صراط الحق في المعارف الإسلامیة و الأصول الإعتقادیة
سایر عناوین:علم الکلام / المعارف الاسلامیه و الاصول الاعتقادیه
نویسنده: محسنی، محمد آصف
تعداد جلد: 4
زبان:عربی
ناشر: ذوی القربی - قم - ایران
سال نشر: 1385 هجری شمسی|1428 هجری قمری
محرر رقمي:میثم حیدری
ص: 1
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله و نشكره ان وفقنا لتجديد طبع هذا الكتاب القيّم المفيد (صراط الحقّ) الّذي يعدّ من أهمّ مصنفات العالم الجليل و الزّاهد الورع، و الفقيه المجاهد و العلاّمة الأفخم، سماحة آية الله العظمى محمّد آصف المحسني (مدّ ظلّه العالي) قائد (الحركة الاسلامية الأفغانيّة) و هي أوّل منظّمة شيعيّة تأسّست في 1358/1/19 ه -. ش و من انشط المنظّمات، سياسياً، و دينياً، و ثقافياً و عكسرياً و... و أهمّها على السّاحة الأفغانية، و لها مشاريع و خطط عملاقة و قد لعبت دوراً مهمّاً في الثّورة الاسلامية و في تحرير بلادنا و تحقيق انتصار شعبنا و ذلك للاتكال على الله و للعزم الرّاسخ من قائدها المعظم مصنّف هذا الكتاب و المسؤلين للثّوّار رغم المؤامرات الّتي حيكت عليها من الداخل و الخارج (حتّى بعض الأحبة) و...
و لسماحته دام بقاؤه كتب كثيرة صنّفها طيلة حياته العلمية الزاخرة، منها هذا الكتاب الثمين، فقد كتبه في النّجف الأشرف سنة 1340 ه -. ش تقريباً شارحاً فيه الأصول العقائديّة في أربعة أجزاء، و هذا هو الجزء الثّالث منه، الّذي يبحث حول النبوّة و الإمامة (على انّهما ركنان أساسيّان من أركان الدّين. بأقوام الطرق لمعرفة الله و المعاد و المعارف الإسلامية قاطبة) باستدلال علمي و فلسفي دقيق، مدعومة بشواهد من القرآن و السنة و ربّما استدلّ بأقوال علماء اخواننا السنّة و كتبهم المعتبرة و... و بقى الجزء الرّابع في المعاد نسأل الله تعالى أن يوفّق المصنّف لاكماله بعونه تعالى.
و قد صادف تجديد طبع هذا الكتاب انتصار ثورتنا الاسلامية. في بلادنا افغانستان بيد أنّ اعداءنا في انحاء العالم يتآمرون علينا و يواصلون مساعداتهم لعملائهم المرتزقة لتوتير الأوضاع و تأزيمها و يساهم معهم الجهلة من الدّاخل بأرائهم العشوائية حتّى يزيدوا الاختلافات بين العشائر و الأحزاب و المذاهب و... و يصدّوا عن سبيل الله و طريق الحق و الصراط المستقيم، لذا يجب على العلماء العظام و الاساتذة الكرام، ان يكونوا على حيطة، و حذر من المؤامرات المحاكة ضدّهم، و يتّحدوا ليمسكوا بزمام السّلطات الثّلاث العليا في البلاد، و يروّجوا الدين بمعارفه و شريعته باسلوب حديث أصولي، منطقي في الحوزات العلمية،
ص: 5
و الجامعات و الدّوائر الحكومية، و من خلال و سائل الأعلام و يقيّموا مؤتمرات لهذا الهدف أسامي.
نسأل الله ان يمنّ علينا باستقرار الجمهوريّة الإسلاميّة في بلادنا. و تحكيم العداله الاجتماعيّة، طبقاً للقرآن و السّنة و العقل السّليم في ظل الأخوة الإسلامية، و لا يمكن هذا إلاّ بالتمسّك بالشريعة النبوية المقدّسة والتخلّق بمعالي الأخلاق الإسلامية، الّتي أساسها الأصول الاعتقادية والبحث عنها بأقوى الاستدلالات و أدق البراهين كما في هذا الكتاب المتين السّديد و حقاً أنّه صراط الحق و يهدينا إلى الحقّ الّذي أحقّ ان يتبع. و لمثل هذا فليعمل العاملون.
المسئول العام للقسم الثقافي في (الحركة الإسلاميّة الأفعانية).
السيّد محمّد طاهر المدرّسي البلخي
1371/11/15
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين باعث الأنبياء و المرسلين ناصب الأوصياء الهادين، و الصلاة و السلام على الذين من والاهم فقد ولى الله، و من عاداهم فقد عادى الله، و من عرفهم فقد عرف الله و من جهلهم فقد جهل الله، و من اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، و من تخلّى منهم فقد تخلى من الله عز و جل.
هذا و هو الجزء الثالث من كتابنا صراط الحق الباحث عن المعارف الإسلامية و الأصول الاعتقادية حسب ما يقتضيه العقل الصحيح و النقل الصريح. و قد مضى البحث عن التوحيد و العدل في الجزأين الأولين، و نبحث هنا عن النبوّة و الإمامة، و من الله العون و القوّة.
ص: 7
ص: 8
المقصد السادس
في النبوّة و الرسالة
المبحث الأول: في حسن البعثة و وجوبها
المبحث الثاني: في شرائط النبي و الرسول
المبحث الثالث: في إثبات النبوّة
المبحث الرابع: في مراتب النبوّة
المبحث الخامس: في تفاضل الأنبياء (عليهم السلام)
المبحث السادس: في تفاضل الأنبياء و الملائكة
المبحث السابع: في بعض خواص الأنبيا (عليهم السلام)
المبحث الثامن: في إثبات نبوّت نبينا الأعظم الخاتم
المبحث التاسع: في عموم نبوّته و خلود رسالته
المبحث العاشر: في عصمة النبي الخاتم (ص)
المبحث الحادي عشر: في أفضلية النبي الخاتم (ص)
المبحث الثاني عشر: في أنّه (ص) أمّي
المبحث الثالث عشر: في تعبّده قبل رسالته
المبحث الرابع عشر: في خصائصه (ص)
المبحث خامس عشر: في تفويض التشريع إليه (ص)
المبحث السادس عشر: في كيفية الوحي إليه (ص)
ص: 9
ص: 10
النبوّة منصب إلهي يؤتيه الله من يشاء من أفراد الإنسان بلا حيثية نيابية، يتمكّن صاحبه من سماع الوحي بقذفه في القلب أو صوت الملك أو رؤيته في المنام دون معاينته في اليقظة حين التحدث معه.
فقولنا: «منصب» بمنزلة الجنس يشمل رتبة الأنبياء و الرسل و الأوصياء و بعض الملائكة و العلماء. و قولنا: «من أفراد الإنسان» كالفصل يخرج به منصب الملائكة. كما يخرج بقولنا: «بلا حيثية نيابية» درجة الأوصياء و الخلفاء و العلماء فإنّها نيابة عن النبي. و أمّا قولنا: «رؤيته في المنام» فهو يميز النبوة على الإمامة بناء على تأصلها و مغايرتها مع الخلافة كما هو الصحيح، فإنّ الإمام و ان يسمع صوت الملك لكنّه لا يراه في منامه، على ما سيأتي تفصيله في المقصد السابع إن شاء الله.
و قولنا: «من دون معاينة» إشارة إلى افتراق النبوة عن الرسالة، فإن الرسول يعاين شخص الملك في اليقظة. و قولنا: «حين التحدث معه» ناظر إلى ما في بعض الروايات من أن النبي ربما رأى الشخص و لكن لا يسمع كلامه، فيكون عدم الرؤية - إن صحّت الرواية سند، - مختصّاً بحين المكالمة و الوحي.
و ينبثق من هدي هذا البيان: أن النبي هو الإنسان الواجد لذلك المنصب الإلهي بلا جهة نيابية في منصبه، سواء بلغ الناس من ربه أم لا، له كتاب و شريعة أم لا؛ و أمّا الرسول فهو الإنسان الواجد للدرجة الممكنة لمعاينة الملك و المخبر من قبل الله تعالى للمكلّفين.
فمدار الفرق بين النبوة و الرسالة نقطتان: معاينة الملك و عدمها، و اعتبار التبليغ و عدمه(1).
و اعلم أنّ هذا الذي تفرّدنا به في هذا الموقف هو الأصح من جميع التعاريف التي ذكرها المتكلّمون و غيرهم للنبوة و الرسالة، كما سيظهر وجهه في المسائل الآتية في هذا المقصد و مما سنذكره في تعريف الامامة إن شاء الله الرحمن.
اذا تقرر ذلك فلنتعرض لأصل المقصد في ضمن مباحث.
ص: 11
قالوا: البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كثيرة كمعاضدة العقل فيما يستقّل به كمعرفة الباري و صفاته - و استفادة الحكم من النبي المذكور فيها لا يدلّ عليه العقل مثل بعض الاعتقادات و الفروغ التعبدية و ازالة الخوف الحاصل عند الإتيان بالحسنات لكونه تصرّفا في ملك الله تعالى بغير إذنه، و عند الترك لكونه ترك العبودية، و استفادة الحسن و القبح في الأفعال التي لا يستقلّ العقل بقبحها و حسنها؛ و تعلم منافع الأغذية و مضارّها، و كذا الأشرية و الأدوية - و حفظ النوع الإنساني بجعل قانون حافظ لنظامهم، و تعليمهم الأخلاق الفاضلة و الصنائع الخفية، و تدبير شؤونهم الاجتماعية والمنزلية، و إخبارهم بالثواب و العقاب ترغيباً في الأعمال البرية النافعة، و تنفيراً عن الافعال الشنيعة المضرّة إلى غير ذلك، فتكون البعثة المزبورة لطفاً للمكلف، و اللطف واجب على الله تعالى، فيجب عليه بعث الرسل إلى المكلّفين.
و هذا - أي وجوب البعثة - هو المصرّح به في كلمات جملة من متكلمي أصحابنا الإمامية رضى الله عنه بل عدّه السيد المرتضى - في تبصرة العوام - في جملة معتقدات الامامية، و هو المنقول عن المعتزلة أيضاً.
و أمّا حسنها فقد نقل اتّفاق أرباب الملل عليه.
و الحق أنّه لا دليل على حسن البعثة و وجوبها(1) إلاّ ما ذكرناه في حسن التكليف و وجوبه (في الجزء الثاني) إذ بعد ما ثبت وجوب تكليف الناس على الله تعالى لقوله: (مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ)(2) بالتقريب المتقدم. و قوله: (إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ)(3)، و قوله: (وَ عَلَى
ص: 12
اَللّٰهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ)(1)، و قوله: (أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً)(2) يثبت وجوب البعثة أيضاً؛ اذ لا يمكن إيصال التكاليف المجعولة من قبل الله تعالى إلاّ بواسطة الرسول، و هذا واضح فلا نطيل المقام. و بالجملة أن الثقافة الاسلامية حتى في عصرنا أحسن و أكمل من الثقافات المادية الناقصة في العالم، فابلاغها للناس حسن، و واجب بالآيات المتقدّمة.
ابتلي أقوام في هذه المسألة بأوهام خرافية:
فمنهم: الأشاعرة حيث أنكروا وجوب التكليف بحجّة أنّه لا حاكم على الله تعالى.
و قد زيفناه من قبل في المقصد الخامس من الجزء الثاني، فلاحظ.
و منهم: من حسب امتناع التكليف بحجّة فقدان شرطه و هو اختيار المكلّف في أفعاله و تروكه؛ ضرورة قبح تكليف المجبور الملجأ. و قد ثبت في محلّه أن العباد مجبورون لا مختارون، و أجيب عنه بأنّ الأمر و إن كان كذلك إلا أنّ للفاعلين كسباً يصح باعتباره تعلق التكليف بأفعالهم.
قلت: قد نبّهناك فيما مضى على بطلان هذا الكسب و أنه غير معقول أصلاً، فالانصاف أنّ هذا الإشكال على مذاق اتباع جهم بن صفوان و مقلّدي أبي الحسن غير قابل للإنحلال أبدا، و أمّا على طريقة أهل الحقّ من الأمر بين الأمرين فجوابه و اضمحلاله أوضح من أن يخفى.
و منهم: بعض الصوفية من أهل الإباحة، حيث تخيّل أن التكليف بالافعاله الشاقّة البدنية يشغل الباطن عن التفكّر في معرفة الله و ما يجب له و ما يمتنع عليه، و لا شك أنّ المصلحة المتوقعة من هذا الفائت تزيدعلى ما يتوقّع ممّا كلّف به فكان ممتنعا. لكن قد خفي على هذا البسيط انّ المعرفة الصحيحة الكاملة لا تحصل الا ببيان الرسول، و أنّ الفرعيات التعبّدية العبادية تؤثّر في استقرار العقليات و رسوخها. فالأمر على عكس ما توهّمه هذا القائل.
و منهم: البراهمة و الصائبة و التناسخية(3)، فقد حكي عنهم القول بكفاية العقل في معرفة التكليف من دون حاجة إلى بعثة رسول، قالوا: إنّ ما حكم العقل بحسنه يفعل، و ما حكم بقبحه يترك، و ما توقف فيه يفعل اذا احتيج اليه؛ إذ الحاجة ناجزة حاضرة يجب اعتبارها دفعا لمضرّة
ص: 13
فواتها و لا يعارضها مجرّد احتمال المضرّة بتقدير قبحه، و يترك إذا لم يحتج للاحتياط في دفع الضرر المحتمل.
و قد نقل عن البراهمة وجه آخر، قالوا: إنّ ما جاء به النبي إن وافق العقل فلا حاجة اليه و ان خالفه فليزم ردّه و إنكاره، فلا قائدة في البعثة مطلقاً.
أقول: و كلا الوجهين يزيف بأن العقل لا يحيط بكثير من المحاسن و القبائح الواقعيين و ترجيح بعضها على بعض عند التزاحم، فيتوقّف بيانهما على وجود رسول مخبر من قبل علاّم الغيوب، هذا مع أن الالتزام بما يدركه العقل من دون الوعد و الوعيد غير ميسور لمعظم الناس كما هو محسوس خارجاً.
و منهم: بعض المعتزلة، حيث فصل بين عمله تعالى بإيمان أمّة فحكم بوجوب البعثة و إرسال النبي إليهم لما فيه من استصلاحهم، و بين علمه تعالى بعدم إيمانهم فحكم بحسنها فقط لإعذارهم و عدم وجوبها.
أقول: الظاهر أنّه ما من قوم إلاّ و يؤمن بعضهم بالنبي إذا بعث فتكون البعثة واجبة دائماً فإنّ احتمال إنكار جميعهم لقول المبعوث المذكور بعيد جداً.
ثم إنّ تعليل وجوب البعث بالاستصلاح غير بيّن و لا مبين، بل لا بدّ من استناده إلى ما ذكرنا في مبحث حسن التكليف و وجوبه. نعم في المقام صعوبة أخرى أشرنا إليها في بحث تبعية أفعاله تعالى للأغراض.
روى ثقة الإسلام الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن العباس بن عمر الفقيمي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء و الرسل؟ قال: أنّا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه و لا يلامسوه فيباشرهم و يباشروه و يحاجهم و يحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه و عباده و يدلّونهم على مصالحهم منافعهم وما به بقاؤهم و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم الحليم في خلقه و المعبرون عنه جلّ و عز و هم الأنبياء (عليهم السلام) و صفوته من خلقه. حكماء مؤدبين بالحكمة(1) مبعوثين بها غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب - في شيء من أحوالهم، مؤيدين(2)
ص: 14
من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كلّ دهر و زمان مما أتت به الرسل و الأنبياء من الدلائل و البراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجّة يكون معه علم (من العلامة) يدل على صدق مقالته و جواز عدالته(1).
أقول: لزوم التكليف قد يعلّل بجهل الإنسان بجميع ما يصلحه و يكمله، و قد يعلّل بعدم تحقّق الداعي إلى إتيانه و أدائه، لمكان الغرايز الكاملة في الإنسان المنافية للالتزام بما يوجب رشده و كماله. و إنّما يضمن الداعي، الاعتقاد بالمبدء و المعاد و استحقاق و الثواب و العقاب.
ص: 15
و الكلام في تحقيق هذا الشرط من جهات:
قالوا(1): إنّ الاختلاف الواقع في هذه المسألة يرجع إلى أقسام أربعة:
احدها: ما يقع في باب العقائد.
ثانيها: ما يقع في التبليغ.
ثالثها: ما يرجع إلى الأحكام و الفتيا.
رابعها: ما يتعلق بأفعال النبي و سيرته.
أمّا الاول فالكفر و الضلال في العقائد منفيان عن الأنبياء (عليهم السلام) بإجماع الأمة قبل النبوة و بعدها، سوى ما حكي عن الأرزاقه من الخوارج من تجويز الذنب عليهم مع أن كل ذنب عندهم كفر، فلزمهم تجويز الكفر عليهم (عليهم السلام) و قيل: إنّ المجوزين الفضيلية (الفضلية) هي فرقة من الأزارقة؛ و نسب الرازي إليهم القول بوقوع الذنب من الأنبياء ثم قال: هذا المناسب. و أجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية.
أقول: و قد تبعه في هذه النسبة غير واحد من الأشعريين و سبقه بعض المنحرفين، و قد ردّ عليه غير واحد من أعلام الإمامية بأنّه افتراء، بل عن المحقق الطوسي (قدس سره): ممّا اتفق عليه كلمة الأمة عدم جواز التقية و السهو و النسيان على الأنبياء؛ لفوات الغرض(2).
ص: 16
نعم قد تقدّم في بحث صدقه تعالى(1) بعض الروايات الصحيحة من طريق العامة الدالة على تقية النبي (ص).
أمّا الثاني فقد اتّفقت الأمة - بل جميع أرباب الملل و الشرائع - على وجوب عصمتهم من الكذب و التحريف فيما يتعلّق بالتبليغ عمداً و سهواً، إلاّ القاضي من الجمهور فإنّه جوّز ما كان ذلك على سبيل النسيان و فلتات اللسان، و يظهر من الرازي أنّ القائل به جماعة، ثم استدلّ على بطلانه بقوله: و الا لارتفع الوثوق بالأداء. لكن غير منتج على بنائه من إنكار الحسن و القبح العقليين.
أما الثالث و هو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنّه لا يجوز خطؤهم فيه عمداً (هكذا) و سهواً خلافاً لجماعة من العامّة حيث جوزوا خطأهم (عليهم السلام) سهواً.
أقول: ذكر هذا القسم في كلمات بعض أصحابنا لم يقع في محلّه؛ لأنّا نجلل النبي الأعظم - و كذا غيره من الأنبياء العظام صلى الله عليهم - من الفتوى و استنباط الحكم من الادلة كالمجتهدين، فإنّه لا ينطق إلا عن وحي أو إلهام واضح.
أمّا الرابع و هو العمدة فقد اختلفوا فيه على أقوال خمسة:
القول الاول: ما عليه الامامية، و هو أنّه لا يصدر منهم ذنب لا صغير و لا كبير لا عمداً و لا نسياناً و لا خطأ في التأويل و لا للاسهاء من الله سبحانه، بل السهو و النسيان منفيان عنهم (عليهم السلام) و لو في الأمور المباحة، فإنّ أكثرهم - كما يقول المجلسي (رحمه الله) - ادّعوا: الإجماع على نفيهما. و لم يخالف في هذا - على المشهور - إلا الصدوق و شيخه محمد بن الحسن بن الوليد - رحمهما الله - فإنّهما جوّزا الإسهاء من الله لا السهو الذي يكون من الشيطان، و لا فرق في ذلك كلّه عندهم بين الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام).
القول الثاني: أنّه لا يجوز عليهم الكبائر و يجوز عليهم الصغائر و لو عمداً كما ذكر الرازي، إلا الصغائر الخسيسة المنفرة كسرقة حبة أو لقمة، و كل ما ينسب فاعله إلى الدناءة و الضعة. و هذا قول اكثر المعتزلة.
القول الثالث: انه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا كبيرة على جهة العمد لكن يجوز على جهة التأويل أو السهو. و هو مذهب أبي علي الجبائي.
أقول: بل هو مذهب أكثر الأشاعرة كما في المواقف و شرحها، قال: قال القاضي و المحققون من الأشاعرة: إنّ العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه، فامتناع
ص: 17
الكبائر عنهم عمداً من السمع و إجماع الأمّة. و أمّا صدورها عنهم سهواً أو على سبيل الخطأ في التأويل فجوّزه الأكثرون، و المختار خلافه. انتهى كلامه.
و قال أيضاً(1): أمّا الصغائر عمداً فجوّزه الجمهور إلا الجبائي، فإنّه ذهب إلى أنه لا يجوز صدور الصغيرة إلا بطريق السهو أو الخطأ في التأويل انتهى.
نعم استثنوا الصغائر الخسيسة و قالوا بعدم جوازها عليهم عمداً و سهواً.
القول الرابع: أنّه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو و الخطأ، لكنّهم مأخوذون بما يقع منهم سهواً و إن كان موضوعاً عن أممهم، لقوّة معرفتهم و علو رتبتهم، و أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم من التحفظ. و هو رأي النظام و جعفر بن مبشر و من تبعهما.
القول الخامس: أنّه يجوز عليهم الكبائر و الصغائر عمداً و سهواً و خطأ. و هو قول الحشوية و كثير من أصحاب الحديث من العامّة.
و أما مبدأ العصمة و أول وقت تحققها فيهم (ع) فأيضاً مختلف فيه، و الإمامية على أنّه من وقت ولادتهم، و كثير من المعتزلة على أنّه من حين بلوغهم، و قالوا: لا يجوز عليهم الكفر و الكبير قبل النبوة، و أكثر الأشاعرة و جمع من المعتزلة على أنّ مبدأ العصمة من حين النبوة و أمّا قبلها فيجوز صدور المعصية عنهم.
هذا تفصيل الاقوال و الآراء في المسألة، و حيث إنّ العبرة بالأدلة لا بأقوال فلا بد لنا من النظر فيما استدلّوا به فنقول:
و هي كثيرة:
1 - ما أفاده سيدنا المرتضى رضى الله عنه في محكي تنزيه الأنبياء من أن جميع ما ننزه الأنبياء (عليهم السلام) عنه و نمنع من وقوعه منهم يستند إلى دلالة العلم المعجز إمّا بنفسه أو بواسطة، فإنّه إذا كان في معنى قوله تعالى: صدقت في انك رسولي و مؤد عني، فلا بدّ أن يكون المعجز المذكور مانعاً عن كذب النبي على الله تعالى فيما يؤدي لقبح تصديق الكاذب عليه تعالى. و أمّا سائر الكبائر فإنّما دلّ المعجز على نفيها من حيث دلالته على وجوب اتّباع الرسول و تصديقه فيما يؤديه و قبوله منه؛ لأنّ الغرض في بعثة الأنبياء (عليهم السلام) و تصديقهم بالاعلام المعجزة هو أن نمتثل بما يأتون به، فما قدح في الامتثال و القبول يجب أن يمنع المعجز منه، فالمعجزة تدلّ على نفي الكذب في التبليغ عنهم بلا واسطة، و على نفي سائر الكبائر بواسطة.
ص: 18
و أمّا إنّ وقوع الكبائر منهم قادح في نفوذ كلمتهم فهو واضح؛ اذ لا شبهة في أن من نجوّز عليه كبائر المعاصي و لا نأمن منه الإقدام على الذنوب لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله و استماع وعظه سكونها إلى من لم نجوّز عليه شيئاً من ذلك، و هذا معنى قولنا: إنّ وقوع الكبائر ينفّر عن القبول، و امرجع في التنفير و عدمه إلى العادات و ليس ممّا يستخرج بألادلة و المقامييس، و من رجع إلى العادة علم ما ذكرنا.
فإن قيل: أليس قد جوز كثير من الناس على الأنبيا (عليهم السلام) الكبائر مع أنّهم لي ينفروا عن قبول أقوالهم؟
قلنا: إنّا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق و أن لا يقع امتثال الأمر جملة، بل أردنا ان سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حدّ سكونها إلى من لا نجوّز ذلك عليه و هذا ممّا لا شك فيه.
و من هنا ينبثق أنّ الكبائر قبل النبوة و كذا الصغائر قبل النبوة و بعدها منفية عنهم بعين هذا الملاك، ألا ترى أن حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى - و نحن نعرفه مقارناً للكبائر و الصغائر، و إن كان قد فارق جميع ذلك و تاب منه - ليس عندنا و في نفوسنا كحال من له يعهد منه إلاّ النزاهة و الطهارة بالضرورة.
فتحصل أنّ المعجزة تدلّ على نفي الكذب في التبليغ عنهم (عليهم السلام) بلا واسطة، و على نفي سائر المعاصي الكبيرة و الصغيرة و لو قبل النبوة بواسطة، و هي قدح المعاصي في قبول قولهم الذي هو انعائي من بعثتهم و إجراء المعجزة على أيديهم، و الدليل على القدح المذكور أن المعصية منفّرة عن انقياد الناس للعاصي كما هو محسوس من سيرة العقلاء خارجاً.
هذا ملخّص ما ذكره (قدس سره) و هو كلام حسن إلا أنّه يتّجه عليه سؤالان لابد من دفعهما:
أمّا الأوّل: فلأنّ المعجزة تدلّ على نفي الكذب في التبليغ إذا كان عمداً و لا دلالة لها على نفيه سهواً إذ لم يكن بخارج عن نحو المتعارف بأن يكون كثير السهو، ألا ترى أن النبي أو الامام (ع) إذا قال: عليك في أخذ الاحكام من هذا الجالس، مشيراً إلى أحد أصحابه، أو قال: يونس بن عبد الرحمن مثلاً ثقة خذ منه معالم دينك، أو قال: زكريا بن آدم مأمون على الدين و الدنيا، او قال: ما يؤدي عني فلان فعني يؤدي، دلّ ذلك على وثاقة الرجل المذكور و صدقة في كلامه و منطقه، و لا دلالة حسب المتفاهم العرفي على نفي السهو الجزئي عنه أيضاً؟
و على الجملة ننقض كلامه بالرواة و المجتهدين فإنّ الشارع جعل قولهم حجّة مع أنهم يسهون في بعض الأوقات.
و أمّا الثاني فلأن التنفير القادح في غرض البعثة بتاتاً و قبول النبي جملة غير حاصل
ص: 19
من تجويز المعاصي عليه قطعاً و باعتراف منه (قدس سره) أيضاً، و مجرّد حصول بعد ما للمكلفين و عدم حصول شدّة الانقياد و نهاية السكون القلبي اليه من التجويز المذكور غير قادح في الغرض المذكور، فإنّ السبب الغائي هو انقياد المكلّفين و اتّباعهم لنبيهم و قبول قوله، و هذا حاصل و لو بدون الاقربية و أشدية الانقياد أيضاً كما يشاهد في اتّباع الملل و الفرق الضالة لرؤسائهم مع تجويزهم المعصية عليهم، بل مع مشاهدة وقوعها منهم في بعض الأحيان، كما اعترف به السيد أيضاً.
نعم من انغمر في المعاصي و الشهوات و ارتكب ما ينافره العقول لكان عمله منفراً للناس عنه، لكن من الضروري أن عدم العصمة لا يستلزم هذه المرتبة لوجود مراتب كثيرة بينهما.
فما هو القادح في الغرض لم يلزم من تجويز المعصية بل من وقوعها في الجملة، و ما هو اللازم منه غير قادح.
و بالجملة: المدار في حصول الغرض و إيصال الاحكام الموظفة الشرعية إلى العباد هو قطع المعذرة و اتمام الحجة بإجراء المعجزة على يد النبي لا غير؛ اذ لا حكم للعقل أزيد من ذلك في صحة المؤاخذة و العقاب، فيوجب متابعة النبي دفعاً للضرر، كيف و لو كان المطلوب أقربية الأمة إلى نبيهم بكل نحو لوجب على الله تعالى اجراء المعجزة على أيدي الأنبياء و الأوصياء في كل زمان و مكان كما لا يخفى، مع ان الامر ليس كذلك بل يمكن أن يقال بعدم العبرة بالتنفير أصلاً بعين ما ذكرناه في نفي اعتبار بالأقربية من عدم دلالة العقل عليه و أنّ المناط كل المناط هو إتمام الحجّة بالمعجزة و ما في حكمها من التنصيص، نعم إنّ الله تعالى لفضله العميم لي يبعث نبياً فيه ما يوجب تنفير الناس، و هذا أمر آخر، فافهم و تدبّر.
2 - ما ذكره المحقق اللاهجي(1) من أن العصمة للمكلفين. و اللطف واجب على الله تعالى، فليزم عليه إرسال النبي المعصوم. امّا الصغرى فلحصول تمام الوثوق بأفعاله و أقواله فيكون المكلف اقرب إلى قبول قبوله، و لا فرق في ذلك بين الصغار و الكبائر، و لا بين ما بعد البعثة و ما قبلها. و أمّا الكبرى فقد تقدم برهانها. و الصغرى منقوضة بوثوق الملل المختلفة برؤساي مسالكهم وثوقاً تاما، و هذا محسوس و مشاهد.
أقول: قد عرفت منا فيما سبق عدم تمامية الكبرى و عدم وجوب اللطف عليه تعالى.
3 - ما ذكره جماعة من أن الغرض من بعثة الأنبياء (عليهم السلام) لا يحصل الا بعصمتهم، فتجب تحصيلاً للغرض؛ و ذلك لأنّ المبعوث اليهم لوجوزوا الكذب و المعصية على نبيهم لا يحصل لهم
ص: 20
الوثوق بقوله فلا ينقادون له و هذا نقض للغرض.
أقول: هذا الوجه هو الدليل المشهور المتداول في الألسنة، و مفاده إثبات العصمة بعد النبوة ضرورة أن تجويز الذنب و الكذب على أحد في زمان سابق لا يوجب سقوط أقواله الصادرة عنه في زمان وثاقته و عدالته، فكم من رجل لا يسمع كلامه في حين، ثم يصبح أمينا صالحاً معتمداً للناس، و هذا واضح لمن التفت إلى حال العقلاء في الاجتماع و نظام المعاملات. فلا يصح أن نعتمد عليه في إثبات العصمة قبل النبوة، بل لا يثبت به العصمة في غير ما يتعلّق بالتبليغ و بيان الاحكام فقط؛ إذ الذي يتوقّف عليه غرض البعثة هو إيصال الأحكام إلى الناس و هو يتوقّف على اعتمادهم على النبي و وثاقته عندهم.
و أمّا الافعال فإن فرضنا عدم حجّيتها في حقّ الأمة فلا يلزم نقض الغرض، و ما أفاده العلامة الحلّي (قدس سره) في شرح التجريد من مأمورية الأمم باتّباع أفعال الأنبياء أيضاً فمع تجويز المعصية عليهم لا ينقادون، غير متين فإنّا نطالبه بدليل هذه المأمورية لجميع الأمم قبل إثبات عصمتهم في افعالهم (عليهم السلام).
و على فرض صحتها نقول: إن المبعوث إليه يسأل عن نبيه: هل فعله هذا راجح ام لا؟ و المفروض عصمته في كلامه و تبليغه.
بل أضف و أقول: إن هذا الوجه لا يثبت العدالة المصطلحة فضلاً عن العصمة المعنونة؛ و ذلك لأن وثوق الناس بأحد في أقواله معلول اجتنابه عن الكذب، فمن ظهر صدقه يعتمد العقلاء على أقواله و إن كان منحرفاً في بعض أفعاله، و هذا مما لا يقبل الترديد كما يظهر من سيرتهم القطعية المحسوسة في كل يوم.
4 - النبي يجب متابعته للاجماع و لقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي)(1)، و لا فرق بين نبيّنا و سائر الأنبياء (عليهم السلام) في ذلك، فإذا فعل معصية فإما أن يجب متابعته أو لا، و الثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة و لوجوب المتابعة كما عرفت، و الأول فاسد لحرمة فعل الحرام(2).
أقول: لقائل أن يلتزم بالشقّ الثاني فإنّ الواجب هو متابعة النبي في أقواله دون أفعاله، و لا ينتفي بذلك فائدة البعثة كما لا تنتنفي بعدم المتابعة في أفعاله العادية كأكله و شربه و تكلّمه مع
ص: 21
زوجته و أطفاله و نومه و نحو ذلك، فإنّ متابعته في أمثال ذلك غير لازمة قطعاً. و بالجملة: لا دليل على وجوب متابعة الأمم لأنبيائهم في أفعالهم، و على فرض وجوده فهو محمول على الأفعال الجائزة قطعاً. فهذا الدليل أيضاً لا يفيد، مع أنه لو تمّ لدلّ على عدم صدور الحرام أو ترك الواجب عنهم (عليهم السلام) عمداً و جهاراً بمحضر من الناس بعد النبوة و هو أخص من دعوانا، بل هو ليس من العصمة بشيء كما لا يخفى.
5 - لو صدر عنه ذنب لوجب منعه و زجره؛ لعموم أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لكنه حرام لاستلزامه إيذائه المحرم بالاجماع؛ و لقوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ)(1).
أقول: مفاده عدم وقوع الذنب من النبي بعد نبوته عمداً و جهاراً بمحضر من الناس، لا قبلها أو بعدها سهواً أو نسياناً أو خفاءً، و هذا كما ترى أجنبي عن العصمة، فهذا كالوجه السابق لا يرتبط بالمدعى مع أنه غير تام في نفسه أيضاً، لنقضه بالمؤمن فإن إيذاءه أيضاً حرام فتأمبل(2) و حلّه بتخصيص حرمة الإيذاء بغير صورة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و انصرافها عنهما كما هو الصحيح.
و الحق أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يستلزمان أذية النبي فإنه يرتدع بأول مراتب الأمر و النهي المذكورين، و إنما الموجب للأذية بعض مراتبهما، إن وجب.
6 - لو صدر عنهم الذنب لزم كونهم أقل درجة من عصاة الأمة، فإن درجاتهم في غاية الرفعة و الجلالة، و نعم الله سبحانه عليهم - بالاصطفاء على الناس، و جعلهم أمناء على وحيه، و خلفاء في عباده و بلاده و غير ذلك - أتم و أبلغ، فارتكابهم المعاصي و الاعراض عن أوامر ربهم و نواهيه لللذة الفانية أفحش و أشنع من عصيان هؤلاء، و لا يلتزمه متدين.
أقول: مفاده عصمتهم (عليهم السلام) من الصغائر و الكبائر بعد النبوة جهراً وسراً بنحو التعمّد، لا قبلها، و لا بعدها سهوا.
و يمكن أن يورد عليه بأن هذا البيان إنما يتمّ إذا فرض كثرة معاصيهم و عدم مبالاتهم بها، و أمّا إذا فرض صدور شيء عنهم مسبوقاً بالتوبة و الإنابة محفوفاً بالعبادات الكثيرة و بالمصاعب الواردة عليهم من ترويج الدين و إصلاح حال الضالين فلا يلزم ما ذكر، و ليس عدم العصمة ملازماً للمرتبة الاولى كما هو أوضح من أن يخفى. و نظير ذلك صدور الذنب عن العلماء العظام و الصلحاء في بعض الأوقات؛ حيث يتوبون إلى الله و يتضرّعون و يتداركونه بالأعمال الكثيرة،
ص: 22
و لا شك في أنهم أعلى درجة من الجهّال و العوام. و هذا غير خفي.
7 - لو صدر عنهم الذنب لزم ردّ شهادتهم؛ لقوله تعالى: (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(1)؛ و للإجماع على عدم قبول شهادة الفاسق، فيلزم أن يكون أدون حالاً من آحاد الأمة، مع أن شهادته تقبل في الدين القويم، و هو شاهد على الكل يوم القيامة، قال الله تعالى: (لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ)(2).
أقول: يدلّ هذا الوجه على عصمتهم فيما بعد النبوة عن المعاصي عمداً.
و لأحد أن يعترضه بأنّه لم تمّ لدلّ على اشتراط العصمة في الشاهد و قبول شهادته، و هو مقطوع الفساد، و السرّ في ذلك أنه ألغيت الواسطة - في هذا الوجه - بين المعصوم و الفاسق، و هو العادل، و من يقول بعدم العصمة لا ينكر عدالتهم، المسوغة لقبول شهادتهم، و من الواضح أن ملكة العدالة لا تنافي الذنب أحياناً، على نحو فصل في علم الفقه.
و أمّا الاستدلال بالآية فهو غريب لاستلزامه عصمة جميع الأمة، فإنهم شهداء على الناس يوم القيامة. و تحقيق المقال؛ أنّ العدالة تعتبر في الشاهد حين الأداء دون التحمّل بلا خلاف اجده، بل عليه الإجماع بقسميه كما في الجواهر، فالآية المباركة تثبت عدالة الشهداء يوم القيامة، و هي بمراجل عن المقام.
8 - لو لم يكن معصوماً للزم استحقاقه للعذاب و اللعن و اللوم لعموم قوله تعالى: (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ)(3). و لعموم قوله: (أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ)(4) و التالي باطل ضرورة و إجماعاً، فكذا المقدّم.
أقول: مفاده عصمة النبي بعد نبوّته عن الكبائر عمداً؛ إذ قبلها لا إجماع و لا ضرورة؛ إذ لا قائل به سوى الإمامية، و لعلّ المستدلّ أيضاً ادّعى إجماعهم عليه، و الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر كما نص عليه القرآن، إلا أن يدّعى أنه لم يثبت في غير الشريعة الإسلامية.
أقول: بطلان التالي إنما هو لأجل العصمة فهو متفرّع على الدعوى لا أنّه مثبت لها، فالأولى أن يدّعى الإجماع على المقدم ابتداءً، فيرجع إلى الوجه الثامن عشر الآتي إن شاء الله.
و أعلم أنّ التالي يتضمّن استحقاق العذاب و اللعن، و الأول يرتفع بالتوبة، و الثاني غير ثابت،
ص: 23
و التمسك بقوله تعالى: (أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ)(1) أمر عجيب و إليك تمام الآية: (وَ يَقُولُ اَلْأَشْهٰادُ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلىٰ رَبِّهِمْ أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ * اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ)(2). نعم ورد اللعن على الكاذبين فى القرآن.
و هذا صريح في أن الملعون هو الكافر لا مطلق من صدر عنه الذنب و لو نادراً(3). و هكذا الآية الأولى بقرينة الخلود.
9 - إن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فهم لو لم يطيعوا لدخلوا تحت قوله تعالى: (أَ تَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتٰابَ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ)(4). و اللازم باطل إجماعاً؛ و لأنه من أعظم المنفرات إذ كلّ واعظ لم يعمل بما يعظ الناس به لا يرغب الناس في الاستماع منه و في حضور مجلسه.
أقول: مدلوله عصمة النبي بعد نبوته عن المعاصي عمداً..
و اعلم أن أكثر الوجوه المستدلّ بها على عصمة الأنبياء (عليهم السلام) مبنية على إهمال الواسطة بين المعصوم و الفاسق المتجاهر بالفسق و الفاجر، و إلاّ فمع الالتفات إليها - و هي العدالة المقررة في علم الفقه - تسقط الوجوه المذكورة و لا تصلح للاستدلال بها كما لا يخفى على أولى النهى.
10 - إن الله تعالى حكى عن إبليس قوله: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ)(5) فلو عصى نبي لكان ممن أغوه الشيطان و لم يكن من المخلصين، مع أن الأنبياء (عليهم السلام) من المخلصين إجماعاً و لقوله تعالى: (وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ * إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ * وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ)(6). و إذا ثبت وجوب العصمة في البعض ثبت في الكلّ لعدم القائل بالفرق.
أقول هذا كسابقة في المفاد.
و يمكن أن يستشكل بعدم منافاة الإخلاص مع صدور ذنب في بعض الأحيان متداركاً بالتوبة و الإنابة؛ و لذا لا يصدق على الشخص العادل عنوان «الغاوي»، و إن صدر عنه الذنب في
ص: 24
بعض الأوقات، و يؤيده قوله تعالى في جواب إبليس: (قٰالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(1)، أن الصلحاء و عدول المؤمنين لا يكونون من أهل جهنم و لا هم من تابعي الشيطان.
و على الجملة: دعوانا رفع الغواية بما هو أدون من مرتبة العصمة فتأمل(2).
11 - لو لم يكن معصوماً لدخل في حزب الشيطان، و قد قال الله تعالى: (أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ)(3).
أقول: بطلان الملازمة واضح مما تقدم من أن العلماء و العدول و الشهداء الصالحين و المجاهدين المتقين غير المعصومين، لا يعدون من حزب الشيطان، بل حزبه من قال بمقالته و رضي بعمله. و هؤلاء من حزب الله المفلحين.
12 - الرسول أفضل من الملك على ما يأتي، و لو صدر العصيان عنه لامتنع كونه أفضل منه لقوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ)(4).
أقول: و يزيفه ما زيف الوج السادس فلاحظ.
13 - النبي لو كان غاصباً لكان من الظالمين، و قد قال الله تعالى: (لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ)(5).
أقول: هكذا في البحار(6) و ضعفه واضح؛ لعدم الملازمة بين عدم العصمة و الغصب، لكن الظاهر أنه من غلط النسّاخ و أن الصحيح جعل العصيان بدل الغصب، فحينئذٍ نظم الاستدلال و مفاده و مفاد سابقه عصمة النبي عن المعاصي بعد النبوة عمداً.
و الحق: أن الآية تدلّ على العصمة في الجملة و سيأتي تحقيقها في عصمة النبي الخاتم (ص) فانتظر. مع أن المراد ظاهراً بالعهد هو الامامة الفائقة على النبوة كما يأتي بحثه.
14 - قال تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (7)
ص: 25
و الأنبياء من ذلك الفريق بالاتفاق.
و فيه: أنّه يدلّ على إيمان الأنبياء لا عصمتهم؛ اذ الظاهر ان كلمة «من» للتبيين دون التبعيض، كما يظهر من ملاحظة ما قبل الآية الشريفة، ثم على فرض كونها لتبعيض لا تدل أيضاً على المراد كما يظهر وجهه مما سبق.
15 - إن النبي لو كان يخطئ لاحتاج إلى من يسدده و يمنعه عن خطئه و ينبهه على نسيانه، و هذا المسدّد إن كان معصوماً ثبت المطلوب، و إلاّ فيتسلسل.
أقول: يدلّ هذا الوجه علي نفي السهو و النسيان عنه بعد النبوة في التبليغ. لكن لزوم المسدد في فرض عدم كثرة السهو و النسيان محتاج إلى دليل مفقود، و قد مرّ بعض الكلام عليه في الوجه الأول.
16 - إنه يقبح من الحكيم أن يكلّف الناس باتّباع من يجوز عليه الخطأ فيجب عصمته.
أقول: العوام مأمورون باتّباع المجتهدين، و المجتهدون مكلّفون بالعمل برواية الرواة مع عدم عصمة العلماء و الرواة، و ربّما ينجّر الكلام في هذا الوجه إلى الحكم الواقعي و الظاهري المقرّر في أصول الفقه مفصلاً.
17 - تواتر الأخبار اعلى ذلك، ادّعاه، بعض الفضلاء السادة(1).
أقول: لم أفز بها إلى الآن مع شدّة الفحص، و هذا العلامة المجلسي (قدس سره) يقول باستفاضة الأخبار في موضع من البحار(2) و بتظافرها في موضع آخر(3)، و ما وجدته أنا روايات معدودة:
منها رواية عمارة عن جعفر بن محمد عن أبيه (ع) قال: إن أيوب ابتلي سبع سنين من غير ذنب، و إن الأنبياء لا يذنبون؛ لأنهم معصومون مطهّرون، لا يذنبون و لا يزنون و لا يرتكبون ذنباً صغيراً و لا كبيراً(4).
و منها قول الرضا (ع) كما في رواية فضل بن شاذان الطويلة؛ و كان الصانع متعالياً عن أن يرى، و كان ضعفهم و عجزهم عن ادراكه ظاهراً لم يكن بدّ من رسول بينه و بينهم معصوم يؤدّي اليهم أمره و نهيه و أدبه(5).
و رواية الهروي عن الرضا (ع): و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير
ص: 26
أمر الله عز و جل، فلما أهبط إلى الارض و جعل حجّة و خليفة عصم بقوله عزّ و جل: (إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ)(1).
و رواية علي بن محمد بن الجهم عنه (ع): و كان ذلك - أي الأكل - من آدم قبل النبوة، و لم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمّا اجتباه الله و جعله نبياً كان معصوماً لا يذنب صغيرة و لا كبيرة(2).
أقول: و الروايتان الأخيرتان تنافيان ما عن الإمامة من عدم جواز المعاصي و لو صغيرة على الأنبياء و لو قبل نبوّتهم. و هذه الروايات لا تصلح لاثبات عصمة الأنبياء.
18 - أمر الله تعالى بإطاعتهم: (أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ)(3) و هو يدل على عصمتهم؛ إذ لا يعقل إطاعة الناس للفاسق بل لا للناسي و الساهي.
أقول: قد مر جوابه. و اطلاق الاطاعة لا تكشف عن العصمة كما توهّم، بل هو مقيد بلزوم اتيان الواجبات و ترك المحرمات الواقعية عند المكلّفين جمعاً بين الأدلّة، على أن الظاهر من الآية بقرينة (منكم) إرادة أولى الأمر الموجودين في زمان النبي (ص) و من القطعي عدم عصمتهم كلّهم.
و هنا وجوه اخرى استدل بها أصحابنا و غيرهم على المدّعى و لكنها أيضاً غير سالمة من النقاش و الإشكال فلاحظ تفاسيرهم و كتبهم الكلامية.
19 - الإجماع القطعي على عصمتهم، ادّعاه جمع من الأقطاب و الأركان كالشيخ الصدوق و السيد المرتضى و العلامة المجلسي و غيرهم (رحمه الله). قال شيخنا الصدوق رضى الله عنه: اعتقادنا في الأنبياء و الرسل و الأئمة و الملائكة (عليهم السلام) أنهم معصومون مطهّرون من كل دنس، و أنهم لا يذنبون ذنباً صغيراً و لا كبيراً، و لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون. و من نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم.
و قال المحدث المجلسي (قدس سره): إن العمدة فيما اختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء و الأئمة من كلّ ذنب و دناءة و منقصة قبل النبوة و بعدها، و قول أئمتنا سلام الله عليهم ذلك، المعلوم لنا قطعاً بإجماع أصحابنا رضى الله عنه مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتّى صار من قبيل الضروريات في
ص: 27
مذهب الإمامية(1).
أقول: هذا الوجه كبعض الوجوه المتقدّمة، لا يثبت اشتراط العصمة في النبوة كما هو المبحوث عنه في هذا المقام بل عصمة الأنبياء و الأئمة خارجة، و كم فرق بين المقامين.
ثم إن للشيخ المفيد (قدس سره) كلا ما لا ينبغي إهماله، قال: إن جميع أنبياء الله صلى الله عليهم معصومون من الكبائر قبل النبوة و بعدها و ممّا يستخف فاعله من الصغار كلّها، و أمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله من الصغائر كلّها، و أمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة و على غير تعمّد، و ممتنع منهم بعدها على كل حال، و هذا مذهب جمهور الإمامية، و المعتزلة بأسرها تخالف فيه(2).
و قال في مقام آخر في حق الائمة (عليهم السلام)... معصومون كعصمة الأنبياء، و إنهم لا يجوز منهم صغيرة الا ما قدمت ذكر جوازه على الأنبياء(3).
فقد جوّز صدور الصغائر عن الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) قبل نبوّتهم و ولايتهم على جهة غير التعمد، و إنما استثنى النبي الخاتم (ص) وحده حيث قال: إن نبينا محمداً (ص) ممن لم يعص الله عز و جل منذ خلقه الله عز و جل إلى أن قبضه و لا تعمّد له خلافاً، و لا إذنب ذنباً على التعمد و لا النسيان، و بذلك نطق القرآن و تواتر الخبر عن أهل محمد (ص) و هو مذهب جمهور الإمامية، و المعتزلة بأسرها على خلافه... فقال عز و جل اسمه: (وَ اَلنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ * مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ)(4). فنفى بذلك كلّ معصية و نسيان(5). انتهى.
فتراه لم يلحق الأنبياء (عليهم السلام) بنبينا الخاتم (ص) في ذلك ناسباً الفرق و عدم الإلحاق المذكور إلى جمهور الإمامية، مع أن كلام الصدوق و المجلسي - كما مر نقله - صريح بخلافه.
هذا وله كلام آخر في شرحه على عقائد الصدوق يخالف هذا المقال، قال: و الأنبياء و الأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوّتهم و إمامتهم من الكبائر كلها و الصغائر، و العقل يجوز عليهم ترك المندوب اليه على غير التعمد للتقصير و العصيان و لا يجوز عليهم ترك مفترض،
ص: 28
لأن(1) نبينا (ص) و الائمة (عليهم السلام) من بعده كانوا سالمين من ترك المندوب و المفترض قبل حال إمامتهم و بعدها(2). انتهى كلامه.
فقد خصص العصمة قبل النبوة و الإمامة بالنبي الأعظم (ص) و الأئمة من بعده، و لم يعتقد بعصمة الأنبياء قبل نبوّتهم لكن لم يذكر جواز الصغيرة التي لا تستخف فاعلها على الأئمة (عليهم السلام) فلاحظ و تأمل و الله العالم.
و بتعبير آخر أن هنا بحثين:
الأول: اشتراط العصمة في النبي و أنّ النبوّة هل تسلتزم العصمة أم لا؟
الثاني: عصمة الأنبياء خارجاً.
أمّا الأول فمقتضى ما تقدم من أدلتهم هو تمكّن النبي من تلقي الوحي و تحمله، و عصمته من الكذب في أدائه، و عدالته في أفعاله بعد تشرّفه بدرجة النبوّة لا غير، نعم لا دليل آخر يثبت اشتراط العصمة في النبي و الإمام، و سندرسه في مقصد الإمامة عند البحث عن شرائط الإمام على مذاق العامة إن شاء الله.
و أمّا الثاني فيدلّ على صحّته و تحقّقه إجماع الإمامية على ما مرّ، و مما يؤكد هذا الإجماع تصدّي معظم علماء الاسلام - على اختلاف مشاربهم - لتوجيه الآيات القرآنية الدالة على صدور بعض المعاصي عن بعض الأنبياء الكرام (عليهم السلام) و حملها على محامل غير منافية لعصمتهم، على حذو توجيههم الآيات الدالة على تجسّمه تعالى، و هذا أكبر شاهد على أن عصمة الأنبياء (عليهم السلام) مما ارتكز عليه أذهان المتشرعة، و ليس تركيزها إلاّ من قبل الشرع، كيف و لو لاه لما اتّفق المفسرون و غيرهم على رفع اليد عن ظواهر تلكم الآيات الشريفة.
ثم إني لا أظن بالمطالع الفطن أن يتوهّم كون هذا الإجماع دورياً، بدعوى أن حجية الإجماع - عند أهل الحق - من جهة كشفه عن رضا المعصوم، و المفروض أن الكلام في العصمة نفسها، فإنّ فساد هذا التوهم بمكان من الظهور؛ إذ عصمتهم (عليهم السلام) في التبليغ و بيان ما هو راجع إلى الشريعة ثابتة عقلاً كما مر، فيكون قولهم بعصمتهم في أفعاله حجة لا محالة. و إذا انضم إلى الاجماع المذكور الروايات الواردة في المسألة كما ذكرناها في الوجه السابع عشر يصبح المطلوب اظهر(3). ثم انه يمكن أن يقال: إن الإجماع و الأخبار إنما دلّا على عصمة الأنبياء من
ص: 29
حيث إنهم أنبياء فيدلان على اشتراطها في النبوة و الامامة أيضاً، فيتّحد البحثان. فتأمل.
و هنا وجه آخر يثبت عصمتهم، و هو أن القرآن يثبت العصمة لمريد أم عيسى (ع) فبطريق أولى يكون الأنبياء معصومين. لكن في القرآن آيات تنافي العصمة في الجملة، و لم نبحث عنها في هذا الكتاب.
و يجوز أيضاً أن نستدل عليها بالأخبار التي ذكرناها في الجزء الثاني و هي أخبار الطينة؛ و سنشير إليها إن شاء الله فيما بعد و هي تثبت عصمتهم من العصيان من الأول إلى الآخر.
نعم، من لا يحصل له العلم بالمدّعي بماله من الحدود، من الأدلّة المشار إليها فلا بد له من التوقّف، و أن يعتقد في المسألة ما يعتقده صاحب العصر الحجة بن الحسن المهدي - عجّل الله تعالى فرجه الشريف - فإن اعتقاده هو الواقع المطابق لما يعتقده جدّه النبي الأعظم (ص) و اعتقاده (ص) صرف الحق و متن الواقع. و الله ولي العصمة و الهداية.
الجهة الثالثة من الجهات الباحثة عمّا يتعلق بالعصمة، في تحقيق معناها و توضيح مفهومها.
فنقول: عرفت العصمة بتعاريف، فقيل: إنّها ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها.
و قيل: إنّها ملكة تمنع الفجور، و يحصل بها العلم بمعايب المعاصي و مناقب الطاعات.
و قال ابن روزبهان(1): إنّها عند الأشاعرة - على ما يقتضي أصلهم من استناد الأشياء كلها
ص: 30
إلى الفاعل المختار ابتداءً - أن لا يخلق الله فيهم ذنباً.
و عن صاحب الياقوت: أنها لطف يمتنع من يختصّ به عن فعل المعصية.
و قال الشيخ المفيد (قدس سره): هي التوفيق و اللطف و الاعتصام من الحجج بهما عن الذنوب و الغلط في دين الله. و عنه أيضاً: أنّها لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمنع منه وقوع المعصية و ترك الطاعة مع قدرته عليهما.
و عن السيّد المرتضى رضى الله عنه: أنّها لطف يفعله الله تعالى؛ فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح.
و قال المحقّق الطوسي (رحمه الله) في قواعد العقائد: هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه المعاصي من غير إجبار له على ذلك.
و قال العلامة (قدس سره): العصمة لطف خفي يفعله الله بالمكلّف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة و ارتكاب المعصية، مع قدرته على ذلك.
و قيل هي فيض إلهي يقوى بها الإنسان على تحري الخير و تجنّب الشّرحتى تصير كمانع له، و إن لم يكن منعاً محسوساً.
أقول: الثالث باطل أصله، و الأولان لا يلائمان ما عليه الإمامية من مصاحبة العصمة لذيها من أول العمر و حين الولادة؛ إذ كيف تحصل له الملكة الموقوفة على المزاولة و المباشرة التي لا تتحقّق إلا بمرور الزمان.
و يظهر من القاضي الشهيد في إحقاق الحق و بعض متكلّمي العامّة أنّهما من الفلاسفة دون العدلية.
و أما الكلام حول التعاريف المذكورة في كلمات أعلام الإمامية رضى الله عنه فيقع فط ضمن أمور:
الأول: أغلب التعاريف المذكورة يفسّر العصمة باللطف؛ و لا شك أن هذا اللطف أقوى و آكد من اللطف الذي أوجبوه على الله تعالى بالنسبة إلى عامّة المكلّفين؛ فإنّه لا يمنع عن صدور المعاصي و لو كانت كثيرة، لطف العصمة مانع عنها مطلقاً، و فسّر هذا اللطف بعض السادة الفضلاء بقوّة العقل و كمال الفطانة و الذكاء و نهاية صفاء النفس و كمال الاعتناء بطاعة الله.
و قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) في شرح التجريد(1): و أسباب هذا اللطف أمور أربعة:
أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصّة تقتضي ملكة مانعة من الفجور، و هذه الملكة مغايرة الفعل.
ص: 31
الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي و مناقب الطاعات.
الثالث: تأكيد هذا المعلوم بتتابع الوحي و الإلهام من الله تعالى.
الرابع: مؤاخذته على ترك الأولى بحيث يعلم أنه لا يترك مهملاً، بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة، فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الإنسان معصوماً. انتهى كلامه.
أقول: الأمران الأخيران يحتاجان إلى دليل يدلّ عليهما، و أخذ الملكة في الأمر الأول قد عرفت منافاته لمذهب الإمامية. فكأن الأوجه في تفسير اللطف ما ذكره الفاضل المتقدم أولاً.
فالمعصوم لمكان هذه الألطاف الإلهية تنفر نفسه عن مخالفة الله تعالى كما تنفر نفوسنا عن أكل ما تنفر الطباع منه كالجيف و نحوها؛ و لذا يقول يوسف الصديق (ع): (رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي)(1). فتأمل.
الثاني: هل يعتبر في العصمة عدم إرادة العصيان و ترك الطاعة أم لا؟ صريح ما سبق من العلاّمة (رحمه الله) هو الأول، و وافقه المحقق اللاهجي(2) فقال:
اعلم أن العصمة غريزة(3) يمتنع بها صدور داعية الذنب، و بامتناعها يمتنع الذنب مع القدرة عليه، و الفرق بينها و بين العدالة أن العدالة ملكة مانعة عن صدور المعصية في الأغلب لاعن صدور إرادتها، فصدور المعصية مع العدالة غير ممتنعة، لكنّه مع العصمة غير ممكنة و إن كانت القدرة عليها حاصلة، فإن الامتناع بسبب عدم الدّاعي لا ينافي المقدورية. انتهى.
أقول: إن كان قصد المعصية غير محرّم فامتناعه بالعصمة محتاج إلى دليل فتأمل(4)، و إن كان محرّماً فلا بد من امتناعه بملكة العدالة أيضاً. و أمّا حرمة القصد المذكور و عدمها فهي مع طول ذيلها و تعارض أدلّتها غير مربوطة بهذا العلم، فلتطلب من محلّها.
و مهما يكن من أمر، فما ذكره هذان العلمان - و لعلّه مختار الجميع - هو الموافق لقوله تعالى: (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ)(5) فإنّه يدلّ على أنّ إرادة الزنا - و هو ألذّ المشتهيات النفسانية - لم تتحقّق من يوسف (ع) كما عن الرضا (ع) لقد همّت به و لو لا أن رآى برهان ربّه لهمّ بها كما همّ لكنّه معصوم، و المعصوم لا يهمّ بذنب و لا يأتيه، و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (ع) أنه قال: همّت بأن تفعل، و همّ بأن لا يفعل.
ص: 32
و في رواية أخرى عنه (ع) أيضاً... فإنّها همّت بالمعصية و همّ يوسف بقتلها أن اجبرته لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها بسهولة(1).
و لا يخفى أنّ هذه الوجوه الثلاثة ممكنة الانطباق و لا تنافي بينها.
و على الجملة: أن ما يميّز العصمة عن العدالة أمور:
1 - قصد المعصية فإنّه ينافي العصمة، و لا ينافي العدالة بناءً على عدم حرمة القصد المذكور.
2 - إن العدالة مانعة عن المعصية غالباً، و لا ينافيها العصيان ندرة. في حين أن العصمة تمنع كذلك.
4 - صحة تحقق العدالة في كل وقت من أوقات العمر، بخلاف العصمة فإنها من أول العمر.
5 - اختصاص العدالة بالابتعاد عن المعاصي عمداً، و شمول العصمة للاجتناب عنها عمداً و سهواً؛ إذ نفي السهو إما داخل في مفهوم العصمة أو لازم لها.
6 - عدم منافاة الصغيرة للعدالة عند كثير من العلماء، و منافاتها للعصمة.
7 - إمكان معرفة العدالة لكلّ أحد، بخلاف العصمة فإنها مجهولة إلا الله تعالى أو من أخبره الله تعالى.
8 - إمكان استحقاق العادل للعقاب دون المعصوم؛ فإن الذنب النادر لا ينافي العدالة، و لكنه يوجب استحقاق العقاب، و تفرض نسيان العادل عنه لئلا يقال: إنه يتوب.
9 - عدم حجّية قول العادل إلاّ بدليل، بخلاف قول المعصوم فإنّه حجّة بلا شك لإيراثه العلم البتي بالمخبر به. فما ذكره بعض بسطاء العامة من الاعتراف بعصمة أمير المؤمنين و انكار حجية قوله في الشرع تهافت واضح.
10 - قطعية ثبوت العدالة لغير الأنبياء و أئمة آل محمد (ص) و عدم قطعية ثبوت العصمة لغيرهم سوى الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها أي مريم بنت عمران و فاطمة الزهراء.
11 - العدالة كسبية يمكن حصولها لكلّ أحد، و العصمة موهبية من الله تعالى كما يظهر وجهه من تعريفها المتقدّم.
12 - العدالة يجب تحصيلها على كلّ مكلّف فإنّها عبارة عن ارتكاب الواجبات و ترك
ص: 33
المحرمات، و العصمة لا يجب تحصيلها قطعاً و اتفاقاً، بل هي غير اختيارية.
الثالث: المستفاد من التعاريف المذكورة قدرة المعصوم على فعل الحرام و ترك الواجب، فلا تكون العصمة مانعة عن القدرة، و الظاهر أنها مسلّمة بين الإمامية، و قطعية في نفسها أيضاً؛ إذ المعصوم مكلّف، و المكلّف يجب أن يكون مختاراً. و أيضاً قد عوتب بعض المعصومين على بعض أفعالهم و هو دليل الاختيار.
و ذهب قوم إلى أنه غير متمكّن من العصيان لاختصاصه في بدنه أو نفسه بخاصّة تقتضي امتناع إقدامه على المعصية.
و قال بعض المعتزلة: إن العصمة هي القدرة على الطاعة و عدم القدرة على المعصية.
لكن كلا القولين فاسد، بل الثاني تناقض بحت؛ فإن القدرة على الصلاة مثلاً عين القدرة على تركه، فتدبّر.
الرابع: المأخوذ في جملة من التعاريف المذكورة عنوان المكلف، و هذا لا يناسب مذهبهم من إثبات العصمة للمعصوم قبل تعلّق التكليف به، و لا دليل على إسقاط شرط البلوغ في حقه في الأصول و الفروع جملة، و لعلّ نظر من أخذه قيداً إلى زمان تكليف المعصوم؛ لأنه العمدة، أو يقال: إنّه لا تكليف لغير البالغ فلا عصيان بالنسبة إليه فلا يعقل العصمة في حقّه بمعناها المصطلح، و إنما يطلق عليه العصمة في تلك الحال بلحاظ مجرد عدم ارتكابه تلك الأعمال التي يحرم عليه بعد البلوغ(1)، و لكن يشكل الأمر في الواجبات فإنّها مستحبّة للمميّز فيصدق الإطاعة على إتيانها، إلا أن يراد بها الإطاعة الواجبة.
الخامس: المستفاد من أكثر التعاريف أن المعتبر في مفهوم العصمة هو ترك المحرمات و إتيان الواجبات، و أمّا فعل المندوبات و ترك المكروهات فلا يعتبران فيه.
أقول: و الوجوه المتقدمة أيضاً لا تثبت اعتبارهما فيه، غير أنّ الالتزام به مشكل، و لا أظنّ بهؤلاء الفحول الا ما جد أيضاً أن يلتزموا به(2)؛ و لذا اشتهر أنّ فعل المعصوم يكشف عن الرجحان، و هذا لا يتمّ إلا ببطلان احتمال إتيانه المكروه، فتدبّر.
السادس: يفهم من التعاريف المتقدمة أنّ نفي السهو و النسيان مطلقاً غير داخل في العصمة،
ص: 34
و إنّما المعتبر هو إتيان الواجب و ترك الحرام.
نعم، أخذ المفيد (رحمه الله) في تعريفه نفي الغلط في الدين فقط، و لعلّ نظرهم في ذلك إلى أنّه في الواجبات والمحرّمات من لوازم العصمة لا من مقوّماتها لكن فيه نظر، فكان الأنسب بمذهب الإمامية اعتبار نفي السهو و النسيان في تعريف العصمة.
ثم إنّ للمقام ذيلاً طويلاً سنتعرّض له في بحث عصمة النبي الخاتم و الرسول الأعظم (ص) إن شاء الله تعالى. و الحق أن المقام في طوله و عرضه غير واضح، و لا بد للمحقّقين من بحث مستأنف فيه بعيداً من الإفراط و التفريط و لا أرى لزوماً في تقليد المشهور أو المنسوب إلى المشهور. و أنا أقول: و الله العالم. هذا بعض الكلام حول العصمة و هي الشرط الأول في النبي.
و برهانه: أنّ النبي إمّا أن يكون مساوياً لغيره في الفضل، أو أنقص منه، أو أفضل، و لا رابع.
و الأول ممتنع للترجيح بلا مرجّح. و الثاني ترجيح المرجوح على الراجح؛ و هو قبيح أيضاً؛ و يدلّ عليه قوله تعالى: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ)(1).
فيتعين الثالث و هو المطلوب.
قال العلاّمة الحلّي (قدس سره) في شرح التجريد(2): و يدخل تحت هذا الحكم كون الإمام أفضل في العلم و الدين و الكرم و الشجاعة و جميع الفضائل النفسانية و البدنية.
أقول: لا فرق بين الإمام و النبي من هذه الجهة، و إنما خصّصه؛ لأنّه مورد بحثه.
و قال جمع من الفضلاء(3): يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، عالماً بجميع العلوم التي تحتاج رعيّته إليها.
أقول: أمّا ما ذكره العلاّمة فهو ممّا لا دليل عليه، بل الذي يقتضيه البرهان المذكور أفضلية النبي من غيره فيما يرجع إلى الدين فقط لا في جميع الكمالات و الصناعات و كأنّه واضح، بل في التنزيل: (وَ أَخِي هٰارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي)(4). مع أن هارون تابع لموسى (ع) لكونه من أولي العزم. نعم، يفضّل الله أنبياءه بكل ذلك في مقام التحدّي و الإعجاز إذا اتّفق و هذا غير مورد البحث.
ص: 35
و أمّا ما ذكره هؤلاء الفضلاء فالواقع على خلافه فإنّ موسى (ع) من أهل زمان خضر و هارون (ع) مع أنه أفضل منهما، و إبراهيم (ع) من أهل زمان لوط (ع) و هو أفضل منه. و خضر لاختصاصه ببعض الجهات أفضل من موسى في تلك الجهة.
ثم إنّ أصل الدليل القائم على أفضلية النبي غير تام عندنا، و يظهر وجهه لمن راجع ما ذكرناه حول حديث الترجيح بلا مرجّح(1) فإنّه يعرف أن تقديم أحد المتساويين على الآخر إذا كان طبيعي الفعل لازماً و ذا ملاك ليس بقبيح و لا بمحال(2) فالبرهان المذكور لا يثبت إلا عدم كون النبي مفضولاً. و لا ينبغي الغلو و المبالغة في المباحث العلمية لا سيّما الاعتقادية.
نعم، الأمر في الخارج كما ذكروا، قال الله تعالى: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ * وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (3) فكون الأفضلية شرطاً شيء، و كون النبي خارجاً أفضل شيء آخر.
و على الجملة: مقتضى الحكم العقلي عدم مفضولية المبعوث من المبعوث إليهم و ممّن يصحّ بعثه إليهم؛ لئلاّ يلزم ترجيح المرجوح على الراجح، لكنّ الله حيث أعطاه العصمة جعله أفضل أهل زمانه سوى المعصومين الآخرين، بل الأفضلية ثابتة له من أوّل رشده بناءً على أنه معصوم من أول العمر كما عليه مشهور الإمامية. و أمّا نبيّنا الأكرم و أوصياؤه الكرام فهم أفضل من جميع البشر قاطبة كما سيأتي دلائله، و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الشرط الثالث: كمال العقل و الذكاء و الفطنة(4) و قوّة الرأي و عدم السهو
ذكرها جمع منهم المحقق الطوسي (قدس سره) في تجريده.
ص: 36
أقول: اعتبارها في النبي واضح، فإن كلّ عاقل إذا أراد نصب أحد لإكمال أمره لا ينصب إلا من كان لائقاً به و كافياً بشأنه، و إلا لعدّ ناقضاً لغرضه. و كان من السفهاء، فالحكيم القديم إذا أراد هداية قوم و إسعادهم بامتثال قانون شامل لجميع نواحي حياتهم و جهات آخرتهم فلا بدّ أن يرسل شخصاً كاملاً من جميع الجهات المحتاجة إليها هداية الناس.
و عن رسول الله (ص): «اما قسّم الله شيئاً أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل... و لا بعث الله نبيّاً و لا رسولاً حتى يستكمل العقل و يكون عقله أفضل من (جميع عقول) أمته(1)» انتهى.
و المسألة ضرورية أو قريبة منها، نعم في عدّها شرطاً مستقلاًّ نظر؛ إذ الظاهر أنّها راجعة إلى العصمة كما يظهر ممّا تقدم.
و يقصد به تنزّهه عمّا ينفر عنه الطباع كدناءه الآباء و عهر الأمهات و الرذائل و الأفعاله الدالة على الخسّة، كما ذكره جماعة و نقله العلاّمة (رحمه الله) عن الإمامية(2)؛ و ذلك لأنّ النبي إذا كان منفوراً للناس لا ينقادون لأوامره و تكاليفه. و هذا نقض لغرض الواجب الحكيم، و هو لمكان قبحه ممتنع عليه.
أقول: الأوصاف الرذيلة و الأفعال الدنيئة تابعة لغلبة القوة الشهوية أو الغضبية على العاقلة، و حيث إنّ المعصوم عقله يغلب على شهوته و غضبه كما عرفت فلا موضوع لها في حقه.
و أما نفي عهر الأمهات فممّا لا شكّ فيه، فإن الله تعالى لا يجعل نطف أوليائه المصطفين الأخيار إلا في أرحام طاهرة، بل ذكر هذا الموضوع لا يخلو عن سوء أدب بالنسبة إليهم (عليهم السلام).
و بالجملة: ما ذكروه في هذا المقام و إن كان متيناً لكن بملاك ذكرناه دون ملاك التنفير، فإنّ بطلانه غير واضح؛ لما تقدّم من أنّ الغرض يقوم بإتمام بالحجّة و قطع المعذرة، و لا دليل على لحاظ طبائع الناس، بل وظيفة الرسول تعديل طباعهم و تحديد ميولهم؛ و لذا لم يسمع إلى قول القائل: (لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(3) و قولهم: (مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ)(4).
ص: 37
بل ربما يجعل الله صبيّاً مطاعاً و إماماً على الشرق و الغرب كإمامنا الجواد التقي (ع) و النبي المكرّم العظم عيسى بن مريم و النبي الزاهد يحيي بن زكريا (عليهماالسلام)، فتأمل.
فمراعاة طباع الناس في بعض الموارد تفضّل منه تعالى لا أنها واجبة عليه عقلاً.
قال بعض الفضلاء(1): المشهور بين الإمامية، بل حكي عليه الإجماع أنّه يجب تنزيه الأنبياء عن كفر الآباء و الأمهات. و عندي في ذلك نظر؛ إذ لم يتم دليل عقلي قطعي على اشتراط ذلك، و الدليل النقلي إنّما صحّ بالنسبة إلى آباة النبي (ص) دون سائر الأنبياء لا سيّما الخضر (ع) فالتوقف في ذلك أولى، و أمّهات سائر الأئمة (عليهم السلام) لم تكن في مبدأ أمرهن على الإسلام.
نعم، الذي يظهر من النقل و يساعده العقل اشتراط كونهنّ عفيفات طاهرات نجيبات منزّهات و مسلمات حين انعقاد النطفة في أرحامهنّ؛ لأنّ النطفة لمّا كانت دائماً في الأصلاب فينبغي الإسلام بخلاف الأرحام. هذا كلامه.
و المتحصّل عدم الدليل على هذا الشرط، إن لم يكن الدليل القطعي على خلافه. و بالجملة ادعاء الشهرة و الإجماع و الاعتماد على الاستحسانات لا قيمة لها. و ما حصبه هذا الفاضل من الفرق بين الأصلاب و الأرحام شيء مخالف للطب الحديث، بل للواضحات العقلائية أيضاً.
و أما الدليل على إسلام آباء النبي و الأئمة (عليهم السلام) فهو الأخبار المتواترة و إجماع الفرقة المحقّة(2)، كما قيل.
فإن قلت: فما تقول في ولد إبراهيم الخليل (ع)؟
قلت: إنه مسلم موحّد كما يظهر من قوله تعالى حكاية إبراهيم: (رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ)(3) فإن هذا الدعاء صدر منه (ع) في أواخر حياته، كما يظهر من الآيات السابقة على هذه الآية بضميمة مراجعة التفسير و التاريخ، و لو كان والده غير مسلم لما جاز الدعاء له، كما ينطق به القرآن: (وَ مٰا كٰانَ اِسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)(4) و منه يظهر أيضاً أن هذا الأب ليس والد إبراهيم و إنّما هو شخص آخر أطلق اللفظ عليه بعناية و إلا لجاء التناقض بين الآيتين كما
ص: 38
لا يخفى، فافهم(1).
و الحقّ أنّه معرّف للنبي لا أنه شرط لنبوّته، فلو عرفت النبوّة من غير ظهور معجزة وجب التصديق قطعاً، و هذا واضح.
و هو ما ذكره جمع من المعتزلة من لزوم إتيان النبي بشريعة قالوا: لا يجوز أن يبعث إلاّ بشريعة؛ لأنّ العقل كافٍ في العلم بالعقليات، فالبعثة تكون عبثاً.
و يردّه ما مرّ من أنّ النبي يقرّرهم و يثبتهم على العقليات المذكورة، بل ربّما لا يتيسرفهم العقليات لجميع آحاد الأمّة إلا بالرسول، كما يعرف وجهه مما تقدم. و أيضاً النبي كالمرشد لأمّته في نظام اجتماعهم، و مع ذلك يكون قاضيت بين الناس و نذيراً و بشيراً و حافظاً و مبيّناً لشريعة من قبله من أولى العزم سيأتي بيانه، فللنبي فوائد مهمّة لأمّته فلا يكون بعثه عبثاً.
قال المفيد(2): و اتّفقوا - أي الإمامية - على جواز بعثة رسول يجدد شريعة من تقدّم. و اجتمعت المعتزلة على خلافه، هذا تمام الكلام حول ما اعتبروه في النبوّة، و قد عرفت أنّ بعضه غير شرط في النبوّة، و الله العالم بحقائق الأمور.
ص: 39
منصب النبوّة ليس أمراً محسوساً يسهّل تصديق مدّعيه أو تكذيبه، بل هو أمر معنوي لا تناله الحواس، فلا بدّ لإثباته من دليل و إلا لم يثبت، بل لم يجز قبوله للناس، و لا يستحقون العقاب لمخالفتهم مدّعي النبوّة و لو كان محقّاً واقعاً فإنّه من العقاب على أمر على ثابت و هو قبيح.
ثم إنّ الدليل المذكور على قسمين لا ثالث لهما:
و هو تنصيص النبي المعلوم نبوّته على نبوّة شخص آخر فإنّه يثبت نبوّته قطعاً؛ و لا فرق بين كون النبي الناصّ مقدّماً زماناً على النبي المنصوص عليه، و بين كونه متأخّراً كنبيّنا الأعظم (ص) حيث نصّ على من سبقه من الأنبياء الكرام (ع) كافّة، بل لا طريق لنا إلى إثبات نبوّتهم أصلاً سوى نصّ نبيّنا الخاتم (ص) و بين كونه مقارناً له، و هكذا في الإمام عندنا، نعم لا يعقل نصّ الإمام المقارن على إمام آخر في زمانه؛ لبطلان وجود إمامين ناطقين في عصر واحد كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
و هو الأصل العمدة في هذه المسألة، و تحقيق المقام بذكر فوائد:
إنّ الإعجاز في اللغة بمعنى الفوت، و وجدان المعجزة و إحداثه كالتعجيز، يقال: أعجزه الأمر الفلاني، أي فاته و يقال: أعجزته أي وجدته عاجزاً، أو جعلته عاجزاً.
و في الإصطلاح: أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية، بما يخرق نواميس
ص: 40
الطبيعة و يعجز عنه غير شاهداً على صدق دعواه. ذكره بعض أساتذتنا في مدخل تفسيره(1) و عرّفه المحقّق الطوسي بقوله(2): المعجزة هو فعل خارق للعادة يعجز عن أمثاله البشر مقروناً بالتحدي.
أقول: لا بدّ من إضافة قيد آخر عليه كما ذكره في تجريده، و هو مطابقته للدّعوى.
و الأوضح أن يقال: إنّه أمر خارق للعادة صادر عقيب دعوى النبوّة أو الإمامية مطابقاً لها، و لا يمكن لبشر معارضته، و ليس معناه التصرف في الأمور الممتنعة أو الواجبة؛ ضرورة بطلان التأثير و التأثّر في الضروريات، بل لو ادّعى أحد ذلك لكان نفس الدّعوى المذكورة دليلاً على كذبه و بساطته.
و هل الإعجاز بمعنى عدم سبب طبيعي للعمل؛ بل بمجرد إرادة الله تعالى يوجد؟ أم بمعنى وجود علّة مادّية طبيعية خفيّة على الناس؟ فيه وجهان ذهب بعض أعلام العصر إلى الثاني قال(3): قوله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً)(4) يدل على ثاني الوجهين فإنّها (الآية) تدل على أنّ كلّ شيء من المسببات أعمّ من ما تقتضيه الأسباب العادية أو لا يقتضيه، فإنّ له قدراً قدّره الله سبحانه عليه و ارتباطات مع غيره من الموجودات، و إن كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة، فالآية تدلّ على أنّه تعالى جعل بين الأشياء جميعاً ارتباطات و اتصالات؛ له أن يبلغ إلى كلّ ما يريد من أيّ وجه شاء، و ليس هذا نفياً للعلّية و السببية بين الأشياء، بل إثبات أنّها بيد الله سبحانه يحوّلها كيف يشاء و أراد. ففي الوجود علّية و إرتباط حقيقي بين كلّ موجود و ما تقدّمه من الموجودات المنتظمة، غير أنّها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة، بل على ما يعلمه الله و ينظمه.
و هذه الحقيقة هي التي تدلّ عليها آيات القدر كقوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (5) و قوله تعالى: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ(6) و قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّٰى * وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىٰ (7)... فإنّ الآية الأولى و كذا بقيّة الآيات تدلّ
ص: 41
على أنّ الأشياء تنزل من ساحة الإطلاق إلى مرحلة التعيين و التشخّص(1) بتقدير منه تعالى و تحديد يتقدّم على الشيء و صاحبه، و لا معنى لكون الشيء محدوداً مقدراً في وجوده إلا أن يحدّد و يتعيّن بجميع روابطه التي مع سائر الموجودات، و الموجود المادي مرتبط بمجموعة من الموجودات المادّية الأخرى.
و من هنا يستنتج أنّ الأسباب العاديّة التي ربّما يقع التخلّف بينها و بين مسبباتها ليست بأسباب حقيقة، بل هناك أسباب حقيقية مطّردة غير متخلفة الأحكام و الخواص انتهى.
أقول: لا شك أن المعجزة ليست أمراً بلا سبب، و إنّما نقول أن سببها غير عادي و مألوف، و الألم يكن معجزة كالأقمار الصناعية و التلفزيون و جملة من المخترعات المعقدة اليوم، بل سببها غير عادي. سواء أكان مادياً أو غير عادي حسب اختلاف الموارد، فالمعجزة - كفيرها - لا تنقض قانون العلية العامة.
و هي أمور:
1 - إمكان الدّعوى التي أقيمت لأجلها المعجزة عقلاً و نقلاً، فلو ادّعى أمراً على خلاف العقل و النقل يكون نفس الدّعوى باطلة و مبطلة لمعجزة فلا يسمع قوله، كما إذا ادّعى أحد أنّه قديم أو أنّه شريك للواجب أو أدّعى - في هذه الأعصار التي أصبحت خاتمية نبيّنا الأكرم (ص) من ضروريات الدين - النبوة فإنّه لا شكّ في بطلان معجزة.
2 - صدور المعجزة لإثبات دعوى منصب من المناصب الإلهية(2)، و إلاّ فهي موسومة بالكرامة دون المعجزة اصطلاحاً، و هذا كخوارق العادات الصادرة من أولياء الله الذين جعلوا أهواءهم تابعة للتكاليف الدينية الإلهية مع عدم ادّعائهم شيئاً من المناصب الربّانية. و هي قطعية؛ للنقل المتواتر، و لدلالة القرآن عليها كما في قصّة آصف بن برخيا، و مريم ابنة عمران، فلا مجال لتشكيك في صحة الكرامات المذكورة و صدورها عن الصالحين.
فما من جماعة من المعتزلة أو مشهورهم: من منع إجراء الخوارق المذكورة على أيدي غير
ص: 42
الأنبياء، مستدلّ عليه باستلزامه انحطاط رتبة الأنبياء، و التنفير عنهم لاشتراك غيرهم معهم إذا حينئذٍ في العلة الموجبة للطاعة، أعني المعجزة. و باستلزامه كثرة وقوعها الخارجة عن حد الإعجاز، و باستلزامه عدم امتياز النبي عن غيره، و باستلزامه عدم دلالتها على صدق مدّعى النبوّة حينئذ لثبوتها في غيره أيضاً، و العامّ لا يدلّ على الخاصّ، و باستلزامه جريانها على يد كلّ صادق إذا جرى على يد بعضهم بعدم الترجيح، ضعيف جداً.
أما الدّعوى نفسها فلما عرفت.
و أما الأدلّة فيزيف أوّلها و ثانيها بقلّة هؤلاء الرجال الأوحديين في كلّ عصر و مصر، و بندرة جري الكرامة على أيديهم، و ثالثها و رابعها بخروجهما عن محلّ الكلام، فإنّ النبي يدّعي منصباً، و الولي لا يدّعيه كما هو المفروض. و خامسها بأنّ جريانها إنّما هو على يدي بعض الخلّص من الصلحاء لا على يدي كلّ صادق. فهذه التلفيقات واهية لا يعتنى بها.
فالمتحصّل: أنّ المعجزة تصديق لدعوى النبي، و الكرامة تكريم لشأن الولي.
3 - صدورها بعد الدّعوى لا قبلها بكثير، و إلاّ كانت إرهاصاً لا إعجازاً، كتكلّم عيسى في المهد، و انكسار إيوان كسرى، و غور ماء بحر ساوه، و تسليم الأحجار، و تظليل الغمام من الشمس و غيرها على الرسول الخاتم (ص) على ما حكي. و إنّما سمّيت إرهاصاً؛ لأنّها تصدر لتأسيس النبوّة التي يدّعيها فيما بعد؛ إذ معنى الإرهاص هو التأسيس و الجعل. و فسّره اللاهيجي و غيره بالانتظار، لكن فيه نظر.
و الفرق بين الإرهاص و الكرامات - مع اشتراكهما في عدم الدّعوى معهما - تعقب الدّعوى في الأول دون الثاني. و ربّما يطلق الكرامة على الإرهاص و لا مشاحّة في الاصطلاح، ثم إنّ المانعين عن الكرامات قد اختلفوا هنا فجوّزه بعضهم و أنكره الآخرون(1).
4 - كونها مطابقة للدّعوى، و إلا فتسمّى مكذبة كما في قصّة مسيلمة، فقد نقل - و الله العالم - أنّه لما ادّعى النبوّة، فقيل له: إنّ رسول الله (ص) دعا لأعور فردّ الله عينه الذاهبة. فدعا مسيلمة لأعور فذهبت عينه الصحيحة! و إنّه تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء! و إنّه أمرّ يده على رؤوس صبيان بني حليفة و حنّكهم، فأصاب القرع كلّ صبي مسح رأسه، و لئع كلّ صبي مسح حنّكه! فمثل هذا العمل الخارق للعادة يكذب صاحبه و إن يعجز غيره.
و من المكذبة أن يقول المدّعي: أنا أنطق هذا الشجر فنطق الحجر، أو نطق الشجر لكن
ص: 43
بتكذيبه. و فائدة المكذّبة مع أن عدم جري المعجزة دليل على كذبه، كونها أبلغ في بطلان الدّعوى و أظهر في كذبه، فليست بلغو كما زعمه مانعوا الكرامات و حكموا بامتناعها لأجل ذلك.
5 - اقترانها بالتحدي بأن يقول للمخاطبين: إن لم تقبلوا قولي فافعلوا مثل هذا الفعل، كما ذكره المحقق الطوسي و قال: الفعل الخارق الذي يظهر على يد أحد من غير التحدّي يسمّى بالكرامة، و هو مختصّ بالأولياء.
بل ظاهر القوشجي أنّه أي الاشتراط المذكور قول المشهور، و كأنّه لتوكيد أمر الإعجاز و شدّة نفوذه؛ و من هنا تحدّى القرآن المشركين في أكثر من آية فقال: (لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(1). لكن في لزوم اعتباره نظر و بحث؛ إذ يمكن إلغاؤه بعد الشرط الثامن فلا حظ.
6 - كونها من قبل الله تعالى أو بأمره ذكره العلامة و جماعة من العامة لكنه عندي لغو، بعد اعتبار عدم إمكان معارضتها لأحد كما ستعرفه، فالمعجزة حينئذٍ لا تكون إلا من قبل الله، فافهم.
7 - كونها في زمان التكليف؛ لأنّ العادة تنتقض عند أشراط الساعة، ذكره العلامة (رحمه الله) أيضاً في شرح التجريد، لكنّه فيه أيضاً منع، على أنّه خارج عن محل الابتلاء.
8 - عدم إمكان معارضتها، و إلا لم تكن معجزة كما هو واضح، و هل المعتبر عجز الأمة المبعوث إليها، أو عجز أهل زمانه كما قيل. أو عجز جميع البشر كما ذكره بعضهم؟ الصحيح هو الأخير، فإن تمكّن أحد من معارضتها و لو بعد ألوف من السنين يبطلها و يسقطها عن الوصف المذكور.
فالمعجزة ما لا يمكن إتيان مثله لأحد غير الله سبحانه و لو من رسول آخر، فإنّه أيضاً يقدر على معارضة النبي لكونها في قوة المعارضة مع أمر الله تعالى. نعم يجوز إتيان مثله لغيره بوسائل مستحدّثة عادية في الصور الآتية، و لا ينقض المعجزة الماتي بها بأسباب غير عادية في ذلك الوقت.
و لبعض المحقّقين من بحّاث العصر كلام يجب نقله في المقام؛ ليندفع به بعض الأوهام، قال بعد كلامه المتقدّم نقله(2):
ص: 44
فإن قلت: فعلى هذا لو فرضنا الإحاطة و البلوغ إلى السبب الطبيعي الذي للمعجزة، كانت المعجزة ميسورة ممكنة الإتيان لغير النبي أيضاً، و لن يبق فرق بين المعجزة و غيرها، إلا بحسب النسبة و الإضافة فقط، فيكون حينئذ أمرما معجزة بالنسبة إلى قوم غير معجزة بالنسبة إلى آخرين، و هم المطّلعون على سببها الطبيعي الحقيقي، و في عصر دون عصر، و هو عصر العلوم، فلو ظفر البحث العلمي على الأسباب الحقيقية الطبيعية القصوى لم يبق مورد للمعجزة، و لم تكشف المعجزة عن الحق.
و نتيجة هذا البحث: أن المعجزة لا حجية فيها إلاّ على الجاهل بالسبب، فليست حجة في نفسها.
قلت: كلا فليست المعجزة معجزة من حيث إنها مستندة إلى سبب طبيعي مجهول حتى تنسلخ عن اسمها عند ارتفاع الجهل و تسقط عن الحجية و لا أنّها معجزة من حيث استنادها إلى سبب مفارق للعادة، بل هي معجزة من حيث إنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب، قاهر العلة البتة. و ذلك كما أن الأمر الحادث من جهة استجابة الدّعاء كرامة من حيث استنادها إلى سبب غير مغلوب كشفاء المريض، مع أنه يمكن أن يحدث من غير جهته كجهة العلاج بالدواء غير أنه عادي يمكن أن يصير مغلوباً مقهوراً بسبب آخر أقوى منه، انتهى كلامه.
ثم أعلم أن الفرق بين المعجزة و السحر بحسب مقام ثبوت و نفس الأمر بوجهين:
الأول: عدم إمكان معارضتها لأحد بخلافه، فإنّه يمكن الإتيان بمثله، بل أقوى منه.
الثاني إجراء الله المعجزة لأجل تصديق النبي في دعواه النبوّة، و إنفاذه تعالى السحر من جهة تأثير الأسباب في المسببات؛ و لأجل هذين الفرقين تغلب المعجزة السحر عند تعارضهما كما لقفت عصا موسى ما أفكه سحرة فرعون.
و أمّا بحسب مقام الإثبات فقد ذكر بعض الفضلاء السادة (رحمه الله) وجهين:
1 - احتياج السحر إلى الصنع و الآلات و التعليم التعلّم، و عدم احتياج الإعجاز إليها، فإنّه يحصل بمجرد إرادة النبي.
2 - عجز الساحر عن كل ما يريد الخصم؛ لاختصاص مهارته ببعض الأفعال المخصوصة و الحركات المعيّنة، و قدرة النبي على كل ما يطلبه الخصم منه و يتقرحه.
أقول: لكنّهما غير مطّردين دائماً؛ إذ ربّ ساحرٍ لا يحتاج إلى آلة و وقت، و يكون تعلّمه غير معلوم للمخاطبين و النبي ربّما لا يأذن الله له في إظهار ما يريده المقترحون لمصلحة، فلا يجب جريانها على وفق ميول الناس، فافهم.
و الذي أراه عاجلاً في تشخيص المعجزة عن السحر بحسب الظاهر و مقام الإثبات هو حال
ص: 45
نفس المدّعي في حالاته و آدابه و أخلاقه و معاملاته، فإنّه أحسن دليل على أنّ فعله الخارق معجز أو سحر، و ليس هناك ضابط كلّي يتكفّل امتيازه عنه، و لعله لأجل ذلك التجأ الكفار إلى نسبة معاجز الأنبياء إلى السّحر؛ إذ لو كان هناك ضابط كلّي ظاهر لن يتجرأوا عليها كما لا يخفى.
ثم إنّ المعجزة إما تحتمية، و هي ما يتوقف عليها إثبات النبوّة و إتمام الحجة و قطع المعذرة.
و إمّا تفضّلية ابتدائية يظهرها النبي تأكيد لأمره و تقريراً لاطمئنان أمّته.
و إمّا اقتراحية يطلبه الناس و الذي يجب إجراؤه عقلاً هو الأول دون الأخيرين.
لا شكّ في عدم حكم العقل بصدق كلّ خبر و أمر يدّعيه مدّع، بل الشيء - إذا لم يكن ضرورياً - محتاج إلى بيّنة و برهان في إثباته، سواء في الأبحاث العلمية أم في الأمور الخارجية؛ و لذا استمرت سيرة العقلاء في باب اللجاج و الاحتجاج على إقامة البرهان و طلب البيّنة، فمن يدّعي أنّه رسول من قبل الله تعالى إلى الناس لا بدّ له من استخدام شاهد على ذلك، و هذا الشاهد لا يمكن إلا بإثبات أنّ الله ذلّل له بعض قوى عالم الطبيعة و سخّره له، و جعله تحت يده بحيث يمكنه التصرف فيه بما لا يمكن لأمثاله من أفراد نوعه، فيكون ذلك دليل صدقه في كلامه.
و من أقرب التمثيلات أخبار الإذاعة الحكومية بأن فلاناً عيّن موظّفاً كذائياً في محل كذا، فإنّ الشعب بمجرد استماعه يوقنون به؛ إذ الإذاعة تحت سلطة الحكومة، و لا يمكن نشر خبر إلاّ بإذنها، فإذا أذيع خبر نصف الموظّف المذكور فهو يكشف قطعاً عن وقوع ذلك و أن الحكومة عيّنته كذلك.
فالمعجزة كما تكون برهاناً على نبوّة النبي كذلك دليل على وجود الواجب القديم.
فما يقوله المشككون في هذا العصر من أن الوحي تجربة نبوية لشخص النبي، فلا لنا من تقييمها، ثمّ يوسوسومن في ذلك، حتى يئول كلامهم إلى أن القرآن من ألفاظ النبي، و إنّما الوحي المعاني الكلية، ثم انجر الأمر إلى أن ادّعى بعضهم أن القرآن لفظاً و معنى من النبي دون وحي من الله تعالى. و هذا هو إنكار الأديان الإلهية من أصلها و إلحاد لا ريب فيه.
و خلاصة الكلام: إن وحي الله إلى النبي و إن لم يكن محسوساً لنا، و لا مورد التجربتنا، لكنّ المعجزة - على ما بيّناه - دليلاً قاطعاً - عليه، فماذا بعد الحق إلا الضلال.
نعم، من أنكر تبعيّة أفعال الله للأغراض لا يمكنه إثبات دلالة المعجزة على صدق النبي كما بيّناه في الجزء الثاني.
ص: 46
يدلّ القرآن المجيد على أنّ المناصب الإلهية التي حبى الله تعالى بها الصلحاء من البشر أربع درجات: النبوّة، و الرسالة، و ولاية العزم، و الإمامة.
قال الله تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاٰ نَبِيٍّ (1) و هذا ظاهر في مغايرة النبوّة و الرسالة، فيبطل قول من أنكر الفرق بينهما(2) و قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمٰا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ (3)، و قال: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (4) إذا تقرر هذا فتفصيل القول فيه في ضمن فصول:
و فيه أقوال:
1 - إنّ الرسول من جمع إلى المعجزة، الكتاب المنزل عليه، و النبي غير الرسول من لم ينزّل عليه كتاب، و إنّما يدعو إلى كتاب من قبله.
أقول: و يمكن أن يستدل له بقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ)(5). لكنّه مع عدم نفيه إنزال الكتاب على النبي لا يدل على نزول الكتاب على كل رسول كما لا يخفى، فهذا القول لا يسانده دليل، بل الدليل على خلافه، فإنّ عدد الرسل لعلّه أكثر من عدد الكتب المنزلة كما سيأتي بيانه إن شاء الله. ألا ترى أنّ هارون (ع) كان رسولاً و لم يكن له كتاب.
ص: 47
2 - إنّ من كان صاحب المعجزة و صاحب الكتاب، و نسخ شرع من قبله فهو الرسول، و من لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول.
أقول: إظهار المعجزة لا بدّ لكلّ مبعوث إلى قوم لم ينصّ نبي آخر عليه، سواء كان نبياً أو رسولاً، و نزول الكتاب قد عرفت الحال فيه، و أمّا نسخ الشريعة فسيأتي أنّه غير لازم لكلّ رسول؛ و لذا كان هارون رسولاً و لم ينسخ أية شريعة فضعف هذا القول واضح.
3 - إنّ الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك، و النبي هو المخبر عن الله بكتاب، أو الهام، أو تنبيه في المنام.
4 - إنّ النبي من أوحي إليه بشرع و إن لم يؤمر بتبليغه، فإن أمر بذلك فرسول أيضاً.
و هذا قول جماعة منهم شيخنا المفيد في «النكت الاعتقادية» المنسوبة إليه(1).
و الحقّ في هذا الفصل ان يقال: الرسول من عاين الملك حين الوحي و الإخبار من الله تعالى و كان مأموراً بالتبليغ إلى الناس، و النبي من يسمع صوت الملك و لا يرى شخصه حين التحدث و الوحي، أو يرى الحكم في المنام سواء كان مأموراً بإبلاغ الناس أم لا(2).
أمّا كون الرسول مأموراً بالتبليغ فيدعمه قوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(3)، و يدلّ عليه أيضاً نفس لفظة الرسول كما هو ظاهر.
و أمّا معاينته الملك حين التحدّث و الوحي دون النبي فهو للروايات الواردة.
ففي صحيحة زرارة(4) قال: سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عزّ و جلّ: (وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا) ما الرسول و ما النبي؟ قال: النبي الذي يرى في منامه و يسمع الصوت و لا يعاين الملك، و الرسول الذي يسمع الصوت و يري في المنام و يعاين الملك، قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت و لا يرى و لا يعاين الملك انتهى.
ص: 48
و في صحيحة الأحوال(1) قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الرسول و النبي و المحدّث؟ قال: الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه و يكلّمه فهذا الرسول، و أمّا النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم(2) و نحو ما كان رأى رسول الله (ص) من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل (ع) من عند الله بالرسالة، و كان محمد (ص) حين جمع له النبوّة و جاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل و يكلّمه بها قبلاً، و من الأنبياء من جمع له النبوّة و يرى في منامه و يأتيه الروح و يكلّمه و يحدّثه من غير أن يكون يرى في اليقظة. و أمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع و لا يعاين و لا يرى في منامه.
و في رواية إسماعيل: فكتب أو قال - أي الرضا (ع) -: «الفرق بين الرسول و النبي و الإمام أن الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه و يسمع كلامه و ينزل عليه الوحي، و ربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (ع) و النبي ربما سمع الكلام، و ربّما رآى الشخص و لم يسمع، و الإمام هو الذي يسمع الكلام و لا يرى الشخص»(3).
و في رواية بريد:(4) قال - أي الباقر و الصادق (عليهماالسلام): «الرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه، و النبي هو الذي يرى في منامه، و ربّما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدّث الذي يسمع الصوت و لا يرى الصورة» انتهى. (سندها غير معتبر).
و هنا روايات أخر نقلها المجلسي (قدس سره) في بحاره(5) فلاحظ.
و المستفاد منها: أن الإمام يسمع صوت الملك و لا يعاينه و لا يراه في المنام، و كذا لا يرى الحكم أيضاً في منامه، و هناك روايات أخر ربّما تنافي هذا المعنى و سيأتي تحقيقه في مبحث الإمامة إن شاء الله، و النبي هو الذي يسمع الصوت و يرى في منامه. و الرسول مع ذلك يعاين الملك أيضاً حين الوحي فكلّ رسول نبي، لكن بعض النبي غير رسول و هو من لم يكن مأموراً بتبليغ الشرع إلى الناس، أو لم يعاين الملك حين الوحي.
و في صحيحة زرارة(6) عن الباقر (ع) قال: «الأنبياء على خمسة أنواع: منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة، فيعلم ما عني به، و منهم من ينبّأ في منامه مثل يوسف
ص: 49
و إبراهيم(1) (ع)، و منهم من يعاين، و منهم من ينكت في قلبه، و يوقر في أذنه».
أقول: و لعل قوله (ع): «يوقر» مصحّف ينقر، و هو النوع الخامس. ثمّ المعاينة تخصّ الرسول، و البقيّة يشارك فيها النبي و الرسول و هو ظاهر.
و في رواية هشام بن سالم(2) قال الصادق (ع): الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها، و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة، و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط (عليهماالسلام)(3) و نبي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل أولى العزم، و قد كان إبراهيم (ع) نبياً و ليس بأمام حتى قال الله: (إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(4) انتهى.
أقول: الإمامة ليست بعد النبوّة بلا فصل، بل تتوسط بينهما الرسالة و الخلة، كما في روايات أخر مذكورة في الكافي و غيره.
لا يقال: قوله تعالى (وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(5). المسوق في مقام مدح موسى (ع) و تعظيمه، يشعر بعدم متانة هذا الفرق؛ إذ التعظيم من الأخص إلى الاعم غير حسن.
فإنه يقال: إنّه من المحتمل قريباً كون النبي في هذه الآية بمعناه اللغوي دون الاصطلاحي، أي كان رسولاً عالياً، على أن الإشكال لا يختصّ بما ذكرناه من الفرق، بل يجري على جميع الأقوال.
و الروايات فيه مختلفة الدلالة، ففي بعضها(6) قلت: ما معنى أولي العزم؟ قال - أي السجّاد و الصادق (عليهماالسلام) -: «و بعثوا إلى شرق الأرض و غربها و جنّها و أنسها.
ص: 50
و في بعضها بسند معتبر على الأقوى: قال الرضا (ع): «إنّما سمّي أولو العزم أولي العزم؛ لأنهم كانوا أصحاب العزائم و الشرائع؛ و ذلك أنّ كلّ نبي كان بعد نوح (ع) كان على شريعته و منهاجه و تابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل، و كل نبي كان في أيام إبراهيم و منهاجه و تابعاً لكتابه إلى زمن موسى...» و قريب منه رواية سماعة عن الصادق(1) (ع). بسند غير معتبر.
فمعنى ولاية العزم على هذا الأساس هو إتيان النبي بكتاب و شريعة ناسخين لكتاب و شريعة من قبله. و في بعضها(2):
«و إنّما سمّي أولو العزم؛ لأنّهم عهد إليهم في محمّد و الأوصياء من بعده و المهدي و سيرته فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك و الإقرار به.
أقول: و في صدر هذه الرواية فسّر قوله تعالى: (وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(3). بأنه عهد إليه في محمّد و آله فترك، و لم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا.(4)
و في تفسير القمي(5): و معنى أولي العزم أنهم سبقوا الأنبياء إلى الإقرار بالله، و أقرّوا بكلّ نبي كان قبلهم و بعدهم، و عزموا على الصبر مع التكذيب لهم و الأذى. و سنده غير معتبر.
فهذه معانٍ لولاية العزم في أخبارنا، و عن بعض الناس: أنهم هم الذين أمروا بالجهاد و القتال، و أظهروا المكاشفة، و جاهدوا في الدين.
أقول: أمّا الخامس: فهو دعوى بلا دليل.
و أمّا الرابع: فإن صحّ كونه رواية فهو لإرساله ضعيف.
و أما الثالث: ففي سنده مفضّل بن صالح الكذّاب الوضّاع فلا يمكن الاعتماد عليه.
و أمّا الأول: فله روايتان إحداهما ضعيفة سنداً، و ثانيتهما مجهولة سنداً، و مع ذلك فهو معارض برواية الثمالي الطويلة عن الباقر (ع) ففي ذيلها؛ «و أن الأنبياء بعثوا خاصّة و عامّة، فأمّا نوح فإنّه أرسل إلى من في الأرض بنبوّة عامّة و رسالة عامّة(6).
ص: 51
و أمّا إبراهيم (فنبوّته) ب - «كوني و يا(1)» و هي قرية من قرى السواد فيها مبدأ أوّل أمره، ثم هاجر منها ثم كانت الأسباط اثني عشر بعد يوسف(2) ثم موسى و هارون إلى فرعون و ملئه إلى مصر وحدها، ثم إنّ الله عزّو جلّ أرسل عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل خاصّة فكانت نبوته ببيت المقدس، و أرسل الله تبارك و تعالى محمّداً (ع) إلى الجن و الإنس عامّة و كان خاتم الأنبياء، و كان من بعده الاثنا عشر الأوصياء انتهى.
و برواية بأن عن بعضهم(3): «بعث الله إبراهيم و إسحاق إلى الأرض المقدسة» انتهى.
أقول: المستفاد من الكتاب العزيز أيضاً أنّ نبوّة موسى و عيسى، على نبيّنا و آله و عليهما السلام، لم تكن عامّة لجميع الناس، قال الله تعالى: (وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ)(4) و قال: (إِنْ هُوَ) أي عيسى (إِلاّٰ عَبْدٌ أَنْعَمْنٰا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنٰاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ)(5)، و قال: (وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ)(6) و قال: (وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ)(7) و قال: (ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ
ص: 52
بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ... فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ)(1) و قال تعالى: (وَ لَقَدْ فَتَنّٰا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)(2) فموسى (ع) كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل و فرعون و قومه.
و قريب منه ما في جملة من الآيات الشريفة الأخر.
و أمّا ما في رواية الكناسي(3) من كون عيسى (ع) حجة على الناس أجمعين. فلا بدّ من حمله على أناس بني إسرائيل ليوافق ظاهر القرآن و صريح رواية الثمالي المتقدمة، بل يمكن أن يقال: إنّ قوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(4). دليل على أنّ الأنبياء بأسرهم لم يبعثوا إلا إلى قومهم وحده.
نعم، خرج من هذه الكلّية رسولنا الأعظم (ص)، فتأمل جيداً.
فتحصّل من جميع ما سبق أنّ معنى ولاية العزم هو النبوة المقترنة بالكتاب و الشريعة الناسخة للشريعة السابقة، لكن يتوجّه إليه سؤالان:
1 - إن للانبياء الذين سبقوا نوحاً (ع) كآدم و شيث و أبنائه و إدريس - هو جدّ نوح (ع) - أيضاً شريعة؛ إذ لا يمكن أن يقال بإهمال الناس في تلك الأحيان، بل في بعض الروايات ان لشيث و إدريس صحفاً: خمسين للأول، و ثلاثين للثاني.
و عليه فلازم ذلك كون شيث أو إدريس أو كليهما أو غيرهما أيضاً من أولي العزم.
