صراط الحق في المعارف الإسلامیة و الأصول الإعتقادیة المجلد 1

هویة الکتاب

صراط الحق في المعارف الإسلامیة و الأصول الإعتقادیة

سایر عناوین:علم الکلام / المعارف الاسلامیه و الاصول الاعتقادیه

نویسنده: محسنی، محمد آصف

تعداد جلد: 4

زبان:عربی

ناشر: ذوی القربی - قم - ایران

سال نشر: 1385 هجری شمسی|1428 هجری قمری

محرر رقمي:میثم حیدری

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

منشورات ذوي القربى

اسم الكتاب: صراط الحق (ج 1)

المولف: محمد آصف المحسني

الناشر: ذوي القربى

الطبعة: الأولى

تاريخ الطبع: 1428

الكمية: 1000 نسخة

المطبعة: ستاره

شابك ج 4:1-195-518-964-978

شابك الدورة 3 جلدى: 5-198-518-964-978

مركز التوزيع: قم - پاساژ قدس - الطابق الأول - رقم 59 - تليفون: 7744663-251-98

ص: 4

هذه طبعة ثالثة لهذا الكتاب، قام بها الخيّر الموفق السيد يعقوب - أيّده اللّه تعالى لخدمة الدين و أهله - صاحب مكتبة ذوي القربى.

باجازتي، و آرائي الأوّل بعد طبعة و وجدته جيدا مرغوبا فيه و أصلحت بعض أخطائه بالمطبعية الباقية و غيّرت بعض مطالبه زيادة و نقصا، بمقدار قليل.

أسأل اللّه تبارك و تعالى أن يتقبّل منه و مني أولا، ثمّ أسأله أن يجعله نافعا لأهل العلم طلاّب الحقيقة.

المؤلّف المحتاج إلى رحمة ربّه و غفرانه أفغانستان - كابل

شعبان المعظّم سنة 1427 ه. ق

الشهر السادس سنة 13/85 ه. ش

ص: 5

الإهداء

أهدي كتابي هذا إلى ساحة خاتم الأوصياء و قائم الأولياء ولي العصر و ناموس الدهر الحجّة ابن الحسن - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف و جعلنا من أعوانه - قائلا لحضرته الكريمة متضرّعا و متواضعا:

(يا أيها العزيز جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل) بمحض ضلك (و تصدق علينا) بقبولها و جعلها ذريعة إلى انتفاع روّاد العلم و هواة الحق (إن اللّه يجزي المتصدّقين).

ص: 6

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الملهم عباده الحمد، و فاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، و بحدوث خلقه على أزليته، و باشتباههم أن لاشبه له، المستشهد بآياته على قدرته و علمه و حكمته، الممتنع من الصفات ذاته، و من الأبصار رؤيته، و من الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه و لا غاية لبقائه.

و الصلاة و السلام على سيدنا و سيد العالمين محمد خاتم المرسلين، و على آله الأئمة المعصومين الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا.

المطالب الحاضرة في هذا الكتاب هي غاية ما وصل إليها فكري من طريق البرهان العقلي و الاستدلال النقلي على ضوء الإنصاف و نمط الاعتدال من غير حماية فئة أو التعصب على طائفة، بل ركنت إلى ما قادني إليه الدليل حينما رفضت التقليد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.

فإن أصبت الواقع فاللّه أشكر و لا افتخر، و إن أخطأته فإياه استغفر و إليه اعتذر.

لكن الرجاء من دائم فضله أن يتقبّل هذا العمل مني و ينفع به المسترشدين و يهدي به الضالين، إنه قريب مجيب و إنه أرحم الراحمين.

ص: 7

ص: 8

مدخل

الفائد الأولى: في تعريف علم الكلام و موضوعه و غرضه و غيرها

الفائدة الثانية: في وضع الكلام

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد بشرط

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي و الإرشادي

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم

الفائدة التاسعة: في خواص واجب الوجود

الفائدة العاشرة: في خواص الممكن

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور و التسلسل

ص: 9

مدخل

لا بدّ لنا من تقديم فوائد جليلة هامّة أمام المقاصد لما بينهما من تمام الارتباط و كمال الاتّصال.

ص: 10

الفائدة الأولى في تعريف علم الكلام و موضوعه و غرضه و غيرها

قال الفياض اللاهجي في گوهر مراد ما هذا محصله: إنّ علم الكلام اعتبر على وجهين:

الأول: كلام القدماء، و هو صناعة يقتدر معها على محافظة أوضاع الشريعة بدلائل مؤلّفة من المقدّمات المسلّمة المشهورة بين المتشرعة، سواء انتهت إلى البديهيات ام لا.

الثاني: كلام المتأخرين، و هو علم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع. و احترزوا بالقيد الأخير عن علم الحكمة لعدم ا عتبار موافقة الشرع في مفهومها. انتهى.

و قال في المواقف: الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج و دفع الشبه.

و عرّفه في الشوارق: بأنّه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية.

أقول: التعريف الأول باطل؛ إذ كل علم لا تنتهي مسائله إلى البديهيات أو إلى ما في حكمها لا يعتنى به. و أمّا الثاني فسيأتي أن القيد المذكور فاسد فهو تعريف للحكمة دون الكلام. و أمّا الأخيران فيرد عليهما أن مسائل العلم هو نفس العقائد الدينية و أمّا الصناعة المذكورة فهي من المبادئ التصديقية كما بيّن في المنطق، و مفاد التعريفين المذكورين هو عكس ذلك.

ثم إن المراد من الإثبات فيهما هو الإثبات على الغير دون التحصيل كما صرح به الجرجاني و اللاهجي، قال الاول في شرح المواقف: العقائد تجب أخذها من الشرع و إن استقل بها العقل، و هو كما ترى؛ ضرورة أن جملة من العقائد ممّا يتوقّف عليه الشرع، فيدور هذا مع أن الإثبات على الغير لا يمكن إلاّ بعد التحصيل و لا موطن له إلاّ علم الكلام.

فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنه مسائل مشتملة على العقائد الدينية الحاصلة من أدلتها اليقينية. و أما ما قيل من أنه علم يبحث فيه عن أحوال المبدأ و المعاد فهو غير متين، فإنّ العلم غير دخيل في مفهوم الكلام، فإنّه مسائل متشتّة جمعها موضوع واحد، أو غرض واحد علم بها عالم اولا، و تخصيص المعاد بلا مخصّص ظاهر.

و أما موضوع هذا العلم ففيه أقوال ثلاثة:

ص: 11

أحدها: ما نسب إلى المتقدّمين من علماء الكلام، من أنه الموجود بما هو موجود لكن من حيث كونه متعلقا للمباحث الجارية على قانون الاسلام، ليمتاز الكلام عن الفلسفة الإلهية(1).

ثانيها: ما نقل عن أكثر المتأخرين من أنه المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية(2). قال في المواقف(3) تعلقا قريبا أو بعيدا، و الأول مثل مباحث التوحيد و صفات اللّه و أفعاله و الثاني ما يتوقف عليه هذه الأمور كمباحث الأمور العامة و الطبيعيات.

و إنما عدلوا عن لفظ الموجود إلى المعلوم ليدخل في العلم مباحث العدم بناء على رأي من ينكر الوجود الذهني، و مباحث أمور لا يتوقف أحوالها على وجودها خارجا كما يقال:

النظر الصحيح يفيد العلم أم لا، و نحو ذلك.

ثالثها: ما نقل عن بعضهم(4) من أنه ذات اللّه سبحانه.

أقول: لا بأس بالقول الأول بناء على دخول مباحث الأمور العامة و غيرها في العلم، و التزام الاستطراد فيما لا يرجع إلى أحوال الموجود، غير أن ما جعلوه مميزا للكلام عن الفلسفة واه جدا بل لا فرق حينئذ بينهما من جهة الموضوع أصلا.

بيان ذلك: أنّ مسائل الكلام إما ما يتوقّف عليه إثبات الشريعة مثل مباحث إثبات الصانع و علمه و قدرته و امتناع القبح عليه و إثبات النبوّة و نحوها. و إما ما لا تتوقّف عليه فإنه يستلزم الدور؛ و أما القسم الثاني فإن كان ممّا يدركه العقل و يستقل يستنكف عنه بل هو مجبول على إتباعه فطرة، فان وجد هنا ظاهر نقلي مناف لهذا الحكم العقلي فلا ريب في لزوم تأويله كما هو المتداول في الكلام و التفسير و غيرهما، و سر ذلك أن الشريعة اسست من قبل المحيط بجميع الواقعيات فلا تضاد العقل في أحكامه الصادقة، فنعلم أن الإرادة الجدّية من هذا الظاهر غير موافقة للإرادة الاستعمالية البتة. و ان شئت فقل: إن حجّية النقل بالعقل و طرح الأصل لأجل الفرع غير معقول فإنه ينجر إلى سقوط الفرع و هذا خلف. و أما معارضة النقل القطعي مع حكم العقل الجزمي فهذا غير ممكن ثبوتا كي نبحث عنه اثباتا و لا يظن بعاقل أن يدعي ذلك في مورد.

و إن لم يكن ممّا يدركه العقل، فإن ثبت بدليل قطعي من الشرع فنعتقد به ضرورة حكم العقل بلزوم تصديق المعصوم عن الكذب و السهو، فهو مثل المستقلاّت العقلية في القبول إلا أنه

ص: 12


1- . الشوارق 7/1.
2- . المصدر نفسه/ 10.
3- . المواقف 26/1.
4- . لاحظ نفس المصدرين.

إدراك اجمالي للعقل، بمعنى أن العقل يصدقه و ان لم يحط بوجهه تفصيلا.

ثم إن الصحيح هو صحّة حصول القطع من الأدلة النقلية كما هو واقع واجدنا فإنكاره - كما عن المعتزلة و جمهور الأشاعرة(1) - لا يستحقّ الجواب بل لا يظن بهم أيضا الالتزام به كما لا يخفى على الناظر في مسائل العلوم الشرعية، و إن لم يثبت بدليل قطعي بل بدليل ظني، فإن كان الظن المذكور حاصلا من غير الطرق المنصوبة شرعا فهو لا يغني من الحق شيئا فلا عبرة به، و إن كان من الطرق الشرعية، فإن كان المورد ممّا اعتبر الشارع العلم في صحة الاعتقاد به فلا يعتنى بالظن المذكور، و الا فالأظهر - خلافا لما نسب إلى المشهور - هو حجية الظن المذكور و جواز الاعتقاد بمتعلّقه كما يأتي في آخر الفائدة الثالثة.

و هذا الذي ذكرناه مما لا يمكن الشك فيه لمسلم، متكلما كان أو حكيما، فأين فائدة هذا القيد؟ و ما هو الفارق بين العلمين؟ على أن القيد المذكور ممّا لا دخل له في عروض العوارض على الموجود فلا يصح أخذه في الموضوع، و إلاّ فتصبح العوارض المذكورة أعراضا غريبة له، و اذا لم يصح ذلك فلا يكون وجها للامتياز فإنه عندهم بتمايز الموضوعات، و الحيثية المذكورة راجعة إلى البحث دون الموضوع كما عرفت. و الصحيح أن الفرق بين العلمين من ناحية الغرض حيث إن المتكلم يبحث لأجل معرفة العقائد الدينية، و الفلسفي لأجل معرفة حقائق الأشياء عقلا؛ و لذا عنونت في الكلام مسائل اعتقادية غير مذكورة في الفلسفة لعدم إدراك العقل لها تفصيلا، و لعله واضح.

و على الجملة: لا بد من انتهاء جميع المباحث الكلامية إلى البديهيات و القطعيات و الا لا اعتبار بها، و من هنا ينقدح أن طعن صاحب الشوارق(2) على هذا العلم بقوله: إن الاعتماد على الدلائل الكلامية من حيث هي كلامية غير مجد في تحصيل العقائد الدينية، بل جدواها إنّما هو حفظ العقائد إجمالا على العقول القاصرة الغير القادرة على البلوغ إلى درجة اليقين التفصيلي، و التحقيق التحصيلي. غير وارد، بل هذا منه و من غيره افراط في القول، و زلة جمع من الكلاميين في عدة من المسائل لا تضرّ بالعلم نفسه، كما أن أغلاط قوم من الفلاسفة لا تحسب على الفلسفة كما لا يخفى.

و أما القول الثاني فهو يساوق إنكار الموضوع من أصله ضرورة أن المعلوم عنوان انتزاعي لا تأصّل له خارجا، كيف و لا يعقل الجمع التأصلي بين الوجود و العدم، إلاّ أن يلتزم بتعدد العلم المذكور حسب تعدد الموضوعات كالوجود و العدم و الحال؟ و هو كما ترى، مع أنه يدخل في

ص: 13


1- - شرح المواقف 209/1.
2- - الشوارق 8/1.

هذا العلم بعض العلوم الأخر أيضا حسب هذا التعريف لتعلق العقائد بها ولو بعيدا، هذا مع أن الحيثية المذكورة - و هي المعلومية - لا ترتبط بعروض العوارض على موضوعاتها فلا تكون راجعة إلى الموضوع أصلا.

فالصحيح هو القول الثالث و إن كان القوم أبطلوه - كما في الشوارق - لوجهين:

الأوّل: أنه قد يبحث فيه عن غير الأعراض الذاتية لذاته تعالى كمباحث الجواهر و الأعراض و غيرها، و لا يصح دخولها في المبادئ فانها غير بينة في نفسها، فلا بدّ من كونها مبيّنة في علم آخر يكون هو أعلى من الكلام، و هو باطل اتّفاقا.

أقول: و فيه ما لا يخفى فلا مانع من إدراجها في المبادئ.

الثاني - و هو العمدة -: أنّ البحث عن وجود الموضوع خارج عن مسائل العلم، فإنه مشتملة على إثبات العوارض الذاتية للموضوع، و إثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فلا بد و أن يكون وجود الموضوع بنحو «كان التامة» مفروغا منه في كل علم ليتمركز البحث عن أحواله و أطواره، و بناء عليه لا يجوز جعل ذاته تعالى موضوعا لعلم الكلام؛ لأنّ إثباته غير بيّن في نفسه فلا بدّ من تبيينه في علم آخر أو في مبادئ هذا العلم مع أنه من أهم مقاصد الكلام.

أقول: قد ذكرنا في تعليقتنا على كفاية الأصول أن ما قالوه من أن موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ممّا لا دليل عليه، و عليه فنقول:

إنّ موضوع كلّ علم ما يبحث عنه و عن أحواله، و هذا التحديد لا يخرج عن الاستحسان العقلائي الذي هو السرّ في تشعّب العلوم و تعنون المسائل بعنوان ما، و حينئذ يصحّ جعل واجب الوجود موضوعا لعلم الكلام، فإنّ البحث فيه حوله و حول صفاته و أفعاله فيكون البحث عن إثبات وجوده أيضا من مسائل العلم و ان كان بالنسبة إلى بقية المسائل من المبادئ، و لا غرو في أن تكون القضية الواحدة من المسائل باعتبار نفسها و من المبادئ باعتبار غيرها، بل هو واقع في العلوم.

هذا مع إمكان دعوى بداهة هذه القضية و كونها بيّنة في نفسها، فإنّ اختلاف الماديين في الصفات دون أصل المبدأ كما يأتي.

و أمّا غرضه فهو عرفان الحقائق الدينية و الأصول الاعتقادية كما يظهر من الكلمات المتقدّمة.

و أمّا إرشاد المسترشدين و إلزام المعاندين و حفظ قواعد الدين من شبه المبطلين فهي من الفوائد و الآثار و ليست من الأغراض كما لا يخفى.

و أما شرف هذا العلم فهو غني عن البيان، فإنه في غاية السمو و نهاية العلو

ص: 14

أو ليس من ثمراته سعادة الانسان الابدية و خلوصه عن العذاب الدائمي؟! و لعمري إن إطالة الكلام هنا لغو فإن العيان بنفسه يغني عن البيان، فكيف إذا وافقه البرهان و القرآن؟!

و أما وجه تسميته بالكلام فهو إما لأنه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أولا في كتب القدماء ب «الكلام في كذا» فسمي العلم به، أو لأنه يورث القدرة على الكلام في الأصول الشرعية، أو لأنّ مسألة الكلام - أعني قدم القرآن و حدوثه - اشهر أجزاء هذا العلم حتى آل الأمر فيه إلى التضارب و التقاتل(1)، أو لتكلّم أربابه في صفات اللّه و أفعاله. و الأخيران أقرب من غيرهما.

ص: 15


1- ففي التمدن الاسلامي 107/2: ضرب المعتصم العباسي أحمد بن حنبل على عدم إقراره بخلق القرآن ضربا عظيما حتى غاب عقله و قطع جلده و حبس مقيدا.

الفائدة الثانية في وضع الكلام

لما توفّي النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و اله وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة و الإمامة و ما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلّى اللّه عليه و اله.

ثم إن حزب أبي بكر - الخليفة الأول - و إن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية و عزل مخالفيهم عن تدبير الأمور، إلا أن النزاع لم يرتفع به بل أصح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة و غيرها، و هو البذر لحروب الجمل و الصفين و النهروان و كربلاء و غيرها، و هو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتت المذاهب و الآراء في الأصول و الفروع.

و ممّا وسع هذا لاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليه السّلام بعد قتل عثمان، فإنه بغى و استكبر فصار من المفسدين، و من سوء الاتّفاق أنه علا أمره و استولى على ما أراد فأتاح الأمر لمن بعده من آل أمية الذين هم شر قبائل العرب(1)، و أنهم ابغض الأحياء أو الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله(2)، فآل الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية و الإرشادية أيضا بعد ما افتقدوا السلطة التنفيذية و الإجرائية. و الناس على دين ملوكهم، فقام أناس - لاصلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية و تصدّوا لتدريس الأصول و تطبيق الفروع، و كلّما دخلت أمة لعنت أختها، و كأنّ القرآن ينظر اليهم حيث يقول: وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ(3). و بما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي و لا أصل موضوعي و لا قانون كلي، تكثرت آراؤهم و تباينت انظارهم، فاتّسعت الخوارج، و تولّدت المرجئة، و تكونت المعتزلة، و قامت الجبرية(4)، و ظهرت الأشعرية، و هكذا.

ص: 16


1- قال ابن حجر في تطهير الجنان و اللسان/ 30: إنه حديث حسن.
2- و في نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
3- القصص 41/28.
4- قتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر ملك بني أمية كما في الملل و النحل.

كل ذلك لعدم مرجع لائق ديني يلم شعث المسلمين و يدير الحوزة العلمية. و قد حكي(1)أنه لما قيل لابن أبي العوجاء تلميذ الحسن البصري (21-110 ه): لم تركت مذهب صاحبك - الحسن - و دخلت فيما لا اصل له (أي الزندقة)؟ اجاب: إن صاحبي كان مخلطا، كان يقول طورا بالعدل و طورا بالجبر، و ما أعلمه إعتقد مذهبا دام عليه.. فإذا كان هذا حال الحسن - و هو من دعائم هذه الطريقة و أساطين هذه المدرسة - فما حال غيره؟!

و قد قيل في حقّه أيضا(2): إنّه كان يلقى الناس بما يهوون، و يتصنّع للرئاسة، و كان رئيس القدرية، و كان يبغض عليا. و ينقل حبّه له ايضا، فإذا كان المصدر للمعارف الدينية أمثاله فما ظنّك بالمتعلّمين و المقلّدين؟

و لذا اخترع واصل بن عطاء (80-131 ه) مذهب الاعتزال حينما ألقى مسألة بسيطة على أستاذه - الحسن هذا - فعجز عن إقناعه، و قد علا أمر المعتزلة في المسائل الكلامية فإن مطالبهم أقرب إلى الاحكام العقلية في الجملة، و ربّما استفادوا من الفلسفة اليونانية لتصحيح مبانيهم، و للفلسفة المذكورة تأثير كبير في علم الكلام و تشتت آراء المتكلمين.

و أما مخالفو المعتزلة فلم يكن لهم القوة في الكلام حتى خالف علي بن اسماعيل أبو الحسن الاشعري (260 أو 270-330 على قول) في مسألة - نذكرها مع جوابها في موطنها المناسب من هذا الكتاب - أستاذه المعتزلي محمد بن عبد الوهاب المعروف بابي علي الجبائي (235-303 ه) فرجع عن مذهبه حينما لم يفهما حلّ المسألة، فتاب الأشعري من القول بخلق القرآن و العدل و عدم رؤية اللّه بالابصار و نحوها مما عليه أستاذه(3)! و سعى في تدوين تلفيقات سلفه حتى سمّي المذهب باسمه. و له أقوال عجيبة ربما تصادم الضرورة كما تقف عليها في هذا الكتاب. قال معين الدين الايجي الشافعي(4): و اعلم أنه - أي الاشعري - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له مع انه مناف لصرائح القرآن و صحاح الاحاديث...

إلخ.

و هكذا خلف من بعدهم خلف أضاعوا الحق و اتّبعوا الأميال و الأهواء و ابتعدوا عن السفينة المنجية المحمدية، إلاّ القليل ممن استقاموا على الطريقة الوسطى فالتزموا العترة الهادية عن بكرة أبيهم، فانقادوا في كلّ عصر لإمامه من أئمة آل محمد صلّى اللّه عليه و اله و أخذوا عنهم الأصول و الفروع،

ص: 17


1- بحار الأنوار 33/3.
2- رجال المامقاني 270/1.
3- لاحظ فهرست ابن النديم/ 271.
4- إحقاق الحق 100/1.

و نبغ منهم في كلّ عصر رجال أفذاد و أعلام هداة، و أول مدرسة تخرج فيها هولاء الجهابذة الاسلاموين هي مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام،(1) و هذا كتاب نهج البلاغة بين يديك و هو يدلك على حقيقة الحال، ففيه أسرار التوحيد و خفايا التنزيه و مزايا المعارف الاعتقادية و كليات القوانين الاجتماعية و السنن الأخلاقية و الرسوم السياسية و غيرها.

ثم اتّسعت هذه المدرسة و اشتهرت في عصر الإمامين العظيمين: الباقر و الصادق عليهما السّلام حتى عدوا المتدرسين فيها إلى اربعة آلاف، و قد تخرّج فيها الأكابر المتبحّرون و العلماء الكاملون أمثال هشام بن الحكم و مؤمن الطاق و يونس و زرارة و كثير من أقرانهم، فتحمّلوا من علوم آل نبيهم و روّجوا ما تنوّر به المجامع العلمية الاسلامية و العالمية.

و المذاهب المتقدّمة(2) حيث لم تتمكن من مقاومة هذه المدرسة في ميدان العلم و الفضيلة، قابلتها بالظلم و التعدّي و الافتراء؛ فلذا نسب إلى بعض هؤلاء الكالمين القول بالتشبيه، و إلى آخر منهم القول بالتجسم، و إلى ثالث الاعتقاد بحدوث صفات اللّه، و هكذا، بل جعل لكل من هؤلاء المنقادين لإمامهم الصادق عليه السّلام مذهب على حدة! و لم يزل هذا الوضع المشؤوم إلى يومنا هذا، يوم النور و التفكير، فما من كتاب من هؤلاء الجماعة المتقدمة إلاّ و فيه أباطيل منسوبة إلى الشيعة و هم براء منها و كم وقع عليهم الظلم و العدوان:

و كان ما كان مما لست أذكره *** فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر

و اللّه الهادي... و قد تحصّل ممّا سطر - ان لم تغلب العصبية على العاقلة - أن الأقدمين في علم الكلام و غيره من العلوم الشرعية هم الإمامية، لأنهم أول من شرعوا في التأليف و التدوين، فما في جملة من الكلمات من نسبة المسائل إلى المعتزلة أو الأشاعرة ثم نسبة المتابعة و الموافقة إلى الامامية إما جهل أو عناد، بل كثيرا ما يهمل نقل أقوالهم لجهات غير خفية على الخبير. ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الحاكمين.

ص: 18


1- قال ابن النديم في الفهرست/ 263؛ اول من تكلم في مذهب الإمامة علي بن اسماعيل بن ميثم التمّار، و ميثم بن جلّة أصحاب علي - رضي اللّه تعالى عنه - و لعلي من الكتب كتاب الامامة، كتاب الاستحقاق. أقول: قد سبق عليا غيره فلاحظ مقدمة وسائل الشيعة المطبوعة حديثا؛ حتى تعلم أن الشيعة ابتدؤوا بتدوين الكتب من بدو ظهورهم.
2- قال الشهرستاني في أوائل ملله و نحله: أما رونق علم الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسية هارون و غيره، و انتهاؤه من الصاحب بن عباد و جماعة من الديالمة. و قيل: أوّل من تكلّم في علم الكلام أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية.

الفائدة الثالثة في بيان الأدلّة

اشارة

المسائل اليقينية إما ضرورات أو نظريات منتهية إليها قطعا. و الضروريات المذكورة ست:

منها: الأوليات: و هي ما لا يتوقف إدراكه لعى شيء زائد من تصوّر طرفيه و إن كان هذا التصور كسبيا كقولنا: الممكن محتاج، و تسمى بالبديهيات أيضا.

و منها: الحسيات: و هي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس فإن كانت ظاهرة تسمّى المشاهدات، و إن كانت باطنة - و هي الحس المشترك (بنطاسيا) و الخيال، و الواهمة، و الحافظة - تسمى الوجدانيات(1)، و فيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا و بصفاتنا النفسية كالخوف و السرور و الحزن و الجوع و الشبع و نظائرها.

قال المحقق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: و يدخل في المشاهدات الباطنية:

الوهميات التي جعلها بعضهم قسما سابعا، و ذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة. و لا يكون جسم واحد في مكانين، فإن العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات و المعقولات، كحكمه بأن كلّ موجود في جهة أو مكان... الخ.

و منها: المتواترات: و هي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك و الاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب. ثم إن إفادة التواتر اليقين موقوفة على امور:

1 - كون المخبر عنه أمرا محسوسا؛ إذ لو كان أمرا حدسيا لما حصل اليقين منه لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، و هذا بخلاف الحسّيات حيث إن وضوحها ينفي هذا الاحتمال. و خالف فيه الفارابي(2) فذكر أنه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء و العقلاء،

ص: 19


1- قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - و الوجدان - بضمّها -: أن الأوّل يطلق على القوّة المدركة، و الثاني على إدراكها. و قيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.
2- رهبر خرد/ 236.

و عللوه بأن اتّفاق جمّ غفير من الأذكياء على شيء يوجب اليقين بصحّته؛ إذ من المحال عادة أن يتّفقوا على أمر غير واقع، بل ذكر العلامة المجلسي رحمه اللّه(1) أن ما يجمع عليه العقلاء لا يكون إلاّ ضروريا أو قريبا من الضروري، و به استدلّ على استحالة النقص على اللّه تعالى.

أقول: حصول العلم يختلف باختلاف الأشخاص و الأحوال لكن الدليل حينئذ لا يكون إلزاميا، و لعل الغالب هو عدم حصول العلم منه في الحدسيات.

2 - عدم العلم بالمخبر عنه قبل حصول التواتر لاستحالة تحصيل الحاصل.

3 - عدم انتهاء الناقلين في تمام الطبقات و الأدوار إلى عدد قليل يجوز تبانيهم على الكذب.

4 - صفاء الذهن بالنسبة إلى المخبر عنه و عدم الاعتقاد على خلافه، و إلاّ لم يفد العلم. ذكره السيد المرتضى قدّس سرّه و قبله عنه الآخرون، و وجهه واضح. و أما إشتراط الإسلام و العدالة و اختلاف النسب و عدم جمعهم في بلد و تعيين عدد خاصّ من الناقلين كالخمسة أو العشرين أو الأربعين أو السبعين أو ثلاثمئة، فغير لازم قطعا، بل بعضها جزاف.

ثم إن التوتر على أقسام ثلاثة:

الأول: التواتر اللفظي: و هو اتّفاق الناقلين على ألفاظ الخبر و عباراته، كتواتر ألفاظ القرآن و حديث المنزلة و حديث الغدير و نحوها.

الثاني: التواتر المعنوي: و هو تواطئهم على معنى واحد و إن اختلفت ألفاظهم، سواء كانت دلالة الألفاظ على المعنى المخبر عنه بالمطابقة أو بالتضمّن أو بالالتزام، و هذا مثل ما ورد من الأخبار الحاكية عن شجاعة علي عليه السّلام.

الثالث: التواتر الإجمالي: و هو نقل الوقائع الكثيرة، فإنه يحصل العلم بوقوع بعضها عادة و إن كان كل واقعة بخصوصه مشكوكا فيه. و أورد عليه الأصولي الشهير المحقق النائيني قدّس سرّه(2)بأن الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقا على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي، إلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز الكذب على كلّ منها في حدّ نفسه.

و يدفع أولا: بجريانه في القسمين الأولين أيضا و هو لا يلتزم به.

و ثانيا: أنه شبهة في مقابل البداهة، أليس من لاحظ كتاب التهذيب مثلا يضطر إلى القطع بصدور بعض ما فيه عن الائمة عليهم السّلام؟

ص: 20


1- البحرا 231/3.
2- أجود التقريرات 113/2.

ثم انّه يمكن أن يقال بوجود جامع غير مقصود في التواتر الإجمالي، ولو في بعض مواردها، كما في مثل الروايات الدالّة على حجية خبر الثقة أو العادل كما قرّرناه بعد ذلك في آخر كتابنا (روح) دون الجامع المقصود كما في التواتر المعنوي.

و منها: الفطريات: و هي ما يحكم به العقل باعتبار أوسط لا ينفك عن الذهن عند تصوّر حدودها، كقولنا: الاثنان زوج، لأنّه منقسم بمتساويين، و الانقسام المذكور لا يغيب عن الذهن بعد معرفة طرفي القضية، و يقال لها: قضايا قياساتها معها أيضا.

و منها: التجربيات: و هي ما يحكم به العقل بسبب مشاهدات متكرّرة مع انضمام قياس خفي، و هو أنه لو كان اتّفاقيا لما كان دائما أو أكثريا، بل هناك سبب إذا علم وقوعه علم وجود المسبّب، كقولنا: الضرب مؤلم. و الفرق بينها و بين الاستقراء هو هذا القياس كما ذكر بعضهم؛ و لذا لم يعتبروا الاستقراء، و ربما نوقش(1) في إفادة التجربة لليقين، إلاّ أنه غير مسموع جزما، نعم هي لا تنهض دليلا على غير المجرّب.

و منها: الحدسيات: و هي ما يحكم العقل به بواسطة حدس من النفس بمشاهدة القرائن، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس. و الفرق بينها و بين التجربيات مع افتقار كلّ منهما إلى تكرار المشاهدة: أن الثاني يتوقّف على فعل يفعله الإنسان حتى يحصل المطلوب بسببه، فإنّ الإنسان ما لم يجرّب الدواء بتناوله أو إعطائه غيره مرة بعد أخرى لا يحكم عليه بأنه مسهل مثلا، و هذا بخلاف الحدس فإنه غير موقوف على ذلك(2).

ثم إنّ الحدس عبارة عن انتقال الذهن الدفعي من المبادئ إلى المطالب، و إن شئت فقل: إنه حضور المبادئ في الذهن بلا مهلة و تراخ حين توجهه إلى المطالب، و إحاطة النفس دفعة واحدة على المطالب و المبادئ؛ و لذا أدخلوها في الضروريات دون النظريات الموقوفة على الفكر المعتبر فيه الحركة.

هذه هي القضايا الضرورية التي تقع مواد للبرهان القطعي. و الأقوى منها هو: الأوليات، ثم المحسوسات، ثم الفطريات ثم المتواترات ثم الحدسيات ثم المجربات. و المستدلّ بأحد هذه المبادئ يسمى عندهم حكيما لكن الأولى أن يسمّى محقا أو مبرهنا.

أقول: و هنا قسم سابع يمكن إدخاله في الضروريات المذكورة، و هو ما يحكم به الفطرة دون العقل، مثل قولنا: دفع الضرر واجب، فإنه يذعن به من لا عقل له كالمجانين و الحيوانات و نحوها. نعم تمييز الموارد في الجملة موقوف على إدراك العقل، و أما أصل الحكم فهو غير

ص: 21


1- رهبر خرد/ 232.
2- لاحظ شرح المطالع/ 334، و ذكر العلامة الحلي فرقا آخر بينهما في شرح التجريد/ 139.

موقوف عليه؛ و لذا يجتنب من الضرر كلّ حساس مميز. (فتأمّل)

هذه إحدى الصناعات الخمس.

و ثانيها: الجدليات: و هي تتركب من المشهورات و المسلّمات. أما المشهورات فهي قضايا تتّفق عليها الآراء و يعترف بها عموم الناس إما لمصلحة عامة كقولنا: العدل حسن و الظلم قبيح، أو لرقّة كقولنا: معاونة الفقراء محمودة أو لحمية كقولنا كشف العورة مذموم أو لعادة كقولنا التالبس حسن، أو لأدب كقولنا: شكر المنعم لازم. و تسمى بالشرائع غير المكتوبة في مقابل الشرائع المكتوبة الإلهية التي لا يعترف بها العموم.

و من المشهورات ما يعترف به الأكثر أو الطائفة الخاصّة كقبح ذبح البقر عند الهنود، فاعتراف العموم غير معتبر فيها.

و الفرق بينها و بين الأوليات: اعتبار مطابقة الواقع في الثانية دون الأولى؛ و لذا قد تجتمعان في مورد، و ربّما تشتبه الحال فلا يعلم أن القضية الفلانية من الأوليات أو من المشهورات، و التمييز بأحد الوجوه الثلاثة:

الأول: تجريد النفس من جميع لخاطرات بحيث يحسب أنه مخلوق الساعة لم يشاهد أحدا و لم يمارس عملا، فإذن إن حكم على القضية بحكم فهي برهانية، و إن توقف فهي مشهورية.

الثاني: احتمال الكذب في المشهورات؛ إذ ربّ شهرة لا أصل لها، بخلاف الأوليات.

الثالث: اختلاف المشهورات حسب اختلاف العادات و الآداب، دون الاوليات.

أقول: و الكل غير مطّرد كما لا يخفى على اللبيب.

و أما المسلّمات فهي قضايا مسلّمة عند الخصم فيستدلّ بها لإلزامه أو إرشاده، سواء كانت باطلة عند المستدل أو صحيحة. و للمسلّمات معنى آخر(1) و هو: المسائل المأخوذة من علم للاستدلال و التعليم بها في علم آخر، و بهذا المعنى تنقسم إلى المصادرات و العلوم المتعارفة و الأصول الموضوعة. و المستدل بالمشهورات و المسلّمات يسمى مجادلا غرضه إقنع القاصرين و إلزام المعاندين. و قد عرفت أن نسبة المسائل الكلامية إلى الجدل - كما صدرت عن جماعة من الحكماء - نسبة كاذبة لا أصل لها.

ثالثها: الخطابيات: و هي تلتئم من المقبولات و المظنونات. أما الأولى فهي ما يؤخذ من العلماء و الأولياء. و أما الثانية فهي ما يحكم به العقل حكما راجحا غير جازم كقولنا: هذا الجدار ينهدم لانتشار ترابه، و زيد فقير لاندراس لباسه، فهي أعم من المقبولات صدقا. و المستدلّ بها

ص: 22


1- عبارة «و للمسلّمات معنى آخر» اصطلاح منّا (المؤلف).

يسمى خطيبا، غرضه إرشاد الناس إلى السعادة و زجرهم عن الشقاوة و الهلاكة. و الخطابة و إن لا موقع لها في العلوم البرهانية، إلاّ أنها أعظم شيء تأثيرا في نفوس العوام فلابد من الاعتناء بها في علم الميزان.

رابعها: الشعريات: و هي تتألف من المخيلات التي هي قضايا لا تذعن النفس بها و لكن تنفعل بها ترغيبا أو تنفيرا و لا سيما إذا كانت موزونة. و يسمى مستعملها شاعرا.

خامسها: السفسطيات: و هي تتركب من الوهميات و المشبهات. الأولى ما يحكم به الوهم في المعقولات قياسا على المحسوسات، مثل: كل موجود متحيّز. و يعرف كذبه بمساعدة العقل، و إلاّ لعدّت من الأوليات أو المشهورات؛ و الثانية قضايا كاذبة شبّهت بالقضايا الصادقة لأجل الاشتباه اللفظي أو المعنوي. و المغالط يسمى سفسطيا إن كان في مقابل المبرهن، و مشاغبا إن كان في مقابل الجدلي.

ثم إنّ الاستدلال إمّا من العلة على المعلول، فهو برهان لمّي؛ و إمّا من المعلول على العلة أو من أحد المعلولين على الآخر، فهو دليل إنّي؛ و إمّا من العلة على نفسها فهو شبه لّم. فما أقيم على إثبات وجود الواجب و سموه باللّم فهو من شبه اللّم.

بقي هنا بحوث مهمة

البحث الأول: في عموم إعتبار الادراكات العقلية:

فنقول: بعد الاعتراف بوجود الأشياء الخارجية، و السلامة من الأمراض اللادارية و السوفسطائية، يقع الكلام في أنه هل يعتمد على إدراكات العقل غير الحسّية؟ و هل يصدق العقل في أخباره الكلّية أم لا، بل المعتبر هو الادراكات الحسية فقط؟

ذهب المتأخّرون من البّحاث الغربيين إلى الثاني بحجّة أن المسائل العقلية الصرفة كثيرا ما يقع فيها الغلط و الاشتباه مع عدم ميزان يفرق به بين الصادقة و الكاذبة، و أمّا المباحث الحسّية فهي ذات ميزان، فإن الإنسان إذا أدرك شيئا بإحدى حواسّه يعقبه بتكرير الأمثال و إعادة الأشباه حتى يتّضح المقصود بحيث لا يمسّه شك و لا ترديد.

أقول: الدعوى المذكورة موهومة جدا و موهونة قطعا، و هي مستوجبة حرمان الإنسان عن الحقائق الكلّية العقلية، و انحطاط النفس الناطقة عن معراج الكمال و الفضيلة إلى هاوية النقصان و الجهالة. و الحجّة القائمة عليها مزيفة:

أولا: بوقوع الخطأ في الحسّ أيضا كما ذكرت أمثلته في المطولات. فإذن يثبت قول الشكّاكين و إخوانهم بإنكار الحقائق الخارجية مطلقا. و حلّ الإشكال: أنّ وقوع الاشتباه أحيانا

ص: 23

لا يستلزم إلغاء سلطنة العقل في إدراكاته بوجه من الوجوه.

و ثانيا: لما عرفت من توقّف التجربة في إفادتها العلم بالأمر الكلّي على القياس الخفي المذكور، و هو أن هذا الأمر لو كان اتّفاقيا لم يكن أكثريا أو دائميا، لكنّه كذلك فهو ليس باتّفاقي.

و هذا القياس عقلي لا حسّي، فإذا ألغينا حكم العقل في المعقولات فقد أبطلنا أساسا الأحكام الحسّية و هو التجربة المذكورة، و هذا هو السفسطة.

و بالجملة: أن الحسّ لا يمكنه الإحاطة بالقضايا الكلية أبدا؛ إذ لا يناله إلاّ الأمر الجزئي مثل: إن الضرب الواقع على زيد كان مؤلما لجزعه، و كذا الواقع على زيد و عمرو. و كل ذلك أمور جزئية، فالحكم بأنّ كل ضرب دائما مؤلم غير داخل في سلطان الحسّ أصلا، و لازم هذا بطلان جميع العلوم الطبيعية؛ إذ لا يترتّب الآثار المطلوبة إلاّ على تلك الكلّيات، كقول الطبيب:

كل مرض كذائي ينفعه الدواء الفلاني مطلقا بلا اعتبار زمان مخصوص و مكان كذلك و عنصر معين، و هكذا، فلا بدّ من قبول حكومة العقل حتى ينتظم ناموس العلوم التجربية.

و ثالثا: لو انتهى صحّة الادراكات الحسّية إلى التجربة فقط، لما انقطع السؤال عن انتهاء التجربة نفسها و أنها إلى ماذا تنتهي؟ و ما هو المصدق لها هل نفسها حتى يدور؟ أو غيرها كي يبطل قولهم من رأس؟ و الانصاف أن هذه النظرية الرديئة راجعة إلى مزعومة السوفسطائيين لا محالة.

البحث الثاني: في الفرق بين المسائل الضرورية و النظرية: و هو من وجوه:

الأول: ما ذكره العلامة قدّس سرّه(1) من أن الضروري من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب و كسب، و من التصديق ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا، و المكتسب ضدّ ذلك فيهما.

أقول: لكنه يختصّ بالأوليات من الضروريات و لا يشمل غيرها.

الثاني: ما ذكره الفاضل المقداد(2) من أن المعلوم ضرورة هو الذي لا يختلف فيه العقلاء، بل يحصل العلم به بأدنى سبب، و يزيفه وقوع اختلافهم في الضروريات حتى في أوليّاتها كما سيمرّ بك في هذا الكتاب إن شاء اللّه.

و ما ذكره صاحب الشوارق «من أن البديهي عند من يرونه بديهيا لا يقع منهم الاختلاف،

ص: 24


1- شرح التجريد/ 136.
2- شرح الباب الحادي عشر/ 5.

و أمّا بالنسبة إلى الآخرين فيجوز الخلاف فيه»(1) فهو سقيم؛ إذ كل مسألة علمت صحّتها لا يقع فيها الاختلاف من العالمين بها ولو كانت نظرية غامضة، فلا أثر للميزان المذكور.

الثالث: ما في المواقف و شرحها(2) من أن الضروري هو ما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق فلم يكن الانفكاك عنه أيضا مقدورا، و ذلك كالمحسوسات بالحواس الظاهرة، فإنّها لا تعرض بمجرد الإحساس المقدور لنا، و ألا لما عرض الغلط، بل تتوقّف على أمور غير مقدورة، لا نعلم ما هي؟ و متى حصلت؟ و كيف حصلت؟

و الكسبي ما يقابل الضروري، فهو العلم المقدور تحصيله.

و البديهي ما يثبته العقل بمجرّد التفاته إليه من غير استعانة بحسّ أو غيره، فهو أخصّ من الضروري. و امّا النظري فهو ما يتضمّنه النظر الصحيح.

أقول: هذا مع أنه تعريف بالأخفى، غير صحيح أيضا، فإن الضروري مقدور بغض البصر و إرادة النوم و ترك التجربة و الاستماع و نحوها، و ما ذكره من التعليل عليل، على أن مغايرة النظري مع الكسبي ممّا لم يثبت في اصطلاحهم مع أن تعريف النظري دوري كما لا يخفى.

و الصحيح أن يقال: الضروري ما لا يحتاج في حصوله إلى الفكر و التروّي، بخلاف النظري.

البحث الثالث: في الحجج النقلية:

اشارة

العقل يدرك الشيء بوجهه و تفصيله تارة و بإجماله و عنوانه أخرى كما في الأدلة الإنّية، فإنّه يدرك العلّة من جهة معلولها إدراكا إجماليا فيذعن بها. فإذن لا فرق في الأحكام العقلية بين التفصيلية و الإجمالة أصلا من حيث تصديقه بها و اعتماده عليها.

و تدخل في القسم الثاني أقوال اللّه تبارك و تعالى و عباده المعصومين من الجهل و السهو و الغلط و الكذب التي هي المناشي لمخالفة الحكاية من الواقع، فإذا انتفت هذه الأمور فالخبر صادق لا محالة، بل يضطر العقل إلى الحكم بصحّته و صدقه، و أنّه حق واقع و إن لم يحط بكنهه و لمّه. فالقضية القائلة: قول المعصوم صادق و مطابق للواقع، من الأوليات على حدّ قولنا:

الممكن مفتقر.

و أما لزوم امتثال أمر الواجب القديم، و الانبعاث على وفقه، و الانزجار عمّا نهى عنه، فهو إمّا عقلي من باب لزوم شكر المنعم فيدخل في المشهورات، أو فطري من باب دفع الضرر المتمل و هو استحقاق العقاب فيندرج في القسم السابع من البرهانيات كما مر، و منه ينبثق

ص: 25


1- الشوارق 126/1.
2- شرح المواقف 60/1.

وجوب إطاعة المعصوم الحاكي عن اللّه تعالى. و بالجملة لزوم الإطاعة ليس بشرعي و الاّ لتسلسل فافهم.

هذا كلّه بحسب الكبرى، و أمّا الكلام بحسب الصغرى و تعيين قول من يجب امتثال حكمه - و هو اللّه سبحانه و رسوله الأعظم و أولوا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و اله - فنقول: لا يمكن مشافهة واجب الوجود عقلا، و لا نزول الوحي إلى كلّ أحد قطعا، بل و لا سبيل لنا إلى مواجهة المعصوم عليه السّلام في هذه العصار ضرورة، و عليه فينحصر تحصيل أقواله من الطرق التالية:

1 - الضرورة الدينية، و هي شهرة شيء بين المسلمين. رجلهم و نسائهم، خواصهم و عوامهم بحيث يفهم أن هذا الشيء مما قاله النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و اله.

و بالجملة ضروري الدين ما صار جزءا للدين و لم يحتج إلى دليل بعد ثبوت أصل الدين، و هذا مثل وجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و حقيقة المعاد و نحوها، و تلحق بها الضرورة المذهبية. فضروري المذهب ما اصبح جزءا لذلك المذهب بحيث كان معلوما لكل واحد من أهل ذلك المذهب، و هذا كوجوب الخمس على الأرباح و عصمة الأوصياء و نحوهما في مذهب الإمامية. و ربما سيأتي بعض أحكامها في بحوث المعاد إن شاء اللّه تعالى. و هذه الطريقة أقوم الطرق و اتقنها.

2 - التواتر، و قد دريت تصيله.

3 - الخبر الواحد (أي غير التواتر) المحفوف بالقرينة القطعية، و هذا في حكم التواتر لفرض إفادته اليقين بمدلوله.

4 - الإجماع، فإنه طريق قويم إلى ما انعقد عليه من الشرعيات عند معظم المسلمين.

تفصيل و تحقيق

اختلف المسلمون في مناط حجّية الاجماع، أمّا الإمامية فلا يرون موضوعية لاتّفاق العلماء و إجماعهم على حكم من الأحكام، بل الملاك في اعتباره عندهم هو كشفه عن قول المعصوم أو رضائه. ثم اختلفوا في كيفية هذا الكشف فالمنسوب إلى قدمائهم أن منشأ حجّية الإجماع هو دخول المعصوم في ضمن المجمعين، فإذا أجمع العلماء على شيء يعلم أن المعصوم داخل فيهم و إن لم يعرف شخصه بعينه، و أنت تعلم أن هذا أمر لا سبيل إلى إحرازه أصلا.

و نقل عن شيخ الطائفة رحمه اللّه أنّه للطف، بمعنى أنّ العلماء إذا أجمعوا على حكم يجب أن يكون موافقا لقول الإمام عليه السّلام و إلاّ يجب عليه - لأجل قاعدة اللطف - الظهور أو إظهار من يبيّن الحق، فإذا لم يحرز في المسألة المجمع عليها مخالف يستكشف منه رضي المعصوم عليه السّلام به.

ص: 26

و في القوانين(1): و الظاهر أنّ له - أي للشيخ الطوسي - موافقا ممن تقدم و ممن تأخر في هذه الطريقة.

أقول: اللطف هنا ليس بمعنى التقريب إلى الطاعة و التبعيد عن المعصية، فإنهما متأخرن عن إثبات اصل التكليف، بل هو بمعنى بيان الأحكام كما يأتي شرحه في محلّه، لكن ستعرف أنه لا دليل على وجوب اللطف على اللّه تعالى بكلا معنييه و إن ادّعاه العدلية أو معظمهم فهذا الإجماع المسمّى بالإجماع اللطفي يلحق بالإجماع الدخولي المتقدّم في الضعف نعم هنا أخبار كثيرة(2) نقلها المحدث الجليل المجلسي رحمه اللّه في بحار الأنوار(3) و هي تدل بظواهرها على مذهب هذا الشيخ الأعظم، و لا بأس بذكر واحد منها، و هو خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «إن الأرض لا تبقى إلاّ و منا فيها من يعرف الحق، فإذا زاد الناس قال: قد زادوا، و إذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، ولو لا أنّ ذلك كذلك لم يعرف الحق من الباطل». و حمل هذه الروايات على زمان الحضور بعيد جدا، و لكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بمفادها كما لا يخفى، فلا بد من توجيهها بوجه صحيح.

و ممّا يرد على هذا القول أيضا أن مخالفة الامام عليه السّلام - على فرض خطأ العلماء - إن كانت مع تعريف شخصه الشريف فهذا ممّا لم يقع و لا يقع، و إن كانت بدونه فلا تفيد؛ إذ يحتمل أن يكون القول المخالف المذكور من غير الطائفة الحقّة فلا يعتنى به.

و ربما يقال: إنّ الظنون الحاصلة من فتاوى الفقهاء إذا تراكمت تتولد منها صفة اليقين، كما يحصل القطع من الخبر المتواتر بعين هذا الملالك. لكنّه تقدّم اعتبار الحس في المتواتر، فالقياس في غير محله.

و أما ما قيل: من أن الإجماع يكشف عن حجۀ ة معتبرة، بدليل أنّ عدالة المجمعين مانعة عن الفتوى بغير علم. فيردّه أنه يكشف عن حجة معتبرة عندهم لا عن حجّة لو وصلت إلينا لكانت معتبرة عندنا؛ لاختصاص التعليل بالأول دون الثاني.

و ذهب المتأخّرون إلى أنّ اتّفاق العلماء المرؤسين يكشف بطريق الحدس عن رأي رئيسهم. و الظاهر أن هذا أقوى الطرق و امتن التقارير في كيفية كشف الإجماع عن رأي الامام عليه السّلام إلاّ أنه لا يتم في عصر الغيبة و عدم تمكن الإمام عليه السّلام - ولو من جهة عدم إذن اللّه تعالى - من لمباشرة مع المأمورين، لكن لا سبيل إلى إنكار هذا الوجه رأسا لاختلاف الأشخاص في

ص: 27


1- القوانين 350/1.
2- بل ادعى المحقق القمي في قوانينه تواترها. لاحظ القوانين 350/1.
3- لاحظ البحار، اوائل المجلد السابع.

حصول القطع لهم من ذلك، غير أن الدليل حينئذ لا يكون إلزاميا، و يعبّر عنه بالإجماع الحدسى.

هذا كلّه في الإجماع المحصل، و منه يعرف حال الإجماع المنقول أيضا.

و أما العامّة فهم يزعمون الموضوعية للإجماع، فهو حجّة عندهم بما هو إجماع، و استدلّوا عليه بوجوه:

منها: قوله تعالى: وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى(1). فإذا حرّم اتّباع غير سبيل المؤمنين وجب متابعة سبيل المؤمنين، و الإجماع هو سبيل المؤمنين.

و فيه: أولا: أنه لا دليل على تخصيص المؤمنين بأهلّ الحل و العقد منهم.

و ثانيا: عدم استفادة حرمة اتّباع غير المؤمنين بحياله و انفراده من الآية الكريمة، بل الظاهر منها أن اتّباع غير سبيل المؤمنين هو نفس مشاقّة الرسول، و معنى الاية: و من يخالف الرسول في ما جاء به من الشريعة بعد اتمام الحجية عليه نوله ما تولى، و أين هذا من الاجماع؟ و ان شئت فقل: إن مخالفة الرسول من حيث هو رسول و بضميمة قواله تعالى: مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدىٰ ليست إلاّ عدم امتثال الأحكام الشرعية، و هل سبيل المؤمنين إلاّ الشريعة فاذن نقول: إنّ ما أجمع عليه العلماء إن ثبت كونه من الشرع فوجب متابعته من حيث إنّه ثابت في الكتاب و السنة و إلا فلا، و لا دلالة للآية على لزوم اتّباع ما أجمع عليه عدة من العلماء.

فاستدلال الشافعي بهذه الآية على حجّية الاجماع فاسد كما دريت، على أن فيه إشكالا آخر كما ذكره الرازي في تفسيره فلاحظ.

و منها: قوله تعالى: وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ (2) قالوا:

وسط كل شيء خياره و عدله، فمن عدّله اللّه يكون معصوما، فإجماعهم حجّة. و للرازي في تفسيره كلام طويل حول الآية.

أقول: الأمة المذكورة في الآية الشريفة يراد بها إمّا مجموع أفرادها من أولها إلى يوم القيامة، أو كل واحد منها على نحو الانحلال، أو المخاطبون الحاضرون في مجلس النبي صلّى اللّه عليه و اله حين نزول الآية، أو أهل كلّ زمان، و لا خامس في البين.

أمّا الاحتمال الأول فلا يثبت اعتبار الإجماع المذكور أصلا؛ اذ لا يعقل إجماع جميع الأمة الا في القيامة. لا يقال: جعلهم اللّه وسطا لأجل الشهادة المبقية على هذا الاحتمل، فإنّه يقال: بحملها على الشهادة في القيامة لا في الدنيا. و قد ذهب إليه كثير من العامة كما يظهر

ص: 28


1- النساء 115/4.
2- البقرة 143/2.

من تفسير الرازي.

