاب

المنزل على النبي موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، و الإنجيل اسم الكتاب المنزل على النبي عيسي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والزبور اسم الكتاب المنزل على النبي داوود...(عَلَيهِ السَّلَامُ).

وعرف القرآن: بأنه كلام منزل من قبل اللّه تعالى ومعجز، لا يمكن الإتيان ولو بآية من مثله.

وقال الراغب: لا يقال لكل جمع قرآن، ولا يجمع كل كلام قرآن.

قال: وإنما سمي قرآناً، لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة.

وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها (1).

وقال الجاحظ: سمی اللّه كتابه اسماً مخالفاً لما سمي العرب كلامهم على الجمل والتفصيل، سمي جملته قرآناً كما سموا ديواناً وبعضه سورة كقصيدة وبعضها آية كالبيت وآخرها فاصلة كقافية (2). واشتهرت تسميته بالمصحف:

والمصحف من أصحف - بالضم - أي جعلت فيه الصحف (3).

هذا المعنى اللغوي للقرآن، والمراد به هو الكتاب الذي أنزله اللّه تعالى على خاتم

ص: 90


1- روح المعاني: ج 1، ص 8 بتصرف.
2- تهذيب الأسماء واللغات للنووي: ج 2، ص 84 القسم الثاني.
3- القاموس المحيط: ج 3، ص 161.

رسله محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رحمة للناس، كما في قوله تعالى: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (1).

وهو الكتاب المنزل على النبي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خاتم النبيين، وختم اللّه بشريعته الشرائع، ونسخ بدينه الأديان فأوجب اللّه تعالى: التصديق به و توقيره والاهتمام به لما جاء فيه من آيات عظيمة.

ثم نأتي إلى هذا السؤال: هل القرآن الذي أنزله اللّه تعالى على نبيه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو مابين الدفتين الموجود بأيدينا؟

الجواب: نعم هذا هو القرآن المنزل بعينه بلا زيادة ولا نقيصة وقد صرح بذلك کبار علمائنا، قال الشيخ الصدوق (قدّس سِرُّه): القرآن هو ما بين الدفتين، هذا ما ذكره أعلامنا عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، هو ما في أيدي الناس، وليس بأكثر من ذلك، وعدد ذلك، وعدد سوره مائة وأربع عشرة سورة.. و من نسب إلينا بأنا نقول: إنه أكثر من ذلك فهو كاذب (2).

واتفقوا على أن القرآن نزل على سبعة أحرف ورووا عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حديثاً إنه قال: (نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف) (3)، واختلفوا في معانيها نحو أربعين قولاً..

إلا أن ائمتنا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يرون خلاف ما قالوه، قال الفضيل بن يسار (عَلَيهِ السَّلَامُ): (قلت لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن الناس يقولون القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء اللّه، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد) (4)، ومن هنا أفتى بعض فقهائنا العظام بعدم صحة القراءات المختلفة وحتى المشهورة منها إلا ما هو موجود في المصحف الآن، فهو الذي أنزله اللّه تعالى على قلب رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(5).

ص: 91


1- سورة البقرة: 185.
2- الاعتقادات (الصدوق) شرح الباب 21، ص 93.
3- مجمع البيان: ج 1، ص 12 تفسير الطبري: ج 1، ص11.
4- الكافي: ج 2، ص 630، كتاب فضل القرآن، ح13.
5- راجع كتاب الوصائل إلى الرسائل ج 2، ص 100.

ثم لا يخفى أن القرآن بهذه الكيفية قد جمعه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حياته بأمر من اللّه تبارك وتعالى، وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو بنفسه يعين مكان السور والآيات، فجعل سورة الحمد في فاتحة الكتاب مع أنها ليست أول سورة نزلت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و جعل سورة الناس في آخرها، وقد صرح كبار علمائنا بذلك:

ذكر السيد المرتضى (قدّس سِرُّه): أن القرآن جمع على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما هو عليه الآن، وكان القرآن يروي ويحفظ ويجمع في ذلك الزمان.

وإن الصحابة مثل: عبداللّه بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على عهد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عدة ختمات.. ومن قال بغير ذلك لا يعتد بكلامه.. (1).

وفي المناقب عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (2) قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (ياليتني أعلم متى يكون ذلك. هذا وهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يعلم الغيب بإذنه تعالى ووحيه - فنزلت سورة النصر، فكان بعد نزولها يسكت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بین التكبير والقراءة ثم يقول: (سبحان اللّه وبحمده، أستغفر اللّه وأتوب إليه)، فقيل له في ذلك، فقال: (أما أن نفسي نعيت إلي) ثم بكى بكاءاً شديداً، فقيل: يا رسول اللّه أو تبكي من الموت وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): فأين هول المطلع؟ وأين ضيقة القبر، وظلمة اللحد ؟ وأين القيامة والأهوال؟ - أراد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الإلماع إلى الأهوال لا أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يبتلى بها - ثم قال: فعاش (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد نزول هذه السورة عاماً) (3).

ثم نزلت آيات وآيات حتى إذا لم يبق على ارتحال رسول اللّه من هذه الدنيا سوى سبعة أيام نزلت: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (4) فكانت هذه الآية - على بعض الروايات - هي آخر آية من القرآن الكريم نزل بها جبرائيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال له: ضعها في رأس المائتين

ص: 92


1- مجمع البيان: ج 1، ص 15.
2- الزمر: 30.
3- راجع بحار الأنوار: ج 22، ص 471، ب 1، ح 20.
4- سورة البقره: 281.

والثمانين من سورة البقرة (1) كما أن أول آية من القرآن كان قد نزل بها جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هي قوله تعالى: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (2) الآيات.

فأول آية من القرآن نزلت في أول يوم من البعثة النبوية الشريفة، وآخر آية من آيات القرآن اختتم في الأيام الأخيرة لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وما بينهما من فترة كان نزول ما بين هاتين الآيتين، وتلك الفترة استغرقت مدة ثلاث وعشرين سنة.

و هنا ما يلفت النظر ويجلب الانتباه، وهو قول جبرئيل للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عند نزوله بالآية الأخيرة كما في الرواية (ضعها في رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة)، فإنه صريح في أن اللّه تعالى أمر نبيه بجمع القرآن وبترتيبه ترتيباً دقيقاً حتى في مثل ترقيم الآيات، وقد فعل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك في حياته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما أمره اللّه تعالى، ولم يكن (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يترك القرآن متفرقاً حتى يجمع من بعده.

وهل يمكن للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع كبير اهتمامه وكثير حرصه على القرآن الكريم أن لا يقوم بجمع القرآن وترتيبه! وأن يتركه مبعثراً في أيدي المسلمين ويوكل جمعه إليهم، مع أن الوحي أخبره بقوله: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (3).

فهل يصح أن يكون (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حريصاً على القرآن من جهة - حتى أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يأمر بحفظ القرآن والإهتمام به والتحريض على تلاوته والعمل به، وخاصة في أيامه الأخيرة، حيث كان يقول مراراً: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا وأن لا يجمع القرآن ويتركه مبعثراً من جهة أخرى؟.

بل أليس القرآن هو دستور الإسلام الخالد، ومعجزته الباقية على مر القرون والأعصار إلى يوم القيامة؟ ومعه هل يصح أن يتركه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مبعثراً من دون أن

ص: 93


1- تفسير القرآن الكريم للسيد عبداللّه شبر : ص 83.
2- سورة العلق: 1.
3- سورة الزمر 30.

يجمعه؟!

أم كيف يأذن اللّه تعالى لنبيه بأن لا يقوم بجمعه مع أنه تعالى يقول: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (1) ويقول تعالى أيضاً: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) فعلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إبلاغ القرآن مجموعاً ومرتباً إلى الناس كافة، كما جمعه اللّه تعالى ورتبه.

إذن: فهذا القرآن الذي هو بأيدينا على ترتيبه وجمعه، وترقيم آياته، وترتيب سوره وأجزائه، هو بعينه القرآن الذي رتبه رسول اللّه له و جمعه للمسلمين في حياته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأمر من اللّه تعالى، لم يطرأ عليه أي تغيير وتحريف أو تبديل وتعديل، أو زيادة ونقصان.

ويؤيده ما روي عن تفسير على بن إبراهيم عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه أمر عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بجمع القرآن وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (ياعلي، القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فجمعه في ثوب أصفر ثم ختم عليه) (3).

وقال بمقالته بعده شيخ الطائفة الشيخ الصدوق (قدّس سِرُّه) والشيخ المفيد (قدّس سِرُّه).

وقال بمقالته بعده شيخ الطائفة الشيخ الطوسي (قدّس سِرُّه)والمفسر الكبير الشيخ الطبري (قدّس سِرُّه)، المتوفي سنة 548 وباقي علماءنا الأبرار إلى يومنا هذا.

وعن زيد بن ثابت أنه قال: كنا نجمع القطع المتفرقة من آيات القرآن ونجعلها بأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في مكانها المناسب، ولكن مع ذلك كانت الآيات متفرقة، فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يجمعها في مكان واحد، وحذرنا من تضييعها).

وعن الشعبي أنه قال: جمع القرآن في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من قبل ستة نفر من الأنصار.

وعن قتادة أنه قال: سألت أنساً عن أنه من جمع القرآن في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ص: 94


1- سورة القيامة: 17.
2- سورة الحجر: 9.
3- بحار الأنوار: ج 89 ص 48، ب7، ح7، ط بیروت.

فقال: أربعة نفر من الأنصار ثم ذكر أسماؤهم.

وعن علي بن رباح أن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) جمع القرآن هو وأبي بن كعب في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

هذا بالإضافة إلى شواهد ومؤيدات أخرى تدل على أن القرآن الذي هو بأيدينا هو نفسه الذي جمع ورتب في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه من غير زيادة ولا نقيصة.

منها: تسمية سورة الحمد بسورة الفاتحة في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يعني أنها فاتحة القرآن مع أنها لم تكن السورة ولا الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فتسميتها بفاتحة الكتاب في عهده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يشير إلى أن الكتاب كان مجموعاً بهذا الشكل الموجود بأيدينا اليوم، وسورة الحمد فاتحته كما هي اليوم فاتحته أيضاً.

ومنها: أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يقول في حديث الثقلين المروي عن الفريقين متواتراً: (إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)(1). فالكتاب المجموع والمرتب يخلفه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في أمته، لا الآيات المتفرقة، إذ لا يطلق عليها الكتاب، وقد سبق اللّه تعالى رسوله اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في هذا التعبير حيث أطلق مراراً وفي آيات متعددة كلمة (الكتاب) على القرآن، إشارة إلى أنه مجموع و مرتب عنده تعالى في اللوح المحفوظ كما قال به بعض المفسرين - وأنه تعالى أطلع رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جمعه وترتيبه لديه وأمره بأن يجمع القرآن على ماهو مجموع في اللوح المحفوظ، ويرتبه وفق ترتيبه، وفعل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك.

ومنها: ما ورد من أمر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بختم القرآن في شهر رمضان وفي غيره من سائر الأيام، وبيان ما لختمه من الفضيلة والثواب، حتى أن عبد اللّه بن مسعود، وأبي بن كعب وغيرهما قد ختموا القرآن عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عدة مرات، ولو لا إن القرآن مجموع ومرتب، لم يكن لختم القرآن معنى، لأن الختم يقال لما يبدأ من أوله وينتهي بآخره.

ومنها: روايات تأمر بعرض الأحاديث المروية عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعن أهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) لمعرفة غثها من سمينها على القرآن الكريم وتقول: ما وافق كتاب اللّه فقد قاله

ص: 95


1- خصائص أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنسائي ومصابيح السنة ج 1، ص 516.

رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و قاله أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وما خالف الكتاب فهو زخرف وباطل، وانهم لم يقولوه، فقد أحالتنا هذه الروايات إلى هذا القرآن الذي هو بأيدينا لمعرفة الحق من الباطل مما يدل على سلامته من كل زيادة و نقيصة، وتبديل وتحريف، وإلا لم يصلح أن يكون مرجعاً لمعرفة الحق من الباطل.

ومنها ما ورد من أن القرآن كله كان مكتوباً موضوعاً بين المحراب والمنبر، وكان المسلمون يكتبون منه.

ومنها: ما ورد من أن جبرئيل الا لما كان يعرض القرآن على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كل عام مرة، وعرضه عليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في عامه الأخير مرتين.

ومنها: ما روي من أن جماعة من الصحابة كانوا قد حفظوا القرآن كله في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولا يخفى ذلك على من راجع تفسير القرآن للعلامة البلاغي، ولآية اللّه العظمى السيد ميرزا مهدي الشيرازي (قدّس سِرُّه) كلمة حول ذلك طبعت في إحدى أعداد (أجوبة المسائل الدينية) في كربلاء المقدسة.

هذا بالإضافة إلى أن هناك آيات وروايات تشير إلى أن القرآن نزل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مرتين: مرة نزل بمجموعة على قلب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما قال تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) (1) ومرة نزل عليه نجوماً ومتفرقاً عبر ثلاث وعشرين سنة في المناسبات والقضايا المتفرقة، والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد وعى اللّه قلبه القرآن الذي نزل عليه أولاً مجموعاً ومرتباً، ورتبه وفق ترتيبه، وهو بعينه القرآن الذي هو اليوم بأيدينا.

إلى غير ذلك مما يشير بمجموعة إلى أن هذا القرآن الذي هو اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جمع بأمر من اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يزدد حرفاً ولم ينقص حرفاً، ولم يتغير شيء منه ولم يتبدل أبداً، كيف وقد قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) (2) انتهى (3).

ص: 96


1- سورة القدر: 1.
2- سورة فصلت: 42.
3- راجع (من فقه الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)، ج 2، ص 293 - 297، وكذلك كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم ج 2) لآية اللّه العظمى السيد محمد الشيرازي (دام ظله).

التدبّر عنوان القراءة

ومن المستحب في قراءة القرآن - كما صرح به الأئمة - أن يقرأه الإنسان مع التأمل والتدبر، فعن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عندما سأله أحد أصحابه وهو محمد بن عبد اللّه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): اقرأ القرآن في ليلة؟ قال: (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر) (1).

وعن علي بن أبي حمزة قال: دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له أبو بصير : جعلت فداك أقرأ القرآن في شهر رمضان في ليلة؟ فقال: لا، قال: ففي ليلتين؟ قال: لا، قال: ففي ثلاث، قال:ها وأشار بيده ثم قال: يا أبا محمد إن لرمضان حقاً وحرمة لا يشبهه شيء من الشهور، وكان أصحاب محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقرأ أحدهم القرآن في شهر أو أقل، إن القرآن لا يقرأ هذرمة.. ولكن يرتل ترتيلاً، فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها وسل اللّه الجنة، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها وتعوذ باللّه من النار) (2).

والهذرمة: السرعة في القراءة (3)، أو السرعة في الكلام والمشي (4).

قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (5).

وفي الحديث عنه : (معاشر الناس تدبروا القرآن وافهموا آياته وأحكامه) (6).

لقد حث أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على قراءة القرآن والمواظبة عليها لما لها من آثار عظيمة على حياة الإنسان.. ولما لها من تأثيرات ونفحات روحية تربوية وأخلاقية عظيمة على

ص: 97


1- الكافي: ج 2، ص 617، ح1.
2- الكافي: ج 2، ص 617، ح 2.
3- الصحاح : ج 5، ص 257.
4- الفائق في غريب الحديث ج 4، ص 99.
5- سورة النساء: 82 وسورة محمد 24.
6- الإقبال: ص 456.

المجتمع بأسره كما تشير إليها الكتب الأخلاقية.

وهناك روايات كثيرة شوق فيها أهل البيت وشجعوا الأصحاب على قراءة القرآن.

قال الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (من استمع إلى حرفٍ من كتاب اللّه عز وجل من غير قراءة، كتب اللّه له حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة، ومن قرأ نظراً من غير صوت كتب اللّه له بكل حرف حسنة ومحا عنه سيئة ورفع له درجة، ومن تعلم منه حرفاً ظاهراً كتب اللّه له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، قال: لا أقول بكل آية، ولكن بكل حرف باء أو تاء أو شبههما، قال: ومن قرأ حرفاً وهو جالس في صلاته، كتب اللّه له به خمسين حسنة ومحا عنه خمسين سيئة ورفع له خمسين درجة، ومن قرأ حرفاً وهو قائم في صلاته كتب اللّه له بكل حرف مائة حسنة ومحا عنه مائة سيئة ورفع له مائة درجة، ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخرة أو معجلة، قال: قلت: جعلت فداك ختمه كله؟ قال: ختمه کله) (1).

وعن الزهري قال: قلت: لعلي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): أي الأعمال أفضل؟ قال: الحال المرتحل، قلت: و ما الحال المرتحل؟ قال: فتح القرآن وختمه، كلما جاء بأوله ارتحل في آخره) (2).

وهذا الحديث مروي عن العامة أيضاً وذلك بطرق عديدة ومتون مختلفة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

كما يستحب أيضاً التطلع لآيات القرآن والنظر إليها في المصحف عند القراءة.. فعن اسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (قلت له: جعلت فداك إني أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرأه على ظهر قلبي أفضل، أو أنظر في المصحف؟ فقال لي: بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل أما علمت أن النظر في المصحف عبادة) (3).

ص: 98


1- الكافي: ج 2، ص 612، ح 6.
2- الكافي: ج 2، ص 605، ح 7.
3- الكافي: ج 2 ص 613 و 614، ح 5.

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً قال: (من قرأ في المصحف متّع ببصره، وخُفّف عن والديه، وإن كانا كافرين) (1).

كما أن من المستحبات: ترديد الآيات والوقوف عندها، كما كان يفعل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )وأهل بيت العصمة (عَلَيهِم السَّلَامُ).

فعن أبي ذر (رضوان اللّه عليه) قال: (إن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قام بآية يرددها حتى أصبح (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) (2)) (3).

وعن الزهري قال: (كان علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): إذا قرأ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (4) يكررها حتى كاد أن يموت) (5).

وللقرآن قوة وسطوة كبيرة على القلوب المؤمنة الخاشعة العارفة باللّه تعالى حتى إذا قرأه بعض أولئك، وقع مغشياً عليه. روي عن الإمام الصادق : إنه كان يصلي في بعض الأيام، فخر مغشياً عليه أثناء الصلاة، فسئل عن ذلك فقال مازلت أردد هذه الآية: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (6)،(7).

ولذلك يستحب البكاء عند قراءة القرآن، والتباكي - لمن لا يقدر عليه - قال تعالى: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (8).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (إن القرآن نزل بالحزن، فاقرؤوه بالحزن) (9).

وعن حفص بن غياث قال: (فما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن

ص: 99


1- الكافي: ج 2، ص 613، ح1.
2- سورة المائدة: 118.
3- الدر المنثور : ج 2، ص 350.
4- سورة الفاتحة: 3.
5- الكافي: ج 2، ص 602، ح13.
6- سورة الفاتحة: 3.
7- فلاح السائل: لابن طاووس، ص 103 و 104.
8- سورة الإسراء: 109.
9- الكافي: ج 2، ص 614، ح2.

جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا أرجأ الناس منه، وكانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنه يخاطب إنساناً) (1).

كما يستحب ترتيل القرآن، قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (2).

وعندما سئل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن معنى هذه الآية، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): بينه تبياناً ولا تهذه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل، ولكن افزعوا قلوبكم القاسية، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة (3).

وروي عن أم سلمة أنها نعتت قراءة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قراءة مفسرة حرفاً حرفاً (4).

ص: 100


1- الكافي: ج 2، ص 606، ح 10.
2- سورة المزمل: 4.
3- الكافي: ج 2، ص 614، ح1.
4- سنن الترمذي: ج 5، ص 182.

هكذا يُقرأ القرآن

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح - والرهبانية، لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبه شأنهم) (1).

وورد (إن الإمام علي بن الحسين كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان السقاؤون يمرون فيقفون ببابه يسمعون قراءته (2)).

إذاً هناك روايات كثيرة تدل على استحباب قراءة القرآن وتبين آدابها..

وفي هذا الشهر المبارك، شهر رمضان يتأكد استحباب قراءة القرآن وختمه، وهو توفيق من اللّه يرزقه لعباده الصالحين المؤمنين يقول الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّهمّ إنك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته، وفضلته على كل حديث قصصته، وفرقاناً فرقت به بين حلالك وحرامك، وقرآناً أعربت به عن شرائع أحكامك، وكتاباً فصلته لعبادك تفصيلاً، ووحياً أنزلته على نبيك محمد صلواتك عليه وآله تنزيلا)(3).

كما أن هناك آيات وروايات كثيرة وردت في بيان أهمية القرآن: قال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (4).

وقال تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (5).

ص: 101


1- الكافي: ج 2، ص 614، ح3.
2- الكافي: ج 2، ص 616، ح 11.
3- الصحيفة السجادية دعاؤه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند ختم القرآن.
4- سورة فصلت 3.
5- سورة هود: 1.

فقد أكد أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على القرآن وحثوا على الاهتمام به ورعايته حق رعاية، أي القيام بوظائفه، والإيمان به، وتعظيمه، وحفظه، وتعلمه، وتعليمه، والمواظبة على تلاوة آياته، والتحلي بآدابه، والاستماع لقراءته، والعمل بأوامره، والوقوف عن مناهيه، والاعتبار بأمثاله، وقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الحافظ للقرآن العامل به مع السَّفَرَة الكرام البررة) (1).

أما فضل قراءة القرآن فقد قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أنه قال (من قرأ عشر آيات في ليلةٍ لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار، والقنطار خمسون ألف مثقال ذهب والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً أصغرها مثل جبل أحد وأكبرها ما بين السماء والأرض) (2).

وبعد كل هذا نتوصل إلى أهمية ما ينبغي أن يطلبه المؤمن في هذا الشهر الكريم، وأن يتوسل إلى اللّه سبحانه أن يوفقه لتلاوة القرآن و تدبر آياته كما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): في دعاء هذا اليوم: (ووفقني فيه لقراءة آياتك).

وواضح أن هذا التوفيق يناله الإنسان الذي جاهد نفسه وعمل لكسب رضا اللّه سبحانه والاجتناب من سخطه ونقمته.

ويلزم الاعتبار من عبر القرآن وقصصه، والتدبر فيها والتعمق في آياته وفي أسراره ومكنونه.

كما يلزم أن لا يقرأ القرآن للثواب فقط، أو المناسبات فحسب كالفواتح وما أشبه، بل يقرأه للعمل والتطبيق، وفي جميع الأوقات وجميع الأيام، وقد اهتم أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) به اهتماماً منقطع النظير.

قال جابر: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : (ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله

ص: 102


1- أمالي الصدوق: مجلس 14، فضيلة قراءة القرآن، ح96.
2- أمالي الصدوق: مجلس،14 فضيلة قراءة القرآن، ح97.

كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما نزل اللّه تعالى إلا علي بن علي طالب والأئمة من بعده (صلوات اللّه عليهم) (1).

ولا يخفى أن المراد بجمع القرآن في هذا الحديث جمع تفسيره وتأويله وإلا فالقرآن جمع في زمن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بهذه الكيفية وكان من الذين جمع القرآن في زمن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبأمر منه هو أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد سبق تفصيل ذلك.

فقراءة القرآن وخصوصاً في شهر رمضان المبارك، توفيق إلهي.. يوفق اللّه تعالى بعض الناس إليه، وهؤلاء هم الذين فتحوا قلوبهم للإيمان وأرادوا بصدق نية وخلوص تام أن ينور اللّه قلوبهم بآياته الكريمة...

قال إمامنا زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّهمّ فإذا أفدتنا المعونة على تلاوته وسهلت جواسي ألسنتنا بحسن عبارته فاجعلنا ممن يرعاه حق رعايته ويدين لك باعتقاد التسليم لمحكم آياته، ويفزع إلى الإقرار بمتشابهه وموضحات بيناته) (2).

وينبغي للمؤمن أن ينتبه إلى ذلك، فقد يعمل بعض الأعمال من المعاصي وما أشبه فيسلبه اللّه سبحانه التوفيق لقراءة القرآن والتقرب به، كما نرى ذلك في القصة التالية..

ذكر أحد الوعاظ المطلعين هذه القصة قائلاً: اتفق جماعة على أن يقرؤوا القرآن في كل يوم وذلك بغية الالتزام بقراءة القرآن.. ولكن بقي واحد منهم غير ملتزم باتفاقه، كما أن إصرار أصدقائه عليه في الوفاء بالتزامه مع ما كانوا يذكرون له من فوائد تلاوة القرآن في الدنيا وثوابه في الآخرة لم يكن مجدياً في إقناعه، مما سبب ذلك أن يصر عليه أحد أصدقائه في كشف السر الكامن وراء عدم التزامه وأخذ يتساءل منه عن سببه.

فأجاب بعد إصرار كثير قائلاً: إن اللّه سبحانه وتعالى قد سلب مني التوفيق لتلاوة القرآن، وكلما أردت تلاوته عرض لي ما يصدني عنه.

فسأله الصديق: ألم تعرف سر ذلك؟

ص: 103


1- الكافي ج 1، ص 228، ح 1.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء،42 دعاؤه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند ختمة القرآن.

قال: بلى.

فقال: بتعجب بالغ! وما هو ذلك؟

فأجاب بامتعاض قائلاً: إنه كان لي قرآن جميل، وكنت أعتز به وأحتفظ به، وأتعاهده كثيراً، وأتلوه دائماً، حتى صادف أني سافرت إلى الحج، فكنت أحمله معني وإذا فرغت من الطواف في المسجد الحرام قرأت بعض آياته، وذات يوم مررت على مكتبة لبيع الكتب عند المسجد الحرام فوجدت فيما بين الكتب المعروضة للبيع ديوان شعر ليزيد بن معاوية قاتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخذت الكتاب وجعلت أتصفحه فوجدت فيه أشعاراً جميلة، ففكرت في اقتنائه، فسألت صاحب المكتبة عن قيمته، فوقع نظره على القرآن الذي كنت أحمله معي فأخذه مني وقلبه فأعجب به ثم قال: إن كنت تريد الديوان فإني أريد القرآن، ولا أرضى بغيره.

قلت: إنك صاحب مكتبة وقد عرضت الكتب فيها للبيع بالثمن فبعني الديوان بالثمن.

قال: القول كما قلت لك.

وأبى أن يبيعني الديوان بالثمن، فتوقفت قليلاً أفكر في أمري وقد أعجبت بالديوان، وأخيراً اعترتني فكرة تقول إنه بإمكانك الحصول على قرآن غيره يشبه هذا القرآن ولكن لعلك لا تحصل على الديوان لو جزت هذا المكان، وبالتالي استسلمت للفكرة ووافقت على هذه المعاوضة الخاطئة والصفقة الخاسرة، فسلمت إليه القرآن الكريم، وأخذت مكانه الديوان المشؤوم، وبالفعل فقد أثر شؤمه علي منذ ذلك الحين وسلبني توفيق التلاوة من يوم أثرت ذلك على القرآن وحتى هذا اليوم (1).

فتحصل مما سبق أن قراءة القرآن توفيق من اللّه سبحانه ويجب على العبد أن يسأل ذلك من ربه وأن لا يفعل من المعاصي ما يسلب عنه التوفيق، وفقنا اللّه تعالى لقراءة القرآن والتدبر فيه إنه ولي التوفيق.

ص: 104


1- العلماء أسوة وقدوة ص 21.

سمات الشخصية الإسلامية

دعاء اليوم الثالث

3

اللّهمّ ارْزُقْنِي فِيهِ الذِّهْنَ والتَّنبية وَباعِدْنِي فِيهِ مِنَ السَّفاهَةِ وَالتَّمْوِيهِ وَاجْعَلْ لِي نَصِيباً مِنْ كُلِّ خَيْرٍ تُنْزِلُ فِيهِ، بِجُودِكَ يا أَجْوَدَ الأَجْوَدِينَ

البلد الأمين ص 306، عن النبي 306، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به بنى اللّه تعالى له بيتاً في جنة الفردوس فيه سبعون ألف غرفة من نور ساطع، في كل غرفة ألف سرير، على كل سرير حورية، يدخل عليه كل يوم ألف ملك بالهدايا من عند اللّه تعالى).

ص: 105

ص: 106

الشخصية الإنسانية وأمراضها

يشتمل دعاء اليوم الثالث من أيام شهر رمضان المبارك على نقاط مهمة هي بمثابة القوة الفاعلة للشخصية الإنسانية بصورة عامة والإسلامية بالخصوص، وسنتعرض إلى بعضها بعونه تعالى.

تعرف الشخصية: بأنها (مجموع ما يتميز به فرد معين عن سواه من الأفراد من السمات الجسمية والروحية والعقلية والنفسية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية و....) وأي خلل يصيبها يكون بمثابة مرض بدني أو نفسي يتطلب من الإنسان علاجه، وهناك نوعان من العلاج:

1: العلاج الروحي.

2: العلاج المادي.

وكلاهما له دور مهم في مكافحة أمراض الإنسان، الروحية والجسمية، فالأخلاق وضعت لعلاج أمراض النفس وعللها، وتهتم فرق طبية عالمية في الوقت الحاضر بالعودة إلى العلاج الروحي خصوصاً في الأمراض التي يكون منشأها نفسياً.

فيما تُعالج الأمراض الجسمية بالوسائل الطبية المادية.. والروحية كذلك، فقد أشارت التقارير الطبية الحديثة على أن معظم الأمراض وحتى المستعصية منها تستجيب إلى العلاج بدرجة أكبر إذا ما استخدمت طرق العلاج النفسي والروحي أيضاً وتشفي الحالات الثانية بزمن قياسي بالمقارنة مع العلاج بالطرق الطبية التقليدية.

إذا شخصية الإنسان قد تصاب بمختلف الأمراض الروحية وغيرها، ويذكر القرآن الكريم صورة للحالة النفسية السقيمة لغير المؤمن في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (1)، وتعني الآية كما ورد في

ص: 107


1- سورة الأنعام: 125.

التفسير (الإضلال مقابل الهداية، ولذا كان أثره مقابلاً لأثرها، وهو التضييق المقابل للشرح والتوسعة، وأثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق والصدق، ويتحرج عندخولهما فيه، ولذا أردف كون الصدر ضيقاً بكونه حرجاً، والحرج على ما في المجمع أضيق الضيق) (1).

وقوله تعالى: (حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) قد يكون بياناً وفي محل التفسير لقوله (ضَيِّقًا) إشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق، يناظر بالتضيق والتحرج الذي يشاهد في الظروف والأوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها (2).

فوضع من لم يدخل نور الإيمان إلى قلبه وضع غير طبيعي، وذلك كمن يطلب الموت خلاصاً من الألم، أو ما يسمونه بطلقة الرحمة) لأنه يائس، كما يقول المتنبي:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً***وحسب المنايا أن يكن أمانيا (3)

فيتساوى عنده الوجود والعدم ولا طعم للذة الوجود كما لا نهاية لألمه، بينما من يتغلغل الإيمان ونوره في قلبه قد لا يحس حتى بالألم لأنه يعيش عالماً آخراً غير الذي يعيشه الكافر أو غير المؤمن كما ورد بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث يحدثنا التاريخ الماضي وحتى تاريخنا المعاصر قصصا كثيرة تحكي حال المجاهدين في سجون الظلمة وما يتحملونه من تعذيب جسدي ونفسي يفوق بعضه القدرة والتحمل البشري في الحالات الاعتيادية فتبتر بعض الأعضاء، أو يصب الماء المغلي على الرؤوس والأجسام المقيدة أو يحرقون بالناروهم يتحملون الأذى لأنهم أيقنوا بأن هناك حياة هي الحياة الحقيقية والتي تستحق التضحية والفداء (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (4).

فشخصية الإنسان المؤمن متزنة لاتتأثر بالعوامل الخارجية وإن كانت مما لا يطاق

ص: 108


1- تفسير الميزان: ج 7، ص 342.
2- تفسير الميزان: ج 7، ص 342.
3- شرح ديوان المتنبي للعكبري، ج 4، ص 281.
4- سورة العنكبون: 64.

بالنسبة للشخصية الضعيفة.

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المؤمن أشد في دينه من الجبال الراسية) (1).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن الحديد إذا أدخل النار تغير وإن المؤمن لو قتل ثم نشر ثم قتل لم يتغير قلبه) (2).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المؤمن أشد من الجبل والجبل تدنو إليه بالفأس فتنحت منه والمؤمن لا يستقل عن دينه) (3).

فالمؤمن متيقن بأن أي أمر نازل هو خير لأنه من اللّه، وإنما أمور السراء والضراء ماهي إلا فتنة وابتلاء له، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (4).

كما أن فترة حزن المؤمن وألمه لا تطول ولا يظل يجتر آلامه وأشجانه بل يفوض أمره إلى اللّه تعالى كما قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (5).

ص: 109


1- علل الشرائع ص 557، ب 346، ح1.
2- صفات الشيعة ص 32، ح 47، وشبهه في المحاسن ص 251، باب اليقين والصبر، ح 266.
3- تفسير العياشي: ج 2، ص 301، سورة بني اسرائيل.
4- سورة الأنبياء: 35.
5- سورة الحديد: 22 و 23.

الذكاء لبّ الشخصية

أول مقطع في هذا الدعاء الشريف المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هو (اللّهمّ ارزقني فيه الذهن والتنبيه) فإن الذكاء والنباهة من المرتكزات الأساسية لبناء الشخصية الرصينة، ونظراً إلى أن الإسلام يولي موضوع الشخصية الإنسانية إهتماماً ورعاية خاصة، فقد وضع الذكاء والفطنة بالنسبة إلى المؤمن ضمن المرتبة الأولى، لأنه من اللبنة الأساسية لقيام المجتمع الإسلامي الواعي والبعيد عن البلادة التي تحيل الشخصية الإنسانية إلى نوع من الضعف.

وقد روي عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (المؤمن كيس فطن) (1).

والكياسة والفطنة جزء من الذكاء، وينقسم الذكاء إلى قسمين:

فقد يكون الذكاء فطرياً وقد يكون مكتسباً يحصل بالتعليم والتدريب، وكل ذلك شرط في تكوين شخصية الأنسان فإن الشخصية تتكون من عدة أمور، كما يقسم الإمام الشيرازي (دام ظله) عوامل تكوين الشخصية إلى (الفطرة والوراثة والمحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي والثقافة) (2).

وقد تجتمع تلك العناصر فتكوّن الشخصية المثالية، وقلما تجتمع هذه الصفات إلا في شخصيات نادرة.

و من اللازم أخذ عامل الثقافة بعين الاعتبار، وذلك باعتباره عنصراً مرتبطاً

بالإنسان نفسه ومدى تصميمه على تكوين شخصيته، إضافة إلى دور هذا العنصر - الثقافة - في تنمية الفكر وتوسيع إمكانات الفرد العقلية. وقد روي عن أمير

ص: 110


1- مجموعة ورام: ج 2، ص 297، وجامع الأخبار: ص 85 الفصل 41، ودعوات الراوندي ص 39.
2- موسوعة الفقه، كتاب الاجتماع ص 199.

المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (العقل عقلان عقل الطبع، وعقل التجربة)(1)، وعقل التجربة هو الحصيلة المكتسبة من خلال الاتعاظ بمن مضى.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً في هذا الباب رأي الرجل على قدر تجربته) (2).

وهذه الصفات المؤثرة في تكوين شخصية الإنسان، كما قد تكون وراثية، كذلك تكون مكتسبة، وفي الغالب فإن الصفات الوراثية قابلة للشدة والضعف والزيادة والنقيصة بواسطة التمرين والترويض والمجاهدة، فربما يأخذ المرء صفات قد لا تكون موجودة عند أبويه وأرحامه، وذلك بواسطة التطبع والترويض، فالشجاعة والكرم والعلم والذكاء وغير ذلك من الصفات المحمودة يأخذها عن طريق الاقتباس والاقتداء بالسير الماضية وما أشبه، وكلما كانت عزيمته أقوى في تحصيل الصفات الحسنة ارتقت شخصيته بمعدل أكبر، وتفصيل هذه المباحث مذكور في علم التربية وعلم النفس.

قال الشاعر في هذا المجال:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم***وتأتي على قدر الكرام المكارم

ولعل من هنا يدعو المؤمن ربه في شهر رمضان المبارك ويقول: (اللّهمّ ارزقني فيه الذهن والتنبيه).

وهذا يدل على أن الذهن والتنبيه ليس كله ذاتياً بل اكتسابياً أيضاً، ولذا يطلبه من اللّه سبحانه، فإنه يطلب قوة للإدراك ووضوحاً للرؤية ونفاذاً في البصيرة، وبواسطة العطاء الإلهي يوفق لهذه الصفات الحميدة التي لا تحصل لكل أحد.

الذهن والأسباب المادية

وهناك أسباب مادية لتقوية عنصر الذكاء في الإنسان، كما هو مذكور في علم الطب وقد أشير إليها في بعض الروايات.

ص: 111


1- بحار الأنوار: ج 75، ص 6، كتاب الروضة، باب حكمه ومواعظه، ح58، ط بیروت.
2- غرر الحكم ص 287 حرف الراء في لفظ المطلق، ح 43.

ففي الحديث إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يمشط لحيته ويقول: (إنه يزيد في الذهن ويقطع البلغم) (1).

وروي: (أن رجلاً كان عند أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بخراسان، فقدمت إليه مائدة عليها خل وملح، فافتتح بالخل، فقال الرجل: جعلت فداك، إنكم أمرتمونا أن نفتتح بالملح، فقال: هذا مثل هذا، يعني الخل يشد الذهن ويزيد في العقل)(2).

وقال أبو عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (كلوا الرمان بشحمه فإنه يدبغ المعدة ويزيد في الذهن) (3).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (كلوا السفرجل فإنه يزيد في الذهن) (4).

وقال العالم - الامام الكاظم - (عَلَيهِ السَّلَامُ): (في العسل شفاء من كل داء...يصفي الذهن ويجود الحفظ) (5).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (عليكم بالألبان فإنها.. تذكي الذهن) (6).

وفي مصباح الكفعمي: (من أدمن أكل الزبيب على الريق رزق الفهم والحفظ والذهن ونقص من البلغم) (7).

وفي كتاب (طريق النجاة): (ثلاثة تذهب البلغم وتزيد في الحفظ: الصوم والسواك وقراءة القرآن) (8).

ومعلوم أن الإنسان النابه الملتفت إلى أعماله وشؤونه يعيش حياة أفضل في

الدين والدنيا فتكون عبادته عبادة تفكر و تدبر فكم من مصل ليس له من صلاته إلا

ص: 112


1- روضة الواعظين: ص 308.
2- المحاسن: ص 487، باب الخل، ح 554.
3- المحاسن: ص 542، باب الرمان، ح 839.
4- مكارم الأخلاق ص 172، في السفرجل.
5- فقه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ص 346.
6- طب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ص 25.
7- مصباح الكفعمي ص 200، الفصل الرابع والعشرون.
8- مصباح الكفعمي: ص 200، الفصل الرابع والعشرون.

التعب، وكم من صائم ليس له منه إلا الجوع والعطش، وكم من حاج ليس له من حجة إلا النصب، فطوافه لا يتعدى كونه حركة للجسم فقط، فمثله مثل الذي يركض في أي مكان آخر، فهما في الحركات سواء لأن حركته وجريه لن يوصلاه إلى اللّه تعالى الذي خلقه ولا يكون متوجهاً إليه ولا متعبداً له سبحانه، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (1).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سئل عن معنى الآية قال: (خلقهم للعبادة) (2). والعبودية هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حق العبادة على الآخرين هو الذي بذل الوجود للإنسان وأعطاه منتهى الإنعام والإكرام وليس ذلك سوى اللّه سبحانه، فبناءً على هذا تكون العبودية قمة التكامل وأوج بلوغ الإنسان واقترابه من اللّه سبحانه والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدسة (3).

إذاً فعبادة الغافل ليس لها مكان لأنها لا تتضمن الذهن والتنبه ولا تشتمل على معنى العبادة الكاملة.. ولذا يحث الإسلام على الذهن والتنبه كما يؤكد على التفكر والتدبر في كل شيء..

ففي القرآن الحكيم: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (4).

وقال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (5).

وجاء في قوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (6)، أي ميت الذهن فأحياه اللّه بنور الإيمان والفراسة (7).

ص: 113


1- سورة الذاريات: 56.
2- تفسير البرهان ج 4، ص 238، ح 2.
3- الأمثل: 17 / 135.
4- سورة ص 29.
5- سورة محمد: 24.
6- سورة الأنعام: 122.
7- إرشاد القلوب ص 122، باب 41.

ومن فوائد النباهة التي ينبغي أن يسألها العبد من ربه، أنها ليست توفقه للعبادة الأفضل والأكمل فحسب، بل هي أيضاً تعينه على أمور حياته وتدفع عنه الكثير من المشاكل والأزمات الدنيوية أيضاً، فإن المؤمن الفطن النبه لا يغبن ولا يضيع حقه - غالباً- وفي الحديث الشريف عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (المغبون لا محمود ولا مأجور) وفي الرواية: (إنه كانت لإسماعيل بن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) دنانير، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن فقال اسماعيل يا أبه إن فلاناً يريد الخروج إلى اليمن وعندي كذا وكذا ديناراً فترى أن أدفعها يبتاع لنا بضاعة من اليمن؟

فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): يابني أما بلغك أنه يشرب الخمر ؟

فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس.

فقال: يابني لا تفعل، فعصى إسماعيل أباه.

ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها، فخرج إسماعيل وقضي أن أباعبداللّه حج وحج إسماعيل تلك السنة فجعل يطوف بالبيت وهو يقول: اللّهمّ آجرني واخلف عليّ.

فلحقه أبو عبداللّه (عليه الصلاة والسلام) فهمزه بيده من خلفه وقال له مه يابني فلا واللّه ما لك على اللّه هذا ولا لك أن يؤجرك، ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فأتمنته.

فقال إسماعيل : يا أبه إني لم أره يشرب الخمر، وإنما سمعت الناس يقولون.

فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): يابني إن اللّه عز وجل يقول في كتابه: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (1)، يقول يصدق اللّه ويصدق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم) (2) إلى آخر الخبر.

وطبعاً في هذه الرواية الشريفة بحوث علمية عميقة تطرق إليها الفقهاء والأصوليون ولا مجال هنا لشرحها.

ص: 114


1- سورة التوبة: 61.
2- البحار ج 47، ص 267، ح 38، ط طهران.

إثبات الشيء لاينفي ما عداه:

ولا يخفى أن كلمة (فيه) وردت في هذا الدعاء: (اللّهمّ ارزقني فيه الذهن والتنبيه) حيث يطلب الإنسان من اللّه سبحانه الذهن والتنبيه في هذا الشهر المبارك، ولكن لماذا في هذا الشهر؟

وما المراد ب_ (فيه)؟

أليس ذلك مطلوباً في جميع الأوقات وفي جميع الأيام والشهور؟

بلى، إن الذهن والنباهة أمر ممدوح ومطلوب في تمام الأوقات، وكلمة (فيه) إثبات لشيء وهو لا ينفي ما عداه حسب القاعدة العلمية فيدل ذلك على أهمية شهر رمضان المبارك وامتيازه على سائر الشهور وأنه يلزم على المؤمن أن يتصف بالذهن والنباهة في هذا الشهر بصورة خاصة لكي لا يحرم من العطاء الإلهي الغفير.

(فإن الشقي من حرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم) كما رواه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (1).

ص: 115


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 93، المجلس العشرون، ح 4.

ثلمات في الشخصية

ثم نقرأ في هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (وباعدني فيه من السفاهة والتمويه).

فالسفه والتمويه من الخصال التي تخرق جدار الشخصية بل قد تلغيها تماماً لتحرفها عن إنسانيتها.

والسفه على أقسام منه ما يكون في الأموال، قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) (1)، والمال هو أمانة أودعها اللّه عند الإنسان ليحسن التصرف بها كما أمره اللّه تعالى وحسب الموارد التي وردت في الشرع الحنيف والتي منها إخراج الزكاة والحقوق الشرعية والإوقاف والصدقات ونحوها. ووضع كل شيء في محله.

وقد يأتي السفه كذلك في غير الأموال، ومنها العقيدة: يقول تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (2). والسفه هنا خفة العقل والسفهاء خفاف العقول الذين ألفوا التقليد واعرضوا عن النظر (3).

وقد يأتي السفه بمعان أخرى ففي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) (4) قال: (كل من يشرب المسكر فهو سفيه فلا تعطوهم أموالكم) (5).

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير الآية نفسها قال: (من لا تثق به) (6).

ص: 116


1- سورة النساء: 5.
2- سورة البقرة: 130.
3- مجمع البحرين باب ما أوله السين.
4- سورة النساء: 5.
5- تفسير البرهان: ج 1، ص 343، ح 10.
6- تفسير البرهان: ج 1، ص 342، ح7.

وعلى أية حال فالسفه عيب من عيوب الشخصية، يجعل من صاحبه غير مرغوب فيه اجتماعياً، فضلاً عن كونه فاقداً للأهلية ولذا لا يجيز له الشرع الولاية على الأموال مستقلاً عمن يعينه الحاكم الشرعي الذي هو المجتهد الجامع للشرائط وذلك للتصرف فيها.

وهناك روايات كثيرة وردت عن أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في هذا الموضوع، نشير إلى بعض ما روي عن مولانا أمير المؤمنين في كتاب (غرر الحكم):

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (السفه خرق) (1).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من أقبح الشيم الغباوة) (2).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (السفه يجلب الشر) (3).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إياك والسفه فإنه يوحش الرفاق)(4).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (دع السفه فإنه يزري بالمرء ويشينه) (5).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : كفى بالسفه عاراً) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من سافه شتم) (7).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أسفه السفهاء المتبجح بفحش الكلام) (8).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من داخل السفهاء حقر) (9).

***

أما التمويه فهو التغطية والتلبيس في الأمور المادية، وقد يعني ذلك اختلاط

ص: 117


1- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 76 الفصل 17 في السفاهة والحمق، ح 1213.
2- غرر الحكم و درر الكلم: ص 76، ح 1221.
3- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 76، ح 1226.
4- غرر الحكم و درر الكلم: ص 76، ح 1227.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 76، ح 1228.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 77، ح 1229.
7- غرر الحكم و درر الكلم: ص 77، ح 1238.
8- غرر الحكم و درر الكلم: ص 77، ح 1252.
9- غرر الحكم و درر الكلم: ص 78، ح 1266.

الأمور المعنوية وعدم الفهم الموصل إلى حقيقة الأشياء ويكون بشكل عاهة تظهر على الإنسان وقد تؤدي إلى البلاهة والبلادة فيفقد قابلية التمييز بين الأشياء.

أما الإنسان المؤمن فيتصف بالحواس الفاعلة التي لا يصل إليها الوهن وهو على نور وبصيرة من دينه ودنياه قال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (1)، ويكتمل إيمان المرء بواسطة التوجه والالتفات في العلم والعمل الذي هو عكس التمويه وفي الحديث المروي عن أمير المؤمنين في وصف الإيمان يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ): (سبيل أبلج المنهاج، أنور السراج) (2).

ثم لا يخفى أن التمويه في هذا الدعاء مطلق يشمل الفاعل والقابل حسب الاصطلاح العلمي، وقد أمرنا النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن نسأل الباري تعالى في هذا الشهر بإبعادنا عن التمويه سواء بالنسبة إلى الآخرين أي تمويهنا للغير وتدليسنا عليه كما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من غش مسلماً فليس منا) (3). وسواء بالنسبة إلى أنفسنا، أي تمويه الغير لنا حتى لا نُخدع.

فالسفاهة والتمويه من العيوب الشخصية وتظهر هذه العيوب خصوصاً عيب السفاهة عادة على شكلين:

فمرة من خلال حركة الإنسان وطريقة مشيه.

والأخرى عن طريق كلامه، ويُروى عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره) (4).

فترى الإسلام ينمي في الفرد روح التوازن في الحركة والكلام قال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (5).

ص: 118


1- سورة الزمر: 22.
2- أعلام الدين: ص 104، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 9، ص 200.
3- ثواب الأعمال وعقابها : ص 284، وأعلام الدين: ص 414.
4- تحف العقول: ص 274، حكم ومواعظ الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ).
5- سورة لقمان 19.

فمثلا النفس تواقة إلى الانطلاق والكلام حتى بما لا تحسن ولا يحمد عقباه، ولكن العاقل المتزن تكون راحته في السكوت الصحيح والهادف، فعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إنما شيعتنا الخرس) (1)، وذلك في مورده كما لا يخفى، فإن آفات اللسان كثيرة مذكورة في علم الأخلاق.

يقال: إن أحد النساجين نسج قطيفة ثمينة وأهداها إلى ملك من الملوك، فاستحسنها الملك وأمر له بجائزة كبيرة، ثم سأل وزراءه فيما تُستخدم هذه القطيفة، فقال كل ما يرتئيه من الصلاح نتن "ملك قال: لابد وأن ناسجها أعرف بما يمكن أن تصلح له، فسأله عن ذلك؟

ففكر الناسج طويلاً ثم قال: إنها تصلح لطرحها على جنازة الملك.

غضب الملك من مقالته وأمر بقتله، لكن أحد الحاضرين استمهل الملك بقوله: كنت الليلة البارحة أترقب النساج كي أتمكن من سرقة قطيفته الثمينة وكنت أراه طوال الليل يقول: اللّهمّ احفظ رأسي من لساني، إنه غير عامد بل لسانه ليس بأمره ينطلق إلى المهاوي من غير خبث في ذاته.. فعفى عنه الملك وأكرمه.

فاللسان قد يؤدي بصاحبه إلى الهاوية مثل القصة السالفة الذكر.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (المرء مخبوء تحت لسانه) (2).

لذا ينبغي للمؤمن أن يعرف أين يتكلم، وكيف يتكلم، ولماذا يتحدث، وذلك لأن اللسان يكشف مخابئ النفس ويعكس شخصية صاحبه كما يقول الأدباء: (الكلام صفة المتكلم).

ومن مصاديق السفاهة العجلة في الأمور، وقد تكون سبباً أو مسبباً للتمويه، والعجلة بمعنى التسرع بلا تدبر وروية، وهي من مظاهر الشخصية الضعيفة، وفي غالب الأحيان المتعجلون لا يصلون إلى مبتغاهم، كما قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (العجلة

ص: 119


1- الكافي: ج 2، ص 113، کتاب الايمان والكفر باب الصمت، ح2.
2- نهج البلاغة حكم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) رقم 148.

تمنع الإصابة) (1).

وفي الروايات الشريفة الكثير مما ورد في ذم العجلة.. وكان من وصايا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند وفاته: (...أنهاك عن التسرع بالقول والفعل) (2).

وفي الحديث أيضاً: (التأني في الفعل يؤمن الخطل، والتروي في القول يؤمن الزلل) (3).

وعن مولانا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (مع التثبت تكون السلامة ومع العجلة تكون الندامة) (4).

قال الشاعر:

قد يدرك المتأني بعض حاجته***وقد يكون مع المستعجل الزلل

والعجلة صفة مرتكزة في وجود الإنسان، ينبغي أن يعالجها ويجعلها في مسيرها الصحيح، قال تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (5).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ومع العجلة تكون الندامة) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وإياك والعجلة) (7).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (ثمرة العجلة العثار) (8).

فالعجلة مذمومة بشكل عام لأنها شر إلا أن هناك استثناء من هذه القاعدة العامة وهي:

العجلة في مواقع الخير فإنها مستحبة وممدوحة إذ وردت الآيات الكريمة

ص: 120


1- غرر الحكم و درر الكلم ص 267، الفصل الرابع في أسباب الزلل، ح 5788.
2- بحار الأنوار: ج 71، ص 339، ح 5، باب 83 التدبير والحزم، ط طهران.
3- غرر الحكم: ج 1، رقم 1357 و 1358.
4- بحار الأنوار: ج 71، ص 338، ح 3 باب 83 التدبير والحزم، ط طهران.
5- سورة الإسراء: 11.
6- الخصال: ص 100، ثلاثة تكون مع ثلاثة.
7- تحف العقول: ص 191.
8- غرر الحكم ص 267، الفصل الرابع أسباب الزلل، ح 5783.

والروايات الشريفة تحثنا نحو المبادرة في عمل الخير.. وهو توازن لطيف توجده الشريعة المقدسة في شخصية المؤمن، حيث يتأنى في مواقع الشر والشك عسى أن يرشده عقله إلى السلوك المطلوب

قال مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (تأخير الشر إفادة خير)(1).

ومن وصايا لابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته) (2).

وفي نفس الوقت يتعجل في مواقع الخير ليتغلب على ممانعة إبليس، قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (3)، وقد جاء في تفسير الآية المباركة السرعة إلى التوبة وإلى أداء الفرائض وإلى الهجرة وإلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى.

وفي الحديث الوارد عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من همَّ بشيء من الخير فليعجله فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة) (4).

وعن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا هم أحدكم بخير أو صلة فإنّ عن يمينه وشماله شيطانين فليبادر لا يكفاه عن ذلك) (5).

وقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (العجلة مذمومة في كل أمر إلا فيما يدفع الشر) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (التثبت خير من العجلة إلا في فرص البر) (7).

كما تصرح بعض الروايات إلى الموارد التي ينبغي للمؤمن أن يبادر فيها والموارد التي ينبغي أن يتأنى فيها.

فعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأ به وإذا عرض شيء

ص: 121


1- غرر الحكم: الفصل 22، حرف الثاء.
2- نهج البلاغة الكتاب 3.
3- سورة آل عمران 133.
4- الكافي ج 2، ص 143، باب تعجيل فعل الخير، ح9.
5- الكافي: ص 143، باب تعجیل فعل الخير، ح 8.
6- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 267، ح 5803.
7- غرر الحكم و درر الكلم: ص 473، ح 10816.

من أمر الدنيا فتأنه حتى تصيب رشدك فيه) (1).

وهذه الرواية تعتبر قاعدة عامة في هذا الاتجاه، وهناك مصاديق لهذه القاعدة وردت في الأخبار، منها:

ما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (الأناة في كل شيء خير إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل اللّه فكونوا أول من يشخص - أي الجهاد وإذا نودي للصلاة فكونوا أول من يخرج - الظاهر لصلاة الجماعة - وإذا كانت الجنازة فعجلوا بها) (2).

وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) الثلاثة المذكورة بإضافة الزواج حيث ورد (والأيم إذا وجدت كفواً) (3).

وعن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إضافة قضاء حوائج الناس حيث ورد عنه: (لا تؤخر إنالة المحتاج إلى غد فإنك لا تدري ما يعرض لك وله في غد) (4).

وهنا لابد من الإشارة أن (الخرس) أو (التأني) الوارد في الروايات لا يعني ترك الكلام بالحق أو عدم الحركة المدروسة المحسوبة، وإنما المقصود أن يزن الإنسان كلامه فيضعه في محله على قاعدة (لكل مقام مقال)، وكذا بعدم التقدم بخطوات سريعة قد تترك الأثر السلبي على مسيرته بحيث تكون هناك طفرات لا يستطيع لاحقاً أن يلائم بينها، كل ذلك ليكون بناؤه لشخصيته رصيناً لا تعتريه الشوائب فإن العجل يوجب العثار وهو من مصاديق السفاهة والتمويه.

ص: 122


1- بحار الأنوار: ج 71، ص 215، ح 16، باب، 66، الاقتصاد في العبادة، ط طهران.
2- كنز العمال: ج 3، ص 134.
3- کنز العمال: ج 3، ح 8867.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ح 7668، وفي وسائل الشيعة الجزء الأول الباب 47: باب خاص في استحباب فعل الخير وكراهة تأخيره ومن أراد التفصيل فليراجع.

ماهو الخير وكيفية طلبه

والفقرة الأخيرة من هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في أيام شهر رمضان المبارك تتحدث عن طلب المؤمن الخير من ربه: (واجعل لي نصيباً من كل خير تنزل فيه، بجودك يا أجود الأجودين)، فما هو الخير؟

جاء في بعض كتب اللغة: (أن الخير هو (ضد الشر) وأصله العطف والميل، وقد يأتي على أنه الكرم) (1).

وفي الاصطلاح الخير كل فعل حسن يأتي به الإنسان، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) (2).

وعلى أية حال فإن الإنسان يدعو ربه بأن يلهمه فعل الخير، كما ينزل عليه الخير مما يمن به تعالى على عباده ويفيض عليهم بجوده وكرمه، لأن الإنسان محتاج إلى الخير دائماً.. وإطلاق الخير في أنه جامع لكل الأعمال الحسنة يجعل من إحصاء مصاديقه أمراً متعسراً.

لقد أكد القرآن الكريم على الخير مما يكون مجموع استعمال كلمة (الخير) بجذوره ما يقارب المائتين. وهذا يدل على أهمية الموضوع. وأما في الروايات فاستعملت هذه الكلمة بجذورها آلاف المرات، فالأحاديث والروايات في باب الخير و مصاديقه تغص بها الكتب والمصنفات الإسلامية، ونأخذ على سبيل المثال لا الحصر قول الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (جمع الخير كله في ثلاث خصال: النظر والسكوت والكلام فكل نظر ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكل سكوت ليس فيه فكر فهو غفلة، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن كان نظره عبراً، وسكوته فكراً، وكلامه ذكراً،

ص: 123


1- معجم مقاييس اللغة، ج 2 ص 232 باب الخاء والياء.
2- سورة آل عمران: 30.

وبكى على خطيئته وآمن الناس شره) (1).

وكما أسلفنا في بداية البحث إن الشخصية الإنسانية قد تصاب بالعاهة إذا ما حدث خلل في أحد عناصرها المكونة لها، وغالباً تأتي هذه الأمراض من الحركة والكلام غير اللائق، فإن فعل الخير بشرائطه ضمان لتكوّن الشخصية المناسبة للمؤمن، فيَّد الإنسان أو لسانه هما أدوات الخير والعمل الصالح ويلزم استعمالها فيما أمر اللّه سبحانه وتعالى به.

روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)في وصيته لسفيان الثوري قال: (ياسفيان أمرني والدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بثلاث ونهاني عن ثلاث فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، وم يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني:

عود لسانك قول الخير تحظ به***إنَّ اللسان لما عودت معتاد

موکَّل بتقاضي ما سننت له***في الخير والشر فانظر كيف تعتاد (2)

قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (3).

وقال سبحانه: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (4).

وفي رواية عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته إلى سمرة بن جندب يقول: (يابن جندب الخير كله أمامك، وإن الشر كله أمامك، ولن ترى الخير والشر إلا بعد الآخرة، لأن اللّه عز و جل جعل الخير كله في الجنة والشر كله في النار، لأنهما الباقيان، والواجب على من وهب اللّه له الهدى وأكرمه بالإيمان وألهمه رشده وركب فيه عقلاً يتعرف به نعمه، وأتاه علماً وحكماً يدبر به أمر دينه ودنياه أن يوجب على نفسه أن يشكر اللّه ولا يكفره وأن يذكر اللّه ولا ينساه، وأن يطيع اللّه ولا يعصيه للقديم الذي تفرد له بحسن النظر...) (5).

ص: 124


1- بحار الأنوار: ج 18، ص 275 باب 78 السكوت والكلام وموقعهما، ح2، ط بیروت.
2- بحار الأنوار: ج 18، ص 278-279، باب 78، السكوت والكلام وموقهما، ح17، ط بيروت.
3- سورة الكهف: 46.
4- سورة مريم: 76.
5- تحف العقول: ص 225 و 226، من مواعظ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).

إلى آخر الحديث الذي يحتوي على مكارم الخير..

إلى أن يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ): (فاعمل اليوم في الدنيا بما ترجو به الفوز في الآخرة)(1).

ووجوه الخير قد تأتي في صيانة النفس، وقد تكون في إدخال السرور على المؤمنين، أو صلة الرحم، أو الموالاة والمعاداة في اللّه، أو البغض في اللّه، أو في الرفق والسلم، وتأتي كلها في مجملها تحت عنوان أنها الأعمال الموصلة إلى رضا اللّه ودخول الجنة، وقد سماها القرآن الكريم بالباقيات الصالحات.

وسائل استجلاب الخير

قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(2).

فقرن اللّه تعالى نزول البركات من السماء والخيرات الإلهية بالإيمان والتقوى.

قال تعالى في آية أخرى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (3).

وهناك الكثير من القصص الواردة في هذا المجال والتي تدل على أن تقوى المسلم تكفل له عيشه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ولا يعني هذا بالطبع حياة التواكل والانزواء في انتظار نزول الخيرات والنعم، ومعروف أن من جملة ما يجعل دعاء المؤمن مستجاباً هو العمل والسعي وراء المطلوب، ودور الدعاء أنه يسدد أو يعجل أو يكمل أو يهيئ بعض الأسباب أو يرفع بعض الموانع في طريق المطلوب أو ما أشبه.. فعلى الإنسان أن يعمل وعلى اللّه التوفيق، كما هو المشهور: (منك الحركة ومني البركة).

فمن وسائل استجلاب الرزق واستنزال خير اللّه سبحانه هو تقوى اللّه والانقطاع

ص: 125


1- تحف العقول ص 226، من مواعظ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- سورة الأعراف: 96.
3- سورة الطلاق: 2و3.

إليه سبحانه.

روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (من جاع أو احتاج فكتمه عن الناس وأفشاه إلى اللّه سبحانه و تعالى كان حقاً على اللّه أن يرزقه رزق السنة من الحلال) (1).

ومن خلال حديث الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نفهم أن هذا الرزق مخصوص بالمؤمنين لأنه لا يصبر غيرهم عليه في الغالب ويكتم فقره عن الآخرين، فكفل اللّه رزقه لسنة كاملة، كما أن المؤمن لا يعول كثيراً على هذه الحياة الفانية بل يشتري الدار الآخرة الباقية قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (2).