2 - لازم ما ذكرنا و ما في الروايتين المتقدّمتين من نسخ كلّ شريعة سابقة بشريعة لاحقة، هو نسخ شرع إبراهيم (ع) بشريعة موسى (ع)، و أنّ الشريعة المفترضة على الناس قبل ظهور خاتم الأنبياء (ص) هو ما جاء به عيسى بن مريم (ع) كما هو ظاهر، لكنّ الأخبار(5) دلّت على أنّ الرائج و المتبوع في بيت بني هاشم كعبد المطّلب و أبي طالب (عليهماالسلام) و هو دين الخليل (ع).
أقول: أمّا السؤال الأوّل فيمكن أن يجاب عنه بأنّ صحف من سبق نوحاً (ع) من الأنبياء لم
ص: 53
تكن متكفّلة لشرائع، فأول شريعة و كتاب مشتمل عليها هو شريعة نوح و كتابه لكنّه بعيد، و لعلّ الأحسن أن يقال: إنّ لمن قبله و إن كانت شريعة مختصرة، لكنّها غير ناسخة، و إنّه لا شرع قبلها بمعنى أنّ آدم و من بعده من الأنبياء إلى نوح كانوا على شريعة واحدة، و شريعة أولي العزم لا بدّ من كونها ناسخة لما قبلها، و هنا جواب آخر ستعرفه فيما بعد.
و أمّا السؤال الثاني فهو عسير جداً، و الذي يسعني عاجلاً في الجواب أنّ معنى النسخ ليس هو إزالة الشريعة السابقة عن جميع أرجاء العالم، بل عمّا شرّعت الشريعة اللاحقة لأهله، و حيث إنّ شريعة عيسى (ع) لم تكن عامّة لجميع الإنس و الجن فلا تكون ناسخة لشريعة إبراهيم (ع) بالكلّية، بل نسختها عن أرض بني إسرائيل التي بعث إليها عيسى بن مريم سلام الله عليهما فكان شريعة إبراهيم باقية في أولاد إسماعيل (ع) و عليه فلا بدّ من التصرّف في عموم الروايتين المتقدّمتين الدالّتين على متابعة كلّ نبي جاء بعد صاحب عزم له، جمعاً بينهما و ما دلّ على تديّن عبد المطلب و غيره من اولاد إسماعيل (ع) بشريعة إبراهيم (ع)(1)، فافهم المقال و اتقن المقام.
ثم إنّه يمكن أن يقال: إنّ معنى منصب العزم هو شدّة عزم أربابه على الصبر على الأذى و التكذيب و على ما عهد إليهم ربّهم، و سبقهم على غيرهم إلى الإقرار و الاعتقاد بكلّ ما أراد الله الاعتقاد و الإقرار به، و يكونون ذوي شرائع مستقلّة ناسخة لشرائع من تقدمهم على نحو عرفته آنفاً. و عليه فيجمع بين الوجوه المتقدمة في معنى أولي العزم سوى الوجه الأول، فإنّه غير سليم عن المعارض كما عرفت.
و ممّا يؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثٰاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنٰا مِنْهُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً(2) بل قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَمٰا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ (3) فاغتنم.
لا طريق لنا من غير أخبار شرعنا إلى معرفة اشخاص الأنبياء - عليهم الصلاة و السلام -
ص: 54
و تعدادهم، و أنّهم من هم؟ و كم عددهم؟ أمّا عقلاً فواضح، و أمّا نقلاً فلعدم خبر واحد صحيح بأنّ فلاناً كان نبيّنا فضلاً عن خبر متواتر به.
نعم، نعلم رجالاً كموسى و عيسى (عليهماالسلام) ادّعوا النبوّة و تبعهم خلق، و أمّا إنّهم كانوا على صدق أم لا؟ فهذا غير محرز لنا، و إنّما علمنا بصدقهم من جهة القرآن الكريم و أخبار نبيّنا الأعظم (ص) حيث أخبرنا بتحقّق النبوّة و وجود أنبياء قبله، فيكون ثبوت نبوّة جميع الأنبياء السابقين موقوفاً على إثبات نبوّة نبيّنا و كون القرآن من الله تعالى.
ثمّ إنّ القرآن المجيد ذكر أسماء جملة منهم، و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و الياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و الاسباط (على كلام فيهم مرّ في بحث العصمة) و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل، (الصادق الوعد بناءً أنّه غير إسماعيل ابن الخليل (ع) كما في بعض الروايات)(1).
و هؤلاء خمسة و عشرون نبيا سوى الاسباط. لكن ليعلم ان عددهم غير مقصور بهذه الكمية كما ينصّ عليه القرآن نفسه: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنٰاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ (2)وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنٰا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (3) و إليك أسماء جملة أخرى منهم (عليهم السلام) على ما وجدت في الروايات: شيث، قينان، مهلائيل، خرقائيل ابن إدريس سام (ابن نوح) خضر، حزقيل، أليا احتمال اتّحاده مع إلياس غير بعيد يوشع، أرميا، اشمويل، شعيا حيقوق، شمعون بن حمون الصفا، دانيال، عزير، جرجيس، خالد بن سنان، و عمران أبو مريم سلام الله عليهم أجمعين.
و أما عددهم فالمشهور في الأفواه أنّه مئة ألف و أربعة و عشرون ألفاً، بل ذكر بعض الفضلاء: أنّه لا أعلم خلافاً فيه فيمن ذكر عدد الأنبياء.
بل ذكر الصدوق (رحمه الله): اعتقادنا في عدد الأنبياء أنّهم مئة ألف نبي و أربعة و عشرون ألف نبي، و مئة ألف وصي و أربعة و عشرون ألف وصي نبي. انتهى. فنسب العدد المذكور إلى اعتقاد الإمامية.
قال بعض مؤرخي العامة(4): أكثر أرباب التأريخ على أن عددهم ذلك، و اعتقد جمع بأنّ
ص: 55
عددهم ثمانية آلاف كما رواه أبو العلاء الموصلي في جامعه عن رسول الله (ص) و قد ذكر في هذه الرواية: أنّ أربعة آلاف منهم كانوا لإرشاد بني إسرائيل، و أربعة آلاف لإرشاد غيرهم، و نقل عبد الله بن أحمد خليل في كتابه «تعريف الأنبياء» رواية يحيى بن سعيد عن رسول الله (ص) أنه قال: «أنا خاتم ألف رسول أو أكثر». انتهى كلامه.
أقول: روى الشيخ الطوسي (قدس سره) بإسناده عن أنس بن مالك(1) قال: قال رسول الله (ص): «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل» و في بعض الروايات(2) عن ميثم قال: كنت عند أمير المؤمنين (ع) خامس خمسة، و أنا أصغرهم يومئذ، نسمع أمير المؤمنين يقول: «حدّثني أخي أنّه ختم بي ألف نبي و إنّي ختمت ألف وصي».
و لكن لا اعتماد على هذه الروايات؛ لضعف سندها.
و في رواية صفوان(3) عن الصادق (ع) قال: «بعث الله مئة ألف نبي و أربعة و أربعين ألف نبي و مثلهم أوصياء».
و في مرسلة الميثمي(4) عن الصادق (ع) قال: قال أبوذر: يا رسول الله كم بعث الله من نبي فقال: «ثلاث مئة ألف نبي و عشرين ألف نبي».
لكن في جملة من الروايات(5) تدلّ على القول المعروف أعني مئة ألف و أربعة و عشرين ألف.
و أمّا رواية صفوان فالمحتمل وقوع التصحيف فيه، و أنّ الأصل «عشرين» مكان «أربعين».
و أمّا مرسلة الميثمي فهي غير حجّة مع أنّ أباذر روى بسند غير معتبر عن رسول الله (ص) ما هو المشهور فلاحظ(6).
و أمّا ما في رواية عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر(7) قال: «كان جميع الأنبياء مئة ألف نبي و عشرين ألف نبي» فهو أيضاً يحتمل السقط. و الله العالم.(8)
ص: 56
و أمّا أولو العزم منهم فقيل - كما في تفسير الرازي -: إنّهم نوح و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و أيوب، و موسى، و عيسى.
و قيل: إنّهم ستة بحذف الأخيرين.
و عن القاموس، كما في مجمع البحرين، أنّهم: نوح، إبراهيم، إسحاق، يعقوب، موسى، محمد.
و قيل: إنّهم أربعة: نوح، و إبراهيم، وهود، و نبيّنا الأعظم (ص).
أقول: كلّ ذلك جزاف لا اصل له، بل الحق أنّهم خمسة: نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، محمد صلى الله عليه و عليهم أجمعين لتطابق أخبارنا على ذلك، و هو المستفاد من الكتاب العزيز أيضاً كما تقدّم بعض آياته. و لا أعلم خلافاً للأصحاب في ذلك.
و أمّا عدد المرسلين أي الرسل فهو ثلاثمئة و بضعة عشر، كما في مرسلة الميثمي المتقدّمة؛ أو ثلاثمئة و ثلاثمئة و ثلاثة عشر، كما في رواية أبي ذر المشار إليها سابقاً. أو ثلاثمئة كما في مرسلة إبن عباس(1) و كلّها فاقد للحجية.
بل يستفاد من قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ)(2) زيادة الرسل على هذا العدد.
و أمّا الكتب ففي الرواية الأولى أنّها مئة كتاب و أربعة و عشر كتب، و في الأخيرتين أنّها مئة كتاب و أربعة كتب و لعلّه سقط كلمة «عشرين» منها، لكن في رواية أبي ذر: «أنزل الله تعالى على شيث (ع) خمسين صحيفة، و على إدريس ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشرين صحيفة، و أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان». و في رواية ابن عباس جعل «آدم» مكان «شيث».
أقول: قد تقدم أنّ لكلّ نبي من الأنبياء أولي العزم كتاباً، فيكون نوح (ع) أيضاً ذا كتاب؛ و لذا قال (ص) في مرسلة الميثمي: «أنزل على إدريس خمسين صحيفة... و أنزل على نوح، و أنزل على إبراهيم عشراً» انتهى.
و الإنصاف أنّه لا دليل ليطمأن به على عدد الأنبياء و الرسل و الكتب، نعم عدد أولي العزم و تعيين أشخاصهم دلّ عليه الدليل الموجب للاطمئنان و الوثوق. و الله الهادي.
ص: 57
لا شكّ في أنّ الأنبياء (عليهم السلام) مع ما عليه من الفضيلة العالية و الكرامة العظيمة متفاوتون في درجات الفضل و الكمال و الثواب، يقول الله تعالى: (تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ)(1)(وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ)(2) و أمّا تعيين الأفاضل منه فلا سبيل إليه إلا النقل و هو غير وافٍ لإيضاح المقام كلّياً، نعم يستفاد منه أفضلية الرسل على النبيين كما يظهر من الأخبار المتقدّمة الفارقة بينهما.
و اما أفضلية أولي العزم على غيرهم فهي منصوصة في الروايات و إليك إحداها، و هي صحيحة ابن أبي يعفور(3) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «سادة النبيين و المرسلين خمسة، و هم أولوا العزم من الرسل، و عليهم دارت الرحى: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد صلّى الله عليه و آله و على جميع الأنبياء».
و المهم هو التفاضل بين هؤلاء الخمسة، فنقول: لا شكّ أنّ نبيّنا الخاتم (ص) أفضل من جميعهم، بل من جميع المخلوقات طرّاً، كما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.
و أما الأفاضل بعده فهو غير معيّن بالدليل القطعي، بل لم أجد من تعرّض للمسألة سوى الشيخ أحمد الأحسائي في «شرح المشاعر» حيث قال: «اتّفق المسملمون على أنّ أفضل الأنبياء خمسة؛ محمّد، و نوح، و إبراهيم، و موسى و عيسى. و اتّفقوا على أنّه (ع) خير الخلق. و اختلفوا في الأربعة من أولي العزم، فأكثر العامّة على أنّ ترتيبهم في الفضل إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى. قال بعضهم: ثمّ عيسى؛ ثمّ موسى. و اتّفقوا على مفضولية نوح (ع).
و أمّا أصحابنا فأكثرهم على أنّ الترتيب في الفضل هكذا: إبراهيم ثمّ نوح ثمّ موسى ثمّ عيسى. و قيل: نوح ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى.
ص: 58
و هذا هو المترج (كذا) عندي، فإنّ إبراهيم و إن كانت ممادحه و ذكره و فضائله في الأحاديث أكثر من نوح إلاّ أنّه مع ذلك كلّه من شيعة نوح (ع)؛ لقوله تعالى: (وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ)(1). و قوله تعالى: (وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثٰاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسَى)(2) و هو في مقام التفضيل لا في مقام السبق في الوجود في الدنيا الذكر محمد(3) (ص) أولاً. و أيضاً ليس في الأنبياء من نبوّته عامّة إلاّ محمّد و نوح (عليهماالسلام).
و أمّا إبراهيم فإنّما أرسل إلى أربعين بيتاً، و ليس نسخ الشريعة دليلاً على الأفضلية، و إلاّ كان عيسى أفضل الأربعة، و أيضاً فإنّ نوحاً أوتي من اسم الأعظم خمسة و عشرين حرفاً و إبراهيم ثمانية، و موسى أربعة، و عيسى اثنين» انتهي كلامه.
أقول: أمّا نسبه إلى العامّة فهو مذكور في «تفسير المنار»(4) قال...: «ممّا تقرر عند علمائنا من كون إبراهيم أفضل الرسل بعد خاتمهم - صلوات الله و سلامه عليهم - و يليهما موسى و عيسى فنوح» انتهى.
و أمّا ما نسبه إلى أكثر أصحابنا فلم أجده - عاجلاً - في كلماتهم.
و أمّا ما ذكره في تدعيم مختاره من الأدلّة، فهو غير نقي عن الخلل و المناقشة كما لا يخفى على أولي الدراية.
و يمكن أن يستدلّ عليه أيضاً بكثرة مشقّة نوح (ع) فإنه لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، و لم يتأذّ إبراهيم بمثل ما تأذّى به هو (ع)؛ فيكون هو أكثر ثواباً فتأمل.
لكن المستفاد من بعض الأخبار أفضليّة إبراهيم (ع) على غيره، ففي «مجمع البحرين»(5): روي أن النبي جلس ليلاً يحدّث أصحابه في المسجد فقال: «يا قوم إذا ذكرتم الأنبياء الأوّلين فصلّوا عليّ ثمّ صلّوا عليهم، و إذا ذكرتم أبي إبراهيم فصلّوا عليه ثمّ عليّ قالوا: يا رسول الله: بما نال إبراهيم ذلك؟ قال: اعملوا أنّ ليلة أعرج بي إلى السماء فرقيت السماء الثالثة نصب لي منبر من نور، فجلست على رأس المنبر و جلس إبراهيم تحتي بدرجة، و جلس جميع الأنبياء الأوّلين حول المنبر فإذا قد أقبل...» انتهى.
ص: 59
و ما ورد عن النبي الأكرم(1): «يا علي إنّه أوّل من يدعى به يوم القيامة يدعى بي فأقوم عن يمين العرش فأكسى حلّة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بأبينا إبراهيم (ع) فيقوم عن يمين العرش في ظلّة فيكسى حلّة خضراء من حلل الجنة» انتهى.
و الإنصاف أنّ الأفضلية غير ثابتة بعد فالأولى فيها التوقّف.
ص: 60
مذهب الإمامية - كما نصّ عليه جملة من الأعاظم كالصدوق، و الشيخ المفيد، و علم الهدى، و العلاّمة الحلّي و غيرهم قدّس الله أرواحهم الطاهرة - أفضلية الأنبياء على الملائكة سلام الله عليهم أجمعين، و وافقهم عليها معظم الأشاعرة، بل ذكر الجرجاني في «شرح المواقف»: أنّها قول أكثر أهل الملل. و المنقول عن المعتزلة، و الحكماء أو جماعة منهم، و بعض الأشاعرة أفضلية الملائكة من الأنبياء.
قال الدواني - كما في السماء و العالم(1) من البحار -: هم أي الأنبياء أفضل من الملائكة العلوية عند أكثر الأشاعرة، و من الملائكة السفليّة بالاتّفاق، و عامّة البشر من المؤمنين أيضاً أفضل من عامّة الملائكة... و المراد بالأفضل أكثر ثواباً.
أقول: كون الأفضليّة بهذا المعنى هو المصرح في كلام بعض آخر أيضاً، و يستفاد من مطاوي كلمات الآخرين أيضاً.
و قال العلاّمة المجلسي (قدس سره): و أمّا سائر المؤمنين ففي فضل كلّهم أو بعضهم على جميع الملائكة أو بعضهم فلا يظهر من الآيات و الأخبار ظهوراً بيّناً يمكن الحكم بأحد الجانبين، فنحن فيه من المتوقفين»(2). انتهى كلامه.
إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ للطرفين - أعني مفضّلي الأنبياء على الملائكة، و مفضّلي الملائكة على الأنبياء - أدلة عقلية و نقلية على مدّعاهم، إلاّ أنّ الكلّ لا يخلو عن خلل و نقاش، و لا يهمّنا التعرّض لها(3).
و العمدة في إثبات المرام هي الأخبار الدالّة على افضلية الأنبياء من الملائكة، و قد وصفها بعض
ص: 61
مهرة أهل الحديث بالمستفيضة، بل في حديث عبد الله بن سنان(1) قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: فقال (قال ظ) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «إنّ الله عزّ و جل ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، و ركّب في البهائم شهوة بلا عقل، و ركّب في بني آدم كليتهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، و من غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم».
و في رواية(2) عن رسول الله (ص): «مثل المؤمن عند الله كمثل ملك مقرّب، و إنّ المؤمن عند الله عزّ و جلّ أعظم من ملك» انتهى.
و يمكن أن يقال: إن محمداً و خلفاءه الاثني عشر من عترته - صلى الله عليه و عليهم أجمعين - أفضل الخلق كلّهم، و إنّ جميع المخلوقات قاطبة دونهم في الشرف و الكرامة و الكمال و الثواب! كما يأتي بيانه في الدليل الآتي في المقصد السابع إن شاء الله تعالى.
و ورد جملة من الروايات في خصوص المقام أي أفضليتهم من الملائكة(3) و هذا فليكن مفروغاً عنه، و عليه فنقول: كلّ من قال بأفضلية نبيّنا الخاتم على الملائكة قال بأفضلية جميع الأنبياء عليهم بلا تفصيل و هذا الإجماع المركّب (المظنون) بعد ما ذكرنا في أفضلية النبي الخاتم (ص) على الملائكة دليل على المدّعى. و الله العالم.
ص: 62
1 - عدم الإتيان بمعجزة إلا بإجازة من الله؛ لقوله تعالى: (وَ مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ)(1) بناءً على أنّ الإذن بمعنى الإجازة دون القدرة.
2 - عدم إرساله إلاّ إلى قومه؛ لقوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ)(2) بناءً على إرادة كون القوم هم المبعوث إليهم. نعم، خرج منها نبيّنا الخاتم (ص) و ربّما سيأتي الكلام فيه.
3 - كون المرسل رجلاً يوحى إليه؛ لقوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ)(3) و مثله غيره. فما توهّمه بعض الناصبة الجامدة من نبوّة مريم بنت عمران و نبوّة أم إسحاق و أمّ موسى و زوجة فرعون! مخالف لهذه الآية الكريمة و ما قاربها في الدلالة، فتدبّر.
4 - كونهم كغيرهم في أوصاف البشرية؛ لقوله تعالى: قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ (4)، و لقوله: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوٰاقِ (5).
5 - شأنهم التبشير والإنذار لقوله تعالى: (وَ مٰا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ)(6) لكن قد تقدّم أن بعض الأنبياء لم يرسل إلى الناس، و أنّه لا يشترط في النبي ذلك، فإن صحّ هذا فنحمل «المرسلين»؛ في هذه الآية على الرسل فقط، أو عليهم و على أغلب الأنبياء.
ص: 63
6 - إنّهم الغالبون في مقام التخاصم و إظهار الحقّ؛ لقوله تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنٰا لِعِبٰادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ (1) و لقوله تعالى: إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهٰادُ(2)، فافهم.
7 - إنّهم استهزئ بهم من قبل أممهم؛ لقوله تعالى: يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (3) و. مثله غيره في المفاد.
و هو نعمة الوسيلة لمعرفة أذاهم و استقامتهم على طريق الحقّ و زيادة أجورهم، كما نعمت العظمة للّذين يريدون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إنّه يجب التحمّل على ما يصيبهم لأجلهما تأسّياً بالأنبياء الكرام (ع) (قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ... وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ)(4).
8 - لكلّ نبي عدوّ؛ لقوله تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ (5).
9 - قوله تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاٰ نَبِيٍّ إِلاّٰ إِذٰا تَمَنّٰى أَلْقَى اَلشَّيْطٰانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ (6).
10 - لكلّ منهم وصي لدلالة بعض الأخبار عليه، سواء كان هو أيضاً نبيّناً، كما لعلّه الغالب أم لا، كعلي بن أبي طالب (ع).
11 - تنام عيونهم و لا تنام قلوبهم؛ لقوله (ص)(7): «إنّا معاشر الأنبياء تنام عيوننا و لا تنام قلوبنا» انتهى. و في صحيح البخاري: «و كذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا تنام قلوبهم»(8).
12 - يرون من خلفهم؛ لقوله (ص) بعد قوله المتقدم: «و نرى من خلفنا كما نرى من بين أيدينا». إن حصل الوثوق ما يدلّ عليهما.
13 - اخذ طينتهم من تحت صخرة في مسجد السّهلة؛ لرواية عبد الله بن أبان عن الصادق (ع): «... و إنّ فيه - أي مسجد السهلة - لصخرة خضراء و فيها مثال كلّ نبي، و من تحت
ص: 64
تلك الصخرة أخذت طينة كلّ نبي»(1).
14 - ابتلاؤهم بالسقم و خوف السلطان و الفقر؛ لرواية علي بن عثمان عن الصادق (ع) قال: «إنّ الأنبياء و أولاد الأنبياء و أتباع الأنبياء خصّوا بثلاث خصال: السقم في البدن، و خوف السلطان و الفقر»(2).
أقول: و يمكن أن يقال: إنّ تلك في حقّ الأنبياء، أقوى كما يستفاد من روايات أخر فتكون بالمرتبة المذكورة من خصائصهم.
15 - دعاهم الله إلى الإقرار بنبوّة النبي الخاتم و وصيّه المكرم أمير المؤمنين صلوات الله عليهما و آلهما، كما دلّ عليه بعض الروايات.
16 - رجوعهم إلى الدنيا و نصرتهم لهما؛ لصحيحة أبي بصير و ابن مسكان(3) عن الصادق (ع) قال: «ما بعث الله نبياً عن آدم (من لدن آدم خ) فلهم جراً إلاّ و يرجع إلى الدنيا فيقاتل و ينصر رسول الله (ص) و أمير المؤمنين» انتهى (أي في الرجعة).
17 - عدم جواز أخذ الغنائم لأنفسهم، و يستثنى منهم خاتمهم (ص) كما سيأتي دليله في خصائصه (ص).
18 - سقوط غلفهم عنهم مع سررهم يوم السابع من ولادتهم، كما عن الصادق (ع)(4) لكن في بعض الروايات أنّ الله خلق آدم و شيث و إدريس و نوح و سام و إبراهيم و داوود و سليمان و لوط و إسماعيل و موسى و عيسى و محمد (ع) مختونين(5).
19 - رعي الغنم، ففي رواية عقبة عن الصادق (ع) قال(6): «ما بعث الله نبيّاً قط حتى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعيه الناس».
20 - كونهم صاحبي مرّة سوداء صافية؛ كما في مرسلة ياسر عن أبي الحسن(7) (ع).
21 - كونهم حسني الصوت، كما في مرسلة الميثمي عن الصادق (ع) قال: «ما بعث الله
ص: 65
عزّ و جل نبيّاً إلاّ حسن الصوت»(1).
22 - من إخلاقهم التنظيف.
23 - و التطيّب.
24 - و حلق الشعر.
25 - و كثرة الطروقة كما ذكرها الكاظم (ع) في رواية الحسن بن الجهم(2).
26 - عشاؤهم بعد العتمة كما نقله الصادق عن أمير المؤمنين (عليهماالسلام)(3).
27 - دعاؤهم للشعير و أكلهم منه، كما في صحيحة يونس عن الرضا (ع) قال: «ما من نبي إلاّ و قد دعا لأكل الشعير و بارك عليه.. و هو قوت الأنبياء و طعام الأبرار، أبى الله تعالى أن يجعل قوت أنبيائه إلاّ شعيراً(4).
28 - «السويق طعام المرسلين أو النبيين» كما عن الصادق (ع)(5).
29 - «اللحكم باللبن مرق الأنبياء (ع)» كما في صحيحة هشام عن الصادق (ع).
30 - «الخل والزيت طعام الأنبياء» كما عنه (ع).
31 - «السواك من سنن المرسلين» كما عنه (ع).
32 - «إنّ الله عزّو جل لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث، و أداء الأمانة إلى البرّ و الفاجر» كما في رواية الحسين عنه (ع).
33 - ما من نبي و لا وصي نبي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى يرفع روحه و عظمه و لحمه إلى السماء. كما عن الصادق (ع)(6).
34 - «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء صلوت الله عليهم» انتهى، قاله الصادق (ع) على ما في رواية هشام(7).
35 - عدم نزع لامّة الحرب إذا لبسها النبي حتى يلقى العدو.
36 - حرمة خائنة الأعين عليهم، سيأتي ذكرهما في خصائص النبي الخاتم (ص).
ص: 66
37 - «لا ترى بناتهم الأحمر أي الحيض» لا حظ و سائل الشيعة.
38 - «ما يمسكون شعر رأسهم» كما في رواية عمر و بن ثابت عن الصادق (ع)(1).
39 - «ما يكلّمون الناس إلاّ على قدر عقولهم» كما في مرسلة ابن فضّال عن الصادق (ع)(2).
و مستند بعض هذه الخواصّ ضعيف كما لا يخفى على أهله. و إنّما ذكرناها على سبيل الاحتمال. و الله العالم.
ص: 67
و هذه المسألة هي المطلب الأسنى و الغرض الأعلى في هذا المقصد، و هي الأساس لإثبات الشريعة الإسلامية المقدّسة بفروعها المحكمة و أصولها النقلية.
فنقول: إنّ محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب العربي القرشي الهاشمي - عليه و على آله آلاف التحيّة و الثناء و الصلوات والبركات - ادّعى النبوّة الشاملة لنفسه، و أقام المعجزة على إثباتها، و كلّ من كان كذلك فهو نبي يقيناً.
أما الكبرى فقد تقدّم بيانها و توضيحها في المبحث الثالث مفصّلاً.
و أمّا الصغرى فهي تنحلّ إلى قضيتين:
الأولى: أنّه (ص) ادّعى النبوّة، و هذا ممّا لا يحتاج إلى دليل لثبوته بالتواتر، بل أزيد منه فإنّ القرآن المجيد صريح في دعواه النبوّة، و قد وصل إلينا بالطرق القطعية المتجاوزة حدّ التواتر، بحيث لم يتمكّن أحد من إنكار صدوره عن النبي الأكرم حتى أعداء الإسلام من أرباب الملل و النحل.
و الثانية: إتيانه بالمعجزة و هي العمدة منقول أنّه (ص) كان رجلاً أميناً نشأ في معشر جاهل فاسد الأخلاق، فاقد المزايا و الفضائل، بعيد عن الحضارة الثقافة بعد المشرق من المغرب؛ و لكن نشأ أميناً صالحاً فاضلاً؛ متأدّباً، ثم أتى بقوانين محكمة و أصول عالية؛ و شرائع جامعة متكفّلة لسعادة أفراد البشر قاطبة في دينهم و دنياهم فيحكم العقل حكماً بتّياً أنّه كان مؤيّداً و مسدّداً ممّا هو فوق عالم الطبيعة و المادّة، و هو عالم الغيب و عالم الوجوب، و أنّ الله تعالى هو الذي بعثه إلى الناس لتنظيم حياتهم و مآلهم؛ فيكون نبيّاً. هذا إجمال المسألة، و أمّا تفصيلها و توضيحها فإليك الفصول التالية:
كان وضع الحجاز - كما ضبطه التاريخ - قد بلغ غاية الفساد و نهاية الانهيار، كان الناس يعيشون بالغارات و الغزوات، و من شعارهم سفك الدماء والتكبّر و الخيلاء، و أفعالهم القمار،
ص: 68
و شرب الخمر، و أكل الدم و الميتة، ثقافتهم الشعر و الكهانة، بل آل الأمر إلى أنّ بعض طوائفهم يقتلون أولادهم خشية الإنفاق، و يئدون البنات.
كانت الجهالة والضلالة المتراكمة مظلّلة على أفق أفكارهم و عقولهم، و لم يكن للمعرفة و الثقافة منفذ فيهم، بل أحاطتهم الأوهام و الخرافات من أطرافهم، فإنّ النصرانية بتثليثها كانت منبثّة في الروم، و الحبشة، و المجوسية بشركها في إيران. و الوثنية بتنويعها في الهند و مصر. و التهوّد في أرضهم من اليهود. و هم في موطنهم يعبدون الأصنام المصنوعة من الأحجار و الخشب و نحوهما بحسبان أنّها تقرّبهم إلى الله زلفى.
و هذه الفضائح - أو أكثرها - قد أعلنها القرآن المجيد تعييراً لهم و منّاً لله تعالى عليهم بأنجاتهم و انقاذهم منها، و لم يقم أحد منهم لتكذيبه و إنكاره، بل سكتوا و لكن حاربوا النبي (ع) بنفوسهم و أولادهم و أموالهم، فيعلم من ذلك أنّ أخبار القرآن بتلك حقّ لا محالة.
و مع الغض عن ذلك نقول: من المقطوع به المتواتر، أنّ أهل الحجار قبل قيام النبي الأكرم (ص) كانوا في غاية الضلالة و الجهالة، و لا يشمّ من بيئتهم رائحة الثقافة و المعرفة و الكمال و الأخلاق، و هذا ممّا لا يمكنه التشكيك أصلاً.
و لا بدّ أن يكون كذلك؛ لأنّ وضع بلده يقتضي ذلك، و القرآن يذكره أيضاً: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي قبل إنزال الكتاب مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (1) و يقول أيضاً: قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (2) و لا يحتمل اختلاق هذه الدعوى؛ لأن الآيتين نزلتا بمكّة المكرّمة بمحضر من كفّار قريش و أعداء النبي (ص) فلو لم يكن مضمونهما حقّاً لجعلوه ذريعة إلى تكذيبه، بل لتنفر منه أصحابه لظهور كذبه عندهم؛ فيفهم من ذلك - قطعياً - أنّه كان أميّاً لا يعلم شيئاً كسائر معاصريه و أهالي بلده.
نعم، هناك أعداء الإسلام من المبشّرين بالمسيحيّة و غيرهم أخذوا يندّدون بالإسلام و يشكّكون فيه خوفاً من تسرّبه إليهم؛ و لذا يقول بعضهم: إنّ النبي محمّد (ص) تعلّم القصص من سلمان الفارسي رضى الله عنه ولكن خفي عليه أنّ سلمان لحق النبي بالمدينة، و القرآن نزل جملة منه - بمكّة!! و فيها من القصص و المعارف ما لا يخفى.
ص: 69
أضف إلى ذلك أنّ النبي (ص) لو تعلّم من سلمان فما هو السرّ في إيمان سلمان به و إخلاصه له أشدّ الإخلاص، بل خدمته لأهل بيته (ع) خدمة العبيد لساداتهم؟.
و هل هذا إلاّ من جهة أنّه وجد النبيّ و أهله أفضل و أكمل من نفسه؟ و قد قيل إنّ قوله تعالى: (وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسٰانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هٰذٰا لِسٰانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(1) نزل ردّاً على هذا الاختراع، و هو نعم الرد.
و تفوّه آخر بأنّه (ص) سافر إلى الشام و اكتسب القصص من الرهبان هناك، أو استفاد من بعض أهل الروم! و لكن فاته أنّه سافر إلى الشام مرّة مع عمّه الشريف أبي طالب (ع) و مرّة مع الآخرين للتجارة لخديجة بنت خويلد (عليهماالسلام) و في المرّتين لم يمكث فيه ما يمكن تحصيل العلم و المعرفة.
هذا و لكنّا لسنا من المصرّين على ذلك، بل نفرض أنّه تعلّم من عنفوان شبابه إلى حين دعواه النبوّة و الرسالة، و لكن نسأل من هو معلّمه و مدرّسه؟ و ما هو مدرسته و معهده؟ فهل استفاد من اليهود و النصارى؟ و القرآن يباين الإنجيل و التوراة في أصولهما و معارفهما و قصصها! و يبطل التثليث و التهود من أصلهما! فكيف نشأ التوحيد نم التثليث؟ أو من الوثنيّين و المشركين و الكهنة و الساحرين فقد حاربها بأقصى ما يمكن أن يحارب! و تركّز على نقطة متناقضة لها. بل التعلّم من مثل هؤلاء الأشخاص و تلك المعاهد، ثمّ التبرّز بهذه الفضائل و المعارف معجزة له أيضاً.
و إليك نبذة منها في هذا المختصر في ضمن أبواب:
القرآن هو المعرّف الوحيد للتوحيد الخالص الواضح يقول: (قُلْ هُوَ اَللّٰهُ أَحَدٌ * اَللّٰهُ اَلصَّمَدُ)(2).
و يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ(3).
و يقول: اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا
ص: 70
فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ (1) .
و يذكر أيضاً: لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ * لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ(2).
و أيضاً: وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (3).
إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على اتّصافه بالصفات الكمالية الحميدة و تنزّهه عن النواقص و المعايب و الإمكانية، بل لو لم يكن في التوحيد له كلام سوى كلام تلميذه و وصيّه أمير المؤمنين (ع) لكان دليلاً باهراً على نبوّته و إليك أنموذجاً منه.
يقول (ع): الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصى نعماءه العادّون... الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود... أوّل الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، و شهادة كلّ موصوف أنّها غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزّأه، و من جزّأه فقد جهله، و من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال: فيم؟ فقد ضمّنه. و من قال: علام؟ فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث، موجود لاه عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، و غير كلّ شيء لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه... إلى آخره.
و مثلها غيرها من كلماته الشريفة الحكيمة(4). و إنّني أقسم صادقاً أنّ البشر العادي في تلك الأعصار و الأمصار لم يكن قادراً على إنشاء مثل هذه الخطب الجليلة العالية العميقة، فإنّها علمت بعد بلوغ الفلسفة و الكلام نصابهما في الأعصار المتأخّرة، و هذا دليل قويّ على أنّ قائلها كان متّصلاً بالمبدأ الأعلى بلا واسطة، أو بمن هو متّصل به، و الأوّل باطل قطعاً و اتّفاقاً فيتعيّن الثاني، فيثبت المطلوب فإنّ أستاذه و معلّمه هو النبيّ الأعظم (ص) بلى، هذا علي و مقامه العلميّ
ص: 71
و مع ذلك أثر عنه قوله: أنا عبد من عبيد محمّد (ص)(1)، فمحمّد هو الفرد الكامل، و المصدر الأعلى للمعارف و الفضائل.
لا شكّ أنّ العادة تمنع عن إدراك الحسن و القبح العقليين؛ فإنّ كلّ من تربّى في بيئة و مجتمع، يتّصف بأخلاقه و آدابه المتداولة فيه، و يراها حسنة و إن كانت قبيحة، و لا أقلّ من عدم دركه قبحها؛ لتأنّسه بها حينما فتح عينه و عمل فكره. و هو (ص) مع نشوئه في الحجاز الذي مرّ حاله بك من انحطاط أخلاقه و سقوط فضائله لم يتأثّر به أصلاً، و لم ينفذ في نفسه القويّة سلطان العادة و حكم المحيط أبداً، بل جاء بشريعة حكيمة جامعة للفضائل و المكارم متكفلة لسعادة البشر في هذه الكرة السيارة! المتعقبة بسعادته الأخروية الأبدية، فمنهاجه على نقطة متقابلة لطريقة قومه، و عادات عصره.
أجل، أتى بقوانين شاملة لنظام المجتمع الإنساني لم يتيسّر لأحد إلى يومنا هذا أن يأتي بمثله، و دونك القوانين المصوبة في مؤسّسة الأمم المتحدة في هذه الاعصار فقد تلاحقت أفكار الشعوب، و تظاهرت عقول المتفكري الأمم في تشريعه، و مع الوصف لم يبلغ في الإتقان و التحفّظ بمصالح الإنسان بما سنّه ذلك العنصر العربي وحده في أرض الحجاز، ارض القتال و الفساد، أرض الجهالة و الضلالة!
نعم، جاء بشريعة حرّم فيها على البشر قاطبة الشرك، و القتل بغير حقّ، و الكذب، و الغيبة، و الافتراء، و الظلم، و أكل أموال الناس غصباً، و أكل الدم و الميتة، و شرب الخمر، و الزنا، و القمار، و التعاون على الإثم و العدوان، و عقوق الوالدين، و إهانة المؤمن، و قذف المحصنة، و السرقة و الغش، و الخيانة، و السحر، و شهادة الزور، و كتمان الشهادة الحقّة و قطيعة الرحم، و الرشوة، و النميمة، و القيادة، و اللواط؛ و غيرها مما ينفع تركه لنظام الاجتماع مع الغضّ عن تأثيره في تقوية الروح و تصفية الباطن. و لقد من في الاقتصاد و العدالة الاجتماعية و كرامة الإنسان و عزة النفس و نفي التبعيض و الاستعمار و الاستثمار ما يجذب القلوب و يحير العقول.
فلو أنّ أمّة امتثلت هذه التكاليف لا يبقى في نظام حياتها خلل و لا نقص، بل تبلغ غاية السعادة في هذه الحياة.
و زائداً على ذلك فقد أمر البشر بالعدل، و الإحسان، و إيتاء ذي القربى و أداء الأمانة، و إصلاح بين الناس، و حبّ المؤمنين و ستر عثراتهم، و العفو و المراودة، و الأخوة، و التعاون
ص: 72
على البرّ و التقوى و الاتفاق، و إطعام المساكين، و إمداد العاجزين، و تبليغ المعروف؛ و النهي عن المنكر، و ضبط النفس و الإيثار و خدمة لابناء النوع و التودّد إليهم، و التكافل العام و غير ذلك(1).
و على الجملة: أمر بجميع أصول الحياة الكريمة. حتّى اضطر المادّي المتصلّب «شبلي شميل» إلى أن ينادي معترفاً بعظمة النبيّ الأكرم (ص).
إنّي و إن أك قد كفرت بدينه *** هل أكفرن بمحكم الآيات؟
أو ما حوت من ناصع الألفاظ من *** حكم رواع للهوى و عظات
و شرائع لو أنّهم عقلوا بها *** ما قيّدوا العمران بالعادات!
نعم المدبّر و الحكيم و أنّه *** ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات
رجل الحجا رجل السياسة و الدهى *** بطل حليف النصر في الغارات
من دونه الأبطال في كلّ الردى *** من سابق أو لاحق أو آت
تأمّل في قوله: و شرائع... إلى آخر البيت حتّى تجد عظمة مشرّعها (ص).
و الإسلام تحفّظ على العدالة الاجتماعية بأحسن حفظ، قال الله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا)(2) بعضكم بعضاً، فالجعل المذكور إنّما هو تسهيل للتعارف فيما بينكم فقط (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ)(3).
و قال تعالى: (وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ)(4) و غير ذلك. و إنّما جعل امتياز الأفراد بشيئين: العلم، و التقوى، و هما الأساس الوحيد لنمو الإنسان و فضيلة المجتمع.
ثم بعد الطبعين من هذا الكتاب وفقنا الله تعالى لتأليف كتب عديدة بلغ عددها إلى قريب المأة و إن شئت أن تعلم تفصيلاً أفضلية الثقافة الإسلامية و أكمليتها و نسبيتها بفطرة الإنسان من كلّ الثقافات المادية المتقدّمة على الإسلام و الثقافات المادية المتأخّرة منه إلى يوعنا هذا في القرن الواحد و العشرين من الميلاد، فلاحظ كتابنا (دين و زندگانى) و كتابنا (فوايد دين و زندگانى) باللغة الفارسية المطبوعة في كابول حتى تعلم اعجاز القرآن و نبوّة النبي الخاتم (ص).
ص: 73
و في شريعته تعاليم نافعة للاقتصاد و رفع مستوى المعيشة، يقول القرآن الكريم: (لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ)(1).
و يقول أيضاً: لاٰ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(2).
و يقول أيضاً: أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا(3).
و يذكر أيضاً: إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ اَلْمَسٰاكِينِ (4).
و أيضاً: اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ (5).
و يقول: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (6).
و أيضا: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ (7).
فقد أوجب الزكاة و الخمس و بعض الصدقات و الكفارات الأخر و رغّب الناس في الإنفاق و الإحسان، و نهاهم عن الإسراف و البخل و الربا. و في الشريعة الإسلامية أصول و قواعد للتجارة يعجز البشر عن وضع مثلها. و إن شئت الحق فأعلم أن المسلك الاقتصادي الإسلامي أحسن و انفع للإنسان حتى في زماننا من المسالك الاقتصادية الثلاثة العالمية: و الرأسمالية و الاشتراكية و الشيوعية.
و الإسلام أعلى مدرسة للأخلاق الفاضلة و الآداب فالنبيّ الأكرم (ص) و إن نشأ بين قبائل
ص: 74
العرب البعيدة عن الأخلاق الفاضلة، و لكنّه امتاز بأفضل الأخلاق و أكرم الأوصاف، و لا أدرى لزوماً لذكر الشاهد من الكتاب و السنّة فإنّهما مملو أن بها.
أمّا العلم و الثقافة فقد بلغ ارشاد الإسلام الناس إليها حدّاً يتعجّب منه الإنسان، فقد روي: أنّ نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل! و أن تفكّر الساعة خير من عبادة سبعين سنة! و أنّ النظر إلى وجه العالم، بل إلى بابه عبادة! و النصوص الدينيّة في ذلك كثيرة جدّاً.
أمّا الحريّة و منع التقليد عن الأوهام و الخرافات فيدلّ عليهما الآيات القرآنيّة كقوله تعالى: فَبَشِّرْ عِبٰادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ أُولٰئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ (1).
و قوله تعالى: (أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ)(2). و نحو ذلك.
التي لم يبلغ إليها فكر أحد إلاّ في القرون الأخيرة، لكنّه (ص) ذكرها مع كونه أميّاً و محشوراً مع الجاهلين.
فمنها: حركة الأرض مع أنّ النظريّة السائدة في تلك الأعصار على سكونها كما هو المحسوس، قال الله تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً)(3). و معلوم أنّ خصوصيّة المهد و نفعه الوحيد للطفل ليس إلاّ الحركة. و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي (تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ)(4).
و حركة الجبال بحركة الأرض لا محالة.
و منها: إبطال قواعد هيئة بطلميوس الناطقة بإحاطة الأفلاك بعضها ببعضها، قال الله تعالى: (وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ)(5)، و معلوم أنّ هذه الوسعة لا يمكن على الهيئة المذكورة البائدة.
و منها: إخباره عن صحّة خرق الأفلاك.
و منها: إخباره عن ذهاب البشر إلى خارج محيطة الأرض، بل إلى سائر الكرات، كما يدلّ
ص: 75
عليهما قوله تعالى: (سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ)(1)، و قوله: (وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ * عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ)(2) و هذه المسألة لم تكتشف إلاّ في هذه السنوات الأخيرة حيث حقّقوا دوران الأرض حول كرة الشمس، و جوّزوا وصول الإنسان إلى القمر بتوسّط القمر الصناعي.
و منها: ما ذكره في علم النبات. كقوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ (3). و قوله: أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (4).
و منها: إخباره عن تكلّم بعض الحيوانات و شعورهم و علمهم؛ و وصل بحوث العلماء أخيراً إلى أنّ الأمر كذلك.
و منها: غير ذلك ممّا يطول بنا المقام.
و لم يقدر أحد لحد الآن أن يأتي بمثله و هي معجزة خالدة له في تمام الأجيال و الأدوار؛ نعم، الدين الخالد يقتضي معجزة خالدة.
و بعد ذلك نقول:
الرجل الأمي المحض إذا أتى بعلوم و معارف و فضائل و تشريعات نسبة أشرنا إلى إجمالها(5)، بلا معاون و مساعد، و استمرّ على تنفيذها مع كمال لجاجة قومه و شدّة عداوتهم له و استقامتهم في أذاه لا يكون للعقل سبيل إلاّ القطع بنبوّته و صدق كلامه في رسالته من قبل ربّه، فهذه معجزة له (ص) و دليل على نبوّته.
ص: 76
فكان كما كان في أوّل أمره حليماً متواضعاً، غير مستعل على آحاد رعيته و أفراد أمّته، كانت معيشته ضيّقة حتّى يمضى بعض الأيام جوعاً، و لا يجد ما يشبع بطنه، و هو المطاع الأول بين نسمة، و بيده أمر الغنائم المأخوذة من الكفّار، و كان متعبّداً لله تعالى إلى آخر عمره، و يصلّي و يصوم بأضعاف ما شرّع لأمّته ولم يدع يوماً استثنائه من شمول التكاليف الموظّفة(1).
و من عجيب حاله أنّه لمّا ظفر على ألدّ أعدائه الذين آذوه في مكّة المكرّمة بأنواع الإذى، و غلب عليهم - و كان من المتوقّع المعتاد أن ينتقم منهم انتقاماً شديداً - قال: لا تثريب عليكم اليوم. فعفا عن مظالمهم و جناياتهم و غمض عن شنائع أفعالهم. كلّ ذلك لا يلائم طبيعة الرئاسة و حكومة الهوى، فإنّ هواة السلطة لهم أهداف نفسية غير إلهية، و إن يتظاهروا في أوّل أمرهم بالتعفّف و الصلاح و الفضيلة، لكن بعد ما فازوا بمرادهم ينسون كلّ شيء فإذا هم متكبّرون، جبابرة عبيد الشهوة. و يتنعّمون بلذائذ الدنيا بأبعد ما يمكن و لا يتعب نفسه بالقوانين المنافية للراحة و الهناء، بل حتّى أقاربه و أصحابه المخلصين يرون أنفسهم فوق القوانين الوضعية و يتنعمون في أموال الشعب.. و لا يري المتغلب لغيره كرامة و منزلة، فكيف إذا زاحمه أحد أو قال فيه قولاً منافياً لاحترامه، بل لو وجد من أساءه قبل عشرين سنة ينتقم منه أشد الانتقام، و لا يخطر بباله العفو عنه، فضلاً عن العفو عن جماعة لم يكلّفوا أنفسهم عن إيذائه ساعة في تلك المدّة الكثيرة.
أضف إلى ذلك أنّه عوتب في نفس كتابه الذي جاء به غير مرّة، و خوطب بما لا يناسب لعزيز شأنه و رفيع مقامه، كقوله تعالى: عَبَسَ وَ تَوَلّٰى * أَنْ جٰاءَهُ اَلْأَعْمىٰ وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى(2) و قوله: وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ (3) إلخ.
و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكَ (4)؟ و قوله تعالى: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ (5) و قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (6) و قوله تعالى: أَ لَمْ
ص: 77
يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ (1) و قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ (2) و قوله وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ... إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ (3) و قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ (4) و قوله: وَ لاٰ تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً(5) و قوله تعالى: وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدىٰ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ (6).
و قوله تعالى: لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً(7) و قوله: لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً(8). و أمثالها في القرآن كثيرة جداً.
أقول: لو كان الأمر بيده و كان القرآن من اختراعه؛ لما وجدت من هذه الآيات جملة واحدة؛ إذ الإنسان لا يرضى أن يعاتب عند زوجته و أولاده، بل في خلوته فضلاً عمّا إذا كان بمحضر اتباعه و لا سيما إذا كان يقرأ كان يقرأ عتابه كلّ يوم، و خصوصاً أرباب الرئاسة الباطلة و عبيد الهوى، فإنهم يرون كلّ شيء دون شأنهم و مقامهم، أفليس كلّ ذلك دليلاً على نبوّته و صدق دعواه في رسالته؟ فاجعل ضميرك قاضياً يقضي لك ما هو قاض.
و أعلم أن القرآن الكريم يدلّ على نبوّته و رسالته من نواح متعدّدة فصلناها في كتاب على حدّه، يسمى ب - (قرآن و سنة اسلام) بالفارسية و قد طبع بعد طبع هذا الكتاب بسنين، و كاف في المطلوب إن شاء الله.
و هي معجزة ظاهرة و حجّة باهرة على رسالته و سفارته، و قد نقلها المسلمون متواترة كشقّ القمر، و مجيء الشجر، و تسليم الحجر، و تسبيح الحصاة و شكاية الناقة، و شهادة الشاة المشويّة، و نبوع الماء من بين أصابعه، و إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، و إحياء ولدي الجابر،
ص: 78
و حنين الجذع، و عدم الظل له، و ما وقع لمرضعته حليمة أيّام رضاعه، و رؤيته من خلفه، و التفاته في منامه، و شهادة الذئب له بالرسالة، و تفله في عين عليّ لمّا رمدت و لم ترمد بعده أبداً، و عدم تأثير الحرّ و البرد في جسمه (ع) بدعائه (ص)، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن عدّه، بل عن مناقب آل أبي طالب(1): أنّ المعجزات الصادرة منه (ص) أربعة آلاف و أربعة مئة و أربعة و أربعين، و قذ ذكر منها ثلاثة آلاف.
أقول: فيمكن حصول القطع بصدور بعضها عنه (ص) فيثبت المطلوب(2).
إخباره بالمغيبات و الأمور الآتية، كاشف عن اتّصاله بما هو فوق الطبيعة و العادة، كقوله: لَقَدْ صَدَقَ اَللّٰهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ (3) و قوله: إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرٰادُّكَ إِلىٰ مَعٰادٍ(4) و قوله: الم * غُلِبَتِ اَلرُّومُ * فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ (5). و قوله: إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ (6). فكان الأمر كما قال فتح مكّة، و دخل فيه آمناً و غلب الروم فارس، و قتل مستهزئوه. و كذا أخبر عن تكثّر نسله حين لا ولد له غير بنت واحدة، كقوله تعالى: إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ اَلْكَوْثَرَ... إِنَّ شٰانِئَكَ هُوَ اَلْأَبْتَرُ(7)، و ذريّته موجودة الآن في نقاط الأرض معزّزة محترمة عند المسلمين، و هم في تكثر، بلغوا ملايين و ما من بلد من بلاد المسلمين، إلاّ و هم فيه يعيشون. و أمّا عدوه من آل أمية فلا نسل له فعلاً يعتنى به(8).
ص: 79
و أخبر بعجز الناس من إتيان مثل القرآن فقال: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنّٰارَ(1) انتهى. و قال:
(قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)(2). و الأمر كما أخبر، و أخبر ايضاً عن حرب الجمل، و منازعة معاوية، و قصة النهروان، و قتل الحسين (ع)، و إدراك جابر ابنه الباقر (ع) و عن عدد أوصيائه - كما يأتي مفصلاً - و قتل عمّار بأنّه ستقتله الفئة الباغية، و بإدعاء مسيلمة النبوّة في اليمامة، و العبسي بصنعاء، و أنّهما سيقتلان، و بشهادة أمير المؤمنين (ع) و بأنّ بنته فاطمة الصدّيقة أوّل من يلحقه من آل بيته، و بخلافه بني أميّة؛ و بني العباس، إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في كتب التاريخ و الأحاديث، فيدلّ ذلك على نبوّته و رسالته، كيف و لو أخبر بما لم يقع لشاع و بان و كان لأعدائه في ذلك حجّة قويّة على إبطال حجّته و حجة القرآن، فافهم و استقم.
إنّ ما صدر من أوصيائه الكرام - و لا سيّما من أوّلهم و أفضلهم أمير المؤمنين (ع) سواء في زمان النّبي (ص) أو بعده - من المعجزات و الكرامات و خوارق العادات و جميل الآداب، و تحلّيهم بالعلوم الكثيرة و المعارف الإلهية بلا تعلّمهم من أحد(3)، كلّ ذلك دليل على نبوّة سيّدهم النبي الخاتم (ص) و هذا دليل قويّ جداً لمن هداه الله للإيمان؛ و لم يجعل على قلبه غشاوة!.
إنه أتى بالقرآن العزيز، و قال: إنّه معجزتي و دليلي على نبوّتي و رسالتي، و إنّه لا يقدر أحد منكم أن يأتي بمثله، فقال: يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ... وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
ص: 80
وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ (1)
و قال: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (2). ثمّ يخبر - مع كمال الطمأنينة و السكون - عن عجز جميع المكلّفين قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(3)!!
صدق القرآن في إخباره و لم يوجد أحد يأتي بمثل سورة منه، و كلّ من لا يسلّم ذلك فعليه القيام بالمماثلة.
و بالجملة لا نحتاج إلى أنّ فصاحة القرآن في أعلى درجة ممكنة من الفصاحة، و لا إلى بيان كمال نظمه و لا إلى أنّ فيه إخباراً غيبية، و لا إلى كلّ شيء؛ بل نقول: إنّ هذا الكتاب المسمّى بالقرآن الذي جاء به النبيّ الخاتم (ص) ممّا لا يمكن لبشر و غير بشر أن يأتي بمثله، بل بمثل بعض سوره فيكون معجزاً و حجّة على رسالته، و أنّه رسول من عند الله تعالى، فمن قبله فهو المطلوب و إلاّ فلا بدّ من إبطال قولنا، و أنّى له هذا؟!.
و هذا الدليل غير موقوف على شيء و هو مفيد في كلّ عصر و مصر، و لكلّ أحد من المسلمين في قبال كلّ أحد من المنكرين، سواء كانوا مثّقفين أو جاهلين، حدّادين أو مهندسين، عطّارين أو معمارين، كنّاسين أو عبقريين، و بالقول المعروف: إنّه قليل المؤونة و كثير المعونة.
و لا بدّ أن يكون للنبي (ص) معجزة كذلك فإنّه (ص) خاتم النبيّين و شريعته باقية إلى يوم القيامة و الأجيال الآتية، و لا بدّ لهم من حجّة يستدلّون بها على نبوّته، و هذا بخلاف نبوّته سائر الأنبياء؛ إذ لا يوجد دليل فعلاً على نبوّتهم، و هؤلاء علماء اليهود و النصارى ببابك سل عنهم الدليل على إثبات نبوّة موسى و عيسى (عليهماالسلام) لا يمكنهم إقناعك و لا ذكر دليل لك سوى حكاية ما صدر عن موسى و عيسى (عليهماالسلام) من خوارق العادات التي ذهبت و لم يبق لها أثر، و لا دليل على إثباتها من حسن أو عقل أو نقل معتبر. فالنبوّة الخالدة لا بدّ لها من المعجزة الخالدة؛ و لذا صار القرآن المجيد دليلاً على رسالة النبيّ المكرّم (ص).
ص: 81
أمّا خلود رسالته حتّى آخر الدنيا فهو مدلول قوله تعالى: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ (1) فلا نبيّ بعده.
لا يقال: قد مرّ تغاير النبوّة و الرسالة، فلا ملازمة بين عدم بعثة النبي و عدم بعثة الرسول و عليه فالآية الكريمة لا تدلّ على أنّه (ص) خاتم الرسل أيضاً.
فإنه يقال: الرسالة هي النبوّة بعينها لكن مع أمر زائد و هو رؤية الملك و إرساله إلى قوم كما مرّ، فكلّ رسولٍ نبي و لا عكس، و من الظاهر انّ نفي الأعمّ يدلّ على نفي الأخصّ.
و يدلّ عليه أيضاً قوله - في الحديث المتواتر بين المسلمين -: «يا علي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي» و ما في بعض رواياتنا من أنّ حلال محمّد (ص) حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة.
و المسألة لا تحتاج إلى مزيد بيان؛ لأنّها ضرورية في دين الإسلام، و واضحة عند المسلمين و أمّا عموم نبوّته لجميع البشر في أنهاء العالم فتدعمه آيات من الذكر الحكيم.
1 - قوله تعالى: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ (2).
2 - و قوله تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً(3).
3 - قوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (4).
4 - قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ (5).
ص: 82
5 - قوله تعالى: قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً(1).
6 - قوله تعالى: نَذِيراً لِلْبَشَرِ(2).
7 - قوله تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (3).
8 - قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنٰاكَ لِلنّٰاسِ رَسُولاً(4).
و سورة الجن تدلّ على أنّه (ص) بعث إليهم أيضاً، و الروايات في ذلك أيضاً كثيرة.
و ربّما استدل عليه أيضاً بوقوع التحدّي إليهم في قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ...)(5) لكنّه غير خالٍ عن الإشكال.
فالمتحصّل أنّ النبي الخاتم (ص) مبعوث إلى جميع أفراد الإنسان الموجودة في كرة الأرض إلى يوم القيامة، و على ضوء ذلك يبطل ما عن قوم من النصارى - كما ذكره العلاّمة (قدس سره) في شرح التجريد - أو طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية - كما في تفسير الرازي في سورة إبراهيم - من أنّه (ص) كان مبعوثاً إلى العرب وحده، فإنّه مختلق لا أساس له أصلاً.
و أمّا الاستدلال عليه بقوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(6) فهو ضعيف جداً فإنّا إن سلّمنا كون القوم بمعنى الأمّة لحملناه على غيره من الأنبياء لصريح الآيات المتقدّمة على عموم رسالته (ص) و عليه فيكون ذلك من خواصّه.
الأولى: هل شريعته ناسخة لجميع ما في الشرائع السابقة، أو لمجموعها من حيث المجموع؟ مع العلم ببقاء أصول الدين و الفروع العقلية إلى الأبد.
الثانية: إنّ قارة أميركا إنّما اكشتفت بعد عصر النبي (ص) بكثير، و لم يكن لها أثر و خبر في زمان حياته و حياة أوصيائه (عليهم السلام) فكيف يصحّ القول بعموم التكاليف الدينيّة لهم؟
و إلاّ يلزم أنّ النبي (ص) أو أوصياءه الكرام (ص) أهملوا ما هو لازم عليهم من تبليغهم، و هذا ممّا لا يحتمل التزامه بمسلم، و عليه فلا تكون الشريعة الإسلامية عامّة للجميع.
ص: 83
الثالثة: هل أنّه (ص) مبعوث إلى الكرة الأرضية فقط، أو إلى جميع من في المنظومة الشمسيّة - شمسينا هذه - من الكرات العشرة، أو الإحدى عشرة؟ أو إلى جميع سكّان المنظومات الشمسيّة الثابتة في الفضاء؟ و بقول جامع: هل هو رسول الله إلى الإنس و الجنّ الموجودين في الأرض أم إلى جميع ما سوى الله تعالى؟
الرابعة: هل الملائكة بجميع طوائفها و اقسامها من المبعوث إليها أم لا؟ فلا يكون النبيّ الخاتم رسولاً إليهم، و هذا السؤال و إن كان داخلاً في عموم السؤال السابق لكن أفردناه للاهتمام به.
أقول و بالله الاعتماد و عليه الاتكال:
المسألة الأولى فجوابها: اختيار الشقّ الثاني دون الأوّل لعدم دليل عليه، بل ذكر بعض الأقطاب من الأصوليين و الفقهاء (قدس سره) أنّ في بعض الأخبار إشعاراً بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لو لا المنع انتهى.
أقول: لكن الإشعار غير كافٍ للاعتماد، و هل يصحّ العمل به باستصحابه أم لا؟ فيه كلام محرّر في أصول الفقه مفصّلاً. و الأظهر عدم صحّته لعدم بقاء الموضوع المعتبر في جريان الاستصحاب، و عله فتقل ثمرة البحث في المقام، أو تنفي.
وأمّا المسألة الثانية فجوابها: أنّ الدين لم يصل إلى جميع البشر في وقت حتى في زماننا هذا عصر الارتباط و الاتصال، فإنّ البدويّين في الهند و أفريقيا و أميركا و استراليا و غيرها غافلون عن ذلك، فليس لقارّة أميركا خصوصيّة في المقام، بل حالها حال الغافلين و الجاهلين الموجودين في هذا العصر.
و أصل الكلام: أنّ الدين عامّ لجميع البشر كما عرفت، فمن تمّت عليه الحجّة و بلغته الشريعة يجب عليه اعتناقها، و من لم تبلغه فهو معذور لا شيء عليه لقوله تعالى: (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)(1).
و أمّا عدم وصول دعوة النبيّ الأكرم و أوصيائه الكرام (عليهم السلام) في تلك الأحيان إلى أميركا و غيرها(2) فهو مستند إلى بناء وضع التبليغ الدينيّ على المتعارف و المعتاد، لا على الإعجاز
ص: 84
و خرق العادات، و أما سر ذلك فغير معلوم لنا فإنّا ما أوتينا من العلم إلاّ قليلاً.
وأمّا الجواب عن المسألة الثالثة فهو أنّ المستفاد من ظاهر قوله تعالى: وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ (1) و قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (2) و قوله تعالى: تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً(3). عموم رسالته لجميع الكرات.
و يظهر من جملة من الروايات(4) أنّ رسالته (ص) لم تكن مختصّة بالبشر وحده، بل هي شاملة لغيره أيضاً، و لكن لا يستفاد منها ما استظهرناه من الآيات المتقدّمة. و لعل أدلّها عموماً رواية سليمان بن خالد التي نقلها الحلّي في سرائره عن جامع البزنطي عنه، قال: سمعت أبا عبد الله (ص) يقول: «ما من شيء (نبيّ خ) ولا من آدميّ و لا إنسيّ و لا جنيّ و لا ملك في السماوات إلا و نحن الحجج عليهم، و ما خلق الله خلقاً إلاّ و قد عرض ولايتنا عليه و احتجّ بنا عليه، فمؤمن بنا و كافر و جاحد حتّى السماوات و الأرض و الجبال».
و من المعلوم كونهم حججاً متفرع على كون جدّهم رسولاً.
و في روايته المتقدّمة في الهامش عن الصادق (ع): أليس قال الله في محكم كتابه: و ما أرسلناك إلاّ كافّة للناس. أهل الشرق و الغرب، و أهل السماء و الأرض من الجنّ و الإنس.
و قد تقدّم بعض الروايات الدالة على ذلك في آخر الجزء الأوّل من الكتاب.
وعلى ضوء ذلك يتّضح الجواب عن المسألة الرابعة أيضاً. نعم، في رواية السدير عن الصادق(5) (ع): «نحن الحجّة البالغة على من دون السماء و فوق الأرض». و الله تعالى العالم، فإنّ تفسير كلمة العالمين، بما سوى الله غير ظاهرة و له احتمال آخر، و الروايات لقلّتها و ضعف أسانيدها لا تليق بالاعتماد.
ص: 85
بعد ما ثبت و تحقّق نبوّة نبيّنا الأعظم (ص) و شمول نبوّته لجميع المكلّفين و دوامه إلى يوم القيامة، فقد ظهر سقوط جميع الديانات و حرمة التديّن بها، و أنّه لا فرق بين الكافرين و المتدينين بغير الإسلام، و هذا ظاهر.
أضف إلى ذلك - أنّه مع قطع النظر عن الإسلام و كونه ناسخاً لشرائع من قبله - لا دليل على نبوّة نبيّ و لو بخبر واحد معتبر فضلاً عن خبر متواتر، بل الثابت وجود أناس كعيسى و موسى ادعوا النبوّة، و أنّى لنا الطريق إلى إثبات حقّيّة الدعوى المذكورة؟
سلّمنا ذلك و فرضنا ثبوت نبوّة موسى أو عيسى عندنا مثلاً لكنّه لا يلزمنا اعتناق شرعه و دينه؛ لعدم الدليل على عمومه و شموله؛ لما عرفت من عدم الملازمة بين النبوة و شمولها و عمومها فضلاً عن دوامها. بل المتيقن بعث موسى و عيسى (عليهماالسلام)، إلى بني إسرائيل فقط. كما أن المعلوم بقاء شريعة عيسى (ع) إلى طلوع الإسلام و به نسخت و رفعت.
هذا مضافاً إلى ما في التوراة و الأناجيل الحاضرة ممّا يشهد على بطلان التهوّد و التنصر، من الأباطيل و يخالف العقول و التناقضات و اعتراف اتباع القسيسين، بتأليف الأناجيل المتعدّدة بعد رفع المسيح (ع) بيد الأفراد العاديين، فليس انجيل المسيح موجوداً بين الناس و الله الهادي و الموفق.
ص: 86
أمّا العصمة عن الكذب في مقام التبليغ و السهو الكثير فيه فهو لازم نفس المنصب كما مرّ.
و أمّا العصمة عن مطلق السهو و النسيان في بيان الأحكام الشرعية و الأصول الاعتقاديّة، بل و عن كلّ ما يخبر عن الله تعالى فهي لقوله تعالى: (وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ)(1) فإنّ الآية الشريفة تحصر نطقه بالوحي، فلا يسهو في كلامه و إخباره و إلاّ كان خلاف الوحي، و هذا ظاهر.
فإن قيل: نفي السهو غير ممكن بالنقل لاحتمال السهو فيه أيضاً.
قلنا: هذا الاحتمال باطل؛ فإنّ الآية مكّية.
و كان المسلمون يقرؤونها و ربّما في محضر النبيّ الأكرم (ص) فلا يعقل عدم التفاته في تلك المدّة الكثيرة التي ربّما تبلغ عشرين عاماً إلى سهوه، و هذا ظاهر(2).
و يدلّ عليه أيضاً الروايات الدالّة على أنّ روح القدس - و هو خلق أعظم من جبرئيل - كان مع النبيّ (ص) ثمّ مع الأئمة (عليهم السلام) و هي أكثر من خمسين رواية أكثرها في «بصائر الدرجات» للصفّار(3)، و في عشرين منها أنّه يسدّدهم و يؤيّدهم، و لا شكّ أنّ من هذا التسديد و التأييد
ص: 87
التسديد في بيان الشرعيات ليبلغها إلى الناس على ماهي عليه.
فهذان الدليلان ينفيان مطلق السهو و النسيان عن النبيّ الأعظم (ص) بل الثاني يجري في حقّ الأئمة (عليهم السلام) أيضاً، فلا يتطرّق إلى النبيّ و أوصيائه احتمال السهو و لو نادراً.
و أمّا عصمته من الظلم من أوّل عمره إلى آخره فهي ثابتة بقوله تعالى مخاطباً لإبراهيم الخليل (ع): (قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ)(1).
بيان ذلك: أنّ ذرية إبراهيم (ع) المسؤولة لهم الإمامة إمّا لم يتّصفوا بالظلم من أوّل عمرهم إلى حين السؤال، أو اتّصفوا به لكنّهم رجعوا عنه بعد ذلك و تابوا فأصلح حالهم، أو لم يرجعوا عن ظلمهم و كانوا حين السؤال أيضاً ظالمين، و هذه ثلاثة احتمالات.
لكنّ الاحتمال الأخير باطل قطعاً؛ لأنّ مثل إبراهيم الخليل (ع) لا يسأل الله عن إعطاء مرتبة الإمامة للمتلبّس بالظلم فعلاً(2) و هو يعلم أنّها فوق النبوّة و الرسالة، و أنّه ما أوتي إلاّ عبد نبوّته و رسالته و بعد ابتلائه بكلمات أتّمهن، و هذا فليكن قطعيّاً مفروغاً عنه. و عليه فالذريّة المذكورة كانت غير ظالمة حين السؤال، بل صالحة سواء كان صلاحهم من أوّل أمرهم أو بعده قبل السؤال، و قوله تعالى: (لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ)(3) ينفي الإمامة عمّن تلبس بالظلم و لو تاب عنه و صلح حين السؤال؛ إذ لا شكّ أنّه ردّ على سؤال الخليل و عدم قبوله بحدّه، بل هو تخصيص بغير الظالم، و قد عرفت أنّ الظالم حين السؤال لم يكن مراداً لإبراهيم (ع) و لا داخلاً في سؤاله حتّى يتوجّه الردّ إليه، فلا محالة ينحصر الردّ بالظالم قبل السؤال و إن كان عادلاً حينه، فتخصّ الإمامة بمن لم يتلبّس بالظلم من أوّل عمره أصلاً(4).
ص: 88
لا يقال: هذا التقريب إنّما يصحّ إذا كانت لإبراهيم ذريّة موجودة حين السؤال، و من الجائز عدم وجودها بعد، فهو سأل الإمامة لذريّته الآتية بلا التفات إلى تلك الحالات الثلاث.
فإنّا نقول: العاقل لا يطلب شيئاً جزميّاً منجزّاً للمعدوم و هذا واضح.
فإن قلت: نعم، الذريّة كانت معدومة لكنّها معلوم وجودها لإبراهيم (ع) فهو إنّما سأل الإمامة لها لعلمه بوجودها فيما بعد.
قلت: علمه بذلك ممنوع؛ و الدليل عليه قوله تعالى: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرٰاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ إِنّٰا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قٰالُوا لاٰ تَوْجَلْ إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ * قٰالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىٰ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (1)؟ و لو كان له علم به لم يتعجّب من البشارة المذكورة، على أنّ نفس سؤاله (ع) أعني قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ظاهر في وجود ذريّته حين السؤال.
ثمّ أعلم أنّ الدليل لا يشمل جميع الأنبياء، بل يخصّ الأئمة وحدهم، سواء كان الإمام نبيّاً أيضاً كإبراهيم الخليل نفسه، و نبيّنا الخاتم (ص) و غيرها أم لم يكن كالأوصياء من آل محمد (ص) فإنّ المراد بالعهد هو عهد الإمامة التي أعطاها الله لخليله بعد إتمامه الكلمات، و لا يمكن أن يراد بالإمامة النبوّة و الرسالة؛ فإنّها أعطيت له في كبر السن و بعد تولّد أولاده (اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ)(2) و من المقطوع أنّ إبراهيم (ع) كان قبل وجود ذريّته و كبر سنّه نبيّاً مرسلاً، و هذا واضح. و الآية الكريمة أيضاً تدلّ على المغايرة؛ فإنّ قوله: (إِمٰاماً)، مفعول ثان للفظة الجاعل، فهي بمعنى الاستقبال، فمعنى الآية إنّي سأجعلك إماماً بعد ذلك، و المفروض أنّه كان نبيّاً حين هذا الخطاب؛ إذ لا يخاطب الله أصلاً أحداً بعينه من البشر غير الرسل و النبيّين (عليهم السلام)، فافهم و استقم.
و على ضوء ذلك ينقدح أفضليّة مقام الإمامة من النبوّة و الرسالة فإنّها أعطاها الله لخليله بعد كونه نبيّاً رسولاً، بل في الروايات أنّها بعد الخلّة أيضاً.
لكنّ القدر المتيقن من دلالة الآية الكريمة هو اشتراط العدالة في الإمام من أوّل عمره إلى آخره؛ إذ العدالة تكفي لأن يصدق عليه أنّه غير ظالم؛ و لذا لا يصدق على الأخيار و أفاضل العلماء الأبرار أنّهم ظالمون صدقاً عرفيّاً و كلام الله أيضاً منزّل على فهمهم، إلاّ أن يقال إنّ
ص: 89
المناسب لعظمة الإمامة و علو رتبتها هو العصمة، و يعبّر عن هذا القول في عرف الفقهاء ب -: مناسبة الحكم و الموضوع، و ليس كثير بعد فيه فلاحظ.
و أمّا عصمته (ص) من جميع المعاصي من أوّل عمره إلى آخر حياته الكريمة عمداً و سهواً فلقوله تعالى: (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).
فإنّه يدل على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، و يثبت عصمته (ص) بطريق أولى إن لم نقل بدخوله (ص) في هذا الخطاب و إلاّ فبالمدلول المطابقي. و هذا هو الأقوى فإنّ الخمسة كلهم من أهل البيت الذي اجتمعوا فيه.
و تحقيق المقام يقتضي البحث عن جهات:
أنّ الإرادة تتشعّب إلى تكوينيّة و تشريعيّة، و الأولى هي التي يمتنع تخلّف المراد عنها، ضرورة استحالة الانفكاك بين العلّة و المعلول، و أمّا الثانية فهي لا تلازم المراد بداهة، ألا ترى أنّ الله تعالى طلب الإطاعة من الكفّار و الفسّاق مع عدم وقوعها خارجاً، و قد مرّ هذا البحث في الجزء الثاني بما لا مزيد عليه.
نعم لأحد أن يسأل عن الدليل على أنّ الإرادة في المقام تكوينيّة تستوجب المراد - و هو العصمة - فلعلّها تشريعيّة؟ قلت: الإرادة في هذه الآية تكوينيّة قطعاً لتعلّقها بأفعال نفسه تعالى، لا بأفعال غيره، و بالضرورة كلّ إرادة تعلّقت بأفعال المريد نفسه فهي تكوينيّة لا تشريعيّة.
فلو قال الله تعالى: إنّما يريد الله منكم أن تذهبوا الرجس عنكم؛ لكانت الإرادة تشريعية.
و أمّا الآن فهي تكوينيّة لا محالة(2). و هذا واضح جداً، و عليه فلا يعقل تخلّف ذهاب الرجس عنها بالضرورة، قال الله تعالى: (إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(3).
أمّا ما تفوّه به بعض سفهاء الدهلي، و بعض جهلاء بغداد(4) من أنّ وقوع مراد الله غير لازم
ص: 90
لإرادته تعالى عند الشيعة، فهو من جهالتهما و عنادهما، و كم لهما من افتراءات شنيعة و تهم فضيحة علينا. حسبيهما الله.
إنّ الفعل المضارع في الموارد الثلاثة أعني: يريد، ليذهب، و يطهر، بمعنى الحال كما هو المعلوم من سياق الآية نظير قوله: (يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ)(1). و نظير قوله تعالى: (وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ)(2)، بل ذهب جمع من النحاة منهم نجم الأئمة إلى أنّ المضارع حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال. و كيف ما كان لا يصحّ التردّد في أنّه بمعنى الحال، و عليه فالآية لا تثبت العصمة إلاّ من حين نزولها، بل تخيّل بعض المنكرين أنّ الآية تدلّ على عدم العصمة قبل نزولها، إذ لا يقال في حقّ من هو طاهر: إنّي أريد أن أطهّره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل!
أقول - و على الله الاعتماد -: إنّ من جملة أهل البيت الحسن و الحسين اتفاقاً، و كانا حين نزول الآية الشريفة صغيرين غير بالغين قطعاً فإنّ الحسن (ع) تولّد في السنة الثانية أو الثالثة من الهجرة، و الحسين في الثالثة أو الرابعة منها، فعمرهما في وقت وفاة الرسول الخاتم (ص) لم يتجاوز عن الثمانية فكيف في وقت نزول الآية الشريفة؟ و عليه فالالتزام بثبوت العصمة لهما من زمان نزول الآية لا قبله صحيح لا ضير فيه؛ إذ قبله لا موضوع للعصمة عن المعاصي المتفرّع على الشهوة و الغضب و غيرهما الفاقدة في حقّ الأطفال، فالله سبحانه إنّما عصمهما في زمان يمكن صدور المعاصي عنهما إن لم يكونا مكلّفين بتركها؛ لعدم بلوغهما سن التكليف.
و على ضوء ذلك يبطل التخيّل المتقدّم فإنّ العصمة و عدمها منتفيان في حقّهما (عليهماالسلام) بانتفاء الموضوع، و هو الميل إلى المعاصي المحرّمة على المكلّفين. على أنّ التخيّل المذكور ينتقض بقوله تعالى: (يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ)(3) إذ من الظاهر أنّه تعالى ما أراد بنا العسر قبل نزول الآية، بل أراد بنا اليسر. و بقوله تعالى: (كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشٰاءَ)(4) فإنّ يوسف الصديق لم يقرب من السوء و الفحشاء قبل الآية، فافهم.
و نقول لهم أيضاً: إنّكم فسّرتم الرجس بالشرك و كبائر المعاصي، و هل تقولون بأنّ نساء
ص: 91
النبي - قبل نزول الآية كنّ مشركات و يرتكبن كبائر المعاصي؟
فالتخيّل المذكور فاسد عند جميع المسلمين، اللهمّ إلاّ عند بعض بلهاء بغداد و سفهاء الهند النواصب.
و الآن نرجع إلى ما كنّا فيه فنقول: نحن نلتزم بأنّ مبدأ العصمة و حدوثها للحسنين (عليهماالسلام) زمان نزول الآية، و أمّا الرسول الخاتم و أمير المؤمنين و الصدّيقة الطاهرة فمبدأ عصمتهم و إن كان قبل ذلك و كان الأوضح أن يقال في حقّهم اذهب الله عنكم الرجس غير أنّ الله تعالى عبّر بعبارة جامعة تشمل الجميع أي الحسنين و والديهما.
فإن قلت: نعم، لكنّ النبيّ الأكرم و عصمة الأمير و البتول - سلام الله عليهم - قبل نزول الآية لا تستفاد من الآية الشريفة.
قلت: إنّها و إن لم تثبت بمدلول الآية اللفظي، و لكنّها تستفاد منها بطريق أولى؛ إذ أمير المؤمنين أفضل من الحسنين قطعاً و اتّفاقاً، فلا يعقل ثبوت العصمة لهما من أوائل العمر، و عدم ثبوتها له بعد العشرين من عمره؛ و لأنّ كلّ من قال بعصمة الحسنين قال بعصمة والديهما قبل نزول الآية، و من لم يقل بعصمة والديهما قبله لم يقل بعصمتهما أيضاً، فالتفكيك خرق لإجماع المسلمين! و هكذا الكلام في عصمة النبي الأكرم (ص) فإنّها عصمتها نثبت من أوائل العمر بطريق أولى.
فنقول: الرجس بمعنى العمل القبيح كما في جملة من كتب اللغة. فلاحظ: «منتهى الارب» و «أقرب الموارد» و «القاموس» و «تاج العروس» و غيرها، و في بعضها أنّه القذارة.
و قد أطلق في القرآن الكريم على الأعيان و الأفعال و الصفات(1)، قال الله تعالى: (إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ)(2) فأطلق تعالى الرجس على الميسر و هو من الأفعال، و على غيره و هو من الأعيان. و قال تعالى: (وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)(3) و الظاهر المراد به هو السوء و الخباثة فيكون معناه من الصفات. و يساوي مفهوم هذه الكلمة في الفارسية كلمة «پليدى» فمعنى ذهاب الرجس عن أهل البيت (عليهم السلام) هو كونهم طيبين في أرواحهم و نفوسهم و في أوصافهم و أخلاقهم، و
ص: 92
في أفعالهم و أعمالهم، و هم في جميع شؤنهم و حيثياتهم طيبون، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الهل ذو الفضل العظيم.
و نتيجة المقال أنّ هذه الآية الشريفة التي شرّف الله بها نبيّه الأعظم و أهل بيته تدلّ على طهارة الأهل من الشرك و الكفر و جميع المحرمات الكبيرة و الصغيرة و ترك الواجبات، فإنّها بأسرها رجس، و من جميع الأخلاق الرذيلة و الصفات الفاسدة الخارجة عن حد الاعتدال إلى حدي التفريط و الإفراط التي لا تحسن عند الله تبارك و تعالى فإنّها رجس، و الرجس ممتنع على المطهرين بإرادة الله تعالى(1).
بل الآية تدلّ على نفي ارتكاب المحرّمات عنهم سهواً، فإنّها مشتملة - على رأي أهل الحقّ - على المفاسد الموجبة للحرمة، و مجرّد السهو و إن ينفي التكليف المشروط بالقدرة، لكنّه لا يوجب زوال المفسدة عن المحرّم، فارتكابه للرجس(2)، و أمّا ترك الواجبات سهواً فليس في الآية الشريفة دلالة عليه.
ثمّ إنّ الآية الشريفة تثبت العصمة لعلي و فاطمة و الحسنين (عليهم السلام)، فتثبت لنبيّنا الأعظم (ص) بطريق أولى فإنّه أفضل منهم قطعاً(3)، و أمّا ثبوتها لبقيّة الأئمّة (عليهم السلام) فلا يمكن بهذه الآية إلاّ من جهة الإجماع المركّب، فإنّ كلّ من قال بعصمة هؤلاء الأربعة المكرمين قال بعصمة الأئمة التسعة الميامين، و من لم يقل بعصمتهم لم يقل بعصمة أولئك.
أو يقال إنّ الملاك في إذهاب الرجس عن أمير المؤمنين و الحسنين (عليهم السلام) هو إمامتهم و كونهم أولي الأمر الذين تجب طاعتهم على الأمة، و هذا الملاك بعينه موجود في الأئمة الباقية، فتكون العصمة ثابتة لهم أيضاً، و عموم الحكم بعموم العلّة و لا عبرة بخصوصيّة اللفظ.
ص: 93
فنقول: قال ابن حجر صواعقه(1) بعد ذكر الآية الشريفة: أكثر المفسّرين على أنّها نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين؛ لتذكير ضمير (عنكم) و ما بعده، و قيل نزلت في نسائه (ص) لقوله: (وَ اُذْكُرْنَ مٰا يُتْلىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ)(2)، و نسب لابن عباس، و من ثمّ كان مولاه عكرمة ينادي به في السوق! و قيل المراد النبيّ (ص) وحده!.
و قال آخرون: نزلت في نسائه؛ لأنّهنّ في بيت سكناه؛ و لقوله (وَ اُذْكُرْنَ) و إهل بيته نسبه(3)، و هم ن تحرم الصدقة عليهم، و اعتمده جمع. هذا كلامه.
أقول: أمّا القول الثالث فهو مخالف لظاهر القرآن صريحاً، فليكن بطلانه مفروغاً عنه. و يلحق به القول الثاني في الضعف؛ فإنّ تغيير الخطاب في الآية عمّا قبلها دليل قويّ على عدم إرادة الأزواج فقط، قال الله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ... وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ... يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ... وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ... يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ... وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ... إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ، وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَ اُذْكُرْنَ مٰا يُتْلىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ)(4) الخ فترى الخطاب في ا لآيات الست و الآية السابعة إلى النساء بصيغة جمع المؤنث، و تغيير الخطاب في وسطهما إلى صيغة جمع المذكر في موردين و جاء التعبير بأهل البيت عوض النساء، و هذا يستكشف جلياً تغيّر المخاطبين، و إلاّ لم يكن داعياً لتبديل الخطاب المذكور.
و أمّا ما اعتذره بعض البسطاء الذين لا يعجبهم ثبوت المنقبة لأهل الرسول (ص) من أن أفراد ضمير جمع المذكر في (عنكم و يطهركم) بلاحظة لفظ الأهل، و استشهد عليه بقوله تعالى مخاطباً لسارة: (أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ)(5). و قوله تعالى حكاية عن كليمه (ع): (فَقٰالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا)(6). فموهون جداً، فإنّا لم نمنع من استعمال ضمير جمع المذكر باعتبار لحاظ الأهل حتّى يتوجّه علينا ما ذكره - إن تم في نفسه - بل نقول: إنّ تغيّر التعبير عن جمع المؤنث إلى جمع المذكّر دليل على تغيّر الخطاب، كما يظهر لمن سلم
ص: 94
من العصبيّة.
ثمّ نقول لذلك المتعصب: إنّ تغيّر ضمير جمع المؤنّث إلى جمع المذكّر عندك من جهة ملاحظة الأهل، لكن ما هو السبب في تغيّر التعبير عن النساء ب - «أهل البيت»؟!.
فإن قلت: الأمر كما ذكرت لكنّه يبقى هنا سؤال، و هو أنّ إدخال غير الأزواج في أثناء الآيات المخاطبة لهنّ ربّما يضرّ بنظام البيان و سياق الخطاب.
قلت: هذا مجرّد استبعاد لا ينبغي للفضلاء لفت النظر إليه، كيف و مثله في القرآن كثير و إليك بعضه: قال الله تعالى: إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ * وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ... * يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ (1) انتهى فانظر - عصمك الله - كيف وقع الفصل و تغيّر السياق بين أقوال لقمان بكلامه تعالى.
بل في نفس السورة بعد قوله تعالى: (وَ اُذْكُرْنَ مٰا يُتْلىٰ)(2) انصرف سبحانه عن مخاطبة أزواج النبي و أنزل عشر آيات في أمور أخر، ثمّ وجّه إلى حالهن و قال لنبيّه (ص): (تُرْجِي مَنْ تَشٰاءُ مِنْهُنَّ)(3) انتهى.
فاتّضح فساد هذا القول و سقوط أساسه، و أمّا نسبته إلى ابن عباس فهي كذب فإنّه أجلّ من أمثال هذه الترّهات، بل عن أدناها. نعم، هو يناسب عكرمة البربريّ (4) و عطاء(5) و مقاتل(6) و أضرابهم؛ ولذا نسب إليهم.
بقي القولان الآخران و ترجيح أحدهما على الآخر.
أقول: مجرّد ضمير جمع المذكر لايقتضي تعيّن القول الأول، كما يخفى على المنصف، و إنّما هو يدّل على دخول غير الأزواج من أهل البيته (عليهم السلام) في الخطاب فيصحّ أن يقال: إنّ الاظهر هو القول الأخير؛ إذالأزواج من أهل البيت و إن أنكره زيد كما عن صحيح الترمذى، نعم تعميم
ص: 95
الأهل إلى كلّ من حرّم عليه الصدقة من القول الزوار(1).
لكن الذى يعيّن الذهاب إلى القول الأوّل و يبطل القول الأخير إبطالاً قطعيّاً أمور تظهر عند انظر الدقيق و عند البناء على التحقيق؛ و لذا قال السيّد أبوبكر الشافعيّ في كتابه «رشفة الصاديّ»(2): والذي قال به الجماهير من العلماء، و قطع به أكابر الأئمة، و قامت به البراهين، و تظافرت به الأدلّة أنّ أهل البيت المرادين في الآية، هم سيّدنا علي، و فاطمة، و ابناهما....
و أمّا تلك الأمور فإليك بيانها:
1 - إنّ ذهاب الرجس و التطهير على تقدير دخول غيرالمؤمنين و فاطمة و الحسنين (عليهم السلام) في الخطاب محمولان على العدالة لا محالة؛ إذ لاقائل بعصمة غيرهم فيلغو الحصر المستفاد من كلمة «إنّما» و المدح المستفاد من السياق؛ إذ الصحابة بأجمعهم عدول عند العامّة و لو بامتثال الإرادة التشريعّية، فافهم.
لا يقال أن عدالة الأهل بالإرادة التكوينية، و إرادة غيرهم باختيارهم، فإنّه يقال أن هذا مما لم يقل به أحد من أهل النظر حسب علمي، و لا يحتمل راجحاً وجود قائل به.
2 - قد عرفت أنّ الأخلاق الذميمة وارتكاب المحرّمات و لو خطأً رجس، و كانت بعض الازوجات علي بغض شديد الأمير المؤمنين و أهله، و ربّما نشير إلى بعض موارده فيما بعد إن شاءالله.
و قد بغت على إمام زمانها و سبّبت قتل كثير من المسلمين، و فرض كونها مجتهدة مخطئة لا ينافي أنّ قيامها هذا و تسبيبها قتل المسلمين، رجس، فكان بعض أخلاقها و أفعالها رجساً، فلا يصحّ دخولها في خطاب الآية؛ صوناً للقرآن المجيد عن الكذب، فلا يصحّ دخول جميع الزوجات؛ لبطلان قول الفصل.
3 - قوله تعالي: (فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً)(3) الدالّ على عدم حسن حال جمعيهنّ و إلاّ يقل أعدّالله لكنّ أجراً عظيماً، كذا غيره من الايات الكريمة المشتملة على لحن غير ملائم للتعظيم و المدح ينافي سياق هذه الآية المباركة الدالّة على المدح و التعظيم و التكريم.
4 - قد عرفت أن المخاطبين بهذه الآية أهل بيت خاص جمعوا فيه لا حرما، و لم ينقل عن أحد، حضور غير الخمسة في البيت المذكور.
ص: 96
5 - و هو العمدة: الروايات الكثيرة الصحيحة الصريحة الواردة في كتب العامّة، و هي إن فرض عدم بلوغها التواتر، لكنّها مقطوع الصدور؛ إذ لا داعي للعامّة على جعل الروايات الدالّة على فضائل أهل البيت كما يحتمل ذلك في حقّ الغلاة و الصوفية مثلاً، بل الأمر بالعكس كما لا يخفى على الفطن، و نحن إذ لا يسعنا نقل جميع هذه الروايات، و لا ذكر أسنادها، بل و لا نقل مصادرها و من ذكرها لكثرتهاو كثرة من نقلها(1) نكتفي بذكر بعضها:
قال ابن حجر في الصواعق: لمسلم أنّه (ص) أدخل أولئك تحت كساء عليه، و قرأ هذه الآية، و صحّ أنّه صلّى الله و سلم جعل على هؤلاء كساء، و قال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامّتي - أي خاصّتي - اذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: و أنا معهم، قال: إنّك على خير».
و في رواية أنّه قال بعد تطهيراً: «أنا حرب لمن حاربهم؛ و سلم لمن سالمهم، و عدو لمن عاداهم».
و في أخرى..: «اللهمّ إنّ هؤلاء آل محمّد فاجعل صلواتك(2) و بركاتك على آل محمد...».
و في أخرى أنّه قال: «اللهم أهلي أذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً ثلاثاً و أنّ أم سلمة قالت له: ألست من أهلك؟ قال: بلى». و أنّه أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم.
أقول: و في جملة كثيرة من الروايات ردّ أم سلمة و أنّها على خير.
و في بعضها قوله (ص): إنّها من أهله، و لكن هذه الرواية نعمت شاهدة جمع فهي من الأهل و أدخلها الرسول الأعظم (ص) تحت الكساء لكن بعد الدعاء فهي لم تذهب عنها الرجس، و لم يدع لها النبي (ص) بذلك كما دعا للاربعة المذكورين.
و أيضاً لو كانت أزواجه (ص) داخله في أهله المذكور في الآية لقال (ص): إنّهم من أهلي. و لم يقل هؤلاء آل محمد. اللهمّ أهلي الدالّ على أنّهم الأهل لا غيرهم. و تفكّر في هذه الرواية حتّى
ص: 97
تعلم أنّ ما نسجه أفكار الناصبة الجامدة يذهب هباءً منثوراً.
و في رواية المرزبانيّ (1) عن أبي الحمراء قال: خدمت النبيّ (ص) نحواً من تسعة أشهر أو عشرة، و كان عند كلّ فجر لا يخرج من بيته حتّى يأخذ بعضادتي باب علي (ع) ثمّ يقول: «السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، فيقول علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام): و عليك السلام يا نبيّ الله و رحمة الله و بركاته، ثمّ يقول: الصلاة رحمكم الله و بركاته، ثمّ يقول: الصلاة رحمكم الله (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2) ثمّ ينصرف إلى مصلاّة» و قريب منها غيرها.
انظر إلى هذه المواظبة و التعمّد إلى تعريفهم و بيان أنّهم هم المخاطبون بالآية الكريمة و لكنّ الله يهدي من يشاء.
بقي شيء ينبغي ذكره - و إن طال بنا المقام - و هو أنّ جمعاً من المخالفين ادعوا أنّ الآية الكريمة إن دلّت على عصمة أهل البيت؛ لدلّ قوله تعالى: (وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)(3) و قوله تعالى: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطٰانِ)(4) على عصمة جميع الصحابة.
قلت: هذه المعارضة ساقطة، فإنّ المراد من الطهارة في الآيتين هو زوال الحدث الأكبر و الأصغر فقط، و إليك ما قبل الآية الأولى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا... وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ (5) انتهى.
فاتّضح المراد و أنّ التميم يطهّر ما حدّث للنفس من الجنابة و ممّا يوجب الوضوء، و أين هذا من إزالة المعاصي و تطهير النفس من جميع الآثام؟! بل الآية تدلّ على بطلان مذهب الجمهور من مقلدي أبي الحسن الأشعري من امتناع تبعيّة أفعال الله و تشريعاته للمصالح و المفاسد، فافهم.
و إليك ما قبل الآية الثانية: (وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ
ص: 98
رِجْزَ اَلشَّيْطٰانِ)(1). و من المعلوم أنّ الماء لا يطهّر النفوس من الذنوب، فلا محالة يكون المراد من الطهارة ذهاب زوال الجنابة و أثر الاحتلام الذي هو من وسوسة الشيطان، و هي أيضاً دالّة على تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة على ذاته غير الراجعة إليه، كما هو مذهب الإماميّة و من تبعهم من المعتزلة، و بعد ذلك كلّه أليس الرجوع إلى الحقّ خيراً؟ أليس ترك العناد و العصبيّة على آل محمّد جائزاً؟ ألم يأئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله، و يرجح القرآن على تقليد السلف و محبّة بني أمية(2)؟
و ممّا يدلّ على عصمة النبي الأعظم (ص) و أوصيائه الكرام من أهل بيته (عليهم السلام) أخبار الطينة، التي فصّلنا القول فيها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، و قد عرفت منها أنّ المقتضي للمعاصي و الرذائل هو الطينة المأخوذة من السجّين، و حيث إنّ طينة النبيّ الأكرم و الأئمة (عليهم السلام) من العليّين فقط فلا داعي و مقتضي لهم إلى الذنب و المعصية فتثبت بها عصمتهم من أوّل أعمارهم إلى آخرها من جميع الذنوب.
و بالجملة: أبدانهم من العليّين، و أرواحهم و أنوارهم قد عبدت الله قبل خلقة الخلق بشهادة الأخبار الكثيرة، و من هذا شأنه لا يميل إلى المعصية، فكيف يفعلها و قد مرّ - في مبحث عصمة الأنبياء - أنّ من أسباب العصمة جعل ما يقتضي عدم العصيان في نفس المعصوم أو بدنه، و يمكن إجراء هذا الوجه في حقّ الأنبياء (عليهم السلام) أيضاً، لما في بعض تلك الأخبار من أنّ طينتهم كطينة الأئمة (عليهم السلام) فهذا الوجه أعمّ من جميع أدلّة العصمة فإنّه يثبت عصمة جميع الأنبياء و الأوصياء من آل محمّد (ص) من أوّل العمر إلى آخره كما يقول به الإمامية، فافهم. نعم، هو لا ينفي السهو عنهم مطلقاً.
ص: 99
ثمّ إنّ هنا روايات أخر تدلّ على عصمة الأئمة (عليهم السلام) فيثبت بها عصمة الرسول الأعظم (ص) بطريق أولى:
فمنها: قول رسول الله (ص)(1): «... فليتول علياً و الأئمة من ولده فإنّهم خيرة الله عزّ و جلّ، و صفوته، و هم المعصومون من كلّ ذنب و خطيئة».
و منها: قول السّجاد (ع): «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً» انتهى.
و منها: قول الأشقر لهشام بن الحكم: ما معنى قولكم إنّ الإمام لا يكون إلاّ معصوما؟ قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن ذلك، فقال: «المعصوم هو الممتنع بالله عن محارم الله» انتهى.
و منها: قول الصادق (ع): «الأنبياء و أوصياؤهم لا ذنوب لهم؛ لأنّهم معصومون مطهّرون».
و منها: ما رواه مسلم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع): «... و إنّما أمر بطاعة أولي الأمر؛ لأنّهم معصومون مطهّرون، لا يأمرون بمعصية».
و منها: رواية ابن عباس قال: سمعت رسول الله يقول: «أنا و عليّ و الحسن و الحسين و التسعة من ولد الحسين مطّهرون معصومون».
و منها: ما عن الثعلبيّ في تفسيره عن الصادق (ع) في قوله تعالى طه: أي طهارة آل البيت صلوات الله عليهم من الرجس، ثمّ قرأ: (إِنَّمٰا يُرِيدُ) الآية أقول: جميع ما ورد في ذليل الآية الشريفة من طرق الخاصّة و العامّة يدلّ على عصمتهم.
و منها: ما عن الصادق (ع): «نحن قوم معصومون أمر الله تبارك و تعالى بطاعتنا» انتهى(2).
و منها: قول الحجة عجل الله فرجه في توقيع(3): «عصمهم من الذنوب و برأهم من العيوب و طهّرهم من الدنس» انتهى.
و منها: قول الرضا (ع): «فهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد، قد أمن من الخطأ و الزلل».
و منها: قول أمير المؤمنين (ع): «أن يعلم الإمام المتولّي عليه أنّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها و كبيرها، لا يزلّ في الفتياء، و لا يخطئ في الجواب، و لا يسهو، و لا ينسى، و لا يلهو لشيء من أمر الدنيا <(و لا يلهوه شيء من امر الدنيا (نسخة)(4).
و منها: قوله (ع) في رواية سليم بن قيس: «إنّ الله عزّو جلّ طهّرنا و عصمنا، و جعلنا شهداء
ص: 100
على خلقه، و حجّته في أرضه، و جعلنا مع القرآن، و جعل القرآن معنا، لا نفارقه، و لا يفارقنا».
و منها: قول الصادق(1): «ممّا استحقّت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب و معاصي الموبقة» (هكذا) انتهى.
و يدلّ على عصمتهم ما ورد من أنّ روح القدس لا يلهو و لا يسهو، فإنّه كما أشرنا إليه سابقاً.
و لعلّ المتتبع يجد أكثر من ذلك حتّى تصير الروايات المذكورة متواترة.
نعم، القدر المتيقّن من دلالتها هو العصمة حال الإمامة لا قبلها.
و ممّا يستفاد منه عصمة النبي الأكرم و جميع أوصيائه الكرام - سلام الله عليهم - ما ورد في بيان مناقبهم، و فضائلهم، و كمالاتهم، و علومهم، و معارفهم ممّا يحيّر العقول و يدهش الأفكار، فإنّ هذه المراتب تستلزم العصمة، كيف و هم أفضل الخلائق؟ و أفضل الخلائق إذا لم يكونوا معصومين مطهّرين، فمن يصلح للعصمة و الطهارة(2)؟
هذا ما وسعني من ذكر الأدلة في إثبات عصمة النبيّ والأئمة (عليهم السلام) من العقل و القرآن و السنة من غير تعصّب و عاطفة، و هي كما ترى صريحة في المطلوب، فلا بدّ من الأخذ بها و الاعتقاد بمضمونها، و أمّا ما في رواية حبيب الخثعمي(3) من قول الصادق (ع): «إنا لنذنب و نسيء ثمّ نتوب إلى الله متاباً» فلو فرضناها رواية صحيحة سنداً صريحة دلالة، و فرضنا حجّية خبر الواحد في أمثال المقام، و لم نقل أيضاً بمخالفتها لضرورة مذهب الشيعة؛ لطرحناها لمخالفتها للكتاب و السنّة القطعيّة على ما عرفت.
و يمكن حملها على أحد المحامل التي ذكرها علماؤنا المحقّقون للأدعية الصادرة عنهم (عليهم السلام) المشتملة على الاستغفار و الاعتراف بصدور الذنب عنهم (ع) فلا حظها حتّى تعلم أنّ ذلك كلّه لا ينافي عصمتهم (عليهم السلام) فما أجهل و أغرّ بعض بسطاء الهند حيث توهّم أنّ استغفارهم ينافي عصمتهم! أوقد خفي عليه أنّ النبي الأكرم هو المستغفر الأوّل، قال الله تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اِسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كٰانَ تَوّٰاباً)(4) و قال تعالى: (وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ
ص: 101
غَفُوراً رَحِيماً)(1).
نعم، أمثال هذا الهندي و الآلوسي و من شابههما في زيغ القلب لا يفهمون معنى استغفار المعصوم، و لا يتوجّهون إلى أنّ حسنات الأبرار سيّئات الأبرار سيّئات المقرّبين، و أنّهم يستغفرون ممّا نتقرّب به إلى الله تعالى؛ فإنّهم يرون الاشتغال بغير الأفضل و الأهم ذنباً، و إن كان هذا لغيرهم عملاً راجحاً و مندوباً؛ فضلاً عن أن يكون مباحاً غير راجح.
و لنعم ما قيل:
كار پاكان را قياس از خود مگير *** گرچه باشد در نوشتن شير شير
ان يكى شير است آدم مى خورد *** و انديگر شير است آدم مى درد
قال العلاّمة المجلسي (قدس سره)(2): إنّ أصحابنا الإماميّة أجمعوا على عصمة الأنبياء و الأئمة - صلوات الله عليهم - من الذنوب الصغيرة و الكبيرة عمداً و خطأً و نسياناً قبل النبوّة و الإمامة و بعدهما، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه، و لم يخالف فيه إلاّ الصدوق محمد بن بابويه، و شيخه ابن الوليد - قدّس الله روحهما - فجوّزا الإسهاء من الله تعالى، لا السهو الذي يكون من الشيطان، و لعلّ خروجهما لا يخلّ بالإجماع لكونهما معروفي النسب.
و أمّا السهو في غير ما يتعلّق بالواجبات و المحرّمات، كالمباحات و المكروهات فظاهر أكثر أصحابنا أيضاً الإجماع على عدم صدوره عنهم.
أقول: للبحث مقامات ثلاثة:
و هذا ممّا لا شكّ فيه على ما تقدّم بيانه و برهانه، فافهم. و لا أجد في ذلك مخالفاً من الإماميّة أصلاً.
و عمدة دليله هو الإجماع المنقول في كلام المجلسيّ المتقدّم.
ص: 102
و يظهر من علم الهدى خلافه، قال في محكي تنزيه الأنبياء(1): إنّ النبي (ص) إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه أو في شرعه، أو في أمر يقتضي التنفير، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه فلا مانع من النسيان، ألا ترى أنّه إذا نسي أو سها في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمرّ و لا يتّصل فينسب إلى أنّه مغفّل ان ذلك غير ممتنع.
و الإنصاف أنّه لا دليل على نفي ذلك عنهم، و لا سيّما قبل النبوّة و قبل البلوغ، بل ظاهر القرآن خلافه، قال الله تعالى: (وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(2) و قال في حقّ موسى و يوشع (عليهماالسلام): (نَسِيٰا حُوتَهُمٰا)(3) و قال أيضاً حكاية عن الأوّل منهما: (لاٰ تُؤٰاخِذْنِي بِمٰا نَسِيتُ)(4) و عن الثاني عنهما: (فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ)(5) و خاطب حبيبه (ص): (وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذٰا نَسِيتَ)(6)، فالأحرى للمؤمن التوقّف. و الله الهادي.
و قد عرفت من المجلسي (رحمه الله) إجماع أصحابنا الإمامية على ذلك، لكن خالف فيه الصدوق و شيخه ابن الوليد - رحمهما الله - قال الأوّل(7): إنّ الغلاة و المفوّضة - لعنهم الله - ينكرون سهو النبيّ (ص) يقولون: لو جاز أن يسهو (ع) في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنّ الصلاة فريضة كما أنّ التبليغ فريضة... و ليس سهو النبي (ص) كسهونا؛ لأنّ سهوه من الله - عزّ و جلّ، و إنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه و ليعلم الناس بسهوه حكم السهو... و كان شيخنا
ص: 103
محمّد بن الحسن بن أحمد الوليد (رحمه الله) يقول أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (ص)... و أنا احتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي (ص)، و الردّ على منكرية. انتهى كلامه.
أقول: و للأمين الطبرسي كلام فوق ذلك قاله في ذيل الكريمة: (وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ فَلاٰ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرىٰ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ)(1) ردّاً على الجبائي(2) و أمّا النسيان و السهو فلم يجوزوهما عليهم - أي الإماميّة على الأنبياء - فيما يؤدّونه عن الله تعالى، فأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهو عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل. و كيف لا يكون كذلك و قد جوّزوا عليهم النوم و الإغماء، و هما من قبيل السهو... الخ، فقد جوّز مطلق السهو عليهم و إن كان من الشيطان، بل ظاهره اتفاق الإماميّة عليه. و اعترض عليه بأنّه لم يقله أحد، و الصدوق و شيخه إنّما جوّزوا الإسهاء من الله لا مطلق السهو و إن كان من الشيطان فالإماميّة متّفقة على عدمه.
و أمّا العلاّمة المجلسيّ (رحمه الله) فتارة يذهب مذهب المشهور(3) و أخرى يتوقّف و يجعل المسألة - على حدّ تعبيره - في غاية الإشكال(4).
و ممّن اختار هذا القول الفاضل الطريحيّ (رحمه الله) في مجمع البحرين(5) فإنّه لم يستبعد تخصيص عدم جواز السهو برواية ذي اليدين الدالّة على سهوه (ص) في الصلاة على أجمال في عبارته.
و قال المحدّث الجزائري بعد ما اختاره(6): و ظاهر كثير من المحدّثين الذهاب إليه، حيث إنّهم نقلوا الأخبار الواردة في شأن السهو من غير تعرّض منهم لردّها فيكون كالموافقة السكوتية منهم، و أمّا المعاصرون في هذه الأوقات فقد ذهب منهم المحقّق الكاشي و بعض مجتهدي العراق إليه.