و أمّا الاحتمال الثاني فبطلانه حسي، فإنّ المعاصي الواقعة من المسلمين غير خافية على أحد.

و أمّا الثالث فبطلانه اتّفاقي؛ إذ لم يخصّص أحد حجّية الإجماع بهؤلاء الحاضرين فقط.

و أما الرابع فهو خارج عن قانون المحاورة و طاقة الدلالة.

هذا مع أنّ قول العادل إنما ينهض حجة في الحسيات، و أما في الحدسيات فلا، بل لا بد له من دليل خاص، فافهم.

و منها: قوله تعالى: فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ (1) يدل بمفهومه على عدم وجوب الرد مع الاتّفاق.

أقول: ظاهر الآية أنّ الخطاب انحلالي، فمعنى الآية حينئذ: أن كل جماعة منكم - أقلها اثنان - اذا تنازعتم في شيء... الخ، فيكون مفهومه بناء على ما تخيّلوه إذا لم يتنازع الخصمان - ولو كانا جاهلين - لم يجب الرد إلى اللّه و رسوله، بل مجرّد تركهما النزاع يكفي لنفوذ ما تصالحا عليه، و هذا قطعي الفساد. فإذن لابد أن يكون عدم التنازع في مفروض الآية مستندا إلى دليل شرعي من كتاب أو سنة. يعني إن جهلتم حكم شيء متنازع فيه فردوه إلى اللّه و رسوله و إن علمتموه فلا، و هذا ربط له بالإجماع كما هو ظاهر.

و أما الرازي فهو استدلّ على حجّية الإجماع بأول هذه الآية و هو قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (2) بحسبان أن أولى الأمر هم أهل الحل و العقد دون الائمة المعصومين، و قد أفرط في تقريره و تطويله، و كلامه بتمامه خبط و غلط فلا يليق أن نطور المقام بإيراده و ابطاله، و ببالي تأليف تعليقة مستقلّة على تفسيره، و التوفيق من اللّه المنان.

و منها: الأخبار المنسوبة إلى النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله مثل: لا تجتمع أمتي على الخطأ. و لم يكن اللّه ليجمع أمتي على الخطأ. و كونوا مع الجماعة. و يد اللّه مع الجماعة. بل ادّعي تواترها معنى لكن الحاجبي و العضدي أنكرا التواتر في محكي كلامهما.

و الجواب أنّها غير ثابتة من الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و اله ولو صحّت لما دلّت على مرادهم، فإنّ الأولين يعتبران اتّفاق جميع الأمة قاطبة دون علمائهم، و لعلّ ما ورد في بعض رواياتنا من التمسّك بإجماع الأمة ينظر إلى ذلك(3)؛ و الأخيرين يحثّان على الاتّفاق المقابل للتفرقة، فتحصّل أن الاجماع ليس بدليل معتبر شرعا، و ما ذكره الخاصّة و العامة في وجهه غير تام إلاّ إذا

ص: 29


1- النساء 59/4.
2- النساء 59/4.
3- لاحظ أصول الكافي 96/1، و بحار الأنور 20/5 و يحتمل في بعضها الزام الخصم.

حصل اليقين منه من جهة الحدس.

تتمة

هل الخبر الواحد الجامع لشروط الحجية المقرّرة في أصول الفقه يصح التعويل عليه في علم الكلام أم لا؟

فيه خلاف و كلام، و الأكثر على الثاني بل عن ظاهر بعضهم نفي الخلاف فيه؛ و الأظهر هو الأول، فان عمدة ما دل على حجية الخبر الواحد المذكور هي السيرة العقلائية و الأخبار المتواترة معنى، و هما غير مختصتان بالفروع، فإن العقلاء كما يقبلون خبر الثقة في الأمور العملية كذلك يقبلونه في الأمور الاعتقادية بلا شك. و الأخبار المتواترة أيضا غير مقيّدة و ما قيل في وجه التقييد غير متين، و التفصيل لا يناسب المقام(1).

نعم تتوقّف حجيّته على أمور:

1 - أن لا تكون المسألة ممّا يتوقّف عليه أصل الشرع و إلا لدار.

2 - أن لا يكون للعقل إلى مضمونه سبيل و إلاّ فلا موضوع للتعبّد به.

3 - أن لا تكون المسألة مما اعتبر العلم الوجداني في جواز الاعتقاد به شرعا.

و في الواقع التعويل على مستند هذا الخبر، و هو السنة المدعى تواترها و السيرة العقلائية القطعية، فليس هذا من العمل بالظن.

البحث الرابع: عما ينبغي أن يجعل خاتمة لهذه الفائدة و فاتحة لما يأتي بعدها من المطالب

فنقول: الصناعات الخمس ليست بأسرها مبادئ للبرهان القطعي و الدليل العلمي، بل المبدأ له الضروريات منها وحدها، و إذن لا بدّ من رعاية تمييزها عن غيرها لينتظم أمر الاستفاضة و الإفادة في صقع تحصيل الحقائق و المعارف، لكن العلوم الموجودة التي ينالها فكر الإنسان لا تقدر على بيان هذا الميزان، فإنّ المنطق إنما يفسر مفهوم مواد الأقيسة و يشرح أحكامها و لا سلطان له على تشخيص المصداق و تعيين الأفراد؛ ضرورة أنّ انطباق مفاهيم المواد على مصاديقها ليس أمرا واضحا لا يمسّه الالتباس كما هو كذلك في الصور؛ و لذا لا يقع الاختلاف في أنّ القياس الفلاني من الشكل الأول أو الثاني.

فإذن لا مميز بين الأقيسة و أن أيا منها برهاني و أيا منها مشهوري و هكذا، و من هنا ترى أحدا يدّعي أن هذا القياس برهاني، و هو شعري؛ و الآخر يقول: إنه خطابي، و هو برهاني و هكذا.

ص: 30


1- لاحظ الأمر الخامس من الأمور المذكورة في خاتمة مسألة الانسداد من كتاب الرسائل للشيخ الانصاري رحمه اللّه.

فمن يطلب الحقّ و لا يريد الضلالة و المراء و الغرة فلا بد له من تصفية قلبه من الكدورات الخلقية و العصبية الطائفية، و تطهير ذهنه عما مضى عليه مشايخه و آباؤه، فإنّ الحقّ لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف اهله، فإذا أصلح سرّه و بنى تصحيح اعتقاده على الواقع - لا تبيق الواقع على معتقده - فقد اهتدى إلى صراط الحق و منهاج الصدق، قال اللّه تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (1) و أما إذا انحرف عن سبيل الانصاف إلى حضيض الاعتساف و تهيّأ للنقض و الابرام و قول الهذر و حشو الكلام فإياك و القرب منه، فإنّه من الين قال اللّه تعلاى في حقهم: لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (2).

ص: 31


1- العنكبوت 69/29.
2- الاعراف 179/7.

الفائدة الرابعة في وجوب النظر

اشارة

الفائدة الرابعة في وجوب النظر(1)

الكلام تارة في أصل وجوب النظر، و أخرى في أن الوجوب المذكور - على تقدير ثبوته - عقلي أو شرعي. لكن البحث في الأول يغني عن الثاني فنقول:

و الصحيح أنّه لا دليل على وجوب النظر في وجود واجب الوجود بما هو واجب او خالق أو غير ذلك من الحيثيات؛ اذ لا حكم للعقل بذلك، و لا سبيل للشرع و تعبده إليه بلا شك.

و إنما يجب ذلك من جهة وجوب دفع الضرر، فإن العقل حينما يقرع سمعه قول أناس - قليلين أو كثيرين - بعقاب أخروي و عذاب دائمي لمن انكر المبدأ أو لم يعرفه و لم يعتقد به - و هذا النداء كان مسموعا منذ صبيحة حياة البشر، و سيبقى قارعا إلى غروب وجوده - يحتمل صدقه و كذبه قهرا، و لا سبيل له إلى تصديق أحد الطرفين قبل النظر.

فإذن يتولد احتمال الضرر المذكور في ذهنه و يحصل له الخوف من احتمال صدق هذا القول، و لا طريق لدفعه غير النظر، فيجب لوجوب دفع الضرر فطرة ولو كان محتملا؛ و ذلك لأنّ الانسان - بل و كذا الحيوان و كل حساس - مجبول على حبّ ذاته، و ينشأ من هذا الحب لزوم جلب المنافع و دفع المضار، و هذا الالزام ليس من قبل العقل، بل هو أمر فطري كما تدلك عليه مشاهدة حال المجانين و الصبيان و الحيوانات، فإنّها تدفع الضرر عن نفسها و تميل إلى منافعها و ما هو يلائم أنفسها.

و إذا أعمل نظره و تفحّص عن الواقع فقد أمن من الضرر المذكور قطعا و تستريح نفسه من الخوف جزما، فإنّه إن أدّى إلى الحقّ فقد فاز فوزا عظيما، و إن انجرّ إلى خلافه فهو مأمون

ص: 32


1- قال الشيخ المفيد قدّس سرّه في أوائل المقالات: اتّفقت الإمامة على أنّ العقل يحتاج في علمه و نتائجه إلى السمع، و أنّه غير منفكّ عن سمع ينبّه الغافل عن كيفية الاستدلال، و أنّه لا بدّ في أول التكليف و ابتدائه في العالم من رسول. و وافقهم في ذلك أصحاب الحديث، و أجمعت المعتزلة و الخوارج و الزيدية على خلاف ذلك، و زعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع و التوقيف إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّة يوجبون الرسالة في أوّل التكليف. أقول: هذا الذي نقل اتّفاق الإمامية عليه هو عين ما اخترناه في هذه الفائدة، و إنّما ذكرناه لئلا يظن تفرّدنا بالموضوع.

معذور: أما في الدنيا فلاعتقاده ببطلان احتمال العقاب و الحساب، و أمّا في الآخرة فلأنّ عقابه بلا بيان وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ(1).

و بالجملة: إذا كانت جهالته مستندة إلى قصوره - كما هو المفروض - لا معنى لاستحقاقه العقاب المتصّ بالعامد و المقصّر، كما إذا لم يتفحّص مع قدرته عليه. و إنكار القاصر في المقام - كما عن جمهور المتكلّمين بضعيف سنستوفي بحثه إن شاء اللّه.

و هذا الذي ذكرنا ممّا لا ريب فيه، قلنا بالتحسين و القبيح العقليين أم لم نقل؛ إذ الوجوب المذكور ليس بحكم عقلي بل هو فطري(2). لا يقال: كيف و العقلاء كثيرا ما يقدمون على ارتكاب الضرر لبعض الأغراض، فإنّه يقال: نعم، لكن إذا كان الضرر قليلا، و اما إذا كان كثيرا فلا ولو كان محتملا، و هل يمكن لعاقل أن يختار عذابا دائميا و عقابا ابديا؟ كلا.

و أما الوجوب الشرعي فلا مسرح له؛ إذ لا شرع في حق الجاهل إثباتا حتى ينفذ الحكم في حقّه. و بالجملة حجية الخطاب موقوفة على اعتراف المخاطب بآمرية المتكلم و هي غير حاصلة في المورد، و أما ما ورد في القرآن العزيز في ذلك فهو إرشادي لا مولوي و سيأتي الفرق بينهما.

نقل و نقد

الذائع في كلام المتكلّمين وجوب معرفة اللّه سبحانه، بل ادّعى الجرجاني إجماع الأمة عليه في شرح المواقف(3)، و لكنهم اختلفوا في طريقه فالإمامية و المعتزلة على أنّه العقل، و الأشاعرة على أنّه الشرع. استدلّ الأولون على قولهم بوجهين:

الاول: إن المعرفة دافعة للخوف كما تقدم، و دفع الخوف واجب فتجب المعرفة أيضا من باب المقدمة. و يردّه ما بيّناه من أن دفع الخوف يحصل بالنظر، سواء أدى إلى المعرفة أم إلى الجهالة.

الثاني: إن شكر المنعم واجب عقلا لاستحقاق تاركه الذم عند العقلاء، بل قيل(4): إنّ

ص: 33


1- فصلت 46/41.
2- و ربما جعله بعضهم دليلا على إثبات الصانع و قال ما محصله: إن المؤمن باللّه مأمون سواء وافق اعتقاده الواقع أم لا، و هذا بخلاف المنكر فإنه على خطر عظيم. أقول: و هذا منه شيء عجيب، نعم هذا المضمون مذكور في بعض رواياتنا، لكن المراد به ما ذكرنا. لاحظ أصول الكافي 78/1.
3- شرح المواقف 156/1.
4- شرح التجريد للعلامة/ 258.

العقلاء بأسرهم يجزمون بوجوب شكر المنعم، و قيل(1): إنّه متفق عليه بين الإمامية و المعتزلة، بل ادّعى بعضهم(2) الوجدان و الفطرة الذاتية و ضرورة جميع أهل الأديان و الملل على وجوبه.

هذا من ناحية، و من ناحيد أخرى أن كل عاقل يدرك أنّ ما به من النعم ليس منه و لا من مثله، بل هو من منعم غيره فيجب معرفته حتى يتمكّن من شكره؛ و حيث إنّ المعرفة نظرية لا تحصل إلا بالنظر فوجب النظر و الفحص، فإن مقدمة الواجب واجبة.

أقول: إن كان وجوب الشكر لاحتمال زوال النعم بتركه ففيه منع هذا الاحتمال إلاّ شذوذا فإنّ الناظر يرى الكفّار و الملحدين متنعّمين بالعافية و السعة، فكيف ينقدح الاحتمال المذكور في ذهنه؟ و على تقدير احتماله فلا نسلّم استحقاقه العقاب الأخرى بتركه النظر و الفحص؛ لعدم اتمام حجّة عليه في ذلك ضرورة أن ما نبّهه عقله بترك الشكر هو زوال النعم الظاهرية فقط، فافهم جيدا.

و إن كان وجوبه لنفسه و لذاته، بحيث كان تركه قبيحا في نفسه، ففيه:

أولا: ما ذكرناه من عدم استلزام استحقاق الذم استحقاق العقاب، فإنّ الأول لا ينهض حجّة على الثاني مع أنه العمدة في المقام، فتأمّل.

و ثانيا: إنّ وجوب شكر المنعم لا يستلزم وجوب المعرفة لكفاية التخضّع قلبا للمنعم و إن كان مجهولا بأوصافه فيسقط الدليل.

و ثالثا: ما أفاده بعض الأعيان من أهل التدقيق(3) بقوله: ثم إن أصل وجوب الشكر عقلا بحيث يستحق العقاب على تركه لا يثبت إلاّ بإدخاله تحت قاعدة التحسين و التقبيح العقليين، و من البين عند التأمل أن شكر المنعم علما و حالا و عملا(4) و إن كان تعظيما للمنعم و إحسانا إليه، إلاّ أنه لا يثبت به إلاّ مجرّد الحسن و استحقاق المدح على فعله بمراتبه، و ليس ترك كل إحسان و لا ترك الإحسان إلى المحسن ظلما عليه. نعم الاسائة خصوصا إلى المحسن ظلم، فيشتدّ قبحه بالإضافة إلى المحسن اليه. فالجهل بالمنعم، أو عدم التخضع له قلبا، أو عدم القيام خارجا بوظائف المجازاة بالاحسان، ليس إلاّ ترك ما حسن بذاته؛ إذ ليس من هذه الحيثية عقلا فرق بين منعم و منعم، و الأمر في غيره تعالى كذلك، ففيه أيضا من هذه الحيثية على ما مرّ، مضافا إلى أن الاستناد في تحصيل المعرفة إلى وجوب شكر المنعم عقلا إنّما يجدي بعد الفراغ عن

ص: 34


1- منهاج البراعة للخوئي 274/2.
2- كفاية الموحدين 7/1.
3- نهاية الدراية في شرح الكفاية 155/2، ج 3 ص 48 طبعة الحديثة.
4- يريد بالأول معرفة المنعم، و بالثاني تخضّع القلب له، و بالثالث صرف النعمة لما خلقت لأجله، كما صرّح به نفسه.

انتهاء النعمة إلى مبدأ موجود ليتحقّق موضوع شكر المنعم، ليجب عقلا، فهو إنّما في معرفته من حيث كيفية وجوده و صفاته لا في التصديق بوجوده. انتهى كلامه.

أقول: و يمكن أن يناقش في الوجه الأول بأن شكر المنعم بالأنعام الجزيلة الكثيرة واجب، و تركه قبيح عند العقلاء كما هو واضح. لكن الوجه الثاني متين، و بالجملة: وجوب الشكر إنما يتمّ إذا كان المنعم قابلا للشكر، أي كان شاعرا حسّاسا و إلاّ فلا معنى له، فلا بد أولا من تشخيص أنّ المنعم من هو، فيكون مفاد الدليل هو لزوم النظر دون المعرفة، فتفطّم.

و استدل الاشاعرة(1) على وجوب المعرفة بإجماع الأمة، و حيث إنها لا تتيسر من دون النظر و الاستدلال فهو أيضا واجب شرعا، فإنّ الخطاب الشرعي و إن كان متعلقا بالمسبب إلاّ أنه لا بدّ من توجيهه إلى السبب.

و ربما استدل بعضهم على وجوب النظر و المعرفة ببعض الآيات كقوله تعالى: قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (2)، و قوله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ (3). و أورد عليه بعضهم بأنّها تفيد الظن و لا اعتداد به، فالعمدة هو الإجماع.

أقول: لو سلم حجّية الإجماع فهي أيضا ظنّية، فإنّها استنبطت من ظواهر الآيات و الروايات، و أمّا ما تفوّه به بعضهم(4) من دعوى الضرورة الدينية على اعتباره فهو إفراط و اختلاق.

و يرد على الاستدلال أيضا أن المسبّب و إن كان غير مقدور بلا إيجاد سببه إلاّ أنه لا وجه لصرف التكليف المتعلّق به إلى سببه؛ ضرورة أن المقدور بالواسطة مقدور و السبب يجب من باب المقدمة عقلا، ثم إن في هذا البيان تناقضا واضحا، حيث يدعون أولا وجوب المعرفة ثم يقولون بصرف الأمر إلى النظر؛ لانه المقدور فتكون المعرفة غير واجبة.

و على الجملة: الوجوب الشرعي - سواء تعلق بالنظر أو المعرفة - غير معقول فإنه متأخّر عن التصديق بنبوة النبي صلّى اللّه عليه و اله المتأخرة عن التصديق بصفاته تعالى المتأخّرة عن معرفة أصل وجوده، فما لم تثبت آمرية المتكلّم لا حجّية لأمره، فكيف يعقل الوجوب الشرعي في حق الجاهل باللّه تعالى.

و ملخّص الكلام: أنّه لا اعتبار بقول المجهول و لا موضوع لوجوب معرفة المعلوم لأنّها من

ص: 35


1- المواقف و شرحها 157/1 و هكذا في غيرهما.
2- يونس 101/10.
3- محمّد 19/47.
4- و هو الايجي في شرح المواقف 159/1.

تحصيل الحاصل الممتنع(1)، و منه ينقدح أنّ ما توهّمه جمع من الأشعريين(2) من عدم بطلان تكليف الجاهل بدعوى أن شرط التكليف فهمه لا التصديق به، فإن الغافل من لا يفهم الخطاب، أو لم يقل له: إنك مكلّف، لا من لا يعلم أنّه مكلّف. فهو غفلة عن الواضحات كما عرفت.

ثم إنّه يلزمهم إفحام الأنبياء عليهم السّلام إذ لا وجوب قبل المعرفة كما عرفت، و لا معرفة إلاّ بعد النظر، فلو قال المكلّف: لا انظر حتى أعرف، لما كان للنبي عليه سلطان، فبهذه الطريقة الأشعرية يمكن فرار الناس من الديانة الإسلامية.

و بالجملة: مفاسد هذا القول كثيرة.

و أمّا الاستشهاد بقوله تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً(3) على الوجوب الشرعي، بدعوى أن نفي العذاب قبل البعثة يكشف عن نفي الوجوب، فهو ضعيف، فإن الكاشف عنه نفى استحقاق العذاب دون نفي فعليته و وقوعه كما في الآية الكريمة، نعم من أنكر العفو و الشفاعة و جعل العذاب من لوازم المعصية كان الاستدلال عليه متّجها من باب الجدل. هذا مع أنه - على تقدير صحّته - لا ينفي الوجوب الفطري المتقدم؛ لانّ الشاك لا يرى حجّية لهذه الشهادة، فافهم.

و الصحيح أنّ ظاهر الآية هو الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع على الأمم السالفة دون العقاب الأخروي كما يدل عليه ما بعد الآية: قال اللّه تعالى: وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا... فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ... الآيات(4) فالآية الكريمة أجنبية عن محلّ الكلام بالكلية.

تعقيب و تكميل

قضية الأدلة المتقدمة هي وجوب المعرفة لأجل دفع الضرر أو وقوع الشكر على ما يناسب حال المشكور المنعم، فهو وجوب غيري ليس بنفسي، و أمّا الوجوب الشرعي فقد دريت تعلّقه بالنظر دون المعرفة كما صرح به قائله، نعم هنا وجهان آخران يدلاّن على أن المعرفة واجبة وجوبا نفسيا:

الاول: ما أفاده الأصولي الشهير المحقق الهروي في كفاية الأصول قال: «نعم يجب

ص: 36


1- و أما ما ذكره في القوانين 170/2 من لزوم الدور من قولهم ففيه نظر فلاحظ.
2- لاحظ شرح المواقف 158/1، و كلام ابن روزبهان في احقاق الحق 161/1، و غيرهما.
3- الاسراء 15/17.
4- الاسراء 15/17، 16، 17.

تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها كمعرفة الواجب و صفاته أداء لشكر بعض نعمائه»(1). فقد جعل المعرفة نفسها شكرا له.

و أورد عليه بعض الأعيان من تلاميذه: «من أن هذه المعرفة ليست مصداقا للشكر، بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته؛ لأن الحيثية التعليلية - و هي المنعمية لوجوب الشكر - حيثية تقييدية له، كما في جميع الأحكام العقلية، فلا تجب معرفة الذات لأنعامه نفسا، بل مرجعه إلى معرفة (هكذا) وجوب معرفة الذات مقدمة لمعرفته بالمنعمية، مع أن المقصود إثبات وجوب المعرفة نفسها»(2).

أقول: أما ما ذكره في الكفاية فقد عرفت ما فيه، و أما ما ذكره هذا المحقق من إرجاع الحيثيات التعليلية إلى الجهات التقييدية في هذا المقام و غيره ففيه كلام؛ لإمكان رجوع الأولى إلى الواسطة في الثبوت و الثانية إلى الواسطة في العروض.

الثاني: ما أفاده هذا المحقق المذكور. قال: «لنا طريق برهاني إلى وجوب تحصيل معرفته تعالى و هو أنّ كلّ عاقل بالفطرة السليمة يعلم أنّه ممكن حادث معلول لمن لم يكن مثله في الإمكان و الحدوث...».

و من البيّن بعد التصديق بوجود المبدأ أن النفس في حدّ ذاتها قوّة محضة على إدراك المعقولات التي هي كمالها، و أشرف الكمالات النفسانية معرفة المبدأ بذاته و صفاته و أفعاله بالمقدار الممكن، فإن شرف كل علم و عقل بشرف معلومه و معقوله، و أفضل موجود و أكمله وجود المبدأ، فمعرفة المبدأ أشرف كمال و فضيلة للنفس، و بها نورانيتها، و بها حياتها، كما أنه بعدم المعرفة أو بما يضادها ظلمانيتها و موتها...(3) الخ، و لعلّ ما أفاده بعض الأفاضل(4) راجع إلى هذا المعنى، بل يمكن نسبة ذلك إلى جميع الفلاسفة أيضا كما يظهر من القوانين(5) أيضا، لكنه مع اختصاصه ببعض آحاد الناس و عدم جريانه في حقّ أغلب افراد النوع، لا يثبت الوجوب المستتبع مخالفته استحقاق العقاب كما لا يخفى، مع أنه المقصود لا غيره، إلاّ أن يتشبّث بحديث تجسّم الأعمال المزيّف عندنا على نحو سيمرّ بك في المقصد الخامس إن شاء اللّه.

فالمتحصّل: أن المعرفة لم يثبت وجوبها النفسي بشيء من هذه الوجوه، و الصحيح أن يقال:

إن المعرفة واجبة شرعا بالضرورة الدينية، و هل الغرض الأهم من إرسال الرسل و إنزال الكتب

ص: 37


1- كفاية الأصول 154/2.
2- نهاية الدراية 155/2، ج ص 409 طبعة الحديثة.
3- نهاية الدراية 158/2، ج 3 ص 414، 415 طبعة الحديثة.
4- الدين و الاسلام 28/1.
5- القوانين 168/2.

إلاّ ذلك؟ كيف ولو لا وجوب المعرفة شرعا لما وجب النظر فطرة، فإنّه نشأ من احتمال ترتّب العقاب على تركها، فلو كانت غير واجبة لم يطلبها النبي من الناس، فلم يتحقّق موضوع لزوم وجوب النظر و هو دفع الضرر، فإنّ ترك المعرفة إذن لا يستتبع عقابا و عذابا، فلم تحكم الفطرة بشيء.

و لعلك تقول: إنّك قلت سابقا بامتناع وجوب المعرفة شرعا، فكيف تختاره هنا؟

لكننا نقول: الممتنع هو الوجوب الذي له داعوية نحو متعلقه و باعثية إلى المطلوب بلا توسّط حكم الفطرة بوجوب دفع الضرر، كما يزعمه الأشاعرة، و أمّا الوجوب الذي يتوسّطه الحكم المذكور فلا بأسبه. بيان ذلك: أن اللّه تعالى أوجب المعرفة على المكلّفين ثبوتا، فأمر نبيه بإبلاغه إلى الناس، و النبي يحذّر الناس بتركها و يهددهم عليه، و الابلاغ المذكور و إن لم يكن بحجّة على الناس أصلا كما دريت، إلاّ أنه يولد احتمال الضرر في ذهنهم لإمكان صدقه، فيحكم الفطرة بدفع الضرر المذكور، و لا مدفع له إلاّ النظر فيكون واجبا.

و يتلخص هذا البحث إلى أن المعرفة إن لم تكن واجبة لا يبقى موضوع للحكم الفطري المذكور، فالوجوب الشرعي ليس بلغو، و إن هذا الحكم الفطري إن لم يتوسط و لم ينجّز وجوب النظر لم يثبت الوجوب الشرعي كا دريت، فلا بد من اجتماعهما حتى يتمّ المقصود.

ثم إنّ الناظر إن أصاب فهو و إلاّ فهو معذور لكن الحكم الشرعي بحاله لبطلان التصويب كما يأتي في محله ان شاء اللّه. هذا ما عندنا في هذا المقام، و اللّه ولي الاعتصام.

تطبيق

قال الباقر عليه السّلام - على ما في رواية زرارة -:

«ليس على الناس أن يعلموا حتى يكون اللّه هو المعلّم لهم، فإذا أعلمهم (علمهم) فعليهم أن يعلموا»(1).

أقول: انطباقه على مسلكنا واضح، فإن وجوب النظر و ان كان فطريا لكن تحقق موضوعه موقوف على إعلام اللّه سبحانه؛ ضرورة أن العقل لا يحتمل الضرر بترك المعرفة ابتداء.

و في رواية عبد الأعلى قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أصلحك اللّه هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: لا. قلت: فهل كلّفوا المعرفة؟ قال: لا، على اللّه البيان لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا(2)...»(3).

أقول: أما صدر الرواية ففي معناه أخبار أخر، و سيأتي بحثها - و هو بحث معضل - في

ص: 38


1- بحار الأنوار 222/5.
2- البقرة 286/2.
3- أصول الكافي 163/1.

المقصد الخامس إن شاء اللّه، و أما قوله عليه السّلام بنفي التكليف بالمعرفة فلعلّ المراد به هو التكليف الابتدائي العقلي على نحو ما تقول به العدلية، فالرواية منطبقة على ما قررنا.

و قال الصادق عليه السّلام - كما في رواية بريد بن معاوية -:

«ليس للّه على خلقه أن يعرفوا، و للخلق على اللّه أن يعرّفهم، و للّه على الخلق - إذا عرّفهم - أن يقبلوا»(1).

أقول: موافقته لما ذهبنا إليه واضحة، فافهم و اغتنم، و للّه الحمد.

ص: 39


1- أصول الكافي 164/1.

الفائدة الخامسة في جواز التقليد

الصورة الحاصلة في الذهن إما أن تتأثّر بها النفس من قبض أو بسط - و ان كان خلافها ثابتا لدى العقل - أو لا، و الاول يسمّى تخييلا. و على الثاني فإما أن تكون نسبتها متساوية الطرفين بحيث لا يرجّح أحدهما على الآخر، فتسمّى شكّا، و إمّا أن لا تكون متساوية، فإن لم يحصل القطع بأحد طرفيها تسمّى وهما إن كان الطرف مرجوحا، و ظنا ان كان راجحا؛ و إن حصل القطع بأحد طرفيها فإن كان عدمها فهي كذب، و إن كان وجودها فهي جزم، فإن طابق الواقع فهو يقين إن لم يقبل التشكيك، و اعتقاد و تقليد إن قبله؛ و ان لم يطابق الواقع فهو جهل مركب.

إذا تقرر هذا فنقول: المقدار اللازم في الاعتقاد بالمعارف هو الجزم؛ إذ به يرتفع احتمال الضرر، فلا يبقى حكم الفطرة بلزوم الفحص و النظر أبدا، فإذا جزم بطرف فهو في مقام أمين طابق الواقع أم أخطأه قبل التشكيك أم لا؛ ضرورة أن موافقة الواقع ليست أمرا اختياريا، فاشتراطها - مع عدم الدليل عليه - هدم للقواعد المقررة عند العدلية.

و ليس الطلب يستلزم الوصول في كلّ مورد، فإذا خالف الواقع قصورا لا شيء عليه ابدا، و سيأتي مزيد إيضاح للمقام، كما أن احتمال اعتبار نفي قبول التشكيك موهون بعدم الدليل عليه، بل الدليل على خلافه كما يظهر ممّا مر.

و أما الاكتفاء بالظن مطلقا كما حكي(1) عن المحقق الطوسي و المقدس الاردبيلي و صاحب المدارك و الشيخ البهائي و العلامة المجلسي و المحدث الكاشاني و غيرهم قدس اللّه أسرارهم، أو بالظن الناشئ من النظر و الاستدلال كما نسب إلى بعض، أو من الأخبار الآحاد كما نقل عن غفلة أصحاب الحديث، أو من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلا لكن تركه معفو عنه، فهو مما نطق الدليل المتقدّم على خلافه كما دريت.

فالمتحصّل: أن القولين المتقدّمين - اعتبار اليقين المصطلح، و كفاية الظن ولو مع التمكّن من تحصيل الجزم - في طرفي الافراط و التفريط، و خير الأمور أوساطها.

ص: 40


1- القوانين 175/2، و رسائل الشيخ الأعظم الأنصاري 302/2.

و هنا خلاف آخر بينهم و هو جواز التقليد - أي قبول قول الغير بلا دليل - في أصول الدين و عدمه، فالمشهور المعروف من مذهب أصحابنا هو الثاني، و ذهب جماعة منهم المحقق الطوسي إلى الجواز، و ذهب طائفة إلى حرمة النظر(1)، و فصل سيّدنا الأستاذ الحكيم - دام ظله - فجعل الأظهر القول الأول مع خوف الضلال بدون النظر، و الثالث مع خوفه به، و الثاني على تقدير الأمن من النظر و عدمه(2)، و لكنه ليس مخالفا للقول الآتي كما لا يخفى، لكن تنجّز هذا الحكم موقوف على التفات المكلف إليه، فافهم.

و ذهب صاحب القوانين و الشيخ العلامة الانصاري(3) - رحمهما اللّه - إلى كفاية حصول الجزم و إن كان من التقليد.

أقول: القائل بجواز التقليد إن أراد كفاية التقليد مطلقا و إن لم يكن مفيدا للجزم فهو مقطوع الفساد عقلا؛ لعدم زوال الخوف بمجرّد متابعة الغير و البناء على قوله، و شرعا؛ لعدم صدق العلم عليه و عدم كون المقلد عالما بمجرّد تقليده، مع اعتباره في صحّة الإيمان كما ينطق به القرآن العزيز.

إلا أن يقال: إنّ هذا الكلام يتمّ في ما يتوقّف عليه الدين لا في غيره من المعارف، فإنّ ما دلّ على اعتبار التقليد في الفروع يشمل الأصول أيضا، فيكون الظن الحاصل منه أو البناء على ما يقول المقلّد - بالفتح - علما و معرفة تعبدا و تنزيلا، فلا ينافيه العمومات النقلية الدالة على عدم اعتبار الظن و لزوم تحصيل العلم؛ و لذا ذكر سيدنا الأستاذ الحكيم(4) - دام ظله - أنّ العمدة في منع التقليد في امثال هذه المعارف هو الإجماع المستفيض النقل.

قلت: استناد الإجماع المذكور إلى الوجوه الآتية إن لم يكن معلوما فلا أقل من كونه محتملا، فهو ليس بإجماع تعبدي معتبر، و جواز التقليد في حقّ من يتمكّن من تحصيل الجزم يشكل استفاده من أدلة جواز التقلدى الشرعية كما قررناه في محلّه هذا مع أن المراد بالمقلّد - بالفتح - هنا ليس هو المجتهد الجامع للشرائط المذكورة في الفقه؛ حتى يشمله الأدلة الدالة على حجّية التقليد في الفروع، بل كل من كان ثقة و فائقا بزعم المكلّف، و إن كان جاهلا في الواقع، فيشمل الخطباء الواعظين و الأبوين و المعلم و نحوهم كما يظهر من المحقق القمي قدّس سرّه أيضا. نعم مثل هذا التقليد لا يتيسر للمتفطنين الملتفتين إلى احتمال خطأ المقلد المذكور؛ اذ لا يحصل لهم

ص: 41


1- القوانين 167/2.
2- مستمسك العروة (الطبعة الأولى) 51/1.
3- رسائل الشيخ 312/1.
4- المستمسك 51/1.

الجزم كما يحصل للبسطاء.

فتحصل أنّ إطلاقات أدلة التقليد إنما تنتج جواز التقليد فيما اذا كان المورد قابلا للتعبد، و كان المقلد - بالفتح - جامعا للشرائط المقرّرة في علم الفقه، فتأمل جيدا. فالصحيح أن يعنون البحث هكذا: هل يجب تحصيل الجزم من الاستدلال و النظر، أم يكفي مجرّد الجزم المذكور و إن حصل من التقليد و قول الغير؟

ثم إنّ أكثر العلماء(1) يجعلون النظر شرط تحقّق الايمان؛ لأنّ الإيمان عندهم عبارة عن المعرفة الحاصلة من الدليل لا التقليد كما ذكره الشيخ الأنصاري(2). نعم ذكر الشيخ الطوسي قدّس سرّه أنه واجب مستقل ولو تركه لمكلف لا يستحق العقاب فإنه معفو عنه، لكنه ضعيف، و الأقوى هو القول الثاني كما يظهر مما سبق من أنه لا موضوع للحكم الفطري مع الجزم المذكور، و لا حكم للشرع بتحصيل النظر و الاستدلال.

و الذي يزيد في إيقانك منهأن أكثر الناس و لا سيما أهل البوادي - و بالأخص نساؤهم - لا يقدرون على إثبات العقائد كمباحث التوحيد و النبوّة و نحوهما بالدليل، فالأمر يدور بين أن يلتزم بتخصيص العمومات التي تمسّك بها المشهور بجمع من المستعدّين، أو تكفير هؤلاء الناس و إخراجهم عن الإسلام، و كذا في فرض قدرتهم على الاستدلال فإنّهم يقلّدون آباءهم في ديانتهم بلا دليل.

لكن الأول باطل؛ لأنه يستلزم التخصيص الأكثر المستهجن، و الثاني فاسد بالضرورة. لا يقال: فعلى هذا تلزم معذورية أكثر أهل الملل الفاسدة لصحّة تقلديهم، قلت: لا بأس بها إذا كانوا قاصرين لا مقصّرين كما أشرنا إليه سابقا أيضا.

و أما القول المشهور فاستدلّ له بوجوه:

1 - ما دلّ على تحصيل العلم كقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ (3) و الخطاب و ان كان للنبي الاعظم صلّى اللّه عليه و اله لكن يجري على غيره أيضا لوجوب التأسّي به، لقوله تعالى: لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (4) أو للأولوية.

و العلم: هو الجزم الثابت المطابق للواقع. و مثله ما دلّ على طلب العلم، و وجوب التفقّه في الدين، و نحو قوله تعالى: مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (5) أي ليعرفون، و غير ذلك.

ص: 42


1- القوانين 172/2.
2- الرسائل 315/1.
3- محمّد 19/47.
4- الأحزاب 21/33.
5- الذاريات 56/51.

و من الظاهر أن العلم لا يحصل نم التقليد؛ لاحتمال الخطأ في قول المقلّد - بالفتح - و للزوم التناقض في المسائل الخلافية، كما إذا قال أحد بقدم العالم و الآخر بحدوثه، فإن اعتقاد القولين معا تناقض، و ترجيح أحدهما إن كان بمرجّح فهو اجتهاد و إلاّ فهو محال؛ و لأنّ قول الغير لو أفاد علما لكان العلم بصدقه إمّا ضروريا أو نظريا، و الأول باطل و الثاني يستدعي إعمال النظر و هو خلف.

أقول: هذا الوجه بتمامه غير صحيح فإنّ التأسّي غير واجب على الإطلاق، و الأولوية باطلة، و تفسير العلم المذكور في الكتاب و السنة بما اصطلح عليه أهل المعقول غير مقبول، بل العلم عند أهل العرف و المحاورة هو: الجزم فقط كما ذكره المحقّق القمي و صاحب الفصول رحمهما اللّه أيضا، و منه تبيّن أن هذا الاستدلال لا ربط له بالمقام؛ إذ مفروض الكلام هو حصول الجزم للمقلّد فهو عالم عارف فقيه تكوينا كما لا يخفى.

و أما تفسير جملة لِيَعْبُدُونِ ب «ليعرفون» فممنوع؛ لعدم دليل عليه من الأخبار و إن ادّعاه بعض الأعاظم.

و أمّا ما لفّق في عدم إفادة التقليد علما فيزيف الأول بخروجه عن المقام؛ لاختصاص الكلام بالغافلين و العوام الذين لا يختلج في صدورهم شك و لا احتمال، و لسنا نجوّزه في حقّ الملتفتين المتفطّنين لاحتمال الخطأ كما مر في صدر المسألة، و منه ظهر فساد الثاني فإنّ الاختلاف لا يحيّر الغافل مع أنه يختار أحد القولين لأوثقية قائله أو اقربيته نسبا و صحبة، إلى غير ذلك من المرجّحات غير الراجعة إلى الدليل.

و الثالث موهون فإنّ علم المقلّد بصدق مقلّده حدسي ناش من اعتقاده بأكمليته أو الاستيناس بطريقته. و الإنصاف أن هذه الوجوه مخالفة للوجدان و العيان.

2 - ما دلّ على وجوب النظر كقوله تعالى: اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (1)، و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (2)، و قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (3) إلى غير ذلك.

لكن الظاهر أنها إرشادية إلى تحصيل الإيمان باللّه، فإذا آمن به ولو عن تقليد كفى.

3 - ما دلّ على النهي عن اتباع الظن، و جوابه واضح.

4 - ما دلّ على تحريم التقليد، مثل قوله تعالى: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ قٰالُوا:

ص: 43


1- يونس 101/10.
2- الروم 8/30.
3- الأعراف 176/7.

بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا، أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ (1) ، و مثل قوله تعالى: قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِنَعْبُدَ اَللّٰهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا(2)، و قوله: أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ (3)، و قوله تعالى: وَ كَذٰلِكَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ (4)، و قوله: قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىٰ مِمّٰا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبٰاءَكُمْ قٰالُوا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ (5)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و هذا عمدة الوجوه فيدلّ على منع التقليد مطلقا و إلاّ لما استحقّ هؤلاء الكفار ذما و عتابا و عقابا، بل لهم المعارض بجوازه في الشرع لما مرّ من أن اعتبار مطابقة الواقع - في الجزم المذكور - يصادم ناموس العقل و قانون العدل. و الجواب التحقيقي عنه، عدم بقاء الجزم لهم بعد مقابلتهم للأنبياء المبعوثين من اللّه تعالى إليهم، بل الظاهر زواله بمشاهدة المعجزات و خوارق العادات الصادرة عنهم، فهؤلاء الكفّار إنّما بقوا على مسلك آبائهم تعصبا و عنادا كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: كُفّٰاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ (6)، و قوله تعالى:

وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (7) ، و غيرهما.

5 - الأخبار الدالّة على أن الإيمان هو ما استقر في القلب، مثل ما قاله الصادق عليه السّلام - في جواب محمد بن مسلم حيث سأله عن الايمان -: إنه شهادة أن لا اله الا اللّه و الإقرار بما جاء من عند اللّه تعال يو ما استقر في القلوب من التصديق بذلك(8). و لا استقرار إلاّ لما حصل باليقين، و لا يحصل إلاّ بالاستدلال. لكنّه بين الفساد، لعدم انحصار حصول الاستقرار بالاستدلال بل يحصله التقليد أيضا، و لا شكّ أنّ كل ما حصله الاستدلال غير مستقرّ دائما كما هو محسوس، ثم إنّ المناط في استقرار الإيمان و استيداعه شيء آخر لاحظ الروايات(9)، و لعلنا نعود إليه في بعض بحوث المعاد إن شاء اللّه.

ص: 44


1- البقرة 170/2.
2- الأعراف 70/7.
3- الزخرف 21/43، 22.
4- الزخرف 23/43.
5- الزخرف 24/43، 25.
6- البقرة 109/2.
7- النمل 14/27.
8- قوانين الأصول 176/2.
9- أصول الكافي 416/2-420.

6 - الإجماع. قال العلامة الحلي قدّس سرّه في الباب الحادي عشر: أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة اللّه و صفاته الثبوتية و السلبية و ما يصح عليه و ما يتنع عنه؛ و النبوة و الإمامة و المعاد بالدليل لا بالتقليد، فلا بدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين، و من جهل شيئا من ذلك خرج عن ربقة المؤمنين و استحقّ العقاب الدائم.

أقول: يفهم من آخر كلامه أن الجاهل بالمعارف بالدليل - ولو كان عالما بها تقليدا - كافر مخلّد في النار، و قد نقل الإجماع على عدم جوازه عن السيموري و المبادي و القوشجي و العضدي(1) و الحاجبي، بل وصف سيّدنا الأستاذ الحكيم - دام ظله - هذا الإجماع بالمستفيض النقل كما مر.

أقول: معقد هذه الإجماعات إمّا بطلان المعرفة الحاصلة من التقليد و أنّها في حكم الجهالة من جهة العقاب و الخلود، و امّا عدم صحّة التقليد غير المفيد للعلم، و إما حرمة التقليد المفيد للجزم حرمة تكليفية محضة و لا ربط لها بالايمان فيكون المقلّد الجازم مؤمنا فاسقا مثلا.

و الظاهر أن معقد إجماع العلاّمة هو الأول كما عرفت، لكن ذكر لي سيدنا الحكيم - دام ظله - شفاها أن معقد الإجماع المستفيض المذكور هو الشق الثاني، و هذا هو الذي استظهره المحقق القمي قدّس سرّه من الأصوليين فلا حظ كلامه(2)، فعلى هذا الوجه لا بأس بهذا الإجماع المذكور بل لا حاجة إليه؛ لانّ المدعى واضح كما تقدّم.

و أما الاحتمال الثالث فلا مضايقة عنه أيضا، و المسألة حينئذ تكون فقهية لا ربط لها بالمقام لكن الشأن في تحقق الإجماع كما ستعرف.

و أما الاحتمال الأول - كما هو ظاهر العلاّمة و معقد إجماعه، و هو المنقول عن الشهيد و المحقق الاول و المحقّق الثاني أيضا(3) بل هو المنقول عن المشهور كما مر - فهو ممنوع جدا موهون قطعا:

أمّا أولا: فلما مرّ من عدم حجّية الإجماع إلاّ إذا كان مفيدا للقطع برأي المعصوم، و نحن لا نظن به ولو ظنا ضعيفا بسبب هذا الاجماع المنقول.

و أما ثانيا: فلاشتراط اعتباره بعدم استناده إلى دليل آخر ولو احتمالا. و إلاّ فلا اعتبار به، بل لا بدّ من النظر إلى ذلك الدليل، و من المظنون قويا استناد المجمعين في دعواهم الإجماع إلى الوجوه المتقدّمة و غيرها، فلا يكون الإجماع المذكور تعبّديا.

ص: 45


1- قوانين الأصول 158/2.
2- القوانين 162/2.
3- رسائل الشيخ 311/1.

و اما ثالثا: فلمخالفة جماعة جوّزوا الاكتفاء بالظن أو قالوا بجواز التقليد المفيد للجزم، فلا يتمّ الإجماع المذكور، فافهم.

و رابعا: ما مر منا من الدليل على كفاية مطلق الجزم ولو كان حاصلا من التقليد.

ثم إن ما ادّعاه العلامة غير صحيح بمجموعه قطعا، و قد تعرّض له الشيخ الأعظم الانصاري قدّس سرّه أيضا و في آخر مباحث الانسداد من رسائله.

7 - إن الإيمان الحاصل من التقليد في معرض الزوال، فيجب تثبيته بالاستدلال دفعا للضرر المحتمل أو المظنون.

أقول: الإيمان الحاصل من النظر أيضا في معرض الزوال، فإن النظر لا ينفي المعرضية المذكورة بوجه. و المدّعي مكابر، و حله أن الجازم لا يرى تزلزلا و معرضية للزوال في نفسه، فهذا الشك ساقط.

و المتحصّل: لزوم تحصيل الجزم في الاعتقاد بالعقائد الدينية ولو من تقليد، و لا يعتبر حصوله من الاستدلال.

ص: 46

الفائدة السادسة حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الحقّ تحقّق الجاهل القاصر في المعارف الدينية، فليس كلّ من لم يعتقدها مستحقا للعذاب و العقاب، بل المعاقب هو المعاند للحق أو المقصّر فيه، و أمّا من قصر استعداده و ضاق تفكيره أو استولى عليه الغفلة و سلطان البيئة فجهل الحق، فهو معذور عقلا و شرعا.

و الدليل على وجود القاصر المذكور هو الحس، فإنّا نشاهد كثيرا من المسلمين المخالفين لنا في الاعتقاد - و لا سيما نسائهم الساكنات في قعر بيوتهن - قاصرين عن تحقيق الحقّ و تحصيل الواقع، و كذا نعلم قطعا أن عددا كثيرا من سكان الهند و روسيا و غيرهما قاصرون في جهلهم باللّه العظيم و شؤونه و نبوّة نبينا الأعظم و أوصيائه الكرام، و هذا ممّا لا يدخله ريب و لا احتمال، بل مزيد العناية في إثباته لغو و عبث، فإن العيان يغني عن البيان.

و لكن مع ذلك اتّفق الجمهور من المسلمين على أن المصيب من المجتهدين المختلفين في العقليات التي وقع التكليف بها واحد، و أن الآخر مخطئ آثم، و خالف فيه شذوذ من أهل الخلاف كما في المعالم و القوانين(1).

أقول: هذا الاتفاق على خصوص التخطئة و بطلان التصويب متين، و أمّا على استحقاق العقاب فلا. نعم نسب إلى الجاحظ و العنبري معذورية القاصر(2)، و هو الذي اختاره بعض المتأخّرين من علماء أصول الفقه أيضا، لكن الجمهور من المسلمين على خلافه، بل عن جماعة من الخاصّة و العامّة الإجماع على ذلك(3) فتأمّل، بل ادعى الفقيه الأعظم شيخ المجتهدين صاحب الجواهر الضرورة المذهبية على ذلك حيث قال في ردّ كلام الشهيد الثاني - و هو أي كلام الشهيد - من غرائب الكلام المخالف لظاهر الشريعة و باطنها -: إذ من ضرورة المذهب عدم المعذورية في أصول الدين التي منها الامامة... و بالجملة لا يستاهل هذا الكلام ردّا؛ اذ هو

ص: 47


1- معالم الأصول/ 226، و القوانين 207/2.
2- المواقف و شرحها 236/3.
3- القوانين (الحاشية) 207/2، و رجال المامقاني (المدخل) 206/1.

مخالف لأصول الشيعة... الخ(1).

أقول: و سيأتي من بعض العامّة أيضا دعوى الضرورة على ذلك، هذا مضافا إلى وجوه أخر دلّت على ذلك:

فمنها: أن اللّه كلّف بالعلم و نصب عليه دليلا فالمخطئ مقصّر آثم، نقل هذا عن جماعة من أصحابنا، بل نسب إلى الجمهور.

و منها: قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (2)، فقد جعل الهداية على تقدير المجاهدة، فالضالّ لم يجاهد باختياره فهو مقصّر آثم.

و منها: ما في المواقف و شرحها(3) من قوله: و اعلم أن الكتاب و السنة و الاجماع يبطل ذلك - أي معذورية القاصر - بل نقول: هو مخالف لما علم من الدين ضرورة؛ إذ يعلم قطعا أن كفّار عهد الرسول صلّى اللّه عليه و اله الذين قتلوا و حكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين، بل منهم من يعتقد الكفر بعد بذل المجهود، و منهم من بقي على الشك بعد إفراغ الوسع.. الخ.

و منها: قوله تعالى: مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ (4) أي ليعرفون، فالمعرفة علّة غائية لخلقة الإنسان، و فرض وجود القاصر المذكور يوجب تخلف المعلول عن العلة المذكورة؛ لانتفاء امكان المعرفة في حقّه على الفرض، و هو لغو ينزّه عنه فعل الحكيم، و مثله قوله تعالى في الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لا عرف».

نقله المحقق الآشتياني في شرح الرسائل(5).

و منها: قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ (6)، و للقاصر على اللّه حجّة فلا بد من عدمه. نقله في حقائق الأصول(7).

و منها: العمومات الدالّة على حصر الناس في المؤمن و الكافر مع ما دل على خلود الكافرين بأجمعهم في النار، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر، فيكشف ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن، و أن من تراه قاصرا عاجزا عن العلم قد تمكّن من تحصيل العلم بالحقّ ولو

ص: 48


1- أوائل كتاب الشهادات.
2- العنكبوت 69/29.
3- شرح المواقف 236/3.
4- الذاريات 56/51.
5- شرح الرسائل/ 288.
6- النساء 165/3.
7- حقائق الأصول 214/2.

في زمان ما، و العقل لا يقبّح عقاب مثل هذا الشخص. نقله الشيخ في رسائله(1).

و منها: قوله تعالى: فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا(2) و الفطرة هي المعرفة و التوحيد كما ورد في الروايات المفسرة للآية الكريمة(3) و مثله قوله صلّى اللّه عليه و اله:

«كل مولود يولد على الفطرة» فيفهم أنّ المعرفة مرتكزة في النفوس البشرية لا تزول عنها إلاّ بصارف، و عليه فكيف يفرض العجز عنها؟ نقله المحقق الآشتياني بلا تعرّض لذكر الروايات المذكورة مع أن الاستدلال بالآية الشريفة لا يتمّ إلاّ بها.

هذه هي الوجوه التي استخدمت لنفي الجاهل القاصر و أنه غير متحقّق.

ثم إنّه لا بد أن تعرف أن متكلّمي الأشاعرة و غيرها و إن وافقوا الإمامية في عدم معذورية الجاهل، إلاّ أنّ الإمامية يقولون به من جهة نفي القاصر في الخارج، بخلاف الأشعريين فإنهم قالوا به مع وجوده كما صرح به صاحب المواقف و شارحها على ما نقلناه في الوجه الثالث، و السر في ذلك: أنّ عقاب القاصر قبيح عقلا، فإذا ثبت عقاب كلّ جاهل فلا بد من إنكار القاصر جمعا بين الادلة، لكن الأشعري لما تظاهر بإنكار الأحكام العقلية لم يبال الالتزام بعذاب القاصر، و كأنّه ما سمع قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ (4) و قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ (5) و قوله: وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ(6) إلى غير من الآيات الكريمة الدالة على ذلك، بل لم يقفوا لعى ذلك حتى نسبوه إلى المسلمين، فقال قائلهم بلا استحياء: «أجمع المسلمون على أن الكفّار مخلدون في النار أبدا، لا ينقطع عذابهم سواء بالغوا في الاجتهاد و النظر في معجزة الانبياء و لم يهتدوا، أو علموا نبوّتهم و عاندوا و تكاسلوا»(7).

أقول: الاسلام و المسلمون - غير الأشعريين و من شابههم - بريئون من هذه الأباطيل التي تسوّد وجه الإسلام في العالم كلّه، و تنافي رحمة اللّه الواسعة و فضله و عدله و حكمته الشاملة.