قال محمد بن كعب القرظي: (لما بايعت الأنصار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً، قال عبداللّه بن رواحة: يا رسول اللّه اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا؟ قال: الجنة، قالوا، ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل، فنزلت الآية) (3).

هذا في بعض التفاسير، لكن المصداق الأظهر لهذه الآية المباركة هو الإمام علي ابن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذلك في ليلة المبيت حيث باع كل ما يملك في سبيل اللّه، ولحفظ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكذلك سائر الأئمة المعصومين كالإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي يوم عاشوراء.

وفي تفسير تقريب القرآن: (وقد كان الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأهل بي الطاهرين من أفضل مصاديق هذه الآية) (4).

وفي قصة أبي الدحداح والذي كان حاضراً عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المسجد النبوي الشريف، والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يغدق على المسلمين في وصاياه الكريمة في إعانة

ص: 126


1- جامع السعادات: ج 2، ص 89.
2- سورة التوبة: 111.
3- أسباب النزول للنيسابوري: ص 176، (إن اللّه اشترى...).
4- تقريب القرآن إلى الأذهان: ج 11، ص 35، سورة التوبة: 111.

الضعفاء والقول الطيب: (الكلمة الطيبة صدقة) (1)، أو (من أعان ضعيفاً...أعانه اللّه تعالى على أمره) (2).

والمسلمون يطبقون هذه الوصايا ويعيشونها سلوكاً وحركة.. فيقول الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (من تصدق بصدقة فله مثلاها في الجنة) فأخذت هذه الكلمات تسري في عروق المسلمين فيتمنون لو أن عندهم مال الدنيا كله ليتصدقوا به لقاء الأجرين ورضا اللّه تعالى..

فيقترب ذلك الصحابي الجليل إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد أن يسمع من الرسول هذا الوعد الإلهي المملوء بالجود والكرم والعطف وليستشعر اللذة في الحديث من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيقول: يا رسول اللّه إن لي حديقتين إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة؟

فيبادره الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالتأكيد والتقرير.

وتأخذ أبا الدحداح نشوة الجنة ويفكر في أهله وصبيته.. فيعود للرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ويستفهمه في فداء أهله وعياله بستان آخر؟

ويؤكدله الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الأضعاف التي يمنحها الباري الجواد جلت قدرته.. فيذهب إلى أهله ويستحي أن يدخل البستان لأنه باعه إلى ربه تعالى ويخبرها بالأمر من وراء الباب.

فترد عليه هذه المرأة المؤمنة: (بارك اللّه لك فيما شريت وفيما اشتريت)..

وتخرج عائلة أبي الدحداح من الحديقة وتسلمها إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).. فينزل قوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (3).

وهذا حسب ما ورد في بعض التفاسير (4) في أنها نزلت في حق هذا الرجل

ص: 127


1- مجموعة ورام: ج 2، ص 61، ومكارم الأخلاق: ص 467، في وصيته لأبي ذر.
2- تفسير الإمام الحسن العسكري ص 635، ح 370، فصل في إعانة الضعيف.
3- سورة البقرة: 245.
4- تفسير روض الجنان وروح الجنان: ج 3، ص 324.

الصحابي الجليل، وهي دلالة واضحة على أن الرزق والخير إنما يتحكم به عمل الإنسان فيعطيه اللّه على قدر ما يحتاج ويضاعفه له أو على قدر تقواه فيضمن له قوته إلى سنة كاملة كما مر في الخبر الذي أسلفنا ذكره، وعندما يدعو الإنسان ربه بقوله:(و اجعل لي نصيباً من كل خير تنزل فيه) (1)، أي بالتوفيق الى الأعمال الموجبة لنزول الخير..

ومعلوم أن خير اللّه سبحانه وبرد ركاته عامة وشاملة وهو الجواد الكريم الذي لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً، لذا يسأله الداعي من هذه الجهة ويدخل إلى مقام المناجاة مع ربه من هذه البوابة بوابة الجود.. فيقول: (بجودك يا أجود الأجودين) والذي يأتي البيوت من أبوابها يضمن نجاحه. هذه هي الشخصية الإنسانية الممدوحة التي تتربى في أجواء أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) شخصية تتسم بأنها:

1:متحلية بالنباهة والالتفات إلى أمور الدين والدنيا.

2: متخلية عن السفاهة والجهل في حركاتها وسكناتها.

3: منقطعة إلى اللّه سبحانه و متنعمة بمواهبه وعطاياه عزوجل و متنعمة بالخير الذي ينزله في هذا الشهر العظيم.

وأخيراً نقول: من أفضل الصفات النفسانية وأحسنها الجود، فقد ورد في روايات مختلفة فضل الجود والسخاء وأنه موجب للقرب من اللّه سبحانه وتعالى، ومن أسباب دخول الجنة.

على عكس البخل فإنه يبعد الإنسان عن ربه ويكون من علل دخول النار، كما قال الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): (السخي قريب من اللّه قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار) (2).

وقال الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ): (السخاء شجرة في الجنة و أغصانها في الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار وأغصانها في الدنيا فمن تعلق

ص: 128


1- دعاء اليوم الثالث من شهر رمضان المبارك، البلد الأمين: ص 306.
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ج 2، ص 11، ح 27.

بغصن منها أدته إلى النار) (1).

ومن أسماء اللّه تعالى: الجواد الكريم، بل هو (أجود الأجودين) كما ورد في هذا الدعاء، فعلى الإنسان أيضاً أن يكون جواداً كريماً حيث ورد في الحديث الشريف: (تخلقوا بأخلاق اللّه) (2).

وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي بن حاتم: (إن اللّه رفع عن أبيك العذاب الشديد لسخاء نفسه) (3).

وروي أن قوماً أسارى جيء بهم إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأمر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بضرب أعناقهم ثم أمره بإفراد واحد منهم وأن لا يقتله، فقال الرجل: لم أفردتني من أصحابي والجناية واحدة؟

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، (ان اللّه عز وجل أوحى إلي أنك سخي قومك وأن لا أقتلك. فقال الرجل: فاني أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه قال الراوي فقاده سخاؤه الى الجنة) (4).

وفي بعض الروايات: (إن الشاب السخي المقترف للذنوب أحب إلى اللّه عز وجل من الشيخ العابد البخيل) (5).

وذلك لأن سخاءه سيدخله إلى الجنة وبخل البخيل سيدخله إلى النار، وهذا الحديث يدل على أهمية السخاء ودوره في التقرب إلى اللّه لا أن اقتراف الذنوب أمر عادي بل ذلك. من أشد الموبقات.

جعلنا اللّه سبحانه وإياكم من المقتدين بأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والمتمسكين بحبلهم في الدنيا والآخرة.

ص: 129


1- الاختصاص: ص 246، باب فضل السخاء.
2- بحار الأنوار: ج 58، ص 129، باب حقيقة النفس والروح، ط بيروت.
3- الاختصاص : ص 246، باب فضل السخاء.
4- الاختصاص: ص 246، باب فضل السخاء.
5- فقه الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) ص 362، والاختصاص: ص 247، باب فضل السخاء.

ص: 130

النعم الإلهية

دعاء اليوم الرابع

4

اللّهمّ فَونِي فِيهِ عَلى إقامَةِ أَمْرِكَ، وأَذِقْنِي فِيهِ حَلاوَةَ ذِكركَ، وأوزعني فِيهِ لأداءِ شُكْرِكَ بِكَرَمِكَ، واحْفَظْنِي فِيهِ بِحِفْظِكَ وسَتْرِكَ يا أَبْصَرَ النَّاظِرِينَ

البلد الأمين: ص 306، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطي في جنة : الخلد سبعين ألف سرير، على كل سرير جارية من الحور العين).

ص: 131

ص: 132

ماذا يعنى أمر اللّه ؟

يطلب الإنسان في اليوم الرابع من شهر رمضان المبارك، مفتتحاً دعاءه بأن يقويه اللّه سبحانه في هذا الشهر على إقامة أمره تعالى، حيث يقول - كما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (اللّهمّ قوني فيه على إقامة أمرك).

وهذا المقام، أي مقام إقامة أمر اللّه من أكبر وأعظم النعم الإلهية على العبد، فقد ورد في وصف الأنبياء والأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أنهم: (قوامون بأمر اللّه).

كما ورد في زيارة الجامعة: (المطيعون اللّه القوامون بأمره) (1).

وفي بعض الروايات: (القوامون بالحق)(2).

وفي بعضها: (القوامون بحقي) (3)، أي بحق اللّه.

وفي بعضها: (القوامون بالعدل) (4).

وفي الحديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (ياعلي أنت وشيعتك القائمون بالقسط) (5).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (ألا وإن أهل بيتي الوارثون لأمري القائمون بأمر أمتي) (6).

والسؤال هنا: ماهو معنى الأمر في هذا الدعاء؟

هناك عدة معانٍ للأمر:

ص: 133


1- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ج 2، ص 274، زيارة أخرى جامعة.
2- تأويل الآيات: ص 71، سورة الفاتحة.
3- تفسير الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ): ص 42.
4- تفسير الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ): ص 212.
5- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 561، المجلس 83 الحديث 2. وتفسير فرات: ص 265، سورة الأنبياء.
6- الصراط المستقيم: ج 2 ص 79.

فقد يكون من الإمرة، وهذا أحد الوجوه، كما في قوله تعالى: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)(1). أي ليأمر بعضكم بعضاً بمعروف.

والمعنى الثاني: المشاورة، كما في قوله سبحانه: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) (2) أي يتشاورون فيك.

وقد يكون الأمر من السلطة والقدرة والتكوين كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ) (3).

وقد يكون الأمر بمعنى الحكم والتدبير (4)، كما في قوله سبحانه: ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) (5).

وكما قال أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (فإن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر) (6).

وهناك معان أخرى للأمر، كما في الحديث الشريف: (إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا عبد مؤ من امتحن اللّه قلبه للإيمان ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة وأحلام رزينة) (7).

والظاهر أن المراد من (أمرهم) في هذا الحديث المبارك: شأنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) وما لهم من المواهب والكمالات كالقدرة على ما يخرج عن وسع غيرهم، والحديث عن المغيبات كالأمور الغائبة والوقائع المستقبلة التي ذكرت في أخبارهم وأحاديثهم.

فإن هذا الشأن، صعب في نفسه لا يقدر عليه إلا الأنبياء والأوصياء، ومستصعب الفهم على الخلق، في حمل ما يلقى منه من الإشارات وغيرها، ولا يحتمل هذا الأمر إلا

ص: 134


1- سورة الطلاق 6.
2- سورة القصص: 20.
3- سورة القمر: 50.
4- مجمع البحرين: ج 3، ص 209، کتاب الراء، باب ما أوله الألف.
5- سورة الطلاق 12.
6- نهج البلاغة الخطبة،23، تهذيب الفقراء بالزهد.
7- غرر الحكم الفصل التاسع في لفظ إن، ح 177.

عبد امتحن اللّه قلبه للإيمان، فعرف كمالهم وعصمتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، و علم بعظيم قدرهم ومكانتهم عند اللّه، فعندئذ يعلم بضرورة اطاعتهم وتصديقهم بما يصدر منهم من الأحاديث، فلم يستنكرها ولا ينكرها ولا يتلقاها بالتكذيب، كما يفعل ذلك بعض من لم يتعمق في معارفهم، أو لم يوفق لمعرفتهم حق المعرفة.

وقد سمي القائم من آل محمد (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) بصاحب الأمر، أي القائم بأمر اللّه تعالى.

وهناك معانٍ أخرى للأمر أينما كما في الدعاء المأثور: (ليس لنا من الأمر إلا ما قضیت).(1)

قال صاحب مجمع البحرين: إن المراد بالأمر هنا: النفع.

وفي الحديث: (رجل عرف هذا الأمر). يعني عرف بأن أهل البيت هم أوصياء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حقاً..

وأمر اللّه: القيامة، كما في قوله تعالى: (أتى أمر اللّه) (2).

والإمرة: الولاية.

كما في حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) (3).

وسمي علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقط بأمير المؤمنين، وهذا اسم سماه اللّه تعالى به، ولم يسم به أحداً من قبله ولا بعده، حتى قائم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الإمام المهدي المنتظر (عجل اللّه فرجه الشريف) لم يسلّم عليه بذلك - أي بأمير المؤمنين - بل يقال له: يا بقية اللّه (4).

والظاهر أن ما تقدم من معاني الأمر من باب تعدد المصداق، ولعل أكمل مصداق له هو ولاية محمد وآل محمد (عليهم الصلاة والسلام).

فيكون من أظهر معاني هذا الدعاء: (اللّهمّ قوني فيه على إقامة أمرك) أي على

ص: 135


1- مجمع البحرين: ج 3، ص 210.
2- سورة النحل: 1.
3- الإرشاد: ج 1، ص 48 والصراط المستقيم: ج 1، ص 303.
4- بحار الأنوار: ج 37، باب، 54، ح 2، ص 290، في التسليم على علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمرة المؤمنين، ط طهران.

ولاية على أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

ومعلوم أن إقامة أمر اللّه بهذا المعنى يتضمن معنى التولي لأولياء اللّه والتبري من أعداء اللّه وولايتهم. والأمر بهذا المعنى يصبح من أعظم العبادات التي تحتاج إلى توفيق وعناية ربانية، كما ورد في الحديث الشريف: (بني الإسلام على سبع دعائم...الولاية وهي أفضلها) (1).

ولعل من هنا عطفت عليه الجملة التالية من هذا الدعاء، حيث يقول الداعي كما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (وأذقني فيه حلاوة ذكرك).

وذلك لأن من أهم مصاديق الذكر ولاية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر فضائله ومناقبه والتأسي بسننه (عليه أفضل الصلاة والسلام)، كما ورد في الروايات: (ذكر على عبادة) (2).

و: (زيّنوا مجالسكم بذكر علي بن أبي طالب) (3).

ومن المعلوم أن للذكر حلاوة، لا يتحسسها إلا المؤمن الذي شغف قلبه حباً اللّه وعشق العبادة والطاعة وتنعم بتوفيقها، فإن لذكر اللّه تعالى حلاوة ليست فوقها حلاوة، ولذة لا يماثلها لذة، وهي وهي ناتجة من الطمأنينة والسرور بذلك في دار الدنيا، والفرح بما أعده سبحانه للمؤمنين من النعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (4).

وقال أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الذكر لذة المحبين) (5).

وكما في قول الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (واستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك) (6).

وكذلك قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء آخر (الهى ما ألذ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب

ص: 136


1- دعائم الإسلام: ج 1، ص 2.
2- بحار الأنوار: ج 38، ص 198، ح 6، في ثواب ذكر فضائل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 38، ص 199، ح 8 في ثواب ذكر فضائل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ط طهران.
4- سورة الرعد: 28.
5- غرر الحكم الفصل الأول، ح 721.
6- بحار الأنوار: ج 91، باب أدعية المناجاة، مناجاة العارفين، ط بيروت.

وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب) (1).

ولا يخفى أنه ينبغي أن يكون قلب الإنسان قابلاً لذكر اللّه، أما القلب المريض البعيد عن اللّه سبحانه فهو مأوى الشيطان، قال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للحارث: (ألا أعلمك دعاء علمنيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قلت : بلى، قال: قل: اللّهمّ افتح مسامع قلبي لذكرك وارزقني طاعتك وطاعة رسولك وعملاً بكتابك) (2).

فالذكر نعمة وتوفيق، لذا قال عنه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الذكر أفضل الغنيمتين)(3).

وعن الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول في دعائه: (يا من ذكره شرف للذاكرين، ويا من شكره فوز للشاكرين و يا من طاعته نجاة للمطيعين صل على محمد وآله، واشغل قلوبنا بذكرك عن كل ذكر) (4).

والذكر سجية المتقين قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ذكر اللّه مسرة كل متق ولذة كل مؤمن)(5).

فللعلم الذي هو من مصاديق ذكر اللّه تعالى حلاوة في القلوب، لا يعرفها إلا أصحابه، فيروي عن الشيخ نصير الدين الطوسي (قدس سره)إنه كان يتذاكر العلوم فإذا ما داهمته معضلة علمية وحلها كان يفرح لها أشد الفرح ويقول: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة، لو عرفوها لقاتلونا عليها.

كما أن للصلاة حلاوتها الخاصة التي لا تعادلها أية. لذة.. لمن غاص في أسرارها وذاب في أذكارها، وفي القصة التي تروى عن شاب كان يلاحق جارته الفاتنة بنظراته، وكانت الأخيرة تشكوه لأبيها مرة بعد أخرى.. دلالة على ذلك.

فكان والدها يحاول أن يحسن الظن به، إلا أنه كلمها بكلام ينبأ عن قصده، عندها

ص: 137


1- بحار الأنوار: ج 91، باب 32، أدعية المناجاة، كتاب الذكر والدعاء مناجاة العارفين، ط بيروت.
2- کنز العمال: ح 5051.
3- غرر الحكم الفصل الأول، ح 1712.
4- الصحيفة السجادية: دعاؤه بخواتيم الخير.
5- غرر الحكم فصل 32، ح 16.

اقترح الوالد المؤمن أن تخبره موافقتها واستعدادها لأن تتزوج منه بشرط أن يلتزم الشاب بصلاة الجماعة في أوقاتها الخمس لمدة أربعين يوماً، وهناك من يراقبه على هذا. فوافق الشاب..

وبعد انقضاء المدة اعترضته الفتاة وسألته عن سبب عدم مجيئه إليها؟

فقال: تعلقت بمن هو أجمل منك وأحسن منك تعلقت بمن التحدث معه ألذ من التحدث معك!

قالت: ومن هو ؟

قال: اللّه.

وقد كان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قمة الإحساس بحلاوة الصلاة، بحيث أخرجوا السهم من رجله المبارك، فلم يحس بوجعه.

إذن للذكر قيمة كبرى عند اللّه تعالى، حيث قال عنه سبحانه: (ولذكر اللّه أكبر) (1).

وقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (لا تختارن على ذكر اللّه شيئاً فإنه يقول (ولذكر اللّه أكبر)) (2).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأذكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلونهم ويقتلونكم؟ قالوا: بلى يارسول اللّه، قال: ذكر اللّه عز وجل كثيراً) (3).

و من هنا ورد في النصوص الحث الكثير على دوام الذكر، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (4).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (عليك بتلاوة القرآن وذكر اللّه كثيراً فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض)(5).

ص: 138


1- سورة العنكبوت: 45.
2- بحار الأنوار: ج 74، ص 109، كتاب الروضة، وصاياه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لابن مسعود، ط بیروت.
3- بحار الأنوار: ج 90، ص 157، باب ذكر اللّه تعالى، ح29، ط بیروت.
4- سورة الأحزاب: 41.
5- الخصال: ج 2، ص 525، ح13.

وفي الحديث: (إن أشرف الحديث ذكر اللّه) (1).

وعن أبي عبداللّه الصادق قال: (كان المسيح يقول: لا تكثروا الكلام في اللّه) (2).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (يابن مسعود لا تختر على ذكر اللّه شيئاً) (3).

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ذكر اللّه نور الإيمان) (4).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ذكر اللّه جلاء الصدور وطمأنينة القلوب) (5).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ذكر اللّه ينير البصائر ويونس الضمائر) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من ذكر اللّه استبصر) (7)

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (واكثروا ذكر اللّه تغنموا) (8).

ص: 139


1- الأمالي للشيخ الصدوق ص 487، المجلس 74، ح1.
2- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 2، ص 189.
3- مكارم الأخلاق: ص 456، الفصل الرابع.
4- غرر الحكم ص 189 الفصل الثاني في الذكر الحديث 3638.
5- غرر الحكم ص 189، الفصل الثاني 189، الفصل الثاني في الذكر الحديث 3639.
6- غرر الحكم ص 189 الفصل الثاني في الذكر، الحديث 3640.
7- غرر الحکم ص 189 الفصل الثاني في الذكر، الحديث 3644.
8- غرر الحكم ص 226، الفصل السابع في الموعظة، الحديث 4583.

تسبيح فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ذكر

و تسبيح فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) من الذكر الكثير الذي أمرت الروايات بأدائه بعد كل صلاة، كما قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسيره للآية الكريمة الآنفة الذكر: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (1).

وفي كتاب معاني الأخبار : قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): تسبيح فاطمة من ذكر اللّه الكثير الذي قال اللّه عز وجل (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (2).

وفي المناجاة الشعبانية: (إلهي وألهمني ولها بذكرك إلى ذكرك) (3).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء كميل: (أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها ورداً واحداً وحالي خدمتك سرمداً) (4).

ثم إن الذكر حسن على كل حال، كما قال تعالى في القرآن الكريم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (5).

وقال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (مكتوب في التوراة التي لم تغير أن موسى سأل ربه فقال: الهي إنه يأتي على مجالس أعزك وأجلك أن أذكرك فيها، فقال: يا موسى أن ذكري حسن على كل حال) (6).

ص: 140


1- الكافي: ج2، ص 500، ح 4.
2- معانی الاخبار: ص 194، نهاية الجزء الأول.
3- بحار الأنوار: ج 91، ص 98 باب أدعية المناجاة، ط بيروت.
4- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
5- سورة آل عمران: 191.
6- الكافي: ج 2، كتاب الدعاء، ح 8 باب ما يجب من ذكر اللّه عز وجل.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصاياه لابنه الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يا بني كن اللّه ذاكراً على كل حال) (1).

فإن الذاكر اللّه لا يموت ميتة سوء، كما ورد في بعض الروايات، فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يموت المؤمن بكل ميتة، يموت غرقاً ويموت بالهدم، ويبتلى بالسبع، ويموت بالصاعقة، ولا تصيب ذاكراً اللّه عز وجل) (2).

ويستفاد من بعض الروايات أن الذاكر بمنزلة المصلي في الثواب، فعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، أن اللّه تعالى يقول: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا...)(3).

كما أن الذاكر جليس اللّه تعالى، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن موسى بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما ناجي ربه عز وجل قال: يارب أقريب أنت مني فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟ فأوحى اللّه عز وجل إليه: ياموسى أنا جليس من ذكرني) (4).

وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ (5).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (قال اللّه تعالی: ابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء، ابن آدم اذكرني في ملأ اذكرك في ملأ خير من ملأك) (6).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ما من عبد يذكر اللّه في ملأ من الناس إلا ذكره اللّه في ملأ من الملائكة) (7).

ص: 141


1- بحار الأنوار: ج 90، باب ذكر اللّه تعالى، ح7، ط بیروت.
2- الكافي: ج 2، كتاب الدعاء، ج 3، باب أن الصاعقة لا تصيب ذاكراً.
3- بحار الأنوار، ج 90، باب ذكر اللّه تعالى، ح 10، ط بیروت.
4- الكافي: ج 2، كتاب الدعاء، ح 4، باب ما يجب من ذكر اللّه عز وجل.
5- سورة البقرة: 152.
6- بحار الأنوار: ج 90، ص 155، باب ذکر اللّه تعالى، ح31.
7- بحار الأنوار: ج 90، ص 155، باب ذکر اللّه تعالى، ح 31.

من ثمرات الذكر

وللذكر ثمرات وفوائد كثيرة، فهو يقوي السريرة ويقوي النفس ويساعد على الصلاح والتقوى والمنع من الانجراف نحو الشهوات والأهواء، كما أن الذكر إحياء للقلب وللروح من الغفلة والنسيان.

وهو النور في العقول والضمائر والتقوى كما صرحت بذلك الكثير من الروايات المروية عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) :

فعن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (من عمر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (من ذكر اللّه سبحانه أحيى اللّه قلبه ونور عقله ولبه) (3).

وورد في الحديث الشريف: (إن في الجنة قيعاناً فإذا أخذ الذاكر في الذكر أخذت الملائكة في غرس الأشجار فربما وقف بعض الملائكة فيقال له: لم وقفت، فيقول: إن صاحبي قد فتر، يعني عن الذكر) (4).

لهذا لابد من مواصلة الذكر.. في كل الأحوال وفي كل الأوقات، لننعم بالطمأنينة واللطف الإلهي العظيم.

هذا وقد تقدم أن من أجلى مصاديق الذكر هو نشر فضائل أهل البيت (عليهم

ص: 142


1- غرر الحكم فصل 77، ح 1219.
2- غرر الحكم حرف الميم في لفظ المطلق، ح 121.
3- غرر الحكم فصل 77، ح 1223.
4- راجع بحار الأنوار: ج 90، ص 163، باب ذكر اللّه تعالى، ح 42، ط بیروت.

الصلاة والسلام) وأن التوفيق لذكر اللّه وذكر أوليائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) نعمة من أكبر النعم الإلهية على العبد، وكل نعمة تستحق الشكر، لذا عطف العبد سؤاله بطلب التوفيق للشكر حيث يقول: (وأوزعني فيه لأداء شكرك بكرمك).

ولاهمية ذكر اللّه تعالى يسعى الشيطان دائماً أن يمنع العبد من ذكر اللّه تعالى ويغفله وينسيه، إلا أنه يجب أن يعلم الإنسان ما يترتب على ذلك من الأضرار، فقد ورد في الأخبار العديدة والآيات الكريمة: إن للإعراض عن ذكر اللّه آثاراً خطيرة على العبد، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (1).

وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (2).

وما نراه اليوم من كثرة المشاكل التي أحاطت بالمسلمين، بل بجميع العالم، كل ذلك من جراء ترك ذكر اللّه...والبحث هنا طويل نتركه لمجال آخر.

ص: 143


1- سورة طه: 124.
2- سورة الزخرف: 36.

من معانى الشكر

الشكر لغة: الثناء على النعمة، وشكر أثنى عليه بما أولاه من المعروف، أو النعمة، فهو شاكر، فيقال: شكر اللّه، أو لله، بذكر إحسانه الذي هو نعمته، والشكر هو عرفان الإحسان ونشره (1).

وفي لسان العرب: (الشكر عرفان الإحسان ونشره قال ثعلب: الشكر لا يكون إلا عن يد، والحمد يكون عن يد وغير يد، فهذا الفرق بينهما...وأما الشكور من عباد اللّه فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأدائه ما وظف عليه من عبادته.. والشكر مثل الحمد، إلا أن الحمد أعم منه، فإنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة وعلى معروفه ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته..) انتهى(2).

والشكر من السمات الطيبة والنبيلة، وهو من موجبات النعم واستدامتها.. كما قالت فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في خطبتها في المسجد (وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها) (3).

والشكر واجب مقدس وواجب أخلاقي، بل هو واجب عقلي، مفروض للمنعم المخلوق فكيف بالمنعم الخالق.. الذي لا تحصى نعماؤه أبداً.

ومن المعلوم أن الشكر لا يجدي المولى عزوجل شيئاً وإنما النفع للعبد نفسه، ومن هنا حث القرآن والسنة عليه:

ص: 144


1- راجع أقرب الموارد: ج 1، ص 604.
2- لسان العرب، مادة (شكر).
3- من فقه الزهراء (عليها السلام)، ج 2، ص 131.

فقال تعالى: (وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (1).

وقال سبحانه: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) (2).

وقال عز وجل: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (3).

وقال جل وعلا: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (4).

الشكر بين الآثار والتجليات

قال الإمام ابو عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (المطاعم الشاكر، له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، والمعافى الشاكر، له من الأجر كاجر المبتلى الصابر، والمعطي الشاكر، له من الأجر كأجر المحروم (القانع) (5).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول اللّه عز وجل: لئن شكرتم لأزيدنكم) (6)) (7).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد اللّه إلا أدى شکرها) (8).

ص: 145


1- سورة البقرة: 152.
2- سورة سبأ: 15.
3- سورة إبراهيم: 7.
4- سورة سبأ: 13.
5- الوافي: ج 3، ص 67، عن الكافي، ج 2، باب الشكر، ح 1.
6- سورة إبراهيم: 7.
7- الوافي: ج 3، ص 67.
8- الوافي: ج 3، ص 69، وراجع الكافي: ج 2، ص 96، باب الشكر.

أقسام الشكر وصوره

والشكر على ثلاثة أقسام:

1: الشكر القلبي.

الشكر اللساني، أو القولي

الشكر الجوارحي، أو العملي.

فشكر القلب هو الإيمان باللّه سبحانه والاعتقاد بأنه المنعم المتفضل على الإنسان، والاحساس بالقصور أمام الباري عز وجل.

وشكر اللسان: هو التلفظ بما يدل على الشكر، مثل: (الشكر لله)، (شكراً شكراً) كما ورد في الروايات.

وشكر الجوارح هو العمل بأوامر اللّه وترك المحرمات.

ولا يكون العبد شاكراً إلا بإدراكه لعظم نعم اللّه تعالى عليه اللّه تعالى عليه وتفضله وتمننه على عباده.. وقد دل العقل على وجوب الشكر وأنه لابد من شكر المنعم الوهاب لتلك النعم العظيمة.

فإذا عرف الإنسان ذلك تجاوبت نفسه ومشاعره وقلبه ولسانه وجوارحه.. فتستجيب الجوارح لحكم العقل في أداء طاعة من طاعات اللّه تعالى.

قال حكيم: (الشكر ثلاث منازل : ضمير القلب ونشر اللسان ومكافأة اليد).

ومن هنا اختلفت صور الشكر وتنوعت أساليبه: ف

قد يتصور الإنسان النعمة ويعرف أن مصدرها من اللّه تعالى باعتباره الواهب الأول على العبد، وهذا هو الشكر القلبي.

وقد يحمد الإنسان المنعم ويأخذ بالثناء عليه والإمتنان والعرفان بإحسانه وتفضله على العبد، وهذا هو الشكر اللساني.

ص: 146

وقد يستخدم جوارحه فميا أمره اللّه تعالى به والابتعاد عن المعاصي والذنوب والخطايا وعدم اقترافها، وهذا هو الشكر الجوارحي.

ثم لا يخفى أنه تختلف صور الشكر باختلاف المظاهر والنعم:

فشكر المال انفاقه في سبيل اللّه تعالى ومرضاته عزوجل.

وشكر العلم نشره وإذاعة مفاهيمه ومضامينه كما ورد في الحديث: (زكاة العلم أن تعلمه أهله) (1).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (زكاة العلم أن تعلمه عباد اللّه) (2).

وشكر الجاه مناصرة الضعفاء والمظلومين وتخليصهم من ظلاماتهم.

هذا والإنسان مهما فعل لا يمكن أن يرتقي إلى مراتب الإيفاء اللّه سبحانه الذي هو صاحب النعم العظيمة والمواهب الجسيمة التي لا تعد ولا تحصى.

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أوحى اللّه عز وجل إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): ياموسى اشكرني حق شكري: فقال: يارب وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال: ياموسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني) (3).

وقال الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مناجاة الشاكرين:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن احصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك، وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالاهمال والتضييع، وأنت الرؤوف الرحيم البر الكريم، الذي لا يخيب قاصديه ولا يطرد عن فنائه آمليه، بساحتك تحط رحال الراجين، وبعرصتك تقف آمال المستر فدين، فلا تقابل آمالنا بالتخييب والإياس، ولا تلبسنا سربال القنوط والإبلاس، إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضائل في جنب

ص: 147


1- مشكاة الأنوار: 139، الفصل الثاني في العلم.
2- منية المريد: ص 185، القسم الأول: آدابه في نفسه، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).
3- الوافي : ج 3، ص 68، وراجع الكافي ج 2، باب الشكر.

إكرامك إياي ثنائي ونشري، جللتني نعمك من أنوار الإيمان حللا، وضرب علي لطائف برك من العز كللا، وقلدتني مننك قلائد لا تحل، وطوقتني أطواقاً لاتفل، فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد، إلهي فكما غذيتنا بلطفك وربيتنا بصنعك فتمم علينا سوابغ النعم، وادفع عنا مكاره النقم و آتنا من حظوظ الدارين أرفعها وأجلها عاجلاً وآجلاً، ولك الحمد على حسن بلائك وسبوغ نعمائك حمداً يوافق رضاك ويمتري العظيم من برك ونداك ياعظيم، ياكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين) (1).

قال الشاعر في مقام اعترافه بالعجز عن اداء الشكر :

ولو أن لى فى كل منبت شعرة***لساناً يطيل الشكر كنت مقصرا

ويقول الشاعر محمود الوراق :

إذا كان شكري نعمة اللّه نعمة***علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله***وإن طالت الأيام واتصل العمر

مس بالسراء عم سرورها***وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

فما امنها الإله فيه نعمة***تضيق بها الأوهام والسر والجهر

بين الشكر والكفران

قلنا أن الشكر من سمات النفوس الكريمة لأنه اعتراف بالنعمة، وبالتالي اعتراف وإقرار بالمنعم، وهذا مما يوجب الرضا والزلفى والتقرب من اللّه تعالى، كما يوجب بالتالي مضاعفة النعم وزيادتها..

وبعكسه (كفران النعم).. وله مصاديق متعددة، منها: الجحود بالنعمة وهذه من شيم النفوس اللثيمة الوضيعة الناكرة للجميل، والمتنكرة للعرفان به..

ص: 148


1- مفاتيح الجنان المناجاة السادسة من مناجاة الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وهو عصيان يوجب محق النعمة وانكفائها عن أصحابها.. وبالتالي زوالها.. قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (1).

وقال سبحانه: (لئن لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (2).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن قوماً أفرغت عليهم النعمة وهم أهل (الثرثار) فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوا ينجون من صبيانهم حتى اجتمع من ذلك جبل، قال: فمر رجل صالح على امرأة وهي تفعل ذلك بصبي لها، فقال: ويحكم اتقوا اللّه لا يغير ما بكم من نعمة: فقالت: كأنك تخوفنا بالجوع، أما ما دام ثرثارنا يجري فانا لا نخاف الجوع، قال: فأسف اللّه عز وجل، وأضعف لهم الثرثار وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، قال: فاحتاجوا إلى ما في أيديهم فأكلوه، ثم احتاجوا إلى ذلك الجبل، فإنه كان ليقسم بينهم بالميزان) (3).

وعن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أسرع الذنوب عقوبة كفران النعم) (4).

وهناك بعض الطرق لاكتساب فضيلة الشكر.. نذكر بعضها:

1: التفكر فيما أغدقه اللّه تعالى على العباد من صنوف النعم وألوان اللطف، قال تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) (5).

2: النظر إلى من هو دونه في الماديات، وترك النظر إلى المترفين والمنعمين من الناس الغارقين في زخارف الحياة، بل يلتفت إلى المعوزين والمحتاجين، فيشكر اللّه على ما أنعمه به دونهم، كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وأكثر أن تنظر إلى من فضلت عليه في الرزق، فإن ذلك من أبواب الشكر) (6).

ص: 149


1- سورة النحل: 112.
2- سورة إبراهيم: 7.
3- المحاسن: ص 586، باب فضل الخبز وما يجب من إكرامه.
4- تنبيه الخواطر : ج 2، ص 175.
5- سورة فاطر: 3.
6- أخلاق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) : ص 117، عن نهج البلاغة.

3: تذكر ما سبق من ألطاف اللّه تعالى على العبد نفسه من شفاء مرضه أو نجاته من الشدائد أو خلاصه من البلايا وغيرها..

4 التأمل والتفكر بآثار الشكر ومحاسنه وجميل ما يترتب عليه من استجلاب النعم وديمومتها على العبد فضلاً عن زيادتها، كما يلزم النظر إلى مساوئ كفران النعمة وما يترتب عليه من زوال للنعم.

وهذه بعض الأبعاد النظرية لاكتساب الشكر، وهناك طرق في البعد العملي، فإن من الشكر: العمل على طاعة اللّه سبحانه و اجتناب معاصيه.

كما ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (شكر النعمة اجتناب المحارم) (1).

ومن هنا نعرف أن الناس لو صرفوا النعم الإلهية في ما أراده اللّه من أهدافها الحقيقية سوف يثابون عليها ويكونون بالمستوى العملي المطلوب لاستحقاقهم لها، ويكون ذلك سبباً في زيادة الفيوضات الإلهية عليهم، لأن الشكر موجب للزيادة.

ص: 150


1- نور الثقلين: ج 2، ص 529، 24، سورة ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند قوله: لئن شكرتم لأزيدنكم.

أمور تتعلق بالشكر

إشارة:

وهنا عدة نقاط يجب الإشارة إليها:

1: من آثار قلة الشكر

قال أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) (1).

2: من لم يشكر المخلوق

لا يكفي الشكر ولا الحمد للّه سبحانه فقط في إزاء نعمه تعالى، بل ينبغي أن يشكر الإنسان الأشخاص الذين تسببوا في إيصال تلك النعم إليه، كما قال الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يقول اللّه تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول : بل شكرتك يارب فيقول تعالى: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثم قال الإمام أشكركم اللّه أشكركم للناس) (2).

وعن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللّه عز وجل) (3).

3: من آثار الشكر

يستلزم شكر اللّه تعالى على نعمه معرفة اللّه، فيكون الشكر طريقاً موصلاً إلى معرفته سبحانه، وقد ورد في الكتب الكلامية: أن شكر المنعم واجب بحكم العقل، إذن لابد من معرفة المنعم أولاً حتى يتم شكره، إذ الشكر يستلزم معرفة المشكور.

ص: 151


1- نهج البلاغة : الكلمات القصار رقم 13.
2- راجع أصول الكافي: ج 2، باب الشكر، ح 30.
3- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ج 2، ص 23، ج 2، باب 31.

4: الشكر في المجتمع

احياء روح الشكر في المجتمع والتأكيد على هذه الظاهرة الإيجابية يُعتبر وسيلة من وسائل تحقيق الهدف الأسمى في رقي المجتمع وشيوع روح الخلق الإسلامي فيه، فضلاً عن تحريك روح التعاون والمحبة بين الأفراد، لأن المجتمع الذي يذعن بلزوم الشكر يحترم ويثني على أبنائه الذين يخدمونه، فيحنو عليهم ويقدر جهودهم، فيسود روح الخدمة وبذل الجهد والإيثار في ذلك المجتمع، وهذا ينتهي إلى التقدم والسعادة، فيكون أحد مصاديق الآية الكريمة: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (1).

5: الشكر المطلق

يلزم أن لا يستخف الإنسان بأية نعمة حتى إذا تصورها قليلة أو صغيرة، فيجب أن يشكر اللّه عليها، فبقدر شكر الإنسان تكون الزيادة والرحمة، وهكذا كان حال الأنبياء والأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ). والشكر بحد ذاته نعمة إلهية يهبها تبارك وتعالى للإنسان، حيث يقول عزوجل: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (2).

ومتى ما شكر المؤمن خالقه جل وعلا ارتفعت مرتبته وقد كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الشاكرين كما يصفه القرآن الكريم: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3).

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد اللّه عز وجل عليها) (4).

6: القناعة شكر

وفي رواية عن أبي جعفر الثاني عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: دعا سلمان أباذر (رحمهما اللّه)

ص: 152


1- سورة إبراهيم: 7.
2- سورة المائدة: 6.
3- سورة النحل: 120 – 121.
4- بحار الأنوار: ج 68، ص 41 كتاب الإيمان والكفر، مكارم الأخلاق، باب الشكر.

إلى منزله، فقدم إليه رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين فقلبهما..

فقال سلمان : يا أباذر لأي شيء تقلب هذين الرغيفين؟

قال: خفت ألا يكونا نضيجين. فغضب سلمان من ذلك ثم قال: ما أجرأك حيث تقلب الرغيفين، فو اللّه لقد عمل هذا الخبز الماء الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكة حتى ألقوه إلى الريح، وعملت في الريح حتى ألقاه إلى السحاب، وعمل فيه السحاب حتى أمطره إلى الأرض، وعمل فيه الرعد والملائكة حتى وضعوه مواضعه، وعملت في الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟

فقال أبو ذر : إلى اللّه أتوب وأستغفر اللّه مما أحدثت، وإليك اعتذر مما كرهت. قال: ودعا سلمان أباذر (رضوان اللّه عليهما ذات يوم إلى الضيافة، فقدم إليه من جرابه كسراً يابسة وبلها من ركوته، فقال أبو ذر : ما أطيب هذا الخبز لو كان معه ملح.. فقام سلمان و خرج فرهن ركوته بملح و حمله إليه، فجعل أبو ذر يأكل ذلك الخبز ويذر عليه ذلك الملح، ويقول: الحمد للّه الذي رزقنا هذه القناعة، فقال سلمان: لوكانت قناعة لم تكن ركوتي مرهونة (1).

ومن هنا يعلم بعض الأسرار في عظمة سلمان وفضله على أبي ذر، وأن كانا من خيرة أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وخلص شيعة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

7:التحدث بالنعم

ومن مصاديق الشكر: التحدث بالنعم، قال تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (2).

يقول الشاعر:

ص: 153


1- بحار الأنوار: ج 68، ص 45، ح 51، كتاب الإيمان والكفر، مكارم الأخلاق، باب الشكر، ط بيروت.
2- سورة الضحى: 11.

أوليتني نعما أوبح بشكرها***وكفيتني كل الأمور بأسرها

فلأشكرنك ما حييت وأن أمت***فلتشكرنك أعظمي في قبرها

فإظهار نعمة الرب بدافع الشكر والثناء لا بدافع التفاخر والاستعلاء ممدوح، وهذه وسيلة من وسائل التكامل على سلم الطاعة والعبودية، فضلاً عن آثاره الاجتماعية والأخلاقية.

إذ أن التحدث بالنعم موجب لالفات الناس إليها، وهذا يسبب دفعهم نحو الطاعة الأكثر، والتوجه الأفضل إلى اللّه سبحانه المنعم..

وهناك مصاديق أخرى للشكر وردت في الروايات:

فعن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (اعلموا أنكم لا تشكرون اللّه بشيء بعد الإيمان باللّه ورسوله وبعد الإعتراف بحقوق أولياء اللّه من آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أحب إليكم من معاونتكم لاخوانكم المؤمنين على دنياهم) (1).

وكأن الرواية الشريفة تشير إلى المصاديق الأكمل في الشكر، وهي الإيمان باللّه وبرسوله أولاً، ثم التمسك بولاية أولياء اللّه وطاعتهم وأداء حقوقهم، فهذا سبيل سعادة الدنيا والآخرة، كما أن التعاون بين الأخوة المؤمنين على أمور الدنيا سبيل سعادة الدنيا.

8: سجدة الشكر

إن الشكر حسن على كل حال، فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان في سفر يسير على ناقة له، إذا نزل فسجد خمس سجدات، فلما أن ركب قالوا: يا رسول اللّه إنا رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه؟ فقال: نعم، استقبلني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فبشرني ببشارات من اللّه عز وجل.. فسجدت اللّه شكراً لكل بشرى سجدة) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (إذا ذكر أحدكم نعمة اللّه عز وجل فليضع خده على التراب شكراً اللّه، فإن كان راكباً فلينزل فليضع خده على التراب، وإن لم يكن يقدر على النزول

ص: 154


1- بحار الأنوار: ج 75، ص 355، کتاب الروضة، باب مواعظ الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ط بیروت.
2- الكافي: ج 2، ص 98، ح 24.

للشهرة، فليضع خده على قربوسه وإن لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد اللّه على ما أنعم اللّه عليه) (1).

9: لمن تكون فائدة الشكر ؟

إن الشاكر هو الذي يشكر لنفسه، ومن كفر فعليها، فالفائدة ترجع إلى الإنسان، لا إلى اللّه، فإن اللّه غني عن العالمين، قال تعالى: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (2).

وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (3).

10: الشكر علامة كرم النفس وعلوها

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما سئل عن أكرم الخلق على اللّه: (من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر) (4).

ومما تقدم يعرف أن نعم اللّه سبحانه وآلائه تحتاج إلى حفظ ورعاية وإلا تزول عن الإنسان.

ولعل من هنا وردت الفقرة التالية في الدعاء الشريف، حيث تشير إلى ذلك وتقول: (واحفظني فيه بحفظك وسترك).

ص: 155


1- الكافي: ج 2، ص 98، ح 25.
2- سورة النمل: 40.
3- سورة لقمان: 12.
4- التمحيص:ص 163،68، وراجع بحار الأنوار: ج 66، باب صفات خيار عباد اللّه، ح26.

الحفظ والستر

حفظ العبد لا يكون إلا بحفظ نعم اللّه عليه سبحانه، ابتداء من نعمة الوجود، ثم الرزق والصحة والعافية والوجاهة والطعام والشراب وكل صغيرة وكبيرة هي نعمة و بحفظها يحفظ الإنسان...

ومعلوم أن الإنسان الذي يحظى بالنعم الجليلة يستره اللّه عن العيوب والنواقص وكل ذلك من نعم اللّه أيضاً.

فإن اللّه تعالى هو الحافظ...

والحافظ والحفيظ من أسماء اللّه الحسنى، قال تعالى: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1).

والحفظ لطف إلهي عظيم لا يناله العبد إلا بالطاعة والدعاء والتوسل باللّه تعالى.. والاطمئنان إلى قدرته ونصره باعتباره خالق وقادر على كل شيء.

والحفظ الذي يطلبه الداعي مطلق، فيكون حفظاً مادياً وحفظاً معنوياً..

فالحفظ المعنوي: هو الحفظ من الشيطان ووسوسته وزلاته ونفته وجنوده واغوائه..

والحفظ من المعاصي والزلات والنسيان لهي نعمة لا ينالها إلى ذو حظ عظيم، وبتوفيق من اللّه تعالى.

والستر الحجب عن النظر، باعتبار أن الإنسان العادي غير معصوم، ويجوز عليه الخطأ، فيخاف من الفضيحة وظهور العيب منه، فيطلب الستر من اللّه تعالى.

واللّه تعالى هو (الستار) بقدرته وفضله، وهذا هو الآخر لطف إلهي عظيم.....لأن اللّه

ص: 156


1- سورة يوسف: 64.

تعالى إذا لم يستر - وهو ستار العيوب - يعني سلب اللطف من ذلك العبد، والعبد الذي يسلب منه اللطف يصبح مفضوحاً أمام الناس، بذنوبه وأعماله وعيوبه.

قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء كميل: (ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري) (1). هذا من جهة..

ومن جهة أخرى: المراد من حفظ اللّه سبحانه: حفظه للكون، فإن اللّه تعالى يحفظ عالم التكوين من أن يختل فيحفظه سبحانه بعنايته وبقوته من أن ينهار أو ينهدم، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (2).

أي العالم تحت قدرته تعالى، فهو القادر عليه الحافظ له وجوداً وبقاء، ولولا أن اللّه سبحانه يحفظ الأشياء لأفنى القوي الضعيف، ولساخت الأرض بأهلها واختل نظام الكون.. إلا أن اللّه سبحانه يحفظ كل شيء ويرعاه.

وبما أن الإنسان من جملة المبصرات لذا كان على العبد الداعي أن يطرق باب النظر والبصيرة الإلهية لينال سؤاله وحاجته.. إذ أن العالم في نظر اللّه دائماً.. ولعل من هنا ختم الدعاء الشريف بقوله: (يا أبصر الناظرين).

والبصير من أسماء اللّه تعالى وهو عبارة عن علمه بالمبصرات قال تعالى: (السميع البصير) (3).

وفي الحديث الشريف: (سميناه بصيراً لأنه لا يخفى عليه ما يُدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر لحظة العين) (4).

وطلب الداعي هنا أن يجعله اللّه تحت نظره ومشاهدته وهذا كناية عن العناية الربانية والرحمة الإلهية، فيطلب حمايته ورعايته وفيضه ولطفه في شهر هو أفضل

ص: 157


1- دعاء كميل، راجع الإقبال ص 706، و مصباح الكفعمي، ص 555، الفصل 44، ومصباح المتهجد ص 845 دعاء آخر وهو دعاء خضر (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- سورة سبأ: 21.
3- سورة الإسراء: 1.
4- مجمع البحرين: ج 3، ص 223.

الشهور وأعظمها عند اللّه تعالى.

وإذا علم الإنسان بأنه تحت رحمة اللّه ونظره يشعر بالاطمئنان والراحة والأمان لأنه يستشعر فيض التسديد الإلهي والتوفيق الرباني العظيم. فلا يخاف شيئاً ولا يخشى.

ولعل خلاصة ما يريده الداعي بقوله: (يا أبصر الناظرين) إنه يذعن بأن اللّه تعالى يعلم بكل شيء ولا يغيب عنه ما في السماوات العلا، ولا ما تحت الثرى، وهو الذي لا يغيب عنه شيء، ومعلوم أن من علم أن اللّه تعالى ناظر إليه يسعى في أن يكون مؤمناً متقياً لا ينظر إلى حرام ولا يقدم على معصية، وهذه تنتج الفوز في الدارين، لأن العبد عندما يدرك بأن عليه عيوناً تراقبه وتراه لا يرتكب إثماً - عادة - فتتولد عنده المناعة عما يسخط الرب، وهذه الملكة تسمى بالعدالة كما ذكرها الفقهاء.

نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من المؤمنين ومن الذين يشملهم هذا الدعاء الشريف الوارد في هذا اليوم من شهر رمضان المبارك.

ص: 158

التوبة العودة إلى رحاب اللّه

دعاء اليوم الخامس

5

اللّهمّ اجْعَلْنِي فِيهِ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ وَاجْعَلْنِي فِيهِ مَنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الْقانِتِينَ، وَاجْعَلْنِي فِيهِ مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُقَرَّبِينَ، بِرَأْفَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ.

البلد الأمين: ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطى في الجنة : المأوى ألف ألف قصعة، في كل قصعة ألف لون من الطعام).

ص: 159

ص: 160

صراع القوى

الإنسان هو الكائن المميز بين مخلوقات اللّه تعالى، وهو الوحيد الذي يتكون من نسبة عالية من القوى المختلفة المادية والمعنوية، الجسمية والروحية، وينمو وسط المتضادات، وله استعدادات كبيرة للتكامل والتقدم.

وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (إن اللّه عز وجل ركَّب في الملائكة عقلاً بلاشهوة، وركب في البهائم شهوة بلاعقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم) (1).

وإن هناك صراعاً دائماً بين هاتين القوتين :

1: العقل.

2: الغريزة.

فالأول يريد لصاحبه أن يبقى محافظاً على فطرته ونزاهته، حتى يصل به إلى عالم الفضيلة والكمال.

والغريزة تريد أن تخرجه من هذه الحالة وتسيره نحو الهاوية ومتاهاتها، وبين هذا وذاك فإن الإنسان - غير المعصوم - قد يصاب بالغفلة والنسيان، فيرتكب السيئات ويقترف الذنوب والمعاصي.

فماذا يفعل الإنسان المسكين ؟

قد جعل اللّه سبحانه وتعالى لرحمته ورأفته باباً لعباده أسماه الاستغفار، يعالج به

ص: 161


1- بحار الأنوار: ج 57، ص 299، ح 5 كتاب السماء والعالم باب فضل الانسان، ط بیروت.

الإنسان روحه ونفسه التي تلوثها الذنوب حتى يكون الإنسان في مأمن من عواقبها الوخيمة الدنيوية والأخروية.

لان البلاء والعذاب الذي كان ينزل على الأمم السالفة هو بسبب فسادها وعصيانها وعدم اتباعها لنهج الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما هو حال قوم نوح وعاد وثمود ولوط (عَلَيهِم السَّلَامُ) وغيرها من الأمم السالفة، وقد أشار إلى ذلك القرآن الحكيم:

قال سبحانه: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) (1).

وقال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (2).

وقال سبحانه: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (3).

وقال عز وجل: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) (4).

ولكن اللّه تعالى أعطى لرسول الإسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كرامة اختصه بها، إذ جعله سبحانه رحمة للعالمين قال عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (5) فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أماناً للأمة من نزول العذاب عليها.

وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) (6) أنه قال: كان في الأرض أمانان من عذاب

ص: 162


1- سورة الفرقان: 37.
2- سورة التوبة 70.
3- سورة هود: 89.
4- سورة الإسراء: 17.
5- سورة الأنبياء: 107.
6- نهج البلاغة:الحكم 88 ص 483، صبحي الصالح، ومكارم الأخلاق:ص 314، في الاستغفار والبكاء.

اللّه، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به، أما الأمان الذي رفع فهو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أما الأمان الباقي فالاستغفار، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (1).

وكذلك مادام العباد يستغفرون من ذنوبهم ويطلبون التوبة منه عزوجل، فإنهم في أمان من العذاب.. وقد وعد سبحانه بغفران ذنوب المستغفرين وقبول توبة التائبين إلا الشرك، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (2).

وقال عز وجل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (3).

وقد ورد عن النبي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: (قال ابليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللّه عز وجل: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) (4).

ص: 163


1- سورة الأنفال: 33.
2- سورة النساء: 48 و 116.
3- سورة الزمر: 53.
4- الترغيب: ج2، ص 468.

التوبة لغة واصطلاحاً

ذكر اللغويون (1) أن التوبة تعني الرجوع والانابة، يقال، تاب فلان، أي رجع عن ذنبه فهو تائب

قال في لسان العرب:

(التوبة الرجوع من الذنب وفي الحديث الندم توبة، وتاب إلى اللّه يتوب توباً وتوبة ومتاباً: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة وقال أبو منصور: أصل تاب عاد إلى اللّه ورجع وأناب وتاب اللّه عليه، أي عاد عليه بالمغفرة، وقوله تعالى: ﴿تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا) (2) أي عودوا إلى طاعته وأنيبوا إليه وعرضت عليه التوبة أي الرجوع والندم على ما فرط منه) انتهى (3).

والتوبة قد تنسب للعبد تارة وأخرى اللّه سبحانه وتعالى، والأول يقصد بها: رجوعه إلى ربه أي من المعصية إلى الطاعة نادماً ومستغفراً ذنبه، وأما انتسابها اللّه فالمراد بها رجوعه عزوجل على عبده من العقوبة إلى العفو لطفاً وتفضلاً منه سبحانه على عبده بقبول توبته والصفح عن زلته..

فالتوبة هي الرجوع ولكن مرة تنسب إلى العبد، ومرة تنسب إلى الرب سبحانه وتعالى، وقد ورد كلا المعنيين في قوله عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) إلى قوله (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (4).

ص: 164


1- المعجم الوسيط : ج 1، ص 90، مادة (تاب).
2- سورة النور: 31.
3- لسان العرب: مادة (تاب).
4- سورة التوبة: 117 - 118

والتوبة عند الشرع، كما عرفها الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتابه (المكاسب): (الرجوع إلى صراط اللّه المستقيم بعد الانحراف عنه) وهذا التعريف اقتبس من المعنى اللغوي.. إلا أن التعريف الأشمل والأتم معنى ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (التوبة ندم بالقلب واستغفار باللسان والقصد على أن لا يعود) (1).

وهذا أفضل وأكمل وأبلغ تعريف للتوبة، إذ لا يكفي في التوبة الندم المجرد على ما فعل من الذنوب والمعاصي في الماضي، بل لابد أن يقصد ويبني على عدم العودة والرجوع إليها، وهذا الشرط هو المهم المطلوب في التوبة.

ثم إن مقتضى الأدلة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة هو كون التوبة واجبة على الفور، ولا يجوز فيها التراخي، وإن قال الأصوليون: أن الامر لا يدل على الفور ولا التراخي، لكن ذلك إذا لم تكن هناك قرينة على أحد القسمين، وفيما نحن فيه قالوا: بوجود القرينة والدليل على فورية وجوب التوبة، أي يجب على كل مسلم أن يتوب عن ذنبه فوراً، ولا يجوز له التأخير.

وقد قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لابن سعد: (يابن سعد، لا تقدم الذنب ولا تؤخر التوبة) (2) فإن (الموت يأتي بغتة) (3).

والذي يسوّف لنفسه و يترك المبادرة إلى التوبة حيث يقول سوف أتوب غداً وسوف لا أفعل مرة أخرى، أو سوف لا أعصي في المستقبل - مثلاً - فانه يقع بين خطرین عظیمین :

أولهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من كثرة المعاصي حتى تصير ملكة وطبعاً فلا

تقبل المحو، فيسود قلبه لكثرة ذنوبه، وقد ورد عن الإمام محمد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب وثنى خرج من تلك النكتة سواد، فإن تمادى الذنوب اتسع ذلك السواد حتى يغطي البياض، لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو

ص: 165


1- تحف العقول: ص 149، من حكم ومواعظ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- مكارم الأخلاق: ص 454 الفصل الرابع.
3- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 2، ص 53.

قول اللّه عز وجل:(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (1)) (2).

وثانيهما: أن يعاجله ويبادره المرض أو الموت فلا يجد مهلة وفرصة للاشتغال بمحو الذنوب وتداركها، ولذا ورد أن أكثر صياح أهل النار من التسويف، فما أهلك من هلك إلا بالتسويف:

صلى اللّه

قال(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (يا أباذر، إياك والتسويف بأملك) (3).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (يا أباذر وإياك والتسويف بعملك) (4).

وأيضاً: (فإنما هلك من مضى قبلكم باقامتهم على ماني والتسويف)(5).

كما ورد: (تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة) (6).

ص: 166


1- سورة المطففين: 14.
2- الاختصاص: ص 237، صفة العقل والجهل مجموعة حكم ومواعظ الكافي: ج 2، ص 273، باب الذنوب، ح 20، باختلاف يسير يسير في العبارة.
3- اعلام الدین ص 189 باب وصية النبي لأبي ذر.
4- مكارم الأخلاق ص 458، الفصل الخامس.
5- مشكاة الأنوار: ص 267، الفصل السابع في ذم الدنيا.
6- مشكاة الأنوار: ص 111، الفصل الأول في التوبة.

التوبة ترك وعمل

لا يكفي في التوبة أن ينوي الإنسان ويصمّم على عدم الرجوع إلى فعل الذنوب في المستقبل، بل لابد من محو الآثار التي انطبعت على القلب من جراء المعاصي، حيث إن للذنوب ظلمات وقد ارتفعت إلى القلب وأحاطت به وحولته من مرآة صافية إلى ظلمة داكنة، فالذي يغرق في أو حال الخبائث والمفاسد لابد له من محو تلك الآثار الظلمانية، بتعويضها بكثرة الطاعات والحسنات، فإن للطاعة نوراً يدخل النفس والقلب حتى أنه ينعكس على وجه الإنسان في بعض الحالات، ولذا ورد في بعض فوائد صلاة الليل آنها (تبيض الوجه وتنوره) (1).

وقد قال بعض علماء الأخلاق كما أن المرض يعالج بضده، فكذلك السيئة تعالج بالحسنة التي تضادها، إذ الضد إنما يرتفع بالضد، فالذي سمع الأغاني يكفر عنها بسماعه للقرآن وحضور مجالس الوعظ والإرشاد، مثلاً، والذي كان يؤذي الناس أو يسرق منهم يكفر عن ذنبه هذا بمساعدة الناس وقضاء حوائجهم ورد أموالهم والإحسان إليهم وهكذا.

فمصداقية التوبة تتحقق إذا ما صمم العبد على ترك المعصية أولاً ثم فعل ما يمحيها ثانياً.

هذا وقد أشارت الأحاديث إلى فضيلة التوبة، فقد ورد في الحديث الشريف: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (2).

ص: 167


1- كتاب الباقيات الصالحات في هامش كتاب مفاتیح الجنان، ص 131.
2- عيون أخبار الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ج 2، ص 74، عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وارشاد القلوب: ص 180، ومكارم الاخلاق: ص 313، في الاستغفار والبكاء.

هكذا ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإن اللّه يحب التوبة ويحب التائبين، قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إن اللّه تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلَّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها) (1).

وقال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ) (2).

واللّه سبحانه لعطفه وحنانه يرغب عباده ويشوقهم إلى التوبة وطلب المغفرة، ولذلك فتح بابه أمامهم حتى جعلهم من أحبائه الحقيقيين، كما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (ليس شيء أحب إلى اللّه تعالى من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة) (3).

وما ورد في الحديث السابق من أنه سبحانه يفرح بل يكون أشد فرحاً بعبده ليس المراد منه ما قد يتصوره البعض من أنه يفرح كفرحنا ويحزن كحزننا، لأن هذا غير جائز على اللّه سبحانه وتعالى.

وإنما المراد أنه سبحانه يقابل عبده - عند الفرح بالرحمة والإحسان إليه، إذ الفرح والحزن وغيرها من الحالات الانفعالية للجسم ولا تجري على الحق تعالى، وإنما يراد منها إظهار آثار الفرح وآثار الحزن بالرحمة والغضب مثلاً، كما قال علماء الكلام: (خذ الغايات واترك المبادئ).

ص: 168


1- الكافي: ج 2، ص 435، باب التوبة، ح8.
2- بحار الأنوار: ج 6، ص 41، باب التوبة، ح 75، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 57، ص 299، ح 6، ط بیروت.

الذنوب وآثارها الوضعية

إشارة:

المعاصي لها أحكام تكليفية، وآثار وضعية، حسب اصطلاح العلماء، فهناك آثار سلبية للذنوب تظهر على واقع الإنسان الخارجي، ولها موضوعية في الانعكاسات السيئة على حياته، وتسبب أضراراً مباشرة أو غير مباشرة على شخصيته الفردية أو الاجتماعية والتي يعبر عنها علماء الأصول ب_ (الآثار الوضعية للأعمال) ومن جملة هذه الآثار:

ضعف الذاكرة

أولاً: المعاصى تكون سبباً لنسيان العلم وضعف الذاكرة. فقد روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (آنها ممحقة للخيرات، أن العبد ليذنب الذنب فينسي به العلم الذي كان قد علمه) (1).