قلت: الفيض الكاشاني لم يصرّح بهذا القول: بل نقل الروايات و كلام الصدوق لكنّ المستفاد من مجموع كلامه أنّه أختاره أو يميل إليه فلاحظ(7).
ص: 104
أقول: أساس الاختلافات بين هؤلاء المذكورين و بين المشهور هو الروايات الدالّة على سهو النبي (ص) و بعض الأئمة، و إذا ثبت ذلك في حقّ مثله (ص) فلا شكّ في ثبوت السهو لغيره من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) إذ لا يعقل انتفاء السهو عن الفاضل مع ثبوته للأفضل، فلا بدّ من لفت النظر إليها و هي على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّ على أنّه (ص) سلّم على الركعتين الأوليين فلمّا قيل له ذلك قام و أتّمهما بالركعتين الأخيرتين، و صرّح في بعض هذه الأخبار أنّ هذا كان في صلاة الظهر و هي إحدى عشرة رواية فيها الصحاح و الموثّقة و الضعاف، و قد أخرجها الشيخ و الكليني (قدس سره) في التهذيب و الكافي و المجلسي جمعها في بحاره(1).
و يؤيّدها خبر الهروي قال: قلت للرضا (ع) يا ابن رسول الله إنّ في الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبيّ (ص) لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: «كذبوا لعنهم الله إنّ الذي لا يسهو هو الله لا إله إلا هو». لكن سنده غير قوي.
ثمّ إنّ في بعض هذه الروايات أنّ ذا الشمالين قال له (ص) إنّما صلّيت ركعتين فقال رسول الله (ص) - للناس -: أ تقولون مثل قوله؟ قالوا: نعم. و في بعضها؛ ثمّ سلّم في ركعتين فسأله من خلفه يا رسول الله (ص) أحدث في الصلاة شيء؟ قال: و ما ذاك؟ قالوا: إنّما صلّيت ركعتين، فقال: أ كذاك يا ذا اليدين؟ - و كان يدعى ذا الشمالين - فقال: نعم. فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعاً.
لكن يمكن رفع الاختلاف بتعدّد الواقعة أو على اشتباه من بعض الرواة فلا يصحّ الإشكال عليها من هذه الجهة.
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّه (ص) صلّى الظهر خمس ركعات(2) و هي رواية واحدة.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّه (ص) لمّا انصرف من صلاته قال لأصحابه: هل أسقطت شيئاً في القرآن - القراءة - قال: فسكت القوم، فقال النبي: أفيكم أبي بن كعب؟ فقالوا: نعم، فقال: هل أسقطت فيها بشيء؟ قال: نعم، يا رسول الله. فغضب (ص) ثمّ قال: ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فلا يدرون ما يتلى عليهم منه و لا ما يترك؟ هكذا هلكت بنو إسرائيل حضرت أبدانهم و غابت قلوبهم، و لا يقبل الله صلاة عبد لا يحضر قلبه مع بدنه(3).
أقول: و هي مع عدم نقاوة سندها غير مربوطة بالمقام للاحتمال القوي أنّ إسقاطه (ص) شيئاً من القراءة كان بعمد منه (ص) إخباراً أو إرشاد لأصحابه، كيف و لو لا ذلك لم يكن مجال
ص: 105
لعتابه (ص) مع وقوع السهو منه أيضاً، فافهم جيداً.
الطائفة الرابعة: ما ورد في حقّ أمير المؤمنين و الصادق (عليهماالسلام) ففي رواية الفضيل(1) قال: ذكرت لأبي عبد الله (ع) السهو. فقال: «و ما ينفلت من ذلك أحد؟ ربّما أقعدت الخادم خلفي يحفظ عليّ صلاتي». و في رواية(2): أنّ أمير المؤمنين (ع) صلّى بالناس على غير طهر و كان ظهراً ثمّ دخل فخرج منادياً أن أمير المؤمنين صلّى على غير طهر، فأعيدوا و ليبلّغ الشاهد الغائب.
الطائفة الخامسة: ما دلّ على أنّ النبي (ص) رقد عن صلاة الفجر حتّى طلعت كما في موثّقة سماعة، و صحيحة ابن النعمان عن الأعرج(3) و فيها: و الله عزّ و جلّ أنامه... و كان ذلك رحمة من ربّك للناس و رواية أخرى للأعرج(4) و رواية الشهيد (قدس سره) في الذكرى(5)، قال، روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (ع).. فهذه أربع روايات في المقام.
قال الشهيد - قدّس الله نفسه - بعد رواية زرارة: و لم أقف على رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة. و عن الشيخ البهائي أنّه - أي عدم وقوف الشهيد على الرادّ - يعطي تجويز الأصحاب صدور ذلك و أمثاله عن المعصوم. قال: و للنظر فيه مجال.
قال صاحب الرسالة الذي قلنا إنّه الشيخ المفيد على غالب الظنّ (6): و لسنا ننكر أن يغلب النوم على الأنبياء في أوقات الصلاة حتّى يخرج فيقضوها بعد ذلك و ليس عليهم في ذلك عيب و نقص... و ليس كذلك السهو؛ لأنّه نقص عن الكمال. إلى آخر كلامه الطويل.
و للمجلسيّ كلام مفيد لا بأس بنقله قال(7):
و لم أر من قدماء الأصحاب من تعرّض لردّها - أي الأخبار الدالّة على نومه (ص) - إلاّ شرذمة من المتأخرين ظنّوا أنّه ينافي العصمة التي ادّعوها، و ظنّي أنّ ما ادّعوه لا ينافي هذا؛ إذ الظاهر أنّ مرادهم العصمة في حال التكليف و التمييز و القدرة و إن كان سهواً، و إن كان قبل النبوّة و الإمامة، و إلاّ فظاهر أنّهم (عليهم السلام) كانوا لا يأتون بالصلاة و الصوم و سائر العبادات في حال
ص: 106
رضاعهم، مع أنّ ترك بعضها من الكبائر، و هذا لا ينافي الأخبار الواردة بأنّهم كانوا من الكاملين في عالم الذر و يكلّمون في بطون أمهاتهم، و عند ولادتهم؛ لأنّ الله تعالى مع أنّه أكمل أرواحهم في عالم الذّر و يظهر منهم الغرائب في سائر أحوالهم على وجه الإعجاز، جعلهم مشاركين مع سائر الخلق في النمو و حالة الصبا و الرضاع و البلوغ. و إن كان بلوغهم لكمال عقولهم قبل غيرهم.
و لم يكلّفهم في حال رضاعهم و عدم تمكّنهم من المشي و القيام بالصلاة و غيرها، فإذا صاروا في حدّ يتأتي ظاهراً منهم الأفعال و التروك لا يصدر منهم معصية فعلاً و تركاً و عمداً و سهواً، و حالة النوم أيضاً مثل ذلك، و لا يشمل السهو تلك الحالة.
لكن فيه إشكال من جهة ما تقدّم من الأخبار و سيأتي أنّ نومه (ص) كان كيقظته، و كان يعلم في النوم ما يعلم في اليقظة، فكيف ترك الصلاة مع علمه بدخول الوقت و خروجه؟
ثمّ أجاب عن الإشكال بأنّ الله غلب النوم عليه لمصلحة، أو إنّه (ص) لم يكن مكلّفاً في حالة النوم، أو كان مأموراً بترك الصلاة مع علمه بدخول الوقت و خروجه، أو إنّه (ص) في حالة النوم غير قادر على القيام. و هو لا ينافي علمه في تلك الحالة. انتهى كلامه ملخّصاً.
أقول: و المتعيّن هو الجواب الأوّل فإنّه المذكور في بعض الروايات المتقدّمة، فثبوت مساواة نومه و يقظته في الاطلاع لا ينافي إنامة الله إيّاه في مورد المصلحة.
و بالجملة: الأصحاب لم يتّفقوا على بطلان جواز نومه (ص) عن الصلاة مثل ما اتّفقوا على بطلان سهوه في الصلاة، فقد صرّح غير واجد باستحالة السهو عليه (ص) و لو في الصلاة، و طرحوا الأخبار المتقدّمة، و إليك دلائلهم:
1 - إجماع الأصحاب على نفي السهو عن المعصوم مطلقاً، و لا يضرّه مخالفة جماعة تقدّم أسماؤهم؛ إذ حجية الإجماع - على طريقة المتأخّرين - من باب الحدس برضا المعصوم (ع) و فيها لا يعتبر اتّفاق الكلّ.
2 - إنّ السهو يوجب تنفير الناس عنه المستلزم لنقض الغرض، فيمتنع على الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام).
3 - قوله تعالى: مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ (1) انتهى.
و قوله: إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ (2).
ص: 107
و قوله: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ (1) انتهى.
4 - التأسّي بهم واجب في جمع أقوالهم و أفعالهم، و أيضاً تجب متابعتهم على الناس فلا بدّ ألاّ يسهوا.
5 - بعض الأخبار المتقدّمة و غيرها الدالّة على نفي السهو و الزلل عنهم.
6 - موثّقة ابن بكير(2) قال: سألت أبا جعفر (ع): هل سجد رسول الله سجدتي السهو قط؟
فقال: «لا، و لا سجدهما (يسجدهما) فقيه».
7 - موافقة الأخبار المذكورة (الدالّة على سهوه (ص) و نومه) للعامّة لورود روايات دالّة على ذلك من طرقهم. فتحمل على التقيّة.
8 - اختلافها في نفسها كما ذكرناه سابقاً.
9 - السهو نقص للنبي؛ لأنّه ربّما ينشأ من تقصيره، و لا يكون النبيّ مقصّراً.
10 - لو جاز عليه السهو في الصلاة لجاز عليه ترك جميع الواجبات و إتيان جميع المحرّمات سهواً، و لا يلتزم به موحّد.
11 - قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ)(3). قلت: و كم فرق بين الاستدلال المستدلّ و بين استدلال من استدلّ به - بضميمة قوله تعالى: (إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ)(4) - على صحّة السهو منه صلّى الله عليه و آله و سلّم، و كذا استدلّ على صحّة سهوه (ص) بقوله تعالى: (وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ)(5) و بقوله: (وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذٰا نَسِيتَ)(6). و كلمة «إذا» للتحقّق.
12 - ما دلّ على أنّ النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) مؤيّدون بروح القدس - كما مرّ - ففي صحيحة فضيل بن يسار(7) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «... و إنّ رسول الله كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس لا يزال و لا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق انتهى.
13 - إن الأخبار الدالّة على سهوه (ص) مخالفة لضرورة المذهب.
14 - إنّها لا تفيد الظنّ، لا يغنى من الحقّ شيئاً.
ص: 108
15 - إنّها مخالفة لقوله تعالى: (وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(1) انتهى.
و قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاٰتِهِمْ سٰاهُونَ (2).
أقول: أمّا الإجماع فلا كلام لنا عليه فإنّ حجّيته موقوفة على القطع برضا المعصوم و هو يختلف باختلاف الأشخاص، و لا ضابط كلّيّ له.
و أمّا الوجه الثاني فهو باطل صغرى و كبرى كما مرّ.
و أمّا الثالث و الرابع فقد مرّ الجواب عنهما في مسألة اشتراط العصمة، و عسصمة النبيّ الأكرم و آله الكرام (ص) فلا نعيد.
و أمّا الخامس فمع كونه من الأخبار الآحاد، مخصوص بغير الإسهاء جمعاً بين الأدلة.
و أمّا السادس - و هو العمدة - ففيه أنّ قوله (ع): «و لا سجدهما فقيه». يوجب إجمال الرواية و حمل الفقيه على المعصوم تخرّص، مع إمكان حمله على غير الإسهاء جمعاً بين الأخبار.
و أمّا السابع فهو ضعيف؛ لأنّ الحمل على التقيّة - كما تقرّر في أصول الفقه - إنّما هو في فرض التعارض.
و ليس في أخبارنا ما يعارض الروايات المذكورة، لما عرفت من إجمال موثّقة ابن بكير.
و أمّا الثامن فلا مسرح له أبداً فإنّ أخبارنا غير متعارضة، و إنّما المختلف أخبار العامة في ذلك، و نحن لا نستدلّ بها و لا نرى لها حجّية أصلاً.
و أمّا التاسع فهو و إن صدر عن رجل عظيم لكنّه خارج عن محلّ الكلام رأساً؛ فإنّ إسهاء الله لا يعقل أن يكون من تقصير المكلّف، لكنّ الجواد قد يكبو.
و أمّا العاشر فالملازمة بيّنة البطلان، و الإنصاف أنّ صدوره لم يكن متوقّعاً من ذلك الجليل العظيم.
و أمّا الحادي عشر فقد اتّضح حاله ممّا سبق.
و أمّا الثاني عشر فهو مثل التاسع فإنّه خارج عن محلّ البحث، و مثله الوجه الخامس عشر.
و أمّا الثالث عشر فهو دعوى محضة، و المثبتون أعلم بالمذهب من المعترض بمراتب.
و هناك وجوه أخرى تعرّض لها بعض المتكلّمين(3) لكنّها مثل هذه الوجوه ضعيفة جداً، فالإنصاف أنّه لم يقدروا على إبطال قول المثبتين حسب الموازين العلميّة العقليّة و النقليّة. و إنّما ذكروا في ردّه أموراً لا تفيد الظنّ فضلاً عن العلم.
ص: 109
لكنّ الذي يوجب رفض موافقة الصدوق و غيره، و عدم السير معهم هو أنّ الأخبار الدالّة على السهو و النوم غير قطعيّة الصدور، و لئن كان صدورها قطعياً لم تكن جهة صدورها واضحة المراد فلا يحسن الاعتماد عليها في أمثال المقام، و لا سيّما مع مخالفة أقطاب الإماميّة وجهابذة الشيعة معها و مقتضى التورّع الديني أن يقال: و الله سبحانه هو العالم.
ص: 110
نبيّنا الأعظم (ص) أفضل من جميع النبيّين و المرسلين، بلا خلاف أجده من المسلمين في ذلك، بل قيل إنّ الأمّة متّفقة على ذلك.
و الظاهر أنّه من الواضحات الإسلاميّة و إليك بعض ما يستفاد منه أفضليّة (ص) صريحاً أو ظاهراً.
1 - قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ)(1). بناءً على أنّ خيريّة الأمّة مستلزمة لخيريّة نبيّها على أنبياء سائر الأمم المفضّل عليها كما هو غير بعيد.
2 - قوله تعالى: (ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى * فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ)(2) بناءً على أنّ التعبير المذكور كناية عن وصوله (ص) نهاية درجات القرب و الشرف و الكرامة من الله تعالى، بضميمة بعض الأخبار الدالّة على أنّ معراجه (ص) من خصائصه.
3 - قوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ)(3). و كلمة «العالمين» يحتمل شمولها لجميع ما سوى الله كما في قوله تعالى: (اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ)(4).
4 - الروايات الدالّة على أنّه (ص) و أوصيائه الكرام (عليهم السلام) علل غائيّة لإيجاد الخلق، على ما بحثنا عنها في الجزء الثاني.
5 - الروايات الدالّة على أنّهم أوّل ما خلق الله، و أنّهم سبّحوا الله و عبدوه قبل جميع العابدين و المسبّحين، و أنّ الملائكة تعلّموا التسبيح منهم.
6 - ما دلّ على أخذ الميثاق من جميع الأنبياء لنبيّنا و الأئمة (عليهم السلام) منها رواية عبد الأعلى(5)
ص: 111
قال: قال أبو عبد الله (ع): «ما نبئ نبي قطّ إلاّ بمعرفة حقّنا و بفضلنا على من سوانا».
7 - ما ورد في وجه سبقته الأنبياء من أنّه أوّل من آمن و أوّل من قال: بلى، في جواب: ألست بربكم؟ و هذا نصّ بصدره على المطلوب، ظاهر بذيله فيه.
8 - ما دلّ على أنّ آدم (ع) و جميع من خلق الله يستظلّون تحت لوائه (ع) يوم القيامة.
9 - ما دلّ على تحريم دخول الجنة على الأنبياء (عليهم السلام) حتّى يدخلها النبي الأكرم (ص) و ما ورد فيه أنّ الله أكرمه (ص) بالحوض دون الأنبياء.
10 - ما دلّ على أنّه تعالى بعث الأنبياء بنبوّة النبيّ الأكرم و ولاية أمير المؤمنين(1).
11 - ما دلّ على أفضلية الأئمة (عليهم السلام) على الأنبياء (ص) - و سيأتي بحثه في المقصد السابع - فيكون النبيّ الخاتم أفضل منهم بطريق أولى، فإنّ الأفضل من الأفضل أفضل قطعاً. و كذا ما ورد في صلاة المسيح (ع) خلف المهدي (ع) كما سيأتي.
12 - الرسل أفضل من النبيّين و أولي العزم أفضل من الرسل و نبيّنا أفضل أولي العزم لموثّقة عمّار و غيرها(2).
13 - ما دلّ على نجاة غير واحد من الأنبياء - و فيهم بعض أولي العزم بالتوسّل بأسماء الخمسة الطيّبة (ع).
و الروايات في المقام كثيرة حدا كقول الصادق (ع) في رواية ابي بصير كما في الكافي(3): «إنّ عندنا و الله سر: «إنّ عندنا و الله سرّاً من سر الله و علماً من اعلم الله، و الله لا يحتمله ملك مقرّب، و لا نبيّ مرسل، و لا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، و الله ما كلّف الله ذلك أحداً غيرنا، و لا استعبد بذلك أحداً غيرنا...».
و كقوله (ص): «أنا سيّد ولد آدم و لا فخر».
و قوله: «أنا سيّد ولد آدم، و أوّل من تنشّق عنه الأرض، و أوّل شافع و أوّل مشفع».
و قوله: «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا، أنا خطيبهم إذا وفدوا، و أنا مبشّرهم إذا يئسوا لواء الحمد بيدي، و أنا أكرم ولد آدم على الله، و خاتم النبيّين.
و قوله (ص): «نحن الآخرون السابقون».
و قوله: «و الله ما خلق الله خلقاً أفضل منّي، و لا أكرم عليه مني» انتهي.
و قوله: «خلق الله عزّ و جلّ مئة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي، أنا أكرمهم على الله
ص: 112
و لا فخر» انتهى.
و قوله (ص): «أنا سيّد من خلق الله، أنا خير من جبرئيل و إسرائيل، و حملة العرش و جميع الملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين». و ما ورد من اقتداء النبيّين به في الصلاة ليلة المعراج.
و في الكافي(1) عن الصادق (ع): «.. و جرى له - أي لعليّ (ع) ما جرى لرسول الله، و لرسول الله الفضل على جميع من خلق الله». و في رواية الحسين بن عبد الله(2) قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كان رسول الله سيّد ولد آدم فقال: كان و الله سيّد من خلق و ما برأ الله بريّة خيراً من محمّد (ص) و في رواية أخرى(3) عنه (ع) قال أمير المؤمنين: ما برأ الله نسمة خيراً من محمّد (ص) و في صحيحة ابن مسكان و أبي بصير - في قوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ)(4) - ما بعث الله نبيّاً عن آدم (من لدن آدم خ) هلمّ جرّاً إلاّ و يرجع إلى الدنيا فيقاتل و ينصر رسول الله (ص) و أمير المؤمنين» انتهى.
و في معتبرة حمّاد عن الصادق (ع): لما عرج برسول الله (ص) انتهى به جبرئيل إلى مكان فخلّى عنه، فقال له: يا جبرئيل تخليني عن هذه الحالة؟ فقال: إمضه، فو الله لقد وطئت مكاناً ما وطئه بشر، و ما مشى فيه بشر قبلك(5).
أقول: استقصاء الروايات الدالّة على المطلوب غير ميسور و هي منتشرة في الأبواب المختلفة غير خافية على المتتبّع و المسألة في نفسها أيضاً واحضة.
و لعلّه لأجل ذلك لم يعتن بها الباحثون، و لأجله تركنا نحن أيضاً مصادر الروايات المتقدّمة إلاّ في الجملة.
فالمتحصّل أنّه لا ريب في أفضليّة الرسول الأكرم (ص) من جميع أنبياء الله و رسوله، بل مفاد جملة من الروايات أفضليّته (ص) من جميع ما سوى الله من سكّان جميع الكرات كيف و قد مرّ دلالة بعض الآيات على كونه (ع) رسولاً إلى جميع العالمين. على وجه. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم.
ص: 113
كان نبيّنا الأعظم (ص) أميّاً كما نطق به القرآن الكريم: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ... فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ (1).
و معناه - كما في بعض كتب اللغة - من لا يقرأ و لا يكتب، و هو المطابق لقوله: وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ (2).
نعم، الآية الأولى ظاهرة في أنّه (ص) لم يحسن القراءة و الكتابة و إذ لا يصدق مفهوم إلأميّ على من يحسنهما و لكن لم يتلبّس بهما فعلاً(3).
و أمّا الآية الثانية فليس لها تلك الظهور في نفي الكتابة.
و فرق آخر بين الآيتين، و هو أنّ الآية الثانية تنفي الكتابة و القراءة المذكورتين قبل رسالته (ص) و هو مقتضى العلّة المذكورة في الآية أيضاً.
و أمّا الآية الأولى فهي ساكتة من هذه الناحية، إلاّ أن يقال بأنّ الظاهر من إطلاق الكلام هو تحقّق الإسناد حال النطق، و مقتضى الدلالة اللفظيّة الوضعية اتّحاد حال التلبّس و حال الإسناد، كما تقرّر في بحث المشتقّات من علم أصول الفقه، فتدلّ الآية الشريفة على أنّه (ص) أميّ حين الخطاب، فافهم.
و يمكن أن يستظهر من قوله تعالى: قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (4) و قوله: رَسُولٌ مِنَ اَللّٰهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهٰا
ص: 114
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (1) و كذا من كلّ آية تضمّنت القراءة أو التلاوة أو تعليم الكتاب أو نحوها أنّه (ص) كان يقرأ بعد النبوّة و لا يكتب، لكنّ فيه نظراً؛ إذ لعلّ التلاوة من الصدر لا من السطر، بل هذا هو الظاهر من محاله (ص) كما لا يخفى.
فالمستفاد من الكتاب العزيز أنّه (ص) لم يكتب و لم يقرأ قبل رسالته، بل لم يحسنهما على احتمال، و أمّا إنّه (ص) هل قرأ و كتب بعدها إلى آخر عمره؟ فلا دليل من الآيات الشريفة عليه. و إذا راجعت إلى السنّة تجد الدليل أنّه (ص) ما كتب إلى آخره عمره لكنّه قرأ بعد رسالته.
ففي صحيحة هشام بن سالم(2) عن الصادق (ع) قال: «كان (ص) يقرأ الكتاب و لا يكتب» و ظاهر أنّها كغيرها ممّا يأتي ناظرة إلى ما بعد نبوّته (ص).
و في صحيحة أبان بن عثمان عن الصيقل(3) قال(4): سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «كان ممّا منّ الله عزّ و جلّ به على نبيّه (ص) أنّه كان أميّاً لا يكتب و يقرأ الكتاب».
و مثلها مرفوعة البزنطي عنه (ع) و فيها(5): «فلما توجّه أبو سفيان إلى أحد كتب العباس إلى النبيّ، فجاءه الكتاب - و هو في بعض حيطان المدينة - فقرأه» انتهى، و هي ناصّة على المراد.
و أمّا رواية عبد الرحمن بن الحجاج(6) قال: قال أبو عبد الله (ع): «إنّ النبيّ (ص) كان يقرأ و يكتب و يقرأ ما لم يكتب» فلا يمكن أخذها؛ إذ في سندها من نسب إلى النصب تارة و الى الغلو أخرى! فتأمّل.
نعم، هنا روايتان أخريان تعارضان هذه الروايات:
إحداهما: رواية جعفر بن محمّد الصوفيّ (7) قال: سألت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا (ع) فقلت: يابن رسول الله: لم سمي ا لنبيّ الأمي؟ فقال: ما تقول الناس؟ قلت: يزعمون أنّه إنّما سمّي الأمّي؛ لأنّه لم يحسن أن يكتب. فقال (ع): كذبوا... أنّي ذلك؟ و الله يقول في محكم كتابه: (هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ
ص: 115
وَ اَلْحِكْمَةَ)(1) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟ و الله لقد كان رسول الله (ص) يقرأ و يكتب باثنين و سبعين، أو قال: بثلاثة و سبعين لساناً. و إنّما سمي الأمي؛ لأنّه كان من أهل مكّة، و مكّة من أمّهات القرى، و ذلك قول الله عز و جلّ: (لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا)(2).
أقول: الرواية تدلّ على أنّه (ص) يحسن الكتابة لا أنّه كتب كتاباً فإنّه هو مورد السؤال، و هو الظاهر من الجواب أيضاً، فإنّه لا شكّ أنّه ما كتب بعشرين لغة فضلاً عن سبعين لساناً، و هذا دليل قطعيّ على أنّ المراد هو التمكّن من الكتابة و القراءة لا وقوعهما، بل هو المنصوص في قوله (ع): يعلّمهم ما لم يحسن؟. فمفاد الرواية أنّه (ص) كان عالماً بالكتابة بعد رسالته، و هذا امر نقول به و إن لم تكن هذه الرواية.
و من هذا البيان يظهر الحال في (ثانيتهما) و هي مرفوعة علي بن أسباط(3) على أنّها ضعيفة سنداً.
بل الأولى أيضاً ضعيفة؛ فإنّ رجال السند و إن كانوا ثقات غير أنّ الصوفيّ المذكور مهمل لم أحده في الكتب الرجالية.
و ممّا يدلّ على أنّه (ص) يحسن الكتابة قوله (ص) - المتّفق عليه بين المسلمين في مرض وفاته: - «إيتوني بداوة و كتف - بياض - لأكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً». لكن منع عمر منه، و قال: قد غلبه الوجع. أو قال: إنّه يهجر - نعوذ بالله منه - إلاّ أن يقال: إنّه (ص) كان يأمر أحد أصحابه بالكتابة و هو خلاف الظاهر.
و المتحصّل من جميع ذلك: أنّ النبيّ الخاتم (ص) لم يقرأ قبل النبوّة قطعاً، و قرأ بعدها كما دلّ عليه الروايات، و أنّه (ص) لم يكتب أصلاً و إن كان يحسن الكتابة بعد رسالته؛ و ذلك لدلالة الروايات عليه كما عرفت، لا لوجوه ذكرها شيخنا المفيد في أوائل المقالات(4) فإنّها غير ناهضة على مرامه أصلاً.
و هذا - أي كونه (ص) يحسن الكتابة - مذهب جماعة من الإمامية، و يخالف فيه باقيهم، و سائر أهل المذاهب و الفرق يدفعونه و ينكرونه كما نص عليه المفيد (قدس سره).
قال بعض الأجلاء(5): إنّ المشهور لدى المفسّرين و جمهور المسلمين أنّه (ص) أمّي أي لا
ص: 116
يكتب و لا يقرأ المكتوب، بل ادّعى أنّ عدم معرفته الكتابة ضروري عند المسلمين، ثمّ دلّل على قوله بوجوه أربعة. قلت: لكنّ أدلته الأربعة كلّها ضعيفة، و ما ادّعاه غريب و كأنّه ما اطّلع على قول الشيخ الطوسي و ابن ادريس (قدس سره): و الذي يقتضي مذهبنا أنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة. و النبي عليه و آله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة و إنّما لم يحسنها قبل البعثة. و هذا يشعر باتّفاق الإمامية على تمكّنه (ص) من القراءة، فكيف يسوغ له دعوى الضرورة على خلافه؟!
ثمّ إنّ هذين العلمين إن أرادا إثبات أنّ النبي (ص) يحسن الكتابة من جهة حكومته فهو غير صحيح؛ اذ كان بمحضره الكتّاب و القرّاء، و لا سيّما أنّ فيهم المعصوم كمولانا أمير المؤمنين (ع) و لعلّهما يستندان فيه إلى الروايات كما اخترنا.
هل كان النبيّ (ص) قبل بعثته متعبّداً و مكلّفاً بشرع أم لا؟ فيه خلاف.
فقيل: إنّه كان متعبّداً بشرع نوح (ع) و قيل: بشرع إبراهيم (ع) و قيل: بشرع موسى (ع) و قيل: بشرع عيسى (ع)(1)، و عن السيد المرتضى (قدس سره) التوقّف.
قال المحدث المجلسي (قدس سره) في بحاره(2): إنّ الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة و الآثار المستفيضة هو أنّه قبل بعثته منذ أكمل الله عقله (ص) في بدو سنّة نبيّاً مؤيّداً بروح القدس، يكلّمه الملك، و يسمع الصوت و يرى في المنام... و كان يعبد الله بصنوف العبادات، إمّا موافقاً لما أمر به الناس بعد التبليغ و هو أظهر، أو على وجه آخر، إمّا مطابقاً لشريعة إبراهيم (ع) أو غيره ممّن تقدّمه من الأنبياء (عليهم السلام) لا على وجه كونه تابعاً لهم و عاملا بشريعتهم، بل بأنّ ما أوحي إليه (ص) كان مطابقاً لبعض شرائعهم، أو على وجه آخر نسخ بما نزل عليه بعد الإرسال انتهى.
أقول: تحقيق المقام بذكر أمور:
الأوّل: هل أنّه كان (ص) مكلّفاً قبل رسالته أم لا؟
الثاني: أنّه (ص) على فرض تعبّده هل كان نبيّاً أم لا؟
الثالث: هل نبوّته تنافي تعبّده بشرع من قبله أم لا؟
الرابع: أنّه على تقدير عدم المنافاة هل كان (ص) متعبّداً بشريعة من قبله من أولي العزم أم لا؟
الخامس: أنّه (ص) على تقدير عدم تعبّده (ص) بها ما هو سنخ اعماله؟ هل هي كأفعاله بعد البعثة أو لا؟
هذه هي جهات البحث للمسألة فنقول:
أمّا الأمر الأوّل: فالصحيح هو الالتزام بتعبّده و تكليفه (ص) و ذلك لأنّ التكليف لم ينقطع
ص: 118
عن البشر في وقت ما، بل في كلّ زمان شريعة يجب على الناس اعتناقها و امتثالها.
و قبل الإسلام كان الشريعة الرائجة الإلهية هي شريعة عيسى بن مريم (ع) في غير بني إسماعيل، و فيهم شريعة إبراهيم الخليل (ع) على ما يظهر من بعض الروايات المتقدّمة، و لا يعقل تخصيص النبيّ الأكرم من التكليف، بل أمر التكليف في حقّ الأنبياء (ع) أشدّ.
و قد حقّقنا فيما مضى أنّ مقتضى الأدلة عصمة النبيّ الأكرم و طهارته من الرجس من أوّل تمييزه، و كلّ ذلك دليل على أنّه كان مكلّفاً قبل بعثته، بل من ابتداء رشده و تمييزه، فإنّه لا بدّ أن يكون مؤمناً من أوّل الحال و أن لا يتّصف بالكفر في لحظة كما قرّرناه في ذيل قوله تعالى: (لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ)(1)، فلاحظ.
و في رواية زرارة قال: سمعت أبا جعفر و أبا عبد الله من بعده (ع) يقولان: حجّ رسول الله عشرين حجّة مستسرة، منها عشر حجّج أو سبعة - الوهم من الراوي - قبل نبوّته.
و الروايات في حجّة (ص) كثيرة فراجع الجزء الثامن من الوسائل(2) المطبوعة حديثاً، و في البحار(3) بعد قولهما (عليهماالسلام): قل النبوّة: و قد كان صلّى قبل ذلك و هو ابن أربع سنين، و هو مع أبي طالب، انتهى.
فما عن سيّدنا المرتضى - رضوان الله عليه - و الغزالي و غيرهما من التوقّف في ذلك، و ما عن الآخرين من عدم تعبّده قبل البعثة لا مجال له أصلاً.
نعم، الذي يستصعب به المقام هو قوله تعالى: (وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنٰا مٰا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتٰابُ وَ لاَ اَلْإِيمٰانُ وَ لٰكِنْ جَعَلْنٰاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِنٰا)(4) و لأجله ذهب بعض أهل السنة! إلى كفره (ص) قبل البعثة(5)، و بعضهم إلى عدم تكليفه بشيء قبلها لكن من يلتزم بالقول الأوّل لم يكن مؤمناً بالنبيّ الأكرم واقعاً، فإنّ المسلم لا يتفوّه بهذه الترهات، و من يلتزم بالثاني فهو غافل عن مقامه الرفيع.
ص: 119
و الصحيح في مفاد الآية أنّ المراد بالروح ليس هوالوحي، بل هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل أنزله الله إلى حبيبه محمّد (ص) ليسدّده و يؤيّده كما في روايات كثيرة. و لا بدّ أن يكون إنزال هذا الروح بكثير من قبل البعثة، بل من قبل البلوغ لما في آية التطهير و آية نيل العهد. و في كلام أمير المؤمنين (ع) المشهور بين الخاصّة و العامّة كما قيل(1): و «لقد قرن الله به من لدن كان فطيماً أعظم ملك بن ملائكته ليسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره» انتهى.
و عن ابن أبي الحديد(2) عن الباقر (ع): «... و وكّل بمحمّد ملكاً عظيماً منذ فضل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يصدّه عن الشرّ و مساوي الأخلاق» انتهى، فتفطّن.
وأمّا الأمر الثاني: فالظاهر هو نبوّته (ص) قبل رسالته و تدلّ عليه صحيحة الأحوال المتقدّمة(3) قال الباقر (ع) فيها: «و أمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (ع) و نحو ما كان رأى رسول الله (ص) من أسباب النبوّة قبل الوحي حتّى أتاه جبرئيل (ع) من عند الله بالرسالة...».
نعم، مبدأ نبوّته (ص) غير ثابتة و بعضهم ادّعى أنّها من أوّل فطمه من الرضاع. و الله العالم.
و أمّا الروايات الدالّة على أنّه (ص) صار نبيّنا يوم السابع و العشرين من رجب فلا تنافي الصحيحة المتقدّمة؛ لأنّ المراد بالنبوّة الرسالة.
وأمّا الأمر الثالث: فالتحقيق أنّ النبوّة لا تنافي التعبّد بشريعة رسول، كيف و قد مرّ أنّ الذين جاؤوا بالشريعة هم أولوا العزم من الرّسل لاكلّ رسول بلّ غيرهم كانوا عاملين بشرائعهم، فتأمّل.
وأمّا الأمر الرابع: فلا معنى لتعبّده بشريعة نوح و موسى و عيسى (عليهم السلام) بل لو كان متعبّداً لكان متعبّداً بشريعة إبراهيم الخليل لما أشرنا إليه في مبحث ولاية العزم من بقاء شريعة بين أولاد إسماعيل (ع) و كيفما كان فقد استدلّ للطرفين - أي للقائلين بتعبّده و عدم تعبّده (ص) بوجوه غير خالية عن الخلل و النقاش، بحيث لا يصحّ بها إثبات المرام، و عمدة ما ذكر القائلون بعدم تعبّده، بشرائع من قبله على سبيل التبعيّة أنّ تعبّده (ص) كذلك يستلزم أفضليّة الرسول المتبوع منه، لقبح الأمر بمتابعة المفضول، و اللازم باطل بما مرّ من أفضليّة النبيّ الخاتم على
ص: 120
جميع الأنبياء (عليهم السلام).
أقول: و عندي هذا البيان غير تام فإنّا لو فرضنا أنّه (ص) نبيّ متعبّد بشرع غير الشرائع السابقة أو بأحدها لكن لا على سبيل التبعيّة كان الإشكال المذكور باقياً غير زائل، و ذلك لما تقدم من أفضليّة كلّ رسول على كلّ نبيّ غير الرسول، و أفضليّة أولي العزم على الرسل غير أولي العزم و لا شكّ أنّ مبدأ رسالة نبيّنا (ص) هو شهر رجب في أربعين من عمره الشريف، فشبهة الأفضليّة متحقّقة على كلا شقي المسألة إذ يقال: إنّ الرسل أفضل منه أيام نبوّته.
و حينئذ لا بدّ من النظر إلى ما دلّ على أفضليّة النبيّ الخاتم (ص) و أنّ مقتضى الأدلّة هل يكون ثبوت الأفضليّة له (ص) من أوّل عمره أو من حين رسالته؟
فعلى الأوّل لا بدّ من تخصيص الكلّيّة القائله: إنّ الرسول أفضل من النبيّ غير الرسول - بغير النبيّ الخاتم (ص) - جمعاً بين الأدلّة.
و على الثاني يسقط الاستدلال المذكور لعدم بطلان التالي المزبور.
ثمّ عرض الفرض الأوّل لا يمتنع تعبّده (ص) بشرائع من قبله من الرسل (عليهم السلام) لعدم القبح العقلي في مثله، فإنّ القبيح ترجيح الفاضل على الأفضل أو المفضول على الفاضل في صورة وجودهما معاً، لا في مثل المقام الذي كان الأفضل غير موجود حين نصب الفاضل و الفاضل معدوماً حين متابعة الأفضل شرعه، و هذا ممّا لا بأس به أصلاً إذا فرضنا المصلحة في بقاء شريعة النبيّ السابق و تعبّد الخاتم بها قبل رسالته و لو على سبيل التبعيّة، فافهم دقيق.
ثمّ إنّ ظاهر الأدلّة أفضليّة (ص) من غيره مطلقاً بلا تقيّدها بما بعد الرسالة و البعثة فلاحظ.
هذا، و الإنصاف أنّه لا دليل قطعي على أنّه (ص) كان متعبّداً بشرعه أم بشرع من سبقه على سبيل التبعيّة أو غيره، و كلّ من هذه الوجوه الثلاثة محتمل لكنّ الموافق للاعتبار العقلي هو الأوّل فإنّ شريعته أفضل الشرايع، و هو أفضل الرسل فيناسب حينئذٍ تعبّده بشرعه فكان تكليفه (ص) قبل رسالته كتكليفه بعدها بحسب الظاهر، و على هدى ذلك يتجلّى الأمر الخامس، و الله العالم.
قال شيخ الطائفة الطوسي (قدس سره) في محكي العدة: عندنا أنّ النبيّ (ص) لم يكن متعبّداً بشريعة من تقدّمه من الأنبياء لا قبل النبوّة و لا بعدها، و أنّ جميع ما تعبّد به كان شرعاً له،. و يقول أصحابنا: إنّه (ص) قبل البعثة كان يوحى إليه بأشياء تخصّه، و كان بعمل بالوحي لا اتّباعاً لشريعة... و قد نقل ذلك عن أكثر متكلّمي العدلية - من غير الإمامية - أيضاً و قال.. و الذي يدلّ على ما ذهبنا إليه إجماع الفرقة المحقّة؛ لأنّه لا اختلاف بينهم في ذلك، انتهى.
و عن النيشابوري في روضة الواعظين: اعلم أنّ الطائفة قد اجتمعت على أنّ رسول
ص: 121
الله (ص) كان رسولاً نبيّاً مستخفيّاً، يصوم و يصلّي على خلاف ما كانت قريش تفعله منذ كلّفه الله تعالى، فإذا أتت أربعون سنة أمر الله عزّ و جلّ (ع) أن يهبط إليه بإظهار الرسالة.
قلت: الظاهر منه تحقّق الرسالة قبل مبعثه، و تفسير المبعث بإظهار الرسالة دون إحداثها، و هو مقطوع البطلان، فإنّ معنى بعثته هو إعطاء الرسالة له، و قبل البعثة كان نبيّاً فقط لا رسولاً، و لعلّه أراد ذلك و لكن تسامح في التعبير.
ص: 122
للنبي الأكرم (ص) امتيازات و خصائص، لا يشاركه فيها أمّته أو من سبقه من الأنبياء الكرام (عليهم السلام) أو كلتا الطائفتين؛ لا أمّته و لا أقرانه من الأنبياء (ص) و قد ذكر معظمها جماعة من فقهائنا الأماجد - نوّر الله مضاجعهم - في مباحث النكاح من كتبهم الفقهيّة. و نحن نتعرّض لها أن نضمن صحّة مدارك كلّها، فإن جملة من مداركها غير معتبرة سنداً، و ذلك في ضمن فصول:
و هو أمور:
1 - السواك.
2 - الوتر.
3 - الأضحية؛ لما روي عنه (ص): ثلاث كتب عليّ و لم يكتب عليكم السواك، و الوتر، و الأضحية. لكنّني لم أجد الرواية في كتبنا الأخبارية - حسب ما تيسّر لي من الفحص - بل يظهر من الشهيد الثاني (قدس سره) أنها من روايات العامّة، حيث قال في مسالكه: و بعض العامّة منع من وجوب الثلاثة مع ورود هذه الروايات من جانبهم؛ و كنّا اولى بذلك منه، انتهى.
أقول: و في صحيحة محمّد بن مسلم(1) عن الباقر (ع) قال: قال النبيّ (ص): ما زال جبرئيل يوصيني بالسواك حتّى خفت أن أخفي أو أدرد. - أي يذهب أسناني و تسقط، - و هو الرواية تنفي الوجوب و تثبت الاستحباب الأكيد كما لا يخفى.
4 - القيام بالليل و التهجّد فيه: و استدلّوا عليه بقوله تعالى: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ..)(2) و يدل عليه أيضاً موثقة سماعة(3) قال: كنّا جلوساً عند أبي عبدالله (ع) بمنى، فقال له
ص: 123
رجل: ما تقول في النوافل؟ فقال فريضة. قال ففزعنا و فزع الرجل، فقال أبو عبد الله (ع): إنّما أعني صلاة الليل على رسول الله (ص) إنّ الله يقول: (وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ). و عن بعض الشافعية أنّ صلاة الليل كانت واجبة عليه و على أمّته لكنّه نسخ.
5 - قضاء دين من مات معسراً: قال العلاّمة: لقوله (ص): «من مات و خلّف مالاً فلورثته، و من مات و خلّف ديناً أو كلا فعليّ». و على هذا مذهب الجمهور.
و قال بعضهم: كان ذلك كرماً منه.
أقول: لكن قيل إنّ في هذه الرواية كلمة (إليّ) مكان كلمة (عليّ) فلا تدلّ على الوجوب.
نعم، في رواية سفيان بن عيينة(1) عن الصادق (ع): «... فقال: قول النبي (ص): من ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ، و من ترك مالاً فلورثته» الخ، لكن في هذه الرواية أنّه للأئمة أيضاً بلا اختصاص بالنبي الأكرم (ص).
و العمدة في إثبات الخاصّة المذكورة رواية الحسن الفضّال عن الرضا (ع): «... صعد النبيّ المنبر فقال: من ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ و إليّ. و من ترك مالاً فلورثته»... و كذلك أمير المؤمنين (ع) الخ، فإنّ سندها حسن على الأظهر.
6 - مشاورة اولى النهي: لقوله تعالى: (وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ)(2). و قيل: إنّها لم تكن واجبة عليه، بل أمر بها لاستمالة قلوبهم، فإنّ عقل النبيّ أوفر من عقول الناس.
أقول: يمكن أن يكون الاستمالة هي الداعية للإيجاب فهي لا تنافي الوجوب، هذا و إليك ما قبل هذه الآية قال الله: (وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ) فلو كانت المشاورة واجبة عليه؛ لكان العفو و الاستغفار أيضاً واجبين عليه (ص) لوحدة السياق. و هو يعبد جدّاً. فلعلّ الأحسن حمل الأمر على الندب، و عليه فلا يختصّ به (ص).
7 - إنكار المنكر إذ رآه؛ لأنّ إقراره على ذلك و سكوته منه يوجب جوازه، و الله تعالى ضمن له النصر و الإظهار، فتدبّر فيه.
8 - المقاتلة مع العدو وحده؛ لقوله تعالى: فَقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ تُكَلَّفُ إِلاّٰ نَفْسَكَ (3).
و في جملة من الروايات الواردة حول الآية: أنّ الله لم يكلّف أحداً بهذا غير النبيّ
ص: 124
الخاتم(1) (ص) و مع ذلك لم أر من ذكرها في خصائصه (ص).
9 - تخيير نسائه بين مفارقته و مصاحبته؛ لقوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا... وَ أُسَرِّحْكُنَّ.. وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ...)(2) و عن العلاّمة (رحمه الله) أنّ هذا هو المشهور، و للشافعيّة وجه في التخيير لم يكن واجباً عليه، و إنّما كان مندوباً عليه.
قال العلاّمة ثمّ إنّ رسول الله لما خيّرهنّ اخترنه و الدار الآخرة؛ فحرّم الله تعالى على رسوله التزويج عليهنّ، و التبديل بهنّ من أزواج، ثمّ نسخ ذلك ليكون المنّة لرسول الله (ص) بترك التزوّج عليهنّ بقوله تعالى: (إِنّٰا أَحْلَلْنٰا لَكَ أَزْوٰاجَكَ اَللاّٰتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) و عن أبي حنيفة بقاء الحرمة و عدم نسخها.
أقول: الآية المحرّمة هي قوله تعالى: لاٰ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسٰاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاٰ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوٰاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ يَمِينُكَ (3).
و يمكن أن يقال بعدم التحريم من الأوّل للروايات التي نقلها الكليني (قدس سره) في الكافي(4) ففي صحيحة الحلبي:... قلت: قوله: (لاٰ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسٰاءُ مِنْ بَعْدُ) قال - أي الصادق (ع) -: إنّما عنى بها النساء اللاتي حرّم عليه في هذه الآية: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ) إنّ الله عزّ و جلّ أحلّ لنبيه ما أراد من النساء إلاّ ما حرّم عليه في هذه الآية التي في النساء. فمعنى الآية كما صرّح في بعض الروايات أيضاً: لا يحلّ لك النساء من بعد الذي أنزل إليك من تحريم الأمهات...
و أمّا قوله تعالى: (إِنّٰا أَحْلَلْنٰا لَكَ). فيراد به حينئذٍ إحلال النساء بلا عدد معيّن، أي على التشريع الابتدائي لا لرفع الحرمة السابقة. نعم، لا بأس بجعل حرمة التبديل بأزواجه من خصائصه (ص) كما يدلّ عليه قوله تعالى: (وَ لاٰ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوٰاجٍ)(5) الخ.
و لا يبعد ترك البناء على هذه الروايات بمخالفتها لظاهر الكتاب فالحرمة عليه (ص) ثابتة في النكاح و التبديل و الله العالم.
و هو أيضاً أمور:
ص: 125
10 - أخذ الزكوات المفروضة و أكلها مطلقاً بخلاف أولي القربى فإنّها تحرم عليهم من غير الهاشميّ مع وفاء نصيبهم من الخمس بكفايتهم كما ذكره الشهيد (رحمه الله) في مسالكه.
و قال بعض أعلام الفقه: و الظاهر مشاركة الأئمة (عليهم السلام) له فيه، فالخاصّة إضافيّة. لكن ذكر علاّمة الفقهاء أنّ التحريم على الأئمة بسبب النبيّ الأكرم (ص) فالخاصّة عائدة إليه.
أقول: أمّا أصل حرمة الصدقة الواجبة عليه في الجملة فهو مسلّم، بل ادّعى قطب الفقهاء صاحب الجواهر (قدس سره) تواتر الأخبار عليها.
و أمّا تحقيق المسألة بحدودها فهو من شؤون الفقه فلا ربط كثير له بالكلام.
11 - أخذ الصدقة المندوبة، و عن العلاّمة (رحمه الله) تعليل تحريمها بصيانة منصبه العليّ عن أوساخ الناس، و ألحق به الإمام (ع) أيضاً.
و جعل حرمتها في المسالك أقوى بعد نقل الخلاف فيها، و كذا صاحب الجواهر (قدس سره) ألحق الأئمة (عليهم السلام) به (ص).
12 - الخط و الشعر، تأكيداً لحجّته، و بياناً لمعجزته، قال الله تعالى: (وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)(1) و قال: (وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ)(2).
قلت: أمّا حرمة الخطّ عليه (ص) فغير معلوم، و الاستدلال عليها بالآية الكريمة ظاهر السقوط. بل قوله: - المتّفق عليه بين المسلمين الذي ردّه الخليفة عمر!: إيتوني بدواة و بياض أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا أبداً - يدلّ على الجواز، و تأويله إلى أمره بالكتابة خلاف الظاهر.
و أمّا حرمة الشعر فيمكن الخدش فيها بأنّه (ص) لم يعلم الشعر بنصّ القرآن فكيف يحرم عليه، فتأمّل.
و هكذا في الخط بناءً على قول من زعم أنّه لم يحسنه. إلاّ أن يقال: إنّ المحرّم عليه هو قراءة الشعر مطلقاً و لو لم يكن من إنشاده، فتأمّل.
و يظهره من بعض العامّة أنّه (ص) ارتجز بأشعار بعض الشعراء. لاحظ الجزء الثاني من «الغدير».
13 - نزع لامّة الحرب إذا لبسها حتّى يلقى العدو و يقاتل؛ لما روي عنه (ص): «ما كان لنبي إذا لبس لامّته أن ينزعها حتّى يلقى العدو». الرواية مع عدم وقوفي على سندها عاجلاً تشمل جميع الأنبياء فالخاصّة إضافيّة.
14 - ترك تطوّع قبل إتمامه إذا بدأ به، و فيه خلاف كما قيل، و لم أفز بمدركه.
ص: 126
15 - خائنة الأعين؛ لما روي عنه (ص): «ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين». و فسّروها بالإيماء إلى مباح على خلاف ما يظهر، و يشعر به الحال، و لا يحرم ذلك على غيره إلاّ في محظور. و خصّ حرمتها بعضهم بغير الحروب.
أقول: يتوجّه عليه ما أوردناه على الثالثة عشرة. مع أنّ تفسير الخائنة بما ذكر محتاج إلى القرينة.
16 - مدّعينيه إلى ما متّع الله به الناس؛ لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ)(1).
قلت: و عليه فلا بدّ من تحريم الحزن و وجوب خفض جناحه للمؤمنين عليه (ص) أيضاً؛ لأنّهما ذكرا معها في آية واحدة، قال الله: (لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).
و أمّا إذا قلنا بنظارة الآية الشريفة إلى الأخلاقيات دون دلالتها على الحكم الإلزامي الشرعي فلا يكون من خواصّه (ص) و بعض الروايات الواردة حول الآية يدلّ على الثاني، و إن يقصر عن ناحية سنده.
17 - المنّ للاستكثار؛ لقوله تعالى: (وَ لاٰ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(2) أي لا تعط شيئاً لتنال أكثر منه.
قال المفسّرون: إنّه من خواصّه (ص).
قلت: و في رواية ابن القدّاح عن الصادق(3) (ع): «لا تستكثر ما عملت من خير الله» و عليه فلا يخصّ النبيّ (ص)، فافهم.
18 - إمساك من تكره نكاحه، لكن ما استدلّ عليه العلاّمة (قدس سره) ضعيف.
19 - قبول هدايا المشركين، ففي رواية الكرخي عن الصادق (ع)(4): «... و إن كافراً أو منافقاً أهدى إليّ وسقاً ما قبلت و كان ذلك من الدين، أبي الله لي زبد(5) المشركين و المنافقين و طعامهم» و قريب منه ما في خبر الحضرمي(6) لكن قالوا: إنّها معارضة بما ورد من قبوله (ص)
ص: 127
هدية النجاشي و كسرى و غيرهما.
20 - أكل الثوم، و البصل و الكراث.
21 - الأكل متّكئاً، لكن لا دليل على حرمتهما عليه (ص) نعم عن الصادق (ع) كما في روايتين(1): أنّه (ص) لا يأكل متّكئاً. و هو أعمّ من الحرمة، لاحتمال أنّه لأجل الكراهة.
22 - الصلاة على من عليه دين، و فيه خلاف، و دليل الحرمة غير ظاهر.
23 - نكاح الإماء بالعقد، كما ذكره في الشرائع. و نقله في الجواهر عن الأكثر. و في دليله كلام لاحظ الجواهر.
24 - الوصال بالصوم، و في تفسيره اختلاف بين العلاّمة و الشهيد الثاني (قدس سره) و للمجلسيّ و غيره أيضاً كلام، و التفصيل في محلّه.
و على الجملة: قالوا إنّه جائز له (ص) و محرّم على أمّته. و دليله قوله (ص): «إنّي لست كأحدكم، إنّي أظلّ عند ربّي يطعمني و يسقيني». في جواب من قال له - بعد نهيه عن الوصال -: إنّك تواصل.
أقول: الرواية مرسلة رواها الصدوق كما في الوسائل و لا عبرة بمثلها، فتدبر.
25 - اصطفاء ما يختاره من الغنيمة قبل القسمة كجارية حسنة، و ثوب حسن، و يقال لما اختاره: الصفيّ و الصفيّة، و الروايات فيه كثيرة لكنه ثابت للأئمة من بعده أيضاً.
26 - خمس الفيء و الغنيمة كان لرسول الله الاستبداد به، و أربعة أخماس الفيء كانت له أيضاً، هكذا قيل.
27 - دخول مكّة بغير إحرام، و في حرمته على الأمّة خلاف.
قلت: الظاهر من الروايات حرمة دخولها على الجميع، و إنّما المباح دخوله (ص) فيها بلا إحرام ساعة من النهار، فإنّه (ص) استأذن من الله فأذن له، فالصحيح أن يقيّد الدخول المذكور بساعة(2).
28 - أخذ الغنائم له و لأمّته كرامة له (ص)، و كان حراماً على من قبله من الأنبياء، بل أمروا بجمعها فتنزل نار من السماء فتأكلها، دلّت عليه روايات(3).
ص: 128
29 - أن يحمي لنفسه الأرض لرعي ماشيته، و كان حراماً على من قبله من الأنبياء (عليهم السلام).
و ليس لأوصيائه أن يحموا لأنفسهم، ذكره العلاّمة (قدس سره) و اعترضه المحقّق الثاني - في محكيّ شرح القواعد - بأنّ هذا عندنا مشترك بينه (ص) و بين الأئمة (عليهم السلام) و أنّ قول العلاّمة - في نفي الاشتراك - ليس جارياً على مذهبنا.
أقول: لم أقف بعد على دليل ذلك.
30 - أخذ الطعام و الشراب من المالك و إن اضطر إليهما؛ لأنّ حفظ نفسه الشريفة أولى من حفظ نفس غيره، بل عليه البذل و الفداء بمهجته مجهة رسول الله (ص) لأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
قلت: الإمام أيضاً كذلك على أصولنا، و إن لم يقف المحقّق الثاني (رحمه الله) على تصريح في ذلك.
31 - عدم انتقاض وضوئه بالنوم.
قلت: لما سيأتي من أنّ قلبه لا ينام، و بطلان الوضوء بنوم القلب، دون العين كما في صحيحة زرارة فراجع.
32 - دخول المسجد جنباً، خلافاً لبعض الشافعية، هكذا نقله المجلسيّ (قدس سره) عن العلاّمة، و لعلّه أراد به ألمكث فيه، أو بالمسجد: المسجد الحرام و مسجد الرسول (ص) و إلاّ فدخول المسجد جنباً بنحو المرور جائز للأمّة أيضاً، و قد ورد - كما في الوسائل - جواز الدخول في مسجد النبيّ لمحمّد و أهل بيته (عليهم السلام) فلاحظ الروايات، و كذا ورد جواز مقاربتهم للنساء فيه، و أن يجنبوا أنفسهم فيه.
و في الباب التاسع من الصواعق(1): الحديث الثالث عشر أخرج البزاز، عن سعد قال: قال رسول الله (ص) لعلي: «لا يحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك».
قلت: و الظاهر أنّ سرّ ذلك طهارة نفسهما عن حدث الجنابة فإنّ الله أذهب الرجس عنهما، و عن فاطمة و بنيها.
33 - جواز قتل من آمنه، هكذا قيل. و ردّ بأنّ من يحرم عليه خائنة الأعين كيف يجوز له قتل من آمنه؟ قلت: هو اهانة بالنبي الأكرم و الشريعة الإسلامية.
34 - جواز لعن كلّ من شاء بلا سبب؛ لأنّ لعنه رحمة كما في رواية أبي هريرة!
قلت: هذا أعظم توهين بساحة النبيّ الأكرم المقدّسة: فإنّ اللعن بلا سبب ينافي العدالة و المروّة فضلاً عن العصمة و النبوّة، و من قال الله في حقّه: (إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(2).
ص: 129
و حديث أبي هريرة دليل على ضلالته و عدم إيمانه، و إنّما اخترعه ليبرّئ ساحة معاوية بن أبي سفيان و مروان بن الحكم و غيرها من الأشقياء الذين لعنهم رسول الله (ص)(1) و أهل السنّة إنّما قبلوا أمثال هذه الأحاديث لبنائهم على عدالة كلّ صحابي حتّى و إن استلزم ذلك توهين الرسول (ص) لعن الله العصبيّة الحمقاء.
35 - التجاوز عن أربع نسوة بالعقد الدائم، و هذا قطعي، فإنّه مات عن تسع زوجات، بل في الجواهر أنّه من الضروريات. و في صحيح الحلبيّ: أنّ الله عزّو جلّ أحلّ لنبيّه ما أراد من النساء إلاّ ما حرّم عليه في هذه الآية التي في النساء أي قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ)(2) انتهى.
ثمّ إنّ هذه الخاصيّة لا تجري في الأئمة (عليهم السلام) قطعاً و إنّما هي مخصوصة بشخصه (ص).
36 - العقد للنكاح بلفظ الهبة؛ لقوله تعالى: (وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ)(3). و عليه فلا يجب المهر حينئذٍ بالعقد و لا بالدخول؛ لا ابتداءً و لا انتهاءً كما هو قضيّة إلهية، و الروايات في عدم وجوب المهر كثيرة راجع تفسير البرهان.
37 - نكاح من رغب فيها من النساء، فإن كانت خليّة وجب عليها إجابته، و إن كانت ذات زوج وجب عليه طلاقها لينكحها النبيّ الأكرم(4) لقضية زيد المذكورة في القرآن المجيد.
أقول: قصّة زينب زوجة زيد لا تدلّ على الوجوب، فلا بدّ من التمسّك بقوله تعالى: (اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ)(5)، فافهم.
38 - انعقاد نكاحه (ص) بغير وليّ و شهود قال العلاّمة: و هو عندنا ثابت في حقّه و حقّ الأمّة.
قلت: جواز العقد على البكر بلا أذن وليّها غير مسلّم بين الإمامية، بل فيه خلاف، فافهم.
39 - انعقاد نكاحه في الإحرام، لم أجد دليله.
40 - عدم قسمته بين زوجاته في البيتوتة، و فيه اختلاف و في الجواهر عن كنز العرفان - أنّ عدم القسمة هو المشهور بين أصحابنا؛ لقوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشٰاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ
ص: 130
تَشٰاءُ)(1). و لكن المحقّق ضعّف الاستدلال المذكور بما اعترض عليه الشهيد الثاني في مسالكه و صاحب الجواهر بعده فلاحظ.
41 - الجمع بين الأختين: ذكره بعض الشافعيّة. و هو تخرّص.
42 - تزويج المرأة ممّن شاء بغير إذن وليّها، و تزويجها من نفسه؛ ذكره العلاّمة (رحمه الله) بلا دليل و يمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى: (اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(2)، فلاحظ.
43 - تحريم زوجاته على غيره (ص)؛ لقوله تعالى: وَ لاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً(3).
44 - أزواجه (ص) أمّهات المؤمنين من حيث الاحترام و التعظيم لا من جميع الحيثيّات، و إلاّ لحرمت بناته (ص) على المؤمنين و هو قطعيّ الفساد.
45 - اختصاص أزواجه بضعف ثوابهن و عقابهن للآية. و في رواية(4) عن السجّاد (ع): أنّه قال له رجل: إنّكم أهل البيت مغفور لكم، قال فغضب و قال: «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبيّ (ص) إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، و لمسيئنا ضعفين من العذاب» انتهى.
46 - لا يحلّ للناس أن يسأل زوجاته من غير وراء الحجاب كما في القرآن. (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ)(5) قال العلاّمة (رحمه الله): و أمّا غيرهنّ فيجوز أن يسألن مشافهة، فتدبّر فيه.
47 - أنّه (ص) أفضل من في الوجود الإمكاني! و قد مرّ دليله.
48 - إنّه خاتم النبيّين بالضرورة، و قيل(6): إنّ الأخبار تواترت، و اعترف الكافر و المؤمن بخاتم النبوّة الذي بين كتفيه على شعرات متراكمة.
49 - أمّته خير الأمم؛ لقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(7).
ص: 131
50 - نسخ جميع الشرائع بشريعته، على نحو سبق بحثه.
51 - جعل شريعته مؤبّدة، و لعلّه يرجع إلى ما قبله.
52 - جعل كتابه - القرآن - معجزاً بخلاف كتب سائر الأنبياء.
53 - حفظه عن التغيّر و التبديل، فأصبح معجزاً خالداً، و لا بدّ أن يكون كذلك؛ إذ النبوّة المؤبّدة تقتضي المعجزة الخالدة؛ و لذا لم يبق من الأنبياء السابقين (عليهم السلام) معجزة.
54 - نصره (ص) بالرعب من مسير شهر! فكان العدو يرعبه منه كما في الروايات(1).
55 - جعل الأرض له و لأمّته مسجداً و طهوراً دون بقيّة الأنبياء و أممهم(2).
56 - الشفاعة، فإنّها أيضاً من خواصّه كما في الروايات(3). و لعلّ المراد ابتداؤها.
57 - بعثه (ص) إلى الإنس و الجنّ كافّة، و يمكن أن يقال: إنّ إبراهيم (ع) أيضاً بعث إلى الناس كافّة؛ لقوله تعالى: (إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(4) و ما دلّ على خلافه محمول على قبل زمان إمامته (ع)، و لكن ينافيه قوله تعالى: (وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ)(5) و لا يمكن الجزم بأحد الطرفين ثمّ إنّه يدلّ على الخاصّة المذكورة - مضافاً إلى ما مرّ - رواية أبي أمامة(6)، و رواية عطاء(7)، و رواية جابر بن عبد الله(8).
58 - أوّل من تنشقّ عنه الأرض، كما في رواية عبد الله.
59 - أوّل من يدخل الجنة، بل تحريم دخولها على غيره قبله.(9).
60 - أمّته أوّل من يدخلون الجنة من بين الأمم، كما في رواية أم هاني(10)، و لم أر من ذكره
ص: 132
في خواصّه (ص).
61 - أكثر الأنبياء تعباً و هو واضح و قد ورد أيضاً(1). و يشكل بمن لبث في قومه 950 سنة. و هو نوح (ع).
62 - تنام عينه و لا ينام قلبه كما في رواية شهر بن حوشب(2) و غيرها من الروايات(3) الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)، و رواية زرارة(4)، عن الباقر (ع) لكن فيها إثبات الخاصّة المذكورة لجميع الأنبياء و كذا الخاصّة الآتية.
63 - يرى (ص) من ورائه كما يرى من قدّامه، و فسّرت بالتحفّظ و الحسّ. و كذا الخاصّة السابقة.
64 - كون تطوّعه بالصلاة قاعداً كتطوّعه قائماً و إن لم يكن لعذر، و في حقّ غيره ذلك على النصف من هذا ذكره العلاّمة و لم أجد دليله.
65 - حرمة رفع الصوت على صوته؛ لقوله تعالى: لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ (5).
66 - حرمة ندائه من وراء الحجرات؛ لقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ اَلْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ (6).
قلت: في استفادة الحرمة منه مطلقاً نظر.
67 - إنّ الله تعالى لم يناده باسمه كما نادى النبيين بأسمائهم، نعم ذكر اسمه في خمسة مواضع إثباتاً لرسالته (ص) على نحو الأوضح.
68 - حرمة ندائه باسمه الشريف محمّد، أحمد (ص) و لعلّها لقوله تعالى: (لاٰ تَجْعَلُوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(7) فتأمّل.
69 - كان يتبرّك ببوله و دمه، دليله مجهول. و كأنّه افتراء من بعض البسطاء.
70 - من زنى بحضرته أو استهان به كفر، دليل الأوّل غير مذكور، و أمّا الثاني فهو واضح لا
ص: 133
يحتاج إلى دليل، لكن يلحق به الإمام و كلّ نبيّ فافهم.
71 - و جواب إجابته على المصلّي إذا دعاه، و لا يبطل صلاته، لم أجد مدركه(1).
72 - نسبة أو لاد بناته إليه بخلاف غيره فإنّه لا ينسب أولاد بناتهم إليهم لقوله (ص): «إنّ الله عزّ و جلّ جعل ذريّة كلّ نبيّ في صلبه، و جعل ذريّتي في صلب علي بن أبي طالب»(2).
قلت: عدم ارتباطه بالمقصد ظاهر. نعم للرواية ذيل صحّ الاستدلال به و هو قوله (ص)(3):
- على رواية عمر بن الخطاب -: «و كلّ بني أنثى عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فإنّي أنا أبوهم و عصبتهم».
أقول: و لا بن حجر بن الفصل الأوّل في الآيات الواردة في أهل البيت من كتاب صواعقه(4) حول الآية التاسعة كلام مفصّل في ذكر هذه الروايات، و قال في آخر كلامه: علم من الأحاديث السابقة اتّجاه قول صاحب التلخيص من أصحابنا: من خصائصه (ص) أنّ أولاد بناته ينسبون إليه، و أولاد بنات غيره لا ينسبون إلى جدّهم انتهى(5).
و كلامه لطيف فلاحظ، فلعنة الله على ظالمي أبناء رسول الله و غاصبي حقّهم و محاريبهم. و من لم يقرّ بمراتبهم التي رتّبهم الله عليها.
73 - إعطاء جوامع العلم له؛ و لم أر من ذكره، و هو مذكور في الروايات(6) و في بعضها جوامع العلم و مفاتيح الكلام، و في بعضها تفسير جوامع الكلم بالقرآن، و في بعضها أعطاني
ص: 134
جوامع الكلم و أعطى عليّاً جوامع العلم. و لعلّ المراد أن فصاحته (ص) أكثر من فصاحته علي (ع).
74 - عصمة بنته الصدّيقة الطاهرة (عليهاالسلام) كما يدلّ عليه. آية التطهير، لكنّ مريم بنت عمران أيضاً معصومة؛ لقوله تعالى: (إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ)(1) إلاّ أن يقال: المراد بالتطهير طهارتها عن الحيض فقط لئلا تضطرّ إلى الخروج عن المسجد، و الله العالم.
75 - إعطاء الكوثر له كما في القرآن و الأخبار.
76 - أوّل من آمن بربّه و أجاب ربّه في الميثاق.
77 - أوّل من خلقه الله، و قد مرّ بحثه في الجزء الأوّل.
78 - لا ظلّ لبدنه الشريف كما اشتهر في الأفواه، و ذكره بعض المتكلّمين، و لم أجد دليله. لكنّه لو كان لبان و اشتهر.
79 - معراجه بتلك الخصوصيّات، يدلّ عليه خبران(2).
80 - عدم جلوس الذباب على بدنه الشريف. و هو مثل عدم الظلّ في فقه الدليل.
81 - ابتلاع الأرض بوله و غائطه كما قيل.
82 - تفويض تشريع الأحكام إليه (ص) على ما يأتي بحثه قريباً.
83 - عدم أكله خبز برّ و عدم شبعه من خبز شعير. ففي صحيحة العيص بن القاسم قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد (ع): حديث يروى عن أبيك (ع) أنّه قال: ما شبع رسول الله من خبز برّ قطّ. أهو صحيح؟ فقال: «لا، ما أكل رسول الله (ص) خبز برّ قطّ، و لا شبع من خبز شعير قطّ»(3).
84 - إنّ الله و ملائكته و جميع أنبيائه و رسله و جميع أممهم يحمدونه و يصلّون عليه. كما في رواية ابن قيس عن أبي جعفر (ع)(4).
85 - إعطاء تسعة و تسعين جزءاً من العقل له، و تقسيم الجزء الواحد الآخر بين العباد كما في رواية أبي النوفلي عن الصادق (ع)(5).
86 - ما أكل متّكئاً، دلّت عليه روايات، كما أشرنا إليها.
ص: 135
87 - ما بعث نبي إلاّ بنبوّته (ص).
88 - ما بعث نبي إلاّ و يرجع إلى الدنيا و ينصره و ينصر أمير المؤمنين (ع).
89 - استظلال الجميع تحت لوائه (ص)، يوم القيامة.
90 - رسالة روحه الطاهرة إلى أرواح الأنبياء على ما مرّ في الجزء الثاني.
هذا ما تيسّر لي ذكره من خصائص نبيّنا الخاتم (ص) مع الاعتراف بالعجز عن درك خصائصه و الإحاطة بشؤونه (ص). لكن لا أحكم بصحّة جميع الخصائص المذكورة، و إنّما نقلتها لمجرّد الاطلاع، فإن جملة منها لا دليل معتبر عليها، و لا تقف ما ليس لك به علم، و لا تكن قطاعا تشق بكلّ رواية ضعيفة، أو ذكر عالم شهير، فإن الحقّ أحقّ أن يتبع و لا تنكر كلّ ما تسمع، فإنّه علامة الغرور و قلّة الفكر، ففي كلّ مقام وحال، إقبل ما له دليل ورد ما عليه دليل و توقّف في ما ليس له دليل.
ص: 136
تدلّ الروايات الكثيرة المعتبرة و غير المعتبرة على أنّ الله تعالى فوّض تشريع الأحكام الشرعيّة إلى النبيّ الأكرم (ص) و أنّ له أن يسنّ ما يريد، و هذه الروايات مذكورة في أصول الكافي و البحار(1) و نحن نتبرّك بنقل اثنتين منها:
1 - صحيحة فضيل بن يسال قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول لبعض أصحاب قيس المعاصر: «إنّ الله عزّ و جلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: (وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(2). ثمّ فوّض إليه أمر الدين و الأمّة ليسوّس عباده، فقال عزّ و جلّ: (مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(3). و رسول الله (ص) كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلّ و لا يخطئ في شيء ممّا يسوّس به الخلق، فتأدّب بآداب الله.
ثمّ إنّ الله عزّ و جلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين - عشر ركعات - فأضاف رسول الله (ص) إلى الركعتين ركعتين، و إلى المغرب ركعة فصارت عديلة الفريضة لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر، و أفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر و الحضر، فأجاز الله له ذلك كلّه فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة.
ثمّ سنّ رسول الله (ص) النوافل أربعاً و ثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عزّ و جلّ له ذلك، و الفريضة و النافلة إحدى و خمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر، و فرض الله في السنة صوم شهر رمضان، و سنّ رسول الله صوم شعبان، و ثلاثة أيّام في كلّ شهر مثلي الفريضة، فأجاز الله عزّو جلّ له ذلك، و حرّم الله عزّ و جلّ الخمر بعينها و حرّم رسول الله المسكر من كلّ شراب، فأجاز الله ذلك.
و عاف رسول الله أشياء و كرهها، لم ينه عنها نهي حرام، و إنّما نهى عنها نهي عافة
ص: 137
و كراهة» انتهى.
2 - موثّقة حمران قال: سألت أبا جعفر (ع) عن أشياء من الصلاة و الديات و الفرائض و أشياء من أشباه هذا؟ فقال: «إنّ الله فوّض إلى نبيّه (ص)»(1).
قلت: و في بعض الروايات: «و لم يفوّض إلى أحد من الأنبياء غيره».
و لعمري أنّ هذه منزلة عظيمة و درجة عالية نالها رسول الله (ص) فإنّ التفويض المذكور يكشف عن بلوغ علمه و إدراكه و إحاطته بجميع الجهات الواقعيّة المتضمنة لمناطات الأحكام من المصالح و المفاسد المعلل بهما تشريع الشريعة الإلهية، و عن خروجه عن مضيقة الهوى و العاطفة الناقصة إلى ذروة الكمال، و اتّباع الواقع النفس الأمري فيحكم كما يحكم الله.
و على ضوء هذا المعنى ينهار توهّم المنافاة بين روايات المقام و بين قوله تعالى: (مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ)(2) فإنّ نطقه على وفق الواقع و نفس الأمر، و تشريعه ينتهي إلى الوحي لا محالة، لاستناد أصل التفويض إلى الوحي، فافهم جيّداً.
و أمّا قوله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظٰالِمُونَ)(3) فلا عموم فيه، و قد وجّه في بعض الروايات - غير المعتبرة سنداً - بما لا يرتبط بالمقام أصلاً.
ثمّ إنّ الموجود في الروايات المعتبرة و غير المعتبرة سنداً أنّ ما سنّ رسول الله (ص) هو هذه الأمور - على حسب تتبعي عاجلاً -:
1 - أربع ركعات صلاتي الظهرين في الحضر.
2 - ركعتا العشاء في الحضر.
3 - ركعة المغرب مطلقاً.
4 - تحريم النبيذ و كلّ مسكر سوى الخمر.
5 - تحريم ركعتي الظهرين و العشاء في السفر.
6 - النوافل الراتبة.
7 - صوم شعبان.
8 - ثوم ثلاثة أيّام في كلّ شهر.
9 - إطعام الجدّ السدس من تركة الميّت.
ص: 138
10 - دية العين.
11 - دية النفس.
12 - توقيت أوقات الصلاة.
13 - حرّم المدينة كما حرّم الله مكّة.
14 - دين الأنف.
و في رواية عبد الله بن سنان عن الصادق (ع): «... و فرض رسول الله فرائض الجدّ، فأجاز الله ذلك له في أشياء كثيرة» و قريب منه ما في رواية أبي بصير.
ثمّ أعلم أنّ للتفويض أقساماً بعضه ممتنع عقلاً، بعضه باطل شرعاً، و بعضه غير ثابت و بعضه - كالمقام - حقّ لا مرية فيه. و سيمرّ بك تفصيلها في مقصد الإمامة إن شاء الله تعالى فانتظر.
ص: 139
قال الله تعالى: وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (1).
أقول: الظاهر أنّ المراد بالأوّل هو الإلهام من النكت في القلب، أو الإلقاء في المنام بلا توسط ملك(2)، و بالثاني إسماع الصوت بلا توسّط الملك أيضاً، و حيث كان مثل هذه المكالمة في معرض توهّم المشاهدة قيّدها بوراء الحجاب و أنّه تعالى لا يرى، و بالثالث سماع صوت الملك المرسل(3).
و الأوّل كما للأنبياء غير الرسل.
و الثاني كما لموسى (ع) غالباً و لنبيّنا الأكرم ليلة المعراج.
و الثالث كما له (ص) أيضاً غالباً.
فللوحي أقسام أربعة: النكت في القلب، الرؤيا في المنام، سماع صوت غير الملك، سماع صوت الملك إمّا مع مشاهدته أو بدونها.
و في رواية عن الباقر (ع)(4): «الأنبياء على خمسة أنواع: منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبأ في منامه، مثل يوسف و إبراهيم، و منهم من يعاين، و منهم من ينكت في قلبه و يوقر في أذنه».
يقول المجلسي (رحمه الله) يحتمل أنّ كلمة (خمسة) مصحّفة (أربعة) أو أنّ النقر الذي يحتمل أنّه
ص: 140
صحّف بالوقر اشتباها من أحد الرواة هو الخامس.
و على كلّ، غيرخفي أنّ النقر هو سمع الصوت. فالرواية مطابقة للآية الشريفة.
فإن قلت: قول النبيّ الأكرم (ص) المروي بطريق الخاصّة و العامّة: «إنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها»(1) يحقق وجهاً خامساً و هو النكت في القلب بتوسط الملك.
قلت: ليس هو نصّ في ذلك بل يقبل الحمل على السماع من الملك فيتعيّن جمعاً بينه و بين الآية الشريفة، و لو أبي أحد عن هذا الحمل فلا نرى مانعاً من رفع اليد عن حصر الآية بالنسبة إلى هذا الوجه جمعاً بين الأدلة. و هكذا حال في قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ)(2).
ثمّ إنّ لم يكن الوحي بتوسّط الملك فهو و إن كان بتوسّطه فأسباب الوحي إليه إمّا النكت أو النقر أو ملك آخر أو مطالعة اللوح حيث نقش فيه المطلوب، و بالأخرة ينتهي إلى النقر و النكت و النقش في اللوح؛ إذ لا يمكن الوحي إلى كلّ ملك من ملك آخر إلى غير النهاية.
هذا، و إليك تفصيل المسألة من السنّة:
1 - ما عن المناقب(3) و أمّا كيفية نزول الوحي فقد سأله الحارث بن هشام كيف يأتيك الوحي؟ فقال: «أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّه عليّ فيفصم عني و قد (فقد خ) وعيت ما قال، و أحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فأعي ما يقول».
2 - ما عن التوحيد و الاحتجاج(4) عن أمير المؤمنين (ع): «... فقال رسول الله (ص) «لجبرئيل» من أين تأخذ الوحي؟ فقال - أي جبرئيل -: آخذه من إسرافيل. فقال: و من أين يأخذه إسرافيل؟ قال يأخذه من ملك فوقه من الروحانيين. قال فمن أين يأخذه ذلك الملك؟ قال: يقذف في قلبه قذفاً» انتهى و في هذه الرواية ذكرت الأقسام الأربعة المتقدّمة.
3 - ما عن تفسير القمي (رحمه الله) بإسناده عن الباقر(5) (ع): «.. قال - أي جبرئيل - لرسول الله (ص) هذا إسرافيل حاجب الربّ و أقرب خلق الله منه و اللوح بين عينيه من ياقوتة حمراء، فإذا تكلّم الربّ تبارك و تعالى بالوحي ضرب اللوح جبينه فنظر فيه، ثمّ ألقى
ص: 141
إلينا لنسعى (ألقاه إلينا فنسعى خ) به في السماوات و الأرض... و إنّي لأقرب الخلق منه، و بيني و بينه مسيرة ألف عام» و رواه الجابر عن الصادق (ع) بتغيير ما(1).
و ما عنه أيضاً: «اللوح المحفوظ له طرفان: طرف على العرش، و طرف على جبهة إسرافيل، فإذا تكلّم الربّ جلّ ذكره بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر في اللوح فيوحي بما في اللوح إلى جبرئيل».
4 - ما ذكره الصدوق في عقائده(2): اعتقادنا في ذلك - أي في نزول الوحي - أنّ بين عيني إسرافيل لوحاً فإذا أراد الله عزّ و جلّ أن يتكلّم بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فينظر فيه، فيقرأ ما فيه، فيلقيه إلى ميكائيل، و يلقيه ميكائيل إلى جبرئيل و يلقيه جبرئيل إلى الأنبياء (عليهم السلام)، انتهى. و معلوم أنّ الصدوق لا يقول بمثل ذلك إلاّ اعتماداً على الرواية.
5 - ما عن ابن عباس قال عبد الله بن سلام للنبيّ (ص) في ما سأله: من أخبرك؟ قال النبيّ (ص): جبرئيل. قال عمّن؟ قال: عن ميكائيل. قال: عمّن؟ قال: عن إسرافيل. قال: عمّن؟ قال: عن اللوح المحفوظ. قال: عمّن؟ قال: عن القلم. قال: عمّن؟ قال: عن ربّ العالمين(3).
و الحقّ أنّه لا سبيل لنا إلى معرفة تنزّل الوحي و كيفيّة؛ فإنّ الروايات المذكورة كلّها ضعاف الأسناد، و لا مجال للاعتماد عليها، و الله الهادي.
الأولى: يستفاد من الروايات أنّ جبرائيل كان يستأذن النبيّ في الدخول عليه (ص)، و أنّ الغشية التي تعرضه إنّما هي فيما إذا لم يكن بينه و بين ربّه واسطة في الوحي.
ففي رواية هشام بن سالم(4) عن الصادق (ع): «كان رسول الله (ص) إذا أتاه الوحي من الله و بينهما جبرئيل (ع) يقول: هو ذا جبرئيل، و قال لي جبرئيل، و اذا أتاه الوحي و ليس بينهما جبرئيل تصيبه تلك السبتة؛ و يغشاه ما يغشاه لثقل الوحي عليه من الله عزّ و جلّ». و قريب منها غيرها.
و في رواية عمرو عن الصادق(5) (ع) قال: «كان جبرئيل إذا أتى النبيّ (ص)
ص: 142
قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه». و قريب منها صحيحة معاوية بن عمار(1) و غيرها.
الثانية: قال في محكيّ المناقب(2): سمعت (مذاكرة) أنّه نزل جبرئيل (ع) على رسول الله (ص) ستّين ألف مرّة!
أقول: إنّه مجرّد حكاية لا دليل عليه. و مثله ما قيل: إنّ نزوله عليه (ص) اثنا عشرة ألف دفعة!.
بل الأوّل غلط جزعا، فإنّه يقتضي نزول جبرئيل (ع) عليه (ص) في كلّ يوم سبع مرّات، بل أزيد! و الثاني أيضاً بعيد، فإنّه يقتضي نزوله عليه (ص) مرّة في كلّ يوم من سني نبوّته، بل أكثر من مرّة واحدة.
الفائدة الثالثة: قال الباقر (ع) على ما في رواية مسلم بن خالد المكّي(3): «ما أنزل الله تبارك و تعالى كتاباً و لا وحياً إلاّ بالعربية؛ فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم، و كان يقع في مسامعهم بلسانهم، و كان أحد لا يخاطب رسول الله (ص) بأيّ لسان خاطبه إلاّ وقع في مسامعه بالعربيّة، كلّ ذلك يترجم جبرئيل (ع) له و عنه تشريفاً من الله عزّ و جلّ». لكنّ سند الرواية غير قوي.
الفائدة الرابعة: قال بعض العامّة: فصّلت كتب الحديث مراتب الوحي التي للنبيّ (ص) تفصيلاً:
أولاً: الرؤيا الصادقة؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة: أوّل ما بدئ به رسول الله عن الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح.
ثانياً: ما كان يلقيه الملك في روعه من غير أن يراه، كما قال محمد (ص): «إنّ روح القدس نفث في روعي» انتهى.
ثالثاً: ما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس (صوت الجرس).
رابعا: أن يتمثّل له جبرئيل رجلاً، في صحيح البخاري: أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله (ص) كيف يأتيك الوحي؟ و قد تقدّم الحديث عن المناقب.
خامساً: رؤية الملك في صورته التي خلق عليها فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه.
سادساً: تكليم الله إيّاه من وراء حجاب بلا واسطة ملك. انتهى كلامه ملخّصاً.
الفائدة الخامسة: قال السيّد الداماد - على ما في ص 200 من السماء و العالم -:
ص: 143
من الدائر على الألسن أنّ وصف القرآن بالنزول التي (الذي ظ) لا يتّصف به إلاّ المتحيّز بالذات دون الأعراض و سيّما غير الغارات (القارات ص) كالأصوات، إنّما هو بتبعيّة محلّه، سواء أخذ حروفاً ملفوظة أو معان محفوظة، و هو الملك الذي يتلقّف الكلام من جناب الملك العلاّم تلقفاً سماعيّاً، أو يتلقّاه تلقّياً روحانيّاً، أو يتحفّظه من اللوح المحفوظ ثمّ ينزل به على الرسول. و لا يتمشّى هذا الخط إلاّ على القول بتجسّم الملائكة؛ و إنّما الخارجون عن دائرة التحصيل ممشاهم ذلك!.
فأمّا على ما هو صريح الحق و عليه الحكماء الإلهيون و المحصّلون من أهل الإسلام أنّ الملائكة على قبائل سفليّة و علويّة؛ أرضيّة و سمائيّة؛ جسمانيّة و قدسانيّة، و في القبائل شعور و طبقات كالقوى المنطبعة، و الطبايع الجوهريّة و أرباب الأنواع و النفوس المفارقة السماويّة و الجواهر العقليّة القادسيّة بطبقات أنواعها و أنوارها و منها روح القدس النازل بالوحي النافث في أرواح أولي القوة القدسية...
فالأمر غير خفي، اللهمّ إلاّ أن يسمّى ظهورهم العقلائي لنفوس الأنبياء نزولاً، انتهى. و كلامه طويل جداً.
و قال تلميذه صدر الدين الشيرازي في الفصل السابع من الموقف السابع من كتابه الأسفار - عند البحث عن تكلّمه تعالى و عن كيفيّة الوحي -: إنّ الروح الإنساني إذا تجرّد عن البدن، و خرج عن وثاقه من بيت قالبه؛ و موطن طبعه مهاجراً إلى ربّه لمشاهدة آياته الكبرى، و تطهّر عن درن المعاصي و اللذات و الشهوات و الوساوس العاديّة و التعلّقات لاح له نور المعرفة و الإيمان بالله و ملكوته الأعلى، و هذا النور إذا تأكّد و تجوهر كان جوهراً قدسيّاً يسمّى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال، و في لسان الشريعة النبويّة بالروح القدسي.
و بهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض و السماء و يتراءى منه حقائق الأشياء، كما يتراءى بالنور الحسي البصري الأشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنعها حجاب، و الحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة و شواغل هذا الأدنى؛ و ذلك لأنّ القلوب و الأرواح بحسب أصل فطرتها صالحة لقبول نور الحكمة و الإيمان، إذا لم يطرأ عليها ظلمة تفسدها كالكفر، أو حجاب يحجبها كالمعصية، و ما يجري مجراها كما في قوله تعالى: (وَ طُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ)(1). و قوله: (بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ)(2).
فإذا أعرضت النفس عن دواعي الطبيعة و ظلمات الهوى و الاشتغال بما تحتها من الشهوة
ص: 144
و الغضب و الحسّ و التخيّل، و توجّهت و ولّت بوجهها شطر الحقّ و تلقاء عالم الملكوت الأعلى اتّصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سرّ الملكوت، و انعكس عليها قدس اللاهوت، و رأى عجائب آيات الله الكبرى، كما قال سبحانه: (لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ)(1).
ثمّ إنّ هذا الروح إذا كانت قدسيّة شديدة القوى قوية الإنارة لما تحتها؛ لقوة اتّصالها بما فوقها، فلا يشغلها شأن عن شأن، و لا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها، فيضبط للطرفين (الطرفين ظ) و يسع قوتها الجانبين؛ لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك و الملكوت، لا كالأرواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر...
فإذا توجّهت هذه الأرواح القدسيّة التي لا يشغلها شأن عن شأن... و تلقّت المعارف الإلهيّة بلا تعلّم بشري، بل من الله يتعدّى تأثيرها إلى قواها، و يتمثّل لروحه البشري صورة ما شاهدها بروحه القدسي و تبرز منها إلى ظاهر الكون فيتمثّل للحواس الظاهرة سيّما السمع و البصر؛ لكونهما أشرف الحواس الظاهرة، فيرى شخصاً محسوساً في غاية الحسن و الصباحة، و يسمع بسمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة و الفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله الحامل للوحي الإلهي، و الكلام هو كلام الله تعالى و بيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله.
و هذا الأمر المتمثّل بما معه أو فيه ليس مجرّد صورة خياليّة لا وجود لها في خارج الذهن و التخيّل، كما يقوله من لا حظّ له من علم الباطن، و لا قدم له في أسرار الوحي و الكتاب كبعض أتباع المشّائين إلخ.
أقول: ما نسجه أخيراً في رؤية الشخص المحسوس أشبه بالشعريات، و إنّما اخترعه و أنكر قول بعض أتباع المشّائيّة فراراً عن مخالفة ما هو الواضح في الشريعة الإسلامية، و إلاّ فصدر كلامه ظاهر في مراده، و أنّ جبرئيل هو العقل الفعّال المجرّد الممتنع عليه النزول و الصعود، كما صرّح به المحقّق الداماد من قبله، و المحقّق اللاهجي من بعده(2).
لكن مع فرض وجود المجرّدات الممتنع عليها الحركة، لا داعي إلى رفض الظواهر الدينيّة و ما أجمع عليه طوائف المسلمين في كيفيّة الوحي من نزول جبرئيل على الرسول الأكرم (ص)؛ إذ لا دليل لديهم على تجرّد كلّ ما يسمّى بالملائكة و تحرّرهم من المادة و لواحقها.
فلعلّ الملك المسمّى ب - «جبرئيل» جسم لطيف يصحّ عليه الهبوط و الصعود، و أيّ ملزم على كونه هو العقل الفعّال؟!
إلاّ أن يقال: إنّ الملزم عليه ما ورد في الشرع من أفضليّة جبرئيل من معظم الملائكة أو
ص: 145
كلّهم؛ إذ فرض تجسّمه ينافي أفضليّته من الملائكة المجرّدة، لكنّ التصرف في دلائل أفضليّته أهون بكثير من إنكار نزوله على النبيّ الأعظم (ص).
أو أنّ الملزم عليه أنّ النفس الكاملة بعد اتّصالها الروحاني بالمبدأ العالي يرشّح عليها العقل الفعّال، أو يشرق عليها لترى هي ما فيه من تفاصيل الكائنات، أو تفني فيه فتعلّم كلّ شيء فلا تبقي حاجة إلى نزول ملك على مثلها، لكنّ الأدلّة الدالّة على نزوله و هبوطه تبطل هذا التخيّل رأساً(1). و على كلّ فإنّي لحدّ الان لم أجد ما يبرّز لهم هذا الإنكار.
الفائدة السادسة: قال المجلسيّ (قدس سره)(2): اعلم أنّه اجتمعت الإماميّة، بل جميع المسلمين إلاّ من شذّ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب أصولهم و تضييع عقائدهم على وجود الملائكة و أنّهم أجسام لطيفة نورانيّة، أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع. و أكثر (هم ظ) قادرون على التشكّل بالأشكال المختلفة، و أنّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ماشاء من الأشكال و الصور، على حسب الحكم و المصالح، و لهم حركات صعوداً و هبوطاً، و كانوا يراهم الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) و القول بتجرّدهم و تأويلهم بالعقول و النفوس الفلكيّة و القوى و الطبائع، و تأويل الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة تعويلاً على شبهات واهية، و استبعادات وهمية زيغ عن سبيل الهدى لأهل العمى، انتهى كلامه.
الفائدة السابعة: تقدّم في مباحث التكليف - في الجزء الثاني - عن شيخنا المفيد (قدس سره) أنّ الملائكة معصومون عمّا يوجب لهم العقاب بالنار، و نسب قوله هذا إلى معظم المسلمين.
و يظهر من المواقف(3) وجود المخالف فيها، و لكنّه من العامّة دون الخاصّة.
و أصحّ الدلائل على عصمتهم هو قوله تعالى: (وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ هُمْ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ)(4) فإنّه مطلق من حيث الزمان و المكان و الحالات و أنواع المعاصي، بل شموله لجميع أفراد الملائكة بالعموم دون الإطلاق بناءً على إفادة الجمع المحلّى باللام العموم. و أمّا عصمة الملائكة الموكّلة على جهنّم فيدلّ عليها قوله تعالى: (عَلَيْهٰا
ص: 146
مَلاٰئِكَةٌ غِلاٰظٌ شِدٰادٌ لاٰ يَعْصُونَ اَللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ)(1).
و أمّا حملة الوحي فلا يتطرّق إليهم السهو و الاشتباه و النسيان و غير ذلك كما في القرآن: (وَ مٰا نَتَنَزَّلُ إِلاّٰ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مٰا بَيْنَ أَيْدِينٰا وَ مٰا خَلْفَنٰا وَ مٰا بَيْنَ ذٰلِكَ وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(2) و قد تقدّم كلام الصدوق (رحمه الله) في عصمتهم فتدبّر في المقام.
الفائدة الثامنة: قال الشيخ المفيد (قدس سره)(3): إنّ العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم - يعني الأئمة (عليهم السلام) - و إن كانوا أئمة غير الأنبياء، و إنّما منعت من نزول الوحي إليهم و الإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك، و الاتفاق على أنّه من يزعم أنّ أحداً بعد نبيّنا (ص) يوحى إليه فقد أخطأ و كفر. و لحصول العلم بذلك من دين النبيّ (ص)... و الإمامية جميعاً على ما ذكرت الخ.
أقول: و من هذا النصّ منه يظهر لك بطلان قول من نسب إلى الإماميّة اعتقاد نبوّة الأئمة (عليهم السلام) و اعتقاد نزول الوحي إليهم، فإنّ الإمامية - عن بكرة أبيهم - متّفقة على بطلان هذا الزعم، و أنّه لا وحي بعد النبيّ الخاتم (ص).
نعم، نحن نجوّز إلهام الإمام تحدّث الملك معه، و لكن هذا غير الوحي، و قد ورد من طريق العامّة أيضاً أنّ عمر كان محدّثاً (بفتح الدال) مع أنّه غير نبيّ، و سيأتي تفصيل الفرق بين الوحي و الإلهام و وضوحه في المقصد الآتي، لكن لعن الله العصبيّة الحمقاء.
تتمة:
الوحي قد يراد بها الكلمة الإلهية، تلقى إلى خصوص الأنبياء و الرسل، بأحد الطرق المتقدّمة. في حال اليقظة أو النوم، و قد تكون تلك الكلمة في غير ما يتعلّق بأصول الدين و شريعته، و هذا يعم الأنبياء و الرسل و المخلقين و العلماء العاملين كما في حقّ أم موسى و أم عيسى (على الجميع سلام الله) و أمثالهم من الأصفيا و الكملين و هذا يعبر عنه عندنا بالإلهام، و في الطبيعة إلهام سارٍ كما يشير إليه قوله تعالى: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ... و قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَهٰا. و قوله تعالى: رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ.
فهذا هداية عامة تكوينية لتكامل المخلوقات بأجمعهما و للهداية أقسام آخر كالهداية العقلية و الهداية التشريعية، و هداية غريزية...
هذا تمام الكلام في النبوّة و الرسالة. و آخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين و سلام على المرسلين.
ص: 147
ص: 148
المقصد السابع
في الإمامة الكبرى
والخلافة العظمى
الباب الأول: في وجوب نصب الإمام
الباب الثاني: في أنّ الإمامة من أصول الدين
الباب الثالث: في شرائط الإمام
الباب الرابع: ما تثبت به الإمامة
الباب الخامس: في تعيين خليفة الرسول الخاتم (ص)
الباب سادس: في إمامة الأئمة الأثنى عشر (عليهم السلام)
الباب السابع: في وجوب اتباع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
الباب الثامن: في علوم الأئمة (عليهم السلام)
الباب التاسع: في التفاضل
الباب العاشر: في نفي الغلو و التفويض
الباب الحادي عشر: في حضور النبي و الأئمة عند المحتضر
الباب الثاني عشر: في إثبات حياة الإمام الثاني عشر
ص: 149
ص: 150
عرّفوا الإمامة بأنّها: رئاسة عامّة في أمور الدين و الدنيا لشخص إنسانيّ، نيابة عن الرسول. و بأنّها: خلافة الرسول في إقامة الدين و حفظ حوزة الملّة، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة. و بغيرهما من التعابير الدالة على مرام واحد، فمفهوم الإمامة ممّا لا خلاف فيه بين الباحثين، بيد أنّ بعض العلماء منّا أورد على التعريف المذكور عكساً و طرداً.
أمّا الأوّل: فلأنّه لا يلزم أن يكون الإمام مخبراً عن الرسول دائماً إذ أئمتنا ربّما يستفيدون العلوم بتوسّط الملائكة و روح القدس، كما في الأخبار الكثيرة أعنى به الإلهام.
و أمّا الثاني: فلأنّ كثيراً من الأنبياء غير أولي العزم كانوا تابعين لأولي العزم، و يبلّغون شرائعهم إلى الناس. و قال: إنّه لا فرق بين النبيّ و الإمام في الكمالات و الشرائط، و إنّما الفرق بينهما بوجوه مذكورة في الروايات، و إنّما لم يطلق اسم النبيّ على الأئمة (عليهم السلام) تعظيماً للنبي الأكرم (ص) و لكونه (ص) خاتم النبيّين.
ثمّ نقل هذا المعنى عن الشيخ الأعظم المفيد (قدس سره) أيضاً، و أنّه - أي المفيد - نسب هذا المقال إلى الفرقة الناجية الإماميّة في كتابه «المسائل» هذا كلام هذا المحدّث(1).
لكنّ الأصحّ سلامة التعريف المزبور عن هذا النقاش:
أمّا أوّلاً: فلأنّ استفادة الأئمة بعض الأشياء من الملائكة فإنّما هي في غير الحلال و الحرام و ما هو راجع إلى الشريعة، كما يظهر هذا من الروايات الكثيرة الواردة في الجامعة المتضمّنة لجميع مسائل الحرام و الحلال، و هي بإملاء رسول الله (ص) و خطب أمير المؤمنين (ع) و سوف نستأنف القول فيها في باب علومهم.
فالأئمة (عليهم السلام) لمكان وجود هذه الجامعة دائماً يخبرون الناس عن النبيّ الأكرم (ص) في
ص: 151
حلالهم و حرامهم. و أما اضمار الناس فيما يرجع إلى دنياهم، فليس في التعريف أنّه عن الرسول، بل يجرهم الأئمة بنظرهم.
و أمّا ثانياً: فلئن سلمنا استفادتهم في الشريعة من الملك أيضاً نقول إنها بتوسّط النبيّ الأكرم ابتداءً، كما تنطق به روايات جمّة، منها رواية الديلمي(1) قال: سألت أبا عبد الله (ع) فقلت: جعلت فداك، سمعتك و أنت تقول غير مرّة: لو لا أنّا نزداد لأنفدنا؟ قال: أمّا الحلال و الحرام فقد و الله أنزله على نبيّه بكماله، و ما يزداد الإمام في حلال و لا حرام. قال: فقلت: فما هي الزيادة؟ قال: في سائر الأشياء سوى الحلال و الحرام.
قال: قلت: فتزدادون شيئاً يخفى على رسول الله (ص)؟ قال: لا، إنّما يخرج الأمر من عند الله؛ فيأتي به الملك رسول الله(2) فيقول: ربّك يأمرك بكذا و كذا. فيقول: انطلق به إلى عليّ، فيأتي عليّاً فيقول انطلق إلى الحسن، انتهى.
أقول: الفرق الأساسي بين الوحي و الإلهام هو هذا، فإن النبيّ يوحى إليه من ربّه بلا توسّط أحد من البشر، و الإمام يخبره النبيّ مشافهة كأمير المؤمنين (ع) أو بتوسّط امام آخر كبقية الأئمة، حيث أخبرهم بالشريعة بتوسّط كتاب الجامعة التي سلّمها إلى أمير المؤمنين (ع) أو يخبره النبيّ (ص) بتوسّط الملك كما نصّت عليه هذه الرواية و غيرها.
فدائماً يكون النبيّ (ص) هو الواسطة في إفاضة الله سبحانه العلوم على الأئمة (عليهم السلام). فأين الإمامة من النبوّة؟ و أين الوحي من الإلهام؟
و أمّا ثالثاً: فلأنّ استفادة الإمام بعض الأمور من الملك(3) لا تنافي كون منصبه نيابيّاً عن منصب الرسول (ص) كما صرّح في التعريف المذكور أيضاً، فكيف لا يكون بينهما فرق و هما - أي المنصبان - طوليان لا عرضيان؟!.
و أمّا رابعاً: فلأن النبوّة منصب أصالي فالنبيّ من غير أولي العزم و إن كان تابعاً لشريعة أولي العزم (عليهم السلام) و مروّجاً لها؛ لكنّه واجد لرتبة أصاليّة، و هذا بخلاف خلفاء الرسول (ص) فإنّه لا منصب لهم سوى النيابة و الخلافة.
و أمّا ما نقله عن المفيد فإليك نصّ عبارته، قال(4): «و اتفقت الإماميّة على أنّ كلّ رسول
ص: 152
فهو نبيّ، و ليس كلّ نبيّ فهو رسول، و قد كان من أنبياء الله عزّو جلّ حفظة لشرائع الرسل و خلفائهم في المقام، و إنّما منع الشرع من تسمية أئمتنا بالنبوّة دون أن يكون العقل مانعاً من ذلك؛ لحصولهم على المعنى الذي حصل لمن ذكرناه من الأنبياء (عليهم السلام)، انتهى.
أقول: لعلّ دعواه اتّفاق الإمامية إنّما هي على مجرّد أعمّية النبيّ من الرسول و أخصّيّة الرسول من النبيّ فقط، و بقيّة ما أفاده إنّما هي ممّا أداه إليه نظره الشريف، و هذا الاحتمال قريب جداً، و لا أقل من الشكّ فليس لأحد أن يستظهر اتّفاق الإماميّة على جميع ما نقلناه من عباراته.
و مهما يكن فأعميّة النبيّ عن الرسول و إن كانت صحيحة كما مرّ بحثها لكن ليس كلّ رسول ذا شريعة كما يشعر به عبارة الشيخ المذكور (قدس سره) و لا أنّ النبوّة عبارة عن مجرّد حفظ الشريعة حتّى يصحّ اتّصاف أئمتنا بالنبوّة و يكون الممنوع هو استعمال لفظ النبيّ عليهم شرعاً! و إلاّ لكان هو و أضرابه به أعاظم العلماء أيضاً واجدين لمعنى النبوّة، فإنّهم حفظة الشرع، و هو كما ترى.
و المتحصّل ممّا سبق - لحدّ الآن - أنّ الإمامة تمتاز و تفترق عن النبوّة بأمور ثلاثة:
1 - وصول الوحي إلى النبيّ بلا توسّط إنسان، و وصول الإلهام إلى الإمام بعد عرضه على النبيّ، بل و على إمام قبل الإمام الملهم.
2 - أصالة منصب النبيّ، و نيابة منصب الإمام، و خلافته عن الرسول (ص).
3 - رؤية النبيّ الملك أو الحكم الشرعي في الرؤيا، و معاينة الرسول الملك يقظة. و الإمام ليس كذلك، و إنّما يستمع صوت الملك في اليقظة فقط، و لا أظنّ بالقارئ المنصف أن يستبعد هذا المعنى في أئمة أهل البيت فإنّ تحدّث الملائكة لا يخصّ الأنبياء و الرسل، بل اتّفق لبعض الأولياء أيضاً، كما ينطق القرآن: (إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ)(1)، (قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا * قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ)(2) إلخ، فمريم (عليهاالسلام) لم تكن نبيّة و لكن كانت محدّثة. و مثلها أم إسحاق (عليهاالسلام) (قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ)(3).
و في صحيح البخاري عن أبي هريرة - شيخ رواة الأمويين - عنه (ص): «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون - بفتح اللام - من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمّتي
ص: 153
منهم أحد فعمر».
و فيه أيضاً عنه: «أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدّثون؛ و أنّه إن كان في أمتي فإنّه عمر بن الخطاب»(1).
و أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة، عن النبيّ (ص): «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم».
و عن ابن الجوزي: أنّه حديث متّفق عليه.
و عن القسطلاني في شرح صحيح البخاري: و ليس قوله: «فإن يكن» للترديد، بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديقاً ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.
و قال: إذا ثبت أنّ هذا وجه في غير هذه الأمّة المفضولة فوجوده في هذه الأمّة الفاضلة أخرى.
و قال - حول قول ابن عباس: لا نبي و لا محدّث -: قد ثبت قول ابن عباس هذا لأبي ذر و سقط لغيره، و وصله سفيان بن عيينة في أواخر جامعه، و عبد بن حميد بلفظ: كان ابن عباس يقرأ: و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبيّ و لا محدّث.
و عن الاستيعاب - في ترجمة عمران بن الحصين -: أنّه كان يرى الحفظة و كانت تكلّمه، فمن كل ذلك، هذا يعلم أنّ وجود المحدّث في هذه الأمّة مسلّم، و أنّ التحدّث لا يستلزم النبوّة، و إنّما الخلاف في مصداقه و شخصه؛ حيث إنّ العامّة يقولون إنّه عمر و عمران و نحوهما، و الإماميّة يقولون إنّه أمير المؤمنين و أئمة آل البيت من ولده.
فما عن بعض المعاندين من أنّ الأئمة عند الشيعة أنبياء، و أنّهم يوحى إليهم، و أنّ الملائكة تأتي إليهم بالوحي. و أنّ الشيعة يزعمون لفاطمة و للأئمة من ولدها ما يزعمون للأنبياء، بل الأئمة لديهم رسل أيضاً؛ لأنّهم مأمورون بتبليغ ما يوحى إليهم... افتراءٌ علينا نشأ من العصبيّة الحمقاء التي تدخل صاحبها النار لا محالة!
فالذي تحصّل لنا أنّ الإمام يحدّثه الملك من قبل رسول الله (ص) و هو لا يرى شخص الملك؛ لا في اليقظة و لا في النوم، و إنّما يسمع صوته، و أنّ منصبه أيضاً نيابي فإنّه الخلافة عن النبيّ الأكرم (ص) في أمّته، فهذه ثلاثة فوارق تفرّق النبوّة عن الإمامة، لكن في الفرقين الأخيرين
ص: 154
- الثاني و الثالث - بحث.