بل نقل بعضهم(8) أن أطفال الكفار عند أكثرهم أيضا يدخلون النار و يخلّدون، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا. و لصاحب الكفاية قدّس سرّه أيضا في المقام كلام ينافي بظاهره قواعد

ص: 49


1- الرسائل 312/1.
2- الروم 30/30.
3- لاحظ البحار 277/5.
4- الانفال 42/8.
5- يونس 44/10.
6- فصّلت 46/41.
7- حاشية شرح المواقف 235/3.
8- المصدر نفسه.

العدلية(1) فلاحظ.

و كيف ما كان، الحس يدلّ على تحقّق الجاهل القاصر، و معه لا استيحاش من ردّ الإجماعات المنقولة المتقدمة و إن كثر نقلها، و لضعف مدركها كما ستعرف. و أمّا دعوى الضرورة المذهبية كما تقدمت عن صاحب الجواهر قدّس سرّه فهي أمر غريب عن مثل هذا المقام العظيم و العلم الفخيم، و لعل العبارة ناظرة إلى غير ما استظهرناه(2) كيف و قد قال به جملة من الأعلام كشيخنا البهائي على ما حكى عنه في قصص العلماء للتنكابني و هو ظاهر الشهيد الثني أيضا، و الشيخ الأنصاري، و صاحب الكفاية، و جملة من محشّي الرسائل و الكفاية، و المحقق القمي و غيرهم من أرباب التحقيق و التدقيق من الأصوليين.

فالعمدة هي هذه الوجوه، فنقول:

أما الوجه الأول: فضعفه ظاهر؛ لمنع الصغرى و عدم ثبوت التكليف لجميع آحاد الناس حتى القاصر، بل التكليف مختصّ بالقادرين من الاول و القاصر غير قادر، بل هذا الوجه مصادرة واضحة. لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا(3).

و الوجه الثاني: لو سلم تفسير المجاهدة بالاستدلال يرد عليه: أن ترتّب الهداية على المجاهدة لا يدلّ على طمكان المجاهدة لكلّ أحد، و القاصر إما لنقص استعداده أو لعروض الغفلة و نحوها غير متمكن من المجاهدة.

و الثالث: فاسد بأن جواز قتله و نجاسة بدنه و غير ذلك من الأحكام التكليفية و الوضعية التعبدية غير مقصودة بالمقام، و نحن نلتزم بها، و المقصود هو استحقاق العقاب و الخلود في العذاب، و ادّعاء الإجماع على ذلك كذب واضح.

و الرابع: ضعيف بمنع التفسير المذكور كما تقدم، و الحديث مجهول السند، بل قال المحدّث الكاشاني: إنّه من مجعولات الصوفية مع أنه ينتقض بالمجانين و الأطفال الذين يموتون قبل البلوغ، و اما تحقيق المقام فسيأتي إن شاء اللّه في مبحث تعلّل أفعاله بالأغراض.

و أمّا الخامس: فباطل إذا التكليف غير واجب على اللّه تعالى ليكون للقاصر حجة، نعم إذا أراد اللّه سبحانه عقابه و عذابه فيكون له حجّة عليه تعالى، لكنّا نقول بعدم عقابه و تعذيبه، مع أن النقض المتقدّم جار هنا أيضا.

ص: 50


1- حقائق الأصول 216/2.
2- مثل عدم معذوريته في ترتب الأحكام التعبّدية عليه.
3- البقرة 286/2.

و أما السادس: فساقط بما أفاده الشيخ الأنصاري قدّس سرّه(1) من وجود الأخبار المستفيضة الدالة على ثبوت الواسطة بين المؤمن و الكافر، و لا يخفى أن هذه الواسطة غير الواسطة التي تخيّلها واصل بن عطاء الاعتزالي. و يمكن أن يقال بانصراف العمومات عن القاصرين فلا نحتاج إلى الاستدلال بالأخبار.

و أمّا السابع: ففيه النقض بالمجانين. و الحلّ بأن الفطرة المذكورة لا تنافي فقدان الشرط أو طروء المانع كالغفلة، أو الاعتقاد الحاصل من البيئة على خلافها.

و ربما ذهب بعضهم إلى التفصيل(2) و اليه يميل المحقق القمي قدّس سرّه حيث قال في ضمن كلامه: «نعم لو فصّل أحد و قال بذلك - أي بانكار القاصر - في وجود الصانع مثلا أو ذلك مع وحدته، أو ذلك مع أصل النبوة، أو ذلك مع أصل الميعاد، لم يكن بعيدا؛ إذ الظاهر أن الأدلّة المذكورة مما يمكن فيه دعوى لزوم إصابة الحقّ النفس الأمري، و أما مثل تجرّده و عينية الصفات و حدوث العالم و نفي العقول و كيفيات الميعاد فلا»(3).

أقول: و ربما قيل بإنكاره في أصل وجود الصانع فقط، لكن كلّ ذلك يلحق بقول الجمهور في مصادمته الحس و العيان. و وضوح أدلة تلك الأصول لا يوجب المكنة في قليل الاستعداد أو عظيم الغفلة كما هو اوضح من أن يخفى.

و لنختم المقال بذكر رواية رواها الكليني قدّس سرّه في الكافي باسناده عن عبد الأعلى بن اعين قال: «سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام: من لم يعرف شيئا هل عليه شيء؟ قال: لا»(4).

ص: 51


1- الرسائل 313/1.
2- روضة المسائل/ 5.
3- القوانين 159/2.
4- الكافي 164/1.

الفائدة السابعة في الأمر المولوي و الإرشادي

لا شك أن قضية قانون المولوية و العبودية لزوم امتثال أوامر الآمر على من دونه، فكل سافل موظّف بمتابعة من هو عال عليه، و لزوم هذا التوظيف من المشهورات المسلّمة بين الكل للمصلحة العامة، و منه يظهر أن أوامر الشارع واجبة لامتثال، كما أن مناهيه لازمة الاجتناب.

و لك أن تستند في ذلك إلى الحكم الفطري و هو دفع الضرر المحتمل؛ لاستتباع مخالفة أحكامه عقابه و عذابه، و أما ما ذهب إليه جمع من الأصوليين من دلالة نفس صيغة الأمر و النهي على الوجوب و الحرمة فهو محل بحث و خلاف، كما ذكرناه في تعليقتنا على كفاية الأصول، فتحصِّ: أن حمل الحكم على الندب أو الكراهة محتاج إلى قرينة حالية أو مقالية، و الاّ فالاصل الاول هو الالزام.

لكن هذا إذا كان الحكم مولويا، و أما إذا كان إرشاديا فهو بمنزلة الاخبار لا يستفاد منه الوجوب ابتداء. و الفرق أن الاول يقصد منه البعث أو الزجر عن متعلقه، و الثاني يقصد منه الحكاية عن شيء كالمصلحة أو المفسدة، فالأول و إن دلّ على مصلحة أو مفسدة لكن الدلالة المذكورة غير مقصودة ذاتا، كما أن الثاني و إن كان موجبا للبعث و الزجر لكنه غير مراد من الخطاب نفسه. و مثاله في العرفيات أمر الطبيب بشرب الدواء للمريض، و لا سيما اذا كان المريض عاليا، فإنه إرشادي، أي إخبار عن مصلحة كائنة في شرب الدواء للمريض بلا قصد البعث و التحريك ابتداء.

و أمّا في الشرعيات فله موارد:

منها: ما لا يمكن للشارع إيجابه، إمّا لعدم ثبوت مولويته بعد، كوجوب النظر على ما مرّ فلا بدّ من حمل الأمر المذكور - اذا صدر عنه - على الارشاد إلى الحكم العقلي الفطري؛ و إمّا لمحذور آخر كالتسلسل مثلا، كما قالوه في مثل قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ (1) فإن إطاعة اللّه سبحانه لو كانت واجبة بوجوب شرعي لكان إطاعة

ص: 52


1- النساء 59/4.

نفس هذا الوجوب محتاجة إلى وجوب آخر و هكذا حتى يتسلسل أو يدور، فلا بد من الالتزام بكونه إرشاديا.

و منها: ما كان العقل حاكما به، و يكون الأمر الشرعي لغوا، كما إذا أوجب الصعود إلى السطح ثم أمر بنصب السلّم، فإن الأمر المذكور إرشاد إلى حكم العقل الحاكم بلزوم إتيان مقدمة الواجب و لا أثر للأمر الشرعي في أمثال المقام.

و منها: ما إذا ورد الأمر بأجزاء مركب واجب، فإنه لا يكون نفيسا و لا غيريا كما تقرّر في محله، فلا بدّ من حمله على الإرشاد و الاخبار عن الجزئية(1)، و إن المركب المذكور لا يتمّ الا به.

و منها: إذا لم يكن الآمر في مقام الاستعلاء و إنما يأمر لمجرّد مصلحة للأمور، كمالأوامر الواردة في شرب الأدوية في الشرع. و منها غير ذلك.

و المقصود التنبيه على ذلك، حتى لا يقع الباحث في الاشتباه و التحيّر، و يعلم أن البعث و الزجر معلولان لنفس الأمر و النهي المولويين، و للعلم بالمصلحة و المفسدة في الإرشاديين، فتدبّر جيدا.

ص: 53


1- إلاّ إذا قلنا بأنّه لبيان الوجوب الضمني التعبدي دون الوجوب الاستقلالي.

الفائدة الثامنة في تقسيم المفهوم

المفهوم إمّا أن يكون مصداقه موجودا خارجيا بنفسه، و إما أن يكون غير موجود كذلك، و إما أن يكون موجودا أو معدوما بغيره لا بنفسه. و الأول هو الواجب الوجود لذاته، و الثاني هو الممتنع الوجود لذاته، و الثالث هو الممكن، و أما احتمال كونه موجودا و معدوما معا لذاته أو لغيره أو احتمال عدم كونه موجودا و معدوما كذلك فهو ساقط.

و هذه القسمة الحقيقة الثلاثية هي المعبر إلى علم الكلام و وصول المرام، و ما ذكرنا في تقريرها سالم عمّا أورده صاحب الأسفار(1) على بعض التقارير الأخر. نعم المقسم للواجب الذاتي و الغيري و القياسي ليس الواجب الخارج من هذا التقسيم؛ بداهة اختصاصه بالواجب لذاته، بل المقسم المذكور الواجب بمفهومه الأعم اللغوي، و هكذا الحال في الممتنع.

ثم إن لدور و التسلسل و الخلف و اجتماع الضدين و اجتماع المثلين و غيرها من المستحيلات راجعة إلى التناقض و اجتماع الوجود و العدم الذي امتناعه ضروري اولى تصورا و تصديقا، و كل ما لا ينتهي إليه فليس للعقل سبيل إلى الحكم بامتناعه، فإذن الأساس الأصيل و البناء القويم لجميع المباحث العقلية هو بطلان التناقض و امتناعه، و قد دريت أنه ضروري أولى، بل لا يمكن انكاره من سليم العقل أبدا، بيد أن الفلسفة الديالكتيكية انكرت ذلك، فإنّ الذين اخترعوها بنوها على وقوع التناقض فضلا عن امكانه، و ذكروا لإثباته أمثلة فاقدة لوحدات المعتبرة في امتناعه جهلا منهم بالمباحث العقلية. وليتهم يدرون أنّ التناقض لو كان جائزا لكان انكار امتناعه باطلا؛ اذ صحيح حينئذ أن يكون محالا و غير محال ممكنا و غير ممكن! فهذا الانكار ينجرّ إلى الاثبات، فافهم جيدا.

و أمّا الوحدات المعتبرة في التناقض فهي ثمانية كما قيل، بل نسب إلى المشهور، قال شاعرهم:

در تناقض هشت وحدت شرط دان *** وحدت موضوع و محمول و مكان

ص: 54


1- الأسفار 84/1.

وحدت شرط و اضافه، جزء و كل *** قوه و فعل است در اخر، زمان

و زيد عليها اختلاف الكم في المحصورات و اختلاف الجهة في الموجهات.

اقول: الوحدات أكثر من هذه المذكورات، مثل: وحدة الحال، و التمييز و الرتبة، و الغرض، و الحمل، و الوحدة و غير ذلك. بل ربما يبلغ تعدادها إلى الثلاثين(1) و الاخصر ان يقال: ان اجتماع الوجود و العدم محال. إذ فيه كفاية للمرام.

ص: 55


1- لاحظ رهبر خرد/ 180.

الفائدة التاسعة في خواصّ الواجب الوجود

اشارة

اعلم أن لكلّ من الواجب و الممكن خواصّ و قد جرت عادتهم على بيانها بعد تقرير التقسيم المتقدّم، و نحن نتّبعهم في ذلك فنبدأ ببيان خواصّ الواجب و هي أمور:

1 - إنّ إمكانه بالإمكان العام يكفي لثبوته وجوبا و ضرورة، و نسميه بقاعدة الملازمة، و لم نر من ذكرها في خواصّ الواجب مع أنها مهمة و مفيدة جدا.

فنقول: الواجب إذا لم يكن بممتنع عقلا يكون موجودا و ثابتا بلا حاجة إلى لمّية الثبوت و الإثبات؛ و ذلك لاستحالة الإمكان الخاصّ في حقّه، فإنّه قسيم للوجوب كما تقرر في التقسيم الثلاثي المتقدم، فالممكن الخاصّ لا يوجد إلاّ بعد علّته ثبوتا، و لا يصدق بوجوده إلاّ بعد سببه إثباتا و ان كان امكانه معلوما على كل تقدير فإنه لا يلازم فعليته و وجوده كما لا يخفى، و هذا بخلاف الواجب حيث إنّ مجرّد إمكانه العام كاف في تحقّقه ثبوتا و إثباتا، فالواجب المفروض إمّا ممتنع أو متحقّق، و هذا لا يقتضي زيادة إيضاح.

و تجري هذه القاعدة في صفاته الواجبة أيضا، فيقال: القدرة الواجبة - مثلا - غير ممتنعة للمبدأ الواجب فهي ثابتة له و هكذا، نعم بناء على القول بإمكان الصفات و زيادتها على الذات - كما عليه أمّة الأشعري - لا مجرى لها فيها.

و قد استدلّ للقاعدة المذكورة أيضا(1) بأن صفاته الذاتية متى صحّت وجبت و إلاّ لافتقر في اتّصاف الذات بها إلى الغير، و الافتقار عليه محال.

أقول: استحالة الافتقار - بهذا المعنى - أخفى من نفس المدّعى.

2 - إن الواجب الوجود واجب من جميع الجهات. قال في الأسفار(2): المقصود من هذا أنّ الواجب الوجود ليس فيه جهة إمكانية، فإن كلّ ما يمكن له بالإمكان العام فهو واجب له.

أقول: الاستدلال عليه بوجوه:

ص: 56


1- شرح الباب الحادي عشر/ 16.
2- الأسفار 122/1.

الأول: ما تجشّم بإقامته صاحب الأسفار، و هو: أنّ الواجب تعالى لو كان له - بالقياس إلى صفة كمالية - جهة إمكانية بحسب ذاته بذاته للزم التركيب في ذاته، و هو محال، فيلزم أن يكون جهة اتّصافه بالصفة المفروضة الكمالية وجوبا و ضرورة لا إمكانا و جوازا.

أقول: إن أراد بالإمكان اللازم فيه تعالى الإمكان القياسي ففيه منع لزوم التركيب، و إلا لجرى في الامتناع القياسي أيضا، و قد صرح نفسه(1) بأن الامتناع بالقياس إلى الغير يعرض لكل موجود واجبا كان أو ممكنا بالنسبة إلى عدم معلوله أو عدم علّته.

و حله أن معنى الإمكان بالقياس هو عدم وجوب الصفة له تعالى بالنظر إلى ذاته المقدّسة مع إمكانها بالإمكان العام على ضدّ مفاد القاعدة، أعني بها وجوب الواجب من جميع الجهات، و أين هذا من التركيب؟ و لذا لو فرضنا الواجب متعدّدا كان كل واحد ممكنا بالقياس إلى الآخر و إلى معاليله كما ذكره هو أيضا، فلا ملازمة بين التركيب و الإمكان المذكور.

ثم إن الأمر في الافعال أوضح؛ لأنّا سنبرهن على تبعيتها للمصالح و الأغراض الزائدة على ذاته تعالى، فلا يجب الفعل بالنسبة إلى مجرّد ذاته تعالى.

فإن قلت: لا معنى للامكان القياسي بين العلة و المعلول.

قلت: نعم، بيد أن المقام ليس من هذا الباب، لأنا نبحث عن الشيء الممكن قبل إيجاده، فنقول مثلا: إن هذا الفعل المعدوم خارجا بالفعل الموجود في الذهن هل يجب بالنسبة إلى الواجب أم لا؟ فالاشتباه إنما هو من جهة خلط ما في الذهن بما في الخارج فتفطّن.

و منع الإمكان القياسي في هذه المرتبة أيضا مصادرة واضحة؛ لأنّه المدّعى فتحصّل أن جميع ما يمكن أن يتعلّق به قدرته تعالى ممكن له - تعالى - بالإمكان القياسي بملاحظة ذاته و لا وجوب له أبدا، نعم يجب بالوجوب القياسي و الغيري بلحاظ إرادته التابعة للاغراض الزائدة على ذاته تعالى.

و إن أراد من الإمكان القوة و الاستعداد، كما يظهر من تلميذه اللاهجي(2) في مقام الاستدلال على اثبات صفاته، ففيه: أنه لا يعقل القوّة في حق الواجب بلا شك و لكن إنكار الوجوب المذكور لا يؤدّي إلى لزومها فيه تعالى. و قد قال هذا المستدل - أي صاحب الأسفار - في ربوبيات كتابه ردا على استدلال المتأخّرين على عينية الصفات مع الذات: الأول إنا نقول:

إن ها هنا اشتباها من باب آخذ القبول بمعنى الانفعال الاستعدادي مكان القبول بمطلق الاتّصاف، و البرهان لا يساعد الا على نفي الاول دون الثاني... - إلى ان قال -: و الثاني إنّ الدليل

ص: 57


1- الأسفار 159/1.
2- سرمايه ايمان/ 32.

منقوض بالصفات الإضافية له تعالى كالمبدأية و السببية و غيرهما؛ لجريان الدليل بجميع مقدماته فيهما، فيلزم إمّا عدم اتّصافه بتلك الصفات أو عدم كونها زائدة على الذات، و كلا القولين باطل... الخ.

أقول: فعليك بتطبيق كلامه على المقام أيضا.

و إن أراد من الإمكان العدم - كما هو الظاهر من كلامه في بيان برهانه العرشي على توحيده تعالى حيث قال: بل يكون ذاته بذاته مصداقا لحصول شيء و فقد شيء آخر من طبيعة الوجود و مراتبه الكمالية، فلا يكون واحدا حقيقيا، و التركيب بحسب الذات و الحقيقة ينافي الوجوب الذاتي(1)... الخ بل هذا هو مراده جزما - ففيه: أنه لا دليل على امتناع مثل هذا التركيب بل نمنع كون هذا تركيبا، فإنّ التركيب من الوجود و العدم، أو الوجدان و الفقدان، أو الوجوب و الإمكان:

أو ما شئت فسمه ليس تركيبا واقعيا؛ اذ العدم أو الفقدان ليس شيئا له مطابق في الخارج كما هو لائح.

و أمّا ما ذكره السبزواري في حاشيته على المقام - من أن شرّ التراكيب هو التركيب من الوجود و العدم؛ اذ كان العدم عدم الخير و الكمال؛ إذ العدم سنخ آخر مقابل الوجود... و أمّا التركيب من وجود و وجود فليس تركيبا واقعيا، اذ كان ما به الامتياز في الوجود بما هو وجود عين ما به الاشتراك - فهو من الشعريات.

ثم يمكن أن يقال بإرجاع الاحتمال السابق إلى هذا الاحتمال و أن المراد بالقوة هو العدم.

ثم إن هذا الدليل، و إن كان بظاهره مختصّا بالصفات الكمالية، غير أن مراد المستدل تعميمه للصفات الإضافية أيضا، و الحق أن الاولى عين ذاته و ليس للحق جهة إمكانية بالنسبة اليها كما يأتي بحثها في محلها، و أمّا الثانية فهي ممكنة له مع قطع النظر عن إعمال قدرته تعالى فإن ما استدل على القاعدة المبحوث عنها في المقام غير تام، كما يظهر من بطلان هذا الوجه و الوجوه التالية.

الثاني: ما لعله المشهور من أن ذاته لو لم تكن كافية فيما له من الصفات لكان شيء من صفاته حاصلا له من غيره، فيكون وجود ذلك الغير علّة لوجود تلك الصفة فيه تعالى، و عدمه علّة لعدمها، و حينئذ لا يكون ذاته تعالى اذا اعتبرت من حيث هي بلا شرط يجب لها الوجود؛ لأنها إما أن يجب مع وجود تلك الصفة أو يجب مع عدمها، فان كان الوجوب مع وجود الصفة المذكورة لم يكن وجودها من غيره لحصولها بذات الواجب من حيث هي هي بلا اعتبار حضور الغير، ولو جعلت القضية وصفية لم يكن الوجوب له تعالى ذاتيا أزليا، و إن كان مع عدمها لم يكن

ص: 58


1- الأسفار 137/1.

عدمها من عدم العلة و غيبتها، ولو جعلت الضرورة مقيّدة لم تكن ذاتية أزلية، و إذا لم يجب وجودها بلا شرط لم يكن الواجب لذاته واجبا لذاته، و هذا خلف.

أقول: في الأسفار زيادة على ذلك أتمّ بها نظم الاستدلال فلا حظ(1).

هذا و لكنه غير تام لما أورد عليه من النقض بالنسب و الإضافات اللاحقة لذات المبدأ بجريان الحجة المذكورة فيها، فيلزم أن يكون تلك الإضافات واجبة الحصول له تعالى بحسب مرتبة ذاته بلا مدخلية الغير فيها، و أن يمتنع تجددها و تبدّلها عليه تعالى، مع أن ذات الواجب غير كافية في حصولها لتوقّفها على أمور متغايرة متجدّدة متعاقبة خارجة عن الذات بالضرورة، و هذا ممّا لا خفاء فيه؛ و لذا اعترف به الشيخ ابن سينا في محكي الشفاء(2) حيث قال: و لا نبالي بان يكون ذاته مأخوذة مع إضافة ما ممكنة الوجود فإنّها من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاته. انتهى.

و قبله كثير من الاتباع كما قيل، فهذه الحجة أيضا سقيمة و فيه إشكال آخر أيضا تركناه مخافة التطويل.

و أمّا ما نسجه في الاسفار في إبرام هذا النقض فهو أليق بمقام الخطابة، بل كلّه مغالطة من باب أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج، كما نبّهنا عليه سابقا فلاحظ و تأمل حتى يظهر لك الحال، نعم لو تم قاعدة كون بسيط الحقيقة كلّ الاشياء لصح بيانه، كما صحّحه السبزواري بها على ما يظهر من حاشيته على المقام، لكنها مزيفة جدّ كما ستأتي في محلّها إن شاء اللّه، و سوف نهدم بنيانها و نخرّب أساسها.

الثالث: إن كلّ ما هو ممكن للواجب من الصفات توجبه ذاته، و كلّ ما توجبه ذاته فهو واجب الحصول. أمّا الكبرى فظاهرة، و أمّا الصغرى فلأنها لو لم تصدق لكان وجوب وجود بعض الصفات بغير الذات، فذلك الغير إن كان واجبا لذاته لزم تعدد الواجب، و إن كان ممكنا فإمّا توجبه الذات فيلزم كونها موجبة للبعض الذي فرضناها غير موجبة إيّاه من الصفات؛ اذ الموجب للموجب موجب أولا، بل يكون وجوبه بموجب ثان يوجبه و ننقل الكلام إليه، فإما أن يذهب سلسلة الموجبات إلى غير النهاية أو ينتهي إلى موجب يوجبه الذات و يلزم خلاف المفروض، و الحاصل أنّ الذات لو لم توجب الصفات بأسرها لزم أحد الأمور الممتنعة من تعدد الواجب، و التسلسل، و خلاف المفروض(3).

ص: 59


1- الأسفار 124/1.
2- الأسفار 126/1.
3- شرح الهداية/ 149.

أقول: يرد عليه - مضافا إلى ابتنائه على زيادة الصفات القديمة الباطلة التي تتخيّلها الأشاعرة - أنّ لزوم هذه المحاذير إنّما هو في صورة تحقّق الصفة خارجا، و أما إن قلنا بعدم تحقّقها له تعالى مع إمكانها فلا يلزم شيء منها كما ليس بسر. و أمّا الافعال فخروجها عن مدلول الدليل المذكور ظاهر؛ لأنّها تابعة للإردة دون الذات نفسها. و العمدة التي يترتّب عليها جملة من المسائل المختلف فيها هو وجوب الافعال الذي لا دلالة للدليل عليه. و أمّا وجوب الصفات و عينيتها مع الذات المقدّسة فهو مما لا شبهة فيه كما سيأتي في المقصد الرابع.

الرابع: ما ذكره الحكيم اللاهجي(1) و غيره، من أنّه لو لم يجب ما أمكن في حقّه لزم افتقاره إما إلى نفسه فيلزم أن يكون اللّه فاعلا و قابلا، و إمّا إلى غيره فيلزم أيضا ذلك المحذور لانتهاء غيره اليه.

أقول: بطلان كونه تعالى فاعلا و قابلا غير مبين بل مرّ منعه، بل هو أيضا حقّق عدم بطلانه في مثل الشقّ الأول في كتبه(2) هذا مع أنّه لو تمّ لما جرى في أفعاله فإنّ وجوبها بإرادته التابعة للملاكات الواقعية، فلا يلزم الافتقار.

فتحصل أنّ هذه القاعدة لم تثبت في خواصّ الواجب القديم.

3 - امتناع كونه جزءا للغير، فالأجزاء إمّا عقلية تحليلية مثل الجنس و الفصل، و إمّا خارجية مقدارية كاجزاء السكنجبين مثلا، و إمّا غير مقدارية - أي معنوية - نحو المادة و الصورة. و لا يعقل أن يكون الواجب جزءا لغيره بجميع هذه المعاني.

أمّا عدم كونه جزءا عقليا فلأنه موجود خارجي، و أما عدم كونه جزءا مقداريا فلانّه ليس بمادي و لا كم له، فلا يعقل عروض المقدار له؛ و أما عدم كونه جزءا معنويا فلأنّ المحل ملتمس إلى الصورة في فعليتها، و الصورة لا بدّ لها من مادة تحلها، فكلاهما لا يناسب الوجوب. و إن شئت فقل: احتياج الحال إلى محله، أمّا في الوجود كما إذا كان عرضا، أو في التشخص اذا كان صورة، و على كلا التقديرين يكون الحال ممكنا و لا سيما إن تشخّصه - تعالى - بنفس وجوده.

و أيضا تحقّق التركب بتأثير الأجزاء و تأثّرها بالضرورة، و الواجب لا يتأثّر من غيره؛ و أيضا المركّب إما واجب و إمّا ممكن، لا يصحّ الأول لما يأتي من امتناع التركيب على الواجب و لا متناع قوام الواجب بالممكن كما في صورة إمكان الجزء الآخر، و لا يصحّ الثاني لاجتماع الوجوب و الإمكان في شيء وحد؛ ضرورة أن المركب نفس الأجزاء، فتدبّر.

4 - استحالة التركيب عليه. أما تركّبه من الأجزاء الخارجية فبطلانه واضح؛ ضرورة

ص: 60


1- لا يحضرني الآن موضع هذا الكلام في كتبه نعم هو مذكور في الصفحة 16 من شمع اليقين لابنه الميرزا حسن.
2- گوهر مراد/ 193.

احتياج المركّب إلى كل جزء بنفسه في تحقّقه، و الجزء غير الكل، فكل مركّب محتاج إلى غيره في وجوده، و هذا و الإمكان المضاد للوجوب.

و أيضا الواجب لا يكون متكمّما فلا مقدار له. و أيضا المركّب لا بدّ له من مركّب - بالكسر - و الواجب لا فاعل له.

و أما تركّبه من الأجزاء العقلية - و إن فرض بساطته خارجا - فيفسده:

أولا: إنه لو كان له جنس و فصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه و معناه، بل في أن يوجد و يحصل بالفعل، فحينئذ نقول: ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو مهية غير الوجود، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضناه فصلا لم يكن فصلا؛ اذ الفصل ما يوجد به الجنس، و هذا إنّما يتصوّر إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود، و على الثاني يلزم أن يكون الواجب ذا مهية، و الحال أنه نفس الوجود.

ذكره صاحب الأسفار(1) و لعله تفصيل ما ذكره الفارابي في الفصّ السابع من فصوصه.

و ثانيا: إن المرّب محتاج إلى اجزائه العقلية فيصير ممكنا، و تنظّر فيه بعض المتكلّمين(2)فقال: إن الممكن هو ما يحتاج في وجوده الخارجي إلى غيره، و الواجب ما لا يحتاج كذلك؛ إذا التقسيم الثلاثي المتقدّم إنما هو بملاحظة الوجود الخارجي، فلو فرض تركّب الوجود من الأجزاء الذهنية لا يلزم إلاّ احتياجه في التحقق الذهني إلى اجزائه العقلية، و هذا لا ينافي الوجوب.

و يمكن أن يجاب عنه بأنّ تقسيم المفهوم إلى الجهات الثلاث و إن كان بحسب الوجود الخارجي إّا أن الأجزاء العقلية موجودة في نفس الأمر؛ ضرورة عدم كونها من الاختراعيات، فحينئذ يتوقّف وجوده في نفس الأمر على غيره، و هذا النحو من الافتقار أيضا ينافي الوجوب؛ إذ وجوب الواجب ضروري في حد نفسه، فافهم.

و قال الفارابي في الفصّ التاسع من فصوصه: وجوب الوجود لا ينقسم بأجزاء القوام مقداريا كان أو معنويا - يريد به الصورة و المادة فقط أو مع الجنس و الفصل - و إلاّ لكان كلّ جزء منه إما واجب الوجود فتكثر واجب الوجود، و إما غير واجب الوجود فهو أقدم بالذات من الجملة، فيكون الجملة أبعد من الجزء في الوجود. انتهي.

و هذا برهان متين؛ إذ الواجب أقدم في الوجود من جميع الممكنات فلا جزء ممكن له، و بقية الكلام في محله.

ص: 61


1- المجلد الثاني.
2- شرح القوشجي على التجريد/ 52.

5 - امتناع كون وجوده واجبا بذاته و بغيره معا، و وجهه ظاهر؛ ضرورة أن الواجب الوجود إنما يستند وجوب وجوده إلى ذاته لا إلى غيره أيضا.

طريق آخر و هو: أنّ الغير الذي يفرض استناد الوجوب إليه إن كان واجبا ننقل الكلام إليه و نسأل عمّا به وجوبه الغيري ليتسلسل، و إن كان ممكنا يلزم الدور؛ ضرورة توقّف وجوده و وجوبه الغيري على الوجوب الذاتي، فلو استند وجود الواجب و وجوبه إلى الممكن المذكور لدار.

و أيضا الوجوب الغيري يعرض للمعلول، و المعلول ممكن. و المسألة واضحة جدا، و الصحيح أنها ليست من خواصّ الواجب لجريانها في الممكن أيضا كما لا يخفى.

6 - تشخّصه بذاته و نفسه و إن قلنا بأن تشخّص الموجودات بالعوارض لا بنفس وجوداتها الخاصة؛ و ذلك لأن الواجب لو تشخّص بغير نفسه لاحتاج إلى ذاك الغير، و الوجوب لا يجامع الاحتياج.

و أيضا إن كان هذا الغير واجبا ننقل الكلام إلى تشخّصه حتى يتسلسل، و إن كان ممكنا لزم تقدّم الشيء على نفسه و هو محال.

7 - تفرّده و عدم تعدّده، فإنّ التعدد يستلزم الإمكان و لا يجامع الوجوب؛ إذ الواجبان إما أن يكونا متساويين في تمام الذات أو متخالفين كذلك، أو يتشاركان في جهة و يفترقان من جهة، و لا شق رابع.

و الأول باطل لاستلزام افتقار كلّ منهما إلى التميز بها هو خارج عن ذاتيهما. و بالجملة حالهما حينئذ حال فردين من نوع واحد في الاحتياج إلى المشخّصات الفردية، و هو عين الإمكان. قال الفارابي في الفص الخامس من فصوصه: «كل واحد من أشخاص الماهية المشتركة فيها ليس كونه تلك الماهية، هو كونه ذلك(1) الواحد و إلاّ لاستحال تلك الماهية لغير ذلك الواحد، فإذن ليس كونها ذلك الواحد واجبا لها من ذاتها، فهي بسبب و هي معلولة» هذا، مع أن المائز المذكور إن كان واجبا ننقل الكلام إلى مائزه حتى يتسلسل، و إن كان ممكنا فلا يصلح للتمييز؛ اذ نسبة كل ممكن إلى الواجبين على حد سواء، فتأمّل جيدا، مع أن وجود الممكن قبل تشخص الواجب باطل لكونه دوريا، كما لا يخفى.

و الثاني: فاسد، فإنّ حقيقة كلّ منهما ان كانت نقصا يصير كلّ منهما ممكنا؛ لأنّ النقص من لوازم الإمكان و لا يكون الواجب إلاّ كمالا خالصا؛ و إن كانت كمالا و بهاء يلزم خلو كلّ منهما من الكمال؛ لفرض أن كلا منهما فاقد في نفسه حقيقة الآخر، و الخلو من الكمال لا يلائم

ص: 62


1- في العبارة نوع غموض و المراد واضح.

الوجوب؛ لما قلنا من استلزام النقص للإمكان.

و أما الثالث: فضعفه جلي؛ لن التركيب يمتنع في حقّ الواجب كما تقدّم، و بهذا التقرير اندفع شبهة ابن كمونة بل لم يبق لها مجال أصلا، فهذا البرهان مع قلّة مؤونته و وضوح أركانه كثير المعونة جدا، إلاّ أنه متوقّف على استحالة النقص على الواجب و لزوم اتّصافه بكل كمال، و سيأتي بحثها في المقصد الثالث إن شاء اللّه.

ثم ان الكلام في هذا المقام طويل الذيل و سنفصله في المقصد الرابع إن شاء اللّه

8 - في أن الواجب ماهيّته انيّته، بمعنى أنه لا ماهية له سوى الوجود الخاصّ المجرّد عن مقارنة الماهية بخلاف الممكن كالإنسان مثلا، فإنّ له ماهية هو الحيوان الناطق و وجودا و هو كونه في الأعيان، و استدلّوا عليه بوجوه:

الاول: لو لم يكن وجود الواجب عين ذاته يلزم كونه مع بساطته قابلا و فاعلا؛ لأنّ وجوده - لكونه عرضيا لماهيته - يكون معلولا؛ لانّ كلّ عرضي معلول إمّا لمعروضه و إما لغيره، فلو كان معلولا لغيره يلزم إمكانه؛ اذ المعلولية للغير ينافي الواجبية، فإذن الماهية تكون قابلة للوجود من حيث المعروضية، فاعلة له من حيث الاقتضاء، و هذا - أي كون الماهية فاعلة و قابلة - مستلزم للتركيب.

الثاني: لو كان وجوده زائدا عليه لزم تقدّم الشيء بوجوده على وجوده، و بطلانه ضروري.

بيان الملازمة: أن الوجود حينئذ يحتاج إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض، فيكون ممكنا ضرورة احتياجه إلى الغير، فيفتقر إلى علّة هي الماهية لا غير؛ لامتناع افتقار الواجب في وجوده إلى الغير، و كلّ علّة فهي متقدّمة على معلولها بالضرورة، فيكون الماهية متقدّمة على وجودها بوجودها.

أقول: و إن شئت فقل: إن الكلام فيما يكون العلّة فيه علّة للوجود أو الموجود في الخارج، و بديهة العقل حاكمة بوجوب تقدّمها عليه بالوجود، كما أفاده المحقق الطوسي قدّس سرّه، فما تخيِّه الرازي الأشعري من قياس المقام بقابلية الماهية و غيرها مزيّف جدا.

الثالث: لو كان زائدا يلزم إمكان زوال وجود الواجب و هو ضروري الاستحالة؛ و ذلك لأنّ الوجود إذا كان محتاجا إلى غيره كان ممكنا، و كان جائز الزوال نظرا إلى ذاته و إلاّ لكان واجبا لذاته، مستقلا في حقيقته، غير متعلّق بالماهية، و هذا خلف.

الرابع: ما ذكره صاحب التلويحات، و استحسنه صاحب الأسفار، و أوضحه بقوله: إنّه لما كان الوجوب و الامتناع و الإمكان من لوازم الماهيات و الذوات؛ اذ المنظور إليه في تقسيم الشيء إلى الأمور الثلاثة حاله في نفسه مقيسا إلى الوجود، فلو كان المفروض واجبا معنى غير

ص: 63

نفس الوجود، يكون معنى كليا له جزئيات بحسب العقل (فإنّ كلّ ما يفصله الذهن إلى معروض و عارض و هو الوجود كان في مرتبة ذاته مع قطع النظر عن وجوده كليا لا محالة، و كلّ ما له ماهية كلّية فنفس تصوره لا يأبي عن أن يكون له جزئيات غير ما وقع إلاّ لمانع خارج عن نفس ماهيّته).

فتلك الجزئيات إمّا ان يكون جميعها ممتنعة لذاتها، أو واجبة لذاتها، أو ممكنة لذاتها، و الشقوق الثلاثة بأسرها باطلة، اذ الأول ينافي الوجوب و الوجود، و الثاني ينافي العدم فيما لم يقع، و الثالث ينافي الوجوب فيما يفرض واقعا، و بطلان شقوق التالي بأسرها مستلزم لبطلان المقدّم، و هو كون الواجب معنى غير الوجود. فإذن إن كان في الوجود واجب بالذات فليس إلاّ الوجود الصرف المتأكد المتشخّص بنفسه لا يلحقه عموم و لا خصوص. و إن شئت أن تطلع على بطلان ما أورد على هذه الحجّة فلاحظ الأسفار.

الخامس: إنّ الوجود لو كان زائدا على ماهية الواجب لزم وقوعه تحت مقولة الجوهر، فيحتاج إلى فصل مقوّم فيتركب ذاته، و هو محال.

السادس: كلّ ما صح على الفرد صحّ على الطبيعة من حيث هي؛ لأنّ اللابشرط و لا سيما المقسمي عين الفرد، فصحّة شيء على الفرد عين الصحّة على الطبيعة، و كلّ ما امتنع على الطبيعة امتنع على أفرادها، و لما لزم قول الإمكان على بعض الجواهر ضرورة صحّ وقوع الإمكان على مقولتها لذاتها، فلو دخل واجب الوجود تحت مقولة الجوهر للزم فيه جهة إمكانية باعتبار الجنس، فلا يكون واجب الوجود بالذات، و هذا خلف، فكل ما له ماهية زائدة على الوجود فهو إمّا جوهر أو عرض، فلا يكون للواجب ماهية كذلك.

نقلت هذه الوجوه الستة بتغيير عما في الاسفار(1).

السابع: لو كان للواجب تعالى ماهية سوى الوجود - ولو كانت ماهية بسيطة نوعية - لكان زوجا تركيبيا، و التالي باطل، فالمقدم مثله. بيان الملازمة: أن الواجب حينئذ مجموع الماهية و الوجود لا الماهية فقط؛ اذ المراد بها ما هي مقابلة للوجود، فليست من حيث هي إلاّ هي، فلا يمكن كونها بلا وجود حقيقة الواجب تعالى و هو ظاهر، و لا من حيث كونها ملزومة الوجود بحيث يكون الوجود خارجا، و الحقيقة نفس الماهية اللاموجودة و اللامعدومة، بل مجموع الماهية و الوجود حقيقته تعالى، و هذا لا يرتفع بجعل أحدهما لازما و الآخر ملزوما، كما أن التركيب لا يسلب عن الممكن بجعل الوجود عارضا و الماهية معروضة أو بالعكس.

الثامن: لو كان له ماهية لم يكن محيطا بكل التعينات؛ لان خصوصية أيّة ماهية كانت، لا

ص: 64


1- الأسفار 96/1-108.

تجامع خصوصيات الماهيات الأخر، فلا بد ان يكون هو تعالى وجودا يجامع كلّ التعينات و ينبسط على كلّ الماهيّات.

التاسع: لو كان له ماهية لزم إمكان تعقّله للبشر، و اللازم باطل عقلا و اتّفاقا، فالمزوم مثله.

بيان الملازمة: أن سنخ الماهية ممكن التعقل و إلا كتناه أينما تحقّقت كما اشتهر أنّ التعريف للماهية و بالماهية، ولو لم تعقل بالفعل فلا أقلّ من إمكان التعقّل، كما أن ماهية الإنسان ممكنة التعقّل و إن لم يعقلها العامّي بالفعل. ولو فرض أن الممكن لم يكن له ماهية لم يمكن تعقّله أيضا؛ اذ وجوده الخارجي لا يحصل في الذهن و إلا لانقلب.

ذكر هذه الوجوه الثلاثة الحكيم السبزواري في حاشيته على الاسفار(1) في هذا المقام، و له وجه رابع قرّره في حاشيته على إلهيات الأسفار، لكن لم نر لزوما لنقله.

العاشر: لو كان وجوده زائدا عليه حتى يكون ألفا موجودا مثلا، لم يكن في حدّ ذاته مع قطع النظر عن العارض موجودا و لا معدوما كما حقّق في مبحث الماهية، و كلّما كان كذلك فهو ممكن؛ لان اتّصافه بالوجود إمّا بسبب ذاته و هو محال؛ إذ الشيء ما لم يوجد لم يوجد، فيلزم تقدّمه بالوجود على نفسه و هذا خلف؛ و إما بسبب غيره فيكون معلولا فلا يكون واجبا بل ممكنا.

نقله في إلهيات الأسفار و ربّما يقرر(2) بأن اتّصاف الشيء بالوجود لا بد له من علّة بها يصير متصفا بالوجود، فتلك العلّة إمّا ذات الشيء أو غيرها، و على الأول يلزم تقدّم الشيء على الوجود بالوجود؛ ضرورة تقدّم المحتاج إليه على المحتاج بالوجود، فيلزم التسلسل أو تقدّم الشيء على نفسه. و على الثاني يلزم إمكان الواجب و هو واضح.

الحادي عشر: لو كان الوجود زائدا لكان ذاته فاقدا في ذاته للوجود خاليا عنه، فلم يكن موجوديته نظرا إلى ذاته بذاته بل يحتاج موجوديته إلى غير الذي هو وجوده، فيلزم امكانه(3).

الثاني عشر: إنه لو كان للواجب ماهية و وجود، فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركّبه ولو بحسب العقل، و إن كان أحدهما لزم احتياجه؛ ضرورة احتياج الماهية في تحقّقها إلى الوجود و احتياج الوجود لعروضه إلى الماهية. نقله القوشجي في شرحه على التجريد(4).

ص: 65


1- الأسفار 106/1-107.
2- كما نقله في الشوارق 99/1.
3- ذكره بعض محشي الشوارق 99/1.
4- شرح التجريد/ 57.

تحليل و تنقيد

و هذه هي الوجوه التي استدلّوا بها على المدعى، و قبل التفتيش فيها لا بد من ارجاع النظر إلى اصل الدعوى؛ لتحليلها و تصويرها بصورة معقولة، فإنّ المسألة نفسها مجملة محجوبة. فها هنا موقفان:

الموقف الأول: في تحليل نفس المدعى، و أنّه ما هو مقصودهم من نفي الماهية عنه تعالى و أنها عين وجوده؟

فنقول: إنّ كل ممكن زوج تركيبي له ماهية و وجود، أحدهما تأصلي و الآخر اعتباري انتزاعي، و لا يصح تأصّلهما معا؛ لما ذكره السبزواري في أوائل شرح منظومته و حاشيتها، و اختلفوا فيي الأصيل منهما فذهب بعضهم إلى أنّه الماهية و المنتزع هو الوجود، فالمجعول بالذات هو الماهية نفسها، و الوجود ينتزع من تحقّقها خارجا؛ و ذهب الآخرون إلى أنه الوجود، و الماهية هي المنتزعة من حدود الوجود، و قد استقرّ عليه المذهب من زمن صاحب الأسفار.

بيان ذلك: أنه لا خلاف يعتد به بين المشّائين و أهل الإشراق و غيرهم من المحقّقين في أن الكلّي الطبيعي المعبر عنه بالماهية في السنة الحكماء - أي المقسم للمطلقة و المجرّدة و المخلوطة - موجود، إلاّ أن الخلاف في أنه بعد جعل الجاعل موجود بالأصالة و الوجود واسطة في الثبوت، أو موجود بالعرض و الوجود واسطة في العروض.

و الأول هو معنى أصالة الماهية، و الثاني هو معنى أصالة الوجود. و المراد من الواسطة بالعروض هو قسم خاصّ منها و هو ما لا تحصل للمعروض بدون الواسطة، كما صرّح به السبزواري في حاشية الأسفار(1). إذا تقرر ذلك فيتّضح لك معنى مسألتنا المبحوث عنها، و أنه يختلف باختلاف القولين المتقدّمين.

أمّا على القول بأصالة الماهية فاليك - في تفسير مقصود المسألة - تعبير الدواني الذي هو من المصرّين على أصالتها قال: هذا المعنى العام المشترك فيه (يعني به مفهوم الوجود) من المعقولات الثانية و هو ليس عينا بشيء منها حقيقة، نعم مصداق حمله على الواجب ذاته بذاته و مصداق حمله على غيره ذاته من حيث هو مجعول الغير، فالمحمول في الجميع زائد بحسب الذهن إلاّ أن ال. مر الذي هو مبدأ انتزاع المحمول في الممكنات ذاتها من حيثية مكتسبة من الفاعل، و في الواجب ذاته بذاته فانه وجود قائم بذاته، فهو في ذاته بحيث اذا لاحظه العقل انتزع

ص: 66


1- الأسفار 38/1.

منه الوجود المطلق بخلاف غيره(1) انتهى.

و هذا هو ظاهر المحقّق اللاهجي أيضا في «گوهر مراد».

و أمّا على القول بأصالة الوجود فإليك تقرير صاحب الأسفار الذي هو كالمؤسس لهذا القول - أي اصالة الوجود - قال: فقولهم: إن الوجود زائد في الممكن عين في الواجب، معناه أن ذات الممكن و هويّته ليست بحيث إذا قطع النظر عن موجده و مقوّمه يكون موجودا و واقع في الأعيان؛ لان الهويات المعلولية - كما مرّ - فاقرات الذوات إلى وجود جاعلها و موجدها، فوجود الممكن حصل بالجعل البسيط، فوجود الجاعل مقوّم للوجود المجعول، فلو قطع النظر إلى وجوده عن وجود جاعله لم يكن وجوده متحققا - كما علمت - بخلاف الواجب جلّ ذكره، فإنّه موجود بذاته لا بغيره، فالممكن لا يتمّ له وجود إلاّ بالواجب، فوجود الواجب تمام لوجود غيره و هو غني الذات عن وجود ما سواه، فثبت أن الوجود زائد في الممكن عين في الواجب، تأمّل فيه فإنّه حقيق بالتدقيق(2) انتهى. و قد ذكره في مبحث عموم علمه تعالى أيضا.

و قال في الشوارق: إنّ هذا المعنى - هو مراد الحكماء و هو المطابق للبرهان(3).

أقول: فعلى هذا تصبح المسألة - على رغم اهتمام الباحثين بها - لغوا لا اثر لها؛ اذ معنى الواجب الوجود هو أن لا يكون له حيثية تعليلية، و أنّ ذاته بذاته مصداق لحمل الوجود الاعتباري عليه بلا جهة مكتسبة من الغير، أو أن وجوده قائم بنفسه لا بغيره، فليس في هذه المسألة شيء زائد يكون خاصة للواجب بل مفادها تشريح مفهوم الواجب فقط، فتأمّل.

فإن قال قائل: إن الأدلة القائمة على وجود الواجب تنفي الواسطة في الثبوت و لا تتكفل بإبطال الواسطة بالعروض، بل هو من ثمرة هذه المسألة.

نقول له: أمّا على القول بأنّه تعالى ماهيّة مخالفة لسائر الماهيّات فلا مسرح لهذا الكلام، فإن الأدلة المذكورة إذا أبطلت الواسطة في الثبوت تبطل الواسطة في العروض أيضا كما هو غير خفي على من أمعن النظر.

و أما على القول بأنه وجود بحت قائم بنفسه فالأدلة المزبورة و إن لم تكن كافية لنفي الواسطة في العروض؛ لاحتمال أن يكون لوجوده ماهية موجودة - كما في الممكن - و يحمل الوجود عليها بالواسطة في العروض، إلاّ أن نفيها غير لازم. فإذا قيل: إنّ الواجب حقيقته وجود بحت لا علّة له و لا واسطة في العروض له، و لكن له ماهية اعتبارية تنتزع من وجوده و هي

ص: 67


1- نقله في الأسفار 11/2.
2- الأسفار 11/2.
3- الشوارق/ 105، فبين كلامه هذا و ما ذكره في گوهر مراد/ 144 تغاير.

موجودة بسبب وجوده، لا محذور فيه، فتأمل جيدا.

الموقف الثاني: في صحة تلك الوجوه و سقمها

فنقول: أمّا الوجه الأول فيزيّف بمنع استلزام كونه فاعلا و قابلا تركبه، كما أشرنا إليه فيما مرّ و حقّ الجواب أنه لا علّية في المقام؛ إذ الوجود - بناء على أصالة الماهية - ليس أمرا متحقّقا و متأصّلا بل مفهوم انتزاعي على الفرض فلا يقع معلولا كما هو ظاهر جدا.

و أمّا بناء على أصالته فالماهية شيء اعتباري، فلا معنى لتأثّرها من الوجود تأثر المسبّب من سببه. و لعمري إنّ حديث العلّية في المقام ظاهر البطلان، و منه ينبثق ضعف الوجه الثاني أيضا لابتنائه على تخيّل السببية.

و أما الوجه الثالث فيفسده أنّ إمكان الوجود الذاتي لا يستلزم إمكان زواله عن الماهية؛ لاحتمال وجوبه لها كالزوجية للاربعة. و بعبارة صناعية: أن الإمكان الذاتي لشيء لا ينافي وجوبه الذاتي على نحو مفاد «كان الناقصة».

و أمّا الوجه الرابع فهو متين؛ تصويبا لنظر الحكيم الشيرازي و الشيخ السهروردي، إلاّ أن مفاده أنّ حقيقة الواجب هو الوجود لا الماهلية، فالباحث و إن قال بأصالة الماهية في الممكن، لكن لا بد له من القول بأصالة الوجود في الواجب من جهة هذا الدليل.

و أمّا نفي الماهية المنتزعة عن الوجود الخاصّ الخارجي - كما هو محلّ الكلام - فلا نظارة للدليل اليه، فتأمّل.

امّا الوجه الخامس فهو ممنوع بما لا يخفى على أهله، و يلحق به الوجه السادس أيضا.

و أما السابع فضعفه لائح لمنع لزوم التركّب فيه؛ اذ حقيقة الواجب هو الوجود الخاص فقط أو الماهية فقط؛ إذ كلّ منهما - على القول بأصالة الآخرة - أمر اعتباري محض، فلا موضوع للتركّب أبدا.

و أمّا الثامن فهو ساقط، فإنّه إن أريد من الإحاطة الإحاطة من حيثية القدرة و العلم و الفيض و نحوها فالملازمة ممنوعة، و سند المنع واضح؛ و إن أريد منها ما يتضمّنه قاعدة: إن بسيط الحقيقة كلّ الاشياء، فالتالي غير باطل بل سيأتي - في محلّه - أن القاعدة المذكورة باطلة ولو على القول بأصالة الوجود. نعم إنّ اللّه داخل في الأشياء لكن لا كدخول شيء في شيء، كما أنه خارج منها لكن لا كخروج شيء من شيء، و تفصيل الكلام في غير المقام.

و أمّا التاسع فلا يتّسع؛ إذ الماهية و إن كانت - بسنخها - قابلة للاكتناه به، إلاّ انه ما لم يمنع عنه مانع كما في المقام؛ إذ عدم تناهيها يبطل إمكان تعقّلها اكتناها للمدرك المحدود. نعم لو التزمنا بوجود ممكن غير محدود فنلتزم بإمكان تعقّلها له.

ص: 68

و أمّا العاشر فغير نافع؛ إذ بناء على أصالة الماهية يكون الوجود ينتزع عنها، و هي منشأ لانتزاعه، فكيف لا تكون موجودة في نفسها و إن منع من إطلاق لفظ الموجود؟ فنقول: أنها بنفسها متحقّقة واجبة الصدق خارجا فأني يلزم إمكانها؟ و أمّا التقرير الثاني ففيه: إنّ اتّصاف الماهية بالوجود لا يحتاج إلى علّة؛ اذ هو ذاتي لها، و نعني بالذاتي الذاتي في كتاب البرهان.