وينقل أن أحد الطلاب اشتكى يوماً ضعف ذاكرته لاستاذه - وكان اسمه وكيع - وطلب منه أن يرشده إلى دواء يعالج به مرضه هذا، فنصحه الأستاذ بترك المعاصي، وقد نظم هذه الحكمة في الأبيات التالية:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي***فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم فضل***وفضل اللّه لا يؤتاه عاصي (2)

زوال النعم

ثانياً: الذنوب تزيل النعم، فإن المعاصي من أهم الأسباب لحرمان الإنسان من نعم

ص: 169


1- بحار الأنوار: ج 70، ص 377، ح 14، ط بیروت.
2- منية المرى: ص 101.

اللّه سبحانه وسلبها عنه، وقد نقل عن الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه سمع أباه يقول: (إن اللّه قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يُحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة) (1). وأيضاً ورد عنه : (إن الذنب يحرم العبد الرزق) (2).

سلب الخشوع

ثالثاً: سلب الخشوع، وهذا أمر نراه في الواقع المعاصر، فإن الكثير من الناس يصابون بهذه الحالة، فتراهم يشكون من عدم الخشوع وقساوة القلب وجمود العين وعند المراجعة والتأمل والتأني نرى السبب في ذلك هو ارتكاب المعاصي سواء عن عمد أو غفلة، وقد ورد أن رجلاً جاء إلى الإمام أمير المؤمنين و(عَلَيهِ السَّلَامُ) قال له: (إني قد حرمت صلاة الليل، فقال له الإمام أنت رجل قد قيدتك ذنوبك) (3).

وفي الحديث القدسي حول العالم المفتون بالدنيا، قال اللّه تعالى: (إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم) (4).

عدم استجابة الدعاء

رابعاً: الذنوب تمنع استجابة الدعاء، وقد ذكر العلماء أن من أهم شروط استجابة الدعاء بعد اخلاص النية هو ترك الذنوب، وقد استدلوا على ذلك بروايات رويت عن ائمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) منها :

ما ورد عن الإمام محمد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إن العبد يسأل اللّه الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطئ، فيذنب العبد ذنباً، فيقول اللّه تعالى للملك لاتقض حاجته واحرمه اياها فإنه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان مني) (5).

ص: 170


1- أصول الكافي ج 2، ص 273، باب الذنوب، ح 22.
2- أصول الكافي ج 2، ص 271، باب الذنوب، ح 11.
3- وسائل الشيعة ج 5، ص 279، باب 40، ح 5.
4- بحار الأنوار: ج 2، ص 107، ح 8 کتاب العلم، ط طهران.
5- أصول الكافي ج 2، ص 271، باب الذنوب، ح 14.

وقد أشار مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الآثار السلبية للذنوب وأكد على الإنسان أن يطلب من اللّه سبحانه محوها، وذلك في دعائه المعروف بدعاء كميل بن زياد، حيث ورد في بعض فقرات هذا الدعاء الشريف:

(اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء) (1).

فما أحوجنا إلى ترك الذنوب صغيرها وكبيرها.

فيجب على الإنسان أن لا يستحقر ولا يستخف بالصغائر من الذنوب، فإن الإستخفاف بالذنب هو ذنب آخر ومعصية أخرى، وقد ذكر العلماء أن الإصرار على الصغائر يعد من كبائر الذنوب، قال الشاعر:

خل الذنوب صغيرها***وكبيرها فهو التق

واصنع كاش فوق أرض***الشوك يحذر مايري

لا تحقرن صغيرة وإن صغرت***ان الجبال من الحصى

نزول البلاء

خامساً: نزول البلاء، فقد قال اللّه تعالى في الكتاب الكريم:

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (2).

وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (توقوا الذنوب فما من بلية ولا نقص رزق إلا بذنب، حتى الخدش والكبوة والمصيبة، قال اللّه عز وجل :

(مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (3)) (4).

وقال مولانا علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم

ص: 171


1- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
2- سورة النور: 63.
3- الشوری: 30.
4- البحار : ج 73، ص 350، باب 137، ح47، ط طهران.

يكونوا يعملون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) (1).

ويقول عز وجل في الحديث القدسي: إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني) (2).

فقد اتضح لنا من خلال هذه الأحاديث الشريفة والروايات المباركة أن اقتراف الذنوب بحد ذاتها تهدد حياة الإنسان بكل جوانبها.

و من هنا كان الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) دائماً يحثون المؤمنين بأساليبهم التربوية الخاصة على ضرورة تربية الذات ومحاربة النفس الأمارة بالسوء والاستغفار من الذنوب، ومن أهم وسائل التربية والخلاص من الذنوب هو الدعاء والمناجاة مع اللّه سبحانه وتعالى الواردة عنهم (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) كما ورد في الأدلة.

وأيضاً من وسائل الخلاص من الذنوب هو أن يتذكر الإنسان ما ورد في الكتاب والسنة من الذم للمذنبين والعاصين.

وأيضاً يتذكر قبح الذنوب وشدة العقوبة عليها، وأن يعلم أن أكثر ما يصيب العبد في الدنيا من الآلام والمصائب هو بسبب معاصيه كما دلت عليه الأخبار الكثيرة.

ويتذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة والقتل والكذب والحسد والغيبة وأكل مال الغير بالحرام، وغير ذلك من المعاصي وما يترتب عليها من موبقات.

وأيضاً عليه أن يتذكر ضعف نفسه وعجزها عن احتمال عذاب الآخرة وعقوبة الدنيا، فإن الإنسان في أغلب الأحيان يرى الآثار السلبية للمعاصي والعقوبة لها في هذه الدنيا قبل الآخرة. فعليه أن يجعل كل ذلك بعين الاعتبار، ويتذكر خساسة الدنيا وشرف الآخرة، وقرب الموت وفجأته، ولذة المناجاة مع رب العالمين ولذة ترك الذنوب امتثالاً لأمر اللّه تعالى، فإن من يتأمل في كل ذلك تنبعث في نفسه لهفة واشتياق

إلى التوبة والإخلاص.

ص: 172


1- أصول الكافي ج 2، ص 275، باب الذنوب، ح29.
2- أصول الكافي ج 2، ص 276، باب الذنوب، ح 30.

فيشتمل هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اليوم الخامس من شهر رمضان بعد مرحلة الاستغفار وطلب التوبة من اللّه تعالى على طلب أن يكون الإنسان من عباد اللّه الصالحين، حيث يقول: (واجعلني من عبادك الصالحين).

فإن قلب الإنسان بعد التوبة يصفو وينقى وتزول عنه تلك الحجب والحواجز التي طغت عليه وكدرته بسبب ما اقترفه من الذنوب، فحينئذ يكون مستعداً لأن يدخل جماعة عباد اللّه الصالحين الذين اقتربوا من كل خير و احسان وفضيلة، وابتعدوا من كل سوء وشر ورذيلة، وصاروا يفعلون الخير ويجتنبون السيئات أولئك الذين صلحت سريرتهم وعلانيتهم وصار القلب والقالب واحداً كل يعبر عن الآخر.

ولذة الإيمان والطاعة لذة لا يدركها أحد إلا عباد اللّه الصالحن والذين تركوا الشهوات والملذات السطحية الدنيوية ورائهم وتوجهوا بصدق واخلاص إلى اللّه تعالى. وهذا بشر الحافي يحدثنا التاريخ عنه.

كان الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مارًّ في طرقات بغداد، وإذا بأصوات الغناء والصخب والملاهي تعلو من إحدى الدور وكانت الدار لبشر الذي عرف في بداية أمره كما ينقل الرواة بتعاطي الخمر وقضاء لياليه وأيامه في المجون والدعارة.

فبينما الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يجتاز الدار وإذا بجارية قد خرجت وبيدها قمامة فرمت بها في جانب من الطريق، فالتفت الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليها قائلاً: يا جارية، صاحب هذه الدار حرّ أم عبد؟ فقالت حر.

فقال لها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ): صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه ثم دخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك ؟

فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأثرت كلمة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قلبه وهزته من أعماقه، فخرج بشر مسرعاً حتى لحق بالإمام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى. نعم لقد تحولت حياة بشر رأساً على عقب فصار يهذب نفسه ويطهرها، واتصل باللّه من معرفة وإيمان حتى فاق كثيراً من أهل عصره في الورع والزهد (1)

ص: 173


1- حياة الإمام موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): ج 1، ص 158.

فهذه هي التوبة الصحيحة والتي بسببها ينتقل الإنسان من حالة الاسفاف والانحطاط الخلقي إلى درجة الصالحين والمقتين، حيث عرف عن بشر في أخريات حياته بأنه صار من أكبر الزهاد والعباد.

وهكذا الإنسان المؤمن الصالح كلما ذاب أكثر في حقيقة الإيمان والطاعة والعبادة والارتباط باللّه تعالى نراه يرتفع أكثر فأكثر حتى يصبح من أولياء اللّه المقربين، وهذه صفة لا يمكن أن يتصف بها كل إنسان، ولا يمكن أن يصل إليها كل من ادعى الإيمان. بل هي للذين يحبونه بصدق وإخلاص، والذين عرفوه حق المعرفة، ولا يعبدونه خوفاً من ناره أو شوقاً إلى جنته. بل يعبدونه كما قال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) (1).

يروى أن نبي اللّه عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) مر بثلاثة أشخاص قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟

فقالوا: الخوف من النار.

فقال: حق على اللّه أن يؤمن الخائف.

ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد تحولاً وتغيراً.

فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟

فقالوا: الشوق إلى الجنة.

فقال: حق على اللّه أن يعطيكم ما ترجون.

ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد تحولاً وتغيراً كأن على وجوههم المرايا من النور.

فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى؟

فقالوا: نحب اللّه عز وجل.

ص: 174


1- قصص الأنبياء للجزائري ص 211 الباب الحادي عشر، وشبهه في غوالي اللئالي ج 1، ص 404، والغوالي ج 2، ص 11.

فقال: أنتم المقربون، أنتم المقربون (1).

ولا يخفى أن اللّه سبحانه وتعالى ليس بحاجة لنا ولا لعبادتنا بل نحن كلنا حاجة إليه وعين الفقر إلى رحمته، وهو الغني الحميد، ولكن مع كل ذلك فاللّه يحب عباده ويرغبهم ويشوقهم إليه ويقربهم منه رحمة بهم.

فإنه ورد أن اللّه سبحانه کان فيما ناجی به موسى على الطور: (أن يا موسى أبلغ قومك أنه ما يتقرب إليّ المتقربون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبد لي المتعبدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزين لي المتزينون بمثل الزهد في الدنيا عما بهم الغنى عنه. فقال: يا موسى أما المقربون إلي بالبكاء من خشيتي، فهم في الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد) (2).

وما أعظمها وأفخرها من منزلة ومقام يكتسبها أولئك المقربون الذين عرفوا اللّه حق معرفته فأطاعوه وعبدوه وأصدقوه وأخلصوا له إخلاص الموقنين به سبحانه وتعالى، وعلى رأسهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

نعم من المستحب في اليوم الخامس من شهر رمضان المبارك قراءة هذا الدعاء المأثور عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (اللّهمّ اجعلني فيه من المستغفرين) ومن الراجين لمغفرتك وعفوك في هذا الشهر المبارك.

(واجعلني فيه من عبادك الصالحين القانتين) الذين عفوا أنفسهم عن ارتكاب المعاصي والمساوئ وتحلوا بالصفات الخيرة والأخلاق الحسنة، فالإنسان حين يتخلى عن الذنوب ويتوب إلى اللّه سبحانه فإنه ينتقل ويرتفع إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة (العبودية) فيمكنه أن يدخل في زمرة العباد الصالحين القانتين والخاضعين اللّه سبحانه وتعالى.

(واجعلني فيه من أوليائك المقربين برأفتك يا أرحم الراحمين) ولا يكتفي العبد بأن يكون (عبداً صالحاً) فقط، بل يطمع في أكثر من ذلك وهو: أن يرتقي إلى درجة

ص: 175


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 1، ص 224.
2- بحار الأنوار: ج 70، ص 313 باب 58 الزهد و درجاته، ح7، ط طهران.

أولياء اللّه المقربين، وهذه الدرجة لا تختص بالعلماء وطلبة العلم - مثلاً - بل كل إنسان ولو كان كاسباً متواضعاً يمكنه أن يكون من أولياء اللّه المقربين..

فقد ذكروا أن عالماً كان يسير في إحدى الطرقات وخلفه حمّال يحمل له أشياء قد اشتراها من السوق، وبينما هم يسيرون وإذا بطفل صغير أوشك أن يسقط من سطح أحد البيوت، فجلب هذا الحادث انتباههما، وبينما كان الطفل يسقط التفت العالم إلى هذا الحمّال ورآه يتمتم ببعض الكلمات، وعندما وقع الطفل على الأرض أخذه أهله وهم يبكون ويصرخون في حالة من الخوف والاضطراب، وإذا به سالماً صحيحاً لم يصبه أي أذى.

فهنا توجه العالم إلى الحمّال وقال له: كيف فعلت ذلك، وماذا عملت بحيث وصلت إلى هذه المنزلة والدرجة العظيمة عند اللّه سبحانه، حتى تمكنت أن تنقذ هذا الطفل من الموت ؟

فقال الرجل: إن اللّه تعالى وعد عباده بأن يجيب دعوتهم إن أطاعوه بأداء الواجبات وترك المحرمات، وأنا فعلت ذلك، وكنت عبداً مطيعاً لله، ولذلك استجاب اللّه دعائي. فإن اللّه تعالى يقول: (عبدي أطعني تكن مثلي أو مثلي، أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون) (1)

وفي آخر هذا الدعاء، نقول: (برأفتك يا أرحم الراحمين).

و (الرأفة) في اللغة بمعنى: شدة الرحمة، قال في لسان العرب، (الرأفة: الرحمة، وقيل أشد.الرحمة والرأفة أخص من الرحمة وأرق) (2).

ومن أسماء اللّه تبارك وتعالى: (الرؤوف) كما ورد في مختلف الأدعية. هذا ومن آداب الدعاء أن يخاطب العبد ربه بهذه الصفات: (الرأفة والرحمة) ثم يسأله تعالى أن يقضي حوائجه بفضله ورحمته.. كما نقول: (اللّهمّ عاملني بفضلك ولا

ص: 176


1- راجع عدة الداعي ص 310، وفيه: (يابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون).
2- لسان العرب: مادة (رأف).

تعاملني بعدلك).

فإن جميع طاعات الإنسان - بعد الدقة والإمعان - لا تعدّد شكراً حتى لنعمة واحدة من نعم اللّه سبحانه، فكيف بجميعها، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) (1).

فمن الضروري أن يخاطب المؤمن ربه بهذه الكلمات ويقول: (برأفتك يا أرحم الراحمين) نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من المستغفرين ومن عباده الصالحين القانتين ومن أوليائه المقربين برأفته ورحمته.. إنه سميع الدعاء.

ص: 177


1- سورة إبراهيم: 34، وسورة النحل: 18.

ص: 178

بين الخوف والرجاء

دعاء اليوم السادس

6

اللّهمّ لا تَحْذُلْنِي فِيهِ لِتَعَرُّضِ مَعْصِيَتِكَ، وَلا تَضْرِينِي بِسِياطِ نِقْمَتِكَ، وَزَحْزِحْنِي فيه من موجِباتِ سَخَطِكَ بِمَتِّكَ وَأَيَادِيكَ يا مُنتَهى رَغْبَةِ الرّاغِبِينَ.

البلد الأمين: ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطاه اللّه تعالى أربعين ألف مدينة في كل مدينة ألف ألف بيت، وفي كل بيت ألف سریر، طول كل سرير ألف ذراع، على كل سرير حورية، لها ألف ذؤابة، يحمل كل ذؤابة سبعون خادماً).

ص: 179

ص: 180

الورع عن المحارم

يقول علماء الأخلاق الحرام بمنزلة العقرب يلدغ الإنسان ويفسد دنياه وأخراه، وإن كان - الحرام - مذاقه حلواً ومنظره بهيجاً، لكنه كالحية.. لين مسها، قاتل سمها، وهذا ما يعرفه المتعمقون، أما الذي لا ينظر إلا سطحياً فقد يتصور خلاف ذلك.

ولذا يحذر الإسلام عن الحرام وارتكابه، ويمدح التورع عن المحرمات (1).

كما روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (خير دينكم الورع) (2).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من لقي اللّه سبحانه ورعاً أعطاه اللّه ثواب الإسلام كله)(3).

وروي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إن أشد العبادة الورع) (4).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (ماشيعتنا إلا من اتقى اللّه وأطاعه...فاتقوا اللّه واعملوا لما عند اللّه، ليس بين اللّه وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى اللّه عز وجل وأكرمه عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته) (5).

ثم إن الترغيب والترهيب هما في الواقع دعامتان أساسيتان يقوم عليهما بناء دين الإنسان، فالمسلم المؤمن دائم الرغبة فيما عند اللّه تعالى من خير وعون ونعمة، ولكنه دائم السعي لإعداد نفسه إعداداً إيمانياً وسلوكياً لتوفير الأهلية اللازمة للفيوضات الإلهية والآلاء الربانية، ومن أهم لوازم ذلك الإعداد أن يخاف اللّه تعالى في كل لحظة

ص: 181


1- الفضيلة الإسلامية: ج 2، ص 203.
2- مكارم الأخلاق ص 468.
3- جامع السعادات: ج 2، ص 176.
4- الكافي: ج 2، ص 77 كتاب الايمان والكفر، باب الورع، ح 5.
5- الكافي: ج 2، ص 74 كتاب الإيمان والكفر، باب الورع، ح3.

ويتقي غضبه وسخطه و انتقامه ولا يأمن مكره وبأسه. فهو لا يتمنى على اللّه الأماني من غير سعي دائم وكد متواصل.

يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) (1).

و هذا حال المؤمنين فإنهم مشتغلون بذكر اللّه وعبادته في الليالي ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم وواجباتهم من أمور المعاش والمعاد ومع كل ذلك فإن قلوبهم أيضاً مملوءة بالخوف من التقصير في أداء المسؤوليات، فعندما يدعو العبد قائلاً: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك) يتوجه إلى اللّه ويسأله سبحانه.. لأنه يدرك بطريقة شعورية أو لا شعورية هذه الحقيقة الكبرى المعبرة عن نسبة وجوده إلى وجود خالقه تعالى، ويعلم بأنه عين الفقر إلى اللّه، ويحس في أعماقه أنه يعيش قصوراً مستمراً أمام اللّه، يحتاج إلى من يدفع عنه هذا القصور أو التقصير، ويفيض عليه هذا الكمال الذي يتحقق بعدم خذلانه، فإنه إذا وقع في معصية اللّه تعالى يصاب بالخذلان الأكبر، لذا هو يعيش بتطلع مستمر إلى حالات أرقى من أوضاعه التي يعايشها، ومن هنا يكون دعاؤه ورجاؤه من اللّه سبحانه أن لا يخذله في المعصية، وهذا الخوف من خذلانه في المعصية طريق للوصول إلى ما يكون أفضل مما هو فيه.

فيكون خوفه هذا حبلاً ممدوداً بين الحاضر والمستقبل، وحافراً نفسياً يحث على الاستمرار في الاتجاه نحو الهدف والغاية الأرقى في الحياة، وهو الوصول إلى رضوان اللّه تعالى، كما في القرآن الكريم: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (2).

ومع أن الدعاء هو توقع حصول خير من اللّه وتحصيل مكسب إنساني معقول ومحبب لدى النفس، فإن هذا التوقع والانتظار لا يسمى دعاء كاملاً وجامعاً لشرائطه إلا بعد أن يوفر الداعي كل الأسباب والمقدمات الضرورية لايجاد الشيء المرجو والداخلة تحت قدرة الإنسان واستطاعته، وبدون ذلك لا يكون انتظار الإنسان للخير

ص: 182


1- سورة الفرقان: 65، 66.
2- سورة التوبة: 72.

والمكاسب وعدم الخذلان إلا أماني خاسرة وأحلاماً خيالية عائمة في الغالب.

فلذلك يقول تبارك وتعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (1).

وواضح أن المراد بلقاء اللّه لقاء رحمته، وقد يكون من معانيه الوعي بذاته والتبصر به ومعرفة عظمته، وهو أمر ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين وبالمقدار الذي يستوعبونه من معرفة اللّه، إلا أن هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيره والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى، لذا فإن القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة، ومن جانب آخر فإن الإنسان الذي ينتظر أمراً معيناً ويأمل شيئاً ما، فمن الطبيعي أن يهيأ نفسه ويعدها لاستقبال ذلك الأمر، أما الشخص الذي يدعو باللسان فقط ولا يستعد وينتظر ولا يعمل فهو في الواقع يدعو ولا يكون صادقاً في دعائه (2).

فمن الضروري على الإنسان أن يهيأ نفسه للطاعة ويجنب نفسه ويجنب نفسه عن العصيان والإسلام قد حذر من المعصية غاية الحذر في نتف متفرقة من الأدلة، وبين لكل عصيان عقاباً، كما يظهر من الآيات والأحاديث (3).

روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (ان العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وانه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن) (4).

فقد وروي عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (لا تبيدن عن واضحة وقد عمتك الأعمال الفاضحة، ولا تأمنن البيات وقد عملت السيئات) (5).

وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إن اللّه قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة

ص: 183


1- سورة الكهف: 110.
2- راجع تفسير الأمثل: ج 9، ص 350.
3- راجع الفضيلة الإسلامية: ج 4، ص 399، ط 3.
4- جامع السعادات: ج 3، ص 47.
5- جامع السعادات: ج 3، ص 47.

فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة) (1).

وقد جاء في الشعر المنسوب للإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ):

إذا كنت في نعمة فأرعها***فإن المعاصي تزيل النعم

وحافظ عليها بتقوى الإله***فإن الإله سريع النقم

ثم إن الخطيئة قد تكون عملاً عابراً، وقد تكون عن ملكة قلبية باعثة على الذنب، فإذا صارت الخطيئة حالة للقلب انقلب القلب عن صفائه ونظافته إلى كدرة نجسة ويكون حينذاك مبعث كل شر وإثم (2).

وروي عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (إذا طاب قلب المرء طاب جسده وإذا خبث القلب خبث الجسد) (3).

ينقل عن أحد المرافقين للسيد البروجردي (رحمه اللّه) إنه كان يحتاط في مأكله وملبسه ومشربه ومسكنه احتياطاً كبيراً.. فكان يعيش في غاية الزهد، رغم الحقوق الشرعية الكثيرة التي كانت تنهال عليه فلم يكن يتصرف فيها لنفسه، وكان له وارد من بعض أملاكه الخاصة يصرفه على شؤونه المنزلية، وذات مرة مرض السيد، فقال الأطباء بأن سببه الضعف، وأن اللازم أن يأكل اللحم، فصنع له خادمه لحماً مقلياً، ولما أن قدم له الطعام ورأى السيد اللحم المقلي، توجه إلى خادمه وقال له: من أين هذا؟ ان واردنا لا يكفي لاضافة اللحم المقلي في الغذاء..

قال الخادم: هكذا وصف الأطباء لأجل ضعفكم.

قال السيد: لا أحمل اللحم المقلي إلى الفقراء وإذا لم تحمل اللحم المقلي فإني لا آكل هذا الطعام.

وهكذا اقتنع السيد بطعامه العادي حيث رأى أن وارده من ملكه الذي خصصه لنفسه والذي ورثه من آبائه لا يفي بالمزيد.

ص: 184


1- جامع السعادات: ج 3، ص 47.
2- الفضيلة الإسلامية: ج 4، ص 400.
3- اخلاق الرسول ص 219.

فترى كيف أن الإيمان باللّه سبحانه وتعالى يمنع الإنسان عن التصرف، لا التصرف السيئ فقط بل حتى عن التصرف المتعارف ويجعل من الإنسان زاهداً متواضعاً.

ولنعم ما قال الشاعر في هذا المعنى:

لا تهملوا في الصالحات فانكم***لاتجهلون عواقب الإهمال

أن أرى فقرائكم في حاجة***لو تعلمون لقائل فعال

فتسابقوا الخيرات فهي أمامكم***میدان سبق للجواد المنال

والمحسنون لهم على إحسانهم***يوم الإثابة عشرة الأمثال ولكن إذا أصبح العكس وآثر العبد معصية اللّه على طاعته فسوف يحرمه اللّه تعالى من كل خير.

الطاعة مفتاح الرحمة

عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (يقول اللّه تعالى: إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إن العبد ليذنب الذنب فيزوي عنه الرزق)(2).

ثم إن المعصية لا بد لها في الدنيا من جزاء فكيف بالآخرة، ولذا يجب على الإنسان العاقل أن يتجنب العصيان مهما كلف الأمر، انظر إلى هذا الحديث المروي عن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (حق على اللّه أن لا يعصى في دار إلا أضحاها للشمس حتى يطهرها) (3).

ويذكر في أحوال أحد كبار العلماء، وهو السيد محمد باقر الميرداماد:

أن فتاة دخلت غرفته ذات ليلة وفي وقت متأخر وذلك لأمر ألم بها، ولما وسوس إليه الشيطان أحرق رؤوس أصابعه على المصباح حتى يذوق الألم ويفكر في نار

ص: 185


1- جامع السعادات: ج 3، ص 47.
2- جامع السعادات: ج 3، ص 47.
3- جامع السعادات: ج 3، ص 48.

جهنم فلا يقترب من العصيان...

وعندما عرف الملك الصفوي بالقصة وبمدى تقوى السيد زوجه بنته وكانت نفس تلك الفتاة، بعد ذلك علت رتبته عند الناس، هذا بالإضافة إلى مقامه عند اللّه عز وجل...

وهكذا تكون العاقبة المحمودة لمن (خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (1) فأي حاجز غير الخوف من اللّه سبحانه عصمه عن اقتراف المعصية وهو في ريعان شبابه والفتاة وحدها في الغرفة، ولا يعلم بهما إلا اللّه سبحانه وتعالى.

إذاً فبعد أن يوفر الإنسان كل الأسباب والمقدمات التي يتوقف عليها حصول النتائج، عندئذ يصح له أن يكون راجياً ومعتمداً على الثقة باللّه وحسن الظن به كما قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إعقل راحلتك وتوكل) (2).

فلابد في الرجاء من توفر الأسباب إلى المرجو وإلا فهو سلوك لغير الطريق وتراكم أماني خاسرة يهرب إليها الإنسان الإتكالي بلا نتيجة.

وقد ورد في الحديث الشريف: إن رجلاً سأل الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: إن قوماً من مواليك يلمون بالمعاصي ويقولون نرجو، فقال : (كذبوا ليسوا لنا بموالي، أولئك قوم ترجحت بهم الأماني، من رجا شيئاً عمل له و من خاف شيئاً هرب منه) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو) (4).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إياكم والغفلة فإنه من غفل فإنما يغفل عن نفسه، وإياكم والتهاون بأمر اللّه عز وجل فإنه من تهاون بأمر اللّه أهانه اللّه يوم القيامة) (5).

ص: 186


1- سورة النازعات: 40.
2- بحار الأنوار: ج 100، ص 5، ب 1، ح 18، ط بیروت.
3- المحجة البيضاء: ج 7، ص 251.
4- المحجة البيضاء: ج 7، ص 251.
5- بحار الأنوار: ج 69، ص 227، كتاب الإيمان والكفر، باب 112، ح 3، ط بیروت.

فاللازم أن يعمل الإنسان بطاعة اللّه ويجتنب المعاصي ويكون راجياً، أما الرجاء لوحده فغير كاف.

روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيت أم سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي، وهو يقول: (اللّهمّ لا تنزع مني صالح ما أعطيتني أبداً، اللّهمّ لا تشمت بي عدواً ولا حاسداً، اللّهمّ ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللّهمّ ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً).

قال: فانصرفت أم سلمة تبكي، حتى انصرف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لبكائها، فقال لها: ما يبكيك يا أم سلمة؟

فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، ولم لا أبكي، وأنت بالمكان الذي أنت به من وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، تسأله أن لا يشمت بك عدواً أبداً وأن لا يردك في سوء استنقذك منه أبداً و أن لا ينزع منك صالحاً ما أعطاك أبداً وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً..

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): يا أم سلمة وما يؤمنني؟ وإنما وكل اللّه يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان ما كان) (1).

إذاً فالذي يرجو الخير والعون من اللّه سواء في أعماله الدنيوية المتعددة المحسوسة أو في غاياته الأخروية المنتظرة لابد له من أن يعمل من أجلها ويجد في تحصيلها، وأن لا يتمنى على اللّه الأماني وهو مستلق على ظهره فاغراً فاه، كأن العالم طوع ارادته، والأسباب تتحرك وفق مشيئته الراكدة.

فلذلك حذرت الأحاديث الشريفة المروية عن المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) من التمادي والاغترار بالأماني.

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل)(2).

ص: 187


1- البحار ج 16، باب مكارم الأخلاق، 218.
2- المصدر نفسه.

وقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): إياك وطول الأمل، فكم من مغرور افتتن بطول أمله) (1).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): الأماني شيمة الحمقى) (2).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الأماني همة الرجال الجهال) (3).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أشرف الغنى ترك المنى) (4).

وقال : (كذب من ادعى الإيمان وهو مشغوف من الدنيا بخدع الأماني وزور الملاهي) (5).

ولنعم ماقال أحد الأدباء في هذا المعنى:

تنام وقد أعد لك السهاد***وتوقن بالرحيل وليس زاد

وتصبح مثلما تمسى مضيعاً***كأنك لست تدري ما المراد

أتطمع أن تفوز غداً هنيئاً***ولم يكن منك في الدنيا اجتهاد

إذا أفرطت في تقديم زرع***فكيف يكون من عدم حصاد

بين الخوف والرجاء

حينما وضع الإسلام أحكامه وثبت معاييره وقواعده الأخلاقية والسلوكية لتنظيم الإنسان وتوجيه سلوكه وعلاقاته الإنسانية المختلفة، كان ينطلق في تقويمه وحالات تعامله مع الإنسان في نظرته إليه كوحدة سلوكية مترابطة.. سواء من حيث الدفع والاتجاه الحركي الباطني للذات، أو من حيث الأداء السلوكي الخارجي الذي يجسد أهداف الذات وغاياتها ويعكس ماهية الدوافع والقوى المؤثرة في اتجاهها الخارجي.

وبذلك نسق بين الباعث - القوة النفسية المحركة نحو الأفضل - والغاية من جهة، وبين الأداء والفعل الخارجي من جهة أخرى.. فربط بين الذات الإنسانية وبين امتدادها

ص: 188


1- غرر الحكم و درر الكلم: ص 312، الفصل السابع الأماني، الحديث 7253.
2- غرر الحكم و درر الكلم ص 311، الحدیث 7198.
3- غرر الحكم ودرر الكلم ص 311، الحدیث 7201.
4- غرر الحكم و درر الكلم: ص 312، الحدیث 7212.
5- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 312، الفصل السابع الأماني، الحديث 7223.

السلوكي في الخارج..

ونظراً لأهمية الباعث والمحرك النفسي وقدرته على الشخصية والسلوك، بدأ الإسلام بالتعامل مع القوى والدوافع النفسية الداخلية المحركة للسلوك والمحفزة للإنسان في تعامله ونشاطه، فرد أنواع السلوك التي يتعامل بها الإنسان إلى محركين أساسين هما: الخوف والرجاء.

لذا فقد نظم أنماط السلوك الإنساني جميعها على أساس من هذين الدافعين: الخوف والرجاء) وذلك لأن الخوف والرجاء حالتان نفسيتان تعرضان للإنسان - عادة قبل أن يقدم على أي فعل من الأفعال، لأنه لابد للإنسان من أن يتصور الفعل ولابد من أن تحصل له القناعة الكافية به قبل أن يقدم عليه أو يتحرك نحوه.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة جاء وصف القرآن الكريم للخوف والرجاء، وجاءت دعوته للإنسان ليرجو الخير كله من ربه ويخاف الخوف كله من معصية خالقه، فيرتبط باللّه سبحانه و تعالی ارتباطاً نفسياً وسلوكياً.

بهذا الوعي يقول تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (1).

وجاء في مجمع البيان في تفسير الآية الشريفة:

(معناه اولئك الذين يدعون إلى اللّه تعالى ويطلبون القربة إليه بفعل الطاعات (أيهم أقرب) أي ليظهر اليهم الأفضل والأقرب منزلة منه، وتأويله أن الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) مع علو رتبهم وشرف منزلتهم إذا لم يعبدوا غير اللّه فأنتم أولى أن لا تعبدوا غير اللّه، وإنما ذكر ذلك حثاً على الإقتداء بهم، وقيل: إن معناه اولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم ويعتقدون أنهم آلهة من المسيح والملائكة يبتغون الوسيلة والقربة إلى اللّه تعالى بعبادتهم ويجتهد كل منهم ليكون أقرب من رحمته أو يطلب كل منهم أن يعلم أيهم أقرب إلى رحمته أو إلى الإجابة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) أي وهم مع ذلك

ص: 189


1- سورة الإسراء: 57.

يستغفرون لأنفسهم فيرجون رحمته إن أطاعوا، ويخافون عذابه إن عصوا، ويعملون عمل العبيد (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) أي متقي يجب أن يحذر منه لصعوبته)(1).

وقال تعالى أيضاً في باب الخوف والرجاء: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (2).

وقالوا في تفسيرها: (قل) يا محمد (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قال ابن عباس: علم اللّه نبيه التواضع لئلا يزهو على خلقه فأمره أن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره، إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لاشريك له، أي لا فضل لي عليكم إلا بالوحي والنبوة، ولا علم لي إلا ما علمنيه اللّه تعالى (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ) أي فمن كان يطمع في لقاء ثواب ربه ويأمله ويقر بالبعث إليه والوقوف بين يديه، وقيل معناه: فمن كان يخشى لقاء عقاب ربه، وقيل: إن الرجاء يشتمل على كلا المعنيين الخوف والأمل، وانشد في ذلك الشاعر:

فلا كل ما ترجو من الخير***ولا كل ما ترجو من الشر

(فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) أي خالصاً للّه تعالى يتقرب به إليه (3).

وعلى هذا النسق جرت السنة الشريفة وتواردت الأحاديث والروايات، فمنها: قول الإمام الصادق الذي جاء وصفاً دقيقاً لدافع الخوف والرجاء في النفس الإنسانية وهو: (لايكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو) (4).

ونرى في قول الإمام محمد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يتطابق مع هذا المعنى وما يدل على دقة التعبير وعمق التشخيص، وبصيغة ترسم لنا معادلة الحركة النفسية القائمة على أساس

ص: 190


1- مجمع البيان: ج6، ص 422.
2- سورة الكهف: 110.
3- مجمع البيان: ج 6، ص 499.
4- جامع السعادات: ج 1، ص 254.

شعور متوازن من الخوف والرجاء، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران، نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، وقد جمع اللّه سبحانه بينهما في وصف من أثنى عليهم، فقال: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً يدعوننا رغباً ورهباً) (1).

هذا وقد جاءت في القرآن الكريم آيات تدل على أن الباري تعالى أراد أن يخيف بها عباده وذلك لكي يتقربوا إليه بترك المعاصي وفعل الطاعات ويكونوا على خوف دائم منه، ليكون هذا الخوف نجاة ورحمة منه تعالى، فقد قال سبحانه (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (2).

وروي عن الحارث بن المغيرة قال: قلت للصادق : ماكان في وصية لقمان؟ قال: (كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف اللّه عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك وارج اللّه رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): كان أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا) (3).

وعندما نمعن النظر في هذا الدعاء الشريف الوارد في شهر رمضان، القائل: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك) نجد بأنه ينبثق مفهوم الخوف والرجاء في نفس الإنسان الداعي من منطلق عقائدي راسخ، وهو منطلق الإيمان باللّه، الإيمان الذي يقوم على أساس الفهم والاستيعاب الواعي لعقيدة التوحيد، ويستند إلى سلامة الرابطة بين العبد والمعبود وحسن العلاقة باللّه سبحانه..

فالإطاعة جمال واستراحة ونجاح والعصيان تنكب وانحراف وفشل.. فإن اللّه سبحانه الذي خلق الإنسان والكون هو الذي وضع الدستور والمنهاج على طبق الفطرة وعلى وفق الحكمة والمصلحة، فكل زيغ عن منهاجه سبحانه خبال وخسارة، خسارة في الدنيا وفي الدين (4).

ص: 191


1- جامع السعادات: ج 1، ص 254.
2- سورة الزمر: 16.
3- جامع السعادات: ج 1، ص 255.
4- الفضيلة الإسلامية: ج 4، ص 398.

فعندما يقول العبد في دعائه: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك) يتوسل إلى اللّه ليأخذ بيده نحو الطاعات، باعتبار إن الإنسان مهما كان مؤمناً ومواظباً على فعل الخيرات، لابد وأن يوسوس له الشيطان، وقد تصدر منه المعصية، ما خلا المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبعض من يتلو تلوهم، لأن الدواعي للشهوات والنوازع النفسية والمغريات الحسية كل هذه تكون سبباً لجذب الإنسان نحو المعصية مهما كان قوياً، لذلك نجد الشاعر يمثل لنا هذا المعنى بقوله:

نفسي وشيطاني ودنيا والهوى***كيف الخلاص وكلهم أعدائي

ولعل ما يزيد الأمر إعضالاً أن النفس الإنسانية غالباً ما تحدث صاحبها بدوام الحالة الإيجابية للحياة من يسر وجاه وسلطة، فيعتقد أنه يملكها إلى الأبد وتنسيه العواقب، والحال أن الأمر إلى تغير وزوال كما يقول الشاعر:

ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل***وکل نعيم لا محالة زائل

وفي قصة هي عبرة في هذا المجال أنه وفد أبو نؤاس على ابن الخصيب وهو عامل بمصر وكان جواداً يحب المدحة، فمدحه بقوله:

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا***فأي فتى بعد الخصيب تزور

فتى يشترى حسن الثناء بماله***ويعلم أن الدائرات تدور

فأكرمه بعطية كثيرة وعاد أبو نؤاس إلى العراق ببغداد.. فبينما أبو نؤاس جالس مع جماعة من ندمائه وهم في فرح وسرور، إذ أقبل رجل رث الثياب يسأل من يدلني على أبي نؤاس.

فقال: نعم أنا.

قال: أبيات من الشعر قلتها عن الخصيب أحب اعادتها.. فأعادها عليه.

قال: صدقت...(ويعلم أن الدائرات تدور) وبكى.. وإذا هو الخصيب، ضربه الدهر وعزل وأخذت أمواله (1).

ص: 192


1- حقيبة الخطيب: 103.

حذار من الدنيا

وكم ملك متوج بالذهب ومحلى بالديباج ومسوّد بالخدم انتهى إلى طرق الأبواب و ساوى سوقة الناس.

يذكر أنه لما نزل سعد بن أبي وقاص الحيرة، قيل له: ههنا عجوز من بنات الملوك، يقال لها: الحرقة بنت النعمان بن المنذر، وكانت من أجل عقائل العرب، وكانت إذا خرجت إلى بيتها نشرت عليها ألف قطيفة خز وديباج، ومعها ألف وصيف..

فأرسل إليها سعد.

فجاءت كالشن البالي فقالت ياسعد كنا ملوك هذا المصر قبلك.. يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله مدة من المدد حتى صاح بنا صائح الدهر فشتت ملانا، والدهر ذو نوائب وصروف فلو رأيتنا في أيامنا لأرعدت فرائصك فرقاً منا.

فقال لها سعد: ما أنعم ما تنعمتم به؟

قالت سعة الدنيا علينا وكثرة الأصوات إذا دعونا..

ثم أنشأت تقول:

وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا***إذا نحن فيهم سوقة ليس تنصف

فتباً لدنيا لا يدوم نعيمها***تقلب تارات بنا وتصرف

ثم قالت: يا سعد إنه لم يكن أهل بيت بخير إلا والدهر يعقبهم حسرة حتى يأتي أمر اللّه على الفريقين، فأكرمها سعد وأمر بردها (1).

فإذا كان هذا حال الدنيا وصروفها فحري بالمؤمن أن يحذر فتنتها ويعود إلى خالقه جل وعلا، ويذكره كثيراً ويبتعد عن الانقياد إلى زخارفها الكاذبة.

ص: 193


1- مجاني الأدب: ج 2، ص 30.

ولذا يلزم على اللبيب الفطن مراقبة نفسه لكي لا يتعرض لمعصية خالقه، وبالتالي سوف يقع في الخذلان المبين، فإذا زل عليه أن يتدارك الزلة والمعصية بالتوبة، وقد حثنا القرآن الكريم نحو ذلك بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (1).

والطائف: هو الذي يطوف ويدور حول الشيء، فكأن وساوس الشيطان تدور حول فكر الإنسان وروحه كالطائف حول الشيء ليجد منفذاً إليه، فإذا تذكر الإنسان في مثل هذه الحالة ربه، واستعاذ من وساوس الشيطان ونظر إلى عاقبة أمره، أبعدها عنه، وإلا أذعن إليها وانقاد وراء الشيطان.

وجملة (فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) إشارة إلى حقيقة أن الوساوس الشيطانية تلقي حجاباً على البصيرة الباطنية للإنسان حتى لا يعرف العدو من الصديق ولا الخير من الشر.. إلا أن ذكر اللّه يكشف الحجب ويزيد الإنسان بصيرة وهدى ويمنحه القدرة على معرفة الحقائق والوقائع، هذه المعرفة التي تخلص من مخالب الوساوس الشيطانية (2).

فالإيمان باللّه وطاعته والخوف منه أمان من خذلان المعاصي وملاك لكل خير، فقد روي عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (ما اتقى أحد إلا سهل اللّه مخرجه) (3).

وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (4).

ينقل في أحوال الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) أنه سئل عن أمر، فقال في الجواب: كانت لدي وديعة ولم يكن لي مال وكانت زوجتي في حالة الولادة وهي بأمس الحاجة إلى بعض اللوازم المقوية من الأكل والدواء وما أشبه، فذهبت إلى الوديعة لأستقرض منها شيئاً حتى أصرفه في شؤونها، ثم أؤديها بعد ذلك، لكن فكرت: لعل صاحب الوديعة لا يرضى فرجعت ثم ذهبت مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة

ص: 194


1- سورة الأعراف: 201.
2- راجع تفسير الأمثل: ج 5، ص 313 - 314.
3- غرر الحكم: ج 2، ص 265.
4- سورة الطلاق: 2.

وسابعة، وأخيراً عزمت على عدم التصرف في الوديعة وتوكلت على اللّه واكتفينا ببعض ما في الدار وسهل اللّه فوضعت الزوجة بدون الاحتياج إلى مأكل زائد أو دواء أو ما أشبه.

وهذه القصة هي في الواقع مصداق لقول الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (خير ما استنجحت به الأمور ذكر اللّه سبحانه) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من اتقى اللّه وقاه) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من توكل على اللّه كفاه) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من اعتصم باللّه نجاه) (4).

فإذا أردنا التخلص والنجاح في الصراع المستمر في كيان الإنسان بين عقله ونفسه الأمارة بالسوء ينبغي أن نستعين باللّه سبحانه ونرجوه في أن يسددنا ويعيننا للانتصار على النفس ووساوس الشيطان، ونلتمسه لكي لا يخذلنا خصوصاً في المواقع الصعبة والظروف الحرجة لننهزم ونقع في شراك المعصية، لذلك جاء في الدعاء الشريف الذي هو مدار بحثنا: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك) باعتبار أن الدعاء هو باب من أبواب الإنابة والتوبة وتساعد الإنسان أمام الشيطان، كما في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال: (ذكر اللّه دعامة الإيمان وعصمة من الشيطان) (5).

إذن يلزم على العبد أن يلتجأ إلى اللّه تعالى بذكره ودعائه لكي لا يخذله في التعرض لمعصيته فيقول: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك، ولا تضربني بسياط نقمتك، وزحزحني فيه من موجبات سخطك، بمنك وأياديك يا منتهى رغبة الراغبين).

ص: 195


1- غرر الحكم ج 1، ص 350.
2- غرر الحكم: ج 2، ص 158.
3- غرر الحكم ج 2، ص 158.
4- غرر الحكم: ج 2، ص 158.
5- غرر الحكم ج 1، ص 364.

سؤال وجواب

وهنا سؤال ربما يخطر في بال البعض ليقول: هل أن اللّه تبارك وتعالى يجبر المكلف على المعصية، حيث ورد في الدعاء (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك)؟

والجواب على هذا السؤال هو بالتأكيد أن اللّه تعالى لا يجبر عبده على المعصية أو على الطاعة، بل خلق الإنسان مختاراً وجعل له الاختيار على أن يعمل المعصية أو يتركها، لأنه لولم يكن العبد قادراً وكان مجبوراً في أفعاله ثم يحاسبه اللّه ويعاقبه لكان اللّه أظلم الظالمين، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

و بيان ذلك كما ورد في كتاب (شرح الباب الحادي عشر): (إن الفعل القبيح إذا كان صادراً منه تعالى استحالت معاقبة العبد عليه) أي على هذا الفعل القبيح (لأنه لم يفعله) أي باعتبار أن القبيح لم يصدر من العبد بل من اللّه تعالى (لكنه تعالى يعاقبه اتفاقاً) أي باتفاق جميع المسلمين أن المذنب والعامل للقبيح يستحق العقاب (فيكون ظالماً تعالى اللّه عنه) (1) باعتباره أن القبيح حينئذ صدر منه تعالى، والعبد كان وسيلة فقط، ومع ذلك عاقب عبده فيكون ظالماً، تعالى اللّه عن الظلم علواً كبيراً.

فاللّه سبحانه لا يجبر العبد على الفعل، بل العبد له أن يفعل وله أن يترك، فإذا صدر فعل القبيح فهو بإرادة واختيار العبد نفسه، وإلا إذا كان العبد مجبوراً في أفعاله فيقبح على الحكيم أن يعاقبه واللّه تعالى هو سيد الحكماء بل هو الحكيم المطلق، هذا هو الدليل العقلي على اختيار الإنسان.

أما الأدلة النقلية فقد دلت على هذا المعنى أيضاً، وهو أن الإنسان غير مجبر على أفعاله، بل له الاختيار والإرادة، فالقرآن الكريم يصرح بهذا المعنى وهو رجوع الفعل إلى العبد وأنه واقع بإرادته، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ

ص: 196


1- الباب الحادي عشر : ص 47.

عِنْدِ اللَّهِ.. فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (1).

ويقول سبحانه أيضاً: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (2).

ويقول عز وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(3).

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات هو أنه ليس للإنسان مصير خاص قد تعيّن له من قبل، ولا يقع تحت تأثير ما يمسى ب_(جبر التاريخ) أو (جبر الزمان) بل الذي يصنع التاريخ ويدون حياة الإنسانية ويجعل التحولات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها، هو إرادة الإنسان نفسه.

فبناءً على ذلك فإن الذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ويقولون: إن الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة اللّه الإجبارية بمعنى أن الإنسان لا اختيار له إطلاقاً، تر دهم هذه الآيات المذكورة.

وكذلك ليس من الصحيح الاعتقاد بالجبر المادي الذي يجعل من الإنسان العوبة بيد الغرائز التي لا تتغير، أو جبر الوراثة، أو جبر المحيط أو ما أشبه، فيقال هذا هو الذي يحرك الإنسان فقط بحيث لا يبقى له ارادة، كما قال البعض بأنه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع و...فلا يكون حراً في تصرفاته..

فكل ما تقدم من الجبر ترفضه المدرسة الإسلامية ويرفضه القرآن، فالإنسان حر وهو الذي يقرر مصيره بنفسه، نعم قد تكون لهذه الأشياء بعض التأثيرات، ولكنها لا تسلب حرية الإنسان...

إن الإنسان بملاحظة ما قرأناه من الآيات يمسك بزمام مصيره و تاريخه بنفسه، فيصنع له الفخر والنصر وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة، فداؤه منه ودواؤه

ص: 197


1- سورة البقرة: 79.
2- سورة النساء: 123.
3- سورة الأنفال: 53.

فيه، فيلزم أن يغير نفسه ويبني شخصيته بنفسه (1).

وقد جاء في رسالة الإمام الهادي اليا في الرد على أهل الجبر والتفويض:

فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أن اللّه جل وعز أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها، ومن قال بهذا القول فقد ظلم اللّه في حكمه وكذبه وردّ عليه قوله: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (2).

وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)(3).

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (4).

مع أي كثيرة في ذكر هذا، فمن زعم أنه مجبر على المعاصي فقد أحاله بذنبه على اللّه، وقد ظلمه في عقوبته، ومن ظلم فقد كذب كتابه، ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر بإجماع الأمة.

وأما التفويض الذي أبطله الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخطأ من دان به وتقلده، فهو قول القائل: أن اللّه جل ذكره فوض إلى العباد الاختيار المطلق وأهملهم، فلا قدرة اللّه في أي شيء ولا سيطرة له على الإنسان أبداً.

والبحث دقيق مذكور في علم الكلام والنتيجة أنه لاجبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وإلى هذه ذهب الأئمة الهداة من عترة الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإنهم قالوا: (لو فوض إليهم على جهة الإهمال لكان لازماً له رضى ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب، إذا كان الإهمال (واقعاً وتنصرف هذه المقالة على معنيين: إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول إختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب، فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وعز عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ففوض أمره ونهيه إليهم واجراهما على محبتهم إذ عجز عن

ص: 198


1- راجع تفسير الأمثل: ج 5، ص 424 - 425.
2- سورة الكهف: 49.
3- سورة الحج: 10.
4- سورة يونس: 44.

تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان(1).

وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة اللّه، قال: يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربك ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (بالتمييز الذي خولني والعقل الذي دلني، قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولاً ماكنت محموداً على إحسان ولا مذموماً على إساءة وكان المحسن أولى باللائمة من المسيء، فعلمت أن اللّه قائم باق وما دونه حدث حائل زائل وليس القديم الباقي كالحدث الزائل، قال نجدة: أجدك أصبحت حكيماً يا أمير المؤمنين قال أصبحت مخيراً فإن أتيت السيئة بمكان الحسنة فأنا المعاقب عليها) (2).

وهناك الكثير من الآيات والروايات الدالة على عدم الجبر والتفويض بل الأمر بين الأمرين.

النتيجة

فإذاً يمكن الاستفادة من الآيات والروايات التي أوردناها آنفاً أن اللّه تعالى لا يجبر العبد ولا يخذله بالتعرض إلى معصيته، بل يكون العبد مختاراً ومريداً، فهو بنفسه يقدم نحو المعصية..

إذاً عندما يطلب العبد في الدعاء قائلاً: (اللّهمّ لا تخذلني فيه لتعرض معصيتك، ولا تضربني بسياط نقمتك، وزحزحني فيه من موجبات سخطك، بمنك وأياديك يا منتهى رغبة الراغبين)، فدعاء العبد هذا لاينافي الاختيار والارادة الإنسانية، بل يسأل اللّه أن يوفقه لذلك، وأن يهيئ له الأسباب التي تؤدي إلى عدم الخذلان بارتكاب المعصية.

ومن ثم ندرك أيضاً بعض الآيات والروايات التي ذكرت أن العلاقة بين الإنسان

ص: 199


1- تحف العقول: ص 342 - 343، ماروني عن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
2- تحف العقول: ص 345، ما روي عن الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وخالقه تعالى هي علاقة احتياج وتلقي لاستكمال النقص، والاحساس العميق بالحاجة والرغبة في استقبال الإفاضات، ثم ندرك بأن الدعاء وطلب عدم الخذلان من هذه الحقائق التي نتحسسها ونحتاج إليها لملأ هذا الفراغ النفسي الكبير الذي يشعر به الإنسان في أعماقه سواء كان في سعيه الدنيوي العاجل أو في هدفه الأخروي المنتظر، فيتوجه إلى خالقه بروح الرجاء وانتظار الخير ويعيش هذا الإحساس بصيغته الحية في نفس الإنسان المسلم، لأنه يؤمن بأن خالق الوجود :

أولاً: يملك الخير كله وهو مسبب الأسباب، يقول تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (1).

وثانياً: أنه هو الغني المطلق الذي لا يعرض عليه الفقر أبداً، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (2).

ويقول سبحانه: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (3).

وبذلك يعيش المؤمن حياته في انسجام وطمأنينة وثقة بالمستقبل والمصير.. ويكون له حالة من الخوف والرجاء، كما أكدت عليها الروايات والآيات الشريفة، نسأل اللّه سبحانه التوفيق والسداد.

ص: 200


1- سورة آل عمران: 26.
2- سورة فاطر: 15.
3- سورة لقمان: 26.

الاستعانة باللّه طريق التوفيق

دعاء اليوم السابع

7

اللّهمّ أَعِنِّي فِيهِ عَلَى صِيَامِهِ وَقِيامِهِ، وَجَنِّبْنِي فِيهِ مِن هَفَواتِهِ وَآثَامِهِ، وَارْزُقْنِي فِيهِ ذِكْرَكَ بِدَوامِهِ بِتَوْفِيقِكَ يَا هَادِيَ الْمُضِلِّينَ.

البلد الأمين: ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطي في الجنة ما يعطى الشهداء والسعداء والأولياء).

ص: 201

ص: 202

الاستعانة باللّه

يفتتح الداعي دعاءه في اليوم السابع من شهر رمضان المبارك بطلب العون من اللّه تعالى لصيام هذا الشهر وقيامه، (اللّهمّ أعني فيه على صيامه وقيامه).

والعون في اللغة بمعنى المساعدة، عوّنه، تعويناً وعاونه معاونة وعواناً وأعانه إعانة على الشيء: ساعده استعان فلاناً بفلان، طلب منه المساعدة والعون، والعون مصدر بمعنى المساعدة.

ثم أنه لا ينبغي طلب العون إلا من اللّه تعالى القادر المقتدر المفيض بالرحمة والعطاء، خالق كل شيء، ومنتهى كل رغبة، وفي القرآن الكريم إشارة صريحة وواضحة إلى أهمية الاستعانة باللّه، فلابد منها في كل أعمالنا وحركاتنا حيث نقرأ قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (1) ثم نعقبه فوراً بقوله سبحانه: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (2).

وذلك لأن أصل العمل بحاجة إلى العون، مما يعبر عنه العلماء بالعلة المحدثة، والاستمرار عليه أيضاً بحاجة إلى العون ويعبر عنه بالعلة المبقية، وتفصيل ذلك في علمي المنطق والفلسفة.

و تقديم الضمير (إياك) على الإستعانة والعبادة دليل على الحصر، كما يعبر عنه الأدباء (3) فنفهم أنه لا عون حقيقي إلا من اللّه تعالى، فهو المستعان الوحيد في الأمور كلها، ومن أهم الأمور الطاعات.

فالطاعة تحتاج إلى مساعدة وإلى عون والعبودية تحتاج إلى الاستعانة وإلى

ص: 203


1- سورة الفاتحة: 5.
2- سورة الفاتحة 5.
3- راجع کتاب (البلاغة الواضحة).

العون، وجميع الحياة بحاجة إلى العون والنجاة من الأزمات والمشاكل هي الأخرى بحاجة إلى الاستعانة باللّه سبحانه.

وهذا أمر يحسه الإنسان عادة في المواقف الحرجة الصعبة، ويشعر بمدى عون اللّه له وتسديده إياه في كثير من الأحيان، ولعل من هذا ما نقله الخطيب الكبير الشيخ مصطفى القمي (رحمه اللّه) قال: أنه دعي للخطابة في مدينة (عبادان) الواقعة في جنوب إيران، يقول: ولما ذهبت إلى هناك وجدت رجلاً يداوم على قراءة الآية الشريفة: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (1) فسألته عن السر في ذلك؟

فأجاب قائلاً: إني كنت ضابطاً كبيراً في الجيش، فحكم علي وعلى زميل لي بالاعدام في قضية.. ولما وقعنا في الأزمة أخذت أقرأ هذه الآية الشريفة رجاءً للنجاة، وما أن مضت فترة حتى أنجانا اللّه سبحانه بالفعل من الإعدام فقررت من ذلك الوقت وعاهدت اللّه على الاستمرار في قراءة الآية المباركة، ولو لا عناية اللّه سبحانه ولطفه لما كنا من الناجين.

إذن لا غنى للعبد من العون الإلهي والتسديد الغيبي في أموره كلها، وحتى في عباداته وطاعاته، فإنه بحاجة إلى عون وتسديد دائماً..

ولكن لماذا ذلك؟

لأنها مجاهدة كبيرة وصراع شاق للنفس والأهواء، والشهوات والغرائز الضاغطة على الإنسان، فبدون عون اللّه تعالى ينحرف الإنسان ويخرج عن سواء السبيل، قال تعالى: (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2).

وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (3).

وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ

ص: 204


1- سورة النمل: 62.
2- سورة البقرة: 64.
3- سورة النساء: 83.

فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1).

وقال عز وجل في سورة يوسف: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) (2). ومعلوم أن الاستعانة باللّه لا تعني الجلوس في البيت ليأتينا العون، بل العون لا يكون إلا بأسبابه وشروطه، فالعبد يتحرك نحو اللّه تعالى فيمد اللّه له يد الرحمة والعون والسداد والتوفيق لينال العبد ما يريد وفي المثل المشهور : (منك الحركة ومني البركة).

وكل أمر وميثاق يحتاج الإنسان فيه إلى مساعدة لاتمامه وأدائه.. وخصوصاً الأعمال الشاقة التي تحتاج إلى مجاهدة.. وبالتالي إلى صبر وعناء.

وبما أن شهر رمضان شهر الصوم وشهر العبادة وشهر المجاهدة، لذا احتاج الداعي إلى العون.. وإلى التدخل الإلهي والعناية الربانية والتسديد الرحماني لا تمامه بالصالحات والطاعات والعبادات المستمرة، فكم من صديق لنا أو قريب يحب الصيام ولا يوفق له.. وكم من أناس يميلون إلى العبادة والطاعة ولكن تمنعهم من ذلك الموانع، وتصدهم القواهر.. إذن لكي نوفق لصيام هذا الشهر الفضيل وقيامه فنحن بحاجة إلى تسديد وتوفيق، ولا يحصل ذلك إلا بالاستقامة والتسليم والخضوع اللّه تعالى وبالأعمال الصالحة.. صغيرها وكبيرها.

والسؤال.. ماهو الطريق لنيل العون والتسديد الإلهي، والاستعانة الربانية؟

والجواب: السبل إلى ذلك عديدة منها.. (العلاقة بين العبد وربه) التي تؤول إلى الحب الإلهي وبالتالي رضا الخالق عن المخلوق، ومن المعلوم أن الرضا يستلزم التوفيق والاعانة والتسديد، انظر إلى قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (3).

ومن الواضح أن الحبيب يتبع المحبوب.. ويجله في نفسه وكيانه.. ويمتثل إليه. وهذا يتطلب الطاعة من الحبيب والميل والعناية من المحبوب، ولعل ما ورد عن

ص: 205


1- سورة النور: 14.
2- سورة يوسف: 53.
3- سورة آل عمران: 31.

مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إشارة إلى ذلك، حيث يقول: (إذا أحب اللّه عبداً ألهمه حسن العبادة) (1).

وعنه الا أيضاً: (إذا أحب اللّه عبداً ألهمه رشده و وفقه لطاعته) (2).

فالسداد والعون والتوفيق الإلهي لا يكون اعتباطاً، بل له أسباب وشروط، ومن أسبابه: العلاقة المتينة بين العبد وربه، فإن التناسب بينها وبين التسديد طردي، كلما كانت العلاقة وطيدة فإن التسديد أكثر والتوفيق أعمق، والعكس صحيح أيضاً.

انظر إلى قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتضح لك المعنى..

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من أراد أن يعرف كيف منزلته عند اللّه فليعرف كيف منزلة اللّه عنده، فإن اللّه ينزل العبد مثل ما ينزل العبد اللّه من نفسه) (3).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من أراد منكم أن يعلم كيف منزلته عند اللّه، فلينظر كيف منزلة اللّه منه عند الذنوب، كذلك تكون منزلته عند اللّه تبارك وتعالى)(4).

ولاندري؟ كيف يطلب العبد العون والسداد من اللّه وهو بعيد عن ربه بذنوبه فلابد من القرب، ولابد من التوكل والتسليم إلى اللّه تعالى حتى نحظى بتوفيقاته وعنايته، فإن اللّه تعالى يسدد أحباءه ويسدي يد العون لأخلائه فينجيهم ويساعدهم ويلهمهم، والحب لا يكون إلا بتوثيق هذه العلاقة بين الحبيب والمحبوب..

فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): فيما ناجی اللّه عزوجل به موسى بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ): كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ هنا أناذا یابن عمران مطلع على أحبائي، إذا جنهم الليل حولت أبصارهم من قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبونني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور) (5).

ص: 206


1- غرر الحكم فصل 17، ح 90.
2- غرر الحكم فصل 17، ح 204.
3- بحار الأنوار: ج 71، ص 156، ح 74، باب 63، ط طهران.
4- الخصال: ص 617.
5- أمالي الصدوق: ص 292، المجلس 57، ح1.

ومن سبل الاستعانة باللّه عز وجل الدعاء، إذ أن كل شيء في هذا الكون الواسع بيد اللّه تعالى، فلماذا لا نتقرب إليه وندعوه...فهو كفيل بالاجابة.. كفيل بالعون.. فعلينا أن نعرف اللّه تعالى ونحبه.. ونعرف من ندعوه ومن نطلبه لأمورنا.

انظر إلى الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هو يجيب قومه عندما قالوا: (ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال لأنكم تدعون من لا تعرفونه) (1).

ومن المعلوم أن أبواب اللّه سبحانه مشرعة للداعين في كل صغيرة وكبيرة، كما أن اللّه سبحانه يحب أن يدعوه المؤمن بكل ما يريد، فقد ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (سلوا اللّه عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لم يتيسّر) (2).

والمؤمن إذا سأل ربه أعطاه، قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (3).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): الدعاء كهف الإجابة كما أن السحاب كهف المطر) (4).