أمّا الثالث فالمتيقّن أنّ الأئمة (عليهم السلام) خلفاء لرسول الله الخاتم (ص) و حفظة شرعه فلهم جهة نيابية قطعاً، و أمّا إنّه لا منصب أصالي لهم أصلاً فهذا ممّا لم يقم عليه برهان عقلاً و نقلاً، بل يمكن - إمكاناً قياسيّاً - تشرّفهم بمنصب إلهي أصلي وراء الخلافة و النيابة، و إنّما لا يمكن ذلك على مزاعم الجمهور من العامّة الذين لا يرون للإمام حيثيّة سوى الخلافة والإمارة بانتخاب الناس و بيعتهم. و أمّا بناءً على طريقة الحقّ و أهله فلا مانع منه!.
بل الأرجح أنّ الإمامة غير الخلافة، فإنّ الثانية تحدث بعد فوت النبيّ الأكرم أو الإمام السابق؛ فإنّها جهة نيابيّة محضة، لم يعقل تحقّقها مع وجود المنوب عنه.
و أمّا الأولى فهي تأصّلية مبدؤها قبل موت النبيّ الأكرم أو الإمام السابق (عليهماالسلام) و الأوصياء من آل محمد (ص) أئمة، و خلفاء فلهم حيثيّتان وجهتان.
و إليك ما قادني إلى هذا الاعتقاد من الدلائل:
1 - قوله تعالى لخليله إبراهيم (ع): (إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(1) فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الإمامة إنّما جعلت للخليل بعد بلوغه النبوّة و الرسالة، كما أوضحنا وجهها في مبحث عصمة النبيّ الخاتم (ص) هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أنّ إبراهيم (ع) من أولي العزم من الرسل، و لا يعقل خلافته عن أحد، ضرورة عدم تحقّق رتبة عليا من رتبة ولاية العزم حتّى ينوب إبراهيم عنها، فهذه الآية تدلّ - دلالة قطعيّة - على أصالة الإمامة، بل و على أفضليّتها من الرسالة فضلاً عن النبوّة.
نعم، لقائل أن يسألنا عن الدليل على كون إمامة آل الرسول (ص) عين إمامة الخليل (ع) و عدم اختلافهما من جهة؟ فنجيبه بأنّ الكتاب و السنّة يدلّان على ذلك.
أمّا الكتاب فلإطلاق قوله: (وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ)(2)، الدال على نيل الذريّة غير الظالمة - في الجملة - للإمامة. و نبيّنا الخاتم و أوصيائه الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهّرهم تطهيراً. من تلك الذرّية مسلّماً.
و لقوله تعالى: (وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(3). بضميمة ما ورد في تفسيره من الروايات(4)، فتدبّر جيداً.
ص: 155
و أمّا السنّة فللروايات الواردة في ذيل الآية الأولى(1) منها ما عن ابن المغازلي الشافعي في كتابه المناقب بإسناده يرفعه إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (ص): أنا دعوة أبي إبراهيم، قلت: يا رسول الله و كيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ قال: أوحى الله عز و جلّ إلى إبراهيم (إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(2) فاستحفّ إبراهيم الفرح، فقال: يا ربّ و من ذريّتي أئمة مثلي... فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قطّ، فاتّخذني نبيّاً و اتّخذ عليّاً وصيّاً(3).
و أيضاً أنّ الله تعالى استجاب دعاء خليله فجعل بعض أولاده و أوصياءه أئمة كما قال: (وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ * وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا)(4) انتهى. وحيث إنّ نبيّنا (ص) أفضل من إبراهيم، و أمّته أفضل من أمّته، فلا نشك في ثبوت الإمامة الحاصلة لأوصياء إبراهيم لأوصياء الرسول الخاتم (ص).
و أيضاً أنّ الأئمة من آل الرسول (ص) أفضل منهم؛ كما سيأتي بحثه فلا يعقل دناءة إمامتهم من إمامة هؤلاء سلام الله عليهم أجمعين(5).
2 - قوله تعالى: وَ جَعَلْنٰاهُمْ أي إبراهيم و إسحاق و يعقوب أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا(6).
وجه الاستدلال به يظهر ممّا سبق، و لا يمكن حمل الإمامة على معناها اللغوي المنطبق على النبوّة كما يحتمل ذلك في قوله تعالى: (وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ)(7).
و قوله تعالى: وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا(8) و هو المسلم في قوله تعالى: وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ(9) وفي قوله: فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ(10).
ص: 156
وجه عدم الاحتمال في الآية الشريفة:
أوّلاً: وجود إبراهيم (ع) مع ابنيه و قد عرفت أنّ إمامته أمر زائد على رسالته.
و ثانياً: أنّ إمامة إسحاق و يعقوب (عليهماالسلام) أثر دعاء الخليل (ع) و من المعلوم أنّه (ع) طلب الإمامة لذريّته لا النبوّة وحدها كما يظهر ممّا تقدّم، فافهم المقام جيداً.
3 - قوله تعالى: (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا)(1). انتهى. حيث إنّه نزل في أمير المؤمنين (ع) فيكون الولاية ثابتة له في حياة النبيّ الأكرم (ص) و حملها على الاستقبال مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل، و سياق الآية أيضاً شاهد بذلك؛ حيث أثبت الولاية له (ع) على نحو ولاية الله تعالى و رسوله (ص).
ثمّ إنّي بعد ذلك وقفت على كلام القاضي الشهيد (رحمه الله)(2) و قد صرّح في طي استدلاله بهذه الآية على خلافة الولى (ع) بما ذكرنا.
4 - صحيحة هشام بن سالم عن الكناسي(3):.. فقلت: جعلت فداك أكان عليّ حجّة من الله و رسوله على هذه الأمّة في حياة رسول الله (ص) فقال - أي أبو جعفر الباقر (ع) -: نعم، يوم أقامه للناس و نصبه علماً و دعاهم إلى ولايته و أمرهم بطاعته، قلت: و كانت طاعة عليّ واجبة على الناس في حياة رسول الله (ص) و بعد وفاته؟ فقال: نعم، و لكنّه صمت فلم يتكلّم مع رسول الله (ص) و كانت الطاعة لرسول الله (ص) على أمّته و على عليّ (ع) في حياة رسول الله (ص) و كانت الطاعة من الله و من رسوله على الناس كلّهم لعليّ (ع) بعد وفاة رسول الله.
قلت: الظاهر أنّ المراد بيوم أقامه للناس هو يوم الغدير دون يوم الدار. و أمّا طاعته على الناس فلا شكّ في وجوبها عليهم واقعاً، فإنّه من لوازم العصمة الثابتة له في حياة رسول الله (ص) - و قد مرّ و ربّما نكرّره فيما بعد أيضاً - أنّه كلّ معصوم يجب طاعته بمعنى أنّه إذا أخبر بلزوم فعل أو ترك من الشرع لا بدّ من الحركة على وفقه، و كذا إخباره في الأمور الخارجية ككون المائع الفلاني خمراً مثلاً، أو الدار الفلاني لزيد مثلاً؛ فإنّ قوله لمكان عصمته للقطع.
و مهما يكن من أمر فدلالة الرواية على المطلوب ظاهرة.
لا يقال: الرواية تدلّ على أنّ النبيّ الأكرم (ص) أقامه للناس و نصبه علماً يوم الغدير و هذا ظاهر في خلافته دون إمامته، مع أنّه تنافي الوجه الثالث الدالّ على ولاية أمير المؤمنين قبل يوم الغدير.
ص: 157
فإنّه يقال: مبدأ ولايته (ع) من حين نزول قوله تعالى: (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ)(1) انتهى. و لكنّ إظهارها للناس عامّة و إعلانهم يوم الغدير كما صرّحت بذلك صحيحة زرارة، و فضيل بن يسار، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و بكير بن أعين، و أبي الجارود عن الباقر (ع)(2).
و المتحصّل من جميع ذلك أنّ شخص الإمام و إن كان متّصفاً بالخلافة والنيابة، إلاّ أنّ رتبة الإمامة ليست كذلك، بل هي تأصّلية. و على ضوء ذلك يبطل النقطة الثانية من النقاط الثلاثة التي يدور عليها امتياز النبيّ عن الإمام، إلاّ أن يدّعى أن النبيّ ممّا لا نيابة له أصلاً، و لا يتصّف بها أبداً، و الإمام يتّصف بالخلافة و النيابة، لكنّه مجرّد دعوى لا دليل عليها، بل الأخبار تدلّ على أنّ بعض الأنبياء أوصياء لمن تقدّمهم من الأنبياء الآخرين. و القرآن يدلّ على أنّ هارون كان خليفة لموسى (ع).
قال شيخنا المفيد (قدس سره)(3): و قد جاء الخبر بأنّ رسول الله (ص) و الأئمة من ذريّته كانوا حججاً لله تعالى منذ أكمل عقولهم إلى أن قبضهم، و لم يكن لهم قبل أحوال التكليف أحوال نقص و جهل، فإنّهم يجرون مجرى عيسى و يحيى (عليهماالسلام) في حصول الكمال لهم مع صغر السن، و قبل بلوغ الحلم، و هذا أمر تجوّزه العقول و لا تنكره، و ليس إلى تكذيب الأخبار سبيل.
قلت: هذه العبارة ظاهرة في ما ذكرته. لكنّ الذي يوجب إجماله قوله بعد هذا: و الوجه أنّ نقطع على كمالهم (عليهم السلام) في العلم و العصمة في أحوال النبوّة و الإمامة، و نتوقّف فيما قبل ذلك، و هل كانت أحوال نبوّة و إمامة أم لا؟ و نقطع على أنّ العصمة لازمة منذ أكمل الله عقولهم إلى أن قبضهم، انتهى. و عبارته غير خالية عن الغموض و الإبهام.
و قال(4) في محكيّ المسائل العكبريّة: إنّ الطاعة في وقت رسول الله (ص) كانت له من جهة الإمامة دون غيره، و الأمر له خاصّة دون من سواه، فلمّا قبض صارت الإمامة من بعده لأمير المؤمنين (ع)... و هكذا حكم كلّ إمام و خليفة في زمانه، و لم تشترك الجماعة في الإمامة معاً، و كانوا فيها على الترتيب الذي ذكرناه ثم قال:
ص: 158
و قد ذهب قوم من أصحابنا الإمامية إلى أنّ الإمامة كانت لرسول الله و أمير المؤمنين و الحسن و الحسين (عليهم السلام) في وقت واحد، إلاّ أنّ النطق و الأمر و التدبير كان للنيّ (ص) مدّة حياته دونهم. و كذلك كان الأمر و التدبير لأمير المؤمنين دون الحسن و الحسين، و جعل الإمام في وقت صاحبه صامتاً، و جعل الأوّل ناطقاً، و هذا خلاف في عبارة: و الأصل ما قدّمناه، انتهى كلامه.
أقول: إن أراد بحدوث الإمامة بعد وفاة النبيّ (ص) أو الإمام السابق ظهورها للناس و وجوب طاعته بحسب الظاهر؟ فالمناقشة لفظيّة كما أفاد.
و أمّا إن أراد ما هو ظاهر كلامه فالخلاف معنوي كما دريت.
وممّا يدلّ على ذلك - مضافاً إلى ما ذكرناه - الأخبار الكثيرة الدالة على عدم وجود إمامين في عصر واحد إلاّ و أحدهما صامت، و هذه الروايات ظاهرة في نفي النطق بالأمر و النهي عن الإمام الثاني لا في نفي أصل إمامته، بل مقتضاها ثبوت الإمامة لهم فلاحظ.
و يدعم المقام أيضاً أمران آخران:
1 - الأخبار الدالّة على عصمة الإمام؛ فإنّ ظاهرها - كما أشرنا سابقاً أيضاً - ثبوت الإمامة للأئمة (ع) من حين إمامتهم لا مطلقاً. فإذا قلنا بأنّ الإمامة غير الخلافة، و إنّ المتأخّر منهم جائز للإمامة في حياة المتقدّم منه و إن كان صامتاً عن الأمر و النهي، و إنّما ينطق بالأمر و النهي إذا مضى المتقدّم لسبيله و قام هو مقامه. فقد صحّ مذهب الإماميّة في أنّ العصمة ثابتة للأئمة (عليهم السلام) قبل قيام كلّ واحد مقام الآخر.
و أمّا إن لم نقل بتغايرهما فالأخبار المذكورة لا تفيد مذهب الإماميّة تلك الفائدة.
2 - مقتضى الروايات المتواترة الآتية أفضليّة الأئمة من الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) مطلقاً من دون قيد بزمان و وقت. فإذا قلنا بحدوث إمامتهم حين قيام كلّ منهم مقام الآخر، فلا بدّ من تقييد تلك الأخبار و تخصيص أفضليتهم بما بعد خلافتهم؛ إذ لا يعقل أفضليّة من ليس بإمام و لا بخليفة عن رسول، و لا برسول من الأنبياء و الرسل (عليهم السلام).
و أمّا على المختار من تقدّم الإمامة على الخلافة لا يلزم تقييد تلك المطلقات؛ فإنها مطابقة للقرآن الكريم حيث يستفاد منه أفضليّة الإمامة عن الرسالة كما مضى.
ثمّ نحن و إن ندّعي - وفقاً للبرهان السابق ذكره - أصالة الإمامة و تقدّمها على الخلافة غير أنّ مبدأها و أوّل حدوثها لكلّ إمام (ع) غير معلوم لنا.
و أمّا الأمر الثاني من الأمور القائم بها امتياز النبوّة عن الإمامة فالروايات الكثيرة المتقدّمة - في المقصد السابق - و غيرها و إن تصافقت عليه لكن هنا روايات أخر تدلّ على معاينة الإمام
ص: 159
الملك، فيسقط هذا الأمر أيضاً. و إليك ما فزت به منها:
1 - رواية ابن أبي عمير عن أبي خديجة(1) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: مرّ بأبي رجل - و هو يطوف - فضرب بيده على منكبه، ثمّ قال: أسألك عن خصال... فقال أبي (ع): «هذا جبرئيل أتاكم يعلّمكم معالم دينكم». دلّت الرواية على معاينة الباقر و الصادق (عليهماالسلام) الملك، بل لغيرهما أيضاً، كما لعلّه ظاهر قوله: «أتاكم يعلّمكم» انتهى.
2 - رواية ابن حمزة(2) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إنّ منّا لمن ينكت في أذنه و إنّ منّا لمن يؤتى (يري خ) في منامه، و إنّ منّا لمن يسمع صوت السلسلة يقع على الطشت، و إنّ منّا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل و ميكائيل.
و قريب منها رواية(3) أخرى دله دلّت الرواية على رؤياهم في منامهم، لكن تعارضها جملة من الروايات النافية لذلك(4).
و أمّا عدّ سمع صوت السلسلة في قبال النكت في الأذن فلعلّه بلحاظ الاختلاف في كيفيّة الصوت.
3 - رواية أبي بصير(5) قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إنّ منّا لمن يعاين معاينة، و إنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت و كيت، و إنّ منّا لمن يسمع كما يقع السلسلة كلّه يقع في الطست. قال: قلت فالذين يعاينون ما هم؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل و الميكائيل. و قريب منه رواية أخرى له.
4 - رواية معبد (معتب خ) قال: كنت مع أبي عبد الله (ع)... قال (ع): «بينا أبي قائم يصلي في هذا المكان إذ جاءه شيخ يمشي حسن البسمة فجلس، و بينا هو جالس إذ جاء رجل... و تواريا عنّي فلم أر شيئاً فقال أبي: يا بنيّ هل رأيت الشيخ و صاحبه؟ فقلت: نعم؛ فمن الشيخ و صاحبه؟ فقال: الشيخ ملك الموت؛ و الذي جاء (أخرجه خ) جبرئيل».
5 - رواية زرارة عنه (ع)... إذ أقبل رجل قاطب الوجه، فلمّا رأيته علمت أنّه ملك الموت، قال فاستقبله رجل آخر طلق الوجه حسن البشر، فقال لست بهذا أمرت. انتهى.
6 - رواية معبد (معتب خ) قال: توجهت مع أبي عبد الله (ع)... فقال (ع): «إنّي صليت... مع
ص: 160
أبي... إذ أقبل شيخ طويل جميل أبيض الرأس و اللحية، فسلّم على أبي، و شاب مقبل على أثره... فقال: هذا و الله ملك الموت، و هذا جبرئيل».
7 - مرسلة أبي يحيى(1) عنه (ع) قال: لمّا قبض رسول الله (ص) هبط جبرئيل و معه الملائكة و الروح الذين كانوا يهبطون في ليلة القدر قال: فتح لأمير المؤمنين بصره فرآهم في منتهى السماوات إلى الأرضين يغسّلون النبيّ معه، و يصلّون معه، و يحفرون له؛ و الله ما حفر له غيرهم حتّى إذا وضع في قبره نزلوا مع من نزل، فوضعوه في قبره فتكلّم، و فتح لأمير المؤمنين (ع) سمعه فسمعه يوصيهم به فبكى و سمعهم يقولون: لانالوه جهداً، و إنّما هو صاحبنا بعدك إلاّ أنّه ليس يعايننا ببصره بعد مرّتنا هذه، حتّى إذا مات أمير المؤمنين رأى الحسن و الحسين مثل ذلك... حتّى إذا مات الحسين (ع) رأى علي بن الحسين مثل ذلك... حتّى إذا مات علي بن الحسين رأى محمد بن علي مثل ذلك الخ.
8 - ما عن ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح الخطبة القاصمة(2) عن الصادق (ع) قال: كان علي (ع) يرى مع رسول الله (ص) قبل الرسالة الضوء، و يسمع الصوت، و قال له: لو لا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة، فإن لم تكن نبيّاً فإنّك وصي نبيّ و وارثه، بل أنت سيّد الأوصياء و إمام الأتقياء.
أقول: الاستشهاد بهذه الرواية مبنيّ على تفسير الضوء بالملك. لكنّ الحقّ عدم انهيار الأمر الثاني بهذه الروايات؛ فإنّ مفاده - على ما نطقت رواياته المتقدّمة - أنّ الإمام لا يعاين الملك حين تحدّثه بما يحتاج إليه الإمام.
و هذه الروايات لا تنافي هذا المعنى، بل الأخيرة تؤيّده كما هو ظاهر، بل السابعة تدلّ على تدعيم الأمر الثاني المذكور.
و العمدة هي الرواية الأولى، فإنّها ظاهرة في المعاينة دلالة، لكنّ الظاهر منها أنّ غير الإمام أيضاً رأوه فيسهل فيها الخطب للزوم حمل التحدّث على محامل أخر و إلاّ فرؤية الملك مطلقاً غير عزيزة، و قد رآه بعض فسّاق قوم لوط كما في القرآن، فتأمّل.
و أمّا الرواية الثالثة و ما يوافقها مضموناً، فالأمر فيها ليس بعسير؛ إذ لم يدلّ دليل على إرجاع الضمير في قوله (ع) إن صحّت الرواية سنداً -: «إنّ منّا» إلى خصوص الأئمة، بل من المحتمل قويّاً رجوعه إليهم و إلى الأنبياء، و لا أقل من رجوعه إليهم و إلى جدّهم الرسول الخاتم (ص) فيكون الرؤية راجعة إلى غير الأئمة (عليهم السلام) و لو سلّمنا إجمال الرواية من هذه الجهة،
ص: 161
فلا بدّ من الحمل على ذلك، جمعاً بينها و بين الروايات المتقدّمة الدالّة على نفي الرؤية عن الإمام و هذا بحمد الله ممّا ليس بسرّ.
ثمّ إنّ في المقام صعوبات غامضة لا يصحّ إهمالها:
إحداها: أنّ هناك روايات تدلّ على أنّ غير الإمام أيضاً تحدّثه الملائكة و قد جعلناه من علائم الإمامة؟ فمن المحدّثين من غير الأئمة فاطمة الصدّيقة سلام الله عليها(1)، و منهم مريم بنت عمران، و منهم أم إسحاق زوجة الخليل (ع) كما مرّ، و منهم سلمان الفارسي رضي الله عنه ففي رواية زرارة عن الباقر (ع)(2): كان علي محدثا، و كان سلمان محدّثاً.
و في موثّقة أبي بصير عن الصادق (ع): كان و الله عليّ محدّثاً و سلمان محدّثاً قلت: اشرح لي؟ قال: يبعث الله إليه ملكاً ينقر في أذنيه يقول: كيت و كيت.
و في رواية ابن الشيخ الطوسي عنه... قال يأتيه ملك فينكت في قلبه كت و كيت(3).
و في رواية الحسن قال: قلت الصادق (ع): أكان سلمان محدّثاً؟ قال: نعم: قلت: من يحدّثه؟ قال: ملك كريم. قال فإذا كان سلمان كذا فصاحبه أيّ شيء هو؟ قال أقبل على شأنك، لكن في رواية أحمد بن حمّاد عنه (ع) أنّه قال في الخبر الذي فيه روي أنّ سلمان كان محدّثاً: أنّه كان محدّثاً عن إمامه لا عن ربّه؛ لأنّه لا يحدّث عن الله عزّ و جلّ إلاّ الحجّة.
و في مرسلة الصدوق(4)... و قيل من كان يحدّثه؟ فقال - الصادق (ع) -: رسول الله و أمير المؤمنين... و إنّما صار محدّثاً دون غيره ممّن كانا يحدّثانه؛ لأنّهما كانا يحدّثانه بما لا يحتمله غيره.
قلت: لم ندّع نحن أنّ التحدّث سبب تام للإمامة ليكون كلّ محدّث إماماً، بل قلنا: إنّ الإمام يحدّثه الملك. فكلّ إمام محدّث دون العكس إذ ليس التحدّث على نحو واحد و شكل فارد، فالإمام يحدّثه الملك بأشياء لا يحدّثها مع غيره كما هو واضح على أن مثل هذه الروايات يشكل الاعتماد عليها.
هذا، مع أنّ للإمام مزايا أخر تميّزه عن غيره كتأييده بروح القدس، و وجوب طاعته على الناس، و قيامه مقام الرسول (ص) و إنزال الملائكة عليه ليلة القدر على وجه ذكرناه في بعض كتبناه باللغة الفارسية في تفسير سورة القدر. و عرض الحوادث الواقعة في العالم عليه عرضا
ص: 162
بتّياً، بل تمكّنه من النظر أو المعرفة بالحوادث اليومية لا سيّما الأفعال الصادرة عن المكلّفين بتوسّط العمود من النور، و كونه معصوماً، و كونه أفضل الناس، و كون طينته المقدّسة عن عليين فقط، إلى غير ذلك من الكمالات و الفضائل المختصّة به. الواردة في روايات بعضها معتبر سنداً و بعضها غير معتبرة و غير معتمدة، و عليك بالتمييز بها على أصول ذكرناها في كتابنا بحوث في علم الرجال.
هذا، مع أنّ تحدّث الملك لغير الإمام إنّما هو بتوسّط الإمام كما دلّت عليه رواية أحمد المزبورة، كما سبق أن تحدّث الملك مع الإمام بتوسّط النبيّ و أمره (ص) فالنبيّ يأمر الملك بإبلاغ الحديث إلى الإمام، و الإمام ربّما الملك أن يحدّث أحداً كالصدّيقة الطاهرة - سلام الله عليها - و سلمان و نحوهما.
و الرواية الأخيرة تبيّن وجهاً ثانياً لتسميته بالمحدّث، و ردّ السائل في الرواية الثالثة لعلّه لأجل عناده أو قصور باعه أو شيء آخر لا نعلمه. فلا تعارض بين الروايات المذكورة، بيد أنّ كلّها سوى رواية أبي بصير ضعاف الأسناد فلا عبرة بها. اللهمّ إلاّ أن يوجب مجموعها الوثوق بأصل الموضوع، فتأمّل.
ثانيتها: أنّ قوله تعالى: (إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(1). دلّ على أنّ الإمامة منحت للخيل بعد الرسالة و النبوّة على نحو مرّ تدليله. و المستفاد من الروايات المتقدّمة - في مباحث النبوّة - الواردة في بيان الفرق بين الإمام و النبيّ و الرسول أنّ الإمامة سمع صوت الملك، و النبوّة هذا و الرؤيا في المنام و الرسالة هذان مع معاينة الملك المحدّث قبلاً.
و النتيجة - على ضوءهذا - أنّ كلّ نبيّ إمام و لا عكس، و كلّ رسول نبيّ و إمام و لا عكس.
و بعبارة جامعة: مدلول الروايات أعمّيّة الإمامة من النبوّة و الرسالة عموماً مطلقاً، و المستفاد من القرآن خلافه كما عرفت فيتعارضان! و لا أعرف حلّه.
ثالثتها: إذا كان معنى الإمامة هو سمع صوت الملك كما تدلّ عليه الروايات لا يستقيم معنى الآية؛ فإنّه يصير كذلك: إنّي جاعلك للناس شخصاً يسمع صوت الملك. و هو كما ترى! و لا يصح أن يقال: إنّ الإمامة بمعنى الزعامة؛ فإنّ الخليل (ع) كان رسولاً قبل منح الإمامة له، فكان قدوة و زعيماً لأمّته، و الروايات المتقدّمة المذكورة أيضاً كالصريحة في بطلان هذا الحمل. أي حمل الإمامة على معناها اللغوي.
رابعتها: المستفاد من القرآن المجيد أفضليّة الإمامة عن الرسالة و النبوّة؛ فإنّ الله تعالى
ص: 163
ابتلى رسوله الخليل بكلمات فأتمهّن فمنّ الله عليه و جعله للناس إماماً، و هذا لا يصحّ إلاّ بناء على أفضليّة الإمامة من الرسالة و النبوّة و الخلّة. و المستفاد من الروايات المشار إليها أفضليّة الرسالة و النبوّة من الإمامة! نعم دلّت روايات كثيرة على أفضليّة أشخاص الأئمة (عليهم السلام) من الأنبياء و الرسل كما سيأتي ذكرها، لكنّه شيء آخر لا ربط له بمحلّ البحث، و هو التفاضل بين نفس المناصب.
و هذه الإشكالات الثلاثة قريب المأخذ كما لا يخفى، و إنّي لأجد الاعتراف بالعجز عن حلّها - حلّاً تركن إليه النفس و تسكن به كلياً - أقرب إلى الإنصاف و تعظيم الناموس العلمي من ذكر احتمالات غير مفيدة و لا مقنعة.
ثمّ إنّ هذه الإشكالات كجملة من المباحث المذكورة في هذا الكتاب ممّا لم أجد التعرّض لها في كلام أحد ممّن يحضرني كتبهم عاجلاً، و الله الهادي.
و المتحصّل من جميع ما مضى أنّ هنا أمرين: الإمامة؛ و الخلاقة.
و الأولى: منصب تأصلي يؤتيه الله لمن يشاء من عباده، و له لوازم خاصّة. يستفاد ذلك من الكتاب العزيز و الروايات، و المتّصف به هو نوح و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و موسى و عيسى(1) و محمّد و وصيّه عليّ و أحد عشر من أبنائه - صلوات الله و سلامه و تحياته عليهم - كما يظهر من الكتاب و السنّة، و أمّا غير هؤلاء المعصومين المطهّرين فلم أجد عاجلاً دليلاً دلّ على اتّصافه به.
و هذا المنصب يجتمع مع الرسالة، و يصدق بدونها، بخلاف الخلافة فإنّها لا تجامع الرسالة قطعاً و اتّفاقاً.
و الثانية: منصب نيابي يتّصف به من دلّ الدليل على صحّة قيامه مقام الرسول الأكرم (ص) و هذا هو محلّ النزاع بين المسلمين و المتّفق عليه مفهومه، و هو المقصود بالبحث في هذا المقصد، و نحن إذا نطلق لفظ الإمام في كثير من مباحث هذا المقصد نريد به خليفة النبيّ الأكرم (ص) دون معناه الخاصّ المتقدّم، فافهم جيّداً.
إذا تقرّر هذا فلنرجع إلى مباحث أصل المقصد بذكر أبواب؛ نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للطريقة الحقّة و اتّباعها، و أن يجنّبنا من العصبيّة و اللجاجة و عن تفدية الدليل بالتقليد، و أن يجعلنا و إيّاكم - أيّها القرّاء الكرام - من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، و أن لا يجعلنا من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً. اللهمّ اهدنا لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
ص: 164
أجمع الأمة الإسلامية - سوى بعض الخوارج -(1) على وجوب نصب الإمام بعد النبيّ الأكرم (ص) لكن اختلفوا في كيفيّته و متعلّقه على أقوال:
القول الأوّل: ما ذهبت إليه الإمامية من وجوبه على الله تعالى عقلاً، كما صرّح به جملة من عظمائهم، و قال المجلسيّ و بعض من تأخّر عنه (قدس سره) إنّ الإمامية على وجوبه عقلاً و نقلاً.
القول الثاني: ما ذهبت إليه الإسماعيليّة و الغلاة من وجوبها من الله تعالى، على ما نقله المحقق الطوسي (قدس سره)(2) لكن نسب في المواقف و شرحه(3) إلى الإسماعيليّة القول الأول: قال: إلاّ أنّ الإمامية أو جبوه عليه (تعالى) لحفظ قوانين الشرع؛ و الإسماعيليّة أو جبوه ليكون معرّفاً لله تعالى و صفاته؛ لما مرّ منهم أنّه لا بدّ من معلم لمعرفته تعالى.
و قال اللاهجي (رحمه الله)(4) - بعد ما نسب إلى الإسماعيليّة ما نسبه في المواقف إليهم: الغلاة يقولون إنّه يجب على الله نصب الإمام ليعلم الناس أحوال الأغذية و الأدوية، و السموم المهلكة، و يعرّفهم الحرف و الصنائع، انتهى كلامه.
و قيل: إنّ الفرق بين الوجوب من الله و بين الوجوب على الله أنّ النصب في الأوّل مختصّ بالله بأن يظهر الله أمر الإمام و يعطيه الرئاسة العامّة، بخلاف الثاني فإنّ النص فيه إمّا من الله أو ممّن نصّ الله عليه.
القول الثالث: ما ذهبت إليه المعتزلة و الزيدية من وجوبها على الناس عقلاً، نقله عن المعتزلة غير واحد، لكن في الصواعق المحرقة نسبة القول الخامس إلى أكثر المعتزلة.
و نقله عن الزيديّة صاحب المواقف، لكنّ الظاهر من المحقّق الطوسي و العلاّمة الحلي -
ص: 165
نور الله مضجعهما - ادخال الزيديّة في الإماميّة في هذا المقام؛ و أنّهم يقولون بوجوبه على الله عقلاً.
و هما أعرف من صاحب المواقف و أمثاله.
القول الرابع: ما عن الجاحظ و الكعبي و أبي الحسين من المعتزلة من وجوبه على الناس عقلاً و نقلاً.
القول الخامس: ما ذهبت إليه الأشاعرة و الجبائيان و أصحاب الحديث من وجوبه على الناس سمعاً فقط لا عقلاً.
القول السادس: ما عن هشام الغوطي و أتباعه من الخوارج من وجوبه على الناس عند الأمن دون الفتنة.
القول السابع: عكس السادس كما عن أبي بكر الأصم و أتباعه.
استدلت الامامية على رأيهم بوجوه:
1 - إنّ نصب الإمام لطف، و اللطف واجب عليه تعالى، فيجب نصب الإمام عليه تعالى.
أقول: الصغرى ضرورية؛ إذ كلّ أحد يعلم بالبداهة أنّ الإمام يقرّب الرعيّة الى الطاعة و يبعدّهم عن المعصية، و أمّا الكبرى فأورد عليها الأشاعرة بمنع الوجوب المذكور بدليل إنكارهم الحسن و القبح العقليين، و قد مرّ في الجزء الثاني أنّ إنكارهما لا يتيسر للعاقل إلاّ بمجرّد اللسان.
و أمّا نقض الدليل بخلو أعصارنا عن الإمام الظاهر فسيأتي بحثه في أواخر هذا المقصد إن شاء الله.
2 - إنّ وجوده أصلح للمجتمع، و الأصلح واجب عليه تعالى عقلاً و نقلاً. ذكره بعض الفضلاء.
قلت: قد برهّنا على الكبرى في الجزء الثاني بما لا مزيد عليه.
3 - إنّ العصمة شرط في الإمام كما يأتي، و هي أمر خفي لا يدركه الناس كما أشرنا إليه في المقصد السابق؛ فينحصر تعيينه من قبل الله تعالى إذ لو وجب على الناس لزم التكليف بما يزيد عن الواسع فإذا لم يجب على الناس يجب على الله تعالى اتّفاقاً.
4 - إنّ الإمام مثل النبيّ في الصفات و الغرض المطلوب منه، فكما أنّ الثاني انتصابيّ غير انتخابيّ فليكن الأوّل أيضاً كذلك، بل نفس لفظة الخلافة و الخليفة تكفي لانحصار تعيين الإمام
ص: 166
بمن يخلفه الإمام المذكور أعني به النبيّ الخاتم (ص).
و المشهور بينهم لعلّه هو الوجه الأوّل.
و لنا طريق خاصّ إلى المطلوب، و عليه نعتمد، و إليك بيانه و بيان مقدّماته:
1 - إنّ شريعة خاتم المرسلين (ص) باقية إلى يوم القيامة، و الناس موظّفون بتقليدها و اعتناقها. و هذه المقدّمة من أوضح الضروريات الإسلاميّة.
2 - إنّ الشريعة الإسلاميّة مشتملة على أصول اعتقاديّة، و فروع عمليّة من العبادات و المعاملات و السياسات و الاجتماعيّات و غير ذلك، بل كلّ فعل أو ترك للمكلّفين لا بدّ من اتّصافه بأحد الأحكام الخمسة الشرعية عقلاً، و هذه أيضاً واضحة.
3 - أمر التشريع و التقنين بيد الله تعالى وحده، أو بيد رسوله الخاتم (ص) أيضاً على نحو مرّ في المقصد السابق، و ليس للناس دخل فيه، و هذه المقدّمة ضرورية بين المسلمين، و هي لا تنافي استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة و كبرياتها الكليّة، كما يفعله العلماء المجتهدون، ضرورة تغاير الاستنباط و التشريع.
4 - لا بدّ في صحّة التكليف من وصوله إلى المكلف، و هذا ممّا لا ريب فيه عقلاً و لا شرعاً، و لا ينبغي لعاقل أن يتوقّف في قبوله.
5 - إنّ مصادر التشريع أربعة: القرآن، و العقل، و الإجماع، و السنة، و عدم كفاية الثلاثة الأول لمعظم الأحكام الفقهية و كثير من الفروع الأصولية الاعتقادية أظهر لكلّ أحد ملتفت إلى الشريعة من أن يحتاج إلى بيان و مزيد توضيح.
و أمّا السنّة - و نعني بها ما صدر عن الرسول الأعظم (ص) في زمان حياته، و بيّنه لأمّته بين حين و آخر - فهي أيضاً غير كافية لتكميل نظام التشريع و إتمام الفقه الإسلامي، كما يظهر ذلك لكلّ من مارس المسائل الفقهية، و وقف على مداركها و مآخذها، كيف و لو بيّن النبيّ الأكرم (ص) معظم الأحكام الشرعيّة لما اختلف فقهاء الامة ذلك الاختلاف العجيب، و لم يؤل الأمر إلى الإفراط و التفريط. و إنّني لا أظنّ بعاقل فاضل أن يتردّد في ذلك أصلاً، و أمّا وجه أنّه (ص) لم يبيّن جميع الأحكام للناس فلعلّه لأمور:
الأوّل: ضيق الفرصة و قلّة المجال، أمّا في مكة فلقلّة أصحابه، و ابتلائه بأذى المشركين، و أمّا في المدينة فلاشتغاله بالحروب، و تركيز أصل الإسلام بين الناس و تحكيم القرآن في أوساط المسلمين.
الثاني: قلة ابتلاء المسلمين الموجودين في عصره (ص) بالموضوعات المختلفة لكي يدعو إلى بيان أحكامها الشرعيّة.
ص: 167
الثالث: عدم بيان تمام التكاليف الدينيّة؛ مقتضي الحكمة، هو في إذ غالب المسلمين كانوا قريبى العهد بالكفر، و لو كلّفوا دفعة بما كلّفنا اليوم لم يتحمّلوه و لرجعوا إلى كفرهم ثانياً. و هذه عمدة أسباب تدرّج التشريع كما لا يخفى. و على كلّ، نفس المقدّمة قطعيّة.
6 - إنّ النبيّ (ص) لم يلحق بربّه إلاّ و أكمل دينه و أتمّ شريعته؛ و لا بدّ أن يكون كذلك؛ لأنّ الله بعثه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، و يتبعه الناس في جميع الأعصار إلى يوم الدين فكيف يقبضه حينما شريعته ناقصة؟!!.
و لا يحتمل بمسلم آمن بالله و رسوله (ص) أن يدّعي ذلك لبطلانه عقلاً و نقلاً. أمّا عقلاً فلأنّه نقض للغرض، و هو قبيح. و أمّا نقلاً فلقوله تعالى: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(1) و قوله (ص): «ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة و يبعّدكم عن النار إلاّ و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم إلى النار و يبعّدكم عن الجنة إلاّ و قد نهيتكم عنه».
و على ضوء جميع هذه المقدّمات ينقدح - بجلاء و وضوح يقيني - وجوب نصب الخليفة و إيداع ما بقي من بيان الشريعة إليه ليبيّنه هو للناس حسب ما تقتضيه المصلحة و الحكمة، و إلاّ يلزم إمّا عدم تكليف الناس بعد حياة النبيّ بدين الإسلام و هو باطل كما ذكرنا في المقدّمة الأولى، أو أنّ الشريعة منحصرة بمابيّنه النبيّ الأكرم فقط، و هو فاسد بحكم المقدّمة الثانية و الخامسة. أو أنّ الناس هم المختارون لجعل الأحكام، و لكن مرّ تزييفه في المقدّمة الثالثة أو نقول بأنّهم مكلّفون و لو بما يبيّنه النبيّ (ص)! و قد عرفت سقوطه في المقدّمة الرابعة. أو أنّ الأدلة الأربعة المعهودة كافية للمهمة، و لكن دريت ضعفها في المقدّمة الخامسة. أو إهمال النبيّ أمر الشريعة و حال الأمّة! و قد أبطلته المقدّمة السادسة.
فإذا بطلت هذه اللوازم ثبت - ثبوتاً قطعيّاً قهريّاً - أنّ النبيّ الأكرم أودع الأحكام إلى غيره من بعض أفراد أمّته ليوصل إلى الناس، و لا بدّ من تعريف هذا الشخص لأمّته في حياته ليستمعوا إلى أقواله و ينقادوا لإرشاده و هدايته، و لا يجوز لأحد مخالفته كأن يقول: فلان وصيي استمعوا إلى قوله، أو يقول: انا مدينة العلم و فلان بابها، و من أراد المدينة فليأتها من الباب و ما يقاربهما.
و أنت إذا راجعت ما ذكرناه - في المقصد الخامس و السادس حول وجوب التكليف و وجوب بعثة الأنبياء و الرسل (ع) - تعرف أنّ الأمر في النبوّة و الخلافة شيء واحد و لكليهما ملاك واحد بلا فرق، و أنّ هذا الوجوب ليس بعقليّ محض و لا بنقليّ صرف.
و بعبارة أخرى: وجوب نصب الخليفة و الرسول و التكليف ليس من المستقلاّت العقليّة،
ص: 168
و لا من الأحكام التعبديّة بل من الملازمات العقليّة.
هذا كلّه ما يرجع إلى القول الأوّل.
و أمّا القول الثاني فإن أريد به ظاره و صدور نصب الإمام منه تعالى قهراً و جبراً فقد أبطلنا أساسه في مبحث قدرة الله تعالى.
و إن أريد به ظهور الله بصورة الإمام و صدوره منه تعالى - قال المحقّق الطوسي (رحمه الله): و أمّا الغلاة فبعضهم قالوا: إنّ الله تعالى يظهر في بعض الأوقات في صورة الإنسان ليسمّونه نبيّاً و إماماً، و يدعو الناس إلى الدين و لو لا ذلك لضلّ الخلق، و بعضهم قالوا بالحلول أو بالاتحاد؛ كما يقول به بعض المتصوّفة(1) - فسخافته واضحة؛ و قد مضى تفنيده في الجزء الثاني.
و أمّا إن كان مذهبهم - أي الغلاة و الإسماعيليّة - ما تقدّم نقله من بعضهم من انحصار التنصيص على الإمام بتنصيص الله وحده دون تنصيص النبيّ (ص) فهو ممّا لا دليل عليه؛ و لا يمكن إثباته بدليل.
و أمّا القول الثالث فدليله أنّ في نصب الإمام استجلاب المنافع الكثيرة و استدفاع المضارّ بالضرورة أو قريب من الضرورة، و سيأتي التنبيه عليه، و دفع الضرر واجب عقلاً، و إنّما لم يقولوا بوجوب نصب الإمام على الله تعالى بناءً على أنّه لو وجب عليه تعالى لما خلا الزمان من إمام ظاهر.
قلت: بناءً على ما سلكناه في إثبات وجوب نصب الإمام من التقرير لا يبقى لهذا القول موضوع كما لا يخفى، و لا للنقض المذكور مجال أصلاً؛ فإنّ مفاده هو وجوب نصب الإمام على الله تعالى إلى أن يصل الأحكام بأسرها أو معظمها إلى المكلّفين، و هذا لا يستلزم وجود إمام ظاهر إلى الأبد. و أمّا بناءً على ما سلكه أصحابنا الأماجد الأعلام من طريق قاعدة اللطف و غيرها فسيأتي كلامهم حول إبطال النقض المذكور إن شاء الله تعالى.
على أنّه وارد عليهم و على أرباب القول الخامس و الرابع و غيرهما أيضاً؛ إذ الإمام المستجمع للشرائط الآتية غير متحقّق من زمن بعيد، بل لا يمكن لهم إثبات إمامة أحد بعد خلفائهم الأربعة و بعض الآخرين كعمر بن عبد العزيز و مثله، بل نسبوا إلى النبيّ الأكرم (ص) قوله(2): الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكاً عضوضاً. و عليه فلا خليفة للمسلمين غير
ص: 169
هؤلاء الأربعة! و لازمه اجتماع الأمّة بعدها في جميع الأدوار و الأعصار على الضلالة و المعصية لتركهم نصب الإمام الجامع للشرائط الآتية على زعمهم، و قد زعموا أنّه (ص) قال: لا تجتمع أمتي على الضلالة و الخطأ! و قد مرّ أدلّتهم عليه - في مدخل الكتاب في الجزء الأوّل - فالإشكال متّجه على جميع الأقوال سوى ما قلنا.
و أمّا القول الرابع فلعلّ مدركه ما ذكر للقول الثالث و الخامس، و يزيف بتزييفهما.
و أمّا حجّة القول السادس فهي أنّ نصب الإمام حين الفتنة يوجب النزاع والهرج، و ردّ بأنّ المنفعة المترتّبة على وجوده أكثر من المضرّة اللازمة من نصبه.
و أمّا مستند القول السابع فهو عدم المقتضي إليه عند الأمن، لكنّه فاسد؛ لأنّ في نصب الإمامة فوائد كثيرة لا تحصى، على أنّ هذين التفصيلين مبنيان على تخيّل تعلّق الوجوب بالناس؛ و قد عرفت بطلانه.
و أمّا مدرك القول الخامس فأمور:
1 - إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون؛ لأنّا نعلم - علماً يقارب الضرورة - أنّ مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات و المناكحات و الجهاد و الحدود و المقاصات، و إظهار شعار الشرع في الأعياد، و الجمعات إنّما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً و معاداً... و ذلك المقصود لا يتمّ إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرفعون إليه فيما يعنّ لهم، فإنّهم مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء، و ما بينهم من الشحناء قلّما ينقاد بعضهم لبعض، فيفضي ذلك إلى التنازع و التوائب، و ربّما أدّى إلى هلاكهم جميعاً و يشهد له التجربة و الفتن القائمة عند موت الولاة إلى نصب آخر. ففي نصب الإمام دفع مضرّة لا يتصوّر أعظم منها فهو من أتمّ مصالح المسلمين، و دفع الضرر المظنون واجب إجماعاً.
2 - قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1).
3 - قوله (ص): «من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية». استدلّ به التفتازاني في شرح عقائد عمر النسفي.
4 - إجماع المسلمين في الصدر الأوّل على امتناع خلو الوقت عن الإمام حتّى قال أبو بكر: ألا إنّ محمد (ص) قد مات، و لا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به، فبادر الكلّ إلى قبوله! و تركوا أهمّ الأشياء و هو دفن رسول الله (ص)(2) و اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة. فكان نصب الإمام واجباً
ص: 170
إجماعاً! و قال بعضهم: إنّ هذا الوجه هو العمدة.
5 - إنّ الشارع أمر بإقامة الحدود، و سدّ الثغور، و تجهيز الجيوش للجهاد، و كثير من الأمور المتعلّقة بحفظ النظام و حماية بيضة الإسلام، ممّا لا يتمّ إلا بالإمام؛ و ما لا يتم الواجب المطلق إلاّ به و كان مقدوراً فهو واجب على ما مرّ. ذكره القوشجي قبل الوجه الأوّل.
أقول: أمّا الوجه الأوّل فهو لا يتم على مزاعم الأشعريين المنكرين لجواز تعلّل أفعاله تعالى بالأغراض؛ و أيضاً قال إمامهم الرازي في تفسيره الكبير عند قوله تعالى: (وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيٰاناً وَ كُفْراً)(1): إنكار ذلك تكذيب لنصّ القرآن! فدعوى الضرورة في المقام على أصولهم مزيّفة.
نعم، هو يتمّ على القواعد العقليّة و طريقة العدليّة، و لكن نقول إنّه لا يثبت الوجوب على الناس، بل على الله الرحيم، فإنّه إذا توقّف صلاح العباد في دينهم و دنياهم على إمام صالح كان تعيّنه أصلح، و الأصلح واجب عليه بمقتضى حكمته البالغة.
ثمّ إنّ دليلهم هذا - لو تمّ - لا ينافي تعدّد الأئمة في أقطار الأرض مع أنّهم لا يقولون به، فافهم.
و أمّا إثبات الوجوب المزبور بالإجماع فهو شيء سخيف فإنّه ليس من أحكام العقل العمليّة حتّى يتفوّه بأنّ إنكارها يقتضي إنكاره، بل هو من الحكم الفطري على ما فصّلناه في
ص: 171
مدخل الكتاب، و عليه لا حاجة إلى التشبث بالإجماع المختلق الذي سوف نفنّده من أساسه إن شاء الله، على أنّ إثبات دعواهم موقوف على كون مقدّمة الواجب واجبة شرعاً لا عقلاً فقط، و أنّى لهم بإثبات ذلك؟!. و من شاء تفصيل البحث فيه، فليراجع كتب أصول الفقه عند أصحابنا.
و أمّا الوجه الثاني ففيه:
أوّلاً: أنّه ناظر إلى وجوب إطاعة الإمام دون نصبه! و الفرق بين الأمرين واضح، ألا ترى أنّ طاعة النبيّ واجبة على الناس و لا كذلك نصبه...
و ثانياً: أنّ الأمر المذكور إرشادي لا مولوي؛ فلا يستفاد منه الوجوب الشرعي، و نحن لأجل هذا و أمثاله عنونّا الفرق بين الأمر المولوي و الإرشادي في أوائل الكتاب فارجع إليه.
و الوجه الرابع يدلّ على أنّ معرفة إمام الزمان واجبة و سيأتي بيان دلالتها على كون الإمامة من أصول الدين.
و الوجه الخامس - إن تمّ - يشكل استفادة الوجوب الشرعي منه لما عرفت من أنّ المتيقّن وجوب المقدّمة عقلاً، و أمّا شرعاً ففيه بحث طويل الذيل قرّرناه في أصول الفقه. مع أنّه غير تام؛ فإنّ الأمور المذكورة فيه إن كان وجوبها مشروطاً بوجود الإمام و معلّقاً عليه، فلا يجب نصبه على المكلّفين لعدم وجوب تحصيل مقدّمات الواجب المشروط كالاستطاعة للحجّ، و المال لدفع الزكاة و هكذا.
و إن كان وجوبها مطلقاً و كان وجودها موقوفاً على الإمام، كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة مثلاً فنصبه إنّما يجب حينئذٍ على الناس إذا لم يكن واجباً على الله تعالى و إلاّ لزم تحصيل الحاصل المحال، و قد عرفت - عرفاناً قطعيّاً - أنّه واجب على الله العادل لحكمته البالغة.
هذا مع أنّه لا دليل لهم على وجوب الأمور المذكورة وجوباً مطلقاً و كان وجودها مشروطاً به، أي كان وجود الإمام شرط المأمور به دون الأمر نفسه.
فتحصّل أنّ وجوب نصب الإمام على الناس ضعيف، و أضعف منه كونه شرعيّاً، بل الحقّ الصراح أنّه واجب على الله تعالى على نحو قرّرناه، و الله الهادي.
ص: 172
بعد ما ثبت وجوب نصب الإمام على الله تعالى و بطلان تعلّقه بالناس ثبت أنّ الإمامة كالنبوّة من أصول الدين دون الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين. و هو واضح.
و يدلّ عليه أيضاً الحديث النبويّ المرويّ من طريق الفريقين المتقدّم في كلام التفتازاني: «من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة»(1).
و عن مجمع الزوائد(2) عن معاوية قال: قال رسول الله (ص): «من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة». و قريب منها روايته الأخرى.
و عن عامر بن ربيعة عنه (ص): «من مات و ليس عليه طاعة مات ميتة جاهليّة».
و عن ابن عباس عنه (ص): «من مات و ليس عليه إمام فميتته ميتة جاهليّة».
و يدلّ عليه أيضاً ما سيأتي قريباً من صحاح أخبارهم الدالّة على ارتداد الصحابة بعد رسول الله (ص) فإنّه لم يقع حادث بعد وفاة النبيّ الخاتم (ص) يوجب ارتداد جمع من الصحابة إلاّ الخلاف في مسألة الخلافة و الإمامة!
و مثل هذه الروايات في الدلالة قوله تعالى: (وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ)(3) و ذلك؛ لأنّ الاستفهام ليس بحقيقي و إلاّ لزم جهله تعالى و هو محال، و لا للتسوية كما هو ظاهر، و لا للإنكار الإبطالي المستلزم لعدم وقوع المتعلّق، و إلاّ لزم كون الآية مدحاً للمخاطبين، و من المعلوم أنّها ليست كذلك، و لا للتقرير و الأمر و التهكّم و التعجّب و الاستهزاء كما لا يخفى.
و عليه فيتعيّن كونه للإنكار التوبيخي المقتضي لوقوع ما بعده نظير قوله تعالى: (أَ تَعْبُدُونَ
ص: 173
مٰا تَنْحِتُونَ)(1) و هذا هو المطلوب، فافهم. و لا نعلم أمراً أوجب انحراف الأصحاب و انقلاً بهم على أعقابهم سوى أمر الإمامة و الخلافة؛ فهي من أصول الدين، و الروايات في ذلك كثيرة، و فيما ذكرناه كفاية.
و لعلّه لأجل ذلك ذهب البيضاوي في محكيّ منهاجه - في مبحث الأخبار - و جمع من شارحي كلامه إلى أنّ مسألة الإمامة من أعظم مسائل أصول الدين التي مخالفتها توجب الكفر.
لكن جمهور العامّة على أنّها من الأحكام الفرعيّة بحجّة فندناها قبيل هذا. لكنّ العجيب مخالفة أقوالهم لأفعالهم فقد قتلوا جمّاً غفيراً من المؤمنين الأبرياء بدليل أنّهم لا يقرّون بإمامة الثلاثة! أليس المخالفة في الفرعيات لا توجب فسقاً فضلاً عن الكفر، بل لا تنافي العدالة؟ فمن أين جاء الحكم بكفر الشيعة؟ و كيف جاز لمعاوية الطاغية أن يلعن عليّاً على رؤوس الأشهاد بحجّة أنّه مجتهد(2)! - و المجتهد المخطئ له أجر واحد!! - و لم يجز لمجتهد شيعي لعن معاوية و من شابهه في الزندقة و الردّة؟ و هل الفارق إلاّ العصبيّة الحمقاء؟!.
ثمّ اعلم أيضاً أنّ الإمامة و إن كانت عند الإماميّة من الأصول دون الفروع؛ لكنّها من أصول المذهب دون أصول الدين؛ فمن أنكرها لا يخرج عن دين الإسلام إلاّ عند جماعة قليلة لا تتجاوز عشرة، بل يخرج عن مذهب الشيعة، فالمنكر مسلم غير مؤمن إلا أن ينطبق عليه عنوان آخر كالنصب، و الغلو، و إنكار ضروري من ضروريات الدين(3)، و أمّا حاله في الآخرة فسيأتي تحقيقه إن شاء الله في مبحث المعاد، و قد مرّ في الجز الثاني اشتراط قبول الأعمال بولاية الأئمة. بل اشتراط صحّتها بها عند جماعة من الأعلام بل ادّعى عليه الإجماع، لكنّه غير مدلل.
و نختم الكلام بذكر بعض ما رواه العامّة عن النبيّ الخاتم (ص) تأكيداً للمقام:
فمنه ما عن الحافظ محمّد بن موسى الشيرازي قوله تعالى: (عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ * عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ)(4) بإسناده إلى السدّي عن رسول الله (ص): «أنّ ولاية علي يتساءلون عنها في
ص: 174
قبورهم... يقولون للميّت: من ربّك، و مادينك، و من نبيّك، و من إمامك»؟.
و منه ما عن أنس و ابن عباس و أبي سعيد عنه (ص) - كما عن ينابيع المودة -: إذا كان يوم القيامة، و نصب الصراط على جهنم لم يجز عنه إلاّ من كانت معه براءة بولاية علي بن أبي طالب (ع). و ذلك قوله تعالى: (وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(1). و قريب منه غيره.
و منه - ما في الصواعق: و روى السمّاك أنّ أبابكر قال له: سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز».
ص: 175
شروط الإمامة أمور:
1 - العصمة: شرطها أصحابنا الإماميّة، و نقل جماعة اعتبارها عن الإسماعيلية أيضاً. و خالفهما سائر الفرق زاعمين عدم الدليل عليه، و يرد عليهم أنّ الفرق بينه و بين النبيّ من هذه الجهة تحكّم.
و ذكر بعض من لا تحصيل له(1) أنّه مخالف للكتاب؛ لقوله تعالى: (إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً)(2) و لم يكن معصوماً بالإجماع، و لقوله: (إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً)(3) فكان آدم قبل النبوّة إماماً و خليفة صدر منه ما صدر، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: (فَعَصىٰ (هكذا) آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ)(4).
و قال في موضع آخر: إنّ العصمة لا يعلمها إلاّ الله فكيف يشترط فيها؟
قلت: طالوت لم يكن نبيّاً و لا خليفة لنبيّ يحفظ شرعه، و آدم كان نبيّاً و خلافته هي نبوّته؛ فإنّها خلافة عن الله تعالى لا عن نبيّ قبله بالضرورة.
و أمّا نسبة العصيان إلى آدم (ع) في القرآن المجيد فقد وجّهها علماء الإسلام سلفاً و خلفاً في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة، لكن عصبيّة القائل عمت قلبه و نقصت دينه، فزعم صدور المعصية من نبيّ معصوم!.
و أمّا ما ذكره أخيراً ففيه أنّ العصمة و إن لا يعلمها غير الله تعالى، و لكن ينصّ عليها النبيّ المخبر عن الله؛ كما أخبر الرسول الخاتم عن عصمة أمير المؤمنين و غيره - على ما مرّ و سيأتي
ص: 176
أيضاً - و حيث إنّ الإمامة عند المثبتين للعصمة لا تثبت إلاّ بالنصّ، فكلّ من نصّ الرسول الخاتم أو الإمام السابق على إمامته يكشف ذلك عن عصمته كما يكشف عنها إعجاز النبيّ الأكرم (ص) و اعلم أنّ أكثر الأدلّة المتقدّمة الدالّة على اشتراط العصمة في الأنبياء جار في المقام أيضاً و لا فارق بينهما إلاّ عدم عصمة الخلفاء الثلاثة خارجاً!
و أمّا نحن فقد ذكرنا البرهان على عصمة أئمتنا في مبحث عصمة النبيّ الخاتم (ص) فلا نطيل المقام.
2 - أفضليّة من غيره: و قد تقدّم تفصيلها في مبحث النبوّة، قال بعض مخالفينا في هذا المقام ما حاصله: أنّه إمّا أن يراد بالأفضل كونه أحسب و أنسب و أشرف و أعف و أشجع و أعلم.
و إمّا يراد به كونه أكثر ثواباً عندالله.
و إمّا أن يراد به الأصلح للإمامة.
فإن أريد الأوّل فلا يلزم تقديمه؛ لأنّ صريح العقل يحكم بأنّ مدار الإمامة على حفظ الحوزة و طريق التعيّش مع الرعيّة بأن لا يكون فظّاً غليظاً منفّراً، و لا سهلاً ضعيفاً يستولي عليه الرعيّة. و يكفيه من العلم الاجتهاد. فمن كان أحسن تدبيراً للحوزة مقدم عقلاً على غيره؛ و لو كان هذا الغير أكمل منه في هذه الصفات، و إن أريد به فكذلك، لأنّ الثواب سعادة في الآخرة و لا ربط له بالزعامة و الرئاسة في العاجلة.
و إن أريد به الثالث فلا شكّ أنّه أولى؛ لأنّه أعلم بحفظ الحوزة و تدبيرا لمملكة لا يجب تقديمه إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون، لكن تقديمه أنسب و أولى إذا لم يسبق للمفضول بيعة! هذا محصول كلامه.
أقول: و جوابه - مع الغض عن ابتنائه على وجوب نصب الإمام على الناس الذي أبطلناه من أساسه - أنّ المراد بالأفضليّة هو أكمليّة الإمام من غيره فيما يرجع إلى أحوال الرعيّة الدينية و شؤونهم الدنيوية؛ لأنّ الإمامة كما مرّت رئاسة عامّة في أمور الدين و الدنيا، و طبعاً يكون مثل هذا الرجل أكثر ثواباً من غيره، فلا بدّ من تقديمه على غيره؛ ضرورة قبح ترجيح المرحوح على الراجح.
و بالجملة، ليس المراد بالأفضل من هو أحسن تدبيراً للمجتمع من حيث أمنه و استقراره كما يتعهّده الحكومات الحاضرة، بل من حيث ما أراده الله تعالى و عيّنه النبيّ الأعظم (ص) من إصلاح أحوالهم الدينية و الدنيوية كما كان يعني به رسول الله (ص) نفسه. و تقديم مثل هذا
ص: 177
الإنسان هو المدلول لقوله تعالى: (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي)(1)
و معلوم أنّ غير الأفضل لا يهدي إلى الحقّ مثل ما يهدي الأفضل إليه. و يؤيّده ما روي عن أبي بكر بعد توليه الخلافة: أقيلوني أقيلوني لست بخيركم. كما في محكيّ (2) الإمامة و السياسة لابن قتيبة، و شرح النهج الحديدي(3). و ملخص الكلام أن المراد بالأفضل من كان علمه أكثر و كان أصلح للإمامية و هداية الناس إ آى دينهم و دنياهم و أضبط النفس من هواها. و أمّا كونه أحسب و أنسب فلا دخل لهما و لا مثالهما في الاشتراط.
3 - كمال عقله و ذكائه و فطنته.
4 - تنزيهه عمّا يتنفّر عنه الطبائع.
5 - عدم كفر آبائهم.
قلت: قد أسلفنا بحثها في شرائط النبوّة. فلا نعيد.
6 - علمه بما تحتاج إليه الأمّة في دينهم و دنياهم لئلاّ يلغو نصبه، و أمّا الزائد على ذلك فغير معتبر في صحّة الإمامة، كما ليس بسرّ.
7 - كونه أشجع الأمّة؛ لدفع الفتن و استئصال أهل الباطل و نصرة الحقّ؛ لأنّ فرار الرئيس يورث ضرراً جسيماً و وهناً عظيماً بخلاف الرعيّة.
ذكر المحقّق الطوسي(4): لكنّ دليله لا يفي بإثبات مدّعاه؛ فإنّه يثبت الشجاعة دون الأشجعيّة المذكورة. فلا بدّ أن يتمسّك لإثباته بالشرط الثاني المذكور فإنّه قال في بيانه: أن يكون أفضل من جميع رعاياه في جميع الصفات الكماليّة كالشجاعة و السخاوة و الكرم و العلم، و سائر الصفات لئلاّ يلزم تقديم المفضول على الفاضل.
أقول: قد عرفت رأينا في هذا في مباحث المقصد السابق.
ثمّ إنّي لا أذكر عاجلاً اعتبار الشجاعة أو الأشجعيّة في النبيّ من أحد مع وحدة النبوّة و الإمامة من هذه الحيثية، فافهم.
8 - كونه أزهد الناس و أطوعهم لله و أقربهم منه، لكنّه بعد الشرط الأوّل مستدرك.
9 - ظهور المعجزة منه، و لكنّه طريق إثبات إمامته لا من شروطها، و كذا كونه منصوصاً عليه؛ فليس النص شرطاً كما زعمه بعض السادة و نسب اعتبار ظهور المعجزة في شرح
ص: 178
المواقف إلى الغلاة!
10 - عموم إمامته لئلاّ يظهر الفساد.
أقول: عصمة الإمام تبطل التعليل المذكور، فالشرط المذكور شرعيّ لا عقليّ؛ إذ العقل يجوّز تعدّد الأئمة المعصومين؛ و لذا تعدّد الأنبياء في الأعصار الماضية. و أمّا ما في فصول العقائد للمحقّق الطوسي (قدس سره)(1) من أنّ العصمة غير مؤدّية إلى إلجاء الخلق إلى الصلاح فيمكن وقوع الفتنة و الفساد بسب كثرة الأئمة فيكون الإمام واحداً في سائر أقطار الأرض و يستعين بنوّابها فيها.
فجوابه واضح؛ فإنّ العصمة و إن لم يكن ملجئة للرعايا لكنها حافظة لصاحبها عن التنازع مع إمام آخر بما يضرّ بسلامة الشريعة و الأمن العام.
ثمّ اعلم أنّ النقل لا ينفي وجود إمام ثانٍ في عرض الإمام الأوّل، بل ينفي وجود إمام ناطق بالأمر و النهي و أنّ الرئيس المطاع الآمر و الناهي لا يكون إلاّ واحداً. بل تقدّم منّا في أوائل هذا المقصد دلالة النقل على وجود أئمة في زمان واحد، فتذكر حتّى تتيقّن بسخافة كلام قوم ردّوا الأخبار الدالّة على رجعة الأئمة (عليهم السلام)(2) بتخيّل بطلان اجتماع الأئمة (عليهم السلام).
11 - كون نومه كيقظته، و يرى خلفه كقدّامه؛ قيل دلّ عليه الأخبار الكثيرة. و هو عجيب؛ فإنّ بعض الأخبار و إن دلّ عليه كما مرّ غير أنّه ليس كلّ ما اتّصف به الإمام كان شرطاً في الإمامة. بل و اتّصاف الأئمة (عليهم السلام) بهاتين الصفتين غير معلوم إذا اجتنبنا المبالغة في النظر و القلم.
12 - كونه هاشميّاً، و استدل عليه بوجوه:
منها: جريان عادة الله على نصب كلّ وصيّ لنبيّ من قومه.
منها: بناء العقلاء على تقديم أهل بيته على غيرهم.
منها: أنّ الناس أطوع لأهل بيت النبيّ من غيرهم، فهو داخل في اللطف فيجب على الله تعالى أن يعيّنه من أهله.
منها: أنّ جعل الإمامة في بيوت الأنبياء علّة لسرورهم، و لا يجوّز العقل أن لا يعطي الله أولياءه هذه النعمة.
منها: قوله تعالى: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ (3). حيث استجاب الله دعاء خليله في ذريّته غير الظالمين.
ص: 179
منها: قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ (1).
منها: قوله (ص): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي».
و الحقّ أنّ الأئمة و إن كانوا هاشميّين إلاّ أنّ الهاشميّة ليست بشرط في الإمامة، و الوجوه المذكورة ضعيفة لا تثبيت الاشتراط, بل الوجه الثالث عكس الواقع, فقد اتبع الناس غير أهل بيت النبي (ص) إلى يومنا هذا.
نعم الوجه الخامس بضميمة قوله تعالى: (وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ).. محتاج إلى تأمّل.
و هي كما في المواقف و شرحها(2) أمور:
1 - كونه مجتهداً في الأصول و الفروع, ليقوم بأمر الدين, متمكّناً من أقامة الحجج و حلّ الشبه في العقائد الدينية, مستقلّاً بالفتواى في النوازل و أحكام الوقائع نصّاً و استنباطاّ؛ لأنّ أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد و فصل الحكومات, و رفع المخاصمات و لن يتمّ بدون هذا الشرط.
2 - كونه ذا رأي و بصارة بتدبير الحرب و السلم؛ ليقوم بأمر الملك.
3 - شجاعا قوي القلب ليقوى على الذب عن الحوزة بالثبات في المعارك!
4 - عدلاً؛ لئلّا يجور؛ فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه.
5 - عاقلاً؛ ليصلح للتصرفات الشرعيّة و الملكيّة.
6 - بالغاً؛ لقصور عقل الصبيّ.
7 - ذكراً؛ إذ النساء ناقصات عقل و دين.
8 - حراً؛ لئلّا يشغله خدمة السيّد عن و ظائف الإمامة؛ و لئلّا يحتقر فيعصي.
ثمّ قال صاحب المواقف: فهذه الصفات شروط الإجماع(3) و لكن صرّح بعضهم بعدم اشتراط الثلاثة الأولى؛ لأنّها لا توجد الآن مجتمعة؛ و إذا لم توجد كذلك فأمّا أن يجب نصب فاقدها فيكون اشتراطها عبثاً. أو يجب نصب واجدها فيكون تكليفاً بما لا يطاق. أو لا يجب لا هذا و لا ذاك فيلزم أن يكون اشتراطها مستلزماً للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها.
فلا تكون هذه الأوصاف معتبرة فيها. و أورد عليه الجرجاني في شرح المواقف(4) بأنّا
ص: 180
نختار عدم الوجوب مطلقاً, لكن للأمّة أن ينصبوا فاقدها دفعاً للمفاسد التي تندفع بنصبه.
قلت: الظاهر ندرة الفرض المذكور فإنّ الجامع للصفات المذكورة كثير في كلّ عصر.
ثمّ قال في المواقف و شرحها:
9 - أن يكون قرشيّاً(1) اشترطه الأشاعرة و الجبائيان, و منعه الخوارج و بعض المعتزلة, لنا قوله (ع): «الأئمة من قريش». ثمّ إنّ الصحابة عملوا بمضمون هذا الحديث, فإنّ أبابكر (رضي الله عنه) استدلّ به يوم السقيفة على الأنصار حين نازعوا في الإمامة بمحضر الصحابة فقبلوه و أجمعوا عليه فصار دليلاً قاطعاً يفيد اليقين باشتراط القرشية.
احتج المانعون بقوله (ع): «السمع و الطاعة و لو عبداً حبشيّاً». فإنّه يدلّ على أنّ الإمام قد لا يكون قرشيّاً. و أجيب عنه بأنّ الحديث فيمن أمّره الإمام و جعله أميراً على سرية أو ناحية, أو يجب حمله عليه جمعاً بين الأدلّة.
10 - وحدة الإمام, قال ابن الحزم الظاهري(2): ثمّ اتّفق من ذكرنا ممّن يرى فرض الإمامة على أنّه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم و لا يجوز إلّا إمام واحد, إلّا محمّد بن أكرم السجستاني و أبا الصباح السمرقندي و أصحابهما و احتجّوا بقول الأنصار: منّا أمير و منكم أمير, و بأمر عليّ و الحسن مع معاوية.
قال مؤلف الكتاب: لا يمكن للقائلين بالوحدة إثبات مرامهم بالدليل العقليّ و النقليّ.
و قال في المواقف و شرحها(3): و لا يجوز العقد لإمامين في صقع متضائق الأقطار لأدائه إلى وقوع الفتنة و اختلال النظام أمّا في متّسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محلّ الاجتهاد!
و عليه فليست الخلافة نيابة من الرسول على جميع الناس بل على بعضهم, و لا يجب طاعة الإمام إلّا على بعضهم!.
ثمّ إنّ لعمر النسفي في عقائده تعبيراً آخر في شروط الإمامة ربّما يتّحد مع ما مّر و لا يزيد عنه إلّا بأمر باطل نتعرض لإبطاله في الباب الثاني إن شاء الله, و إلّا بعدم اشتراط العدالة؛ قال: و لا ينعزل الإمام بالفسق! و لا الجور.
قال التفتازاني في شرحها: لأنّه قد ظهر الفسق, و انتشر الجور من الأئمة و الأمراء بعد الخلفاء الراشدين, و السلف كانوا ينقادون لهم و يقيمون الجمع و الأعياد بإذنهم و لا يرون الخروج عليهم؛ و لأنّ العصمة ليست بشرط للإمامة ابتداءً فبقاءً أولى! و عن الشافعي (رضي الله عنه): أنّ
ص: 181
الإمام ينعزل بالفسق و الجور, انتهى.
قال المحسني مؤلف الكتاب: الشرط التاسع دلّ عليه أخبار كثيرة أخرجها مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده و غيرهما في غيرهما و هو صحيح, فإنّا نقبل تلك لأخبار؛ لما فيها من القرينة على صدورها من النبيّ الأكرم, و سيأبي نقلها فيما بعد إن شاء الله, فافهم.
و كذا الشرط الثامن و السابع و الخامس و الثالث و الثاني فإنّها صحيحة.
و أمّا الشرط السادس فهو عند القائلين بعصمة الإمام زائد, فإنّ قوّة العقل و كمال الذكاء و عدم الزلّة من لوازم العصمة, فالمعصوم يصلح للإمامة بل للنبوّة و إن كان غير بالغ, و للمسألة صلة ستمرّ بك إن شاء الله.
و أمّا الشرط الرابع فقد عرفت أنّه مختلف فيه بينهم! و لكنّ المنصف يعلم أنّ تفويض الرئاسة العامّة على المسلمين إلى رجل فاسق نوع هدم للقواعد الإسلامية؛ فإنّ الفاسق لا تزيده الرئاسة إلّا فسقاً و غيّاً و فساداً. بل أضف إلى ذلك و أقول: فرضنا اتّفاقهم على اشتراط العدالة, لكن من العادل الذي إذا وقعت بيده مفاتيح الأمور و أتيحت له الأسباب استقام على عدله و لم ينحرف؟ و أنت إذا راجعت سيرة الأمراء الأمويين و الحكّام العباسيين(1) و السلاطين الجبابرة بعدهم الى يومك هذا لا تجد سلطاناً عادلاً استقام على عدله إلى آخر أمره سوى نفر محدود ربّما لا يتجاوز عدد الأنامل.
فالإنصاف أنّه لا بدّ من كون الإمام ذا ملكة قويّة عالية من العدالة و درجة كبيرة من الاستقامة بحيث لا يغلبه العواطف الباطلة, و لا يغيّره الرئاسة العامّة, و لا تغرّه الأموال الطائلة, بل كان كالجبل الراسخ لا بحرّكه العواصف ليتمكّن من حفظ الدين و نشر العدل و ترويج الشريعة و يحتاط في الأموال و الأعراض و النفوس, و هذه العدالة العالية هي العصمة التي يقول الإماميّة باشتراطها في الأنبياء و الأئمة من أوّل أعمارهم, و لو ناقشناهم في سعة هذا الشتراط فلابدّ من قبوله من أوّل رئاستهم, و هذا ممّا لا يسمع إنكاره لعاقل, و إخواننا أهل السنة إيضاً يعرفون هذا المعنى أتمّ المعرفة؛ و لذا قالوا باشتراط العصمة في الأنبياء (ع) و لكنّهم ابتلوا بأئمة فاسقين جائرين, بل لم يجرز أيمان أكثرهم فسامحوا في الاشتراط المذكور! كما يهديك إليه كلام التفتازاني المتقدّم.
فالمتحصّل أنّه يشترط في الرسول و الإمام العصمة من أوّل رسالته و إمامته قطعاً, و أمّا الزائد على ذلك فقد مرّ الكلام حوله؛ و قد عرفت في مبحث عصمة النبيّ الخاتم (ص) عصمة
ص: 182
الأنبياء و الأئمة بأوسع من ذلك فلاحظ و تدبّر، و الله الهادي.
و أمّا الشرط الأوّل فيمكن أن يناقش فيه على مذاق قائلية بأنّ وجود القضاة و العلماء الرعايا يكفي لما هو سبب هذا الشرط في الإمام، فلا ملزم لاجتهاد الإمام(1)! و أمّا على مسلكنا فقد مرّ لزوم كون الإمام عالماً بالأحكام الشرعيّة كلّها، و سيأتي الكلام في مقدار ما أعطى الله الأئمة من العلوم.
ص: 183
تثبت الإمامة بأمور:
1 - ظهور المعجزة على يده مقترنة بدعوى الإمامة، و قد أوضحنا وجهه في مبحث النبوّة. لكنّه مع قطعيّته لا يجري إلاّ على مذهب الإماميّة.
2 - نصّ النبيّ الأكرم اتّفاقاً و قطعاً، و هذا هو العمدة لإثبات مذهب الشيعة و إمامة إمامهم أمير المؤمنين (ع) لكن ما عشت أراك الدهر عجباً فقد زعم بعض البسطاء مخالفة قولهم للقرآن. قال(1): و قالت الإمامية: لا بدّ أن يكون - الإمام - منصوصاً من قبله تعالى، كما أنّ نصبه واجب عليه... و هذا مخالف للنقل؛ لقوله تعالى: (وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً)(2) و قوله: (وَ نُرِيدُ أَنْ... وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً)(3) و قوله: (وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاٰئِفَ اَلْأَرْضِ)(4) و لم يكن في أحد من تلك الفرق نصّ، بل كان برأي أهل الحلّ و العقد، فمعنى الجعل إلقاء اختياره في قلوب مسموعي القول فينصبّوه فإن عدل فعادل، و إلاّ فجائر.
أقول: كأنّ الله ختم على قلب هذا الثرثار و بصره، و إلاّ لما تجرأ على ذكر ما على نقيض مرامه أدلّ و أوضح، و لما تجسّر على تفسير الجعل بالإلقاء المختلق، و لما احتمل الجور في حقّ من جعلهم الله أئمة في الدين و الدنيا، لعن الله العصبيّة فقد تدخل صاحبها النار.
3 - نصّ الإمام السابق، و هذا أيضاً ممّا لا إشكال فيه عند الإمامية و العامّة، بل عند الأولين القائلين بعصمة الإمام أوضح. و أمّا على قول الجمهور فلا يمكن إتمامه بدليل معتبر.
4 - الأفضلية من جميع الأمّة، أو من جميع من يدّعي الإمامة، ذكرها بعض متكلّمي الإمامية و فيه نظر. و لا يمكن لجمع احراز هذا الأمر، فضلاً عن إمكانه لمعظم الناس، فهو من
ص: 184
فضول الكلام.
5 - الميراث من النبيّ، ادّعاه العباسيّة - على ما قيل - هو تخرّص.
6 - كون الشخص ابناً لإمام، أو صاحب راية عنه في الحرب. يظهر من الكيسانيّة كما يأتي. و هو مثل سابقه في الكذب و الفساد.
7 - الدعوة بالسيف؛ اخترعها الجاروديّة من الزيديّة. و نسب إليهم: أن الإمامة في أولاد الحسن و الحسين (عليهماالسلام) فكلّ فاطمي خرج بالسيف، داعيّاً إلى الحقّ عالماً بأمور الدين، شجاعاً فهو إمام(1). و قيل إنّ الجبائي وافقهم عليه، بل قيل إنّ أبا حنيفة أيضاً تبعهم كما يظهر من الشهرستاني في ملله.
و أنت تعلم أنّ مجرّد سلّ السيف و الدعوة لا يكونان دليلاً على الإمامة بل لازمهما وقوع الهرج و المرج في البلاد، و ظهور أئمة في كلّ ناحية فيؤدي إلى ضدّ ما يراد من نصب الإمام، و لم يشترط هذا في رسل الله تعالى (و لم يكونوا متصفا بهذه الصفة خارجا).
8 - الاستيلاء بالقهر و الغلبة، اختلقه التفتازاني في محكيّ شرح المقاصد، قال: و من أسباب انعقاد الخلافة القهر و الغلبة، و من تصدّى للإمامة بالقهر و الغلبة ينعقد خلافته، و كأنّ هذا القائل لم يعرف قواعد الإسلام و أصوله كما هو حقّه، و إلاّ لما تجرّأ على مثل هذا القول. أليس من السخيف - غاية السخافة - أن يستدلّ على وجوب معرفة الفاسق الفاجر بقوله تعالى: (أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ)(2) و قوله (ص): «من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة»؟! هل الله سبحانه فرض معرفة الفاسق بهذا النحو ليكون الجاهل له غير مسلم؟! أفتونا يا أهل التحيّر أيصحّ أن يقال في حقّه إنّه خليفة النبيّ الخاتم على المسملين و يجب طاعته عليهم في أمور دينهم و دنياهم؟! أهكذا يقول القرآن؟ أو يقول (إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)(3). (وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا)(4)؟! و لعمري أن التفتازاني و أمثاله يعرفون فساد ما يتوفّهون به لكنّ الواقعية أجبرتهم على تطبيق الحقّ عليها، و سوف يسئلون.
9 - الاختيار و بيعة أهل الحلّ و العقد ادّعاها العامّة قاطبة من الأشاعرة و المعتزلة و كذا الصالحية من الزيديّة.
ص: 185
قال في المواقف و شرحها(1): و إذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار و البيعة - لم يتقدّم منه دليل على ثبوته، بل المتقدّم منه مجرّد دعوى حصولها بهما - فاعلم أنّ ذلك الحصول لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلّ و العقد؛ إذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد و الاثنان من أهل الحلّ و العقد كافٍ في ثبوت الإمامة، و وجوب اتّباع الإمام على أهل الإسلام؛ و ذلك لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدين و شدّة محافظتهم على أمور الشرع كما هو حقّها - اكتفوا في عقد الإمامة بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، و عقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، و لم يشترطوا اجتماع من في المدينة فضلاً عن إجماع الأمّة، انتهى(2).
و عن بعض المعتزلة أو أكثرهم اعتبار خمسة أشخاص تمسّكاً بفعل عمر!
قال المحسني مؤلّف الكتاب: و يبطل هذا الطريق قول أبي بكر: إنّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرّها، و خشيت الفتنة(3).
و قول عمر بعده: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة و لكن الله وقى شرها... - و هو معروف لاحظ صحيح البخاري و غيره - فإذا قبح المخترع نفسه ما اخترعه فكيف بغيره؟!
ثمّ مع الغضّ عنه نقول: المدار في حجّيّة الاختيار و البيعة في إثبات الإمامة هو عمل الأصحاب، بل هذا هو العمدة في إثبات وجوب نصب الإمام و هو الدليل لخلافة الخلفاء الثلاثة، فأساس مذهب العامة في الإمامة و الخلافة هو عمل الأصحاب لا غير، فلا بد من لفت النظر إليه، و إلى ما أوجب هذه القداسة و العصمة لأصحاب رسول الله (ص).
قال ابن حجر(4): إنّ الذي أجمع عليه أهل السنّة و الجماعة أنّه يجب على كلّ مسلم تزكية جميع الصحابة، بإثبات العدالة لهم، و الكفّ عن الطعن فيهم؛ و الثناء عليهم.
و قالوا: الدليل على ذلك وجوه:
1 - قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ (5).
أقول: و لازمه تعديل جميع الأمة، و هو محسوس البطلان! فالمراد من الآية أنّ مجموع هذه الأمّة بمن فيها من أبرارهم و أئمتهم من حيث المجموع خير من مجموع سائر الأمم، لا أنّ كلّ فرد من هذه الأمّة خير من كلّ فرد من الأمم السابقة فإنّه ضروري الفساد. و عليه فالآية لا تدلّ
ص: 186
إلاّ على خيريّة أبرار هذه الأمّة على أبرار الأمم الماضية و أين هذا من تعديل الصحابة، بل دخول الصحابة تحت الآية موقوف على إحراز كونهم صلحاء و أبرار كما عرفت فلو أثبتنا عدالتهم بهذه الآية لزم الدور المحال.
2 - قوله تعالى: (وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ)(1) و الصحابة في هذه الآية و التي قبلها هم المشافهون بهذا الخطاب حقيقة.
قلت: يظهر بطلان الاستدلال به ممّا ذكرناه في الآية الأولي.
3 - قوله تعالى: يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اَللّٰهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (2).
أقول: مفاد الآية أنّ النبيّ و من آمن من الأمّة لا يخزيهم الله، و هو لا يرتبط بمدّعاهم أصلاً؛ فإنّ أحداً لم يشكّ أنّ المؤمن لا يخزيه الله تعالى، و إنّما الكلام في إيمان جملة من الصحابة فإن أحاديث الصحاح تدلّ على ارتدادهم. بل الحقّ أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على عدالة هؤلاء المؤمنين الذين لا يخزيهم الله في الآخرة؛ لاحتمال كونهم مذنبين في الدنيا لكنّ الله تاب عليهم و غفر لم حين موتهم أو في البرزخ أو عند النشر أو حين قيام الحساب.
نعم، عدم دلالة هذه الآيات على مرادهم ظاهر، لكنّ الحب يعمي و يصم.
4 - قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ)(3) فصرّح تعالى برضاه عن أولئك - و هم ألف و نحو أربعمئة كما ذكره ابن حجر - و من رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأنّ العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلاّ على من علم موته على الإسلام، و أمّا من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله بأنّه رضي عنه.
أقول: و فيه أوّلاً أنّه لا يثبت إلاّ إسلام هؤلاء المبايعين دون جميع من رأى النبيّ في حياته و لو مرّة واحدة كما يقولون! و هذا ظاهر، و إن شئت فقل: إنّ الآية الكريمة تنافي السلب الكلّي الذي لم يقل به أحد، دون السلب الجزئي الذي يقول به أحاديثهم في صحاحهم(4).
ص: 187
بل الصحيح أنّ الآية المباركة لا تشمل جميع المبايعين تحت الشجرة المذكورة فإنّ المرضيّين هم المؤمنون، و أمّا المنافقون فلم يرض الله ببيعتهم، و سيأتي أنّ القرآن صريح في وجود المنافقين بين الأصحاب. و هذا ظاهر و عليه فكلّ صحابي يراد مدحه بهذه الآية أو تعديله فلا بد من إثبات إيمانه أوّلاً و عدم كونه من المنافقين، و إلاّ لكان من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقية الباطل عند المحقّقين من الأصوليين. بل من قبيل إثبات الموضوع بالحكم و هو باطل قولاً واحداً.
و ثانياً: أنّه ليس المفهوم من الآية أنّ الله تعالى لم يكن راضياً عنهم قبل هذا، فرضي عنهم ببيعتهم هذه فصاروا مرضيّين لأجلها.
و بعبارة جامعة: ليست البيعة المذكورة جهة تعليلية، بل هي جهة تقييديّة، و معنى الآية أنّ الله تعالى رضي ببيعتهم هذه و أنّها وقعت محبوبة له تعالى، و من الواضح أنّ قبول عمل من أحد عند الله تعالى لا يدلّ - عقلاً و نقلاً - على عدالته من أوّل وقت إيمانه إلى آخر عمره، بل و لا على بقاء إيمانه إلى حين موته؛ فلا مانع من أن يعمل عامل عملاً صالحاً لوجه الله فيقبله الله تعالى منه ثمّ نكس و ارتدّ فأصبح من المغضوب عليهم الله تعالى فأحبط عمله المقبول أو يعجّل في ثوابه و جزائه في الدنيا.
و الذي يدلّك على هذا في خصوص المقام قوله تعالى قبل الآية المستدلّ بها: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(1) فقد أخبر الله تعالى عن عظمة هذه البيعة و كبر شأنها و أنّها بمنزلة بيعة الله تعالى نفسه مضافاً إلى الذين استشهدوا في الغزوات؛ و لم يبقوا إلى زمان الفتن بعد وفاته (ص). ثمّ قال بلا فصل: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(2).
ثمّ إنّ الله تعالى لم يعدهم بالثواب الأخروي في خصوص بيعتهم هذه بل وعدهم بقوله: وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهٰا... * وَعَدَكُمُ اَللّٰهُ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهٰا انتهى.
و قد وفى الله تعالى بوعده و أثابهم ذلك، و أمّا من استقام على الطريقة الحقّة فيؤتيه الله أجره في الآخرة أيضاً تفضّلاً منه. و أمّا من اختار الغواية بسوء اختياره فما له في الآخرة من نصيب بل هو من الخاسرين، فإنّه نكث على نفسه.
ص: 188
و أمّا قوله تعالى: (وَ يَهْدِيَكُمْ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً)(1) فلا يدلّ على اهتدائهم بالهداية المذكورة لتوسّط اختيار المكلّف بينهما، ألا ترى أنّ الله تعالى هدى ثمود لكنّهم استحبوا العمى على الهدى؟ و قد مرّ تفصيل ذلك في الجزء الثاني في المقالة الثامنة من القاعدة الخامسة في المقصد الخامس.
5 - اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (2).
أقول: و الحقّ أنّ الآية الكريمة تدلّ على عدالة المهاجرين و الأنصار السابقين الأولين، أي السابقين إلى الإيمان بالله و برسوله الأولين(3)؛ فإنّ الله أخبر بأنّه راضِ عنهم، و قد أخبر أيضاً بأنّه لا يرضى عن القوم الفاسقين. و هذا - إن شاء الله - ظاهر. فلا بدّ من الإقرار بعدالة هؤلاء إلاّ من ثبت كفره أو ارتداده، فنخرجه منهم جمعاً بين الأدلّة.
قال الله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ (4).
و أمّا المهاجرون و الأنصار من غير السابقين الأوّلين فحالهم حال سائر الناس في توقّف حسنحالهم على إحراز اتّباعهم الحسن.
6 - قوله تعالى: لِلْفُقَرٰاءِ اَلْمُهٰاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ * وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ وَ اَلْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ * وَ اَلَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (5).
أقول: لا شكّ في حسن حال كلّ مهاجر و أنصاري اتّصف بتلك الصفات، و لكن أين هذا من عدالة جميع المهاجرين و الأنصار، بل جميع الأصحاب؟ و لا دلالة في الآية الكريمة على أنّ
ص: 189
جميع المهاجرين و الأنصار متّصفون بتلكم الصفات الحميدة المذكورة.
و بالجملة: الآية تبطل السلب الكلّيّ لا السلب الجزئيّ كما هو واضح.
و نحن نقول: ربّنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان - و بنصرة النبيّ الأكرم و تشييد الشريعة عن إخلاص ثمّ استقاموا على ذلك حتّى لقوك - و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا كما جعلت في قلوب المنافقين و الملحدين فسبّوا أوّل المؤمنين على متون المنابر علانية و جهراً و ظلموا الذين أذهبت عنهم الرجس و طهّرتهم تطهيراً، ربّنا إنّك رؤوف رحيم.
7 - قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّٰهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (1).
قلت: و من ينكر وجود المؤمنين في أصحاب الرسول الأعظم (ص)؟ و وجود التابع المؤمن غير مستلزم لعدالة جميع الصحابة بوجه بل و لا لعدالة المجاهد التابع، و كثير من المجاهدين المسلمين ليسوا بواجدين للعدالة.
8 - قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ...(2).
قلت: ذيل الآية الكريمة يوضّح صدرها، و هو قوله تعالى: (وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً)(3) فلا فضل لجميعهم، بل للمؤمنين العالمين، و هذا غير منكر لأحد. فدقّق النظر في كلمة: (منهم).
و توهّم كون كلمة «من» بيانية لا للتبعيض ضعيف فإنّه خلاف الظاهر، بل صريح القرآن أنّ في الصحابة منافقين كما سيأتي، و قد تقدّم تعليق رضى الله عن أكثرهم بالاتباع الحسن.
9 - قوله تعالى: لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ (4) و إذا انضمّ إليه قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ (5) ينتج أنّ جميع الصحابة من أهل الجنة قطعاً كما زعم هذا القائل. و يردّه أنّ البيان المذكور إن تمّ في نفسه لم يكن فيه إشعار بمراده، بل مفاده أنّ المنفقين و المقاتلين (في سبيل الله) من الصحابة من أهل الجنة، و الحقّ أنّ الله تعالى وعد كلّ مؤمن صالح الجنة إذا مات على إيمانه و عمله، و قد سبق في الآية الخامسة و غيرها ما
ص: 190
يوضّح ذلك.
10 - الروايات المنسوبة إلى النبيّ الأكرم (ص) الدالّة على تعديل الصحابة و تعظيمهم و عظم شأنهم، لكنّ الحقّ عدم إمكان الاستدلال بها بتاتاً أمّا أوّلاً فلضعف رواتها - سوى الرواية الأوّل الصحابي - و فساد مصادرها عند الإماميّة.
و أمّا ثانيّاً؛ فلأنّ قبول هذه الروايات موقوف على عدالة الأصحاب، و لا أقلّ من حسن حالهم و تحرّزهم عن الكذب، بداهة عدم حجّيّة خبر المجهول الحال، فلو أثبتنا عدالتهم و حسن حالهم بنفس هذه الروايات لزم الدور المحال.
و أمّا ثالثاً؛ فلأنّ الكتاب و السنة يدلاّن على أنّ من الأصحاب منافقين، و أنّ منهم فاسقين فمقتضى هاتين الطائفتين أنّ في الصحابة عدولاً و فسّاقاً منحرفين و متدينين؛ فلا أصل يقتضي عدالتهم أصلاً.
و أمّا رابعاً؛ فلأنّ كلمة «أصحاب» لا تشمل من رأى النبيّ (ص) و لو مرّة أو مرّتين كما يزعم المستدلّون، و اصطلحوا على إطلاق اللفظة المزبورة على كلّ من رآه و تكلّم معه (ص) و لو نادراً.
فإنّ المنصرف منها حسب المتفاهم العرفي من لازم النبيّ في المصاحبة و المعاشرة.
ألا ترى أنّ العرف العامّ لا يقول لمن تكلّم مع عالم أو رئيس مرّة أو مرّتين أنّه من أصحابه؟ و هذا فليكن قطعيّاً في نفسه، فكيف إذا كان في نفس الروايات شاهد على ذلك كقوله (ص) على ما نسبوه إليه: احفظوني في أصحابي. و قوله (ص) - إن صحّ -: ما شأنكم و شأن أصحابي؟ ذروا لي. و قوله (ص) - لو تمّ -: لو أنفقتم مثل أحد ما بلغتم أعمالهم. و غيرها. فإن المخاطب في هذه الجملات هم الحاضرون في زمن الرسول الأكرم (ص) فيفهم منها أنّ الموجودين في زمانهم على قسمين: صحابي و غير صحابي، و هو (ص) فضّل أصحابه على غيرهم من الناس و أمرهم بتعظيمهم؛ فلو كان الجميع من الصحابة للغي أمثال هذه الخطابات فإنّها بلا مخاطب و هو كما ترى!!
و على ضوء ذلك ينجلى أنّ الدليل أخصّ من الدعوى؛ و لذا ذهب الماوردي كما في خاتمة الصواعق(1) إلى أنّ العادل من لازمه و نصره دون من اجتمع به يوماً و لو لغرض، بل في هامشها أنّه مذهب جماعة من الأصوليين منهم المارزي و يميل إليه السعد التفتازاني، انتهى.
و قد يقال(2) بأنّ الصحابة عدول إلى حين قتل عثمان، و يبحث عن عدالتهم بعد قتله و لوقوع الفتن بينهم حينئذٍ.
ص: 191
و قيل إنّهم عدول إلاّ من قاتل عليّاً (ع) فهم فسّاق لخروجهم على الإمام الحقّ.
هذا إبطال تلك الروايات على إجمالها، و أمّا إبطالها تفصيلاً فنقول: الروايات المشار إليها مذكورة في أوائل صواعق ابن حجر، و هي تضمّنت أموراً:
1 - النهي عن سبّ الأصحاب.
2 - النهي عن أذيّتهم و بغضهم.
3 - عدم انتقاصهم.
4 - حفظه (ص) فيهم.
5 - الترغيب في حبّهم.
6 - افضليتهم من غيرهم.
7 - ما من أحد منهم يموت بأرض إلاّ بعث قائداً و نوراً لهم يوم القيامة. كما في رواية.
8 - عدم مسّ النار مسلماً رأى النبيّ (ص) أو رأى من رأى النبيّ! كما في رواية أيضاً.
9 - خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم.
10 - خير أمّتي أوّلها و آخرها.
11 - إنّ الأصحاب أهل علم و إيمان.
أقول و على الله الاعتماد: أمّا امر الأوّل ففيه أنّ سبّ المسلم حرام فلا يدلّ ما دلّ عليه إلاّ على إسلامهم، و مثله الثاني.
و أمّا الثالث و الرابع و الخامس فهي تدلّ على عظمة شأن الصحبة، و أنّ معاشرة النبيّ الأكرم ذات شرافة، فلا بدّ للناس من مراعاتها، و ظاهر أنّها ليست علّة تامّة لدخولهم الجنة و لا للحكم بعدالتهم أبداً، و هذا كما وردت الروايات الكثيرة في شأن السادات و ذريّة الصدّيقة الطاهرة المرضيّة - سلام الله و صلواته عليها - بمضامين أعلى من تلكم الروايات، و مع ذلك لم يقل أحد منّا و منكم بعدالة جميع بني فاطمة (ع) إلى آخر الدنيا.
و أمّا السادس فهو كذب يردّه العقل؛ إذ لا معنى لأفضليّة سوقيّ جاهل مدنيّ من العلماء المجاهدين الذين جاؤوا بعد النبيّ الأكرم (ص) و حفظوا دينه و شرعه من تغيير الفجرة و الكفرة. و الذي يسهّل الخطب أنّها معارضة بأخبار كثيرة أخرى دالّة على أفضليّة غيرهم منهم أخرجها محدّثوهم(1) فكفى الله المؤمنين القتال.
ص: 192
و أمّا الوجه السابع فإن لم يقيد بالإيمان و العمل الصالح لكان مناقضاً صريحاً للقرآن الحكيم.
و أمّا الثامن فأثر الجعل و الاختلاق عليه واضح و عدم دلالته على العدالة ظاهر، و إلاّ لكان الحكم بعدالة جميع التابعين أيضاً متعيّناً و هو ضروري الفساد.
و أمّا التاسع فإن كان خيرية قرنه (ص) باعتبار تشريع الدين و تأسيس الدين فهو مسلّم. و إن كان بلحاظ أنّ فيه الصلحاء و المجاهدين فأيضاً لا بأس به، و إن كان بلحاظ أنّ كلّ فرد من أفراد المسلمين أفضل من بعدهم فمضافاً إلى عدم وفاء اللفظ به يجلل العقل ساحة النبيّ (ص) عن مثله، فإنّ عوام زمانه لا يكونون أفضل من العلماء المجتهدين العظام المجاهدين الذين أتوا بعده (ص) على أنّه لو تمّ للزم الحكم بعدالة جميع أهل قرنه و إن لم يدرك صحبة النبيّ و لا رؤيته، كما تقتضيه عموم الرواية!! و بالجملة الوجه الثاني و التاسع مخالف للعقل و القرآن(1) و نسيئان بالإسلام و مقامه في كلّ زمان فلعنته الله على الغلو فقد أضلّ جمعاني حقّ أهل البيت و جمعاً في الصحابة و قد نهي القرآن من قبلنا منه، و قال: لا تغلوا في دينكم. و كوننا أمة وسطاً أولى بهذا النهي.
و أمّا الوجهان الأخيران فلا بدّ أن يراد بهما المجموع من حيث المجموع.
فظهر من جميع ذلك أنّ القرآن المجيد لا دلالة، له بل و لا إشعار فيه بعدالة الأصحاب و نجاتهم يوم الحساب، و إنّما الثابت منه عدالة السابقين الأوّلين على نحو عرفته.
و أمّا الأحاديث المتقدّمة فقد عرفت حالها و عدم دلالتها على مرادهم قطعاً، فأين الدليل على عدالتهم و أمانتهم؟ أفتونا أيّها الغالون في شأن الصحابة.
نعم، هنا وجه آخر ذكروه، و لا بأس بذكره فإنّه له ظاهراً غاراً و هو أنّ القرآن و ما جاء به رسول الله (ص) حقّ، و إنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة، فإذا بنينا على ارتداد بعضهم و فسق بعض آخر و لم يعدل الجميع لزم الخلل في الشريعة!.
قال المحسني مؤلف الكتاب: و الشبهة مغالطة محضة، فإنّ القرآن وصل إلينا بالضرورة، و قد مرّ في الجزء الأوّل عدم اعتبار العدالة و الإسلام في صحّة التواتر فضلاً عن الضرورة. و أمّا الأحكام الشرعية و غيرها ممّا لا يكون ضرورياً أو متواتراً فنحن نصرّح بعدم جواز أخذه من كلّ صحابي يتّفق، و لو كان مشهوراً بالكذب و الافتراء كأبي هريرة و من يحذو حذوه، و من هنا ترى أنّ الإمامية أخذوا أصولهم و فروعهم من أئمة آل محمّد (ص) بتوسّط الثقات الأجلاء؛
ص: 193
و الأئمة (عليهم السلام) و رثوا علومهم عن جدّهم و سيّدهم أمير المؤمنين و سيّد الوصيين باب مدينة علم النبيّ الأكرم و عيبة علمه؛ فأين الخلل في الشريعة فهل الشبهة إلاّ المصادرة و المغالطة؟ فهنالك يخسر المبطلون.
تكميل توضيحي
و بعد فمن قال أن الصحابة كلّهم كاذبون و فاسقون. أو لا يجوز ذلك لمسلم، ففيهم العلماء و الصلحاء و الشهداء، و العدول و الركع و السجد و العباد و أهل الإيثار و الجهاد و أهل الدفاع و الحماية عن رسول الله (ص) و عن دليل الله سلام الله عليهم.
لكنّ كلّ ذلك لا يوجب قبول قول المستدلّ:... و لم يعدل الجميع لزم الخلل في الشريعة. إذا أي خلل يزول بتوثيق الكاذب و تعدليل الفاسق؛ بل الأمر بالعكس.
ثمّ لو فرضنا - بفرض محال - أنّ الصحابة بأجمعهم عدول فهل يصير أقوالهم حجّة شرعاً على غيرهم من المسلمين أم لا؟
قلت: فيه تفصيل و هو أنّ نقلهم الروايات عن النبيّ الأكرم (ص) ممّا لا بدّ من الأخذ به حينئذٍ لحجّية قول الثقة و العدل. و أمّا اجتهاداتهم و آراؤهم فلا حجّية فيها على أحد؛ إذ يتطرّق إليهم السهو و الاشتباه، فلا يجب اتّباعهم على غيرهم بلا دليل فضلاً عمّا إذا كان الدليل على خلافه!.
و بعبارة جامعة: المعتبر من قول العادل أو الثقة هو إخباره عن حسّ لا عن حدس. و إلاّ لكان مخالفة المجتهد حراماً على مجتهد آخر و هو بيّن الفساد.
و على هذا سواء قلنا بعدالة جميع الصحابة أم لم نقل؛ لا يجوز لنا تقليدهم في آرائهم فلا يمكن إثبات وجوب نصب الإمام بعملهم، و لا إثبات كون البيعة طريقاً إلى الإمامة و لا إثبات خلافة أحد بفعلهم، بل لا بدّ من النظر إلى ما يقتضيه العقل و القرآن و السنّة النبويّة، فنعتمد عليه في الأصول و الفروع، فاستيقظ و لا تكن من الغافلين و الجاهلين.
ثمّ إنّه لا بأس أن نذكر بعض ما يدلّ على عدم سلامة جملة الصحابة من الردّة و الفسق:
1 - قوله تعالى: (أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ)(1) دلّ على انقلاب الأصحاب بعد النبيّ الأكرم (ص) بتقريب مرّ ذكره، فتذكّر و تأمّل فيه.
2 - قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ لاٰ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (2).
3 - جملة كثيرة من آيات سورة التوبة - البراءة - و نحن ننقل هنا بعضها: سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ
ص: 194
لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ... * إِنَّمٰا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ... يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ... * لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ... لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فٰاسِقِينَ... * وَ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ مٰا هُمْ مِنْكُمْ... * وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ... * وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ... * سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ؛ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ * وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ... * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَرْضىٰ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ (1) .
4 - قوله تعالى: (لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ)(2) و قد اعترف الرازي في تفسيره - في ذيل الآية الشريفة - بصدور المعصية الكبيرة من الأصحاب!!
أقول: هذا و النبيّ حاضر بين أظهرهم، فما ظنّك بهم حين غاب عنهم!.
5 - وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ...(3).
و الآيات الشريفة الدالّة على هذا المعنى كثيرة نكتفي بذلك، و لكن نلحق بها بعض الروايات الواردة من طريق العامّة:
6 - ما أخرجه البخاري في صحيحة(4) عن أبي هريرة أنّه كان يحدّث أنّ رسول الله (ص) قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فأقول: يا ربّ أصحابي، فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك! إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري»!
7 - ما أخرجه أيضاً عن ابن المسيب(5) أنّه كان يحدّث عن أصحاب النبيّ (ص) أنّ النبيّ (ص) قال: «يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول: يا ربّ أصحابي. فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى»، و روي مثله عن أبي هريرة أيضاً.
قلت: تأمّل فيهما حتّى تفهم تلك الأحداث الخطيرة التي أوجبت ارتداد جمع من الأصحاب، فإنّي لم أجد سوى منازعتهم حول الخلافة. ثمّ لا يغيب عن بالك ما أشرنا إليه سابقاً من ظهور لفظ الأصحاب - حسب التبادر العرفي - فيمن لازم النبيّ و عاشره في موطنه و كان له
ص: 195
معه نحو ارتباط. ألا ترى أنّه لا يقال لأهل السوق الذي يمرّ به العالم أو السلطان في كلّ يوم مرّة أو مرّتين أنّهم أصحابه و إن سلّموا عليه أو سألوا عنه شيئاً أحياناً، و لا دليل على حمل اللفظ على غير معناه الظاهر. و المقصود من ذلك أنّ تعلم أنّ هاتين الروايتين تدلاّن على صدور الارتداد من أمثال هذه الجماعة لا من مطلق من رآه (ص).
8 - ما أخرجه عن عبد الله عن النبيّ (ص) قال: إنّا فرطكم على الحوض، و ليرفعن رجال منكم، ثمّ ليختلجنّ دوني، فأقول: يا ربّ أصحابي! فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟.
9 - ما أخرجه عن أنس عنه (ص) قال: ليردن علىّ ناس من أصحابي الحوض حتّى عرفتهم، اختلجوا دوني فأقول: أصحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك!(1).
10 - ما أخرجه في كتاب الفتن(2) عن عبد الله قال النبيّ (ص): إنّا فرطكم على الحوض ليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأناولهم، اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك.
11 - ما أخرجه فيه أيضاً عن سهل بن سعد يقول: سمعت النبيّ (ص) يقول: إنّا فرطكم على الحوض، من ورده شرب و من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً، ليرد عليّ أقوام أعرفهم و يعرفوني، ثمّ يحال بيني و بينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عيّاش و أنا أحدّثهم هذا؛ فقال: هكذا سمعت سهلاً؟ فقلت؛ نعم. قال: و أنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه: قال: إنّهم منّي، فيقال: إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي. و قريب منه ما أخرجه في باب الحوض(3) و انظر ما هو الذي بدّلوه بعده (ص)؟!.
12 - ما أخرجه فيه عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبيّ (ص) على أطم من آطام المدينة؛ فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإنّي أرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر(4).
13 - عن أبي هريرة عنه (ص) قال: بينما أنا قائم فإذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينه، فقال: هلمّ، فقلت: أين؟ قال: إلى النار و الله، قلت: و ما شأنهم؟ قال إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني و بينهم فقال: هلمّ، قلت: أين؟ قال: إلى النار و الله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراد - هكذا، و الصحيح: أرى - يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم!!.
ص: 196
14 - ما أخرجه عن أبن عباس في باب كيفيّة الحشر(1) قال: قام النبيّ (ص) يخطب، فقال: إنّكم محشورون حفاة عراة عزلاً؛ (كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)(2). الآية.