و ملخّص الكلام أنّ الوجود ضروري الثبوت للماهية فهو من لوازمها، و قد تقرّر أن الجعل لا يتعلّق باللوازم استقلالا، بل يتعلّق بها بتبع الجعل المتعلّق بالملزومات، و إذا كان الملزوم غير قابل للجعل - كما في المقام - فلا يكون اللازم أيضا مجعولا لا مستقلا و لا تبعا، فمرادنا من ضرورية الوجود للماهية ليس هو الوجوب الغيري كما زعمه المحقّق اللاهجي، بل الوجوب الذاتي بنحو مفاد «كان الناقصة» و مثل هذه الضرورة لا تنافي الامكان، بل المنافي له هو الضرورة بنحو مفاد «كان التامّة» و هذا واضح. و بهذا البيان ينهدم ما أورده المحقّق المذكور في شوارقه(1) و الدواني في حواشيه على شرح القوشجي فتأمّل.

و أمّا الوجه الحادي عشر فيفسده ما أفسد الوجه العاشر، و لا ينكره الا القاصر.

و أمّا الوجه الأخير فلا خير فيه عند الخبير بما تقدّم من النظير و اللّه الهادي.

و يمكن أن يفسّر قولهم: إنّ ماهيّته إنيّته و إن للمكن ماهيّة انتزاعية من وجوده بأن لا حدّ للواجب بخلاف الممكن فإنه محدود؛ و ذلك لأنّ الماهية تنتزع من حدود الوجود فما له ماهيّة يكون ذا حدّ و تناه، و ما ليس له ماهيّة لاحد له و لا نهاية له، قال الحكيم الشيرازي في بعض كلماته: و الوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور و درجة من النزول ينشأ منها الماهية و ينتزع بحسبها المعاني الإمكانية...(2) الخ فتأمّل جيدا.

و نختم المقام بجملة من رواية هشام بن الحكم المروية في الكافي و هي قول السائل للصادق عليه السّلام: فله (أي اللّه تعالى) انية و مائية؟ قال عليه السّلام: نعم لا يثبت الشيء إلاّ بانية و مائية...(3)

الخ و للشرّاح حولها كلمات يراجع اليها طالبها و اللّه الهادي.

و أمّا ما نقل عن جمهور المتكلّمين(4) من أن الوجود عرض قائم بالماهية في الواجب و الممكن جميعا قيام الاعراض ففيه منع جدا.

ص: 69


1- الشوارق 100/1.
2- الأسفار 187/1.
3- الكافي 84/1.
4- الأسفار 249/1.

الفائدة العاشرة في خواصّ الممكن

الخاصة الأوّلى: عدم اقتضائه الوجود و العدم

اشارة

فنقول: الممكن - على ما خرج من التقسيم الثلاثي المتقدّم - هو ما لا ضرورة لوجوده و عدمه بلحاظ نفسه، قبال الواجب لذاته و الممتنع لذاته، فإذن يحتمل أن يكون الممكن موجودا أو معدوما بنفسه، لكن لا بنحو الضرورة بل بالأولوية غير البالغة حدّ الضرورة، و هذه الألوية راجعة إمّا إلى اقتضاء ذات الممكن كما في تقرير المشهور، أو إلى نفس أحد الطرفين بأن يكون الوجود أو العدم أليق و أولى بذات الممكن، كما في تقريب السيد الداماد قدّس سرّه(1) فينسدّ باب إثبات الصانع حينئذ، فلا بدّ من إقامة الدليل على إبطال هذه الأولوية.

ثم إنّ الأولوية المتصوّرة على أقسام أربعة: الأولوية الذاتية الكافية، و الأولوية الذاتية غير الكافية، و الأولوية الغيرية الكافية، و الأولوية الغيرية غير الكافية. و البحث هنا يتشعبّ إلى شعبتين:

الشعبة الأولى: في الأولوية الذاتية و فيها أقوال:

القول الأول: إنّ وجود الممكن و عدمه بالنظر إلى ذاته على السواء و لا أولوية لأحدهما على الآخر، فيكون متساوي الطرفين. نقله في الشوارق عن الجمهور.(2)

القول الثاني: إن العدم أولى به؛ لأنه أسهل وقوعا، فإن الوجود يتحقّق بعد تحقق جميع أجزاء علّته التامّة بخلاف العدم؛ اذ يكفيه انتفاء جزء من العلّة.

القول الثالث: إنّ وجود بعض الممكنات أولى من عدمه بالنظر إلى ذاته، لا على وجه يخرج عن حيّز الافتقار إلى الغير و يسدّ به إثبات الصانع، بل على وجه يستدعي أكثرية وقوع وجوده بإيجاب العلّة و إفاضة الجاعل، و بعض الممكنات بالعكس ممّا ذكر.

ص: 70


1- الشوارق 84/1.
2- الشوارق 82/1.

أقول: المراد بالأولى الوجودات القارة، و بالثانية الوجودات السيالة غير القارة بتوهّم أن العدم أولى بهذه الوجودات - كالأصوات و الحركات و الأزمنة - و إلاّ لجاز بقاؤها مع أنّه غير جائز و إذا جازت الأولوية في جانب العدم فليكن جوازها في جانب الوجود - كما في الوجود القارّ - أولى.

القول الرابع: تخصيص هذه الأولوية في طرف العدم فقط بالقياس إلى طائفة من الممكنات بخصوصها، أي السيالة غير القارة.

نقلت هذه الاقوال الثلاثة الشاذة عن الفلاسفة.

أقول: أمّا القول الثاني فهو أجنبي عن المقام؛ اذ السهولة في علّة العدم لا في نفسه، فهذه الأولوية إنّما هي بالنظر إلى الغير لا بالنظر إلى ذات الممكن.

و أمّا القول الثالث فيفسده أنّ الوجود غير البقاء، بل لا يلزمه، فعدم البقاء لا يسبب أولوية العدم بالنسبة إلى الماهية. و بوجه آخر: ان التصرّم و البقاء من خصوصيات الوجود أو الماهية و لا صلة لهما بأولوية أحد الطرفين بها، و أولوية الماهية بأحدهما كما لا يخفى. و ان شئت فقل:

إنّهما راجعان إلى الإمكان الاستعدادي دون الإمكان الذاتي. و منه ينقدح بطلان القول الرابع أيضا.

و أمّا القول الأول فله دلائل:

1 - ما ذكره القوشجي في شرحه على التجريد(1) من أنه من ذلك الرجحان، لو لم يجز وقوع الطرف المرجوح نظرا إلى ذات الممكن لم يكن ممكنا ما فرضناه ممكنا، ولو جاز وقوعه نظرا إلى ذاته لجاز رجحانه على الطرف الراجح نظرا إلى ذاته؛ إذ لا يتصوّر الوقوع بدون الرجحان، لكنه لا يجوز؛ لمنافاته مقتضى ذات الممكن و هو رجحان، الطرف الراجح.

و يمكن الخدش فيه بأنّه مبني على أن الذات تقتضي الأولوية وجوبا، و أمّا إذا قيل بأنّ اقتضاءها لها أيضا على نحو الأولوية فيرتفع المنافاة المذكورة.

2 - ما ذكره الرازي و استحسنه غيره(2) من أن ما يقتضي رجحان طرف فهو بعينه يقتضي مرجوحية الطرف الآخر للتضايف الواقع بينهما، و مرجوحية الطرف الآخر يستلزم امتناعه لاستحالة ترجيح المرجوح، و امتناعه يستلزم وجوب الطرف الراجح، فتصبح الأولوية وجوبا، و هو خلف. و اختاره الدواني أيضا(3).

ص: 71


1- شرح التجريد/ 43.
2- نقله في الأسفار 202/1.
3- شرح القوشجي (الحاشية) / 43.

و ردّه صاحب الأسفار بأنّه إذا كان اقتضاء رجحان طرف بعينه لعى سبيل الأولوية، كان استدعاء مرجوحية الطرف المقابل أيضا على سبيل الاولوية لمكان التضايف، و المرجوحية المستلزمة لامتناع الوقوع إنّما هي المرجوحية الوجوبية لا ما هي على سبيل الأولوية، فلا خلف.

ولو سلمنا ذلك فمن المستبين أن مرجوحية الطرف المرجوح إنّما يستدعي امتناعه بالنظر إلى الذات مع تقييدها بتلك المرجوحية، أعني الذات المحيّثة بالحيثية المذكورة لا الذات بما هي هي، و هذا امتناع وصفي، فيكون بالغير و لا يستدعي إلاّ وجوب الطرف الراجح كذلك، أي بالغير لا بالذات، فليس فيه خرق الفرض. و الامتناع بالوصف الذي هو ممكن الانفكاك يكون ممكن الانفاك، فكيف ظنّك بالوجوب الذي بازاء هذا الامتناع؟

3 - ما قيل(1) من أن الطرف الآخر ان امتنع بسبب تلك الأولوية كان هذا الطرف الأولى لذاته واجب الوجود أو العدم، و هذا خلف و إن لم يمتنع، فإمّا أن يقع بلا علّة فهو محال، و إمّا أن يقع بعلّة فثبوت الأولوية للطرف الأولى به يتوقّف على عدم تلك العلّة التي للطرف الآخر؛ إذ معها يكون الراجح هو الطرف الآخر بالضرورة، و عليه فلا تكون تلك الأولوية لذات الممكن وحده، بل مع انضمام ذلك العدم إليه، و هذا خلاف المفروض.

أقول: و يرد على الشقّ الأول من الترديد أن الامتناع المذكور وصفى كما عرفت آنفا، و على الثاني منه أن الأولوية المذكورة كما تقتضي وجود الطرف الأولى، كذلك تقتضي مرجوحية سبب الطرف الآخر، فتكون الأولوية لذات الممكن وحده و لا تتوقّف على شيء آخر فإنها توجب العدم المذكور فكيف يفرض توقّفها عليه؟ فتأمل.

4 - ما نقل القوشجي(2) من أنه لو تحقّق أولوية أحد الطرفين لذاته فإن لم يمكن طريان الطرف الآخر كان ذلك الطرف ممتنع فيكون الطرف الراجح واجبا و قد فرضناه ممكنا، و إن أمكن طريان الطرف الآخر فإما لا بسبب فيلزم ترجح المرجوح و هو محال، أو بسبب، فإن لم يصر ذلك الطرف أولى به لم يكن السبب سببا، و إن صار يلزم مرجوحية الطرف الأولى لذاته فيزول ما بالذات و هو ممتنع.

أقول: و برد عليه ما أوردناه على الوجه الأول.

هذا و لكن التحقيق أن المسألة غير محتاجة إلى مزيد العناية و كثير الرعاية؛ لأنّها إمّا ضرورية أو قريبة من الضروري؛ اذ الوجود إن كان عين الذات أو جزءها كان الموجود واجبا،

ص: 72


1- شرح المواقف 417/1.
2- شرح التجريد/ 43.

و إن كان زائدا عليها - كما هو المفروض - لم يعقل اقتضاء أولوية أحد الطرفين لها اصلا، فإنّ الذات المذكورة قبل وجودها أو جعل جاعلها أمر اعتباري محض، فالقول باقتضائها الوجود ملازم للالتزام بتأثير المعدوم في الوجود، و هذا واضح البطلان و ضروري الفساد، و لا فرق في ذلك بين كون الاقتضاء بنحو الوجوب أو الأولوية. و إلى ما ذكرنا ينظر كلام الأسفار حيث قال:

فأمّا تجويز كون نفس الشيء مكوّن نفسه و مقرّر ذاته مع بطلانه الذاتي فلا يتصوّر من البشر تجشم ذلك ما لم يكن مريض النفس...(1) الخ.

و قال أيضا: ثم مع عزل النظر عن استحالة الأولوية يقال: لو كفت في صيرورة الماهية موجودة يلزم كون الشيء الواحد مفيدا لوجود نفسه و مستفيدا عنه، فيلزم تقدّمه بوجوده على وجوده(2) انتهي.

أقول: و من هنا لم يلتزم بالأولوية الكافية أحد من العقلاء، و من قال بالأولوية فإنّما قال بغير الكافية منها، هذا مع أنا لو فرضنا صحّة الأولوية الكافية - بفرض المحال - لكان باب اثبات الواجب الوجود مفتوحا غير مسدود كما سيأتي في محلّه، نعم ينسدّ به باب إثبات الصانع و هذا ظاهر.

ثم لا فرق فيما ذكرنا من بطلان الاقتضاء للذات الاعتبارية الصرفة، بين كون الأولوية كافية أو غير كافية كما لا يخفى، و إن كان نفي الثانية مستصعبا عند قوم من الباحثين. و أمّا الأولوية بالمعنى المنقول عن السيد الداماد قدّس سرّه فهي أيضا ظاهرة البطلان على كلّ من اصالة الوجود و اصالة الماهية كما يظهر وجهه بالتأمّل.

الشعبة الثانية: في الأولوية الغيرية و فيها أيضا أقوال:

الاول: أولوية الوجود عند وجود المقتضي و انتفاء الشرط، و أولوية العدم في صورة فقدان المؤثّر و تحقّق الشرط(3).

الثاني: أولوية ما هو الواقع خارجا من الوجود أو العدم، نسبها في الأسفار(4) إلى طائفة من أهل الكلام؛ لمنعهم تحقّق الوجوب فيما سوى الواجب و إن كان بالغير، و في موضع آخر منها إلى

ص: 73


1- الأسفار 200/1.
2- الأسفار 202/1.
3- شرح المواقف 417/1.
4- الأسفار 204/1.

أكثر المتكلمين(1).

الثالث: التفصيل بين الأفعال الاختيارية و غيرها، فالأولى تصدر عن غير وجوب سابق، و الثانية لا تتحقّق ما لم تجب كذلك. و الظاهر أن هذا مذهب جماعة من العلماء، و هو مختار سيدنا الأستاذ العلامة الخوئي - دام ظله - و كان يصرّ عليه في مجلس درسه الشريف (خرج أصول الفقه).

ثم إن بعض الكلاميين أنكروا الأولوية أيضا كما قيل، بل نسبه العلامة الحلي قدّس سرّه(2) إلى أكثر المعتزلة و الأشاعرة متمثّلين بالهارب الواصل إلى طريقين متساويين، فإنه يسلك أحدهما لا محالة من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.

بل يظهر من الاسفار أن بعض المتكلّمين أنكر الوجوب اللاحق أيضا، و هو الضرورة بشرط المحمول، لكنه بعيد فان العقل بإدراكه البدوي يجزم بالوجوب المذكور.

الرابع: إنّ ما لم يجب وجوده لم يوجد، و ما لم يمتنع عدمه لم ينعدم و لا تكفي الأولوية في ترجيح أحد طرفي الممكن أصلا. ذهب إليه الفلاسفة و جمع من المتكلّمين. بل نسبه المحقق الطوسي رحمه اللّه إلى محققيهم، و نقل إنكاره عن بعض القدماء.(3)

و استدلّوا عليه بأنا إذا فرضنا هذه الأولوية متحقّقة ثابتة، فإمّا ان يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية، أو لا يمكن، و الثاني يقتضي أن تكون الأولوية وجوبا، و الأول يلزم منه المحال و هو ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجح؛ لأنا إذا فرضنا الأولوية ثابتة يمكن معها وجود الطرف الراجح و المرجوح، فتخصيص أحد الطرفين بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجّح و هو محال. و لهذه الحجّة تقريبات كلّها متّحدة المعنى لكنها عندي مزيّفة، فإن الأولوية و إن لا تنفي إمكان المقابل، إلا أنها تكفي لوقوع متعلّقها على الفرض، و لا ملازمة بين الأمرين كما زعموها، فافهم.

الثاني: ما استدلّ به الحكيم السبزواري بقوله:(4) الاولوية ماهية من الماهيات، فهي مستوية النسبة إلى الووقع و اللاوقوع، فوقوعها و لا وقوعها جائز.

أقول: و فيه نظر.

الثالث: ما استدلّ به هو أيضا من أن الأولوية لو لم تكن مستوية بل متعلّقة بأحد الطرفين

ص: 74


1- الأسفار 222/1.
2- شرح قواعد العقائد/ 42.
3- شرح قواعد العقائد/ 40.
4- الأسفار (الحاشية) 222/1.

جاء لزوم التعلّق و وجوبه، و الفرض أنه لا وجوب. و فيه أيضا نظر.

الرابع: ما في شرح المواقف(1) من أن الوجود إذا صار بسبب تلك العلّة أولى بلا وجوب، و كان ذلك كافيا في وقوعه، فلنفرض مع تلك الأولوية الوجود في وقت و العدم في وقت آخر، فإن لم يكن اختصاص أحد الوقتين بالوجود لمرجّح لم يوجد في الآخر، لزم ترجح أحد المتساويين بلا سبب، و إن كان لمرجّح لم تكن الأولوية الشاملة للوقتين كافية للووقع. و المقدر خلافه.

أقول: الأولوية مرجّحة للوجود، فالعدم لا بدّ له من مخصّص، فتأمل.

الخامس: ما فيه أيضا، من أن الأولوية لا تنشأ إلاّ من العلّة التامة؛ لأنه متى فقد جزء من أجزائها كان العدم أولى، فإذا فرض أن اختصاص أحد الوقتين لمرجّح لم يوجد في الآخر لم تكن العلّة التامّة علّة تامّة، فقد ثبت أن الأولوية وحدها غير كافية. و فيه بحث.

هذا ما وجدناه من أدلّتهم، و الصحيح عندي أن الآثار الصادرة من العلل الموجبة و الأفعال الاختيارية التوليدية ممّا لا بد من وجوبها قبل وجودها، فما لم يجب شيء منها لم يوجد. و أمّا الافعال الاختيارية المباشرية ففيها إشكال سندرسه في مسألة الجبر و التفويض.

ثم إنّ الموجود من الممكن مع لحاظ وجوده واجب بالضرورة. و هذا هو الوجوب بشرط المحمول المسمى بالوجوب اللاحق، و هذا ممّا لا شكّ في تحقّقه. و هكذا الكلام في المعدوم من الممكن، فانه مع لحاظ عدمه ممتنع.

فالنتيجة: أنّ كلّ ممكن موجود محفوف بالوجوبين، و كلّ ممكن معدوم محفوف بالامتناعين. هذا مع بقاء الماهية الإمكانية على ما هي عليه من الإمكان الذاتي، غير أن في الوجوب السابق للفعل المباشري كلاما أشرنا إليه آنفا، بل الوجوب اللاحق يجري في الواجب أيضا، كما يقال: اللّه العالم عالم بالضرورة اللّه الموجود موجود بالضرورة، و هكذا. كما أن الامتناع اللاحق يجري في الممتنع الذاتي أيضا.

الخاصّة الثانية: حاجة الممكن

و فيها بيان ملاكها: أقول: بعد ما تقرّر أن الممكن لا يقتضي الوجود و لا العدم، و أنهما بالنسبة إليه متساويان، فقد اصبح احتياج الممكن في وجوده إلى العلّة ضروريا لا يقبل الترديد.

و الخفاء الطاري عليه في بدء النظر إنّما هو لعدم تصوّر الممكن كما هو حقّه، و عدم وضوح مفهومه، و إلاّ فالتصديق في نفسه ضروري على حدّ التصديق بأنّ الكل أعظم من الجزء. و هذا

ص: 75


1- شرح المواقف 419/1.

ممّا لا ينبغي أن يتكلّم فيه أكثر من ذلك، و انما المهم معرفة علّة هذه الحاجة، فإنّ الباحثين قد اختلفوا فيها على أقوال:

فمنها: أنها الامكان. و هو مذهب الحكماء و المحقّقين من متأخّري المتكلّمين، كما في الشوارق(1).

و منها: أنها الحدوث. نسبه في المواقف إلى المتكلّمين(2). و قيل: انه مذهب جماعة منهم.

و منها: أنها الامكان و الحدوث مركبا. نقل عن بعض المتكلّمين.

و منها: أنها الامكان بشرط الحدوث. حكي أيضا عن بعضهم.

و منها: أنها الوجود. قال به بعض الفلاسفة الماركسية(3).

استدلّوا على الأول بأن العقل إذا لحظ كون الشيء بحيث يتساوى طرفا وجوده و عدمه بالنظر إلى ذاته حكم بإنّه لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلاّ لمرجّح، سواء لاحظ الحدوث في هذه الحالة أو لم يلاحظه. فالعلم بإمكان شيء لما استلزم العلم بافتقاره دلّ على أنّ الإمكان هو العلّة للافتقار في نفس الأمر دون الحدوث؛ اذ يمكن تصوّر الحدوث بلا استلزامه حصول العلم بافتقار الشيء الحادث إلى علّته ما لم يلحظ امكانه، حتى لو فرض حادث واجب بالذات - فرض محال - يحكم باستغنائه عن المؤثر كما قيل، و العمدة في نفي علّية الحدوث للحاجة - ولو بنحو الشرطية - أن الحدوث كيفية للوجود؛ لأنّه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم، فيتأخّر عن الوجود المتأخّر عن الايجاد المتأخّر عن الحاجة المتأخّرة عن الامكان. فلو كان الحدوث هو علّة الحاجة لكان سابقا على نفسه بدرجات و هو محال.

و توهّم صاحب المواقف(4) أن هذا الدليل مغالطة ناشئة من اشتباه الأمور الذهنية بالخارجية؛ لان القائلين بعلّية الحدوث لا يريدون إلاّ ان حكم العقل بالحاجة لملاحظة الحدوث وحده أو مع الامكان، لا أنّ الحدوث علّة في الخارج للحاجة، فيوجد فتوحد الحاجة؛ لأنّ الحدوث و الحاجة أمران اعتباريان، فكيف يتصوّر كون أحدهما علّة للاخر في الخارج حتى يرد عليه ما اورد؟

لكن خفي عليه أنّهما و إن لم يكونا بخارجيين إلاّ أنهما من الأمور الموجودة في نفس

ص: 76


1- الشوارق 80/1.
2- شرح المواقف 412/1.
3- فلسفتنا/ 300.
4- شرح المواقف 414/1.

الأمر؛ إذ لا شك أن الممكن متّصف في نفس الأمر بالحاجة، و هذا الاتّصاف محتاج إلى علّة في نفس الأمر، فهي إن كانت الامكان فهو، و ان كانت الحدوث فجاء فيه المحذور المذكور. و أمّا كونه علّة للتصديق بالحاجة فقط فهو خارج عن محلّ الكلام، فإنّ البحث في العلّة في نفس الأمر لا في مقام الاثبات.

فإن قيل: الإمكان - أيضا لكونه كيفية النسبة بين الماهية و الوجود - متأخّر عن الوجود، فلا يكون علّة للافتقار المتقدّم عليه بمراتب.

فيقال: الإمكان إنّما هو كيفية النسبة بين الماهية و مفهوم الوجود من حيث هو متصوّر لا بين الماهية و الوجود الحاصل لها؛ و لهذا توصف الماهية بالإمكان قبل اتّصافها بالوجود بخلاف الحدوث، فإنّه مسبوقية الوجود الحاصل للماهية بالعدم؛ فلا شك في تأخره عن الإيجاد.

و الانصاف أن الحكم بعلّية الإمكان للافتقار ضروري أو قريب منه جدا، فإنّ الإمكان هو تساوي الطرفين، بمعنى عدم اقتضاء الممكن شيئا منهما في نفسه كما مرّ، و هذا المعنى يعطي حاجته إلى المرجّح في أحد الطرفين بالضرورة، و لا نعني بالعلّية إلاّ هذا المعنى. و إن شئت فقل:

كما أن الغناء معلول للوجوب و الامتناع بلا مدخلية القدم فيهما، فكذا الافتقار و عدم الغناء معلول لعدم الوجوب و الامتناع - و هو الإمكان - بلا مشاركة الحدوث أصلا.

نقل و ابطال إن الذين قالوا بعلّية الحدوث للحجة زعموا أن الممكن متساوي الطرفين، فلا حاجة له إلاّ مع اعتبار حدوثه خرجا، فما لم يلحظه العقل موصوفا بصفة الحدوث لم يجزم باحتياجه إلى سبب. و إنّ الإمكان إذا كان علّة للافتقار لاحتاج الباقي أيضا إلى المؤثّر مع أنّه غير ممكن، فإن التأثير إن كان في الحاصل لزم تحصيل الحاصل، و إن كان في أمر متجدّد كان الباقي مستغنيا و التأثير إنّما هو في الحادث،(1) و لاحتاج المعدوم منه أيضا إلى العلّة، فيكون الأعدام الأزلية معلّلة مع كونها مستمرّة.

و أمّا من ذهب إلى أن السبب هو الإمكان بشرط الحدوث فكأنه ظنّ أن العقل ما لم يحط بالإمكان المفسر باستواء الطرفين لم يحكم بالاحتياج إلى السبب، و ما لم يلحظ معه صفة الحدوث لم يتحقّق بنظره حصول الاحتياج. كما أن من دان باشتراكهما في السببية نظر إلى عدم تحقّق الحاجة بدون كلّ منهما. و يمكن أن يكون القولان الأخيران ناشئين من عدم ترجيح أحد القولين الأولين على الآخر، فتوهّموا أن لكلّ من الامكان و الحدوث مدخلية في السببية، و أن

ص: 77


1- شرح قواعد العقائد/ 10.

أدلة الطرفين تقتضي اعتبارهما معا فيها.

أقول: يبطل القول الأول بأن الامكان أحوج الممكن في وجوده إلى المؤثّر، فالحدوث متعلّق الحاجة لا سببها، و أما الممكن الباقي فهو كالحادث منه في الاحتياج على ما سيمر بك بحثه، و يلحق بالباقي المعدوم الممكن في الحاجة، فإنّ عدم علّة الوجود علّة لعدم المعلول.

و هذا مما لا بد منه لئلا يلزم ترجّح أحد المتساويين على الآخر. و مما ذكرنا يسقط بقية الأوهام أيضا.

و قال المحدث المجلسي قدّس سرّه(1): و أحد الآخرين - علّية الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث - هو الظاهر من أكثر الأخبار

أقول: نحن و إن لم نلاحظ تلك الأخبار بتمامها، إلاّ أنا لا نقبل منه هذا الإستظهار، و أن الروايات لا تثبت ذلك كا ظهر لنا من ملاحظة بعضها فلاحظ.

و أما قول بعض اتباع ماركس فحاصله: أنّه لا وجود متحرّر من الحاجة أصلا، مستندا في ذلك إلى التجارب التي حقّقت في مختلف ميادين الكون، على ان الوجود بشتي ألوانه التي كشف عنها التجربة لا يتجرّد عن سببه و لا يستغني عن العلة، و استنتجوا منه إنكار الواجب الوجود، فإنّه وجود لا علّة له، و قالوا: إنّ القول به قول بالصدفة!

أقول: و فيه أولا: إنّ الوجود ليس علّة للافتقار، و التجربة لا تقدر أن تثبت مثل هذه المسألة العقلية، فإنّ المحسوس هو احتياج الموجود إلى العلّة، أمّا إنّ ملاكه هل هو الوجود أو الحدوث أو الامكان فلا، بل العلّة هي الإمكان كما عرفت.

و ثانيا: إنّ التجربة إنّما تحكم على ما هو في سلطانها من المادّيات المحسوسة و لا نفوذ لها إلى مطلق الوجودات، و هذا ظاهر. الا أن تغلب الغباوة على الشخص!

الخاصية الثالثة: حاجة الممكن بقاء

اشارة

حينما انقدح سببية الإمكان للحاجة فقد لاح أن الممكن كما يحتاج في حدوثه إلى المؤثر يحتاج في بقائه أيضا اليه، فإنّ الإمكان ممتنع الانفكاك عن المهية الممكنة، و إلاّ لا نقلب الممكن واجبا أو ممتنعا، و هو ضروري الاستحالة. و عليه فالافتقار ضروري الثبوت بداهة عدم إمكان تخلّف المعلول عن العلة. كل ذلك ظاهر.

ص: 78


1- بحار الأنوار 52/14.

تحليل و تسجيل

الماهية قبل انتسابها و ارتباطها بجاعلها لا شيء محض، و إنّما تتحقّق بجعل الجاعل، فهذا التحقّق و التكون و التبرز - و ما شئت فسمه - أمر خارج عن نفسها، مترشّح من فاعلها و خالقها، فالماهية كما تحتاج في حدوثها إلى المؤثّر المكون المحقّق كذلك في بقائها، فإن التكوّن الجائي من قبل الجاعل لا يصير ذاتيا لها بعد الحدوث حتى ينقطع حاجتها إليه.

و منه يبطل السؤال المشهور عن التأثير، و أنه أمّا في الوجود الحاصل فهو تحصيل الحاصل المحال، و أما في الوجود الجديد فيكون التأثير في أمر جديد، فلم يثبت التأثير في الباقي. وجه البطلان: أنّ التأثير في بقاء ذلك الوجود السابق، و أثر الجعل هو البقاء، فإنّ الماهية المتحقّقة لا اقتضاء لها لتحقّقها في الآن الثاني، فتفتقر فيه إلى مؤثّر يبقي تحقّقها الأول بحاله. و لعلّ ما قيل:

من اختيار الشق الأول من السؤال، و أن التاثير في الوجود الأول لكن في الزمان الثاني، و هذا تحصيل للحاصل في الزمان الاول، في الزمان الثاني، يرجع إلى ما قررنا.

ثم لا ينبغي للباحث ان يتوهّم - كما توّهم(1) - أن استمرار الوجود الأول إمّا حاصل قبل هذه الحالة، و إما ليس بحاصل، فعلى الأول يلزم تحصيل الحاصل، و على الثاني يلزم التأثير في الأمر الجديد ضرورة أن إبقاء الوجود الأوّل لا يعدّ من التأثير في الجديد.

هذا و إن شئت وضوح ما قلنا فاعتبر كيفية الصور المرتسمة في ذهنك، فإنّها كما يستحيل حدوثها من غير الالتفات و التوجّه، كذلك يمتنع بقاؤها مع الغفلة و الذهول.

و يمكن ان نختار الشق الثاني و نقول: إنّ أثر التأثير هو الوجود الثاني على سبيل الاتّصال بالوجود الأول من غير انقطاع، و هذا يسمّى عند العرف بالاستمرار، فليس فيه خلاف الفرض؛ لأنّه ليس بأمر جديد، و إنّما يلزم خلاف الفرض لو كان الوجود الثاني منفصلا عن الوجود الأول، و لك أن تقيس المقام بضياء الكهرباء حيث يتولّد من الطاقة الكهربائية في كلّ آن ضوءا جديدا و نورا ثانيا. و مع ذلك كان الوجودات المتلاحقة عندهم استمرارا و بقاء كما لا يخفى.

تكميل و تطبيق

هذا كلّه حسب كون الإمكان هو العلّة للافتقار، و أمّا بناء على سببية الحدوث، أو شطريته أو شرطيته فيلزم كون الممكن بعد حين الحدوث مستغنيا عن المؤثّر؛ إذ لا حدوث بعد الحدوث الأول حتى يفتقر. و قد التزمه جماعة من القائلين بها، و قالوا: إنّه لو جاز العدم على الواجب الوجود لبقي العالم بحاله، و مثّلوا ببقاء البناء بعد فناء البناء.

ص: 79


1- درر الفوائد/ 136.

أقول: بناء على اختيار الشق الثاني المتقدّم، يجب القول بافتقار الممكن بعد الحدوث الأول أيضا؛ إذ في كلّ آن حدوث و حدوث، فاستغناء الممكن لا يكون مترتّبا على القول بتأثير الحدوث في الحاجة مطلقا بل مختصّ بما إذا تعين الشق الأول؛ و لذا لم يلتزم به كلّ من قال بعلّية الحدوث بل بعضهم.

و أمّا ما مثّلوا من البناء الباقي بعد البناء ففيه: أنّ البناء علّة محدثة فقط و ليس بمبقية أيضا، بل العلّة المبقية هي جاذبية الأرض أو غيرها، كالفدى الكائنة في مواد البناء. و اللّه من ورائها محيط.

هداية

إمكان الماهية يغاير إمكان الوجود، فإنّ الأول بمعنى عدم التماس الوجود أو العدم كما مر، و الثاني بمعنى الفقر؛ ضرورة بطلان عدم اقتضاء الوجود نفسه و نقيضه، بل الوجود وجود بالضرورة و ليس بعدم بالضرورة؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري و سلبه عن نفسه ممتنع.

فتفسير الإمكان الوجودي بما فسّر به الإمكان الماهوي غير معقول. نعم ضرورة الوجود ضرورة ذاتية لا أزلية، فهو ما دام موجودا ضروري، فيفتقر إلى موجده حدوثا و بقاء كالماهية.

و منه ينقدح بطلان أولويته؛ إذ هو قبل إيجاده لا شيء محض، و بعده ضروري الثبوت كما عرفت، فينتزع الماهية عند قهرا، فلا معنى لأولوية الوجود بالماهية. و حيث إنّ الماهية في رتبة متأخّرة عن الوجود - لمكان انتزاعها منه - لم يكن أولويتها به قبله بمعقول، كما أنها بناء على أصالتها لا تكون أولى بالوجود الاعتباري المنتزع عنها بعد تعلق الجعل بها؛ إذ لا يتصوّر أولويّتها به قبل الجعل. و منه يبان عدم أولوية الوجود بها أيضا، فإنه - على أصالتها - أمر اعتباري متأخّر عن تحقّق الماهية، فلا معنى لأولويّته بها قبل تبرزها.

نكتة

بقي شيء هو أن علّة الممكنات المحدثة هل هي بعينها العلّة المبقية أم لا؟ صريح السبزواري هو الثاني حيث قال: اعلم أن من المعلولات ما يكون علّة حدوثه غير علّة بقائه كالبناء، فإنّ علّة حدوثه البناء و علّة بقائه يبسى العنصر. و منها ما يكون علّة حدوثه هي علّة بقائه، كالقالب المشكل للماء. و العالم بالنسبة إلى الواجب تعالى من قبيل الثاني، لكونه واجب الوجود بالذات، و واجب الوجود من جميع الجهات.. الخ(1).

أقول: علّة العالم الإمكاني هي إرادة اللّه تعالى، و سيأتي في صفاته الثبوتية أنّها بمعنى

ص: 80


1- الأسفار (الحاشية) 220/1.

الإحداث، فإذن يمكن أن يقال بأن الإرادة المتعلّقة بالبقاء غير المتعلّقة بالحدوث؛ لان الإحداث فعل لا دوام له. و أيضا التأثير - بناء على اختيار الشق الثاني من السؤال المتقدم - لا يعقل الا بتجدد الإرادات، و أما بناء على الوجه الأول ففيه الوجهان.

مسألة

قالوا: إن الممكن القديم - أعني به المسبوق بالغير فقط لا بالعدم - لا يحتاج إلى المؤثّر، بناء على مدخلية الحدوث في الحاجة؛ ضرورة فقدان مناط الحاجة حينئذ في القديم.

أقول: و فيه تفصيل. و أما بناء على سببية الإمكان للفقر دون اشتراك الحدوث، فلا شكّ في أنه محتاج إلى المؤثر في بقائه بداهة ترتّب المعلول على علّته، و إنّما الكلام في أنّه هل يستند إلى المختار أو الموجب؟ و الظاهر من ارباب الكلام هو الثاني، فان فعل المختار مسبوق بالقصد، و القصد إلى الايجاد متقدم عليه، مقارن لعدم ما قصد إيجاده؛ لأنّ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهة.

و عن شارح المقاصد(1) أن هذا متّفق عليه بين الفلاسفة و المتكلّمين و النزاع فيه مكابرة، و قال اللاهجي في شوارقه: التحقيق أن استناد القديم الممكن إلى المختار بالاختيار الزائد على الذات محال بدليل مرّ نقله، سواء كان الاختيار الزائد تامّا كاختيار الواجب عند المتكلّمين او ناقصا كاختيارنا، و ذلك ضروري... و الحكماء ينفون القصد عن الواجب؛ لأنّهم يجعلون القصد بالاختيار الزائد على الذات و يقولون: إنّ القصد لا يمكن إلاّ.. و لا ينفون الاختيار مطلقا؛ لأنّهم مصرحون بكونه تعالى فاعلا بالاختيار الذي هو عين ذاته تعالى، و يعبّرون عنه بالرضاء(2)...

الخ.

و التحقيق: أن القصد - بمعنى الصفة النفسانية - لا يتعلّق بالموجود بالضرورة، فلا مكن استناد القديم إلى المختار بهذا المعنى، لكن القصد بهذا المفهوم ممتنع على الواجب كما يأتي في محلّه. و المراد من القصد المستعمل في حقّه هو تعلل أفعاله بالأغرض الزائدة على ذاته.

و عليه فعدم استناد القديم إليه ليس بضروري بل سيأتي إن شاء اللّه - في مبحث قدرته و اختياره - جواز استناد الممكن القديم إلى الواجب الوجود، فهذا الذي نقل اتّفاق المتكلّمين و الفلاسفة عليه، ليس بشيء.

ص: 81


1- الشوارق 131/1.
2- المصدر نفسه.

و أمّا ما ذكره الفياض من أن الحكماء ينفون القصد دون الاختيار فسوف نتعرّض له تحليلا و نقدا.

ثم إنّ الرازي(1) منع استناد الممكن القديم إلى الموجب أيضا متمسّكا بأنّ تأثيره فيه إمّا حال بقائه فيلزم إيجاد الموجود، و إمّا حال عدمه أو حدوثه فيلزم كونه حادثا، و قد فرضناه قديما.

أقول: ما احتج به مدخول بعين ما أجبنا السؤال المتقدّم المشهور، فإنه هو هو بعينه. و أمّا نفس المدّعى فهو لا يخلو عن وجه سندرسه في مسألة حدوث العالم.

و لكن لا بد أن يلتفت الرازي أنّ هذه الدعوى تهدم ما بنى عليه هو و أشياخه الأشعريون و غيرهم من زيادة الصفات الممكنة القديمة القائمة بالواجب الصادرة عنه بالإيجاب و الجبر، و هذه زلّة و ذلة وضلة عظيمة منهم في أعظم مباحث التوحيد، عصمنا اللّه من التخلّف عن السفينة المنجية المحمدية.

الخاصّة الرابعة: أن كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود و الماهية

قال صاحب الأسفار: كما أنّ الضرورة الأزلية مساوقة للبساطة و الأحدية، و ملازمة للفردية و الوترية، فكذلك الإمكان الذاتى، رفيق التركيب و الازدواج، فكل ممكن زوج تركيبي؛ إذ الماهية الامكانية لا قوام له إلا بالوجود، و الوجود الإمكاني لا تعين له إلاّ بمرتبة من القصور و درجة من النزول ينشأ منها الماهية، و ينتزع بحسبها المعاني الامكانية و يترتب عليها الاثار المختصة...

فإذن كلّ هوية إمكانية ينتظم من مادة و صورة عقليتين هما المسمّاتين بالماهية و الوجود، و كلّ منهما مضمّن فيه الآخر و إن كانت من الفصول الأخيرة و الأجناس القاصية(2) انتهى كلامه.

و قال في موضع آخر منها: زيادة وجود الممكن على ماهيته ليس معناه المباينة بينهما بحسب الحقيقة، كيف و حقيقة كلّ شيء نحو وجود الخاص به؟ و لا كونه عرضا قائما بها قيام الأعراض لموضوعاتها حتى يلزم للماهية سوى وجودها وجود آخر، بل بمعنى كون الوجود الإمكاني لقصوره و فقره مشتملا على معنى آخر غير حقيقة الوجود، منتزعا منه، محمولا عليه، منبعثا عن إمكانه و نقصه، كالمشبكات التي يتراءى من مراتب نقصانات الضوء و الظلال الحاصلة من تصورات النور(3). انتهى.

ص: 82


1- لاحظ شرح المواقف، و شرح التجريد للقوشجي/ 77.
2- الأسفار 186/1.
3- الأسفار 243/1.

الفائدة الحادية عشرة في امتناع الدور و التسلسل

أمّا الدور فهو في اللغة - كما في بعض كتبها - التقلّب و الحركة إلى ما كان عليه. و في الاصطلاح هو توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه(1)، و إن شئت فقل: إنه تعاكس الشيئين في السببية و المسببية. فإن توسّط بينهما واسطة أو وسائط أخرى يسمّى مضمرا، و إلاّ فمصرّح.

فتوقّف الشيء على نفسه لا يسمّى دورا بل هو نتيجته.

ثم إنّه ربما يطلق الدور على شيئين لهما معيّة، و يقال له الدور المعي، و هو ليس بمحال، و هو أن يكون شيئان موجودان يتوقّف كلّ منهما على الآخر في صفة من الصفات، بمعنى أن تتوقّف الصفة في كلّ منهما على ذات الآخر سواء كانت تلك الصفة فيهما من نوع واحد كالأخوة في أخوين و المعية في شيئين، أو من نوعين كالفوقية و التحتية في الفوق و التحت و التقدّم و التأخر بحسب المكان في جسمين، و هذا الدور جار في كلّ متضايفين كما قيل.

ثم إن الدليل على استحالة الدور - بمعنييه المتقدّمين - أنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه و تأخّره عن نفسه؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول تقدما عليّا و تقدّما بالذات، فاذا كانت العلّة معلولة لمعلولها، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين، و كذلك تقدمه، و هو - أي تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها - ضروري الاستحالة، مع أنّه قد يستدلّ عليها بأنّه يستلزم تخلّل العدم بين الشيء و نفسه و هو واضح الاستحالة، و بان التقدّم نسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

فإن توهّم أحد أن المراد بالتقدّم هنا إمّا التقدّم الزماني و هو غير لازم في العلة، أو العلّي و هو مصادرة؛ لان معنى قولنا: إن الشيء لا يتقدّم على نفسه أنّ الشيء لا يكون علّة لنفسه.

يقال له: إنّ معنى تقدّم العلّة على معلولها هو صحّة مثل قولنا: تحركت اليد فتحرّك الخاتم، طلعت الشمس فوجد النهار؛ و بطلان عكسه أي قولنا، تحرك الخاتم فتحركت اليد. و هذا الاعتبار الذي ممّا لا يشك فيه عاقل بديهي البطلان بالنظر إلى الشيء و نفسه.

ص: 83


1- الفرق بين تقدم الشيء على نفسه، و توقف الشيء على نفسه اعتباري، فإن الأول باعتبار علّية كلّ منهما للآخر، و الثاني باعتبار معلولية كلّ منهما للآخر.

فان قلت: إنّ الفرق بين الأجزاء التي هي العلة و المركب الذي هو المعلول إنّما هو باعتبار بشرط الشيء و اللابشرط أو بشرط اللا، و قد ذكروا من جملة العلل الأربع المادة و الصورة مع أنّهما عين المعلول، فكيف المخلص؟

قلت: الأجزاء بالنسبة إلى المركب الذي ليس إلاّ نفسها ليست الا نفسه، لا علية و لا معلولية بينهما، و إنّما يطلقون عليها العلية؛ لأن بها قوام المركّب فهي علل القوام لا علل الوجود، و التأثير في الثانية لا في الأولى، فافهم.

و أمّا تقدّم الأجزاء على المركّب ففيه بحث طويل قد تعرّض له صاحب الأسفار مجملا و صاحب الشوارق مفصلا فراجع.

ثم إنّ معنى الدور - بتعبير واضح - هو كون الشيء علّة و فاعلا لوجود نفسه، و هذا ضروري الاستحالة، بديهي البطلان، يكذّبه العقل بأوّل تصويره فلا معنى لإطالة الكلام حوله و قد نقل العلامة قدّس سرّه(1) أن أكثر العقلاء على ضرورة استحالته.

و أما التسلسل فهو عند المتكلّمين(2) عبارة عن مطلق الأمور غير المتناهية إذا ضبطها الوجود، سواء كان مجتمعة أم لا، مترتّبة أم لا. و دليلهم على ذلك برهان التطبيق، فإنّهم يجرونه في الأمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية، و في الأمور المجتمعة، سواء كان بينها ترتّب طبيعي كالعلل و المعلولات، أو وضعي كالابعاد، أو لا يكون هناك ترتّب أصلا كالنفوس الناطقة المفارقة(3).

و عند الحكماء يفسّر بالأمور غير المتناهية المجتمعة في الوجود مع ترتّب وضعا أو طبعا؛ و لذا قال صاحب الأسفار: و عليه (أي برهان التطبيق) التعويل في كلّ عدد ذي ترتيب موجود، سواء كان من قبيل العلل و المعلولات، أو من قبيل المقادير و الابعاد، أو الاعداد الوضعية(4)...

الخ.

ثم إنّ الأدلة على امتناع التسلسل في الجملة كثيرة جدا لكنها بمجموعها غير مسلّمة عندهم، فلهم ردود و دفوع و نقوض و نقود، و البحث حولها طويل الذيل لا يسعه هذا المختصر، لكننا نستخدم لك منها حجّة قويمة قليلة المؤونة و كثيرة المعونة و هي ما اخترعه سلطان المحقّقين العلامة الطوسي(5) و أشار إليه في تجريده و اليك تقريره بعبارة

ص: 84


1- كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد/ 30.
2- الشوارق 200/1، و كشف الفوائد/ 30.
3- شرح المواقف 541/1.
4- الأسفار 145/2.
5- كما ذكره صاحب الشوارق و نقل عن المحقق الدواني أيضا، لكن قيل: إن السيد الداماد رحمه اللّه ادّعى وجدان هذا الدليل في كتاب بهمنيار.

المحقق اللاهجي(1):

إن الممكن لا يجب لذاته، و ما لا يجب لذاته لا يكون له وجود، و ما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود، فلا بد من واجب لذاته، فقد ثبت واجب الوجود و انقطعت السلسلة أيضا.

ثم تعريضا على الشارح العلامة قدّس سرّه حيث تنظر فيها، و الشارح القوشجي حيث حسبها مصادرة، قال: و هذه الطريقة حسنة حقّة... الخ. و الأمر كما أفاد.

تتميم و تقسيم

ما لا يتناهى على ستة أقسام:

الاول: المجتمع في الوجود، و المترتّب بالترتب العلّي.

الثاني: المجتمع في الوجود، و المترتّب بالترتب الوضعي كالابعاد.

الثالث: المجتمع في الوجود بلا ترتيب، كالنفوس الناطفة على رأي الحكماء.

الرابع: المتعاقب في الوجود من قبل الماضي، مثل الصور الطارئة على المادة على سبيل المحو و الإثبات.

الخامس: المتعاقب في الوجود في طرف المستقبل.

السادس: العدد.

أقول: أمّا لأول فهو محال بلا خلاف بين الباحثين، بل لم أفز على مخالف ولو من الدهريين و الماديين، فكأن هذا الاحتمال مصادم ما أودعه اللّه في كينونة البشر، فلم يلزتم به فرد من هذا النوع الانساني؛ و لذا ترى عباد الطبيعة متحيرين في تعيين المبدأ الأول، فالتسلسل المذكور احتمال بدوي لم يتجاوز عن المسفورات العلمية إلى الخارج، و ما نقلناه آنفا من البرهان و غيره حجّة واضحة على إبطاله.

و أمّا الثاني فامتناعه موضع وفاق بين المتكلّمين و الحكماء، و استدلّوا عليه بأدلة منها برهان التطبيق الذي هو عندي محلّ إشكال.

و أمّا الثالث و الرابع فهما ممكنان، بل واقعان على زعم أصحاب الفلسفة؛ و لذا يدينون بقدم العالم زمانا، لكن المتكلّمين يرونهما ممتنعين أيضا، و الحق معهم لما سنبرهن على حدوث العالم في هذا الجزء إن شاء اللّه.

و أمّا الخامس فإمكانه متّفق عليه بينهم، فإن الوجود لم يضبطه، و هذا ما لا شك فيه، كيف

ص: 85


1- الشوارق 199/1.

و خلود المكلّفين في الجنة و النار و بقاء ما يرتبط بهم من الضروريات الاسلامية؟

و أما السادس فهو مثل الخامس في اتّفاقهم على إمكانه، فإنّه إمّا غير موجود كما عن المتكلمين، و إما لا ترتّب بينها في غير الواحد كما عن الفلاسفة، فلم يتحقّق فيه مناط الاستحالة(1).

و ممّا ينبغي أن نختم به الكلام هنا أن إبطال الدور و التسلسل إنما يتوقف عليه إثبات الصانع؛ ضرورة أن إمكان أحدهما لا يدع مجالا لإثباته. و أمّا إثبات الواجب الوجود، فهو غير موقوف عليه لما ستعرفه إن شاء اللّه من الدليل على وجوده، سواء كان الممكن موجودا خارجا ام لا، أمكن الدور و التسلسل أم لا، و بعبارة أخرى: إمكان الدور و التسلسل يبطل الأدلة الإنية، و لا ربط له بالبراهين اللمية أو الشبيهة باللم.

هذا تمام كلامنا في المقدّمات ثم بعد ذلك نرجع إلى بيان المقاصد، و اليك بيانها إجمالا:

المقصد الاول: في بيان الطريق إلى معرفة الواجب.

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية ذاتية كانت أو فعلية.

المقصد الثالث: في صفاته السلبية.

المقصد الرابع: في التوحيد، أفردناه من سابقه اهتماما بشأنه.

المقصد الخامس: في العدل.

المقصد السادس: في النبوّة.

المقصد السابع: في الإمامة.

المقصد الثامن: في المعاد.

ص: 86


1- و لصاحب الأسفار ها هنا احتمال و للسبزواري عليه كلام لا يخلو مراجعتهما عن الفائد الأسفار 152/2.

مقاصد الكتاب

اشارة

المقصد الأول: في بيان الطرق إلى معرفة الواجب بذاته

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية

المقصد الثالث: في صفاته السلبية

المقصد الرابع: في التوحيد

المقصد الخامس: في العدل

المقصد السادس: في النبوّة

المقصد السابع: في الإمامة

المقصد الثامن: في المعاد

ص: 87

المقصد الأول في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته البراهين و الصرط

من هم المخالفون في هذا المقصد؟ و ما هو اعتقادهم؟

النظام الكامل يقضي على علّية المادة

ما يقول الماديون عن هذا النظام الاجمل؟

خاتمة

ص: 88

المقصد الاول في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

اشارة

و هو من أشرف المقاصد و أعظمها و أجلها و أهمها، بل لا تكتسب مسألة عملية شرفا و فضلا ما لم تخدم هذا المقصد، فهو آخر ما تناخ به الرواحل العقلية في سفر السعادة و الفضيلة.

أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ أَلاٰ إِلَى اَللّٰهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ.

و صرط التصديق الحقّة المستقيمة إلى الواجب القديم القدوس الأقدس - جلت كبريائه و عظم سلطانه - متعددة، و اليك منها ما يناسب هذه الرسالة:

الصراط الأول: إن العقل لا يرى الموجود الواجب لذاته مستحيلا، بل يحكم بإمكانه إمكانا عامّا و لا سيما قد شاهد الواجب الذاتي بنحو مفاد كان الناقصة، مثل زوجية الأربعة، و رطوبة الماء، و دسومة الدهن و نحوها، فإذا أمكن. وجد و ثبت من دون شرط و سبب على ما اسلفنا برهانه.

و هذا الصراط أشرف الصرط المذكورة في هذا المقصد ليس له زيادة مؤونة، و لا توقّف له على استحالة الدور و التسلسل، بل و لا على وجود ممكن، كل ذلك ظاهر جدا.

و لزيادة التأكيد لحكم العقل بعدم امتناع الواجب نقول: إن العقلاء - مليين كانوا أو ماديين(1) - اتفقوا في كلّ زمان و مكان على الاذعان بوجود المبدأ الأوّل في الخارج، و هذا ممّا يؤيد استقلال العقل بعدم امتناع مثل هذا الوجود. و العجب من ذهول الباحثين عن هذا البرهان حيث لم يذكروه في هذا المقام(2).

الصراط الثاني: إن الأحاسيس قد قضت على أنّ في الخارج موجودا ما، فهو إن كان واجبا لذاته فقد حصل الغرض، و إن كان ممكنا فهو يستلزم المقصود لاستحالة الدور و التسلسل و هذه الحجّة غير قائمة بوجود الممكن كما هو ظاهر.

ص: 89


1- غير من قال منهم بجواز الترجح بلا مرجح (ان كان).
2- و به يمكن أن يفسّر ما أثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام: يا من دلّ على ذاته بذاته؛ و ما عن السجاد عليه السّلام: بك عرفتك و أنت دللتني عليك.

ثم إن هذين الوجهين المذكورين ليسا من الأدلة الإنية و لا من البراهين اللمية؛ لعدم انتقال فيهما من العلّة إلى المعلول و لا من المعلول إلى علّته، بل هما من شبه اللم كما يظهر من كلمات عدّة من أكابر الحكماء.

الصراط الثالث: ما نقلناه سابقا من المحقّق الطوسي قدّس سرّه في إبطال التسلسل، فإنّه يفضي إلى معرفة الواجب الوجود، و يجوز أن نعبّر عنه بألفاظ أخرى فنقول: لا يمكن أن يكون ممكن ما من الممكنات منشأ لوجوب الممكنات، و لا لامتناع طريان العدم علّيها بالكلية، فلا بدّ من واجب.

و بوجه آخر: إن الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده و هو ظاهر، و لا في إيجاده لغيره؛ لانّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود، فإنّ الشيء ما لم يوجد لم يوجد، فلو انحصر الموجود في الممكن لزم أن لا يوجد شيء أصلا؛ لأنّ الممكن و إن كان متعدّدا لا يستقلّ بوجود و لا ايجاد، و اذ لا وجود و لا إيجاد فلا موجود لا بذاته و لا بغيره، إلى غير ذلك من التقارير و التعابير.