فالإنسان بإمكانه أن يحصل على العون وبإمكانه أن يحرم نفسه ذلك العون الإلهي.. وذلك بالتقرب بإخلاص وبالتسليم والتوكل والمعرفة اليقينية باللّه تعالى.. أو بالابتعاد والرياء وارتكاب الذنوب والمعاصي، لذا نقرأ في هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يعيننا على صيام هذا الشهر وقيامه، لأن العون لا يطلب إلا من اللّه تعالى، وليست هناك تجارة مع اللّه سبحانه قد خسرت، بل تخسر تجارة ليس رأس مالها حبّ اللّه والاتكال عليه عزّ وجلّ.

دعنا نسوق قطعة بديعة من بدائع أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قالها إمامنا زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أروع مناجاة بينه وبين اللّه تعالی سمیت بالانجيلية الوسطى: (اللّهمّ صل على محمد وآل محمد، واجعلنا من الذين شربوا بكأس الصفاء فأورثتهم الصبر على طول البلاء، فقرت أعينهم بما وجدوا من العين، حتى تولهت قلوبهم في الملكوت، وجالت بين

ص: 207


1- بحار الأنوار: ج 93، ص 368، ح 4، باب 24، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 93، ص 295، باب 16، فضل الدعاء ط طهران.
3- سورة غافر: 60.
4- الصحيفة السجادية الجامعة ص 473، وبحار الأنوار: ج 93، ص 295، ح23، ط طهران.

سرائر حجب ب الجبروت، ومالت أرواحهم إلى ظل برد المشتاقين، في رياض الراحة، ومعدن العز، وعرصات المخلدين) (1).

وروي عنه الا أيضاً وهو متعلق بأستار الكعبة:

(نامت العيون وعلت النجوم وأنت الملك الحي القيوم، غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين، جئتك لتنظر إلي برحمتك يا أرحم الراحمين)(2). ثم أنشأ يقول:

يامن يجيب دعا المضطر في الظلم***ياكاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة***وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاء قد أمرت به***فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف***فمن يجود على العاصين بالنعم

وهذه الأبيات للصحابي (منازل) الذي شُلَّ نصف بدنه بدعوة أبيه عليه، ولما تضرع منازل لأبيه ليدعو له بالشفاء في البيت الحرام وأقنعه بإتيان الكعبة المشرفة ليستغفر له، فذهبا نحو مكة المكرمة.. ولكن نقرت الناقة بوالده في الطريق فهلك.. فجاء منازل إلى البيت مستغيثاً ومستجيراً يدعو بالأبيات المتقدمة.. حتى سمعه مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأغاثه وعلمه الدعاء المعروف ب_(دعاء المشلول) فقرأه فشفي (3).

فاللّه سبحانه دائماً في عون عبده قاضياً لحوائجه، إذا حقق العبد في نفسه شرائط الإجابة.

ص: 208


1- الصحيفة السجادية الجامعة: ص 513، وبحار الأنوار: ج 94، ص 127، باب 32، أدعية المناجاة، ح 19، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 46، ص 80 ح 75، باب 5 من مكارم أخلاقه، ط طهران.
3- مهج الدعوات ومنهج العبادات ص 150، ط بيروت.

مجانبة الهفوات

وبعد أن سأل العبد من ربه العون على الصيام والقيام في شهر رمضان المبارك، ماذا يريد، وماذا يطلب ؟

يطلب من اللّه تعالى: إن يجنبه في هذا الشهر العظيم من الهفوات والآثام، حيث يقول: (وجنبني فيه من هفواته وآثامه).

إن كل عمل يحتاج إلى همة.. وبقدر همة الإنسان يقترب من النجاح، لأن للهمة دوراً في تكامل الإنسان ورفعته وشرفه ومجانبته للهوى وللنفس الأمارة بالسوء، فقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (فقد انقطعت إليك همتي، وانصرفت نحوك رغبتي، فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يدعو: (وهب لي جسماً روحانياً وقلباً سماوياً، وهمة متصلة بك، ويقيناً صادقاً في حبك) (2).

لأن من قصرت همته في هذا الشهر قد لا يتجنب الهفوات ولا يتجنب الآثام.

والهفوات عديدة، فمرة زلة لسان، وأخرى استراق بصر وسمع، وتارة فعل بالجوارح وغيرها.. وهكذا.

فطرق اكتساب الآثام ووسائله عديدة ولسنا هنا في صدد احصاء الهفوات والآثام وأنواعها، وإنما نريد أن نعرف كيف نتجنبها؟

وهذا لا يكون بالكلام.. بل بالهمة العالية والتصميم الدقيق ووضع البرامج التربوية الترويضية الصحيحة لكبح جماح النفس والغرائز وعدم انفلاتها، فتحصين

ص: 209


1- بحار الأنوار: ج 94، ص 148، ح 21، باب 32، أدعية المناجاة من مناجاة المريدين، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 94، ص 156، ح 22، باب 32، أدعية المناجاة، ط طهران.

النفس وتقوية دفاعاتها أمر مهم لمجانبة الآثام والهفوات، وذلك بحاجة إلى رقابة مشددة على النفس.

فالذي يصوم شهر رمضان ينبغي أن لا يصوم عن الطعام والشراب فقط، بل يصوم من جميع الرذائل والمحرمات..

ويلزم على الإنسان الصائم أن يسعى كي يكون صادقاً مع ربه في صيامه، فيخشى الرقابة الإلهية قبل كل شيء، فعلى الإنسان أن يجعل الرقابة الإلهية سنداً للرقابة الذاتية، وعليه أن يجعل اللّه نصب عينيه دائماً، أينما كان وأينما حل.

قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (1).

وعن النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (2).

واللّه سبحانه يرى الإنسان في حركاته وسكناته، لأنه أقرب إليه من حبل الوريد.. قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (3).

بل وجعل اللّه على الإنسان مجموعة من الشهود والرقباء، فإن الملائكة ترقب الإنسان بل وحتى جوارحه وأعضاءه ترقبه وتشهد عليه، (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) (4).

فأين المفر ؟

قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (5).

وقال سبحانه: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (6).

والإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعاء كميل يعطي صورة جلية وواضحة لهذا الأمر حيث يقول مناجياً ربه: (فأسألك بالقدرة التي قدرتها...أن تهب لي في هذه الليلة وفي

ص: 210


1- سورة النساء: 1.
2- المحجة البيضاء: ج 8 ص 155.
3- سورة ق: 16.
4- سورة البروج: 20.
5- سورة ق: 18.
6- سورة النور: 24.

هذه الساعة كل جرم أجر مته.. وكل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني وجعلتهم شهوداً عليَّ مع جوارحي وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم(1)).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (اعلموا عباد اللّه أن عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هو يشير إلى الرقابة النفسية : (اجعل من نفسك على نفسك رقيباً واجعل لآخرتك من دنياك نصيباً) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (رحم اللّه امرءاً راقب ربه وتنكب ذنبه وكابر هواه وكذب مناه، امرء ازم نفسه من التقوى بزمام.. دائم الفكر، طويل السهر، عزوفاً عن الدنيا.. وقد وقر قلبه ذكر المعاد، وطوى مهاده، وهجر وساده منتصباً على أطرافه.. خشوع في السر لربه، لدمعه صبيب، ولقلبه وجيب، راضياً بالكفاف من أمره، يظهر دون ما يكتم، ويكتفي بأقل مما يعلم) (4).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): اصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة فما مضى منه فلا تجد له ألماً ولا سروراً وما لم يجي فلا تدري ماهو ؟ وإنما هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة اللّه واصبر فيها عن معصية اللّه) (5).

فعلى الإنسان أن يجهد ويتعب نفسه في هذا الشهر الكريم.. بأن يجعل كل شيء وكل عمل اللّه تعالى.. وأن يكون رقيباً على تصرفاته وأعماله لتكون بعيدة عن الهفوات والآثام.

ص: 211


1- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
2- نهج البلاغة: 157.
3- غرر الحكم، الفصل الثاني، ح203.
4- بحار الأنوار: ج 77، ص 349، ح 30، باب 14، ط طهران.
5- الكافي: ج 2، ص 454، ح 4.

فعن الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف اللّه: من أعطى من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدم يداً ولا رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة اللّه قدمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه) (1).

ومعلوم أن هذا الأمر بحاجة إلى رقابة شديدة ومحاسبة دقيقة، فلابد من المراقبة والمحاسبة قبل الشروع بالعمل.

قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يحث على النظر للعمل بقوله: النظر الأول للمراقب نظرة في الهمة والحركة أهي اللّه تعالى أو للهوى.. وأقل ما ينكشف له في حركاته أن يكون مباحاً ولكنه لا يعنيه فيتركه لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (2).

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وراقبوا اللّه في جميع أموركم) (3).

فعلى الإنسان المؤمن أن يستثمر هذا الشهر الفضيل لترويض النفس وبرمجتها (أي ترويضها على البرامج التربوية الدينية).

ولعل أول خطوة في هذا السبيل: هو أن يتعلم محاسبة نفسه وإحصاء مساوئها، كما يقول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (على العاقل أن يحصى على نفسه مساويها في الدين والرأي والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها) (4).

والخطوة الثانية: يلزم أن تكون أوقاته هادفة وأعماله مدروسة، فيقوم بتقسيم أعماله على ساعات اليوم، وهذا برنامج آخر يمكن الاستفادة منه لتجنب المعاصي والآثام أيضاً.

فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (على العاقل أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه

ص: 212


1- بحار الأنوار: ج 78، ص 140، ح 32 باب 19 مواعظ علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ط طهران.
2- المحجة البيضاء: ج 8 ص 162.
3- تحف العقول: 513.
4- بحار الأنوار: ج 78، ص 6، ح 58، باب،15، مواعظ أمير المؤمنين 1 ط طهران.

عز وجل، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتكفر فيها في صنع اللّه عز وجل له، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب، فإن في هذه الساعة عوناً على بقية الساعات) (1).

هذه البرامج الرقابية معظمها وقائية تحصن النفس من الوقوع في الخطأ وتمسكها عن فعل القبيح وعما يهتك حرمة هذا الشهر وحرمة الصوم وحرمة الإنسان المؤمن نفسه، وهذا قبل فعل العمل وارتكابه.

وهناك برامج رقابية بعد فعل العمل، أي لو عمل الإنسان عملاً ولا يعرف مصيره فهنا رقابة أخرى ترشده في هذا السبيل.

قال الرسول الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا)(2).

والمحاسبة والوزن مرة يكون قبل العمل مرة يكون بعد العمل.. لكن الأفضل أن يزن الإنسان نفسه قبل العمل، ليكون أقرب إلى الصواب.

فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فأمضه، وإن كان غياً فانته عنه) (3).

والمؤمن قوام على نفسه كما يقال فيحاسبها حتى يخف حسابه يوم القيامة.

وعن الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه، وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه) (4).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (طوبى لعبد جاهد اللّه نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضى اللّه، ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة اللّه فقد فاز فوزاً عظيماً، ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين اللّه تعالى من النفس والهوى، وليس لقتلها في قطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى اللّه

ص: 213


1- المحجة البيضاء: ج 8 ص 164.
2- الروضة للكليني، ص 143، بحار الأنوار: ج 15، ص 42.
3- المحجة البيضاء : ج 8 ص 165.
4- الكافي: ج 2، ص 453، ح2.

والخشوع والجوع والظمأ بالنهار والسهر بالليل، فإن مات صاحبه مات شهيداً، وإن عاش واستقام أدّاه عاقبته إلى الرضوان الأكبر، قال اللّه عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (1)) (2).

ومما تقدم نعرف أن المواظبة الدائمة على النفس ومحاسبتها والتخطيط لأعمالها وبرامجها سيكون طريقاً جيداً لاجتناب الهفوات والآثام، كما سيكون باباً واسعاً لتوفيق اللّه سبحانه في هذا الاتجاه، لأن اللّه عز وجل إذا رأى العبد جاداً في سبيل الهداية والصلاح فإنه سوف يوفقه ويعينه ليصل إلى منازل المقرّبين..

قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (3).

ص: 214


1- سورة العنكبوت: 69.
2- المحجة البيضاء: ج 8 ص 170.
3- سورة محمد: 17.

دور الذكر في صياغة الشخصية

ثم يطلب العبد من ربه في هذا الدعاء المأثور عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يرزقه اللّه تعالى في هذا الشهر دوام الذكر وترفيقه، فيقول: (وارزقني فيه ذكرك بدوامه).

فإن للذكر أهمية كبيرة في حياة المؤمن، كما له فضل عظيم وفوائد جمة لا تحصى، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (1).

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (2).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الذكر لذة المحبين)(3).

وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (ان ربي أمرني أن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة) (4).

والذكر للمؤمنين سلوة وسرور، لأنه خير الأعمال وذكر للمحبوب، وليس الذكر هو اللقلقة اللسانية من دون توجه وانقطاع إلى اللّه سبحانه، فإن اللقلقة والذكر اللساني الذي لا يطابقه القلب ولا يوثقه العمل لا يحصل الإنسان فيه على نتائج مهمة في القرب والرضوان من الباري تعالى.

والذكر ليس له حد، لأنه يرتبط بعالم المعنويات، والمعنويات لا تنتهي إلى حد،

ص: 215


1- سورة الرعد: 28.
2- سورة (المنافقون): 9.
3- غرر الحكم الفصل الأول، ح 721.
4- بحار الأنوار: ج 93، ص 165، ح43، باب ذكر اللّه، ط طهران.

فكلما ازداد الإنسان ذكراً ازداد معرفة وشأناً.. وقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (مامن شيء إلا وله حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهى إليه، فرض اللّه عز وجل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن وشهر رمضان فمن صامه فهو حده والحج فمن حج فهو حده إلا الذكر، فإن اللّه عز وجل لم يرض منه بالقليل، ولم يجعل له حداً لينتهي إليه، ثم تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) (1)) (2).

من هنا يمكن أن نفهم لماذا يطلب الداعي أن يُرزق دوام ذكر اللّه تعالى، لأن ثمراته دائمة أيضاً، فهو مفتاح الصلاح والاستقامة ومجانبة السوء والقبيح، وزيادة الدرجات في الدنيا والآخرة، لأنه يعصم الإنسان من السوء، إذا كان بشراء ائطه.

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من عمّر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السر والجهر) (3).

يعني أن الذكر يثمر العصمة عن الوقوع في الخطأ والغفلة، وهو أمان من سطوة الشيطان ونفثه و نبذه..

كما بين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك في كثير من الروايات فقد ورد عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنه تعالى في الحديث القدسي: (إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك، فأراد أن يسهو حُلتُ بينه وبين أن يسهو، أولئك أوليائى حقاً، أولئك الأبطال حقاً) (4).

ثم إن حقيقة الذكر هي الطاعة، كما روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من أطاع اللّه عز و جل فقد ذكر اللّه، وأن قلت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن) (5).

وعن مولانا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من كان ذاكراً اللّه على الحقيقة فهو مطيع، ومن كان غافلاً

ص: 216


1- سورة الأحزاب: 41.
2- الكافي: ج 2، ص 498، ح 1.
3- غرر الحكم فصل 77، ح 1219.
4- بحار الأنوار: ج 93، ص 162، كتاب الذكر والدعاء باب 1، ذکر اللّه، ط طهران.
5- بحار الأنوار: ج 77، ص 88 ما أوصى به (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى أبي ذر، كتاب الروضة، باب 4، ط طهران.

عنه فهو عاص، والطاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضلالة، وأصلهما من الذكر والغفلة) (1).

هذا بالنسبة إلى أصل الذكر.

وأما ما يوجب دوام الذكر واستدامته، فقد ورد عن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حديث المعراج، عن اللّه سبحانه: (ودم على ذكري، فقال: يا رب وكيف أدوم على ذكرك، فقال: بالخلوة عن الناس وبغضك الحلو والحامض، وفراغ بطنك وبيتك من الدنيا) (2).

ومعلوم أن المراد من الخلوة وبغض الحلو والحامض وفراغ البطن والبيت من الدنيا ليس بالمعنى السلبي، بل الخلوة والبغض والفراغ الإيجابي، بمعنى خلو عمل الإنسان عن الحرام، واجتنابه عن أعمال العصاة من الناس.

وذلك لأن مصاحبة الأبرار والمؤمنين والصالحين هو عمل مستحب وفضيل، وقد أكد عليه في الشريعة الإسلامية، وكما ورد ذلك في دعاء اليوم السادس عشر من هذا الشهر، حيث يقول الداعي : (اللّهمّ وفقني فيه لمرافقة الأبرار) وسيأتي بيان ذلك أن شاء اللّه تعالى.

كما أن بغض الحلو والحامض لا يعني عدم الأكل أو التمتع، بل عدم جعلهما غاية كبرى في الحياة، حتى تصبح كل هم الإنسان وشغله الدائم..

كما أن فراغ البطن والبيت من الدنيا، أي من حب الدنيا وحرامها ونحو ذلك..

ولعل هذا ما يؤكده قوله تعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (3).

ومعلوم أن أولاد الإنسان وأمواله أحياناً تصير عائقاً من ذكر اللّه وعبادته، وربما كانت سبباً لسير الشخص في طريق الغفلة والإعراض عن ذكره سبحانه، نعوذ باللّه من ذلك، إذن الأولاد والأموال يعتبران فتنة كبيرة وامتحاناً عظيماً..

ص: 217


1- بحار الأنوار: ج 93، ص 158، ح 33، کتاب الذكر والدعاء، باب 1، ذکر اللّه، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 77، ص 22، ح6، کتاب الروضة، باب 2، مواعظ اللّه عزوجل، ط طهران.
3- سورة المنافقون: 9.

قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (1).

ولقد أشار اللّه سبحانه في القرآن الكريم إلى عواقب المعرضين عن ذكره حيث قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسی) (2).

وكأن الآية تقول: إن الذين يعرضون عن ذكر اللّه سبحانه فإنهم يبتلون بضيق المعيشة وعسرة الحياة وهي الضنك والضيق المعبر عنه في الآية، لأن من تعلق بالدنيا وجعلها مطلوبه الأكبر وهمه الوحيد فإنها سوف لا تسعه، لأنه كلما حصل منها واقتناها لم ترض نفسه بها، ونزعت إلى تحصيل ماهو أزيد وأوسع من غير أن تقف فيها عند حد، لذا فإنه دائماً يعيش في ضيق صدر ولهفة وركض وراء هذا وذاك من دون نتيجة غالباً، فهو في هذه الحالة لا يخلو من حالتين، كلتاهما ضيق ومشقة، لأنه:

إما أن تأتي الدنيا بيديه ولكن طمعه وراءها سوف يجعله في ركض دائب متشاغلاً دائماً بها عن غيرها من الأمور الأهم والأكبر، من دون توقف أو راحة، وفي هذا ضيق أيما ضيق.

وإما أن يركض وراءها من دون أن يصل إلى حل أو نتيجة، وفي هذا الهم والغم والحزن البالغ، هذا فضلاً عما يترتب على الحالتين من القلق والاضطراب والخوف النفسي، بالاضافة إلى نزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وأمل إلى غير ذلك..

بينما الإنسان المؤمن الذاكر اللّه فإنه لا يغفل عن حياته الأخرى، ويكون في طاعة، والذي يهتم بالطاعة سيغنم الدار الآخرة التي فيها ملك لا يبلى، وعزة ليس بها ذلة، وفرح لا يخالطه حزن ولا نكد، وسعادة لا يشوبها تعاسة، وفي هذا اليسر دون العسر،

ص: 218


1- سورة الأنفال: 28.
2- سورة طه: 124 - 126.

قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1).

فمما تقدم يظهر أن الذي يحافظ على الذكر ويدوم عليه يعيش أحلى أيامه في الدنيا والآخرة..

لذا ينبغي علينا أن نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا ويرزقنا دائماً دوام الذكر لنكون في طاعة اللّه في أمورنا كلها، الصغيرة منها والكبيرة، ولا نكون تارة متقين وتارة عاصين.. كما قال ابو الحسن القرطبي شاكياً من هذا الحال:

عصیت هوى نفسي صغيراً فعندما***رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني***خلقت كبيراً ثم عدت إلى الصغر (2)

الضلال وطرق النجاة منه

ثم يختم الإنسان المؤمن هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اليوم السابع من شهر رمضان المبارك بقوله: (يا هادي المضلين).

فإن هناك ارتباطاً وثيقاً بين القرآن والروايات، فكأنك في هذا الدعاء تردد آيات من فاتحة الكتاب:

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (3).

والضلالة لغة: من ضلّ، ومعناه ضياع الشيء وذهابه، وكل جائر عن القصد ضالّ (4).

وربما يسأل البعض لماذا يطلب الإنسان المسلم الهداية من اللّه تعالى.. فهل هو على ضلال؟ وإلا كان من باب تحصيل الحاصل وهو محال كما ذكره الحكماء.

ص: 219


1- سورة البقرة: 185.
2- الوافي بالوفيات: ج 19، ص 185.
3- سورة الفاتحة: 6-7.
4- معجم مقاييس اللغة ج3، ص356.

الجواب:

إن الإنسان معرض في كل لحظة إلى خطر الإنحراف عن المسار الصحيح، فالإنسان قد يشبه بسفينة تشق عباب البحر المتلاطم بالأمواج ولا تدري أين مرفا النجاة، إلا إذا كانت تسير على هدى ودراية من قبطانها وسفانها وربانها الذي يعرف كيف يتجنب تلك المخاطر.

فالإنسان بحاجة إلى الهداية ابتداءاً واستمراراً، وعلى الاصطلاح العلمي في العلة المحدثة والعلة المبقية كما هو مذكور في الحكمة.

ومثال السفينة هو مصغر لمفهوم وضع الإنسان ككل، فإنه يحتاج إلى من يهديه دائماً ليسلك طريق النجاة وطريق الحق والصواب، ولا يزيغ عن ذلك، وهذا لا يكون إلا بأمرين:

الأول: توفيق من اللّه تعالى.

الثاني: استعدادات العبد نفسه، وقدرته على تحصين نفسه من الانحرافات والعثرات والزلات التي قد تجابهه في مسيره اليومي.

فاللازم التوسل إلى اللّه لطلب الهداية ودوامها فإن الذي يطلب من اللّه تعالى يعطيه ویزیده هدى، كما يشير لذلك القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) (1).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (2) أي: (أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ما مضى من أيامنا حتى نطيعك في مستقبل أعمارنا)(3).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أرشدنا إلى الصراط المستقيم وأرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ دينك والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو نأخذ بآرائنا فنهلك) (4).

ص: 220


1- سورة الفاتحة: 6.
2- سورة مريم: 76.
3- تفسير البرهان: ج 1، ص 50، ح 23.
4- تفسير البرهان: ج 1، ص 51، ح 24.

فعلى الإنسان أن يتمسك بالهدى، ويطلب العون الإلهي، ليتجنب الضلالة، لأن الضلالة خسران الدنيا وخسران الآخرة، أي خسران الدارين معا فعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضلال إلى الردى)(1).

ولكن ماهي موجبات الضلالة؟

في كلمة واحدة العصيان يوجب الضلالة، فإن مطلق العصيان والجحود بالنعمة واتباع الهوى ومهادنة الشيطان هذه كلها موجبات للضلالة.. والقرآن يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (2).

وقوله سبحانه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) (3).

وقد ورد عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (لكل ضلّة علة، ولكل ناكث شبهة) (4).

ومن كتاب لأمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى معاوية:

(أما بعد، فقد أتتني منك موعظة موصلة، ورسالة محبّرة، نمقتها بضلالك وأمضيتها بسوء رأيك، وكتاب أمرى ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، قد دعاه الهوى فأجابه وقاده الضلال فاتبعه فهجر لاغطاً وضل خابطاً) (5).

وأدنى درجات الضلالة هو أن لا يعرف العبد حجة اللّه تعالى، كما يروي عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أدنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة اللّه تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر اللّه عز وجل بطاعته وفرض ولايته) (6).

ومعلوم أن حجة اللّه سبحانه هم محمد و آل محمد (عليهم صلوات المصلين)، وأضل الناس: ذلك الذي جهل حقهم وأنكرهم ولم يطعهم في قول وعمل..

وبعد أن شخصنا الداء، فسوف يمكننا معرفة الدواء، فطالما العصيان والهوى

ص: 221


1- نهج البلاغة: الخطبة 28.
2- سورة الأحزاب: 36.
3- سورة الجاثية: 23.
4- نهج البلاغة: الخطبة 148.
5- نهج البلاغة: الكتاب.
6- الكافي: ج 2، ص 415، ح1.

والشيطان هو الذي يضل الإنسان ويحرفه عن سواء السبيل، فلابد من التحصين ضد الشيطان، خصوصاً في هذا الشهر العظيم والذي كبلت فيه الشياطين، ومعلوم أن الشيطان لو كبل وغلت يداه ستكون استعدادات الإنسان أكثر لترويض النفس والجامها، فعليه أن لا يفوت هذه الفرصة الثمينة.

وهناك وسائل وطرق أخرى من شأنها أن تجنب الإنسان من الضلالة، نأخذ منها ما هو متيسر، بشواهد سريعة، فنقول:

1: القرآن الكريم:

وهو علاج واق من الضلالة وهادم لها، فعن أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ): (استعينوا به - أي بالقرآن - على لأوائكم فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال) (1).

2: الإسلام :

فإن معانيه وآدابه وقوانينه إذا تغلغلت في النفس فإنه يحصنها من الضلالة وتصبح النفس في منعة ووقاية كبيرة من الإنحراف والانزلاق في مهاوي الردى، فعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه...و وهدم أركان الضلالة بركته) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة حيث تلتقون ولا دليل و تحتفرون ولا تميهون)(3).

3: النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الطاهرون (عَلَيهِم السَّلَامُ)

فإنهم الحجج على الخلق أجمعين (عليهم الصلاة والسلام)، وهم طرق الهدى

ص: 222


1- نهج البلاغة الخطبة 176.
2- نهج البلاغة الخطبة 198.
3- نهج البلاغة: الخطبة 4.

وسفن النجاة من الضلالة والردى.

فعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صفة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (المعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الأباطيل والدامع صولات الأضاليل) (1).

وفي الدعاء الوارد في شهر شعبان نقرأ: (المتقدم لهم مارق واللازم لهم لاحق والمتأخر عنهم زاهق) (2).

فهم (عليهم الصلاة والسلام) نور من العمى وهدى من الضلال وحبل اللّه المتين وصراطه المستقيم..

نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا لهدايته ويديم لنا ذلك، بمحمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 223


1- نهج البلاغة: الخطبة 72.
2- راجع مفاتيح الجنان الصلوات المروية عن الإمام السجاد (عليه السلام).

ص: 224

شهر رمضان والتعاليم الاجتماعية

دعاء اليوم الثامن

8

اللّهمّ ارْزُقْنِي فِيهِ رَحْمَةَ الأَيْمَامِ، وإطعامَ الطَّعَامِ، وَإِنْشَاءَ السَّلامِ وَصُحْبَةَ الْكِرَامِ، بِطَوْلِكَ يا مَلْجَأَ الْآمِلِينَ.

البلد الأمين ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به رفع عمله بعمل ألف صديق).

ص: 225

ص: 226

تهذيب الإنسان

إن أعمال شهر رمضان و آدابه تؤكد على تجريد الإنسان وتخليصه من الشواغل المادية، وتهيئ له الفرص الكبرى ليتفرغ لنفسه وضميره ومراجعة سلوكه وعمله.

والصوم من أهم هذه الأعمال التي تهذب الإنسان وتطهره من الشوائب، وذلك باعتبار أن للصائم أحكاماً لا يستطيع مخالفتها، وهي تقع في طريق تجريد نفسه وتخليصها من الأدران، وبالتالي فإن الصيام إذا تمت شرائطه وأجزاؤه فإنه يخلق من الشخص إنساناً متكاملاً، وذلك لأن الصائم إذا أحس بالجوع عرف كيف يتعامل مع الجائع، وإذا صبر على الجوع والعطش عرف كيف يصبر في الميادين الأخرى.. وهكذا.

إن شهر رمضان شهر المحاسبة والحصانة شهر التربية وترويض النفس، ش- معالجة الغرائز التي تتحكم بالنفس البشرية.. إنه شهر تهذيب النفس، كما ورد في الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (1).

حيث أشارت هذه الآية المباركة إلى فلسفة هذه العبادة التربوية في عبارة قليلة الألفاظ عميقة المحتوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فالصوم عامل فعال لتربية روح التقوى في جميع المجالات والأبعاد.

وعن الإمام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (وعن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات تسكيناً

ص: 227


1- سورة البقرة: 183.

لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم وتخفيضاً لقلوبهم) (1).

ان المجتمعات غير الإسلامية اليوم تمر بأزمة قاسية وبصراعات دائبة في هتك الأعراض والكرامات وسفك الدماء ونهب حقوق المستضعفين من الناس، وهذه كلها نتيجة لضياع المبادئ والقيم وترك إرادة الاستقامة على الحق في الحياة وذلك لأن الإرادة هي الضابط والكابح لجماح الغرائز، ولما كانت الإرادة هي الضابط، كان على الإسلام أن يهتم بتقوية إرادة الإنسان وتنشيطها..

و من هنا فرض عليه الصوم الذي هو بحد ذاته مرب للإرادة الحرة النزيهة، فإذا انصهرت هذه الإرادة البشرية على الإرادة الإلهية تحوّلت حياة الإنسان إلى حياة وديعة آمنة، ومجتمعة مصدر قوة ومنعة وثقة.

وقد ورد عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (2) قال: (الصبر هو الصوم) (3).

وقد يكون ذلك لأن الصوم من أقوى مظاهر الصبر وقوة الإرادة.

فعندما شرع اللّه سبحانه الصيام جعل معه ضوابط ملزمة، فمن خرج عن هذه الضوابط عد عاصياً، وكان صومه باطلاً، وهذه تسمى بالمفطرات وقد ذكرها الفقهاء المراجع (حفظهم اللّه) تفصيلاً في رسائلهم العملية، ولكن هناك ضوابط أخرى تجعله أكثر تهذيباً وسمواً، ومن تلك الضوابط التي جاءت في الصوم ما روي عن الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن) (4). وروي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً أنه قال: (الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب) (5). وعن فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) أنها قالت: (ما يصنع الصائم بصيامه إذا

ص: 228


1- نهج البلاغة: الخطبة 192.
2- سورة البقرة: 45.
3- بحار الأنوار: ج 93، ص 254، کتاب الصوم، باب فضل الصيام، ح29، ط بيروت.
4- غرر الحكم ودرر الكلم: ص 176، الفصل الثاني في الصوم والحج، ح 3363.
5- بحار الأنوار: ج 96، ص 294، کتاب الصوم: باب 36، ح21، ط طهران.

لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه)(1).

وهناك الكثير من الروايات التي جاءت لتحث الصائم على الإلتزام بالضوابط كي لا يخرج عن حدوده، وكل هذه الضوابط من الواجبات وغيرها توجب تقوية الإرادة، وبالتالي سوف يكون الصائم قوي الإرادة صلب الإيمان كابحاً للغرائز، لا يتعدى على حقوق غيره ولا على حقوق نفسه، فإن المعصية تجاوز على حق النفس كما ورد في دعاء كميل (ظلمت نفسی) (2).

ص: 229


1- بحار الأنوار: ج 96 ص 295 كتاب الصوم:باب 36، ح25، ط طهران.
2- مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

الكرامة أولاً

أول ما يسأله الإنسان في هذا الدعاء الوارد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اليوم الثامن من شهر رمضان هو: (اللّهمّ ارزقني فيه رحمة الأيتام) فإنه منذ أن خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان خلقه على أحسن هيئة وكرّمه على باقي مخلوقاته، بل أخضع جميع ما في هذا الكون للإنسان، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (1).

وقال سبحانه: ﴿وخَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (2).

إذن ليس من المعقول في أي حال من الأحوال أن نأتي ونذل الذي كرمه اللّه تعالى، فعندما أثبت القرآن الكريم التكريم الإلهي لنوع الإنسان من دون فرق وذلك لأنهم أولاد أب واحد، وهو آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأم واحدة وهي حواء (عَلَيهَا السَّلَامُ) فعلينا أن نمتنع من الوقوع في النزاع والخصام وذلك لكي تعم المحبة والألفة بين الأفراد، إضافة إلى أن الإسلام هو دین المحبة، والذي لا يقبل في أي حال من الأحوال الخصام والنزاع في الباطل، لذلك شرع لنا كافة نظم العلاقات الصحيحة المبنية على التفاهم والمحبة.. وشرع لنا السياسة التي تحدد صلات بعضنا بالبعض الآخر، والأخلاق التي ترفع الإنسان إلى أسمى غاية من مراحل الكمال، فالدين الإسلامي هو شريعة لكل البشر ولكل الشعوب التي تريد التقدم نحو الأمام، وهو علم وعمل وسعادة، فالدين لا يعترف أبداً بجعل الفوارق الباطلة بين الناس ولا بجعل الطبقية التي بها يفسد المجتمع، بل دائماً يوصي آناء الليل وأطراف النهار بإزالة كل الفوارق التي توضع من قبل الذين يتمددون ويتنعمون على حساب الضعفاء من بني جنسهم، قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) (3)

ص: 230


1- سورة الأسراء: 70.
2- سورة البقرة: 29.
3- سورة هود: 50.

نلاحظ في هذه الآية المباركة أنها وصفت هودا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بكونه أخاهم، وهذا التعبير جار في لغة العرب، لأنهم يطلقون كلمة (الاخ) على جميع أفراد القبيلة لأنهم ينتسبون إلى أصل واحد، فمثلاً يقولون في الأسدي: (أخو أسد) وفي الرجل من قبيلة مذحج (أخو مذحج).

وقد يكون هذا التعبير يشير إلى أن معاملة هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبياً مبعوثاً من قبل اللّه، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) جميعاً، فهم لا يعاملون الناس من منطلق الزعامة والرئاسة بل من منطلق الأخوة، فكانت معاملتهم معاملة من دون أي امتياز أو طلب للاستعلاء.

فالقرآن الكريم الذي عبر بهذا التعبير ووصف هود بأنه أخ لعاد، أراد من هذا البيان أن يقول بأنكم جميعاً من آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) و آدم من تراب، كما في الحديث الشريف (1)، ولا فرق بين إنسان وإنسان آخر، إذ القرآن لا يعترف بالفوارق التي توضع.

نعم هناك ضوابط أمر اللّه تعالى بها وفرضها على البشر وذلك لكي يلتزموا بها باعتبار أنها موصلة إلى سعادة الإنسان، فأخوة هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) لعاد لم تكن أخوة عقائدية باعتبار أن هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان نبياً من أنبياء اللّه، وعاد كانوا قوماً مشركين، ولكن الظاهر أن اللّه تعالى أراد أن يقول بأنكم جميعاً أخوة بالمنشأ والخلقة، ولا ميزة لأحد على أحد إلا بالتقوى التي هي أساس السعادة.

روي عن إمام الموحدين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (أول المروة طلاقة الوجه و آخرها التودد إلى الناس) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً أنه قال: (لا تتم مروة الرجل حتى يتفقه في دينه ويقتصد في معيشته ويصبر على النائبة إذا نزلت به ويستعذب مرارة إخوانه) (3).

وهنا قد نحتاج إلى وقفة في تفسير هاتين الروايتين، وهي:

ص: 231


1- راجع مكارم الأخلاق: 438.
2- غرر الحكم ص 258، الحديث 5495.
3- تحف العقول: 160.

أن التودد إلى الناس يتم عبر أمور:

منها: زرع المحبة والرحمة بينهم، ولعل من أهم أسباب هداية الناس إلى الإسلام كانت سياسة العطف والرحمة التي كان يوليها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى الناس، حتى قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إنما أنا رحمة مهداة) (1).

لأن الرحمة هي التي تجذب الناس وتعلمهم طريق الهدى، وأما العنف والقسوة توجب الانقضاض، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (2).

ولكي يزيد القرآن في ارتباط الناس بالإسلام ويشدهم إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر رسول العظيم بقوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (3).

وذلك لما للمحبة والتواضع من أثر كبير في زرع الثقة والايمان والمودة، ثم القوة والتماسك بين الناس.

ومنها: الصبر والتحمل على ما يلاقيه الإنسان من الإخوان، ومعلوم أن الصبر يتحقق في تحمل الإنسان لاذى الآخرين، إلا أن هناك مرتبة أرقى في الصبر وهي أن يستعذب مرارة إخوانه، وذلك لأن تحمل الإخوان يجذب محبتهم ويزيد في مكانته الدنيا، وأما في الآخرة فيعطيه الأجر الكبير.. ومن هنا عبرت الرواية: (ويستعذب مرارة اخوانه) وهذا ما يسمى في علم الأخلاق بمرحلة الرضا.

ومنها: الإحسان إلى الآخرين، سواء بالتعاطف معهم أو تقديم الخدمات اليهم، أو كفالة أيتامهم ونحو ذلك، لما للاحسان من دور كبير في اشباع العواطف وتربية النفوس لتصبح قوية نافعة في المجتمع.

إلى غير ذلك مما يوجب التودد والمحبة بين الناس.

ص: 232


1- كشف الغمة : ج 1، ص 8 تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 1، ص 7.
2- سورة آل عمران: 159.
3- سورة الشعراء: 215.

المحبة للبتيم

وهكذا أوصت الآيات الكريمة والروايات الشريفة بتكريس حالة المؤاخاة والمحبة في نفوس أفراد المجتمع، وقد أكد الإسلام على ذلك بأساليب وطرق عديدة، وبين مصاديق مختلفة لها، منها الرحمة للايتام معنوياً ومادياً، فقد جاءت آيات وروايات عديدة تؤكد على هذا المعنى كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (1).

وقوله سبحانه: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (2).

وقوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (3).

فعن ابن عباس قال: إنه خطاب لولي اليتيم يأمره بأداء الأمانة فيه والقيام بحفظه كما لو خاف على مخلفية إذا كانوا ضعافاً وأحب أن يفعل بهم مثل ذلك (4).

وهناك روايات أيضاً جاءت لتضمن حقوق اليتيم وتوصي به خيراً، ففي وصايا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبل شهادته: (اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبوا (5) أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول من عال يتيماً حتى يستغني أوجب اللّه عز وجل له الجنة كما أوجب لأكل مال اليتيم النار) (6).

ص: 233


1- سورة البقرة: 83.
2- سورة البقرة: 177.
3- سورة النساء: 10.
4- فقه القرآن: ج 2، ص 307.
5- أغب القوم: جاءهم يوماً وترك يوماً، أي لا تجيعوهم بأن تطعموهم غبا.
6- فروع الكافي: ج 7، ص 51.

هكذا أمر اللّه تعالى بالنسبة إلى اليتيم وذلك لكي يخلق من الأيتام جيلاً صالحاً بعد أن فقد من يعوله، فالإسلام العظيم ضمن حقه وضمن تربيته وأمر بكفالته لكي لا يعيش الفاقد لولي أمره حالة من الوحدة والعزلة والحرمان، وبالتالي قد ينشأ إنساناً غير سوي يتحول إلى جريمة في المجتمع فلهذه الأسباب وغيرها حثت الآيات المباركة والأحاديث الشريفة على التحنن والتعاطف مع اليتيم، فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (كن لليتيم كالأب الرحيم واعلم أنك تزرع كذلك تحصد) (1). وهذا الدعاء يعلمنا أن نرحم الأيتام حيث يقول: (اللّهمّ ارزقني فيه رحمة الأيتام).

فقد كرس الإسلام حالة التكافل الاجتماعي لكي يخلق للإنسان جواً ملأه الحب والرحمة والاخاء بين بني نوعه، وجاءت الروايات تشجع وتعد بالثواب العظيم على ذلك، فنرى بعض الأحاديث ترتب الأثر حتى على من وضع يده على رأس اليتيم تحننا ورحمة منه عليه، فوصل الحد إلى أن يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً له إلا كتب اللّه له بكل شعرة مرت يده عليها حسنة) (2).

وفي علل الشرائع باسناده عن محمد بن سنان أن أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: (حرم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد، أول ذلك إذا أكل مال اليتيم ظلماً فقد أعان على قتله إذ اليتيم غير مستغن، ولا محتمل لنفسه ولا قائم بشأنه ولا له من يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه فإذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيره إلى الفقر والفاقة مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدرك وقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا) (3).

ولعل من هنا ورد ذكر الرحمة بالايتام مقرونة في شهر رمضان لأن الصوم يرقق مشاعر الإنسان ويلطف روحه ويجعل حواسه مرهفة.

ص: 234


1- بحارالأنوار: ج 74 ص 173، كتاب الروضة، باب ما جمع من مفردات كلماته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ط بیروت.
2- بحار الأنوار: ج 72، ص 4 باب 31 العشرة مع اليتامى ح 9، ط طهران.
3- علل الشرائع: ص 480، باب 32.

إذ أن الإنسان الذي يذق ألم الجوع والعطش وخاصة في صيام الصيف ترق مشاعره وتسمو روحه فيحسّ بمشاعر الآخرين وآلامهم أكثر فأكثر.. وبهذا تكون الأرضية مهيأة لإدراك معاناة الأيتام الذين لا كافل لهم ويعانون عادة من ألم الجوع، لذا فيطلب المؤمن من اللّه تعالى أن يرزقه الرحمة بالأيتام.. حيث يقول: (وارزقني فيه رحمة الأيتام).

وقد سجل التاريخ قصصاً كثيرة عن اهتمام الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالايتام بعضها معروفة ومشهورة، كما روي أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد واقعة صفين رأى أطفال عمار (رضوان اللّه عليه) ويتاماه، فتأثر بذلك كثيراً وتعطف عليهم وأخذ يقرأ هذه الأبيات:

ما أن تأوهت من شيء رزئت به***كما تأوهت للأيتام في الصغر

قد كان والدهم من كان يكفلهم***في النائبات وفي الأسفار والحضر

وفي هذا روي أيضاً أن بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما كان يخلو من يتيم أبداً.. فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يربييتيماً في بيته دائماً.

ومن جانب آخر فقد جعل اللّه سبحانه في أموال الأثرياء حقاً للمحرومين والفقراء والأيتام، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (1).

وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (2).

وقد جاء في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (وأما حق الغريم الطالب لك، فإن كنت مؤسراً أوفيته وكفيته وأغنيته ولم ترده وتمطله، فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : (مطل الغني ظلم) وإن كنت معسراً أرضيته بحسن القول، وطلبت إليه طلباً جميلاً ورددته عن نفسك رداً لطيفاً ولم تجمع عليه ذهاب ماله وسوء معاملته، فإن ذلك لؤم ولا قوة إلا باللّه) (3).

ص: 235


1- سورة المعارج: 24.
2- سورة التوبة: 34 – 35.
3- بحار الأنوار: ج 71، ص18، کتاب العشرة، باب،1، جوامع الحقوق، ط بيروت.

وعن جعفر عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (سئل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه أي الأعمال أحب إلى اللّه؟ قال: اتباع سرور المسلم، قال: وقيل يا رسول اللّه و ما اتباع سرور المسلم؟

قال: شبعة جوعه، وتنفيس كربته، وقضاء دينه) (1).

وينقل عن الأديب المصري مصطفى المنفلوطي أنه ذكر في إحدى كتبه، قال: رأيت رجلاً على قارعة الطريق بأن ويصرخ، قلت له: ما بك؟

قال: الجوع قد قتلني.

فتركته ومشيت، وإذا برجل آخر أيضاً يبكي ويصرخ، قلت له: وأنت ما بك؟

قال: من كثرة ما أكلت، بطني يؤلمني.

فقلت في نفسي: لو أن هذا لم يأكل كثيراً وكان قد أعطى الزائد من طعامه إلى ذلك الجائع لما تأذى وبكى ولما بكى ذاك أيضاً من ألم الجوع.

نعم هكذا يصبح المجتمع لو ترك العمل بتعاليم الإسلام، ومن هنا ورد عن الامام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): أفضل المال ما قضيت به الحقوق) (2).

ومن قضاء الحقوق أن يحسن اللسان بآلام الآخرين ويشاركهم في مكاره دهر هم مواساة لهم فيعمل لإطعام جائعهم واكساء عريانهم.

وهذا من فلسفة الصوم، لأن الإنسان إذا جاع وتلوى في وطأة الجوع سيحس أكثر بجوع أصحابه وأقرانه، وإذا كواه العطش سيطفئ حرارة من شكا إليه حر الغليل، وهكذا. وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (المال ما أفاد الرجال) (3).

وجدير بمن دخل في الإسلام أن ينتهج على منهاجه ويمشي في سبيله وإلا فليس المسلم ب_(م س ل م) إنما هو من يمتثل أوامره ويتحلى بمثله وقيمه (4).

روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (من واسى الفقير وانصف الناس من نفسه فذلك

ص: 236


1- بحار الأنوار: ج 71، ص 283، كتاب العشرة باب 20، قضاء حاجة المؤمن، ح2، ط بيروت.
2- غرر الحكم: ج 1، ص 202.
3- غرر الحكم الحديث، 9257.
4- الفضيلة الإسلامية: ج 1، ص 90.

المؤمن حقاً) (1).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (ألا أخبركم بأشد ما فرض اللّه على خلقه، فذكر ثلاثة أشياء، أولها: إنصاف الناس من نفسك..) (2).

و عن أبي قتادة القمي رفعه إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (تذاكرنا أمر الفتوة عنده، فقال: أتظنون أن الفتوة بالفسق والفجور، إنما الفتوة طعام موضوع، ونائل مبذول، وبشر معروف، وأذى مكفوك، فأما تلك فشطارة وفسق ثم قال ما المروة؟ قالوا: لا نعلم قال: المروة واللّه أن يضع الرجل خوانه في فناء داره) (3).

وعن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (أفضل المروة مواساة الإخوان بالأموال ومساواتهم في الأحوال) (4).

نعم حتى في المعاملات التي تجري بين المسلمين جاءت الروايات لتقول ليرحم بعضكم بعضاً فيها، وذلك لكي يوجد صفاء الأخوة والمحبة في التعامل مع الآخرين في نفس الوقت الذي يعطي فرصة للذين لا يجدون رغيفاً يأكلونه إلا بشق الأنفس، فقد روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه ليس من المروة الربح على الإخوان. فإن الربح وكما هو معروف حلال بطريقه المشروع، ولكن جاءت بعض الروايات لتعلن شفافيتها تجاه الإنسان واخوانه وتقول أن الربح على الإخوان خلاف المروة، وذلك لكي نكون كلنا مشاعر وأحاسيس طيبة تجاه بعضنا للبعض الآخر. وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونواكما أمركم اللّه عزوجل رحماء بينكم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )) (5).

ص: 237


1- بحار الأنوار: ج 75، ص 25، باب 35، الإنصاف والعدل ح 5، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 75، ص 34، باب 35، ح27، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 67، ص 5، كتاب الإيمان والكفر، ح 3، و مكارم الاخلاق باب المنجيات والمهلكات، ط بيروت.
4- غرر الحكم ص 258، الحديث 5504.
5- جامع السعادات: ج 1، ص 406.

لا طبقية في الإسلام

لو ألقينا نظرة على الحضارات التي سبقت مجيء الإسلام لوجدنا أنها تعتقد شديداً بالعنصرية والطبقية والفوارق العرقية وما أشبه، فتفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان وتجعل بينهما فوارق وهمية عديدة مصطنعة مما تعيق بعض الناس من الوصول إلى حقوقهم المشروعة، وتحرمهم من ذلك والظاهر أنها كانت فلسفة حاكمة على الحياة آنذاك.

وربما أمكن لمس بعض الإشارات إليها من خلال ظواهر كلماتهم.. فأفلاطون الذي يعتبر من أساطين الفكر اليوناني كان يفرق بين الإنسان والآخر إذ كان يقول: (أقصى ما يبلغ أهالي هذه الجمهورية من الحرية هو تطاول العبيد من الجنسين على حرية أسيادهم).

أما الفيلسوف الآخر (أرسطو طاليس) فكان يقسم الآلة إلى قسمين: ناطقة، و صامتة، الآلة الناطقة هم العمال، أما الصامتة فأدوات العمل، ثم يقول: يجب أن نسترق (الآلة الناطقة) أي العمال إلى أن تتحرك الآلة الصامتة (أدوات العمل) وحدها (1).

فهذه قوانين كانت وما زالت تحكم المجتمعات المتحضرة كما يسمونها وعلى ضوءها يجري تقييم البشر والتعامل معهم، وهذه ليست سمة الحضارة الغربية فقط، وإنما تعمّ باقي الحضارات غير الإسلامية، فهي أيضاً تعيش هذا المرض العضال، مثل حضارة الرومان أو الهند.

أما الإسلام فيتعامل مع الإنسان حسب الموازين الإنسانية إذ جعل ميزان التفاضل

ص: 238


1- كتاب السياسة، لأرسطو طاليس.

التقوى والعمل الصالح، كما جعل اختلاف البشر التكويني طريقاً إلى التعارف والتفاهم لا العنصرية والطبقية وما أشبه كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1).

أي من آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحواء (عَلَيهَا السَّلَامُ) والمعنى أنكم متساوون في النسب، لأن كلكم يرجع في نسبه إلى آدم وحواء (عليهما السلام).

وقد زجر اللّه سبحانه عن التفاخر بالانساب في آيات عديدة، وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : (إنما أنتم من رجل وامرأة كجمام الصاع ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى، ثم ذكر سبحانه أنه إنما فرق أنساب الناس ليتعارفوالا ليتفاخروا فقال: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ)) (2).

وقد جسّد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه ذلك في أصحابه فكان كأحدهم يتعامل معهم معاملة الأخ والأب والصديق بلا تفريق أو تمييز بين حر أو عبد وهو خير خلق اللّه تعالى، فكان سلوكه التواضع بين الناس ولا يجعل لنفسه فارقاً عن غيره، كما ورد عن يحيى بن كثير أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: (أكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد فإنما أنا عبد، وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يجلس محتفرا) (3).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (مرت امرأة بدوية برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو يأكل جالساً على الحضيض، فقالت يا محمد واللّه إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ويحك أي عبد أعبد مني ؟ قالت: فناولني لقمة من طعامك فناولها، فقالت: لا واللّه إلا التي في فمك، فأخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللقمة من فمه فناولها) (4).

وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (خمس لا أدعهن حتى الممات، الأكل على الحضيض مع العبيد، وركوبي الحمار مؤكفا، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف،

ص: 239


1- سورة الحجرات: 13.
2- مجمع البيان: ج 9، ص البيان: ج 9، ص 137-138.
3- راجع مكارم الأخلاق ص 27، ودعائم الإسلام ج 2، ص 118.
4- راجع المحاسن: ص 457، ح 388.

والتسليم على الصبيان لتكون سنة من بعدي) (1).

وعن أبي ذر الغفاري (رضوان اللّه عليه) أنه قال: (كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يجلس بين ظهراني أصحابه فيجي الغريب فلا يدري أيهم هو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين وكان يجلس عليه ونجلس بجانبه) (2).

و عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً: (بئس العبد عبد تجبّر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد تبختر واختال ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد غفل وسها ونسي المقابر والبلى، بئس العبد عبد عتى وبغى ونسي المبدأ والمنتهى) (3).

وهناك شاهد آخر في قصة زواج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من زينب بنت جحش حتى تتحطم سنن الجاهلية غير الصحيحة، يقول تعالى: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) (4).

شأن نزول الآية الشريفة هي: قضية زواج زينب بنت جحش بنت عمة الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بزيد بن حارثة مولى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المعتق، والقصة كما يلي:

كانت خديجة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد اشترت قبل البعثة عبداً اسمه زيد، ثم وهبته للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد زواجها، فأعتقه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).. فلما أسلم زيد طردته عشيرته وتبناه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبعد ظهور الإسلام أصبح زيد مسلماً مخلصاً متفانياً وصار له موقع ممتاز في الإسلام، فإنه أصبح في النهاية أحد قواد جيش الإسلام في معركة مؤتة واستشهد فيها، وعندما صمم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على أن ينتخب زوجة لزيد خطب له زينب بنت جحش والتي كانت بنت أمية بن عبد المطلب أي بنت عمته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، غير أن هذا الزواج لم يدم طويلاً بل انتهى إلى الطلاق نتيجة عدم الانسجام واختلاف أخلاق الزوجين، بالرغم من أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان

ص: 240


1- راجع علل الشرائع: ص 130.
2- راجع مكارم الأخلاق: ص 16.
3- جامع السعادات، ج 1، ص 382.
4- سورة الأحزاب: 37.

مصراً على أن لا يتم هذا الطلاق، وبعد ذلك اتخذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )بأمر اللّه زينب زوجة له لتعوض بذلك فشلها في زواجها.

فكانت المسألة أخلاقية وإنسانية وكذلك كانت وسيلة مؤثرة لكسر سنتين جاهليتين خاطئتين، هما: الاقتران بمطلقة الابن المتبنى، والزواج من مطلقة عبد معتق.

فهذا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه الذي شرفه وفضله اللّه تعالى على سائر المخلوقات، وذاك أفلاطون الذي كان يقول: (أقصى ما يبلغ أهالي هذه الجمهورية - الديقراطية - هو تطاول العبيد من الجنسين على حرية أسيادهم).

وهناك في الإسلام آيات وروايات كثيرة تمنع عن الفوارق العرقية وما أشبه، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) (1).

ولكن سائر الحضارات كانت تفرق بين الإنسان والإنسان الآخر بفوارق مزعومة، والقرآن الكريم يؤكد على أنه لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2).

فالتقوى أعلى القيم الإنسانية حسب دلالة هذه الآية المباركة، فإنها تخاطب جميع الناس وتبين أهم أصل يضمن النظم والثبات وتميز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة.

والمراد ب_ (خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى آدم وحواء (عليهما السلام) فطالما كان الجميع من جذر واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على أخرى من حيث النسب، وإذا كان اللّه سبحانه قد خلق لكل قبيلة أولادها خصائص ووظائف معينة فإنما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية، لأن هذه الاختلافات مدعاة لمعرفة الناس بعضهم بعضاً.

ص: 241


1- سورة الحجرات: 11.
2- سورة الحجرات: 13.

ينقل أن امرأتين أتيتا أمير المؤمنين علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ)عند القسمة، إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين در هماً وكراً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم!

فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): واللّه لا أجد لبني اسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بنی اسحاق (1). وفي رواية أخرى أن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولى بيت مال المدينة عمار بن ياسر وأبا الهيثم بن التيهان فكتب العربي والقرشي والانصاري والعجمي وكل من كان في الإسلام من قبائل العرب وأجناس العجم سواء.

فأتاه سهل بن حنيف بمولى له أسود، فقال: كم تعطي هذا؟

فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): كم أخذت أنت؟

قال: ثلاثة دنانير وكذلك أخذ الناس.

قال: فاعطوا مولاه ما أخذ ثلاثة دنانير (2).

نعم هذا هو الإسلام الذي لا يفرق بين إنسان وإنسان آخر إلا بالتقوى، ومن هذا المنطلق ترى أنه يعمّ الإخاء والمحبة بين أفراد المجتمع، ولا توجد ميزات كاذبة.

ومن هنا فإن المؤمن في شهر رمضان المبارك يسأل اللّه تبارك وتعالى أن يرزقه إطعام الطعام وإفشاء السلام وصحبة الكرام لتكريس المحبة والألفة بينه وبين الناس، ولأن كرام النفوس يمتازون بالرحمة والمودة ويترفعون عن العداء والحقد، ولذلك يطلب المؤمن أن يرزقه صحبتهم لكي يتعلم منهم هذا السلوك الرفيع.

روي عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (صحبة الأخيار تكسب الخير كالريح إذا مرت بالطيب حملت طباً) (3).

وعنه : (صاحب العقلاء تغنم، واعرض عن الدنيا تسلم) (4).

ص: 242


1- وسائل الشيعة : ج 11، ص 81 ب 39.
2- الإختصاص: ص 147، فضائل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من كتاب ابن دآب.
3- غرر الحكم ج 1، ص 413.
4- غرر الحكم ج 1، ص 413.

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (صحبة الولي اللبيب حياة الروح)(1). ولعل ورود هذا الدعاء في هذا الشهر المبارك ومقارنته لأعمال الصوم لأن الصوم هو الظرف المناسب والأفضل لإيجاد هذه الأحاسيس والمشاعر المتبادلة، إذ أن شهر رمضان المبارك يمتاز بخصيصة متميزة عن باقي شهور السنة، إذ هو شهر الرحمة والخير والبركة، وفي هذا الشهر العظيم تعم المحبة وتنتشر بين الناس فتجعلهم أقرب إلى بعضهم، وحقاً ما يقوله البعض أن شهر رمضان شهر صفاء النفوس والقلوب ونزع الغل وشوائبه، وهذا الكلام مستفاد من الروايات:

وفيما أوصى به أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند استشهاده: (عليك بالصوم فإنه زكاة البدن وجنة لأهله) (2).

وقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر اللّه ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة والقبل والقهقهة بالضحك فإن اللّه مقت ذلك) (3).

وروي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إنّ الصيام ليس من الطعام والشراب وحده وإنما للصوم شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم وهو صمت الداخل، أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (4) يعني صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا

تسابوا ولا تشاتموا ولا تفاتروا ولا تجادلوا ولا تتأذوا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا

ص: 243


1- غرر الحكم: ج 1، ص 414.
2- بحار الأنوار: ج 93، ص 248، كتاب الصوم، باب فضل الصيام، ح 10، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 93، ص 292، کتاب الصوم، باب آداب الصائم، ح16، ط بيروت.
4- سورة مريم: 26.

تضاجروا ولا تغفلوا عن ذكر اللّه وعن الصلاة، وألزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر واجتنبوا قول الزور والكذب والفري والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة) (1). إلى آخر الحديث.

ص: 244


1- بحار الأنوار: ج 93، ص،292، کتاب الصوم، باب آداب الصائم، ح16، ط بيروت.

من آداب الإسلام

من أهم ما يوجب المحبة والصفاء في المجتمع إطعام الطعام والضيافات وما أشبه، وشهر رمضان المبارك يكون وقتاً مناسباً لذلك، فترى المؤمنين يهتمون بتقديم الإفطار للأحبة وذوي رحمهم ولسائر المؤمنين، وخصوصاً للفقراء منهم، وقد وردت روايات كثيرة في فضل إطعام بشكل عام، وفي فضل افطار المؤمنين في شهر رمضان خاصة، نشير إلى بعضها:

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المنجيات ثلاث: إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام)(1).

وعن محمد بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إطعام مؤمن يعدل عتق رقبة) (2).

وقال تعالى في مدح أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ): (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (3).

وقال : (ما آمن باللّه من شبع وأخوه جائع)(4).

كما ورد عن الإمام الباقر أنه قال: (خطب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الناس في آخر جمعة من شهر شعبان، وقال: (أيها الناس قد أظلكم شهر فيه ليلة القدر.. وهو شهر رمضان.. من أفطر فيه مؤمناً كان له بذلك عند اللّه عز وجل عتق رقبة ومغفرة الذنوب فيما مضى، فقيل: يا رسول اللّه، ليس كلنا يقدر على أن نفطر صائماً، فقال: أن اللّه تبارك وتعالى

ص: 245


1- مكارم الأخلاق: ص 133، فصل في فضل اطعام الطعام.
2- دعائم الإسلام: ج 2، ص 105، ح 336.
3- سورة الإنسان: 8.
4- مكارم الأخلاق: ص 133 فصل في فضل إطعام الطعام.

كريم، يعطي هذا الثواب منكم من لم يقدر إلا على مذقة من لبن ففطر بها صائماً أو شربة ماء عذب أو تميرات لا يقدر على أكثر من ذلك) (1).

وهنا نقطة لابد من الإشارة إليها وهي أنه لم يقيد إطعام الطعام في هذا الدعاء بالفقراء فقط، وذلك لأن أصل الطعام حتى للأغنياء مطلوب وأن كان إطعام الفقراء يشتمل على جهة أخرى وثواب آخر، ومن هنا نقرأ ونردد هذه الكلمات: (اللّهمّ ارزقني.. إطعام الطعام وإفشاء السلام).

لكل قوم تحية خاصة، وتحية المسلمين (السلام فما أجمل هذه التحية، أنها دعاء للمؤمن بالأمن والسلامة والخير والبركة، وقد أمرنا الإسلام بالسلام قبل الكلام حيث قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): السلام قبل الكلام)(2).

كما أمر بإفشائه حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (وافش السلام يكثر خير بيتك) (3).

ثم إن إفشاء السلام من أهمّ ما يوجب المحبة والمودة بين المؤمنين كما هو واضح.

هذا ويحتمل أن يراد بكلمة (السلام) وافشائها المعنى الأعم من التحية الخاصة، فيشمل كل سلام في المجتمع ويرفض العنف وما يؤدي إليه، بمختلف أسبابه، لأن الإسلام لا يرضى بالعنف ويؤكد على لزوم اتباع السلم و السلام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (4).

ثم يسأل العبد ربه في هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يرزقه صحبة الكرام، حيث يقول: (اللّهمّ ارزقني.. صحبة الكرام)، فمن هم الكرام؟

يقول تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (5) وهذه الصفة تعطي عدة معانٍ

ص: 246


1- روضة الواعظين ص 339.
2- جامع الأخبار: ص 89 فصل 46.
3- الخصال: ص 180 ثواب ثلاث خصال.
4- سورة البقرة: 208.
5- سورة الفرقان: 72.

سامية: فقد ورد في تفسير هذه الآية أنها من الصفات الرفيعة للمؤمنين، والكام في الآية الشريفة هم الذين (لا يحضرون مجالس الباطل ولا يتلوثون باللغو والبطلان) (1). و (إذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم) (2).