و إنّ أوّل الخلائق يكسى إبراهيم، و إنّه سيجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك(3)، فأقول كما قال العبد الصالح: و كنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله الحكيم. قال: فيقال: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم.
قلت: الروايات في ذلك كثيرة فليراجع مصادرها من شاء الوقوف عليها.
15 - و عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين - في مسند حذيفة - أنّه قال: قال النبيّ (ص): في أصحابي اثنا عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط، و أربعة لا أحفظ ما قال فيهم!.
16 - ما أخرجه الشهرستاني في أوائل كتابه (الملل و النحل(4) و قال: الخلاف الثاني في مرضه (ص) أنّه قال: جهّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عنه. و قد أخرجه - بشكل مبسوط - أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه السقيفة عن أحمد بن إسحاق بن صالح، عن أحمد بن يسار، عن سعيد بن كثير الأنصاري، عن رجاله، عن عبدالله بن عبد الرحمن أنّ رسول الله (ص) في مرض موته أمر أسامة... فجعل يقول انفذوا بعث أسامة؛ لعن الله من تخلّف عنه و كرّر ذلك انتهى.
و أمّا أشخاص المتخلّفين فكثيرون و بينهم أكابر الأصحاب؛ و لست أن أذكرهم، فإنّهم معروفون! فيا أخي أين الملعون من العادل؟ و أين المرتدّ من المسلم؟!.
17 - ما أخرجه البخاري في باب جوائز الوفد من كتاب الجهاد من صحيحه(5) عن ابن عباس أنّه قال: يوم الخميس و ما يوم الخميس! ثمّ بكى حتّى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتدّ برسول الله وجعه يوم الخميس، فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.
ص: 197
فتنازعوا - و لا ينبغي عند نبي التنازع - فقالوا: هجر رسول الله! قال (ص): دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه، و أوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم. قال: و نسيت الثالثة(1).
و رواه مسلم أيضاً في آخر الوصيّة من صحيحة. و أحمد من حديث ابن عباس في مسنده(2) و غيرهما.
و رواه مسلم أيضاً بلفظ آخر عن ابن عباس، و فيه: ائتوني بالكتف و الدواة، أو اللوح والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً فقالوا: إنّ رسول الله يهجر!
و رواه البخاري(3) في باب مرض النبيّ و فوته (ص) بلفظ آخر.
أوّل من تفوّه بهذه الكلمة العجيبة و منع عن تنفيذ امر رسول الله (ص) هو الخليفة الثاني عمر. فقد أخرج البخاري بإسناده عن ابن عباس(4) قال: لما اشتدّ بالنبيّ (ص) وجعه، قال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً. قال عمر: إنّ النبيّ (ص) غلبه الوجع! و عندنا كتاب الله حسبنا! فاختلفوا و كثر الغلط، قال: قوموا عني؛ و لا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إنّ الرزيئة كلّ الرزيئة ما حال بين رسول الله (ص) و بين كتابه.
و أخرجه عند أيضاً في صحيحه(5) بلفظ آخر: قال: لمّا حضر رسول الله (ص) و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب؛ قال النبيّ (ص): هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. فقال عمر: إنّ النبيّ (ص) قد غلب عليه الوجع، و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت! فاختصموا! منهم من يقول قرّبوا يكتب لكم النبيّ (ص) كتاباً لن تضلّوا بعده، و منهم من يقول ما قال عمر انتهى.
و أخرجه(6) أيضاً في باب مرض النبيّ و فوته (ص) بلفظ آخر.
ص: 198
و أنت تعلم أنّ البخاري لتورّعه المعروف(1) لا يذكر اسم الخليفة حينما ينقل كلمة (يهجر) و لكن حينما يبدّلها بجملة: غلب عليه الوجع؛ أو غلبه الوجع، يتيمّن باسمه، و لا أراه مصيباً في احتياطه هذا! إذ مفاد هذه الجملة هو بعينه مفاد تلك الكلمة.
و ملخّص الكلام: أنّ التفوّه بهذه الكلمة في حقّ من شهد الله بعصمته في قرآنه الكريم، و أوجب طاعته على جميع المكلّفين، و أخبر بأنّ نطقه عن وحي من ربّ العالمين ارتداد، و لو كان قائله من المهاجرين الأوّلين، و الكلمة إن دلّت على شيء فإنّما يدلّ على عدم إيمان قائلها بصاحب الرسالة السماويّة كما أنّ كلّ من حاول الدفاع عن القائلين المذكورين فقد أفضح نفسه و ساء الأدب في حقّ النبيّ الأكرم (ص) شاء أو لم يشأ؛ إذ محصّل اعتذاره يرجع إلى تفضيل شؤون أصحابه على شرافة نفسه!!.
نعم، لو ثبت توبة القائلين من ذلك لحكم بإسلامهم. و الله العالم.
قال بعض الفضلاء الشعراء و لنعم ما قال:
وصى النبيّ فقد قال قائلهم *** قد ظلّ يهجر سيّد البشر
و رأوا أبا بكر أصاب و لم *** يهجر و قد أوصى إلى عمر
قال قائلهم: أمره (ص) بإحضار الكتاب كان اختباراً لأصحابه فهدى الله عمر لمراده (ص) لكن أنصف السندي في شرحه على البخاري حيث ذكر أنّ قوله (ص): لن تضلوا بعده. يأبى عنه. و قال: إن الإخبار بمثل هذا الخبر لمجرّد الاختبار من قبيل الكذب الواضح الذي ينزّه كلامه (ص) عنه.
و قال بعضهم الآخر: إنّ أمره (ص) لم يكن أمر عزيمة بل أمر مشورة فنهى عنه عمر تخفيفاً عليه (ص) و خوفاً من أن يكتب أموراً يعجز الناس عنها فيستحقّون العذاب، و اعتماداً على كتاب الله لقوله تعالى: (مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ)(2). و قوله: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)(3).
لكنّ السندي أجاب عنه بأنّ قوله: لن تضلّوا بعده، يدل على أنّ أمره للوجوب؛ اذ السعي فيما يفيد الأمن من الضلال واجب. و الخوف المذكور بعد تصريحه (ع) بعدم الضلالة بعد الكتابة مرتفع. و الكتاب المجيد لا يفي بالأمن من الضلال، و إلاّ لم يضلّ أحد بعد النبيّ و المفروض
ص: 199
عدمه و وقوع الضلالة.
ثمّ أجاب هو عن هذه العويصة بأنّ عمر فهم من كلامه (ص) أمن الكلّ، يعني لا تسري الضلالة إلى كلّكم لا أنّه لا يضلّ أحد منكم أصلاً فإنّ ضلال البعض معلوم الوقوع بإخباره (ص) و قد علم من آيات الكتاب كقوله تعالى: (وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ... لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ)(1) و قوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ...)(2) أنّ عدم ضلالة الكلّ حاصل بدون ذلك الكتاب الذي أراد (ص) أن يكتبه. هذا ملخّص كلامه.
أقول: و نتيجة ذلك أنّ ردّ عمر كان أحسن من أمره (ص) بإحضار الكتاب الذي اهتمّ به النبيّ الأكرم في آخر عمره، و نسبة النبيّ إلى الهجر و الهذيان جائزة مباحة! و لا أحد من المسلمين يقبل هذا، و الرواية نفسها أيضاً تبطل هذا الاعتذار و أمثاله؛ فإنّ قوله (ص): «قوموا عني». دليل على سخطه و غضبه (ص) عليهم، و عصيانهم أمره و إلاّ لاستحسن كلامهم و استصوب رأيهم، و لم يأمرهم بخروجهم من البيت.
ثمّ لو فرضنا أنّ الأمر كما زعمتم، فهلا يمكن لعمر أن يبيّن للنّبي (ص) حسن عدم الكتابه! و يعتذر عن إحضار الكتاب؟ حتّى تفوّه بما يقشعّر منه الجلود، و يستوجب حطّ مقام الرسالة، و جرأة أهل الجحود، و حزن أهل الإيمان، و بكاء ابن عباس.
و كأنّه لم يسمع أو نسي قوله تعالى: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً(3).
و لمن أنصف من نفسه ورفض العصبيّة و العناد يظهر غاية الظهور أنّ المراد هو أن جميع الأمّة من الضلالة أو معظمها؛ إذ أمن البعض كان معلوم الوقوع له (ص) بلا كتابة الكتاب المذكور؛ و هو (ص) أعلم و أعرف بحكمة فعله، و مسير أمّته، و طريق هدايتهم و ضلالهم، و أكثر إحاطة بكتاب الله و آياته من كلّ أحد.
فالصحيح الذي لا يختلج الباطل دونه ترك أمثال هذه الاعتذارات الباردة الباطلة التي تمسّ بكرامة خاتم الأنبياء (ص) بل الواجب أن نبحث عن ثبوت توبة هؤلاء المتفوّهين حتّى يزول عنهم الإرتداد، و ننسيهم إلى الإسلام؛ إذ فيهم مثل عمر و هو من مشاهير الأصحاب.
و اعلم أنّك إذا أخذتك الفطانة و لا حظت قوله (ص): «إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ما أن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً» تعرف أنّ هذا الكتاب الذي أراد (ص) كتابته لئلاّ يضلّ
ص: 200
الأمّة بعده تفصيل لقوله ذلك، و تعيين للفرد الأفضل من العترة بعد ما عيّنه في غير مورد كيوم الغدير و غيره.
و بالجملة: أنّه (ص) علم أنّ القوم على عداوة شديدة للوصي و غيره من العترة الطاهرة(1)، و من ناحية أخرى أنّه بعد عهد بعضهم بتنصيصاته (ص) في حقّ خلافه وصيّه امير المؤمنين و غفلة جمع و عدم سماع جمع آخرين بها فلا جرم أراد أن يكتب ما هو صريح الحقّ و مخّ الواقع واضحاً لائحاً، لئلاّ يبقى شكّ و غفلة لأحد. و تفرّس بعض الحاضرين بذلك كلّه فقالوا: حسبنا كتاب الله، و أراد بذلك رفض متابعة العترة الطاهرة و الإنكار على وصيّته، و فعلوا ذلك بل روّجوه في أوساط عوام الناس و جهّال الأمّة فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الحقّ و اتبعوا الشهوات.
18 - من موارد ما يدلّ على سوء حال الأصحاب و عدم سلامة جمع منهم من الفسق و الضلال قوله (ص) - في الحديث المروي بسند حسن -(2): «شرّ قبائل العرب بنو أميّة».
و قوله - في الحديث الصحيح -(3): «كان أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله (ص): بنوا أميّة».
أقول: في زمرة أصحابه عدّة من هؤلاء المبغوضين و الأشرار.
قال ابن حجر(4) في خاتمة الفصل الأوّل المتضمّن لورود الآيات النازلة في حقّ أهل البيت (عليهم السلام): قال النبيّ (ص): «إنّ أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلاً و تشريداً، و إنّ أشدّ قوماً لنا بغضاً بنو أمّية و بنو المغيرة و بنو مخزوم» صحّحه الحاكم، لكن فيه إسماعيل، و الجمهور على أنّه ضعيف لسوء حفظه!.
و ممّن وثّقه البخاري فقد نقل الترمذي عنه أنّه ثقة مقارب الحديث.
و من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم، و كأن هذا هو سرّ الحديث الذي صحّحه الحاكم أنّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلاّ أتى به النبيّ (ص) فيدعو له فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: «هذا الوزغ بن الوزغ الملعون بن الملعون» انتهى.
أقول: فلعنة الله على من أبغض آل محمّد و على من لعنه رسول الله و يا حسرة على بن دافع عنه مع علمه بما فعل.
ص: 201
19 - ما أخرجه البخاري(1) في باب شروط الجهاد بإسناده عن المسور و مروان عن رسول الله (ص) في حديث طويل قال فيه رسول الله (ص) لأصحابة: قوموا فانحروا ثمّ احلقوا قال: فو الله ما قام منهم رجل حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس...
و لنكتف بذلك لئلاّ نخرج عن وضع الكتاب، فإنّ أمثال هذه الموارد كثيرة(2).
قال الجرجاني(3): و منهم - أي من جمهور الأمّة - من ذهب إلى التفسيق - أي تفسيق قتلة عثمان و محاربي عليّ من الأصحاب - كالشيعة و كثير من أصحابنا، فقتلة عثمان و محاربوا عليّ (ع) فسقة عند كثير من أهل السنة بشهادة الجرجاني. فأين عدالة جميع الصحابة؟ و أين الإجماع؟!.
و المسلم العاقل بعد ملاحظة هذه الدلائل القاطعة لا يرى أصالة العدالة في الصحابة إلاّ طبلاً لتضليل الناس عن الحقّ، و سداً منيعاً عن قضاء العقل و حكومة البرهان. و ظلمة و حجاباً لنور الضمير و الوجدان، و ما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال، فإن (اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَكَ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ)(4) و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
ص: 202
اختلف المسلمون في من له استحقاق الخلافة عن النبيّ الأكرم (ص) بعده، فذهب الشيعة إلى أنّه علي بن أبي طالب - عبد مناف أو عمران - عليه الصلاة و السلام، و ذهب العامّة إلى أنّه أبو بكر عبد الله بن عثمان - أبي قحافة - و الحقّ المحض الموافق للقواعد العقلية و الموازين الدينية الإسلامية هو القول الأوّل(1) و إليك دلائله:
قد حقّقناه في الباب الأوّل وجوب تعيين الخليفة على النبيّ الأكرم، الخليفة الذي علّمه الأحكام الدينية و الأصول الإسلامية التي لم يتمكّن هو بنفسه من بيانها و بثّها و نشرها، حتّى يبلغها خليفته هذا و يتمّ شريعته للناس و نحن حينما نرجع إلى السنّة و أقواله (ص) نرى أنّه نصب عليّاً (ع) خليفة في أمّته.
منها: ما أخرجه الحاكم في مستدركه(2) عن أنس و قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه، قال (ص) لعلي: «أنت تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي» و أخرجه الديلمي أيضاً كما في كنز العمال(3) عن رسول الله (ص): «عليّ باب علمي و مبيّن من عبدي لأمتي ما أرسلت به، حبّه إيمان! و بغضه نفاق»! و ذيل الرواية كما هو صريح في إمامته كذلك دالّ على أنّ الإمامة من أصول الدين؛ إذ لا معنى للإيمان و النفاق المذكورين إلاّ ذلك.
ص: 203
ثمّ أقول: و أنت إذا لاحظت قوله تعالى لنبيّه (ص) -: (وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ إِلاّٰ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(1). تستيقن أنّ منزلة أمير المؤمنين (ع) من رسول الله (ص) كمنزلته (ص) من الله عزّ و جلّ.
منها: قول عمر - و هو من مشاهير الصحابة -: يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن. يعني عليّاً, أخرجه ابن سعد عن سعيد بن المسيب, و أخرج عنه أيضاً قوله: لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلّا عليّ. و أخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أفرض أهل المدينة و أقضاها علي. نقلها ابن حجر في الفصل الثالث من الباب التاسع من صواعقه.
قلت: قول عمر - و هو من أكبر منافسيه في الخلافة -: لولا عليّ لهلك عمر, من المشهورات, فقد أخرجه جملة من علماء القوم كأحمد و العقيلي و ابن السمّان, و صاحب الاستيعاب و الرياض و كثير من غيرهم, و قال أيضاً مرّة ما بعد ما سأله عن شيء و أجابه: أعوذ بالله أن أعيِش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن(2)!
منها: قوله (ص) لفاطمة: «أمّا ترضينّ أنّي زوجتك أوّل المسلمين إسلاماً و أعلمهم علماً(3) و قوله (ص) لها أيضاً: زوجتك خير أمتي أعلمهم علماً, و أفضلهم حلماً, و أوّلهم سلماً»(4). و قوله لها: «إنّه لأوّل أصحابي إسلاماً, و أقدم أمّتي سلماً, و أكثرهم علماً و أعظمهم حلماً»(5).
منها: قوله (ص): أعلم أمّتي من بعديى عليّ بن أبي طالب(6).
و منها: قوله (ص): «عليّ و عاء علمي و وصييّ و بابي الذي أؤتى منه».
و منها: قوله (ص): «أقضاكم علي». نقله غير واحد.
و عن ابن عباس(7): و الله لقد أعطي علي بن ابي طالب تسعة أعشار العلم, و ايم الله لقد شارككم في العشر العاشر, و قال أيضاً: ما علمي و علم أصحاب محمّد (ص) في علم عليّ رضي الله عنه إلّا كقطرة في سبعة أبحر.
و قالت عايشة - كما عن الرياض و الذخائر و الاستيعاب -: إنّه أعلم الناس بالسنّة.
ص: 204
و منها: ما عن أبي أمامة - كما في كفاية الكنجي - عنه (ص): «أعلم أمّتي بالسنّة و القضاء بعدي عليّ بن أبي طالب».
قال الحاكم في المستدرك(1) في ذيل حديث وراثة عليّ النبيّ دون عمّه العباس: لا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العمّ لا يرث مع العمّ، فقد ظهر بهذا الإجماع أنّ عليّاً ورث العلم من النبيّ دونهم؛ و لذا قال علي (ع): «و الله إنّي لأخوه و وليّه و ابن عمّه و وارث علمه فمن أحقّ به مني»(2)؟.
قلت: الروايات و الآثار في ذلك كثيرة لا يمكن استيفاؤها. فلنختم الكلام بذكر رواية و هي قول رسول الله (ص): «أنا مدينة العلم و عليّ بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها.
و في رواية: «و لا تؤتى البيوت إلاّ من أبوابها».
و في رواية: «كذب من زعم أنّه يصل إلى المدينة إلاّ من قبل الباب».
و في رواية: «كذب من زعم أنّه يدخل المدينة بغير الباب، قال الله عزّو جلّ: (وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا)(3).
وفي خامسة: «و لن تؤتى المدينة إلاّ من قبل الباب» إلى غير ذلك من ألفاظ الحديث المختلفة.
و من تأمّل هذه العبارات ثمّ تذكّر ما قرّرناه في الباب الأوّل يستيقّن - يقينا لا يشوبه ريب - أنّ أمير المؤمنين (ع) هو الخليفة و الإمام بعد رسول الله (ص) فإنّه هو العالم الوحيد بعده في أمّته، و هو الذي يجب رجوع الناس إليه و الأخذ بكلامه و أقواله، و هو الذي لا يصل المسلم إلى نبيّه (ص) إلاّ بمتابعته، و الانقياد له، و هو الباب الوحيد لمدينة النبوّة و الشريعة، فهل الإمامة و الخلافة غير هذا؟ هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون، فكيف يقدّم من يقول: لو لا علي لهلك عمر، على من يقول: سلوني قبل أن تفقدوني! و على من يقول رسول الله (ص) في حقه: «أنا دار الحكمة و علي بابها، أنا دار العلم و عليّ بابها، أنا ميزان العلم و عليّ كفتاه. أنا ميزان الحكمة و عليّ لسانه».
فإن قلت: قد طعن بعضهم في سند الحديث أي قوله (ص): «أنا مدينة العلم و عليّ بابها.
قلت: الطعن في سند هذه الرواية التي حفظها أئمة الحديث و حملة الشريعة في كتبهم الذين تربو عدّتهم على مئة محدّث ماهر، و صحّحها أكثر من عشرين عالماً نقّادين فضلاً عمّن
ص: 205
حسّنها، بل ألّف أحمد بن محمّد - نزيل القاهرة - كتاباً أسماه «فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ» مطعون و مردود إلى قائله(1).
و عن الحافظ الإصفهاني في حلية الأولياء و المولى عليّ المتّقي في كنز العمال(2) عن عبد الله بن عمر، عن رسول الله (ص) أنّه قال في المرض الذي توفي فيه: «ادعوا لي أخي» فجاء أبو بكر فأعرض عنه، ثم قال: «ادعوا لي أخي». فجاء عثمان، فأعرض عنه، ثمّ دعي له عليّ فستره بثوبه، و أكبّ عليه، فلمّا خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال: «علّمني ألف باب كلّ باب يفتح ألف باب». و للاطلاع على كثرة طرقه راجع بحار الأنوار(3).
ثمّ إنّ الذين في قلوبهم مرض العصبيّة و العناد لعليّ (ع) حاولوا إخفاء هذه الكرامة بأساليب مختلفة و تأويلات فاسدة نذكر لك قولين منها لتعلم موقفهم:
1 - ما قيل من معاوضة الروايات المذكورة بخبر الفردوس(4): أنا مدينة العلم و أبوبكر أساسها - و في رواية محرابها - و عمر حيطانها، و عثمان سقفها، و عليّ بابها. قال ابن حجر الجامد: فهذه صريحة في أنّ أبابكر أعلمهم.
2 - ما قيل من أنّ كلمة عليّ ليس أسم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع)، بل هو من العلو، بمعنى أنّ باب المدينة عال!.
و كأن الله طبع على قلوبهم حتّى غفلوا عن أنّ المدينة لا محراب لها و لا سقف!! و أنّ أساس علمه (ص) هو الوحي الإلهي دون ابن أبي قحافة لشيء و عمر إن كان حائطاً فهو حائط لشيء آخر، دون مدينة العلم كما مرّ دلائله. و لعمري إنّه لو كان حائطاً لعلمه (ص) لكان ذلك أكبر دليل على نقص في علمه (ص).
و أمّا السقف فلا نحدّث عنه! و أمّا الإفك الثاني فيزيّفه ما في عدّة من تلكم الروايات الشريفة: أنا مدينة العلم و أنت - مخاطباً لعليّ (ع) - بابها، و غير ذلك، فلاحظ و الله الهادي.
إنّ عليّاً أمير المؤمنين (ع) معصوم كما مرّ في مبحث عصمة النبيّ الخاتم (ص) و سيأتي أيضاً
ص: 206
إن شاء الله تعالى، و قد ادّعى الخلافة بعد النبيّ بلا فصل لنفسه، و لم يبايع أبابكر إلاّ بعد مدّة عن إكراه كما سيأتي إن شاء الله، فيكون دعواه مطابقة للحقّ، و إلاّ لم يكن معصوماً. فيكون هو الإمام(1). و من بنى على إنكار مخالفته (ع) لأبي بكر فقد أنكر ما هو مقطوع من الآثار و التاريخ، و لا جواب له سوى إنكار وجود أبي بكر!.
نصّ النبيّ الأكرم (ص) عليه (ع) يوم الدار و الإنذار، و حاصله أنّه لمّا نزل قوله تعالى: (وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ)(2). فدعاهم النبيّ (ص) إلى دار عمّه أبي طالب، و هم أربعون رجلاً يزيدونه رجلاً أو ينقصونه.
و قال في آخر كلامه (ص): «يا بني عبد المطلب إنّي و الله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا، على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم»؟ فأحجم القوم عنها غير عليّ - و كان أصغرهم - إذ قام فقال: «أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه». فأخذ رسول الله برقبته، و قال: «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوا». فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع، انتهى. و قد رويت بألفاظ أخر أيضاً.
أقول: و كلّ من قال بخلافته (ع) في عشيرة النبي (ص) قال بخلافته في الأمّة قاطبة، و لا قائل بالتفصيل بين المسلمين.
على أنّ في بعض الروايات ما يدلّ على المراد، فقد أخرج الحافظان ابن أبي حاتم والبغوي...: «فمن يجيبني إلى هذا الأمر و يؤازرني يكن أخي و وزيري و وصيّي و وارثي و خليفتي من بعدي»؟ فلم يجبه أحد منهم؛ فقام علي... فقال: «أنا يا رسول الله». فقال: «اجلس فأنت أخي و وزيري و وصيّي و خليفتي من بعدي. بل في رواية أخرى: أيكم ينتدب أن يكون أخي و وزيري و وصيّي و خليفتي في أمّتي و وليّ كلّ مؤمن بعدي»؟ فسكت القوم حتّى أعادها ثلاثاً... ثم قال لأبي طالب: «يا أبا طالب اسمع الآن لابنك و أطع فقد جعله الله من نبيّه بمنزلة هارون من موسى».
لا يقال: الأمر كما ذكرت في ناحية الدلالة، لكنّ المناقشة من ناحية السند ممكنة، فإنّ
ص: 207
الرواية غير متواترة و إنّما هي ما آحاد الأخبار(1)، و الإمامة عندكم من أصول الدّين التي لا بدّ في إثباتها من الدليل القطعي.
و بالجملة: هذا الوجه و إن يكن إلزاماً على الخصم لكنّه ليس بدليل واقعاً عندكم، و إن اشتهرت الرواية المذكورة حتّى نقلها العلماء المسيحيون منهم جرجي زيدان في كتابه تمدّن الإسلام و العرب.
فإنّه يقال: إنّ هذا الخبر و إن فرضنا عدم بلوغه حدّ التواتر المصطلح، لكنّه محفوف بقرينة نقطع أو نطمئن بصدوره عن النبيّ الخاتم (ص) و القرينة المذكورة وجودها في جملة من كتب الذين لا يرون خلافة أمير المؤمنين بعد النبيّ بلا فصل - كما هي مدلول الرواية - صحيحة، بل يفنّدونها بشتّى الوسائل و الأسباب، بل و لو بتكفير المخالفين و قتلهم. و مثل هؤلاء الذين عاشوا في قرون مظلمة كان التحدث عن فضل عليّ (ع) فيها ذنباً كبيراً سياسيّاً - في قاموس مثل الأمويين و غيرهم - إذا ضبطوا رواية دالّة على نقيض مرامهم لا نحتمل الوضع و الاختلاق و الكذب فيها؟ و هذا ممّا لا يخفى على ذوي فطرة سليمة(2).
ثمّ إنّ هنا عجيبة أخرى لا يمكن إهمالها، و هي أنّ عليّاً (ع) كان يومذاك طفلاً صغيراً، لم يبلغ الحلم و مع ذلك فقد أمره النبيّ بترتيب المجلس و دعوة القوم، ثمّ قبول مؤازرته على أمره (ص) ثمّ جعله (ص) - و هو حديث السن - خليفة بعده، و قيام عليّ في ذلك المجلس وهبة نفسه للفدا دون النبيّ، كلّ ذلك دليل على جلالة شأنه و عظمة مقامه و توجّه النبيّ الخاتم إليه و ترجيحه على جميع قومه.
حديث المنزلة الذي روي بتعابير مختلفة، و هو قوله (ص) لعليّ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي».
بيان الدلالة: أنّ موسى (ع) سأل ربّه بقوله: وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هٰارُونَ أَخِي * اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(3). فأجابه الله تعالى بقوله:
ص: 208
قٰالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ (1) .
فلهارون من موسى منازل:
منها: و زرارته لموسى.
منها: شدّ أزره به.
منها: اشتراكه معه في النبوّة و الرسالة إلى فرعون، كما يدلّ عليه قوله:
وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي و نصّ عليه قوله: فَأْتِيٰاهُ فَقُولاٰ إِنّٰا رَسُولاٰ رَبِّكَ (2).
منها: خلافته منه، لقوله: (اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)(3). وقمه هم أمته بينهم.
منها: خلافته منه بعد وفاته إن بقي؛ و ذلك لأنّ موسى من أولي العزم و ليس كذلك هارون.
و كلّ نبي غير صاحب العزم خليفة عن صاحب العزم لا محالة كما تقدّم بحثه؛ و لأنّه كان شريكاً له في الرسالة إلى فرعون و كان خليفة منه في قومه، فلا معنى لعزله عن هذا المنصب فإنّه يكشف عن عدم لياقته و حاشا نبيّ الله عن ذلك.
منها: شفقة موسى عليه و اختياره له على غيره من أهله و أصحابه و ترجيحه و تفضيله عليهم و أحقّيته للوزارة.
منها: أخوته له نسباً.
فهذه سبع منازل له من أخيه موسى (عليهماالسلام) فقول نبيّنا الخاتم (ص) لأمير المؤمنين (ع): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» يثبت جميع تلك المنازل. و حيث إنّ ذلك ممّا يوجب نبوّة علي (ع) كما كان هارون نبيّاً قال (ص): «إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» فاستثنى منزلة النبوّة.
نعم، لابدّ من إخراج المنزلة الأخيرة أيضاً كما هو واضح، فإنّ عليّاً لم يكن أخاً لرسول الله (ص) نسباً، و إن كان أخاً له مواضعة، على ما دلّت عليه روايات كثيرة من طرق الجمهور، و إنّ رسول الله (ص) قال له: «أنت أخي». و قد ورد بطريقهم أيضاً أنّه (ص) آخى بين أصحابه بمكّة و اتّخذ عليّاً (ع) أخاً لنفسه، و آخي ثانياً في المدينة بين المهاجرين و الأنصار بين المهاجرين و الأنصار، و هذا بمجرده يدلّ على أفضليّته و أشرفيّته من جميع الأصحاب.
فأمير المؤمنين (ع) أخ الرسول لا نسباً، و شريكه في التبليغ و الأداء لا نبوّة و رسالة، كما عرفت في الباب الأول و في هذا الباب في الدليل الأول.
ص: 209
و قد ورد من طريق العامّة قوله (ص) في قصّة تلاوة سورة البراءة و غيرها: «و لكن جبرائيل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك» و مثل هذه الروايات كثيرة تقدّم بعضها في هذا الباب و عليه فالمنازل المذكورة كلّها ثابتة لعلّي (ع) على نحو قرّرناه.
و انطلاقاً من ذلك فقد تمّت دلالة الرواية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين بعد النبيّ الأكرم (ص) و خلافته منه. و ممّا يؤكّده أنّ موسى (ع) سأل مشاركة هارون في أمره في أوّل رسالته، و رسول الله (ص) أيضاً نصّ على خلافة عليّ في أوّل يوم رسالته كما مرّ في حديث يوم الإنذار، و من عجيب الأمر أنّه (ص) قال في ذلك اليوم - كما في بعض الروايات و قد مرّت إحديها -: فقد جعله الله من نبيّه بمنزلة هارون من موسى! و هذا من معجزات النبيّ الأعظم (ص).
قال الذين رأوا مصادمة الحديث لأساس بنيانهم أنّه دون ما رامه الشيعة لوجوه:
1 - إنّ العام المخصّص غير حجّة في الباقي، أو حجّة ضعيفة، و لا شكّ أنّ منزلة الأخوة و النبوّة مستثناة من المنازل الثابتة لهارون، فلا حجّيّة في عموم قوله: «بمنزلة هارون»(1).
أقول: قد تقرّر في أصول الفقه أنّ العامّ حجّة في الباقي، و أنّ التخصيص لا يستلزم المجاز، و القول بعدم حجّيّته قد انقرض و صار المذهب على خلافه، فإنّه كان في غاية الضعف، بل هو قريب من الهذيان، فإنّه يبطل الفقه من أساسه!! إذ العمومات جلّها أو كلّها قد خصّصت بأمور أقلها الشرائط العامّة و قد قيل قديماً: ما من عامّ إلاّ و قد خصّ، فلو لا حجّية العامّ المخصّص في الباقي لسقط الفقه و فسد الاستنباط، و لعلّ المستشكل لم يكن يصلّي بدليل عدم حجّيّة العمومات الآمرة بالصلاة بعد تخصيصها بغير الحائض و النفساء!!.
و إنّي لا أظنّ يلتبس الأمر على أمثال العضدي و الجرجاني، و أن يلتزم به في غير هذا المقام غير أنّهم يرون أنفسهم معذورين في المقام، و الحقّ معهم، فإنّ العصبيّة تبطل إدراك العقل.
2 - اختصاص الحديث بمورده، و هو أنّ رسول الله (ص) حين استخلفه في المدينة عند رواحه إلى غزوة تبوك، فقال له أمير المؤمنين (ع): أتخلّفني في النساء و الصبيان؟ فقال (ص): «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» أراد (ص) كونه بمنزلة هارون في خلافته عن موسى مدّة غيبته عن قومه و ذهابه إلى الطور فهو خليفة في وقت خاصّ.
و يزيّف أوّلاً: أنّ العبرة بعموم اللفظ دون خصوصيّة المورد، فقد تقرّر في أصول الفقه أنّ
ص: 210
المورد لا يخصّص العامّ و لا يقيّد المطلق، و قد أشرنا في التعليقة، إنّ الاستثناء في قوله: «إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» دليل العموم، و لا أظنّ أن يتردّد فيه عاقل.
و ثانياً: لو لا إرادة النبيّ عموم المنازل المذكورة و لا سيّما الخلافة المطلقة غير المؤقتة لقال: إلاّ أنّه لا نبيّ معي، أو إلاّ أنّك لست بنبيّ، ضرورة عدم استلزام الخلافة المؤقتة توهّم النبوّة ما بعد الموت ليحتاج إلى رفعه بقوله: إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي. أو إلاّ أنّه ليس بعدي نبيّ، و هذا أكبر دليل على إرادته (ص) الخلافة المطلقة الشاملة لما بعد حياته (ص) فاحتاج إلى إبطال توهّم نبوّته بعده فقال: لا نبيّ بعدي، فافهم.
و ثالثاً: أنّ الحديث الشريف لم يصدر عنه (ص) في مورد استخلافه (ص) إيّاه على المدينة في غزوة تبوك فقط، بل قال هذا الكلام في مورد أخر ابتداءً.
فقد قال يوماً لأم سليم - أم أنس بن مالك -: «يا أم سليم إنّ عليّاً لحمه من لحمي، و دمه من دمي، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى»(1).
و قال (ص) أيضاً في قضيّة اختصم فيها عليّ و جعفر و زيد: «يا عليّ أنت منّي بمنزلة هارون من موسى...»(2).
و قال (ص) أيضاً يوم كان أبو بكر و عمر و أبو عبيدة عند النبيّ و هو متكئ على عليّ، فضرب بيده على منكبه ثمّ قال: «يا عليّ أنت أوّل المؤمنين إيماناً و أوّلهم إسلاماً، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(3) انتهى.
و قال (ص) أيضاً يوم المؤاخاة الأولى: «و الذي بعثني بالحقّ ما أخرجتك إلاّ لنفسي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، غير أنّه لا نبيّ بعدي و أنت أخى و وارثي فقال: و ما أرث منك؟ قال: ما ورث الأنبياء من قبلي كتاب ربّهم و سنّة نبيهم» انتهى(4).
و قال (ص) أيضاً يوم المؤاخاة الثانية لعليّ: «أغضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين و الأنصار، و لم أؤاخ بينك و بين أحد منهم؟ أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس بعدي نبي» انتهى. أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عباس كما في الكنز.
و قال (ص) أيضاً يوم سدّ الأبواب: «يا علي إنّه يحلّل لك ما يحلّ لي، و إنّك منّي بمنزلة هارون
ص: 211
من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(1). و قاله أيضاً في أوّل مبعثه كما مرّ.
فهل بعد ذلك يبقى توهّم الاختصاص؟ و ما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال؟
3 - إنّه خبر واحد لم يثبت سنده كما عن الآمدي، و قلّده صاحب المواقف الإيجي.
قلت: هذا الإشكال الأوّل هذيان، و قد عرفت تعدّد موارده و وجوده في صحيح البخاري(2) وغيره من الصحاح و الكتب. و قد اعترف بصحّة الحديث غير واحد منهم ابن حجر في صواعقه(3) و نسب صحّته إلى أئمة الحديث. و قال ابن عبد البرّ في أحوال عليّ (ع) من استيعابه: و هو من أثبت الآثار و أصحّها. و قد رواه خلق كثير حتّى نقل عن السيوطي في «رسالة الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» و «إزالة الخفاء»، و «قرة العينين» من كتبه أنّ الحديث المذكور متواتر.
و عن الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في حدّ التواتر، و لو فرضنا عدم تواتره لكان أيضاً مفيداً للقطع لأجل القرينة المتقدّم ذكرها. فالآمدي له ما يقول، و عن ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: السيف الآمدي المتكلّم علي بن أبي علي صاحب التصانيف، و قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده، و صحّ أنّه كان يترك الصلاة.
و عن الذهبي في ميزان الاعتدال: أنّ الآمدي من المبتدعة مسلّماً.
و نختم الكلام في هذا الحديث بذكر رواية شريفة أخرى رافعة للمؤمنين نيرة للمخالفين، و هي ما أخرجه الخطيب عن البرّاء و الديلمي عن ابن عباس أنّ النبيّ (ص) قال: «علي منّي بمنزلة رأسي من بدني»(4)!!!.
حديث الغدير، و قد رواه المسلمون بطرق، منها ما أخرجه الطبراني و غيره بسند مجمع على صحّته، عن زيد بن أرقم قال: خطب رسول الله (ص) بغدير خمّ تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس يوشك أن أدعى فأجيب؛ و إنّي مسؤول و إنّكم مسؤلون؛ فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت و جاهدت و نصحت، فجزاك الله خيراً، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، و أنّ جنّته حقّ، و أنّ البعث حقّ بعد الموت،
ص: 212
و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك.
ثمّ قال: اللهمّ اشهد. ثمّ قال: يا أيّها الناس إنّ الله مولاي، و أنا مولى المؤمنين و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا مولاه - يعني عليّاً - اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه.
ثمّ قال: يا أيّها الناس: إنّي فرطكم، و إنّكم واردون علي الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصري إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة و إنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين كيف تخلفوني فيهما؟ الثقل الأكبر كتاب الله عزّ و جلّ، سبب طرفه بيد الله تعالى، و طرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا و لا تبدّلوا، و عترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيان حتّى يردا عليّ الحوض».
و منها: ما نقله ابن حجر في صواعقه(1) و قال: إنّه حديث صحيح لا مرية فيه، و قد أخرجه جماعة كالترمذي و النسائي و أحمد و طرقه كثيرة جداً، و هو قوله (ص) يوم غدير خم - موضع بالجحفة - مرجعه من حجّة الوداع بعد أن جمع الصحابة و كرّر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ ثلاثاً و هم يجيبون بالتصديق و الاعتراف، ثمّ رفع يد عليّ، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه فأحبب من أحبه و ابغض من أبغضه، و انصر من نصره و أخذل من خذله، و أدر الحقّ معه حيث دار».
أقول: يقع الكلام في هذه الرواية الشريفة من جهتين:
الأولى: في اعتبارها من حيث السند، و نحن بحمد الله في غنى عن ذلك، بعد ما أطبق المسملون - إلا شواذ منهم - على صحّتها؛ و ادّعى غير واحد من جهابذة الحديث و البحث، كالسيوطي و الذهبي و غيرهما تواترها.
و قد أخرجه الطبري من نيف و سبعين طريقاً. و ابن عقدة من خمسة و مئة طريق و من سبعين صحابياً، و الجعاني من خمسة و عشرين و مئة طريق.
و عن الحافظ أبي العلاء العطّار الهمداني(2): أروي هذا الحديث بمئتين و خمسين طريقاً!.
و عن الجويني الملقّب بإمام الحرمين أستاذ الغزالي(3) أنّه يتعجب و يقول: رأيت مجلّداً في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خم مكتوباً عليه: المجلّدة الثامنة و العشرون من طرق قوله (ص): «من كنت مولاه فعلي مولاه». و يتلوه المجلدة التاسعة و العشرون انتهى!!!(4).
ص: 213
فالحديث - شهد الله - متجاوز عن حدّ التواتر بكثير.
و بعد ذلك لا تقيم وزناً لما يقال من أنّ الحديث من الآحاد، و الإمامة عند الإماميّة من أصول الدّين و هم لا يعتبرون فيها الخبر الواحد. فقد بان الصبح لذي عينين.
و أمّا ما ذكره الإيجي في مواقفه من أنّ عليّاً لم يكن يوم الغدير مع النبيّ فإنّه كان باليمين.
و ما ذكره الجرجاني في شرحها(1) بقوله: و ردّ هذا بأنّ غيبته لا تنافي صحّة الحديث، إلاّ أن يروى هكذا: أخذ بيد عليّ و استحضره. فهو إن دل على شيء لدلّ على تعصّبهم و عدم تحمّلهم للحقّ؛ و لذا قال ابن حجر(2) على شدّة جموده و عناده: و لا التفات لمن قدح في صحّته، و لا لمن رواه بأنّ عليّاً كان باليمين؛ لثبوت رجوعه - أي علي - منها و إدراكه الحجّ مع النبيّ (ص) إلخ.
الثانية: في دلالتها على خلافة أمير المؤمنين (ع) عن النبيّ الأكرم في الأمّة الإسلامية، فنقول: قوله (ص): «يا أيّها الناس إنّ الله مولاي، و أنا مولى المؤمنين، و أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه يعني عليّاً» لا معنى له سوى تلك الخلافة، و إنّه (ص) لم يرد بكلامه هذا غير الخلافة و الإمامة لابن عمّه أمير المؤمنين (ع).
بيان ذلك: أنّ كلمة «مولى» و إن استعملت في معان كثيرة إلاّ أنّ ما يحتمل إرادته في المقام منها بحيث لا يلزم الكذب و لا السفاهة الظاهرة أمور:
1 - المالك. 2 - الولي. 3 - الأولى بالشيء. 4 - السيد غير المالك و المعتق - بالكسر -. 5 - المتصرف في الأمر. 6 - المتولي في الأمر. 7 - المحب. 8 - الناصر.
و كلّ معنى من المعاني الستّة الأولى إذ فرض إرادته من كلمة «مولى» يتمّ المراد و يثبت المطلوب، بل الحقّ أنّها تثبت النبوّة لعلّي (ع) فإنّ ملكيته (ص) و ولايته و أولويّته و سيادته و تصرّفه و تولّيه إنّما هو بنحو الرسالة، بيد أنّ الضروري في دين الإسلام ختم النبوّة و الرسالة به (ص) فنضطرّ إلى الاقتصار على الخلافة. و هذا واضح.
و أمّا إذا أريد بها أحد المعنيين الأخيرين فلا ربط لها بالخلافة و الإمامة كما ليس بسر، إلاّ أنّ العاقل المسلم الذي لا يفدي دينه بتقليده للغير، و لا يظلم ضميره الحر المتنوّر بالعصبيّة يتيقّن أنّ الرسول الخاتم الحكيم (ص) لم يردهما أصلاً.
ضرورة أنّ الذي يفهمه كلّ أحد من الخطبة الشريفة هو تكليف الناس برعاية حقّ عليّ (ع) - كائناً ما كان هذا الحقّ - لا تكليف عليّ (ع) برعاية حقّ الناس. و أيضاً لو كان مراده (ص) ذلك لم
ص: 214
يحتج إلى جمع الناس في أثناء المسير، و رمضاء الهجير، و أمره بإرجاع المتقدّم في السير و منع التالي منه، إذ يكفيه أن يقول لعليّ (ع) يجب عليك نصر الأمّة و حبّهم على سبيل التنبيه، و إلاّ فعليّ (ع) كان يتلو القرآن و يقرأ قوله تعالى: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(1) و قوله: (اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ)(2). و قوله: (وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ)(3). وقوله: (وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً)(4) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ترغيب المؤمنين - و عليّ أميرهم - في المحبّة و النصرة، فما هو حكمة هذا الاجتماع الرهيب؟ ثمّ ما شأن عليّ خصّه بهذا المعنى و الصحابة فيه سواء؟.
فإن قال قائل: الغرض من هذا الكلام هو جلب محبّة الناس له.
نقول: قوله (ص): اللهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه. الخ يكفي لذلك، فيلغي قوله: «من كنت..». هذا مع أنّ إرادة هذا المعنى من الجملة المذكورة تشبه الأكل من القفا!.
فيعلم من ذلك كلّه أنّ الرواية الشريفة أجنبية عن الدلالة على النصرة و المحبة، فإذن لا بدّ من الحمل على أحد المعاني الستّة المذكورة، فيثبت ما رامه أهل الحقّ، ثمّ إنّ هنا قرائن أخرى تدلّ دلالة قطعية على أنّ المراد بكلمة (مولى) أولى بالتصرف و بالأمر و بالأنفس، و إليك منها ما يناسب وضع هذا المختصر:
1 - قوله (ص): «أليس تشهدون...» فإنّ تقريرهم على أصول العقائد الدينية لا يناسب تعقيبه إلاّ بأمر مهمّ ديني! فالرواية نعمت الشاهدة على أنّ الإمامة من أصول الدين كما يقول الإماميّة.
2 - قوله (ص): «و أنا أولى بهم من أنفسهم»(5) ثلاثاً كما في الرواية الثانية فإنّه كالتفسير لقوله: «و أنا مولى المؤمنين» فقوله (ص): «فمن كنت مولاه فهذا مولاه». أيضاً بمعنى الأولى بهم من أنفسهم.
3 - قوله (ص): «و إنّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين» انتهى و هو أمر بإرجاع الأمّة بعده إلى آل بيته و لزوم انقيادهم لهم كما سيأتي تفصيله فيما بعد إن شاء الله. و ليس ذلك إلاّ معنى الخلافة.
4 - قوله (ص): «وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله» فإنّ مثل
ص: 215
هذه التعبيرات لا تناسب إلاّ مقام الخلفاء كما لا يخفى على من أنصف.
5 - نزول قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ (1) في ذلك كما اعترف به جملة من أهل السنّة(2).
و هو صريح في الإمامة و الرئاسة العامّة بعد النبيّ (ص) و أنّها أهمّ من جميع ما بلغه رسول الله (ص) يحيث لو تركها كان بمنزلة عدم تبليغه رأساً!! و يظهر سرّه ممّا ذكرناه حول وجوب نصب الإمام على الله تعالى فراجع.
ثمّ إنّ المستفاد من الآية الكريمة أنّ النبيّ كان يخاف قومه من تبليغ ما أنزل إليه في هذا المقام لا على إنكارهم قوله (ص) وحده بل على حياته و نفسه أيضاً، و لكنّ الله سبحانه وعده بالحفظ، بقوله: (وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ) و عليه فلا تستبعد ما صدر منهم من تأخير عليّ عن مقامه فان الله لا يهدي القوم الفاسقين.
6 - نزول قوله تعالى: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً)(3). بعد خطابة النبيّ الأعظم في ذلك المشهد العظيم كما ذكره جمع ممّن يخالفونا في الإمامة(4) و ما به إكمال الدين و إتمام النعمة ليس إلاّ أمراً مهمّاً دينيّاً؛ و أصلاً من أصول الإسلام، و أين هذا من إثبات محبّة عليّ (ع) و نصرته للأمّة؟!! بل ليس هو إلاّ أم الخلافة الكبرى و الإمامة العظمى.
7 - نزول قوله تعالى: سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ (5) انتهى. في ذلك بعد ما أنكر بعضهم التولية، و قال: اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر عليها حجارة من السماء. فنزل عليه حجارة و مات(6).
فهل ترى أنّ هذا الكافر أنكر قول النبيّ الأكرم (ص) - إخباراً أو إنشاءً - في محبّة عليّ (ع) و نصرته للأمّة؟! أم فهم منه الخلافة العامّة فأنكرها حتّى ذاق عقاب الله تعالى.
8 - تهنئة الحاضرين لعليّ (ص) بعد خطاب النبيّ، فإنّها لا تدلّ إلاّ على مرامنا؛ إذ لا معنى للتهنئة إلاّ على أمر جديد لم يحصل من قبل؛ و ليس هو إلاّ الخلافة. فلاحظ تفصيلها
ص: 216
حتّى تتيقن بذلك(1).
و نقاوة الكلام أنّ حديث الغدير المتجاوز حدّ التواتر بماله من القرائن الداخلية و الخارجية نصّ صريح في خلافة أمير المؤمنين (ع) بعد النبيّ، و لا يقبل التأويل بوجه، و لا سيّما أنّ كلّ ذلك ممّا استخرجناه من كتب قوم لا يعقل الجعل و الافتعال في حقّهم في هذه المسألة فإنّهم ينكرونها أشد الإنكار. و على كلّ، لا يحتمل واحد من المئة إرادة النصرة و المحبّة.
نعم، تصدّوا لمنع دلالة الحديث على مدلوله من جهات أخرى فقالوا معترضين:
أولاً: أنّ أحداً من أئمة اللغة لم يذكر أنّ مفعلاً يأتي بمعنى أفعل.
و ثانياًَ: أنّ الاستعمال أيضاً يمنع ذلك؛ إذ يقال: هو أولى من كذا دون هو مولى من كذا؛ فيفهم منه أنهما متغاير ان لا مترادفان.
و ثالثاً: سلّمنا أنّه أولى، لكن لا نسلّم أنّ المراد أنّه الأولى بالإمامة، بل بالاتباع و القرب منه كقوله تعالى: (إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ)(2). بل هذا الاحتمال هو الصحيح؛ إذ هو الذي فهمه أبو بكر و عمر، فإنّهما لمّا سمعا قوله (ص) قالا لعلي: أمسيت يا بن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة. أخرجه الدار قطني(3).
و رابعاً: سلّمنا أنّه أولى بالإمامة، فالمراد المآل، و إلاّ كان هو الإمام مع وجود رسول الله (ص). و لا تعرّض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، فلا ينافي حينئذٍ تقديم الخلفاء الثلاثة عليه.
و خامساً: كيف يكون ذلك نصّاً على إمامته، و لم يحتجّ به هو و لا غيره وقت الحاجة، و إنّما احتجّ به عليّ في خلافته.
هذه هي كلماتهم الدائرة على هدم صراحة هذه الرواية في خلافة عليّ (ع) و لكن كلمة الله هي العليا، و الباطل زاهق يذهب جفاء.
نقول: أمّا الشبهة الأولى فهي من القول الزور الباطل، و إن دلّت على شي فإنّما تدلّ على جهل قائلها أو عناده، فإنّ الذين نصّوا على مجيء ذلك في قوله تعالى: (مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ)(4) من الصحابة و التابعين والمفسّرين و اللغويين و المحدّثين و الأديبين و المتكلّمين
ص: 217
أكثر من أربعين شخصاً عربياً. فكيف يسوغ للعاقل إنكار ذلك؟(1).
و انطلاقاً من ذلك تصبح الشبهة الثانية من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ، و هو ساقط اتّفاقاً.
على أنّه فاسد في نفسه، فإنّ وحدة المعنى لا تستلزم وحدة خصوصيّات الصيغ المختلفة، فللصيغ و الألفاظ خصوصيّات في تعدّيها بالحروف لا تنبع وحدة معانيها و ترادف مداليلها؛ و لذا لا يقال: قادر منه كما يقال: متمكّن منه. و لا يقال: متمكّن عليه، كما يقال قادر عليه. مع اتّحاد معنى المتمكّن و القادر.
على أنّا لو سلّمنا كلام هؤلاء المتصدّين للإشكال - و في مقدّمتهم الرازي الشكاك المغرور - للغى الحديث من رأس؛ فإنّ الإشكال جار حتّى لو قلنا بأنّ كلمة «مولى» بمعنى المحب و الناصر؛ إذ لا يقال: مولى دين الله. و مولى الدين، كما يقال: ناصر دين الله، و محبّ الدين، و لحدّ الآن لم يسمع موالي الله كما جاء أنصار الله. أليس من معاني المولى المنعم عليه؟ مع عدم مصاحبة كلمة (على) مع مولى، فهل يمنع الرازي و من قلّده من ذلك؟
فالشبهتان سخيفتان جدّاً؛ و لذا تقبل جمع كثير مجيء (مولى) بمعنى أولى.
قال القوشجي(2): إنّ المولى قد يراد به المعتق...، و الأولى بالتصرف، قال الله تعالى: (مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ)(3). أي أولى بكم، ذكره أبو عبيدة؛ و قال النبيّ (ص): «أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها»، أي الأولى بها و المالك لتدبير أمرها، و مثله في الشعر كثير.
و بالجملة: استعمال المولى بمعنى المتولّي و المالك للأمر و الأولى بالتصرف شائع في كلام العرب، منقول عن كثير من أئمة اللغة، و المراد أنّه اسم لهذا المعنى لا أنّه صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنّه ليس من صيغة أفعل التفضيل و أنّه لا يستعمل استعماله. انتهى كلامه. التفتازاني في محكيّ شرح المقاصد...
و نختم الكلام في دحض هاتين الشبهتين بما في صحيح مسلم(4) عنه (ص): «إن على الأرض من مؤمن إلاّ أنا أولى الناس به، فأيّكم ما ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه» و ما في صحيح البخاري عنه (ص): «... النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني و أنا مولاه».
ص: 218
أقول: فبهت الذي أنكر؛ إذ لا معنى للمولى هنا إلاّ أولى.
و أصرح من ذلك ما في صحيح مسلم و غيره عن رسول الله (ص): «لا يقل العبد لسيده مولاي». و زاد في حديث أبي معاوية - كما في الغدير -: فإنّ مولاكم الله».
و هذه الرواية الصحيحة تدلّ على أنّ المتبادر من كلمة مولى ليس إلاّ الأولى.
و أمّا الشبهة الثالثة فهي لا ترجع إلى محصّل أصلاً، فإنّه إن أريد بالاتباع لزوم متابعة الناس لعليّ (ع) كلزوم متابعتهم للنبيّ الأكرم (ص) فقد تمّ المطلوب؛ إذ لا نعني بالإمامة إلا ذلك، فقول أبي بكر و عمر لعلي (ع): أمسيت يابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، دليل آخر على المراد فإنّهما فهما من قول النبيّ عموم إمامته و لزوم متابعته على كلّ مسلم، و إن أريد أنّ عليّاً أولى بمتابعة النبيّ (ص) فهو مقطوع البطلان بلحاظ صراحة الحديث. و الاستشهاد بقول الشيخين حينئذٍ استشهاد بالنقيض على نقيضه!! و منه ينبثق جواب الشبهة الرابعة أيضاً؛ فإنّهما لو كانا خليفتين لم يجب اتباعه عليهما كما فهما. على أنّها في نفسها واضحة البطلان بداهة قبح نصب النائب الرابع و ترك تعيين النواب الثلاثة الأول، و هذا ممّا لا يقبله عقل عاقل فإنّه سفاهة بيّنة.
و قول المعترض: فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له، قريب من الهذيان أو هو هو؛ فإنّ البيعة عندهم سبب تامّ لانعقاد الإمامة فما معنى قيامه (ص) و كلامه في ذلك المحتشد الرهيب؟
و أمّا ما قيل من لزوم ثبوت خلافته في حياة النبيّ الأكرم (ص) ففيه أوّلاً: أنّ المتبادر من أمثال هذه الخطابات الواردة في تعيين النواب و الأوصياء و الخلفاء هو ثبوت النيابة بعد موت المنوب عنه أو غيبته.
و ثانياً: نلتزم بذلك و أنّه (ع) كان أولى بالناس - سوى النبيّ الأكرم (ص) - من أنفسهم غير أنّه طيلة حياة النبيّ الأكرم (ص) سكت عن الأمر و النهي، و لا محذور فيه أبداً، و قد تقدّم بيانه مفصلاً في أوّل هذا المقصد فلاحظ.
و أمّا الشبهة الخامسة فهي رجم بالغيب، إذ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، بل في كتاب سليم بن قيس الهلالي الذي هو من أصحاب أمير المؤمنين: أنّه (ع) احتجّ به كما قيل، و لا أقلّ من احتمال ذلك، و كذا احتجّ به يوم الشورى و في خلافة عثمان و في دورة خلافته الظاهرية. و معه تبطل الشبهة المذكورة.
الروايات على ولايته - سلام الله عليه - بعد النبيّ الأكرم (ص)، و هي كثيرة نذكر بعضها:
ص: 219
الأولى: رواية ابن عباس(1) قال: قال رسول الله (ص) لعلي بن أبي طالب: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي».
الثانية: رواية عمران بن حصين(2) قال: بعث رسول الله سرية.. إلى أن قال (ص): «إنّ عليّاً منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن بعدي».
الثالثة: رواية بريدة... إلى أن قال النبيّ (ص): «لا تقع في عليّ فإنّه منّي و أنا منه، و هو وليّكم بعدي، و إنّه منّي و أنا منه، و هو وليّكم بعدي»(3).
الرابعة: ما أخرجه الحاكم(4) عن ابن عباس و اعترف الذهبي بصحّته في التلخيص، و أحمد في مسنده(5) من حديث طويل ذكر فيه عشر خصائص لعلي (ع) إلى أن قال: و قال له رسول الله (ص): «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي».
الخامسة: قوله (ص): «... و أعطاني أنّك وليّ المؤمنين بعدي»(6).
و أخرجه الطبراني في الكبير هكذا: «لا تقل هذا لعليّ، فهو أولى الناس بكم بعدي».
و هذه الروايات الكثيرة قطعيّة الصدور عن النبيّ الأكرم (ص) و إن لم تكن متواترة لما ذكرناه ذيل حديث يوم الدار و يوم الإنذار فلاحظ.
نعم، قال ابن تيمية: إنّ حديث: «أنت ولي كلّ مؤمن بعدي» موضوع باتّفاق أهل المعرفة.
ص: 220
و لكنّني ما علمت من هم أهل المعرفة الذين قصدهم هذا الثرثار. و لا جواب له فقد ذكره ابن حجر - في محكيّ الفتاوي الحديثية -: ابن تيمية عبد خذله الله و أضله و أعماه و أذله، و بذلك صرح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله و كذب أقواله... و لم يقتصر اعتراضه على متأخّري الصوفيّة، بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب و عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه... أنّه قائل بالجهة و له في إثباتها جزء إلخ.
و على الجملة: الولاية الثابتة لعليّ (ع) بعد النبيّ ليس إلاّ الخلافة و الأولوية بالتصرف، و إلاّ فغيرها من المعاني الممكنة ثابتة له في حياته (ص) أيضاً، بل و لا تختصّ به (ع) فإنّها ثابتة لكلّ أحد. فما معنى هذه الروايات الدالّة على اختصاصها بعليّ (ع).
قوله (ص): «إنّ عليّاً وصيّي و خليفتي» و اليك بعض موارده:
الأوّل: رواية بريدة عنه (ص): «لكلّ نبيّ وصيّ و وارث، و إنّ وصيّي و وارثي على بن أبي طالب»(1).
الثاني: رواية سلمان الفارسي(2) قال: قال رسول الله (ص): «إنّ وصيّي و موضع سرّي و خير من أترك بعدي، ينجز عدتي، و يقضي ديني علي بن أبي طالب».
الثالث: رواية أبي أيوب الأنصاري(3) عنه (ص): «يا فاطمة أما علمت أنّ الله: عزّ و جلّ اطلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً ثمّ اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحي إليّ فانكحته و اتّخذته وصيّاً».
الرابع: ما أخرجه أحمد في مسنده عن سلمان أنّه قال: يا رسول الله من وصيّك؟ قال: يا سلمان من كان وصي أخي موسى؟ قال: يوشع بن نون. قال: فإنّ وصيّي و وارثي يقضي ديني و ينجز موعدي علي بن أبي طالب».
الخامس: ما مرّ في حديث يوم الدار، فلاحظ قوله (ص): «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم فاسمعوا له و أطيعوا انتهى. و هذا نص جليّ في المطلوب.
السادس: قول الحسن المجتبى (ع): «أنا ابن الوصي» كما نقله الحاكم في مستدركه(4).
ص: 221
السابع: ما أخرجه ابن مردوية الحافظ(1) بإسناده عن رسول الله (ص) أنّه قال في شأن عليّ (ع): «إن خليلي و وزيري و خليفتي، و خير من أتركه بعدي يقضي ديني. و ينجز موعدي علي بن أبي طالب».
ثامن: ما أخرجه البخاري(2) و مسلم(3) عن الأسود قال: ذكر عند عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبيّ (ص) أوصى إلى عليّ رضي الله عنه. فقالت: من قاله؟ لقد رأيت النبيّ و إنّي لمسندته إلى صدري فدعا بالطست فانخث فمات، فما شعرت، فكيف أوصى إلى عليّ؟!
قلت: إنّ الذاكر لعائشة وصيّة النبيّ لعليّ (عليهماالسلام) من الصحابة قهراً، و الصحابة عندهم عدول، فكانت رواية البخاري و مسلم هذه من أدلّة الوصيّة كما نبّه عليه بعض المتتبعين (قدس سره) في مراجعاته.
و أمّا إنكار السيدة عائشة لها حين موته (ص) فهي لا تنفي الوصيّة في غير ذلك الوقت، بداهة عدم منافاة الخاصّ مع العامّ كما عن السندي. عليّ أنّ لعائشة مواقف مشهورة قبال عليّ (ع) و ذريّة رسول الله (ص) و الله يعلم ما في قلبها. فظنّ خيراً و لا تسأل عن الخبر(4)
إنّ أمير المؤمنين أفضل من في الوجود بعد النبيّ الأعظم (ص) فضلاً عن كونه أفضل الأمّة، فيجب كونه هو الإمام دون غيره.
أمّا الصغرى فسيأتي أدلّتها مفصلاً إن شاء الله فيما بعد.
و أمّا الكبرى فلضرورة قبح تقديم المفضول على الفاضل.
الإمام بعد النبيّ الأكرم إمّا أمير المؤمنين و إما أبو بكر، لكن الثاني لا يليق بالإمامة و الخلافة فيتعيّن الأوّل إجماعاً، بيان ذلك:
ص: 222
أخرج البخاري في صحيحه(1) عن المسور بن مخزمة أنّ رسول الله (ص) قال: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني». و أخرج أيضاً عن عائشة(2) أنّ فاطمة (عليهاالسلام) ابنة رسول الله (ص) سألت أبا بكر الصدّيق بعد وفاة رسول الله (ص) أن يقسّم لها ميراثها ما ترك رسول الله (ص) ممّا أفاء الله فقال لها أبوبكر: إنّ رسول الله (ص) قال: لا نورث ما تركنا صدقة(3)، فغضبت فاطمة بنت رسول الله (ص) فهجرت أبابكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت. و عاشت بعد رسول الله ستة أشهر. و كانت فاطمة تسأل أبابكر نصيبها ممّا ترك رسول الله (ص) من خيبر و فدك و صدقته بالمدينة، الحديث.
أقول: و أنت إذا جعلت الحديث الثاني صغري، و الحديث الأوّل كبرى يحصل المراد و النتيجة و لا سيّما إذا التفت إلى ما أمرنا الله في كلّ يوم عشر مرات من أن نقرأ: (اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ * صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّٰالِّينَ)(4) و معلوم أنّ سلوك صراط المغضوب عليهم حرام.
و بصورة ثانية: الصراط صراطان: الصراط المستقيم، و الصراط غير المستقيم، فإذا تبيّن أنّ الثاني صراط ذلك الرجل، يكون الصراط المستقيم هو صراط عليّ (ع) لا محالة. فيجب أن نمسكه.
و من عجيب الأمر ما رواه الثعلبيّ - في الكشف و البيان - في قوله تعالى: (اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ). عن مسلم بن حيان قال: سمعت أبا بريدة يقول: صراط محمّد و آله.
و أخرج وكيع بن الجراح كما في تفسيره ذيل الآية المتقدّمة، عن سفيان الثوري، عن السدّي، عن اسباط و مجاهد، عن عبد الله بن عباس، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حبّ محمّد و آل بيته.
أقول: و من الظاهر أنّ كمال الحبّ هو العمل بما يرضي المحبوب و مجانبة أعدائه.
و أخرج الحمويني في الفرائد بإسناده عن أصبغ بن نباته عن عليّ (ع) في قوله تعالى: (وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرٰاطِ لَنٰاكِبُونَ)(5). قال: الصراط ولايتنا أهل البيت.
ص: 223
و أخرج الخوارزمي - في المناقب - الصراط صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأمّا صراط الدنيا فهو علي بن أبي طالب، و أمّا صراط الآخرة فهو جسر جهنم. من عرف صراط الدنيا جاز على صراط الآخرة.
و أخرج ابن عدي و الديلمي(1) عن رسول الله (ص) قال: «أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي و لأصحابي».
أقول: المراد صلحاء الأصحاب كما مرّ مفصّلاً.
و أخرج الحمويني بإسناده في فرائد السمطين في حديث عن الإمام الصادق (ع) قوله: «نحن خيرة الله، نحن الطريق الواضح، و الصراط المستقيم إلى الله.
و أخرج أبو سعيد في شرف النبوّة بإسناده عن رسول الله (ص) قال: «أنا و أهل بيتي شجرة في الجنة و أغصانها في الدنيا فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربه سبيلاً».
و قد تقدّم أيضاً بعض الروايات المناسبة للمقام. و سيأتي أنّ عليّاً مع الحقّ، فصراطه صراط الحقّ، و صراط الحق هو الصراط المستقيم. و هذه الأخبار تعاضد الإجماع المركّب المذكور.
الكبرى في هذا الدليل ليست مدلولة لحديث البخاري المتقدّم فقط ليكون الاستدلال ظنيّاً، بل هي ثابتة بالروايات الكثيرة المتواترة تواتراً إجمالياً، بل تواتراً معنوياً، فهي قطعيّة مع الغضّ عن القرينة التي ذكرناها في الدليل الثاني. (أي حديث يوم الدار) و إليك بعض صورها:
1 - ما أخرجه جمع كثير من الحفاظ و المحدّثين(2) ممّن يزيد عددهم على خمسة عشر شخصاً منهم الحاكم في مستدركه و صحّحه من قوله (ص) لفاطمة: «إنّ الله يغضب لغضبك، و يرضى لرضاك».
أقول: لاحظ المقصد الثالث من الصواعق(3).
2 - ما في الفصول المهمة(4) و نزهة المجالس(5) و نور الأبصار(6) من قوله (ص): و هو آخذ
ص: 224
بيدها: «من عرف هذه فقد عرفها، و من لم يعرفها فهي بضعة منّي هي قلبي و روحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني».
3 - ما أخرجه الشيخان و أحمد و أبو داود و الترمذي عن المسور بن مخزمة(1): «فاطمة بضعة منّي يريبني منّي مارابها و يؤذيني ما آذاها (ما يؤذيها)». أقول لاحظ من مسند أحمد(2) و الخصائص(3).
4 - ما أخرجه أحمد في مسنده(4) و هو مذكور في الصواعق أيضاً من قوله (ص): «فاطمة بضعة منّي يقبضني ما يقبضها، و يبسطني ما يبسطها»(5).
و نظير هذه المضامين قد ورد في حقّ أمير المؤمنين عليّ (ع) و هي صريحة في طهارتهما و عصمتهما كما يقول الإمامية، فإنّ من لم يتمحض رضاؤه بما يرضي الله به و لم يتخلص غضبه لما هو المبغوض عليه الله تعالى، و لم يكن ممّن لا يشاؤن إلاّ ما شاء الله لا يصحّ أن يقال في حقّه تلكم المضامين.
فنحن نقول بعصمتها و أنّ الله تعالى أذهب عنهما و عن أولادهما الرجس و طهّرهم تطهيراً. و نصرّح بعد ذلك أنّ مخالفتهم مخالفة لله و رسوله بعد هذه الروايات الصريحة الناصّة الّتي لا مجال للتردد في سندها و لا دلالتها.
و أمّا صغرى الدليل فهي أيضاً من المسلّمات التاريخية بلا نكير، و قد اعترف بها غير واحد من أعلام العامة، و الروايات في تلكم الفاجعة كثيرة.
فمنها: ما رواه البخاري أيضاً في باب غزوة خيبر من صحيحه(6) عن عائشة، أنّ فاطمة عليها السلام بنت النبيّ (ص) ارسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الهل (ص) ممّا أفاء الله عليه بالمدينة و فدك و ما يبقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله (ص) قال: لا نورث ما تركناه صدقة... فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً. فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلّمه حتّى توفّيت. وعاشت بعد النبيّ (ص) ستة أشهر. فلمّا توفّيت دفنها
ص: 225
زوجها عليّ ليلاً، و لم يؤذن بها أبو بكر و صلّى عليها.
و كان لعليّ (1) من الناس وجه حياة فاطمة فلمّا توفّيت استنكر على وجوه الناس! فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته، و لم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا، و لا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر. فقال عمر: لا و الله تدخل عليهم وحدك إلخ.
ففاطمة - صلى الله عليها - لم تزل غاضبة على أبي بكر حتّى مضت لسبيلها كما صرّحت به عائشة. و أبو بكر أغضبها بردّ مطالبتها منه. و قد روى هذه القصة مسلم في صحيحه(2) و الطبري في تاريخه(3) و الطحّاوي في مشكل الآثار(4) و البيهقي في سننه(5) و صاحب كفاية الطالب(6) و ابن كثير في تاريخه(7) و قال(8): لم تزل فاطمة تبغضه مدّة حياتها! و قضيّة عدم إيذان أبي بكر و غيره بالصلاة عليها أيضاً رواه جمع غفير.
و لابن قتيبة في كتابه(9) و الجاحظ في رسائل كلمتان قيّمتان من شاء الوقوف عليها فليراجعهما. و نحن ننقل بعض جملات من ابن قتيبة:
إنّ عمر قال لأبي بكر - رضي الله عنهما -: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً... فقالت - أي فاطمة (ع) - أرأيتكما أن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (ص) تعرفانه و تفعلان به؟ فقالا: نعم. فقالت نشدتكم الله ألم تسمعا رسول الله (ص) يقول: رضا فاطمة من رضاي، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، و من أرضى فاطمة فقد
ص: 226
أرضاني؛ ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله (ص) قالت: فإنّي أشهد الله و ملائكته أنّكما أسخطتماني و ما أرضيتماني. و لئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه. فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه و سخطك يا فاطمة! ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق و هي تقول: و الله لأدعونّ عليك في كلّ صلاة أصلّيها. الخ.
أقول: و نحن بعد هذا لا نحتاج إلى ذكر شيء آخر أبداً, فإنّه انجلى كلّ ما أردناه في استدلالنا من الروايات المذكورة بيد أنّ لبعض المتعسّفين كلاماً لابدّ من تفنيده.
فمنهم ابن كثير في تاريخه(1) قال: إنّ فاطمة حصل لها و قي امرأة من البشر ليست براجية العصمة - تعتب و تغضب و لم تكلّم الصدّيق حتّى ماتت. و قال(2) في مورد آخر: و هي امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفون, و ليست بواجبة العصمة. مع وجود نصّ رسول الله (ص) و مخافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهما.
أقول: فزضنا أنّها غير معصومة - و عصمتها ثابتة بآية التطهير و نفس هذه الروايات - إلّا أنّ هذه الروايات دلّت على أنّ غضبها غضب الله, و المغضوب عليه لها مغضوب عليه لله!.
و معلوم أنّ المغضوب عليه لله تعالى لا يستخلف عن رسول الله (ص) فما تكثير ابن كثير بمنير!.
و منهم الفضل بن روزبهان يقول معترضاً على كلام العلّامة الحلّي (قدس سره): فأمّا غضب فاطمة فهو من العوارض البشريّة, و البشر لا يخلو من الغضب, و الغاضب على الغير قد يغضب لغرض ديني لقصور المغضوب عليه في أداء حقّ الله تعالى, و هذا الغضب من باب العداوة الدينيّة. و ما ذكر من الحديث: إنّ الله يغضب لغضب فاطمة. فالظاهر أنّ المراد هذا الغضب.
قلت: ما أوهن كلامه و أسخف اعتذاره, أليس يشعر أنّ إثبات قسمين من الغضب - ديني و غير ديني - لفاطمة و حمل الروايات عى الأوّل منهما يلحق الروايات المذكورة باللغويات, فإنّ الله يغضب لكلّ غضب ديني صدر من أيّ أحد, بلا فرق في ذلك بين الصدّيقة (ع) و غيرها من المؤمنين, مع أنّ الروايات المذكورة واردة في مقام مدحها و فضيلتها بالضرورة.
و إنّي اعتقد أنّ لبن روزبهان يعلم أنّ الروايات المذكورة تدلّ على عصمتها (عليهاالسلام) و تخبر عن أنّها لا تغضب إلّا على ما غضب الله عليه لكنّه يتمجمج لما يترتّب عليه من اللوازم التي يعلمها كلّ عاقل. و نحن نقول: الحقّ أحقّ أن يتبع.
و أمّا مسألة فدك و تحقيق القول فيها فهي خارجة عن غرضنا لحصوله بمجرد غضب
ص: 227
فاطمة (عليهاالسلام) كما عرفت. مع أنّ الكلام حولها طويل الذيل غير أنني أقول كلمة مختصرة و هي: أنّ فاطمة الصدّيقة ادّعت أنّ رسول الله (ص) نحلها فدكاً, وردّها أبوبكر و لم يقبل إخبارها بالنحلة, و طلب منها البيّنة و حينما جاءت بعليّ و الحسنين لم يرضَ بهم شهوداً.
نقول أيّها الأخوان الكرام: هل الخليفة احتمل الكذب في إخبار فاطمة بالنحلة و شكّ في صدق شهادة أمير المؤمنين و الحسنين أم علم صدقها و صدّقهم(1)؟ فإن اختير الدوّل؟ فقد ردّ صريح القدآن فإنّه يذهب عنها و عنهم الرجس, ضرورة أنّ الكذب لأجل اغتصاب الأموال من أظهر أفراد الرجس. و إن اختير الثاني فقد آل محمّد في حقّهم و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
ثمّ إذا أغمضنا النظر عن كون فدك موهوبة و منحولة, فنقول: إنّها موروثة. و ما جاء به الخليفة من نسبة قوله إلى رسول الله (ص): نحن معاشر الأنبياء لانورث, ما تركناه صدقة.
ليس من الكلمات النبويّة, بل من مقتضيات السياسة, فإنّه لو كان حقّاً لما خفي على باب مدينة العلم أمير المؤمنين الذي هو وارث علمه بالإجماع, و هو الذي يبيّن لأمّته ما اختلفوا فيه, و لا سيّما أنّه أقضاهم(2) و لقبح من النبيّ الحكيم إخفاؤه عن أهله و عشيرته قاطبة مع تعلّقه بهم, و ذلك يوجب القطع بكذب الخبر المذكور.
و أمّا ما يوجد في صحيح البخاري و غيره من إقرار أمير المؤمنين بصحّة الحديث فهو موضوع جزما؛ لاستلزامه سلب عدالة الصدّيقة الطاهرة فإنّها - كما مرّ - كانت غاضبة على الخليفة حتّى ماتت و كانت تدعو عليه, و مع إقرار أمير المؤمنين بصحّة الحديث كيف جازت لها (عليهاالسلام) أن تغضب عليه, أليس هو غضب على حكم الله و تشريعه, و على من ينفّذ أمر الله و قانونه؟ أو أنّها لم تصدّق عليّاً في إخباره طيلة حياتها بعد النبيّ الأكرم (ص)؟.
و بعبارة أخرى: المسلم العاقل لا بدّ له من الحكم بسلب عدالة أحد الطرفين و عدم مبالاته بالدين و القرآن، فإنّ الجمع بين عدالتهما - كما عرفت - غير ممكن أصلاً، و حيث إنّ هذا الحكم في حقّ الصدّيقة الزهراء و زوجها غير ممكن للكتاب و السنة و اتّفاق المسلمين، فإنّهم بين من يرون عصمتهما و بين من يعتقد عدالتهما يتعين في الطرف الآخر كما يقول به جميع الشيعة، و هذا هو أحد دلائل التخصيص للعموم الدالّ على عدالة جميع المهاجرين الأوّلين السابقين، فافهم المقام و إيّاك أن تغلبك العصبيّة و الحميّة الجاهليّة.
ص: 228
و في المقام رزايا و مصائب أخرى لا نرى صلاحاً لذكرها لجهات يعلمها الفطن الذكي؛ غير أنّي أقصّ عليك جزءاً منها؛ و هو ما عن الطبري في تاريخه من أنّ الثاني أتى منزل عليّ، فقال: و الله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ للبيعة. و ذكر الواقدي أنّه جاء إلى عليّ في عصابة فيهم أسيد بن الحصين و سلمة بن أسلم فقال: اخرجوا أو لنحرقنّها عليكم.
و نقل ابن جواهة في غرره - كما في إحقاق الحقّ - قال زيد بن أسلم: كنت ممّن حمل الحطب مع الثاني إلى باب فاطمة حين امتنع عليّ و أصحابه عن البيعة أن يبايعوا. فقال لفاطمة: أخرجي من في البيت و إلاّ لنحرقنّه و من فيه. قال: و في البيت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و جماعة من أصحاب النبيّ (ص) و قالت فاطمة: تحرق على ولدي؟ قال: أي و الله، أو ليخرجنّ و ليبايعنّ!!! و للقصّة ذيل طويل، و قد تعرّض له - بعض التعرّض - ابن عبد ربه، و صاحب كتاب المحاسن و أنفاس الجواهر من علماء العامّة.
قال المنافس الأوّل - في حديث صحيح السند عند أتباعه - في مرضه الذي توفّي فيه لعبد الرحمن بن عوف في كلام طويل له: فأمّا الثلاث اللاتي وددت أنّي تركتهنّ، فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، و إن كانوا قد غلقوه على الحرب...
أقول: و لكن لات حين مناص.(1)
قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ * صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (2). و تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم. و قد بيّن هؤلاء المنعم عليهم بقوله: فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ (3).
و علي (ع) أفضل الصدّيقين و الشهداء و الصالحين، فوجب متابعة صراطه.
أخرج ابن النجّار(4) عن ابن عباس: أنّ النبيّ قال: الصدّيقون ثلاثة: حزقيل مؤمن آل فرعون؛ و حبيب النجار صاحب يس؛ و علي بن أبي طالب.
ص: 229
و أخرج أبو نعيم و ابن عساكر(1) عن أبي ليلى أنّ رسول الله قال: الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجار... و حزقيل... و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم! و نقله الرازي أيضاً في تفسيره.
و أخرج الطبراني عن سلمان و أبي ذر و البيهقي و العدني عن حذيفة، و الهيثمي في المجمع، و الكنجي في الكفاية عن رسول الله (ص): «أنّ هذا أوّل من آمن بي، و هو أوّل من يصافحني يوم القيامة، هو الصدّيق الأكبر و فاروق هذه الأمّة، و يفرق بين الحقّ و الباطل، و هذا يعسوب المؤمنين». و زاد الكنجي: «و هو بابي الذي أوتى منه، و هو خليفتي من بعدي».
و أخرج جمع(2) عن ابن عباس و أبي ذر قالا: سمعنا النبيّ (ص) يقول لعليّ: أنت الصدّيق الأكبر، و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحقّ و الباطل.
و أخرج جمع كثير منهم أبن أبي شيبة بسند صحيح، و النسائي في الخصائص بسند رجاله ثقات و الحاكم في المستدرك و صحّحه عن عليّ أنّه قال: «أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب مفتر».
و أخرج ابن قتيبة و محبّ الدين و السيوطي و غيرهم عن معاذ قال: سمعت عليّاً و هو يخطب على منبر البصرة: «أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبوبكر، أسلمت قبل أن يسلم أبوبكر».
و أخرج أحمد و الحاكم بسند صحيح(3) عن عمّار بن ياسر أنّ النبيّ قال لعليّ: أشقى الناس رجلان: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة. و الذي يضربك - يا عليّ - على هذه يعني قرنه؛ حتّى يبلّ منه هذه - يعني لحيته - و قد ورد ذلك من حديث عليّ و صهيب و جابر و غيرهم.
و أخرج الطبراني(4) و أبو عليّ بسند رجاله ثقات إلاّ واحد منهم فإنّه موثّق أيضاً أنّه (ص) قال يوماً: من أشقى الأوّلين؟ قال - عليّ -: ألذي عقر الناقة... قال (ص): فمن أشقى الآخرين؟ قال: لا علم لي... قال الذي يضربك على هذه و أشار (ص) إلى يافوخه(5).
أقول: فإذا كان قاتله أشقى الآخرين فهو أسعد الشهداء المرضيين و أمّا أنّه من الصالحين،
ص: 230
فمضافاً إلى وضوحه يدلّ عليه ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَ صٰالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ)(1) و أنّه نزل في حقّه، فافهم جيّداً.
قوله تعالى: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ (2).
بيان الدلالة: أنّ الآية نزلت في شأن أمير المؤمنين (ع) حين تصدّق بخاتمه و هو في الصلاة، كما دلّت عليه روايات كثيرة أخرجها حفّاظ العامّة و محدّثوهم بطرقهم و أسنادهم(3). حتّى دعا بعض أصحابنا تواترها من طريقهم وحده مع الغض عمّا ورد من طرقنا. و إن فرضنا عدم تواترها من جانبهم لكانت أيضاً مفيدة للقطع لما قدّمناه ذيل حديث يوم الدار و الإنذار من القرينة العامّة، فلاحظ.
و قد ادّعى القوشجي في شرح التجريد - في موضعين - إجماع المفسّرين أيضاً على ذلك. و لا أقل من دلالة هذا الإجماع على ذهاب كثير من المفسّرين إليه.
ثمّ إنّ الولاية المذكورة في الآية ليست بمعنى المحبّة و النصرة؛ لأنّهما لا تخصّان عليّاً (ع)
ص: 231
بل هما ثابتان لجميع المؤمنين. قال الله تعالى: (اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ)(1) و كلمة «إنّما» تحصر الولاية المذكورة بجمع خاصّ، و هم المؤمنون المصلّون الذين يؤتون الزكاة في حال الركوع. و أيضاً ليس من شرط المحبّة و النصرة إيتاء الزكاة في الركوع قطعاً، و كم من محبّ و ناصر (للمؤمنين) و لا زكاة عليه، أو يؤتيها في غير حال الصلاة، و هذا ضروري.
و الآية الكريمة تدلّ على تقييد الولاية - دلالة ظاهرة لا يشكّ فيها عاقل غير عنيد - بالّذين يؤتون الزكاة و أيضاً: أنّ كلّ عاقل عارف بالعربيّة يفهم أنّ الآية الكريمة جعلت المؤمنين قسمين: قسماً من عليهم الولاية، و هم المخاطبون بقوله تعالى: (إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ)(2) و قسماً من لهم الولاية، و هم المراد بقوله: تعالى: (وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا..) و الآية ظاهرة - حقّ الظهور - أنّ من له الولاية غير من عليه الولاية و أنّ حكم الأوّل غير الآخر بداهة أنّ التقسيم يقطع الشركة، فلا يصحّ تداخل الأقسام.
و النتيجة على ضوء ذلك كلّه أنّ الولاية المذكورة لا يجوز أن تراد بها المحبّة و النصرة فإنّهما عامّتين لجميع المؤمنين بلا قيد و اعتبار شرط. و إذن لا بدّ أن تكون بمعنى السيادة و التولية و الأولوية المساوقة للإمامة العامّة. و هذا هو المطلوب.
إلاّ أنّ القوم لم يرضوا بهذا المعنى و تصدّوا لهدم ظهور الآية بذكر شبهات! و في طليعة هؤلاء المتصدّين أو في زمرتهم الفخر الرازي في تفسيره فإنّه بعدما نقل استدلال الشيعة على إمامة أمير المؤمنين (ع) اعترض عليه بوجوه:
1 - إنّ سياق الآيات يشهد بأنّ المراد بالولاية المذكورة في الآية هي المحبّة و النصرة؛ إذ قبل الآية قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ (3) و بعدها قوله: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ (4).
و الولاية المذكورة فيهما هي المحبّة أو النصرة.
قلت: التشبث بالسياق بعد الدليل القائم على بطلانه من نفس الآية الشريفة غريب، على أنّ تدريجيّة نزول الآيات و عدم نزولها دفعة واحدة ممّا يهوّن أمر السياق في نفسه فكيف إذا
ص: 232
خالفه الدليل؟ و نحن قد ذكرنا دليلاً قطعيّاً على أنّ الولاية في الآية ليست بمعنى النصر و المحبّة.
2 - لزوم إمامة أمير المؤمنين (ع) في حياة النبيّ الأكرم - بعد نزول الآية - مع أنّه باطل قطعاً.
قلت: دعوى القطع جزافيّة، بل نحن نلتزم به، و نقول بثبوتها له (ع) في حياة النبيّ الأكرم، كما تقدّم تفصيله في أوائل هذا المقصد فراجع.
نعم، إنّه (ع) ما تصدّى للأمر و النهي و إظهار الآمرية على الناس في حياته (ص)، بل كان يعيش كغيره من الأصحاب، و هذا أمر آخر.
و لو فرضنا امتناع الولاية و الإمامة في حياة صاحب النبوّة، نقول المستفاد من أمثال بيان هذه المناصب حسب متفاهم العرف هو ثبوت المنصب بعد غيبة الأصيل أو وفاته كما مرّ، فلا محذور فيه أيضاً و مفاد الآية ثبوت الولاية فعلاً للوصيّ (ص) بعد وفاة النبيّ الأكرم فالثبوت فعليّ، و الثابت استقبالي.
3 - حمل ألفاظ الجمع - كما في الآية الشريفة - و إن جاز على الواحد على سبيل التعظيم لكنّه مجاز، و الأصل حمل الكلام على الحقيقة. هكذا ذكر الرازي، و لكنّ بعض من تأخّر عنه - كصاحب تفسير المنار و غيره - زاد: أنّ التعبير عن المفرد بالجمع ممّا لا يقع في كلام الفصحاء.
أقول: أمّا عدم الوقوع في كلام الفصحاء فيزيف بقوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ... تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)(1) و قد صحّ أنّ المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشاً.
و بقوله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا إِلَى اَلْمَدِينَةِ (2) انتهى.
قالوا: إنّ القائل به عبد الله بن أبي و بقوله: يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ (3) و السائل عنه واحد. و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ...(4)
و قد ورد أنّ المنفق أمير المؤمنين، و قيل إنّه أبوبكر. و بقوله تعالى: (اَلَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ اَلنّٰاسُ..)(5) قيل: القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده بإجماع المفسّرين و المحدّثين و أهل الأخبار.
ص: 233
و بقوله تعالى: (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ)(1) و إنّما بسط يده إليهم رجل واحد من بني محارب يقال له غورث, و قيل هو عمر بن جحاش, فافهم.
و بقوله: نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ (2) كما سيأتي بفصيله إن شاء الله.
و أمّا كون الاستعمال مجازاً فيه, فجوابه أنّ لفظ الجمع استعمل في مفهومه, و لكنّ مثداقه واحد خارجاً و بعبارة واضحة: استعمال اللفظ في فرد شخصي ابتداء أمر, و استماله في أمر كلّي مقيّد بقيود لا ينطبق إلّا على فرد خاصّ أمر آخر, و الأوّل مجاز و الثاني حقيقة.
و لنا أن نقول بتعدّد المصداق أيضاً و إنّ المراد بهم الأئمة الهادية من العترة النبويّة كما سيأتي.
4 - إنّ علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض! فلو كانت هذه الآية دالّة على إمامته لا حتج بها في محفل من المخافل, مع أنّه لم يتمسّك بها. و ذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله(3).
قلت: من أخبره أنّه (ع) لم يحتج بها و هل يجعل جهله دليلاً على عدم وجوده(4).
ثمّ أليس لإمامته دليل آخر غير هذا لينحصر استدلاله به؟ و لعمر الله إنّ دلائل إمامته أكثر من أن تحصى كما يظهر للمتتبّع في السنّة النبويّة.
و له تلفيقات واهية أخرى تركنا تزييفها لظهور فسادها في نفسها أو بما ذكرنا في دفع شبهاته المذكورة, و من المؤسف أنّ العصبية و اللجاج أحاطته بحدّ أنكر إفادة كلمة «إنّما» الحصر! و استشهد بقوله تعالى: (اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ..)(5). قائلاً: و لا شكّ أنّ اللعب و اللهو قد يحصل في غيرها، و عمي عليه أو تعامى أنّ كلمة «إنّما» في قوله تعالى:
ص: 234
(أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ) في سورة الحديد بفتح الهمزة، و في دلالتها على الحصر اختلاف بين النحاة، بل يظهر من بعض أساطينهم أنّه لم يقبل به إلاّ الزمخشري، و أين هي من كلمة «إنّما» بكسر الهمزة الدالة على الحصر لغة و عرفاً و اتّفاقاً.
ثمّ إنّ هذا المتلسف المغرور و جهل أنّ الآية من قصر الموصوف على الصفة، دون العكس كما هو واضح عند المبتدئين، و إلاّ لم يتفوّه بمنافاة حصول اللعب و اللهو في غير الدنيا للحصر.
ثمّ ما هو سفسطة هذا الرجل في قوله تعالى: (وَ مٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ)(1). فهل يقول إنّ كلمة «ما و إلاّ» أيضاً لا تفيد الحصر؟!! و الواقع أنّ اللهو لا يحصل في غير الحياة الدنيا أي الحياة الدانية. و إلاّ كانت الحياة علياً لا دنياً و عليه يحمل قوله تعالى في سورة محمّد (ص) (إِنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ)(2) بكسر الهمزة. و بكلمة أوضح بياناً: أنّ الحياة على قسمين: علياً و دنياً.
و الأولى - أي الحياة العليا - عبارة عن تحصيل رضاء الله تعالى بتوسط الأعمال الصالحة، و لا لغو و لا لغوب و لا باطل فيها.
و الثانية - أي الحياة الدنيا - هي الحياة الحيوانية بما لها من المجالي و المظاهر. و كلمة «الدنيا» في الآية صفة، لا مضاف إليها، فافهم.
و الإنصاف أنّ إنكار الحصر من تلك الكلمة لا يقلّ عن إنكار رفع الفاعل و نصب المفعول.
نعم، يمكن استعمالها في غير الحصر مجازاً في بعض الموارد إن ثبت، و هذا لا يعني أنّهما غير دالّة على الحصر مطلقاً.
لكن من سبر سيرة الرازي يعلم أنّه لا يأبى عن الحكم بجواز اجتماع النقيضين إن توقّف عليه إنكار فضيلة من فضائل أمير المؤمنين؛ و لذا تصدّى حول آية النجوى لتقبيح الصدقة بين يدي نجوى الرسول و ترجيح تركها خلافاً لله تعالى! ليزيل النقص عن الخلفاء و الفضل عن أمير المؤمنين (ع) قل موتوا بغيظكم إنّ الله يتمّ نوره و لو كره...
5 - ما ذكره في تفسير المنار من أنّ التعبير بإعطاء الخاتم ب - (يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ)(3) ممّا لم يقع في كلام الفصحاء.
أقول: هب أنّ الصحابة الذين رووا نزول الآية في حقّ عليّ (ع) كذبوا و المحدّثين و المفسّرين افتروا. فهل هؤلاء الخلق الكثير من العجم أو من العرب و أهل اللسان؟ فكيف لم
ص: 235
ينكروا هذا الاستعمال و لا استعمال الجمع في الفرد، ألم يكونوا عارفين باللغة و قواعدها كما يعرفها الرازي العجمي، و صاحب المنار المصري؟!! فهل هذا الإشكار و ما قبله إلاّ من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ؟!!
6 - ما ذكره بعضهم من أنّ الاستدلال بها على خلافة عليّ لا يتم إلاّ بناءً على أنّ كلمة (إنّما) للحصر الحقيقي، و لو تمّ الاستدلال لبطل على الشيعة أحد عشر إماماً؛ لأنّ الحصر الحقيقي لا يتحقّق في غير عليّ لعدم استجماع هذه الصفات فيمن بعده من أئمتهم.
و جوابه ما في رواية أحمد بن عيسى عن أبي عبد الله الصادق (ع)... فكلّ من بلغ من أولاده - أي أولاد أمير المؤمنين (ع) مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدّقون و هم راكعون. و السائل الذي سأل أمير المؤمنين (ع) من الملائكة، والذين يسألون الأئمة من أولاده يكونون من الملائكة. انتهى.
فإذن الحصر المستفاد من الآية لا ينافي إمامة بقيّة الأئمة (عليهم السلام)، و لا يخفى أنّ احتمال هذا الأمر يكفي لإسقاط الشبهة المذكورة من غير أن نجعل الرواية حجّة عليهم فلا تغفل.
على أن الحصر بالنسبة إلى محاطبي الآية (إنّما وليكم الله) لا بالنسبة و المعدومين في ذلك الزمان، فإن الآية غير ناظرة إليهم.
قول رسول الله (ص): «الخلفاء بعدي اثنا عشر و هو آخر أدلّتنا في هذا الكتاب(1) و إليك ما حصلته من الروايات الدالة عليه:
ص: 236
1 - ما أخرجه البخاري في صحيحه(1) بإسناده عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ (ص) يقول: يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها. فقال أبي: إنّه قال: «كلهم من قريش».
2 - ما في هامشه - نفس الموضع(2) - و لعلّه من شيخ الإسلام قال: ما رواه أبو داود عن جابر بن سمرة بلفظ: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. قال فبكى الناس و ضجّوا. فلعلّ هذا سبب خفاء الكلمة المذكورة على الجابر. ذكره شيخنا. انتهى كلام محشّي صحيح البخاري.
3 - ما أخرجه مسلم(3) عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبيّ (ص) فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة». ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ. قال: قلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش».
4 - ما أخرجه فيه عنه أيضاً قال: سمعت النبيّ (ص) يقول: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً». ثمّ تكلّم النبيّ بكلمة خفيت عليّ، فسألت أبي ما ذا قال رسول الله (ص) فقال: «كلّهم من قريش».
5 - ما أخرجه عنه أيضاً عن النبيّ (ص) بهذا الحديث، و لم يذكر: لا يزال أمر الناس ماضياً.
6 - ما أخرجه عنه أيضاً يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة». ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: «كلّهم من قريش».
7 - ما أخرجه عنه أيضاً قال: قال النبيّ (ص): «لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة». ثمّ تكلّم بشيء لم أفهمه، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلّهم من قريش.
8 - ما أخرجه عنه أيضاً قال: انطلق إلى رسول الله (ص) و معي أبي فسمعته يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمنيها الناس. فقلت لأبي ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش».
9 - ما أخرجه بإسناده عن عامر ابن سعد ابن أبي وقّاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله (ص). قال: فكتب إليّ سمعت رسول الله (ص) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: «لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو(4)
ص: 237
يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».
10 - ما أخرجه بإسناده أيضاً عن عامر أنّه أرسل إلى ابن سمرة العدوي: حدثنا ما سمعت رسول الله (ص). يقول فذكر نحو حديث حاتم.
أقول: يعني به الحديث المتقدّم - التاسع -.
11 - ما أخرجه أحمد في مسنده(1) بإسناده عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود(2) و هو يقرئنا القرآن. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله (ص) كم تملك هذه الأمّة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك. ثمّ قال: نعم، و قد سألنا رسول الله (ص) فقال اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل!
12 - ما في كنز العمال(3): أنّ عدّة الخلفاء بعدي عدّة نقباء موسى. رواه ابن مسعود أيضاً عنه.
13 - ما في الصواعق(4) لابن حجر قال: أخرج البغوي بسند حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة. أبوبكر لا يلبث إلاّ قليلاً(5). ثمّ قال ابن حجر: قال الأئمة: صدر هذا الحديث مجمع على صحّته، وارد من طرق عديدة أخرجه الشيخان و غيرهما، فمن تلك الطرق:
14 - قوله (ص): «لا يزال هذا الأمر عزيزاً ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش».
رواه عبد الله بن أحمد بسند صحيح.
15 - قوله (ص): «لا يزال هذا الأمر صالحاً...».
ص: 238
16 - قوله (ص): «لا يزال هذا الأمر ماضياً...» الخ رواهما أحمد. ثمّ بعد نقل ثلاث روايات من مسلم في صحيحه قال: و منها (أي من تلك الطرق) للبزاز.
17 - قوله (ص): «لا يزال أمر أمّتي قائماً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش. زاد أبو داود: فلما رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثمّ يكون ماذا؟ قال: «ثمّ يكون الهرج»(1).
18 - و منها لأبي داود - قوله (ص) -: «لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم تجتمع عليه الأمّة(2).
19 - ما ذكره في الفصل الثاني من الباب الحادي عشر(3) قال: الحديث (39) أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة أنّ النبيّ (ص) قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش».
20 - ما في هامش الصواعق نقلاً عن مسدد في مسنده الكبير عن أبي الجلد أنّه قال: «لا تلك هذه الأمّة حتّى يكون منها اثنا عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى».
هذا ما وجدته في كتبهم، بلا واسطة، و إليك ما وقعت عليه بوساطة علمائنا الأعلام.
21 - ما في إحقاق الحقّ من قول العلاّمة الحلّي (قدس سره): و في صحيح مسلم و البخاري في موضعين بطريقين عن جابر و ابن عيينة قال رسول الله (ص): «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش». قال ابن روزبهان في شرحه...: و أمّا ابن عيينة فهو ليس بصحابي و لا تابعي، بل يمكن أن يكون أحد سلسلة الرواة. فقد سلم الطريقين غير أنّه ناقش في وصف ابن عيينة.
و هكذا يظهر من غير واحد من العامّة وجود الرواية في صحيح البخاري لكنّها غير موجودة في نسختي من الصحيح المذكور. فالرواية كنظائرها قد لاقت الحذف في الطبعات الأخيرة، و كذلك يفعلون.
22 - ما فيه أيضاً يقوله: و في الجمع بين الصحاح الستة في موضعين قال رسول الله (ص): «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش. و كذا في صحيح أبي داود، و الجمع بين الصحيحين.
23 - ما فيه أيضاً من قوله: و قد ذكر السدي في تفسيره و هو من علماء الجمهور وثقاتهم
ص: 239
قال: لما كرهت سارة مكان هاجر أوحى الله إلى إبراهيم الخليل فقال: انطلق بإسماعيل و أمّه تنزله بيت النبيّ التهامي يعني مكّة، فإنّي ناشر ذريّته؛ و جاعلهم ثقلاً على من كفر بي؛ و جاعل منهم نبيّاً عظيماً، و مظهره على الأديان؛ و جاعل من ذريّته اثني عشر من ذريّة محمّد (ص).
24 - ما عن المناقب(1) بالإسناد عن أنس قال: قال النبيّ (ص) لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر أميراً من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها.
25 - ما عنها أيضاً(2) عن عبد الرحمن، عن أبي بكر بن ثابت الخطيب في تاريخ بغداد، عن حمّاد، عن أبي الطفيل قال: قال لي عبد الله ابن عمر: يا أبا طفيل اعدد اثني عشر خليفة بعدالنبيّ (ص) ثمّ يكون بعده النقف و النقاف.
26 - ما عنها أيضاً: و ممّا رواه أبو الفرج محمّد بن فارس الغوري المحدّث بإسناده، عن أنس قال: قال رسول الله (ص): يكون منّا اثنا عشر خليفة ينصرهم الله على ماناواهم، و لا يضرهم من عاداهم.
27 - ما نقله المجلسي عن جامع الأصول لابن الأثير عن الترمذي بإسناده: قال النبيّ (ص): «يكون من بعدي اثنا عشر» ثمّ تكلّم بشي لم أفهمه، فسألت الذي يليني فقال: قال: «كلهم من قريش».
28 - ما نقله العلاّمة المتتبع صاحب عبقات الأنوار(3) عن شهرداربن شيرويه الديلمي في مسند الفردوس الكبير، عن أبي سعيد الخدري قال: صلى بنا رسول الله صلاة الأولى، ثمّ أقبل بوجهه الكريم علينا، فقال: «يا معاشر أصحابي إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح و باب حطّة في بني إسرائيل، فتمسّكوا بأهل بيتي بعدي، الأئمة الراشدين من ذريتي، فإنّكم لن تضلّوا أبداً» فقيل يا رسول الله: كم الأئمة بعدك؟ قال: «اثنا عشر من أهل بيتي» أو قال: «من عترتي».
29 - ما نقل بعض أصحابنا عن فرائد السمطين(4) للحمويني بإسناده عن رسول الله (ص): «إنّ وصيّي و الخليفة من بعدي علي بن أبي طالب (ع) و بعده سبطاي الحسن و الحسين، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمة أبرار».
30 - ما نقله أيضاً عن السيد محمّد صالح الترمذي الحنفي في كتابه الكوكب الدري(5)
ص: 240
بسنده عن سلمان الفارسي قال: دخلت على النبيّ و إذا الحسين على فخذه، و هو يقبّله عينيه وفاه و يقول: «أنت سيّد و ابن سيّد، أنت إمام ابن إمام، أنت حجّة ابن حجّة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم».
31 - ما نقله بعض المستبصرين عن مسند أحمد(1) بإسناده، عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (ص) يقول في حجة الوداع: «لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه، و لا يضرّه مخالف و لا مطارق، حتّى يمضي من أمّتي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش.
32 - ما نقله هو أيضاً عن كنز العمال(2) عن النبيّ (ص) أنّه قال: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة».
33 - ما نقله بعض الفضلاء بعد نقل جملة من تلك الروايات(3) قال: و قد روى أحمد بن حنبل في مسنده و غيره من الجمهور عن النبيّ (ص) أنّه قال للحسين: «أنت السيد... أبو الحجج التسعة من صلبك تاسعهم قائمهم». ثمّ قال السيد المذكور: و نحوه مروي عن الطبري و غيره. و ليس في نسخهم أخو السيد، و أخو الإمام، و أخو الحجّة، و الظاهر أنّه سقط انتهى.
34 - ما في البحار(4): روى في المستدرك من كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم عن الشعبي عن ابن سمرة قال: جئت مع أبي المسجد و النبيّ يخطب قال: سمعته يقول: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة»، ثمّ خفض صوته، فلم أدر ما يقول. فقلت لأبي: ما يقول؟ قال: قال: «كلّهم من قريش».
قال أبو نعيم: و رواه الشعبي عن جماعة.
أقول: فلا ينحصر الرواية بجابر وحده، و قد ظهر من الروايات السابقة أيضاً، و نشير إليه فيما بعد أيضاً.
35 - ما فيها أيضاً بالإسناد عن ربيعة بن سيف قال: كنّا عند سيف الأصمعي فقال: سمعت عبد الله بن عمرو العاص يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: «يكون خلفي اثنا عشر خليفة».
36 - ما نقله بعض الفضلاء عن سليمان الحنفي في ينابيع المودة(5) و عن الحمويني في فرائد السمطين عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «أنا و عليّ بن أبي طالب
ص: 241
و الحسن و الحسين و تسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون».
37 - و عن سلمان أنّ رسول الله وضع يده على كتف الحسين و قال: «إنّه الإمام ابن الإمام تسعة - من صلبة أئمة أبرار أمناء معصومون».
38 - ما نقله بعض أجلاّء العصر عن كنز العمّال(1) من قوله (ص): «يكون لهذه الأمّة اثنا عشر خليفة قيّماً لا يضرّهم من خذلهم، كلّهم من قريش». قال صاحب الكنز: أخرجه الطبراني عن جابر بن سمرة. ثمّ قال المعاصر المذكور: و ذكره الهيثمي أيضاً في مجمعه(2) و قال: «لا يضرّهم عداوة من عاداهم»، فالتفتّ خلفي فإذا بعمر بن الخطاب في أناس، فاثبتوا ليّ الحديث كما سمعت. و قال: و رواه الطبراني أيضاً.
و على الجملة: الروايات الدالّة على أنّ خلفاء النبيّ (ص) اثنا عشر كثير جداً، رويت بطرقنا و طرق العامّة بأسانيد مختلفة و مضامين متقاربة.
فعن المناقب كما في البحار(3) أنّ أحمد بن حنبل روى في مسنده عن جابر بن سمرة بأربع و ثلاثين طريقاً. و عن ينابيع المودّة(4) هم يحيى بن الحسن الفقيه في كتابه العمدة أنّه روى الحديث باثني عشر طريقاً. - و عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين رواية الحديث بستّة طرق. و قال بعض السادة: و قد رووا في هذا المعنى أخباراً كثيرة تنيف على ستّين حديثاً كلّها تشمل على ذكر الاثني عشر، و في بعضها أسمائهم.
أقول: ترتقي الروايات الدالّة على ذلك بمختلف أسنادها و متفاوت ألفاظها إلى ثلاثمئة(5)
ص: 242
و في عدّة منها تصريح بأسمائهم، و هي أسماء الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام).
و الذي اتّفق عليه هذه الروايات المتجاوزة عن حدّ التواتر، و تسالم عليه أئمة الحديث كما صرّح به ابن حجر في كلامه السابق: أنّ عدد الخلفاء بعد النبيّ اثنا عشر.
فنقول: ما معنى هذا؟ و من هؤلاء؟ و لا يمكن لطائفة أن تطبق الروايات المذكورة على مسلكها إلاّ الإمامية القائلين بأنّ الأئمة و خلفاء النبيّ اثنا عشر شخصاً لا غير.
فهذه الروايات - بلا حاجة إلى بيان و تقريب - تنادي بصراحة على حقيقة مذهبنا و صحّته و إبطال طريقة من خالفنا، سواء أكانوا من العامّة أو من الشيعة غير الإمامية. و ما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال.