الصراط الرابع: الممكن موجود بلا ريب، فإنّ الأجسام مركّبة، و كلّ مركّب ممكن، و الأعراض لمكان حاجتها إلى موضوعاتها ممكنة، بل حدوث بعض الأشياء و فقدانها و فناؤها محسوس فهو ممكن. و مهم يكن من شيء فالممكن موجود قطعا بل ضرورة، فيكون الواجب موجودا بالضرورة لما مرّ من احتياج الممكن إلى الواجب، و من بطلان الدور و التسلسل، و لعلّ قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ (1) يشير إلى ذلك، فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون خالق نفسه لما عرفت في بطلان الور، و لا يمكن أن يوجد بلا خالق فإنّه ترجّح بلا مرجح، و يمكن إدراج نفي التسلسل أيضا في هذا الفرض كما يظهر بالتأمل.

ثم إنّ هذا الدليل الإني أساس لعدّة من الدلائل الأخرى.

الصراط الخامس: ما سلكه المتكلّمون فقالوا: إنّ العالم حادث، و كلّ حادث له محدث كما تشهد به بديهة العقل؛ و لذا من رأى بناء حادثا حكم حكما بتيا جزميا بأنّ له بانيا. و عن أكثر مشايخ الاعتزال أن هذه المسألة - أي الكبرى - استدلالية، و قد استدلّوا عليه بوجهين(2) لكن ذلك خطأ و ما استدلوا به غلط.

ثم إنّ هذا المحدث الصانع إن كان حادثا احتج إلى مؤثّر آخر، فيلزم الدور أو التسلسل و هما محالان؛ و ان كان قديما أو منتهيا إلى القديم فقد ثبت المطلوب.

هذا، و لكن جملة من الفلاسفة لم يرتضوا بسلوك هذا الصراط لوجوه ثلاثة:

الأول: تفنيد حدوث العالم بشر اشره، بل منه ما هو قديم و منه ما هو حادث.

ص: 90


1- الطور 35/52.
2- شرح المواقف 3/3.

الثاني: قصور هذا الدليل عن إثبات الواجب لذاته؛ لجواز أن يكون ذلك المحدث غير الحادث ممكنا قديما، فلا يفتقر إلى علة، فتنقطع السلسلة بلا إثبات الواجب كما ذكره الحكيم اللاهجي في شوارقه(1).

الثالث: خروجه عن منهج الصدق؛ لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث ولو شرطا، ذكره الحكيم السبزواري(2) و قبله عنه غيره أيضا.

أقول: هذه الوجوه ساقطة و لا يمكن سد هذا الصراط المستقيم بها. اما الاول فلما سيمر بك في محله، من حدوث تمام ما سوى اللّه و بطلان قدم شيء منه.

و أمّا الثاني فينبثق بطلانه من بطلان الأول، فإن القديم حينئذ لا يكون ممكنا فهو واجب لعدم واسطة بينهما بالضرورة، فالقديم و الواجب لذاته مترادفان عند المتكلّمين. و أمّا الثالث ففيه: أنّ معنى علّية الإمكان للحاجة هو سببيته للحاجة في وجوده أو عدمه إلى المرجّح الخارجي، فحدوث الوجود معلول عن هذا المرجّح المحدث الخارجي و كاشف عنه كشف كلّ معلول عن علّته، و يعبر عنه في عرفهم بدليل الإن، فهذا لا ربط له ببطلان علّية الحدوث للحاجة. و الإنصاف أنّ دلالة الحدوث على المحدث ضرورية و إنكارها عن هذا الرجل الفيلسوف بعيد جدا.

فاتّضح أن الدليل تمام في نفسه من غير أن يبنى على الحركة الجوهرية كما تبرّع به بعضهم، لكن الذي يوجب صعوبة سلوك هذا الطريق في الجملة هو أن إثبات المدّعى أسهل من تثبيت مقدّمتها الأولى اعني بها حدوث العالم بأجمعه، فإنه و إن كان حقّا إلاّ أن المدّعى اظهر منه و إن أخذنا حدوث بعض العالم في المقدّمة حتى تكون ضرورية فلا يستنتج منها المطلوب، كما ذكره صاحب الشوارق من جواز كون القديم ممكنا.

و لا دافع له حينئذ أصلا إلاّ أن يقال: بأن هذا القديم لا يكون إلاّ واجبا، فإنّ الممكن يستلزمه دفعا للدور و التسلسل، لكن الدليل حينئذ لا يكون بلحاظ الحدوث فقط، بل مع انضمام لحاظ الإمكان.

فالتحقيق أن يقال: إنّ جملة من هذه الموجودات حادثة حسّا، و الحادث يقضتي محدثا بالضرورة، و هذا المحدث إن لم يكن له سبب و علّة فهو المراد؛ إذ لا نعني بالقديم أو الواجب إلاّ المحدث الذي لا سبب له؛ و ان كان له سبب فلا بدّ من الانتهاء إلى محدث كذلك أي بلا سبب و علة دفع للدور و التسلسل، فافهم.

ص: 91


1- الشوارق 204/2.
2- شرح المنظومة/ 143.

الصراط السادس: ما سلكه الحكماء الطبيعيون و هو الاستدلال بالحركات، فإنّ المتحرّك لا يوجب حركة بل يحتاج إلى محرّك غيره، و المحرّكات لا محالة تنتهي إلى محرّك غير متحرك دفعا للدور و التسلسل، فإن كان واجبا فهو و إلاّ استلزمه لما مرّ.

الصراط السابع: إذا كانت الموجودات منحصرة في الممكنات لزم لدور؛ إذ تحقّق موجود ما يتوقّف - على هذا التقدير - على إيجاد ما؛ لان وجود الممكنات إنّما يتحقق بالإيجاد و تحقّق إيجاد ما يتوقّف أيضا على تحقّق موجود ما؛ لأنّ الشيء ما لم يوجد لم يوجد.

لكن الانصاف أنّ هذا التوقّ Ṣ من قبيل توقّف النطفة على الحيوان و توقف الحيوان على النطفة، و توقف البيض على الدجاج و توقّف الدجاج على البيض، و هذا ليس بدور محال؛ لأنّ الدور هو الذي يكون طرفاه واحدا بالعدد لا ما يتقدّم فيه طبيعة مرسلة على طبيعة مرسلة أخرى، و هي تتقدم أيضا عليها في صورة التسلسل، فالمغالطة نشأت ها هنا من أخذ الكلّي مكان الجزئي، و الوحدة النوعية مكان الوحدة الشخصية. فتتميم هذا البرهان لا يمكن الاّ بالتسلسل كما في الأسفار. و ما رامه اللاهجي من إصلاح الدليل و إتمامه بالدور فقط غير تام، و منه يظهر الحال في الصراط الآتي بكلا طريقيه.

الصراط الثامن: أنه ليس للموجود المطلق من حيث هو موجود مبدأ و إلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه، و بذلك ثبت وجود واجب الوجود بالذات، و بعبارة أخرى: مجموع الموجودات من حيث هو موجود ليس له مبدأ بالذات فثبت بذلك وجود الواجب لذاته.

الصراط التاسع: مجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئا محضا، و مجموع الممكنات ليس يمتنع ان يصير لا شيئا محضا، فيثبت به الواجب لذاته.

و فيه: أنّ حيثية الإمكان و إن كانت مخالفة لحيثية الوجود؛ لأنّ الموجود بما هو موجود يستحيل أن يصير معدوما؛ لأنّ فيه ضرورة بشرط المحمول بخلاف الموجود بما هو ممكن فإن عدمه غير ممنوع، لكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في الموضوع كما أفاده صاحب الأسفار أيضا.

الصراط العاشر: ما ذكره صاحب الأسفار و من تبعه و قال: إنه سبيل الصديقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحق، و وصفه بأنه أسدّ البراهين و أشرفها، و اليك تقريره بعبارة السبزواري(1) مع تغيير ما: حقيقة الوجود الذي ثبتت أصالته، إن كانت واجبة فهو المراد، و ان كانت ممكنة - بمعنى الفقر و التعلق بالغير لا بمعنى سلب ضرورة الوجود و العدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروري، و لا بمعنى تساوي نسبتي الوجود و العدم؛ لان نسبة الشيء إلى نفسه

ص: 92


1- شرح المنظومة/ 141.

ليست كنسبة نقيضه اليه؛ لأنّ الأولى مكيفة بالوجوب و الثانية بالامتناع - فقد استلزمت الواجب على سبيل الخلف؛ لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلّق به و تفتقر إليه، بل كلّما فرضته ثانيا فهو هي لا غيرها. و العدم و الماهية حالهما معلومة؛ أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة، فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعا للدور و التسلسل، و لأول أوثق و أشرف و أخصر.

أقول: هذا الوجه مبنى على مقدّمات هي أغمض تصديقا من أصل الدعوى بمراتب، فلا بد أن يرجع إلى الصراط الثاني.

الصراط الحادي عشر: اتّفاق الأنبياء و الأولياء و العقلاء على ذلك، فإنّهم أخبروا عن وجود الواجب الصانع، و هذا الاتّفاق أقوى من التواتر، و لا شيء من المتواترات مساو له في القوّة و إفادة اليقين. ذكره بعض المؤلفين(1) و ببالي أنّ هذا الوجه نسب إلى جماعة من المتكلّمين.

لكن الاستدلال المذكور هيّن جدا، فإنّ العقلاء في ذلك مختلفون، و أمّا الأنبياء فهم كغيرهم ما لم تثبت نبوّتهم المتوقّفة على وجود الواجب و صفاته، بل لا سبيل لنا إلى إحراز وجودهم - سوى خاتمهم صلّى اللّه عليه و اله - من غير جهة إخباره تعالى.

هذا، مع أن التواتر في الحدسيات غير حجّة، فإنّه لا يفيد لايقين، و قد مرّ بعض الكلام فيه في المقدّمات. نعم يمكن الاستدلال بمعجزات خاتمهم صلّى اللّه عليه و اله و أوصيائه عليهم السّلام على المطلوب و لا محذور فيه أصلا.

الصراط الثاني عشر: لو انحصرت الموجودات في الممكن لاحتاج الكلّ إلى موجد مستقل - بأن لا يستند وجود شيء منها إلاّ إليه ولو بالواسطة - يكون ارتفاع الكلّ بالكلية - بأن لا يوجد الكلّ و لا واحد من أجزائه - ممتنعا بالنظر إلى وجوده؛ لأن ما لم يجب لم يوجد، و يلزم من ذلك امتناع عدم المعلول من أجل العلة، و الشيء الذي إذا فرض عدم جميع اجزائه كان ذلك العدم ممتنعا نظرا إلى وجوده، يكون خارجا عن المجمع، لا نفسه و لا داخلا فيه؛ لأنّ عدم شيء منهما ليس ممتنعا نظرا إلى ذاته، فيكون واجبا لذاته؛ اذ لا واسطة في الخارج بين الممكن و الواجب، فتدبر فيه.

هذه هي الصراط القويمة الحقّة المستقيمة الموصلة إلى معرفة الواجب القديم، و الصانع الحكيم(2)، و ان للعالم مبدأ ينتهي سلسلة الموجودات اليه. و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

ص: 93


1- كفاية الموحدين 26/1.
2- سوى بعضها، الذي ناقشنا فيه.

من هم المخالفون في هذا المقصد؟ و ما هو اعتقادهم؟

اشارة

نسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس و أتباعه إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر، و جعلوا كان العالم بالبخث و الاتفاق، و أنكروا أن يكون له صانع أصلا، و رأوا أن مبادئ الكل أجرام صغر لا تتجزّى لصغرها و صلابتها، و أنّها غير متناهية بالعدد، و مبثوثة في خلاء غير متناه، و أن جوهره في طبايعها جوهر متشاكل، و بأشكالها تختلف، و أنّها دائمة الحركة في الخلاء، فيتفق أن يتصادم منها جملة فتجتمع على هيئة و يكون منها عالم، و أنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد، لكن مع ذلك يرون أن الأمور الجزئية - مثل الحيوانات و النباتات - كائنة لا بحسب الاتّفاق بل بحسب أسباب سماوية و أرضية، و فرقة أخرى منهم - كانباذقلس و من يجري مجراه - لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائنا بالاتفاق، و لكنهم جعلوا الكائنات متكوّنة عن الاسطقسات بالاتّفاق، و بالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب و الكون بلا علة.(1)

أقول: هل ذيمقراطيس (460 ق م) و انباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته ام لا؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزما. و قد ذكر بانگون(2) أن الأول ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح، و ذكر صاحب الأسفار أن كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود و اعتبارية الماهيات، و ذكر غيره أن مراده هو إنكار العلة الغائية(3)، لكن هذه الضلالة الخبيثة و الجهالة المبطلة حد الانسانية حدثت منذ زمن غير قريب، فإن آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوى واحد، فمنهم من هو قاصر، و منهم من هو متوسط، و منهم من هو عال، و لكلّ منها درجات.

هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أن الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية كثيرا ما تضاد الشهوات النفسانية و الميولات الغريزية، و المخلص من هذا التضاد هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير. قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة

ص: 94


1- نقله في الشوارق 126/1 من كتاب الشفاء لابن سينا.
2- على اطلال المذهب المادي/ 15.
3- الأسفار 210/1.

الإنسان هي في اضطراب دائم من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة و إلى اللّه(1).... فهذان السببان - أي القصور الفكري و الشهوة - هما أحدثا هذه البلية الفاجعة.

و ما قيل من أن المستفاد من أكثر التواريخ أن تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح عليه السّلام بستة قرون أو سبعة قرون، فلعلّه يقصد به انتشارها و اشتهارها، كما أن شدّة ظهورها و كثرة رواجها إنما كانت في القرن الثامن عشر و التاسع عشر بين الغربيين، فسرت منهم إلى الشرقيين، ثم ضعفت في القرن العشرين لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى.

و أمّا أصل هذه المسلك فله عهد بعيد كما ربما يؤيده قوله تعالى: يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (2)، و إن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثم إن أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة. كما قيل:

1 - لا موجود في العالم غير المادة و آثارها.

2 - العالم مركّب من العلل و المعاليل المادية، و كلّ شيء يعلّل بعلل مادية.

3 - الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها، فكلّ منها علّة شيء و معلول لشيء آخر، و جميع الحواثد في تغير و تحوّل، بيد أن القدر الجامع بينها - يعني المادة - أمر أزلي.

4 - إن الكائنات - بشموسها و كواكبها و أقمارها و أراضيها و سمواتها و جميع جزئياتها - معلولة التصادف و الاتّفاق، لا بمعنى أن لا علّة لها، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية و العلة المادية فيها، فلا موجد لها إلاّ المادة، و لا صانع مختار لها أبدا، فليس لها العلّة الغائية أيضا.

و الحاصل: أنهم لا ينكرون مبدأ الكائنات بل ينكرون شعوره و قدرته و إرادته.

تفتيش و تفنيد

أمّا الأصل الأول ففيه بحثان، الاول: في بيان المادة، و الثاني: في بيان انحصار الموجودات بها.

اما البحث الاول، فالمعروف عن ديمقراط(3) أن المادة هي الجواهر الفردة، و هي الأجزاء التي لا تتجزّأ (الاتم) و ليس لها إلا أشكال هندسية، فالعالم عنده مركب من هذه الذرّات التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة و حركة اصطدام مستقيمة(4)، و يرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل

ص: 95


1- الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي/ 292.
2- يس 30/36.
3- و قيل: إن أول من تفوّه به لوقيوس أستاذ ديمقراط.
4- الرحلة المدرسية/ 298.

بينها فراغ خلافا لارسطو و أتباعه، حيث ذهبوا إلى أن الجسم شيء واحد متماسك يمكننا ان نقسّمه إلى أجزاء منفصلة، لا أنه يشتمل سلفا على أجزاء كذلك(1). ثم إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها، و ما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها إنّما هو من جهة اختلاف أشكاها و أحجامها و أمكنتها و نظامها و أوضاعها. هذا و لمّا كان الشكل الهندسي متناقضا لعدم التجزّي، رفضوا شكلها و قالوا: إنّها غير مشكلة؛ و لذا قال المحقّقون من أهل العصر: إن الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جدا(2).

أقول: و هو كذلك قطعا، فإنّ الذرة التي زعموا عدم امكان تجزئتها و لزوم بساطتها قد وقع عليها التجزئة خارجا عام 1919 م من قبل العالم روترفورد، ثم علم أن لها اجزاء عمدتها:

بروتون و نوترون و الكترون.

و ذهب لوسيبوس إلى أن تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل، و الأشياء تظهر و تخفى بحسب ما تجمع و تنفصل، و عن أبيقورس: أنها متحرّكة دائما في الخلاء الذي لا نهاية له بانحراف بعضها على موازاة بعض، بحيث تصطدم و تحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، فتؤدّي إلى تراكيب عديدة و صور متنوعة و متغيرة. و قال بخنر: أمّا حركة الجواهر عندنا فمن تضادّ قوتي الجذب و الدفع اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر(3).

هذا، و لكن لما رأى بعض العلماء أن الفراغ مستحيل في الطبيعة فرضوا أن تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة أو غاز(4) أخف من الهواء أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، و من أحوال اجتماعها بالحركة و أفاعيلها تظهر صور الكائنات، و هذه الجواهر في الرأي القديم هي أزلية أبدية لم تحدث بعد العدم، و لا تتلاشى و لا تنعدم و إنما تخفى بتفرّقها. و لكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي - غوستاف لبون - الرأي المبني على المشاهدة و الاختبار بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا - هو أنّ المادة قوّة متكاثفة، و أن المادة ليست أبدية بلا تتلاشى بانحلالها إلى القوة، و القوة أيضا تنحلّ إلى الاثير، كما أن المادة ليست أزلية، بل إن الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة - بسبب لا نعلمه - فصار مادّة(5).

و أمّا البحث الثاني - و هو انحصار الموجودات في مضيقة المادة و عدم الحاجة إلى علّة

ص: 96


1- فلسفتنا/ 318.
2- الرحلة المدرسية/ 274.
3- الرحلة المدرسية/ 298.
4- جوهر هوائي قابل للضغط سيال.
5- الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي/ 275.

فاعلية غير مادية - فقد ذكروا لإثباته وجوها:

الأول: و هو عمدة تلفيقاتهم و أشهرها: إنّ مثل هذه العلّة غير مدركه بأحد الأحاسيس و لم تدلّ عليها التجربة العلمية، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به.

الثاني: إنّ كلّ موجود لا بدّ له من سبب كما أثبتته التجربة العلمية فالوجود الغني عن السبب غير معقول. ذكره بعض الفلاسفة الماركسية على ما تقدّم.

الثالث: إن العالم المادي لو لم يكن أزليا و غنيّا عن علّة مجردة لكان معلولا لها، فيكون مخلوقا من العدم، و هذا غير معقول، فإن العدم لا يسبب الوجود و لا يكوّنه.

الرابع: إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان و المكان، و لا يعقل ما يكون متحرّرا منهما.

الخامس: إنّ حدوث المادة غير محسوس، فلا دليل على كونها مخلوقة للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة، فإذن هي قديمة.

السادس: إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلا مختارا لكان له غرض من خلقته لا محالة، مع أنا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء.

السابع: إنّ التجربة العلمية دلّت على أن كلّ موجود مادّي، معلل بسبب مادّي آخر، و معه لا ملزم للالتزام بوجود فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة.

الثامن: المؤثّر في العالم لا بد أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار و إمّا العلل الطبيعية - على سبيل منع الجمع و الخلو - فإنّ تأثير المريد المختار ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي الذي لا يتغير و لا يتشتت؛ و حيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية و إن الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور.

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث، و من الضروري أنها مخالفة للوجدان و الفطرة و البرهان و الفلسفة و المميز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة. و الإنصاف أنّ هولاء الماديين المتفلسفين، بين من غرّته العلوم الطبيعية فحسب أن تبحّره و مهارته فيها يجوَ له الإفتاء في كل علم و فن و إن كان جاهلا به رأسا:

قل للذي يدّعي في العلم فلسفة *** حفظت شيئا و غابت عنك أشياء

و بين من دعته إليه الأغراض السياسية الدنية و بين من اشتبه عليه تباين الإلهيات و الطبيعيات، فحيث لم يجد اللّه في الحقل التجربي انكره و لم يدر المسكين أن طريق الاستنتاج في كلّ من العلمين لا يرتبط بالآخر أصلا؛ و بين من أضلّه تعريف أصحاب الكنائس حيث جعلوا الخالق جسما متحرّكا آكلا شاربا متصارعا إلى غير ذلك من خرافات التوراة و الاناجيل الموجودين، فإذا اصبح الاله المعبود كذلك فالحق مع الماديين، و الجناية حينئذ على عاتق

ص: 97

القسّيسين و الأحبار و كتابهم.

و على الجملة: أن الموجودات - بكراتها السامية العظيمة و ميكروباتها الصغيرة - دليل على وجود اللّه سبحانه و تعالى و لا يتأتي من عاقل صحيح المزاج إنكاره و هذه الواهيات المذكورة مما يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأولية، و على سبيل التوضيح - و إن كان توضيحا للواضحات - ننبه على فساد كلّ واحد واحد:

فنقول: أمّا الوجه الأول فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب، و ذكرنا أن المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار و الحجّية، بل لا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي، فلا بد ان يكون الإنسان إما شكّاكا و سوفسطائيا أو فلسفيا يقبل العقليات و الحسيات معا؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما.

و نزيد هنا فنقول: ماذا يريدون بقولهم هذا؟

فإنّ أرادوا الإحساس المباشري و أنّ الشيء ما لم يحس بنفسه - بأحد الأحاسيس - لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها، و يبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها، أليست الأرض متحرّكة بحركات مختلفة؟ أليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أليس الأثير موجودا بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات؟ أليس الاتم موجودا؟ أليست لجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلمة؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض و ثقل الهواء و وجود الاثير و الذرة و الجاذبية، فيجوز إنكارها بتاتا؟ و هكذا الحال في الوف من نظائرها، كلا، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق و المعارف بتاتا.

و إن أرادوا الأعم من ذلك و أن الشيء يصدق به ولو بإحساس آثاره - كما هو المقرر الثابت في العلوم التجربية على ما عرفت من الأمثلة المزبورة - فهذا بعينه يجري في المقام، فإنّ اللّه الواجب القديم المجرّد عن الزمان و المكان، و إن لم يدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة، فإن جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره كما تقدم برهانه، و ستعرف أن المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة للّه القهّار.

و أما الشبهة الثانية فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل و قلنا: ان التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي. و نزيدك هنا و نقول: لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر، و كلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية لا بدّ له من سبب بحكم التجربة، فهذا - مع كونه من التسلسل المحال - يبطل قولكم أيضا.

و أما الشبهة الثالثة فهي مخالفة للوجدان، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم ألوفا من

ص: 98

الموجودات توجد في الخارج بعد ما كانت معدومة أليست الصور الطارئة على المادة الازلية المزعومة حادثة عندكم؟ فما هو جوابكم في إصلاحها؟ هو الجواب في حدوث المادة. و حلّ المطلب: أن معنى قولنا: يوجد من العدم، ليس كون العدم علّة مادية للموجود، و لعله لم يخطر ببال صبيّ مميز من صبيان الموحّدين و لم يتصوّره عالم من العلماء الالهيين، بل معناه أنّ اللّه يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجودا، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به.

و أما الشبهة الرابعة فجوابها: أن كلّ موجود مادّي لابد له من مكان و زمان، و لا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقا، و سيأتي تحقيقه في المقصد الثالث إن شاء اللّه.

و أما الخامسة فهي مضحكة، فإن قدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر و هذا شيء عجيب؟ و سيأتي في آخر هذا الجزء أنّ العقل قاض بحدوث جميع الموجودات الممكنة.

و أما الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء - مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها - لا يدل على أن المؤثّر غير عالم، بل لا بد من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالا، و ان لا نعلمه تفصيلا؛ و ذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات، أليس إذا شاهدنا ماكنة كبيرة ذات آلات كثيرة، و علمنا فائدة أكثر أجزائها لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر، يحكم عقلنا بأن صانعها عالم قادر؟ و أنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها لا يدلّ على جهل الصانع المذكور؟ و إني أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن من غلب فطرته الغباوة و السفاهة لا يدرك ذلك.

و أما السابعة فتزيف بأنّ الكلام في العلّة الأولى انقطاعا للدور و التسلسل، فهي إما الأثير و إما المادة، و على كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها و إلاّ جاء الدور و التسلسل، فلا بد من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية و هي الواجب الوجود. و لما ستعرف من ان المادة - بأي شيء فسرت - لا تصلح للمبدئية.

و بالجملة: لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود، و لم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون، بل يقولون بصحّة الاسباب و المسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة، و مع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضا، فإنّ الممكن بعلّته و معلوله غير مستغن عن الواجب حدوثا و بقاء كما مر.

و أما الثامنة فهي من أرذل الكلام، و لعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها؛ اذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي حتى يستكشف النظام عن عدمه؟ بل نقول: إن

ص: 99

نظام الطبيعة من فعله و إرادته و هو - لمكان علمه و قدرته و حكمته و غنائه - لا يريد إلاّ الاصلح، فهذا النظام أكبر برهان على أن مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل، كما سياتي توضيحه فيما بعد، و العمدة إلى العل المادية في طول ارادة الخالق الحكيم، لا في عرضها، فلا تنافي بينهما، و قد خفى هذا الموضوع المهم العالي على المارسيين.

چشم باز و گوش باز و اين عمى *** حيرتم از چشم بندى خدا

فاتضح أن ما نسجه عباد المادة لا يناسب الموازين العلمية و لا يرتبط بالنواميس العقلية، و إنما لداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب، و صدق القرآن المجيد حيث يقول: وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاٰ هُدىً وَ لاٰ كِتٰابٍ مُنِيرٍ(1).

هذا كلّه في الأصل الأول من أصولهم الأربعة المتقدّمة، و من تزييفه و هدمه يظهر سقوط الأصل الثاني و الثالث منها أيضا، فيبقى الأصل الرابع و هو أن مبدأ العالم و مؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة، و قد تقدّم تفسير المادّة و كيفية تشكيل الأجسام منها، و خلاصة القول: أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة موقوفة على وجوبها الذاتي و عدم توقّفها على سبب آخر، كما هو ظاهر؛ و كونها واجبة الوجود و أزلية الثبوت متفرّع على بساطتها و عدم تركّبها اتفاقا - و لذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإن التركب أمارة المسببية كما مر - و على أن حركتها من ذاتها لا من غيرها، و إلاّا كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها، و كلا الأمرين باطل قطعا، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة.

ثم ليعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات تثبيتا لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة(2) أو أكثر منها، و لسنا نحن بصدده فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة، و إنما ننتقد كونها علّة العالم وحدها بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أخرى، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّبا فهو ممّا لا يدانيه شك و لا يمسّه ريب، و قد أكثروا الادلّة على ذلك و إليك بعضها:

1 - كلّ موجود مادّي له جهات ستّ، و كلّ جهة منه غير جهة أخرى منه بالضرورة؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى، و لا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، و يستنتج منه أن كلّ ذرة - مهما فرض صغرها - مركبة من أجزاء ستّة و إن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئتها في الخارج.

ص: 100


1- الحج 3/22.
2- و هي الماء و التراب و الهواء و النار، و زاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى: الكبريت و الزئبق و الملح، وعدها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر.

2 - إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين فقهرا تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين، و عليه فيكون لها سطحان؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة.

و هنا وجوه أخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة لكن هذين الوجهين من أبسطها و أقربها إلى الأفهام الساذجة. فإذن نثبت أن هذه الذرّات و الأجزاء الصغار - سواء في ذلك ذرات ذيمقراط و أمواج روترفورد الذي كسر الذرّة و استكشف أمواجها كما تقدم - مركّبة، فلا بد لها من مركب فاعل التركيب و هو اللّه الواحد القهار.

و أما كون الحركة ليست من نفس المادة بل هو من غيرها - و هو اللّه تعالى - فلما تقرّر في كتب الكلام و الفلسفة من لزوم تعدد المحرك و المتحرّك فلاحظ.

هذا و على قولهم من الحركة الذاتية يلزم تركب الأجزاء و إن سلمنا إمكان بساطتها في نفسها، فإن الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية وجهة مميزة لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأخرى؛ اذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف لما تشكّل الأجسام منها بالضرورة، و هكذا الكلام، في قول بخنز: فان محلّ الدفع غير الجذب، فيتركّب الجزء، و إن جعل الدفع في جزء و الجذب في جزء فهذا أيضا يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزأين في الجوهرية و من جزء مميز بالدفع و الجذب. و هذا ظاهر، و هذا يكفي لهدم جميع ما أسسوه و إبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، و لا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم، فإذن لا بد من الالتزام و الإذعان بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة و لواحقها.

أضف إلى ذلك أنّ المادة - كما نادوا بأعلى اصواتهم - حقيقة واحدة و الحقيقة الواحدة، لا يصدر عنها آثار مختلفة، فكيف يسوغ لهم استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة؟ فإن صحّ ذلك و أمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة أصلح العلوم الطبيعية عقيمة و لا تنتج شيئا؛ بداهة أن التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة يعلم منها أن هذه الحقيقة ذات أثر كذا، فيوضع ذلك قانونا كلّيا و قاعدة شاملة، فيقال مثلا: إن الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقا اعتمادا في الكلية المذكورة على أن الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها. و أما اذا فرصنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدة تجربية قطعا، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة، و قد نقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن باللّه العظيم، فلو صح بساطة المادة لما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية. قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ (1).

ص: 101


1- الزمر 62/39.

النظام الكامل يقتضي على علّية المادة

و لئن اغمضنا النظر عن جميع ما تقدّم من تزييف مبدئية المادة للعالم، لكان نظام الخلقة، و اتقان الطبيعة أحسن شاهد و أقوى كاشف عن وجود المبدأ العليم المريد الحكيم، و قد ظلت العلوم الطبيعية تكشف لنا أسرار الكون، و عجائب الخلقة، و دقائق الصنع بما يندهش منه العقول، أفليس هذا العالم البديع المنظم - بكراته السامية و شموسه المضيئة و ميكروباته الصغيرة، و موجوداته الحية، و نباتاته النامية، و جماداته المتنوعة، و ما أودع في كلّ منها من الحكمة و الدقّة - دليلا على وجود المعبود الواجب القديم المجرد؟ أليست قبة واحدة تحكي عن بنّاء عالم بقانون العمارة و البناء؟ أيمكن أن يقال: إنّ طائرة واحدة طارت إلى السماء بلا سائق أو مدبّر؟ و هكذا، فاذا دلّت ماكنة صغيرة على فاعلها الشاعر، فكيف لا يدلّ هذا النظام البهي الجميل على علم فاعله؟!

و هذه الدلالة ضرورية بديهية لا يمكن لذي شعور إنكارها، فكما لا يمكن ان يصير الجاهل البدوي مدرّسا في العلوم المختلفة بلا تعلم، فكذا المادة لا تكون خلاقة لهذا النظام الكامل التام، بل هو يكشف عن وجود مدبر عالم حكيم و هو اللّه تعالى. و هذا - لمكان بداهته و شدّة جلائه و ارتكازه في النفوس الانسانية - لا يحتاج إلى زيادة بيان و كثرة إيضاح فضلا عن توسيط برهان حساب الاحتمالات الذي ابتكره بلز پاسكال عام 1654 م و قبله عنه غيره، هذا مع أنه غير تام عندي في نفسه.

و على الجملة: من شك في هذا الدليل فقد خرج عن الفطرة السلمية الإنسانية، و القرآن الحكيم في جملة من آياته المباركة قد نبّه الإنسان من هذا الطريق على معرفة ربّه فقال: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ قٰالُوا وَ مَا اَلرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً * تَبٰارَكَ اَلَّذِي جَعَلَ فِي اَلسَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيهٰا سِرٰاجاً وَ قَمَراً مُنِيراً * وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرٰادَ شُكُوراً(1) و قال: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً

ص: 102


1- الفرقان 59/25-62.

وَ جَعَلَ اَلنَّهٰارَ نُشُوراً * وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً * وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً (1) و قال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ (2) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. و أما السنة فهي مشحونة بأمثالها.

ص: 103


1- الفرقان 47/25-50.
2- المؤمنون 12/23-14.

ما يقول المادّيون عن هذا النظام الأجمل

حينما تستنطق الماديين في انبثاق هذا النظام الأكمل عن الطبيعة الجامدة العمياء يجيبونك بوجهين:

الاول: إنه اتّفاق و تصادف، فهذه الأناظيم حصلت اتّفاقا و صدفة من حركات الأجزاء غير المتجزّئة! و قد أشرنا إلى ان هذا الكلام لا ينافي ناموس العلم فقط بل يصادم الانسانية في فطرتها المودعة فيها فلا جواب له. ولو تم التصادف، بطل قانون العلية، و ببطلانه تنهدم العلوم من أساسها.

الثاني: إنه نتيجة الانتخاب الطبيعي و التنازع - التناحر - في البقاء. توضيح ذلك على سبيل الاختصار: أن شارلز روبرت داريون الانجليزي (1809-1882 م) دوّن فرضية رجوع الأنواع إلى أصل واحد أو أصول محدودة، و بعبارة أخرى: أنّ هذه الفرضية تقول: إنّ هذه الأنواع الموجودة من الحيوانات لم تكن كذلك في أصلها، بل أصلها إما نوع واحد أو أنواع محدودة.

و جعل لتركيزها نواميس أربعة:

1 - التنازع في البقاء: فكلّ حي ينازع في حفظ كيانه و تثبيت بقائه و ان كان ذلك مستلزما للتجاوز على الآخرين.

2 - الانتخاب الطبيعي: يعني أن نتيجة التنازع المذكور بقاء الأصلح و فساد غير الأصلح أو ضعفه جدا.

3 - قانون المطابقة: و هو تأثير الأمكنة و الأغذية و الملابسات الواقعة في الحياة في اختلاف الأفراد و الأنواع فقوة أظفار الأسد وحدته لافتراسه، فلو وقع في محلّ لا يمكنه الصيد و اضطر إلى أكل الحشائش - كالدواب مثلا - يبطل خاصية أظفاره بل تقوى أنيابه و هكذا.

4 - قانون الوارثة: و هو أن الصفات العارضة و الأطوار الاتّفاقية التي طرأت على الحيوانات من جهة اختلاف الأحوال تنتقل إلى أولادها، فتوجب اختلاف أشكالها بحيث ينجرّ إلى تخيل اختلاف أنواعها في الأصل مع أن الاختلاف المذكور نتيجة التوارث بتمادي الزمان.

و عليه يترتّب رجوع الأنواع إلى نوع واحد، أو أنواع محدودة.

ص: 104

و لما انتشرت هذه الفرضية فرح المادّيون بها، و حسبوا أنّها كافية لأن يعلل بها النظام المحكم الساري في أجزاء العالم، و معها لا موجب للتشبّث بالصدفة و الاتّفاق الذي يرفضه اوائل العقول الساذجة، و ينافره شرف العلم و الإنسانية، فقالوا: إن الطبيعة و إن كانت غير شاعرة، ألا أن هذا النظام متولّد من انتخابها بعد التنازع في البقاء، بضميمة المطابقة و الوراثة، فارتقاء الموجودات إلى هذه الدرجة من التكامل معلول هذه النواميس دون المادة نفسها.

أقول: البحث حول هذه الفرضية عن ناحيتين: الناحية الأولى في صحّتها في نفسها، و الناحية الثانية في استنتاج ما تخيّله الماديون منها.

أمّا الناحية الأولى و صحّتها في نفسها فلا دليل عليها غير بعض التخمينات و التخرّصات التي لم يقرّ بها العلم و لا الفلسفة، بل البرهان على خلافها، بل الانصاف أنّها مخالفة للحسّ و الوجدان و الأخلاق كما فصّلنا القول فيها في مجموعتنا المسماة ب «كشكول محسنى»، و قد دلل على بطلانها غير واحد من باحثي الغرب حتى أخرجها بعضهم من لامسائل العلمية، و جعلها آخر منافية للتمدّن الغربي و موجبة لتأخّره، و حسبها الثالث من الأقاصيص التي تحكيها الأمهات لاولادها الصغار، بل نسبها بعضهم إلى الجنون... إلى غير ذلك من الكلمات الحادّة التي نقدوا بها هذه النظرية(1).

و أما الناحية الثانية فنقول: إذ سلّمنا هذه الفرضية بتمامها و حسبناها قطعية فلا يمكن استفادة مرام الماديين منها كما لا يمكن استفادة الحرارة من الثلج!

نقول: من الذي أوجد هذه الموجودات؟ من الذي خلق هذه الذرّات المركبة؟ من الذي أعطى الطبيعة انتخابها؟ من الذي أودع التنازع في كيان الأشياء؟ و هكذا فلا بد إمّا من الرجوع إلى الصدفة و الاتفاق، أو إلى الإيمان بخالق الإنس و الجان. و هذا الذي ذكرنا لم يخف على داروين نفسه؛ و لذا لم يجعلها دليلا على إنكار الصانع، بل قيل: إنّه كان عاملا و مقيدا بجميع ما جاء في مذهب الپرتستان أرتدوكس(2) من دين المسيح عليه السّلام، بل صرح بأن عقائده لا تنافي المذاهب(3).

و إليك ملخّص ما كتبه هو إلى بعض الألمانيين عام 1873: يستحيل على العقل الرشيد أن تمرّ به خلجة من الشك في أن هذا العالم الفسيح بما فيه من الآيات البالغة و تلك الأنفس الناطقة

ص: 105


1- الجينات الورائية أثبتت اليوم خلقة الإنسان الإبتدائية و ابطلت فحول الانسان من الحيوان، و تدلّ هي على صدق ا لقرآن على اخباره إن الانسان خلق كذلك ابتداء.
2- فيلسوف نماها/ 226.
3- المصدر نفسه/ 225.

المفكرة قد صدر عن مصادفة عمياء؛ لأن العمى لا يخلق نظاما و لا يبدع حكمة. ذلك اكبر برهان يقوم عندي على وجود اللّه.

ثم يقول: و لقد قامت عندي شكوك كثيرة لأوّل عهدي بالبحث، فسألت: من أين جاءت العلّة الأولى؟ و هل لها نشأه و معاد؟ غير أني لم ألبث حتى استبان لي أنّ هذا الشك نفسه قد يخطر للإنسان إذا فكّر في نشأة المادّة المحسوسة ذاتها، فمن أين جاءت المادّة القديمة؟ و هل لها أوّل؟ أم هي أزلية؟ فإذا كانت أزلية - و غالب الظن على ذلك - فمن أين أتت؟ تلك الحدود التي يقف عندها الفكر الإنساني معترفا بالعجز(1) لكنّ الماديين اكثروا السرعة من مقلدهم - بالفتح - و لم يدروا أن هذه التلفيقات على فرض صحّتها لا ترتبط بهو ساتهم أصلا.

ثم إن شارلز داريون ليس مؤسّسا لهذه النظرية بل ذكرها غير واحد ممن سبقه، كما ذكره فريد وجدي في دائرة المعارف، بل يوجد ذلك في كلمات العرب - إخوان الصفا و غيرهم أيضا - كما نقلها إسماعيل مظهر في مقدّمة ترجمة اصل الانواع(2) مع أنهم من المسلمين. فاتضح من جميع ذلك أنّ هذه النظرية لا تشفي داء الماديين، فإنّ صحّتها لا تصادم وجود اللّه تعالى بل و لا غيره من الاصول الدينية. نعم هي غير صحيحة عند القرآن فإنّه يبيّن خلقة الإنسان بدوا و ينفي - بالدلالة الالتزامية - تكوّنه من القرود و غيرها، فهي تخالف الإسلام في مسألة فرعية جزئية.

و قد عرفت أنّ البرهان و الحسّ و الأخلاق ترجّح جانب القرآن.

و لهم جواب ثالث معروف بالفلسفة الدياليكتيكية و قد بنيت على أصول أربعة:

التغير و التحوّل الباطني (في مقابل التغير الحاصل من خارج الشيء المسمّى بالميكانيك)، صحّة التناقض و التضاد بل ضرورة وقوعهما في كلّ شيء، تأثير التقابل و هو ارتباط الأشياء بعضها ببعض بلا انفصال لشيء منها من هذه السلسلة المرتبطة، تبديل الكمّية إلى الكيفية دفعة واحدة؛ و عليها بنوا إنكار الواجب الوجود و الأديان بل و جميع الأحكام العقلية؛ اذ لا شيء ثابت عندهم أصلا، بل كلّ شيء له أوّل و نهاية، و بها عللوا نظام العالم المتقن!

لكن هذه الفرضية واضحة البطلان؛ لان الأصل الأول يشمل نفس هذه الفرضية أيضا، فلا قيمة لها، فإنّها محكومة بالزوال و الاضمحلال. و حله: أن التغيّر غير جار في العلوم غير المادية، أليست نتيجة ضرب الاثنين في الاثنين هي الأربعة، و هل يحتمل أحد أن تكون النتيجة خمسة أو ثلاثة في زمان من الازمنة؟ لكنّهم لا يفرقون بين العلوم الطبيعية و العقلية فيطبقون احكام الاولى على الثانية.

ص: 106


1- مقدّمة ترجمة أصل الأنواع بالعربية تأليف إسماعيل مظهر/ 26.
2- أصل الأنواع/ 29-41.

و أما صحّة التناقض و التضاد و الحكم بوقوعهما، بل بضرورة وقوعهما فضلا عن إمكانه فهو مخالف للفطرة الإنسانية و الضرورة الأولية، فإن امتناعهما ضروري عند كل أحد حتى الصبيان، لكن الأمر اشتبه على الماديين الدياليكتيكيين و لم يقدروا على ضبط الوحدات المعتبرة في التناقض. و حيث أتوا بأمثلة جزئية دالة على وقوعه لم يلتفتوا إلى فقدان وحدة أو وحدات منها، فحسبوا أنهم فازوا بمرادهم! و قد مرّ الكلام فيه(1).

و أمّا الثالث فلا كلّية و تعميم فيه و لا دليل على ذلك، و أمّا الرابع فهو باطل و ما قيل في وجهه مضحك جدا و لا ينبغي أن نضيع الوقت بإطالة الكلام معهم إثباتا و نفيا، و لعمرك أن وضوح فساد كلام المادّيين و شدّة اختلاله دليل آخر على وجود الواجب الوجود و ضرورة إثبات الصانع المختار العليم أَ فِي اَللّٰهِ شَكٌّ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ.

و على الجملة: أن جميع فرضيات الماديين حول مبدأ العالم و تلفيقاتهم حول نظام العالم البديع ترجع إلى صدفة عمياء لا غير، و هي تناقض مبدأ العليته العامّة الشاملة غير القابلة للاستثناء، فلا تغرنكم كثرة تعابيرهم و فرضياتهم فدقق النظر تجد صدق قولنا، و بعد ثبوت تركب الذرّة و تجزئتها فقد سقط معبود الماديين إلى اليوم و إلى الأبد.

ص: 107


1- و خلاصة الكلام أن الماديين اشتبهوا في مبدأ التناقض، أو لا باشتباه التضاد الفلسفي بالتضاد العلمي، و ثانيا بعدم الفرق بين التناقض و التضاد الفلسفيين، و ثالثا بإمكان الأخيرين و ضرورة وقوعهما! غافلين عن ان التناقض الفلسفي لو كان ممكنا لكان إنكارهم على مخالفيهم باطلا لصحّة و وقوع التناقض و عدمه!

خاتمة

اعلم أن معرفته تعالى على درجات، الدرجة الأولى: ما يحصل من الدلائل الانية. الدرجة الثانية ما يثبت بالبراهين الشبيهة باللم، الدرجة الثالثة: ما يستقرّ بالمشاهدة القلبية و لها عرض عريض رزقنا اللّه إياها، ففي رواية أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال:

«جاء حبر إلى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: ويلك ما كنت أعبد ربّا لم أره. قال: و كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان(1).

و في دعاء يوم عرفة المنسوب إلى أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام: «الهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني اليك. كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ و متى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا... منك أطلب الوصول اليك، و بك استدلّ عليك، فاهدني بنورك اليك... انت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك و وحّدوك، و انت الذي أزلت الاغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك...

الخ» هذا، و كل ميسر لما خلق لاجله.

و اعلم أن معرفة معظم المؤمنين الباحثين - فضلا عن العوام - باللّه تعالى إنّما هو بمفاهيم كليته يضم بعضها مع بعض تنطبق على الموجود الواحد المخصوص، و هو اللّه تعالى كمفهوم الواجب الوجود غير المركب و المتعدد، و كمفهوم الصانع و الخالق الحكيم المدبّر و كمفهوم القديم الأزلي الأبدي الباقي و نحوها، و هي معرفة علمية يكتبها أهل المعقول من المباحث الفلسفية و الكلامية.

و أما المعرفته القلبية الإشراقية الإلهامية - و ما شئت فسمها به - فهي تحصل من العبودية و الاخلاص و الخضوع مع صفاء الروح. و المؤلّف الفقير الناقص حيث لم يذق حلاوة الإيمان في باطنه، يعلم أن إيمانه باللّه تعالى، معرفته علمية لا معرفته قلبية. ف اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ (2).

ص: 108


1- أصول الكافي 98/1.
2- الحجر 99/15.

المقصد الثاني في صفاته الثبوتية

اشارة

تمهيد

الموقف الأوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية

الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية

ص: 109

المقصد الثاني في صفاته الثبوتية

تمهيد

اشارة

كلّ ما أوجب اتّصاف الواجب به كمالا و بهاء بلا استتباع نقص، فهو صفة ثبوتية، و ما لم يكن كذلك فهو صفة سلبية؛ لما سيمرّ عليك في محله - إن شاء اللّه - من أنّه كامل في غاية الكمال، كيف و هو مصدر كلّ كمال فلا سبيل للنقص إليه أبدا.

و أمّا ما ذكره بعض المتكلّمين، و شاع في الألسن، من حصر الصفات الثبوتية في الثمانية(1)و السلبية في السبعة(2) فخطأ محض، و لعلّه للاهتمام بها أو لوقوع الاختلاف فيها، أو لاحتياجها إلى الاستدلال، و غير ذلك من الاعتبارات، و إلاّ فلاحد لحميد صفاته و جميل افعاله.

و قد ورد في الشرع له تعالى أوصاف كثيرة جمّة، كما يظهر لمن راجع الأخبار و لا سيما الأدعية.

ثم إنّ مصادر هذه النعوت - كالعلم و القدرة و الرحمة مثلا - تسمّى في اصطلاحهم ب «صفات اللّه»، و مشتقاتها - مثل العالم و القادر و الرحيم - ب «أسماء اللّه».

إذا تبيّن ذلك فاعلم أن جميع صفاته تعالى:

إمّا حقيقة محضة. و هي ما لا يعتبر في ثبوته له تعالى لحاظ شيء آخر، مثل الحياة، و الوجوب، و الحقية، مثلا، فهو حيّ واجب حق بلا لحاظ أمر آخر يتوقّف عليه صدق هذه الصفات و أمثالها.

و إمّا إضافية محضة و هي ما لا تحقّق له إلاّ بعد وجود شيء آخر كالرزق و الخلق و الرحمة و غيرها، فإنها لا تثبت إلاّ إذا كان هناك موجود مرزوق مخلوق مرحوم.

و إمّا حقيقية ذات إضافة و هي ما لا يتوقّف مفهومه على شيء آخر، و ليس الإضافة مأخوذة في واقعها إلاّ أنها تعرض له، و ان شئت فقل: إن تحقق هذا القسم من الصفات غير موقوف على

ص: 110


1- كما قال شاعرهم: عالم و قادر وحى است مريد و مدرك هم قديم و ابدى دان متكلم صادق
2- كما قيل: نه مركب بود و نه جسم مرئى نه محل لا شريك است و معانى تو غنى دان خالق

أمر ثان، لكن ترتّب أثرها لا يكون إلاّ باضافتها إلى شيء مقدور. كالقدرة مثلا، فإنّ أصل تحققها له تعالى لا يحتاج إلى شيء آخر فليست الإضافة معتبرة في مفهومها، لكن أثر القدرة لا يتنجّز الا بوجود مقدور.

و إمّا سلبية و هي ما يعتبر في مفهومها السلب كالبساطة و التجرّد و الوحدة و الغنى و اشباهها؛ إذ الأول سلب التركيب، و الثاني سلب المادة و عوارضها، و الثالث سلب الشركة، و الرابع سلب الفقر و هكذا، فهذا القسم و ان كان على صورة الثبوت لكنها من النفي حقيقة، على حدّ سلب الجسمية و المعاني و الرؤية و الحلول و الاتحاد، و غيرها من الصفات السلبية ظاهر و واقعا.

ثم يقال للقسم الأول و الثالث: الصفات الذاتية و الصفات الكمالية، و يعبر عن القسم الثاني بالصفات الفعلية و الصفات الاضافية و الصفات الجمالية، و هنا قسم آخر لم يذكروه و سمّيناه بالصفات المدحية، و سيأتي بحثها في هذا المقصد إن شاء اللّه، و يسمى الجميع بالصفات الثبوتية. و أما القسم الرابع فيقال له - بكلا نوعيه - الصفات السلبية و الصفات الجلالية و الصفات التقديسية، و الذي يهم في المقام بيانه هو فرق الذاتية و الفعلية، و أنه كيف نعرف أن هذه الصفة الثبوتية فعلية و هي حادثة، و تلك ذاتية و هي قديمة؟

و إليك ذكر ما يفرّق بينهما من الموازين.

1 - كلّ صفة أمكن نفيها عن الواجب القديم و صحّ إثبات نقيضها له فهي فعلية، و إلاّ فهي ذاتية؛ و ذلك لأن الصفة الذاتية إمّا واجبة بل عين ذاته كما هو الحق، و إما واجبة الثبوت للذات فلا يمكن انفكاكها عنها(1).

2 - كلّ صفة كان لها ضدّ وجودي فهي فعلية؛ اذ الذاتية عين الذات، و ستعرف في محله أن لا ضدّ للذات الواجبة، و أما إذا لم يكن لها ضدّ فلا يجب أن تكون ذاتية، فالملازمة من أحد الطرفين كما لا يخفى.

3 - كلّ صفة اعتبرت في مفهومها الإضافة فهي فعلية؛ لاحتياجها إلى غير الواجب، فلا يعقل كونها ذاتية، و هذا واضح؛ و كلّ صفة لم تكن إضافية محضة فهي ذاتية؛ إذ لا واسطة بين الفعلية و الذاتية؛ فحيث إن الصفة غير الإضافية المحضة لا تكون فعلية للزوم الإضافة في قوام الفعل، فهي ذاتية لا محالة.

4 - كلّ ما وقع تحت قدرته فهو من الصفات الفعلية، و ما لم يقع فهو من الصفات الذاتية؛

ص: 111


1- و أمّا الصدق و العدل، و ان لا يجوز سلبهما عن اللّه تعالى في شيء من الاوقات عند الناس الاّ أن سلبهما بسلب منشائهما، فيقال: إنّه لم يكن متكلّما و معاملا أزلا فلا يكون صادقا و عادلا.

و السر في ذلك واضح، فإن الخارج عن القدرة ليس إلاّ الواجب.

5 - كلّ صفة أمكنة وقوعها تحت الإرادة فهي فعلية، و إلاّ فهي ذاتية، و يظهر وجهه ممّا سبق.

و أما قوله تعالى: وَ هُوَ عَلىٰ جَمْعِهِمْ إِذٰا يَشٰاءُ قَدِيرٌ(1)، و قوله عليه السّلام: «شاء - أي اللّه - ان لا يكون شيء في ملكه إلا بعلمه» حيث تعلق المشية بالقدرة و بكون الشيء معلوما له تعالى، مع أن القدرة و العلم من الصفات الذاتية، فلا بد من توجيههما بوجه مقبول.

6 - كلّ صفة وقعت في حيّز ألفاظ دالّة على الحدوث و الإمكان فهي فعلية لا محالة. و من الألفاظ المذكورة: سوف، سين الاستقبال، جملة من حروف الجر، عسى، و نظائرها، الفاء العاطفة الدالة على الترتيب، ثم، اذا، ان، لو، و غير ذلك.

قال اللّه تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّٰهُ (2)، سَيَرْحَمُهُمُ اَللّٰهُ (3)، لِيُضِلَّ قَوْماً(4)، عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ (5)، ثُمَّ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ (6)، إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ (7)، فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ، وَ لَوْ شِئْنٰا(8).

و أما قوله تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ (9)، و قوله: إِلاّٰ لِنَعْلَمَ(10) و أمثاله فسيأتي ما يتعلّق به في مبحث علمه إن شاء اللّه.