ونقول: (تكرم فلان عما يشينه: إذا تنزه وأكرم نفسه منه) (3).

فيكون مرور الكرام بأصحاب المجالس الباطلة أنهم يمرون (معرضين عنهم منزهين أنفسهم عن الدخول فيهم والاختلاط بهم ومجالستهم) (4).

ويدل طلب المؤمن الداعي للصحبة مع هذا النوع من الناس على أهمية وأثر الصحبة أو لا كمقياس لشخصية الإنسان والاقتباس من صاحبه كما في القول الشائع:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه***فکل قرین بالمقارن يقتدي

اضافة إلى أهمية اختيار نوع الصحبة، فهؤلاء الذين يتحدث عنهم الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم التاسع من محرم بقوله: (اني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي) (5) لأنهم وفوا حق صحبته ووطنوا أنفسهم على الشهادة في سبيل العقيدة فهم:

نفوس أبت ألا ترات أبيهم***فهم بين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى***كما أنست أقدامه بالمنابر (6)

ولذا نرى أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) خاطبهم في صبح العاشر : (يا أبناء الكرام) وكأنه اشارة إلى أن أمثال هذه النفوس الكبيرة لا تنجبها إلا آباء كرماء وأمهات كريمات، لأن الأصل يؤثر في فرعه.. بينما نجده (صلوات اللّه عليه) وبعد ظهر عاشوراء خاطبهم: (ياكرام) لأنهم

ص: 247


1- راجع تفسير الأمثل: ج 11، ص 282.
2- تفسير الأمثل: ج 11، ص 282.
3- تفسير الميزان ج 19، ص 244.
4- تفسير الميزان ج 19، ص 244.
5- مقتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للمقرم: ص 86.
6- مثير الأحزان: ص 53.

بذلوا نفوسهم وأرواحهم في سبيل إمامهم ومبادئهم، ومعلوم أن الجود بالنفس أقصى غاية الجود..

لذا ينبغي للمؤمن أن يسأل اللّه تعالى أن يوفقه لأن يكون من الكرام ومن أصحاب ذوي الكرم والنفوس الكبيرة العظيمة لينال بهم عزة في هذه الحياة الدنيا ونعيم في الآخرة.

ثم إن أعلى مصداق للكرام هم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ثم من يلوذ بهم ويمشي في خطاهم من العلماء والمؤمنين فيكون هذا الدعاء إشارة إلى أهمية مصاحبتهم وتبعيتهم.

وفي آخر هذا الدعاء نقرأ: (بطولك يا ملجأ الآملين) والطول في اللغة بمعنى: (الفضل العطاء، القدرة الغنى).

وقد أمرنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن ندعو بهذه الكلمات حتى نعرف بأن اللّه هو الملجأ للآملين، فينبغي أن لا يلجأ الإنسان إلا إلى اللّه، فإنه نعم المولى ونعم النصير.

ص: 248

رحمة اللّه قريب من المحسنين

دعاء اليوم التاسع

9

اللّهمّ اجْعَلْ لِي فِيهِ نَصِيباً مِن رَحْمَتِكَ الْواسِعَةِ، وَاهْدِنِي فِيهِ لِبَرَاهِينِكَ السَّاطِعَةِ، وَخُذْ بِناصِيَتِي إِلَى مَرْضاتِكَ الْجَامِعَةِ بمَحَيَّتِكَ يا أَمَلَ الْمُشْتاقين.

البلد الأمين: ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (من دعا به أعطي ثواب بني اسرائيل).

ص: 249

ص: 250

الرحمة الإلهية

الإنسان المسلم عندما يردد كلمات الدعاء إنما يعبر عن اعترافه بقدرة الخالق ورحمته، ويظهر فقره إلى ربه فيدعوه لعلمه بأنه تعالى هو مالك الأمر، وهو القادر على كشف الضر، وهو معه في الشدة والرخاء، ولذلك اعتبر اللجوء إلى اللّه سبحانه، والرجوع إليه تعالى، وذكره عزوجل هدى وتلمساً لطريق الصواب واكتشافاً لحقيقة الوجود الإنساني.

فالمهتدون هم الذين يذكرون اللّه على كل حال وهم الذين يستحقون الرحمة والتحنن والبركات والمغفرة كما قال تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (1).

وقال عز وجل: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (2).

وبذلك يكون الذكر هو التعبير عن دوام الرابطة بين اللّه والإنسان في كل آن من آنات الوجود.

وبالذكر يستحق العبد رحمة ربه كما قال اللّه الحكيم: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) (3). فإذا أراد الإنسان أن يجعل اللّه له نصيباً من رحمته الواسعة فعليه بالذكر الكثير.

وفي أول مقطع من هذا الدعاء الوارد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اليوم التاسع من شهر

ص: 251


1- سورة البقرة: 156 و 157.
2- سورة آل عمران: 191.
3- سورة البقرة: 152.

رمضان المبارك نقرأ: (اللّهمّ اجعل لي فيه نصيباً من رحمتك الواسعة فبالرحمة تبتدأ النعم وبالرحمة تدوم.. أي أن الرحمة هي العلة المحدثة، وهي العلة المبقية، وقد أبى اللّه إلا أن يتعامل مع خلقه بالرحمة حيث قال: (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ﴾ (1).

فأصل الخلقة رحمة وخصوصيتها رحمة أخرى، التكوين رحمة.. والتشريع رحمة، وقدرة الإنسان على الأعمال رحمة.. وجزاء هذه الأعمال رحمة أيضاً، فكل شيء في الوجود قائم على الرحمة، فرحمته وسعت كل شيء..

فالإنسان لا يستحق من اللّه شيئاً بمعنى أنه ليس للإنسان على اللّه حق وواجب إلا ما أوجب اللّه على نفسه وهذا بحث مفصل مذكور في علم الكلام.

إذن الإنسان المؤمن الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات يعمل بوظيفته وواجبه لا أكثر بالإضافة إلى أنه لا يُعد كل ذلك شكراً لواحدة من نعم اللّه تعالى عليه، فكيف يستحق شيئاً؟ ولكن مع ذلك فإن اللّه برحمته الواسعة يتفضل على الإنسان بإعطائه الثواب العظيم، فالثواب رحمة أيضاً، قال تعالى في وصف المؤمنين وعاقبة أمرهم: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (2).

وقال بعض المفسرين حول ما تعنيه عبارة أحسن ما عملوا في هذه الآية: إنها

إشارة إلى جميع الأعمال الطيبة، سواء كانت واجبة أم مستحبة، صغيرة أم كبيرة. ویرى آخرون أنها إشارة إلى أن اللّه يكافئ الحسنة بعشر أمثالها، وأحياناً بسبعمائة، حيث نقرأ في الآية 160 من سورة الأنعام: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

كما جاء في الآية 261 من سورة البقرة حول جزاء المتقين في سبيل اللّه أن المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو أضعافها قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ

ص: 252


1- سورة الأنعام: 12.
2- سورة التوبة: 38.

عَلِيمٌ).

كما يمكن تفسير الآية بأن المقصود إن اللّه يكافئ العباد جميع أعمالهم بموجب أفضلها، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلها اللّه بمستوى أفضل الأعمال حين المكافأة، وليس هذا بعيداً عن رحمة اللّه وفضله، أما العدالة فتقتضي تناسب المكافأة مع العمل إلا أن رحمة اللّه وسعت كل شيء فهو يهب دون حساب ولا حدود، فذاته الطاهرة غير محدودة، وأنعمه لا تنتهي، وكرمه عظيم لا حدود له (1) ولذلك أكدت الأحاديث الشريفة على عظيم رحمة الخالق تعالى وفضله وكرمه.

روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إذا كان يوم القيامة نشر اللّه تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته) (2).

وفي تفسير القمي: (روي أنه لما بلغت الروح إلى دماغ آدم عطس فقال: الحمد اللّه، فقال اللّه له: يرحمك اللّه فسبقت له من اللّه الرحمة) (3).

ومن هنا يدعو العبد بقوله: (اللّهمّ اجعل لي فيه نصيباً من رحمتك الواسعة) لأنها فعلاً واسعة بما للكلمة من معنى، وبذلك قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أوحى اللّه عز وجل إلى داود: كما لا تضيق الشمس على من جلس فيها كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها) (4). وروي أنه قيل لعلي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوماً: إن الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك وإنما العجب ممن نجى كيف نجي؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أنا أقول ليس العجب ممن نجى كيف نجى وأما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة اللّه) (5).

وروي عن علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله

ص: 253


1- راجع تفسير الأمثل: ج 11، ص 97 و 98.
2- سفينة البحار ج 3، ص 333.
3- سفينة البحار: ج 3، ص 334.
4- سفينة البحار : ج 3، ص 334.
5- سفينة البحار : ج 3، ص 334.

إلا اللّه وحده لا شريك له، وشفاعة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) واسعة رحمة اللّه) (1).

وانطلاقاً من هذا المعنى وأملاً برحمة اللّه سبحانه بعباده بعد الموت.. رئي أبو نؤاس في المنام بعد موته، فقيل له ما فعل اللّه بك؟

فقال غفر لي وتجاوز عني لبيتين قلتهما قبل موتي وهما:

من أنا عند اللّه حتى إذا***أذنبت لا يغفر لي ذنبي

العفو يرجى من بني آدم***فكيف لا أرجوه من ربي (2)

فعندما ندعو بأدعية وردت عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بتفكير ووعي وتأمل وإخلاص، نحس بأننا نخاطب اللّه تعالى مباشرة، فيخشع قلبنا ويتحرك كياننا بالإقبال على اللّه عز وجل والرغبة في الإزدياد من التقرب إليه تعالى، والعمل على مرضاته، فهذا إمامنا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول في بعض مناجاته: (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، أنت كما أحب، فاجعلني كما تحب) (3).

وبهذه الكلمات القليلة عبر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن عمق المناجاة والدعاء إلى اللّه سبحانه، فلنتوسل إلى اللّه تعالى لكي يرحمنا ويغفر لنا ذنوبنا قبل أن يأتي يوم لامرد له، ولا ينفع فيه معذرة ولا ندم، ولا دعاء ولا طلب، لأن الدنيا دار عمل والآخرة دار الحساب كما في الحديث الشريف: (فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل) (4).

فالظاهر أن الدعاء لا يفيد الإنسان لأنه لا يستجاب، وبالتأكيد إذا حصل هذا - لاسمح اللّه - فإنه بسبب الإنسان نفسه وليس ذلك بخلاً في الرحمة الإلهية، لأن اللّه هو الغني المطلق، صاحب العطاء الوافر ولا يناله بخل أو ظلم ولكنه خص برحمته من يشاء من عباده وقد جعل رحمته في يوم القيامة للمؤمنين، أما في الدنيا فرحمته كانت

ص: 254


1- سفينة البحار: ج 3، ص 334.
2- الكنى والألقاب: ج 1، ص 170.
3- الخصال ص 390، باب الثلاثة.
4- الأمالي للشيخ المفيد: ص 92، المجلس 11، ح 1.

تشمل المؤمن والكافر.

إذاً باعتبار أن الآخرة خلقت للحساب فلاتكون رحمته تعالى شاملة للكافرين والمعاندين يوم القيامة، لذلك جاءت الآيات والروايات الشريفة تؤكد هذا المعنى وهو أن رحمة اللّه تعالى في يوم القيامة قريبة من الذين يحسنون في هذه الدنيا، وذلك لكي يعم الإحسان وتعم الرحمة بين أفراد المجتمع، وقد حذرت الآيات والروايات من الظلم وعدم الرحمة بين الناس قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (1).

ويمكن أن تكون هذه الآية المباركة إحدى شرائط إجابة الدعاء، يعني إذا أردتم أن لا تكون أدعيتكم خاوية ولا تكون مجرد لقلقة لسان يجب أن تقرنوه بعمل الخير والإحسان لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم.

وقد تكون الآية متضمنة للإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء وإجابته حيث قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (2)، والشروط هي كالتالي ملخصة:

1: أن يكون الدعاء عن تضرع وخيفة.

2: أن لا يتجاوز حد الاعتدال.

3: أن لا يكون مقروناً بالإفساد والمعصية.

4: أن يكون مقروناً بخوف وأمل متوازيين.

5: أن يكون مقروناً بالبر والإحسان، وفعل الخيرات.

وقد ذكرنا بعض شرائط الدعاء وإجابته فى المدخل للكتاب.

وذكروا في معنى الآية: أن إنعام اللّه قريب إلى فاعلي الإحسان.

وقيل: أن رحمة اللّه أي ثوابه قريب من المطيعين.

وقيل: المراد بالرحمة المطر، وربما يؤيده قوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ

ص: 255


1- سورة الأعراف: 56.
2- سورة الأعراف: 56.

كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (1).

و(الإحسان) هو النفع الذي يستحق به الحمد، و(الإساءة) هي الضرر الذي يستحق به الندم (2).

وجاء هذا المعنى أيضاً في سورة يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث يخبرنا القرآن عن النبي يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلاً: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (3).

وبما أن هذا الاستعداد يتوقف في بعض مراتبه على توفيق اللّه وتسديده كان لابد للإنسان أن يسأل ربه أن يعينه على ذلك وأن يوفقه لتهيئة الأسباب لذلك كما يقول في هذا الدعاء: (اللّهمّ اجعل لي فيه نصيباً من رحمتك الواسعة) في قبال أولئك الذين حرموا من هذا النصيب.

إذا إذا حرم بعض الناس من رحمته تعالى فليس بخلاً في ذاته المقدسة أو أن رحمته تعالى غير واسعة، بل لأن الإنسان نفسه لا يستحقها وذلك لارتكابه المعاصي والمظالم بحق نفسه أو بحق أفراد مجتمعه.

وبالتالي فإن المسألة تكون أشبه شيء بالمعادلة التكوينية والتشريعية التي جعلها اللّه، فإن من يرحم الآخرين يُرحم ومن لا يرحمهم لا يُرحم) كما قالوا (إرحم تُرحم) وكما ورد في الحديث الشريف: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(4)، وهذا كله لسعادة الإنسانية جمعاء باعتبار أن الباري تعالى لا يزيده شيء ولا ينقصه إذا نحن لم نرحم الآخرين، بل المستفيد والمتضرر هو الإنسان ولكن بما أن اللّه تعالى هو أرحم الراحمين جعل هذه المعادلة الكونية هي الحاكمة...

وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (بالرحمة تستنزل الرحمة).

ص: 256


1- سورة الروم: 50.
2- مجمع البيان: ج 4، ص 430.
3- سورة يوسف: 56.
4- غوالي اللئالي: ج 1، ص 361.

وفي حديث آخر: (ارحموا ضعفاءكم واطلبوا الرحمة من اللّه بالرحمة لهم) (1).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (أيما مؤ من أتاه أخاه في حاجة فإنما ذلك رحمة من اللّه ساقها إليه وسببها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرحمة بقبولها وإن رده عن حاجته وهو يقدر على قضائها فإنما ردَّ عن نفسه رحمة من اللّه عز وجل ساقها إليه وسببها له، وذخَّر اللّه تلك الرحمة إلى يوم القيامة، حتى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه وإن شاء صرفها إلى غيره، فإذا كان يوم القيامة وهو الحاكم في رحمة من اللّه تعالى قد شرعت له فإلى من تُرى يُصرفها؟ قال الراوي: لا أظن يصرفها عن نفسه، قال: لا تظن ولكن استيقن فإنه لن يردها عن نفسه) (2).

ومعلوم أن الرحمة الإلهية كما تشمل الإنسان بسبب أعماله الصالحة كذلك تشمله بسبب أعمال ذريته وأولاده، وهذا هو الآخر دليل على سعة رحمة اللّه وفضله وكرمه بحيث يُرحم الإنسان بسبب فعل غيره، ولكن لا يعذب أحداً بفعل غيره، كما قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (3).

يروى أن عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) مر بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب فقال: (يارب مررت بهذا القبر عام أول وهو يعذب ومررت به العام فإذا هو ليس يعذب؟ فأوحى اللّه إليه: يا روح اللّه إنه أدرك له ولد، فأصلح طريقاً، وأوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه) (4).

ص: 257


1- بحار الأنوار: ج 75، ص 83 ب16، ح 85 ط بيروت.
2- بحار الأنوار ج 74، ص 324، باب 20، ح 94، ط طهران.
3- سورة الأنعام: 164، وسورة الإسراء: 15، وسورة فاطر: 18، وسورة الزمر: 7.
4- كلمة اللّه: ص 38.

كيف نكسب رحمة اللّه ؟

قال تعالى واصفاً رحمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ): (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (1).

ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) والرواية مشهورة عند أهل السنة بل متواترة، وقد أجمع علماء الشيعة على أن السورة أو ثمان عشرة آية من سورة الإنسان قد نزلت في حق علي وفاطمة (عليهما السلام)، فهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) أهل بيت الرحمة الذي أنزل اللّه سبحانه في بيوتهم بينات وجعلهم أسوة للبشرية جمعاء.

فاليوم وهذه أوضاعنا تزداد مأساة، ألسنا بحاجة إلى أن يتعلم كل فرد في مجتمعنا من علي وفاطمة (عليهما السلام) فيتنازل عن ذاته وينسى نفسه ويعمل من أجل أن لا يجوع مسكين، وأن لا يبكي يتيم، وأن لا تحس أرملة بفقدان الكافل والمعين، ولكي لا تكون أموال الفقراء وحقوق الآخرين بيد أناس لا عهد لهم بالعدالة والتكافل الاجتماعي،، فلذلك نرى أن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) استطاعوا أن يكسبوا رحمة اللّه تعالى بأفعالهم وأعمالهم التي كانت كلها من أجل اللّه وسعادة المجتمع المسلم.

فياترى كيف ننمي في أنفسنا هذا الإحساس النبيل تجاه الآخرين.. فنصل إلى مرحلة نكران الذات، وكيف نطعم الأفواه الجائعة لليتامى ونكسوا الأبدان العارية للمساكين، وكيف نتحمل قسطاً من مصائبهم؟

في البدء لابد أن لا ننتظر أحداً من الناس ليأتي على أبواب بيوتنا ويهدر ماء وجهه

ص: 258


1- سورة الإنسان: 8.

من أجل أن نساعده أو نتحمل فاقته، فإن الناس لم يجبلوا على ذلك، بل القليل من الناس هم الذين لا يحافظون على كرامتهم ويسقطون هذا الحاجب، أما أغلب المجتمع فأعزاء لا يسألون الناس حاجتهم، رغم الضائقة التي تعتصر هم قال عز وجل: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (1).

لذا فإن علينا أن نبحث عن هؤلاء ونعطيهم سراً كي لا نحرجهم، كما كان يفعل أهل بيت العصمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقد روي أن رجلاً جاء إلى علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة، فقال: اكتبها في الأرض فإني أرى الضر فيك بيّناً، فكتب في الأرض: أنا فقير محتاج، فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): ياقنبر اكسه حلتين، فأنشأ الرجل يقول:

كسوتني حلة تبلى محاسنها***فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا

إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة***ولست تبغي بما قد نلته بدلا

إن الثنا ليحيي ذكر صاحبه***كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا

لا تزهد الدهر في عرف بدأت به***فكل عبد سيجزى بالذي فعلاً

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أعطوه مائة دينار.

فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد أغنيته.

فقال: إني سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: انزل الناس منازلهم، ثم قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إني لأعجب من أقوام يشترون المماليك بأموالهم، ولا يشترون الأحرار بمعروفهم) (2).

فلذا عندما لا نجد أحداً يتقدم إلينا بالحاجة والمسألة، فلا نظن أن واجبنا ومسؤوليتنا الإجتماعية قد انتهت إنما علينا أن نتعب أنفسنا لكي نحرز أن المجتمع الإسلامي لا يوجد فيه فقير ولا يكون أحد يئن للرغيف حتى لا يشملنا الحديث القدسي القائل: (ما آمن بي من بات شبعاناً وأخوه المسلم طاو) (3).

ص: 259


1- سورة البقرة: 273.
2- بحار الأنوار: ج 71، ص 407 و 408 كتاب العشرة باب فضل الإحسان والمعروف ح 2، ط بيروت.
3- كلمة اللّه : ص 201.

فعطاء المحتاج ومداراة الأيتام والمساكين، وسد حاجة المعوز، ليس سبباً في إزالة العجز الاقتصادي في المجتمع فحسب بل إنها تكسب المعطي رحمة اللّه ورضوانه، وما أعظمهما من خير.

هذا بالإضافة إلى الآثار الوضعية المترتبة على الإحسان باعتبار أن الذي لا يرحم لا يُرحم، وكما بينا سالفاً بأن المسألة أشبه بالمعادلة الكونية لذلك جاء في الحديث القدسي: (الخلق عيالي فأحبهم إلي ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم) (1).

وجاء أيضاً في الحديث القدسي: (يؤتى يوم القيامة برجل، فيقال: احتج، فيقول: يارب خلقتني وهديتني فأوسعت عليّ فلم أزل أوسع على خلقك وأيسر عليهم، لكي تنشر علي هذا اليوم رحمتك وتيسره، فيقول الرب جل ثناؤه: صدق عبدي أدخلوه الجنة) (2).

ونعود ثانية ونكرر السؤال السابق، كيف ننمي في أنفسنا الإحساس النبيل بآلام الآخرين، وننكر ذواتنا؟

لقد جعل اللّه تعالى من شهر رمضان المبارك محطة تربوية لغرس هذا الإحساس النبيل بداخل الإنسان، فالإنسان غالباً لا يحس بجوع الآخرين إلا إذا جاع هو، ولا يشعر بآلام الآخرين إلا إذا تألم هو.

والصوم في واقع الأمر عملية ترويض للنفس البشرية على الاستغناء عما في اليد من طعام وغيره من أجل اللّه والإنسانية، وهذا من أهم معاني الزهد، فأنت باستطاعتك أن تشرب متى شئت، وتتناول أصناف الطعام أني أردت ولا يستطيع أحد أن يمنعك من ذلك كله، ولكن الصوم والانقطاع إلى اللّه يقول لك: لا! فكر بالآخرين وتحسس آلامهم وجوعهم وعطشهم فشاركهم في نعمتك.

إذا شهر رمضان شهر العطاء للآخرين وشهر الزهد عن الدنيا، وبذلك ينال الإنسان رحمته تعالى، ومن ثم نجد العبد يدعو قائلاً: (اللّهمّ اجعل لي فيه نصيباً من

ص: 260


1- كلمة اللّه: ص 207.
2- كلمة اللّه: ص 224.

رحمتك الواسعة) لأن رحمة اللّه تعالى وسعت كل الكائنات وخاصة في شهر رمضان الذي هو شهر الرحمة فيدعو العبد حتى يشمله الباري تعالى برحمته.

هكذا كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):

إن المجتمع لن يتكافل ولن يترابط بشكل صحيح إلا إذا سادته الأخلاق وعمته محاسنها، ومن أمهات هذه الأخلاق والمحاسن التي ترفع المجتمع - أي مجتمع كان - إلى مستوى عال من التقدم والازدهار نما تبعده عن حالة التفكك والنفصام هو عامل الرحمة والرأفة والصفاء بين أبنائه (1).

فقد روي عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (عليكم بمكارم الأخلاق فإن اللّه بعثني بها، وإن مكارم الأخلاق أن يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده) (2).

وروي عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (المؤمنون في تبارهم وتراحمهم وتعاطهفم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى [منه عضو] تداعى له سائره بالسهر والحمى) (3).

وكثيراً ما كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوصي ويؤكد قولاً وعملاً على الود والرحمة، فنرى أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مراراً وتكراراً كان يهتف في المجتمع الإسلامي فيقول: (ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك)(4).

ومن هنا فإن المجتمع لن يكون متماسكاً إلا إذا توفرت فيه هذه الصفات والمناقب الحسنة، ولو قمنا بدراسة، ولو سريعة لأي مجتمع من المجتمعات التعيسة في عالمنا المعاصر، سنجد أن من أهم أسباب شقاء ذلك المجتمع هو انعدام مثل هذه

ص: 261


1- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 101.
2- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ص 101 و 102، عن أمالي الطوسي.
3- المؤمن ص 39، ح 92، وشبهه في أعلام الدين، ص 275 و 440.
4- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 102.

الصفات الخيرة بين أبنائه.

لقد جسد الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) - القدوة - العفو والرحمة وكان المثال والنموذج الأفضل في الرفق والرأفة والعطف، كما كان في سائر المحاسن الأخلاقية، فكان يعفو عن الناس ويأمر بالعفو، ويرحمهم ويأمرهم بالرحمة وكان يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (مروتنا أهل البيت العفو عمن ظلمنا وإعطاء من حر حرمنا) (1).

لقد كانت رحمة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) واسعة وشاملة بحيث أنها شملت الجميع: المؤمن وغير المؤمن المسلم والكافر المخلص والمنافق الكبير والصغير، الحر والعبد الرجل والمرأة، وكل من كان في المجتمع، بل إن رحمته شملت حتى الحيوانات والنباتات والجمادات.. والبحث في ذلك طويل مذكور في محله.

وبذلك كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مصداقاً واضحاً لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (2).

ويقول تعالى واصفاً لرحمة رسوله الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (3).

ومن هنا يتضح لنا أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كيف ملك القلوب.. فإنه لم يكن يملكها بالقوة والسلطان والغلبة العدوانية في الحروب، بل إنما ملكها بالعفو والرحمة، ولم يحبوه ويبتغوه جبراً أو كراهية كما هو الحال في بعض الشعوب بالنسبة إلى حكامها، فلم يكن (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فظّاً غليظاً بل كان عطوفاً رحيماً حتى مع أعدائه فضلاً عن المسلمين، وقد قال القرآن الكريم فيه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (4).

ولقد أشير في هذه الآية المباركة إلى بعض تلك المزايا الأخلاقية التي اتصف بها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم وخلوه من الفضاضة والخشونة.

ص: 262


1- أخلاق الرسول عليه اللّه : ص 102.
2- سورة الأنبياء: 107.
3- سورة التوبة: 128.
4- سورة آل عمران: 159.

ثم إنه سبحانه بعد ما يصف نبيه بمكارم الأخلاق يأمره بأن يعفو عن الناس إذ يقول: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يتنازل عن حقه لهم، إذ تفرقوا عنه في أشد الظروف وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك المعركة المصيرية، فيوصيه تعالى بأن يتجاوز (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنهم وأن يشفع هو بدوره لهم عند اللّه ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه.

فيالها من رحمة إلهية ويا لها من عطوفة نبوية.

فهذا التاريخ بين أيدينا يحدثنا سن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيقول: ما ضرب النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مملوكاً قط ولا غيره إلا في سبيل اللّه، ولا انتصر قط لنفسه إلا أن يقيم حداً من حدود اللّه (1).

إذاً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم ينطلق من بعد الحب والبغض الشخصي في رحمته وعفوه للناس كما هو الحال في سلاطين الجور الذين يشنون أبشع البغض الشخصي المتمثل بالقتل تارة وبالسجن تارة أخرى وبالتعذيب والنفي وغير ذلك، بل كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يتحلى بالخلق الإسلامي الرفيع انطلاقاً من مبادئه ومن قيم الرسالة التي كان يؤمن بها ويدعو إليها، فرحمته وعفوه كانا في سبيل اللّه تعالى.

فهذا علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحدثنا عن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قائلاً: (ما انتصر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لنفسه من مظلمة حتى تنتهك محارم اللّه فيكون حينئذ غضبه اللّه تبارك و تعالى) (2)

كما لم تكن رحمته وعفوه عفو العاجز الضعيف بل كان عفوه ورحمته عفو ورحمة القوي القادر، فهذا التاريخ يحدثنا عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قائلاً: عن أنس قال: هبط ثمانون رجلاً من التنعيم (3) وقت صلاة الصبح ليقتلوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخذوا، ولكن رسول

ص: 263


1- تنبيه الخواطر: ج 2، ص 26.
2- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ص 105، عن مكارم الأخلاق.
3- التنعيم هو من مكة على ثلاثة أميال من جهة المدينة سمي بذلك لأن عن يمينه جبلاً يقال له نعيم وعن شماله جبلاً يقال له ناعم وبه واد يقال له نعمانة.

اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعتقهم (1).

لذلك كان يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة)(2).

فلهذه الرحمة الإلهية التي وسعت حتى المذنبين والمتمثلة في آيات عديدة منها قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، يطمع العبد في رحمته تعالى، ولكن لا يعني هذا أنه تشجيع للعبد على ارتكاب المعاصي واقتراف الذنوب طمعاً في رحمته بل هو طريق للإنابة ودفع نحو توفير الاستعداد في نفس الإنسان لتلقي الرحمة.

إذاً من أهم الواجبات علينا أن نطيع الخالق تعالى ونتجنب معاصيه فقد قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (3).

ومعناه أولئك الذين يدعون اللّه تعالى ويطلبون القربة إليه بفعل الطاعات (أيهم أقرب) أي ليظهر أيهم الأفضل والأقرب منزلة منه، وتأويله أن الأنبياء مع علوّ رتبتهم وشرف منزلتهم إذا لم يعبدوا غير اللّه فأنتم أولى أن لا تعبدوا غير اللّه، وإنما ذكر ذلك حثاً على الاقتداء بهم.

وقيل: إن معناه أن يعلم أولئك الذين يدعونهم ويعبدونهم أقرب من رحمته، أو يطلب كل منهم أن يعلم أيهم أقرب إلى رحمته أو إلى الإجابة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) أي وهم مع ذلك يستغفرون لأنفسهم فيرجون رحمته إن أطاعوا ويخافون عذابه إن عصوا ويعملون عمل العبيد إن عذاب ربك كان محذوراً) أي متقى يجب أن يحذر منه لصعوبته. (4)

ص: 264


1- الشفاء : ج 1، ص 110.
2- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ص 105.
3- سورة الإسراء: 57.
4- مجمع البيان: ج 6، ص 422.

الرحمة قوام المجتمع

الإسلام يهتم بإيجاد صفة الرحمة في القلوب ويؤكد لتركيزها في أعماق النفس حتى تعطى ثمارها الحلوة «فهذه بعض العناوين التي وردت في لسان الآيات والروايات»: صلة الرحم، بر الوالدين، العطف على الأولاد، إشباع الأفراد الجائعة، إكساء الأجساد العارية، حسن الجوار.. كل خير.. كل خير.. (1).

روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (اتقوا اللّه، وكونوا إخوة بررة متحابين في اللّه متواصلين متراحمين)(2).

وبما أن اللّه تعالى أرحم الراحمين، لذلك أمرنا بأن نتراحم فيما بيننا ولا يعتدي بعضنا على البعض الآخر.

فاللّه تبارك وتعالى أمر بالرحمة باعتبارها مبعث كل خير ومعدن كل فضل فبالرحمة تجتمع صلاتنا وتتوحد قوانا، وبالرحمة يبر الولد أباه، وبها يصل الإنسان قريبه، وبها تتم الألفة، ومما يدهش القارئ الفطن أن اللّه تعالى ابتدأ كلامه في كتابه المجيد بصفتين كلتاهما في الرحمة: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (3).

ورتب تعالى كثيراً من الآثار متى ما سئل بهاتين الصفتين، فقد روي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مر برجل يقول: يا أرحم الراحمين، فقال له: (سل فقد نظر اللّه إليك)(4).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إن اللّه ملكاً يقال له إسماعيل، ساكن في

ص: 265


1- راجع الفضيلة الإسلامية: ج 1، ص 93
2- بحار الأنوار: ج 74، ص 401، ح 45، باب 28، ط طهران.
3- ذكرت هذه الآية في القرآن الكريم 114 مرة.
4- بحار الأنوار: ج 90، ص 235، كتاب الذكر والدعاء باب 12، من قال: يا اللّه يارب، ط بیروت.

السماء الدنيا، إذا قال العبد يا أرحم الراحمين سبع مرات، قال إسماعيل قد سمع اللّهأرحم الراحمين، سل حاجتك) (1).

فإذا كان اللّه وهو الخالق الجبار المتكبر أرحم الراحمين فما بال الإنسان الضعيف الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.

فهذا الدعاء الوارد في اليوم التاسع من شهر رمضان المبارك هو دعوة لأن نتراحم فيما بيننا، ونتحابب ولا نخضع إلى الميول والأهواء، يقول تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (2).

وهذه الآية الكريمة تكشف عن حقيقة ما يكنه مجموعة من أهل الكتاب والمشركين من حقد وعداء للجماعة المؤمنة، فسواء ود هؤلاء أم لم يودوا فرحمة اللّه لها سنتها الخاصة ولا تخضع لميول ولأهواء الحاقدين، فإنهم لم يطيقوا أن يروا ما شمل المسلمين من فضل ونعمة وما منّ اللّه عليهم من رسالة عظيمة، ولكن اللّه ذو فضل عظیم (3).

وما أحوجنا اليوم ونحن نواجه أصعب المشاكل والأزمات، أن نتعرف على ذواتنا و نتصفح بواطن نفوسنا، ونرمي البغض والشحناء وراء ظهورنا، ونتراحم فيما بيننا، ولا نقصد من الرحمة والود إلا ما كانت حسب التعاليم الإسلامية وليست التعاليم الوضعية التي ارتبكت المقاييس بسببها فترى الظالم والمظلوم سواء والفاسق والعادل سواء، فتعالوا ندعو اللّه ونتوسل إليه في شهره الكريم، فشهر رمضان خير شهر وأفضل شهر لاستجابة الدعاء.. لذلك يدعو العبد في هذا الشهر قائلاً: (اللّهمّ اجعل لي فيه نصيباً من رحمتك الواسعة) لأنها وسعت كل شيء (واهدني فيه لبراهينك الساطعة).

وقد عقب ذكر البراهين الساطعة على الرحمة الواسعة ولعل ذلك من باب ذكر

ص: 266


1- بحار الأنوار: ج 90، ص 234، ح 6، كتاب الذكر والدعاء، باب 12، ط بيروت.
2- سورة البقرة: 105.
3- راجع الأمثل: ج 1، ص 282 و 283.

الخاص بعد العام لأن الهداية نحو البراهين الساطعة هو الآخر من مظاهر الرحمة الواسعة ومن مصاديقها. فيطلب العبد من ربه أن يهديه إلى براهينه الساطعة لكي ينجو من المتاهات ولا يضل إلى هنا وهناك، بل يستقيم في فكره وعمله..

وهذا المقطع من الدعاء (براهينك الساطعة) يدل على لزوم معرفة البراهين الساطعة، أما التقليد عن الآباء في الاعتقاديات فهو شيمة الجاهلين، قال تعالى في ذمهم: (بل قالوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (1).

وقد أفتى فقهاؤنا المراجع بعدم جواز التقليد في أصول الدين، فقالوا: (يجب أن يكون اعتقاد المسلم ب_ (أصول الدين عن دليل وبرهان ولا يجوز له أن يقلد فيها بمعنى أن يقبل كلام أحد فيها دونما دليل...) (2).

هذا ومن الواضح أن الإنسان لو لا أن يهديه اللّه إلى طريقه وإلى براهينه الساطعة تجره الأهواء والفتن نحوها لذا ينبغي على الم-ؤمن أن يوفر في نفسه ضمانات الاستقامة، ومن هذه الضمانات معرفة الحق وتشخيص مظاهره وعلاماته لكي لا يلتبس عليه الباطل.

روي عن الحارث الهمداني قال لعلي(عَلَيهِ السَّلَامُ) : لو كشفت فداك أبي وأمي الرين عن قلوبنا وجعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (فإنك امرؤ ملبوس عليك إن دين اللّه لا يعرف بالرجال بل بآية الحق فاعرف الحق تعرف أهله..) (3).

إن بعض الناس يصابون بالعمى في الرؤية والبصيرة فتختلط عليهم الأمور لأنهم يتبعون المظاهر ولا يتعمقون في رؤيتهم ليتعرفوا على المخابر أيضاً.. لذلك يتيهون ويضلون وتلتبس عليهم الموازين فبعضهم يتبع معاوية في قبال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبعضهم يتبع هواه في قبال مولاه.

ومن النماذج على ذلك الخوارج، فقد نقل أن عبد اللّه بن خباب لقيهم وهو على

ص: 267


1- سورة الزخرف: 22.
2- المسائل الإسلامية: ص 90، المسألة الأولى.
3- بحار الأنوار: ج 6، ص 178، ب7، ح7، ط طهران.

حمار وفي عنقه مصحف ومعه امرأته وهي حامل فقالوا له: إن هذا القرآن الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك!! ثم سألوه ما تقول في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد التحكيم والحكومة؟ فقال: إن علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أعلم باللّه وأشد توقياً على دينه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك لست تتبع الهدى، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه (1).

ولما نأتي إلى تاريخ هؤلاء الخوارج نرى المفارقة الكبيرة بين أعمالهم والتضاد فيها، فإنهم في قصة ساوموا رجلاً نصرانياً بنخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بثمن. فقال لهم: واعجباه أتقتلون مثل عبد اللّه بن خباب ولا تقبلون نخلة إلا بثمن...(2).

ولذلك وصفهم مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالأخسرين أعمالاً مستدلاً بقوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) (3). ومن هنا كان على المؤمن أن يسأل ربه بأن يتولى هدايته إلى الحق والصراط المستقيم وأن يرحمه برحمته الواسعة ولا يدعه وشأنه فيضل ويخزى، لذا جاءت هذه الفقرة فى هذا الدعاء المأثور بعد ذكر الرحمة الواسعة: (واهدني فيه لبراهينك الساطعة).

ص: 268


1- راجع شرح نهج البلاغة: ج2 ص 281- 282.
2- التدبر في القرآن ج 1، ص 266.
3- سورة الكهف: 103 و 104.

المرضاة الجامعة

ثم بعد بذلك يعطف الإنسان المؤمن في دعائه على ما سبق من الجمل بذكر مصداق آخر من مصاديق الرحمة يخصه بالذكر لأهميته حيث يقول: (وخذ بناصيتي إلى مرضاتك الجامعة).وواضح أن مرضاته تعالى تتحقق بطاعته واجتناب معاصيه في مصداقها الأول وفي فردها الأتم، كما تشمل كل ما يرضي الرب و اجتناب كل ما يسخط الباري عز وجل، سواء كان من الاقتضائيات أو اللااقتضائيات، وهذا أعم من الأول لأنه يشمل كل الواجبات والمستحبات والفضائل والآداب والسنن.. ولعله لذلك سماها (الجامعة)، كما أن هذه الفقرة من الدعاء تدل على لزوم تحصيل مرضاة اللّه واجتناب ما يوجب سخطه، فإن كثيراً من الناس يسعون في تحصيل مرضاة الشيطان.

وقد يكون من معاني كلمة (الجامعة) أي جميع مرضاة اللّه.. لا أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض فربما ترى إنساناً يسعى في تحصيل مرضاة اللّه في بعض الأعمال فيصلي ويصوم ولكن في أعمال أخرى لا يكون كذلك فلا يتصدق على الفقراء ولا يعطي ما عليه من الحقوق الشرعية، فإن مثل هذا الشخص لم يصل إلى مرضاة اللّه الجامعة..

فعلينا أن ندعو بكل إخلاص بأن يوفقنا اللّه لتحصيل مرضاته الجامعة. ثم إن كلمة (خذ بناصيتي) كناية عن إعطاء التوفيق كما لا يخفى، فعلينا أن ندعو بكل إخلاص بأن يوفقنا اللّه سبحانه وتعالى لكل خير.

وبهذه الفقرة يختم الدعاء الوارد في اليوم التاسع من شهر رمضان المبارك حيث يقول: (بمحبتك يا أمل المشتاقين)، فإن ما ذكر في هذا الدعاء كان من مصاديق الرحمة والعطف لذا دعاه بالمحبة وقال: (بمحبتك) إذ أن المحبة وجه آخر من وجوه الرحمة..

ص: 269

ثم إن (بمحبتك) قد يكون بمعنى حب اللّه لعبده وقد يكون بمعنى حب العبد لربه، فهو إما من باب إضافة المصدر الفاعله أو لمفعوله.

و (أمل المشتاقين) يدل على لزوم أن يأمل العبد ربه فقط لا غيره من المخلوقين، كما يلزم على الإنسان أن يكون مشتاقاً إلى اللّه ويجعل في قلبه الشوق إلى خالقه، وهذه مرتبة كبيرة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.

فقد قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المشتاق لا يشتهي طعاماً ولا يلتذ شراباً ولا يستطيب رقاداً ولا يأنس حميماً ولا يأوي داراً ولا يسكن عمراناً ولا يلبس ثياباً ولا يقر قراراً ويعبد اللّه ليلاً ونهاراً راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه ويناجيه بلسان الشوق معبراً عما في سريرته) (1) الحديث.

ص: 270


1- مصباح الشريعة : ص 196، الباب الرابع والعشرون.

من سبل النجاح

دعاء اليوم العاشر

10

اللّهمّ اجْعَلْنِي فِيهِ مِنَ الْمُتَوَكِلِينَ عَلَيْكَ، وَاجْعَلْنِي فِيهِ مِنَ الْفَائِزِينَ لَدَيْكَ، وَاجْعَلْنِي فِيهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْكَ، بإحسانك يا غايَةَ الطَّالِبِينَ.

البلد الأمين: ص 307، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به استغفر له كل شيء).

ص: 271

ص: 272

التوكل فى منظار الشريعة

التوكل على اللّه من أفضل المقامات التي يمكن أن يصل إليها الإنسان، ولا يصل الإنسان إلى رفيع هذا المقام إلا بعد جهد جهيد وجهاد شديد، ولذا كثير من الناس لا يرون للتوكل معنى، فلا يدركون مفهوم التوكل ولا يشخصون مصداقه، وهناك من لا يتمكن أن يصل إلى هذا المقام.

ومعنى التوكل عليه سبحانه ببيان واضح

أن يمسك الإنسان بالأسباب الظاهرية للعمل ثم يشده بالأسباب الغيبية وللمثال على ذلك نقول: إذا عقل الإنسان بعيره في المحل الآمن من السبع واللص ووكل الأمر بعد ذلك إليه سبحانه كان معنى التوكل إنه يهدأ باله، فلايتفكر في أمر بعيره هل يصيبه شيء أم لا؟

أما من لا يعقل بعيره، ويقول: (توكلت عليه سبحانه) فهذا خلاف ميزان التوكل إذ التوكل في الأمر يكون بعد رعاية الأسباب التكوينية..

ولذا لما رأى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعيراً بغير عقال، سأل صاحبه عن السبب؟

وحيث أجابه الأعرابي: بأنه توكل على اللّه، نهاه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: (أعقلها وتوكل على اللّه) (1).

وقد يزعم بعض الناس المفرطين: إن التوكل عبارة عن عدم التماس الأسباب وهذا خبال وجهل (2).

فقد روي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (من أكل من كد يده نظر اللّه إليه بالرحمة ثم لا

ص: 273


1- راجع ارشاد القلوب: ص 121، ب 35.
2- الفضيلة الإسلامية : ج 4، ص 432.

يعذبه أبداً) (1)

إن الكسل والفراغ والملل مرفوض في الإسلام والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يحب العمل والسعي ويحب العاملين أيضاً ويكره العاطلين (2).

فالحظارات أساساً لا تقوم إلا بالعمل والسعي الجاد إذ لا يمكن بأي شكل من الأشكال إلغاء دور العمل من بناء الحضارات، إذ مجرد بناء بيت صغير أو كوخ متواضع بحاجة إلى عمل وسعي وبمقدار ما يكون هناك سعي وعمل تكون هناك النتائج، والعكس بالعكس (3).

هذا بالنسبة للتوكل والعمل، أما التواكل فهو العكس من ذلك، فقد نهى الإسلام عنه وشجبه لما فيه من تأخر الإنسان والمجتمع، فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (إن اللّه يبغض الصحيح الفارغ لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة) (4).

كما أن الفراغ والهم والغم لا يمكن أن يحل للإنسان أو للمجتمع أية مشكلة ولو عادية، ولا يمكن بذلك أن يوضع حجر على آخر حيث إن ذلك أيضاً يتطلب إرادة وعملاً مناسباً، وفي هذا الصدد يقول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إذا أعسر أحدكم فليضرب في الأرض يبتغي من فضل اللّه ولا يغم نفسه) (5).

إذاً للعمل قيمة هامة جداً في الحياة، لأنه من أسباب التقدم ومن خلاله يصل الإنسان إلى أكثر طموحه، أما التوكل فهو يعزز عمل الإنسان ويدفعه نحو الهدف أكثر لأنه يمسك بمسبب الأسباب ومالكها ويوجب الالتجاء إليه.

روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): أنه قال: (إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه يقول: اللّهمّ ارزقني ويترك الطلب) (6).

ص: 274


1- أخلاق الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ص 201.
2- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 198.
3- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 199.
4- أخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 202.
5- الصياغة الجديدة: ص 189.
6- الصياغة الجديد: ص 166.

إن تقدم المسلمين في العصور السابقة تقدماً هائلاً مما أدهش العالم بأجمعه، كان يتوقف على عوامل ومقومات مادية ومعنوية كثيرة ولكن من أبرز المقومات المعنوية التي ذكرها القرآن الكريم كان (التوكل) إذ قال اللّه تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (1).

فالمجتمع المؤمن هو الذي ينهض متوكلاً على ربه سبحانه، إذ بالتوكل على اللّه سبحانه يستطيع المؤمن تحدي الصعاب والتقدم نحو الأمام، وواضح أن التوكل على اللّه ليس معناه التخلي عن المسؤوليات أو الاستسلام لحوادث الزمان، بل يعني أن الإنسان حين يستخدم طاقاته والإمكانيات المتوفرة لديه يجب عليه أن يتنبه في نفس الوقت إلى أن هذه الطاقات والإمكانيات ليست العلة التامة ولا هي من عنده بل إن مصدرها ومنشأها هو اللّه تعالى، وإذا حصل هذا التوجه فإن من شأنه أن يقضي على دوافع الغرور والأنانية عند الإنسان أولاً، ومن ثم لا يدع إلى نفسه طريقاً للخوف والقلق واليأس حيال الأحداث والمشاكل مهما كبرت وعظمت.. ثانياً، لأنه يعلم بأن سنده وحاميه هو اللّه الذي فاقت قدرته كل القدرات (2).

إذاً.. فقد تعبّدنا اللّه تعالى بالأسباب الطبيعية، فليس من المعقول أن يجلس الإنسان في بيته ويريد من اللّه النصر، وليس من المعقول أيضاً أن يترك العامل عمله ويريد من اللّه أن يرزقه إلى ما أشبه ذلك، كما يقول شاعرهم:

جرى قلم القضاء بما يكون***فسيان التحرك والسكون

إذ أن اللّه سبحانه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها كما قال سبحانه: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) (3).

وقال اللّه تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا) (4).

ص: 275


1- سورة آل عمران: 122
2- راجع تفسير الأمثل: ج3، ص 563.
3- سورة الكهف: 89 و 92.
4- سورة الكهف: 8583.

إن بداية الآية تبين لنا إن قصة ذي القرنين كانت متداولة ومعروفة بين الناس ولكنها كانت محاطة ببعض الغموض والإبهام، ولهذا السبب طلبوا من الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) توضيحاً عنها، وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا).

يحصر بعض المفسرين مفهوم (السبب)(الذي يعني الحبل المستخدم في تسلق النخيل) في الوسائل المستخدمة في إنجاز الأعمال، إلا أن مفهوم الآية عام فالكلمة المذكورة يرادفها معناها ومفهومها الواسع حيث أن اللّه تبارك وتعالى منح (ذوالقرنين) أسباب الوصول لكل الأشياء: العقل العلم الكافي، الإرادة السليمة، القوة والقدرة الجيوش القوية والقوى البشرية، بالإضافة إلى الإمكانات المادية، أي أنه مُنحَ كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثم يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) فلم يكتف ذو القرنين بالتوكل من دون إتباع الأسباب، وهكذا يجب أن يكون الإنسان المؤمن.

وعندما نرجع إلى تاريخ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه و أهل بيته الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) نجد بأن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يعمل في ميدان العمل لكي يوفر قوت عياله، ونجده في ميدان الحرب كان يحارب لكي ينتصر على الأعداء، وهكذا.. فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يأخذ بالأسباب الظاهرية الكونية ثم يتوكل على اللّه.

إذا معنى التوكل هو سعي الإنسان لما يريد عبر يريد عبر أسبابه، وإلا إذا ترك السعي وأراد أن يرزقه اللّه تعالى فهذا معناه التواكل وليس التوكل.

وبهذا المعنى كتب المستشرق (غوستاف لوبون) عن سبب قبول العرب للدين الإسلامي وسبب انشدادهم إليه الذي عاد عليهم بالنتيجة والتقدم والرفاه فيقول:

1 : إن نظامه الديني من أشد النظم والديانات والأحكام وأعظمها توافقاً وتماسكاً.

2: كان هذا النظام ينطوي على أجوبة مقنعة للمسائل التي كانت تشغل مواطنيه، كما يتجاوب وروح العصر.

ص: 276

3: إنه رفع العالم الناطق بالعربية إلى مستوى العوالم الأخرى ذات الكتب المنزلة (1).

فبالتوكل على اللّه تعالى استطاع المسلمون أن يحطموا معالم الشرك والطغيان وأن يفتحوا البلاد الإسلامية مستمدين قوتهم من خالقهم تعالى، وبالتوكل على اللّه استطاع المسلمون أن يقضوا على مضاجع المشركين فعندما واجه الغرب المسلمين العرب لأول مرة في التاريخ على أرض فلسطين بعد ظهور الإسلام، تطلع علماء المسيحية إلى معرفة الكتاب (القرآن الكريم) واستعانوا باليهود والنصارى من أهل الشام وفلسطين، وأعلن بطرس رئيس دير كلني، إن نقطة البداية في حرب المسلم هي القرآن الكريم (2).

وهذا المبدأ ذاته هو الذي دفع بوزير المستعمرات البريطاني (غلادستون) عام 1895، أن يعلن بين زملائه في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك القرآن بيده قائلاً: (لن تحقق بريطانيا غاياتها في العرب والمسلمين إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب أولاً، أخرجوا سر الكتاب من بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود)(3). ويضيف غلادستون قائلاً : (لن تستقر أقدام الإنكليز في الشرق الأوسط مادام القرآن يتلى بين الشرقيين) (4).

نعم هكذا خاف الغرب من القرآن باعتباره المصدر الرئيسي الذي يلهم المسلمين ويدفعهم نحو العمل والجهاد بالتوكل على اللّه سبحانه، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (5).

حيث تعهد اللّه أن لا يترك من توكل عليه يتخبط في حيرته وأنه لقادر على الوفاء بهذا التعهد (6).

ص: 277


1- حضارة الإسلام ط القاهرة، دار مصر للطباعة سلسلة ألف كتاب 1956، ص 89.
2- صور استشراقية: ص 26.
3- من روائع القرآن: ص 6.
4- صور استشراقية ص 28.
5- سورة الطلاق: 3.
6- الأمثل: ج 18، ص 379.

وفي شأن نزول قوله تعالى: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (1)، يقول بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت بحق (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فنصحه الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بقوله : (اتق اللّه واصبر، وأكثر من قول لاحول ولاقوة إلا باللّه)، ففعل ذلك وفجأة بينما هو في بيته دخل عليه ولده فتبين أنه قد استغفل الأعداء وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم (2).

لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تسيير معضلة هذا الرجل المتقي من حيث لا يحتسب.. ولا يعني هذا إطلاقاً أن الآية تحث على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس في البيت والركون إلى اللّه وأن يردد الإنسان: (لا حول ولاقوة إلا باللّه) فينزل الرزق من حيث لا يحتسب، إن ما تريد الآية الكريمة أن تركز عليه هو أن السعي لابد أن يكون معه وإلى جانبه تقوى، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كل هذا، فحينئذ يتدخل الباري لفتح هذه الأبواب (3).

و من أجل أن يعطي دفعاً معنوياً أكثر في نفوس المسلمين نحو المثابرة والكفاح في سبيل الحق في نفس الوقت الذي يقطع حبائل اليأس عن الوصول إلى الأهداف السامية قال سبحانه: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(4).

وقال تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (5).

وهذا النداء الصارخ الذي وُجه من قِبَل اللّه تعالى لعباده بالتوكل لم يكن عبثاً.. تعالى اللّه وتقدس عن ذلك.. وإنما كان لعلمه بحالهم ووضعهم الذي يتمثل في الركون إلى اليأس أحياناً. والاعتماد على الآخرين أحياناً أخرى. لذلك دعاهم إلى التوكل عليه سبحانه، ومن يتوكل على اللّه فهو يكفيه المهمات من أموره، إذ من الغالب أن تعيش

ص: 278


1- سوره الطلاق: 3.
2- مجمع البيان: ج 1، ص 306.
3- الأمثل: ج 18، ص 381.
4- سورة المائدة: 23.
5- سورة النساء: 81.

النفوس البشرية بين السمو والانحدار، وذلك من خلال تجسد: الأول الفطرة، والثاني الشيطان...

فالنفس البشرية مفطورة على أن تسمو إلى الآفاق الإلهية ومن جانب آخر قد تصاب بالميل للانحدار والتراخي والسكون والتقاعس والاعتماد على الآخرين بجذبات الشيطان.. ولأن النفس قد تخلد إلى الراحة فتستجيب لنداء إبليس وتترك وراءها نداء الرحمن الداعي إلى الكدح والعمل يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) (1)، أي: ساح إليه في عملك، وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ) خطاب لجميع المكلفين من ولد آدم يا أيها الإنسان إنك عامل عملاً في مشقة لتحمله إلى اللّه وتوصله إليه (فلاقيه) أي ملاق جزاءه، جعل لقاء جزاء العمل لقاء له تفخيماً لشانه (2).

جاء رجل من الأصحاب إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )وقد اشتد به الفقر بعد أن قالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فسألته، فلما رآه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه.

فقال الرجل: ما يعني غيري فرجع إلى امرأته فأعلمها، فقالت: إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بشر فأعلمه.

فأتى الرجل إلى الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مرة أخرى، فلما رآه الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه.

حتى فعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً ثم جاء به فباعه بنصف مد من الدقيق فرجع فأكلوه، وفي اليوم التالي صعد الجبل أيضاً فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى معولاً، ثم جمع مالاً حتى اشترى بکرین (3) وغلامين.. ثم أثرى حتى أيسر، فجاء إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبره، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): قد قلت لك (من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه).

ص: 279


1- سورة الانشقاق: 6.
2- راجع مجمع البيان: ج 10، ص 460.
3- البكر فتى الإبل وصغيرها.

والآية الشريفة تبين حقيقة الكد والكدح في الحياة، لأن الكدح هو الذي ينمي قدرات الإنسان ويوضح أهدافه المادية والمعنوية بينما الخلود إلى الراحة والكسل يأخذ بالإنسان إلى الرذيلة، ولعل من هنا كان أولياء اللّه سبحانه وهم الأقربون منه ينالون ما يطلبون بالسعي والجد في الطلب، سواء في حاجاتهم المادية أو مقاماتهم المعنوية..

فشعيب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا) (1).

والسيدة مريم العذراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) لما اختارها اللّه سبحانه لأن تكون مودعة روحه وحكمته، أمرها سبحانه بهز جذع النخلة، مع اليقين القاطع بأن اللّه تعالى لو أراد أن ينزل عليها الرطب أمكنه أن ينزله بدون هزها لكنه قال: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (2)، وهكذا فإن اللّه سبحانه يعلم أولياءه السعي والعمل في سبيل الهدف، لأن العمل وسيلة للوصول إلى المطلوب، وإلا فلو كان أولياء اللّه يصلون إلى كل ما يريدون عبر الغيب لما صاروا قدوة للناس. قال الشاعر:

توكل على الرحمن بالأمر كله***ولا تركنن للعجز يوماً عن الطلب

ألم تر أن اللّه قال لمريم***وهزي إليك الجذع يتساقط الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزّها***جنته ولكن كل شيء له سبب (3)

فالتوكل ليس معناه ترك السعي في الأمور وعدم الحذر مما يلزم الحذر منه، بل لابد من التوسل بالوسائل والأسباب التي جعلها اللّه في الكون على ماورد في الشريعة من غير حرص ومبالغة فيه، ومع ذلك يلزم أن لا يعتمد الإنسان على سعيه وما يحصله من الأسباب، فإنها مقتضيات لا علل تامة حسب الاصطلاح العلمي، بل يجب أن يعتمد على مسبب الأسباب وهو اللّه سبحانه وتعالى.

فليس التوكل أن يترك العبد جميع ما يتعلق به ويجلس جلسة العاجز ثم يرجو أن يرزقه اللّه تعالى، بل التوكل هو خلاف ذلك كله، إذ أن الباري تعالى قد منحنا عقلاً لكي

ص: 280


1- سورة الأعراف: 89.
2- سورة مريم: 25.
3- المستطرف الباب الثامن والسبعون ج 2، ص 548.

نفکر به وجوارح نعمل بها ونحقق ما وصل إليه فكرنا، يقول الشيخ الطوسي (قدس سره) في أوصاف الأشراف: المراد بالتوكل أن يكل العبد جميع ما يصدر عنه ويرد عليه إلى اللّه تعالى لعلمه بأنه أقوى وأقدر ويضع ما قدر عليه على وجه أحسن وأكمل ثم يرضى بما فعل، وهو مع ذلك يسعى ويجتهد فيما وكله إليه، ويعد نفسه وعمله وقدرته وإرادته من الأسباب والشروط المخصصة لتعلق قدرته تعالى وإرادته بما صنعه بالنسبة إليه، ومن ذلك يظهر معنى لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين (1).

ولعل هذا المعنى مأخوذ من أمثال الرواية الواردة عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث قال: (لاتدع طلب الرزق....فإنه عون لك على دينك، واعقل راحلتك وتوكل) (2).

إذاً ليس من المعقول في أي حال من الأحوال أن يجلس العبد في زوايا بيته ثم يريد من اللّه أن يرزقه، وليس من المعقول أن يتقاعس المجتمع عن العمل ويريد من اللّه أن يحقق له أمانيه وطموحاته من التقدم، فقد كان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يعمل ويعبئ ويجاهد في نفس الوقت الذي يتوكل عليه سبحانه، فلو ركن المسلمون وتوقفوا عن العمل لما تقدموا ولما انتشر الإسلام في أرجاء المعمورة، فاللّه تبارك وتعالى يعطي ويرزق وينصر الذي يبذل الجهد ويسعى في الأرض، وبعد ذلك يتوكل. أما القاعدون فلا يوفقهم لنيل الأماني، سواء في الدنيا أو الآخرة، قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (3).

فإن المشاورة تفكير وتخطيط من أجل العمل فإذا تمت مقدمات العمل ومقوماته تأتي مرحلة التوكل على اللّه سبحانه لذا يقول: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ).

قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (4).

ص: 281


1- مشكاة الأنوار: ص 184.
2- أمالي الطوسي: ج 1، ص 196.
3- سورة آل عمران: 159.
4- سورة النحل: 97.

وفي الحديث أن أحد أصحاب الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو (عمر بن مسلم) انقطع فترة عن الإمام، فسأل الإمام عنه مستفسراً، قالوا: إنه ترك التجارة واتجه إلى العبادة، قال: ويحه، أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب له، ثم أضاف: إن جمعاً من أصحاب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد أغلقوا عليهم الأبواب، واتجهوا إلى العبادة بعد نزول هذه الآية (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) وقالوا: لقد تعهد اللّه برزقنا، فلما سمع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك بعث إليهم يسألهم لم فعلتم هذا؟

قالوا: لأن رزقنا قد كفله اللّه فنحن رزقنا قد كفله اللّه فنحن انشغلنا بالعبادة.

فقال الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (إنه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب)(1).

ص: 282


1- تفسير نور الثقلين: ج 5 ص 354 و 355 بتصرف.

من آثار التوكل

قد ثبت في علم النفس أن الشخص الذي يعيش حقيقة التوكل على اللّه لا يجد اليأس إليه منفذاً، ولا يدب به الضعف، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت، ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوة وإيمان راسخين، ويعطيه هذا الإيمان والتوكل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب ومن هنا لا يصاب بكثير من الأمراض النفسية، ومما يدل على هذا الكلام قوله تعالى: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (1).

هذا من جانب الآثار النفسية ومن جانب آخر تنهمر على الإنسان المتوكل على اللّه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده اللّه (2).

فالتوكل بهذا المعنى والمضمون يمنح العبد شخصية جديدة مقتدرة وفعالة، ويكون له تأثير على أعماله وأفعاله التي يقوم بها.

قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)(3).

وعن هذا المعنى يقول الشاعر:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة***فلابد أن يستجيب القدر

ولكن لو حدث العكس وتواكل العبد أو المجتمع ولم يفهم المعنى الحقيقي للتوكل لما نال التقدم والرفاه.

ص: 283


1- سورة الرعد: 28.
2- الأمثل: ج 18، ص 382.
3- سورة آل عمران: 159.

فتاريخ الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) جميعاً يحفل بالجد والاجتهاد والتعب من أجل نشر الهدى وخصوصاً نبينا محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الذي تحمل ما تحمل من عناء وتعب وآلام وويلات من مشركي مكة، كما أنه خاض أكبر صراع شهدته الكرة الأرضية بين الحق والباطل وخرج منتصراً رغم ما تعرض له المسلمون من فتن ومحن ومؤامرات وظلم وطغيان وتحالف بين جميع الأحزاب المناوئة للإسلام.

بل رغم العتاد والقوة وكثرة العدد من قبل الأعداء وقلة الموارد وضعف العدد والعدة من جانب المسلمين، إلا أنهم توكلوا على اللّه بالإضافة إلى الإرادة الصلبة والسعي نحو الأسباب الطبيعية التي يريدها اللّه سبحانه طريقاً طبيعياً لنيل الأهداف.