قال قائل منهم(1): لعلّ المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث أنّهم يكونون في مدّة عزّة الخلافة و قوّة الإسلام و الاجتماع على من يقوم بالخلافة، و قد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أنّ اضطرب أمر بني أمية زمن الوليد بن يزيد.
و جاء آخر منهم(2) فحذف كلمة «لعلّ» و جعل القول المذكور أحسن ما قيل في الحديث.
و فسّر الذين اجتمع الأمّة عليهم بالخلفاء الثلاثة ثمّ عليّ ثمّ معاوية! ثمّ ولده يزيد!!! ثمّ عبد الملك! ثمّ أولاده الأربعة: الوليد! و منهم الخلفاء الأربعة و الحسن و معاوية و ابن الزبير و عمر بن عبد العزيز، و احتمل بعضهم المهديّ العباسيّ، و الطاهر العباسيّ، و يبقى المنتظران أحدهما المهديّ.
ص: 243
و قال رابع(1): إنّهم صلحاء الخلفاء من قريش، و هم الخلفاء الخمسة و عبد الله بن الزبير و عمر بن عبد العزيز و خمسة أخر من خلفاء بني عباس!.
هذه هي أقوالهم في هذا المقام، و لكنّني لا أظنّ بهؤلاء القائلين أن رضي ضميرهم بما قالوه، فإنّ طواغيت بني أميّة و على رأسهم معاوية لو جعلوا خلفاء الشيطان؛ لكان عاراً عليه! فكيف ينبغي لهم أن يجعلوهم خلفاء الرسول المعصوم الخاتم (ص)؟ أو قد قصم ظهر الإسلام غيرهم حتّى يكون أمره عزيزاً في زمان حكومتهم؟ أغيرهم أبغض الناس إلى رسول الله (ص)(2) حتّى يعتزّ بهم؟!.
فشياطين بني أميّة و أبالسة بني عباس لا يصلحون لحماية الأطفال في مدارسهم و لا يؤتمنون على رعي غنم فضلاً عن الرئاسة العامّة على جميع المسلمين في أمور دينهم و دنياهم، خلافة عن أشرف الرسل و أفضل الموجودات، و لو أنّنا تصدّينا لنقل أحوال هؤلاء الجبابرة الأشقياء و الفراعنة اللعناء من الشجرة الملعونة في القرآن و إخوانهم من العباسيين، من قتل نفوس أبرياء و هتك أعراض معصومة و نهب أموال كثيرة و سائر المعاصي الكبيرة لطال بنا المقام و لخرجنا عن وضع الكتاب، و لكنّ التاريخ نعم ضابط.
فليراجع إليه من شاء، و علماء أهل السنة أيضاً غير غافلين عن ذلك كلّه؛ و لذا حصروا الخلافة بالأربعة و جعلوا غيرهم من الملوك، و إن جعل بعض المغرورين معاوية من الخلفاء إلاّ أنّه جعل بعده ملكاً عضوضاً، و لكنّهم في خصوص المقام يعدّون غير الأربعة المذكورة أيضاً من الخلفاء فراراً عن ما تشير إليه تلك الروايات، و حفظاً على كيان مذهبهم، لكن لو رجعوا إلى الحقّ لكان خيراً لهم.
أضحوكة و أعجوبة: أخرج نعيم بن حمّاد - في الفتن - كما في كنز العمّال(3) مرفوعاً عن عبد الله بن عمر: قال رسول الله (ص): تكون على هذه الأمّة اثنا عشر خليفة: أبو بكر الصدّيق أصبتم اسمه. عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه. عثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوماً، أوتي كفلين من الرحمة، ملك الأرض المقدّسة(4)، معاوية و ابنه ثمّ يكون السفّاح، و منصور، و جابر، و الأمين، و سلام، و أمير العصيب لا يرى مثله، و لا يدرى مثله!!!.
و لكنّ الحديث مع كونه مرفوعاً ضعيف بنعيم بن حمّاد فإنّه يضع الحديث في تقوية السنّة!
ص: 244
كما قال الأزدي.
و كان الحري بالواضع أن يذكر عمر بن عبد العزيز عوض يزيد بن معاوية؛ لئلا يكون كذبه جليّاً، و أمّا جابر و الأمين و سلام و أمير العصيب فلعلّهم خلفاء في الثابتات الأزلية أو وراء جبل القاف؛ إذ لا وجود لهم في هذه الكرة الأرضية!!! و أمّا الخليفة الثاني عشر فلا تسأل عنه!!
و للفضل بن روزبهان كلمة أخرى حول هذه الروايات و إليك تعبيره: و أمّا حمله - أي الحديث - على الأئمة الاثني عشر فإن أريد بالخلافة وراثة العلم و المعرفة و ايضاح الحجّة و القيام بإتمام منصب النبوّة فلا مانع من الصحّة و يجوز هذا الحمل، بل يحسن!!!(1) و إن أريد به الزعامة الكبرى و الولاية العظمى فهذا أمر لا يصحّ؛ لأنّ من اثني عشر اثنين كانا صاحب الزعامة الكبرى، و هما عليّ و حسن، و الباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى، و لو قال الخصم: إنّهم كانوا خلفاء لكن منعهم الناس عن حقّهم.
قلنا: و سلمت أنّهم لم يكونوا خلفاء بالفعل، بل بالقوة و الاستحقاق؛ و ظاهر أنّ مراد الحديث أن يكونوا خلفاء قائمين بالزعامة و الولاية؛ و إلاّ فما فائدة خلافتهم في إقامة الدين، انتهى كلامه.
أقول: مرادنا من الخلافة ما ذكره أوّلاً من وراثة العلم و المعرفة و إيضاح الحجّة و القيام بإتمام منصب النبوّة و قد سلمهالنا، ثمّ نقول له: فهل الزعامة الكبرى و الولاية العظمى إلاّ هذه؟ و هل الخلافة المبحوث عنها سوى القيام بإتمام منصب النبوّة؟!
و أمّا الاستيلاء على الناس و الغلبة الظاهرية عليهم فهو خارج و أجنبي عن مفهوم النيابة و الخلافة، ألا ترى أنّ هارون (ع) خليفة لموسى (ع) مع أنّ القوم استضعفوه، و كادوا أن يقتلوه بنص القرآن، بل: (يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(2).
و هذا نوح شيخ الأنبياء ينادي: (رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(3). و هذا خليل الرحمن يقول: (وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ)(4). و هل قوله هذا إلاّ من عدم قدرته على دفع
ص: 245
منكرات أمّته؟ و هذا ابن خالته لوط الذي يقول لقومه: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ)(1) و هكذا، فالغرض من بعثة الأنبياء و الأئمة الأوصياء ليس ما لا يتمّ إلاّ بالقهر و الغلبة كما حسبه ابن روزبهان، بل هو ما يتمّ بدون ذلك من إتمام الحجّة و هداية من أراد الاهتداء كما ينطق به القرآن، إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
فحينئذٍ لا بدّ من الاعتراف بأن لا معنى للروايات الشريفة إلاّ إثبات حقّيّة مذهب الشيعة و إمامة الأئمة الاثني عشر من العترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين.
مسألة تعيين الخليفة من الموضوعات الجزئيّة الخارجيّة، دون الأحكام الكلّية، فلا يستقلّ بها العقل وحده، بلا ضمّ مقدّمة نقليّة، و ليست ممّا نصّ القرآن عليه نصّاً صريحاً لا يتوقّف إثباته على السنّة و غيرها، و لا ممّا اتّفق الكلّ عليه حتّى نستغني عن البرهان بالإجماع فيصبح المرجع الوحيد في إثباتها هو السنّة النبويّة، و هي بين كونها تمام مادّة القياس و عنصر الاستدلال، و بين كونها بعضها ينضمّ إليها جزء آخر من القرآن أو العقل أو الإجماع لاستنتاج المطلوب، كما يظهر من ملاحظة الأدلة المتقدّمة.
لكن هنا مشكلة ربّما تجول في أذهان القاصرين لا بدّ من حلّها و فكّها و هي أنّ السنّة النبويّة - و نعني بها هنا أقوال الرسول الأعظم (ص) إنّما وصلت إلينا بطريقين: طريق الأصحاب و كتب العامّة، و طريق أهل البيت و كتب الخاصّة - الشيعة - لا يصحّ الاحتجاج بما وصل بالطريق الثاني مطلقاً لا إثباتاً للواقع، و لا إلزاماً للخصم.
أمّا الأوّل فلعدم صحّة إثبات رتبة النبوّة و الخلافة بمجرّد قول نفس المدعي(2).
أمّا الثاني فلعدم اعتقاد الخصم بحجّية الطريق المذكور.
ص: 246
و أمّا الاستدلال بالواصل بالطريق الأوّل فهو و إن يصحّ جدلاً و إلزاماً للخصم، لكنّه لا يغني عن الحقّ الواقع شيئاً؛ لما سبق من بطلان عدالة كلّ صحابي و وثاقته، و لا سيّما أنّ أرباب الكتب و رواة الروايات أيضاً غير معتمدين عندنا.
و انطلاقاً من هذه النقطة نفقد سطح الاتكاء، و لا يتحقق لنا ركن شديد نأوي إليه لإثبات المطلوب.
و الجواب أنّ اعتمادنا في ذلك على السنّة النبويّة الواصلة من طريق الخصم، و هي تصلح برهاناً و جدلاً.
أمّا الثاني فواضح.
أمّا الأوّل، فللقطع بصحتها؛ فإنّها بين ما هو متواتر، و بين ما هو محتفّ بقرينة قاطعة؛ إذ رواة تلك الروايات و من أخرجها في كتبهم ينكرون خلافة أمير المؤمنين (ع) أشدّ الإنكار، و يصدّون لإخفائها بكلّ الوسائل، و يبرّرون لأجله كلّ وسيلة، فلا يعقل في حقّهم الكذب و تزوير القول لإثباتها و نقيض ما يشتهون فإنّا نسلب منهم الوثاقة دون الدراية، و العاقل لا يكذب؛ لبطلان مرامه، و هذا واضح.
فإن قلت: إنّهم كما أخرجوا الأحاديث الناصّة على خلافة أمير المؤمنين (ع) كذلك نقلوا الروايات الدالّة على خلافة خلفائهم و حقّيّة مذهبهم، فتكون الروايات من طريقهم متضاربة متعارضة تسقط عن الحجّيّة.
قلت: لا تعارض أصلاً؛ فإنّهم ما نقلوا روايات تدلّ على خلافة خلفهائهم و لا ادّعوا ذلك، و سيأتي اعترافهم بعدم وجود النصّ، و أنّ المعتمد عندهم هو الإجماع. و سوف نبرهن لك - قطعياً - أنّ ما ادّعاه بعض محدّثيهم من النصّ على خليفتهم كذب جليّ و قول مختلق لا أساس له، مع أنّه على تقدير وجوده، ثمّ على فرض صحّته و عدم القطع بجعله نقول أنّه خبر واحد يعارضه الروايات المتواترة. بل المتجاورة عن حدّ التواتر بكثير، و من البديهي لزوم طرح مثل هذا الخبر الواحد.
لا يقال: نعم، لكن هناك روايات كثيرة أخرى نسبوها إلى النبيّ الأكرم (ص) تدلّ على فضائل الخلفاء الثلاثة و كرامتهم، و هي تعارض بالدلالة الالتزامية ما يدلّ على خلافة أمير المؤمنين (ع) إذ أخذ الخلافة لا يلائم الفضيلة.
فإنّه يقال: الروايات الدالّة على خلافة عليّ (ع) ممّا اتّفق عليه جميع المسلمين و نقلها الكلّ، و تلكم الروايات اختصّ بنقلها البعض، و حكم العقل و سبيل الرشد و الاحتياط هو أخذ المتّفق عليه و ترك المختلف فيه، قال الله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبٰادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ
ص: 247
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(1).
و لا بدّ من ذلك لأنّ الذين أسّسوا روايات الفضائل عناصر غير صالحة انتخبتهم السياسة الأموية، و غلبتهم النزعة الطائفية البغيضة، أو المادية الدنيئة كما يعلم ذلك ممّا سبق. و الله على ما نقول وكيل.
و المتحصّل: أنّ ما بنينا عليه إثبات مذهبنا من الأساس، و به علمنا انتقال الخلافة و الوصاية إلى أمير المؤمنين عليّ (ع) فتدينا به؛ و نتقرب به إلى الله سبحانه و تعالى، و به نحتجّ يوم الحساب هو قول النبيّ الخاتم (ص) الواصل إلينا من طريق الأصحاب و كتب العامة - أهل السنة -؛ فإنّه ثبت لنا بما يزيد عن التواتر بمرّات، يحيث يتيقّن كلّ لبيب مطّلع أنّ إنكار خلافة عليّ (ع) غير ممكن مع الاعتقاد بنبوّة النبيّ الخاتم (ص) فإنّ الإيمان به و بصدق ما جاء به يستلزم الإيمان بخلافة عليّ (ع) فالنواصب و من يحذو حذوهم يجب أن ينكروا نبوّة النبيّ الأكرم (ص) أولا ليتمكنوا من جحد ولاية الأمير ثانياً.
قال جمهور أهل السنّة و المعتزلة و الخوارج: إنّ رسول الله (ص) لم ينصّ على أحد. و عن بعض محدّثيهم أنّه (ص) نصّ على أبي بكر نصّاً ظاهراً كما في الصواعق لابن حجر(2).
قال في المواقف و شرحها(3): لنا وجهان:
الأوّل: أنّ طريقه إمّا النصّ، أو الإجماع بالبيعة. أمّا النصّ فلم يوجد؛ لما سيأتي، و أمّا الإجماع فلم يوجد على غير أبي بكر اتّفاقاً من الأمّة.
الثاني: الإجماع منعقد على حقّيّة إمامة أحد الثلاثة: أبي بكر، و عليّ، و العباس، ثمّ إنّهما لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن على الحقّ لنازعاه، كما نازع عليّ معاوية؛ لأنّ العادة تقتضي بالمنازعة في مثل ذلك، و لأنّ ترك المنازعة مع إمكانها مخلّ بالعصمة، فإنّه معصية كبيرة، و الشيعة يوجبون العصمة في الإمام، و يجعلونها شرطاً لصحّة إمامته.
لا يقال: لا نسلّم إمكان المنازعة.
لأنّا نقول: عليّ في غاية الشجاعة و التصلّب في الأمور الدينية، و فاطمة مع علوّ منصبها زوجته، و الحسن و الحسين ولداه، و العباس مع علوّ منصبه عمّه، و الزبير مع شجاعته كان معه،
ص: 248
حتّى قيل إنّه سلّ السيف و قال لا أرضى بخلافة أبي بكر. و لو كان على إمامة عليّ نصّ جليّ لأظهروه قطعاً، و لأمكنهم المنازعة، كيف و أبو بكر عند الشيعة شيخ ضعيف لا مال له، و لا رجال و لا شوكة. فأنى يتصوّر امتناع المنازعة معه.
أقول: أمّا النصّ فقد عرفت تحقّقه على خلافة أمير المؤمنين و أفضل الصدّيقين (ع) و أمّا الإجماع و البيعة فقد عرفت بطلانها و عدم حجّيتهما بوجه لا يشكّ فيه عاقل.
و هنا نزيد و نقول: سلّمنا وثاقة الأصحاب، سلّمنا حجّيّة الإجماع(1) لكن نمنع تحقّق الإجماع؛ فإنّ أمير المؤمنين و بني هاشم و على رأسهم سيّدي شباب أهل الجنة و سيّدة أهل الجنة، و سلمان و أباذر، و مقداد، و عمّار، و الزبير، و خزيمة بن ثابت، و أبي بن كعب، و فروة بن عمر بن ورقة الأنصاري، و البرّاء بن عازب، و خالد بن سعيد و طلحة، و سعد بن عبادة و ولده، و طائفة من الخزرج، و سعد بن أبي وقّاص و عتبة بن أبي لهب، و أبا سفيان لم يبايعوا أبابكر، و أنكروا عليه(2).
هل هؤلاء لم يكونوا من أهل الحلّ و العقد؟! و هل إنّهم أدون من أبي عبيدة الحفّار الجراح؟! أو إنّ الوحي نطق بأنّ بيعة الحفّار و من مثله تكفي للخلافة الإسلامية بحيث لو خالفها بعد ذلك أحد لا بدّ أن يهدّد بالقتل و الإحراق؟!..
قالوا: نعم، لم ينعقد الإجماع على خلافة الخليفة ابتداءً، لكن لما بايعه الناس حتّى عليّ عن كمال طوعه و رضاه انعقد الإجماع عليها.
نقول لهم: فسلّمتم أنّ عليّاً و جماعة آخرين تخلفوا عن البيعة مدّة، و لا بد أن تعترفوا به، فإنّ رواياتكم شاهدة بذلك، و قد مرّ قول عائشة - كما في صحيح البخاري -: و كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة؛ فلمّا توفيت استنكر على وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر و مبايعته و لم يكن يبايع تلك الأشهر، انتهى. أي أشهر حياة فاطمة و هي ستّة.
و على الجملة: عدم مبايعة علي لأبي بكر من الضروريات التاريخيّة(3) فإنكاره حماقة و سفسطة، و حينئذٍ نقول: ما هو علّة ذلك مع أنّ الخروج عن طاعة الإمام إمّا كفر أو فسق و عليّ (ع) إمّا معصوم و إمّا عادل؟ الذي يمكن أن يعتذر به أمور أربعة لا خامس لها:
ص: 249
1 - اعتقاده (ع) باستحقاق نفسه للخلافة، و بعدم أهليّة أبي بكر لها.
2 - تماميّة أمر الخلافة بمن تيسّر حضوره للبيعة من أهل الحلّ و العقد فلا حاجة لبيعته و حضوره.
3 - تأخيره عن المشورة، فقد نسبوا إليه (ع) أنّه قال عند مبايعة أبي بكر: إلاّ أنّا أخّرنا عن المشورة، و إنّا لنرى أنّ أبا بكر أحّق الناس بها، فتردّد عليّ (ع) و تخلّفه عن البيعة لم يكن للطعن في خلافة أبي بكر، بل لأجل عدم المشورة معه فإنّ له حقّا فيها.
4 - حلفه (ع) أن لا يرتدي بردائه حتّى يجمع القرآن إلاّ للصلاة.
الأوّل هو مذهب الإمامية، و الثاني ذكره بعض العامّة، و الأخيران مذكوران في رواياتهم.
أقول: أمّا الوجه الثاني فضعيف؛ فإنّ بيعة الإمام و الإقرار بإمامته واجبان، و المفروض أنّ أمير المؤمنين لم يبايع أبابكر، و ليس الإشكال في عدم حضوره في مجتمع السقيفة حتّى يدفع بما زعم.
و أمّا الوجه الثالث فهو سخيف؛ فإنّه يستلزم سلب عدالة عليّ (ع) فإنّ تأخيرهم إيّاه عن المشورة لا يسوغ تخلّفه عن بيعة الإمام و طاعته؛ و مفاد هذا العذر أنّ الداعي إلى ترك هذه الفريضة المهمّة هو غلبة هوى نفسه عليه. و هذا باطل بالضرورة الإسلامية.
و أسخف منه الوجه الرابع؛ فإنّه كيف يرتدي لإقامة الصلاة في المسجد و يحلف عن الارتداء للبيعة الواجبة؟ ثمّ ما قيمة اليمين تجاه الواجبات و المحرّمات؟ فهذه المفتعلات و المفتريات لا تفيدهم شيئاً، و لا مناصّ إلاّ من الالتزام بالوجه الأوّل و حيث إنّه (ع) ممّن أذهب الله عنه الرجس و إنّه باب مدينة العلم و إنّه مع الحقّ و الحقّ مع نقطع ببطلان خلافة أبي بكر، و منه ينبثق أنّ مبايعته بعد وفاة الصدّيقة كانت عن إكراه، و إلاّ لبطل عدالته أو عصمته كما عرفت.
و كيف لا يكون عن إكراه فقد علمت سابقاً أنّهم همّوا إحراق بيت فاطمة و هي بنت رسول الله فإذا لم يسلم بيت مثلها من معرضيّة النار فبيت من يسلم منها؟!
و مع هذا كيف يمكن دعوى رضاء المسلمين بخلافة أبي بكر؟
يقول شاعر النيل الحافظ إبراهيم في قصيدته العمرية التي شرحها جمع(1) مفتخراً:
و قولة لعليّ قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها
حرقت دارك لا أبقي عليك بها *** إن لم تبايع و بنت المصطفى فيها!
ص: 250
ما كان غير أبي حفص بقائلها *** أمام فارس عدنان و حاميها!
و لا يبعد أنّ عليّاً (ع) خاف على نفسه بعد فوت فاطمة (ع) فاضطر(1) إلى مبايعة حاكم الوقت، فأين الإجماع و البيعة العامّة؟ بل ما تمّ في يوم السقيفة - لا بارك الله به - لم يكن إلاّ مؤامرة دنيئة دبّروها ضدّ الوصيّ الحقّ عليّ (ع) و لقد انطق الله عمر حيث نادى في آخر عمره(2) - و هو مؤسس هذه الدعاية، و مخترع هذه السانحة -: ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: و الله لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ أمرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة و تمت، ألا و إنّها قد كانت كذلك! و لكنّ الله وقى شرها... من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين - قوله هذا تمهيد لخلافة أخيه عثمان! - فلا يبايع هو و لا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. إلخ.
و أعجب منه قول أبي بكر نفسه: إنّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرّها و خشيت الفتنة.
و عن تاريخ الطبري: أنّها كانت فلتة كفلتات الجاهليّة، و في الصواعق: فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه.
أقول: أمّا وقاية الله شرّها فلعمر الله إنّها كاذبة و قد استطال شرّها - شهد الله - لحد الآن و سيدوم إلى الآخر، و نحن لا نحسب الفتن و الشرور الحادثة في الإسلام إلاّ من ندوة السقيفة، و هي النقطة لانطلاق حكومة بني أمية الفسقة، و سلطنة بني عباس الفجرة. و تمكّن غيرهم من الحكّام الظلمة، و تكون الفرق الضالّة المنحرفة عن مبادئ الإسلام و نشوب القتال و العداء بين المسملين، بل هي السبب لانحطاط الإسلام و المسلمين.
و أمّا قول أبي بكر: - فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه - فقد نساه نفسه حين ولّى عمر و نصبه خليفة بعده، و إلاّ لم يجعل عمر في معرض القتل!.
و أمّا عدم منازعة عليّ (ع) معهم تبيّن كذبه ممّا قلنا؛ إذ نفس مبايعته (ع) منازعة و تصريح بعدم أهلية غيره.
و من كلامه (ع) لأبي بكر و أصحابه(3) على سبيل الجدل و الإلزام: أنا أحقّ بهذا الأمر منك، لا أبايعكم، و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ (ص) و تأخذوه منّا أهل البيت غصباً! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما
ص: 251
كان محمّد منكم، فأعطوكم المقادة، و سلّموا إليكم الإمارة. فإذاً احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، و نحن أولى برسول الله حيّاً و ميّتاً. فأنصفونا إن كنتم مؤمنين!! و إلا فبوؤا بالظلم و أنتم تعلمون.
فقال له عمر: إنّك لست متروكاً حتّى تبايع، فقال له عليّ: احلب حلباً لك شطره! و شدّ له اليوم يمدّده عليك غداً! انتهى. و لقائله:
فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي و أقرب
و إن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا و المشيرون غيب
و اخترط الزبير سيفه و يقول: لا أغمده حتّى يبايع عليّ، فقال عمر: عليكم الكلب(1)! فأخذوا سيفه من يده. كما عن الإمامة و السياسة و تاريخ الطبري(2) و الرباض النضرة(3) و غيرها.
و ذكر ابن قتيبة: أنّ عليّاً كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله على دابّة ليلاً في مجالس الانصار، تسألهم النصرة فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، و لو أنّ زوجك و ابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليّ كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه انتهى.
و أمّا أنّه لم يحارب أبا بكر كما حارب معاوية فوجهه، واضح فإنّ القوم بايعوا أبا بكر و لم يكن مع عليّ إلاّ نفر قليل، لا يمكنهم منازعة المخالفين و محاربتهم؛ فخوف أبي بكر و ضعفه لا يكونان دليلاً على تمكّن عليّ من حرب جماعة كثيرة من أهل المدينة و غيرها بالضرورة، فقياس حربه و معه جيشه مع ابن آكلة الأكباد على المقام من أسخف الأمور، على أنّ في قعوده و الاكتفاء بمجرد البيان و الكلام - سواء صدر عنه (ع) أو عن الصدّيقة الطاهرة (عليهاالسلام) أو عن أصحابه الأجلاّء كما احتجوا على أبي بكر في المسجد دون القيام بالسيف و السنان مصالح أخرى يعرفها المخلصون الكاملون، لا نذكرها، و إنّما نختم الكلام بذكر بعض الروايات الواردة من طريق الجمهور:
فمنها: ما أخرجه الحاكم(4) و صحّحه هو و الذهبي و الخطيب في تاريخه(5) و ابن كثير في
ص: 252
تاريخه(1) و المتّقي في كنز العمال(2) من قوله (ص) لعليّ (ع): «إنّ الأمة ستغدر بك».
منها: ما أخرجه هو أيضاً و صحّحه و كذا الذهبي(3) و أخرجه غيره أيضاً من قوله (ص) له (ع): «أما إنّك ستلقى بعدي جهداً. قال عليّ: في سلامة من ديني؟ قال (ص): في سلامة من دينك».
و منها: ما أخرجه ابن عساكر و المحبّ الطبري في الرياض نقلاً عن أحمد في المناقب، و غيرهم من قوله (ص): «ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلاّ من بعدي».
و منها: ما أخرجه الحافظ بن مردويه بإسناده عن ابن عباس(4) قال خرجت...: «ثمّ ضرب - النبيّ - على رأسه و لحيته، و بكى حتّى على بكاؤه فقال عليّ: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّى يفقدوني».
و منها: ما عن كنوز الدقائق للمناوي(5) من قوله (ص) له: «يا علي إنّك ستبتلي بعدي فلا تقاتلن».
و منها: ما عن الخطيب الخوارزمي في المناقب(6) مسنداً عن عبد الله بن مسعود قال: كنت مع رسول الله، و قد أصحر فتنفّس الصعداء، فقلت: يا رسول الله ما لك تنفّس؟ قال: يابن مسعود نعيت إليّ نفسي. فقلت: يا رسول الله استخلف. قال: من؟ قلت: أبا بكر. فسكت! ثمّ تنفّس. فقلت: يا رسول الله ما لي أراك تتنفّس؟ قال: نعيت إليّ نفسي. فقلت: فقلت: استخلف يا رسول الله. قال: من؟ قلت: عمر بن الخطاب. فسكت! ثمّ تنفّس، قال: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: نعيت إليّ نفسي. فقلت: يا رسول الله استخلف. قال: من؟ قلت علي بن أبي طالب. قال: أوه، و لن تفعلوا إذاً أبداً. و الله لو فعلتموه ليدخلنّكم الجنّة.
و رواه ابن كثير في البداية(7) عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، عن أبي عبد الله محمّد بن علي الآدمي، عن إسحاق الصنعاني، عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن أبي ميناء، عن عبد الله بن
ص: 253
مسعود. كما في الغدير(1).
و بعد ذلك لا أرى شيئاً يحتاج إلى الإيضاح فقد بان كلّ شيء.
الثالث: من أدلّة العامّة قوله تعالى: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً(2).
بيان ذلك: أنّ الله وعد المؤمنين الصالحين من الحاضرين في زمان النبيّ (ص) بالخلافة و تمكين الدين المرضي، و حيث لا خلافة في حياة النبي (ص) لغيره لا بد أن يكون الموعودون بعده و ليسوا هم إلاّ الخلفاء الراشدين؛ لأنّ في أيّامهم كانت الفتوح العظيمة، و حصل التمكين و ظهور الدين و الأمن.
أقول: نتساءل من هؤلاء المتعسّفين هلا يكون المسلمون في حياة النبيّ - و لا سيّما في أواخر عمره الشريف - متمكّنين من دينهم المرتضى؟ أليسوا مطمئنين آمنين و عابدين ربّهم بلا خوف؟ لا يسعهم إلاّ الإقرار و الاعتراف بالإثبات بالضرورة، قال الله تعالى: (اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ)(3) فيبطل تلفيقهم نهائيّاً، فإنّ الموعودين هم المؤمنون الحاضرون. و قد وفى الله بوعده إيّاهم في حياته (ص)، فمعنى الاستخلاف ليس هو الرئاسة و الإمامة، بل إسكانهم الأرض و تمكينهم من إظهار الشعائر الإسلامية بلا خوف، كما في قوله تعالى في حقّ بني إسرائيل: (عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ)(4). و يؤيّده أيضاً قوله تعالى: (كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(5). كما ليس بسر.
و بالجملة: حصول الأوصاف المذكورة في حياة النبيّ الأكرم (ص) للمؤمنين الصالحين دليل قطعي على أنّ المراد بالاستخلاف ليس هو معناه الاصطلاحي، نزلنا عنه لكن ما الدليل على حمل الاستخلاف على غير معناه اللغوي؟ و من الضروري أنّ اللفظ المذكور لم يكن متداول الاستعمال في المعنى المصطلح الفعلي في حياته (ص) حتّى يتخيّل نقله أو انصرافه إليه. فهل الحمل المذكور إلاّ التحكّم؟!.
قال الرازي في تفسير الآية: فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأنّها تقتضي حصول الخلافة
ص: 254
لكلّ من آمن و عمل صالحاً، و لم يكن الأمر كذلك، قلنا: إنّ كلمة من للتبعيض؛ فقوله: (منكم) يدلّ على أنّ المراد بهذا الخطاب بعضهم.
أقول:
فإن كنت لا تدري فهي مصيبة *** و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
كلمة «من» الظاهرة في التبعيض لم تدخل على قوله «الذين» حتّى يكون المراد بعض المؤمنين، بل دخلت على ضمير الخطاب، فالتبعيض راجع إلى المخاطبين دون المؤمنين الصالحين، و الآية - كجملة من الآيات المتقدّمة المؤيّدة بالروايات الكثيرة السابقة - دليل على وجود الكافرين و المنافقين و الفاسقين في الصحابة و أنّ المؤمنين بعضهم، و إلاّ لقال: وعدكم الله أيّها الذين آمنوا، انتهى.
و هذا البيان دليل آخر على امتناع حمل الاستخلاف على الخلافة غير الصالحة لجميع المؤمنين إلاّ بتصرّف في ظهور الآية، و هذا بخلاف حمله على ما ذكرنا فإنّه لا يحتاج إلى شيء من التصرّف و التأويل، و لله الحمد.
فإن قلت: على ما ذكرت يشكل الأمر في الروايات الواردة من طريق الشيعة الدالّة على أنّ المراد بالموعودين هم أئمة آل البيت (عليهم السلام).
قلت: حمل الآية عليهم (عليهم السلام) من باب الجري و التطبيق لا من باب الحصر أو من باب التأويل دون التفسير، فافهم جيّداً.
الرابع: قوله تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ سَتُدْعَوْنَ إِلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقٰاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّٰهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً(1).
قالوا: ليس الداعي إلى هؤلاء القوم لطلب الإسلام النبيّ الأكرم (ص) لقوله تعالى: سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلىٰ مَغٰانِمَ لِتَأْخُذُوهٰا ذَرُونٰا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاٰمَ اَللّٰهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونٰا كَذٰلِكُمْ قٰالَ اَللّٰهُ مِنْ قَبْلُ (2) فإذا علم النبيّ أنّهم لا يتبعونه، لا يدعوهم إلى القتال، و أيضاً فإنّ المخلّفين لم يدعوا إلى المحاربة في حياته (ص)، كذا ليس الداعي عليّاً (ع) لأنّه لم يتّفق له في أيّام خلافته قتال لطلب الإسلام بل لطلب الإمامة و رعاية حقوقها، و لا من بعده من الولاة لأنّهم عندنا ظلمة(3) و عندهم - أي الشيعة - كفّار فلا يليق بهم قوله: فإن تطيعوا. فذلك
ص: 255
الداعي الذي يجب باتباعه الأجر الاحسن و بتركه العذاب الشديد أحد الخلفاء الثلاثة، و يلزم خلافة أبي بكر لعدم القائل بالفصل.
أقول: من راجع تفسير الرازي ذيل الآيتين الشريفتين يعلم بطلان هذا الاستدلال نهائيّاً - و كفى الله المؤمنين القتال - بيد أنّا نذكر ما يظهر سقوطه جليّاً.
نقول: أوّلاً إنّ الداعي هو النبيّ الأكرم (ص)، قولهم إنّه كان عالماً بعدم متابعتهم إيّاه فكيف يدعوهم؟ ممنوع؛ إذ لا دلالة لقوله: (لَنْ تَتَّبِعُونٰا) على نفي متابعتهم مطلقاً، بل في خصوص غزوة خيبر كما يظهر من الآية، و اعترف به الرازي في أحد احتماليه، و قوله: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ)(1) كان في غير هذا؛ و هم المخالفون في غزوة تبوك. و أمّا احتماله الأوّل فهو أن تقدّر الآية: كذلك: لن تتبعونا و أنتم على ما أنتم عليه، قال: و يجب هذا التقييد لأنّا أجمعنا على أنّ منهم من أسلم، و حسن إسلامه، بل الأكثر ذلك، و مع القول بإسلامهم ما كان يجوز أن يمنعهم من الجهاد في سبيل الله مع وجوبه عليهم، إلخ.
فالاستدلال بالآية باطل بإجماعهم! نزلنا عن جميع ذلك، و سلمنا أنّه (ص) على عدم متابعتهم مطلقاً؛ و لكن هذا لا يوجب عدم دعوتهم إلى القتال، ضرورة أنّ العصيان ليس من مسقطات التكليف و موانع الأمر و النهي، ألا ترى أنّ الله سبحانه و تعالى يعلم أنّ الكفار و المنافقين و الفاسقين لا يؤمنون و لا يصلّون و لا يصومون و لا يزكّون و لا يحجّون أبداً، و مع ذلك أمرهم بها كما أمر المؤمنين الأتقياء.
فلا منافاة بين العلم بعدم المتابعة و الدعوة إليها، و إنّما المنافاة بينه و بين الأخبار بوقوع المتابعة.
و قد حقّقنا ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب فلاحظ.
و أمّا قولهم: أيضاً أنّ المخلّفين لم يدعوا إلى المحاربة في حياته فمكابرة، و أسخف منه ما تفوّه به بعض الأغبياء المرجفين من أنّه أجمع الفريقان - يعني الشيعة و العامّة - أنّه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلاّ غزوة تبوك، و لم يقع فيها لا القتال و لا الإسلام(2).
أقول: أليس صلح وقع في العامّ السادس؟ و غزة الخيبر في العالم السابع؟ و محاربة الموتة التي استشهد فيها جعفر بن أبي طالب الطيار (ع) و كان عسكر الكفار مئة ألف جندي أو أكثر، في العام الثامن؟ و فيه محاربة ذات السلاسل التي تولّى فيها الشيخان أبو بكر
ص: 256
و عمر عن الحرب؟.
و فتح مكّة حيث أسلم أهلها فيه، و غزوة حنين التي فرّ معظم الأصحاب، و لم يبق مع النبيّ إلاّ نفر يسير من بني هاشم و شخص من غيرهم على ما في التواريخ، و قد اعترف الرازي بارتكاب الصحابة - بفرارهم هذا - معصية كبيرة.
و قد وقع بعد غزوة الخيبر محارب كثيرة أخرى غير هذه الحروب العظيمة كما تظهر لمن راجع التاريخ، فكيف يقولون بأنّ النبيّ ما دعاهم إلى الحرب؛ أو لم يقع الحرب بعد غزوة خيبر إلاّ غزوة تبوك؟!(1)
و ثانياً: ما دليلكم على أنّ أحد الخلفاء الثلاثة دعوا المخلّفين المذكورين إلى الحرب؟ و المسلّم أنّهم دعوا المسلمين إلى الحروب، و أمّا إنّهم دعوا هؤلاء المخلّفين أيضاً فغير معلوم، بل لا طريق معتبر لهم إلى بقائهم و حياتهم في زمان الخلفاء و لا سيّما إلى وقت الحروب مع قوم أولى بأس شديد، فهل التلفيق إلاّ تحكّم و تخرص؟
و ثالثاً: أنّ القرآن لا ينفي متابعتهم للنبيّ فقط، بل له و للمسلمين المحاربين في سبيل الله كما يظهر من قوله: (لَنْ تَتَّبِعُونٰا)(2) و هو الموافق للاعتبار العقلي أيضاً؛ فإنّهم إنّما خلّفوا عن الحرب لضعف إيمانهم و خوفهم عن القتل، و هذا لا يختصّ بمتابعة النبيّ، بل يعمّ متابعة كلّ من دعا إلى الجهاد كما لا يخفى، فافهم.
و أمّا قوله تعالى في سورة البراءة: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقٰاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)(3). فهو مسوق إلى المنافقين المخلّفين في غزوة تبوك فلاحظ.
و رابعاً: أنّه مع الغضّ عن الجميع أنّ الداعويّة المذكورة لا تستلزم الخلافة لأنّ المحاربين في سبيل الله يطيعون الله و رسوله في تشريع وجوب الجهاد و الدفاع، و لو كان الداعي مسلماً عاديّاً، أو قائداً من قوّاد الجيش أو حاكماً أخذ الحكومة بغير حقّ شرعي، فتأمّل جيّداً.
و قد ورد من طريقهم إنّه (ص) أمرهم بالصلاة خلف كل برّ و فاجر و الجهاد مع كلّ برّ و فاجر. فلم تنفعهم تلك التلفيقات الكاذبة المضلة.
الخامس: من أدلّتهم أنّ الصحابة يقولون يا خليفة رسول الله؛ و قد قال الله تعالى فيهم: أولئك هم الصادقون، فتكون خلافته حقّاً.
أقول: جملة من الصحابة لم يروا خلافته حقّاً؛ و لذا لم يبايعوه إلاّ بعد الإكراه فكيف يقولون
ص: 257
خليفة رسول الله عن اعتقاد(1)؟!
و الآية المباركة و ردت طائفة خاصّة دون جميع الأصحاب كما تخيّلوا، و لا دلالة فيها على تعميم الصدق لجميع الأمور؛ و لذا قال عمر في حقّ النبيّ الأكرم - على ما مرّ - كلمة ذكرناها سابقاً، لو صدّقه أحد، استحق العقاب.
كيف و لو حملناه على العموم لزم عصمة هؤلاء في أقوالهم و ترجيح فتاويهم على غيرهم من الأصحاب، و هذا ممّا لم يقل به أحد من العامّة فضلاً عن الخاصّة، فيعلم أنّ صدقهم في أمور خاصّة كالإقرار بالله و بما جاء النبيّ الأكرم (ص)، لا بكل ما تكلّموا حتّى لا يتطرّق إليهم الكذب و السهو.
ثمّ أقول: هذا الوجه عليهم لالهم؛ إذ خليفة رسول الله من استخلفه رسول الله لا مثل ابن الخطاب و أبي عبيدة الحفّار الجراح!.
السادس: قوله (ص): اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر و عمر. و أقلّ مراتب الأمر الجواز.
أقول: كفى الله المؤمنين القتال، فعن العقيلي: أنّ هذا الحديث منكر لا أصل له، و عن الدار قطني: أنّه لا يثبت، و العمري - يعني به محمّد بن عبد الله حفيد عمر بن الخطاب راوي الحديث - ضعيف.
و قال ابن حبّان: لا يجوز الاحتجاج به، و قال الدار قطني: العمري يحدّث عن مالك بأباطيل.
و قال ابن حزم(2) الناصبي: و لكنه - أي الحديث - لم يصح؛ و يعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصحّ!.
السابع: أنّ النبيّ (ص) استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه و اقتدى به و ما عزله، فيبقى بعده إماماً ما فيها، فكذا في غيرها؛ إذ لا قائل بالفصل.
قال العضدي في موافقه؛ و لذا قال عليّ: قدّمك رسول الله في أمر دينياً (ديننا ص) أفلا نقدّمك في أمر دنيانا؟.
أقول: استخلافه في الصلاة كذب، بل الرسول كان غضباً عليه لتخلّفه عن جيش أسامة؛ على ما سبق بيانه.
على أنّ الاستدلال بما لم يثبت من طريق الخصم خروج عن قانون المناظرة.
ص: 258
هذا، مع أنّه لو ثبت تصريحه بخلافة أبي بكر في تلك الحال - أي حال مرضه (ص) - لم يكن عند أولياء عمر الخليفة حجّة؛ لأنّ النبيّ (ص) قد غلبه الوجع و يهجر فلا يدري ما يقول!!.
قال الجرجاني في شرح المواقف(1): و أمّا ما روى البخاري بإسناده إلى عروة عن أبيه عن عائشة أنّه (ع) أمر أبابكر أن يصلّي بالناس في مرضه. فكان يصلّي بهم قال عروة: فوجد رسول الله من نفسه خفّة فخرج إلى المحراب، فكان أبوبكر يصلّى بصلاة رسول الله و الناس بصلاة أبي بكر أي بتكبيره، فهو إنّما كان في وقت آخر، انتهى كلامه.
أقول: كلام الجرجاني بلا دليل؛ لأنّه جمع بين المتعارضين جمعاً تبرعيّاً و هو غير معتبر كما بيّن في أصول الفقه. و عليه فاستخلافه أبا بكر في الصلاة غير ثابت من طريقهم أيضاً لورود عزله في هذه الرواية، بل ذكرنا أنّ القضية مكذوبة من أصلها.
ثمّ الصحيح عدم دلالة الأمر بإمامة الصلاة على الخلافة بوجه؛ فإنّها ليست ممّا يحتاج إلى إذن مخصوص من النبيّ الأكرم (ص) بل كلّ من كان عادلاً - على قول أهل الحقّ - يجوز له أن يؤمّ الناس في الصلاة؛ فليس أبو بكر - بفرض صحّة الاستخلاف - هو الإمام وحده لا غيره، بل كلّ عادل إمام، فقولهم في تلفيقهم: فليبق بعده إماماً لغو، و منه يظهر فساد قولهم: فكذا في غيرها؛ إذ جميع الأصحاب العدول أئمة الصلاة و ليسوا بخلفاء، فأين القول بعدم الفصل؟!.
و أمّا ما نسبوا إلى أمير المؤمنين (ع) فكذبه واضح عند كلّ عاقل لم يعم قلبه، فإنّه (ع) رأس المخالفين لإمارة أبي بكر، و قد مرّ أنّه لم يبايعه طيلة حياة فاطمة (ع) فلو كان الاستخلاف المذكور حقّاً، و كان مستلزماً للخلافة لما تأخّر عن بيعته و لما اعتزله فإنّه (ع) مع الحقّ و الحقّ معه.
الاستدلال بالروايات لخلافة أبي بكر على الشيعة غير ممكن؛ لأنّهم لا يرون حجّيتها لضعف إسنادها و عدم وثاقة رواتها مع الغضّ عن تعارضها بالأخبار القطعيّة المتجاوزة حدّ التواتر الدالّة على خلافة أمير المؤمنين عليّ (ع).
بل هنا قرائن و أمارات جليّة تدلّ على أنّ قصّة التنصيص بخلافة أبي بكر من اختراع الوضّاعين و جعل القصّاصين. فعن النووي في شرح صحيح مسلم:
نقول: لو كان هناك نصّ لكان أبو بكر أعلم به، و لقال: أطيعوني مستدلاّ به، و لما قال الأنصار: منّا أمير و منكم أمير، و لما توقّف علي في البيعة إلى ستّة أشهر، و لما قال أبو بكر: وددت
ص: 259
أنّي سألت رسول الله (ص) عن هذا الأمر، و كنّا لا ننازعه أهله(1)، و لما قال العباس أمدد يدك أبايعك حتّى يقول الناس: بايع عمّ رسول الله ابن عمه، و لم يختلف فيك اثنان.
و لما قال أبو سفيان: يا بني عبد مناف: أرضيتم أن يلي بحكم تميم... و لما سلّ الزبير سيفه قائلاً: لا أرضى بخلافة أبي بكر: و لما قال أبو عبيدة: ابسط يدك أبايعك، و لما قال أبو بكر: بايعوا عمراً أو أبا عبيدة إلخ.
أقول: و القرائن أزيد ممّا ذكره هذا الرجل: فمنها: أنّ النبيّ بعث أبابكر في جيش أسامة للجهاد، و لو كان وصيّاً لما أخرجه من العاصمة و هو يعلم بوفاته (ص)؛ إذ كلّ عاقل يفهم أنّ وجود الخليفة ضروري في دار الخلافة، و من هنا لم يبعث عليّاً (ع) للجهاد.
و منها: ما صحّ عن عمر - بمختلف ألفاظه -: ثلاث لئن يكون رسول الله بينهن أحب إليّ من حمر النعم: الخلافة، الكلالة و الربا.
و منها: ما صحّ عنه أيضاً: و اني لا استخلف فإنّ رسول الله لم يستخلف، و إن استخلف فإنّ أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف.
و منها: ما صحّ عن عائشة - كما في صحيح مسلم -: لو كان رسول الله استخلف لا ستخلف أبابكر و عمر.
و مثل هذه الدلائل على عدم النصّ كثير(2) كيف و لو كان هناك نصّ لم يعترف جمهور هم بعدمه، و لم يحصروا و الدليل بالبيعة الموهومة الموهونة فإنّه من ضيق الخناق كما لا يخفى.
إِنَّكَ لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ (3) . وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مٰا يُوعَظُونَ بِهِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً(4).
ص: 260
بعد ما ثبتت خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقع الكلام في إثبات إمامة بقيّة الأئمة (عليهم السلام)، و هم: الحسن بن علي، و الحسين بن علي، و علي بن الحسين السجاد، و محمّد بن علي الباقر، و جعفر بن محمّد الصادق، و موسى بن جعفر الكاظم، و علي بن موسى الرضا، و محمّد بن علي الجواد التقي، و علي بن محمّد النقي الهادي، و الحسن بن علي العسكري، و المهدي القائم الحجّة المنتظر بن الحسن، صلوات الله عليهم ما دامت السماوات و الأرض.
و الدليل على إمامتهم و خلافتهم عن جدّهم رسول الله (ص) وجوه:
1: ما تقدّم من الروايات الكثيرة الواردة عنه (ص) من أنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر، فإنّ هذا المضمون لا ينطبق إلاّ على مذهب الإمامية كما هو ليس بسر.
2: النقل المتواتر من الإمامية خلفاً عن سلف على إمامة كلّ واحد من هؤلاء بالتنصيص، فقد نصّ كلّ إمام سابق على إمام لاحق نصّاً متواتراً كما قالوا.
3: يشترط العصمة في الإمامة و غير هؤلاء ليسوا بمعصومين إجماعاً فتعيّنت العصمة لهم و إلاّ لزم خلو الزمان عن المعصوم و هو محال، فيثبت الإمامة لهم لا لغيرهم.
4: إنّ الكمالات النفسانية و البدنية بأجمعها موجودة في كلّ واحد منهم، و كلّ واحد منهم كما هو كامل في نفسه مكمّل لغيره، و ذلك يدلّ على استحقاقهم الرئاسة العامّة؛ لأنّهم أفضل من كلّ أحد في زمانهم و يقبح عقلاً تقديم المفضول على الفاضل، فيكون كلّ واحد منهم إماماً(1).
5: إنّ كلّ واحد منهم ادّعى الإمامة، و ظهر المعجزة على يده، كما يظهر ذلك بمراجعة التاريخ فيكونون هم الأئمة كما تقدّم وجهه في المقصد السابق.
6: الإمام يجب أن يكون منصوصاً عليه، كما مرّ و ليس أحد غير من ذكرناهم بمنصوص
ص: 261
عليهم اتفاقاً، فليس أحد غيرهم بإمام اتفاقاً.
7: بطلان سائر المذاهب و عدم صحّتها، فلو لا صحّة مذهب الإمامة لبطل الشريعة الإسلامية؛ إذ لا وجود لها خارج ذالكم المذاهب، لكنّ الشريعة الإسلامية حقّة باتّفاق الخصوم، فيكون مذهبنا حقّاً لا محالة.
و أقوى هذه الوجوه هو الوجه الأوّل و الوجه الأخير، كما لا يخفى. و قد ذكرنا ذيل عنوان فذلكة الدلائل في الحاشية ما يضيدك في هذا المقام، فائدة كلية.
خالفتنا في إمامة أئمتنا الاثني عشر طوائف من الشيعة:
الطائفة الأولى: الكيسانية، فقالوا بإمامة محمّد بن أمير المؤمنين (ع) - ابن خولة الحنفية - بعد الإمام الحسين (ع)(1) و زعموا أنّه إمام، و أنّه مهدي، و أنّه حيّ لم يمت، و لا يموت حتّى يظهر الحقّ، و دليلهم على إمامته قول أبيه له يوم البصرة: أنت ابني حقّاً. و بأنّه صاحب رأيته، كما كان أبوه صاحب رأية رسول الله (ص). و على مهدويّته بقول رسول الله (ص): لن تنقضى الأيام و الليالي حتّى يبعث الله رجلاً من أهل بيته اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، و اسم أبيه أبي يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً. قالوا: و كان أمير المؤمنين عبد الله لقوله: أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب مفتر.
و على حياته بأنّه إذا كان مهديّاً فلا إمام غيره، فلو لم يكن حيّاً لبقيت الأرض خالية عن
ص: 262
الحجّة، و هو باطل.
أقول: النبوّة لا تدلّ على الإمامة، مع أنّ لعليّ (ع) أولاداً آخرين، و الرواية على فرض صحّتها دالّة على شجاعة محمّد، و الراية لا تدلّ على إمامة صاحبها و إلاّ شارك محمّداً خلق كثير ممّن أعطاهم الراية أبوه في الحروب، و عليّاً من أعطاه رسول الله الراية في الغزوات و الحروب، و اسم أمير المؤمنين، عليّ بالضرورة و عبد الله لقبه و وصفه، مع أنّ جملة «و اسم أبيه اسم أبي» من مفتعلات بعض الوضّاعين من العامّة، و ليس من الرواية في شيء(1) فما لفّقوه ضعيف غايته.
و ممّا يدلّ على بطلان هذه الفرقة و ضلالتها أمران:
1 - ما تقدّم منّا حول وجوب نصب الإمام فإنّ محمّداً لم يبيّن الفقه الإسلامي، و قول غيره ليس حجّة في الأحكام الشرعية، فتسقط الشريعة في جهتها التشريعية بتاتاً، و ضرورة فساد التالي دليل قطعي على فساد المقدّم فيثبت نقيضه، و هو المطلوب.
2 - إبادة الكيسانية، فإنّها برهان جليّ على بطلانهم؛ إذ لو كانوا على حقّ لأبقاء هم الله، حتّى يتمّ الحجّة على المكلّفين في الطبقات الآتية و الأجيال المستقبلة بتوسّطهم، فإنّ الإسلام دين خالد و شريعته شريعة أبدية، فلا بدّ أن يكون واضح الحجّة و مفتوح السبيل للجميع، و حيث إنّه لم يبق منهم فرد واحد منذ زمن غير بعيد كما شهد به الشيخ المفيد و المحقّق الطوسي (قدس سره) نقطع ببطلانهم و فساد مذهبهم.
ثمّ إنّ محمّداً (قدس سره) لا شكّ في جلالته و عظمته، و أمّا إنّه هل اشتبه الأمر عليه بعد وفاة أخيه الحسين (ع) و زعم الإمامة لنفسه دون ابن أخيه السجّاد حتّى ظهر له خلاف ما حسبه أم لا، بل كان عارفاً بحقّ أئمة زمانه، و كان تحاكمه إلى الحجر الأسود حتّى أنطقه الله «اللهمّ إنّ الوصيّة و الإمامة بعد الحسين بن علي إلى علي بن الحسين» لإظهار أمر السجّاد (ع) على الناس؟ فيه كلام لا بدّ لتحقيقه من مراجعة علم الرجال و فن التاريخ(2).
الطائفة الثانية: الزيدية، اعتقدوا إمامة زيد بن علي بن الحسين (عليهماالسلام). و افترقوا إلى
ص: 263
ثلاث فرق:
فالجارودية: أصحاب زياد بن المنذر أبي الجارود منهم، قالوا بالنصّ من النبيّ الأكرم (ص) في إمامة عليّ أمير المؤمنين وصفاً لا تسمية، و بكفر الصحابة لمخالفتهم و تركهم متابعة عليّ بعد النبيّ (ص)، و قالوا: الإمامة بعد الحسن و الحسين (عليهماالسلام) في أولادهما، فمن خرج منهم بالسيف و هو عالم شجاع فهو إمام.
قال في المواقف و شرحها(1): و اختلفوا في الإمام المنتظر، أهو محمّد بن عبد الله بن الحسن بن علي - الذي قتل بالمدينة في أيام المنصور - أو هو محمّد بن القاسم بن علي بن الحسين صاحب طالقان الذي أسر في ايام المعتصم، و حمل إليه فحسبه في داره حتّى مات أو هو يحيى بن عمير صاحب الكوفة من أحفاد زيد بن علي، دعا الناس إلى نفسه، و اجتمع عليه خلق كثير، و قتل في أيام المستعين بالله. و بكلّ قائل منهم.
أقول: المستفاد من الشهرستاني في ملله و نحله أنّ الجارودية كلّهم يقولون بإمامة عليّ بن الحسين (ع) بعد أبيه، و لا يستفاد منه أنّهم يقولون بمهدوية أحد هؤلاء الثلاثة، بل بإمامتهم فقط(2)، و أنّ القائل بالمهدوية بعضهم فلاحظ(3).
و السليمانية: أتباع سليمان بن جرير، منهم قالوا: الإمامة شورى بين الخلق، و إنّما ينعقد برجلين من خيار المسلمين، و تصحّ إمامة المفضول مع وجود الأفضل و أبو بكر و عمر إمامان و إن أخطأت الأمّة في البيعة لهما لكنّه خطأ لم ينته إلى حدّ الفسق و كفروا عثمان لأجل الأحداث التي أحدثها و طلحة و عائشة و الزبير لإقدامهم على محاربة عليّ (ع).
و الصالحية: أصحاب الحسن بن صالح، و البترية: أصحاب كثير النوي، متّفقان في المذهب، و قولهم في الإمامة كقول السليمانية، إلاّ أنّهم توقّفوا في عثمان.
و قالوا: عليّ أفضل الناس بعد النبيّ الخاتم (ص) و أولادهم بالإمامة لكنّه سلّم الأمر لهم
ص: 264
راضياً و ترك حقّه راغباً، و لو لم يرض بذلك لكان أبوبكر هالكاً.
و قالوا: من شهر سيفه من أولاد الحسن و الحسين و كان عالماً زاهداً شجاعاً فهو الإمام، و شرط بعضهم صباحة الوجه!.
قال المحقّق الطوسي(1): و قيل لهم فرق غيرها، و أكثرهم في الفروع متابعون لأبي حنيفة إلاّ في مسائل قليلة خالفوا أئمتهم فيها.
قال الشهرستاني في ملله و نحله: و أكثرهم في زماننا، مقلّدون، لا يرجعون إلى رأي و اجتهاد، أمّا في الأصول فيرون و رأي المعتزلة، و أمّا في الفروع فهم على مذهب أبي حنيفة إلاّ في مسائل قليلة يوافقون فيها الشافعي، لكنّ قول الشهرستاني المتعصّب لا قيمة له فإنّه نسب إلى الإمامية أقوالاً لم يخطر ببال أحدهم. و نسبوا إلينا كفر الصحابة و أمّهات المؤمنين و أباطيل أخرى فيى صفاته تعالى، فنحن لا نقبل على الزيدية هذه المقولات المنقولة من هؤلاء و نقول و الله العالم.
قال المحقّق الطوسي: و أمّا الزيدية فقالوا بإمامة عليّ و الحسن و الحسين (ع) و أثبتوها بالنصّ الجلّي، و أثبتوا باقي الأئمة بالنصّ الخفي؛ و ذلك أنّ شرائط الإمامة عندهم كون الإمام عالماً بشريعة الإسلام... و زهداً.. و شجاعاً... و كونه من ولد فاطمة أعني من أولاد الحسن و الحسين. لقوله (ص): «المهدي من ولد فاطمة (عليهاالسلام) و كونه داعياً إلى الله.. ظاهراً يشهر سيفه في نصرة دينه.
قالوا: و قد نصّ النبيّ و الأئمة بعده: أنّ كلّ من استجمع هذه الشرائط الخمسة - هكذا - فهو إمام مفترض الطاعة، و ذلك هو النصّ الخفي، و لم يوجبوا في الحسن و الحسين الدعوة بالسيف لقوله (ع): هما إمامان قاما أم قعدا. و يجوّزون خلو الزمان عن الإمام. و قيام إمامين في بقعتين متباعدتين؛ و لذلك لم يقولوا بإمامة زين العابدين؛ لأنّه لم يشهر سيفه في الدعوة إلى الله تعالى، و قالوا بإمامة زيد ابنه لاستجماع الشرائط فيه.. و لقبوا باقي الشيعة بالرافضة؛ إذ رفضوا زيداً، انتهى.
أقول: و إنّما أطلنا الكلام في ذلك حقّاً للبحث و الإحاطة بمذهبهم(2) إحاطة تامّة، و لكنّا مع ذلك نتأسّف على عدم التمكّن من مراجعة كتب أنفسهم، و ما نقلناه هنا مع أنّه نقل من غيرهم، فيه بعض التدافعات كما لا يخفى.
و كيفما كان، الذي يدور عليه صحّة هذا المذهب هو دعوى أنّ كلّ فاطمي عالم زاهد قام
ص: 265
بالسيف فهو إمام، و لا دليل لهم على إثباتها، فإنّهم إن حاولوا تقريره من جهة العقل، فالعقل يعيّن الأعلم الأفضل و إن لم يقم بالسيف، و يقبّح تقديم المفضول على الفاضل؛ و لذا اعترف الزيدية أنفسهم بخلافة عليّ (ع) و صحّة إمامته مع قعوده قعر بيته مدّة كثيرة، و بخلافة الحسن (ع) بل و بإمامة السجّاد - على نقل بعض الكلمات المتقدّمة، مع عدم قيامهما بالسيف، و قد أشرنا سابقاً أنّ جملة من الأنبياء كانوا مقهورين و مغلوبين لطواغيت زمانهم من حيثية السلطة الظاهرية، و إنما كانوا غالبين و قاهرين من جهة الحجّة و البرهان. و كلمة الله هي العليا.
و إن حاولوه من طريقة الشرع و نصّ النبيّ و الأئمة بعده (ع) كما هو الظاهر من كلام المحقّق الطوسي (قدس سره) المتقدّم فمن المعلوم أنّه لا نصّ كذلك، و لا يمكن لهم إثباته بطريق معتبر، فيسقط مذهبهم عن درجة الاعتماد و الاعتبار؛ لعدم الدليل عليه أصلاً.
بل الصحيح أنّ الدليل قائم على بطلانه، و هو ما ثبت بالتواتر اللفظي و لا أقل من التواتر المعنوي عن النبيّ الأكرم من تحديد خلفائه بالاثني عشر، فإنّ هذا التحديد يتصادم مذهبهم كما هو ظاهر، و أمّا زيد نفسه فلم يثبت عنه دعوى الإمامة لنفسه، بل في جملة من أحاديث الإمامية أنّه رضى الله عنه كان يدعو الناس إلى الرضى من آل محمّد قاصداً به إمام زمانه، و لكن زعم من لا خبرة له بغرضه أنّه يريد نفسه. نعم في بعض الروايات أنّه كان يدّعيها لنفسه، لكن جملة من الرجاليين ما أخذوا بهذه الروايات؛ و لذا وثّقوه، بل عن بعضهم دعوى اتّفاق علماء الإسلام على جلالته و علمه و ورعه و زهده، و الله العالم.
و أمّا ما يتعلّق بالبيعة و خطأ الصحابة أو كفر بعضهم؛ لعدم اقتدائهم بأمير المؤمنين (ع) و غير ذلك ممّا تقدّم نقله عنهم في طيّ الكلمات المتقدّمة فلا نتعرّض لها بعد وضوح حالها لما ذكرناه سابقاً، و القارئ الكريم بعد الإحاطة به يعرف الحقّ.
الطائفة الرابعة: الناووسية. أتباع عبد الله بن ناووس البصري(1) قالوا بحياة الصادق (ع) و إنّه القائم الذي يظهر فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً، قال الشيخ المفيد (قدس سره): و تعلّقوا بحديث رواه رجل يقال له عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: «إن جاءكم من يخبركم عني بأنّه غسّلني و كفّنني و دفنني فلا تصدّقوه»(2).
و قال الشهرستاني في ملله و نحله: إنّهم رووا عن الصادق أنّه قال: لو رأيتم رأسي يدهده عليكم من الجبل فلا تصدّقوا، فإنّي صاحبكم صاحب السيف. و قال أيضاً: و حكى أبو حامد الزوزني أنّ الناووسية زعمت أنّ عليّاً مات و ستنشقّ الأرض عنه يوم القيامة فيملأ العالم عدلاً.
ص: 266
أقول: القائلون بهذه القصة حيث كانوا قليلين(1) بادوا و نفدوا بحيث لم يبق منهم أحد، و قد عرفت أنّ نفاد طائفة دليل على فساد مذهبهم فلا نشتغل بتزييف كلامهم تفصيلاً.
هذا مع أنّ وضوح وفاة الصادق (ع) دليل قويّ آخر على كذب الروايتين المذكورتين و اختراعهما منهم(2)، و أمّا شقّ الأرض عن عليّ (ع) يوم القيامة فهو عجيب، فإنّها ستنشقّ عن جميع المكلّفين و صغار أولادهم و عدالة يوم القيامة لا تحتاج إلى عليّ (ع)، فافهم جيّداً.
الطائفة الخامسة: الفطحية(3) القائلون بإمامة عبد الله بن جعفر الصادق (ع) و دليلهم عليها قول الصادق (ع): الإمامة لا تكون إلاّ في الأكبر من ولد الإمام. و عبد الله أكبر أولاده (ع).
أقول: لكنّ جهالة عبد الله بالشريعة أوجبت رجوع من القائلين بإمامته إلى الإمام الكاظم (ع) و لمّا مات عبد الله رجع كلّهم إلى الكاظم (ع) و قالوا بإمامته، و بإمامة من بعده من الأئمة، فهم قائلون بإمامة ثلاثة عشر إماماً! و لم يقولوا برجوع عبد الله بعد موته كما زعمه المحدّث الجزائري (رحمه الله).
قال شيخنا المفيد (رحمه الله): و هذا حديث لم يرو قطّ إلاّ مشروطاً و هو أنّه قد ورد أنّ الإمامة تكون في الأكبر ما لم تكن به عاهة، و أهل الإمامة القائلون بإمامة موسى (ع) متواترون بأنّ عبد الله كانت به عاهة في الدين؛ لأنّه كان يذهب إلى مذهب المرجئة الذين يقفون في عليّ (ع) و عثمان، انتهى.
أقول: بوارهم بأسرهم دليل بطلانهم كما مرّ غير مرّة.
الطائفة السادسة: الإسماعيلية القائلين بإمامة إسماعيل بن الصادق (ع). و هم فرق.
فمنهم من يقول: إنّ الصادق (ع) توفّي و نصّ على ابنه إسماعيل و ينكرون موته، و يقولون إنّه الإمام بعد أبيه و هو القائم المنتظر، و إنّه لم يمت، و إنّما لبس على الناس أمره؛ لأنّه خاف فغيبه.
و منهم من يقرّ بوفاته في زمن أبيه، و لكنّهم يدّعون أنّه قبل وفاته نصّ على ابنه محمّد بن إسماعيل، فهو الإمام بعده، و هؤلاء هم القرامطة - أتباع حمدان القرمطي أو قرمطوية من أهل السواد - و هم أخلاف المباركية - المبارك مولى إسماعيل بن الصادق - و زعموا أنّ محمّداً حيّ لم
ص: 267
يمت و أنّه القائم المهديّ، و أنّه في بلاد الروم، و لهم عقائد خرافية منسوبة إليهم.
و منهم من يقول: إنّ الذي نصّ على محمّد(1) هو الصادق (ع) دون إسماعيل.
و قال المحقّق الطوسي (قدس سره)(2): و أمّا في تعيين أئمة الإسلام فقالوا: الإمام في عهد رسول الله (ص) كان عليّ (ع) و بعده كان ابنه الحسن إماماً مستودعاً، و بعده الحسين إماماً مستقرّاً؛ و لذلك لم تذهب الإمامة في ذريّة الحسن (ع)، ثمّ نزلت في ذريّة الحسين، و انتهت بعده إلى عليّ ابنه، ثمّ إلى محمّد ابنه ثمّ إلى جعفر ابنه، ثمّ إلى إسماعيل ابنه، و هو السابع. و قالوا: إنّ الأئمة في عهد ابن إسماعيل محمّد صاروا مستورين؛ و لذلك سمّوهم أيضاً بالسبعة، لوقوفهم على السبعة الظاهرة، و دخل في عهد محمّد زمان استتار الأئمة، و ظهور دعاتهم، ثمّ ظهر المهديّ ببلاد المغرب، و ادّعى أنّه أولاد إسماعيل، و اتّصل أولاده ابن بعد ابن إلى المستنصر، و اختلفوا بعده فقال بعضهم بإمامة نزار ابنه و بعضهم بإمامة المستعلي ابنه الاخر، و بعد نزار استتر الأئمة النزاريين، و اتّصلت إمامة المستعلويين إلى أن انقطع في المعاضد، و كان الحسن بن علي بن محمد الصباح المستعلي على قلعة الموتى من دعاة النزاريين. ثمّ ادّعوا بعده أنّ الحسن الملقّب بعليّ ذكره السلام كان إماماً ظاهراً من أولاد نزار، و اتّصل أولاد (ه ظ) إلى أن انقرضوا في زماننا هذا.
أقول: و للإسماعلية عقائد و أقوال عجبية غريبة عما نقلها غير واحد من الباحثين تركناها؛ لعدم ارتباطها بالمقام، و صفوة القول في دحض هذا المذهب أنّ إسماعيل بن الصادق (ع) مات في حياة أبيه، و إنكاره موته مكابرة، على أنّه لا دليل معتبر لهم على حياته و مهدويّته، فلا داعي للعدول عن العادة الجارية على موت الأحياء بعد أعمارها المتعارفة؛ و لذا اعترف كثير منهم بوفاته في زمان أبيه، و هذا ممّا لا مناصّ عنه.
و إذن تبطل إمامته قطعاً؛ إذ لا ينصّ الإمام على أحد يعلم بعدم بقائه بعده، فإنّ الغرض من الإمامة إقامة الشرع و إرشاد المؤمنين، و كلّ ذلك لا يحصل لمن يموت في زمان الإمام الحي.
و إن شئت فقل: معنى التنصيص هو جعل المنصوص عليه خليفة بعده، و هذا موقوف على حياة الوصي بعد الوصي، و حيث إنّ النصّ و تعيين الإمام عندنا بعهد من الله رسوله (ص) لا يمكن أن يقال إنّ الإمام نصّ عليه و لم يكن عالماً بموته، على أنّ الإمام أيضاً عندنا لا يكون جاهلاً بمثل هذه الأمور، فإذا بطل إمامة إسماعيل فقد بطل إمامة ابنه محمّد و من بعده رأساً.
و أمّا دعوى أنّ فائدة النصّ على إسماعيل مع علم الصادق (ع) بعدم بقائه هو انتقال الإمامة
ص: 268
إلى ولده و ذلك كما نصّ موسى (ع) على هارون ثمّ مات هارون في حياة أخيه كما نقلها الشهرستاني عنهم فهي مزيّفة بإمكان النصّ ابتداءً على ولده بلا حاجة إلى هذا العمل الباطل، و جعل من ليس بإمام إماماً.
و أمّا هارون فكان نبيّاً رسولاً إلى فرعون مثل أخيه موسى كما نطق به القرآن المجيد، و لم ينصّ عليه موسى (ع) للخلافة بعده، فلا يشبه المقام من جهة أصلاً.
و على الجملة: إثبات الإمامة لأحد محتاج إلى دليل قويم يصحّ جعله حجّة بين المكلّف و بين الله تعالى، و لا يكفيه مجرّد الاحتمال أو نقل أحد الناقلين، و إلاّ لم يصل النوبة إلى إسماعيل و الإسماعيلية، فإنّ قبلهم مدّعين آخرين كمان مرّ، فهذا المسلك مضافاً إلى أنّه لا دليل على صحّته، باطل قام الدليل على خلافه كما عرفت.
و أمّا ما ادّعوه من نصّ الصادق (ع) على إسماعيل بإجماع مخاليفهم فهو إفك و زور؛ إذ لم يقل به أحد من الإمامية، قال شيخنا المفيد(1): ليس أحد من أصحابنا يتعرف بأنّ أبا عبد الله (ع) نصّ على ابنه إسماعيل و لا روى راوٍ ذلك في شاذ من الأخبار و لا في معروف منها...
فأمّا الرواية عن أبي عبد الله (ع) من قوله: «ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل». فإنّها على غير ما توهّموه أيضاً من البداء في الإمامة، و إنّما معناها ما روي عن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: إنّ الله عزّ و جلّ كتب القتل علي ابني إسماعيل مرّتين، فسألته فيه فعفى ذلك (فرقا خ) فما بداله في شيء كما بداله في - إسماعيل - يعني به ما ذكره من القتل الذي كان مكتوباً فصرفه عنه بمسألة أبي عبد الله (ع).
فأمّا الإمامة فإنّه لا يوصف الله عزّ و جلّ بالبداء فيها، و على ذلك إجماع فقهاء الإمامية، و معهم فيه أثر عنهم (عليهم السلام) أنّهم قالوا: «مهما بد الله في شيء فلا يبدوله في نقل نبيّ عن نبوّته، و لا إمام عن إمامته و لا مؤمن قد أخذ عهده بالإيمان عن إيمانه».
أقول: ما أفاده من عدم جريان البداء في الإمامة غير قويّ عندي؛ و ذلك لأنّ البداء بمعناه اللغوي - أي ظهور ما خفي - الذي لم يقل به أحد من الإمامية و لم ترد فيه رواية و لو ضعيفة السند، بل بطلانه من واضحات مذهب الإماميّة، و إنّما هو قول بعض العامّة على ما مرّ في الجزء الأوّل ممتنع عليه تعالى عقلاً في جميع الموارد، و بمعناه الاصطلاحي - أي إظهار ما خفي على الناس - الذي يقول به الإمامية، كما مرّ تفصيله في مبحث علمه تعالى - الجزء الأوّل - فهو كما يجري في غير مسألة الإمامة و النبوّة كذلك يجري فيهما أيضاً بلا فرق أصلاً، و إجماع فقهائنا -
ص: 269
على ما نقله هو (قدس سره) - لا يكون دليلاً في أمثال المقامات. و ما نقله من الخبر لم أجد سنده - عاجلاً - و إن وجدت له جملة من الروايات معارضة أخرجها ثقة الإسلام الكليني في الكافي(1):
منها: ما رواه بإسناده عن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت عند أبي الحسن بعد ما مضى ابنه أبو جعفر (ع)، و إنّي لأفكّر في نفسي، أريد أن أقول: كأنّهما أعني أبا جعفر و أبا محمّد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى و إسماعيل ابني جعفر بن محمّد (عليهماالسلام)، و أنّ قصّتهما كقصّتهما إذ كان أبو محمّد المرجأ بعد أبي جعفر، فأقبل عليّ أبو الحسن قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاشم بد الله في أبي محمّد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، و هو كما حدّثتك نفسك. انتهى، فافهم.
فالتحقيق في جواب الإسماعيلية أنّ الصادق (ع) لم ينصّ على إسماعيل و إنّما الناس لأجل كونه أكبر أولاد الإمام، و أنّه (ع) يحبّه و يعظّمه كانوا يظنّون إمامته بعد أبيه، فلمّا مات ظهر للناس خلاف ما يظنّون و علموا أنّه ليس بإمام و إلاّ لبقي حيّاً إلى بعد وفاة أبيه (ع) فأظهر الله للناس ما خفي عليهم، و هذا معنى البداء و أين هو من النصّ على إسماعيل؟!.
الطائفة السابعة: الواقفيّة، وقفوا على موسى بن جعفر (ع) و زعموا أنّه (ع) هو المهديّ المنتظر.
و قال بعضهم: إنّه مات و لكن سيبعث، و توقّف بعضهم الآخر في موته. و اختلفوا أيضاً في الأئمة بعده، فقيل إنّهم خلفاؤه و قضاته إلى أوان خروجه، و ليسوا بأئمة و لا ادّعوا الإمامة قطّ.
و قيل إنّهم ضالّون مخطئون، إلى غير ذلك من أقوالهم و القارئ جدّ عليم بأنّ إنكار موت الكاظم (ع) حماة محضة، و سبب الوقف أمر ماديّ كما بيّن في محلّه؛ و لذا بطل القول المذكور ببوار قائليه.
هذه هي الفرق المختلفة من الشيعة، و هناك أناس قليلون آخرون كمن زعم عدم إمامة الجواد (ع) بجهة صغر سنّه و إعانه بعض النواصب بأنّ الإمام مكلّف بإقامة الدين، و غير البالغ غير مكلّف بشيء. و لم يدريا قوله تعالى في حقّ يحيى: (وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا)(2) و ستعرف أنّ الجواد أفضل من يحيى (عليهماالسلام) فإمامة الكمّلين من أفراد البشر أو نبوّتهم لا تتوقّف على البلوغ، و حديث رفع القلم ليس حكماً عقليّاً لا يقبل التخصيص، فنخصّصه بغير الأئمة و الأنبياء جمعاً
ص: 270
بين الأدلّة كما لا يخفى.
فاعلم أنّ الباقي فعلاً من الشيعة هم الإماميّة و الإسماعيليّة و الزيديّة، لا غير. و أمّا بقيّة فرقها فلمّا كانوا قليلين و متولّدين من أغراض فاسدة دنيويّة بادوا و نفدوا؛ و لعلّ بعض هذه الفرق لم يبلغ عشرة أشخاص، غير أنّ المتصدّين لنقل مذاهب الشيعة لبغضهم و عصبيّتهم البغيضة و نزعتهم الدنيئة تعمّدوا إلى تكثير طوائفهم و مذاهبهم تشنيعاً عليهم و تقبيحاً لأصل طريقتهم ليتمكّنوا بذلك في أنظار الناس من إظهار صحّة مذهبهم و متانة خلافة خلفائهم.
وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (1) .
فالعمدة من فرق الشيعة هي الثلاث التي ذكرناها، و حيث عرفت بطلان مذهب الزيديّة و الإسماعيليّة يتعيّن صحّة مذهب الإماميّة. الذي حقّقته الروايات المتواترة الواردة من طريق ألد أعدائه كما مرّ.
و الإماميّة بحمد الله تعالى - أكثر عدداً من الإسماعيليّة و الزيديّة، منتشرون في القارّات الأربع - أميركا و أوروبا و أفريقيا و آسيا و لهم في كلّ عصر علماء حكماء فقهاء متكلمون أصوليون رياضيون و عظماء و أدباء نوابغ، و في حواضر هم مجامع علميّة دينيّة كبيرة، و الناظر لا يرى اليوم جامعة دينيّة لم تتأثّر من سياسة الحكومات الحاضرة الدنيئة - في جميع الأديان و المذاهب - سوى الجوامع العلميّة الدينيّة الإماميّة الدائرة في العراق و إيران و غيرهما، فإنّها قائمة بنفسها و لا تربط بمعونة الحكومات أصلاً؛ و لذا تخالف الحكومات الجائرة دائماً، و هذا بخلاف المراكز الدينية و المذهبية الأخرى حيث أصبحت من أجزاء الدوائر الحكوميّة.
كلّ ذلك يكشف عن قوّة ديانة علماء الإمامية، و نفوذ حقّيّة مذهبهم في نفوسهم و نظام طريقهم و لنعم ما قال رسول الله (ص)(2) كما أخرجه الحافظ الذرندي عن ابن عباس أنّه لما نزل قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ)(3) قال النبيّ (ص) لعلي: «هو أنت و شيعتك تأتي و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين و يأتي عدوّك غضاباً مقمحين». و قال (ص) أيضاً - كما أخرجه أحمد في المناقب -: أما ترضى أنّك معي في الجنّة و الحسن و الحسين و ذريّتنا خلف ظهورنا، و شيعتنا عن أيماننا و شمائلنا».
و قال (ص) - كما أخرجه جمع -: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من
ص: 271
تركها غرق».
إلى غير ذلك، و إذا ضممت إلى هذه الروايات ما مرّ من تحديده خلفاء بالاثني عشر تتيقّن نجاة الإمامية و فوزهم فقط، و أنّه هم الناجية لا غير(1).
ص: 272
متابعة أهل بيت النبيّ (ص) واجبة على جميع الأمّة، كوجوب متابعة النبيّ الأكرم (ص) و الأخذ بأقوالهم - سواء أسندوها إلى النبيّ الأكرم أم لا - فرض على عامّة المكلّفين، فلو عارضه نقل صحابي أو قوله يسقطان لا محالة كما يسقط ما عارض قول النبيّ الأكرم (ص) فلا يجوز للمسلمين الرجوع في دينهم إلى غير هؤلاء, كائنا من كان، بل لا بدّ من الاقتصار على أقوالهم و العمل بآثارهم وحدها. و هذا دليل آخر على حقّيّة مذهب الشيعة و بطلان مذهب الجمهور في أصولهم و فروعهم؛ إذ لا نعني بالرئاسة و الأمامي إلاّ ذلك، فإذا انضمّ إليه ما مرّ من تعيين النبيّ الأكرم عدد خلفائه باثني عشر تتبيّن حقّيّة مذهب الأماميّة فقط فالمحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
و أمّا الدليل على وجوب الاقتداء بأهل البيت و لزوم الأخذ بأقوالهم فأمور:
1 - الأخبار الدالّة على التمسّك بالثقلين: كتاب الله و عترة الرسول (ص). كقوله (ص): «يا أيها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله و عترتي أهل بيتي»(1).
و قوله(2) (ص): «أنّي تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»؟ و قوله (ص): «إنّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء و الأرض - الى الأرض - و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا
ص: 273
عليّ الحوض»(1)
و قوله (ص): «إنّي أوشك أن أدعى فأجيب، و إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزّ و جلّ و عترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، و إنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟»(2).
قال ابن حجر في صواعقه(3): و في رواية صحيحة: «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن تبعتموهما و هما كتاب الله و أهل بيتي عترتي». زاد الطبراني: «إنّي سألت ذلك لهما فلا تقدّموهما فتهلكوا و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا؛ و لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»!.
ثمّ قال ابن حجر بعد ذكره جملة من روايات الثقلين ممّا نقلناه و ممّا لن ننقله روماً للاختصار:
و الحاصل أنّ الحثّ وقع على التمسّك بالكتاب و بالسنّة و بالعلماء بهما من أهل البيت، و يستفاد من مجموع ذلك بقاء الأمور الثلاثة إلى قيام الساعة، و قال(4) أيضاً:
ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك - أي الثقلين كتاب الله و العترة - طرقا كثيرة وردت عن نيّف و عشرين صحابيّاً، و مرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه. و في بعض تلك الطرق أنّه قال ذلك بحجّة الوداع بعرفة، و في أخرى أنّه قال ذلك بغدير خم، و في أخرى أنّه قال لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مرّ. و لا تنافي؛ إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن و غيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز و العترة الطاهرة.
و في رواية عن الطبراني عن ابن عمر: آخر ما تكلّم به النبيّ (ص): أخلفوني في أهل بيتي..
ص: 274
إلى أن قال: و في أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة: كما أنّ الكتاب العزيز كذلك؛ و لهذا كانوا أماناً لأهل الأرض... ثمّ أحقّ من يتمسّك به منهم إمامهم و عالمهم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه؛ لما قدّمناه من مزيد علمه، و دقائق مستنبطاته. إلى آخر كلامه.
أقول: الرواية من جهة السند قطعيّة الصدور، فقد أخرجها جمع كثير من حفظة الآثار و أرباب الحديث كالترمذي و النسائي و المتّقي الهندي و أحمد، و الطبراني و الحاكم و الذهبي و ابن أبي شيبة و أبي يعلي؛ و أبي سعيد و السيوطي و النبهاني و الدارمي و الحافظ عبد العزيز و غيرهم. حتّى قيل: إنّها رويت بطرق عديدة تنيف على مئتي طريق.
و إن شئت أن تعرف الحديث المذكور، من طريق القوم فعليك بمراجعة عبقات الأنوار.
و من جهة المضمون تفيد أموراً:
الأوّل: عصمة أهل البيت، فإنّ معنى عدم افتراقهم عن القرآن ليس إلاّ ذلك، فيكون المراد بأهل البيت هو عليّ و ابناه الحسنان و زوجته فاطمة (عليهاالسلام) لعدم عصمة غيرهم، و لما مرّ في ذيل قوله تعالى: (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ)(1) من روايات القوم الدالّة على اختصاص أهل البيت بالخمسة الطيّبة (عليهم السلام).
الثاني: لزوم الأخذ بأقوالهم على حدّ لزوم الأخذ بالقرآن الكريم، و هو ظاهر.
الثالث: وجوب محبّتهم و مودّتهم، و به روايات كثيرة أخرى.
الرابع: عدم كفاية القرآن للهداية و نفي الضلالة من دون التمسّك بأهل البيت، و هذا كالضروري، فإنّ القرآن لا يشتمل على تفاصيل الشريعة فلا بد من أخذها من السنة المستودعة في أهل البيت من قبل الرسول الخاتم (ص) بل القرآن في جملة من الموارد يحتاج في تفسيره إلى السنّة التي لا يبيّنها إلاّ أهل البيت؛ فإنّهم أبواب مدينة علم النبيّ (ص) و لذا جمع النبيّ الأكرم (ص) بينهما و أمر أمّته بالتمسّك بهما معاً، غير أنّ الخليفة عمر لم يقبل هذا و قال ردّاً على قول النبيّ الأكرم: إنّ النبيّ قد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله. و قد مرّ تفصيله.
2 - قوله (ص): «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق»(2).
و قوله (ص): «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له»(3).
ص: 275
قال ابن حجر في صواعقه(1): و جاء من طرق عديدة يقوّي بعضها بعضاً: «إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا». و في رواية مسلم: «و من تخلّف عنها غرق».
و في رواية: «هلك» و «إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له». و في رواية: «غفر له الذنوب».
ثمّ قال بعد أسطر: و وجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم و عظّمهم شكراً لنعمة مشرفهم (ص) و أخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، و من تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، و هلك في مفاوز الطغيان.
و قال أيضاً: و بباب حطّة - أي وجه تشبيههم بباب حطّة - أنّ الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع و الاستغفار سبباً للمغفرة، و جعل لهذه الأمّة مودة أهل البيت سبباً لها.
أقول: صريح الرواية تعليق النجاة على الاقتداء بأهل البيت و الهلاك و الغرق - أي الضلالة في الدين المؤدّية إلى دخول النار - على عدم اتّباعهم و الأخذ بأقوالهم، و هذا هو المطلوب.
و على الجملة: للرواية الشريفة حيثيّة إيجابيّة و هي لزوم متابعه أهل البيت و حيثيّة سلبية و هي النهي عن ترك الاقتداء بهم، فضلاً عن مخالفتهم و اتّباع غيرهم، فيحرم على العلماء أن يفتوا بخلافهم كما يحرم على الجاهلين تقليد هؤلاء العلماء، بل لا بدّ للأمّة من الرجوع إليهم.
و من تأمّل في هذا الحديث و ما رووا عن النبيّ الأكرم (ص) من اختلاف على ثلاث و سبعين فرقة، و أنّ الناجية منهم فرقة واحدة يتيقّن أنّ شيعة أهل البيت و الآخذين بأقوالهم هم الناجية، لكن و لو أنّهم فعلوا ما يوعظوون به لكان خيراً لهم و أشدّ تثبيتاً.
و يعجبني ما رواه سليمان الحنفي في ينابيع المودّة - في الباب الرابع - عن فرائد الحمويني عن ابن عباس أنّ رسول الله قال لعلي: «يا علي أنا مدينة العلم و أنت بابها، و لن تؤتى المدينة إلاّ من قبل الباب، وكذب من زعم أنّه يحبّني و يبغضك؛ لأنّك منّي و أنا منك، لحمك لحمي و دمك دمي، و روحك من روحي، و سريرتك من سريرتي، و علانيتك من علانيتي، سعد من أطاعك، و شقي من عصاك؛ و ربح من تولاّك، و خسر من عادك، فاز من لزمك، و هلك من فارقك، مثلك و مثل الأئمة من ولدك بعدي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق. و مثلهم كمثل
ص: 276
النجوم كلّما غاب نجم طلع نجم آخر إلى يوم القيامة»(1).
3 - ما عن الكبير الطبراني و مسند الرافعي و حلية أبي نعيم و مسند أحمد و مناقبه و كنز المتّقي و منتخبه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): «من سرّه أن يحيا حياتي، و يموت مماتي، و يسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال عليّاً من بعدي؛ و ليوال وليّه!، و ليقتد بأهل بيتي من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي و رزقوا فهمي و علمي، فويل للمكذّبين بفضلهم من أمتي القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي».
4 - ما عن مطير و البارودي و ابن جرير و ابن شاهين و ابن منده من طريق إسحاق عن زياد بن مطرف قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «من أحبّ أن يحيا حياتي، و يموت ميتتي و يدخل الجنّة الّتي وعدني ربي، و هي جنّة الخلد فليتولّ عليّاً و ذريّته من بعده، فإنّهم لن يخرجوكم باب هدى، و لن يدخلوكم باب ضلالة»(2).
5 - ما عن الحاكم في مستدركه، و صحّحه أيضاً، و عن الطبراني في الكبير، و أبي نعيم في فضائل الصحابة و المتّقي في كنزه عن زيد بن أرقم قال رسول الله (ص): «من أراد أن يحيا حياتي، و يموت موتي، و يسكن جنّة الخلد التي وعدني ربي فليتول عليّ بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى و لن يدخلكم في ضلالة».
6 - ما في صواعق ابن حجر في الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر(3): و في رواية صحّحها الحاكم على شرط الشيخين: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان
ص: 277
لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»!.
7 - ما فيه(1) أيضاً عن الملاّ في سيرته عن رسول الله (ص): «في كلّ خلف من أمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين، و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين، ألا و إنّ أئمتكم و فدكم إلى الله عزّ و جلّ، فانظروا من توفدون»!.
8 - ما تقدّم عنه أيضاً نقلاً عن الطبراني من قوله (ص): «فلا تقدّموهما - أي الكتاب و أهل البيت - فتهلكوا، و لا تقصّروا عنهما فتهلكوا و لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».
9 - ما عن جماعة من أصحاب السنن عن أبي ذر، و نقله الإمام الصبّان في إسعاف الراغبين، و النبهاني في الشرف و المؤبّد و غيرهم عن رسول الله (ص): «و اجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد و مكان العينين من الرأس و لا يهتدي الرأس إلاّ بالعينين»!.
10 - ما أخرجه الديلمي عن كنز العمال(2) من قوله (ص): «يا عمّار إذا رأيت عليّاً قد سلك وادياً، و سلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع عليّ، ودع الناس فإنّه لن يدلّك على ردي».
11 - ما أخرجه الدار قطني في الأفراد عن ابن عباس مرفوعاً - كما عن كنز العمال(3): «عليّ بن أبي طالب باب حطّة، من دخل منه كان مؤمناً، و من خرج منه كان كافراً».
12 - ما أخرجه الحاكم(4) و الذهبي في تلخيصه مصرّحين بصحّته على شرط الشيخين من قوله (ص): «من أطاعني فقد أطاع الله، و من عصاني فقد عصى الله، و من أطاع عليّاً فقد أطاعني، و من عصى عليّاً فقد عصاني».
13 - ما أخرجه(5) أيضاً معترفاً بصحّته كذلك من قوله (ص): «يا علي من فارقني فقد فارق الله، و من فارقك فقد فارقني».
14 - ما رواه كثير من أصحاب السنن و الحاكم في مستدركه(6) و صحّحوه من قوله (ص): «أنا المنذر، و على الهادي، و بك يا عليّ يهتدي المهتدون من بعدي».
15 - ما أخرجه الخطيب(7) عن حديث أنس عنه (ص): «أنا و هذا يعني عليّاً حجّة على
ص: 278
أمّتي يوم القيامة».
16 - ما يدلّ على عصمة أهل البيت أعني بهم عليّاً و فاطمة و حسناً و حسيناً - سلام الله عليهم - فإنّ المعصوم لا ينطق عن الهوى، و الحقّ لا بدّ من أتباعه و هو من وجوه:
الأوّل: آية التطهير على ما مرّ بحثه في مبحث عصمة النبيّ الأكرم (ص) و دلالتها على عصمتهم قطعيّة, فلاحظ و تقدّم فيه أيضاً أنّ غير الآية المذكورة أيضاً يدلّ على عصمتهم.
الثاني: قوله (ص): أنّهما - أي الكتاب و العترة - لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، و قد مرّ.
الثالث: ما أخرجه الحاكم في مستدركه(1) و أحمد في مسنده و الطبراني في أوسطه، و ابن حجر في صواعقه(2)، و النسائي في خصائصه و غيرهم عن أبي هريرة عنه (ص): «علي مع القرآن، و القرآن مع عليّ لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، عليّ منّي من سبّه فقد سبّني؛ و من سبّني فقد سبّ الله».
الرابع: ما عن ينابيع المودّة و فرائد السمطين و شرح النهج الحديدي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «أنا و عليّ و الحسن و الحسين و تسعي من ولد الحسين مطهّرون معصومون».
الخامس: ما عنها أيضاً عن سلمان الفارسي أنّ رسول الله وضع يده على كتف الحسين و قال: «أنّه الإمام ابن الإمام ابن الإمام تسعة من صلبه أئمة أبرار و أمناء معصومون».
السادس: ما عنها أيضاً عن زيد بن ثابت عنه (ص): «و أنّه ليخرج من صلب الحسين أئمة أبرار، أمناء معصومون، قوامون بالقسط».
السابع: ما عنها أيضاً عن عمر ان بن حصين عنه (ص) قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي: «أنت وارث علمي، و أنت الإمام و الخليفة بعدي, تعلّم الناس ما لا يعلمون، و أنت أبوسبطي، و زوج ابنتي، و من ذريّتكم العترة الأئمة و المعصومين.
الثامن: ما عنها أيضاً عن حذيفة بن أسيد عنه (ص): «الأئمة من بعدي عترتي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، أعطاهم الله علمي، و فهمي، فلا تعلّموهم، فإنّهم أعلم منكم. و اتبعوهم فإنّهم مع الحقّ و الحقّ معهم».
التاسع: ما روي بعدة طرق(3) عنه (ص) من قوله: «قال لي جبرئيل: يا محمّد إنّ حفظة عليّ
ص: 279
بن أبي طالب تفتخر على الملائكة أنّها لم تكتب على عليّ خطيئة منذ صحبته.
العاشر: ما روي بطرق كثيرة(1) عنه (ص): «عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ، و في بعضها: «يدور معه كيف دار».
و في بعضها: «و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة». و في بعضها: «الحقّ معه و على لسانه و الحقّ يدور حيثما دار عليّ». و للحديث مضامين مختلفة الألفاظ متّحدة المعنى.
أقول: هذه الرواية تدلّ على عصمة عليّ (ع) عن الخطأ و الكذب في بيان الأحكام و غيره، و عن المعصية الكبيرة و الصغيرة في أفعاله و تروكه، عمداً و سهواً، قبل إمامته و بعده و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج(2): نصّ أبو محمّد بن متويه في كتاب الكفاية على أنّ عليّاً معصوم، و إن لم يكن واجب العصمة، و لا العصمة شرط في الإمامة، و لكن أدلّة النصوص قد دلّت على عصمته و القطع على باطنه و مغيبه، و أنّ ذلك أمر اختصّ هو به دون غيره من الصحابة، و الفرق ظاهر بين قولنا: زيد معصوم، و قولنا: زيد واجب العصمة؛ لأنّه إمام و من شرائط الإمام أن يكون معصوماً. فالاعتبار الأوّل مذهبنا، و الاعتبار الثاني مذهب الإمامية، انتهى كلامه.
قال ابن روزبهان الأشعري(3)... و عصمته و طهارته و فضائله كلّها مسلمة.
و أمّا ما استدلّ به - يعني العلاّمة الحلّي (قدس سره) - من كونه - أي علي - معصوماً أو واجب التصديق لصدقه و الجزم بعدم كذبه فكلّها من فضائله و لا يقتضي أن يكون قوله حجّة، لما ذكرنا أنّ الحجّة قول صاحب الشرع أو من قال فيه صاحب الشرع أنّ قوله حجّة.. فإجماع العترة لا
ص: 280
يكون حجّة و إن كانوا صادقين.
أقول: الغرض من نقل كلامه هو اعترافه بعصمة عليّ (ع) و قد تمّ، و أمّا إنكاره حجّية قول المعصوم فهو سخيف واضح البطلان، على أنّ النبيّ الخاتم قد صرّح بحجيّة قول العترة كما عرفت من الأخبار المتواترة المتقدّمة مثل حديث الثقلين و السفينة و غيرهما، فإنكاره هذا لا محمل له سوى العصبية و التنفّر عن سبيل الحقّ و أهله. و قد أنطق الله جملة كثيرة من المخالفين بالحقّ، فصرّحوا بلزوم اتّباع أهل البيت و وجوب محبّتهم، فلاحظ العبقات في ما تعرّض مؤلفه المحقّق المتتبع النقّاد لحديث الثقلين و غيره.
هذه نبذة من دلائلنا على قولنا بوجوب اتّباع أهل البيت (عليهم السلام) في الأمور الشرعية، كلزوم اتّباع النبيّ (ص) فيها، فلا فرق بينه (ص) و بينهم (ع) من هذه الحيثيّة أصلاً. و أنت إذا تذكّرت بطلان طريق الزيديّة و مسلك الإسماعيليّة تتيقّن بأنّ الذي يجب إطاعتهم و متابعتهم هم الخلفاء الاثنا عشر من آل محمّد (ص)، و إن عمّ لزوم المحبّة لجميع أهل البيت.
نزلنا و قلنا بعدم وجوب متابعتهم، فلا أقلّ من الالتزام بجواز متابعتهم و عدم حرمتها، و حينئذ نقول: إن كان الحكم الشرعي المبتلى به متّفقاً عليه بين أرباب المذاهب فهو و إن كان مختلفاً فيه فلا يصحّ الأخذ بجميع الآراء لبطلان التناقض و عدم إمكان العمل على وفقها، فإذن يجب الأخذ بقول العترة، و رفض فتاوي غيرهم؛ لأنّ متابعة العترة جائزة قطعاً و اتّباعهم لا يوجب الضلال بالنصّ النبوي، بخلاف متابعة غيرهم فإنّها غير مأمون الضلال، والنتيجة لزوم الاقتداء بالعترة الطاهرة سلام الله عليهم أجمعين، فيحرم متابعة غيرهم لا محالة.
ثمّ نتسائل أهل السنّة عن الدليل على صحّة الاقتداء بمذاهبهم الأربعة المعروفة؟ إذ الاقتداء بمن لم يدلّ على حجّيّة قوله دليل شرعي بدعة و محرّم بلا ريب.
قال قائلهم: و قد دان بها - أي بالمذاهب المذكورة - السلف الصالح و رأوها أعدل المذاهب و أفضلها، و اتّفقوا على التعبّد بها في كلّ عصر و مصر و أجمعوا على عدالة أربابها و اجتهادهم و أمانتهم و ورعهم.
أقول: عمل جماعة من الناس في القرن الثاني و الثالث مع اختلاف كثير بينهم في شأن أرباب مذاهبهم لا يكون حجّة شرعية على المسلمين في القرون الآتية.
و لئن كان لفعل الصحابة في خلافة أبي بكر شبهات يمكن أن يزعم بها حجّيّته فهي لا توجد في المقام؛ إذ من الضروري عدم وفاء آية و رواية بحجيّة قول كلّ سلف بالنسبة إلى اللاحقين،
ص: 281
و لا طريق غيره على إحراز أفضليتهم أصلاً. حتّى من أفاضل الأجيال الآتية إلى يوم القيامة.
و لو قال قائل إنّ أرباب المذاهب من المجتهدين بالضرورة نقول: نعم، لكنّ اللازم تقليد الأعلم لا مطلق المجتهد، فما معنى تعدّد المذاهب؟ فلا بدّ من رفضها و العمل بمذهب الأعلم، و هل هو إلاّ العترة الطاهرة التي في طليعتهم جعفر بن محمّد الصادق (ع).
و على الجملة: لا دليل و لا شبهة للقوم في انحصار المذاهب بالأربعة و لا في جواز الأخذ بأقوالهم غير وجدانهم آبائهم على ذلك و أنّهم على آثارهم مقتدون!!!.
ثمّ إنّا كما نسأل خلفهم عن دليل الاقتداء كذلك نسأل سلفهم عن وجه اقتدائهم بأرباب المذاهب المذكورة و انحصار حجّية الفتوى بفتاويهم؛ إلاّ أن يجيبنا سلفهم باقتداء خلفهم بهم!!!.
ثمّ أضف و أقول: إنّ أبا حنيفة ولد سنة (80) و توفّي سنة (150) و ولد مالك سنة (95) و مات سنة (179) و ولد الشافعي سنة (150) و مات (204) و ولد أحمد سنة (164) و مات (241). و الذين آمنوا و عملوا الصالحات قبل اجتهاد هؤلاء القوم إلى وفاة النبيّ الأكرم (ص) لم يكونوا على هذه المذاهب. فهل عملهم صحيح أم لا؟ فإذا كان صحيحاً فما الدليل على انحصار براءة الذمّة بفتوى هؤلاء الأربعة بعدما لم يكن كذلك؟
و ما الدليل على نسخ حجّيّة أقوال العترة الطاهرة بعد ما أثبتها النبيّ الأكرم كما عرفت؟
و لو اجتمع الجنّ و الإنس على أن يأتوا بجوابه لن يأتوا به، و لو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
لقد طفت في تلك المعاهد كلّها *** و سيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلاّ واضعاً كف حائر *** على ذقن أو قارعاً سن نادم
نعم، للقوم فرية طامّة أخرى علينا قالوا(1): و كانت الإماميّة أوّلاً على مذهب أئمتهم حتّى تمادى بهم الزمان، فاختلفوا و تشعّب متأخّروهم إلى معتزلة إمّا و عيدية أو تفضيلية، و إلى أخبارية يعتقدون ظاهر ما ورد به الأخبار المتشابهة، و هؤلاء ينقسمون إلى مشبّهة يجرّون المتشابهات على أنّ المراد بها ظواهرها، و سلفيّة يعتقدون أنّ ما أراد الله بها حقّ بلا تشبيه كما عليهالسلف، و إلى ملتحقة بالفرق الضالة، انتهى.
أقول: لو سوّغنا الكذب و الافتراء و الاختلاق لأنفسنا كما سوّغوها لأنفسهم لقابلنا كلامهم بأنّ البكريين كانوا أوّلاً على الاعتقاد بخلافة الخلفاء و على مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد حتّى تمادى بهم الزمان فاختلفوا فتشعّب متأخّروهم إلى يهوديّة و إلى نصرانيّة و إلى مجوسيّة و إلى فرق ملتحقة بالماديّين و الدهريّين!!!.
أليس من المؤسف جدّاً من هؤلاء الذين يدعون العلم و الديانة أن يتفوّهوا بهذه الأكاذيب و المفتريات؟ أليس من حكم العقل الاجتناب عن مثل هذه الخرافات الواضحة التي يعرف كلّ أحد حماقة قائليها أو عصبيّتهم البغضية بعد عجزهم عن البرهان و الدليل(2).
ص: 282
أليس نسبة الإماميّة إلى أئمتهم أظهر من نسبة الحنفيّين إلى أبي حنيفة، أليس فقه الإماميّة و أصول دينهم غير العقليّة المستقلة مأخوذة من أمير المؤمنين و الأئمة من أولاده، لا سيّما الإمام الهمام الناطق بالحقّ حجّة الله في الأرضين خازن علوم الأنبياء و المرسلين جعفر بن محمّد الصادق صلوت الله عليه و على آبائه؟. أليس إنكار لأجلى المحسوسات؟.
من هم الإماميون الذين انتقلوا إلى الاعتزال؟ متى التحق إماميّ بالوعيديّة؟ و هل المشبّهة إلاّ من أهل السنّة كما مرّ؟ و هل يوجد في الإماميّة أحد لا يقول بالتوحيد الخالص؟!! لن يوجد أصلاً. و حاشا الجعفريّين عن ذلك، و إنّما التشبيه و التجسّم و التعليل من شأن المنحرفين عن السفينة المنجية المحمّديّة.
نعم، الإماميّة تنقسم إلى الأصولية - هم جمهورهم - و الأخبارية - و هم القليلون جدّاً - في الفروع الفقهيّة فقط، و الاختلاف بينهم قليل جدّاً كاختلافهم في اعتبار الحياة في المجتهد الذي يقلّده العامّي في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فإنّ الأصوليين يقولون باعتبارها في التقليد الابتدائي، و لازم كلام الأخباريين أو صريحه عدمه، كاختلافهم في ما لا نصّ فيه من الشبهات التحريمية حيث يذهب الأخباريون إلى لزوم الاحتياط! و الأصوليون إلى البراءة و جواز الارتكاب و غير ذلك من الموارد المختلفة التي هي أقلّ من الاختلافات الواقعة بين المجتهدين من مذهب واحد من مذاهب العامّة فضلاً عن المجتهدين من مذهبين، و ليس في الأخباريّين من الإماميّة أحد يذهب إلى التشبيه الذي يقول به الحنابلة و الكراميّة و غيرهما من أهل السنة، نعم لا شيء أحسن لإفساد مذهب الإماميّة من إنكار نسبتهم إلى العترة في أصولهم و فروعهم، بعد ما تواترت السنة النبويّة بلزوم اتباع أهل البيت (عليهم السلام) و لكن كلمة الله هي العليا.
و يأبي الله إلاّ أن يتمّ نوره و لو كره الكارهون.
فالمتحصّل من جميع ذلك أنّه لانجاة و لا فوز و لا إيمان و لا سعادة إلاّ باعتناق مذهب الإماميّة الذي هو مذهب العترة الطاهرة هذا صراط ربّك مستقيماً
ما كتاب بخت هفتاد و دو ملت خوانده ايم *** خط غلط معنى غلط املاء غلط انشاء غلط
ص: 283
المعتبر في الإمام أن يكون عالماً بما يحتاج إليه رعاياه من الأصول الاعتقاديّة و الفروع العمليّة أو ما يحتاج إليه الإمام في مقام المعجزة، لئلاّ يلزم نقض الغرض القبيح على الله تعالى. لكنّ الله تعالى بسابق فضله و دائم إحسانه أعطى لنبيّه الأكرم الخاتم (ص) و لأوصيائه الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) فوق ذلك بكثير، و إليك ما فزت به من أخبار الدالّة عليه بنحو الفهرس و هو على أنواع(1):
النوع الأوّل: ما يدلّ على وجود الجامعه عندهم. و فيها ذكر جميع الأحكام الشرعيّة حتى أرش الخدش، و هي - أي الجامعة - بإملاء رسول الله (ص) و خطّ أمير المؤمنين (ع). و ربّما سمّيت - «كتاب علي» و ب - «الصحيفة» و قد يطلق عليها الجفر أيضاً في بعض الروايات، و هذا القسم أكثر من أربعين رواية فليكن ثبوت الجامعة مفروغاً عنه، و في جملة من هذه الروايات أنّ طول الجامعة سبعومن ذراعاً(2).
النوع الثاني: ما يدلّ على وجود الجفر عندهم، و فيه كتب الأنبياء أو علم ما يكون و ما كان و ربّما وصف بالأبيض تميّزاً من الجفر الأحمر الذي فيه السلاح، و لا يفتحه إلاّ القائم عجّل الله تعالى فرجه - كما في جملة من الروايات، و هذا القسم أكثر من خمس عشر رواية، و في بعضها أنّ فيه - أي الجفر الأبيض - الحلال و الحرام. و لعلّمها نم الشرائع السابقة، فإنّ المتضمن لأحكام شرعنا هي الجامعة كما عرفت، و للجرجاني الأشعري حول الجامعة و الجفر كلام سيمرّ بك.