ثم إنّ هذا الميزان الأخير السادس - لمكان اتخاذه من ظواهر الالفاظ - ظني غير قطعي. اذا تقرّر ذلك فلنبحث في هذا المقصد عن المواقف الثلاثة: الموقف الأول: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية، و الموقف الثاني في صفاته الثبوتية المدحية التي لم يذكرها العلماء، و الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية.

أما الموقف الأوّل ففيه فصول أربعة:

ص: 112


1- الشورى 29/42.
2- المائدة 54/5.
3- التوبة 71/9.
4- التوبة 115/9.
5- التوبة 102/9.
6- المؤمنون 45/23.
7- النحل 40/16.
8- الأعراف 176/7.
9- الأنفال 23/8.
10- البقرة 143/2.
الموقف الأول في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية
اشارة

الفصل الأوّل: في قدرته

الفصل الثاني: في علمه

الفصل الثالث: سمعه و بصره

الفصل الرابع: في حياته

ص: 113

الفصل الأول في قدرته تعالى
اشارة

الناحية الأولى: في إثبات أصل القدرة

الناحية الثانية: في كيفية القدرة و تفسيرها

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

مطلب مهمّة

ص: 114

الفصل الأول في قدرته تعالى و الكلام فيه من نواح ثلاث:

الناحية الأولى: في إثبات أصل القدرة

فنقول: إنّ ما يدل على ذلك وجوه:

الاول: إنّ القدرة الواجبة لا تستحيل على الذات الواجبة الوجود قطعا، فهي إذن ثابتة له؛ لما مرّ من قاعدة الملازمة.

الثاني: إنّ هذه الكائنات المشهودة تدل على أنّ اللّه الذي أوجدها قادر بأتم قدرة. أمّا الصغرى - و هي كون الواجب خالقا لها - فقد مرّ إثباتها في المقصد الأول بأكمل بيان، و قد عرفت في المدخل أيضا أنّ الكائنات الممكنة محتاجة إلى فيضه حدوثا و بقاء، و أما الكبرى فهي من الأوليات البديهية. و هذه الحجة اقوى الحجج و أتمّها و أظهرها بلا ريب.

الثالث: القدرة الممكنة متحققة في الخارج حسّا و وجدانا، و هي تقتضي القدرة الواجبة؛ إذ كلّ ما بالغير لا بدّ و أن ينتهي إلى ما به الغير دفعا للدور أو التسلسل، و لا تعقل القدرة الواجبة إلا للذات الواجبة. ثم إن اختلاف ما بالغير عمّا به الغير سنخا و نوعا، و إن كان ممكنا، إلاّ أن ما به القدرة لا يكون إلا قدرة، كما يظهر وجهه للمتأمّل.

الرابع: العجز نقص، و النقص عليه محال، فهو قادر لعدم واسطة بين القدرة و العجز إلا أن المدّعى أظهر من الكبرى بمراتب.

الخامس: اتّفاق الملل و النحل و إجماع الأنبياء و الآيات القرآنية و الروايات المتواترة تدل على أن اللّه قادر. ذكره بعض المتكلمين.

أقول: اتّفاقهم و إجماعهم من جهة الأدلة العقلية المتقدّمة لا أنه تعبّدي، على أن المطلوب ليس أمرا محسوسا يصحّ فيه التواتر، و حجّية قول النبي بل نبوته و حجية القرآن و صدقه موقوفة على قدرته تعالى، كما سياتي في محلّه، فلو توقّف اثبات القدرة عليها للزم الدور.

السادس: ما في المنظومة و شرحها للسبزواري من قوله: «و كونه تعالى نورا على القدرة

ص: 115

دل؛ لأن الفياضية لازم النور، و هذا النور عين المشيّة و الشعور»(1).

أقول: و سيأتي أن المشيّة ليست عين وجوده، على أن الاستدلال أيضا غير واضح، فهذا الوجه أيضا غير تام عندنا.

لا يقال: القادر على الفعل قادر على الترك، و إلا كان موجبا؛ ضرورة تساوي القدرة إلى الطرفين، لكن العدم غير مقدور؛ لأنه أزلى و لأنه نفي محض لا يصلح لأن يكون أثرا.

فإنّه يقال: القادر هو الذي يمكنه أن يفعل و أن لا يفعل، لا ان يفعل العدم، و أما أزلية العدم فهي لا تنافي القدرة؛ لأن استمراره بيد القادر. و الشبهة سخيفة جدا؛ لأنها تبطل القدرة مطلقا، مع أنها وجدانية و محسوسة في الحيوان.

الناحية الثانية: في كيفية القدرة و تفسيرها
اشارة

و هذه مسألة هامّة جدا، و قد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية و الأنظار الكلامية، و التضارب فيها شديد جدا بحيث نسب طائفة إلى الجهل و الضلال، و ابتلي فرقة بالتكفير و التفسيق.

و تصوير النزاع في هذه المسألة: أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا؟ و إن شئت فقل: ان ما يصد عنه هل هو واجب منه أم لا؟ بل يمكنه الترك و الفعل معا، فلا وجوب للفعل منه، و إنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته، فإن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

و بكلمة أوضح بيانا: لا شك عند الموحدين أنّ اللّه مختار في خلقه و فعله، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان الذي هو بمعنى له أن يفعل و له أن لا يفعل، ام لا بل هو من سنخ آخر؟

المتكلّمون على الأول، و الفلاسفة على الثاني؛ و حيث إنّ البحث عنه مهم جدا نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها، و لنكن حين الاستدلال و الاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا.

فنقول: قال الفيلسوف الشهير في أسفاره(2): إن للقدرة تعريفين مشهورين:

احدهما: صحّة الفعل و مقابلة أعني الترك.

و ثانيهما: كون الفاعل في ذاته بحيث إنّ شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل.

و التفسير الأول للمتكلمين و الثاني للفلاسفة، و من المتأخّرين من ذهب إلى أن المعنيين

ص: 116


1- منظومة السبزواري/ 172.
2- الأسفا، المجلد الثاني، الفصل الأول من الموقف الرابع، (الطبعة القديمة).

متلازمان بحسب المفهوم و التحقق، و أن من أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأول قطعا؛ و ذلك لأن الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل، كان لا محالة من حيث ذاته - مع عزل النظر عن المشيّة و اللامشية - يصح منه الفعل و الترك، و إن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية و الترك إذا وجب اللامشية، فلزوم الفعل و وجوبه من تلقاء دوام المشية و وجوبها لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشية، و كذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

أقول: ما ذكره غلط و خبط فإنّ الصحّة و الجواز في الفعل و مقابله، مرجعهما الإمكان الذاتي، و تحقّقه مستحيل فيه تعالى فإنّه وجوب بلا إمكان، و إنّما يجوز تلك النقائص عند من يجعل صفاته زائدة على ذاته كالاشاعرة، أو يجعل الداعي على صنعه و إيجاده أمرا مبانا، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد؛ صفة كانت أو داعيا، جائز المشيئة و اللامشيئة صحيح الفاعلية و اللافاعلية، و أمّا عند من وحّده و قدّسه عن شوائب الكثرة و الامكان فالمشية المتعلّقة بالجود و الإفاضة عين ذاته بذاته بلا تغاير بين الذات و المشيئة خارجا و ذهنا، بلا اختلاف حيثية تقييدية و تعليلية، فصدق القضية الشرطية القائلة: إن شاء فعل، لا ينافي وجوب المقدم، و ضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة، و كذا الشرطية القائلة: إن لم يشأ لم يفعل لا ينافي استحالة المقدم امتناعا ذاتيا، و ضرورة نقيضه ضرورة أزلية. فعلم أن التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأول، و لا تلازم بينهما الا في القادر الذي يكون إرادته زائدة على ذاته، و أمّا الواجب فلكونه فوق التمام و بذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل لا بمشيئة زائدة و لا بهمة عارضة لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته و علمه و رضائه و حكمته التي هي عين ذاته يفيض الخير و يجود النظام، و هذا أتم أنحاء القدرة و أفضل ضروب الصنع و لا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده... الخ انتهى كلامه مع تغيير ما.

و قال الحكيم السبزواري: لا يلزمنها - أي القدرة - حدوث ما انفعل، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر، خلافا للمتكلّمين، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتا ما عن الذات. - (و بعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكانا ذاتيا، و بعضهم إمكانه إمكانا وقوعيا. و الإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال. و الحال أن فيه محالا كلّ المحال؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته، كعدم العقل الأول أو عدم الفعل مطلقا؛ و بعضهم اعتبروا الوقوع في الترك. و فيه: أنه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة)(1) - و قد عرفوا قدرته بصحّة الفعل و الترك. و هو باطل؛ إذ الصحّة هي الإمكان، و واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل... فالحق تعالى

ص: 117


1- هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة و نحن أدرجناها في المتن، بين قوسين.

موجب - بكسر الجيم - أي فاعل يجب فعله بقدرته و اختياره. و هذا على مذهب الحكيم حيث يقول: الشيء ما لم يجب لم يوجد، و ليس موجبا - بفتح الجيم - أي فاعلا يجب فعله لا بقدرته و اختياره كالمضطر، تعريض إلى من نسب إلى الحكماء اطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى بانه حرف الكلمة عن موضعها(1)... الخ

و قال المحقّق الطوسي قدّس سرّه في قواعد العقائد: و القادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل و لا يجب، و إذا فعل فعلا باعتبار (اختيار ظ) و إرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل. و يقابله الموجب، و هو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل و يجب أن يقارنه فعله؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لما كان صدور الفعل عنه واجبا؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور. و المتكلّمون يقولون بأن الباري تعالى قادر، إذا كان فعله حادثا غير صادر عنه في الأزل، و يلزم القائل بالقدم كون فاعله موجبا.

و الحكماء يقولون: كل فاعل فعل بارادة مختار سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه.

و موضع الخلاف في الداعي، فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده بعد الداعي بالزمان أو تقدير الزمان، و يقولون: إنّ هذا الحكم ضروري و الحكماء ينكرونه(2). انتهى.

قال الحكيم اللاهجي في شوارقه: إنه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل و الترك، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين و الحكماء. و أمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم و تركه بالنظر إلى ذاته تعالى، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل و ان لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين...

إلى أن قال: فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة الذي هو المفهوم الشرطي بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم و عدم وجوبه(3).

قال العلامة الحلي قدّس سرّه في ضمن كلام له: لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادرا و يكون موجبا، و هذا هو الكفر الصريح؛ اذ الفارق بين الإسلام و الفلسفة إنّما هو هذه المسألة(4)!

قال في شرح المواقف: أي يصح منه إيجاد العلم و تركه، فليس شيء منهما لازما لذاته بحيث يستحيل إنفكاكه عنه، و إلى هذا ذهب الملّيون كلّهم، و أما الفلاسفة فإنهم قالوا: إيجاده

ص: 118


1- شرح المنظومة/ 172.
2- شرح قواعد العقائد/ 39.
3- الشوارق 210/2-211.
4- إحقاق الحق 116/2.

للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور... و أما كونه تعالى قادرا بمعنى إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل فهو متّفق عليه بين الفريقين...(1) الخ.

قال القوشجي في شرح التجريد: ذهب المليون قاطبة إلى ان تأثير الواجب في العالم بالقدرة و الاختيار على معنى انه يصح منه فعل العالم و تركه و ذهب الفلاسفة إلى ان تأثيره فيه بالايجاب(2) انتهى.

و كذا الاصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار.

و قال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة: و قيل: هو (أي القادر) كون ذاته بذاته في الأزل بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وفق علمه بها، و هي عين ذاته.

و قيل: هي - القدرة - علمه بالنظام الأكمل من حيث أنه يصحّ صدور الفعل عنه. و قيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه. و قيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته، و هي العناية الازلية(3) انتهى.

تعقيب تحصيلي

هذه نبذة من كلماتهم في المسألة، و هي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالة واضحة، و لمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير، و هو أمور:

الأول: إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم، و لا ملازمة بين القولين أصلا كما زعم، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة، و الفلاسفة ينكرونها أشدّ الانكار.

فالتعريف الأول - و هو صحّة الفعل و الترك - صحيح عند أصحاب الكلام و باطل بزعم أرباب الفلسفة، و أمّا التعريف الثاني - و هو إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل - فهو ينطبق على كلا المسلكين، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم و امتناع التالي و لا امكانهما، فالمتكلّم على الثاني و الفلسفي على الأوّل.

الثاني: اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين في الذي كان إرادته زائدة على ذاته، و كان داعيه أمرا مباينا، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور و الترك، و الخلاف فيمن كان إرادته و داعيه عين ذاته بلا فرق أبدا.

الثالث: ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته و عدم إمكان تخلّفه عنها -

ص: 119


1- شرح المواقف 41/3.
2- شرح التجريد/ 348.
3- منهاج البراعة 309/1.

سواء كان إمكانا ذاتيا أو وقوعيا - فضلا عن وقوع الترك كما ظهر من كلام الأسفار و شرح المنظومة، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم و تركه بالنظر إلى ذاته، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين، ساقط جدا فإنّ فعل العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما على نحو ما عرفت.

الرابع: معنى اختيار الواجب عند الحكماء هو صدور الفعل عنه مقارنا للعلم و الرضاء فقط، و لا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكانا ذاتيا، بل يرون امتناعه كما مرّ، و هذا بخلاف المتكلّمين، فإنّهم يرون وقوع التخلف شرطا في مفهوم الاختيار كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي، أو إمكان التخلّف إما ذاتيا أو وقوعيا كما نقله السبزواري عن بعضهم.

أقول: فلإيجاب عند الأولين هو صدور الفعل من غير العلم و الرضاء به، و عند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه، فالحكيم إذا ادّعى أن الواجب القديم مختار يعني به: أنه عالم بصدور فعله عنه، و ليس كالشمس في إشراقها و النار في إحراقها.

قال خاتم الفلاسفة في أسفاره: فإذن ما يقال من أن الفرق بين الموجب و المختار: أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل و ألاّ يفعل، و الموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل، كلام باطل؛ لأنك قد علمت أن الإرادة متى كانت متساوية لم تكن جزمة، و هناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند من نفى العلّية و المعلولية بين الأشياء كالأشاعرة، و متى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبة للفعل، و لا يبقى حينئذ بينها و بين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرنا من أن المريد هو الذي يكون عالما بصدور الفعل الغير المنافي عنه، و غير المريد هو الذي لا يكون عالما بما يصدر عنه - كالقوى الطبيعية - و إن كان الشعور حاصلا، لكن الفعل لا يكون ملائما، بل منافرا، مثل الملجأ على الفعل فإن الفعل لا يكون مرادا له.. الخ

الخامس: محور النزاع و مناط البحث في المقام هو الداعي، فإنه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين؛ اذ الفعل حينئذ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور و اللاصدور، كما ذكره في الأسفار و هو واضح؛ أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة، كما نقله العلامة الطوسي عن المتكلّمين، بل تقدّم عن التفتازاني(1) أنه متّفق عليه بين الفلاسفة و المتكلّمين، و عليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدم - حيث قال: و الحكماء ينكرونه - راجع إلى الداعي نفسه لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أن المراد بالداعي - كما يظهر من مسفوراتهم - هو إرادته التابعة

ص: 120


1- تقدّم في الصفحة 81 من هذا الجزء.

للأغراض الزائدة على ذات الواجب، كما عن الإمامية و المعتزلة، و الحكماء ينكرونه جدا و يقولون: إن الغرض من فعله، نفس ذاته المقدسة. و الأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى، و لكنّهم يجعلون صفاته زائدة على ذاته، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم.

و مسألة تعلل أفعاله بالأغراض الزائدة مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جدا، و مع ذلك أهملت في الكتب الكلامية، و لكننا سنستوفي بحثها في المقصد الخامس إن شاء اللّه تعالى، و سنبرهن من العقل و القرآن على صحته، لكن الشأن في الابتناء المذكور، فإنّ الفعل - بناء على زيادة الداعي على الذات - و إن كان ممكنا بالنسبة إلى الذات المذكورة من حيث الصدور و اللاصدور. كما ذكره في الأسفار، و هو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات، لكنه لا يثبت مذهب المتكلّمين ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور، فإنّا لو فرضنا أن الذاعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه - صدور المعلول عن علّته التامة - أيضا غير مقدور.

فأين الاختيار؟

و قد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة و المصلحة و لعله المشهور بين العدلية. و من الواضح أن العلم - سواء كان عين ذاته أو زائدا عليها و قائما بها من الأزل - غير مقدور للواجب.

و خلاصة المقال: أن مجرّد إمكان الفعل صدورا و تركا بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي لا يفي بإثبات اختيار الواجب الذي يصرّ عليه المتكلّمون، فإنه بمعنى له أن يفعل و له أن لا يفعل، و هذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي، و أمّا ما ادّعاه شركاء الفن و غيرهم من الضرورة على أن الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي - و هو علمه بما في الفعل من المصلحة و القول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية، فإنّ اللّه قديم الذات و قديم العلم، فهو عالم أزلا بأن الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلا، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قدم المعلول. نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله، كما يرومه الكلاميون اعتمادا على ما سيجيء من دلائلهم في هذه المسألة و مسألة حدوث العالم، كما ستعلم وجهه في الدليل الثاني من أدلّة الحكماء.

السادس: الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سرّه أن وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار، لكنه غير مدلل، بل الملاك هو إمكانه إمكانا وقوعيا. و أمّا نفس التخلّف خارجا فهو غير معتبر. نعم هنا شيء آخر و هو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قدمه أو لا؟ و سيأتي بحثه

ص: 121

في مسألة حدوث العالم، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار؛ اذ استحالة قدم الممكن في نفسه شيء و منافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر، و لا ربط بينهما أصلا.

هذا ما يتعلّق بجهات البحث و تصوير المدّعى، و لنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول: استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه، و إليك بيانها و توضيحها:

الأول: إن الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته، فهو واجب في ذاته و صفاته، و حيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى فلا يعقل تفسيرها بالإمكان و الصحّة.

أقول: هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة القائمة بذاته تعالى الزائدة عليها و عدم وجوبها، فهذا الوجه لا يهمه كما هو واضح، إلاّ أن الكلام في صحّة هذا الاعتذار، و ستعلم أن لبّ القول بإمكان الصفات ليس إلاّ التزاما بمذهب الماديين.

و أمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة، بما يقول في غير هذا المقام أو ينسب إليه من إنكار الصفات رأسا و نيابة الذات منابها في آثارها، فمعنى كونه تعالى قادرا أن ذاته تفعل و تترك بلا إيجاب ذاتي.

أقول: و يرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين كما ستقف عليه في المقصد الرابع إن شاء اللّه، فالشبهة باقية على حالها و لا وزن لهذين الجوابين المذكورين، فلا بد الالتزام إمّا بايجابه و نفي الإمكان عن قدرته أو بعدم وجوب قدرته.

و الفلسفي يستريح بقبول الشقّ الاول، كما أن الأشعري و الاعتزالي يبنيان على الثاني؛ و حيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معا، فيحتاج إلى طريق ثالث، لكنني لم أر ذكرا له في كتبهم الموجودة عندي، بل هذه الشبهة قد أهملت في الكتب الكلامية رأسا مع أنّها ذات أهمّية جدا، و مغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليها الامامية و الحكماء، و التحقيق في الجواب: أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور و اللاصدور كما في الحيوان، فان القدرة فيه من الكيفيات النفسانية؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس، فكذا في الواجب؛ و حيث ان كنهه الواجب و ذاته يمتنع الاكتناه و الاحاطة بها، استحال معرفة قدرته أيضا، لكن يلزمها صحّة الفعل و الترك، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة لا في المخلوق و لا في الخالق، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة(1).

فنقول: إنّ اللّه تعالى قادر لما استخدمناه من الدلائل، و ستدري أن قدرته عين ذاته؛ و حيث

ص: 122


1- نقل العلامة قدّس سرّه في شرح قواعد العقائد/ 40: أن القادر عند أوائل المعتزلة من كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل. و نفاة الأحوال قالوا: هو الذي يصحّ منه أن يفعل و ان لا يفعل. أقول: الثاني باطل كما عرفت، و الأول صحيح لكن الصفة نفس ذاته.

اتّفق الباحثون من المتكلّمين و الحكماء - كاتّفاق العقل و النقل - على امتناع إدراك حقيقته و عرفان ذاته، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته، لكن نعلم أن الصحّة المذكورة من لوازم قدرته و شؤون سلطانه، فإذن لا منافاة بين القول باختياره و القول بعينية صفاته، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها. هذا، و للمتكلم أن يرجع و يقول على سبيل النقض: إن تفسير القدرة بإن شاء فعل و ان لم يشأ لم يفعل، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة؛ اذ مرجعها حينئذ إلى ضرورة المشية و اللامشية، و ليست المشية عندهم الا العلم بالعناية، و لا نتعقّل من مفهوم العلم الا الانكشاف و الإراءة، و لا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة و أن حقيقة الواجب هو الكشف! فلا بدّ أن يقولوا: إن الكشف لازم علمه تعالى.

الثاني: إن إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضا واجبة، و عليه فالفعل أيضا واجب بالنسبة إلى ذاته و لا يمكن التخلف أصلا؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة. يظهر ذلك من الأسفار و حواشيها للسبزواري.

أقول: المنقول من معظم متكلّمي الإمامية و رؤساء المعتزلة أن إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة و المنفعة، و يعبّرون عنه بالداعي، و عليه فيتوجّه عليهم أن علمه عين ذاته تعالى، و تعلّقه بالاشياء ضروري، فيكون تحقّق الفعل أيضا ضروريا لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

و هذا هو الإيجاب الذي يدعيه الفلاسفة، و أمّا الأشاعرة فهم و إن يروا زيادة إرادته على ذاته لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضا، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب، و هي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل، و هذا عين الإيجاب و ما أجاب في المواقف(1) بأن الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك.

و الانصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى يصادم اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة.

ثم إنّ عينية الإرادة مع الذات و إن توجب ضرورة الفعل و بطلان الصحّة المذكورة، إلاّ أنها لا تثبت قدم العالم؛ لأنها ليست هي العلم فقط، بل العلم بالمصلحة، و لعلها غير متحقّقة في الأزل أو إنّ قدم الممكن غير ممكن، فإثبات قدم العالم موقوف على إمكان قدم الممكن و تحقّق المصلحة، كما لا يخفى.

لكن الذي يبطل هذا الوجه هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى، و عدم

ص: 123


1- شرح المواقف 69/3.

قدمها و وجوبها و عينيتها مع الذات الاحدية الواجبة. فهذه العويصة المهمّة منحلة على أصولنا بلا تكلف.

الثالث: إن الواجب الوجود واجب من جميع جهاته، فكيف يعقل الصحّة في حقه؟ ذكره صاحب الاسفار و السبزواري و غيرهما ممن تقدّمهما.

أقول: إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى و عدم إمكان انفكاكها عن الذات فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد، حتى من الاشعري القائل بإمكان صفاته، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى؛ و إن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها و أنها واجبة، فهذا و إن كان حقا متينا و به اعتقد الإمامية، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفى بإثبات ذلك، كما يظهر لمن لاحظها؛ و إن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى، و أنّها تصدر عنه تعالى ضرورة و وجوبا، و لا يعقل الإمكان في حقّه مطلقا سواء في أفعاله و أوصافه، فهذا و إن كان هو مفاد القاعدة، لكننا نردّه بأن القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبدا كما سلف بحثها مفصّلا.

الرابع: ما سلف في عبارة الأسفار و إليك بيانه الآخر. قال: ثم إنك إذا حقّقت حكمت بأن الفرق بين المريد و غير المريد - سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى - هو ما أشرنا اليه، فإن إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد و عدمه لم تكن صالحة لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر، و إذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّا يتحقّق عند اللّه... الخ.

أقول: هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية كما نقله هو في بعض فصول بحث ارادة اللّه تعالى، و اللاهجي أيضا في مبحث إرادته تعالى من شوارقه. و جوابه: أنّ الوجوب الناشئ من قبل الإرادة و الاختيار لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، و هذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين. و أمّا وجوب الإرادة نفسها فقد أشرنا إلى أن إرادته تعالى كإرادة بقية الفاعلين حادثة، كما سيأتي بحثهما.

الخامس: ما ذكره أيضا صاحب الأسفار بقوله: و ممّا يدلّ على ما ذكرنا - من أنه ليس من شرط كون الذات مريدا و قادرا إمكان أن لا يفعل - أن اللّه تعالى إذا علم أنه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلا و ذلك محال، و المؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب... مع أن اللّه مريد و قادر عليه.

أقول: و هذا التلفيق من مثله عجيب جدا، ألم يعلم أن هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان و غيره، فيبطل الاختيار رأسا و لا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور و اللاصدور حتى في القادر الذي يفعل بداع زائد على ذاته و قدرة زائدة على ذاته، مع

ص: 124

أنه صرّح - في غير مورد - بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب.

و حلّ هذه الشبهة أن اللّه كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره كذلك يعلم بصدوره عنه اختيرا، و أنّ تركه ممكن له ذاتا و وقوعا، فلو فرضنا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى و هو محال، و المستلزم للمحال محال.

ثم إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قبال العدلية، و سنرجع إليها في مباحث المقصد الخامس إن شاء اللّه.

السادس: ما ذكره هو أيضا من أن الفاعل قادرا إنّما يكون فاعلا بالفعل حال صدور الفعل عنه، و في تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنه شاء أن لا يفعل فلم يفعل... الخ.

أقول: و هذا منه غريب و خبط عظيم، فقد خلط عليه محلّ البحث؛ و لذا أصرّ على أن هذا الوجه يثبت مرامه و لا يدري أن الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختيارا غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل، كيف و الأول عامّ يشمل جميع الفاعلين، و الثاني خاصّ بمن كان فعله لا لصفة زائدة و لا لداع زائد كما صرّح به مرارا؟ و إن كان اكتفى في بعض كلماته بصدور الفعل عن علم و إرادة في صدق المختار ولو في غير اللّه تعالى، بل ادّعى أنه لا يقال لمثل هذا الفاعل في العرف العامّي و لا الخاصّي: إنّه فاعل غير مختار.

أقول: بطلانه واضح؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي، و العرف لا يقول له المختار قطعا، كما اعترف به ابن سينا و غيره أيضا.

السابع: قد ثبت قدم العالم في طبيعيات الفلسفة، و هو لا يمكن إلاّ عن مفيض تام الفاعلية.

نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّا على الرازي.

أقول: هذا الوجه باطل صغرى و كبرى. أمّا الصغرى فلما يأتي من حدوث العالم بشراشره، و أمّا الكبرى فلما تقدّم من أن المعتبر في مفهوم المختار هو إمكان تخلّف فعله عنه لا وقوعه خلافا لشركاء الفن أو معظمهم، فقدم العالم لا يكشف عن صحّة مقصودهم، كما ان حدوثه على نحو مطلق لا يدلّ على اختياره، كما يأتي إن شاء اللّه.

الثامن: الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده و لا يفعل بعدمه، و ليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور و اللاصدور، و هي - أي زيادة الداعي على ذاته - تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى. يستفاد من الأسفار و الشوارق.

أقول: استلزام الإستكمال باطل جدا كما ستعرفه في المقصد الخامس إن شاء اللّه.

و أعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار: عند المعتزلة أن الاختيار يكون

ص: 125

بداع أو بسبب، و الاختيار بالداعي يكون اضطرارا، و اختيار الباري و فعله ليس بداع. انتهى.

و قبله صاحب الأسفار أيضا فكرّره في كتابه.

أقول: و هذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّا و لا جوابا؛ لأنّه مثل أن يقال: اذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود!

التاسع: إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذ على عدمه، و أيضا يلزم قدم الأثر؛ لأنّ الوجب و قدرته و تعلّقها أزلي مع أن أثر المختار حادث، و أمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي، و لا يجب الفعل مع ذلك المرجّح و إلاّ لزم الإيجاب. بل كان جائزا هو و ضدّه، فيحتاج إلى مرجّح آخر و يلزم التسلسل في المرجّحات.

العاشر: إن إرادة اللّه و قدرته متعلقتان من الأزل إلى الأبد بترجّح الحادث المعين و إيجاده في وقت معيّن، و التغيّر في صفاته محال، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. نقلهما بعضهم عن الفلاسفة(1).

الحادي عشر: إنّ ما لم يجب لم يوجد، فلا بدّ من أن يكون اللّه تعالى موجبا - بكسر الجيم - فإنّه موجد، و ليس موجبا - بفتح الجيم - كما زعم المتكلمون و ينسبونه إلى الحكماء. يظهر ذلك من كلام السبزواري المتقدّم.

أقول: أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل و لكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه كما مرّ غير مرّة؛ ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين، بخلاف الثاني، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان.

و بالجملة: الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوبا ذاتيا، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته، و إن كانت غير ذاته بل كانت ممكنة أو حادثة، و هذا ظاهر لا ستر عليه. و أجاب الناقل و من تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة و لا يليق بنا ان نتعرّض له، و منه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضا، و أنّ اللّه تعالى على مذهبهم فاعل موجب - بفتح الجيم - و لا يستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلا و لا عرفا، فإصرار السبزواري و غيره على أنه موجب - بالكسر - لا موجب - بالفتح - و استيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه و عدم اختياره، شيء عجيب جدا، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام؟

ص: 126


1- شرح المواقف 44/3، 46.

هذا كلّه بناء على تمامية القاعدة القائلة: إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، و أمّا بناء على عدم تماميتها فالأمر واضح. و أمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات فليس إلاّ دليلا آخر على تلك القاعدة و نفي الاولوية، و سنرجع إليها في المقصد الخامس.

و أمّا الوجه العاشر فجوابه: أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك و الاضداد، فليس الترجّح مستند اليها و إلاّ لزم التناقض و الجمع بين الضدين، بل هو مستند إلى إرادته التي ليست هي إلاّ احداثه، و تعلّق الإرادة بهذا لمعنى من الأزل محال، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع، و تعلّق الإرادة حادث و موجب للوقوع لكنها قابلة للتغير، فافهم جيدا.

و يناسب المقام مباحث أخر ستعرض لها إن شاء اللّه في مباحث الإرادة و حدوث العالم و تعلّل افعال اللّه بالاغراض؛ اذ هذه المباحث لها اشتراك و ارتباط شديد كما يعرفه الراسخون.

هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم و لم ندع شيئا منه مهملا، و قد دريت أنّ الانصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم، بل و بعضها خارج عن محلّ النزاع رأسا، فحينء إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لما كان بأسا و مانعا من الالتزام به، و كذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي و لا محذور فيه أصلا، فإنّ الاختيار و هو كيفية القدرة ممّا للا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور و نحوه. فالآن نرجع إلى أدلّتهم، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه:

الأول: لو لم يكن مختارا للزم إمّا قدم العالم أو حدوث القديم، و كلا الأمرين محال، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي. بيان الملازمة: أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه، فهو و أثره مقارنان في الخارج، فإذا لم يكن الواجب مختارا جاز تأخّر فعله عنه، لوجب تحقّقهما - أي اللّه و العالم - إمّا في الأزل أو في الحدوث، و أمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح كما أنّ حدوث العالم مبيّن كما يأتي في محلّه - و بالجملة: أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه.

الثاني: إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص لعدم تمكنه حينئذ من الترك أو الفعل، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه و النقص عليه محال اتّفاقا و عقلا، كما يأتي بحثه إن شاء اللّه في المقصد الآتي.

الثالث: إنه لو لم يكن مختارا للزم أحد الأمور الأربعة: إمّا نفي الحادث بالكلّية، أو عدم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلف الأثر عن المؤثّر الموجب التام، و بطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم. بيان الملازمة: أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد، فان لم يوجد فهو الأمر الأول، و إن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند، فإن لم يستند فهو الثاني، و إن استند فإمّا أن لا

ص: 127

ينتهي إلى قديم أو ينتهي، فإن لم ينته فهو الثالث أي التسلسل؛ و ذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم و لا منته اليه فلا بدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبة مجتمعة، و هو تسلسل محال اتّفاقا؛ و ان انتهى فلا بدّ قديم يوجب حادثا بلا واسطة من الحوادث دفعا للتسلسل فيها، سواء كانت مجتمعة أو متعاقبة، فيلزم الرابع.

الرابع: إنّه تعالى لو لم يكن مختارا لاستحال تغيّر الموجودات و تبدّل الكائنات بالمرة، فإنّه يتبع تغيّر العلّة و تبدّلها، و هو في حقّ الواجب مستحيل، فثبت أنّه مختار.

الخامس: إنّه لو كان موجبا لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة في درجة واحدة بلا تقدم و تأخر بينها، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة، اعني بها ذاته المقدسة، و التخصيص الواقع يكون ترجيحا بلا مرجّح بل ترجّحا من دون مرجح.

السادس: الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مثل قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(1)، و قوله: إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (2)، و قوله:

إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يُرِيدُ (3) ، و قوله: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ (4) و امثالها من الآيات الصريحة في المدعى.

السابع: الأخبار المتواترة عن النبي الاعظم و آله الكرام صلى اللّه عليه و عليهم اجمعين، مثل ما ورد في أنه يمحو و يثبت و يقدّم و يؤخّر و له البداء، و نحو ذلك.

الثامن: الضرورة الدينية على اختياره، بل تقدّم عن العلامة الحلي قدّس سرّه أنّه الفارق بين الاسلام و الفلسفة، بل ادّعى الجرجاني و القوشجي و الاصبهاني اتّفاق المليين قاطبة على ذلك كما مرّ.

هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة الدالّة على اختياره تعالى.

أقول: أما الوجه الأول فهو موقوف على ثبوت أمرين، الأول: حدوث العالم كما هو ظاهر، الثاني: إمكان أزلية الممكن؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل و تحتّم مسبوقية الممكن بالعدم لما كشف حدوث العالم عن الاختيار.

و بالجملة: حدوث العالم بمجرّده و إن كان يبطل قول الفلاسفة بقدمه، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته حتى يكون عدم تحقّقه مستندا إلى إرادة الفاعل دون المانع

ص: 128


1- إبراهيم 19/14.
2- النحل 40/16.
3- الحج 14/22.
4- الرعد 39/13.

في نفس المفعول، و ستعرف إن شاء اللّه في محلّه امتناع ازليته، فهذا الدليل - بما له من الاشتهار - غير تام، و أن الحدوث لا يثبت الاختيار، كما أنّ الاختيار أيضا لا يدلّ على الحدوث خلافا لما توهّمه الرازي في محكي شرح الاشارات، فإنا قد ذكرنا إمكان مقارنة فعله معه من حيث هو مختار.

و أمّا الوجه الثاني فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع، و أن صدور الفعل مع العلم و الإرادة ليس بإيجاب، و إن لم يكن هناك التمكّن من تركه، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار و أفضل أنحاء الصنع، بل لا اختيار إلاّ لمن يفعل لذاته بذاته. و أمّا من يفعل لداع زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار، فالواجب - عز مجده - موجب بكسر الجيم لا بفتحه.

أقول: إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحث و تهافت واضح، و مهما قالوا في توجيهه و تصحيحه فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال، و لا يكون الواجب على مذهبهم إلاّ موجبا بفتح الجيم لا بكسره، و تحريف الكلم عن مواضعه غير نافع، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل، و أنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص بل هو مما اثبته الأدلة العقلية المتقدّمة.

و أمّا الوجه الثالث فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره، و إلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث، و هو معلول الواجب الموجب، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة.

و بالجملة: هذا الوجه راجع إلى الوجه الأول و لا مزية لا غير الزيادة في العبارة.

و أمّا الوجه الرابع و الخامس فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة في ارتباط الحادث بالقديم؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما، على أن القابل في نفسه أيضا قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة.

و أمّا الوجه السادس فيمكن أن يجاب عنه بأن مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته، و هذا مما لا خلاف فيه لأحد، و إنّما الكلام في تحديد إرادته و أنها واجبة أو لا، و هل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن - بظواهره لا بنصوصه - يدلّ على اختياره تعالى، فإن من ألقي إليهم خطابات القرآن - و هم عامّة الناس - لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة و أمثاله إلاّ التمكّن المذكور، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة.

و أمّا الثامن فالانصاف أنه غير بعيد، فإنّ اختياره تعالى - بنحو يدعيه المتكلّمون - ممّا ارتكز في أذهان المسلمين: رجالهم و نسائهم جاهلهم و عالمهم صغيرهم و كبيرهم، و هذا الارتكاز علا يكون مستندا إلاّ إلى الدين و طريقة الشارع، فالثابت من الدين هو ذلك، و قد عرفت

ص: 129

أن ما قيل في امتناعه و بطلانه كان مزيّفا ضعيفا، فإذن يتعيّن تعيينا تعبّديا لا عقليا التدين و الاعتقاد بهذا المسلك؛ لما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم.

خلاصة المقال في تنقيح المقام

قد استبان ممّا ذكر أن النظرية الفلسفية المذكورة لا تتمّ إلاّ بأمور:

1 - كون إرادته عين ذاته، و إلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور و اللاصدور.

2 - كون الغرض من فعله نفس ذاته، و إلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته.

3 - قدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن.

فإذا لم يثبت واحد من هذه الأمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه، و لكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين كما يظهر من مراجعة ما سبق. نعم إذا ثبت حدوث العالم و أزلية الممكن، ثبت اختياره تعالى؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذ إلى إرادته تعالى، فيكون الواجب متمكّنا من الفعل و الترك، فتأمل.

فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل و عدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى، و إلى داعيه، و عدم كون الإرادة واجبة. نعم الوجوب الناشئ من الإرادة - المسمى بالوجوب السابق - لا ينافي الاختيار، فإذن اختياره تعالى و إن كان ثابتا من جهة الشرع كما مرّ، إلاّ أنه غير ثابت من جهة العقل؛ لما عرفت من عدم تمامية أدلّة ارباب الكلام.

هذا، و الذي يدلّ على حقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة المتقدّمة، فان القدرة الواجبة التي تستلزم التمكّن و صحّة الصدور و اللاصدور ممكنة الثبوت للواجب؛ لما عرفت من بطلان دلائل الفلاسفة، فهي إذن ثابتة له، فهو قادر مختار أي له أن يفعل و له أن لا يفعل.

و يمكن أن يستدلّ أيضا بأن الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك، و أنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له، و حيث إنّه لجميع الكمالات، بل لا كمال إلاّ و هو معطيه و لا سبيل للنقص اليه، فهو مختار بالمعنى الذي اثبته الكلاميون لا غير، و اللّه الهادي.

تنبيه

اختياره بهذا المعنى و إن ادّعاه المتكلّمون بأجمعهم، بل مرّ أنه ضروري من دين الاسلام، لكنه لم يتديّن به - حقّ التدين - إلاّ الطائفة الإمامية الذين أخذوا أصولهم و فروعهم من آل محمد صلى عليه و عليهم أجمعين؛ فإن الاعتزاليين قالوا بالثابتات الازلية، و الأشعريين بالقدماء

ص: 130

الثمانية، و لا شك أنّ الواجب بالنسبة اليها موجب، كما صرح به أنفسهم، فتأمل.

فأعظم اللّه جزاء الامام الصادق من ائمة أهل الرسول صلّى اللّه عليه و اله حيث أدب أتباعه على سلوك صراط الحق و نهج الصدق.

الناحية الثالثة: في عموم قدرته
اشارة

المدعى: أن الواجب الوجود قادر على كلّ ممكن(1) تحقّق في الخارج أم لا، و الدليل على ذلك وجوه:

1 - إنّ الممكن - كما علمت ممّا مضى - لا يقتضي الوجود و لا العدم ولو بنحو الاولوية، بل هما متساويان اليه، يوجد لوجود المرجّح و يعدم بعدم المرجّح فإذن هو محتاج إلى غيره في الوجود و العدم.

هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أنّ الممكن لا يعقل أن يبقى على حالة الاستواء في الخارج لاستحالة ارتفاع النقيضين، و إنّما هي بلحاظ نفسه، و عليه فكل ممكن إمّا موجود و إمّا معدوم، و قد قرّرنا أنّ كل موجود محتاج إلى وجود المرجّح و كلّ معدوم مفتقر إلى عدمه، و ليس هذا المرجّح إلاّ إرادة الواجب عزّ اسمه لانتهاء سلسلة الموجودات إليها، فيستنتج من هذه المسائل أن الممكنات بأسرها محتاجة إلى اللّه تعالى أزلا و أبدا، و أن اللّه هو المفيض القابض، و حيث تقدّم أن فاعليته تعالى بنحو الاختيار و التمكّن دون الجبر و الإيجاب، فقد اتّضح أنّه قادر على كلّ ممكن و كلّ ممكن مقدور له، و هذا دليل إنّي متين قوي على المطلوب.

2 - إنّ القدرة ثابتة له في الجملة على ما مرّ، و بما أنّها عين ذاته المقدّسة فهي غير محدودة، فإنّ التناهي من خصائص الإمكان و نواقض الوجوب كما يأتي في المقصد الثالث إن شاء اللّه، و عليه فقد ثبت عدم تناهي قوته و قدرته، و هذا هو معنى عمومها و تعلّقها بكل ممكن، فتدبر.

3 - القدرة العميمة ممكنة الثبوت له تعالى، و ما أمكن في حقّه وجب كما سلف.

4 - العجز - ولو في بعض الموارد - نقص، و هو ممتنع عليه. ذكره بعضهم.

5 - لو لم يكن قادرا على الإطلاق لكان محتاجا - ولو في مورد - إلى غيره، فهو إن كان ممكنا لزم الدور، فإنّ الممكن في حدوثه و بقائه و في وجوده و أفعاله محتاج إلى الواجب، و ان

ص: 131


1- قال من في قلبه مرض في مختصر تحفة الأثني عشرية/ 81: إنّ اللّه قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي و الشريف المرتضى و جمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنهم قالوا: إنّ اللّه لا يقدر على عين مقدور العبد. أقول: النسبة كاذبة، كما تعرف من مراجعة الصفحة الآتية، في الوجه التاسع. و قد ذكرنا في المطلب الثالث من عنوان تنوير عقلي: 36 مراد العلمين: الشيخ الطوسي و السيد المرتضى قدّس سرّهما.

كان واجبا فأدلة التوحيد تنفيه.

أقول: هذا الوجه ينفي المحتاج إليه دون الحاجة و لا ملازمة بينهما قطعا.

6 - إنّ علم الواجب فعلى، فإنّه عين ذاته التي هي عين حيثية العلّية لكلّ شيء، و علمه تعلّق بكلّ شيء، فقدرته تعلّقت بكلّ شيء. ذكره السبزواري في شرح المنظومة، و كذا الوجه الآتي.

و فيه: ما يأتي من أن إرادته زائدة على ذاته.

و يرد أيضا على قوله: «و علمه تعلق بكل شيء» أنّه مصادرة محضة، فإنّ تعلّق علمه الفعلي الذي هو إرادته بشيء فرع مقدوريته، و كون الوجب قادرا عليه و هو أوّل الكلام. و إن شئت فقل: إنّه مستلزم للدور؛ بداهة توقّف الإرادة على شمول القدرة، فلو عكس لدار، فافهم.

7 - إن الإيجاد فرع الوجود، و إذ لا وجود حقيقي للممكنات في ذواتها؛ إذ الممكن من ذاته أن يكون ليس، و له من علّته أن يكون أيس، فلا إيجاد حقيقي لها، فإذن كما لا وجود إلاّ و هو ترشّح من لديه كذلك لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العظيم.

أقول: هذا بيان متين، لكن مع أنّه أخص من المدعى - حيث لا يجري في الممكن غير الموجود - راجع إلى الوجه الأوّل.

8 - ما قيل إنه المشهور، من أن المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته، و المصحح للمقدورية هو الإمكان؛ لأنّ الوجوب و الامتناع يحيلان المقدورية، و نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية، و إذا ثبت قدرته على بعضها تثبت على كلها.

و يزيّف بأن مجرّد كون الإمكان مصحّحا لا علّة موجب غير كاف لإثبات المقدورية؛ لاحتمال توقّفها على شرط مفقود، و إن أريد من المصحّح العلية فيفسده أنّ الإمكان علّة للاحتياج دون المقدورية، و إلاّ كانت العلل الموجبة مؤثّرات بالاختيار.

9 - الضرورة المذهبية و الإجماع و الكتاب و السنّة بأجمعها تدل على ذلك. ذكره بعض المتكلّمين من أصحابنا.

أقول: الاستدلال بالنقل لا محذور فيه في المقام كما يظهر التدبّر، غير أن الإجماع، التعبدي غير متحقّق قطعا، كما يظهر وجهه مما سبق. و أمّا الكتاب فيحتمل أن قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ(1) و نحوه ناظر إلى كلّ شيء موجود، فيكون أخص من المدعى. نعم قوله تعالى: أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ

ص: 132


1- فاطر 1/35.

اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (1) يمكن ان يكون شاملا للمقام، لكنّه ظهور غير قطعي. و أما الضرورة فهي غير بعيدة، فتأمل.

مطالب مهمّة المطلب الأوّل:
اشارة

قد نسبوا الخلاف في هذه المسألة إلى طوائف من الناس، و أنهم ينكرون عموم قدرة اللّه تعالى على كل ممكن.

أقول: الظاهر أنّه لا مخالف في المقام أصلا، و أن الكلّ متّفقون على الكلّية المذكورة، و إنّما نزاعهم في امتناع بعض الأشياء و عدمه، فالبحث صغروي. و بعبارة واضحة: أنّ قدرته تعالى لا تتعلّق بالواجب و الممتنع، فإنّ ضرورة الوجود أو العدم يبطل تعلّق القدرة التي هي ما تلزمه صحة الصدور و اللاصدور، فمتعلّقها هو الممكن لا غير، فيقال: هذا ممكن، و كل ممكن مقدور للّه تعالى. و الكبرى كما أنّها قطعية عقلا وفاقية قولا. و اصغرى مختلف فيها، و هذا الخلاف ليس بعزيز، بل هو منتشر في كثير من المسائل العلمية. اذا تقرّر ذلك فإليك بيان تلك الموارد التي وقع الخلاف في إمكانها و امتناعها:

المورد الأوّل: عدم صدور الكثير من الواحد الحقيقى، فلا يمكن أن يصدر عن الواجب البسيط أكثر من شيء واحد بلا توسّط أمر آخر. ادّعاه الحكماء و أصرّوا عليه، و أنكره أرباب الكلام و شدّدوا عليهم النكير. و إليك بيان هذه القاعدة المشهورة ب «الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد» من كتاب الأسفار: قال مؤلّفها(2):

البسيط إذا كان ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علّة لشيء، كانت ذاته محض علّة ذلك الشيء بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات و علّة لتكون عليتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة أو شرط أو غاية أو وقت أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطا بل مركبا، فالمراد من المبدأ البسيط أنّ حقيقته التي بها يتجوهر ذاته هي بعينها كونه مبدأ لغيره، و ليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته و بالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أن لنا شيئين نتجوهر بأحدهما و هو النطق و نكتب بالآخر و هو صفة الكتابية، فإذا كان كذلك و صدر عنه أكثر من واحد و لا شك أن معنى مصدر كذا غير معنى مصدر غير كذا - فتقوم ذاته من معنيين مختلفين، و هو خلاف المفروض، فافهم هذا ودع عنك الاطنابات التي ليس فيها كثير فائدة، و إيّاك أن تفهم من لفظ

ص: 133


1- يس 81/36.
2- الأسفار 214/2.

الصدور و أمثاله الأمر الإضافي الذي لا يتحقّق الاّ بعد شيئين، لظهور أن الكلام ليس فيها بل كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول، فإنه لا بدّ أن تكون للعلّة خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعين دون غيره، و تلك الخصوصية هي المصدر في الحقيقة، و هي التي يعبّر عنها بالصدور و مرّة بالمصدرية و طورا بكون العلّة بحيث يجب عنها المعلول، و ذلك لضيق الكلام عمّا هو المرام حتى أن الخصوصية أيضا لا يراد بها المفهوم الإضافي بل أمر مخصوص له ارتباط و تعلّق بالمعلول المخصوص، و لا شك في كونه موجودا و متقدّما على المعلول المتقدّم على الإضافة العارضة لهما. و ذلك قد يكون نفس العلّة إذا كانت العلّة علّة لذاتها، و قد يكون زائدا عليها. فإذا فرض العلّة بما هي به علّة، بسيطا حقيقيا يكون معلوله أيضا بسيطا حقيقيا، و بعكس النقيض كلّ ما كان معلوله فوق واحد ليس بعضها بتوسط بعض فهو منقسم الحقيقة إمّا في ماهية أو في وجود. انتهى كلامه.

و قال في موضع آخر ردّا على الرازي: إن المصدرية بالمعنى المذكور نفس ماهية العلة البسيطة، و الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، فإذا كان البسيط الحقيقي مصدرا ل «1» مثلا و لما ليس «1» مثلا، كانت مصدريته لما ليس «1» غير مصدريته ل «1» التي هي نفس ذاته، فتكون ذاته غير ذاته و هذا هو التناقض.

قال تلميذه في شوارقه(1): إنّ الفاعل المستقل إذا كان واحدا من جميع الجهات، بحيث لا كون فيه كثرة الأجزاء و لا كثرة الوجود و المهية، و لا يكون متّصفا بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو اعتبارية زائدة في العقل، و لا يتوقّف فعله على شرط و آلة و قابل، فلا يمكن ان يصدر عنه في مرتبة واحدة إلاّ معلول واحد، سواء كان الفاعل موجبا أو مختارا اختياره و إرادته نفس ذاته، و الحكماء يسمون مثل هذا المختار الفاعل بالرضاء. و اما إذا كان إرادته و اختياره زائدة على ذاته، و هو الذي يسمّونه الفاعل بالقصد فهو خارج عما نحن فيه؛ لأن فيه اثنينية بالفعل، سواء تعدّد إرادته أو تعلقها أو لا، فلا يكون واحد من جميع الجهات.

أقول: لو سلمنا هذه القاعدة، و فرضن اصحّة دليلها كما هو الصحيح، لم يصحّ إجراؤها في المقام؛ لأنّ فاعليته تعالى - كما سيأتي في محلّه - بالعلل الغائية الزائدة على ذاته، و إن شئت فقل: الممكن لا بدّ من مسبوقية وجوده بعدمه، و لا ربط و لا سنخية بين الوجود البحت و العدم المحض، و إنما يوجد الوجب ما يوجده بلا ربط و قتضاء ذاتي، بل من أجل المصالح و الغايات، فحينئذ الواجب الوجود عزّ اسمه غير مشمول لهذه القاعدة باعترف الفلاسفة، فتدبّر جيدا.

هذا، و قد مرّ أن الفلاسفة لم يقدروا على إثبات أن ماهيته إنيته، فمن هذه الجهة أيضا لا

ص: 134


1- الشوارق 191/1.

يمكن إجراء القاعدد على الواجب. هذا كله بناء على مسلك العدلية أو معظمهم، و أمّا بناء على مسلك الأشاعرة القائلة بزيادة الصفات فالأمر أوضح، لكن الالتزام بمقالة الحكماء أسهل و أهون من الميل إلى هذه النظرية الرديئة الباطلة، بمراتب بالقياس إلى النواميس العقلية.

و أما ما قيل من أن في القرآن ألف آية أو قريب منه تدل على بطلان المقالة المزبورة فهو ممنوع، فتدبّر جيدا.

المورد الثاني: القبائح فإنّها غير مقدورة للّه تعالى؛ إذ اتيانها مع العلم بقبحها سفه، و بدونه جهل، و كلاهما محال على اللّه سبحانه. نسبوه إلى النظام و أتباعه.

أقول: و كان هذا المسكين لم يعلم أن مفاد هذا البيان أنها لا تصدر عنه لحكمته، لا أنّها غير مقدورة، فالقبيح مقدور له تعالى، فيمكنه إدخال الأنبياء في النار مثلا لكنه لا يفعل لمخالفته لحكمته البالغة.

و أما ما أجاب به الأشعريون من أنه لا قبح بالنسبة إليه فله التصرّف في ملكه كيف يشاء فهو في سخافته كأصل الشبهة، كما ستعرفه في محله إن شاء اللّه.

المورد الثالث: الإتيان بمثل أفعالنا فإنها إما طاعة أو معصية أو سفه، و الكل محال.