فربما يعمل الإنسان بعض الأعمال ويحقق بعض الطموحات ويتصور أنه قد فاز ووصل إلى ما يريد ولكنه خاسر عند اللّه سبحانه، وقد يعمل ما يتصوره هزيمة وخسارة ولكنه عند اللّه سبحانه رابحاً..

لأن المعيار في النجاح والفشل والفوز والهزيمة ليس دائماً يخضع للنتائج الآنية المؤقتة التي يراها الإنسان، بل ينبغي أن يلاحظ النتائج والثمرات وفق المعيار الإلهي لأن رضى اللّه سبحانه غاية الغايات وميزانه أعدل الموازين..

فعن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (تحرّ رضى اللّه وتجنب سخطه فإنه لابد لك بنقمته ولا غناء بك عن مغفرته ولا ملجأ لك إلا منه) (1).

ولذا كان ينبغي على المؤمن أن يسأل اللّه سبحانه دائماً أن يجعله من المتوكلين، ولعل من هنا جاءت فقرة الدعاء: (اللّهمّ اجعلني من المتوكلين عليك) لأن التقدم يرتبط بالتوكل وثيقاً لكي يكون الإنسان في الوقت نفسه متقدماً عند مجاذبة داعي الكسل والحرص إلى التأخير، ولكي يتم عمله على وجه محبوب إلى الباري تعالى وجالباً لرضاه.

ص: 284


1- غرر الحكم: ج 1، ص 316.

كيف نكون من الفائزين؟

ومعلوم أن الإنسان لو قضى على الكسل بالعمل وتخلص من الركون والخلود إلى الراحة بالنشاط المقرون بالتوكل على اللّه سبحانه فإنه سيكون من الفائزين.. ومن هنا جاءت الفقرة الثانية في الدعاء يقول: (واجعلني فيه من الفائزين لديك).

وفي كلمه (لديك) هنا عناية قد تؤكد ما ذكرناه، ومن الواضح أن للفوز عند اللّه سبحانه طرقاً وأسباباً ولعل من أهمها العمل في سبيله سبحانه في مختلف الشؤون التي يحبها ويريدها تبارك وتعالى، لأن الدنيا في واقع الأمر جسر نعبره ومرحلة مؤقتة من الحياة سرعان ما نجتازها إلى يوم الحساب.

فإنه عندما يوضع الميزان يعرف الإنسان مدى فوزه أو فشله لذلك ينبغي للإنسان أن يفكر دائماً في عواقب الأمور ومردودات الأفعال، كما يقول الشاعر:

إن اللبيب الذي لم يرتكب عملاً***حتى يفكر ما تجني عواقبه

وعليه فما قيمة عمل لا يقودك إلى النعيم؟

وما ثمن ثرواتك وجاهك التي لا تبقى لها ولا تبقى لك؟

هذا إن لم تعمل في دنياك لتحول ثروتك إلى نعيم لا يفنى ووجاهة لا تبلى وحياة خالدة، فعلينا إذاً بمراجعة الحسابات كل يوم عندما نخلد للراحة ولعل في وقت النوم فرصة لا تفوت لتقييم الأعمال ومحاسبتها، فربما قضاء دقائق في محاسبة النفس تنفع القيامة سنين من السعادة.. وواضح أن المحاسبة لا تنحصر فائدتها في الآخرة فقط يوم بل تمنح الإنسان فرصاً أكبر للنجاح في الدنيا أيضاً.

فإن الإنسان الذي يواصل محاسبة نفسه يكتشف نفسه أكثر في كل يوم وليلة ويتعرف على مواقع الخلل في أعماله وسلوكه ومواضع النجاح.. وهذا أمر يوفقه أكثر

ص: 285

لتصحيح ما صدر منه خطأ أو جهلاً ويكرس الصحيح، وبذلك يخطو أولى خطواته نحو الموفقية والعظمة والفوز والفلاح...

فإن الإنسان العادي - غير المعصوم - قد يضع نفسه في مواضع لا تليق بها، أو أوهام يظن بعدلها فيظلمها، وقد يحملها أكثر من طاقتها فيظلمها أيضاً، وقد روي عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (نعم العبد أن يعرف قدره ولا يتجاوز حده) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (ناظر قلب اللبیب به یبصر رشده ويعرف غوره ونجده)(2).

فلو حاسب الإنسان نفسه لتعرف على العوامل والأسباب التي توقعه في هلكات الذنوب وتبعات السيئات، وهذه - المحاسبة - تعينه على اجتنابها، ثم مكافحة الأجواء التي تفرضها من الإنحرافات الخلقية أو غيرها الموجودة لدى البعض من أبناء المجتمع وذلك لمطاردة عوامل الفساد، لأن الذي يتعرف على منطلقات وقواعد الهجوم فهو يتمكن أن يتجنب الهزيمة، الأمر الذي يعطيه وقاية جيدة تحول دون الوقوع في شراك الذنوب وحبائل الآثام فردياً واجتماعياً، فقد روي عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (حاسبوا أنفسكم تأمنوا من اللّه الرهب، وتدركوا عنده الرغب) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً أنه قال: حدّ العقل النظر في العواقب والرضى بما يجري به القضاء) (4).

و عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن قال: (حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها وتزودوا وتأهبوا قبل أن تبعثوا)(5).

إذن علينا أن نبادر في أسرع وقت للتوبة لكي لا نكون ممن شمله قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (6).

ص: 286


1- غرر الحكم ج 2، ص 298.
2- غرر الحكم ج 2، ص 298.
3- غرر الحكم: ج 1، ص 343.
4- غرر الحكم: ج 1، ص 344.
5- غرر الحكم: ج 1، ص 346.
6- سورة المطففين: 14.

ولنكن ممن أخبر اللّه عنهم بقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(1).

وقد ورد في الحكمة المنظومة:

تخير خليطاً من فعالك إنما***قرين الفتى في القبر ما كان يفعل

ولابد بعد الموت من أن تعده***بيوم ينادي المرء فيه فيقبل

فإن كنت مشغولاً بشئ فلا تكن***بغير الذي يرضى به اللّه تشغل

فلن يصحب الإنسان من بعد موته***من قبله إلا الذي كان يعمل

ألا إنما الإنسان ضيف لأهله***يقيم قليلاً بينهم ثم يرحل

ص: 287


1- سورة التوبة: 118.

الالتزام ثمن الجنة

ليس من السهل أن ندعي الإيمان ونقول آمنا، لأن الإيمان عمل كله والقول جزء منه كما جاء في الحديث عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (وقد سمّى اللّه عز وجل المؤمنين بالعمل الصالح (مؤمنين) ولم يسم من ركب الكبائر وما وعد اللّه عز وجل عليه النار في قرآن ولا أثر ولا تسمهم بالإيمان بعد ذلك الفعل) (1).

لذا لا يمكننا إدعاء الإيمان إلا إذا ترجمنا ذلك سلوكاً بحيث يتجسد في تصرفاتنا وعلاقاتنا مع المجتمع وكنا كما أراد اللّه.

إن الإيمان يتطلب منا إلتزاماً دقيقاً في الأحكام التي وضعتها الشريعة لنا، وحينما نريد أن نلتزم بالأحكام أكبر الالتزام سيكلفنا ذلك العناء الجسدي والإرهاق الفكري و نسيان الذات والتضحية بكل ما يربط الإنسان بالدنيا من مال أو عيال أو منصب، ألا أنه يعطينا نتيجة وهو الهدوء والاطمئنان والاستقرار النفسي والاجتماعي في الدنيا والآخرة والفوز بالجنة. قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (2).

إذاً متى ما نفض العبد يديه وقلبه من النتائج الشكلية للعمل الدنيوي ونظر بنظرة أعمق شاعراً أنه أخذ بواجبه وسينال جزاءه الحقيقي إذا كان مؤدياً لمهمته - ورسالته بالشكل المطلوب - فلن تبقى في نفسه بعد ذلك بقية أطماع وأهواء لتدفعه إلى التكالب على حطام الدنيا.

ومن هنا جاء المؤمن يسأل اللّه تعالى بدعائه أن يجعله من (الفائزين) بل هو يجهد

ص: 288


1- معاني الأخبار: ص 413، باب نوادر المعاني، ح 105.
2- سورة الحشر : 20.

دائباً مع إيجاد بواعث العبودية الصادقة لأن يكون من الفائزين، كي يستريح بعد الفوز قرير العين مطمئن النفس والضمير كلما شعر أنه أدى دوره المفروض عليه وأرضى خالقه سبحانه وتعالى فيما أراده له فيكون ممن (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (1).

وبعد هذا يأتي دور طلب القرب من اللّه سبحانه، لأن الإنسان إذا نال رتبة الفوز عنده تعالى كان بمقام القرب منه عز وجل، ومقام القرب من أسمى الغايات التي ينشدها كل مخلوق، لذا ورد في الفقرة الأخيرة للدعاء: (واجعلني من المقربين إليك).

ولما كان هذا الطلب ليس طلباً سهلاً ولا عادياً بل هو طلب رفيع المستوى جداً.. أدخل فيه عنصر الرجاء والرحمة لأن الإنسان لا يصل إلى هذا المقام السامي بكفاءته وبعمله، ولأن المؤمن في قرارة نفسه يدرك هذه الحقيقة فلم يبق أمامه طريق لنيل ما يريد من الوصول إلى القرب من ربه سوى الرجاء والأمل.. ولأن الرب سبحانه رحيم ودود ذو فضل وإحسان عظيم فإنه لا يخيب من رجاه ولا يرد من دعاه، لذلك ختم النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقرات الدعاء الثلاث بقوله: (بإحسانك يا غاية الطالبين) فمع أنه سبحانه الغاية والمطلوب إلا أنه لا يناله طالب قط من جهده النفسي وعمله الشخصي ما لم يشمله إحسانه وفضله عز وجل، والبحث مفصل لا يسعه المقام.

معنى القرب الإلهي

وبالتأكيد إن الإنسان المؤمن إذا أراد أن يقترب من اللّه تعالى لابد أن يعيش العبادة كل أبعاد حياته، وليس في أوقات العبادة المخصوصة فقط ولا في المسجد والمحراب فقط، بل في كل مكان وزمان وفي كل شأن من شؤون الحياة صغيرها وكبيرها لابد أن يعيش حالة العبودية والخضوع اللّه سبحانه، فيعيش العبادة في كل صلاته وأحواله أيضاً.. يعيش العبادة وهو غني ويعيشها وهو فقير، يعيشها وهو حاكم ويعيشها وهو محكوم، وبهذا وذاك يعيش المسلم المتعبد شاعراً بأنه يمارس وظيفته

ص: 289


1- سورة المائدة: 119.

الحقيقية في هذه الدنيا.

كما قال سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (1).

فإنه ورد في مجمع البيان في تفسير الآية:

(إني لم أخلق الجن والإنس إلا لعبادتي، والمعنى لعبادتهم إياي، فإذا عبدوني استحقوا الثواب، وقيل إلا لأمرهم وأنهاهم وأطلب منهم العبادة، عن مجاهد، واللام لام الغرض والمراد أن الغرض من خلقهم تعريضهم للثواب وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات، فصار كأنه سبحانه خلقهم للعبادة، ثم إنه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض ويكون كمن هيأ طعاماً لقوم ودعاهم ليأكلوه فحضروا ولم يأكله بعضهم فإنه لا ينسب إلى السفه ويصح غرضه فإن الأكل موقوف على اختيار الغير وكذلك المسألة فإن اللّه إذا أزاح علل المكلفين من القدرة والآلة والألطاف وأمرهم بعبادته فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه لا من قبله سبحانه، وقيل معناه إلا ليقروا بالعبودية طوعاً وكرهاً، عن ابن عباس) (2).

ومعلوم أن هذا المقام أي القرب الإلهي لا يناله المنحرفون والبعيدون عن السلوك الإلهي الطاهر..

وبالطبع إن العبد عندما يسأل اللّه سبحانه على أن يكون قريباً منه ليس القصد من القرب هنا القرب الحسي والمادي بل القرب المعنوي باعتبار أن الباري تعالى واجب الوجود والواجب لا يكون جسماً لأن الجسم يحاط بالمكان والزمان وإذا أحيط بالمكان والزمان أصبح مادياً وبالتالي سوف يخرج عن كونه واجباً للوجود وكان ممكناً.

فلا يجوز أن يكون الباري تعالى في محل وإلا لافتقر إلى ذلك المحل، ولا في جهة وإلا لافتقر إلى تلك الجهة. وتفصيل البحث مذكور في كتب الكلام والحكمة.. إذاً العبد عندما يسأل ربه أن يجعله من المقربين فليس المقصود القرب المادي بل

ص: 290


1- سورة الذاريات: 56.
2- مجمع البيان: ج 9، ص 161.

المعنوي، أي أن يكون قريباً من الرحمة الإلهية.. بمعنى أن تظهر على العبد آثار الرحمة الربانية في حياته من البركات والخيرات والتوفيقات المتتالية..

قال تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (1).

والجدير بالملاحظة هنا أن الحديث عن جنة نعيم جاء بعد ذكر الروح والريحان، وقد يستفاد من هذا أن الروح والريحان يكون من نصيب المؤمنين في حالة الاحتضار والقبر والبرزخ والجنة والآخرة كما في حديث الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسيره لهذه الآية المباركة: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) يعني في قبره (وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) يعني الآخرة (2).

وعن الإمام علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إن أحبكم إلى اللّه عز وجل أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند اللّه أعظمكم فيما عند اللّه رغبة، وإن أنجاكم من عذاب اللّه أشدكم خشية اللّه، وإن أقربكم من اللّه أوسعكم خلقاً، وإن أرضاكم عند اللّه أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند اللّه أتقاكم اللّه) (3).

إذن فلنتقرب إلى اللّه تعالى ولنتعلق به لأنه هو الباقي الأبدي وما عداه زائل لا محالة.

فاللّه سبحانه أحق بالحب من كل شيء، وإذا أحب الإنسان اللّه عن معرفة خلا قلبه عن حب سواه، إذ كل محبوب ما خلاه مجازي، فمثلاً إن الإنسان يحب أبويه لكن حبه لهما غير حب اللّه تعالى إذ أن اللّه هو الموجد الحقيقي والأبوان واسطة، والإنسان يحب الأنبياء والصالحين، لأنهم مرتبطون باللّه ومقربون إليه، وهكذا سائر أقسام الحب (4).

فلذلك ينبغي على العبد المؤمن أن يحرص على أن يكون قريباً من بارئه سبحانه، ويدعو مجتهداً خاصة في شهر رمضان بأن يجعله من المقربين إذ أن شهر

ص: 291


1- سورة الواقعة: 88 و 89.
2- تفسير نور الثقلين: ج 5، ص 228، ح 103.
3- الفروع من الكافي: ج 8 ص 68 و 69، ح24.
4- الفضيلة الإسلامية: ج 4، ص 415.

رمضان ربیع الدعاء، والدعاء مدرسة الإنسان فينبغي أن نستثمر هذه الفرصة الكبيرة لنقوم بصقل ذواتنا، ونبلور مواهبنا ونتعرف على مخازن أنفسنا حتى نوظفها في طريق الأهداف العالية والرغبات السامية التي أرادها اللّه منا وبذلك فوز الدنيا والآخرة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 292

الإحسان طريق المحبة

دعاء اليوم الحادي عشر

11

اللّهمّ حَيْبْ إِلَيَّ فِيهِ الْإِحْسَانَ وَكَرِّهُ إِلَى فِيهِ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، وَحَرَّمْ عَلَيَّ فِيهِ السَّخَطَ وَالنيران، بِعَوْنَكَ يَا غِياثَ الْمُسْتَغِيثِينَ.

البلد الأمين ص 307 عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به كتب له :حجة مقبولة مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعمرة مع أهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وكل حجة معه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )تعادل سبعين ألف حجة مع غيره، وكل عمرة معهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) تعدل سبعين ألف عمرة مع غيرهم).

ص: 293

ص: 294

بين النفس والجسم

النفس الإنسانية كالجسم تصبح وتمرض، وهي أيضاً بحاجة إلى الوقاية قبل الاصابة، وبحاجة إلى العلاج إذا سقطت فريسة للأمراض التي تنتاب النفوس الضعيفة والتي فقدت مناعتها فخارت قواها.

وعلم النفس التربوي الإسلامي المستفاد من الآيات والروايات من أجل العلوم شأناً وأخطرها أهمية، حيث تناول بالرعاية والعناية النفس الإنسانية فخط لها مساراً صحيحاً، ووضع لها منهاجاً متكاملاً يستجيب لنوازعها الخيرة وينميها ويحول بينها وبين دواعي الشر والانحراف بما وفّر لها من أساليب الترويض والتهذيب الروحية والأخلاقية.

و من أهم تلك الوسائل (ذكر اللّه) تبارك وتعالى، فإن حالة الذكر الدائم التي يطلبها الإسلام العظيم من المسلم المؤمن إن هي إلا حالة استنفار عام لكل الطاقات البناءة والقوى الكامنة الرشيدة في نفسه وكيانه من أجل البناء الاجتماعي.

فبالذكر الدائم تتقد جذوة الحب الالهي في نفس الإنسان المسلم فيرتقي إلى عوالم الانشراح وساحات القرب ويجوب رياض اليقين، وتطل نفسه على نور البصيرة في الرؤية الذي لا يعتريه غروب، ويتوفر لديه حضور الوازع الداخلي الذي لا يعقبه غياب.

وبالذكر الدائم تتجلى للإنسان المسلم فيوضات الرحمة الالهية، ويستشعر جمال اللطف الرباني وسعة عطاءه الكريم وغزارة الإفاضة السخية.

وفي الوقت ذاته يشهد هذا المسلم فقره بالنسبة للغني المطلق، وعجزه بالنسبة للقدرة التامة، ونقصه بالنسبة للكمال السرمدي.

ص: 295

ولا نعني هنا بالذكر لقلقلة لسانية أو حركة جسمانية، بل هو أن يترجم اللسان ما استقر في الجنان، من توحيد خالص واستسلام، وإن تجسد الجوارح ما انطوت عليه الجوانح من خشوع تام وانقياد والتزام..هذا هو الذكر.

وحقيقة الذاكرين هم أولئك الذين وفوا بعهدهم مع اللّه تعالى، فاندكت ذواتهم خشية منه، واستقامت طريقتهم طاعة له، وعلت نفوسهم وصفت بكثرة الانابة إليه ودوام الاستغفار.

قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (1).

أن ذكر المؤمن للّه تعالى له مظاهر وصور، فهو ترجمة لخلجات النفس، وأحاسيس الفكر، وأشواق الروح باستعمال كلمة أو عبارة.. كالمديح، والثناء، والتقديس، والتسبيح، والتعظيم اللّه سبحانه.. إلى غير ذلك.

لذا كانت تجربة الحب الالهي تجربة إنسانية رائعة لا يدرك أبعادها ولا يعي مضامينها إلا أولئك الذين عاشوا مشاعر الاستغراق في أبدية الحب والشوق الالهي العميق، الذين مزقوا حجب (الأنا) وأحاسيس الانفراد، فأذابوها في أبدية الحب والتجرد المطلق، وعاشوا في ذهول عن عالمهم الذي ما برح يحكم قبضته ويقوي أسوار سجنه ويرسل شتى صنوف الإغراء والاستهواء للاستحواذ على قلب الإنسان وعقله، فانطلقت تلك المشاعر التي أخصبتها تجربة الحب الالهي من أعماق وحدتها تمزق أطر التحير وتهدم حصون الأنانية المغلقة لتنطلق الذات الإنسانية إلى عالم السعة والامتداد، باحثة عن غاية الفطرة الكبرى.. خالق الكون، مصدر الكمال ومبعث الحب والجمال لتعبّر عن أحاسيسها، وتترجم مشاعرها كلمات تعظیم وعبارات تقدیس، محققة لنفسها حالة الحضور والانشراح الدائم بذكر اللّه والثناء عليه، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا

ص: 296


1- سورة آل عمران: 191.

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (1).

فمن تلك العبارات والكمالات التي يرددها المسلم في دعائه: هي طلب حبه للإحسان، ويترجم هذا المعنى بالشكر، إذ الشكر تعبير عن إحساس نفسي وقناعة فكرية يقصد بها مقابلة الإحسان والجميل المسدى إلى الشاكر من قبل المحسن وصانع الجميل، بما يماثله من إحسان ومعروف، فهو اعتراف من الشاكر بأنه مدين للمنعم والمحسن، وأنه لابد وأن يعبر عن هذا الاحساس بطلب التحبب للإحسان من قبل المحسن المطلق تعالى شأنه، فيطلب من اللّه تعالى أن يحبب إليه الإحسان ليعلن عن الامتنان بما يرضي صانع الجميل والمتفضل بالعطاء.

وينشأ هذا الشعور في نفس المسلم كإحساس أخلاقي ووجداني يلح عليه ويدعوه إلى مقابلة الإحسان بطلب الإحسان إلى الآخرين، لأن النفس البشرية تخضع في سلوكها إلى موازنة كونية منطقية تقضي بأنه ما من شيء يحدث في طرف من عالم الوجود إلا وعادة يعادله شيء أو يترتب عليه شيء آخر في الطرف المقابل، وينسحب هذا المنطق والقانون على الإحساس الأخلاقي لدى الإنسان، ويعمق هذا الإحساس بالنظر الواعي إلى فيض النعم الربانية التي تغمر النفس الإنسانية بإحساس الشكر والثناء، فيؤثر في علاقة الإنسان مع خالقه تعالى شأنه، مضيض الإحسان والنعم، ومصر الخير والمعروف.

قال تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (2) فنرى الإنسان يلجأ إلى الثناء وإفراغ أحاسيس الشكر بالعبارات والألفاظ والمواقف والأعمال، كوسيلة لأداء حق المنعم وصانع الجميل، ومن هنا كان طلب العبد للتحبب إلى الإحسان أسلوباً من أساليب الاعتراف بربوبية المحسن المطلق.

يقول تبارك وتعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا

ص: 297


1- سورة الانفال: 2.
2- سورة القصص: 77.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (1).

وفي نهاية هذه الآية جاء الأمر بالإحسان: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، كما يشاهد الانتقال من مرحلة الجهاد والانفاق إلى مرحلة الإحسان، لأن مرحلة الإحسان أسمى مراحل التكامل الإنساني.

وقد روي عن المعذور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة، فإذا عليه برد وعلى غلامه مثله فقلنا: لو أخذت برد غلامك إلى بردك كانت حلة، وكسوته ثوباً غيره، قال: سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: (إخوانكم جعلهم اللّه تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه ما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه) (2).

وحتى في طريقة الكلام مع الآخرين جاءت الروايات لتهذيب المتكلم وتعليمه طريقة الحديث مع الآخرين، فعن عبداللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)قال: سمعته يقول: (اتقوا اللّه ولا تحملوا الناس على أكتافكم إن اللّه يقول في كتابه: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (3)) (4).

ص: 298


1- سورة البقرة: 195.
2- بحار الأنوار: ج 1، ص 141-142، 11 كتاب العشرة، باب3، صلة الرحم، ط بيروت.
3- سورة البقرة: 83.
4- بحار الأنوار: ج 71، ص 161، ح 20، کتاب العشرة، باب 10، حسن المعاشرة، ط بيروت.

الإحسان ضرورة حضارية

قد جاءت الآيات والروايات تشرع استحباب الإحسان بالقول والعمل وأحياناً وجوبه، كما هو مذكور في كتب الفقهاء المراجع.

وبشكل عام أخذت الروايات والآيات الكريمة تحث عليه وتؤكده، لأن الإحسان مظهر من أسمى مظاهر الذكر وعدم نسيان نعم المنعم فيشهد العبد إذا كان محسناً بعدم نسيانه للمعروف المسدى إليه من قبل الباري تعالى وذلك عن طريق استعمال النعم التي أنعم اللّه بها عليه في الطاعة وفعل الخير والمعروف واسداء الجميل للآخرين.

يقول تعالى: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (1).

وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه يقول: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وأول أهل الجنة دخولاً إلى الجنة أهل المعروف، وأن أول أهل النار دخولاً إلى النار أهل المنكر) (2).

يروى أن أعرابياً جاء عند الإمام الحسن المجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ).. فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): أعطوه ما في الخزانة، فوجد فيها عشرون ألف درهم، فدفعها إليه، فقال الأعرابي يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي.

فأنشأ الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ):

ص: 299


1- سورة يوسف: 56.
2- بحار الأنوار: ج 71 ص 407، ح 1 كتاب العشرة، باب،30 فضل الإحسان والفضل والمعروف، ط بيروت.

نحن أناس نوالنا خضل***يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا***خوفاً على ماء وجه من يسل

لو علم البحر فضل ناتلنا***لغاض من فيضه خجل

ثم إن المستفاد من سيرة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أمير المؤمنين وأهل البيت المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) أن الإحسان لا يختص بالمؤمنين من الناس، بل الأحاديث الشريفة توصينا أن نضع المعروف والإحسان حتى للفاجر فضلاً عن البر، فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع الخير إلى كل أحد بر وفاجر)(1).

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف اللّه له عمله لكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول اللّه عز وجل: (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (2).

وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (أيما مؤمن أوصل إلى أخيه المؤمن معروفا فقد أوصل ذلك إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )) (3).

وعن عمرو بن عثمان قال: خرج علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على أصحابه وهم يتذاكرون المروءة، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): أين أنتم ؟ أنسيتم من كتاب اللّه وقد ذكر ذلك، قالوا: ياأمير المؤمنين في أي موضع ؟ قال في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (4) فالعدل الإنصاف، والإحسان التفضل (5).

وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه قال (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (زينة العلم

ص: 300


1- بحار الأنوار: ج 71، ص 409، ح 13، كتاب العشرة، باب 30، فصل الإحسان والفضل والمعروف، ط بيروت.
2- بحار الأنوار: ج 71، ص 412، ح23 كتاب العشرة، باب 30، فضل الإحسان والفضل والمعروف، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 71 ص 412، ح 24 كتاب العشرة، باب 30، فضل الإحسان والفضل والمعروف، ط بيروت.
4- سورة النحل: 90.
5- بحار الأنوار: ج 71 ص 413، ح 29، كتاب العشرة، باب فضل الإحسان والفضل والمعروف، ط بيروت.

الإحسان)(1).

وهناك حقيقة مهمة تشير إليها الآية الشريفد: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (2) وهي أن الإنسان إذا أراد أن يستمر عليه الإحسان الإلهى وإذا أراد أن يعلق بصره على نعم اللّه ويرجو إحسانه وخيره ولطفه وينتظر منه كل خير، فعليه أن يحسن إلى الآخرين إذ كيف يمكن له التغاضي عن طلب الآخرين الصريح أو لسان حالهم.. وكيف لا يلتفت إليهم.. وبتعبير آخر كما أن اللّه تفضل عليك وأحسن إليك فأحسن أنت إلى الناس (3).

بالإحسان تعمّ المحبة

قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (4).

ربما أمكن تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف: فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية، وصنف مجد دؤوب مخلص، وهذا الصنف يصل عادة إلى الحق، وصنف ثالث أعلى مرتبة من الصنف الثاني، فهو ليس بعيداً حتى يقترب من الحق، ولا منفصلاً عنه حتى يتصل به لأنه معه أبداً، وقد يكون صدر الآية المتقدمة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى) اشارة إلى الصنف الثاني.

وجملة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) اشارة إلى الصنف الثاني.

وجملة (إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) إشارة إلى الصنف الثالث.

كما يمكن أن يستفاد ضمناً من هذا التعبير الدقيق في الآية الكريمة أن مقام

ص: 301


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 487، المجلس الرابع والسبعون، الحديث 1.
2- سورة القصص: 77.
3- تفسير الأمثل: ج 12، ص 267.
4- سورة العنكبوت: 68 و 69.

المحسنين أسمى من مقام المجاهدين، لأن المحسنين اضافة إلى جهادهم في سبيل اللّه لنجاة أنفسهم، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم، ويحسنون إلى الآخرين، ويسعون لإعانتهم (1).

يقول الشاعر:

ناري ونار الجار واحدة***وإليه قبلى ينزل القدر

ما ضر جاراً أن يجاورني***ألا يكون لبابه ستر

ويقول شاعر آخر يصف المحسنين الذين يسارعون بالخيرات قبل السؤال:

ولقد دعوت ندى الكرام فلم يجب ف***لأشكرن نداً أجاب وما دعُ

ومن العجائب والعجائب جمة***شکر بطي عن نداً متسرع

من مصاديق الإحسان:

عن الامام أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (الإحسان محبة) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الإيثار أشرف الإحسان)(3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (العفو أفضل الإحسان) (4).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): الإحسان رأس الفضل) (5).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الاساءة يمحوها الإحسان) (6).

وهناك كثير من هذه الأحاديث التي جاءت لتحث على الإحسان وتشجع عليه، فعن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (الإحسان ذخر والكريم من حازه) (7).

ص: 302


1- تفسير الأمثل: ج 12، ص 418.
2- غرر الحكم: ج 1، ص 16.
3- غرر الحكم ج 1، ص 26.
4- غرر الحكم ج 1، ص 33.
5- غرر الحكم: ج 1، ص 39.
6- غرر الحكم: ج 1، ص 42.
7- غرر الحكم: ج 1، ص 54.

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المحسن من صدق أقواله وأفعاله) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إحسان النية يوجب المثوبة) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الإحسان إلى المسي يستصلح العدو) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المحسن حي وإن نقل إلى منازل الأموات) (4).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الكريم من جازى الاساءة بالإحسان) (5).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المحسن من عم الناس بالإحسان) (6).

ص: 303


1- غرر الحكم: ج 1، ص 55.
2- غرر الحكم: ج 1، ص 62.
3- غرر الحكم: ج 1، ص 75.
4- غرر الحكم: ج 1، ص 75.
5- غرر الحكم: ج 1، ص 81.
6- غرر الحكم: ج 1، ص 81.

من معطيات الإحسان

الإنسان المحسن الذاكر اللّه العامل بأوامره لا يستعمل نعم اللّه التي أنعم بها عليه من مال وعلم وقوة وجاه وخيرات.. إلى غير ذلك، إلا بما يوافق إرادة الرب المنعم وصانع الجميل المتفضل بشكل يظهر معروفه وإحسانه ليكون الإنسان بذلك قد أدى الشكر العملي للنعم وملأ جانب الطرف الإنساني بالمعرفة والامتنان، كما أرشدته قواعد التشريع الإسلامي وقيم الأخلاق.

إذن فالإحسان للآخرين يعمر قلوب المسلمين بالإيمان ويهدم فيهم الكفر والنفاق، بل وسوف يساهم هذا الإحسان في تحقيق الاهداف الرسالية النبيلة، وبالتالي يعم الاخاء والصفاء والمحبة بين أفراد المجتمع.

فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) (1).

و من دقيق العبارة ما نجده في نهج البلاغة ضمن الخطبة المعروفة بخطبة همام، ذلك المسلم المؤمن الزاهد الذي طلب من الإمام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يصف له المتقين، فانتخب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الآية الشريفة من مجموع القرآن قائلاً: (اتق اللّه وأحسن إن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (2).

فبالإحسان ينقلب العدو إلى صديق.. وبالإحسان ينقلب الكافر إلى موحد يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (3).

ولقد أكد القرآن الكريم في كثير من آياته البينات على أن يقابل المؤمن اساءة الجاهل بالإحسان، عسى أن يتأثر الطرف المقابل بذلك، فيخجل ويستحي من موقفه

ص: 304


1- تحف العقول: 32.
2- نهج البلاغة الخطبة: 193.
3- سورة النحل: 128.

المتشنج، وبهذه السلوكية الرائعة كثيراً ما ينتقل ذلك الجاهل من (ألد الخصام) إلى أحسن الأصدقاء (ولي حميم).

قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (1).

وإذا عمل بالإحسان في محله المناسب، كان ذلك أفضل أسلوب للتوجيه، والتاريخ الإسلامي يرفدنا بعينات رائعة في هذا المجال، منها: موقف معاملة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع مشركي مكة بعد الفتح.

ومنها: معاملة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ل_ (وحشي) قاتل عمه حمزة، سيد الشهداء.

ومنها: معاملته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأسرى معركة بدر الكبرى.

ومنها: معاملته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع من كان يؤذيه بمختلف السبل من يهود زمانه والمنافقين وغيرهم.

ونجد شبيه عظيم معاملة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتى مع أعدائه قد تجسدت عملياً في حياة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكل ذلك يكشف لنا بوضوح أهمية الإحسان في حياة الإنسان من جهة نظر الإسلام.

قال تعالى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (2).

أي أفضل على الناس كما أفضل اللّه عليك، وقيل: أحسن فيما افترض اللّه عليك كما أحسن في إنعامه عليك، وقيل معناه وأحسن شكر اللّه تعالى على قدر إنعامه عليك وواس عباد اللّه بمالك (3).

قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) (4).

و عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان) (5).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (صدق الإيمان وصنائع الإحسان من أفضل الذخائر) (6).

ص: 305


1- سورة فصلت 34.
2- سورة القصص: 77.
3- مجمع البيان: ج 7، ص 266.
4- سورة النحل: 30.
5- غرر الحكم: ج 1، ص 84.
6- غرر الحكم: ج 1، ص 412.

هكذا يكون موقف العظماء

وعلى هذا الإحسان سار المؤمنون بمسلك النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ومن هنا يحدثنا التاريخ بأن مالك الاشتر الذي كان في قيادة جيش الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن المقربين له، كان مالك الاشتر كما في التاريخ - ضخم الجثة، طويل القامة، يتردي قميصاً وعمة، وقد طبعت الحرب على وجهه آثارها و علمته بعلائمها وحكت عن بطولته في ميادينها بتقاسيم وجهه، فهذا الرجل العظيم بينما كان يمشي ذات يوم في سوق الكوفة وإذا بأحد السوقة حدثته نفسه بالازدراء به والاستهزاء بزیه فرماه ببندقة، لكن الاشتر ومن دون أن يعيره التفاتاً واصل السير حتى توارى عن نظره.

عندها قيل للسوقي: ويحك أتعرف من رميت؟

قال: لا، لم أعرفه.. عابر مثل آلاف المارة.

قالوا: إنه مالك الاشتر النخعي صاحب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقائد جيشه.

فقال: أهذا هو مالك الذي ترتعد فرائص الاسد خوفاً منه ويرتجف العدو من اسمه؟

قالوا: نعم هو بعينه.

فهرول الرجل من ساعته راكضاً خلف مالك ليعتذر إليه عما بدر منه، منه، إلا أن مالكاً كان قد دخل أحد المساجد، فلما وصل الرجل وجده قائماً يصلي، فلما انتهى من صلاته انكب الرجل على قدميه يقبلهما..

فقال له مالك: ماهذا؟

فقال: أعتذر إليك عما صدر مني، أنا الذي استهزأت بك وتجرأت عليك.

ص: 306

فقال مالك للرجل: لا بأس عليك، فو اللّه ما دخلت المسجد إلا لأستغفرن لك (1). نعم هكذا كانت معاملة الأنبياء والأولياء والصالحين مع الناس، كلها عطاء وكلها إحسان وسخاء وكرم، فالعظماء تأبى نفوسهم أن يردوا الإساءة بالاساءة، وذلك لأن الإساءة عندهم منقصة ودناءة، فهم يرون الاساءة في النفوس ضعة وضعفاً، ولذلك يجتنبونها، ومن يتبع الأنبياء والصالحين لابد أن يتخلق بأخلاقهم ويتصف بصفاتهم. ولقد كان رسول اللّه لعل اللّه أجود الناس كفاً، كما وصفه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2) وكان يفتش عن المحتاجين، وكان عطاؤه لهم تكرماً وتفضلاً وايماناً.

لقد جسد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) القدوة في الإحسان، فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المثال والنموذج في الرفق والرأفة والعطف، كما في سائر المحاسن الاخلاقية.

فكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحسن للناس ويأمر بالإحسان ويرحمهم ويأمرهم بالرحمة وكان يقول: (مروءتنا أهل البيت العفو عمن ظلمنا وإعطاء من حرم حرمنا) (3).

كما أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يكن عفوه وإحسانه عفو وإحسان العاجزين، بل عفو وإحسان القادرين الأقوياء، هكذا كانت مواقفه حتى مع اعدائه الذين فعلوا ما فعلوا به وبأصحابه، فيوم فتح مكة المكرمة ورغم العذاب والضيم الذي لاقاه وأصحابه من مشركي مكة إلا أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عفا عنهم وأحسن إليهم، فلو كان أي قائد وفي أي وقت من الأوقات وفي أي حقبة من حقب التاريخ فعل به وبأنصاره مثل ما فعل بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنصاره، ترى كيف سيكون موقفه من أعدائه حينما ينتصر عليهم ويدخل فاتحاً، فلا يكون من غير الثأر والانتقام؟ ألا أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان أكبر من ذلك كله حين دخل مكة المكرمة فاتحاً وقد قال لاهلها: (ماتظنون إني فاعل بكم)؟

قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أقول كما قال أخي يوسف (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ

ص: 307


1- قصص الأبرار: ص 206.
2- مكارم الأخلاق: ص 18.
3- تحف العقول: 33.

أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1) اذهبوا فأنتم الطلقاء (2).

وذات مرة كان الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عائداً من غزوة ذات الرقاع فانسل رجل من الاعداء في غفلة من المسلمين حتى قام على رأس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالسيف فقال: ما يمنعك مني ؟

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو مطمئن اللّه تبارك وتعالى.

فمالت قدم الرجل فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: والآن ما يمنعك مني؟

فقال الرجل: كن خير آخذ، فخلی آخذ، فخلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سبيله، فأتى الرجل أهله وقال: جئتكم من عند خير الناس (3).

وكان نتيجة هذا المعروف والإحسان هو جذبهم نحو الدين والتأثير عليهم ليكونوا أناساً متحابين محسنين.

الإحسان وتأثيره على الآخرين

يقول تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (4).

فآخر الآية المباركة يشير إلى مرحلة أعلى من العفو والصفح وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلم التكامل المعنوي، وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الاساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسي ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه

ص: 308


1- سورة يوسف: 92.
2- اخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : 104، عن الإحياء، ج 2، ص 158.
3- اخلاق الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ص 378 -377.
4- سورة آل عمران: 133 - 134.

المسيء إليه أيضاً.

وذلك بالإحسان إليه وبذلك يكسب وده وحبه ويمنع من تكرار الاساءة إليه في مستقبل الزمان.

ومن كل ما تقدم نفهم أن الإسلام ليس يأمر المسلم بأن يكظم غيظه فقط، ولا بأن يطهر قلبه فحسب، بل يأمره بأن يطهر حتى فؤاد خصمه من كل رواسب الضغينة وبقايا العداء أيضاً، وذلك عبر الاحسان الدائم وتحكيم سماته في الروابط والعلاقات الاجتماعية، فهو بذلك يكون قد حون العداء إلى محبة والشر إلى خير، وهذا نوع من السمو النفسي في الفضائل، والانتقال من صفة إنسانية خيرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي.. وكان أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) هم ذلك.

القمة في فقد روي في التاريخ أن جارية لعلي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جعلت تسكب على يديه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إن اللّه تعالى يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).

فقال لها: قد كظمت غيظي.

قالت والعافين عن الناس.

قال: قد عفوت عنك عفى اللّه عنك.

قالت: واللّه يحب المحسنين.

قال: اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه (1).

وكما روي أيضاً عن أنس أن أعرابياً جاء ذات مرة إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يلبس برداً غليظ الحاشية، فجذبه الأعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتق الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال الأعرابي: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال اللّه الذي عندك فانك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك.

فسكت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال : المال مال اللّه وأنا عبده، وأضاف (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ويقاد منك يا

ص: 309


1- تفسير الأمثل: ج2، ص 538 - 539.

أعرابي ما فعلت بي؟

قال الأعرابي : لا.. قال :(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم ؟

قال الأعرابي: لانك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

فضحك النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد أن عفى عنه، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيراً وعلى الآخر تمراً (1).

ثم التاريخ يحدثنا بأضعاف هذه الحوادث والقصص مما يشير إلى إحسان وتفضل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)بما جعل الناس يهتدون بهداهم ويتخذونهم أسوة إلى يوم القيامة..

فقد روي أن عبد اللّه بن الزعبري السهمى الذي كان يهجو الرسول (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بمكة ويعظم القول فيه، هرب يوم فتح مكة، ثم عاد واعتذر، فعفى عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأسلم، ثم أنشد أبيات يمدح فيها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول فيها:

إنى لمعتذر إليك من الذي***أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

فاغفر فدا لك والدي كلاهما***زللي فإنك راحم مرحوم

ولقد شهدت بأن دينك صادق***حق وانك في العباد جسيم (2)

نعم إن النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كانت سياسته الإحسان حتى مع اعدائه وكان يحث الناس على الإحسان ويزينه في قلوبهم حتى يعيشوا الحب والوئام بعيداً عن الحقد والبغض والضغينة.

وكم من إحسان أسداه الإنسان إلى غيره وحصد فوائده في وقت حاجته وشدته.. وفي هذا الباب حدثني المرحوم الحاج كاظم الرحماني، وكان رحمه اللّه من المخالفين لحکومة شاه ایران. وكان يعيش في كربلاء المقدسة، وذات مرة سافر إلى ايران في شأن من شؤونه، فالقوا عليه القبض وبعد فترة قضاها في السجن حكموا عليه بالاعدام..

ص: 310


1- كحل البصر : ص 82.
2- كحل البصر : ص 84.

يقول الحاج كاظم، أن الضابط الذي كان يملك تنفيذ اعدامي سألني: هل تعرفني؟

قلت: كلا.

قال: فكر جيداً، لعلك تعرفني ونكون قد التقينا يوماً ما؟

قال: فكرت كثيراً ولم اهتد إلى شيء.

فقال الضابط، أنا أذكرك.. قبل عشر سنوات جئت مع عائلتي إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة ولما وصلت كربلاء كانت المدينة مزدحمة جداً بالزوار، فلم نحصل على مكان في فندق أو غيره لنبيت فيه.. فأخذت أفكر في أمري متحيراً، وبينما كنت في هذه الحالة أمشي في الشارع ولا أهتدي إلى مكان، وإذا بك حضرت أمامي وسألتني لماذا أنت واقف متحير ؟

فذكرت لك الأمر..

فقلت: لا بأس عليك، هلم معي إلى البيت، فأسكنتنا في بيتك وقمت بخدمتنا خير خدمة، ولما حان وقت سفرنا قدمت لك مالاً مقابل الخدمة والسكن، فرفضت المال.. فأنا في ذلك الوقت كنت بحاجة إليك فخدمتني وأنت اليوم تحتاجني لكي أرد ذلك الإحسان إليك وأكافئك على صنيعك المعروف، وهذه ورقة اعدامك سأمزقها..

ومزق الورقة وأطلق سراحه من السجن وقال: أنا سوف اتحمل مسؤولية الإجابة وستكون بخير.

أقول: حقاً ما قاله الشاعر:

أرى الإحسان عند الحر ديناً***وعند النذل منقصة وذماً

كقطر صار في الاصداف دراً***وفي شدق الأفاعي صار سماً

ص: 311

شهر الإحسان

وهذا شهر رمضان شهر الرحمة والمحبة والإحسان، فتعالوا جميعاً نقتدى برسول اللّه وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فنحسن إلى بعضنا ونسدي معروفنا ونحوّل حياتنا إلى واحة ملئها العطف والمؤاخاة واسداء المعروف...ونسأل اللّه سبحانه أن يحبّب إلينا ذلك ويكره إلينا الفسوق والمعصية ويجنبنا العداوات والقسوة لأنها تثير السخط و تشعل نيران الفتن في المجتمع.. لنكون بذلك قد حققنا بعض الهدف من الصيام واستفدنا من فرصة هذا الشهر العظيم على وجه أحسن، فالرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يحسن مع كل الناس مع الاصحاب ومع الاعداء، وحتى مع الاسرى الذين جاءوا لمحاربته وقتله.. فقد روي أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لأصحابه عند توزيع الأسارى في غزوة بدر: (استوصوا بالاساری خیرا) (1).

وهكذا كان مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث يقول: (حفظ اللسان وبذل الإحسان من أفضل فضائل الإنسان)(2).

ثم يسأل العبد ربه تعالى في هذا الدعاء المروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في اليوم الحادي عشر من شهر رمضان المبارك: أن يكره إليه المؤمن فيبتعد عن جادة الإيمان الحقة لأسباب كثيرة، منها: أنه يظن أن اللّه تعالى لا يعذبه لكرمه ورحمته الواسعة، فيقول: أنا موحد ومؤمن فكيف يعذبني اللّه سبحانه، أو يغتر اعتماداً على صلاح أبيه وأجداده أو نسبه، مع معرفته بمخالفته لسيرتهم.

وهذا التمني مذموم لأنه يختلف عن الرجاء الذي يستند إلى أساس العمل

ص: 312


1- تاريخ الطبري: ج 2، ص 460.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 344.

والتقوى، فيقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه) (1).

والقرآن الحكيم يصرّح بأن (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (2).

ولعل أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم هو الابتعاد عن المعاصي والورع عن محارم اللّه وإذا ما حصل للإنسان اليقين بمكروهية المعاصي فإنه سينبذها في هذا الشهر وفي غيره من الشهور، فيدعو أن يُكرّه اللّه تعالى إليه في هذا الشهر الفسوق والعصيان.

وكلما ابتعد الإنسان المؤمن عن المعصية اقترب من خالقه جل وعلا الذي ادخر لهذا العمل الدنيوي أجراً عظيماً في الآخرة، فيقول تعالى: ﴿وانما توفون أجوركم يوم القيامة) (3) ولن يتأتى هذا الأجر إلا بالتقوى وترك المحرمات، وكلما ابتعد عن المعاصي ابتعد عن السخط الإلهي والنيران التي جعلها اللّه للعصاة، اعاذنا اللّه منها.

فعلى الإنسان أن لا يكون من المقصرين الذين يصفهم أمير المؤمنين بوصيته الكريمة بقوله: (لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويرجو التوبة بطول الأمل يقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين إن أعطي منها لم يشبع وإن منع لم يقنع) (4) إلى أن يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم، ويبغض المسيئين وهو منهم) (5) إلى آخر الموعظة المباركة.

و شهر رمضان خير مناسبة لكسب رضا اللّه تعالى، فيجب على المؤمن أن يكثر

من الأعمال التي تبعده من سخطه تعالى، ومنها الصدقات، يقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) (6).

ص: 313


1- جامع السعادات: ج 3، ص 12.
2- سورة المدثر: 38.
3- سورة آل عمران: 185.
4- تحف العقول: 110، موعظته في المقصرين.
5- تحف العقول: 110.
6- كنز الكراجكي: الحديث 16114.

ومنها التقرب بالنوافل وبالخصوص صلاة الليل حتى يبقى تحت ميزان الخوف والرجاء لينال بذلك رضا اللّه تعالى ويبتعد عما يسخطه.. وفي الدعاء المروي عن أبي حمزة الثمالي بعض المضامين التي تعطي الإنسان المعادلة المتوازنة في كيفية العبادة والسير على الطريق الالهي، حيث جاء فيه: (الهي لا تؤدبني بعقوبتك ولا تمكر بي في حيلتك من أين لى الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندك، ومن أين لى النجاة ولا تُستطاع إلا بك، لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك..)(1).

وبقي في الأخير أن نعلم بعد كل هذا أن حب الإحسان وكره الفسوق والعصيان لن يكون إلا بتوفيق وعون من اللّه تعالى، ولابد من طلب التوفيق والتسديد من اللّه سبحانه في نيل هذه المطالب و خصوصاً في شهر رمضان المبارك، وحاشا للّه أن يخذل عبده، وهو الذي سمی نفسه (المغيث) ومن هنا جاء دعاء اليوم الحادي عشر من هذاالشهر الفضيل بهذه الصيغة حيث يقول:

(اللّهمّ حبب إلي فيه الإحسان، وكرّه إليّ فيه الفسوق والعصيان، وحرّم عليّ السخط والنيران بعونك يا غياث المستغيثين).

ص: 314


1- مفاتيح الجنان: دعاء أبي حمزة الثمالي.

العفاف والكفاف

دعاء اليوم الثاني عشر

12

اللّهمّ زَيِّنِّي فِيهِ بِالسِّتْرِ وَالْعَفَافِ وَاسْتُرْنِي فِيهِ بِلبَاسِ الْقُنُوعِ وَالْكَفَافِ، وَاحْمِلْنِي فِيهِ عَلَى الْعَدْلِ وَالإِنْصافِ وَآمِنِّي فِيهِ مِنْ كُلّ ما أَخافُ بعِصْمَتِكَ يَا عِصْمَةَ الْخَائِفِينَ.

البلد الأمين ص 308، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به بدلت سيئاته حسنات، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).

ص: 315

ص: 316

ماهى العفة؟

العفة هي: (الكف عما لا يحل ويجمل) (1) وهي كذلك (الكف عن الحرام والسؤال من الناس) (2) كما فسرها ابن منظور في لسان العرب، واستشهد بالآية الكريمة: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) (3) قال: فسرها ثعلب فقال: ليضبط نفسه بمثل الصوم فإنه وجاء.

وكذا تأتي بمعنى الصبر والنزاهة عن الشيء، كما في الحديث الشريف: (اللّهمّ إني أسألك العفة والغنى) (4).

ذم السؤال والنهى عنه

أكدت الأحاديث النبوية الشريفة والأحاديث المروية عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) على ذم السؤال والكف عن المسألة، وإن اللّه سبحانه وتعالى يبغض السائل ويحب الحياء والتعفف، كما في قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن اللّه يحب الحيي المتعفف ويبغض البذي السائل الملحف) (5).

وورد عن الإمام الصادق قوله: (رحم اللّه عبداً عف وتعفف وكف عن المسألة، فإنه يعجل الذل في الدنيا وفي الآخرة ولا يغنى الناس عنه شيئاً) (6).

ص: 317


1- لسان العرب: ج 9، ص 252، مادة (عفف).
2- لسان العرب: ج 9، ص 252، مادة (عفف).
3- سورة النور: 33.
4- لسان العرب: ج 9، ص 252، مادة (عفف).
5- بحار الأنوار: ج 93، ص 149، كتاب الزكاة والصدقة، باب ذم السؤال، الحدیث 1، ط بيروت.
6- بحار الأنوار: ج 93، ص 154، كتاب الزكاة والصدقة، باب ذم السؤال، الحديث 19، ط بيروت.

وذلك لأن المسألة تذهب بماء الوجه عادة، وتمحو الحياء الإنساني فتحيل الإنسان إلى عبء ثقيل على المجتمع، فالسؤال والاستجداء تعد ظاهرة اجتماعية سيئة.

وبالرغم من أن الإسلام يؤكد على عدم رد السائل، إلا أنه في الوقت نفسه يعطي إشارات هي بمثابة الجانب التربوي الذي يحاول القضاء على هذه الظاهرة السلبية دون أضرار نفسية أو اجتماعية، كما ورد في الخبر عن أبي عبداللّه : يا هذا أن المسألة لا تحل إلا في إحدى ثلاث دم مفجع أو دين مقرح أو فقر مدقع، ففي أيها تسأل؟ فقال : في وجه من هذه الثلاث.

فأمر له الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بخمسين ديناراً، وأمر له الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتسعة وأربعين ديناراً، وأمر له عبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين ديناراً.

فانصرف الرجل، فمر بعثمان، فقال له: ما صنعت؟

فقال: مررت بك فسألتك فأمرت لي بما أمرت ولم تسألني فيما أسأل، وإن صاحب الوفرة ة(1) لما سألته قال لي: يا هذا فيما تسأل؟ فإن المسألة لا تحل إلا في إحدى ثلاث، فأخبرته بالوجه الذي أسأله من الثلاثة، فأعطاني خمسين ديناراً، وأعطاني الثاني تسعة وأربعين ديناراً، وأعطاني الثالث ثمانية وأربعين ديناراً.

فقال عثمان: ومن لك بمثل هؤلاء الفتية؟ أولئك فطموا العلم فطماً (2).

فعندما مر السائل بالأول لم ينل غير بعض المال، بينما بمروره على السبطين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بالإضافة إلى تحصيله أموالاً كثيرة فقد أخذ درساً تربوياً وأخلاقياً، فعندما حدد له الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجوه السؤال وأكد أن المسألة لا تكون إلا في إحداهن فحينئذ عرف أن سؤاله كان صحيحاً، فأخذ ما يستحقه، فمقتضى حديث الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) للاجازة التي منحها للسائل: أنه لا يكون السؤال إلا في الضرورة القصوى.

ص: 318


1- الوفرة: الشعرة إلى شحمة الأذن وما جاوزها، ويحتمل أن يكون أراد بها الكثرة في العطاء.
2- بحار الأنوار: ج 93 ص 152-153، كتاب الزكاة والصدقة باب ذم السؤال، الحديث 16، ط بيروت.

ربما يقع الإنسان في بعض الظروف الصعبة فتلجئه الضرورة إلى أقربائه وأصدقائه ليطلب منهم مالاً أو حاجة، ومعلوم أن الإنسان في وقت الشدائد يتوقع من أهله وإخوانه أن يقفوا إلى جانبه ويحلوا مشكلته، لكن هل يصح للإنسان أن يذهب إلى كل أحد ويسأله؟

كلا.. فقد حدد لنا أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) أولئك الذين يصح لنا أن نلجأ إليهم في الأزمات، وممن حددوا في قضاء الحاجات أهل المعروف والفضل كما في وصية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لولده الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (يابني إذا نزل بك كلب الزمان وقحط الدهر فعليك بذوي الأصول الثابتة، والفروع النابتة، من أهل الرحمة، والإيثار والشفقة، فإنهم أقضى للحاجات وأمضى لدفع الملمات، وإياك وطلب الفضل واكتساب الطاسيج والقراريط (1) من ذوي الأكف اليابسة والوجوه العابسة، فإنهم إن أعطوا منّوا، وإن منعوا كدوا، ثم أنشأ يقول:

واسأل العرف أن سألت كريماً****لم يزل يعرف الغنى واليسارا

فسؤال الكريم يورث عزاً***وسؤال اللئيم يورث عاراً

وإذا لم تجد من الذل بداً***فالق بالذل إن لقيت الكبارا

ليس إجلالك الكبير بعار***إنما العار أن تجل الصغارا (2)

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآية التي نزلت في قوم كانوا إذا صرموا النخل عمدوا إلى أرذل تمورهم فيتصدقون بها، فنهاهم اللّه عن ذلك، فقال تعالى:

(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) (3).

ص: 319


1- الطسوج والقيراط مكاييل صغيرة، ومنها مستخدم الآن لوزن الذهب.
2- بحار الأنوار: ج 93، ص 159 - 160، كتاب الزكاة والصدقة باب ذم السؤال، الحديث 38، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 93، ص 143 كتاب الزكاة والصدقة باب ذم السؤال، الحديث 9، ط بیروت، والآية في سورة البقرة: 268.

العفة حلية المؤمن

تعتبر العفة مظهراً من مظاهر تمييز المؤمن عن غيره، فكما أن المرء يتزين ويتجمل باللباس والعطور والزينة، كذلك المؤمن تكون زينته عفته في الكلام وفي النظر والبطن والفرج والأموال ونحوها، فيحرص المؤمن دائماً على أن لا تظهر منه كلمة نابية أو قبيحة، فيهذب لسانه ويغضي بصره عن الحرام.. وكان أمير المؤمنين لا يقول: (أفضل العبادة العفاف) (1).

والظاهر أنه يمكن حمل العفاف هنا على ما يشمل ترك جميع المحرمات، ولعل من أظهر مصاديق لزوم التعفف هو الفرج والبطن، فعن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (ماعبد اللّه بشيء أفضل من عفة بطن وفرج) (2).

ومتى ما عرف المؤمن أن العفة ستاره الواقي له في الآخرة فضلاً عن الدنيا فانها تكون ديدنه، ففي الخبر عن نجم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال لي: (يا نجم، كلكم في الجنة معنا، إلا أنه ما أقبح بالرجل منكم أن يدخل الجنة قد هتك وبدت عورته، قال: قلت له: جعلت فداك وإن ذلك لكائن ؟ قال: نعم، إن لم يحفظ فرجه وبطنه) (3).

وهكذا كان ائمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) يؤكدون ويوصون بالعفة.

وينسب إلى مولانا الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذان البيتان يصف نفسه العفيفة، فيقول:

لبست بالعفة ثوب الغنى***وصرت أمشي شامخ الرأس

لست إلى الناس مستأنساً***لكکنى آنس بالناس

ص: 320


1- سفينة البحار : ج 6، ص 303، الطبعة الثانية المصححة، مؤسسة الوفاء، بيروت.
2- المصدر نفسه ص302.
3- سفينة البحار : ج 6، ص 303.

وروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: (العفاف زينة النساء) (1) ولاشك أن الحجاب الإسلامي هو الوسيلة المثلى في صون كرامة المرأة، وعفتها، وبالذات في هذا العصر الذي جعلت فيه المرأة وسيلة تجارية رابحة للعابثين بمصير البشرية.

فاستخدموها سياسياً كوسيلة للتجسس بما لها من قدرات جسدية للاغراء، ونفذوا من خلالها العديد من المؤامرات الدولية، ولم تخل أسباب الحروب التي حدثت على الأرض من أيدي هؤلاء العابثين بالمرأة، فوضعوا لها دوراً منحطاً لينالوا بها النتائج التي يرمونها.

وفي المجال الاقتصادي جعلوا من المرأة المحور الأساسي في الدعاية والإعلان، وكلما كانت المرأة أكثر سفوراً وتبرجاً كلما كانت البضائع والمنتجات أكثر شهرة ورواجاً، وهكذا في بقية أنواع الدعاية للسينما ودور النشر وما أشبه.

وهنا قد يسأل سائل قائلاً:

هل خلقت المرأة من أجل أن تكون سلعة رخيصة بهذا الشكل المقرف؟

وهل أن دعاة حقوق المرأة وحريتها لم يجدوا مجالاً للمرأة غير اذلالها وإشباع رغباتهم المنحرفة عبرها وتسويق بضائعهم على حساب كرامتها؟

والجواب هو: أن الكتب السماوية قد وضعت للمرأة المكانة السامية التي يريدها اللّه تعالى لها في أن تكون نصف المجتمع الصالح والعنصر الخلاق فيه لتنشئة الأجيال الفاضلة والتي يقع على عاتقها إعمار الأرض وصلاح البشرية، وقد قال الشاعر في هذا المعنى:

الأم مدرسة إذا أعددتها***أعددت شعباً طيب الأعراق

وبسبب غياب الدور التربوي للمرأة في العالم بشكل عام وحتى في بعض بلداننا الإسلامية، فقد بدأت بوادر الانهيار الخلقي تتفشى في مجتمعاتنا حتى طالت الجرائم براءة الطفولة، فقد نشرت إحدى الصحف العربية حادثة غريبة نذكرها كشاهد على ما

ص: 321


1- كلمة الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ص 110، ط دار الصادق بيروت.

أوردناه (1).

طفل يبلغ الثانية عشرة من عمره يرتكب جريمة قتل مع سبق الاصرار والترصد، ومصحوبة بشروع في اغتصاب!!

والمجني عليها طفلة عمر عمرها خمس سنوات!!

والأغرب في ذلك أن الحادثة حصلت بإتقان شديد من قبل (الطفل المجرم) يستدرجها ثم يحاول الاعتداء عليها، فترفض وتصرخ.. يكتم أنفاسها بسلك معدني ثم یر می جثتها من شباك غرفته...

وتفاصيل القصة نشرتها الجريدة، إلا أن الذي يهمنا هو الأسباب التي تؤدي بطفل بهذا العمر في أن يصبح مجرماً محترفاً..

فعرضت القضية على أحد أطباء علم النفس، وهو الدكتور فكري عبد العزيز استاذ الطب النفسي في أحدث الجامعات المصرية، وغيره من الأطباء، فأجمعوا على أن السبب الرئيسي في هذه الجريمة هو التفكك الأسري وبعد الأبوين عن الطفل. ويمكننا أن نضيف نحن كذلك عاملاً آخر هو بعض البرامج التلفزيونية الموجهة بطريقة مقصودة للنيل من الأسرة المسلمة وإلحاقها في ركب الجريمة والانفلات الأخلاقي، وقد قصدت المرأة بالذات لأنها عماد التربية الاسرية في المجتمع الإسلامي، فقد ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قوله: (مازال جبرئيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة مبينة) (2).

وقد وضع الإسلام القواعد الصحيحة للمحافظة على عفة المرأة وضمان استقامتها، كما ورد في وصية الامام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنه الحسن المجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: (واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن، وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك

ص: 322


1- الحوادث المصرية، العدد 25099 ديسمبر 1997.
2- بحار الأنوار: ج 100، ص 253، كتاب العقود والايقاعات، باب أحوال الرجال والنساء، الحديث 58، ط بیروت.

فافعل) (1) إلى أن يقول: (وإياك والتغاير في غير موضع غيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة إلى السقم والبريئة إلى الريب) (2).

وربما يسأل البعض حول المرأة في عصرنا الحالي ومشاركتها الرجل في العمل والتعقيد الذي حصل في تعدد مجالات العمل؟

فإن جوابنا: إن الإسلام أكد الحجاب وعدم الاختلاط المشبوه بالرجال بدون عذر شرعي يستوجب ذلك، لكن يجوز أصل الاختلاط مع رعاية الشروط الشرعية في الحج وممارسة البيع والشراء والتعلم والأخذ والعطاء، وأجيز لها حضور صلاة الجمعة والعيدين في المصلى، وأن تملك وتنمي أموالها إلى غير ذلك، وفق الشرائط والآداب التي حددها الشرع لها، وقد ذكر فقهاؤنا المراجع تفصيل أحكام المرأة في كتبهم الفقهية.