النوع الثالث: ما يدلّ على أنّهم (عليهم السلام) يعلمون علم الأنبياء و الملائكة عليهم السلام، و هوأكثر من خمس و عشرين رواية. و فيه ما دلّ على أنّ لله تعالى علماً مخصوصاً لا يعلم غيره.
ص: 284
النوع الرابع: ما يدلّ على أنّ العالم لم يرفع، و لم يذهب بموت عالم و أنّه يتوارث، و هذا يتّحد معنى بالقسم السابق كما لا يخفى، و يدلّ أيضاً على انتقال علم النبيّ الأكرم إلى الأئمة، و إلى انتقال علم كلّ إمام سابق إلى الإمام اللاحق. و عدد الروايات الدالّة عليه أكثر من خمس و ثلاثين.
النوع الخامس: ما يدلّ على وجود كتب الأنبياء عندهم و قرائتهم إيّاها، و أنّ عليّاً (ع) عند تمكّنه يحكم بين أهل كلّ كتاب بكتابهم، و هو أربع و عشرون رواية:
و هذه الأقسام الأربعة كلّها تدلّ على أعلميّة الأئمة (عليهم السلام) من كلّ واحد من الأنبياء (عليهم السلام) كما لا يخفى و لا سيّما إذا أضيف إليها القسم الأول، و القسم التاسع و العشرون، الآتي أيضاً، و الحقّ أنّ زيادة علم النبيّ الخاتم و أوصيائه (عليهم السلام) من علم الأنبياء من القطعيّات التي لا يشكّها من لاحظ الأخبار المشار إليها.
النوع السادس: ما يدلّ بصراحة على أنّهم (عليهم السلام) أعلم من الأنبياء (ع) و هو أكثر من خمسة عشر رواية و هذا القسم لا يفيدنا بعد الأقسام المتقدّمة إلا تأكيد و تصريحاً.
النوع السابع: ما يدلّ على أنّ عندهم مصحف فاطمة سلام الله عليها و هو مشتمل على ما يكون من الوقائع و في بعضها: ليس ملك يملك إلاّ هو مكتوب باسمه و اسم أبيه، و ليس فيها من الحلال و الحرام شيء و لا من القرآن حرف، و قد حدّثها الملك إيّاها بعد فوت أبيها النبيّ الأكرم (ص) و في بعض الأخبار أنّها بكتابة أمير المؤمنين (ع)، و هذا القسم تسع عشرة رواية، و في بعضها أنّه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرّات.
و أمّا ما في بعض الروايات من أنّه بإملاء رسول الله و خطّ عليّ، و ما في بعضها الآخر: أنّ فيه ما يحتاج الناس، حتّى أنّ فيه الجلدة بالجلدة، و نصف الجلدة، و ثلث الجلدة، و ربع الجلدة، و أرش الخدش فلا بدّ من توجيههما بما لا ينافيان بقية الروايات.
و يمكن أن يحمل إملاء رسول الله (ص) على أنّ الملك إنّما يخبرها بما يخبرها عن قبل النبيّ الخاتم (ص).
النوع الثامن: ما يدلّ على أنّ رسول الله (ص) علّم وصيّه عليّاً (ع) ألف باب - أو كلمة أو حرف - يفتح من كلّ باب ألف باب(1).
ثمّ إنّ هذا يجزي في جميع الأئمة (عليهم السلام) لما مرّ من عدم ذهاب العلم بموت العالم، و لما دلّ صريحاً(2) على تساويهم في العلم.
ص: 285
النوع التاسع: ما يدلّ على أنّهم خزّان علم الله تعالى. و هو ستّ عشر رواية.
النوع العاشر: ما يدلّ على وجود الناموس عندهم، و هو كتاب فيه أسماء الشيعة، و هو ثلاث عشرة روايات. و يستفاد من بعضها أنّ الله تعالى دفعه إلى النبيّ الأكرم (ص) ليلة المعراج و هو دفعه إلى وصيّه أمير المؤمنين:
النوع الحادي عشر: ما يدلّ على أنّهم يعرفون الناس بحقيقة الإيمان و حقيقة النفاق، و هو أكثر من عشرين رواية.
النوع الثاني عشر: ما يدلّ على أنّ النبيّ (ص) أودع أم سلمة كتاباً تقدّم عليّاً إذا صعد منبره، فكأنّه مخصوص بخلافته. و هذه الروايات ثلاث أو أربع. و المتتبع يجد لعليّ (ع) كتب أخرى في الروايات(1) ففي بعضها(2) عن قول عليّ (ع): «ايم الله إنّ عندي لصحف كثيرة قطايع رسول الله (ص) و أهل بيته و إنّ فيها لصحيفة يقال لها العيطة و ما ورد على العرب أشدّ عليهم منها، و إنّ فيها لستين قبيلة من العرب بهرجة - أي الباطل الردي - ما لها من دين الله من نصيب».
النوع الثالث عشر: ما يدلّ على علمهم بجميع ما يحتاج إليه الأمّة و هو خمس روايات، ثلاث منها في البحار، و اثنتان منها في أصول الكافي.
النوع الخامس عشر: ما يدلّ على أنّه لا يغيب عنهم شيء من أمر الناس، و لو أنّهم تحفّظوا لأخبر كلّ واحد منهم بما يرجع إليه، و أنّهم عالمون بالمنايا و البلايا و الأنساب. و هو أكثر من ثلاثين رواية.
النوع السادس عشر: ما ورد في علمهم باللغات، و هو سبع روايات كما نقلها المجلسي (قدس سره) في بحاره ثمّ قال في جواب الشيخ المفيد (رحمه الله) حيث توقّف في ذلك: أمّا كونهم عالمين باللغات فالأخبار فيه قريبة من حدّ التواتر.
النوع السابع عشر: ما دلّ على إرادة الملكوت لهم، و هو أكثر من عشرة روايات.
النوع الثامن عشر: ما نطق بعلمهم بما كان و ما يكون إلى يوم القيامة و هو سبع روايات: اثنتان منها في الكافي، و خمس منها في البحار، و قال المجلسي (قدس سره) بعد ذكر بعضها: و سيأتي مثله بأسانيد في كتاب القرآن.
النوع التاسع عشر: ما يدلّ على أنّهم يرون ما بين المشرق و المغرب، و ما ورد في أنّه يرفع لهم في كلّ بلد عمود من النور ينظرون إلى أعمال العباد. و هو أربع عشرة رواية.
النوع العشرون: ما يثبت لهم العلم الحادث، و أنّه يحدث لهم في الليل و النهار، و هو قريب
ص: 286
من عشرين رواية:
النوع الواحدو العشرون: ما يدلّ على أنّه ينقر في أذنهم - و هو الإسماع و ينكت في قلبهم - و هو الإلهام - و هو قريب من النوع السابق معنى، فإنّ حدوث العلم إنّما هو بالنقر و النكت. بل صرّح بذلك في بعض الروايات(1).
النوع الثاني و الشعرون: ما يدلّ على أنّهم لو لا يزدادون لا نفدوا ما عندهم، و هو سبع عشرة رواية.
النوع الثالث و العشرون: مان ينطق بزيادة علومهم ليلة الجمعة، و هو عشرة روايات.
النوع الرابع و العشرون: ما يدلّ على إتيان خبر السماء و الأرض صباحاً و مساءً لهم، و هو ستّ روايات.
النوع الخامس و العشرون: ما يدلّ على أنّهم إذا شاءوا أن يعلموا علموا، و هو تسع روايات.
النوع السادس و العشرون: ما دلّ على حصول العلم لهم في الرؤيا، و هو روايتان، لكن ينافيه ما سبق في أوائل هذا المقصد في بيان الفرق بين الإمام و النبيّ.
النوع السابع و العشرون: ما دلّ على أنّهم محدّثون - بفتح الدال و تشديدها - و هو أكثر من خمس و خمسين رواية.
النوع الثامن و العشرون: ما يدلّ على عرض أعمال العباد على رسول الله و الأئمة (عليهم السلام)، و هو أكثر من ستّ و ثلاثين رواية. و أمّا تحديد وقت العرض فالأخبار فيه مختلفة.
النوع التاسع و العشرون: ما دلّ على نزول الأمور إليهم في ليلة القدر. و هو أكثر من عشر روايات.
أقول: و هذه الأنواع الأحد عشرة كلّها تدلّ على العلم الحادث كما هي ليست بسرّ.
النوع الثلاثون: ما يدلّ على أنّ عندهم من الاسم الأعظم اثنين و سبعين حرفاً، و لم يكن هذا المقدار عند أحد غيرهم (عليهم السلام) و هو أربع عشرة رواية.
النوع الواحد و الثلاثون: ما دلّ على علمهم بموتهم، و هو إحدى عشرة رواية، ستّ في الكافي، و خمس في البحار، لكن قال المجلسي (قدس سره):(2) و سيأتي أكثر الأخبار في ذلك في أبواب وفاتهم إن شاء الله.
و هنا أنواع أخرى من الروايات مثل ما ورد في أنّهم الراسخون في العلم. و ما دلّ على أنّهم معدن العلم.
ص: 287
و ما نطق بأنّهم يعلمون منطق الطير و غير ذلك ممّا يطول بنا المقام إن بنينا على استقصاء فهارسه، فلا جرم اكتفينا بهذا المقدار. و أعلم أنّ هذه العناوين المتعدّدة ربّما تتحدون في بعض المصاديق، فلا تعقل...
و القرآن الكريم يؤيّد السنّة في دلالتها على إثبات العلوم المتقدّمة للأئمة (عليهم السلام) و إليك بعض آيات الشريفة:
1 - عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّٰ مَنِ اِرْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ (1).
2 - وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ (2).
و نبيّنا الخاتم (ص) إمّا هو المرتضى المجتبى أو من جملة المرتضين و المجتبين، و باتّفاق المسلمين أنّ عليّاً (ع) وارث علمه (ص)؛ و لذا أخبر بعدّة من الغائبات، منها شهادته بيد ابن ملجم - لعنه الله و لعن من ادّعى اجتهاده و عذره - كما صرّح بذلك ابن حجر في صواعقه.
و أيضاً قد عرفت دلالة الأخبار على عدم ذهاب العلم و رفعه بموت العالم.
3 - فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ (3).
4 - تَنَزَّلُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهٰا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاٰمٌ هِيَ حَتّٰى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ(4).
5 - كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (5).
6 - وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (6).
7 - مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (7)، ثمّ يقول:
ص: 288
8 - قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ (1). و هو عليّ (ع).
9 - (ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا)(2) و لا عباد أصفى بعد النبيّ من أوصيائه الطاهرين، و الروايات الدالّة على تفسير العباد المصطفين بهم (عليهم السلام) كثيرة و لعلّها متواترة و لو إجمالاً(3) و هي مفسّرة للآية بتمامها فلاحظ.
قد تقدّم أنّ عليّاً (ع) وارث علم النبيّ الأكرم باتّفاق المسلمين كما ادّعاه الذهبي، و هو باب مدينة العلم النبوي، فما أعطاه الله لنبيّه فقد أعطاه النبيّ الأكرم وصيّه أمير المؤمنين (ع) و هكذا كلّ إمام أودعه إلى من بعده من وصيّه، و قد تقدّم روايات العامّة الدالّة على أعلمية أهل البيت و لا سيّما سيّدهم أمير المؤمنين (ع).
قال الجرجاني في شرح المواقف(4) عند قول الماتن... الجامعة و الجفر: و هما كتابان لعليّ رضي الله عنه، و قد ذكر فيهما على طريقة الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم، و كانت الأئمة المعرفون (المعروفون ظ) من أولاده يعرفونها و يحكمون بهما، و في كتاب قبول العهد الذي كتبه عليّ بن موسى رضي الله عنهما إلى المأمون: إنّك قد عرفت من حقوقنا ما لم يعرفه آباؤك، فقبلت منك عهدك، إلاّ أن الجفر و الجامعة يدلاّن على أنّه لا يتمّ، و لمشايخ المغاربة نصيب من علم الحروف، ينتسبون فيه إلى أهل البيت، و رأيت أنا بالشام نظماً أشير فيه بالرموز إلى أحوال ملوك مصر، و سمعت أنّه مستخرج من ذنبك الكتابين. انتهى كلامه. و فيما ذكره أخيراً نظر لا يخفى على أهله.
و اعلم أنّا لا نحتاج في أمثال المقامات إلى الاعتناء بروايات العامّة و أقوال علمائهم بعد ما مرّ في الأبواب الثلاثة المتقدّمة إمامة الأئمة (عليهم السلام) و حجيّة أقوالهم كما لا يخفى، و أنّا ذكرنا هذا المقدار لمجرد التأكيد لا غير.
إذا تذكّرت هذه الروايات الكثيرة المتجاوزة عن حدّ التواتر فنرجع الآن إلى بيان مداليلها
ص: 289
و توضيح ما يحتاج منهما إلى البيان في ضمن فوائد فنقول:
الفائدة الأولى: هل النبيّ الخاتم و الأئمة (عليهم السلام) عالمون بكلّ شيء علماً تفصيليّاً كما يعلم الله كلّ شيء كذلك، أم لا؟ لا شكّ في إمكانه، و ما تخيّله بعض البسطاء المعاندين من استلزام ذلك الشركة مع الله تعالى في علمه فاسد، فإنّ علم الله تعالى واجب غير مفاض و لا محدود بحدّ؛ و لذا يتعلّق بذاته تعالى و صفاته و علم النبيّ الخاتم و أوصيائه (عليهم السلام) حادث مفاض من قبل الله تعالى بحيث لو لا إفاضته تعالى عليهم لما علموا شيئاً، و محدود بحدّ خاصّ؛ و لذا لا يحيط بذات الواجب و صفاته ضرورة امتناع إحاطه المحدود بغير المتناهي كما مرّ مفصّلاً في الجزء الثاني فأين الشركة؟!.
و إنّما الكلام في الدليل على وقوعه، و إنّه هل لنا دليل عليه أم لا؟ و قد استدلّ بعضهم عليه بوجوه:
1 - إنّ العلم نور، و النور حقيقتهم، فينتج أنّ العلم حقيقتهم.
2 - إنّ الجهل ظلمة، و الظلمة تضاد النور، فيستحيل اجتماعهما بالضرورة فلا يتحقّق فيهم الجهل لما عرفت من أنّهم (عليهم السلام) خلقوا نوريّين.
3 - الجهل خبيث، و قد طهّرهم الله تطهيراً.
4 - قاعدة إمكان الأشرف الحاكمة باستقلال العقل عموم علمهم، كما أنّ مقتضى الفياضيّة للغني بالذات هو إفاضته كذلك بالنسبة إلى المواد التامّة في القابليّة، و إلاّ لزم اتّصاف المبدأ بنقص الافتقار أو البخل، و قد ثبت كماله و غناه.
5 - إنّهم الشهداء على العباد، بدليل اللطف، فإنّه كلّما علم العباد ما اختصّ الله به حججه من العلم بالضمائر و السرائر كانوا أبعد عن المعصية و أقرب إلى الطاعة. و يشهد له قوله تعالى: (قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ)(1) أي الأئمة (عليهم السلام).
6 - ما ثبت من وجوب تنزيه الإمام عن الخطأ و النقص المنفّر للطبع، فلو جهل الإمام كغيره بالقبلة مثلاً أو تحيّر لزمه ذلك، بل ربّما أدّى إلى السخرية و الاستخفاف به.
أقول: هذه الوجوه عندي ضعيفة لا تثبت مرام المستدلّ، فإنّ الأوّل فاقد عن كلّيّة الكبرى، و لأجله يبطل الثاني أيضاً.
و الثالث ممنوع بأنّ الخبيث الذي هو مصداق الرجس المنفي عنهم (عليهم السلام) غير شامل للجهل و عدم العلم، بحسب طريقة أهل المحاورة و مواضعة أهل اللغة.
ص: 290
و الرابع شعري الصدر خطابي الذيل كما يظهر لمن تدبّر البحوث المذكورة في الجزأين المتقدّمين من هذا الكتاب.
و أمّا الخامس فصغره مسلّمة شرعاً لا عقلاً، لما مرّ من إبطال وجوب اللطف عليه تعالى، لكن لا كبرى له و لا تعرّض لها من المستدلّ، و بعبارة واضحة كونهم (عليهم السلام) شهداء على العباد و عالمين بأعمالهم لا يستلزم و لا يلازم عموم علمهم بكلّ شيء كما لا يخفى.
و أمّا السادس فتسليمه لا يثبت المرام إذ نفي الجهل عمّا يوجب النفرة و الاستخفاف لا يوجب عموم العلم كما لا يخفى.
فهذه الوجوه لا يصحّ الاعتماد عليها في إثبات هذا المرام، و إنّما العمدة فيه الأخبار الدالّة عليه، كرواية(1) حسن بن راشد، و رواية ابن نباته و روايتي أبي بصير، و رواية الحرث و عدّة من أصحابنا، و رواية عبد الأعلى، و رواية بن سيف، و رواية معاوية بن وهب و رواية مفضّل، و رواية حسن بن عبد الله الدالّة على عملهم بما كان و ما يكون(2)، و رواية صفوان الدالّة على أنّهم يعلمون علم الأوّلين و الآخرين، و مرسلة ابن أعين على علمهم بما في الأرض و ما في الدنيا و غيرها، و رواية سليم بن قيس الدالّة بكلّ شيء، و رواية أبي جعفر (ع) الناطقة بأنّ العلم كلّه عندهم، و رواية عبد الحميد الدالّة على علمهم بالكتاب الذي فيه تبيان كلّ شيء، و ما من غائبة في السماء و الأرض إلاّ فيه. و غير ذلك من الروايات الدالّة على عموم علمهم (عليهم السلام).
و لعلّ المحقّق الاشتياني الأصولي(3) نظر إلى هذه الروايات و أمثالها حيث قال: و إن كان الحقّ وفاقاً لمن له إحاطة بالأخبار الواردة في باب كيفيّة علمهم و خلقهم (عليهم السلام) كونهم عالمين بجميع ما كان و ما يكون و ما هو كائن، و لا يعزب عنهم مثقال ذرة إلاّ اسم واحد من أسمائه الحسنى تعالى شأن المختصّ علمه به تبارك و تعالى، سواء قلنا بأنّ خلقتهم من نور ربّهم أوجب ذلك لهم، أو مشيئة باريهم في حقّهم أودعه (عته ظ) فيهم.. فلا غرو في علمهم بجميع ما يكون
ص: 291
في تمام العوالم فضلاً عمّا كان أو ما هو كائن كما هو مقتضى الأخبار الكثيرة المتواترة الخ.
أقول: و هنا وجه آخر، و هو ما تقدّم من ضمّ قوله تعالى: (وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ)(1).
و قوله تعالى: مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ (2) و قوله: وَ مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ (3) الخ و غيرها إلى قوله تعالى: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ (4) و قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ...(5). فإنّه ينتج عموم علمهم (عليهم السلام) إلاّ أن يحتمل أنّ الكتاب المتضمّن لذكر كلّ شيء هو اللوح المفحوظ، و الكتاب المعلوم الموروث هو القرآن الكريم فلا يفيد تلك النتيجة، على أنّ ذكر الأشياء تفصيلاً في القرآن غير موجود بالضرورة، و إجمالاً غير كافٍ لما نحن بصدده.
أو يقال إنّ الآيات القرآنيّة الشريفة، و كذا الروايات السابقة المذكورة لا تشمل جميع الموضوعات الخارجيّة حتّى سقوط ورقة و حركة يد أحد و جريان ماء في نهر خاصّ في وقت خاصّ، و أمثال ذلك، فتدبّر.
قال بعض السادة الأعلام(6): لا إشكال في حدوث علمهم، و كونها مسبوقة بالعدم الأزلي، و لكن قد يتوحش تجويز الجهل في حقّهم، نظراً إلى ما ورد في روايات مستفيضة من أنّ من اعلام الإمام أنّه كان يعلم علم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و هذا في الجملة معلوم، بل يمكن دعوى كونه من اعتقادات الإماميّة، و ضروريّات مذهبهم، و لكن كونه بالنسبة إلى الموضوعات الخارجيّة الغير المحصورة و الوقائع الشخصيّة الغير المتناهية التي تتّفق لعموم الناس في منازلهم و مساكنهم و سائر حالاتهم الغير المحصورة في عهد كلّ إمام على وجه الإيجاب الكلّي بإيقاف من الله سبحانه و إعلامه - و لو في غير مقام المعجزة و إظهار الكرامة
ص: 292
و إعلان الفضيلة - غير واضح، حيث لم يساعد عليه برهان من طريق العقل و النقل.
و المنساق من الروايات المشار إليها بعد مراعاة الجمع بينها و بين معارضتها من جهات شتّى كما يقف المتتبّع ليس بأزيد من العلم بالموضوعات الجزئيّة و الوقائع الشخصيّة في الجملة على طريقة المهملة.
و الفرق بيننا و بينهم من هذه الجهة - مع أنّ القضيّة الجزئيّة حاصلة لنا أيضاً - أنّا لا نعلم إلاّ بعضاً قليلاً من كثير بالأسباب العاديّة بإعلامه تعالى غيره من الأسباب العاديّة المتعارفة و أنّهم كانوا يعلمون كثيراً و جمّاً غفيراً، زيادة على علومهم الحاصلة بالأسباب العاديّة بإعلامه تعالى و غيره من الأسباب الغير المتعارفة الخارقة للعادات، هذا مع كون مرادهم من علم ما كان و ما يكون العلم الإرادي على معنى أنّهم إذا شاؤوا أن يعلموا شيئاً ممّا جهلوه أعلمهم الله، كما يشهد به أخبار مستفيضة، انتهى.
أقول: ما أفاده من انصراف العمومات المذكورة عن تلك الجزئيّات أظنّه مرضيّاً عند كلّ ذي ذوق سليم، قال الله تعالى: (عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا)(1) إلخ فلا يثبت العموم و لو مع الغض عن ما يعارض العمومات المذكورة، فعدم الحكم بالكليّة المطلقة و إلحاق علم الإمام (ع) بعلم الله تعالى من حيث الشمول و العموم ليس لأجل المانع بل لعدم المقتضي.
نعم، لو فرضنا المقتضي تامّاً كان التوقّف عن الحكم الكلّي مستند إلى المانع، و إليك بيانه على نحو يناسب المجال:
1 - ما دلّ على أنّ الله علماً مخصوصاً لا يعلمه غيره(2).
2 - ما دلّ على أنّ الله استأثر بحرف واحد من الاسم الأعظم في علم الغيب المكنون عنده(3).
3 - ما دلّ على العلم الحادث بجميع أنواعه، و هو متجاوز عن التواتر كما عرفت. فلو كانوا عالمين بكلّ شيء ابتداءً لم يبق حاجة إلى العلم المذكور كما لا يخفى. و هذا دليل قاطع.
4 - ما دلّ على أنّهم إذا سئلوا عن الشيء، و لم يكن عندهم تتلقّاهم به روح القدس، و هو عدّة من الروايات(4).
ص: 293
5 - ما مرّ في باب نفي السهو عنهم من الروايات.
6 - صحيحة الحلبي التي رواها الكليني و الشيخ الطوسي(1) عن الصادق (ع):... قال إنّ أبي كان ليلة يصلّي و أنا آكل، فانصرف فقال: أمّا جعفر فأكل و شرب بعد الفجر، فأمرني فأفطرت ذلك اليوم في غير شهر رمضان.
7 - رواية عبد الحميد بن سعيد قال: بعث أبو الحسن غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة، فقامر بها، فلما أتى به أكله. فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار. قال فدعا بطشت، فتقيّأ فقاءه(2).
8 - رواية أبي بصير(3) قال: قلت لأبي عبد الله: إنّهم يقولون قال: و ما يقولون؟
قلت: يقولون: يعلم قطر المطر، و عدد النجوم، و ورق الشجر، و ورق ما في البحر، و عدد التراب. فرفع يده إلى السماء و قال: سبحان الله، لا و الله ما يعلم هذا إلاّ انتهى.
9 - ما عن ضوابط الأصول قال: الرابع: النصوص الدالّة بالاستلزام على عدم علمه بما وقع، و كالخبر أنّه (ع) استعمل ماء بئر فانكشف موت فأرة فيه، فغسل يده. قال: و لو علم لم يستعمل، و هو يبلغ حدّ التواتر.
أقول: في دعوى تواتر أمثال هذا الخبر تأمّل بل منع.
10 - رواية سدير عن الصادق (ع)(4) ففيها قوله: لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت منّي فما علمت في أيّ بيوت الدار هي، انتهى. و لا ينافيه ما في ذيل الرواية من أنّ علم الكتاب كلّه عنده (ع).
أقول: و الروايات غير منحصرة بما ذكرنا. و العمدة الثلاثة الأولى و ربّما قيل بحمل العمومات النافية على أحد هذه الوجوه:
1 - إنّهم ليسوا بمستغنين عنه تعالى.
2 - إنّ ذلك في أوّل أمرهم و ابتدائه.
3 - إنّه لا علم لهم من ذواتهم.
4 - العلم الغيب المستأثر.
5 - الحضور بالمعنى الأخصّ.
ص: 294
6 - نفي العمل بمقتضاه.
7 - ما لم يؤذن بإظهاره.
8 - المحتوم.
9 - المفصّل من المبرمات.
10 - التقيّة من ضعفاء الشيعة أو من المخالفين.
11 - غيبة روح القدس و غير ذلك.
أقول: لكن حمل الروايات على بعض هذه الوجوه بلا دليل إن لم يكن الدليل على خلافه، و على بعضها الآخر يثبت مراد النافي للكليّة المذكورة.
و المتحصّل: أنّ للنبيّ الخاتم و أوصيائه الكرام - صلوت الله عليه و عليهم - علوماً كثيرة، لم يعطها الله أحداً غيرهم، على نحو عرفت أنواعه و أقسامه ففي بعض الروايات(1): عن عليّ (ع): «و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة ما من فئة تبلغ مئة رجل إلى يوم القيامة إلاّ و أنا عارف بقائدها و سائقها، سلوني عن القرآن، فإنّ في القرآن بيان كلّ شيء، و فيه علم الأوّلين و الآخرين». إلخ، لكن مع ذلك ليس علمهم كعلم الله تعالى في تعلّقه بكلّ شيء من الأشياء الممكنة في جميع العوالم في الأزمنة الماضية و الحاليّة و المستقبلة، و سيأتي من المفيد (رحمه الله) دعوى إجماع الإماميّة على عدم الكليّة المذكورة، و أمّا تحديد كميّة علومهم على نحو التحقيق فهو غير ميسور لنا.
الفائدة الثانية: هل علم النبيّ و الإمام فاض عليهم دفعة أو تدريجاً و مستمراً؟
الحقّ هو الثاني لقوله (ع): «رب زدني علماً و عملاً و يقيناً إلاّ أن يقال إنّ ذيل الرواية و هو قوله: «و ألحقني بالصالحين». يدلّ على أنّ السؤال لم بسق لتحصيل ما لم يكن، فإنّه (ص) رأس الصالحين حتّى قبل رسالته. فتأمل(2).
و لقوله تعالى: (وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(3) و غيرهما. و للروايات المتواترة الدالّة على العلم الحادث. فدعوى أنّ الإمام واجد لتمام علمه المقدّر له من حين ولادته أو بلوغه أو إمامته بحيث لا يحصل له شيء جديد باطل جزماً.
ص: 295
ففي صحيحة ابن أذينة عن بريد(1) عن أبي جعفر (ع) قال: إنّ رسول الله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل الله عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلمه التأويل، و أوصياؤه من بعده يعلمون كلّه. قال: قلت: جعلت فداك إنّ ابا الخطاب كان يقول فيكم قولاً عظيماً، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنّكم تعلمون علم الحلال و الحرام و القرآن! فقال: علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث بالليل و النهار!! و الروايات الدالّة على أشرفية العلم الحادث كثيرة.
و على الجملة: الدعوى المذكورة تنا فيها الروايات المثبتة فضلاً عن النافية. فما في رواية أبي بصير الطويله غير المعتبرة سنداً(2) من قوله (ع): «و إذا وقع الإمام من بطن أمّه وقع واضعاً يديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فأمّا وضعه يديه على الأرض فإنّه يقبض كلّ علم لله أنزله من السماء إلى الأرض، و أمّا... فإذا قال ذلك - أي آية شهد الله.. - اعطاه الله العلم الأوّل و العلم الآخر» انتهى، لا بدّ من توجيهه لو صحّ صدور الرواية عنه (ع) مع أنّ لها معارضاً في نفس الباب.
الفائدة الثالثة: دلّت الأخبار الكثيرة على أنّهم (عليهم السلام) يعلمون ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و يعلمون الحلال و الحرام، و عندهم مصحف فاطمة (عليهاالسلام) المشتمل على وقائع ما يكون، و أنّ رسول الله (ص) علّم وصيّه ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب، و أنّ علم الكتاب كلّه عندهم إلى غير ذلك من أنواع الأخبار المشار إليها قبلاً، فإذن يقع الكلام و يصعب المقام من جهة العلم الحادث و أنّه أيّ شيء يبقى حتّى يحدث علمه لهم (عليهم السلام) به في ليالي الجمعة أو في الليل و النهار؟ و يمكن أن يجاب عنه بوجوه:
الأول: أنّ العلم ليس يحصل بالسماع و قراءة الكتب و حفظها، فإنّ ذلك تقليد، و إنّما العلم ما يفيض من عند الله سبحانه على قلب المؤمن يوماً فيوماً، ساعة فساعة، فينكشف به من الحقائق ما تطمئن به النفس، و ينشرح له الصدر، و يتنوّر به القلب.
و الحاصل أنّ ذلك مؤكّد و مقرّر لما علم سابقاً، يوجب مزيد الإيمان و اليقين و الكرامة و الشرف بإفاضة العلم إليهم بغير المرسلين.
أقول: ذكره المحدّث الفيض(3) من غير جعله جواباً للسؤال المذكور و يمكن أن يستدل له
ص: 296
بخبر أبي بصير(1) قال: سمعته يقول: «إنّا عندنا الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى.
فقال ضريس: أليست هي الألواح؟ فقال: بلى. قال ضريس: إنّ هذا لهو العلم! فقال: ليس هذا العلم! إنّما هذه الأثرة، إن العلم ما يحدث بالليل و النهار، يوم بيوم، و ساعة بساعة».
أقول: و عن الفيروز آبادي: الاثر - محركة - بقية الشيء و نقل الحديث و رواية كالإثارة، و الأثرة (بالضم) المكرمة المتوارثة، و البقية من العلم، يؤثر كالاثرة و الإثارة.
و رواية منصور بن حازم(2) قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «إنّ عندنا صحيفة فيه أرش الخدش.
قال: قلت هذا هو العلم، قال: إنّ هذا ليس بالعلم، إنّما هو اثرة، و إنّما العلم الذي يحدث في كلّ يوم في كلّ يوم و ليلة عن رسول الله (ص) و من علي بن أبي طالب (ع)».
أقول: قوله (ع): رسول الله إلخ معناه ظاهراً: بعد عرضه عليهما (عليهماالسلام) لئلا يكون الإمام أعلم النبي (ص) و الإمام السابق كما دلّ عليه روايات. و به يفرق بين الوحي و الإلهام.
و صحيحته،(3) عنه قال: قلت: إنّ الناس يذكرون أنّ عندهم صحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها ما يحتاج إليه الناس، و إنّ هذا لهو العلم! فقال أبو عبدالله (ع): «ليس هذا هو العلم، إنّما هو اثر عن رسول الله (ص) إنّ العلم الذي يحدث في كلّ يوم و ليلة».
أقول: و الإنصاف أنّ هذا القول ليس بمتين، فإنّ مثل هذا النحو من التقليد - أعني أخذ العلم من النبيّ الأكرم أو منه و من الإمام المعصوم ليس بأقل من العلم المأخوذ من الله تعالى بتوسّط الملك ابتداءً بلا توسّط بشر معصوم، و ليس فيه نقص، فلا يكون أشرفية العلم الحادث دليلاً على أنّه من الله تعالى ابتداءً، بل لعلّها بلحاظ أمر آخر. على أن أخذ العلم من الله بدون توسط النبي الأكرم (ص) وحي، لا إلهام و هو منفي في حقّهم.
على أنّ كلّ ما يفيض الله على الإمام فهو مسبوق بإفاضته تعالى إيّاء على النبيّ الأكرم، و الإمام الذي هو قبل هذا الإمام؛ لأنّه من أمّة النبيّ الأكرم (ص) على ما أشرنا إليه في تعريف الإمامة، و معنى المحدّث، و لئلا يلزم أعلميّة الإمام الحاضر من النبيّ الأكرم و الأئمة الذين سبقوا هذا الإمام كما دلّ عليه روايات، فلا فرق بين العلم الحادث و غيره من هذه الحيثيّة.
و الذي يبطل هذا القول بلا تردّد، هو أنّ العلم الحادث إن كان عين علمهم الغير الحادث فهو بعيد عن مساق جميع ما دلّ على العلم الحادث الظاهر في أنّه علم جديد لا تأكيد لما علموا،
ص: 297
بل صريح ما دلّ على عدم علمهم بالواقعة قبل العلم المذكور، و صريح ما ورد في أنّه لو لا العلم الحادث لنفد ما عندهم يرد هذا الاحتمال كما لا يخفى. و إن كان غيره فهو مورد الإشكال، و السؤال المتقدّم و إنّه أيّ شي لم يعلموه حتّى يحدث لهم علمه؟ فهذا الجواب فليكن مفروغاً عن بطلانه.
الثاني: أنّ الفائض عليهم تفاصيل ما عندهم من المجملات، و إن أمكنهم استخراج التفاصيل المذكورة ممّا عندهم من أصول العلم و موادّه، فتدبر.
الثالث: أن يكون مبنيّاً على البداء، فإنّ فيما علموا سابقاً ما يحتمل البداء و التغيير، فاذا ألهموا بما غير من ذلك بعد الإفاضة على أرواح من تقدّم من الحجج، أو أكّد ما علموا بأنّه حتمي، لا يقبل التغيير كان ذلك أقوى علومهم و أشرفها.
أقول: و يدلّ على هذا الوجه جملة من الأخبار لكن لا بنحو الانحصار فهو أحد موارد العلم الحادث(1).
الرابع: ما اختاره بعض أكابر المحدثين و هو أنّهم (عليهم السلام) في النشأتين سابقاً على الحياة البدني و لاحقاً بعد وفاتهم يعرجون في المعارف الربّانية الغير المتناهية على مدارج الكمال؛ إذ لا غاية لعرفانه تعالى و قربه، و يظهر ذلك من كثير من الأخبار، و ظاهر أنّهم إذا تعلّموا في بدو إمامتهم علماً لا يقفون في تلك المرتبة و يحصل لهم بسبب مزيد القرب و الطاعات زوائد العلم و الحكم و الترقيات في معرفة الربّ تعالى، و كيف لا يحصل لهم و يحصل ذلك لسائر الخلق مع نقص قابليتهم و استعدادهم، فهم (عليهم السلام) اولى بذلك و أحرى، و لعلّ هذا أحد وجوه استغفارهم و توبتهم في كلّ يوم سبعين مرّة و أكثر؛ إذ عند عروجهم إلى كلّ درجة رفيعة من درجات العرفان يرون أنّهم كانوا في المرتبة السابقة في النقصان، فيستغفرون منها و يتوبون إليه تعالى.
أقول: تخصيصه العلم الحادث بالمعارف الربّانيّة لعلّه من جهة ما دلّ عليه الأخبار من أشرفية العلم المذكور، أو من جهة أنّ الفروع معلومة لهم كلّها كما مرّ، لكن الأنسب بمدلول الأخبار هو التعميم و لو من غير جهة الفروع الفقهيّة، بل هو ممّا لا بدّ منه بلحاظ جملة من الروايات كما لا يخفى على الخبير.
فالأحسن أن يجعل الوجوه الثلاثة كلّها موارد العلم الحادث، و أنّه إمّا لتفصيل ما أجمل، أو لإبرام ما يحتمل النقض، أو لنقض ما يحتمل الإبرام أو لفيضان أسرار المعارف الإلهية، و الحقائق الكونيّة، و خواص الأشياء، و نحو ذلك ممّا لا نعلمه، و الله العالم.
ص: 298
الفائدة الرابعة: الظاهر من أخبار الجامعة و غيرها أنّ الأحكام الفقهيّة من الحلال و الحرام كلّها معلومة لهم (عليهم السلام) تفصيلاً، و مذكورة في الجامعة حتّى أرش الخدش، لكن تحديد طول الجامعة في جملة من الروايات بسبعين ذراعاً يوجب التردّد في أنها متضمنة للأحكام تفصيلاً فإنّ ما طوله هذا المقدار لا يسع ضبط تمام الأحكام الفقهيّة كما لا يخفى على الفقيه.
لكن الأظهر(1) هو الأوّل و أنّ الأحكام ذكرت فيها مفصلاً، و لو بنحو لا يفهمها إلاّ الأئمة (عليهم السلام) و يؤيّده ما دلّ بصراحته على أنّهم (عليهم السلام) لا يزدادون في الحلال و الحرام، و ما مرّ إليه الإشارة في مبحث الملازمة بين الحكم العقلي و الشرعي، من أنّ الله في كلّ واقعة حكماً.
ثمّ إنّ الجامعة و غيرها هي مدرك أصحابنا الإمامية - رضي الله عنهم - في دعواهم أنّ أئمة العترة (عليهم السلام) ليسوا كالمجتهدين يعملون بالظنّيات و الاستحسانات و الآراء الاجتهاديّة غير القطعيّة، و لنعم ما قيل في حقّهم:
فوال أناساً قولهم و حديثهم *** روى جدّنا عن جبريل عن الباري
قال جابر للإمام الخامس الباقر (ع): إذا حدثتني بحديث فاسنده لي فقال (ع): «حدّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله (ص)، عن جبرئيل عن الله عزّ و جلّ، و كلّ ما أحدثك بهذا الإسناد(2)!!.
الفائدة الخامسة: مقتضى النوع الرابع من الأخبار أعلميّة كلّ نبيّ لاحق من الأنبياء السابقين؛ إذ يعلم كلّ نبيّ أموراً مستحدثة و إلهامات جديدة لم يعرفها النبيّ السابق، و المفروض انتقال علم السابق إلى اللاحق فينبثق منع محذور لزوم أعلميّة النبيّ الأخير - قبل نبيّنا الخاتم (ص) - من تمام الأنبياء حتّى من أولي عزمهم، بل أفضليّته عنهم، إذ الأعلم أفضل.
بل أعلميّة كلّ نبيّ متأخّر عن صاحب العزم منه، و بالتالي يلزم أفضليّته أيضاً عليه. بل لازم ذلك أعلميّة القائم الحجة - عجل الله تعالى فرجه - من جميع الأئمة (عليهم السلام) و أفضليّته منهم، و هو كما ترى.
هذا و لكن الأخير يندفع بما في الروايات من عرض ما يصل إلى الإمام اللاحق على روح النبيّ الأكرم أوّلاً ثمّ على الإمام السابق ثمّ على الإمام اللاحق. فلا يكون اللاحق أعلم من السابق، نعم لازم هذه الروايات تساوي النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) في العلم، و لا محذور فيه، بل هو
ص: 299
منصوص عليه في بعض الروايات(1) و إن كان في بعض الروايات خلافة، و إنّ بعضهم أعلم من بعضهم في غير الحلال و الحرام و تفسير القرآن، و أمّا فيها فعلمهم واحد(2) و في بعضها: «كلّنا نجري في الطاعة و الأمر مجرى واحد، و بعضنا أعلم من بعض»(3) بل اختلافهم في العلم مدلول جملة من الروايات(4).
نعم، ورد في عدّة من الروايات تساوي أمير المؤمنين مع النبيّ في العلم، و إنّ الله لم يعلّم نبيّه علماً إلاّ و أمره أن يعلّمه عليّاً.
و أمّا لزوم أفضليّة غير أولي العزم منهم فينجلي اندفاعه ممّا قلنا أيضاً إذ بعد ما قام الدليل على أفضليّة أولي العزم من غيرهم نكشف أنّ ما يفاض علي النبيّ اللاحق من العلوم فهو مسبوق بإفاضته على أولي العزم، و لو على أرواحهم الطاهرة في البرزخ فليس اللاحق أعلم منهم.
نعم، لا دليل قاطع على هذا الكشف بالنسبة إلى أولي العزم أنفسهم فاحتمال أعلميّة عيسى من موسى، و أعلميّة موسى من إبراهيم، و أعلميّة إبراهيم من نوح سلام الله على نبيّنا و آله و عليهم قائم؛ لعدم إحراز الأفضل منهم، فلعلّ الأفضل عيسى ثمّ موسى ثم إبراهيم ثمّ نوح.
و أمّا ما دلّ على أفضليّة إبراهيم (ع) فقد ذكرنا في بحوث النبوّة أنّه ظنّي لا يعتمد عليه.
و هنا احتمال آخر، و هو أنّ مفاد تلك الأخبار - أي النوع الرابع - هو انتقال علوم الأنبياء (عليهم السلام) إلى الأئمة (عليهم السلام) فقط، و لا دلالة لها على انتقال علم كلّ نبيّ إلى نبيّ آخر، فافهم.
و نختم الكلام في هذا الموضع برواية الحسين بن علوان(5) عن الصادق (ع): «إنّ الله عزّ و جلّ فضّل أولي العزم من الرسل بالعلم على الأنبياء، و فضّل محمّداً عليهم، و ورّثنا علمهم و فضّلنا عليهم في فضلهم، و علّم رسول الله (ص) ما لا يعلمون و علّمنا علم رسول الله (ص)» انتهى. نعم في سندها بحث.
الفائدة السادسة: أنّ انفتاح ألف باب، من كلّ باب من ألف باب الذي علّم رسول الله عليّاً (ع) أمّا بتوسط العلم الحادث بأحد أقسامه، أو بنفس فكر أمير المؤمنين (ع) القوى -.
و بالجملة: ليس الانفتاح المذكور من قبيل الاجتهاد المصطلح عند الفقهاء، بل هو واضح
ص: 300
السبيل قطعيّ التطبيق. و عليه يحمل ما دلّ (1) على أنّ عليّاً (ع) إذا ورد عليه أمر ما نزل به كتاب و لا سنّة رجم فأصاب، و ليس المراد بالرجم العمل بغير العلم قطعاً.
الفائدة السابعة: في أنّه ما معنى قولهم (عليهم السلام) في نوع الثاني و العشرين من أنّهم لو لا يزدادون لأنفدوا ما عندهم؟ و أنّه كيف يعقل هذا و لهم ما أعطاهم الله من العلوم الجمّة الغفيرة؟! قال العلاّمة المجلسي (قدس سره)(2): يحتمل أن يكون بقاء ما عندهم من العلم مشروطاً بتلك الحالة. و يحتمل أن يكون المستفاد تفصيلاً لما علموا مجملاً، و يمكّنهم استنباط التفصيل منه أو المراد أنّه لا يجوز لنا الإظهار بدون ذلك كما يؤمي إليه خبر ليلة القدر أو المراد أنفدنا من علم مخصوص سوى الحلال و الحرام، و لم يفض على النبيّ و الأئمة المتقدّمين - صلوات الله عليهم - و إن أفيض في ذلك الوقت، كما سيأتي، و ذلك إمّا من المعارف الإلهية، أو من الأمور البدائية.. و يؤيّد الأخير كثير من الأخبار الآتية.
أقول: احتمال الوجه الأخير بالقياس إلى روايات الباب و غيرها حسن، و أمّا غيره من الاحتمالات فهي كمحتملاتها ضعيفة لا ينبغي ذكرها.
و الحقّ الصراح هو الإقرار بالجهل عن معنى النفاد المذكور، و كم للأئمة (عليهم السلام) من شؤون و أحوال لا يعلمها غيرهم.
الفائدة الثامنة: أنّ النوع الخامس و العشرين من الأخبار المشار إليها يدلّ على أنّ علم الإمام (ع) إرادي. ففي الكافي عن الصادق (ع): «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»(3).
قال صاحب ضوابط الأصول (قدس سره) في جواب من ادّعى أنّ علم المعصوم فعليّ ما ملخّصه(4).
و الحقّ كون علم المعصوم إراديّاً لا فعليّاً حضوريّاً: فيمكن في حقّهم الجهل، و في اثبات ذلك وجوه:
1 - الأصل، فإنّ علم الإمام ممكن حادث، و الأصل عدمه.
2 - اتّفاق الإمامية على كون علم المعصوم إراديّاً لا فعليّاً حضوريّاً.
3 - قوله تعالى: (لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(5) وكونه من باب إيّاك أعني
ص: 301
خلاف الأصل.
4 - بعض النصوص الدالّة بالالتزام على عدم علمه بما وقع، كالخبر أنّه استعمل ماء بئر فانكشف موت فأرة فيه فغسل يده، و لو علمه لم يستعمل، و هو يبلغ حدّ التواتر.
و ما ورد أنّ النبيّ (ص) سئل عن أمر فقال: «أعلمكم غداً» فانقطع الوحي أربعين يوماً؛ لأنّه لم يقل: إن شاء الله، و لو علم لأعلمهم.
و أمّا الأخبار المتواترة بأنّ عندهم علم الأولين و الآخرين فمعارضة بما عرفت، و طريقة الجمع بينهما هو حمل العلم على الإرادي و الملكي، و الأخبار النافية على العلم الفعلي. و هذا هو المطلوب.
5 - الإجماعات المنقولة عليه، و القول بالعلم الفعلي إنّما هو من بعض الصوفيّة.
أقول: معنى العلم الإرادي أنّ الإمام (ع) متى أراد فهم شيء يعلمه الله، و لا يعلمه قبل الإرادة، و ليس المراد بالفعلي و الحضوري ما هو المصطلح لأهل المعقول، على ما أسلفناه في الجزء الأوّل، بل المراد بهما ما هو مقابل الإرادي، من تفهم شيء بلا إرادته، بل بإفاضة الله تعالى ابتداءً.
ثمّ إن كان البحث بنحو الموجبة الكليّة فهو باطل بكلا شقّيه، فإنّ علم الإمام ليس بفعليّ قطعاً لوجود العلم الحادث، فلو كان كلّ ما يعلمه الإمام معلوماً له من الأوّل لم يكن للعلم الحادث موضوع كما لا يخفى، و ليس بإرادي أيضاً فإنّه يعلم كثيراً من الأمور بإرث و تعليم من الإمام السابق أو بإلهام من الله تعالى بواسطة روح القدس، أو غيرهما، و ليس ذلك من العلم الإرادي المصطلح بشيء.
فالحقّ هو التفصيل، و إنّ بعض علومهم فعليّ - بالمعنى المبحوث عنه هنا - و بعضها الآخر إرادي، بمعنى أنّ الإمام إذا أراد من الله سبحانه علم شيء لا يردّه الله تعالى البتة.
و لا نحتاج في إثباته إلى الرواية الدالّة على أنّ علم الإمام إرادي، فإنّه على القاعدة، إذ منصب الإمامة لا يستأهل للردّ و عدم قبول ما طلب صاحبها من الله. على أنّ الأخبار المذكورة ليست بقطعيّة صدوراً. و على ضوء هذا يتبيّن ما في أدلّته من الخلل، مع أنّ أكثرها فاسد في نفسه، إذ لا إجماع و لا تواتر في المسألة، و الأصل لا مسرح له هنا.
الفائدة التاسعة: أنّ النوع التاسع عشر من أنواع الأخبار المتقدّمة يدلّ على أنّه يرفع لهم في كلّ بلد عمود من النور ينظرون إلى أعمال العباد و النوع الثامن و العشرون يدلّ على عرض الأعمال عليهم في كلّ يوم، أو في كلّ خميس أو غير ذلك على اختلاف الروايات. و التنافي بين النوعين واضح؛ إذ مع النظر إلى الأعمال لا معنى لعرضها عليهم.
ص: 302
و الذي أراه في دفع هذا التنافي هو حمل النوع الأوّل على تمكّنهم (عليهم السلام) من النظر و الرؤية، و أنّه إذا شاؤوا ذلك. و لو على البدل - لرأوا. لا على الفعليّة و الوقوع، فإنّها بعيدة، بل لعلّها غير ميسورة لهم (عليهم السلام) و كيف يصحّ لممكن ماديّ أن لا يشغله شأن عن شأن؟ فلا يمنعه التوجّه إلى عمل عامل في الشرق عن الالتفات إلى حركة متحرّك في الغرب أو يكون ناظراً إلى جميع ما يصدر من المكلّفين و هو يتكلّم مع أهله أو أصحابه، أو نائم على فراشه أو مشغول بالمناجات مع ربّه؟! و لا دليل يفي بهذا الحدّ من الالتفات حتّى الروايات الواردة في روح القدس الذي يؤيّد الأئمة (عليهم السلام) الدالّة على أنّه لا يلهو و لا يتغيّر و لا يلعب.
و بالجملة: إن صحّ هذه المرتبة عقلاً لا دليل على إثباتها لهم خارجاً لا عقلاً و لا نقلاً، بل من لا يشغله شأن عن شأن هو الله سبحانه و تعالى(1).
و الحاصل أنّا إذا حملنا روايات العمود و النظر على الموجبة الجزئيّة يصبح عرض الأعمال عليهم أمراً معقولاً و لا تنا في بينهما أبداً و يحتمل أن يكون المراد بالعمود النوري هو الملك الذي يعرض الأعمال عليهم فيرتفع الثاني رأساً، فتأمّل فيه.
الفائدة العاشرة: أنّ المستفاد من الروايات الواردة حول ليلة القدر أنّ ما ينزل فيها كلّ سنة إنّما هو تفصيل ما علمه الإمام من المجملات و تفسيرها، أو الأمر بما علموه و لو تفصيلاً، إذ ليس كلّ معلوم جائز عمله أو واجب إنفاذه بلا أمر من الله تعالى، و لو من جهة احتمال البداء، و يمكن استفادة ذلك من القرآن الكريم قال الله تعالى: (فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(2)؛ إذ الفرق مشعر بالتفصيل و الحكمة بالإبرام المنافي للبداء (افهم) و الروايات المشار إليها(3) و إن كانت بأسرها ضعيفة الأسناد لكن دلالتها على هذا المعنى مطابقة للكتاب الكريم.
و أمّا ما في صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام)... فقال: «تنزّل فيها الملائكة و الكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون في أمر السنة و ما يصيب العباد، و أمر عنده موقوف و فيه المشية فيقدّم ما يشاء و يؤخّر منه ما يشاء و يمحو و يثبت، و عنده أم الكتاب».
و ما في صحيحة حمران عن الباقر (ع)... قال: «يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل خير و شر، طاعة و معصية، و مولود و أجل أو رزق، فما قدّر في تلك السنة و قضي فهو المحتوم و لله عزّ و جلّ فيه المشيّة» إلخ.
ص: 303
فلا ينافي ما استظهرناه من القرآن المجيد؛ لما في موثّقة زرارة قال أبو عبد الله (ع): «التقدير في تسع عشرة و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين». و قريب منهما رواية إسحاق بن عمّار و مرسلة زياد(1)، فافهم جيّداً.
ثمّ إنّ ظاهر القرآن و صريح الروايات بقاء ليلة القدر التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم، فلا يكون المنزل عليه إلاّ إمام العصر من العترة الطاهرة (عليهم السلام) لكن صحيحة محمّد بن مسلم ينافي ذلك إلاّ أن يقال أن الملائكة تتنزل بعد كتابتها في السماء الدنيا إلى الأرض و تعرضها على الإمام جمعاً بين هذه الصحيحة و ظاهر القرآن (سورة القدر) فإن الظاهر من هذه السورة نزول الملائكة إلى الأرض و كذا ظاهر الليلة و مطلع الفجر إنّهما بالنسبة إلى الأرض.
الفائدة الحادية عشرة: أنّ مفاد النوع الواحد و ثلاثين هو علم الأئمة (عليهم السلام) بأوقات موتهم و ارتحالهم عن الدنيا، لكنّها بأسرها ضعيفة الأسناد(2) إلاّ ما عن بصائر الدرجات، عن أحمد بن محمّد الثقة، عن إبراهيم بن أبي محمود الثقة قال: «قلت: الإمام يعلم متى يموت؟ قال: نعم. فقلت. حيث ما بعث إليه يحيى بن خالد برطب و ريحان مسمومين علم به؟! قال: نعم، قلت: فأكله و هو يعلم فيكون معيناً على نفسه؟ فقال: لا، يعلم قبل ذلك ليتقدّم فيما يحتاج إليه، فإذا جاء الوقت ألقى الله على قلبه النسيان ليقضى فيه الحكم».
و الظاهر أنّ المخاطب هو الرضا (ع) لا أحد علماء الشيعة؛ لأنّ إبراهيم المذكور من أصحابه، و المراد بالمبعوث إليه موسى بن جعفر (ع) فتكون الرواية موصولة لا مقطوعة فتأمّل. لكن سبق أن نسخة كتاب البصائر لم تصل بسند معتبر إلى المجلسي (رحمه الله) كما حقّقناه في كتابنا بحوث في علم الرجال بعد ذلك.
أقول: و لأجل ذلك - عدم الدليل القوي - أنكر الشيخ المفيد (قدس سره) ذلك فإنّه سئل: الإمام عندنا مجمع على أنّه يعلم ما يكون فما بال أمير المؤمنين (ع) خرج إلى المسجد و هو يعلم أنّه مقتول؟ و قد عرف قاتله و الوقت و الزمان،. و ما بال الحسين بن عليّ (ع) سار إلى الكوفه...
فأجاب(3): أمّا الجواب عن قوله إنّ الإمام يعلم ما يكون فإجماعنا أنّ الأمر على خلاف ما قال، و ما أجمعت الشيعة على هذا القول، و إنّ إجماعهم ثابت على أنّ الإمام يعلم الحكم في كلّ ما يكون، دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث، و يكون على التفصيل و التمييز. و هذا يسقط الأصل الذي بنى عليه الأسئلة بأجمعها. و لسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان ما يحدث، و يكون
ص: 304
بإعلام الله تعالى له ذلك، فأمّا القول بأنّه يعلم كلّ ما يكون فلسنا نطلقه، و لا نصوّب قائله لدعواه فيه من غير حجّة و لا بيان.
و القول بأنّ أمير المؤمنين (ع) يعلم قاتله و الوقت الذي كان يقتل فيه، فقد جاء الخبر متظاهراً أنّه كان يعلم في الجملة أنّه مقتول و جاء أيضاً، أنّه يعلم قاتله على التفصيل، فأمّا علمه بوقت قتله، فلم يأت عليه أثر على التحصيل.
و أمّا علم الحسين (ع) بأنّ أهل الكوفة خادعوه فلسنا نقطع على ذلك؛ إذ لا حجّة عليه من عقل و لا سمع.
أقول: ما ذكره من اختصاص علم الإمام بالأحكام دون الأعيان غير متين كما يظهر من مراجعة الروايات المتقدّمة، نعم لا دليل على الكلّية المطلقة، بل الدليل على خلافها كما مرّ، كما أنّ ما ذكره (رحمه الله) من نفي علمهم بموتهم أو تردده فيه وقع في غير محلّه فإنّ الأخبار الواردة في خصوص المسألة و إن كانت ضعيفة الأسانيد، إلاّ أنّ من وقف على الروايات الواردة في كمّية علومهم بأنواعها المتقدّمة يطمئن بأنّهم (عليهم السلام) يعلمون أوقات موتهم و ما يصيبهم من شهادة أو موت.
و أمّا توقّفه في علم أمير المؤمنين (ع) بموجب قتله بالتعيين فهو غريب، بل مناقض لما ذكره في إرشاده في باب شهادته (ع). و أغرب منه توقّفه في علم الحسين (ع) بمخادعة أهل الكوفه، مع أنّها من الواضحات حتّى عند غيره (ع) و لذا منعه غير واحد من الذهاب إليهم، و الإنصاف أنّ صدور هذا الكلام بتمامه لم يكن متوقّعاً من مثله لكنّ الجواد قد يكبو.
فالمتحصّل من جميع ما مر أنّهم (عليهم السلام) عالمون بوقت ارتحالهم و شهادتهم، فيتّجه من ذلك سؤال مشهور، و هو أنّهم كيف يقدمون على ما ينجر إلى قتلهم و هلاكهم،(1) مع أنّ دفع الضرر واجب عقلاً.
قال بعض المحدثين(2): و هو مبنيّ على منع كون حفظ النفس واجباً مطلقاً، و لعلّه كان من خصائصهم عدم وجوب ذلك عند اختيارهم الموت، و حكم العقل في ذلك غير متّبع، مع أنّ حكم العقل بالوجوب في مثل ذلك غير مسلّم.
قال المحدّث الاسترابادي: أحاديث هذا الباب صريحة في أنّ المقدّمة المشهورة بين المعتزلة من أنّ حفظ النفس واجب عقلاً، غير مقبولة و لو خصّصناها بحالة رجاء الخلاص.
ص: 305
انتهى كلامه.
أقول: الإمام كما يعلم سبب شهادته و زمانها كذلك يعلم أنّ عمره الطبيعي قد انصرم، و لم يقدر الله له الحياة بعد الوقت المذكور فإقدامه على ما يسبب شهادته، لا يكون من ارتكاب الضرر الممكن دفعه قال الله تعالى: (أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(1) و قال تعالى: (فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ)(2). بل لا ضرر و إنّما هو من الإقدام على تحصيل النفع الأبدي و زيادة الدرجات الأخروية، و إنّما الواجب هو حفظ النفس عن التهلكة إذا علم العاقل إمكان دفعها أو احتمل ذلك، و إلاّ فالتحفّظ يكون لغواً و سفاهة، و من هذا يظهر أنّ ما ذكره الاستربادي ضعيف جداً.
و في رواية عبد الله الطويلة قال: دخلت على الفضل بن ربيع فلمّا كانت الليلة الرابعة قدّمت إليه - أي إلى موسى بن جعفر (ع) - مائدة للفضل بن يحيى، قال فرفع يده إلى السماء فقال: «يا ربّ إنّك تعلم أنّي لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي قال: فأكل فمرض» إلخ فالإشكال المذكور غير مبتن على أساس علمي أصلاً، و إنّما يلائم مذاق العوام و أفكارهم، فإنكار وجوب دفع الضرر الذي هو من أحكام الفطرة الخالصة لأجل الفرار عنه غريب جداً.
نعم، في رواية الحسن غير المعتبرة سنداً(3)، قال: قلت للرضا (ع): إنّ أمير المؤمنين قد عرف قاتله، و الليلة التي يقتل فيها و الموضع الذي يقتل فيه. و قد عرف أنّ ابن ملجم لعنه الله قاتله بالسيف، كان هذا ممّا لم يجز تعرضه، فقال (ع): ذلك كان، و لكنه خير(4) في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عزّ و جلّ لكنّها مع ضعفها سنداً معارضة بما مرّ من رواية إبراهيم الدالّة على إنساء الكاظم (ع)(5) و ما دلّ على غيبة الروح عند ذلك الحين.
و حقّ الجواب أنّه و إن خير إليه الإبقاء و قبول الشهادة احتراماً له لكنّه ما يشاء إلاّ ما يشاء الله، و لم يشأ الله له إلاّ الشهادة التي هي أحسن و أنفع و أروح من حياته بدرجات.
الفائدة الثانية عشرة: قال شيخنا المفيد في شرح عقائد الصدوق(6): فأمّا ما ذكره أبو
ص: 306
جعفر - يعني به الشيخ الصدوق - من مضي نبيّنا و الأئمة (عليهم السلام) بالسمّ و القتل فمنه ما ثبت، و منه ما لم يثبت، و المقطوع به أنّ أمير المؤمنين و الحسن و الحسين (ع) خرجوا من الدنيا بالقتل و لم يمت أحدهم حتف أنفه، و ممّن مضى بعدهم مسموماً موسى بن جعفر (ع) و يقوي في النفس أمر الرضا (ع) و إن كان فيه شكّ فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنّهم سمّوا أو اغتيلوا أو قتلوا صبراً - جبراً - فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف و ليس إلى تيقّنه سبيل، انتهى كلامه.
قال البحراني في محكي حداثقه الناضرة - في كتاب الحج - الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضا (ع)... و قبض بطوس.
و بعض الأخبار يدلّ على أنّه قبض مسموماً سمّه المأمون العباسي و إليه ذهب الصدوق (رحمه الله) و أكثر أصحابنا لم يذكروه.
و عن المناقب ذهب كثير أصحابنا إلى أنّ الأئمة خرجوا من الدنيا على الشهادة، و استدلّوا بقول الصادق (ع) و الله ما منّا إلاّ مقتول شهيد.
قال المحدّث المجلسي (قدس سره) رداً على كلام الشيخ المفيد السابق(1).
أقول: مع ورود الأخبار الكثيرة الدالّة عموماً على هذا الأمر، و الأخبار المخصوصة الدالّة على شهادة أكثرهم و كيفيّتها كما سيأتي في أبواب تواريخ وفاتهم (عليهم السلام) لا سبيل إلى الحكم بردّه و كونه من الإرجاف، نعم ليس فيمن سوى أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين، و موسى بن جعفر، و علي بن موسى (عليهم السلام) أخبار متواترة توجب القطع بوقوعه، بل إنّما تورث الظنّ القويّ بذلك، و لم يقم دليل على نفيه، و قرائن أحوالهم و أحوال مخالفيهم شاهدة بذلك، لا سيّما فيمن مات منهم في حبسهم و تحت يدهم و لعلّ مراده (رحمه الله) أيضاً نفي التواتر و القطع، لا ردّ الأخبار انتهى كلامه رفع مقامه. و الأحوط أن يقال الله أعلم بحقيقة الحال.
الفائدة الثالثة عشرة: أنّ المفاد جملة من الأنواع المتقدّمة من الأخبار أنّ النبيّ الأكرم و أوصيائه (عليهم السلام) يعلمون الغيب و هذا هو المستفاد من القرآن الكريم أيضاً: قال الله تعالى: (عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّٰ مَنِ اِرْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ)(2). و نبيّنا (ص) ممن ارتضاه الله تعالى قطعاً و اتّفاقاً فهو عالم بالغيب بإعلام الله تعالى، و من الواضح أنّ وارث علمه من هو الأئمة من عترته الطاهرة بإقرار المؤالف و المخالف.
قال ابن حجر في صواعقه(3) أخرج عبد الرزاق عن حجر المرادي قال: قال لي عليّ: كيف
ص: 307
بك إذا أمرت أن تلعنني؟ قلت: أكائن ذلك قال: نعم، قلت: فكيف أصنع؟ قال العني و لا تبرّأ منّي. قال. فأمر محمّد بن يوسف أخو الحجاج - و كان أميراً من قبيل عبد الملك بن مروان على اليمن أن ألعن عليّاً، فقلت: إنّ الأمير أمرني أن ألعن عليّاً فالعنوه لعنه الله. فما فطن لها إلاّ رجل. قال ابن حجر: أي لأنّه لعن الأمير و لم يلعن عليّاً، فهذا من كرامات عليّ و أخباره بالغيب، انتهى كلامه.
و قال أيضاً(1): و أقبل عليه الإوز - أي على علي (ع) صبيحة ضربه - يصحن في وجهه، فطردوهن، فقال: دعوهن فإنّهن نوائح... فلما كانت الليلة قتل في صبيحتها أكثر الخروج و النظر إلى السماء و جعل يقول: و الله ما كذبت و لا كذبت، و إنّها الليلة التي وعدت فلما خرج وقت السحر ضربه ابن ملجم الضربة الموعود بها، و قد ذكر أيضاً في أحوال كلّ من الصادق و الكاظم و الرضا و الجواد (عليهم السلام) قصصاً دالّة على أنّهم يعلمون الغيب فراجع صواعقه. و قد مرّ كلام الجرجاني حول الجفر و الجامعة فإثبات علم الغيب للنبيّ الأكرم و اللأئمة ليس من متفردات الإمامية.
فإن قلت: في القرآن آيات كثيرة تدلّ على أنّ العالم بالغيب هو الله تعالى فكيف التوفيق؟.
قلت: لا شكّ في أنّ العالم بالغيب هو الله تعالى، و لا أحد غيره يعلم الغيب(2) إلاّ أنّه تعالى أعلم بعض عباده الغيب فعلموه بإعلام الله تعالى كما قال: (عٰالِمُ اَلْغَيْبِ فَلاٰ يُظْهِرُ عَلىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاّٰ مَنِ اِرْتَضىٰ مِنْ رَسُولٍ)(3). و قال: (وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ، وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ)(4) فلا تنافي بين هذه الآية و ما نرومه.
و هنا طريق آخر إلى المطلوب، و هو أنّه سبحانه قال: وَ مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (5) و أخيراً أيضاً بقوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا(6)
ص: 308
و بقوله: قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ (1)- و هو عليّ (ع) - إلاّ أن يكون الكتاب الأوّل غير الكتابين الأخيرين.
و ما قوله تعالى: قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ وَ مٰا مَسَّنِيَ اَلسُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّٰ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (2). فهو محمول إمّا على نفي علم الغيب ابتداءً بلا تعليم من الله تعالى كما يؤيّده صدر الآية - أعني قوله: لاٰ أَمْلِكُ انتهى. - و ذيلها - أعني قوله: إِنْ أَنَا - أو على نفي علم مخصوص، فإنّا لا ندّعي علّم النبيّ أوصياءه بكلّ غيب، بل ندّعي عدمه للروايات الدالّة على أنّ من العلوم ما هو مكنون و موقوف عند الله تعالى، و لم يخبر به أحداً.
و يعضد هذا الاحتمال قوله تعالى قبل هذه الآية بايتين: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي... يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ اَللّٰهِ انتهى(3).
أضف إلى ذلك و أقول: إنّه لا بدّ من حمل الآيات النافية على أحد المحملين المذكورين، فإنّنا نعلم الغيب بالضرورة كعلمنا بقيام القائم (ع) و القيامة و الحساب و الميزان و الجنة و النار و ما إليها من الأمور، فلنا علم بجملة من الغائبات السابقة و الآتية بإعلام الله تعالى، أو لأجل التجربة و العادة.
بقي في المقام مسائل لا ينبغي إهمالها:
1 - المراد بالغيب ما غاب عن المشاعر، سواء كان الغائب ماضياً أو حاليّاً أو استقباليّاً.
و يدلّ على الأوّل قوله تعالى: (ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ)(4). الوارد في قصة زكريا و مريم (عليهماالسلام).
و على الثاني قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (5) و قوله: أَنْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا(6). و قوله حكاية عن أخوة يوسف. وَ مٰا كُنّٰا لِلْغَيْبِ حٰافِظِينَ (7).
ص: 309
و أمّا الثالث فهو المتيقّن من الغيب.
و لا يبعد أن يكون قوله تعالى: (وَ لِلّٰهِ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ)(1) و قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ)(2) نظائرهما مستعملة في مطلق الغيب الشامل لمعانيه الثلاثة، فإنّ الاختصاص خلاف الظاهر.
فما قيل اختصاص الغيب بما لم يكن و سيكون ضعيف، و الاستدلال بقول الصادق (ع) الوارد في تفسير قوله تعالى: (عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ)(3): الغيب ما لم يكن، و الشهادة ما قد كان عليل لأنّه لا يدلّ على الاختصاص، بل على الاستعمال.
2 - قال الله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(4) قال أمين الإسلام الطبرسي (عليهماالسلام) في مجمع البيان: و الصحيح أنّ معناه: و يعلم نزول الغيث في زمانه و مكانه، كما جاء في الحديث: «إنّ مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلاّ الله...» و قد روي عن أئمة الهدى أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل و التحقيق غيره تعالى انتهى كلامه.
و في مرسلة القمي(5) عن الصادق (ع): «هذه الخمسة أشياء لم يطلّع عليها ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل، و هي من صفات الله عزّ و جلّ» و في رواية أبي أسامة عنه (ع) قال: «قال أبي: ألا أخبرك بخمسة لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه؟ قلت بلي: قال: إنّ الله عنده». و في رواية الأصبغ قال: سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول: «إنّ الله علمين علم استأثر به في غيبه، فلم يطلع عليه نبيّاً من أنبيائه، و لا ملكاً من ملائكته، و ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ) انتهى.
و عن النهج أن أمير المؤمنين (ع) لما أخبر بأخبار الترك و بعض الأخبار الآتية قال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب فضحك و قال للرجل - وكان كلبياً -: «يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، و إنّما هو تعلّم من ذي علم، و إنّما علم الغيب علم الساعة، و ما عدده الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ...) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله» انتهى.
أقول: و الحقّ عدم الاعتماد على هذه الروايات، فإنّهما ضعيفة الأسناد بأجمعها فلا بدّ من النظر إلى لآية الشريفة نفسها، فنقول قوله: (إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ) و إن لم يدلّ على نفي
ص: 310
علمها عن غيره تعالى لكنّ قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي)(1) و غيره يدلّ عليه، فقيام الساعة لا يعلم وقتها إلاّ الله تعالى، و قوله: (وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ)(2) إن دلّ على الاختصاص لدلّ على سلب إنزال الغيث عن غيره، و أين هو من سلب نفي علمه عن غيره؟ بل يمكن العلم به و لو بالتجربة.
و قوله تعالى: (وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ)(3) أيضاً لا يدلّ على الحصر، بل ورد أنّ الله يعلم الملائكة - بعد مرور أربعة أشهر من انعقاد النطفة - أنّ الحمل ذكر أو أنثى، سعيد أو شقي. و يمكن تحصيل العلم بكون الحمل ذكراً أم أنثى من التجربة و الأمارات العلميّة أيضاً و لا دلالة للآية الكريمة على امتناعه.
نعم، لا سبيل إلى معرفة سعادته و شقاوته و أجله و رزقه عادة،. و لكنّه غير مسدود على خزّان علم الله، و المصطفين من عباد الله تعالى.
و أمّا قوله تعالى: (وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(4) فمفاده عدم إحاطة النفس بما يصيبها من العوارض و مكان موتها لا زمانه، و على هذا فلا مانع من علم بعض الأولياء بما يصيب الناس و بمكان موتهم فإنّ هذا غير مدلول للآية الشريفة، و إنّما الممتنع هو إحاطة الشخص بما يطرأ على نفسه لا على غيره، على أنّ هذا أيضاً يخصّص بغير النبيّ الخاتم و أوصيائه جمعاً بين الأدلّة، كيف و نحن جازمون بأنّ أبا عبد الله الحسين كان عالماً بأنّ كربلاء مقتله و مدفنه، و كذا غيره من الأئمة (عليهم السلام)؟
فإن قلت: أكثر الناس يعلمون مكان موته حسب العادة و لو في لحظات أخيرة من حياته، و إنّما المجهول عندهم زمان موتهم.
قلت: لعلّ المراد نفي العلم بمكان الموت قبل أمارات الموت.
و أمّا نفي علمهم بزمان موتهم فلعلّه بطريق الأولوية، فتأمّل.
لكن كلّ ذلك مع قطع النظر عن تعليم الله و إعلامه: هذا ما عندي في هذا المقام و اسمع العلاّمة المجلسي (رحمه الله) حيث يقول(5).
و أمّا الخمسة التي وردت في الآية فتحتمل وجوها:
ص: 311
الأوّل: أنّ تلك الأمور لا يعلمها على اليقين و الخصوص إلاّ الله تعالى، فإنّهم إذا أخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلاً، و يحتمل أن يكون ملك الموت أيضاً لا يعلم ذلك.
الثاني: أن يكون العلم الحتمي بها مختصّاً به تعالى، و كلّما أخبر الله به من ذلك كان محتملاً للبداء.
الثالث: أن يكون المراد عدم علم غيره بها إلاّ من قبله فيكون كسائر الغيوب و يكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها.
الرابع: ما أو مأنا إليه سابقاً، و هو أنّ الله لم يطلع على تلك الأمور كلّيّة أحداً من الخلق على وجه لا بداء فيه، بل يرسل عليهما على وجه التحتّم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر، أو أقرب من هذا، و هذا وجه قريب تدلّ عليه أخبار كثيرة؛ إذ لا بدّ من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار، و كذا ملائكة السحاب و المطر بوقت نزول المطر، و كذا المدبّرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث. انتهى كلامه.
أقول: بعد ما عرفت عدم الحصر في الآية و عدم تقدير العلم في بعضها و عدم العموم في بعضها الآخر تعلم أنّ ما أفاده لا مقتضي و لا موجب له نهائيّاً.
3 - قال شيخنا المفيد (قدس سره)(1): إنّ الأئمة من آل محمّد (ص) قد كانوا يعرفون ضمائر بعض العباد(2) و يعرفون ما يكون قبل كونه، و ليس ذلك بواجب في صفاتهم،... و لكنّه وجب لهم من جهة السماع فأمّا إطلاق القول عليهم بأنّهم يعلمون الغيب فهو منكر بيّن الفساد؛ لأنّ الوصف بذلك إنّما يستحقّه من علم الأشياء بنفسه لا بعلم مستفاد، و هذا لا يكون إلاّ الله عزّ و جلّ و على قولي هذا جماعة من أهل الإمامة، إلاّ من شذّ عنهم من المفوضة و من انتمى إليهم من الغلاة. انتهى كلامه.
و أضرب أمين الاسلام الطبرسي في مجمعه(3) حيث قال في ردّ بعض المشايخ الظالمين من الشيعة غير الإمامية: و لا نعلم أحداً منهم - أي الإماميّة - استجار الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، و إنّما يستحقّ الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد.
ص: 312
و ما نقل أمير المؤمنين (ع) و رووا عنه الخاصّ و العامّ من الأخبار بالغائبات. فإنّ جميع ذلك متلقى من النبيّ (ص) مما أطلعه الله عليه فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب، و هل هذا إلاّ سبّ قبيح و تضليل لهم، بل تكفير؟ انتهى.
أقول: النزاع هنا لفظي و ليس بمعنوي؛ إذ لا شكّ أنّ النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) يعلمون ما غاب عن مشاعر الناس و لو في الجملة، و هذا ممّا لا يمكن التشكيك فيه في مذهب الإمامية، كما أنّه لا شكّ في أنّ علمهم هذا حادث و مفاض عليهم من قبل الله تعالى، و هذا ضروري في دين الإسلام، فإن ثبت أنّ الاصطلاح - في شرع الإسلام أو عرف المتشرعه - انعقد على عدم إطلاق «علم الغيب» إلاّ على العلم الذاتي فلا مناصّ عمّا ذكره هذان العلمان. و إن لم يثبت الاصطلاح المذكور فلا شكّ في جواز إطلاق علم الغيب على علومهم لغة و واقعاً.
و بعض الأخبار يدلّ على الاصطلاح المذكور ففي موثّقة عمّار(1) قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الإمام يعمل الغيب؟ فقال: لا، و لكن إذا أراد أن يعلم الشيء أعلمه الله ذلك. و أظهر منها رواية مغيرة المتقدّمة و غيرها(2). و لكن من خالف الاصطلاح المذكور لا جناح عليه، فإنّ العبرة بالمعاني دون الألفاظ.
العلم البشري، أما حضوري و أما حصولي، و الأوّل حضور ذات الشيء و الثاني حضور صورته وماهيته و على الأظهر عندي مفهومه، فلا بدّ من فرض وجود شيء حتّى يحضر عند النفس في العلم الحضوري و وجود صورته أو مفهومه عند النفس في العلم الحصولي و هذه الصورة أو المفهوم يؤخذ من وجود الشيء و لا علم ثالث للإنسان العادي و عليه علم الإنسان بالغيب محال عقلاً، و إنّما الغيب لله تعالى وحده الذي علمه ليس بحصولي و لا بحضوري، كما مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب. هذا من جهة.
و من جهة ثانية ان الغيب أمر نسبي، فإن مأكول زيد في البارحة مشهود له و لمن حضر السفرة و غيب لمن كان غائباً عنهم و عن سفرة الطعام و لكن إذا أخبر الأكل عن نوع مأكوله في البارحة أحداً و لم يخبر غيره فهو عند الغير من الغيب و عند ذلك الواحد بعد الإخبار من المشهود، فإذا قيل أن هذا الواحد عالم الغيب، فهو ليس إلا غيباً مجازياً أي بالنسبة إلى
ص: 313
الأخير، و إلاّ فله مشهود مسموع.
فنحن إذا نقول ان الأنبياء (عليهم السلام) يعلمون الغيب، معناه ذلك، يعني إنّ الله تعالى أطلعهم على الغيب و بعد الاطلاع صار من المشهود و إنّما نطلق الغيب عليه بالنسبة إلى الغير.
و بالجملة الموجود الممكن لا يعلم الغيب، و من ادعاه لنفسه و لا لغيره لا بد أن يعلم أنّه يدعى شريكاً للواجب الوجود..
ص: 314
و تكميل الموضوع في مواقف خمسة:
نقول لا ريب أنّه (ص) أفضل النبيّين و المرسلين و الملائكة المقرّبين و لا يساويه أحد في الفضل من الثواب و الكمال، و قد مرّ دلائله في المقصد السابق بل ذكرنا أنّ المستفاد من الروايات الكثيرة أنّه أفضل من في الوجود الإمكاني و أشرفهم، و لا عديل له في ما سوى الله تعالى من الكرامة السامية و غيرها. نعم هو رحمة للعالمين(1) فالحمد لله الذي جعلنا من أمّته (ص):
و يبحث في أنّ الرسل أفضل النبيّين غير الرسل، و أولي العزم أفضل من غيرهم من المرسلين كما أشرنا إليه أيضاً هناك، و تقدّم الأقوال حول فضل أولي العزم بعد نبيّنا (ص) و ذكرنا أنّ بعض الأخبار الوارد من طريقنا و طريق العامّة يشعر بأنّه الخليل (ع) لكنّه ليس على نحو يعتمد عليه.
و يمكن أن يقال إنّ إسحاق و يعقوب و لعلّ إسماعيل أيضاً أفضل من غير أولي العزم من الأنبياء و الرسل؛ لأنّهم أئمة زيادة على كونهم أنبياء على ما مرّ بحثه مفصّلاً فلاحظ.
و نقصد به تفاضل أئمة العترة مع الأنبياء الكرام سوى خاتمهم صلى الله عليه و على أوصيائه و عليهم أجمعين، و لأصحابنا الإماميّة فيه أقوال:
ص: 315
1 - أفضليّة الأئمة من جميع الأنبياء و الرسل، نسبه الشيخ المفيد (قدس سره) إلى قطع قوم من أصحاب الإمامة(1)، و المحدث الجزائري (رحمه الله) إلى أكثر المتأخرين(2). و من الأوّلين الشيخ الصدوق (رحمه الله) حيث قال في محكيّ عقائده: يجب أن يعتقد أنّ الله عزّو جلّ لم يخلق خلقاً أفضل من محمّد و الأئمة (عليهم السلام)، و أنّهم أحبّ الخلق إلى الله عزّ و جلّ و أكرمهم، انتهى.
و من اللاحقين المحدّث المجلسي (قدس سره) فقد صرّح بعد عبارة الصدوق المذكورة بقوله(3):
اعلم أنّ ما ذكره رحمه الله من فضل نبيّنا و أئمتنا (عليهم السلام) على جميع المخلوقين و كون أئمتنا (عليهم السلام) أفضل من سائر الأنبياء هو الذي لا يرتاب فيه من تتبع أخبارهم على وجه الإذعان و اليقين... و لا يأبى عن ذلك إلاّ جاهل بالأخبار.
2 و 3 - أفضليّتهم من الأنبياء (عليهم السلام) سوى أولي العزم منهم حكاه الشيخ المفيد عن فريق من أصحاب الإمامة فذهب جماعة منهم إلى أفضليّة أولي العزم من الأئمة (عليهم السلام) و بعضهم إلى مساواتهم معهم كما نقله الجزائري، فهذا القول ينحلّ إلى قولين كما ليس بسرّ.
4 - أفضليّة الأنبياء بأجمعهم من الأئمة (عليهم السلام) نقله المفيد (رحمه الله) عن فريق قطعوا بذلك.
5 - أفضليّة أمير المؤمنين وحده عن الأنبياء، أو عن الأنبياء غير أولي العزم رأيته - على ما ببالي - في بعض التفاسير:
6 - ما عن بعض أهل العصر(4) من التفصيل، قال: فلا يبعد أن تكون جملة من هؤلاء - يعني الأئمة (عليهم السلام) - أفضل و أشرف من جملة في أولئك - يعني الأنبياء (ع) - لأنّ في هؤلاء من هو أعلم و أشرف و أكثر جهاداً في سبيل الله و أصبر، و أعظم نفعاً للبشر علميّاً و أدبيّاً و أخلاقيّاً و اجتماعيّاً، فلا يبقى عثرة في سبيل التفضيل سوى ميزة النبوّة، و قد قرّرت في محله أنّ الخلافة لأفضل الأنبياء قد يعتبر أعظم درجة من بعض الأنبياء، و لدنيا مثال محسوس، و هو قياس ملك صغير من الشرف إلى ملك كبير،... فإنّ وزير الملك العظيم يقتبس من عظمة ملكه فضلاً و عظمة لا يدانيه فضل الملك الصغير و لا عظمته، انتهى.
أقول: و من أحسن الأمثله له في عصرنا قياس ملك الأردن أو شيخ الكويت أو البحرين أو دبي مثلاً بوزير الخارجية الأميريكية أو سكرتير حزب الشيوعي في روسيا، كما لا يخفى على أهل الخبرة. و لنا كلام فوق هذا الكلام فصّلناه في أوائل هذ المقصد، و سنشير إليه عن قريب.
ص: 316
7 - التوقّف، و هو مذهب شيخنا الأجل المفيد - نوّر الله مضجعه - قال: قد جاءت آثار عن النبيّ (ص)، و الأخبار عن الأئمة الصادقين (عليهم السلام) أيضاً. و في القرآن مواضع تقوي العزم على ما قاله الفريق الأوّل - يعني به القول الأوّل هنا - في هذا المعنى، و أنا ناظر فيه.
أقول: العمدة في المقام هي السنّة و دلالة الروايات، و هي بعد المراجعة و الدقة على أقسام:
الأوّل: ما يدّل على أنّ الأئمة (عليهم السلام) أفضل من الخلق، أو من الأنبياء و الملائكة و الناس، أو من الأنبياء (عليهم السلام) و هو أكثر من ثلاثين رواية(1).
و في المقام روايات كثيرة أخرى وردت في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ)(2). الدالّة على أنّهم أمير المؤمنين و شيعته، و قد نقل في تفسير البرهان(3) من العامّة و الخاصّة أكثر من خمس عشرة رواية، و رواه ابن حجر عن الذرندي عن ابن عباس أيضاً كما مرّ.
قال المجلسي (قدس سره): روي من الكتاب المذكور - يريد به كتاب القائم للفضل بن شاذان - خمسة و عشرين حديثاً في قوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ) أنّهم آل محمّد (ص) و شيعتهم(4) لكنّ الذي يمنع من الاستدلال بها على المراد هو ضمّ شيعتهم إليهم في الحكم، و من الضروري عدم أفضليّة الشيعة من الأنبياء (عليهم السلام) و عليه فلا بدّ من حمل البريّة على من بعد النبيّ الخاتم (ص) أو على غير الإنسان (عليهم السلام) إلاّ أن يقال: ظاهر الروايات هو أفضليّة الأئمة و شيعتهم عن جميع البريّة، علمنا بعدم إرادة أفضليّة الشيعة من الأنبياء (عليهم السلام) من الخارج، و لا مانع من الأخذ به في غير الصورة المذكورة، لأن خلاف الظاهر لا يرتكب إلاّ بمقدار دلّ الدليل عليه. (فافهم).
الثاني: ما دلّ على أعلميّة الأئمة (عليهم السلام) من الأنبياء، كما تقدّم ذكره، و قد قال الله تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ)(5)؟ بلى لا يستون بل العالم أفضل من غيره بالضرورة. و من الظاهران نسبة الأعلم إلى العالم نسبة العالم إلى غير العالم.
ص: 317
الثالث: ما يدلّ على أفضليّة الخمسة الطيّبة (ع)(1) أو الحسنين (ع)(2) أو أمير المؤمنين (ع)(3) من أهل الأرض و من جميع الأنبياء (عليهم السلام) مثله ما دلّ على أنّه (ع) سيّد الوصيّين إذا غير خفي أن أكثر الأوصياء السابقين أو جميعهم كانوا أنبياء أيضاً، فيدلّ على أفضليّة عليّ (ع) من النبيّين غير أولي العزم و إن لم يكونوا أوصياء لعدم القول بالفصل بين الوصي و غيره (فافهم) و هو كثير منتشر في الأبواب المتفرقة.
الرابع: ما يدلّ على أخذ الميثاق عن الأنبياء أو الخلائق على نبوّة النبيّ الخاتم (ص) و ولاية أمير المؤمنين أو مع ولاية بقيّة الأئمة (عليهم السلام) و هو كثير بل ربّما يتجاوز العشرين(4).
الخامس: ما يدلّ على أن النبيّ و الأئمة أو الخمسة الطيّبة (ص) هم السبب لقبول دعاء بعض الأنبياء كآدم و نوح و إبراهيم و موسى (عليهماالسلام) فكانوا دعوا الله بحقّهم فأجابهم الله. و هو ثلاث عشرة رواية(5).
السادس: ما عن النبيّ الأكرم من إنّ عليّاً خير البشر فمن أبي فقد كفر، و هو أكثر من عشرين رواية، كما سيأتي بحثه في المواقف الخامس. خرج من مدلوله النبيّ الأكرم الخاتم (ص) بالدليل القطعي و بقي الباقي تحته.
السابع: ما دلّ على أن الحسن و الحسين (عليهماالسلام) سيّدا شباب أهل الجنّة، و الأنبياء (عليهم السلام) من شباب أهل الجنة و قد رواه العامّة أيضاً فقد رواه ابن حجر عن الترمذي، و الحاكم عن أبي سعيد الخدري - في بحث فضائل الحسن من صواعق - و عن أحمد، عن أبي سعيد، و عن الطبراني عن
ص: 318
عليّ (ع) و عن جابر و عن عمرو و عن أبي هريرة، و عن أسامة و عن براء، و رواه أيضاً عن ابن عدي و عن مسعود، و رواه أيضاً عن ابن عساكر عن عليّ (ع) و ابن عمر و رواه أيضاً عن ابن ماجة و الحاكم عن ابن عمر بزيادة: «و أبوهما خير منهما».
و روي(1) عن أحمد و الترمذي و النسائي و ابن حبان عن حذيفة أنّ النبيّ (ص) قال له: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبل ذلك هو ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قطّ قبل هذه الليلة استأذن ربّه عزّ و جلّ أن يسلّم عليّ و يبشّرني أنّ الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة و أنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
الثامن: ما دلّ على أنّهم العلّة الغائية من إيجاد الموجودات، و هذه الأخبار مبثوثة في مختلف الأبواب، و قد تقدّم بعضها في مبحث تعلّل أفعال الله تعالى بالأغراض، و عددنا بعضها في القسم الأوّل.
التاسع: ما دلّ على نزول عيسى (ع) و صلاته خلف المهدي - عجّل الله فرجه - كما رواه العامّة أيضاً(2). و هو دليل أفضليّة المهدي من أولي العزم من الرسل فضلاً عن غيرهم.
العاشر: ما يدلّ على خلق أنوارهم و أرواحهم (عليهم السلام) قبل كلّ شيء فلاحظ السماء و العالم و باب خلق النبيّ الأكرم من البحار، و هذا يدلّ على أشرفيّتهم و أفضليّتهم.
و جميع هذه الأخبار تدلّ - صراحة و ظهوراً و لو التزاماً - على أفضليّة أوصياء النبيّ الأكرم من الأنبياء الكرام سلام الله عليهم أجمعين.
أضف على ذلك و أقول: إنّ القرآن أيضاً يدلّ على ذلك، فإنّ ظاهر قوله تعالى: (قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً)(3). أفضليّة رتبة الإمامة من النبوّة و الرسالة كما فصّلناه في أوّل هذا المقصد. و أيضاً المستفاد من قوله تعالى: (وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ)(4) هو أفضليّة عليّ (ع) من جميع من كان النبيّ الخاتم أفضل منه كما سيأتي شرحه، فلا تكن من الغافلين و الجاحدين.
هذا ما وقفنا عليه عاجلاً من الأخبار الدالّة على أفضليّة الأئمة و أوصيائه النبيّ الخاتم (ص)
ص: 319
من الأنبياء الكرام (عليهم السلام) مع العلم القطعيّ بوجود أخبار أخرى من طريق الشيعة و غيرها في ذلك.
ومن القطعي الذي لا مجال للشكّ فيه أبداً - بملاحظة الأخبار المذكورة - أفضليّة سيدنا و مولانا أمير المؤمنين (ع) من جميع الأنبياء (عليهم السلام).
قال الشيخ الجليل الكراجكي (المتوفى 449) في أوّل كتابه الذي ألّفه لهذه الغاية و أسماه «التفضيل»: الذي نذهب إليه في ذلك هو أنّ أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب صلواة الله عليه أفضل من جميع البشر ممّن تقدّم و تأخّر سوى رسول الله (ص) و على هذا القول إجماع الشيعة الإماميّة، و لم يخالف فيه منهم إلاّ الأصاغر الذين حادوا عن الطريق إلخ.
و في رواية جابر بن عبد الله(1) عن رسول الله (ص) «... إنّا معاشر الأنبياء أخوة، و أنا أفضلهم، و لأحبّ الأخوة إليّ عليّ بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن زعم أنّ الأنبياء أفضل منه فقد جعلني أقلهم، و من جعلني أقلّهم فقد كفر؛ لأنّي لم اتّخذ عليّاً إلاّ لما علمت من فضله.
أقول: قد مرّ من طريق العامّة قوله: «عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني».
و قد روى الخاصّة و العامّة بأسانيد و متون مختلفة عن رسول الله (ص) قوله لفاطمة (ع): «إنّ الله اطّلع على أهل الأرض و اختار منها رجلين، أحدهما أبوك و الآخر بعلك»(2).
فعليّ (ع) أفضل من جميع أهل الأرض بمن فيهم من المرسلين و أولي العزم، و أفضل من جميع الملائكة المقرّبين فضلاً عن غيرهم. بل حقّ القول أنّه (ع) أفضل من في الوجود الإمكاني بعد سيّده الرسول الخاتم الأعظم (ص) كما يظهر من بعض الأقسام المتقدّمة من الأخبار.
و في رواية المفضّل بن عمر عن الصادق (ع)(3): ما جاء به عليّ (ع) آخذ به، و ما نهى عنه أنتهي عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمّد (ص) و لمحمّد (ص) الفضل على جمع من خلق الله عزّ و جلّ...
إلى أن يقول أمير المؤمنين: «و لقد أقرّت لي جميع الملائكة و الروح و الرسل بمثل ما أقرّوا به لمحمّد (ص)... و لقد أعطيت خصالاً ما سبقني إليها أحد قبلي» انتهى. و قريب منها رواية سعيد الأعرج(4)، و في رواية الحلواني عن الباقر (ع)(5): «... و المتفضّل عليه كالمتفضّل على رسول
ص: 320
الله (ص)... و قال أمير المؤمنين (ع)... لا يتقدّمني أحد إلاّ أحمد (ص) و إنّي و إيّاه لعلى سبيل واحدة إلاّ أنّه هو المدعو باسمه» و معناه معنى حديث المنزلة.
و في رواية محمّد بن الثابت(1) عن الكاظم (ع) قال: «قال رسول الله (ص) لعليّ: أنا رسول الله المبلّغ عنه، و أنت وجه الله المؤتمّ به، فلا نظير لي إلاّ أنت، و لا مثل لك إلاّ أنا»!
و على الجملة: فلتكن أفضليّة أمير المؤمنين بعد الرسول الأكرم (ص) من جميع ما سوى الله بملاحظة الروايات، أمراً ثابتاً مسلّماً. و من الأنبياء (عليهم السلام) أمراً قطعيّاً عند المحيط بالروايات المتواترة من طريق الشيعة و أهل السنّة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال ابن أبي الحديد(2) بعد سرد الأحاديث المادحة الكثيرة الواردة في حقّه: و إنّ من قيل في حقّه ما قيل، لو رقا إلى السماء، و عرج في الهوا، و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظماً وتبجحاً لم يكن ملوماً بل كان بذلك جديراً، انتهى.
و أمّا غيره من الأئمة (عليهم السلام) فنقول بأفضليّتهم أيضاً من الأنبياء الكرام (عليهم السلام) اعتماداً على الروايات الكثيرة المتقدّمة التي نعم بصدور جملة منها من المعصوم (ع) بل الظاهر من أكثرها افضليّة الصدّيقة الطاهرة (عليهاالسلام) منهم أيضاً. إلاّ أنّي الأخير من المتوقّفين.
نعم، لا بعد أيضاً في أفضليّة الأئمة (عليهم السلام) من جميع ما سوى الله بعد جدّهم النبيّ الأكرم (ص) و أبيهم أمير المؤمنين (ع). فالصحيح من الأقوال المتقدّمة هو القول الأوّل. و الله الأعلم.
و أمّا القول الثاني فلعلّ مستنده ما في الروايات الكثيرة من أنّ أمير المؤمنين سيّد الوصيّين، أو خير الوصيّين، و أولي العزم (عليهم السلام) ليسوا بوصيّين لغيرهم من الأنبياء، فلو كان هو (ع) أفضل منهم أيضاً لم يكن لهذا التعبير مجالاً، بل عبّر بسيّد النبيّين. و ما تقدّم من كون أولي العزم أرباب الشرائع و أفضل من الأنبياء و الرسل، و ليس الأئمة (عليهم السلام) أصحاب الشرائع بالضرورة:
لكن يندفع الأوّل بأنّ غاية عدم دلالته على أفضليّة عليّ (ع) من أولي العزم، لا دلالته على عدمها، فلا ينافي ما دلّ على أفضليّته و أمّا تقيّد سيادته بالوصيّين مع أفضليته من أولي العزم (عليهم السلام) أيضاً فهو لنكتة أخرى تظهر لمن لا حظ الأخبار المذكورة. والثاني بأنّ أئمتنا و إن لم يكونوا أصحاب الشرائع لكنّهم حفظة شريعة هي أعلى و أتمّ و أنفع و أكمل من جميع شرائع لكنّهم حفظة شريعة هي أعلى و أتمّ و أنفع و أكمل من جميع شرائع أولي العزم بدرجات.
و أمّا القول الرابع فيمكن دعمه بأنّ النبوّة أعلى من الولاية، فلا معنى لترجيح غير النبيّ و بالإجماع المحقّق على أفضليّة الأنبياء على غيرهم كما ادعى الرازي، و بقوله تعالى بعد ذكر
ص: 321
اسم بعض الأنبياء: (وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ)(1) و من جملة العالمين الأئمة (عليهم السلام) و لعدم القول بالفصل أو القول بعدم الفصل يفضل جميع الأنبياء عليهم.
لكن يزيّف الوجه الأوّل بما مرّ في ذيل القول السادس، و ما ذكرناه آنفاً، و الثاني بعدم الاعتبار بإجماع النواصب المخالف للقرآن الدالّ على أفضليّة الإمامة عن النبوّة و الرسالة، و الثالث بلزوم حمل التفضيل على جهة خاصّة أو حمل العالمين على عالمي زمانهم؛ إذ لا قائل من المسلمين بأفضليّة يونس و لوط (عليهماالسلام) على أولي العزم و على رسولنا الأعظم (ص) بل على غيرهم من الأنبياء.
نعم، الروايات الدالّة على فرق الإمامة و النبوّة ربّما تؤيّد هذا القول، لكنّه لا مجال للاعتماد على هذا التأييد بعد مخالفتها مع القرآن و السنّة المتواترة كما عرفت.
و أمّا القول الخامس و السادس فيظهر وجهها و جوابها ممّا ذكرنا فلاحظ.
و فيه أيضاً أقوال:
فمنها: أنّ أفضلهم أمير المؤمنين، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ أفضل الباقين المهديّ القائم (ع) ثمّ بقية الأئمة. ذكره الشيخ الكراجكي، و يظهر منه أنّه عدّ هذا من عقائد الشيعة الإماميّة.
و لكنّه لم يتعرّض للتفاضل بين الأئمة الثمانية (عليهم السلام) غير أنّ ظاهره هو اعتقاد تساويهم في الفضل و هذا هو مختار الشيخ أحمد الأحسائي في شرح المشاعر، و جعل فاطمة (عليهاالسلام) بعدهم (عليهم السلام) في الفضل.
فمنها: أنّ الأفضل عليّ ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ المهديّ - صلوات الله عليهم - ثمّ الأئمة الثمانية على الترتيب أي الأفضل السجّاد ثمّ الباقر (ع) و هكذا، ثمّ بعدهم فاطمة - سلام الله عليها - اختاره بعض الأصحاب.
و منها: أنّ الأفضل هو أمير المؤمنين ثمّ فاطمة (عليهاالسلام) و لم يظهر منه التفاضل بين الأئمة (عليهم السلام).
و منها: أفضليّة الحسنين بعد أبيهما من الأئمة و فاطمة (عليهاالسلام) و ذكر هذا القول في كلام بعضهم بعد ذكر القول الأوّل مشعر بعدم اتّحادهما.
و منها: أفضليّة الحسين بعد أبيه على جميع الأئمة، على ما اختاره بعضهم.
ص: 322
قال المحدّث الجزائري(1): قد تحقّقت أنّ النبيّ و الأئمة صلوات عليهم قد خلقوا من نور واحد، و النبيّ (ص) له فضله، و أمّا سيّد الموحدين أمير المؤمنين فقد فضّله (هكذا) على الأئمة (عليهم السلام) و ذكروا أنّ له الفضل على الأئمة، و وجهه ظاهر. و أمّا الحسنان (عليهماالسلام) فالذي يظهر من أخبارهم (عليهم السلام) أنّ لهما الفضيلة أيضاً على باقيهم... و أمّا هما صلوات الله عليهما فلا نعرف الأفضليّة بينهما؛ لأنّ الإمامة و الخلافة قد أتتهما من جدّهما و قد كان في الكمالات كفرسي رهان. ثمّ بعد ذكر روايات دالّة بزعمه على تساويهما (عليهماالسلام) قال: و أمّا باقي الأئمة (عليهم السلام) فالأخبار قد اختلفت في أحوالهم في المساواة و الأشرفية، و في الروايات الأخرى أنّ أفضلهم قائمهم، انتهى. هذا ما وقفت عليه من كلماتهم في المسألة.
و حقّ القول أنّ أمير المؤمنين أفضل الأئمة (عليهم السلام)، للأخبار المذكورة في الموقف السابق، و الأخبار الآتية في الموقف التالي، و لخصوص صحيحة بريد بن معاوية(2) قال: قلت لأبي جعفر (ع): (قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ)(3) قال: «إيّانا عني، و عليّ أوّلنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ (ص)».
و رواية الحارث(4) عن أبي عبد الله (ع) قال: سمعته يقول: «قال رسول الله (ص): نحن في الأمر و الفهم و الحلال و الحرام نجري مجرى واحداً، فأمّا رسول الله (ص) و عليّ فلهما فضلهما»:
أقول: الظاهر أنّ جملة: «فأمّا رسول الله» من قول الصادق (ع) دون رسول الله (ص). و في البصائر - هكذا: قال سمعته يقول رسول الله: «و نحن في الأمر و النهي و الحلال و الحرام...»، و هو أظهر. و قول رسول الله (ص): «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و أبوهما خير منهما»(5) فيكون خيراً من بقية الأئمة (عليهم السلام) قطعاً.
و صحيحة البزنطي عن الرضا (ع) فيما كتب إليه(6): قال أبو جعفر (ع): «لا يستكمل عبد الإيمان حتّى يعرف أنّه يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم في الحجّة و الطاعة و الحلال و الحرام سواء، و لمحمّد و أمير المؤمنين (عليهماالسلام) فضلهما». و رواه الحلبي عن الباقر، بتفاوت يسير
ص: 323
في اللفظ(1).
و رواية يونس بن وهب(2)... قال أي الصادق (ع): «فاعلم أنّ أمير المؤمنين أفضل عند الله من الأئمة كلّهم، و له ثواب أعمالهم. و على قدر أعمالهم فضلوا».
و رواية ابن عباس عنه (ص)(3): «ما أظلّت الخضراء و ما أقلّت الغبراء بعدي أفضل من عليّ بن أبي طالب» انتهى.
و رواية الحسن(4) قال: قال لي الرضا: «من زار قبر أبي ببغداد كمن زار قبر رسول الله و أمير المؤمنين (ع) ألا إنّ لرسول الله (ص) و أمير المؤمنين (ع) فضلهما». و غيرها من الروايات الدالّة على ذلك، و هذا فليكن مفروغاً عنه و إن كان أسانيد جملة منها غير معتبرة سنداً بل و مصدراً.
أمّا الحسنان (ع) فلا يبعد أن يقال بتفضيلهما أيضاً على الأئمة الباقية (عليهم السلام) لقوله (ص): في روايات كثيرة أنّهما سيدا شباب أهل الجنة. و لقول الرضا (ع) - كما في رواية التميمي - عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيّ (ص): «الحسن و الحسين خير أهل الأرض بعدي و بعد أبيهما»(5). و لما دلّ على تقدّم خلقة أنوار الخمسة الطيبة من غيرهم(6)، و لرواية إبراهيم(7) قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين و عن زيارة أبي الحسن و أبي جعفر (عليهم السلام) - عن الأئمة خ - فكتب إليّ: أبو عبد الله صلوات الله عليه المقدّم، و هذا أجمع و أعظم أجراً.
و للروايات الكثيرة التي نقلها العلاّمة المجلسي في ضمن الروايات الواردة في مناقب أصحاب الكساء و فضلهم (عليهم السلام) فإنّها بين ما هو ظاهر في المراد و ما هو مشعر به فلاحظ(8).
و أمّا هما بينها فلا دليل قوي على تفضيل أحدها على الآخر، بل ظاهر رواية هشام(9)
ص: 324
تساويهما في الفضل و مثلها صحيحة أبي بصير الطويلة(1) عن الصادق... فلما مضى عليّ (ع) كان الحسن أولى بها - أي الخلافة - لكبره إلخ، فتأمّل.
و رواية أبي الجارود الطويلة(2) عن الباقر (ع): «... فلم يكن لأحد منها فضل على صاحبه إلاّ بكبره» انتهى.
نعم، في رواية هشام بن سالم(3) قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد (ع) الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: «الحسن أفضل من الحسين». و حيث إنّ مثل هذه الأخبار لا يكفي لإثبات مثل هذه المسائل فلا بدّ من التوقّف.
فإن قلت: الإمامة بعد أمير المؤمنين للحسن دون الحسين بالضرورة فهو أفضل لا محالة، لاستحالة الترجيح بلا مرجّح و ترجيح المرجوح على الراجح.
قلت: قد حقّقنا بحثه(4) مفصّلاً، فراجع حتّى تجد جواب هذا السؤال.
و أمّا القائم المهدي صاحب العصر و الزمان - عجّل الله تعالى فرجه الشريف و جعلنا من أعوانه و أتباعه - فمقتضى بعض الروايات أفضليّته من الأئمة الثمانية كمرفوعة أبي بصير، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (ص): «... و اختار من الحسين الأوصياء يمنعون عن التنزيل تحريف الغالين... تاسعهم باطنهم ظاهرهم قائمهم ظاهرهم قائمهم و هو أفضلهم(5) و حديث الوصيّة عن الصادق(6): «... ثمّ قال رسول الله... و أنا أدفعها إليك يا عليّ، و أنت تدفعها إلى وصيّك و يدفعها وصيّك إلى أوصيائك واحداً بعد واحد حتّى يدفع إلى خير أهل الأرض بعدك» انتهى. و لا بدّ من تخصيصه بغير الحسنين (عليهماالسلام).
و رواية سلمان(7) قال: كنّا مع رسول الله (ص): «... أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم إمامهم أعلمهم أحكمهم أفضلهم».
و رواية جابر الأنصاري(8) قال: قال رسول الله (ص)... و اختار من الحسين حجّة العالمين تاسعهم قائمهم أعلمهم أحكمهم».
و ما نقله المقداد في شرحه على الباب الحادي عشر(9) عن النبيّ الأكرم (ص): «... أبو أئمة تسعة
ص: 325
تاسعهم قائمهم أفضلهم».
و عن المناقب: و في خبر آخر: حرم - أي أربعة حرم في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّٰهِ اِثْنٰا عَشَرَ شَهْراً... مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)(1) عليّ و الحسن و الحسين و القائم، بدلالة قوله: (ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ)(2) و ما نقله الأحسائي في شرح المشاعر: «... تاسعهم قائمهم أعلمهم أفضلهم».