أقول: إذ لا آمر له تعالى ليصدق الطاعة و المعصية في حقّه و هو عالم فلا يتصوّر السفاهة فيه. نقل هذا عن البلخي و من تبعه. و فيه: أن المحال هو صدق هذه العناوين أي الطاعة و المعصية لا نفس الافعال، نعم لا بدّ من اشتمالها على مصلحة، و لكن المصلحة لا تستلزم عنوان الطاعة بلا إشكال، و إنّما هو في أفعالنا بلحاظها إلى أمر اللّه تعالى، نعم لا يمكن له أن يفعل مثل جملة من أفعالنا المحتاجة إلى الجسم كالتكلّم و التفكّر و التحرك و الركوع و السجود و نحوها، و ذلك واضح و لعلّهم أيضا ارادوا ذلك.

المورد الرابع: الإتيان بعين مقدورنا و مفعولنا بعين دليل التمانع المذكور في مبحث التوحيد. نسب ذلك الجبائيين و اتباعهما. و يزيّف بأن التأثير في فرض مزاحمة قدرة العبد و ربّه مستند إلى إرادة اللّه تعالى فإنّها أقوى، و هذا واضح بل مشاهد في تزاحم إرادتي الممكنين، فإذا حرّك أحد جسما إلى جانب و الآخر حركه إلى جانب آخر يكون الترجيح مع الأقوى، نعم ها هنا شيء آخر و هو أن اللّه تعالى لا يمكنه الإتيان بعين أفعالنا، و إلاّ لم تكن الأفعال أفعالنا بل هي أفعاله. و هذا مثل عدم قدرته على إيجاد ابن زيد من غير زيد، أو ايجاد العرض بغير معروضه، و هكذا. فمعنى أنّه قادر على جميع الأشياء أنه قادر عليها إمّا بلا واسطة أو بواسطة، و هذا بيّن جدا.

المورد الخامس: ما علم اللّه عدم وقوعه لاستحالة وقوعه، و كذا ما علم أنه يقع لوجوبه.

ص: 135

نقله في الشوارق، و قد تقدّم جوابه في بحث اختياره. قال شيخنا المفيد قدّس سرّه(1): إنّه سبحانه قادر على ما علم انه لا يكون ممّ لا يستحيل كاجتماع الاضداد، و نحو ذلك من المحال، و على هذا إجماع أهل التوحيد إلاّ النظام و شذاذ من اصحاب المخلوق. انتهى.

المورد السادس: الشرور بحجّة أن الواحد لا يكون خيّرا و شريرا، فلو كان اللّه قادرا على الشرّ - كما هو قادر على الخير - لكان خيّرا و شريرا. و القائل به المجوس.

أقول: مع أنه لا دليل على بطلان التالي في الفاعل المختار نمنع الملازمة؛ إذ مجرّد تعلّق القدرة على الشرّ لا يوجب كون القادر شريرا، و إنما الشرير من يفعل الشرّ لا من يقدر عليه، و لعلّ هذا ضروري فالواجب الحكيم قادر على الخير و الشر بقدرة تامّة، لكنه لا يريد الشرور و لا يفعلها البتة.

تنوير عقلي

حديث الشرور ذو إعضال شديد قد تحيّرت فيه الأنظار و الآراء، و مجمله أن الشرور متحققّة في الكون تحقّقا محسوسا لكل أحد، فوقع البحث في استنادها و تعيين منبعها، و للناس فيه مذاهب و مسالك:

فمنهم من انكروا وجود الواجب الصانع بدعوى أن فاعل العالم لو كان مدبّرا حكيما لما صدر عنه هذه الشرور، فأسندوا العالم إلى المادة، و هم الماديون.

و منهم من أثبتوا مع اللّه خالقا آخر، فاسندوا الخيرات إلى اللّه و الشرور إلى ذلك الآخر، و هم الثنوية، فقال المجوس منهم:(2) إنّ فاعل الخير يزدان، أي اللّه، و فاعل الشر أهرمن، أي الشيطان. و قالت الديصانية و المانوية منهم: إن فاعل الخير هو النور، و فاعل الشر هو الظلمة.

و لعلّ حجّتهم في ذلك ما نقلناه عن الماديين.

و منهم من اسندوا الشرور كلّها إلى اللّه الحكيم كاستناد الخيرات إليه فقالوا: إنّه تعالى خالق الجميع؛ و لذا أجابوا عن شبهة المجوس بالتزام التالي، و أنّه تعالى خالق للخيرات و الشرور كلها، و إنّما لا يطلق لفظ الشرير عليه، كما لا يطلق عليه لفظ خالق القردة و الخنازير مع كونه خالقا لهما؛ و ذلك لأحد الأمرين: إمّا لعدم التوقيف من الشرع و أسماء اللّه توقيفية، و إمّا لأنّه يوهم أن يكون الشر غالبا في فعله كما يقال: فلان شرير، أي ذلك مقتضي طبعه(3).

ص: 136


1- أوائل المقالات/ 23.
2- ظاهر بعضهم كصريح آخر: أن الثنوية تشمل المجوس و المانوية و الديصانية. لكن المذكور في تبصرة العوام أن الديصانية و المانوية من أقسام المجوس، و أن الثنوية غير المجوس فلاحظ. و أمّا تفصيل عقائدهم فلا ربط له بالمقام.
3- شرح المواقف 51/3.

انتهى. و هم الاشاعرة.

و هذه الطوائف الثلاث بأسرها قد ضلّوا ضلالا مبينا و خسروا خسرانا كبيرا. أمّا شبهة الماديين فسيأتي وجه حلها. و أمّا أهرمن المجوس و ظلمة المانوية و الديصانية فإن كانتا ممكنتين فلا بدّ من استنادهما و استناد افعالهما إلى اللّه تعالى و ان كانتا واجبتين، فأدلة التوحيد تدفعهما. و أمّا توهّم الاشعريين فهو سخيف جدا لما سيأتي من أنّ اللّه تعالى لا يفعل القبائح العقلية فإنّها لا تليق بالحكيم، و لعمري إنّ هذا - أي عدم صدور الشر من اللّه الحكيم - ممّا أودعه اللّه في الفطرة البشرية؛ فلذا لم ينكره أحد غير هؤلاء المخالفين للنواميس العقلية.

و لذا أشرك المجوس، و كفر الماديون، و لم ينكروا حكمة الخالق القديم و استحيوا من استناد الشرور إليه.

فإن قلت: لا موجود إمكاني إلاّ و هو معلول له تعالى إمّا بلا واسطة أو بواسطة، و الكلّ من عند اللّه و هو خالق كلّ شيء، و لا حول و لا قوة الا باللّه العظيم، فما تقول أنت في إسناد الشرور؟ و هل يمكن إسنادها إلى غير الواجب؟ فإن أجبت بالنفي فهو مذهب الأشعري، و الاّ فهو مذهب المجوس أو المادي.

قلت: قد أجابوا عن هذا بوجهين:

الأول: ما نقل عن أفلاطون من أن الشرّ عدمي، و العدم لا يحتاج إلى علّة: فالشرور الواقعة في العالم لا تقتضي فاعلا حتى يتكلّم فيه، فبهذا يدفع جميع ما لزم الماديين و الثنوية و الأشعرية.

أقول: أمّا الصغرى فقد اعتنى بها الفلاسفة جدا و أوضحوها بذكر أمثلة(1) و من جملتها القتل، فإنّه شرّ عند العقلاء، فقالوا: إنّ شريّته ليست من جهة قدرة القاتل عليه، و لا من جهة حركات أعضائه فإنهما كمال له، و لا من جهة قطع الآلة فإنه أيضا كمال لها، و لا من حيث قبول العضو المقطوع للتقطيع لأنّه أيضا كمال له، بل هي من جهة إزالة الحياة، و هي عدمية. نعم كل واحد من هذه المذكورات شرّ بالعرض لا بالذات؛ لما عرفت من أنه خير كذلك. و هكذا النار فإنّها خير بالذات شرّ بالعرض، فالشر بالذات لا يكون إلاّ عدميا.

و قد ادّعى عليها - أي على عدمية الشرّ - الضرورة بعضهم، و لشارح حكمة الإشراق عليها برهان ذكره صاحب الأسفار معتمدا عليه، و الظاهر أنّ اهتمام الفلاسفة بذلك إنّما هو لأجل اعتبار السنخية في العلّة و المعلول عندهم؛ إذ لو كان الشر وجوديا لامتنع استناده إلى الخير

ص: 137


1- و للمحقق الطوسي كلام في توضيح ذلك نقله اللاهجي في شوارقه 48/1 من شرح الإشارات، و لصاحب الأسفار أيضا كلام مفصّل في ذلك.

المحض، و هو اللّه الواجب. و إذا قيل لهم: إنّ العدم لا أثر له و الشر مؤثر، يقولون: إنّه ليس عدما صرفا بل عدم ملكه و له تأثير كالعمى و نحوها.

الثاني: ما نقل عن أرسطو - و قيل: إنّه تفاخر به - من أن الأشياء على خمسة احتمالات: ما لا خير فيه، و ما لا شرّ فيه، و ما يتساويان فيه، و ما خيره غالب، و ما شره غالب، و ذات الواجب بالذات لما لم يمكن أن تصير مبدأ للشر وجب أن لا يصدر عنها إلاّ قسمان من هذه الاقسام، أي ما لا شريّة فيه و ما خيريته غالبة، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

أقول: أما الوجه الأول فبعد تسليم الصغرى و عدم المناقشة فيها، فيرد عليه: أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى إرادة الواجب كذلك في عدمه إلى عدمها، فعدم الممكن مستند إلى عدم إرادته، فيعود الإشكال و أنه تعالى لم ما أراد كذا حتى لا يتحقق الشر؟ فإرجاع الشرّ إلى العدم لا يجدي عن دفع الإشكال.

و أمّا الوجه الثاني فهو بمجرّده غير مفيد؛ لأنّه لم يخرج عن حدّ المدعى بعد فهو مصادرة.

هذا، و الظاهر من جماعة من الفلاسفة جعل الوجهين وجها واحدا، فالشر عدم محض و ليس بأمر وجودي حتى لا يصحّ صدوره من الواجب من أجل عدم السنخية.

و أمّا الشرور بالعرض فهي و إن كانت أمورا وجودية لكن غير صادرة عنه تعالى بالقصد الأول بل بالعرض، فإنّها غالبة الخيرية و إيجادها لأجل غلبة خيرها على شرها. و أمّا الشرور بالذات فهي مستندة إلى عدم إرادته و الواقع منه القسمان المتقدّمان لا غير، فإن الشرور التي تلحق الاشياء هي في أنفسها خيرات، و بالقياس إلى بعض الأشياء شرور، كوجود النار و الماء و السيف و السنان و السبع و الحية و غيرها من الذوات، و كوجود الغضب و الشهوة و الجربزة و الشيطنة و غيرها من الصفات، و كوجود الضرب و الطعن و القتل و غير ذلك من الافعال.

أقول: لا شكّ في أن جملة كثيرة من الموجودات التي توجب الشر لبعض الأشياء الأخر خيرات في نفسها، و بها ينتفع غيرها انتفاعا أكثر مما يترتّب عليها من الشر المذكور، إلاّ أن الإشكال لا يدفع بهذا المقدار، فإنّه يقال: إن إحراق النار لثوب الفقير ممكن و اللّه سبحانه قادر على منع تأثيرها، فلم لم يمنعه؟ و كذا وقوع الطفل في النار، أو غرق شاب في الماء مثلا، فإن إيجاد النار أو الماء مثلا لأجل المنافع الكثيرة لا يوجب استحالة منع تأثيرهما في توليد الشر في بعض الموارد. و هذا ما يقال: من أن الذي يغلب خيره على شره لم لم يوجد عن الباري على وجه لا يعتريه شرّ أصلا حتى يكون الموجودات كلها خيرات محضة؟

و أمّا ما أجيب عنه و ارتضاه صاحب الأسفار(1) - من أنّه لو كان كذلك لكان الشيء غير

ص: 138


1- الأسفار، المجلد الثاني، الموقف الثامن، الفصل السادس.

نفسه؛ إذ كان هذا القسم غير ممكن في هذا القسم من الوجود... إلى ان قال: فإذا قلت: لم لا يوجد النار التي هي أحد انواع هذا القسم على وجه لا يلزمها شر، فكأنّك قلت: لم لم يجعل النار غير النار؟ و من المستحيل أن يجعل النار غير النار، و من المستحيل أن يكون النار نارا، و تمس ثوب ناسك و لا مانع من الحريق و لا تحرقه. انتهى - فهو قعقعة، و يظهر فساده ممّا أشرنا إليه آنفا فلاحظ.

و قال في مورد آخر من هذا الفصل: و أكثر من يطول حديث الخير و الشر و يستشكل الأمر يظن أنّ الأمور العظمية الإلهية، من الأفلاك و ما فيهاإنّما خلقت لأجل الانسان، و أن الأفعال الالهية منشؤها إرادة قصدت بها أشياء و أغراض على نحو إرادتنا و أغراضنا في الأفعال الصادرة عنا بالاختيار، ولو تأمّل هذا الجاهل المحجوب عن شهود العارفين. أدنى تأمّل لدرى أنّ الأمر لو كان كما توهّمه، و لم يكن هناك أحكام مضبوطة و علوم حقّة إلهية و ضوابط ضرورية أزلا و أبدا، ما كان أحوال أولياء اللّه في الدنيا على هذا الوجه من المحن الشديدة... إلى آخر ما لفّقه ممّا لا فائدة في نقله.

و قد دريت أن اللّه تعالى فاعل مختار، و سيأتي أن أفعاله تابعة للأغراض على ما يقتضيه البرهان، فلا ضرورة له في إيجاد شيء أبدا، فإذن بقي الاشكال على حاله. و ملخّصه أن المصلحة النوعية لشيء لا تجوزّ وقوع الشرّ منه من حيث الحكمة مادام تأثير الشيء موقوفا على إذنه تعالى.

فالصحيح أن يقال: إنّ كلّ شرّ يستند إلى اللّه تعالى له مصلحة زائدة على أصل المصلحة النوعية في نفس الموجود المسمى بالشر بالعرض، مثلا أن للنر مصلحة هامّة نوعية، و في إحراقها ثوب أحد، أو ولد آخر مصلحة أخرى للمتضرّر و المغموم أو لطف لا جنبي، لكن مع العوض للمالك أو الوالد، و هكذا.

و هذا العوض أكثر فائدة للمتضرّر من ضرره، و هذا الكلام ممّا لا بدّ منه لوجوه:

الأول: إنّ صدور الشرّ منه تعالى - ولو في مورد مع الاختيار و القدرة على دفعه - قبيح، و القبح غير جائز عليه.

الثاني: إنّ أفعاله معللة بالأغراض الراجعة إلى نفع غيره، فلا بدّ من عائدة في الشرّ المذكور راجعة إلى من ابتلى بالشر المذكور، كما سيأتي تفصيله في بحث الاعواض من المقصد الخامس إن شاء اللّه.

الثالث: إنّ صدور الشر عنه ترجيح المرجوح على الراجح، أو ترجيح بلا مرجّح و هو باطل، فتلخّص أن الموجود في العالم هو ما لا شرّ فيه، أو ما فيه شرّ أقلّ من خيره و هذا الشر

ص: 139

أيضا لا بدّ له من مصلحة شخصية. و يمكن أن يقال: إنّ الشرور الواقعة من سوء أفعال العباد الاختيارية لا مصلحة شخصية فيها، أو لا ملزم لها ولو دائما سوى المصلحة العامّة في جعل الانسان مختار؛ لكي لا تبطل التكاليف و التشريعات، فإنّ المضطرّ لا يجوز تكليفه، فتأمّل.

ثم إنّه بعد ما ثبت لزوم المصلحة في أفراد الشرور، لا مانع من إمكان موجود كان شره اكثر من خيره، كما لا يخفى وجهه على المتأمل، فتدبّر جيدا.

ثم إن جميع ما ذكرنا واضح بحمد اللّه، فشبهة الشرور مندفعة، غير إن مسألة خلود الكافرين في العقاب أمر مشكل، كما سيأتي توضيحه في بحث تعلل أفعاله بالأغراض، و ما أجيب عنه(1) من تجسّم الأعمال باطل.

المطلب الثاني:

قد دريت أن القدرة إنّما تتعلّق بالممكن وحده دون الواجب و الممتنع، فإنّ الشيء إذا كان ضروري الوجود أو العدم و لا يمكن تغيره، استحال أن يتعلّق به القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل و الترك؛ بداهة تصادم الصحّة و الضرورة، فذات واجب الوجود و صفاته الذاتية خارجة عن دائرة قدرته، بل لا قدرة على مطلق الذاتيات، فلا يكون زوجية الاربعة و إمكان الماهيات و فقر الموجودات الممكنة و أمثالها بمقدورة أصلا، و كذا شريك الباري و اجتماع النقيضين و نحوهما.

كلّ ذلك ظاهر، و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ(2) إمّا منصرف إلى الشيء الممكن من الأوّل بحيث لا يشمل لفظ الشيء الضروريات، أو هو مخصّص به على تقدير الشمول اللفظي، و لا فرق في ذلك التخصص و التخصيص بين أن يعبر بعدم القدرة، و بين أن يعبر بعدم قابلية المحل، فإنّ الضروري ممّا لا يتعلّق به قدرة القادر، سواء كان عدم التعلّق من جهة العجز أو من نقص القابل، فإنكار التخصيص على الثاني كما توهّمه صاحب الاسفار(3) لا وجه له.

و ممّا ذكرنا كلّه ظهر أن ادخال العالم كلّه في بيضة، مع عدم تصغير العالم و لا تكبير البيضة، محال غير قابل لتعلّق القدرة الأزلية به، و قد دلّ عليه مرسلة ابن أبي عمير عن الامام الصادق عليه السّلام(4) قال: إن ابليس قال لعيسى ابن مريم عليه السّلام: أيقدر ربّك على أن يدخل الأرض

ص: 140


1- المجيب صاحب الأسفار ناسبا جوابه إلى الفلاسفة، و سيأتي وجه بطلانه في مسألة بطلان الجبر و التفويض.
2- النور 45/24.
3- الأسفار، مباحث الشرور.
4- البحار 142/4.

بيضة، لا تصغر الأرض و لا تكبر البيضة؟ فقال عيسى - على نبينا و آله و عليه السلام -: ويلك، إنّ اللّه لا يوصف بعجز، و من أقدر ممّن يلطف الأرض و يعظم البيضة!

و رواية ابن أذينة عنه عليه السّلام قال: قيل: لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال: إن اللّه تبارك. و تعالى لا ينسب إلى العجز، و الذي سألتني لا يكون.

و رواية أبان بن عثمان المشتملة على جواب أمير المؤمنين لرجل بمثل ما أجاب به عيسى عليه السّلام في مرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة.

و أمّا رواية البزنطي - قال: جاء رجل إلى الرضا عليه السّلام فقال هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات و الأرض و ما بينهما في بيضة؟ قال: نعم و في أصغر من البيضة. و قد جعلها في عينك، و هي أقل من البيضة؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء و الارض و ما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها - فالجواب مبني على إفحام السائل و إسكاته، فإنّه لم يكن طالبا لواقع الأمر و حقيقة الحال، و إنّما سأله تعنّتا و لجاجا كما يظهر من قوله عليه السّلام: «ولو شاء لأعماك» فإنّ هذا الخطاب لا يليق بغير المعاند اللجوج.

و يمكن أن يقال بمثله في رواية هشام بن الحكم أيضا، و أنّ السائل من هشام بن الحكم كان لجوجا، أو أن الجواب منزّل على قصور فهمه. فلاحظ(1).

فجواب الصادق عليه السّلام في هذه الرواية و جواب الرضا في رواية البزنطي ليسا لبيان الواقع، و إلاّ لقالا بالعدم كما في الروايات المتقدمة، و من العجيب ما يظهر من المحدث الجزائري من الالتزام بمفادهما و بنائه على مقدورية ذلك، قال: فسبحان من هو قادر على أن يدخل الدنيا في بيضة من غير ترقيق الدنيا و لا تعظيم البيضة(2). و كذا ابن الحزم الاندلسي قال: و هو تعالى قادر على نفسه كما هو عالم بها(3). و كلا القولين ضعيف جدا باطل قطعا.

المطلب الثالث:

إنّ الفاضل الطريحي نقل عن العلامة الحلي قدّس سرّهما في حاشيته على شرح الباب الحادي عشر(4): أنه حكي عن السيد المرتضى و الشيخ الطوسي رحمهما اللّه أنّهما ممن نفى قدرة الباري و قالا:

إنّه خلاف الحقّ.

ص: 141


1- البحار 140/4.
2- الأنوار النعمانية 208/1.
3- الفصل 12/2.
4- شرح الباب الحادي عشر/ 13.

أقول: ما أدري هل هذه الجملة المطبوعة من الطريحي أم لا؟ نقلها العلاّمة أم لا؟ قال بها العلمان المذكوران ام لا؟ نعم ذكر الرجالي الشهير المامقاني رحمه اللّه كلاما عن البحراني و من جملته:

إنّ الشيخ الطوسي و شيخه أبا عبد اللّه المفيد قدّس سرّهما يذهبان إلى أنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد، كما هو مذهب أبي على الجبائي المعتزلي، نقل ذلك العلامة في بعض كتبه الكلامية و غيره(1). انتهى.

أقول: و عليه فيمكن أن يكون المراد من نفي القدرة المذكور في عبارة الطريحي المتقدّمة هو ذلك، أي نفيها عن عين مقدور العبد، و إلاّ فهو مقطوع الكذب، فإنّا نقطع أن ذلك لم يخطر ببالهما فضلا عن اعتقادهما به.

و أمّا الكلام الأخير المحكي عن الشيخين من إنكار قدرته تعالى على عين مقدور العبد فله وجه صحيح، كما ذكرنا في ذيل كلام الجبائي و قلنا: إنّ عين فعل العبد غير ممكن الصدور عن اللّه تعالى بلا واسطة العبد، و إلاّ لم يكن الفعل فعل العبد بل فعل الربّ، و ما هو غير ممكن غير مقدور، كما مرّ فلاحظ.

و يحتمل قريبا أن مراد الشيخ و السيّد - على تقدير صدور هذا الكلام منهما - هو نفيها عن غير الممكنات، و هذا الاحتمال قريب جدا.

ص: 142


1- تنقيح المقال (المدخل) / 208.
الفصل الثاني في علمه تعالى
اشارة

الجهة الأولى: في إثبات أصل علمه

الجهة الثانية: في بيان عموم علمه

الجهة الثالثة: في إبطال الآراء المنحرفة

الجهة الرابعة: في بيان العلم الإجمالي

الجهة الخامسة: في العلم التفصيلي

لجهة السادسة: حول البداء

الجهة السابعة: في علمه و قدرته

الجهة الثامنة: جملة من الآيات في العلم الحادث له

ص: 143

الفصل الثاني في علمه تعالى و استيفاء المرام فيه من بيان جهات:

الجهة الأولى: في إثبات أصل علمه تعالى
اشارة

و نستخدم له وجوها من الدلائل:

الأول: إن العلم له ممكن و ما أمكن في حقه واجب له كما تقدّم.

الثاني: إن العلم الإمكاني موجود و لا بدّ من استناده إلى العلم الواجب؛ بداهة عدم حصول العلم من غير العلم، فإذا كان ما بالغير هو العلم فلا بدّ و أن يكون ما به الغير أيضا هو العلم، و معلوم أن العلم الواجب ليس إلاّ للذات الواجبة.

الثالث: إنّ الممكنات مستندة إليه حدوثا و بقاء كما مرّ، و من الضروري أنّ المفيض المختار لا يكون إلاّ عالما بفعله و فيضه أَ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ(1).

الرابع: إنّا ندرك أن جملة من الأشياء الموجودة على كمال الإتقان و الإحكام، ففاعلها عالم بداهة عدم صدور هذه المحكمات العجيبة عن الجاهل. و هذا الوجه قوي جدا، فإن الصغرى حسية و الكبرى ضرورية، فإنّا نذعن - بأوّل التفات - بأن الجاهل البدوي لا يتمكّن من التدريس في الجوامع العلمية، و أن البناء العالي لا يتكوّن من التراب المثارة بالأهوية.

فالواجب الصانع لما فعل أفعالا محكمة متقنة، نذعن إذعانا اضطراريا بأنه عالم.

وهم و دفع

نوقش في البرهان الثالث صدور الفعل القليل عن النائم و الغافل، مع أنهما قادرين عند المعتزلة و كثير من الاشاعرة؛ اذ لو جاز ذلك لجاز صدور الكثير أيضا، فان حكم الشيء حكم مثله، و من الظاهر أنهما غير عالمين، فالإيجاد لا يدلّ على العلم.

أقول: و يتوجه عليه:

أولا: إنّ معنى المختار من له الفعل و الترك و يرجح أحدهما على الآخر، و من الظاهر أنّ

ص: 144


1- الملك 14/67.

النائم و الساهي ليسا بهذا الشأن و ليس لهما ترجيح لأحد الطرفين على الآخر، بل يصدر الفعل عنهما بلا روية.

و ثانيا: منع عدم الفرق بين الفعل القليل و الكثير، فإنّ القليل و إن كان ممكن الصدور من الفاعل غير العالم، لكن الكثير غير ممكن بالضرورة، و لا أظنّ أن يعدّ هذا سرّا على عاقل. و أمّا ما ذكره المدقّق اللاهجي(1) - من منع استدعاء صدور الفعل الاختياري العلم بالمقصود، مستندا فيه إلى صدوره عن الحيوانات العجم مع خلوها عن العلم، و قال: و ادّعاء الضرورة فيه لا يخلو عن إشكال لمكان فعل النائم و الساهي، و لا فرق بين القليل و الكثير في ذلك؛ إذ لو امتنع صدور الكثير بلا علم امتنع صدور الواحد لامتناع تحقّق المشروط بدون تحقق الشرط. انتهى - فهو ليس إلاّ وسوسة علمية لا طائل تحتها، فإن إنكاره علم الحيوانات بلا دليل، بل هي تعلم ما يصدر عنها بعلم خاصّ أودعه اللّه في نفوسها، و منع الضرورة غير مسموع، و ليس مجرّد الفعل دالا على العلم حتى يمنع من صدور القليل بلا علم، بل المشروط به هو الفعل الكثير. و هما - أي القليل و الكثير - كما يختلفان في جملة من الاحكام، فليكونا كذلك في المقام. و بالجملة هذا تشكيك في قبال الضرورة.

ثم إن الفاضل المقداد(2) لم يعتمد في اثبات الكبرى على الضرورة، بل برهن عليها بأن فعل المختار تابع لقصده، و يستحيل قصد شيء من دون العلم به.

أقول: القصد إما أن يراد به الصفة النفسانية فهي محال عليه تعالى، أو تعلل أفعاله بالأغراض فالبيان مصادرة؛ ضرورة توقّف على علمه كما يأتي في محلّه إن شاء اللّه؛ أو الإرادة فالدليل عين المدعى؛ لأنّها عنده هي علمه بالانفع، و هل الكلام إلاّ فيه؟ فالصحيح ما ذكرنا من دعوى الضرورة عليها كما هو الظاهر من جماعة.

و نوقش في البرهان الرابع بما يصدر عن الحيوانات العجم من الأفعال المحكمة و المتقنة، و لا سيما بعد ما أثبتته العلوم الحديثة و بالأخصّ ما تفعله النحل و النمل و العنكبوت و أمثالها.

أقول: و جوابه ما تقدّم من إثبات العلم لها دائما أو بإلهم منه تعالى حين صدور هذه الافعال، قال اللّه تعالى: وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ...(3) و قال أيضا حاكيا عن نملة: يٰا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسٰاكِنَكُمْ لاٰ يَحْطِمَنَّكُمْ

ص: 145


1- الشوارق 222/2.
2- شرح الباب الحادي عشر/ 14.
3- النحل 68/16.

سُلَيْمٰانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ (1) . فقد حذرت قومها من عدم شعور الانسان. و الهدهد علّم سليمان و أخبره عن ملكة اليمن. و بالجملة: الكتاب و السنة و العلم الحديث تدلّ على علم الحيوانات و شعورها، فالبرهان غير منتقض.

بقي شيء يجب بيانه و هو أن التفتازاني ذكر في محكي كلامه(2) أنّ المحقّقين من المتكلّمين على أن طريقة القدرة و الاختيار أوكد و أوثق من طريقة الاتقان و الاحكام؛ لأنّ عليها سؤالا صعبا، و هو أنّه لم لا يجوز أن يوجب الباري تعالى موجودا يستند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة و يكون له العلم و القدرة؟ و دفعه بأن إيجاد مثل ذلك الموجود و إيجاد العلم و القدرة فيه يكون أيضا فعلا محكما بل أحكم فيكون فاعله عالما، لا يتم إلاّ ببيان أنّه قادر مختار، اذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدلّ على العلم، فيرجع طريق الاتقان إلى طريق القدرة مع أنّه كاف في إثبات المطلوب. انتهى.

قلت: صدور الممكن العالم الفاعل لهذه المتقنات المحكمات من العلة الموجبة العديمة الشعور غير معقول، فإنّه يرجع إلى صدور العلم عن الجاهل كما يدعيه الماديون، و قد نبّهنا سابقا على استحالته بالضرورة العقلية. فهذه الشبهة سخيفة جدا بل هذا البرهان أوثق و أوكد و إن كانت طريقة الاختيار أعمّ مدلولا.

الخامس: إنّ الجهل نقص، و النقص عليه محال.

أقول: إن فرضنا الكبرى ضرورية أو فطرية أي متسالمة عند جميع العقلاء كما قد يظهر ذلك من بعضهم فهو، و إلاّ فالمدعى أسهل إثباتا من الكبرى، و سيأتي بحثها إن شاء اللّه.

السادس: إخباره عن المغيّبات الآتية كما في الكتاب العزيز، و كذا إخبار أنبيائه و أوليائه بها، فإنه يدلّ على علمه دلالة واضحة.

السابع: إنّ اللّه عالم بذاته، فإنّه خلق العالمين بذواتهم، فهو أيضا عالم بذاته؛ لان معطي الكمال لا يكون فاقده، أو أنه مجرّد و كل مجرّد عاقل بذاته، و ذاته عين العلّة لكل شيء، و قد تقرر أن العلم بالعلّة - أي بجميع جهاتها و اعتباراتها اللازمة لها، و إن شئت فقل: أي بالجهة المقتضية للمسبب سواء كانت عين ذات العلة أو زائدة، و لا شك أنها عين حيثية ترتّب المسبب على السبب؛ اذ لتخلّف عن السبب التام محال - عين العلم بالمعلول، كما صرح به السبزواري(3)، أو يقتضي العلم به، أو يستلزمه كما في تعابير الآخرين.

ص: 146


1- النمل 18/27.
2- الشوارق 222/2.
3- شرح المنظومة/ 159.

أقول: قد أشرنا غير مرّة أن فاعليته تعالى لأجل الأغراض الزائدة على ذاته تعالى، و إلاّ كان فعله لغوا، فعلمه بذاته لا يدلّ على علمه بغيره، فافهم جيدا.

نعم علمه بذاته و بتلك المصالح يدلّ على علمه بمعاليله، إلاّ أن الكلام في علمه بهذه المصالح المذكورة فالبيان مصادرة. و بالجملة هذه القاعدة لو تمّت لاختصت بالعلل الموجبة التي تأثيرها بمجرّد ذواتها، فتدبّر.

الثامن: إنّ الضرورة الدينية و اتّفاق أهل الملل و النحل و القرآن المجيد و السنة المتواترة كلها تدلّ على علمه تعالى.

أقول: النبوة موقوفة على علمه ثبوتا و إثباتا، فالتمسك بهذا الوجه دوري.

لا يقال: القرآن لكونه معجزا ليس من كلام البشر، بل هو من كلام اللّه سبحانه، فإذا ثبت وجوده تعالى يخبر هو عن علمه، فلا يلزم الدور...

حينئذ قلت: المحقّق هو أن القرآن بمجموعه و تمامه ليس من إنشاء البشر و أمّا أن جميعه ليس منهم فهو غير ثابت عقلا؛ إذ لا شك في إمكان المماثلة ببعض الآيات، و حينئذ يحتمل أن الآيات الدالة على علمه تعالى صادرة عن الذي جاء بالقرآن، فما لم يثبت نبوته و عصمته لم يتمّ حجّية القرآن. فالتمسك بالنقل في إثبات أصل علمه و قدرته غير صحيح.

و ما قيل(1) من أنه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بكلّ ما أخبروا به و إن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما، ففيه: أنّ دلالة المعجزة على صدق الرسل تتوقّف لا محالة على أن يكون المرسل عالما قادرا، فإن طلب المعجزة ليس إلاّ طلب تصديق المرسل من المرسل، فلا بدّ من كونه عالما بالطلب و قادرا على التصديق.

الجهة الثانية: في بيان عموم علمه
اشارة

و هو إن فسّرناه بتعلّق علمه بكلّ شيء موجود أو كان موجودا، فدليله ما تقدّم من الوجه الثالث، فإنّه يدلّ على أنّه تعالى عالم بجميع مخلوقاته سواء كانت ذواتا أو معاني أو غير ذلك، فهو عالم بالموجودات و بالمحالات التي يعلمها العلماء، فإنّ الصور المرتسمة في أذهان العلماء مخلوقة للّه تعالى، فهو عالم بها بطريق أولى، بل يمكن الاستدلال عليه بالوجه الاول و الخامس و السابع أيضا كما لا يخفى.

و هنا وجه آخر دالّ على المراد ذكره غير واحد، و هو أنّ الموجب للعلم هو ذاته تعالى، و المقتضي للمعلومية هو ذات الممكن، و نسبة ذاته تعالى إلى جميع الممكنات نسبة متساوية،

ص: 147


1- الشوارق 222/2 نقله عن بعضهم.

فإذا علم بعضها فقد علم الجميع و إلاّ لزم الترجيح بلا مرجح و هو باطل.

أقول: الظاهر أن الدليل تامّ لا بأس به، غير أنه يجب أن يقال في تقريبه: إنه قد ثبت له العلم في الجملة، بدل قولهم: الموجب للعلم هو ذاته، فإنه ناظر إلى زيادة الصفات على ذاته تعالى و هي باطلة عندنا، و ما ذكرنا يشمل كلا المذهبين.

قال اللّه تعالى: وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (1) و قال: عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (2) و قال:

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ (3) ...

و إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. و عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام(4): «يعلم عجيج الوحوش في الغلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النينان في البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرياح العاصفات». و مثله كثير.

و إن فسّرناه بأنه تعالى عالم من الأزل بجميع الأشياء و الأحوال و التقادير إلى الأبد، فهذا هو البحث الغامض المعضل الذي لا نظير له في الصعوبة في علم الكلام، و الإنصاف أن إثبات هذه المسألة عقلا مشكل جدا، و لم أر له أثرا في كتب الكلام أصلا، و كيفما كان فهنا أمران:

الأول: إن اللّه عالم بجميع الأشياء من الأزل و علمه كذاته أزلى، كما اتّفق عليه الفلاسفة و المتكلّمون سوى قوم شاذّ و نفر قليل منهما، و هذا هو الثابت من الديانة الإسلامية ثبوتا قطعيا.

الأمر الثاني: إن العلم إما صفة حقيقية ذات إضافة، أو صفة إضافية محضة فلا يمكن إلا بمتعلّق، و إن شئت فقل: إنه إما نفس انكشاف الواقع أو ما يستلزمه، و على كل تقدير لا بدّ له من معلوم، فإذا قلنا: إنّه تعالى عالم بجميع الأشياء أزلا، لا بدّ أن نلتزم بوجود جميع الأشياء خارجا أو ذهنا في الأزل مع أنه لا يلتزم به أحد، فإن العالم أو حوادثه غير موجودة في الأزل، و الواجب تعالى لا ذهن له حتى تنطبع فيه الصور، هذا مع أن صورة الشيء لا تتولّد إلاّ من إدراك الشيء ولو بوجه، و هو ها هنا (أي في القدم) أول الكلام، فإذن لا يتعقّل معنى أنه تعالى عالم بالأشياء أزلا، فظهر أن الجمع بين الأمرين صعب أو غير ممكن عقلا؛ فلذا اختلفت الانظار و تشتّت الأفكار و كثرت الأقوال و مع ذلك لم تنجل المسألة و لم تنحل المشكلة، بل إزدادت مصاعبها.

و أحسن ما قيل في المقام بحيث يمكن أن يعوّل عليه في المقال مسلكان:

ص: 148


1- النساء 176/4.
2- سبأ 3/34.
3- ق 16/50.
4- البحار 92/4.

المسلك الأول: ما ذكره أرسطو في اثولوجيا(1) من أن الأشياء عند الباري جلّ ذكره كاملة تامّة، زمانية كانت أو غير زمانية، و هي عنده كانت أولا كما تكون عنده أخيرا، و قال: الأشياء هناك دائمة لا تتغير بل على حال واحد... الخ

أقول: و توضيح ذلك: أن نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كانت واحدة، كما أن نسبة جميع الأمكنة إليه تكون واحدة، بمعنى أن أعيان الموجودات الزمانية - قديمة أو حادثة - حاضرة عنده تعالى دفعة واحدة بلا اختلاف في القبلية و المعية و البعدية و المضي و الحال و الاستقبال؛ لكونه تعالى بريئا عن الوقوع في شيء من الأزمنة كبراءته عن الووقع في شيء من الأمكنة، بل هو محيط بقاطبة الزمانيات و المكانيات إحاطة واحدة، و إنما ذلك الاختلاف لها بقياس بعضها إلى بعض و فيما بينها، لا بالقياس إلى الحضور عنده تعلاى و المعية عنه.

و قد نسبه اللاهجي في شوارقه إلى ظنّ جماعة منهم الدواني في بعض رسائله، و صاحب القبسات، بل نسبه المجلسي(2) إلى محققي الحكماء، بل نقله بعض عن جميع الحكماء، و مثّلوا ذلك بخيط مختلف الأجزاء بالسود و البيض، فإنه إذا نظر إليه الإنسان مثلا يلاحظ مجموع تلك الأجزاء المختلفة الالوان دفعة واحدة، و يرى الجزء الأسود في موضعة و الأبيض في موضعه، كليهما مع و في آن واحد، بخلاف الحيوان الضيق الحدقة كالنملة، فإنه يرى كل جزء يوصل إليه في آن وصوله إليه و لا يرى الجزء الذي بعده أو قبله في هذا الآن بل في آن هو بعد ذلك الآن أو قبله.

و قد ارتضاه اللاهجي في كتابه المسمى ب «گوهر مراد»(3) و قال: إن هذا التحقيق منقول من الحكماء السالفين، و إن المحقّق الطوسي قدّس سرّه قرّره في شرح رسالة العلم بأتمّ الوجوه. و ذكره غيره من المحققين أيضا، و جعل تصحيح العلم الحضوري في الواجب معلّقا على هذا التحقيق، و قال:

إنا بيّنا هذا المعنى في حواشي إلهيات التجريد بحيث لم يبق للتأمّل فيه مجل. هذا و لكن المذكور في شوارقه عدم ارتضائه ذلك.

و أما نسبته إلى المحقق الطوسي فهي في محلها كما يظهر من عبارته المحكية في الشوارق(4).

و ممّن اختار هذا الطريق، المحدّث الكاشاني في كتابه الوافي،(5) فإنه ذكر في باب نفي

ص: 149


1- نقله العلامة المجلسي قدّس سرّه في بحار الأنوار 59/14.
2- البحار 72/4.
3- گوهر مراد/ 195.
4- الشوارق، أواخر المجلد الثاني.
5- الوافي 77/1.

الزمان و المكان و الكيف عنه كلاما طويلا نذكر شطرا منه. قال: إن المخلوقات، و إن لم تكن موجودة في الأزل لا نفسها و بقياس بعضها إلى بعض، على ان يكون الأزل ظرفا لوجوداتها كذلك، إلاّ أنّها موجوة في الأزل للّه سبحانه وجودا جمعيا وحدانيا غير متغيّر، بمعنى أن وجوداتها اللايزالية الحادثة ثابتة للّه سبحانه في الأزل كذلك. و هذا كما أن الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا قيّدت بقيامها بالذهن، و إذا أطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن، فالازل يتّسع القديم و الحادث و الأزمنة و ما فيها و ما خرج عنها... الخ.

فهو و إن لم يصرّح هنا بأن هذا هو طريق تعلّق علمه بالأشياء أزلا، لكنّه سلم و أصرّ على أن نسبة الأزمنة إليه كالأمكنة واحدة، و إنّما الاختلاف بالقياس إلى الحوادث نفسها فيسهل استنتاج المطلوب منه بل صرّح به في موضع آخر من ذلك الكتاب(1).

أقول: قياس الأزمنة على الأمكنة واضح الفساد و لائح الفرقان فإن الأولى غير قارّة لا يمكن وجوده بجميع أفرادها دفعة واحدة و إن قايسناها إلى من هو خارج عن سجن المكان و الزمان، فإن القصور راجع إلى الزمان نفسه لا إلى غيره حتى يفرّق بين الزماني و غيره، و هذا بخلاف الأمكنة فإنها غير تدريجية الحصول بل هي من الأمور القارة، و كذا الخيط المختلف الالوان. و بالجملة: هذا الوجه و إن كان له صورة في بدء النظر، و يرتضيه العقل و النقل من نتيجته على تقدير تماميته، لكنه ضعيف الأساس عند التأمل، بل لم أجد دليلا عليه في كلمات من ذكره غير ذكر المثال المذكور.

المسلك الثاني: ما سلكه صاحب الأسفار و من تبعه، و قد نسبه في اسفاره إلى طريقة قدماء الحكماء، و هو أن الواجب تعالى هو المبدأ الفياض لجميع الحقائق و الماهيات، فيجب أن يكون ذاته تعالى مع بساطته و أحديته كلّ الأشياء، و قال: نحن قد أقمنا البرهان على أن البسيط الحقيقي من لوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء، فإذن لمّا كل وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء، و ذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته و عاقل، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، و عقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه، فثبت أن علمه تعالى بجميع الأشياء حاصل في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه، سواء كانت صورا عقلية قائمة بذاته أو خارجة منفصلة عنها، فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه و الإجمالي بوجه؛ و ذلك لأن المعلومات على كثرتها و تفصيلها بحسب المعنى موجودة بوجود واحد بسيط، ففي هذا المشهد الإلهي و المجلي الأولي ينكشف و يتجلّى الكلّ من حيث لا كثرة فيها، فهو الكلّ في وحدة.

ص: 150


1- الوافي 98/1.

ثم قال بعد كلام طويل: فإن قلت فإذا ثبت كون الأشياء كلّها معقولة له تعالى - كما هي عليها - بعقل واحد بسيط فما الحاجة في علمه تعالى إلى إثبات الصور العقلية الزائدة مقارنة كانت أو مباينة؟ و أيضا إذا كان ذاته تعالى بحيث ينكشف له الحقائق المتخالفة في وجوده الخارجي فما الحجّة على إثبات العقل من طريق أحدية المبدأ الأعلى؟ اذ مبناه على أنه واحد من كل وجه بلا اختلاف حيثية، و أنتم أثبتم في ذاته معاني كثيرة.

قلت: أما إثبات الصور فهو لازم من تعقّله لذاته المستلزم لتعقّل ما هو معلوله القريب، و من تعقّل معلوله تعقّل معلول معلوله الثالث، و هكذا الرابع و الخامس إلى خر المعلولات على الترتيب العلّي و المعلولي؛ فإن ذاته لما كان علّة للأشيء بحسب وجودها، و العلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها، فتعقّلها من هذه الجهة لا بدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحدا بعد واحد، و هذا غير تعقّها على وجه لا يكون هو بحسبه معلولة.

و أمّا وجوب كون المعلول الأول واحدا لا متعدّدا و بسيطا لا مركّبا، مع كون المبدأ الأعلى مصداقا و مظهرا لماهيّات الممكنت كلها، فذلك لأجل أن تكثر العنوانات لا يقدح في أحدية ذات الموضوع؛ فإن الحيثيات المختلفة التي توجب كثرة في الذات، هي الحيثيات التي اختلافها بحسب الوجود لا التي تعدده و اختلافها بحسب الآثار.

فمثال الأول كالاختلاف في القوّة و الفعل و التقدّم و التأخّر و العلّية و المعلولية و التحريك و التحرّك.

و مثال القسم الثاني كالعلم و القدرة، و كالعاقلية و المعقولية و كالوجود و التشخص و غيرها.

انتهى كلامه.

أقول: هذه النظرية و إن كانت مبنيّة على أصالة الوجود و وحدته، إلاّ أن العمدة في طريقها هي القاعدة القائلة بأنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء، كما صرّح به نفسه؛ و حيث إنّ القاعدة المذكورة عندنا ضعيفة الأركان منهدمة الأساس، فقد سقط هذا المسلك أيضا بلا كلام.

و أما بيان بطلان القاعدة فستلاحظه في المقصد الثالث إن شاء اللّه بأوضح كلام و أوثق برهان.

ثم إنّا لو أغمضنا النظر عن هذه الناحية و فرضنا المقدمات صحيحة لما ترتّبت عليها هذه النتيجة؛ و ذلك لأنّ اندكاك الأشياء فيه تعالى ليس بنحو التعيين و التمييز، و إلاّ للزم الكثرة فيه، كما صرّح هو به أيضا، بل بنحو حذف حدودها و تشخصاته، و من الواضح أن العلم بمثل هذا الوجود الجمعي الفاقد للميزات لا يستلزم العلم بالأشياء تفصيلا، كما تخيله المستدل، بل لا يستشمّ منه رائحة التفصيل، فإنه علم إجمالي تعلّق بأصول الموجودات تعلّقا في غاية الإجمال

ص: 151

و شدّة الابهام و نهاية الاهمال، كما اعترف به اللاهجي أيضا حيث قال: بعد ما اختار هذا المسلك و بيّنه تحت عنوان «تكميل عرشي»: و هذا هو المراد من كون ذاته تعالى علما إجماليا بالأشياء و عقلا بسيطا لها على ما حصلناه من كلام الشيخ... إلى أن قال: فبالاضطرار لزم القول بالعقل التفصيلي المحقّق بحصول صور المهيات في العاقل متميّزة بعضها عن بعض و عن الوجود في علمه تعالى بالأشياء، و هذان العلمان هما المشار إليهما بالكلّ الأول و الكلّ الثاني في كلام الفارابي في الفصوص(1)... الخ فهذا المسلك أيضا غير مفيد.

هداية

بعد ما بطل هذان المسلكان و لم يتمّا، فلا تتمنّ الوصول إلى الواقع عن بقيّة المسالك الدائرة في بيان علمه بالأشياء أزلا، و كيفية تعلقه بها: «چون نديدند حقيقت ره افسانه زدند»، فالذي ينبغي أن يقال في هذا المقام: إنّا قد برهنّا سابقا على أنّ فعل الفاعل المختار مسبوق بالعلم بالضرورة، فإذن نعلم أن الذي خلق هذه الكائنات المختلفة المتعدّدة المتكثرة عالم قطعا، و إنّما خلق ما خلق عن علم سابق على خلقته بالضرورة العقلية، فقد ثبت أنه تعالى كان عالما قبل فعله و خلقه بما يفعله و يخلقه ولو بلحظة ثبوتا بتّيا ضروريا عقلا، بحيث لا يمسّه شك، فإذا أمكن العلم قبل المعلوم ولو بلحظة فقد أمكن قبله ولو بملايين السنين؛ بداهة عدم تأثير قصر المدّة و طولها في الحكم العقلي من الإمكان و الامتناع؛ لأنّ الشيء إن كان ممكنا فهو ممكن أزلا و أبدا، و إن كان ممتنعا فهو ممتنع كذلك، و لا يعقل انقلاب الجهات الثلاث عقلا و اتّفاقا فإذن نستيقن أن العلم بالأشياء قبل كونها ولو بقليل ثابت، و بكثير ممكن، و قد دريت أن ما أمكن في حقّه، و لم يمتنع عليه فهو واجب له، فنستنتج أنه تعالى عالم بجميع الأشياء تفصيلا في الأزل.

و لك أن تحصّل النتيجة المذكورة من دون توسيط قاعدة الملازمة المزبورة بأن تقول:

حيث إنّه تعالى فاعل مختار، فهو عالم بفعله قبل فعله كما مر، و حينئذ نسأل عن حين حدوث هذا العلم؟ و أنه في أي جزء من الزمان أو غيره حدث؟ فأي جزء اختير فيه حدوث علمه فهو ترجيح بلا مرجّح بل ترجّح بلا مرجح، و هو ضروري الاستحالة؛ أو يقال: إنّ العلم عين ذاته كما يأتي برهانه في المقصد الرابع، فلا يمكن القول بحدوثه فيما لا يزال، بل وجب الإذعان بثبوته فيما لم يزل.

و حاصل هذه الطرق الثلاثة - أي قاعدة الملازمة، و حديث الترجّح بلا مرجّح، و قانون العينية - أن جميع ما يصدر عن الخلاّق الحكيم المختار، و ما سيصدر عنه تعالى إلى الأبد فهو

ص: 152


1- الشوارق 251/2.

معلوم و منكشف له تعالى من الأزل.

و أما كيفية هذا العلم و نحو تعلّقه بالأشياء فهي خارجة عن طاقة البشر؛ و ذلك لأنّ الممكن محدود و الواجب غير محدود؛ و هيهات أن يحيط المحدود بمن هو خارج عن الحد و التناهي اتّفاقا و برهانا، كما سندلل عليه في المقصد الثالث إن شاء اللّه، فالممكن لا يدرك حقيقة الواجب الوجود باتّفاق الفلاسفة و المتكلّمين(1) و بدلالة العقل و هداية الشرع، و المفروض أن علمه عين ذاته فلا يمكن لنا الوصول إلى كيفية تعلّقه بالاشياء، فالذي يمكن للعقل هو الإذعان بأنه تعالى عالم بالأشياء أزلا بطريق ذكرنا، و أما أنه كيف علم الأشياء مع أنه لا وجود لها؟ فهو أمر خارج عن وسعنا؛ لأنا ما أوتينا من العلم إلاّ قليلا، لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا.

نعم كلّ دون صفاته تعبير اللغات، و ضلّ هنالك تصاريف الصفات، و حار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، و انقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير.

ثم إنّ هذا الدليل لا يثبت لنا تعلّق علمه بالممكنات التي لا تقع إلى الأبد كما في قوله تعالى: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ (2)؛ و لا بالملازمات الواقعية كما في قوله تعالى: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا(3)؛ و لا بامتناع الممتنعات التي لم يعلم غيره. و أمّا ما علمه غيره فهو يعلمه؛ لأنّه الخالق للصور المذكورة في مشعر غيره، و ليس عدم إثبات تعلّق علمه تعالى بهذه الموارد الثلاثة من قصور طريقنا وحده، بل المسلكان المتقدّمان أيضا لا يثبتانه أيضا كما هو ظاهر، بل ما اخترعوه من العلم التفصيلي حضوريا كان - كما عليه الإشراقيون - أو حصوليا - كما عليه المشاؤون - أيضا لا يشمل هذه الموارد، فلا بدّ لأثبات ذلك من التماس قاعدة الملازمة ابتداء، أو الاعتماد على دلالة الشرع وحدها.

و هنا طريق آخر يمكن أن يفضي بنا إلى المطلوب، و هو ما تقدّم من عدم اقتضاء الممكن للوجود و العدم، و استواء ماهيّته بالنسبة إليهما و فقر وجوده، فهو محتاج في عدمه إلى غيره كما يحتاج إليه في وجوده، و من هذا ينقدح أنّ اللّه المختار عالم بالأشياء الممكنة سواء وقعت في الخارج أم لم تقع، فإنّه هو الذي اختار عدمها على وجودها، و لم يرد طرف وجودها في أول ظروف إمكانها.

و بالجملة: عدم الأشياء مستند إلى عدم إرادته تعالى لوجوداتها، و إرادة إيجادها تابعة لعلمه بالمصلحة، فيكون عدم إرادته من جهة علمه بعدم المصلحة، فهو عالم بكل شيء أزلا.

ص: 153


1- و ما نسب إلى القوم الثاني أو جمع منهم - من إمكان معرفة ذاته - غير ثابت.
2- الأنعام 28/62.
3- الأنبياء 22/21.

و هذا الدليل أخصر و أعم، أمّا الأخصرية فهي ظاهرة(1)، و أما الاعمّية فلشموله الممكنات غير الواقعة في دار الوجود أصلا فتأمّل فيه.

هذا كله من ناحية حكم العقل، و أمّا من جهة الشرع فإليك نبذة ممّا ورد منه في الكتاب و السنة:

أمّا الكتاب العزيز ففيه آيات بيّنات:

فمنها قوله تعالى: عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ (2) بناء على تفسير الغيب بما لم يكن كما في الرواية. لا بما هو الموجود الحاضر، الغايب عن مشاعرنا.

و منها قوله: إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ...(3).

و منها قوله: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا(4).

و منها قوله: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ (5).

و منها قوله: وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (6).

و منها قوله: غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (7) و مثلها غيرها.

و أمّا الروايات فننقل بعضها المذكور في الكافي و توحيد الصدوق رحمه اللّه و قد نقلها المجلسي رحمه اللّه أيضا.