وبعد معرفتنا لأهمية العفة والحجاب في الإسلام نعرف أهمية الإلحاح بالدعاء إلى اللّه تعالى بالمأثور عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (اللّهمّ زيني فيه بالستر والعفاف).

ص: 323


1- نهج البلاغة: الكتاب 31.
2- نهج البلاغة: الكتاب 31.

بين القناعة والطمع

ثم يتبع ذلك بقوله (واسترني فيه بلباس القنوع والكفاف).

الطمع صفة قبيحة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة، فتجد صاحب الطمع في قلق دائم وعدم استقرار، لأنه لا يريد أن يفقد شيئاً أو يفوته شيء...لا مال ولا غيره، فهو في رغبة جامحة إلى الحصول على كل شيء، وأنى له ذلك.

أما الإنسان القانع فيتمتع بالطمأنينة والاستقرار، وكلما كان راضياً بما عنده كلما هدأت نفسه واستقرت..

يروى عن سلمان الفارسي (رضوان اللّه تعالى عليه) عندما كان في المدائن، أن حريقاً كبيراً قد حدث فيها وأخذت الناس تصيح وكل يحاول إخراج وإنقاذ ما أمكنه من بيته، سلمان (رضوان اللّه تعالى عليه) فإنه تنحى جانباً راكباً دابته وهو يقول: (فاز المخففون).. ويروى عنه (رضوان اللّه عليه) أنه كان يرددها دائماً.

ويحكى عن داود الطائي أنه أصابته فاقة حادة فجاءه حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه وقال: هي من مال رجل ما أقدم عليه أحد في زهده وورعه وطيب كسبه، فقال: لو كنت أقبل من أحد شيئاً لقبلتها تعظيماً للميت وإكراماً للحي، ولكني أحب أن أعيش في عز القناعة.

وفي هذا قال الشاعر:

هي القناعة فالزمها تعش ملكاً***لو لم يكن منك إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها***هل راح منها بغير القطن والكفن

فعلى الإنسان أن يدعو ربه بأن لا يجعله من عباد الدنيا الطامعين.. ويكرر دائماً وبالخصوص في شهر رمضان المبارك: (واسترني فيه بلباس القنوع والكفاف) ليكون

ص: 324

له درساً في غيره من الأيام والشهور.. فإن الطمع يأسر الإنسان ويجعله ذليلاً، بينما القناعة تحرره من الاغلال والقيود، قال الشاعر:

العبد حر ما قنع***والحر عبد ما طمع

وفي الغالب أن الإنسان المتحلي بالقناعة والتعفف في نفسه وضميره، يكون متحلياً بالعدل والإنصاف أيضاً.. لأن الذي يدفع الناس عادة إلى التجاوز والعدوان هو الطمع والاقبال على المزيد من اللذات والمصالح.. ومعلوم أن هذه الحالة من شأنها أن تدفع الإنسان إلى الإحتكار ومصادره حقوق الآخرين ونحو ذلك..

أما الإنسان القنوع المتعفف فإنه يكتفي بما عنده عما في أيدي الناس، ويرضى بما قسمه اللّه سبحانه له من الرزق والعيش الكريم، وبهذا يكون منصفاً عادلاً لدى تعامله مع الناس.

ولعله من هنا جاءت الفقرة التالية من الدعاء معطوفة على القناعة والكفاف، حيث

يقول: (واحملني فيه على العدل والإنصاف).

و على أي حال فإن الروايات الشريفة حددت بعض سمات العادلين، منها ما روي عن مولانا الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته) (1).

وعن الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (من صلى خمس صلوات من اليوم والليلة في جماعة فظنوا به خيراً وأجيز وا شهادته) (2).

ومعلوم أن جواز الشهادة فرع العدالة، لأن الشهادة لا تقبل إلا من عادل، كما أفتى بذلك العلماء.

والإنصاف يأتي توأماً للعدل، والمنصف هو الذي يعطي الحق ولو على نفسه، وهذا أمر قد يشق على بعض الأفراد إلا أن ذوي النفوس الكبيرة يستأنسون به، لأنهم

ص: 325


1- بحار الأنوار: ج 67، ص 1، كتاب الإيمان والكفر، باب العدالة، الحديث 1، ط بيروت.
2- بحارالا نوار: ج 67، ص 2 كتاب الإيمان والكفر، باب العدالة، الحديث 3، ط بيروت.

يعرفون أن رضى اللّه فيه.

ونحن بحاجة دائماً إلى أن ندعو اللّه تعالى لأن يحملنا على ذلك ويجعلنا من المنصفين بتوفيقه وتسديده، لأن من الصعوبة بمكان أن يكون الإنسان منصفاً في حياته وبشكل دائم، إذ أن الإنصاف صفة مثلى تجري عادة خلاف مشتهيات الإنسان وغرائزه، فالذي يملك النصفة من نفسه ومن الناس يكون قد ملك شهواته وانتصر على ميوله وغرائزه، لذا كان التحلي بالإنصاف والعدل بحاجة إلى حمل ودفع وتسديد من اللّه سبحانه.. فجاء الدعاء الشريف قائلاً: (واحملني فيه على العدل والإنصاف).

وواضح أن كلمة (فيه) يعود ضميرها على شهر رمضان المبارك، وليس المقصود في هذا الشهر فقط يلزم التحلي بالعدل والإنصاف، لأن الإنسان ينبغي أن يتحلى بمكارم الأخلاق دائماً ولا خصوصية لزمان دون زمان، لكن بما أن شهر رمضان شهر تهذيب النفس وتربيتها.. شهر البناء الذاتي للإنسان اقتضى الأمر أن يسأل الإنسان ربه في هذا الشهر الفضيل أن يعينه على تهذيب نفسه و تربیتها بشکل آکد.

يحدثنا تاريخنا الإسلامي عن الكثير من القدوات والنماذج الصالحة، الذين ربوا أنفسهم على العدل والإنصاف، ومنها القصة التي حدثت مع الشيخ الأنصاري (قدّس سِرُّه) فقيل:

إن سيداً من علماء إيران كان طاعناً في السن ذهب إلى زيارة العتبات المقدسة في العراق، فزار النجف الأشرف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، وأحب أن يحضر درس الشيخ الأنصاري (رحمه اللّه) فلما حضر الدرس أشكل على الشيخ اشكالاً علمياً. فأجابه الشيخ ورد اشكاله.

فسكت السيد احتراماً للشيخ.

ولكن الشيخ دخل في قلبه الشك في صحة جوابه، وبعد ما عاد إلى البيت وراجع المصادر الفقهية رأى أن الحق كان مع السيد المستشكل، فلما جاء الشيخ الانصاري إلى زيارة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) و و وجد ذلك السيد في الحرم الشريف، فقال له: أن الحق كان معك و جوابي لم يف بالمطلوب.

فقال السيد: لا بأس.

ص: 326

قال الشيخ: لا يمكن أن ينتهي الأمر بهذه السهولة، بل من اللازم أن تحضر الدرس في غد لاعترف لك أمام الطلاب بأن الحق كان معك في هذه المسألة.

فلما كان اليوم الثاني حضر السيد بحث الشيخ الأنصاري، فمدح الشيخ هذا السيد وأثنى عليه، ثم قال: أن الحق كان معه في إشكاله يوم أمس.

انظروا كم لهذه القصة الصغيرة من الدلالات على إنصاف الشيخ واهتمامه بالحقيقة.. إذ ليس فقط لم تأخذه العزة أو الكبر فيتجاهل ما قاله السيد، بل اعترف له أولاً، ثم لم يكتف دون أن يعترف أمام الطلاب أيضاً.

وهذا النوع من العدالة في التعامل والإنصاف مع الآخرين يقل نظيره، فلا تراه إلا عند أهل الوجاهة والمكانة الرفيعة من الصالحين، وبما أن علماءنا الأعلام - رحم اللّه الماضين منهم وحفظ الباقين - يجسدون هذه السمة النبيلة في أعمالهم وسلوكهم لذا ينبغي علينا أن نقتدي بهم ونجعلهم أسوة لنا في حياتنا..

ص: 327

ممّ يخاف المؤمن؟

إن الإنسان الملتفت إلى نفسه والساعي لتهذيبه يكون عادة قلقاً على نفسه، خائفاً عليها من أن تصاب بالفقدان، ومن أن تجرها الشهوات إلى رذائل الأخلاق، لأنه يرى كثيراً من الناس بدلاً من اشتمالهم على الستر والعفاف فقد ألبسوا الهتك والفضيحة، وبدلاً من زينتهم بالقناعة والكفاف تجد النهم والأطماع لباساً لهم، وترى ميلهم إلى الظلم والتجاوز بدلاً من العدل والإنصاف.. وهكذا سائر الصفات الأخرى.

وهذه كلها من المساوئ الكبيرة الناتجة من اتباع هوى النفس الموجبة لانحطاط الإنسان في الدنيا والآخرة.. لذا فإن الإنسان المؤمن يصبح خائفاً منها، حذراً من عواقبها، فيلجأ إلى ربه القادر الرحيم لكي يوفر له الأمن والاطمئنان ويحفظه من هذه المخاوف المحيطة به.. ولعل من هنا جاءت الفقرة التالية: (وآمني فيه من كل ما أخاف).

إن المؤمن المتقي يجب أن يتخذ من مخافة اللّه شعاراً له ليسلك السبل القويمة الموصلة إلى رضاه تعالى، وفي الخبر أن الامام علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يقول: (إبن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً والحزن لك دثاراً، ابن آدم إنك ميت ومبعوث وموقوف بين يدي اللّه عزوجل، ومسؤول فأعدّ جواباً) (1).

والخوف يجب أن لا يكون إلا من اللّه تعالى، كما قال سبحانه: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (2).

ص: 328


1- بحار الأنوار: ج 67، ص 64، كتاب الإيمان والكفر، الحديث 5، ط بيروت.
2- سورة المائدة: 44.

وإذا ترك الإنسان خوف اللّه تعالى يتسلط عليه الخوف من كل جانب، وكلما كان إيمانه باللّه أكثر كان خوفه من اللّه أكثر، وقد قال جل من قائل: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (1).

وربما أمكن القول بأن الخوف من اللّه فطري، لأن الإنسان متجه بفطرته إلى خالقه تعالى، ومتى ما عرف ربه خافه، ومتى ما خافه أطاعه، كما في الحديث المروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من عرف اللّه خافه، ومن خاف اللّه حنّه الخوف من اللّه على العمل بطاعته) (2).

والأحاديث كثيرة في فضل الخوف من اللّه ومنزلته، فروي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قوله: (من ترك معصية من مخافة اللّه عز وجل أرضاه اللّه يوم القيامة) (3).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قوله: (رأيت في المنام رجلاً قد هوت صحيفته قبل شماله فجاءه خوفه من اللّه فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلاً من أمتي قد هوى في النار ذلك) (4).

فجاءته دموعه التي بكى من خشية اللّه فاستخرجه من إذن فالخوف من اللّه سبحانه من أهم صفات المؤمنين.. وكلما ارتفعت درجة المؤمن وزاد إيمانه باللّه كانت درجة خوفه أشد، لذا فإن الأولياء والأنبياء (عليهم الصلاة والسلام كانوا أشد الناس خوفاً منه سبحانه..

فقد روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله : (أنواع الخوف خمسة: خوف وخشية ووجل ورهبة وهيبة فالخوف للعاصين والخشية للعاملين، والوجل للمخبتين، والرهبة للعابدين، والهيبة للعارفين) (5).

وروي أن ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يُسمع تأوهه على حد ميل، وكان في صلاته يُسمع له أزير كأزير المرجل (6).

وكذلك كان يسمع من صدر سیدنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

ص: 329


1- سورة آل عمران: 175.
2- بحار الأنوار، ج 67، ص 400، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، الحديث 73، بيروت.
3- المصدر نفسه، ص 398، الحديث 67.
4- المصدر نفسه : ص 393، الحديث 63.
5- سفينة البحار : ج 2، ص 742.
6- صوت غليان القدر.

وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا أخذ في الوضوء يتغير وجهه من خيفة اللّه.

وروي أن الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حج، حج ماشياً ورمى ماشياً، وربما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكي، وإذا ذكر البعث والنشور بكي، وإذا ذكر الممر على الصراط بكي، وإذا ذكر العرض على اللّه تعالى ذكره شهق شهقة يغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بین يدي ربه، وكان إذا ذكر الجنة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل اللّه الجنة وتعوذ باللّه من النار.

وهكذا كان سائر الأئمة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

قالت عائشة: كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه (1).

ومعلوم أن هذا الخوف لم يكن للمعصية والعياذ باللّه، لأنهم عليهم السلام قد عصمهم اللّه سبحانه من الآثام والمعاصي ومن جميع الأخطاء، بل هذا الخوف في بعض مراتبه للشعور بهيبة اللّه سبحانه وعظمته من جهة، وربما كان خوفاً على النفس في مدى مطابقتها مع ما يكون لائقاً بالنسبة إلى عظمة اللّه سبحانه، من جهة أخرى.

أقول: فإذا كان الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) هكذا يخافون اللّه بالرغم من عصمتهم وارتباطهم الدائم باللّه سبحانه، فما ظنك بسائر الناس العاديين؟

لذلك كان على الإنسان الاعتماد على اللّه تعالى دائماً في أن يعصمه وينقذه من أهوال يوم القيامة فإنه لا عاصم إلا هو سبحانه، ولعل من هنا أيضاً ختم الدعاء الشريف بقوله: (بعصمتك يا عصمة الخائفين).

ولا يبعد أن يكون المراد من جملة (كل ما أخاف كل ما يخاف منه الإنسان من مخاوف دنيوية وأخروية، بلحاظ أن كلمة (كل) من أدوات العموم كما يعبر علماء الأدب والاصول، فهناك مخاوف في الآخرة التي ينبغي على الإنسان الحذر منها، وقد تقدم بعض الاشارة إليها، وهناك مخاوف في الدنيا.. فما هي المخاوف الدنيوية التي تخيف الإنسان؟

ص: 330


1- سفينة البحار: ج2، ص 744.

الخوف بين السلب والإيجاب

هناك مجموعة أمور يخافها الإنسان في هذه الدنيا، إلا أن بعضها إيجابي، كما بينها العلماء، وبعضها سلبي.. وسنشير إليها باختصار رعاية لحجم الكتاب:

الخوف الإيجابي: يسمونه إيجابياً لأنه يؤثر على الإنسان تأثيرات إيجابية.

وهكذا الخوف السلبي، فإنه ذو تأثيرات سلبية على شخصية الفرد.

فمثلاً: الخوف من الجهل خوف إيجابي، لأن الجهل ينعكس على حياة الإنسان وشخصيته، ويفقده الكثير من الفرص الدينية والدنيوية.

لذا فإن هذا الخوف يدفع بالكثير من الناس إلى التعلم والدراسة لكي يأمنوا هذا الخوف.. وإذا تعلم الإنسان فإن العلم بدوره سيخدم الإنسان ويوفر له ثروات مادية ومعنوية كبيرة.. فهذا الخوف تأثيره ايجابي على الإنسان وليس بسلبي.. والامثلة على ذلك كثيرة.

وأحياناً يكون الخوف والحذر سلبياً على الإنسان كمن يخاف من التصدي للتجارة خوفاً من الخسارة بلا أسباب حقيقية مدروسة لذلك، فإن هذا الخوف يعود على الإنسان بالضعف والفقر والجمود.

وهكذا نجد البعض يخاف من الجود والكرم فهو لا ينفق على نفسه وعياله فضلاً عن اخوانه معتقداً بأن الإنفاق يعود عليه بالفقر، إلا أن هذا الخوف يجر له الكثير من الأزمات، وفي الحديث: (أهلك الناس اثنان خوف الفقر وطلب الفخر)(1).

وكان أحد المشاهير لا يركب طائرة أبداً لأنه يخاف أن تسقط هذه الطائرة فيموت، وبقي إلى آخر حياته على هذا الحال..

ص: 331


1- الخصال: باب الاثنين، ص 68، ح102.

إذن هناك خوف له مبرراته الصحيحة ينبغي على الإنسان تجنبه.. واجتنابه ينعكس عليه إيجابياً، وهناك خوف عكس ذلك تماماً، لذا ينبغي على المؤمن أن يدعو اللّه سبحانه لكي يجنبه إياها ويعصمه منها، وذلك بأن يسدده لاجتناب المخاوف الإيجابية ليبنى حياته بأمن وثقة وسلامة، كما ينجيه من المخاوف السلبية.. إنه سبحانه عصمة الخائفين..

ص: 332

نزاهة الروح.. ونزاهة الجسد

دعاء اليوم الثالث عشر

13

اللّهمّ طَهِّرْنِي فِيهِ مِنَ الدَّنَسِ وَالْأَقْذَارِ، وَصَبِّرْنِي فِيهِ عَلى كائناتِ الأقدار، وَوَفِّقْنِي فِيهِ لِلتَّقى وَصُحْبَةِ الأبرار، بِعَوْنِكَ يَا قُرَّةَ عَيْنِ الْمَسَاكِينِ.

البلد الأمين: ص 308، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به أعطي بكل حجر ومدر حسنة ودرجة في الجنة).

ص: 333

ص: 334

الطهارة.. وأبعادها

إشارة:

يفتتح الداعي دعاؤه في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان المبارك وهو يطلب من اللّه تعالى أن يطهره من الدنس والأقذار، حيث يقول: (اللّهمّ طهرني فيه من الدنس والأقذار).

وقبل أن نتطرق إلى تفصيل البحث عن الطهارة، لا بأس بتعريفها:

ف (الطهارة): من طهر، وهي ضد نجس، يقال رجل طاهر الثياب: أي منزه.

ومن هنا يتضح معنى الطهارة بأنه التنزه من الدنس والنجاسة بشكل مطلق، إذ معنى مطلق التطهير هو مطلق النزاهة من مطلق النجاسة، لأن حذف المتعلق يفيد العموم، كما ذكره علماء الأصول والمنطق.

والطهارة تشمل جانبين :

1 الجانب المعنوي، وتكون طهارة معنوية.

2 الجانب المادي، وتكون طهارة مادية.

فالجانب المادي: يشمل تطهير الظاهر عن الأخباث، وهذا يكون عادة بالماء.. والصابون.. وباقي المطهرات التي تنفع في إزالة الأخباث العالقة في الأشياء.

وأما الطهارة المعنوية، ففي بعض معانيها تعني النورانية القلبية الخاصة التي تحصل بالوضوء والغسل ونحوها، كما عبر في الحديث الشريف عن الوضوء بكونه نوراً (1).

وفي بعض معانيها تشمل طهارة كل ما هو غير محسوس، سواء في القلب

ص: 335


1- قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الوضوء على الوضوء نور على نور) المحجة البيضاء ج 1، ص 302.

كتطهيره من الواردات الشيطانية وميوله الشهوانية ونحوها، أو في النفس كتطهيرها من رذائل الأخلاق ومساوئ الصفات، أو في الفكر كتطهيره من الوساوس والخرافات والعقائد الباطلة والأفكار المنحرفة، أو في الجوارح كتطهيرها من قبائح الأفعال وتنزيهها من الجرائم والآثام وهكذا.

فإن لكل عضو من أعضاء الإنسان قذارة وطهارة، كما أن لكل واحد منهما طريق إلى الوصول إليه، فمثلاً قذارة العين ودنسها بالنظر المحرم، وقذارة اللسان في الغيبة والنميمة والكذب والقذف ونحوها، وقذارة البطن بالمال الحرام والأكل الحرام، وقذارة الفرج بالزنا وما أشبه.. وهكذا.

كما أن طهارة كل واحد من الجوارح والجوانح بحسبه.. فقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (اجتمع الحواريون علی عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقالوا يا معلم الخير ارشدنا فقال لهم: إن موسى كليم اللّه أمركم أن لا تحلفوا باللّه تبارك وتعالى كاذبين، وأنا أمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح اللّه زدنا، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن موسى نبي اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمركم أن لا تزنوا وأنا أمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا، فضلاً من أن تزنوا فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت فروّق فأفسد التراويق الدخان وإن لم يحترق البيت) (1).

وقد أشار القرآن الكريم إلى الطهارة المادية أيضاً في بعض الآيات الكريمة، وإن كانت هذه الآيات تشمل بعمومها أو اطلاقها الطهارة المعنوية والمادية معاً، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (2). وقال سبحانه: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (3)، إلى غير ذلك.

وسنشير بشكل مجمل وسريع إلى بعض المطهرات التي ذكرها الفقهاء المراجع تتميماً للفائدة.. فنقول: المطهرات عديدة، أهمها:

ص: 336


1- سفينة البحار : ج 3، ص 504.
2- سورة البقرة: 222.
3- سورة التوبة: 108.

1: الماء

قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) (1).

والماء أفضل المطهرات، لأنه أطهر من التراب، كما روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).

فالماء له القدرة على إزالة كل الأخباث والنجاسات وتطهيرها، فعن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الماء يطّهر ولا يُطهَر) (3).

وعن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء ما إلا غيّر لونه أو طعمه أو ريحه) (4).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر) (5).

وقد قسم الفقهاء الماء إلى مطلق ومضاف وقالوا المطلق طاهر ومطهر، والمضاف طاهر وغير مطهر على تفصيل مذكور في الرسائل العملية.

2:التراب

وهو المطهر الثاني، فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) (6).

والتراب يطهّر بعضه البعض، كما في قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الأرض يطهر بعضها البعض) (7)، وذلك لاستحالة النجاسة واضمحلالها فيها، وخصوصاً بالوطء أو بغيره، وتفصيل الكلام في الكتب الفقهية.

ص: 337


1- سورة الفرقان: 48.
2- بحار الأنوار: ج 77، ص 3، ط بيروت.
3- بحار الأنوار: ج 77، ص 8 الحدیث 2، ط بیروت.
4- بحار الأنوار: ج 77، ص 9، الحدیث 4، ط بیروت.
5- بحار الأنوار: ج 77، ص 9، الحديث 6، ط بيروت.
6- أمالي الصدوق ص 130، وبحار الأنوار: ج 80 ص 147، باب 12، ح 1، ط طهران.
7- بحار الأنوار: ج 80 ص 149-150، ح11، ط طهران.

3: الشمس

والشمس من المطهرات المادية أيضاً، فعن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ما وقعت الشمس عليه من الأماكن التي أصابها شيء من النجاسة من البول وغيرها طهرتها، وأما الثياب فلا يتطهر إلا بالغسل) (1).

ومن المطهرات أيضاً: النار، والاستحالة، وغيبة المسلم، وغيرها.. ويمكن مراجعة الرسائل العملية حيث تتخللها مواضع تخص الطهارة وكيفية إزالة النجاسات والأقذار مع أحكامها وشرائطها..

وقد جعل اللّه الطهارة المادية شرطاً للقيام بالعبادات والطاعات، وخصوصاً الوضوء والأغسال، حيث بدونها لا يمكن أداء بعض العبادات والطاعات.. فالوضوء والأغسال والتيمم كلها تؤدي الدور المنشود، كل بحسبه وظرفه وحاله وموجباته وأسبابه، ولسنا الآن بصدد الشرح المفصل لذلك، فمن أراد المزيد فعليه بمراجعة الكتب الفقهية والرسائل العملية المختصة بذلك، ليكون على إطلاع.

ص: 338


1- بحار الأنوار: ج 77، ص 149، الحديث 10، ط بيروت.

فضائل الطهارة

وللطهارة فضائل عظيمة وثواب لا يحصى.. فمثلاً، ورد في الوضوء عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): (ألا أدلكم على شيء يكفّر اللّه به الخطايا ويزيد في الحسنات: قيل: بلى يارسول اللّه، :قال اسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة) (1).

وعن الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (الطهر على الطهر عشر حسنات) (2).

وعنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (الوضوء على الوضوء نور على نور، ومن جدد وضوءه من غير حدث جدد اللّه توبته من غير استغفار)(3).

هذا عن الطهارة المادية والتي تحتاج دائماً إلى المواظبة والمداومة، فإن الطهور نصف الإيمان (4) كما روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

أما الطهارة المعنوية: فحدودها أوسع من المادية، لأنها تتعلق بكل ما ليس له جرم واضح وبائن (مادي) كما يعبر عنها البعض...فهي طهارة العمل، وطهارة السريرة، وطهارة القلب وغيرها، ولا يمكن الجمع بين اللاطهارة والطهارة في قلب واحد، كما قال تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (5).

والمهم طهارة السرائر من الذنوب والوساوس الشيطانية وما أشبه، والطهارة من الأعمال الخبيثة وتجنبها، وقد تقدم بعض الكلام عن ذلك.

ص: 339


1- أمالي الصدوق: مجلس،52 رقم الحديث: 516، ص 400، طقم مؤسسة البعثة.
2- الكافي: ج 3، ص 72، الحديث 10.
3- المحجة البيضاء : ج 1، ص 302.
4- المحجة البيضاء: ج 1، ص 281.
5- سورة الأحزاب: 4.

في معنى الدنس والقذارة:

ماهو الدنس؟ وما هو القذر الذي أراد الداعي اجتنابهما وطلب من اللّه تعالى أن يطهره منها، حيث قال في دعائه: (اللّهمّ طهرني فيه من الدنس والأقذار).

ففي مجمع البحرين مادة قذر :

(القذر: مصدر قذر الشيء فهو قذر، من باب تعب، إذا لم يكن نظيفاً. وقدرته من باب تعب أيضاً كرهته.. وعن الأزهري : القذر الخارج من بدن الإنسان، يعني الغائط. والقذر: النجاسة، ومنه شيء قذر: بين النجاسة. ومنه قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه قذر) (1)، وفي الحديث الشريف: (بئس العبد القاذورة من الرجال الذي لا يبالي بما قال وما صنع) (2)، والقاذورة، الشيء الخلق، وكأن المراد به هنا الوسخ الذي لم يتنزه عن الأقذار. وقد يطلق القاذورة على الفواحش، ولعل منه قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى اللّه عنها) أعني الزنا ونحوه، وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللّه) (3)، ويريد بذلك ما فيه حد كالزنا وشرب الخمر وغيره...وقولهم: رجل مقذار: نجسه الناس) (4).

وأما الدنس: فهو الوسخ.

يقال: دنس الثوب، ويدنس دنساً: توسخ، وتدنس تدنيساً، وفلان دنس الثياب: إذا كان خبيث الفعل والمذهب.

وقد ورد في وصف الأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) (لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء).

وكذلك يدخل في بابه الرجس: النتن أو الكفر أو العذاب أو الرجز وهو العذاب الذي توجبه الموبقات والخطايا والذنوب.

ص: 340


1- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص 645، المجلس 93.
2- راجع دعائم الإسلام: ج 1، ص 123، وفيه صدر الحديث فقط.
3- راجع غوالي اللئالي: ج 3، ص 441، باب الإقرار، الحديث 1.
4- مجمع البحرين: ج 3، ص 453.

قال تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (1).

وقوله تعالى: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) (2). أي عذاباً وكفراً.

وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) (3).

وقيل: الرجس بالكسر للقذر.. وقيل: العقاب، كما نقل عن الغراء، وقال بعضهم: الرجس وإن كان لغة بمعنى القذر إلا أنه أعم من النجاسة، إلا أن الواضح من الرجس: هو النجس بلا خلاف.. وخصوصاً ما نوحده الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (4).

والرجس أيضاً: لطخ الشيطان ووسوسته.. كما في حديث الخلوة: (أعوذ بك من الرجس النجس المخبث الخبيث) (5) وهو بكسر النون وسكون الجيم لمزاوجة الرجس.

وقد يعبر عنه أيضاً: بالحرام والقبيح واللعنة، ولكنه القذر بأفضل المعاني...(6).

ومما تقدم يتضح جلياً أن المعنى اللغوي للقذر والدنس جاء أعم من المادي والمعنوي..

ص: 341


1- سورة الأنعام: 125.
2- سورة التوبة: 125.
3- سورة المائدة: 90.
4- سورة الأحزاب: 33.
5- راجع البلد الأمين ص 2، فيما يتعلق بآداب التخلي.
6- راجع مجمع البحرين: ج 4، ص 71-73.

علاقة التقوى بالطهارة

وهنا مجموعة من الآيات والروايات والخطب التي تؤكد على الطهارة المعنوية فضلاً عن المادية.. قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (1).

وقال سبحانه: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (2).

وعن مولانا أمير المؤمنين وهو يصف الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) (تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام) (3).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يصف النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أطهر المطهرين شيمة وأجود المستمطرين ديمة) (4).

وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يصف النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أيضاً : (فتأس بنبيك الأطيب الأطهر.. فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى) (5).

وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك) (6).

و عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ان تقوى اللّه دواء داء قلوبكم.. وطهور دنس أنفسكم) (7).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً: (طهروا قلوبكم من الحسد فإنه مكمد

ص: 342


1- سورة آل عمران: 42.
2- سورة التوبة: 103.
3- نهج البلاغة: الخطبة 94.
4- نهج البلاغة الخطبة 105.
5- نهج البلاغة: الخطبة 160.
6- نهج البلاغة الحكمة 252.
7- نهج البلاغة: الخطبة 198.

مضن) (1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (طهروا أنفسكم من دنس الشهوات تضاعف لكم الحسنات) (2).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (طهروا أنفسكم من دنس الشهوات تدركوا رفيع الدرجات)(3).

ومعلوم أن الإنسان الداعي ينبغي أن يسأل ربه الطهارتين معاً، لوجود الارتباط الوثيق بينهما وصعوبة الانفكاك في الغالب، نعم الطهارة المعنوية تشكل البعد الأهم في حياة الإنسان ومصيره.

وباعتبار أن شهر رمضان أفضل فرصة لتنزيه النفس وتزكيتها وتطهيرها من الأدناس والأقذار جاء سؤال العبد في أن يطهره اللّه منها في هذا الشهر العظيم.. خاصة وأن من أهم أهداف الصيام وغاياته ومن أفضل ثمراته هي (التقوى) كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (4).

والتقوى تستلزم تطهير الجوارح والجوانح معا.. إذن التقوى تشكل حصنا تُترس خلفه النفس لتنجو من الانزلاق والانفلات إذا التزم الإنسان بدقائق أحكام الصوم.

والإنسان المتقي يصل في بعض مراتبه إلى قمة التحرر من أسر العبودية.. عبودية الذات.. وعبودية الشيطان التي لا تثمر إلا الضياع والتيه..

وذلك لأن الصوم في معناه الأكمل ليس الالتزام والإمساك بشكله الظاهري وهو الامتناع من الأكل والشرب، كما مر البحث عنه سابقاً، بل أسمى من ذلك بكثير، كما ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ودع المراء وأذى الخادم وليكن عليك وقار الصائم ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك) (5).

ص: 343


1- غرر الحكم: ج 2، الفصل 47، الحديث 33.
2- غرر الحكم: ج 2، الفصل 47، الحديث 38.
3- غرر الحكم: ج 2، الفصل 47، الحديث 37.
4- سورة البقرة: 182.
5- وسائل الشيعة : ج 7، ص 117.

وهنا يشير الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى روح الصوم ورسالته العظيمة التربوية مفرقاً بين صوم المظهر والشكل، وصوم الروح، فالصيام في مصداقه الأكمل هو صيام عن الإثم والخطايا صيام عن القذر النفسي.. عن الرجس والدنس الروحي والفكري والقلبي..

وإلا سيخرج الإنسان من شهر رمضان كما دخله لا يحمل في نفسه إلا مشاعر الخسارة والفراغ، نعوذ باللّه من ذلك، فالجائزة الكبرى في هذا الشهر: المنعة والحصن الذي يقي النفس والروح من الزلل طول السنة، فهو محطة تتزود به النفس لبلوغ مسافة الطريق بأمان وسعادة فالأمر ليس بكثرة الأعمال وقلتها اي ليس المعيار الكم وانما نوعيتها وكيفها، وذلك بملاحظة درجة الإخلاص ودرجة التقوى فيها، فعن المفضل ابن عمر : (كنت مع أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فذكرنا الأعمال، فقلت أنا ما أضعف عملي، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): مه استغفر اللّه ثم قال لي إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلاتقوى) (1).

وهذا يعطي معنى أوضح بأن القياس في الأعمال هو انبثاقها من قاعدة راسخة في النفس، وهي تقوى القلب وطهارة الضمير وشعوره بالخوف من اللّه تعالى، وتخرجه من غضبه طلباً لرضاه، كما ورد عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (من أشد ما فرض اللّه على خلقه ذكر اللّه كثيراً، ثم قال: لا أعني سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكر اللّه عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها) (2).

ولعل ما تقتضيه الطهارة المعنوية: أن يكون الإنسان صابراً على البأساء والضراء و مسلماً أمره إلى ربه راضياً بما يقضي له ويقدر.. ومن هنا جاءت الفقرة التالية في الدعاء مشيرة إلى ذلك.

ص: 344


1- الكافي: ج 2، ص 76، ح7.
2- الكافي: ج 2، ص 80 ح 4.

معنى القدر وكائناته

حيث أن الداعي يسأل ربه ويقول: (وصبرني فيه على كائنات الأقدار) فما هي الأقدار ؟

القدر لغة: هو حد الشيء أو قضاؤه.

وقدرت على الشي قويت عليه وتمكنت منه.

والقادر من أسماء اللّه تعالى، ومن أسمائه أيضاً: المقتدر.

والاقتدار: هنا أعم وأبلغ من القادر وهي نفي العجز.

والقدر: هنا في المعنى هو حكم اللّه تعالى وقضاؤه بالأمور ومجرياتها (1).

قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر)(2).

وأما فيما يتصل بعمل الإنسان فالقدر يمثل المقدمة أو السبب والقضاء يمثل النتيجة أو المسبب وبعبارة ثانية، القدر يعني عمل الإنسان الذي سيترتب عليه أثر معين صالح أو طالح، فالنتيجة تابعة لنوع المقدمة.

فإن اللّه سبحانه وتعالى خلق الناس وقدّر لهم المقادير التي سيختارونها بمحض إرادتهم في الدنيا لا عن جبر، وهذا دليل علمه تعالى بالأمور ومجرياتها كائنة ما تكون، صغيرها وكبيرها.

والإنسان بعلمه القاصر قد يخطئ في انتخاب نوع القدر يعني المقدمة والعمل فتأتيه النتائج العكسية وبالتالي يصح أن يقال عنه بأنه لا يعلم ما قدر له من أمور، ففيها الخير والشر، وفيها الحسن والقبيح، وفيها الابتلاءات والبلايا، وفيها الجوائز والمثوبات.

ص: 345


1- راجع مجمع البحرين: ج 3، ص 450.
2- سورة القمر: 49.

ولكن المهم أن يصبر الإنسان على مايراه ويعمل على انتشال نفسه مما وقع فيه بالعمل والصبر على البلاء والابتلاء والمجاهدة والدعاء وطلب العون والاستغاثة به تعالى، وهذه من صفات المؤمن باللّه تعالى والمؤمن بقدرته وحكمته.

قال مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) و هو يذم العاصين من أصحابه: (أحمد اللّه على ما قضى من أمر وقدّر من فعل، وعلى ابتلائي بكم)(1).

وعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، وجعل لكل شيء قدراً، ولكل قدر أجلاً، ولكل أجل كتاباً) (2).

فالمعنى من «كائنات الأقدار» نتائج المقدمات وقضاء الاقدار وخواتم الأعمال التي ستظهر للإنسان فيما بعد ولكن لماذا الصبر على القدر وكائنات الأقدار حيث ورد (وصبرني فيه...)؟

قد يكون من فلسفة الصبر هنا، أي بالنسبة إلى ماقدر أن التقديرات (النتائج) على قسمين: قسم لا يمكنك التخلص منها، وقسم يمكنك ذلك، فالصبر في القسم الأول أحسن طريقة لمواجهتها كما هو واضح، وكذلك يلزم الصبر في القسم الثاني إذ بدون الصبر لا يمكن التخطيط والعمل للخلاص من المشكلة، فإن من لا صبر له لا يمكنه أن يعمل بشكل مطلوب، كما لا يخفى.

فليس من الصحيح الاحتجاج على اللّه !! إذ إن لغة الاحتجاج التي يطلقها البعض على قضائه تعالى أمر مذموم، لأن هذا القضاء جاء على أثر العمل الذي قام به الإنسان ولأنه احتجاج على الخالق والمنعم، ولأن الإنسان لا يعلم بالمصالح والمفاسد الواقعية، فعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يصف اللّه تعالى: (لم يؤده خلق ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذراً، ولا وقف به عجز عما خلق، ولا ولجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر، بل قضاء متقن وعلم محكم وأمر مبرم...) (3).

ص: 346


1- نهج البلاغة: الخطبة 180.
2- نهج البلاغة الخطبة 183.
3- نهج البلاغة: الخطبة 65.

ومعلوم أنه ليس لأحد في قبال القضاء إلا الصبر والرضا لأن (المقادير لا تدفع بالقوة والمغالبة) (1) كما يشير إلى ذلك أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فعلى الإنسان أن يكون على استعداد لقضاء اللّه وقدره، لا بمعنى الإستسلام والسكون والجمود في الحياة، بل بمعنى الصبر والتحمل والعمل بما هو الواجب تجاه ذلك، وقد قال الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (المقادير تريك ما لم يخطر ببالك) (2).

وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن اللّه إذا أراد شيئاً قدره، فإذا قدره قضاه، فإذا قضاه أمضاه) (3).

والقدر لا يكون إلا بعمل الإنسان نفسه، أو بني نوعه، فالقدر هو العمل، وقد أشار إلى هذا المعنى ما روي عن الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما سأله أحد أصحابه عن ذلك: (جعلني اللّه فداك، أبقدر يصيب الناس ما أصابهم أم بعمل؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إن القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد، فالروح بغير جسد لايحس والجسد بغير روح صورة لا حراك بها، فإذا اجتمعا قويا وصلحا، وكذلك العمل والقدر، فلو لم يكن القدر واقعا على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق وكان القدر شيئاً لم يحس، ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتم، ولكنهما باجتماعهما قويا واللّه فيه العون لعباده الصالحين) (4).

فالإنسان إذا وقعت عليه كائنات الأقدار فعليه أن يصبر ويعمل ما بجهده لدفعها وإزالة آثارها عنه بالقدر المتيسر، فعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عندما سأله بعض الصحابة: (يا رسول اللّه رقي يستشفى بها هل ترد من قدر اللّه؟ فقال: إنها من قدر اللّه) (5).

وعلى الإنسان أن لا يستسلم فيقول ذلك قدري، بل يعمل على الابتعاد عن الأذى

ص: 347


1- غرر الحکم ص 102، الحديث 1794.
2- بحار الأنوار: ج 78، ص 369، 4، باب،28، مواعظ الامام الهادي، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 5 ص 121، ح 64، باب القضاء والقدر، ط طهران.
4- بحار الأنوار: ج 5 ص 112،،،39، کتاب العدل والمعاد، باب القضاء والقدر، ط طهران.
5- بحار الأنوار: ج 5، ص 87 ح 1، ط طهران.

والضرر قدر استطاعته لحصول السلام والأمان، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند ما عدل عن حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء اللّه؟ قال: (أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز وجل) (1).

وعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (خمسة لا يستجاب لهم أحدهم رجل مر بحائط مائل وهو يقبل إليه ولم يسرع المشي حتى سقط عليه) (2).

ومن هذا يتضح أنه لا علاقة بين الاعتقاد بالقدر والقضاء وتبرير ما يراه الإنسان من المساوئ والمكاره التي بإمكانه دفعها أو رفعها، فإن الإنسان لابد له أن يعمل، لأن الذي يتحكم في حياة الإنسان ومصيره أولاً وبالذات عمله وكدحه وتعبه..

لكن الإنسان لا يحيط علماً بكل المصالح والمفاسد الواقعية في أموره وتدبيره.. لذا فإن التدبير الإلهي من وراءه قد يتحكم في بعض الأمور ويغيّر مجرياتها تفضلاً منه تعالى.

فرب عمل يتصوره الإنسان نافعاً فيقدم عليه ويهيئ أسبابه ومقدماته ولكن يرى النتيجة معكوسة لأن اللّه سبحانه قدّر له غير ذلك لعلمه بالمصلحة الواقعية، وهكذا في جوانب المفسدة.

إذن التقدير الإلهي لا يتنافى مع اختيار الإنسان في أعماله.. بل التقدير الإلهي رُتب على ضوء العمل الإنساني كما قال تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، فعلى الإنسان أن يبذل ما بوسعه في سبيل سعادته وتقدمه وبعد ذلك يترك الأمر على اللّه سبحانه ويتوكل عليه فيما يراه من مصلحة كما يقول الشاعر:

على البذل فيما فيه جهدي***وليس علي إدراك النجاح

من هنا فإذا حصل الإنسان المؤمن على ما خطط له وطلبه وبذل جهده في سبيله فهو المطلوب.. وإذا رأى غير ذلك مع عدم تقصيره في المقدمات فليعلم أن ذلك لم يكن في مصلحته بل أراد اللّه غير ذلك لعلمه بالمصالح والمفاسد، فعليه بالصبر

ص: 348


1- بحار الأنوار: ج 41، ص 2، ح 3، باب 99، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 5، ص 105، ح 31، ط طهران.

والرضا.

فالصبر على كائنات الأقدار يدل على سموّ النفس وتفتح ضمير الإنسان وعقليته لفهم معاني الإيمان ومضامينه في وجوده، فعلى الإنسان أن يدرك أنه عرضة للمآسي والأرزاء في هذه الدنيا، وهي قد تداهمه قسراً سواء رضي أم لم يرض، لأنها تولدت على أثر عمل الامة أو الجماعات التي يعيش معهم وهو لا يملك إزاءها حولاً ولا قوة ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، إذن فخير ما يفعله الممتحن هو التدرع بالصبر، لأنه البلسم الوحيد للقلوب المنكوبة المتعبة المثقلة بالشوائب، ودواء للنفوس المعذبة المهمومة بالملمات والأقدار.

ولو لا الصبر والدعاء لانهار الإنسان وغدا صريع تلك الأقدار وتلك الأحزان وتلك الهموم، ولما استطاع أن يجلي آثارها عن نفسه، لذا نجد القرآن الكريم يحث على الاستعانة بالصبر والاعتصام به..

قال تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (1).

وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (2).

وقال سبحانه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) (3).

وعن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور) (4).

نعم على الإنسان أن يعمل ما في وسعه من أجل درء النوائب وملاقاتها مهما أمكنه، لأن الإستسلام لكائنات الأقدار والزمان مع القدرة على التخلص منها أمر مذموم، وربما يجرد فضيلة الصبر من محتواها ويعيق الإنسان عن حركته وتفاعله

ص: 349


1- سورة البقرة: 155 – 157.
2- سورة البقرة: 153.
3- سورة محمد 31.
4- غرر الحكم ج 1، ص،281، الفصل السابع، ح 6237.

بالحياة، فيتحول إلى كائن (مذلول) لا يعرف سوى الجزع والفزع ولطم الخدود على الدنيا وإسراف الدموع في أمور غير مطلوبة والتذمر وما أشبه، وهذا أمر لا يقبله الإسلام لأنه يريد المؤمن أن يثق باللّه تعالى أولاً ومن ثم يصبر على ابتلائه ويعمل بما في وسعه حتى يعرف نقاط ضعفه فيقوي دفاعاته النفسية والمادية تجاه المكاره والأخطار المحدقة به.

حكمة من التاريخ

انظر إلى هذه الرواية، وهي من روائع ما نقل لنا التاريخ في هذا المقام:

حكي أن كسرى سخط على وزيره بوذرجمهر، فألقاه في بيت مظلم وأمر أن يصفد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئن النفس

فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال

فقال: اصطنعت لنفسى معجونا من ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي أبقتني على ما ترون.

قالوا: صف لنا هذه لعلنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال: نعم:

أما الخلط الأول: فالثقة باللّه عزوجل.

وأما الثاني: فكل مقدر كائن.

وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحن.

وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.

وأما الخامس: فقد يكون غيري أشد مما أنا فيه.

وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزه

لذا فالقضاء أمر جار ولا مفر منه، وهذا مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتب على درعه بيتين من الشعر في تأكيد هذا المعنى:

ص: 350

أي يومي من الموت أفر***يوم لم يقدر أم يوم قدر

يوم لم يقدر لا أرهبه***ومن المقدور لا ينجو الحذر

وهنا لابد من الإشارة إلى دور الدعاء وقيمته العظمى إضافة إلى الصبر، فالدعاء له وصفة سحرية في تغيير النوائب وقلب الأحزان إلى مسرات لو روعيت فيه الشرائط المطلوبة، ففي الحديث: (إن الدعاء يرد القضاء) (1).

فالدعاء يذكر الإنسان بعظمة اللّه تعالى وقدرته ورحمته بعباده، والدعاء يمنح الإنسان الثقة بالفرج، إذ التوجه اللّه تعالى ينعش النفس ويصحيها عندما يذكرها بأنها خاضعة لإرادة المولى عزوجل وقدره، بعد استفراغ الوسع والجهد الذي كان بإمكانه، فالدعاء مفتاح الفلاح كما أن (الصبر مفتاح الفرج) (2).

وروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (هل تعرفون طول البلاء من قصره، قالوا: لا، قال: إذا ألهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير) (3).

ومن أهم ما يلزم على الإنسان في مواجهة الأقدار هو مصاحبة الأبرار، لأن الصبر على النوائب والقضاء والقدر من ملازمات التقوى، فمصاحبة المتقين يوجب التأثر بسلوكهم وأعمالهم، ولعل من هنا جاءت الفقرة التالية تؤكد ذلك حيث يقول الداعي: (ووفقني فيه للتقى وصحبة الأبرار).

وحيث قد فصلنا الكلام عن التقوى ومصاحبة الأخيار فيما سبق من توضيح الأدعية السابقة، نترك تفصيل هذا البحث ونشير إلى أن الذي يحظى بطهارة الروح والجسد والصبر في البأساء والضراء والراضي بما قدر اللّه سبحانه له والمحظوظ بالتقوى ومصاحبة الأبرار يعيش حياته قرير العين.. رضي النفس..

وحيث أن كل ذلك من اللّه سبحانه وبتوفيقه والإنسان مسكين في قباله تعالى جاء في خاتمة هذا الدعاء الإشارة إلى ذلك حيث يقول : (ياقرة عين المساكين).

ص: 351


1- بحار الأنوار: ج 90، ص 288، باب 16، فضل الدعاء، ح2، ط طهران.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 20، ص 307، الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
3- الكافي: ج 2، ص 342.

من هم المساكين؟

في مفردات الراغب: (المسكين قيل هو الذي لاشيء له وهو أبلغ من الفقير) (1). ومعلوم أن الإنسان مهما بلغ من القدرات والطاقات والامكانات فإنه يبقى لا شيء له أمام اللّه سبحانه، بل هو ليس بشيء أمامه عز وجل، وهو الفقير المطلق، بل الفقر بعينه، وذلك لأنّ ما سوى اللّه مهما أوتي من قوة فإنه يبقى في عالم الإمكان، وعالم الإمكان عالم الفقر والعجز والمسكنة، كما بين في علم الكلام.

وعالم الإمكان (يعني المخلوقات) في أي رتبة وصورة كان فهو فقير إلى الواجب (يعني الخالق) ومحتاج إليه في أصل وجوده وفي جميع مراتبه الوجودية، ولو لا الواجب لكان الممكن عدما محضاً، إذن الممكن مطلقاً وفي أي مصداق نتصوره.. هو محتاج إلى الواجب في أصل وجوده وفي كمالاته، ومن دونه فهو لا شيء ذاتاً وعرضاً، ولا يمكن أن يكون له شيء.

ولعل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (2) إشارة إلى هذا المعنى، كما أن الاعتراف بهذه الحقيقة، أي حقيقة الحاجة المطلقة إلى اللّه سبحانه.. والافتقار إليه في كل الشؤون يعتبر فضيلة للعبد ونوعاً من إظهار العبودية للّه سبحانه وأداءً لواجب الشكر، وهكذا ورد عن الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حيث يقول: (اللّهمّ أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين) (3).

وبما تقدم نعرف أن اللّه سبحانه قرة عين المساكين المؤمنين الذين يعلمون بأنه لا

ص: 352


1- مفردات الراغب: ص 243، مادة سكن.
2- سورة فاطر: 15.
3- كنز العمال: ج 6، ص 467.

شيء لهم في ذواتهم ولا شيء لهم في عيشهم وحياتهم لولا إعانته لهم وجوده وكرمه ومنه عليهم.

وواضح أن الذي لا شيء له تقر عينه بمن يملك كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء.. فإن به سنده و علیه اتکاله و اعتماده وقوامه.. فهو سبحانه دائم الفضل على خلقه والمنان بالعطيات على عباده الذي لا يضره البذل ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً، فالذي يعيش في ظله وكنفه يكون هادئ البال، قرير العين، عزيز النفس بما يعطيه ربه، والعكس صحيح أيضاً.. وفي الحديث القدسي عن النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (لا غنى لمن استغنى عني ولا فقر بمن افتقر إليّ)(1).

المسكين بالمعنى الأخص

من هنا يتضح أنه ليس المراد بالمسكين في هذا الدعاء: البائس الفقير الذي لا قوت له من الجهة المادية فحسب، بل المراد منه الأعم من ذلك.

نعم في الغالب عندما تطلق كلمة المساكين يراد منها الفقراء والمحتاجين، وهذا المعنى أيضاً صحيح في هذا الدعاء، لأن اللّه قرة عينهم أيضاً، فإن للمساكين قرة عين يوم القيامة إذا صبروا وجاهدوا وتحملوا الصعوبات، كما ورد عن أبي عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن محمد الخزار يقول: قال لي: (أما تدخل السوق؟ أماترى الفاكهة تباع والشيء مما تشتهية؟، فقلت: بلى، فقال: أما إنّ لك بكل ما تراه فلا تقدر على شرائه حسنة) (2).

وعن النبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (طوبى للمساكين بالصبر، وهم الذين يرون ملكوت السماوات والأرض) (3).

وعنه أيضاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (يا معشر المساكين طيبوا نفساً، وأعطوا اللّه الرضا من قلوبكم يثبكم اللّه عز وجل على فقركم) (4).

ص: 353


1- بحار الأنوار: ج 95، ص 462، كتاب الذكر والدعاء، الصحيفة 11، ط طهران.
2- بحار الأنوار: ج 72، ص 25، ح 19، باب 94، فضل الفقراء، ط طهران.
3- بحار الأنوار: ج 72، ص 15، ح،15، باب 94، فضل الفقراء، ط طهران.
4- بحار الأنوار: ج 72، ص 17، ح 16، باب 94، فضل الفقراء، ط طهران.

وقد وردت أروع صورة إنسانية تربوية عن المساكين في كلمات مولانا أمير المؤمنين لا نقتبس منه قبساً وهو ما جاء في كتابه لمالك الأشتر يوصيه بالرعية ومنهم المساكين، يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ):

(اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ اللّه ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه فلا يشغلنك عنهم بطر، فانك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم ولا تصعر خدّك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالأعذار إلى اللّه يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، وكل فأعذر إلى اللّه في تأدية حقه إليه)(1).

فهذه الطبقة المحرومة المضطهدة والمستغلة من بين طبقات المجتمع التي لا تحصل حتى على الكفاف لتعيش لها وقع في نفس الإمام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فيرى فيها الصلاح لا في الطبقة المتخمة التي لا تعمل بأوامر اللّه تعالى، فإن الطبقة المسكينة تحتاج إلى الرعاية والشفقة والإحسان قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (2).

فواجب الناس والمجتمع اعانة هذه الشريحة في المجتمع امتثالاً لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (3).

فنظرة أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى المساكين نظرة العدل والحرية والإنصاف للجميع، وذلك من أجل حياة أسعد، وهذه حكمة الإسلام وحكمة السماء..

ص: 354


1- نهج البلاغة : الكتاب 53 كتابه لمالك الاشتر.
2- سورة النساء: 36.
3- سورة المعارج: 24-25.

وقد عاش أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمره الشريف متألماً للمساكين.. يشعر بآلامهم ويوصي بهم ويشاركهم مكاره الدهر، وقد اثنى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله: (ياعلي إن اللّه قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها، زينك بالزهد في الدنيا ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً ويرضون بك إماماً) (1).

وعن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (وبؤسى لمن خصمه عند اللّه الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل)(2).

لذا يجب علينا أن نقر عين المساكين ونفرحهم ونساعدهم، حتى ينظر اللّه إلينا، كما يلزم أن لا نحقرهم بل نوقرهم ونحترمهم، وقد ورد عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من حقر مؤمناً مسكيناً لم يزل اللّه له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقرته إياه) (3).

ونحن في شهر رمضان الكريم، شهر العطاء والسخاء.. فيجب علينا إدخال السرور إلى قلوب الفقراء والمساكين ولا نبخل عليهم بشيء نقدر عليه تأسياً بأئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبرسولنا الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وامتثالاً ورغبة بطاعة اللّه تعالى ورضوانه..

فإننا إذا أقررنا عيونهم بالإكرام والاحترام والجود والعطاء.. سيقرّ اللّه سبحانه عيوننا ويحقق لنا حوائجنا ويعطينا سؤلنا في أمور ديننا ودنيانا، إن شاء اللّه رب العالمين.

ص: 355


1- بحار الأنوار: ج 40، ص 330، ح 11، تاريخ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، باب 98، ط طهران.
2- نهج البلاغة: الكتاب 26.
3- بحار الأنوار: ج 72، ص 52، ح 78، باب 94، فضل الفقراء، ط طهران.

ص: 356

المؤمن بين الإقالة والعثرة

دعاء اليوم الرابع عشر

14

اللّهمّ لا تُؤَاخِذْنِي فِيهِ بِالْعَثَراتِ وَأَقِلْنِي فِيهِ مِنَ الْخَطَايَا وَالْهَفَواتِ، وَلا تَجْعَلْنِي فِيهِ غَرَضاً لِلْبَلايَا وَالآفاتِ، بِعِزَّتِكَ يا عِزَّ الْمُسْلِمِينَ.

البلد الأمين: ص 308، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به فكأنما صام مع النبيين والشهداء والصالحين).

ص: 357

ص: 358

تجليات اللطف الإلهى

تبقى النفس الإنسانية بطبيعتها تتبع الأهواء، حتى تجد الهدى فتسلك السبيل، و في التاريخ أكثر الشواهد على هذه الحقيقة، فقد بقي الإنسان شقياً ضائعاً في دروب الحياة يتخبّط في الظلمات حيناً وبعد حين، وينزلق إلى حضيض الشهوات وتعصف به نزواته فتجرده من إنسانيته فيضحى كبهيمة الأنعام (بل هم أضل) (1)، أو تتقاذفه أعاصير السياسة فيمكث ضائعاً يرسف في ذل الأغلال والعبودية، ويعاني العسف والإرهاب وجور الحكام وبطش السلاطين، وهو لا يملك بين هذا وذاك سبيلاً.

إلا أن العناية والحفظ الإلهي والرحمة الربانية تأبى إلا أن تتدخل لانقاذ هذا الكائن الإنساني من التردي والسقوط إلى الهاوية، فأرسل الباري تعالى الأنبياء والرسل ليقدموا للإنسانية المعذبة أفضل الحلول المناسبة لمشاكلها، عبر رحلة تكاملية سارت مع الناس من الصغر حتى بلغوا سن الرشد وإلى آخر يوم من حياتهم في الدنيا، بل وبعد ذلك أيضاً.

وهذه العناية وهذا الحفظ الإلهي ماض في طريقه، فكل نبي يمضي لبارئه يأتي بعده رسول مختار ليرفع رايته أو يكمل مشواره رغم صعوبته، حتى ختم اللّه عزوجل الرسالة بخاتم الأنبياء، وأنزل كامل الحلول من السماء على يدي سيد الرسل: محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و هكذا تبقى رسالة السماء خالدة، بل تأبى إلا أن تكون نبراساً لحل مشاكل الإنسان وحفظه من جميع البلايا.. ففي القرآن الحكيم: (إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (2).

يقول تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ

ص: 359


1- سورة الأعراف: 179، وسورة الفرقان: 44.
2- سورة هود: 57.

الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)(1).

و (القاهر) هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلاً، أما كلمة (الغالب) فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامة واسعة المعنى.

و (حفظة) جمع و(حافظ) هم هنا الملائكة الموكلون بحفظ أعمال الناس ويتجلى اللطف الإلهي في تيسير اللّه سبحانه لكل ما من شأنه أن يقرب العباد من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، وذلك تحنناً عليهم ورفقاً بهم، فهو لا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يسد أمامهم أبواب الرجوع إليه بعد التمرد، لئلا تكون نهاية شوطهم في هاوية العذاب والبعد عنه سبحانه.. لذا كان عفو اللّه ورحمته بالعباد مظهراً من مظاهر تجلى اللطف الإلهي، وحالة من حالات ظهوره في خلق الإنسان.

وقد أورد القرآن الكريم صفة اللطف بالنسبة إلى اللّه عز وجل في سبع مواضع مختلفة مقروناً بالخبرة أو الحكمة في الغالب، وذلك لوجود العلاقة الذاتية بين صفتي اللطف والخبرة أو الحكمة بالنسبة إلى اللّه سبحانه، لأن الباري تعالى يتصف باللطف الذي يستبطن معنى الخفاء وعدم الظهور للحواس لتنزهه عن الكثافة والتحيّز المكاني والزماني فإنه لا يخفى عليه شيء، لارتفاع الحدود ولسريان احاطته بكل شيء بسبب بساطته، فيكون خبيراً بالأمور لإطلاعه عليها وإحاطته بها وحضورها لديه جميعاً، كما قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (2).

وقال سبحانه: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (3).

وقال تعالى: (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (4).

وقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ

ص: 360


1- سورة الأنعام: 61.
2- سورة الملك: 14.
3- سورة الأنعام: 103.
4- سورة يوسف: 100.

لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (1).

وقال تعالى: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (2).

وقال سبحانه: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (3).

وقال تعالى: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (4).

هذا بالاضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب. أما الإنسان فبطبيعة تكوينه فهو معرض للخروج عن الخط المستقيم تكويناً أو تشريعاً، إلا أنه بفطرته الأولية التي جعلها اللّه في وجوده يحب العودة إلى الهدى ليندمج مرة أخرى في عالم الخير والنقاء، لذا نراه في شهر رمضان المبارك يدعو قائلاً: (اللّهمّ لا تؤاخذني فيه بالعثرات).

ص: 361


1- سورة الحج: 63.
2- سورة لقمان: 16.
3- سورة الأحزاب: 34.
4- سورة الشورى: 19.

حق المؤمن على اللّه

روي عن الإمام أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (للمؤمن على اللّه عز وجل عشرون خصلة، يفى له بها، له على اللّه تبارك وتعالى أن لا يفتنه ولا يضله، وله على اللّه أن لا يعريه ولا يجوعه، وله على اللّه أن لا يشمت به عدوه، وله على اللّه أن لا يهتك ستره، وله على اللّه أن لا يخذله ويعزّه، وله على اللّه أن لا يميته غرقاً ولا حرقاً، وله على اللّه أن لا يقع على شيء ولا يقع عليه شيء، وله على اللّه أن يقيه مكر الماكرين، وله على اللّه أن يعيذه من سطوات الجبارين، وله على اللّه أن يجعله معنا في الدنيا والآخرة، وله على اللّه أن لا يسلّط عليه من الأدواء الأدواء ما يشين خلقته، وله على اللّه أن يعيذه من البرص والجذام، وله على اللّه أن لا يميته على كبيرة، وله على اللّه أن لا ينسيه مقامه في المعاصي حتى يحدث توبة، وله على اللّه أن لا يحجب عنه علمه ومعرفته بحجته، وله على اللّه أن لا يغرز في قلبه الباطل، وله على اللّه أن يحشره يوم القيامة ونوره يسعى بين يديه، وله على اللّه أن يوفقه لكل خير، وله على اللّه أن لا يسلّط عليه عدوه فيذله، وله على اللّه أن يختم له بالأمن والإيمان، ويجعله معنا في الرفيق الأعلى هذه شرائط اللّه عز وجل للمؤمنين) (1).

إذاً هذه الخصال التي تكفلها اللّه سبحانه للإنسان المؤمن من موضع الرحمة والعطف تعد تحصينات دفاعية في مقابل الأخطار، وضمانات ربانية للعبد في أن لا يصاب من جهة اللّه بما يكره إلا إذا كان العبد نفسه يسوق لنفسه البلاء باختياره، أو

ص: 362


1- بحار الأنوار: 64، ص 145 كتاب الإيمان والكفر، باب 6، حقوق المؤمن على اللّه عز وجل وما ضمن اللّه تعالى له الحديث 1 ط بيروت.

باختيار بني نوعه.

فاللّه سبحانه حافظ للإنسان وصائن له، بشرط أن يكون العبد قابلاً لذلك، أي لا يكون هناك مانع في قابلية القابل كما يذكره الحكماء، قال تعالى في سورة يوسف: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (1).

وفي سورة الطارق، قال عز وجل: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (2).

وبما أن الإنسان بسوء اختياره يوقع نفسه في المصائب و آلام المعاصي، كان عليه أن يسأل اللّه سبحانه دائماً أن يحفظه وينجيه منها، فيقول: (اللّهمّ لا تؤاخذني فيه بالعثرات) كما ورد في دعاء اليوم الرابع عشر من شهر رمضان المبارك.

ص: 363


1- سورة يوسف: 64.
2- سورة الطارق: 4.

العثرات ومصاديقها

والعثرات جمع عثرة، وهي الزلة والكبوة، الأعم من المادية والمعنوية، وسيأتي لها مزيد توضيح..