لكنّ هذه الروايات لا توجب الجزم بالمطلوب فلا بدّ من التوقّف، بل هناك روايات دالّة على التساوي و عدم الترجيح كرواية ابن المغيرة و رواية البزنطي المتقدّمتين و رواية الثمالى عن الباقر (ع) عن أبيه عن جدّه الحسين (ص) قال(3): «دخلت أنا و أخي على جدّي رسول الله (ص)... و اختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم، و كلّهم في الفضل و المنزلة سواء عند الله». و غير هذه.
و أمّا الأئمة الثمانية فلم أجد رواية تدلّ على التفاضل بينهم، سوى ما ورد(4) في تأويل قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّٰهِ اِثْنٰا عَشَرَ شَهْراً... مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ)(5).
من أنّ المراد بها الأئمة، و المراد بالأربعة أمير المؤمنين و عليّ بن الحسين، و عليّ بن موسى، و عليّ بن محمّد (ع) المسمّون باسم واحد.
و عن الباقر (ع): «و الأربعة الحرم الذين هم الدين القيّم أربعة يخرجون باسم واحد:.. فالإقرار بهولاء هو الدين القيّم: (فَلاٰ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ). أي قولوا بهم جميعاً تهتدون»... و الله العالم.
لكن للإمام الصادق (ع) في ترويج الشريعة و نشر المعارف و الأحكام و حفظ الشيعة شأن عظيم صلوات الله عليه و على آبائه و أبنائه أجمعين، و الأحسن الأحوط الأوفق هو التوقّف في كلّ ما لم يقم عليه دليل قطعيّ قويّ.
ص: 326
و إنّما نبحث عنه حسب مذاق العامّة و غير الشيعة، و إلاّ فمن هو أفضل من المرسلين كيف لا يكون أفضل من المسلمين، و هو أفضل من الملائكة كيف لا يكون أفضل من الصحابة؟ فنقول: فيه أقوال:
1 - ما ذهب إليه الشيعة و أكثر متأخّري المعتزلة كما في شرح المواقف(1) و بعض أهل السنّة و بعض المرجئة كما في الفصل لابن حزم(2) من أنّه عليّ بن أبي طالب (ع) و حكاه العلاّمة الحلي(3) عن الزبير و المقداد و سلمان و جابر بن عبد الله و عمّار و أبي ذر و حذيفة من الصحابة، و عن عطاء و مجاهد و سلمة من التابعين. و قال: و هو ا خيتار البغداديين و أبي عبد الله البصري.
و قال ابن حزم الناصبي: و قد روينا هذا القول نصّاً عن بعض الصحابة و عن جماعة من التابعين و الفقهاء...
و قال أيضاً: و روينا عن نحو عشرين من الصحابة أنّ أكرم الناس على رسول الله (ص) عليّ ابن أبي طالب و الزبير بن العوام.
2 - ما ذهب إليه الأشاعرة و أكثر قدماء المعتزلة - كما في المواقف - من أنّه أبو بكر، لكن الناصبي المتقدّم نسبه إلى الخوارج كلّها، و بعض أهل السنّة و بعض المعتزلة و بعض المرجئة(4) و نقله العلاّمة (رحمه الله) عن عمر و عثمان و أبي هريرة و ابن عمر و الحسن البصري و عمر و ابن عبيد و النظّام و الجاحظ.
أقول: لكنّني قاطع - شهد الله - أنّ عمر و عثمان بل أبا بكر نفسه و خلق كثير من الصحابة كانوا قاطعين بأفضليّة عليّ (ع) من الكلّ!.
3 - ما تخيّلة ابن حزم الناصبيّ المذكور من أنّه نساء النبيّ و أفضلهن خديجة و عائشة، ثمّ بعدهن أبو بكر، ثمّ عمر قطعاً ثمّ عثمان من غير قطع، و أمّا عليّ (ع) فلم يفضّله على أحد من المهاجرين الأوّل!.
4 - إنّه جعفر بن أبي طالب نقله الناصبي المذكور عن جمع منهم أبي هريرة!.
5 - إنّه ابن مسعود: حكاه أيضاً عن جمع.
6 - إنّه عمر! نقله عن بعض الصحابة و عن الحاكم النيسابوري.
ص: 327
7 - إنّه الأولون من المهاجرين ثمّ الأوّلين من الأنصار، ثمّ من بعدهم منهم، بلا قطع على إنسان بعينه. نقله الناصبي المذكور عن داود بن على الفقيه، و قال: و لقد رأينا من متقدّمي أهل العلم ممّن يذهب إلى هذا القول.
8 - إنّه أبو سلمة، نسبه إلى أم سلمة!!.
9 - التوقّف، كما نقله العلاّمة عن الجبائيّين و قاضي القضاة. و قال أبو علي إن صحّ خبر الطائر فعليّ أفضل.
و نحن لا نتعرض إلاّ للأقوال الثلاثة الأولى فنقول: استدلّوا للقول الثاني بوجوه:
فمنها: قوله تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا اَلْأَتْقَى * اَلَّذِي يُؤْتِي مٰالَهُ يَتَزَكّٰى * وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ (1).
قال الرازي في ذيل الآية الشريفة: أجمع المفسرون منّا على أنّ المراد منه أبو بكر، و اعلم أنّ الشيعة بأسرها ينكرون هذه الرواية! و يقولون إنّها نزلت في حقّ عليّ بن أبي طالب (ع) و الدليل عليه قوله تعالى: (وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ)(2) ثمّ قرّب قول أصحابه بما يتخلّص إلى أمور!.
1 - إنّ المراد بهذا الأتقى هو الأفضل، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ)(3). و الأكرم هو الأفضل. فكلّ من كان أتقى كان أفضل.
2 - إنّ هذا الأتقى إمّا أن يكون عليّاً (ع) أو أبا بكر، لا غير لإجماع الأمّة على أنّ الأفضل بعد النبيّ إمّا أبو بكر و إمّا عليّ.
قلت: قد عرفت بطلان هذا الإجماع و تعدّد الأقوال فيه.
3 - لا يصحّ أن يكون الأتقى المذكور عليّاً (ع) لأنّ الله وصفه يقوله: (وَ مٰا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزىٰ)(4) و هذا الوصف لا يصدق على عليّ (ع) لأنّه كان في تربية النبيّ، أخذه من أبيه و كان يطعمه، و يسقيه و يكسوه، و يربّيه. فكان الرسول منعماً عليه نعمة يجب جزاؤها. و أمّا أبو بكر فلم يكن للنبيّ نعمة دنيويّة عليه، و إن كان عليه نعمة الهداية إلى الدين، إلاّ أنّها لا تجزى لقوله: (مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)(5)
ص: 328
أن يكون الأتقى هو أبو بكر.
هذا ما نسجه هذا المتوهّم، و هو تلفيق عجيب، و كأنّ الملفّق عمي أو تعامى عليه أنّ المراد بالأحد المنعم ليس هو عمومه الاستيعابي و إلاّ لم يوجد للأتقى المذكور مصداق في تمام الكرة الأرضية، إذ ما من بشر إلاّ و عنده نعمة من غيره قابلة للجزاء، كالوالدين و المعلّم و الأقارب و الأصدقاء، و لا يمكن أن يوجد بشر(1) لم يصل إليه إحسان بشر مثله بالضرورة. بل المراد به الأحد الذي يؤتى له المال؛ لئلا يكون إيتاء المال كالمعاملة، بل لابتغاء وجه الله، و هذا المعنى هو المتفاهم عرفاً من الآية الكريمة، مضافاً إلى كونه موافقاً للاعتبار العقليّ أيضاً، فأين انطباقها على أبي بكرهم وحده؟! و إلاّ فعنده أيضاً نعمة من أبيه و غيره، بل يمكن ألا يقال إنّها نزلت في حقّ عليّ (ع) لقوله تعالى: (إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً)(2) فإنّه نزل في حقّ عليّ و فاطمة و الحسنين (عليهم السلام) قطعاً باعتراف جمع من المخالفين، و صلاحيّته للقرينيّة على مطلوبنا واضحة جداً.
ثمّ إنّ ما تفوّه به من أنّ نعمة الهداية لا تجزى يزيّف بقوله تعالى: (قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ)(3) فمودّة عليّ و آله ذوي قربى رسول الله واجبة على أبي بكر و غيره إن اهتدوا بهدى النبيّ الأكرم (ص). و هذا افضيلة أخرى يفضل بها أمير المؤمنين على أبي بكر.
و يمكن أن يقال إنّ الآية لا تدلّ على الأفضليّة المطلقة لنخصّ عليّاً (ع) بل على الأفضليّة النسبية، و كذلك الأشقى في قوله: (لاٰ يَصْلاٰهٰا إِلاَّ اَلْأَشْقَى * اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى)(4)، فإنّ الموجب لدخول الجنّة فضلاً عن تجنّب النار هو التقوى، فالتقي يستحقّ الجنة و إن لم يكن أتقى، و كذا الشقي يدخل النار و إن لم يكن أشقى، و هذا ظاهر لاستر عليه.
و منها: قوله (ص): «اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر و عمر». و عمومه شامل لعليّ (ع) و لا يؤمر الأفضل و لا المساوي بالاقتداء.
أقول: مع كونه جدليّاً، غير صحيح فإنّ سند الرواية ضعيف كما اعترفوا به أنفسهم، بل سبق بطلانه و افتعاله لأجل ما ذكرناه من القرائن.
و منها: قوله (ص) في حقّ أبي بكر و عمر: هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا
ص: 329
النبين و المرسلين.
قلت: و هو بمختلف ألفاظه مجعول على النبيّ الأكرم (ص) إذ في سنده يحيى بن عنبسة، و عبد الرحمن بن مالك. و نوح بن أبي مريم، و بشار بن موسى و كلّهم من الوضّاعين الكذّابين الدجّالين كما اعترفوا في كتبهم الرجاليّة(1) هذا مع أنّ مفاده أيضاً باطل؛ إذ لا كهول في الجنة، بل أهلها جردا مرد نعم أرادوا بذلك معارضة ما صحّ عند المسلمين من قوله (ص): «الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة».
و منها: قوله (ص) لو كنت متّخذاً خليلاً دون ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً، و لكن هو شريكي في ديني، و صاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار، و خليفتي في أمّتي.
أقول: لا شكّ أنّه موضوع مختلق لما مرّ من الدلائل القويّة في كلام علمائهم على عدم النصّ على أبي بكر، فالجملة الأخيرة في الرواية شاهدة بكذبها. و عن ابن أبي الحديد(2) أنّه وضع في مقابل حديث الإخاء، يعني به مؤاخاة النبيّ (ص) مع عليّ (ع).
و على الجملة: الروايات المستدلّ بها على أفضليّة أبي بكر كلّها مجعولة موضوعة لا يمكن للمسلم أن يعتمد عليها أبداً، و دليلنا على هذا أمور:
1 - قول ابن الحزم الناصبي في فصله(3) و ما نعلم نصّاً في وجوب القول بتقديم ابن(4) بكر ثمّ عمر على سائر الصحابة إلاّ هذا الخبر وحده: فهو يكذب صريحاً جميع الروايات المذكورة سوى خبر واحد سيأتي نقله.
2 - ما صحّ عن أبي بكر نفسه في صحاحهم و كتبهم من خطبته حين ولي بعد فوت النبيّ الأكرم (ص)، فقال: أيّها الناس إنّي وليتكم ولست بخيركم.
قال ابن حزم: فإن قال قائل: إنّما قال أبو بكر تواضعاً.
قلنا له: هذا هو الباطل المتيقّن؛ لأنّ الصدّيق لا يجوز أن يكذب، فهذا أبو بكر يذكر فضائل نفسه، فلو كان أفضلهم لصرّح به و ما كتمه... إلى آخره.
3 - الروايات المسطورة في كتبهم الدالّة على أفضليّة خليفتهم كثيرة جداً و لو إجمالاً، فلو صحّت و لم تكن معلومة الوضع لكانت مفيدة للقطع بها، و مع ذلك فلم يعتمد عليها أهل نظرهم،
ص: 330
بل على الإجماع المزعوم، بل ذكروا أنّ الأفضليّة ظنّية غير قطعية(1).
و هذا يكشف عن عدم اطمئنان قلوبهم بها و عن اعتقادهم بمجعوليّتها و اختراعها.
4 - ما في المواقف و شرحها(2): لكنّا وجدنا السلف قالوا بأنّ الأفضل أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ. و حسن ظنّنا بهم يقتضي بأنّهم لو لم يعرفوا ذلك لما أطبقوا عليه، فوجب اتّباعهم في ذلك و تفويض ما هو الحقّ إلى الله تعالى، و هذا في حكم التوقّف عن القول بالأفضليّة.
و قال التفتازاني في شرح العقائد لعمر النسفي: و على هذا وجدنا السلف، و الظاهر أنّه لو لم يكن لهم دليل على ذلك لما حكموا بذلك و قال بعد أسطر: و كأنّ السلف كانوا متوقّفين في تفضيل عثمان رضى الله عنه، انتهى.
أقول: فاصل خلافة أبي بكر و أفضليّته مأخوذان من عمل السلف فقط، و الفرق أنّ الأوّل أصبح قطعيّاً و الثاني ظنّياً، و لا تسأل عن فارقه فإنّ القوم أيضاً متحيّرون فيه! و لم و لن يتمكّنوا من إثباته.
هذا، و قد عرفت منّا سابقاً أنّ عمل السلف لا يكون حجّة على غيرهم و لو فرضناهم صالحين. فإنّ قول الثقة حجّة في الأخبار الحسيّة، دون المسائل الحدسية، كما قرّر في أصول الفقه.
ثمّ لا أدري أين اتّفاق السلف على قولهم؟ و في المسألة أقوالاً متعدّدة كما مرّ، و هذا ابن حزم ينسب أفضليّة أبي بكر إلى بعض أهل السنّة، كما سلف نقله و ينقل هو و غيره عن خلق كثير من الصحابة و التابعين و غيرهم عن الشيعة و العامّة أفضليّة عليّ (ع).
و هذا ابن عبد البرينص(3): إنّ السلف اختلفوا في تفضيل أبي بكر و عليّ رضي الله عنهما، و نقل أيضاً عن سلمان و أبي ذر و المقداد و خباب و جابر و أبي سعيد الخدري و زيد بن أرقم: أنّ عليّاً أوّل من أسلم، و فضّله هؤلاء على غيره، انتهى.
فتحصّل من جميع ذلك أنّه لا دليل على أفضليّة أبي بكر أصلاً سوى العصبية البغيضة التي ولّدتها سقيفة بني ساعدة و ربّتها السياسة الأموية.
ص: 331
و أمّا القول الثالث فاستدلّ عليه الناصبي المزبور بوجوه:
1 - إنّ نساء رسول الله (ص) شاركن الأصحاب في الصحبة، بل لهنّ من مزيد الصحبة ما ليس لهم، ثمّ فضلنّ بحقّ زائد و هو حقّ الأموميّة بنصّ القرآن.
2 - أنّهنّ أزواجه في الدنيا و الآخرة فهنّ معه (ص) في الجنة في درجة واحدة؛ إذ لا يمكن أن يحال بينه و في الجنة، و لا أن ينحطّ (ع) إلى درجة يسفل فيها عن أحد من الصحابة.
فإن قلت: إبراهيم ابن رسول الله (ص) أيضاً معه (ع) فليزم أفضليّته عن الصحابة و هو كما ترى.
قلنا: استحقاقه لتلك المنزلة ليس من جهة العمل كما هو محل البحث، بل هو من جهة كرامة أبيه (ص) و هذا بخلافهن فإنّهنّ استحقن تلك المنزلة بالعمل.
3 - رواية أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله من أحبّ الناس إليك؟ فقال: عائشة، قال: من الرجال، قال فأبوها. و رواية عمرو بن العاص، فقلت: أيّ الناس أحبّ إليك؟ فقال (ص): عائشة قلت: من الرجال؟ قال: أبوها قلت: ثمّ من؟ قال: عمر، فعدّ رجالاً، قال: فهذان عدلان - أنس و عمرو - يشهدان أنّ رسول الله (ص) أخبر بأنّ عائشة أحبّ الناس إليه ثمّ أبوها.
4 - قوله تعالى: (وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صٰالِحاً نُؤْتِهٰا أَجْرَهٰا مَرَّتَيْنِ)(1) فهذا فضل ظاهر و بيان لائح في أنّهنّ أفضل من جميع الصحابة فإنّ أجرهن ضعف أجر الصحابة على أعمالهم.
قال: و أمّا فضلهنّ على بنات النبيّ (ص) فبيّن بنصّ القرآن و هو قوله: (يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ)(2) انتهى.
و أمّا ما ورد منه في حقّ فاطمة من أنّها سيّدة نساء المؤمنين أو نساء الأمّة، فلا يشمل نساء النبيّ، بل مخصوص بنساء المؤمنين و الأمّة مع أنّ السيادة غير الفضل، فإنّها من جهة الشرف بولادة النبيّ (ص) بخلاف عائشة حيث ورد في حقّها. فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام!.
هذا تلخيص كلام هذا الثرثار الطنبل، لكن يزيّف الأوّل بأنّ الصحبة لا فضل فيها أصلاً و لو سلّمناه فعليّ أفضل؛ لأنه أقدم صحبة له (ص) من جميع الناس بشمول الأزواج، سوى خديجة و الأموميّة أجنبيّة عن الفضل الذي هو مورد البحث أعني كثرة الثواب كما صرّح به هو أيضاً غير مرّة، ألا ترى أنّ لأمّهات الصحابة، بل لأمّ النبيّ الأكرم (ص) أمومة حقيقة، مع أنّهنّ لسن بأفضل
ص: 332
من أولادهن، فإن لم يكن الأبوّة و الأمومة التحقيقيتين مستلزمتين للفصل و زيادة الثواب فما بالك بالأمومة التنزيليّة التي هي من جهة كرامة النبيّ الخاتم (ص) فقط، لا من جهة عملهن. و هذا واضح.
و يفند الثاني بلزوم أفضليّة إبراهيم بن رسول الله (ص) عن الأمّة، و هو ممّا لم يقل به أحد، و ما ذكره في رفعه ممنوع فإنّ صالحات نساء رسول الله إنّما يستحقنّ بأعمالهن أصل دخول الجنة فقط، لا وصول منزلة النبيّ، و بينهما بون المشرقين. فإنّه لا يمكن لأحد أن يستحقّ منزلته (ص) بالعمل.
و بالجملة: ما ذكره فاسد قطعاً و إلاّ لزم أفضليتهنّ من جميع الأنبياء و المرسلين، فإنّ منزلة رسول الله أعلى من منازل جميع الأنبياء، و الناصبي مع إطالة كلامه و إكثار ترّهاته لم يستطع أن يجيب عن هذا الإيراد و كأنّه أيضاً استشعر بعجزه فقال في آخر كلامه: إنّ قوله تعالى: (إِنَّ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فٰاكِهُونَ * هُمْ وَ أَزْوٰاجُهُمْ فِي ظِلاٰلٍ عَلَى اَلْأَرٰائِكِ مُتَّكِؤُنَ)(1) نصّ على مرامه!! فوجب الإقرار به فلا ينافي عجزه عن جواب الإشكال المذكور.
و لكنّه لم يشعر أنّ وحدة المكان في الجنة لا يستلزم التسوية في الفضل و الثواب، فيمكن أن يلتذّ أحد المجتمعين - في مكان واحد - أكثر ممّا يلتذّ الآخر، و هذا ممّا لا دافع له، بل و هذا ممّا لا بدّ منه لئلا يلزم أفضليّة أطفال كلّ أحد عمّن هو دونه.
و أمّا الثالث و الرابع فهما أخصّان من مدّعاه؛ إذ مجرّد أحبّية عائشة و أفضليّتها عن الناس لا يوجب أفضليّة سائر زوجات النبيّ (ص) عنهم، فلعلّها لخصوصيّة خاصّة فيها دونهنّ كما هو كذلك، فإنّها جاهدت عليّاً في البصرة و خرجت من بيتها و حثّت الناس على محاربة من أذهب الله عنه الرجس، و من قال النبيّ في حقّه: «حربك حربي، و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى».
و بالجملة: كان النبيّ الأكرم عالماً بشدّة بغض عائشة لعليّ و بنته فاطمة - و سبطيه الحسن و الحسين؛ فلذا خصّها بما خصّها!!! و لا يوجد هذه المزيّة و غيرها كنزول قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا)(2) - في غيرها فهي أفضل!.
و كان ما كان ممّا لست أذكره *** فظن خيراً و لا تسأل عن الخبر
و أمّا العدلان - عمرو و أنس - فهما من العادلين الذين قال الله تعالى فيهم. كذب العادلون بالله و ضلّوا ضلالاً بعيداً.
أمّا عمرو فقد فارق عليّاً و لحق بمعاوية رأس الفئة الباغية.
ص: 333
و أمّا أنس فقدكتم شهادته بخبر الغدير ففارق عليّاً فابتلاه الله بما ابتلاه، و قد مرّ من طريق العامّة قول رسول الله (ص): «من فارق عليّاً فقد فارقني» و قوله: «عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ» نعم أرادوا أن يقابلوا بهذين الخبرين ما ورد عنه (ص) في حقّ أهل بيته (ص) فقد أخرج الترمذي عن عائشة: «كانت فاطمة أحبّ الناس إلى رسول الله، و زوجها أحبّ الرجال إليه»(1) و مثله غيره.
و أمّا الوجه الرابع فعدم دلالته على المراد واضح؛ إذ كثرة ثوابهنّ على عمل لا تدلّ على أفضليّتهن لاحتمال أن غيرهنّ من الرجال و النساء أتى بأعمال كثيرة أزيد من ضعف أعمالهنّ، أو أهمّ من أعمالهنّ، مثلاً ثواب صلواتهنّ أكثر من ثواب صلاة غيرهنّ بدرجة مثلاً، لكن لإرشاد و هداية الضلال خمس درجات من الثواب مثلاً، و لم يفعلنه، و فعله غيرهنّ، فطبعاً يكون غيرهنّ أفضل منهنّ، و هذا هو الواقع أيضاً؛ و لذا ورد: «أنّ ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين أو الأمّة».
و أمّا ما نسجه في تفضيلهنّ على بنات الرسول من ذكر قوله تعالى: (يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ)(2) انتهى. ففاطمة (عليهاالسلام) أوّل و أحقّ بهذه الخاصّيّة كما لا يخفى، و قد ورد في حقّها أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة، فهي أفضل من جميع زوجات النبيّ (ص). و ما تخيّله من الفرق بين السيادة و الفضيلة فهو فاسد في المقام؛ إذ لا سيادة شرعيّة للمفضول أبد، و قد مرّ بعض الروايات الواردة من طريق القوم في فضيلة فاطمة و عظمتها، و أنّها بضعة رسول الله (ص)، و أنت تعلم أنّه لا مناسبة بين البضعة و الثريد!(3) فأين من صغى قلبها من التي أذهب الله عنها الرجس؟ و أين الظلمة من النور، و الظل من الحرور؟.
بعد زهوق الباطل و خسران صفقة الوضع و الجعل نجيء لكم بمحض الحقّ و صرف الصدق، و اليكم الجزء من الكلّ، و القطرة من البحر.
1 - قوله تعالى: إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ (4) انتهى و قد مرّ دلالة الآية على العصمة و اختصاصها بالرسول (ص) و عليّ و زوجته و ابنيه، و لا شك في أفضليّة المعصوم عن
ص: 334
غيره، و لم يدّع العصمة لأحد سواهم.
2 - قوله تعالى: اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ * أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ (1). و قد مرّ أنّ عليّاً (ع) أفضل السابقين(2).
2 - قوله تعالى: فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ...(3)، و حيث لا معنى لدعوة الإنسان نفسه فلا بدّ أن يكون المراد بهذه الأنفس المدعوّة غير النبيّ (ص) و لا شكّ أنّها عليّ بن أبي طالب (ع) بلا خلاف، و قال الرازي في تفسيره أنّه كالمتّفق على صحّته بين أهل التفسير و الحديث، هذا من ناحية.
و من ناحية أخرى أنّ عليّاً (ع) ليس نفس النبيّ الأكرم حقيقة لاستحالة الاتّحاد عقلاً، فيتعيّن أن يكون (ع) نفسه (ص) تنزيلاً و بلحاظ الآثار و الأوصاف منها الأفضليّة عن جميع الأمّة، فعليّ (ع) أفضل من جميع الأمّة و إن لم يكن نبيّاً للقطع الخارجي.
و يدلّ على التنزيل المذكور رواية عبد الرحمن بن عوف(4) ففيها قول رسول الله (ص) لأهل الطائف: «... و لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي أو كنفسي يضرب أعناقكم، ثمّ أخذ بيد عليّ (ع) ثمّ قال: هو هذا». و يقرب منه ما أخرجه جمع من الحفّاظ عن حبيش بن جنادة(5) قال: قال رسول الله (ص): «عليّ منّي و أنا من عليّ، و لا يؤدي عنّي إلاّ أنا أو عليّ» بل هذا الحديث يدلّ على خلافته كما لا يخفى.
قال صاحب المواقف(6) - بعد اعترافه بدلالة الأخبار الصحيحة على أنّه (ص) دعا عليّاً إلى ذلك المقام -: و قد يمنع أنّ المراد بأنفسنا عليّ وحده، بل جميع قراباته و خدمته النازلون عرفاً منزلة نفسه (ع) داخلون فيه، تدلّ عليه صيغة الجمع، انتهى. و كأنّه لظهور ضعفه لم يسنده إلى نفسه، وجه الضعف أنّه على هذا يلزم لغويّة قوله تعالى: أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ (7) فذكر الأبناء و النساء يدلّ على بطلان هذا التخيّل، كما اعترف به بعضهم، هذا مع أنّه من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ المسلّم أنّ النبيّ الأكرم ما دعا غير عليّ من أقاربه، و
ص: 335
لم يكن معه من الرجال غيره و لا من النساء سوى فاطمة و لا من الأبناء سوى الحسنين، فلا محمل لهذه الشبهات إلاّ التحفّظ على العصبية و تقليد الآباء.
و أمّا حديث صيغة الجمع كغيره من المباحث التفسيريّة فهو من شؤون المفسّرين و لا ربط له بإثبات مرامنا ففي رواية سعد بن أبي وقّاص - كما أخرجها مسلم - قال(1): لمّا نزلت هذه الآية: نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ دعا رسول الله (ص) عليّاً و فاطمة و حسيناً - هكذا في النسخة الموجودة عندي من الصواعق و الظاهر سقوط كلمة و حسناً من الطبع - فقال: اللهمّ هؤلاء أهلي.
و أخرج الدار قطني(2): أنّ عليّاً يوم الشورى احتجّ على أهلها فقال لهم: «... و من جعله (ص) نفسه و أنباءه أبناءه و نساءه نساءه غيري؟ قالو: اللهمّ لا». الحديث.
و لأجل ذلك سكت الرازي في تفسيره عن المناقشة في استدلالنا على أفضليّة عليّ (ع) من جميع الأمّة لكنّه ردّ الاستدلال بالآية الشريفة على أفضليّة عليّ (ع) من الأنبياء (عليهم السلام) فإنّ نفس الأفضل عن الأنبياء أفضل منهم طبعاً، بدعوى أنّ الإجماع قائم على عدم أفضليّة غير النبيّ.
نقول له: إن أردت إجماع أهل البيت و أئمة العترة و شيعتهم الأبرار، فهو منعقد على خلاف ما ذكرته كما مرّ بحثه من أخبارهم و رواياتهم، و إن أردت إجماع النواصب و الخوارج و المنحرفين عن العترة الطاهرة و الذين يفضّلون أمثال عمران بن حطّان الخارجي على الصادق (ع) لا نشتريه بفلس، و لا نقيم له وزناً. و قد فات عن الرازي ما رواه أصحابه من قوله (ص): «علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل أو. كأنبياء بني إسرائيل، و من المتّفق عليه أنّ عليّاً (ع) وارث علم النبيّ (ص).
و المتحصّل أنّ الآية الكريمة ظاهرة في أفضليّة أمير المؤمنين (ع) عن جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقرّبين، بل جميع ما سوى الله بعد خاتم المرسلين (ص).
4 - قوله (ص) - في خبر الطير - حينما أهدي إليه طائر مشوي: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فأتى عليّ و أكل معه». و هو بإطلاقه صريح في أفضليّته (ع) عن جميع الصحابة؛ إذ لا معنى للأحبيّة إلاّ الأفضليّة - أي أكثر ثواباً بل يمكن أن يقال بأنّه يدلّ على أفضليّته عن جميع ما سوى الله سوى خاتم الأنبياء، فإنّ المذكور في الرواية هو الخلق دون الأمّة، فافهم.
ص: 336
و أمّا سند الرواية فهو لا يحتاج إلى كلام فإنّ الرواية قطعية الصدور عن النبيّ الأكرم (ص)(1) فهذا دليل قطعيّ السند و الظاهر الدلالة على المراد، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال؟!.
5 - اتّخاذ النبيّ (ص) إيّاه أخاً له في المرّتين، و لو لا أفضليّته لما اختاره على غيره، و لا سيّما في المرّة الثانية حيث كان المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار.
6 - قوله (ص) في غزوة الأحزاب - الخندق -: «ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة أمتي»، أو «خير من عبادة الثقلين» كما نقله القوشجي(2) و هو على كلا الوجهين نصّ على المراد، فإنّه إذا كان ثواب عمله هذا أكثر من ثواب جميع أعمال الأمّة فما ظنك إذا لوحظ ثواب بقية أعماله؟
7 - ما رواه البيهقي(3) أنّه ظهر عليّ بن البعد فقال (ص): «هذا سيّد العرب» فقالت عائشة: ألست سيّد العرب؟ فقال: «أنا سيّد العالمين، و هو سيّد العرب». قال ابن حجر. و رواه الحاكم في صحيحة عن ابن عباس بلفظ: «أنا سيّد ولد آدم و عليّ سيّد العرب» و قال: إنّه صحيح و لم يخرجاه.
8 - ما عن المخلص و الطبراني و الدار قطني عنه (ص)(4): «أوّل من أشفع له من أمتي أهل بيتي، ثمّ الأقرب فالأقرب من قريش ثمّ الأنصار، ثمّ من آمن بي و اتبعني من اليمن، ثمّ سائر العرب، ثمّ الأعاجم، و من أشفع له أوّلاً أفضل» فأهل بيته (ص) أفضل من غيرهم و عليّ سيّد الأهل.
لكنّ الاستدلال به جدلي و إلاّ فالحديث باطل مفتعل.
9 - ما عن أحمد و المحاملي و المخلص و الذهبي و غيرهم عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص): «قال جبريل (ع): قلبت مشارق الأرض و مغاربها فلم أجد أفضل من محمّد (ص) و قلبت الأرض مشارقها و مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».
10 - قوله (ص): «عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر». و هو مروي بطرق مختلفة كثيرة(5).
أقول: نكتفي بهذا المقدار لحصول المراد به، و لعدم تيسّر الاستقصاء فإنّه يوجب وضع
ص: 337
كتاب مستقل، والمسألة قريبة من الضرورة، و الله على ما نقول وكيل.
قال - أبو بكر - حينما طلع عليّ: من سرّه أن ينظر إلى أعلم أعظم الناس منزلة، و أقربهم قرابة، و أفضلهم حالة، و أعظمهم حقّاً عند رسول الله فلينظر إلى هذا الطالع(1). و قال أيضاً: ما كنت لأتقدّم رجلاً سمعت رسول الله (ص) يقول فيه: عليّ منّي كمنزلتي من ربي. نقله ابن حجر في الباب الحادي عشر من صواعقه.
عمر: و اعلموا أنّه لا يتمّ شرف إلاّ بولاية عليّ رضي الله تعالى عنه(2). و قال أيضاً لأعرابي: هذا - أي علي (ع) - مولاك و مولى كلّ مؤمن، و من لم يكن مولاه فليس بمؤمن(3).
ابن عباس: ما أنز الله يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ أميرها و شريفها. و لقد عاتب الله أصحاب محمّد في غير مكان، و ما ذكر عليّاً إلاّ بخير. و قال: نزل في عليّ ثلاثمئة آية(4).
أحمد حنبل: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ (5).
إسماعيل القاضي. و النسائي. و أبو عليّ النيسابوري: لم يرد في حقّ أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان أكثر ما جاء في عليّ (6).
ثمّ تعالى معي إلى البخاري و تعصبه، و افترائه على محمّد بن الحنيفة فقد أخرج عنه(7) قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله قال: أبوبكر! قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ عمر! و خشيت أن يقول عثمان قلت: ثمّ أنت! قال: ما أنا إلاّ رجل من المسلمين!.
و ما ذا أقول لرجل متعصّب و مبغض لأهل بيت نبيّه، حيث لا يكتفي بإهمال فضائلهم وحدها، بل يفتري عليهم بما هو بطلانه أظهر من الشمس(8) لعن الله العصبيّة الحقماء ترد صاحبها النار لا محالة.
ص: 338
وأشد بغضاً و عداوة منه الثرثار الطنبل ابن حزم الأندلسي الناصبي حيث توقّف عن تفضيل أميرالمؤمنين (ع) على زوجته أبي بكر!!(1) و عن تفضيل الحسن المجتبى (ع) سيد شباب أهل الجنة على بلال و ابن مسعود و زيد بن حارثة(2) بل يفضّل سعد بن أبي وقّاص عليه(3) مع أنّ الحسن معصوم بنصّ القرآن. بل أضرب و قال في كتابه الأحكام: و قد غاب عنهم - يعني الشيعة - أنّ سيّد الأنبياء هو ولد كافر و كافرة. فتبّت يداه و تب، ما أغنى عنه علمه و ما كتب سيصلى ناراً ذات لهب. و له انحراف عجيب، فقد ذهب يلى نبوّة أم عيسى و أم موسى و أم إسحاق و زوجة فرعون! - في كتابه فصل - و قال بأفضليّة نساء النبيّ على جميع الأمّة، لكنّه حينما يصل إلى فضائل الصدّيقة الطاهرة سيّدة نساء أهل الجنّة يجفّ قلمه.
فمعاوية و إن مات لكن سننه قائمة بعد، و لها حافظون بيد أنّ كلمة الله هي العليا.
نذكر فيها عدّة من الروايات الواردة من طريق أهل السنّة في حقّ عليّ (ع) و أهله(4).
1 - ما أخرجه مسلم عن عليّ (ع) قال: و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الأمي إليّ أنّه لا يحبني إلاّ مؤمن، و لا يبغضني إلاّ منافق. و أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نعرف المنافقين ببغصهم عليّاً.
2 - أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: قال: رسول الله (ص): «الناس من شجر شتّى، و أنا و عليّ من شجرة واحدة».
3 - أخرج البزاز عن السعد قال: قال رسول الله (ص) لعليّ: «لايحلّ لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك».
أقول: وجهه ظاهر لأنّ الله أذهب عنه الرجس و طهّره تطهيراً، فافهم.
4 - أخرج الطبراني و الحاكم - بسند حسن - عن ابن مسعود عنه (ص): «النظر إلى عليّ عبادة»!.
5 - أخرج أبويعلى و البزاز عن سعد بن أبي وقّاص عنه (ص): «من آذى عليّاً فقد آذاني».
6 - أخرج الطبراني بسند حسن عن أمّ سلمة عنه (ص): «من أحب عليّاً فقد أحبّني، و من
ص: 339
أحبّني فقد أحبّ الله، و من أبغض عليّاً فقد أبغضني، و من أبغضني فقد أبغض الله».
7 - أخرج أحمد و الحاكم - و صحّحه - عن أمّ سلمة أيضاً عنه (ص): من سبّ عليّاً فقد سبّني». و هذا أحد الدلائل على ردّة معاوية و مروان و كلّ من سبّ أميرالمؤمنين (ع).
8 - أخرج أحمد و الحاكم - بسند صحيح - عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (ص) قال لعلي: «إنّك تقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله»(1).
9 - أخرج الطبراني عن أمّ سلمة عنه (ص): «عليّ مع القرآن و القرآن مع عليّ، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض».
10 - أخرج أحمد و الضياء عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله (ص) قال: «إنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب عليّ! فقال فيه قائلكم! و إنّي و الله ما سددت شيئاً و لا فتحته، و لكنّي أمرت بشيء فاتبعته.
11 - أخرج الخطيب عن أنس أنّه (ص) قال: عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب.
12 - أخرج الحاكم عن جابر أنّه (ص) قال: «عليّ إمام البررة، و قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله».
13 - أخرج الدارقطني في الأفراد أنّ النبيّ (ص) قال: «عليّ باب حطّة من دخل منه كان مؤمناً، و من خرج منه كان كافراً. انظر - سدّدك الله - هل تجد أصرح منه كلاماً في إمامة عليّ و كونها من أصول الدين».
14 - أخرج الخطيب عن البراء، و الديلمي عن ابن عباس عنه (ص): «عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني»!.
15 - أخرج البزاز عن أنس عنه (ص): «عليّ يقضي ديني».
أقول: و هو قريب من قوله: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها»، فلا يجوز الرجوع في الدين إلاّ إليه. و يحتمل فتح الدالّ فمعناه أنّه يؤدى ديونه (ص) بعد وفاته (ص).
16 - أخرج أحمد عن عليّ عنه (ص): «... أنت أخي.. فقاتل على سنّتي، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة، و من مات على عهدك فقد قضى نحبه، و من مات يحبّك بعد موتك ختم الله له بالأمن و الإيمان ما طلعت شمس أو غربت».
17 - أخرج الدارقطني أنّ عليّاً قال للستّة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم كلاماً طويلاً من جملته: «أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله (ص): يا عليّ أنت قسيم الجنة و النار
ص: 340
يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم لا».
18 - روى ابن السمّاك أنّ أبابكر قال له - لعليّ (ع) - سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز».
19 - أخرج أحمد عنه (ص): من أحبّني و أحبّ هذين - يعني حسناً و حسيناً و أباهما و أمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة».
قال ابن حجر: ورواه الترمذي بلفظ: «كان معي في الجنة».
20 - ما صحّ عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية: إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ...(1) قلنا: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك؟ فقال: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد...».
قال ابن حجر بعد هذا: فسؤالهم بعد نزول الآية و إجابتهم باللهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد إلى آخره دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته و بقيّة آله مراد من هذه الآية، و إلاّ لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته و آله عقب نزولها، و لم يجابوا بما ذكر فلما أجيبوا به دلّ على أنّ الصلاة عليهم من جملة المأمور به، و أنّه صلّى الله عليه و سلّم(2) أقامهم في ذلك مقام نفسه، إلخ.
أقول: فنسأل من أهل السنة لماذا تركتم ذكر الآل في الصلاة عليه (ص)؟ و هل هو إلاّ للنفرة عن آل محمّد (ص)؟ و هل هو إلاّ اختيار لسنّة معاوية و بني أمية الفجرة؟ و هل هو.. و هل هو.. و هذا ابن حجر يترك ذكر الآل حتّى في نفس هذا المقام، فو الله إنّه لعجيب عجاب. و أخرج الديلمي أنّه صلّى الله عليه و سلّم - هكذا ذكر أي بدون ذكر الآهل أيضاً في صواعقه!!! - قال: الدعاء محجوب حتّى يصلّى على محمّد و أهل بيته.
و لكن للقوم أن يدّعوا نسخ هذه الأحاديث بعد بنجلة النظام الأموي في الشام! إلاّ أنّ الشافعي يقول:
يا أهل بيت رسول الله حبّكم *** فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة له
21 - أخرج ابن سعد عنه (ص). أنا و أهل بيتي شجرة في الجنة و أغصانها في الدنيا، فمن شاء اتّخذ إلى ربه سبيلاً.
ص: 341
22 - أخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري عنه (ص): (وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(1) عن ولاية عليّ.!
23 - أخرج ابن سعد عن عليّ أنّه (ص) أخبره: «أنّ أوّل من يدخل الجنة أنا و فاطمة و الحسن و الحسين. قلت: يا رسول الله فمحبّونا؟ قال: من ورائكم».
24 - أخرج النسائي: إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدميّة لم تحض و لم تطمث، إنّما سمّاها فاطمة؛ لأنّ الله فطمها و محبّيها عن النار. و الجملة الأخيرة وردت في روايات أخر أيضاً من طريقهم.
25 - أخرج أبو علي الحسن بن شاذان أنّ جبرئيل جاء إلي النبيّ (ص) فقال: «إنّ الله يأمرك أن تزوّج فاطمة من عليّ». و في آخر خطبته (ص): «فجمع الله شملهما، و طيّب نسلهما و جعل نسلهما مفاتيح الرحمة و معادن الحكمة و أمن الأمّة»...
أقول: أجاب الله دعاء نبيّه (ص) فجعل أئمة العترة مفاتيح الرحمة و معادن الحكمة و أمن الأمّة و الحمد للّه الذي هدانا لهذا، و ما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله.
26 - أخرج أحمد، و الطبراني، و ابن حاتم، و الحاكم عن ابن عباس أنّ هذه الآية:
(لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ)(2) لما نزلت قالوا: «يا رسول الله من قرابتك، هؤلاء الذين وجيت علينا مودّتهم؟ قال: عليّ و فاطمة و ابناهما». و الروايات في ذلك كثيرة(3).
27 - صحّ أنّه (ص) قال: «و الذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النار».
28 - قوله (ص): «يا أباذر أما علمت أنّ للّه ملائكة سيّاحين في الأرض قد وكّلوا بمعونة آل محمّد (ص)».
29 - قوله (ص): «إنّ الفضل و الشرف و المنزلة و الولاية لرسول الله (ص) و ذريته، قلا تذهبنّ بكم الأباطيل».
30 - قوله (ص): «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش: يا أهل الجمع، نكّسوا رؤوسكم و غضّوا أبصاركم حتّى تمرّ فاطمة بنت محمّد على الصراط، فتمرّ مع سبعين ألف جارية من الحور العين كمرّ البرق».
31 - أخرج أبوبكر الخوارزمي أنّه (ص) خرج عليهم و وجهه مشرق كدائرة القمر، فسأله
ص: 342
عبد الرحمن بن عوف، فقال: بشارة أتتني من ربي فيّ و ابن عمي و ابنتي بأنّ الله زوّج عليّاً من فاطمة، و أمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى، فحملت رقاقاً يعنى صكاكاً، بعدد محبّي أهل البيت، و أنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع إلى كلّ ملك صكاً، فيذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق فلا يبقى محبّ لأهل البيت إلاّ دفعت إليه صكاً فيه فكاكه من النار، فصار أخي و ابن عمي و ابنتي فكاك رقاب رجال و نساء من أمّتي من النار».
32 - أخرج الطبراني و الحاكم(1) عنه (ص): «فلو أنّ رجلاً صفن - صفّ قدميه - بين الركن و المقام فصلّى و صام، و هو مبغض لآل محمّد دخل النار»!.
33 - ما عن القاضي عياض في كتاب الشفاء(2) عنه (ص): «معرفة آل محمّد براءة من النار، و حبّ آل محمّد جواز على الصراط، و الولاية لآل محمّد أمان من العذاب».
34 - أخرج الثعلبي في تفسير آية المودّة من تفسيره الكبير عن جرير عنه (ص) و نقله الزمخشري في تفسير الآية من كشّافة: «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر و نكير. ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى البيت زوجها ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة! ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه. آيس من رحمة الله». إلخ.
35 - أخرج الحاكم عنه (ص): «أوحي إليّ في عليّ ثلاث: أنّه سيّد المسلمين، و إمام المتّقين، و قائد الغرّ المحجّلين. و قال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه(3).
أقول: و الروايات بهذا المضمون كثيرة، فقد وصفه رسول الله (ص) ب -: «قاتل الفجرة، إمام البررة، وليّ المتقين، يعسوب الدين، خاتم الوصيّين راية الهدى، إمام أوليائي، الصدّيق الأكبر، فاروق الأمّة»(4).
36 - أخرج البيهقي في صحيحه، و أحمد في مسنده، و الرازي في تفسير آية المباهلة من
ص: 343
تفسيره الكبير، قال (ص): «من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه، و إلى آدم في علمه، و إلى إبراهيم في حمله، و إلى موسى في فطنته، و إلى عيسى في زهده فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»!.
37 - أخرج الطبراني و غيره عنه (ص)(1): «مكتوب على باب الجنّة! لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ أخو رسول الله». و في رواية أخرى: «محمّد رسول الله، أيّدته بعليّ، و نصرته بعليّ».
38 - ما عن الكنز(2) عنه (ص): «أنا و هذا - يعنى عليّاً - حجّة على أمتي يوم القيامة». يدلّ كغيره على إمامة عليّ (ع) و كونها من أصول الدين.
39 - ما عنه أيضاً أنّه (ص) قال: «أنا المنذر و عليّ الهادي، و بك يا عليّ يهتدي المهتدون من بعدي».
40 - أخرج البخاري(3) عن عليّ رضى الله عنه أنّه قال: «أنا أوّل من يحثوبين يدي الرحمان للخصومة يوم القيامة».
أقول: فكلّ من سمع فضائل عليّ (ع) و لم يعترف بها و فضّل عليه من يجب طاعته (ع) عليه، و لم يؤمن بإمامته و ولايته، و انحرف عنه و عن آله فليهيّئ نفسه للمخاصمة معه يوم القيامة، فإنّه مسؤول عن ولايته، نعم (عَمَّ يَتَسٰاءَلُونَ * عَنِ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ * اَلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاّٰ سَيَعْلَمُونَ)(4)!!
و اعلم أنّا نكتفي بهذا المقدار حذراً من ملالة القرّاء الكرام و إلاّ.
كتاب فضل ترا - اي امير المؤمنين - آب بحر كافى نيست.
كه تر كنند سرانگشت و صفحه بشمارند.
و لم نورد من رواياتنا شيئاً في المقام مع أنّها لكثرتها تستوعب مجلّدات و تعرفه (ع) بأعظم و أكبر ممّا عرفته هذه الروايات؛ لأننا أردنا أن نذكر هنا ما اتّفق عليه المسلمون كافة من الشيعة و أهل السنة، لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد هذا، فمن شاء فليؤمن و يتّخذ إلى ربّه سبيلاً، و من شاء فلينحرف و يضل.
فنختم الباب برواية صحيحة سنداً من طريق أهل البيت (عليهم السلام) و هي معتبرة إلى بصير بسنديها، و يؤكدها السند الثالث غير المعتبر.
ص: 344
قال سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّ و جلّ: (أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ)(1) فقال: نزلت في عليّ بن أبي طالب و الحسن و الحسين (عليهم السلام):، فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً و أهل بيته (عليهم السلام) في كتاب الله عزّ و جلّ؟ قال: فقال: قولوا لهم: إنّ رسول الله (ص) نزلت عليه الصلاة و لم يسمّ الله لهم ثلاثاً و لا أربعاً، حتّى كان رسول الله (ص) هو الّذي فسّر ذلك لهم، و نزلت عليه الزكاة و لم يسمّ لهم من كلّ أربعين درهماً درهم، حتّى كان رسول الله (ص) هو الّذي فسّر ذلك لهم، و نزل الحج، فلم يقل لهم: طوفوا أسبوعاً حتّى كان رسول الله (ص) هو الّذي فسّر ذلك لهم، و نزلت (أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ) - و نزلت في عليّ و الحسن و الحسين - فقال رسول الله (ص): في عليّ: من كنت مولاه، فعليّ مولاه؛ و قال (ص) أوصيكم بكتاب الله و أهل بيتي، فإنّي سألت الله عزّ و جلّ أن لا يفرّق إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلالة، فلو سكت رسول الله (ص) فلم يبيّن من أهل بيته، لادّعاها آل فلان و آل فلان، لكنّ الله عزّ و جلّ أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه (ص) (إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2) فكان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمة (عليهم السلام)، فأدخلهم رسول الله (ص) تحت الكساء في بيت أمّ سلمة، ثمّ قال: اللهمّ إنّ لكلّ نبيّ أهلاً و ثقلاً و هؤلاء أهل بيتي و ثقلي، فقالت أمّ سلمة: ألست من أهلك؟ فقال: إنّك إلى خير و لكن هؤلاء أهلي و ثقلي، فلمّا قبض رسول الله (ص) كان عليّ أولى الناس بالنّاس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله (ص) و إقامته للنّاس و أخذه بيده، فلمّا مضى عليّ لم يكن يستطيع عليّ و لم يكن يستطيع عليّ و لم يكن ليفعل أن يدخل محمّد بن علي و لا العبّاس بن عليّ و لا واحداً من ولده: عليّ (ع) كان الحسن (ع) أولى بها لكبره، فلمّا توفّي لم يستطع أ، يدخل ولده و لم يكن ليفعل ذلك عنّي فلمّا صارت إلى الحسين (ع) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه ثمّ صارت حين أفضت إلى الحسين (ع) فجرى تأويل هذه الآية (وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ) ثمّ صارت من من بعد الحسين لعليّ بن الحسين، ثمّ صارت من بعد عليّ بن الحسين إلى محمّد بن علي (عليهماالسلام). و قال: الرّجس هو الشكّ، و الله لا نشكّ في ربّنا أبداً.
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد و الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبيّ، عن أيّوب بن الحرّ و عمران بن عليىّ الحلبيّ، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) مثل ذلك(3).
ص: 345
قال شيخنا الأقدم الصدوق (رحمه الله): اعتقادنا في الغلاة و المفوّضة أنّهم كفّار بالله جلّ اسمه، و أنّهم شرّ من إليهود و النصارى و المجوس و القدريّة و الحروريّة و من جميع أهل البدع و الأهواء المضلّة، انتهى.
و قال شيخنا المفيد (قدس سره) في شرحه(1): الغلو في اللغة هو التجاوز عن الحدّ... و الغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين و الأئمة من ذريّته (ع) إلى الألوهية و النبوّة، و وصفوهم من الفضل في الدين و الدنيا إلى ما تجاوز فيه الحدّ، و خرجوا عن القصد، و هم ضلاّل كفّار، حكم فيهم أمير المؤمنين (ع) بالقتل و التحريق بالنار، و قضت الأئمة (عليهم السلام) عليهم بالإكفار و الخروج عن الإسلام و المفوّضة صنف من الغلاة، و قولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة و خلقهم، و نفي القدم عنهم، و إضافة الخلق و الرزق مع ذلك إليهم، و دعواهم أنّ الله سبحانه و تعالى تفرّد بخلقهم خاصّة، و أنّه فوّض إليهم خلق العالم بما فيه، و جميع الأفعال، انتهى.
قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله)(2): اعلم أنّ الغلو في النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) إنّما يكون بالقول بألوهيّتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في العبودية، و الخلق و الرزق، أو إنّ الله أحلّ فيهم أو اتّحد بهم، أو إنّهم يعلمون الغيب بغير وحي للنبيب أو إلهام للأئمة من الله تعالى. أو بالقول في الأئمة (عليهم السلام) إنّهم كانوا أنبياء، و القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، و لا تكليف معها بترك المعاصي، و القول بكلّ منها إلحاد و كفر و خروج عن الدين، كما دلّت عليه الأدلة العقليّة و الآيات و الروايات السالفة و غيرها، و قد عرفت أنّ الأئمة (عليهم السلام) تبرؤوا منهم و حكموا بكفرهم، و أمروا بقتلهم، و إن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة من ذلك فهي إمّا مأوّلة، أو من مفتريات الغلاة... إلى آخره.
ص: 346
أقول: كلّ ما ورد من أوصاف النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) بطريق صحيح معتمد، و لم يكن له معارض من العقل و النقل نأخذ به و نلتزم به، فإنّهم قوم معصومون، و قولهم حجّة كما تقدّم. و أمّا إذا لم يثبت كذلك، فإن كان مخالفاً للعقل أو النقل فلا نقول به، بل نعتقد عدمه، و إن لم يكن مخالفاً لهما كما إذا ورد - بأسناد ضعيفة - أو قال أحد من العلماء باتّصافهم (ع) بأمر ممكن عقلاً و نقلاً لا نردّه و لا نقبله؛ لعدم الدليل. و النبيّ الأكرم و أوصياؤه (عليهم السلام) و إن كانوا أفضل ما سوى الله و لهم فضائل عظيمة و مناقب عجيبة غريبة، بل ورد في بعض الأخبار: لا نقولوا فينا ربّا، و قولوا فينا ما شئتم»(1)، لكن كلّ ذلك لا يوجب التفوّه بكلّ ما يراد، و أن يخترع الإنسان من عند نفسه أموراً - و لو ممكنة - و يثبتها لهم (عليهم السلام) فإنّه من القول الزور و الكذب المحرّم، بل هو مرتبة من الغلو الباطل.
و أمّا حكم الغلاة و المفرطين فمن حيثيّة النجاسة و الطهارة فلا بحث لنا عنه، فإنّه من مسائل الفقه و شؤون الفقيه، و من حيثيّة الكفر و الإسلام و دخول النار و خلوده، فلعلّنا نتكلّم فيه في بعض بحوث المعاد إن شاء الله الرحمن.
و أمّا التفويض فله مراتب مختلفة و معانٍ متعددة:
1 - التفويض في الأفعال على نحو زعمه المعتزلة في قبال الجبريّة، و قد تقدم إبطاله في الجزء الثاني مفصّلاً، و هذا غير مختصّ بالأئمة (عليهم السلام) كما ليس بسرّ.
2 - تفويض الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء إلى النبيّ الأكرم (ص) و الأئمة الكرام كما نسب إلى قوم، و يظهر من بعض الأخبار أيضاً أنّ به قائلين، فإن أريد به استقلالهم فيها بلا إمداد من الله تعالى فهو ممتنع عقلاً، ضرورة افتقار الممكن إلى الواجب آناً في وجوده و صفاته و أفعاله. و إن أريد أنّ الله هو الذي يفعل هذه الأمور عند إرادتهم لتلك الأمور، فإن أريد بنحو الموجبة الجزئية فلا مانع عنه إن دلّ عليه دليل، بل هذا هو معنى المعجزة بعينها.
و لا شكّ في مذهب الإمامية أنّ النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) يصحّ منهم صدور المعجزات، بل صدور المعجزات من الأئمة - في الجملة - قطعي لا يقبل الإنكار، و أمّا صدورها عن النبيّ الأكرم (ص) فهو ضروري في دين الإسلام.
و إن أريد بنحو الموجبة الكلّية فهو و إن كان ممكناً عقلاً، لكنّه مقطوع العدم، فإنّا نعلم بعدم استناد جميع الحوادث إلى إرادة النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) و لو بتبع إرادة الله تعالى هذا مضافاً إلى
ص: 347
الظواهر النقليّة من الآيات و الروايات الدالّة على نفي نسبة الخلق و الرزق و غيرهما من غير الله تعالى و انحصارها في حقّه تبارك و تعالى(1).
فما يظهر من بعض الروايات و منها خطبة البيان من مدخليّة الأئمة (عليهم السلام) في وجود الأشياء و إثبات العلّة الفاعلية لهم بالنسبة إليها فلا بدّ من تأويله إن صحّ سنده، و إلا فطرحه متعيّن كخطبة البيان التي لم توجد إلاّ في كتب الغلاة أو في أذهان غفلة العوام حفظنا الله من وسواس الشيطان.
نعم، لا بعد في أنّ النبيّ الأعظم و أوصياءه (ص) علل غائيّة لوجود الناس كما مرّ بحثه في الجزء الثاني و من الخلط بين العلّة الفاعليّة و الغائيّة يجيء توهّم الغلو و التفويض.
3 - تفويض بيان العلوم و الأحكام إليهم، بأن يقولوا لكلّ حسب ما يرونه صالحاً له، و يراعون استعداد السائلين، و من هنا ورد أنّه. لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، أو لكفّره أو لقال رحم الله قاتل سلمان، و أمّا الأحكام الشرعيّة فلهم السكوت عنها بتاتاً للتقيّة، و للافتاء على وفق مذهب المخالفين لنفس السبب، و عليه تحمل الروايات الكثيرة الواردة في تفسير قوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ)(2) الدالّة على وجوب السؤال على الناس عنهم (عليهم السلام) بنصّ هذه الآية و عدم وجوب الجواب عليهم أو تحمل على بيان غير الأحكام الشرعيّة من العلوم والمعارف، و إلاّ فبيان الأحكام الإلزاميّة والعقائد الحقّة واجب عليهم (عليهم السلام) و هل نصّبهم الله إلاّ لذلك؟ و لا أظنّ بفاضل لم يقبل هذا.
ثمّ إنّ صحّة مثل هذا التفويض و ما يتلوه من المعنى الرابع لا تحتاج إلى دليل خاصّ يدلّ عليه، فإنّه صحيح على القاعدة الأوّليّة، بل هو من شؤون رئاسة كلّ رئيس دينيّاً كان أم دنيوياً مع أنّ بعض الروايات يدلّ عليها.
4 - تفويض تأديب الخلق و سياستهم و تهذيبهم إليهم (عليهم السلام).
5 - تفويض الحكم و القضاء إليهم بأن يخيّروا في الحكم بظاهر الشريعة أو بما يلهمهم الله من الواقع و نفس الأمر، قال المجلسي (رحمه الله): و عليه أيضاً دلّت الأخبار.
قال الشيخ المفيد (قدس سره) في أوائل المقالات(3): للإمام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات، و متى عرف من الشهود عليه ضدّ ما تضمّنه الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه، و حكم فيه بما أعلمه الله. و قد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور فيحكم فيها
ص: 348
بالظواهر و إن كانت على خلاف الحقيقة عند الله. و يجوز أن يدلّه الله على الفرق بين الصادقين من الشهود و الكاذبين، فلا يغيب عنه حقيقة الحال. و الأمور في هذا الباب متعلّقة بالألطاف و المصالح التى لا يعلمها على كلّ إلاّ الله عزّ و جلّ، و لأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال:
فمنهم: من يزعم أنّ أحكام الأئمة (عليهم السلام) على الظاهر دون ما يعلمونه على كلّ حال.
و منهم: من يزعم أنّ أحكامهم إنّما هي على البواطن دون الظاهر التي يجوز فيها الخلاف.
و منهم: من يذهب إلى ما أخترته أنا من المقال. انتهى كلامه.
أقول: القول الأوّل هو المطابق للقاعدة، إلاّ أن يدلّ الدليل على القول الثالث كما ادّعاه المجلسي و هو غير بعيد. و أمّا القول الثاني فهو فاسد.(1)
6 - تفويض تشريع الأحكام، بأن يوجبوا شيئاً، و يحرّموا شيئاً أو يحكموا بالكراهة أو الندب أو الإباحة و هذا أمر ممكن فإنّ الله سبحانه أعطاهم من العلم ما يمكنهم الإحاطة بالمصالح الواقعية و مناطات الأحكام الدينيّة، فيحكمون على طبقها و إن لم ينزل به جبريل (ع) و إلاّ فالمرجع واحد فإنّهم لا يشاءون و إلاّ أن يشاء الله.
بل تقدّم في المقصد السابق أنّ هذا المعنى من التفويض ثابت للنبيّ الأعظم (ص) بدلالة كثير من الروايات، و أنّه (ص) قد شرّع عدّة محدودة من الأحكام فلاحظ فهو (ص) و إن فوّض إليه التشريع كليّاً لكنّه لم يسن إلاّ بعض الأحكام، نعم لم يكن له تغيير ما شرّعه الله تعالى، و هذا ضروري.
و أمّا في حقّ أوصيائه الكرام (عليهم السلام) فلم يثبت، و إن ورد فيه جملة من الروايات(2) إلاّ أنّ كلّها قاصر سنداً، فلذا لم اعتمد عليها، نعم هنا رواية صحيحة واحدة وردت في حقّ أمير المؤمنين (ع) وحده و هي ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني (قدس سره) بإسناده عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: إنّ الله عزّ و جلّ أدّب نبيّه على محبّته فقال: (وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)(3) ثمّ فوض إليه فقال عزّ و جلّ: (مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ)(4) قال: ثمّ قال: و إن نبيّ الله فوّض إلى عليّ و أتمنه فسلّمتم و جحد الناس فو الله لنحبّكم أن تقولوا إذ قلنا و أن تصمتوا إذا صمتنا، و نحن فيما بينكم و بين الله عزّ و جلّ. ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا.
ص: 349
بناء على إرادة هذا المعنى من التفويض دون معاينه السابقة كما هي غير بعيدة من ظاهر الرواية الشريفة، فتأمّل. فإنّ الأقوى أن سندها غير معتبر، و منها أيضاً غير ظاهر في المقام.
خاتمة في نقل بعض الروايات(1)
1 - عن النبيّ الأكرم (ص) لا ترفعوني فوق حقّي، فإنّ الله تعالى اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني نبيّاً و عنه (ص) أيضاً: «صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الإسلام: الغلاة و القدرية».
2 - عن أمير المؤمنين (ع): «اللهم إنّي أبرأ من الغلاة كبراءة عيسى بن مريم من النصاري، اللهمّ اخذلهم أبداً، و لا تنصر منهم أحداً».
3 - عن الصادق (ع): «أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يجلس إلى غالٍ فيستمع إلى حديثه و يصدّقه على قوله» انتهى.
4 - عن الرضا: «الغلاة كفّار و المفوضة مشركون».
5 - عن الصادق (ع): «الغلاة شرّ خلق الله يصغّرون عظمة الله، و يدّعون الربوبية لعباد الله، و إنّ الغلاة لشرّ من إليهود و النصارى و المجوس و الذين أشركوا».
6 - و عنه أيضاً: لا تقاعدوهم، و لا تواكلوهم، و لا تشاربوهم، و لا تصافحوهم، و لا توارثوهم.
7 - عن الرضا (ع): «إنّ الله تبارك و تعالى فوّض إلى نبيّه أمر دينه، فأمّا الخلق و الرزق فلا» ثمّ قال (ع): «... إنّ الله عزّ و جلّ خالق كلّ شيء و هو يقول: (اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذٰلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ)(2).
8 - عنه أيضاً: «من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة الله، و من شكّ في ذلك فعليه لعنة الله».
فلا غلوّ و لا إفراط و لا تفريط في مذهب الإمامية، بل يكونون أمّة وسطاً، وفقاً لتعاليم القرآن المجيد و النبيّ الخاتم (ص) و الأئمة الكرام - سلام الله عليهم أجمعين.
ص: 350
الروايات الواردة في المسألة على طوائف(1):
الأولى: ما دلّ على حضور النبيّ (ص)(2) أو مع أمير المؤمنين (ع)(3) أو مع الحسنين (ع)(4) أو مع فاطمة و جميع الأئمة (عليهم السلام)(5) أو حضور أمير المؤمنين وحده(6) عند المحتضر، و هي ثلاث عشرة رواية.
الثانية: ما دلّ على أنّ المحتضر يرى النبيّ الأكرم و الأئمة الكرام و فاطمة (عليهاالسلام)(7) أو الخمسة الطيبة(8) أو النبيّ (ص)(9) أو النبيّ و الأمير (ع)(10) أو الأمير فقط(11) أو هما مع الحسنين(12) بلا ذكر حضورهم (عليهم السلام) عنده و هي خمس عشرة رواية.
الثالثة: ما دلّ على أنّ المحتضر يرى النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) في أعلى عليّين(13) او دون
ص: 351
العرش(1) أو النبيّ الوصي و السبطين (عليهم السلام) في الجنة(2) و هي ثلاث روايات.
الرابعة: ما دلّ على تمثّل النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) للمحتضر، و هي روايتان، على أنّه لا عموم لأحداهما(3).
الخامسة: ما دلّ على أنّه يقال للمحتضر إنّ إمامك رسول الله و أمير المؤمنين و فاطمة (ع)(4) أو النبيّ و الوصيّ و الحسنان(5) أو الخمسة الطيّبة(6) أو النبيّ و جميع الأئمة(7) أو النبيّ و عليّ و إبراهيم (ع)(8) و هي ثمان روايات. لكنّها خارجة عن محلّ البحث رأساً؛ لعدم دلالتها على الحضور و الرؤية كما هو ظاهر لا ستر عليه.
و تسقط الطائفة الرابعة أيضاً عن الاعتبار فإنها مع قلّتها عدداً ضعيفة سنداً. و مثلها الطائفة الثالثة مع رجوعها إلى الطائفة الثانية كما لا يخفى فالعمدة هي الطائفتان الأوّليّتان.
قال الشيخ الجليل المفيد (قدس سره)(9): القول في رؤية المحتضرين رسول الله (ص) و أمير المؤمنين (ع) عند الوفاة. هذا باب قد أجمع عليه أهل الإمامة، و تواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة (عليهم السلام)... غير أنِّ أقول فيه: إنّ معنى رؤية المحتضر لهما هو العلم بثمرة ولايتهما، أو الشكّ فيهما و العداوة لهما، أو التقصير في حقوقهما، على اليقين بعلامات يجدها في نفسه و أمارات و مشاهدة أحوال و معاينة مدركات لا يرتاب معها بما ذكرنا، دون رؤية البصر لأعيانهما و مشاهدة النواظر لأجسادهما باتّصال الشعاع... و على هذا القول - أي ما اختاره - محقّقوا النظر من الأمامية. و قد خالفهم فيه جماعة من حشويّتهم، و زعموا أنّ المحتضر يرى نبيّه و وليّه ببصره، كما يشاهد المرئيات، و أنّهما يحضران مكانه و يجاورانه في المكان. ثمّ قال في رؤية
ص: 352
المحتضر الملائكة(1).
القول عندي في ذلك كالقول في رؤية الرسول و أمير المؤمنين، و جائز أن يراهم ببصره، بأن يزيد الله في شعاعه ما يدرك به أجسامهم الشفافة الرقيقة، و لا يجوز مثل ذلك في رسول الله و أميرالمؤمنين، لاختلاف بين أجسامهما و أجسام الملائكة في التركيبات. و هذا مذهب جماعة من متكلّمي الأمامية، و من المعتزلة البلخي و جماعة من أهل بغداد. انتهى كلامه.
أقول: و وافقه على ذلك - أي ما اختاره أوّلاً - تلميذه السيّد الجليل المرتضى فذكر(2) أنّ معنى الرؤية أنّ المحتضر يعلم في تلك الحال ثمرة ولايتهم و انحرافهم عنهم، فيكون حضورهم و تكلّمهم استعارة تمثيليّة.
و قال المجلسي (رحمه الله)(3) اعلم أنّ حضور النبيّ و الأئمة صلوات الله عليهم عند الموت ممّا قد ورد به الأخبار المستفيضة، و قد اشتهر بين الشيعة غاية الاشتهار، و إنكار مثل ذلك لمحض استبعاد الأوهام ليس من طريقة الأخيار، و أمّا نحو حضورهم و كيفيّته فلا يلزم الفحص عنه انتهى.
و قال تلميذه المحدّث الجزائري(4): ما روي مستفيضاً بل متواتراً في الأخبار من حضور رسول الله (ص) و أميرالمؤمنين (ع) عند المحتضر حال احتضاره.. إلى أن قال بعد نقل روايات: و لم يذهب أحد من الأصحاب إلى تأويل هذا و لا إلى إنكاره.
نعم، ذهب سيّدنا الأجل علم الهدى - تغمّده الله برحمته - إلى تأويله فقال: معنى قوله: «من يمت يرني» أنّه يعلم في ذلك الحال ثمرة ولايته و انحرافه عنه... و أنّما اخترنا هذا التأويل؛ لأنّ أميرالمؤمنين جسم فكيف يشاهده كلّ محتضر، و الجسم لا يجوز أن يكون في حالأ واحدة في أماكن متعدّدة.
ثمّ قال المحدّث المذكور: و أما الذي رجّحناه نحن أخذاً من مفاهيم الأخبار فهو القول بالتمثّل بأنّ الله سبحانه يمثل للميت رسول الله و أميرالمؤمنين و الأئمة (عليهم السلام)... فيكون يأتي إلى بعض المحتضرين بنفسه الشريفة و صورته الأصلية، و يأتي إلى بعض آخر بصورته الممثلة المشابهة لتلك الصورة الأصليّة.
ص: 353
قال بعض المعاصرين في حاشيته على كتاب هذا المحدّث(1) اعلم أنّ الاعتقاد بحضور النبيّ و أميرالمؤمنين، بل الأئمة من ولده (عليهم السلام) عند المحتضرين من اعتقادات الأماميّة، و من العقائد الحقّة الخاصّة بهم، و عليه ضرورة مذهبهم، و قد أخذوا و تعلّموا هذا الاعتقاد عن أهل البيت (عليهم السلام)، انتهى.
و قد دريت مما سبق أنّ رؤية النبيّ و الوصي (ع) بالبصر كانت مزعومة جماعة من حشويّة الأمامية إلى زمان الشيخ المفيد (قدس سره) و أنّ المحققين على كونها بمعنى العلم بثمرة ولايتهما و عداوتهما (عليهماالسلام) لكن تطوّرت المسألة بعد زمان المفيد حتّى صار حضور النبيّ (ص) و الأئمة عند المحتضر فضلاً عن رؤية النبيّ و الوصي (ع) مشتهراً بين الشيعة في زمن المجلسي (رحمه الله) غاية الاشتهار، بحيث لم يكن إنكاره من طريقة الأخيار.
و جاء المحدّث الجزائري فأخبرنا عن عدم اختلاف العلماء فيه أيضاً سوى السيّد المرتضى! فصارت المسألة مسلّمة بين العوام و الخواصّ، و ما لبثت حتّى دخلت في معتقدات الإماميّة و الضروريات المذهبيّة عند بعض المعاصرين كما مرّ. هكذا تتصاعد المسألة كماً و كيفاً!
و حقّ القول أنّ اشتهار مسألة كذائيّة بين العوام ليس إلاّ مسبباً عن أقوال العلماء و الوعّاظ، فلا ربط له بالإجماع و الضرورة المذهبيّة أصلاً، ألا ترى أنّ اشتهار كون شمر قاتل الحسين (ع) أشدّ من اشتهار المسألة المبحوث عنها بين العوام، و مع ذلك ليس هو مسلّماً عند العلماء و أهل التاريخ، و كم له من نظير. و المحدّث الجزائري لو وقف على كلام الشيخ المفيد (قدس سره) لم يجترئ على دعوى نفي الخلاف في المسألة حتّى يجعلها المعاصر المشار إليه من ضروريات مذهب الأماميّة ليصبح منكرها خارجاً عن المذهب!
ثمّ إنّ ما اختاره المحدّث الجزائري يضعف بضعف مستنده و هو الطائفة الرابعة، فإنّها ليست عند التحقيق إلاّ رواية واحدة ضعيفة سنداً، فإنّ جملة رواتها رموا بالغلو.
و أمّا ما اختاره الشيخ المفيد و نسبه إلى المحقّقين، و ذهب إليه السيّد المرتضى فهو خلاف ظاهر الروايات المشار إليها قطعاً، فلا يصحّ قبوله إلاّ عند تعذّر الأخذ بمدلول الروايات، و الحقّ أنّه لا امتناع فيه عقلاً و نقلاً، فإنّ ما يظهر من الشيخ المذكور من أنّ أجسام الأئمة (عليهم السلام) ليست
ص: 354
لطيفة، بل هي كثيفة، فلا يصحّ أن يراها المحتضر وحده، و لا يراها غيره؛ ضرورة تساوي المحتضر و غيره في رؤية الأجسام الكثيفة.
و هذا بخلاف الملائكة حيث إنّها لطيفة فيججوز التفريق بين المحتضر و غيره في الرؤية مزيّف بأنّ درك الجسم الكثيف القريب لكلّ أحد أمر عادي لا عقلي، فيمكن أن يجعل الله حجاباً بينهم و بين الحاضرين فلا يراهم غير المحتضر، كما فعل ذلك بحق النبيّ (ص) على ما في القرآن المجيد، و كما أبطل العادة الجارية بعدم رؤية الأجسام اللطيفة، على ما اعترف هو (رحمه الله) من جواز رؤية الملائكة. فخرق العاديات ليس من الممتنعات.
و عليه فلا داعي إلى تأويل الروايات على أنّ الرؤية لا يستلزم الحضور بوجه كما يظهر من الروايات أيضاً.
ثمّ إنّه (قدس سره) من أين استفاد حضور الأئمة بأجسامهم الكثيفة حتّى أورد هذا الإشكال؟ و الروايات ساكتة عن هذه الجهة، بل لعلّهم يحضرون بالأجسام اللطيفة، و هذا الاحتمال قريب جدّاً. فارواحهم الطاهرة في القوالب البرزخية تحضر عند المحتضرين، فتكون حالهم كحال الملائكة يراه المحتضر دون غيره بإذن الله تعالى.
و أمّا ما ذكره السيّد المرتضى رضى الله عنه فهو و إن كان أحسن و أدق ممّا ذكره أستاذه المفيد (قدس سره) إلاّ أنّه مبنيّعلى وقوع موت خصين أو أشخاص في آن واحد في أمكنة متعدّدة بعيدة، فحينئذٍ يشكل بأنّ الجسم الواحد لا يمكن وجوده في الأمكنة المتعدّدة في آن واحد، إلاّ أنه غير ثابت، و مجرّد الإمكان لا يضرّنا؛ لأنّه لا يثبت الوقوع، فنقول: يحتمل أنّ الله تعالى جعل قبض الأرواح مترتباً و لو بتأخير قبض روح عن قبض روح آخر بدقيقة، فيمكن حينئذ حضور الأئمة (عليهم السلام) عند جميع المحتضرين في مشارق الأرض و مغاربها، فإنّ الله قادر على أن يعطي للائمة سرعة تقطع المسافة المذكورة بأقل من ثانية. و تصديق هذا الاحتمال في مثل أعصارنا هيّن جدّاً بعد ما نرى سرعة بعض الطائرات و الأقمار المصنوعية بنحو مدهش.
و قد ذكروا أنّ سرعة النور في كلّ ثانية تقرب من ثلاثمئة الف كيلومتر و الله سبحانه قادر على إعطاء مثلها أو أكثر منها للإمام (ع) و أمّا ما عن بعض الرياضيين الكبار من أنّ كلّ جسم إذا تحرّك بهذا الحدّ من الحركة السريعة ينقلب نوراً فهو على تقدير صحّته لا يضرّنا، فإنّا لا نقول بحضور النبيّ و الإمام (ع) بالجسم الكثيف، بل بالجسم اللطيف النوري. و قد تقرّر أنّ النور أيضاً من الأجسام، فافهم المقام لكي لا تحتاج إلى ما قيل في تأويل الأخبار من أنّه يمكن أن يرتسم صورهم في الحسّ المشترك للمحتضر. أو من أنّه يمكن أن يخلق الله لكلّ منهم أمثلة يكلّمون المحتضرين من قبلهم (عليهم السلام) فإنّ أمثال هذه التأويلات الباردة في حكم إسقاط
ص: 355
الروايات من أصلها.
و المتحصّل من جميع ما سبق أنّ ما أورد على القول بالرؤية غير وارد، و ما اعترضه السيّد على القول بالحضور ممكن الدفع أيضاً على ما هو المشهور بين المتكلّمين من أنّ الروح جسم لطيف غير مجرّد، و أمّا بناءً على كونها مجرّدة فالاعتراض المذكور و إن كان ساقطاً من أصله، إلاّ أنّه يتوجّه عليه الإشكال من ناحية امتناع المجرّد قبول الرؤية فإن رواية الحضور تدلّ على الرؤية أيضاً.
لكنّ الإنصاف أنّ مقتضى النظر الدقيق عدم صحّة الحضور، بيان ذلك: أنّ البشر الموجود حاليّاً في الكرة الأرضيّة أكثر من ثلاثة آلاف ملايين بربع مليارد أو ثلثها، و النفرض بقاءهم إلى ثمانين سنة، فإذا ضربنا هذه الأعوام بالشهور و الشهور بالأيام و الأيام بالدقائق لا يرتقي حاصل المجموع إلى اثنين و أربعين مليون دقيقة، و إليك صورته:
و نفرض أنّ المجموع اثنان و أربعون مليون دقيقة، و نفرض أفراد الإنسان ثلاثة آلاف و خمسة و ثلاثين مليوناً: فإذا قسّمناهم على الدقائق المذكورة نستنتج أنّ كلّ دقيقة يموت فيها أكثر من سبعين نفر، أي لا يمكن الترتّب بين قبض الأرواح و لو بثانية - و هي جزء واحد من ستّين جزء من الدقيقة الواحدة - بل لا بدّ من اجتماع بعض القبضين أو القبوض في ثانية واحدة على ما عرفت.
و هذا فيه محذور عقلاً و نقلاً و عادة.
أمّا المحذور العقلي فلأنّ الموت لا يتحقّق ظاهراً في أقل من ثانية، و لا أنّ مكث الإمام (ع) عند المحتضر ينبغي بأقل منها؛ إذ الحضور لأجل سرور المحتضر و بشارته، أو ضدّهما و هذا المعنى لو لم يحتجّ إلى دقيقة(1) لما أمكن بأقل من ثانية أيضاً، و المفروض أنّ الثانية التالية أيضاً فيها قبض روح و لا بدّ للإمام الحضور عند ذيها فيلزم الطفرة؛ إذ لا فاصلة بين الثوان.
و أمّا المحذور النقلي فلما ورد من اجتماع أرواح الأئمة و النبيّ الأعظم - صلوات الله عليهم - ليلة الجمعة في العرش، و حضورهم في بعض الأوقات لزيارة الحسين الشهيد (ع) في مشهده و ما دلّ على عرض الأعمال عليهم(2) و غير ذلك ممّا ينافي حضورهم دائماً عند المحتضرين.
ص: 356
و أمّا المحذور العاديّ، فلاستبعاد أنّ الأرواح الطاهرة (عليهاالسلام) لا شغل لها في جميع آناء الليل و النهار سوى حضورهم عند المحتضرين للتبشير و الإنذار!
هذا و لكنّ الروايات الدالّة على حضورهم (عليهم السلام) عند المحتضر ليس فيها إطلاق و عموم تدلّ على حضورهم عند جميع المحتضرين من المكلّفين، سوى رواية واحدة ضعيفة سنداً.
و إنّما تدلّ الروايات المذكورة على حضورهم عند المؤمنين منهم فقط و الظاهر أنّهم - في عصرنا هذا - لا يتجاوزون خمسين مليون نسمة(1) بل يمكن حدوث موت كلّ واحد منهم في دقيقة، و عليه فيمكن حضورهم (عليهم السلام) عندهم، لكنّ الإنصاف أنّ هذا أيضاً غير ممكن عقلاً لوجهين:
1 - إنّ عددهم يتصاعد بمرور الزمان حسب العادة، هذا من ناحية و من ناحية أخرى أنّ حضورهم لا يختصّ بزمان دون زمان كما هو مقتضى إطلاق الروايات. فإن قلت: المقدّمة الأولى إحرازها ممنوع؛ لاحتمال وقوع الحرب الثالث العالمي و نحو من موانع تكثّر النسل.
قلت: نعم لكن عدمها أيضاً غير محرز، فلا سبيل لنا يلى الجزم بإمكانه العقلي في العصور القادمة، اللهمّ إلاّ أن يجعل الروايات الدالّة على الوقوع دليلاً على الإمكان، و الله العالم.
2 - ما أشرنا إليه آنفا في الهامش من أنّ المستفاد من روايات الحضور أنّ مكثهم عند المحتضر لأجل المكالمة معه و مع ملك الموت لو لم يتجاوز عن دقيقه لما قلّ منها فيعود إشكال الطفرة(2) مضافاً إلى المحذور النقلي و العادي فافهم المقام جيّداً.
و الإنصاف أنّ الاعتقاد بحضور الأئمة عند جميع المحتضرين المؤمنين مع قطع النظر عن المانع الثبوتي المذكور غير صحيح من ملاحظة الروايات، فإنّ أكثرها ضعاف الإسناد لا توجب اليقين.
بل القدر المتيقّن هو رؤية المحتضر عليّاً (ع) فإنّها مدلولة خمس و عشرين رواية، كما أنّ رؤية نبيّنا (ص) مدلولة تسع عشرة رواية. و قد تقدّم عن الشيخ المفيد دعوى تواتر الأخبار على رؤية النبيّ و الوصيّ (عليهماالسلام). و أمّا رؤية الخمسة الطيّبة (عليهم السلام) فتدلّ عليها سبع روايات. و هنا روايتان تدلاّن على رؤية جميع الأئمة (عليهم السلام) على ما مرّ تفصيلة: فما قيل من تواتر الأخبار على حضور
ص: 357
الأئمة (عليهم السلام) عند المحتضر فضلاً عن رؤيته إيّاهم، عجيب و غريب، فإنّا لم نجد سوى رواية واحدة ضعيفة سنداً دلّت على حضورهم: كما مرّت الإشارة إليها في الطائفه الأولى.
فالإولى الاقتصار على القول برؤيته للنبيّ الأكرم و الوصي المكرّم (ع) فقط دون بقية الأئمة، و دون القول بحضورهما حتّى عند بعض المحتضرين المؤمنين، أي التوقّف في ذلك دون الإنكار لاحتمال حضورهما، بل حضورهم عند بعض المحتضرين.
و نختم المقال بذكر رواية صحيحة رواها القمّي في تفسيره(1) عن الصادق (ع) قال: «ما يموت موال لنا و مبغض لأعدائنا إلاّ و يحضره رسول الله و أميرالمؤمنين و الحسن و الحسين صلوات الله عليهم فيرونه و يبشّرونه و إن كان غير موالٍ لنا يراه بحيث يسوؤه» و الدليل على ذلك قول أميرالمؤمنين (ع) لحارث الهمداني:
يا حار همدان من يمت يرنة من مؤمن أو منافق قبلاً.
أقول: قوله و الدليل على ذلك إلخ من كلام عليّ بن إبراهيم أو غيره من الرواة إذ الشعر مضمون كلام أميرالمؤمنين (ع) لا نفس كلامه كما زعمه الشيخ المفيد و المحدّث الجزائري و ابن أبي الحديد و غيرهم، و إنّما هو من إنشاد الحميري (رحمه الله) و إليك تمامه:
يعرفني طرفه و أعرفه *** بنعته و اسمه و ما فعلاً
و أنت عند الصراط تعرفني *** فلا تخف عثرة و لا زللا
أسقيك من بارد على ظمأ *** تخاله في الحلاوة العسلا
أقول للنار حين تعرض للعرض *** دعي لا نأخذي(2) الرجلا
دعيه لا تقربيه إنّ له *** حبلاً بحبل الوصي متّصلا
هذا لنا شيعة و شيعتنا *** أعطاني الله فيهم الأملا
قول عليّ لحارث عجباً *** كم ثمّ أعجوبة له حملا
رزقنا الله و إيّاكم رؤيته عند الموت مبشّراً و في القبر و بقيّة المواقف شافعاً مشفّعاً آمين يا ربّ العالمين.
ص: 358
تواترت أخبار الشيعة و أهل السنّة بظهور المهدي في آخر الزمان، و دان له جميع المسلمين إلاّ من شذّ منهم.
قال أبو الحسين الآجري(1): قد تواترت الأخبار و استفاضت بكثرة رواتها على (عن ظ) المصطفى (ص) بخروجه - أي المهدي - و أنّه من أهل بيته، و أنّه يملأ الأرض عدلاً، و أنّه يخرج مع عيسى على نبيّنا و عليه أفضل الصلاة و السلام فيساعده قتل الدال بباب لد بأرض فلسطين، و أنّه يؤم هذه الأمّة، و يصلّي عيسى خلفه، انتهى. و عقّبه ابن حجر بقوله: و ما ذكره من أنّ المهدي يصلّي بعيسى هو الذي دلّت عليه الأحاديث كما علمت.
قال بعض من علّق على الصواعق(2): أحاديث المهدي كثيرة متواترة، ألّف فيها كثير من الحفّاظ، منهم أبو نعيم، و قد جمع السيوطي ما ذكره أبو نعيم و زد عليه في «العرف الوردي في أخبار المهدي» و للمؤلف ابن حجر فيه كتاب «المختصر في علامات المهدي المنتظر» انتهى.
أقول: فإذا كانت الأخبار من طرق الجمهور متواترة، و جملة من علمائهم ألّفوا فيه كتباً(3) فمن اللغو أن نحاول ردّ بعض البسطاء منهم حيث زعم كذب حديث المهدي، و أنّ المهدويّة دخيلة في الإسلام. و أنّها من خرافات الشيعة. أو أنّها نظريّة سبئية كالوصاية و الرجعة و التقيّة أو
ص: 359
أنّها نشأت بعد مقتل الحسين، إلى غير ذلك من العبائر التي كتبتها الأيادي المأجورة الخائنة.
قل موتوا بغيظكم، إنّ المهدويّة و التقيّة و الوصيّة و الرجعة إسلامية قرآنية محمّديّة.
نعم، ليست بأموية أشعرية اعتزاليّة.
ثمّ يجدر بنا أن نذكر شطراً من الروايات الواردة في حقّه من الصواعق لابن حجر الشافعي:
1 - ما أخرجه مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و البيهقي و آخرون من قوله (ص): «المهدي من عترتي من ولد فاطمة».
2 - ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة من قوله: «لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله فيه رجلاً من عترتي» و في رواية: «رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً».
3 - ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي من قوله (ص): لا تذهب الدنيا و لا تقتضي حتّى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(1).
4 - ما أخرجه الطبراني من قوله (ص): «المهدي منّا يختم بنا كما فتح بنا».
5 - ما أخرجه الحاكم في صحيحه من قوله (ص): «يحلّ بأمّتى في آخر الزمان بلاء شديد من سلاطينهم، لم يسمع بلاء أشدّ منه، حتّى لا يجد الرجل ملجأ. فيبعث الله رجلاً من عترتي أهل بيتي. يملأ الأرض قسطاً و عدلاً كما ملئت ظلماً و جوراً، يحبّه ساكن الأرض و ساكن السماء يعيش فيهم سبع سنين أو ثمانياً أو تسعا» انتهى.
6 - ما أخرجه ابن عساكر من قول عليّ (ع): «إذا قام قائم آل محمّد (ص) جمع الله أهل المشرق و أهل المغرب. فأمّا الرفقاء فمن أهل الكوفة، و أمّا الأبدال فمن أهل الشام».
7 - ما أخرجه الطبراني من قوله (ص) لفاطمة: «نبيّنا خير الأنبياء و هو أبوك، و شهيدنا خير الشهداء و هو عمّ أبيك حمزة، و منّا من له جناحان يطير بهما في الجنة حيث شاء، و هو ابن عمّ أبيك، و منّا سبطا هذه الأمّة الحسن و الحسين، و منّا المهدي(2).
إذا عرفت ذلك فنقول: هذا المهدي هو إمامنا الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه و جعلنا من أعوانه و أنصاره، الذي مات أبوه العسكري و هو خماسي فغاب عن الأنظار (سنة 260) و لم يدر لحدّ الآن مكانه و محلّه، و سيظهره الله حينما اقتضت حكمته البالغة لا أنّه سيوجد بعد ذلك كما تخيّله العامّة فالمهدي حي غائب منتظر و هو إمامنا الأخير.
بيان ذلك: أنّك أيقنت أنّ الخلافي و الإمامة بعد النبيّ الخاتم (ص) لوصيّه أميرالمؤمنين (ع)
ص: 360
و لا نصيب لغيره فيها قطعاً. كما إنّك علمت أيضاً حصر الخلفاء الراشدين في الاثني عشر، و عليه يظهر صحّة إمامأ أئمتنا (عليهم السلام) من جهة نصّ أميرالمؤمنين على ابنه الحسن (ع) و نصّ الحسن على الحسين، و هكذا نصّ كلّ إمام على لاحقه، كما يكشف عنه اعتقاد الشيعة بهم (عليهم السلام) و متابعتهم لهم (عليهم السلام) إذ لو لا النصّ المذكور لما دانو بإمامتهم بالترتيب المذكور.
و أمّا من خالفهم من الشيعة الزيديّة و الإسماعيليّة و غيرهما فقد عرفت فساد مذاهبهم بأوضح الطريق. فالذي يصحّح لنا إمامة الأئمة الأحد عشر بعد ثبوت خلافة سيّد الوصيّين و أميرالمؤمنين عليّ (ع) بالكتاب و السنة القطعية المتواترة، و بعد الروايات الدالة على أنّ خلفاءه (ص) اثنا عشر قرشيّاً هو الضروري المذهبية القائمة على نصّ كلّ سابق منهم على لاحقه. و هذه الضرورة كما أثبتت إمامأ الأئمة العشر كذلك تثبت إمامة الإمام الحادي عشر بلا فرق.
نعم، شذّ بعض الشيعة عن جمهورهم و لم يقولوا بإمامته (ع) لشبهة عرضت لهم، لكنّهم بالدوا لشذوذيّتهم، و لم يبق منهم أحد، و اتّفق الإماميّة بعد الأشخاص المذكورين - و لعلّهم لم يتجاوزوا خمسين نفساً - في كلّ عصر و مصر على إمامته (ع).
فإذا ثبت إمامته فقد ثبت مهدويّته و حياته و بقاؤه و غيبته بالإجماع المركّب، و الأخبار القطعيّة من الأئمة السابقين بذلك كلّه، و أنّه يغيب ثمّ يخرج فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً بعد ما ملئت ظلماً و جوراً، فافهم جيّداً.
قال مخالفو الحق و المنحرفين عن أهل البيت:
1 - إنّه لا ولد للحسن العسكري. و لكنّه لا يقلّ عن إنكار بنوّة إبراهيم من النبيّ الأكرم (ص) فإنّ بنوّة كلّ منهما قطعيّة، فالمنكر لا يستحقّ الجواب.
قال ابن حجر في صواعقه(1) عند ذكر الحسن العسكري (ع). و لم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، و عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، و يسمّى القاسم (أبي القاسم ظ) المنتظر قيل؛ لأنّه ستر بالمدينة و غاب فلم يعرف أين ذهب، و مرّ قول الرافضة فيه أنّه المهدي.
2 - صحّ أنّ اسم المهديّ يوافق اسم النبيّ (ص) و اسم أبيه يوافق اسم أبي النبيّ (ص) و من المعلوم أنّ اسم أبي المهدي (ع) هو الحسن.
أقول: قد مرّ جوابه في بعض الأبواب السابقة(2).
3 - قد صحّ أنّه من ولد الحسن دون الحسين.
ص: 361
أقول: ما صحّ عندكم باطل با يجدي لكم؛ إذ لا بدّ في مقام الاستدلال و المناظرة من ذكر ما يسلم الخصم كيف و قد صحّ عندنا، بل تواتر أنّه (ع) من ولد الإمام الحسين سلام الله عليه، و لا أثر للخبر الواحد في أمثال المقامات على أنّ هنا روايتين من طريقكم تدلاّن على مرامنا و خلاف دعواكم رواهما الكنجي الشافعي في كتابه البيان:
أولاهما: ما ذكره في الباب التاسع بإسناده عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري في حديث طويل عن رسول الله (ص): ثمّ ضرب - أي رسول الله (ص) - على منكب الحسين (ع) فقال: «من هذا مهدى الأمّة».
ثمّ قال الكنجي قلت: هكذا أخرجه الدارقطني صاحب الجرح و التعديل.
ثانيتهما: ما ذكره في الباب الثالث عشر بإسناده عن حذيفة قال: قال رسول الله (ص): «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لبعث الله رجلاً اسمه اسمي و خلقي... فقام سلمان فقال: يا رسول الله من أيّ ولدك هو؟ قال: من ولد ابني هذا، و ضرب بيده على الحسين» (ع) ثمّ قال الكنجي المذكور. قلت هذا حديث حسن رزقناه عاليّاً بحمد الله.
4 - كيف يمكن بقاؤه في سرداب من غير أحد يقوم بطعامه و شرابه.
أقول:
فإن كنت لا تدري فهي مصيبة *** و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
و من هو القائل إنّه (ع) في سرداب؟! بل نقول إنّه - عجل الله فرجه الشريف - غاب في سامراء و يطوف في الأرض و إن لم يعرف بشخصه.
نعم، في سامراء سرداب تزور الشيعة فيها إمامهم الغائب و هي كان محلّ عبادة العسكريين (عليهماالسلام) كما قيل.
5 - كيف يطول عمره بهذا المقدار و هو بشر.
أقول: بقاء الإنسان أبد الدهر ممكن عقلاً، و الله قادر على كلّ ممكن. أليس الكفّار في جهنم و المؤمنون في الجنّة مخلّدين؟ فيز يدعمر كلّ منهم من عمر المهديّ في الدنيا بكثير. أليس الشيطان باقيّاً إلى الآن؟ ألم يكن نوح (ع) عاش أكثر من ألف عام؟ و كان لبثه في قومه (950) عاماً و هكذا. و المعمّرون كثيرون كما ضبطهم التاريخ و العلم الحديث أيضاً ينطق بصحّة دوام عمر الإنسان و زيادة تعيشه.
فالإشكال باطل بالقرآن و السنّة و التاريخ و العلم الحديث، مع أنّه في نفسه ليس إلاّ استبعاد محض. نوعاً الهرم في الطب الجديد الأمراض قابلاً للعلاج.
6 - كان عمر المهدي (ع) عند وفاة أبيه خمس سنين فلم يكن بالغاً، و الصبي غير مكلّف
ص: 362
بشيء و لا يصحّ ولايته.
أقول: و قد تقدّم جوابه، و ذكرنا أنّ مقتضى الجمع بين الأدلة إلغاء اعتبار شرطيّة البلوغ في وجوب إقامة الدين في خصوص الجواد و المهدي (عليهماالسلام).
7 - ما فائدته و هو مستور غائب لا ينتفع منه أحد.
و فيِه أوّلاً: أنّ الجهل بفائدة وجوده (ع) قبل قيامه بعد ما ثبت إمامته و مهدويّته و خروجه في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً و عدلاً غير مضر؛ فإنّا نجهل فائدة كثير من أفعاله تعالى، و ما أوتينا من العلم إلاّ قليلاً، نعم نحن نعلم أنّ الله حكيم لا يفعل إلاّ لحكمة و غرض، بل لا يفعل إلاّ الأصلح كما مرّ.
و ثانياً: أنّ لوجوده (ع) و إن لم يكن فائدة من حيث التشريع، لكن له فائدة عظيمة من جهة التكوين، فقد روى ابن حجر(1):
قوله: «النجوم أمان لأهل السماء، و أهل بيتي أمان لأمّتي».
و قوله (ص): «أهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا هلك أهل بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعون».
و قوله (ص): «ذهب النجوم ذهب أميرالمؤمنين] ل السماء، و إذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».
و الآحاديث في ذلك كثيرة كما صرّح به ابن حجر المذكور، و قد تقدّم في الباب الخامس(2) قوله (ص): «لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر أميراً من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها».
و أمّا الروايات الواردة من طريقنا فهي كثيرة جداً كما يظهر لمن راجع أصول الكافي و المجلّد السابع من البحار و هي تدلّ على أنّ الأرض لا تبقى بغير إمام و إلاّ لساخت بأهلها.
فهو (ع) سبب البركة و النعمة للمؤمنين في دينهم و دنياهم و في بعض التوقيعات الواردة من الناحية المقدّسة(3):
«و أمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب و إني لأمان لأهل الأرض، كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء» انتهى. فكيف لا يكون لوجوده الشريف فائدة؟
نعم، ما ذكره بعض أفاضل أهل المعقول في مدخليّة وجوده (ع) في نظام التكوين لا يمكن
ص: 363
لنا تصديقه(1)، بل يمكن أن يقال إنّ بوجوده فائدة تشريعية أيضاً لكن لا بالنسبة إلينا، بل بالنسبة إلى بقيّة الكرات حتّى من سائر المنظومات الشمسيّة، فإنّا ذكرنا في المقصد السابق أنّ المستفاد من ظواهر بعض الأدلّة أنّ النبيّ الخاتم (ص) كان مبعوثاً إلى جميع العالمين، من غير اختصاص بمن في الكرة الأرضيّة، و أئمتنا الكرام (عليهم السلام) أوصيائه (ص) في حفظ شرعه فيكونون أئمة في جميع الكرات و هذ الاحتمالا دافع له أصلاً.
و أمّا ما يقال من أنّ الإمام لا بدّ أن يكون سائساً متصرّفاً في الأمور فهو جزاف كما يظهر من مراجعة سيرة الأنبياء فمنهم مقتول، و منهم مغلوب ينتصر الله و منهم من بفرّ خائفا مترقبا، و منهم القوم استضعفوه و كادوا أن يقتلوه و منهم من لا يملك إلاّ يملك إلاّ نفسه و أخاه. و الله سبحانه يقول: (يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(2)
إنّ الذين يقولون بوجوب اللطف على الله تعالى، و يوجبون نصب الإمام عليه عزّ و جلّ يشكل عليهم الأمر في المقام، إذ غيبة المهدي - عجّل الله تعالى فرجه - تستلزم أنّ الله لم يفعل ما هو الواجب عليه!.
قال المحقّق الطوسي (قدس سره) في التجريد، في مقام الجواب: و وجوده لطف و تصرّفه لطف آخر، و عدمه منّاً. و أوضحه العلاّمة الحلّي رضى الله عنه في الشرح بقوله: إنّ وجود الإمام بنفسه لطف لوجوه:
أحدها: أنّه يحفظ الشرائع و يحرسها عن الزيادة و النقصان.
ثانيها: أنّ اعتقاد المكلّفين بوجود الإمام و تجويز انقياد حكمه عليهم في كلّ وقت سبب لردعهم عن الفساد، و لقربهم إلى الصلاح و هذا معلوم بالضرورة.
ثالثها: أنّ تصرّفه لا شكّ أنّه لطف، و ذلك لا يتمّ إلاّ بوجوده، فيكون وجوده بنفسه لطفاً و تصرّفه لطفاً آخر.
أقول: هذه الوجوه ضعيفة فإنّ حفظ الشرع يحصل بتصرفه و إرشاده لا بمجرد وجوده (ع) قطعاً. و الزيادة و النقيصة قد وقعتا في الشرع يقيناً، سهواً من صلحاء الرواة و المجتهدين و عدولهم، و عمداً من أشرارهم و كذّابيهم و وضّاعيهم: فأين الحراسة؟ فمعنى الحفظ و الحراسة - ظاهراً - أنّه لو سأله المكلّفون يبيّن الحقّ بلا زيادة و نقيصة، و هذا غير ميسور في
ص: 364
غيبته بالضرورة.
و الاعتقاد بوجوده (ع) و لزوم انقياده لا يزيد على الاعتقاد بوجود الله العليم المحيط بكلّ شيء، الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور و الذي هو أقرب إلى المكلّفين من حبل الوريد. فلا أثر له زائداً، على ما يترتّب على هذا الاعتقاد. و دعوى الضرورة غير مسموعة.
نعم، حضور الإمامة و رؤيته يوجب ردع أكثر الناس عن المعاصي، و يقرّبهم إلى الصلاح فإنّ الناس - إلاّ الأوحدي منهم - يتأثّرون من المحسوس أكثر من تأثّرهم من المعقول، كما يشاهد ذلك من تأثّرهم من ملاقاة علمائهم.
و أمّا أنّ وجوده (ع) مقدّمة لتصرّفه الذي هو لطف فلا شكّ فيه، غير أنّه لا يستلزم أن يكون وجوده أيضاً لطفاً، ضرورة تباين المقدّمة و ذيها، فالوضوء مقدّمة للصلاة و ليس بصلاة على أنّ مفاد هذا التلفيق أنّ وجوده (ع) لطف إذا كان له تصرّف، و إلاّ فلا. و المفروض انتفائه في زمن الغيبة فكيف يفرض وجوده لطفاً؟! ثمّ قال العلاّمة: و التحقيق أن نقول لطف الإمامة يتمّ بأمور:
منها: ما يجب على الله تعالى، و هو خلق الإمام و تمكينه بالقدرة و العلم و النصّ عليه باسمه و نصبه و هذا قد فعله الله تعالى.
و منها: ما يجب على الإمام و هو تحمّله للإمامة، و قبوله لها، و هذا قد فعله الإمام.
و منها: ما يجب على الرعيّة و هو مساعدته و النصرة له، و قبول أوامره وامتثال قوله، و هذا لم يفعله الرعيّة فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى و لا من الإمام. انتهى كلامه.
أقول: العمدة قوله تبعاً لمن تقدّمه: «و هذا لم يفعله الرعيّة» نقول لهم: إنّ أردتم جميع الرعيّة فهو ممنوع قطعاً، بل حساً. و إن أردتم البعض فما هو ذنب البعض الآخر؟ على أنّ لازمه عدم وجوب نصب الأنبياء و الأئمة رأساً لعدم اتفاق الناس بأجمعهم على مساعدة أحد من الأنبياء و الأئمة و هو كما ترى!
و على الجملة: لا شكّ أنّه إنّما استتر مخافة قتله من الظالمين و الملحدين، لكن هذا لا يوجب اغتيابه عن مواليه المخلصين بين حين و آاخر، يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم و هداهم، و للكلام ذيل طويل.
و التحقيق أنّ اللطف غير واجب على الله تعالى كما بيّنا وجهه في الجزء الثاني من هذا الكتاب، و نصب الإمام واجب على الله تعالى عقلاً بمناط آخر حرّرناه في أوائل هذا المقصد، و هو لا يجري في المقام، فإنّ الأحكام الشرعيّة - إلاّ ما قلّ - قد وصلت إلى المكلّفين في زمان الصادقين و الرضا (ع) فلا حكم للعقل بعد ذلك في نصب الإمام، و المتبع بعده النقل - فافهم المقام - و وجوده (ع) و إن كان لطفاً للناس بمعنى أنّه بسبب لانفتاح البركات، بل الاستمرار فيض
ص: 365
الوجود، فإنّ النبيّ و الأئمة (عليهم السلام) علل غائية من أنّهم أمان لأهل الأرض، لكنّه ليس لطفاً بالمعنى المصطلح عند المتكلّمين.
و أمّا سرّ غيبته عن أوليائه فهو غير معلوم لنا، و لله في أفعاله اسرار خفية لا يعلمها إلاّ هو أو من أطلعه الله عليها من المعصومين.
ثمّ إنّ القائلين بوجوب نصب الإمام على الناس أيضاً في عويصة عجيبة فإنّ الأمّة قد تركوا نصب الخليفة الجامع للشرائط المعتبرة عندهم من زمن بعيد، بل من حين حكومة معاوية إلى زماننا، فيلزم إطباقهم على العصيان في جميع هذه الأعصار و جميع الأمصار و قد نسبوا إلى النبيّ الأعظم أنّه (ص) قال: لا تجتمع أمّتي على الضلالة! فلا مندوحة لهم كما لا مندوحة للقائلين بوجوب اللطف عليه تعالى.
و السالم عن الاعتراض هو ما سلكناه وحده و الله الموفق ثمّ إنّه بقي الكلام في فوائد مهمّة لم يحسن لنا إهمالها، كخواصّ المهديّ (ع) و علائم خروجه الصحيحة، و مسألة الرجعة التي تبلدت فيها إذهان القاصرين، لكنّ ضيق المجال و اختلاف الأحوال منعانا عن التعرض لها، و الرجاء من فضله تعالى أن يوفقنا لتحقيقها في كتابنا المسمّى ب -- «كشكول» إنّه خير معين.
و نختم الكلام - حامدين شاكرين لله تعالى و مصلّين على رسوله و آله -: «اللهمّ كن لوليّك الحجّة بن الحسن صلواتك عليه و على آبائه في هذه الساعة و في كلّ ساعة وليّاً و حافظاً و قائداً و ناصراً و دليلاً و عيناً حتّى تسكنه أرضك طوعاً و تمتّعه فيها طويلاً، و اجعلنا اللهمّ من شيعته و أنصاره.
تمّ تأليفه في 27 محرّم الحرام 1384، و تبييضه و تكميله في 4 محرّم الحرام 1386، محمّد آصف المحسني.
ص: 366
1 - حكمنا بصحّة بعض الروايات في أجزاء هذا الكتاب مع أنّ بعض رواتها غير مذكور في كتب الرجال بالتوثيق و التعديل؛ و ذلك لأجل رواية أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه (رحمه الله) عنهم في كتابه المسمّى كامل الزيارات، فإنّه وثّق جمع رواة كتابه، و لكنّه لا يخلو عن إشكال بل منع ذكرناه بعد ذلك في كتابنا بحوث في علم الرجال.
المقصد الثامن في المعاد، و يبحث عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى.
ص: 367
ص: 368
الصورة

ص: 369
الصورة

ص: 370
الصورة

ص: 371
الصورة

ص: 372
الصورة

ص: 373
ص: 374
الصورة

ص: 375
الصورة

ص: 376