وطبعاً هناك عثرات أعظم وأشد تأثيراً على الإنسان أو المجتمع من العثرات الأخرى، وحسب الاصطلاح المنطقي يمكن أن نعبر عن العثرات بأنها من الكلي المشكك فهي ذات مراتب.

ومن أهمها عثرات اللسان، يقول العالم الجليل ابن السكيت:

يصاب الفتى من عثرة بلسانه***وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه****وعثرته في الرجل بترا على مهل

ومن العثرات ما تعتبر ذنباً كبيراً ومنها غير ذلك، وقد أشارت بعض الروايات إلى الذنوب الكبيرة وما يترتب عليها من العقاب في الآخرة، والمساوئ في الدنيا.

والعثرات هنا قد تكون من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فإن تشبيه العثرة المعنوية بالعثرة المادية من هذا الباب، فالعثرة المادية هي عثرة القدم وسقوط الإنسان على الأرض مثلاً، يقال عثر فلان إذا سقط، أما العثرة المعنوية والتي يقصدها الداعي في دعائه فهى الزلة والكبوة بارتكاب المعاصي، كما تقدم.

والإسلام عندما استهدف عملية المطابقة بين إرادة الإنسان ونشاطه من جهة، وبين إرادة الخير والرحمة الربانية من جهة أخرى، أخذ بعين الاعتبار أن الاستعداد الإنساني بما يحمل من نوازع نفسية وقدرة عقلية وجسمية محدودة، وبما يعاني من انقسام بين طريقين في الحياة، طريق الخير الذي من أهم مصاديقه طاعة اللّه، وطريق الشر والذي من أهم مصاديقه التعدي على حدود اللّه، لا يكون في كثير من الأحيان

ص: 364

متوافقاً مع إرادة اللّه سبحانه، ولا يستقيم على امتداد الخط دونما نكوص أو تعد أو زلل، لأن طبيعة ما يحمل من قوى ودوافع ونزعات واستعدادات وشهوات تقصر به عن أن يكون مطابقاً دائماً لارادة الخير المطلق، وغاية الخلق الكبرى إلا بتسديد وتوفيق رباني خاص..

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حقيقة الانجرار وراء الشهوات والمطامع عند البشر بلسان امرأة العزيز حيث يقول جل وعلا حكاية: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1).

وينبغي أن يتفوه بهذا الكلام كل من يرى نفسه مقصراً أمام اللّه ويحتمل أن يعثر أو ينزلق ولو انزلافاً يسيراً (2).

لذا فإن الإسلام كما شرع القوانين والأحكام وقواعد التنظيم الاساسية للحياة، أدخل كذلك في حسابه حقيقة عدم التطابق الكلي دائماً وحصول المعصية والزلل عند بعض الناس أحياناً، فجعل لهذا الزلل والعصيان و الخروج علاجاً خاصاً به و تشريعاً شاملاً له، بغية العودة بالإنسان إلى خط الاستقامة والتطابق مع إرادة الخير، وغاية الوجود الكبرى، وهي الاتجاه التكاملي نحو الخير الأعظم.

ومن هنا فإن العبد يدعو قائلاً: (اللّهمّ لا تؤاخذني فيه بالعثرات) ليؤكد على أنه لا يمكنه أن يكون حقيقة إرادية تمثل إرادة الخير وتتسامى إلى معارج الكمال إلا برحمة اللّه ولطفه، وإلا بفتح باب العودة إليه كلما زلّ هذا العبد أو أخطأ، وبذاكان الإسلام واقعياً وعملياً عندما تعامل مع الإنسان تعاملاً يناسب واقعه كإنسان يزلّ ويخطأ ويصيب، وينحرف ويستقيم.

وقد أكد القرآن الكريم والأحاديث الشريفة للإنسان هذه الحقيقة ليتذكر فضل اللّه عليه وليدرك لماذا يزل ؟ لماذا يتوب؟ وما هي علاقته باللّه وهو يزل ويتوب و يخطأ ويعتذر؟..

ص: 365


1- سورة يوسف: 53.
2- راجع تفسير الأمثل: ج 7، ص 207.

فمن أجل ذلك جاء الايضاح كافياً في جملة من النصوص التي تكشف للإنسان حقيقة ذاته، وطبيعة علاقته، ودرجة تطابقه مع ارادة اللّه سبحانه والتزامه بشريعته.

يقول تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) (1).

ويقول سبحانه أيضاً: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (2).

وهذه الآيات تريد أن توضح لنا بأن النفس الإنسانية (لأمارة بالسوء) (3) وأنها تنزع للاستقلال في هذا الوجود عن الشريعة والانفصام عن إرادة اللّه، بما تتلقى من أوهام ووساوس ونفثات الشر الشيطانية لتكون الهاً في الأرض، إلا أن رحمة اللّه هي التي تظلل هذا الكائن البائس ليغمره الحب الإلهي ويشمله العفو الرباني، فينهض مرة أخرى من كبوته وزلته ليواصل مسيرة التكامل وحب الخير بعد أن يستفيق في أعماقه حس الضمير ليحقق أهدافه من الوصول إلى اللّه سبحانه، والسعادة الأبدية.

ص: 366


1- سورة النور: 21.
2- سورة النساء: 49.
3- سورة يوسف: 53.

إقالة الخطيئة والهفوة

وفي الفقرة الثانية من دعائه يقول العبد: (وأقلني فيه من الخطايا والهفوات).

فإن هذا العبد يجد في رحاب الشريعة المقدسة ما يشجعه على طلب إقالة الخطايا والهفوات.

والخطايا هي جمع(خطيئة) وهي الخطأ في الدين، وسلوك السبيل الخاطئ، سواء كان السالك عامداً أو غير عامد.

أما الهفوات فهي جمع (هفوة) وهي السقطة والزلّة.

والإسلام بني موقفه من التائب على أساس واقعي وتقويم عملي لحقيقة السلوك والآثار الناتجة عنه، فالسلوك الخاطئ هو السلوك المنحرف سواء كان السالك عامداً أو غير عامد، والانحراف هنا هو حقيقة المعصية التي وقعت، ولكن ارتباط الإنسان بها ومسؤوليته عنها ما زالت قائمة إلا أن اللّه سبحانه بعفوه قد أعطى الإنسان فرصة فك هذا الارتباط الأثيم من الفعل والتخلص من تبعاته.. فلم يعد مسؤولاً عنه طالما ارتباطه النفسي والعقلي قد انقطع به، كما جاء في الرواية الشريفة: (كفارة الذنب الندامة) (1).

فيكون التائب - بشرائطه - بريئاً أمام نفسه ومجتمعه الذي يحيط به من كل تبعة أو فعل صدر منه ثم تاب منه.

وقد جاء في الحديث الشريف: (التائب حبيب اللّه، والتائب عن الذنب كمن لا ذنب له) (2).

وعلى هذا الإحساس الجديد تتولد مشاعر الإنسان الجديدة، ونظرته إلى نفسه،

ص: 367


1- جامع السعادات: ج 3، ص 67.
2- جامع السعادات: ج 3، ص 65.

و تقويمه لنظرة الناس إليه، ويمتلك نظرة غير آيسة إلى الحياة، فعند انكشاف صورة الفعل وتشخيص حقيقة الإنسان الخارجية أمام وعيه واحساسه الوجداني السليم، بسبب الرؤية العلمية الحاصلة لديه، يبدأ بفهم ذاته على حقيقتها فتتولد في نفسه عملية موازنة بين ما يملك من قيم ومقاييس للصيغة الإنسانية الجميلة، وبين ما هو عليه من واقع مؤلم قبيح، مع وضوح مسؤوليته ودوره السيئ في تشويه حقيقته، و تجسيد صيغته في مجالات التحقق السلوكي الناطق بقبح ذاته الباطنة، وتسافل قواه النفسية وسقوط وعيه واختياره، فتبدأ تتجمع في نفسه خيوط الاستنكار والاشمئزاز، ويبدأ موقف الرفض والاحتجاج ينمو في نفسه فيتحول إلى صراع نفسي ووخزات وجدانية مؤلمة كوسيلة أولى لفرض العقاب على نفسه، ثم تأخذ صيحات الضمير تعلو وتتمركز حتى يتم لها الانتصار، لأن الإنسان بتكوينه الفطري يكره النقص ويحاول التخلص منه ساعياً نحو الكمال الذاتي ويحب الوصول إليه بشتى الطرق والوسائل.

فيبدأ الندم أي الاحساس بالألم عما فرّط، والرغبة في إفناء هذا الوجود الشاذ فيأخذ موقعه في النفس كقوة باعثة على الحركة والاندفاع نحو طلب إقالته من الخطايا والهفوات.

وبما أن شهر رمضان هو أفضل الشهور، وأيامه أفضل الإيام، وساعاته أفضل الساعات كما جاء في الروايات الشريفة، فلهذا يطلب العبد إقالته من الخطايا في هذا الشهر العظيم.

ثم لا يخفى أن التوبة واجبة بالأدلة الأربعة: كتاباً وسنة واجماعاً وعقلاً، لكونها دافعة للضرر الذي هو العقاب الإلهي، وبما أن دفع الضرر واجب عقلاً فيجب دفع ضرر الذنوب بالتوبة (1).

ولعل سؤالاً يرد هنا: ما هو السبب في قول الداعي (وأقلني) ولم يقل عبارة أخرى.

ص: 368


1- راجع القول السديد في شرح التجريد: ص 401.

والجواب على هذا السؤال: هو أن كلمة أقلني تعني الصفح، ففي (لسان العرب): (يقال: أقال اللّه فلاناً عثرته، بمعنى الصفح عنه، وفي الحديث: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، وأقال اللّه عثرتك وأقالكها) (1).

فالداعي هنا يطلب من بارئه أن يصفح عن خطاياه المتعمدة وغير المتعمدة، ويصفح عن هفواته، ولعل كلمة أقلني هي الكلمة المناسبة في المقام، لذا عبر عبر بها عن طلبه وسؤاله..

ص: 369


1- لسان العرب: ج 11، ص 580.

خطر العصيان

نحن في حياتنا اليومية مبتلون - عادة بالمساوئ والذنوب الظاهرة والباطنة والتي قد يرتكبها كل واحد منا..

وهذه الذنوب إنما جاءت من وسوسة الشيطان، وقد تكون بعضها بسبب انعدام التربية الصالحة والسليمة، وبعضها بسبب الأوضاع السياسية وبعضها بسبب الأوضاع الاقتصادية والتعليمية، أو لأسباب أخرى مذكورة في علم الأخلاق، وبالتالي فهي لحقت بنا بسبب انحرافات و ظروف خارجية في الغالب...

فإذا تحول الإنسان المسلم من التعاليم السامية والقيم الرفيعة إلى الإنحراف والمعاصي فإن هذا من أكبر البلاء، ولكنه بلاء نحن اخترناه ولم يجبرنا عليه أحد - فرداً أم مجتمعاً- اخترناه بذنوبنا وبابتعادنا عن قيم السماء، لأن قيم السماء إنما جاءت لكي نعمل بها، وبالتالي فمن عمل بها فقد حظي بالراحة والأمان في الدارين، وأما من أعرض عنها فإنه يكون قد عرّض نفسه للبلاء والشقاء، كما قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) (1).

فلذا يلزم على المؤمن أن يسأل اللّه سبحانه دائماً أن يقيله من الخطايا والهفوات.. الخطايا التي قد يصاب بها في الدين أو الفكر أو العقيدة، والهفوات التي قد يصاب بها في حياته الخارجية.

ومعلوم أن هذه الخطايا والهفوات تنشأ في الغالب من الذنوب وارتكاب المعاصي...والذنب من أعظم ما يصاب به الإنسان، لأنه يقوده إلى الشقاء والتعاسة في

ص: 370


1- سورة طه: 124.

الدنيا والآخرة.

كما ورد عن الإمام أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: (أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول اللّه عز وجل في كتابه (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ثم قال: وما يعفو اللّه أكثر مما يؤاخذ به) (1).

وروي أيضاً عن الامام علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذا الصدد قوله: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون) (2).

ولا يبعد أن يكون المراد من الآفات الواردة في الدعاء هي الآفات الأرضية والسماوية التي تصيب الإنسان بالأمراض وتسبب له المشاكل والأزمات.

ص: 371


1- أصول الكافي ج 2، ص 269 كتاب الإيمان والكفر، باب الذنوب، ح3.
2- أصول الكافي: ج 2، ص 275، ح 29.

عزة المؤمن

وفي ختام الدعاء يقول الداعي : (بعزتك يا عز المسلمين).

فيكون التوسل بالعزة الإلهية...لأن المؤمن الذي أقيلت عثرته وغفرت زلته سينال العزة في نفسه أولاً، ثم عند ربه ثانياً، وعند مجتمعه ثالثاً، فإن الناس يحبون المتقي العفيف الذي شغله هم الآخرة ورضوان اللّه عن مشاغل الدنيا الدنيئة، واللّه سبحانه يحب العبد الذي يصرف عمره في طاعته ورضوانه وأي عزة أرقى من هذه؟

وقد ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (من أراد الغنى بلا مال، والعز بلا عشيرة والطاعة بلا سلطان فليخرج من ذل معصية اللّه إلى عز طاعته فإنه واجد ذلك كله) (1).

ومعلوم أن المؤمن العزيز يطرق باب العزة على اللّه سبحانه ويسأله بعزته أيضاً أن يسمع نداءه ويقضي حاجته ويحقق مراده.. فهو عز المسلمين ولا يرضى لهم بغير العز، كما قال: (رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (2).

وفي هذه الجملة التي اختتمت بها هذا الدعاء نقطة مهمة يجدر التنبيه عليها حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (يا اعز المسلمين)، فإنه يدل على أن المسلمين إذا أرادوا العزة فعليهم التمسك باللّه، فإنه عزّهم، ولكن إذا تمسكوا بالشيطان فسيصابون بالذلة..

وهذا من أهم أسرار تقدم المسلمين في العصور السابقة وتأخرهم في العصر الحاضر، وهذا الكلام بحاجة إلى تفصيل وتوضيح أكثر لا يسع المقام لذلك، نسأل اللّه تعالى أن يعز المسلمين جميعاً بعزته إنه سميع

ص: 372


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 1، ص 51.
2- سورة ص: 9.

معالجة أمراض النفس

دعاء اليوم الخامس عشر

15

اللّهمّ ارْزُقْنِي فِيهِ طَاعَةَ الْخاشِعِينَ، وَاشْرَحْ فِيهِ صَدْرِي بِإِنابَةِ الْمُخْبِتِينَ، بِأَمَانِكَ يا أَمَانَ الْخَائِفِينَ.

البلد الأمين ص 308، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من دعا به قضى اللّه له ثمانين حاجة من حوائج الدنيا، وعشرين من حوائج الآخرة، ورفع له في جنة الفردوس ألف مدينة في جوار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من نور بتلألأ، في كل مدينة ألف ألف غرفد في كل غرفة ألف ألف حجرة، في كل حجرة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين).

ص: 373

ص: 374

الطاعة الإلهية

في هذا الدعاء الشريف يطلب الداعي من اللّه أن يرزقه، ولكن أي رزق يطلب؟ مالاً.. جاهاً.. ولداً..؟

كلا.. بل يطلب فيه الطاعة.

والطاعة - كما في مجمع البحرين - هي: العبادة والتذلل والخضوع والاتباع والانقياد والطاعة اسم، ومنه اسم الفاعل من الرباعي مطيع، ومن الثلاثي طائع. ولساني لا يطوع كذا، أي لا ينقاد. وأتينا طوعاً أو كرهاً: أي انقياداً، والطواعية، الطاعة، ومنها الدعاء: (اللّهمّ ارحمني بطواعيتي إياك وطواعيتي رسولك)(1).

فعلى هذا.. الداعي يطلب في هذا الشهر المبارك بقوله: (اللّهمّ ارزقني فيه طاعة الخاشعين) عبادة الخاشعين فإن الطاعة بمعنى العبادة، كما سبق، ولب العبادة هو الخوف والخشوع، أما العبادة التي هي بلاخوف عبادة آلية جافة، لا تؤدي معناها الكامل وهدفها المرجو منها.

وربما يخطر في الذهن هذا السؤال: من أين يأتي الخشوع؟

وماهي طرق الوصول إلى الخشوع؟

الخشوع صفة معنوية تدخل في النفس، ولكنها لا تستقر في أي نفس، وإنما في نفس المؤمن الذي عرف اللّه تعالى وتفكر في خلقه واستعد للقائه.. فعرف اللّه وعرف نفسه من هو ؟ ولماذا هو مخلوق؟ وإلى أين سيكون؟

وبتعبير أدق: الخوف والخشية من اللّه يكون في مرتبة بعد اليقين بوجوده تعالى، وهذا أمر لا يمكن التغافل عنه في تصور معنى الخشوع، لأن الكثير من الناس يعرفون اللّه تعالى ويؤمنون به ويعترفون بذلك على ألسنتهم، ولكن هل هذا المعنى مستقر في الضمير والعقل، أم هي لقلقة لسان؟ ومن هنا لا يتصفون بالخشوع، فلا يكون الخشوع

ص: 375


1- مجمع البحرين، مادة (طوع).

إلا بعد الإيمان الحقيقي ومرحلة اليقين.

القرآن الكريم يصرح وفي أكثر من آية، بأن الخوف من لوازم الإيمان، كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (1).

والوجل هو الخوف كما ورد في التفاسير : (الوجل في هذه الآية يعني حالة الخوف التي تنتاب الإنسان وهو ناشئ عن أحد أمرين:

فقد ينشأ عن إدراك المسؤولية واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة الملقاة على عاتق المكلف والتي يجب أداؤها بأكمل وجه امتثالاً لأمر اللّه تعالى.

وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام اللّه والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له و مهابته التي لا حد لها) (2).

كما مدح الخائفين بالتذكر في قوله تعالى: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (3).

كذلك وعدهم اللّه تعالى بالجنة بقوله عز وجل: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (4).

وقوله سبحانه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (5).

وفي الحديث القدسي، عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة) (6).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (رأس الحكمة مخافة اللّه) (7).

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أتمكم عقلاً أشدكم اللّه خوفاً) (8).

ص: 376


1- سورة الأنفال: 2.
2- تفسير الأمثل: ج 5، ص 331.
3- سورة الأعلى: 10.
4- سورة النازعات: 4140.
5- سورة الرحمن: 46.
6- جامع السعادات: ج 1، ص 225 باب الخوف من اللّه أفضل الفضائل.
7- جامع السعادات: ج 1، ص 225.
8- جامع السعادات: ج 1، ص 225.

جوهر العبادة مخافة اللّه

عن ليث بن أبي سليم، قال: سمعت رجلاً من الانصار يقول: بينما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مستظل بشجرة في يوم شديد الحر، إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثم جعل يتمرغ في الرمضاء.. يكوي ظهره مرة وبطنه مرة وجبهته مرة ويقول: يا نفس ذوقي، فما عند اللّه أعظم مما صنعت بك، ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ينظر إليه ما يصنع، ثم إن الرجل لبس ثيابه ثم أقبل.. فأومأ إليه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بيده و دعاه، فقال له: يا عبد اللّه، رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟

فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة اللّه، فقلت لنفسي يا نفس ذوقي، ما عند اللّه أعظم مما صنعت بك.

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لقد خفت ربك حق مخافته، وإن ربك ليباهي بك أهل السماء، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأصحابه : يا معشر من حضر، أدنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم، فدنوا منه، فدعا لهم، وقال: اجمع أمرنا على الهدى واجعل التقوى زادنا والجنة مآبنا.. (1)

هذا هو الخوف الحقيقي من اللّه تعالى.. فترى أنه كيف يفعل بأصحابه، لأن الخوف والخشوع يجعل من العبادات عبادات هادفة، ولذلك تظهر آثارها فتسمو بصاحبها الدرجات العلى.. وينال بها الرغبات..

فالصلاة على سبيل الفرض لا الحصر.. وإنما ذكرناها باعتبارها عمود الدين (2)ولما قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن رُدَّت رُدَّ ما سواها وإن قبلت قبل ما سواها) (3).

فتعالوا نرى ما يأمرنا به القرآن.. وكيف يلزم أن نكون في الصلاة، قال تعالى:

ص: 377


1- جامع السعادات: ج 1، ص 225 - 226، باب الخوف من اللّه أفضل الفضائل.
2- راجع الأمالي للشيخ الصدوق: ص 641، المجلس 93.
3- فلاح السائل: 127.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (1).

وقال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) (2).

فالآيتان طرحتا مصداقين للمصلين، مصداقاً ممدوحاً وهو الخاشع في صلاته، ومصداقاً مذموماً وهو الساهي في صلاته، لذا ينبغي أن نعمل لتكون صلاتنا المصداق الممدوح للصلاة، وهو الصلاة بخشوع.

والخشوع في الصلاة: هو خشية القلب والتواضع المطلق اللّه سبحانه.. وليس الخشوع يختص بالقلب وحده، بل يشمل الجوارح أيضاً، روي: أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال: (لو خشع قلبه لخشعت جوارحه) (3).

فالخشوع في القلب هو أن يفرغ الإنسان قلبه اللّه، وذلك بجمع الهمة للصلاة والتوجه إليها والاعراض عما سواها، فلا يكون في قلبه غير العبادة والمعبود، وأما في الجوارح فهو غض البصر وترك الالتفات والعبث وما أشبه.

ولنأخذ قبساً من دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو الدعاء الرابع والأربعون في الصحيفة السجادية، حيث يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ): (اللّهمّ صل على محمد وآله، ووفقنا فيه على مواقيت الصلوات الخمس بحدودها التي حددت وفروضها التي فرضت، ووظائفها التي وظفت، وأوقاتها التي وقت، وأنزلنا فيها منزلة المصيبين لمنازلها الحافظين لأركانها، المؤدين لها في أوقاتها، على ما سنه عبدك ورسولك صلواتك عليه وآله في ركوعها وسجودها وجميع فواضلها على أتم الطهور وأسبغه وأبين الخشوع وأبلغه) (4).

وهنا تتجلى قيمة الصلاة.. وأهميتها للمؤمن، قال تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (5)إذ هي مقدمة لتحقق أسمى غاية وهو ذكر اللّه سبحانه.

وقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (من صلى ركعتين لم يُحدّث فيها نفسه بشيء من الدنيا غفر له ما

ص: 378


1- سورة (المؤمنون): 2.
2- سورة الماعون: 4-5.
3- مجمع البحرين: ج 4، ص 321.
4- الصحيفة السجادية، دعائه إذا دخل شهر رمضان.
5- سورة طه: 14.

تقدم من ذنبه) (1).

فالصلاة خشوع وإقبال وتوجه اللّه تعالى، وليست مجرد حركات آلية يقوم بها المكلف.

فكيف بالبعض يسمع الأذان والمنادي ينادي بالصلاة، وهو في غفلة من أمره.. غارق في الدنيا وزخرفها.. إن لم يكن غارقاً بالكذب والغيبة والنميمة وغيرها..

وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا جاء وقت الصلاة وأخذ في الوضوء يتغير لونه من خيفة اللّه، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرضها اللّه على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها...(2).

فهذه الصلاة، صلاة الخشوع والرغبة والرهبة والخوف من اللّه تعالى، فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (لا يجمع اللّه تعالى لمؤ من الورع والزهد والاقبال إلى اللّه تعالى في الصلاة إلا رجوت له الجنة، وإني لأحب للمؤمن أن يقبل إلى اللّه في صلاته ولا يشغل قلبه بأمر الدنيا، فما من مؤمن يقبل بقلبه في صلاته إلى اللّه إلا أقبل إليه بوجهه وأقبل بقلبه إليه بالمحبة وعطف عليه قلوب المؤمنين بالمحبة) (3).

فالخشوع والرهبة مطلوبان في العبادات، وخصوصاً الصلاة، وذلك لاكتساب الثواب ونيل الرفعة في الدرجات ورضا اللّه تعالى والقبول، لأن هذا لا يكون إلا بتلك، والمستفاد من هذه الآيات والأخبار فيما يخص الصلاة والعبادة والدعاء وغيرها، مما يفعله العبد أو يدعو به أنها ليست مقبولة إلا بقدر ما أقبل عليه منها.

فحضور القلب والجوارح والتوجه بصدق النية وإخلاص العبودية - كلها مجتمعة - تؤدي غرضها المنشود. وبغيرها قد لا يتحقق الغرض وتفقد العبادة روحها.. وبالتالي تصبح مجردة جافة لا ثمرة كبيرة ولا معنوية فيها، وإن كانت مجزأة ومسقطة للتكليف الشرعي، كما، كما يعبر عنه الأصوليون والفقهاء.

ص: 379


1- الحقائق، للكاشاني، ص 218، الصلاة والذكر.
2- اشارة إلى قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ سورة الأحزاب: 72.
3- اعلام الدین ص 390، ح 39.

إذن هذه الصلاة وهذه العبادة الخاشعة هي التي يتمناه الداعي في هذا الشهر المبارك..

يقول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في إحدى خطبه الشريفة وهو يوصي أصحابه:

(وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نصباً بالصلاة - أي تعباً - بعد التبشير له بالجنة لقول اللّه سبحانه (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (1) فكان يأمر أهله ويصبر عليها نفسه) (2).

فلا تدرك كمال غاية الصلاة فيما ذكرنا إلا بالخشوع.. خشوع القلب والجوارح، قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): (من خشع قلبه خشعت جوارحه) (3).

وقال : (ليخشع الرجل في صلاته فإنه من خشع قلبه اللّه سبحانه خشعت جوارحه) (4).

وهذا يتطلب جهد وعناية ومواصلة في التذكر والتفكير في العبادة، ولكن مع الأسف نجد البعض يفكر في كل شيء سوى التفكير في العبادة والمعبود سبحانه وذلك كقصة صاحب صلاة المنائر :

يذكر أنه ذهب رجل إلى مسجد الكوفة، وقصد أن يصلي صلاة فارغ القلب بحضور وخشوع، فشرع في الصلاة.. وإذا به يكتشف في أثناء الصلاة أن هذا المسجد العظيم لا منارة له، فأخذ يفكر في موضع المنارة وكيفية بنائها وما يتطلبه من المصاريف، والوقت الذي يستغرق لانجازها وهكذا، ولما قال (السلام عليكم ورحمة اللّه وبركته تمت المنارة الخيالية، وإذا به يتوجه إلى أن هذه الصلاة كانت حافلة بكل فكر غير فكر الصلاة.

وواضح أن الخشوع في العبادة يعطي العبادة سمواً معنوياً ويجعلها طاعة حقيقية للمولى، لذلك ورد في الدعاء الشريف: (اللّهمّ ارزقني فيه طاعة الخاشعين).

ص: 380


1- سورة طه: 132.
2- نهج البلاغة الخطبة رقم 199، من كلام له يوصي به أصحابه.
3- غرر الحکم ص 190، الفصل الثالث في خشية اللّه، الحديث 3691.
4- راجع الخصال: 628، حديث الاربعمائة.

تعريف الانشراح

ثم يسترسل الداعي.. بدعائه، فيطلب من اللّه تعالى أن يشرح له صدره في هذه الأيام العظيمة، فيقول: (واشرح فيه صدري بإنابة المخبتين).

لماذا يطلب الداعي أن يشرح اللّه تعالى له صدره؟

و ما المقصود بالصدر ؟

لفهم هذا المعنى دعونا نستنطق القرآن الكريم ونسأله عن معنى الصدر.. باعتبار أن القرآن كلام اللّه تعالى.. وقد طلب الأنبياء في أكثر من موقع في القرآن (1) أن يرزقهم اللّه شرح صدورهم، فما معنى ذلك؟

ففي سورة الأنعام، وفي الآيات 125 127 تحديداً، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

وقال تعالى في الآية الأولى من سورة الشرح، مخاطباً نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ):(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (2)، قال الراغب أصل الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر أي بسطته بنور الهي وسكينة من جهة اللّه وروح منه، قال تعالى: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (3). و ألم نشرح لك صدرك (4). و(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ

ص: 381


1- كما استعملت كلمة الصدر بمشتقاتها 46 مرة في القرآن الكريم.
2- سورة الشرح: 1.
3- سورة طه 25.
4- سورة الشرح: 1.

صَدْرَهُ) (1)، انتهی) (2).

ف_(شرح الصدر) بمعنى النور الإلهي الذي يقع في صدور المؤمنين الصادقين، حيث أن اللّه تعالى ينعم عليهم بنعمة كبيرة وهي نعمة الهداية.. ولا يوجد أعظم وأفضل من نعمة الهداية فيفتح صدرهم لتقبل الإسلام والإيمان روحاً ومعنى ومُثُلاً وقِيماً.. فهذه النعمة خير للانسان مما طلعت عليه الشمس.

أما الطرف الآخر والفريق الذي سلب منه التوفيق (أعاذنا اللّه) فهم لا يوفّقون لهذه النعمة، وهي نعمة الهداية.. فتضيق صدورهم.. وهؤلاء هم لا يريدون هذه النعمة.. فمنعهم اللّه إياها.

نعم أن المرتبطين باللّه تعالى والباحثين والمتعطشين للإيمان يضع اللّه في طريقهم مصابيح الهداية، وهي مصابيح مضيئة بنوره تعالى لكيلا يضيعوا في الظلمات في هذا التيه العظيم، وليصلوا إلى منبع الحياة واكسيرها.. وهو الهداية والتمسك باللّه تعالى. وذلك كله تحت ظل الإمدادات الغيبية والفيض الإلهي.

أما الفريق الآخر الذين تجاهلوا هذه الحقائق والذين صموا آذانهم عن الهداية والوعظ وعميت بصيرتهم فهم محرومون من هذا الإمداد الإلهي العظيم والرحمة الواسعة.

ومما تقدم يظهر أن الصدر قد يكون معناه الروح أو الفكر، وهذه كناية يرددها القرآن عادة عندما يتعامل مع كلمة (الصدر) ومفرداتها (3).

أما (الشرح): فهو اتساع الروح وارتفاع همتها واتساع أفق العقل، لتقبل الإيمان، كتقبل الرحمة.. وهذا لا يكون إلا بالتنازل عن المصالح الشخصية.. ولغة (الأنا) والتجرد عن الشهوات والغرائز والتثبت بالدنيا.. وهذا لا يتم إلا عند ذوي الأرواح العالية السامية المستمدة من الرحمة الإلهية.. والمسددة بالمدد الرباني، فتبين مما سبق

ص: 382


1- سورة الزمر: 22.
2- تفسير الميزان: ج 20، ص 314.
3- راجع الأمثل: ج 4، ص 425.

معنى شرح الصدر.

فشرح الصدر نعمة الهية كبرى لا ينلها إلا ذو حظ عظيم، وهي من أعظم نعم اللّه تعالى ينعم بها على من يشاء بقدرته ورحمته، وبعكسها ضيق الصدر فهو سلب للنعمة، لذا يقول القرآن مخاطباً نبيه الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (1). ويتضح المعنى أكثر عند النظر إلى مختلف الناس، وبالنظرة الواقعية للحياة اليومية، فإننا نرى بعض الناس لهم درجة كبيرة من سعة الصدر بحيث يكونوا قادرين على استيعاب الحقائق مهما كبرت.. واستيعاب الصعاب والظروف القاسية مهما نقصت عليهم حياتهم، بينما نجد صدور البعض وللأسف تكاد لا تصبر ولا تتحمل أبسط الأشياء، وهذا الأمر هو الذي يفقدها القدرة على استيعاب الكثير من الحقائق، وهو يسبب ضيق الأفق الفكري.. فتصبح النظرة محدودة وضيقة (2).

ص: 383


1- سورة الشرح: 1.
2- راجع الأمثل: ج 4، ص 425 - 426.

علامة شرح الصدر

قال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) (1).

وقد أسفر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن معنى شرح الصدر وعلائمه، وذلك عندما نزلت الآية المذكورة أعلاه.. فبين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بياناً دقيقاً يعطينا المعنى الواضح لشرح الصدر، وبالتالي يريحنا من عناء البحث والتفكر والمراجعة فيها..

قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنها: (نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء فيشرح له صدره وينفسح).

فسألوه: ألذلك علامة يعرف بها؟

قال: (نعم، الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت) (2).

ثم إن المدد الذي يشمل السالكين سبيل اللّه تعالى، إنما هو سنة إلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل وهذا ما ذكرته الآية 126 من سورة الأنعام بعد آية الشرح (3): (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا)، فهي تريد أن تؤكد على أن ذلك هو سنة ثابتة، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (4).. (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (5).

لمن يكون هذا الشرح ؟

شرح الصدر يكون للذين يملكون قلوباً واعية وآذاناً صاغية وفطرة سليمة غير

ص: 384


1- الانعام: 125.
2- مجمع البيان: ج 5، ص 508.
3- سورة الأنعام: 125.
4- سورة فاطر: 43.
5- سورة فاطر: 43.

ملوثة بالدنيا وأدرانها. قال سبحانه: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (1). وإذا أراد الإنسان أن يعرف ما يترتب على شرح الصدر فعليه بمراجعة الآيات المتممة لآية الشرح الآنفة في سورة الأنعام، قال تعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (2)، (وهو وليهم) (3).

فالآية تشير إلى قسمين من النعم، بل من أكبر النعم التي يهبها اللّه تعالى للذين يطلبون الحق فلهم الجنة، وهو الذي يتكفلهم ويتولاهم وينصرهم ويحفظهم، وذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحة، حيث قالت الآية الكريمة: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (4).

فأي نعمة أعظم من تلك، وأي مقام أرفع من هذا.. الذين يشرح اللّه صدورهم.. هكذا يجزون دار السلام، دار الأمن والأمان، لا حرب ولا نزاع ولا خصام ولا عنف ولا أنانية ولا بغض و لا حسد ولا تضارب ولا كذب ولا افتراء ولا بهتان ولا غيبة ولا نميمة ولا اتهام، وباختصار (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) (5)، و(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا) (6)، بل هى الهدوء والطمأنينة والراحة والهناء والسعادة الأبدية.

ولكن بماذا يمكن أن ننال كل هذه النعم؟

هل بالكلام المجرد بالشعارات الرنانة.. الطنانة الفارغة، بالصخب الذي يصم الآذان.. بالزيف والدجل!!

الآية الكريمة تجيب بكل صراحة وتريحنا حتى لا نبتعد عن الشاطئ.. فنغرق، تقول: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (7).

نعم، لا يتأتى ذلك إلا بالعمل الصالح، لا بالكلام الفارغ، فهي جائزة تُعطى لقاء العمل، وليس لقاء الكلام.. ومن هنا يتضح أنه ينبغي على الداعي في هذا الشهر أن يسأل اللّه تعالى كي يوفقه للعمل الصالح ليحصل على آماله وغاياته.

ص: 385


1- سورة الأنعام: 126.
2- سورة الأنعام: 127.
3- سورة الأنعام: 127.
4- سورة الأنعام: 127.
5- سورة الطور: 23.
6- سورة الواقعة: 25.
7- سورة الأنعام: 127.

أمراض البدن والنفس

وهنا يأتي دور السؤال التالي: بماذا يتم شرح الصدر ؟ وكيف نشرح صدورنا؟

هل بعملنا الناقص والمشوب.. وبأي الأعمال تحديداً، بأعمالنا المثقلة بالذنوب والمعاصي؟ فالذنوب تضيق الصدر وتحط من النفس.. أليس كذلك؟

والنفوس تعتل وتمرض.. كما يصف القرآن هذا المرض النفسي الخطير، فيقول: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (1).

والأبدان تمرض وتعتل وتسقم، وكذلك النفوس والعقول والضمائر، فالجراثيم تداهم الجسم وتضعفه، وكلما كانت قوية ونشطة وكثيرة كلما انهارت دفاعات البدن واختلت قواه وأصبحت أبوابه مشرعة لتلك الجراثيم والأمراض، وبالتالي يصبح علاجها أصعب ويحتاج فترة أطول..

هذا بالنسبة لمرض البدن وعلله.

وماذا عن النفوس والعقول والضمائر ؟ فهل هي تمرض أيضاً كما يمرض البدن؟ نعم، تمرض هي الأخرى، وأمراضها تبدو أشد فتكاً بالإنسان، فأمراض النفس تسري وتتسلل وتطفئ النور.. وتسلك مسالك الروح وتخمد أنوارها.. فتصبح مظلمة حالكة...

إن النفس إذا ابتعدت عن النواهي والأوامر الإلهية ولم تبال بها، تمرض تماماً كما لو أن الإنسان ابتعد عن النواهي والأوامر التي يصدرها الأطباء فإنه يجعل نفسه معرضاً للأمراض، كذلك عدم اتباع إرشادات اللّه تعالى واتباع أوامره ونواهيه سيجعل الإنسان مهدداً بالأمراض الروحية والنفسية، وقد لا يكون هناك مجال لتدارك الخطأ لو حدث

ص: 386


1- سورة البقرة: 10.

واستشرى، لأن القضية قضية النفس الأمارة بالسوء إلا ما رحم (1).

ولمعالجة الأمراض لابد من التشخيص باعتبار أن التشخيص هو نصف العلاج، لأننا عندما نعرف أسباب المرض.. وبالتالي تشخيصه.. عند ذلك يسهل علينا وصف الدواء المناسب له، والحالة واحدة بالنسبة للأمراض البدنية التي تصيب الإنسان والأمراض الروحية والنفسية، أي أن المناط واحد فإنه خلق اللّه تعالى الإنسان من عقل وشهوات، وأوجدها في هذا البدن وأعطى للعقل السلطة في تحجيم وكبح جماح هذه النفس وشهواتها، ولكن الذي يحدث أحياناً هو العكس، إذ تسيطر الشهوات على العقل، وتعطله عن أداء وظائفه في تقويم تلك الغرائز والشهوات.

ص: 387


1- إشارة إلى قوله تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) سورة يوسف:53.

لماذا خلق اللّه الغرائز؟

ولكي يمكننا فهم حقيقة الأمراض التي تصيب الروح والقلب والعقل، الناتجة عن الغرائز والشهوات، لابد من الإشارة إلى علة وجودها (الشهوات والغرائز) والبحث عن أنه لماذا أو جدها اللّه تعالى في الإنسان؟

فإن كانت هذه الغرائز تذهب بالإنسان بعيداً عن سواء السبيل، فلماذا خلقت؟ وما يريد اللّه تعالى بالإنسان هل يريد سبحانه بالبشر أن يخطأ ويذنب ليملأ جهنم ؟

سؤال قد يطرحه البعض، والجواب على ذلك يُعرف بعد معرفة حقيقة الوجود بشكل عام وفلسفة خلق الإنسان في هذا الكون.. فنقول:

إنما خلقت الشهوات وأوجدت في الإنسان لتكون في خدمة كمال الإنسان وفي فائدته وحفظه من التلف والضياع والانقراض، لأن تلك الغرائز الفطرية أوجدها اللّه تعالى وبيَّن غايات وجودها وبرمج لها وحددها، لكن الإنسان لا يتفكر في ذلك، فعلى سبيل المثال وليس الحصر :

الغريزة الجنسية وهي من أهم الغرائز المودعة في الإنسان وأعظمها ضغطاً عليه كما يتصورها البعض، ولكن الظاهر أن الغرائز والشهوات التي أوجدها اللّه تعالى متوازنة جميعها من حيث القوة والانفعال بشكل دقيق وكل تعمل حسب وظيفتها:

فغريزة الجنس: وضعت لحفظ الإنسان من التلف والضياع والانقراض، وذلك ضمن الأطر الشرعية، لذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (1).

وقال سبحانه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (2).

فهي إن لم تُنَظَّم ويُسيطر عليها من قبل العقل والشرع لأصبح الإنسان يفعل

ص: 388


1- سورة المؤمنون: 5.
2- سورة الإسراء: 32.

القبيح ويستسيغه، فهي غريزة ضاغطة وهي مترسخة في وجود الإنسان وليست غريزة حيوانية فقط، بل غريزة مشتركة لكل المخلوقات الحية، وهي غريزة حافظة للنوع.

كذلك: غريزة حب الطعام والشراب وحب المال وغيرها، كلها غرائز حافظة للوجود الإنساني، ولازمة في برنامج تكامله وتقدمه، فلو جرد الإنسان من غرائزه لا يمكنه أن يتقدم حتى خطوة واحدة.. لا في الدين ولا في الدنيا..

فهذا التقدم الهائل الذي حصل عليه البشر كله نتيجة تلبية بعض غرائزه بالشكل الصحيح، كما أن الفساد المنتشر أيساً نتيجة الخضوع للغرائز بشكل غير صحيح.

فالإنسان إذا لم يأكل يموت، وكذلك الحيوان، وإن لم يجد رغيفاً يأكله فربما أخذ يقتل ويُدمر، وعندها قد يصبح الممنوع مرغوباً لأنه تتوقف عليه الحياة!

لذا نجد القرآن حدد ذلك ونظم تلك الغرائز بقوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (1).

وكذلك غريزة حب المال، فإن المال فتنة كما يصفه القرآن: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (2).

وفي نفس الوقت القرآن ينظم ذلك أيضاً، فيقول تعالى: (لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) (3).

ويقول سبحانه: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...) (4).

وهل الأموال تؤكل؟

نعم.. لأن أكل كل شيء بحسبه، وهنا المقصود طهروا أموالكم وأرزاقكم من الحرام والسحت.. لأن الحرام يلعب دوره في الفتك.. فإن المحرمات جراثيم وميكروبات تطيح بالنفس والروح والإنسان وبالتالي تفسد المجتمع..

ص: 389


1- سورة الأعراف: 31.
2- سورة الأنفال: 28.
3- سورة البقرة: 279.
4- سورة البقرة: 188.

الجوارح أوعية العبادة

بل حتى أعضاء الإنسان جعلها اللّه تعالى أوعية للعبادة، فالعين واللسان والقلب واليد والأطراف كلها، أوعية للعبادة ولم يغفل القرآن منها، فذكر كل عضو منها وحدد وظيفته، لذلك سوف يسأل اللّه سبحانه أعضاء الإنسان يوم القيامة وسوف تشهد على تقصیره بحقها وعدم الإستفادة منها بما يليق بدورها ووظيفتها الأساسية، قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (1).

إذن كلها وسائل وأوعية لكسب العمل الصالح.. أوعية ووسائل دفاع للإنسان في مقابل الهوى والشيطان، كما تكون في المقابل وسائل فتك له في السيئات.

فهي أوعية ووسائل توصل الإنسان إلى النعيم ودار الأمان والراحة والسعادة كما أنها أوعية ووسائل يمكن أن توصل بالإنسان إلى الجحيم والتعاسة والحزن والحسرة الدائمة..

فيها تكسب الحسنات.. وبها تكسب السيئات.

فالإنسان لو جعل هذه الحقيقة نصب عينيه دائماً وعمل بمقتضاها، سوف يهنأ ويحصل على السعادة الأبدية بفضل اللّه تعالى.

الذنوب أمراض

إن الذنوب بأجمعها تعتبر أمراض النفس حتى الصغيرة منها، فالخطأ الصغير والذنب العادي والعثرة البسيطة كالميكروب والجرثومة الصغيرة قد لا تراها العين المجردة إلا بالميكروسكوبات والمجاهر ولكنها قد تفتك بأمة كاملة.

ص: 390


1- سورة النور: 24.

كذلك الذنوب، لأن (النار من مستصغر الشرر) كما يقال.

فلابد من الموعظة والتذكير والتفكر والمحاسبة لتصفية السجل الكبير للإنسان لكي تتعظ القلوب وتصحو الضمائر وتتفتح العقول بنور اللّه تعالى، قال بعض الحكماء: (الموعظة موقظة القلوب من سيئة الغفلة ومنقذة البصائر من سكرة الحيرة ومحيية لها من موت الجهالة ومستخرجة لها من ضيق الضلالة) (1).

والذنوب تبتدأ صغيرة ثم تكبر.. حتى تصبح علة ومرضاً.

وأدق تعبير في ذلك ما ورد عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: (إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نقطة سوداء على قلبه، فإن تاب واستغفر صفى قلبه منها، فإن زاد زادت حتى يغلف القلب بكثرة الذنوب فذلك هو الران الذي ذكره اللّه تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (2)) (3).

والقلب والعقل والضمير والسريرة الباطنة هي مصدر قوة الإنسان وضعفه فبقوتها وسلامتها من الأمراض يسلم الإنسان، وبسقمها وفسادها يهلك الإنسان ويخسر كل شيء.

قال له : (ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، الا وهي القلب) (4).

والإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يؤكد هذا المعنى، حيث يقول: (مامن شيء أفسد للقلب من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله) (5).

لذا يجب على الإنسان أن يبتعد عن الذنوب التي تميت القلوب والضمائر وتورث الهلكة والخسران يقول عبد اللّه بن المبارك:

ص: 391


1- اسلام دین و تمدن 56.
2- سورة المطففين 14.
3- الوافي: ج 3، ص 167، نقلاً عن الكافي.
4- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: ج 2، ص 267.
5- أصول الكافي: ج 2، باب الذنوب، ح 1.

رأيت الذنوب تميت القلوب***وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب***وخير لنفسك عصيانها

من هنا نجد أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب تغلفها وتتركز حتى تصبح طبعاً.. وعندها يصبح المرض عضالاً فيصعب العلاج، وعندها لا تلين إلى موعظة ولا تخشع لإيمان.

قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1)

ص: 392


1- سورة البقرة: 7.

كيف نعالج الأمراض الروحية

إشارة:

إذن ما العمل؟

و ما السبيل إلى النجاة؟

وما الطريق إلى العلاج؟

يبدو أن الوقاية هي أقصر الطرق وأنجح المسالك لتحصين الثغور والدفاعات.. حتى لا تسمح للأعداء باختراقها.. وهذا لا يكون إلا بالعمل الجدي.

ومن أهم طرق الوقاية هي:

محاسبة النفس

فينظر الإنسان في كل يوم ما عمله من الطاعات والواجبات، وما اقترفه من معاص، ثم الموازنة بينها.. وهذا أمر مهم، يتعلق بكشف الحساب اليومي، حتى يمكنه معالجة الإصابة من المرض بسهولة قبل استفحاله واستشرائه في الروح والضمير والعقل.

إن ترجيح كفة الطاعات في الميزان اليومي يستوجب الشكر على توفيق الطاعة وأداء التكليف والواجب، وبالتالي استجلاب الرضا الإلهي والتوفيق الدنيوي والأخروي.

وأن ترجحت كفة المعاصي في الميزان اليومي.. فلابد من الاستغفار والتوبة والإنابة، أي لابد من تأديب النفس وترويضها وجرها إلى بيت الطاعة بالموعظة مرة، وبالتأنيب مرة وبالتقريع مرة، وبالاستغفار والصحوة مرة.

والمحاسبة هي عمل الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) والأولياء والأوصياء والمعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهذه

ص: 393

هي الحالة الصحيحة السليمة فيكون فيها الجسد سليماً والعقل سليماً والروح والنفس مطمئنة هانئة.

قال الإمام موسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ): (ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد اللّه وإن عمل سيئاً استغفر اللّه منه وتاب إليه) (1).

(لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار) كما روي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(2).

لذا فإن التوبة والإنابة توجب سلامة القلب، فالقلب والضمير في أصل الخلقة سليم، لأن (كل مولود يولد على الفطرة) (3) وإنما يمرض ويسقم ويسود بأمراض الذنوب واقتراف المعاصي والخطايا.

ومنها التوبة

وهي تنزيه القلب مما اقترفه من الذنوب والموعظة الحسنة لها دور كبير في التوبة والإنابة لأنها تخرج وتبحث عن مرتع لها فتستقر وتؤدي أثرها، كما أن السيئة والجرثومة تخرج لتبحث عن مرتع لها لتستقر فيه وتؤدي أثرها السلبي هي أيضاً..

وقد حذر أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) من الذنوب ونصحوا الأمة باجتنابها، فعن المفضل قال:

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (يا مفضل، إياك والذنوب، وحذرها شيعتنا فواللّه ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرة من السلطان وما ذاك إلا بذنوبه، وأنه ليصيبه السقم وما ذاك إلا بذنوبه، وأنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه، وانه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا بذنوبه، حتى يقول من حضره لقد غم بالموت، فلما رأى ما قد دخلني قال: أتدري لم ذاك يامفضّل؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك واللّه، إنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة وعجلت لكم في الدنيا) (4).

ص: 394


1- أصول الكافي: ج 2، ص 453، ح 2.
2- التوحيد: ص 407، باب الأمر والنهي والوعد والوعيد، ح6.
3- غوالي اللئالي: ج 1، ص 35 الفصل الرابع، ح 18.
4- علل الشرائع ص 297 باب علة سهولة النزع، باب 235، ح 1.

حقيقة الإنابة

ثم ورد في الدعاء الشريف: (إنابة المخبتين) فماذا تعني الإنابة؟

الإنابة التي طلبها الداعي في هذا الدعاء، قد تعتبر الطور الثاني أو الصفحة الثانية للتوبة، ولكن هي أرفع درجة من ذلك.

ومن نافلة القول أن نعرف بأن للتوبة ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى هي اليقظة.. أو صحوة الضمير - إن صح التعبير - والشعور بالذنب.. والندم على المعصية.. وهذا ما يسمى بالشعور الواعي.

المرحلة الثانية: الإنابة إلى اللّه تعالى وهي العزم على الطاعة والعزم على التوبة.

المرحلة الثالثة: التنفيذ والمكاشفة لرصد الحساب الكسبي، من من السيئات والحسنات، حتى يفصل بين التوبة الحقيقية (النصوح) والتوبة التي تتردد على لسان بعض العصاة والمردة، والتي لا تتعدى كونها لقلقة لسان ليس إلا.

إن اللّه تعالى كتب على نفسه الرحمة والعفو لمن أرادها حقيقة لا هزواً ولعباً فقال عز من قائل: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1).

وقد حث الأئمة المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ) على التوبة والاستغفار في كل وقت وفي كل ساعة وبدون تردد وتأخير، فهذا الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مناجاته الأولى وهي مناجاة التائبين يقول: (إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجللني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي و منيتي، فوعزتك ما أجد لذنوبي سواك غافرا، ولا أرى لكسري غيرك جابرا، وقد

ص: 395


1- سورة الأنعام: 54.

خضعت بالإنابة إليك..) (1).

وإذا كان الإمام المعصوم لها هكذا يرى نفسه مقصراً أمام اللّه سبحانه، فكيف بنا؟ والتوبة والإنابة رحمة إلهية منحها اللّه تعالى بفضله وكرمه لبني البشر.. وقد تفضل بها اللّه تعالى لمن يريدها بشرطها وشروطها.. ف

عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (إن آدم قال: يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مجرى الدم مني فاجعل لي شيئاً، فقال تعالى يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة، ومن هَمَّ منهم بحسنة فإن لم يفعلها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة حتى يبلغ النفس هذه، قال: يارب حسبي) (2).

وهنا لابد من الإشارة إلى أنه لا ريب ولا شك في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها، كما صرح بذلك العلماء، وقد سبق بعض البيان في ذلك مما أوضحناه من فائدة التوبة وغرضها.

فالعقل: يوجبها لأن من بديهياته التوقي والتحرز من الأضرار الموجبة لشقاء الإنسان والتحرز من مضار الذنوب، في عاجل الحياة وأجلها.

وأما النقل: فقد أوجبها القرآن في كثير من الآيات أشرنا إلى بعض نصوصها، والسنة أيضاً وجوباً محتماً وقد حثت عليها مؤكدة..

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في معرض التشويق إليها، عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : (إن اللّه عزوجل فضولاً من رزقه ينحله من يشاء من خلقه، واللّه باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له) (3).

ص: 396


1- الصحيفة السجادية : مناجاة التائبين.
2- الكافي ج 1، ص 440، ح 1.
3- بحار الأنوار: ج 6، ص 29، ح 34، باب 20، ط طهران.

إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً

وهنا استوقفتني هذه السطور من دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث يقول: (إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإني وعزتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين لك العتبى حتى ترضى إلهي بقدرتك عليّ تب عليّ، وبحلمك عني اعف عني وبعلمك بي ارفق بي، إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سميته التوبة فقلت (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) (1)) (2).

نعم باب التوبة مفتوح لمن أراد دخوله، لكن هل نكون نحن ممن يريد أن يدخل هذا الباب الذي شرع على مصراعيه في هذا الشهر العظيم شهر الإنابة.. شهر التوبة.. وشهر الغفران؟ فعلينا أن نعمل جاهدين لدخول هذا الباب واجتياز كل العقبات التي في طريقنا، وأن لا ننسى بأن اللّه تعالى عواد بالمغفرة، كما نحن العوادون بالذنوب والخطايا والمعاصي.. فلا نقنط ولا نيأس من رحمته تعالى وهو القائل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (3).

وقد شجع أهل بيت العصمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) على تجديد التوبة والإنابة ومواصلتها بلا انقطاع، وذلك انقاذاً لأنفسنا التي صارت ضحية الآثام والذنوب.

فعن محمد بن مسلم قال: قال الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ): (يا محمد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما

ص: 397


1- سورة التحريم: 8.
2- الصحيفة السجادية من مناجاة التائبين.
3- سورة الزمر:. 53.

واللّه أنها ليست إلا لأهل الإيمان، قلت: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة، فقال: يا محمد بن مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل اللّه توبته!! قلت: فإنه فعل ذلك مراراً يذنب ثم يتوب ويستغفر، فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة إن اللّه غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تُقنِط المؤمنين من رحمة اللّه تعالى) (1)

اللّهمّ رحماك من رب رحيم.. رحماك من رب كريم..

ص: 398


1- الوافي: ج 3، ص 183، عن الكافي.

على مرفأ الأمان

وبعد أن طلب الداعي التوبة والانابة من الذنوب والمعاصي ماذا يطلب؟

يطلب الأمان.. نعم الأمان.

ولكن مم الأمان؟

لقد قلنا آنفاً أن اللّه تعالى رؤوف رحيم وكتب على نفسه الرحمة، وهو الذي شجعنا على التوبة وعدم القنوط.. فعلام الخوف؟ ألم يكن اللّه قد وعد المؤمن بالإطمئنان والأمان يوم لا أمان إلا أمانه؟ نعم له الأمان، لو جاء بالتوبة بشروطها، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1).

فعلى الإنسان أن يتوب توبة نصوحا وعندئذ يمكن أن يقال له: لقد طلبت التوبة والإنابة فلا تحزن، واطلب الأمان من ربك وقل: بأمانك يا أمان الخائفين)، فإنه بشرنا أئمتناء (عَلَيهِم السَّلَامُ) بقبول التوبة النصوح.

والظاهر أن المقصود من الأمان في هذا الدعاء هو الأمان يوم الفزع الأكبر، وهذا ما يؤكده دعاء الإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مناجاته الثالثة وهي مناجاة الخائفين فيقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

(إلهي أجرني من أليم غضبك وعظيم سخطك، ياحنان يا منان، یارحیم یارحمن، یاجبار یاقهار، یا غفار و یاستار، نجني برحمتك من عذاب النار، وفضيحة العار، إذا امتاز الأخيار من الأشرار، وحالت الأحوال، وقرب المحسنون وبعد المسيئون، ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (2).

ص: 399


1- سورة البقرة: 222.
2- الصحيفة السجادية : مناجاة الخائفين.

هذا بالإضافة إلى أن الإنسان لا يعلم عاقبة أمره، فعليه أن يسأل اللّه دائماً أن يرزقه الأمان، فالأعمال يلاحظ آخرها، لا أولها.. فكم من شخص كان أول عمله خيراً ثم ختم له بسوء، وكم من إنسان عمل سيئاً ثم ختم له بخير..

اللّهمّ نسألك حسن العاقبة، وقبول الطاعات والأعمال، يا من إذا سأله عبدٌ أعطاه، وإذا أمل ما عنده بلّغه مناه، وإذا أقبل عليه قربه وأدناه، وإذا جاهره بالعصيان ستر على ذنبه وغطّاه....

ص: 400

الفهرس

مقدمة...5

المدخل: جوهر العبادة...9

الدعاء منهج اجتماعي...15

الدعاء عمود الدين...19

آداب الدعاء وشروطه...23

لماذا الإبطاء في الإجابة؟...29

قاعدة التسامح في أدلة السنن...35

دعاء اليوم الأول

الصوم وأبعاده التربوية...39

معنى الصوم: لغةً وشرعاً...41

فلسفة الصوم...48

باب الريان...51

صوم الجوارح والجوانح...53

قيام القائمين...55

التنبيه من الغفلة...59

غفران الذنوب...63

شهر الرحمة والتوبة...68

ص: 401

دعاء اليوم الثاني

المؤمن ومرضاة اللّه...71

معنى القرب من اللّه سبحانه...73

مراتب الرضا...76

سنن اللّه في الحياة...81

ماهو السخط ؟...81

ماهي النقمة؟...81

الذنوب وآثارها على المجتمع...84

من مكائد الشيطان...87

القرآن المعجزة الخالدة...90

التدبّر عنوان القراءة...97

هكذا يُقرأ القرآن...101

دعاء اليوم الثالث

سمات الشخصية الإسلامية...105

الشخصية الإنسانية وأمراضها...107

الذكاء لت الشخصية...110

الذهن والأسباب المادية...111

إثبات الشيء لا ينفي ما عداه...115

ثلمات في الشخصية...116

ماهو الخير وكيفية طلبه...123

وسائل استجلاب الخير...125

ص: 402

دعاء اليوم الرابع

النعم الإلهية...131

ماذا يعني أمر اللّه؟...133

تسبيح فاطمة ذكر...140

من ثمرات الذكر...142

من معاني الشكر...144

الشكر بين الآثار والتجليات...145

أقسام الشكر وصوره...146

بين الشكر والكفران...148

أمور تتعلق بالشكر...151

1 من آثار قلة الشكر...151

2: من لم يشكر المخلوق...151

3: من آثار الشكر...151

4: الشكر في المجتمع...152

5: الشكر المطلق...152

6: القناعة شكر...152

7: التحدث بالنعم...153

8: سجدة الشكر...154

9: لمن تكون فائدة الشكر ؟...155

10: الشكر علامة كرم النفس وعلوها...155

الحفظ والستر...156

ص: 403

دعاء اليوم الخامس

التوبة العودة إلى رحاب اللّه...159

صراع القوى...161

التوبة لغة واصطلاحاً...164

التوبة ترك وعمل...167

الذنوب وآثارها الوضعية...169

ضعف الذاكرة...169

زوال النعم...169

سلب الخشوع....170

عدم استجابة الدعاء...170

نزول البلاء...171

دعاء اليوم السادس

بين الخوف والرجاء...179

الورع عن المحارم...181

الطاعة مفتاح الرحمة...185

بين الخوف والرجاء...188

حذار من الدنيا...193

سؤال وجواب...196

النتيجة...199

دعاء اليوم السابع

الاستعانة باللّه طريق التوفيق...201

الاستعانة باللّه...203

ص: 404

مجانبة الهفوات...209

دور الذكر في صياغة الشخصية...215

الضلال وطرق النجاة منه...219

دعاء اليوم الثامن

شهر رمضان والتعاليم الاجتماعية...225

تهذيب الإنسان...227

الكرامة أولاً...230

المحبة لليتيم...233

لا طبقية في الإسلام...238

من آداب الإسلام...245

دعاء اليوم التاسع

رحمة اللّه قريب من المحسنين...249

الرحمة الإلهية...251

كيف نكسب رحمة اللّه؟...258

هكذا كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...261

الرحمة قوام المجتمع...265

المرضاة الجامعة...269

دعاء اليوم العاشر

من سبل النجاح...271

التوكل في منظار الشريعة...273

من آثار التوكل...283

ص: 405

كيف نكون من الفائزين؟...285

الالتزام ثمن الجنة...288

معنى القرب الإلهي...289

دعاء اليوم الحادي عشر

الإحسان طريق المحبة...293

بين النفس والجسم...295

الإحسان ضرورة حضارية...299

بالإحسان تعمّ المحبة...301

من مصاديق الإحسان...302

من معطيات الإحسان...304

هكذا يكون موقف العظماء...306

الإحسان وتأثيره على الآخرين...308

شهر الإحسان...312

دعاء اليوم الثاني عشر

العفاف والكفاف...315

ماهي العفة؟...317

ذم السؤال والنهي عنه...317

العفة حلية المؤمن...320

بين القناعة والطمع...324

مم يخاف المؤمن؟...328

الخوف بين السلب والإيجاب...331

ص: 406

دعاء اليوم الثالث عشر

نزاهة الروح.. ونزاهة الجسد...333

الطهارة.. وأبعادها...335

1: الماء...337

2: التراب...337

3: الشمس...338

فضائل الطهارة...339

في معنى الدنس والقذارة...340

علاقة التقوى بالطهارة...342

معنى القدر وكائناته...345

حكمة من التاريخ...350

من هم المساكين؟...352

المسكين بالمعنى الأخص...353

دعاء اليوم الرابع عشر

المؤمن بين الإقالة والعثرة...357

تجليات اللطف الإلهي...359

حق المؤمن على اللّه...362

العثرات ومصاديقها...364

إقالة الخطيئة والهفوة...367

خطر العصيان...370

عزة المؤمن...372

ص: 407

دعاء اليوم الخامس عشر

معالجة أمراض النفس...373

الطاعة الإلهية...375

جوهر العبادة مخافة اللّه...377

تعريف الانشراح...381

علامة شرح الصدر...384

لمن يكون هذا الشرح ؟...384

أمراض البدن والنفس...386

لماذا خلق اللّه الغرائز ؟...388

وهل الأموال تؤكل؟...389

الجوارح أوعية العبادة...390

الذنوب أمراض...390

كيف نعالج الأمراض الروحية...393

محاسبة النفس...393

ومنها التوبة...394

حقيقة الانابة...395

إن اللّه يغفر الذنوب جميعاً...397

على مرفأ الأمان...399

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.