1 - صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه السّلام قال:

سمعته يقول: كان اللّه و لا شيء غيره، و لم يزل عالما بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه.

2 - رواية الحسين بن بشار عن الرضا عليه السّلام قال:

سألته أيعلم اللّه الشيء الذي لم يكن، ان لو كان كيف يكون، أو لا يعلم إلاّ ما يكون؟ فقال: ان اللّه تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء.

قال عز و جل: إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) و قال لأهل النار: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا

ص: 154


1- هذا بناء على إمكان أزلية الممكن، و أما بناء على عدمه فالدليل يحتاج إلى أحد الطرق الثلاثة المتقدمة كما لا يخفى.
2- الأنعام 73/6.
3- لقمان 34/31.
4- الأنبياء 22/21.
5- الأنعام 28/6.
6- الأنفال 23/8.
7- الروم 3/30.
8- الجاثية 29/45.

نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (1) فقد علم اللّه عزّ و جل أنه لو ردّهم لعدوا لما نهوا عنه. و قال للملائكة لما قالوا: أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قٰالَ: إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ (2) فلم يزل اللّه عزّ و جل علمه سابقا للأشياء قديما قبل أن يخلقها، فتبارك ربّنا و تعالى علوّا كبيرا، خلق الأشياء و علمه بها سباق لها كما شاء، كذلك لم يزل ربنا عليما سميعا بصيرا(3).

3 - رواية فتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن عليه السّلام، قال: قلت له:

يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون؟ قال: ويحك أن مسألتك لصعبة أما سمعت اللّه يقول:

لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (4) و قوله: وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ (5) و قال يحكي قول أهل النار أَخْرِجْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ (6) و قال: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ (7) فقد علم الشيء لذي لم يكن ان لو كان كيف كان يكون... الخ.

4 - رواية ابن حازم عن الصادق عليه السّلام، قال: قلت له:

أرأيت ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس كان في علم اللّه؟ قال: بلى قبل أن يخلق السماوات و الأرض.

5 - روايته الأخرى عنه عليه السّلام، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام:

هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه عزّ و جل؟ قال: لا، بل كان في علمه قبل أن ينشئ السماوات و الأرض.

6 - رواية صفوان بن مسكان، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اللّه تعالى:

أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عندما خلقه و بعدما خلقه؟ فقال: تعالى اللّه بل لم يزل عالما بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد ما كوّنه، و كذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان.

7 - رواية الهروي عن الرضا، قال عليه السّلام في جواب المأمون السائل عن قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(8): إنه عزّ و جل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته و عبادته لا على سبيل الامتحان و التجربة، لانه لم يزل عليما بكل شيء.

8 - رواية فضيل بن سكرة، حيث قال أبو جعفر عليه السّلام في جواب من سأله عن علمه بذاته قبل

ص: 155


1- الأنعام 28/6.
2- البقرة 30/2.
3- لاحظ البحار 78/4.
4- الأنبياء 22/21.
5- المؤمنون 91/23.
6- فاطر 37/35.
7- الأنعام 28/6.
8- هود 7/11.

خلقه: ما زال اللّه عالما تبارك و تعالى ذكره.

9 - مكاتبة أيوب بن نوح، أنه كتب إلى أبي الحسن عليه السّلام يسأله عن اللّه عزّ و جل: أكان يعلم الأشياء قبل أن يخلق الأشياء و كونها، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها و أراد خلقها و تكوينها، فعلم ما خلق عند ما خق و ما كوّن عند ما كوّن؟ فوقع بخطه عليه السّلام: لم يزل اللّه عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء.

10 - رواية ابن حازم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه اللّه. قلت: أرأيت ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم اللّه؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق.

11 - رواية أبي هشام الجعفري المروية عن الخرائج حيث قال ابو محمد عليه السّلام:

تعالى الجبّار الحاكم العالم بالأشياء قبل كونها.

12 - ما رواه الشيخ الطوسي قدّس سرّه في كتاب الغيبة عن سعد عن عيسى عن البزنطي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال:

علي بن الحسين و علي بن أبي طالب قبله و محمد بن علي و جعفر بن محمد عليهم السّلام: كيف لنا بالحديث مع هذه الاية يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (1) فأمّا من قال بأنّ اللّه لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه فقد كفر و خرج عن التوحيد.

13 - رواية أبي بصير و سماعة عن الصادق عليه السّلام، كما عن إكمال الدين، قال:

من زعم أن اللّه عزّ و جل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه.

14 - رواية هشام بن الحكم، كما في الاحتجاج، سأل الزنديق عن الصادق عليه السّلام فقال:

فلم يزل صانع العالم عالما بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها؟ قال: لم يزل يعلم فخلق(2).

هذه جملة من الأخبار الواردة من أصحاب الحكمة و العصمة في هذه المسألة ممّا ذكرته لك، و من المعلوم أن مثل هذه الروايات أكثر من ذلك كما يجدها المتتبع. ثم إن هنا روايات أخر تدلّ على المطلوب، و اليك فهرسها مجملا:

الطائفة الأولى: بعض ما ورد في موضوع البداء، فلاحظ الجزء الرابع من بحار الانوار و غيرها.

الطائفة الثانية: ما ورد من أنّ علمه عين ذاته، و أنه علم لا جهل فيه، كما ستقف عليها في المقصد الرابع.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على علم الائمة بالأمور الآتية و هي لعلّها بنفسها متواترة كما يأتي.

ص: 156


1- الرعد 39/13.
2- البحار 67/4.

الطائفة الرابعة: ما ورد في اللوح المحفوظ و أن اللّه كتب جميع الوقايع فيه أولا.

الطائفة الخامسة: ما ورد في الشقاوة و السعادة، و ما يكتب عند ولوج الروح في الجنين.

فقد ثبت من جميع ذلك ثبوتا قطعيا بتيّا أن السنّة تنطق بعلمه تعالى بالأشياء أزلا(1)، ثم إنّ من وراء العقل و القرآن و السنة، الضرورة المذهبية أو الاسلامية. قال الشيخ المفيد(2): أقول: إنّ اللّه عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، و أنه لا حادث إلاّ و قد علمه قبل حدوثه، و لا معلوم و ممكن أن يكون معلوما إلاّ و هو عالم بحقيقته... و بهذا قضت دلائل العقول، و الكتاب المسطور، و الأخبار المتواترة عن آل الرسول، و هو مذهب جميع الإمامية... و معنا فيما ذهبنا إليه في هذا الباب جميع المنتسبين إلى التوحيد، سوى الجهم بن صفوان من المجبرة و هشام بن عمر القوطي من المعتزلة، فإنّهما كانا يزعمان أن العلم لا يتعلّق بالمعدوم، و لا يقع إلاّ على موجود، و أن اللّه تعالى لو علم الأشياء قبل كونها لما حسن منه الامتحان.

و قال العلامة المجلسي:(3) ثم إعلم أن من ضروريات المذهب كونه تعالى عالما أزلا و أبدا بجميع الأشياء كليّاتها و جزئياتها من غير تغير في علمه تعالى. ثم نقل بعض مذاهب الفلاسفة في علمه تعالى، فاعقبه بقوله: و جميع هذه المذاهب الباطلة كفر صريح مخالف لضرورة العقل و الدين... الخ.

فإذن لا دغدغة في المسألة، فإنّها مما توافق عليه العقل و الشرع، كما قررناه بأوضح التقرير.

الجهة الثالثة: في إبطال الآراء المنحرفة

قد نقلوا الخلاف في علمه أو عمومه من جماعت من الناس، فنذكر أقوالهم و وجه بطلانها تكميلا للمقام:

ص: 157


1- قال بعض من في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشرية: قالت الشيطانية - و هم أتباع شيطان الطاق -: إنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها. و جماعة من الاثنا عشرية من متقدّميهم و متأخّريهم منهم المقداد صاحب كنز العرفان قالوا: إنّ اللّه لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها. أقول: و قد عرفت مذهب الإمامية بأسرهم في عموم تعلّق علمه بالأشياء أزلا و لا قائل من الإمامية بما افتراه أحد، و إنّما هو قول غيرنا من العامّة و غيرهم، فلعنة اللّه على الكاذبين. و مؤمن الطاق رجل حذق من أجلاّء متكلّمي الإمامية و أصحاب الصادق عليه السّلام و ليس له فرقة و حزب خاصّ كما تخيّله هذا القائل تقليدا للشهرستاني و غيرها.
2- أوائل المقالات/ 21.
3- بحار الأنوار 87/4.

الأول: إنه تعالى لا يعلم نفسه(1)؛ لأنّ العلم نسبة تقتضي الشيئين المتغايرين بالضرورة، و لا تعقل في شيء واحد.

و تضعّفه عينية العلم مع ذاته تعالى، فهو ليس فيه تعالى بنسبة. هذا مع أنّ العلم صفة لا تقتضي أزيد من عالم و معلوم، و اجتماع هذين العنوانين على شيء واحد ممكن كما في علمنا بأنفسنا، فمن حيث إنّا نعلم أنفسنا فنحن عالمون، و من حيث إنّ أنفسنا منكشفة لدينا فنحن معلومون، فكذا في الباري تعالى.

الثاني: إنّه لا يعلم شيئا أصلا و إلا أمكن أن يعلم نفسه أيضا. و قد مرّ أن إمكان علمه بنفسه ممنوع. نقل هذا القول عن بعض قدماء الفلاسفة، و قد اتّضح لك فساده.

الثالث: إنه لا يعلم غيره و إن كان عالما بذاته؛ و ذلك لأنّ العلم بالشيء غير العلم بغير ذلك الشيء، و إلاّ فمن علم شيئا علم جميع الأشياء، فلو كان اللّه عالما بالأشياء لكانت له علوم متعدّدة، فيتحقّق في ذاته كثرة غير متناهية.

و أجيب عنه بمنع تعدّد العلم بتعدّد المعلومات، فالكثرة في الإضافات و التعلّقات، و اما العلم فهو واحد، و هي - أي كثرة الإضافات بغير ممتنعة، لأنّها أمور اعتبارية لا وجود لها خارجا.

أقول: إتمام هذا الجواب موقوف على أن علم الواجب ليس بحصولي و لا حضوري، و سيأتي أن علمه ليس بشيء منهما.

الرابع: إنه لا يعلم غير المتناهي؛ اذ المعقول متميز، و غير المتناهي غير متميز عن غيره، و إلاّ لكان له حد ينفصل به عن غيره، فيكون متناهيا و هو خلف.

و فيه أولا: إنّ كلّ فرد في نفسه متميّز، فيتعلق العلم بكل وحد منه.

و ثانيا: إنّ التميّز لا يستلزم الحد، فلا مانع من أن يكون ما لا يتناهى متميزا.

الخامس: إنه لا يعلم الجميع، بمعنى سلب إيجاب الجميع لا بمعنى السلب الكلي؛ إذ لو علم كلّ شيء للزم أن يعلم أيضا علمه به و أن يعلم علمه بعلمه، فيلزم التسلسل في العلوم.

و أجيب عنه بأن(2) العلم عندنا من قبيل الإضافات، و تسلسلها غير باطل.

أقول: علمه تعالى ليس من الإضافات و النسب بل هو عين ذاته، و المجيب أيضا قائل بأنّه موجود قديم تبعا لشيخه الاشعري، فحكمه هنا بإضافة العلم و اعتباريته تناقض منه في أصوله.

ص: 158


1- نسب هذا القول إلى الدهرية مع أنّهم ينكرون قدرته و حياته و حكمته و تجرّده أيضا، فإنّهم يرون أن مبدأ العالم أجسام صغار كما تقدّم، فتخصيص نفي العلم بهم وحده بلا مخصّص، فتأمّل.
2- ذكره في المواقف و شرحها 64/3.

و أما هذه الشبهة فيمكن أن يجاب عنها بأنّ انكشاف العلم بنفسه لا بعلم ثان.

لا يقال: إنّه لو صح ذلك لبطل العلم البسيط و هو خلاف الوجدان.

فإنه يقال: لا علم لمن غفل عن علمه حقيقة. نعم هو عالم بمعنى تمكّنه من حصوله بالالتفات. و بالجملة: من كان له علم بشيء فهو ملتفت إليه، فإذا بطل التفاته فقد بطل علمه، و لا معنى لتقسيم العلم إلى البسيط و المركب إذ أريد بالمقسم الانكشاف الفعلى. فتأمّل فيه.

السادس: إنّه لا يعلم ذاته و لكن يعلم غيره على عكس القول الثالث. و المصرح في كلام العلامة الحلّي(1) و المحدّث المجلسي(2) - على اختلاف جزئي بين الكلاميين - أن هذا القول بل القول الأول و الثاني و الثالث و الرابع و الخامس من قدماء الفلاسفة.

أقول: فساد هذا الوجه ظاهر.

السابع: إنه تعالى لا يعلم الجزئيات المتغيرة بما هي جزئيات متغيرة، كما عن الفلاسفة أو جمهورهم. و برهنوا عليه بأن علمه تعالى إن بقى على حاله حين تغيّر تلك الجزئيات فيلزم الجهل، و ان تغيّر بتبع تغيرها لزم التغيّر في ذاته. بل لا يعلم الجزئيات المتشكّلة و إن لم تتغير، كأجرام الأفلاك الثابتة على اشكالها؛ لأن إدراكها إنما يكون بالآلات الجسمانية. و أما الجزئيات الثابتة غير المشكلة - كذاته تعالى و العقول الكلية - فهي معلومة له تعالى بأشخاصها بلا محذور، كما أن الجزئيات المتغيّرة و المتشكّلة أيضا مما يتعلّق به علمه تعالى على نحو كلّي.

و بيانه ما قرّره ابن سينا في محكي الشفاء(3) حيث قال في بحث إلهياته: و لأنه مبدأ كلّ وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، و هو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، و الموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا و بتوسط ذلك بأشخاصها، و من وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيّرات مع تغيّرها من حيث هي متغيّرة عقلا زمانيا مشخصا، بل على نحو آخر منه فإنّه لا يجوز ان يكون تارة يعقل عقلا زمانيا أنها موجودة غير معدومة، و تارة أنّها معدومة غير موجودة، فيكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، و لا واحدة من الصورتين يبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات. ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجرّدة بما يتبعها مما لا يتشخّص لم يعقل بما هي فاسدة، و إن أدركت بما هي مقارنة لمادة و عوارض مادة و وقت و تشخص و تركيب لم يكن معقولة بل هي محسوسة أو متخيلة.

و نحن قد بيّنا في كتب أخرى أن كلّ صورة لمحسوس و كل صورة خيالية فإنما يدرك من

ص: 159


1- شرح قواعد العقائد/ 45.
2- البحار 87/4.
3- الشوارق 252/2.

حيث هي محسوسة و متخيلة بآلة متجزية، و كما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات، بل الواجب الوجود إنما يعقل كلّ شيء على نحو كلي، و مع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات و الأرض، و هذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة.

قال في التعليقات(1) في ضمن كلام له: و أمّا أنه كيف يكون علمه؟ فهو ان يكون بسبب، أعني ان يكون يعرف الموجودات كلّها على وجه كلّي، و إذا كانت الأشياء كلها واجبة عنده إلى اقصى الوجود فإنه يعرفها كلّها؛ إذ كلّها من لوازمه و لوازم لوازمه، و اذا علم أنه كلّها كان كذا، أعني جزئيا، و كلّما كان كذا كان كذا اعني جزئيا آخر، و يكون هذه الجزئيات مطابقة لهذا الحكم، يكون قد عرف الجزئيات على الوجه الكلّي الذي لا يتغير الذي يمكن أن يتناول أي جزئي كان، لا هذا المشار اليه.

ثم قال: و مثل هذا أن منجّما يعلم أن الكواكب (هكذا) الفلاني كان أولا في الدرجة الفلانية، فصار إلى الدرجة الفلانية، ثم بعد كذا ساعة قارن الكواكب الفلاني، ثم دخل بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف، ثم بقي كذا ساعة في ذلك الكسوف، ثم فارق الشمس و انجلي؛ يكون قد عرف كل ذلك بأسبابه و لا يكون قد عرف أن هذا الكوكب في هذه الساعة في الدرجة الفلانية حتى يكون الساعات التي بعدها مستندة إلى هذه المشار اليها و يتغير علمه بتغير الاحوال و بحدودها.

فإذا عرف على الوجه الذي ذكرنا - أعني بالسبب - كان حكمه في اليوم و غدا و أمس حكما واحدا، و العلم لا يتغير، فإنّه صحيح دائما في هذا الوقت و فيما قبله و فيما بعده أن الكوكب الفلاني كذا ساعة يقارن الكوكب الفلاني، فاما إن قال: إن الكوكب الفلاني في هذا الوقت الفلاني المشار إليه المستفاد علمه من خارج، متقارن لكوكب الفلاني (هكذا) و غدا مقارنا لكوكب آخر، فإنه إذا جاء الغد بطل الحكم الوقتي و العلم الوقتى، فإذن الفرق بين العلمين ظاهر.

فواجب الوجود علمه على الوجه الكلي علم لا يعزب عنه مثقال ذرة، و هذا الكسوف الشخصي و إن كان معقولا على الوجه الكلي؛ اذ قد علم بأسبابه، و المعقول منه حيث يجوز حمله على كسوفات كثيرة كلّ واحد منها حاله حال هذا الكسوف، فإن الأول تعالى يعلم أنه شخص في الوجود و علمه محيط بوحدانيته، فإنه إن لم يعرف وحدانيته لم يعرفه حقّ المعرفة، و كذلك نظام الموجودات عنه. و إن عرفه على وجه كلّي بحيث يكون معقولة يجوز حمله على كثيرين، فإنه يعلم أنه واحد، و علمه بأن هذا الكسوف شخصي لا يرفع المعقول الكلي و العلم ما

ص: 160


1- الشوارق 254/2.

يكون بأسباب، و المعرفة ما يكون بمشاهدة، فالعلم لا يتغير البتة و إن كان جزئيا، فطن علمنا بأن الكسوف غدا يكون مركّبا من علم و مشاهدة، ولو كان غد لم يكن مشار إليه بل كان معلوما بأسبابه لم يكن إلاّ علما كلّيا.

و لم يكن يجوز أن يتغيّر، و لم يكن زمانيا، فإن كلّ علم لا يعرف بالإشارة و بالاستناد إلى شيء مشار إليه كان بسبب، و العلم بالمسبب ما دام السبب موجودا، لكن العلم الذي يتغير هو ان يكون مستفادا من وجود الشيء و مشاهدته، فواجب الوجود تعالى منزّه عن ذلك؛ اذ لا يعرف الشيء من وجوده فيكون علمه زمانيا و مستحيلا و متغيرا. انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

و اعلم أنه كما يصحّح العلم بالجزئيات المتغيّرة من هذا الطريق، كذلك يصحّح العلم بالجزئيات المتشكلة أيضا، فإن إدراك المتشكلات إذا لم يكن من سبيل الجزئية المستندة إلى الإشارة و الاحساس، بل من سبيل التخصيص بصفات مستندة إلى مبدأ نوعه في شخصه، لا يستدعي الانطباع في آلة جسمانية، كما قاله اللاهجي في شوارقه. و قال أيضا: إن نفي علمه تعلى عن الجزئيات على وجه الجزئية، عبارة عن نفي الإحسس بها عنه، كما هو صريح كلام الشيخ، و لا يلزم من نفي الإحساس بالشيء نفي العلم به(1).

أقول: و للمتكلّمين في جواب هذه المقالة أقوال:

الأول: ما قيل من أن العلم إضافة محضة، و التغير الحاصل فيه لا يستلزم التغير في نفس الذات، بل التغيّر في مفهوم اعتباري و هو جائز، و إدراك المتشكّل إنّما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم حصول الصورة، و أما إذا كان إضافة فلا.

أقول: و هذا المجيب نسي مذهبه في صفاته تعالى من أنّها صادرة عنه تعالى أزلا و قائمة به، و إلاّ لم يقل: إنه اعتباري محض. و أيضا أليس الممكن القديم عندهم مستندا إلى الموجب دون المختار كما مرّ؟ أو ليس القديم يمتنع عليه العدم و الزوال لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته؟ فكيف سوّغ تغير العلم؟! و أيضا العلم بزعمه قائم به تعالى قيام العرض بمحله، فلو تغير و تجدد للزم كونه تعالى محلاّ للحوادث، و هو باطل عقلا و اتّفاقا.

الثاني: ما عن أكثر الأشاعرة و مشايخ المعتزلة(2) من أنّ العلم بأنّه وجد الشيء و العلم بأنه سيوجد واحد، فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا، فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له، و إنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدّد يعلم به أنه دخل الآن، لطريان الغفلة عن الأول، و الباري تعالى يمتنع عليه الغفلة، فكان

ص: 161


1- و كأن هذا القول معادم لكونه تعالى بصيرا و سميعا.
2- شرح المواقف 62/3.

علمه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد.

أقول: و يظهر من المحدث المجلسي قدّس سرّه أيضا اختيار هذا المذهب(1)، و برهن عليه بأن العلم بالقضية، إنما يتغيّر بتغيّرها، و هو إما بتغيّر موضوعها أو محمولها، و المفروض عدمه. نعم يمكن أن يشار إليه إشارة خاصّة بالموجود حين وجوده و لا يمكن في غيره، و تفاوت الإشارة إلى الموضوع لا يؤثر في تفاوت العلم بالقضية، بل هو راجع إلى تغيّر المعلوم.

أقول: و الحق أن العلم بأنه سيوجد غير العلم بأنه وجد، كما برهن عليه أبو الحسين البصري الاعتزالي(2) بل يمكن أن يقال: إن هذا الجواب هو عين الالتزام بالإشكال، فإن الحكماء ما نفوا علمه بالجزئيات مطلقا، بل على وجه جزئي، و أمّا على النحو الكلي فهم قائلون به من أجل أن العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، كما اتّضح من كلام ابن سينا المتقدّم. و هذا الجواب لا يثبت أكثر من العلم الكلي، فتدبّر.

الثالث: إن العلم صفة حقيقية ذات إضافة، و تغيّر المعلوم لا يؤثّر في العلم بل في اضافته، فالمتغيّر هو إضافة العلم المتعلّقة بالمعلوم لا نفس العلم، كما ذكره المحقق الطوسي قدّس سرّه و غيره، و شبهه العلامة(3) بالقدرة حيث إنّ تغيّر المقدور و فقدانه لا يوجب تغيّر القدرة، بل هي على حالها و إنّما المتغيّر به هو نسبة القدرة إلى المقدور المذكور.

أقول: تغير العلم تابع لتغير المعلوم لا محالة، فإنّ العلم إمّا حصولي، و إمّا حضوري. أما الثاني فالعلم و المعلوم شيء واحد و لا يعقل الانفكاك بينهما، و أما الأول فإن كانت الصورة بعد تغيّر مطابقها باقية فهي كذب و الا فقد ثبت المطلوب، فحديث كونه ذا النسبة لا نفس النسبة لا يفيد أصلا.

ثم إنّ للمحقق الطوسي قدّس سرّه كلاما حول المسألة لا بأس بذكره. قال في محكي شرح رسالة العلم(4): و أما علم الباري بالجزئيات ففيه خلاف بين المتكلّمين و الفلاسفة؛ و ذلك أن المتكلّمين قالوا: إن الباري تعالى يعلم الحادث اليومي على الوجه الذي يعلم أحدنا أنه موجود في هذا الوقت و لم يكن موجودا قبله، و يمكن ان يوجد بعده أو لا يمكن، ثم اذا انتبهوا بوجوب التغير للعلم بالمتغيّرات حسب تغيره، التزم بعضهم جواز التغير في صفات اللّه تعالى أو في بعضها، فقال القائلون بالإضافات فقط: إن تغيّر الإضافات في اللّه جائز عند جميع العقلاء كالخالقية

ص: 162


1- البحار 72/4.
2- لاحظ شرح المواقف 63/3، و غيره.
3- شرح التجريد/ 176.
4- الشوارق 256/2.

و الرازقية و الإضافة إلى كلّ شخص. و قال غيرهم: يجوز أن يكون ذاته محلاّ للحوادث. كما جوّز طائفة من الحكماء كونه محلاّ للحوادث، قابلا للصور المعلومات الغير المتغيرة. و لم يجوز(1) التغير في صفاته في هذا الوضع، و أنكر التغيّر أصلا و قال: العلم بما سيوجد هو العلم بوجوده عين وجوده. إلى امثال ذلك من المتمسكات الواهية.

أمّا الحكماء فالظاهريون المنتسبون إليهم قالوا: إنه تعالى عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي لا على الوجه الجزئي. فقيل لهم: لا يمكن أن ينكر وجود الجزئيات على وجه الجزئية المتغيرة، و كلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة إلى الباري تعالى الذي هو المبدأ و العلّة الأولى، و عندكم أن العلم التامّ بالعلّة التامّة يستلزم العلم التامّ بمعلولها، و أن علم الباري تعلى بذاته أتمّ العلوم، فأنتم بين ان تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيات على وجه الجزئية المتغيرة، و بين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدمات المذكورة؛ اذ من الممتنع أن يستثنى من الاحكام الكلّية العقلية بعض جهاتها الداخلة فيها، كما يستثني في الأحكام النقلية بعضها لتعارضها الادلة السمعية. فهذه على المذاهب المشهوره... الخ.

أقول: ما ذكره ابن سينا و نقل عن أكثر الحكماء من نفي علمه بالجزئيات على وجه جزئي مبني على كون علمه تعالى حصوليا و بارتسام الصور، و على هذا يلزم التكثير في علمه أيضا، و ما اجيب عنه يشكل الاعتماد عليه. و لكن أسلفنا أن المستفاد من الأدلة أن اللّه عالم أزلا بجمع الأشياء إلى الابد فقط. و أما كيفية هذا العلم فقد ذكرنا أنّها غير معلومة لنا و لا يمكن إدراكها للممكن المحدود، فإن الإحاطة بعلمه عين الإحاطة بذاته المقدّسة، و هي مستحيلة اتّفاقا و برهانا.

هذا من ناحية، و من ناحية أخرى إنا سنبرهن على إبطال العلم الحصولي الذي تخيّله هذا القائل و أصحابه في مستأنف القول إن شاء اللّه فاذن لا موقع لهذا المسلك. و لعلّ ما ورد في الكتاب و السنة من إتّصافه تعالى بالسميع و البصير يدفع هذا القول صريحا فتأمل.

و خلاصة المقال: أن علمه تعالى ليس بحصولي و لا بحضوري، بل إنّه عالم بالأشياء قاطبة، و علمه عين ذاته، فلا بد حينئذ من أن لا يوجب تغير المعلوم إلاّ تغيّرا في ناحية الإضافة و النسبة لا في العلم نفسه، كما في الجواب الثالث، فالجواب المذكور صحيح لكن بعد إنكار انحصار العلم في الحصولي و الحضوري و إقامة البرهان على عمومه علمه.

الثامن: إنه لا يعلم الأشياء قبل وجودها. نسبه الشهرستاني في الملل و النحل(2) إلى

ص: 163


1- في العبارة سقط قطعا و اشتباه لفظي أيضا، و لم يحضرني المصدر نفسه.
2- الفصل لابن حزم (الهامش) 35/1.

هشام بن عمرو الغوطي لاقدري و الاصم من أصحابه، و أنهما اتّفقا على أن اللّه تعالى يستحيل أن يكون عالما بالأشياء قبل كونها، و منعا كون المعدوم شيئا. و نسبه إلى هشام بن الحكم و زرارة أيضا.

أقول لا يجوز للمسلم المحقّق و للباحث المدقّق الاعتماد على كتاب الشهرستاني، فإنه مشحون بالافتراءات و الاشتباهات التي لا يمكن المسامحة فيها، و قد غلب عليه التعصّب فنسب إلى مخالفيه في مذهبه ما نسب. و نحن لا نحتمل أن زرارة قال بهذه المقالة الرديئة و لا هشام بن الحكم بعد انقطاعه إلى الامام الصادق عليه السّلام، كيف و هو الذي يروي لنا عن الصيقل عن الإمام الصادق عليه السّلام عن عيسى بن منصور عن جابر الجعفي عن الباقر عليه السّلام: أن اللّه علم لا جهل فيه، و حياة لا موت فيه، و نور لا ظلمة فيه(1)؟!

فإذا علم من إمامه أنّ العلم عين ذات الباري تعالى فكيف يعتقد حدوث علمه؟ و أيضا قد مرّ روايته عن الصادق عليه السّلام بأن اللّه يعلم الحوادث قبل وجودها، لكن الشهرستاني لا يلتفت إلى ذلك، بل يريد أن يخترع مذهبا باسم الهشامية و مذهبا باسم الزرارية و هكذا تكثيرا لفرق الشيعة، لأغراض غير خافية على المتأمّلين، و إلاّ فهشام و زرارة و يونس و مؤمن الطاق و أمثالهم من الأجلاّء و الأعيان ليسوا الا من الفرقة الإمامية المعتقدين بإمامة الاثني عشر إماما من آل محمد صلى اللّه عليه و عليهم، و لا وجود للهشامية و الزرارية و أمثالهما من المذاهب المتخيّلة في خيال الشهرستاني و من قلّده من متكلّمي الأشاعرة و غيرها.

و من هنا لا جزم لنا و لا ظن بأنّ هشام بن عمرو الغوطي و الأصم قالا بنفي علمه تعالى، غير أن الشيخ الاعظم المفيد قدّس سرّه نقل هذا القول عن الغوطي المذكور كما تقدّم، بل أن العلامة الحلي قدّس سرّه نقل(2) عن جمع من قدماء المتكلّمين أنّه تعالى لا يعلم الموجود الزماني إلاّ عند وجوده، و هذا هو الذي اختاره السهروردي المقتول رئيس الفلاسفة الإشراقيين، قال اللاهجي في شوارقه(3):

نفى صاحب الإشراق العلم المقدّم على الايجادات كلّها مطلقا، و أبطل العناية رأسا زعما أن قبل كون الموجودات و وجودها ذهنا و خارجا كيف يتصوّر تحقق العلم بها؟ فإن العلم بها لا يتصوّر بدون وجودها ذهنا أو خارجا؛ ضرورة عدم تمايز المعدومات الصرفة، و لا يمكن وجود الموجودات قبل وجودها، أما خارجا فظاهر، و أما ذهنا فللزوم الكثرة في ذاته تعالى، فليس للواجب علم فعلي أصلا. انتهى.

ص: 164


1- بحار الأنوار 84/4 نقلا عن توحيد الصدوق.
2- شرح قواعد العقائد/ 45.
3- الشوارق 224/2.

و قال أيضا: إنه - يعني صاحب الإشراق - بعد إبطال العناية جعل النظام المشاهد في عالم الأجسام لازما عن النظام الواقع فيما بين المفارقات العقلية الطولية و العرضية و أضوائها المنعكسة عن بعضها إلى بعض، و جعل ذلك بدلا عن العناية في سببية النظام. صرح بذلك في حكمة الإشراق.

أقول: و على قول هذ الإشراقي يبطل فاعليته تعالى الاختيارية، فإن المختار عند الفلاسفة هو الذي يسبق علمه فعله، و هذا الرجل ينكر سبق علمه، فيكون اللّه موجبا لا مختارا.

هذا مع أن هذا القول ينافي ما تسالم عليه الفلاسفة من عينية علمه لذاته تعالى.

و أما من حاول أن يصلح هذا القول و يدفع عنه الشناعة فما أتى بشيء غير أن افضح نفسه.

نعم ذكر السبزواري في حاشيته على الأسفار و في شرح منظومته أن هذا الإشراقي غير منكر للعلم الإجمالي، فإنّه متّفق عليه بين الإشراقيين و المشائيين، و إنما المنفي عنده العلم التفصيلي.

لكن هذا شيء ذكره من جهة حسن ظنّه بهذا القائل، و إلاّ فهو صرح في مطارحاته بإنكار العلم الإجمالي أيضا، كما نقله صاحب الأسفار و اعترف به، و كذا اللاهجي في شوارقه. و أما ما ذكره هذا الموجه - أي السبزواري في حاشية الاسفار - من أن مراده بالعلم الإجمالي الذي أنكره غير الإجمالي الكمالي، بل شيء آخر فهو اعرف بتوجيهه، بل في الأسفار في حبحث مراتب علمه تعالى: نسبة إنكار العناية إلى اتباع الإشراقيين عموما.

أقول: و كأن اللّه سبحانه و تعالى طبع على قلب هذا الظلماني، حيث ما التفت إلى أن صدور العقول الطولية و العرضية التي تدبّر نظام العالم المتقن أقوى دليل على علمه تعالى قبل صدورها.

و أنت إذا علمت مقالة هذا الرجل الذي يتّبعه الفلاسفة الإشراقيون، و مسلك ابن سينا الذي يقلّده المشاؤون فيما تقدّم و ما سيأتي من صوره المخترعة، و قول صاحب الأسفار الذي اقتدى به أرباب الفلسفة المتعالية حول بسيط الحقيقة و حول جسميته تعالى كما سننقله في المقصد الثالث إن شاء اللّه، تعلم أن ما يقولون حول فلسفتهم من اتقان مسائلها و وصول أربابها إلى الكشف و الشهود قعقعة.

ثمّ إنّ مسألة تحقّق علمه أزلا، و عدم تحقّق المعلوم خارجا و ذهنا مع امتناع انفكاكهما، قد مرّ حلها بوجه قطعي عقلي إجمالي، و نقلي تفصيلي. و الانصاف أن مسألة علمه تعالى مطلقا ذات مصاعب كثيرة، قلّ من يمكنه الوصول اليها.

و 0 ممن نسب إليه هذا القول جهم بن صفوان و أصحابه، قالوا: إن اللّه لا يعلم الشيء قبل

ص: 165

وقوعه و علمه حادث لا في محل(1). و كذا أبو الحسين البصري على ما استفيد من كلامه(2).

و ممن قال بهذا القول الشيخ أحمد الأحسائي على ما يظهر من كلماته في شرح العرشية و شرح المشاعر، و بعض كلماته صريح في ذلك، و كذا من كلامه في محكي شرح رسالة الكاشاني(3).

و حاصل ما استفدناه من كلامه من الدليل على تصحيح دعواه وجوه:

الأول: إن العلم في الواجب و الممكن عين المعلوم، فلا يعقل تقدّم العلم على معلومه، و حيث لا معلوم موجود في الأزل فلا علم به أيضا.

الثاني: إن علمه عين ذاته، فكما أن تحقّق الممكنات في ذاته في الأزل محال فكذا العلم بها محال؛ لما مرّ من وحدة العلم و المعلوم.

الثالث: شرط العلم المطابقة مع المعلوم و تطبيقه عليه، و بما أن علمه عين ذاته، لا يعقل تطبيقه على المعلوم الممكن بل بينهما مباينة صرفة.

الرابع: إن علمه بالأشياء أزلا يستلزم أزلية الحوادث، و بطلان التالي يكفي لبطلان المقدم.

الخامس: إنه تعالى غير محدود، فإذا كان عالما بما سواه أزلا يلزم أن يعلم تحديد نفسه كي يمتاز عن غيره، و فساد الثاني يكشف عن بطلان الاول.

السادس: قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ...(4)، و قوله تعالى:

وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظٰاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ (5) .

قال: فأخبر أنه تعالى لا يعلم له شريكا، و وجود شيء من كلّ ما سواه في الأزل محال، كوجود الشريك للباري، فكما جاز أنه لا يعلم له في الأزل شريكا جاز أنه لا يعلم في الأزل غيره.

أقول: و مثلهما قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ...(6)

السابع: رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام(7) قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لم يزل اللّه - عزّ و جل ربّنا - و العلم ذاته و لا معلوم، و السمع ذاته و لا مسموع، و البصر ذاته و لا مبصر، و القدرة ذاته و لا مقدور، فلما أحدث الأشياء و كان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم، و السمع

ص: 166


1- الأنوار النعمانية و شرح المشاعر و قد تقدم حكايته عنه في كلام المفيد.
2- لاحظ شرح المواقف 64/3.
3- الحاكي هو صاحب كفاية الموحّدين في المجلّد الأول منها.
4- يونس 18/10.
5- الرعد 33/13.
6- الأنفال 23/8.
7- أصول الكافي 107/1.

على المسموع، و البصر على المبصر، و القدرة على المقدور... الخ.

و رواية حماد بن عيسى(1) قال: سألت ابا عبد اللّه عليه السّلام فقلت: لم يزل يعلم؟ قال: أنى يكون ذلك و لا معلوم، قال: قلت: فلم يزل اللّه يسمع؟ قال أني يكون ذلك و لا مسموع. قال: قلت: فلم يزل اللّه يبصر؟ قال: أنى يكون ذلك و لا مبصر. ثم قال: و لم يزل اللّه عليما سميعا بصيرا ذات علامة سميعة بصيرة.

أقول: هذه الوجوه واضحة البطلان لائحة الفساد، بل لا ينبغي صدورها عن أصاغر أهل العلم. و لمزيد الوضوح نقول:

أما الوجه الاول ففيه ما مرّ من أن علمه عين ذاته، و لكن له نسبة إلى المعلومات فما ذكره من اتّحاده مع المعلوم غير صحيح، بل لا نسلمه في العلم الممكن فضلا عن العلم الواجب. و أما أنه كيف يعلم الشيء قبل وجوده؟ فقد تقدّم بيانه.

و أما الوجه الثاني فقد اتّضح بطلانه من إبطال الوجه الاول، مع أن لازمه هو نفي علمه مطلقا حتى فيما لا يزال، فإن تحقّق الكثرة فيه تعالى محال أبدا و أزلا، و الاعتذار بأن انكشاف الحادث بالعلم الفعلي و هو نفس المعلوم الخارجي لا بالعلم الذاتي مردود بأنّ هذا يؤدّي إلى بطلان فاعليّته الاختيارية، بل مآله إلى قول الماديين و أن من لا علم سابق له على فعله بفعله يوجد مثل النظام المحكم المتقن؟

و هذا الكلام جار على الوجه الثالث أيضا مع أنه مزيّف بان معنى المطابقة و الوقوع هو انكشاف الشيء عند العالم لا المطابقة و الوقوع الخارجيين، كوقوع شيء مادي على شيء مادي آخر، فإنّه ممّا لم يتوهّمه إلاّ جاهل.

و أمّا الوجه الرابع فقد ظهر ضعفه ممّا مرّ أيضا.

و أمّا الوجه الخامس فالملازمة بين المقدم و التي فاسدة جدا، مع أنّها لو تمّت لعمّت حتى في ما لا يزال.

و أما الوجه السادس فعدم العلم في الآيات الكريمة كناية عن عدم الوجود، فإن عدم علمه تعالى بشيء يكشف عن عدم وجوده، و هذه التعابير بمنزلة أن يقال بأن اللّه يعلم عدم شريك له و يعلم أنه لا خير فيهم، كيف و قد نفى اللّه الشريك عنه و أنه واحد لا شريك له؟ فلو كان غير عالم به لما نفاه بل سكت عنه. و الإنصاف أن هذا منه تجاهل لأغراض هو اعلم بها منا. و ليس بجهلة، فإن المسألة واضحة جدّا. و أيضا قد مرّ أن القرآن ينادي بأن اللّه يعلم الحوادث قبل وقوعها.

و أمّا الوجه السابع فبعد ضعف الخبرين سندا، و دلالة الاخبار المتواترة على تعلّق علمه

ص: 167


1- البحار 72/4.

بالأشياء أزلا قبل وجوداتها، يحمل الأول منهما على الوقوع الشهودي المسبوق بالتعلّق الأزلي لا المسبوق بالجهل، كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام و القدرة على المقدور؛ إذ لا شكّ في لزوم اعتبار القدرة قبل الشيء، و ضرورة بطلان وجودها بعد وجود المقدور، فافهم و اغتنم، و كأنّ الرواية ناظرة إلى بطلان قول من نفى علمه تعالى بالأشياء الجزئية بما هي جزئية، فانه اكتفى بالعلم الكلّي دون الجزئي كما مرّ. و الثاني منهما على نفي العلم المستلزم لوجود المعلوم لا على نفي مطلق العلم، و لذا صرح الامام عليه السّلام - على تقدير صحّة الرواية - بأنه تعالى ذات علامة و أن العلم ذاته.

فقد تلخّص أن اللّه تعالى عالم أزلا بجميع الأشياء و أحوالها و خصوصياتها. نعم، إنه تعالى غير عالم بالأشياء أزلا على نحو ظرفية الأزل للأشياء، و هذا من قبيل القضية السالبة بانتفاء الموضوع، بل هو عالم بعدمها أزلا و بوجودها في أوقاتها، فالأزلي هو العلم دون المعلوم، فإن كان مراد الأحسائي هذا المعنى - كما ربما يظهر من بعض كلماته - فهو ممّا لا شك فيه عندنا.

ثم إنّه ربما يورد على القول بتعلّق علمه أزلا بالحوادث بأنّه يستلزم وجوبها، و إلاّ لجاز ألاّ يوجد فينقلب العلم جهل.

أقول: و جوابه ما مر منا في مبحث القدرة.

التاسع: إنّه لا يعلم الأمور الحاضرة، و شبهوه بكونه تعالى قادرا، قالوا: كما إنه لا يقدر على الموجود فكذلك لا يعلم الموجود. نسبه ابن الراوندي إلى معمّر بن عباد أحد شيوخ الأشاعرة، كما نقله الأحسائي في شرح العرشية(1). و قد دريت أن الممكن حدوثا و قاء محتاج إلى فيض ربّه و التفات خالقه، فكيف لا يعلم من خلق؟ فهذه الآراء الخبيثة و الأنظار السخيفة كلّها مخالفة للعقل و الشرع، و الصحيح ما عرفت منّا و له الحمد.

و اعلم أن أكثر هذه الأقوال المنحرفة عن الحقّ إنما نشأت من قياس علمه تعالى بعلمنا، و على هذا لا جواب مقنع لها، و هؤلاء القائلون الذين ضلوا و اضلوا نسوا و غفلوا عن استحالة الإحاطة بكنه الواجب اللامحدود لإنسان محدود وجوده و علمه.

الجهة الرابعة: في بيان العلم الاجمالي للحكماء

قسم جماعة كثيرة من الفلاسفة علم الواجب إلى الإجمالي و التفصيلي، بل يظهر من السبزواري أن هذا التقسيم ممّا اتّفق عليه الكل، حيث قال(2): و العلم الاجمالي الكمالي المتّفق

ص: 168


1- شرح العرشية/ 62.
2- شرح المنظومة/ 164.

عليه بين الإشراقي و المشائي، حيث يقول الإشراقي: إن نفس وجود الذات علم إجمالي مقدّم على العلم التفصيلي الذي هو وجود الأشياء. و يقول المشائي: إن علو الأول و مجده ليس بهذه الصور المرتسمة، بل بذاته التي هي علم اجمالي سابق عليها، و إنّما كان أجمليا لأنّ وجود الذات واحد بسيط فلا يمكن أن ينكشف به الأشياء المتخالفة تفصيلا عندهم. انتهى.

فقد جعلوا العلم الإجمالي عين ذاته الواجبة، و أما التفصيلي فهو زائد على ذاته تعالى عندهم، فالواجب الوجود عالم بالأشياء إجمالا في مرتبة ذاته بعلم هو عين ذاته تعالى، و تفصيلا بعد ذلك إما قبل وجود الأشياء كما عليه المشائيون. أو حين وجودها كما عليه الإشراقيون.

و أمّا إثبات العلم التفصيلي في مرتبة ذاته تعالى بحيث يكون العلم المزبور عين ذاته فلم يتيسّر لأحد من الفلاسفة، بيد ما مرّ من طريق بسيط الحقيقة كما ادّعاه صاحب الأسفار و من تبعه، أو الالتزام بوجود الأشياء أزلا في محالّها كما تقدّم عن جماعة منهم، لكن قد عرفت أن الأول مع بطلان أساسه ليس مفاده إلاّ العلم الإجمالي، و أمّا الثاني فلم يدلّ عليه دليل متين بل كان عليه سؤال صعب كما مرّ.

و أمّا ما يقال من امتناع العلم الذاتي التفصيلي من جهة بساطته تعالى - كما نقله السبزواري في كلامه المتقدّم عن المشائي - فهو مبني على كون علمه تعالى حصوليا و بارتسام الصور في ذاته، و قد مرّ تزييف ذلك، و قلنا: إنّ الإحاطة بذلك محال عقلا، فالعلم التفصيلي الذاتي غير ممتنع في حقّه.

و أمّا الدليل على هذا العلم الإجمالي فهو أنّه تعالى عالم بذاته، فإنّه الخالق للعالمين بذواتهم، فكيف لا يكون هو عالما بذاته و معطي الكمال لا يكون فاقده؟ و قد ثبت أن العلم بالعلّة علم بالمعلول، فإذن علمه بذاته التي هي علّة لكل شيء علم بكل شيء إجمالا. هذا مع أن سلب العلم عنه في مرتبة ذاته نقص و النقص غير جائز عليه تعالى، لكنك دريت فيما تقدّم أن الوجه الأول غير متين عندنا، و الوجه الثاني لا يختصّ بالإجمالي بل يثبت التفصيلي أيضا، بل و كذا الوجه الأول على تقدير تماميته، فتأمل جيدا.

ثم أن لبيان هذا العلم الإجمالي و تصويره تقاريب ثلاثة على ما وجدته في كلماتهم:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الطوسي قدّس سرّه في محكي شرح الرسالة(1): كما أن الكاتب يطلق على من يتمكن من الكتابة سواء كان مباشرا للكتابة أو لم يكن، و على من باشرها حال المباشرة باعتبارين، كذلك العالم يطلق على من يتمكّن ان يعلم سواء كان في حال استحضار المعلومات

ص: 169


1- الشوارق 234/2 و 245.

أو لم يكن، و على من يكون مستحضرا لها حال الاستحضار باعتبارين. و العالم الذي يكون علمه ذاتيا فهو بالاعتبار الأول؛ لأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالما إلى شيء غير ذاته.

و العلم بهذا الاعتبار شيء واحد. انتهى.

و لعلّ هذا هو مختار اللاهجي في كتابه «گوهر مراد» حيث قال(1): ليكن علمى كه عين ذات است بمعنى عالميت است و آن بودن ذاتست بحيثيتى كه هرگاه معلوم متحقق شود بوجود عينى يا بوجود ظلى، هرآئينه منكشف باشد بر او، و اين معنى در واجب متحققست خواه معلوم متحقق باشد و خواه نه، پس واجب در مرتبه ذات نيز عالمست باين معنى با آنكه تحقق معلوم در آن مرتبه ممتنع است و عدم تحقق معلوم منافى عالميت و مستلزم عدم علم واجب نيست، ليكن تحقق اضافه عالميت كه عبارت است از تعلق علم بمعلوم موقوفست بر تحقق معلوم چه تحقق اضافه فرع تحقق طرفين است لا محاله. انتهى.

أقول: أما ما ذكره المحقق الطوسي قدّس سرّه فيرد عليه: أنه لا يخرج الواجب عن حد الجهل، غايته أنه عالم بالقوة مع انها ممتنعة في حق القديم البريء عن المادة و لواحقها، كيف و قد مضى أن صفاته الواجبة ثابتة له فعلا بمجرد عدم امتناعها؟ و بمثله نردّ قول اللاهجي أيضا، فإنّه يرجع في المآل إلى أنّه غير عالم في مرتبة ذاته تعالى بالأشياء، فأمثال هذه التقارير لا تغني و لا تسمن.

الثاني: ما ذكره ابن سينا في كتبه(2) قال: نفس تعقّله هو وجود الأشياء عنه، و نفس وجود هذه الأشياء نفس معقوليتها. و قال: ليس علوّ الأول و مجده هو أن يعقل الأشياء، بل علوّه و مجده بأن يفيض عنه الأشياء معقولة، فيكون بالحقيقة علوه و مجده بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات. و قال أيضا في محكي الشفاء: ثم يجب لنا، أن نعلم أنّه قيل للاول: عقل، قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس، و أنه ليس فيه اختلاف صور مترتبة متخالفة، كما يكون في النفس، فهو كذلك يعقل الأشياء دفعة واحدة من غير أن يتكثر بها في جوهره أو يتصوّر في حقيقة ذاته بصورها، بل يفيض عنه صورها معقولة. و هو أولى بأن يكون عقلا من تلك الصور الفائضة عن عقله؛ لأنه يعقل ذاته و أنها مبدأ كلّ شيء فيعقل من ذاته كلّ شيء.

انتهى.

أقول: المفهوم من هذه الكلمات و غيرها أن كمال الواجب هو كونه بحيث يفيض عنه هذه الصور المعقولة، فالعلم الإجمالي الذي هو عين ذاته تعالى هو علمه بذاته الذي هو علّة فيضان

ص: 170


1- گوهر مراد/ 197.
2- لاحظ الأسفار و الشوارق و غيرهما.

الصور المعقولة عنه، و مفاد هذا الكلام عند الغور و التعمّق أنه لا علم ذاتي له تعالى بما سواه، فهو يعلم ذاته بذاته و أمّا ما سواه فهو غير معلوم له بعلمه الذاتي، بل بالصور المعقولة الفائضة عنه.

هذه هي فلسفة ابن سينا و غيره من المشائيين، اللهم إلاّ أن يقال: إن ذاته الأحدية مشتملة على جميع الأشياء بحذف حدودها، فيكون علمه بذاته علم بما سواه إجمالا، كما مرّ في بيان مقالة صاحب الأسفار. لكن هذا القائل غير متوجّه إلى هذه الجهة، و مع فرض توجّهه إليها فقد دريت أنّها باطلة فلا تنفعه. و بالجملة: لم يتحصّل لنا من كلامه بيان معقول لعلم الواجب الذاتي الإجمالي بما سواه.

الثالث: ما نقلوه(1) عن أكثر متأخّرى الفلاسفة، و توضيح مذهبهم بإيراد مثال في علم الإنسان فإن له أقساما ثلاثة:

أحدها: أن يكون له ملكة تحصل من ممارسة العلوم و الادراكات بقدر، و يتمكّن بحصول تلك الملكة من استحضار الصور العقلية التي كان اكتسبها من قبل متى شاء بلا تجشّم كسب جديد، و إن كان تلك العلوم و الإدراكات غير حاضرة في نفسه؛ إذ ليس في وسعها أن تعقل الأشياء معا.

ثانيها: كونه بحيث يورد عليه مسائل كثير دفعة، فيحصل له علم إجمالي بجواب الكلّ، ثم يأخذ بعده في التفصيل شيئا فشيئا، فهو يعلم من نفسه يقينا أنّه يحيط بالجواب جملة، و لم يفصّل في ذهنه بترتيب الجواب، ثم يخوض في الجواب مستمدّا من الأمر البسيط الذي يدركه من نفسه. فهذا العلم الواحد البسيط فعّال للتفاصيل.

ثالثها: أن يكون علومه و صوره العقلية تفصيلية زمانية على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول على سبيل التدريج، فاثبتوا القسم الثاني الذي هو متوسّط بين الصورتين للواجب تعالى و قالوا: إنّه العلم الإجمالي الذاتي المقدّم على وجود الأشياء. نعم إنّ هذه الحالة البسيطة الخلاّقة للمعقولات المفصّلة ملكة وصفة زائدة في النفس، و في الواجب ذاته بذاته. و هل هذا صحيح ليس فيه القوّة، أو لا بل هو حالة متوسّطة بين الفعلية المحضة و القوة المحضة؟ فيه كلام بين الشيخ الإشراقي و صاحب الأسفار، و بين اللاهجي و السبزواري، فالأولان على الثاني و الأخيران على الأول.

و كيفما كان، فقد استدلّوا على وجود هذا العلم بأن الواجب مبدأ مجعولاته المتميّزة في الخارج. و مبدأ تمييز الشيء يكون علما به؛ إذ العلم ليس إلاّ مبدأ التمييز. أقول: و فيه: أن العلم و إن كان مبدأ التمييز إلاّ أن مبدأ التمييز على دائما، فهو غير مبين. و لعلّ هذا مراد الحكيم

ص: 171


1- الناقل هو صاحب الأسفار و صاحب الشوارق و السبزواري و غيرهم قدّس سرّهم.

الشيرازي حيث أورد على الحجة بأنّها مبنيّة على انعكاس الموجبة الكلّية كنفسها فلاحظ.

فقد تلخّص: أن ما تخيّلوه من تقسيم العلم إلى الإجمالي و التفصيلي، و جعل الاول عين ذاته تعالى ضعيف البنيان، منهدم الأساس، باطل الاركان، و سيأتي أن ما ذكروه حول العلم التفصيلي أيضا لا يبتنى على ركن وثيق، فإذن وجب الرجوع إلى ما قرّرناه من أن اللّه عالم بجميع الأشياء أزلا قبل وجودها تفصيلا، و سنبرهن على أن هذا العلم عين ذاته المقدّسة.

و أمّا كيفية هذا العلم و أنه كيف يتعلق بالمعلوم؟ فهي خارجة عن قدرة نفوسنا و سلطة علومنا وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً(1).

و حيث إنّ هذا العلم عين ذاته فقد امتنع كونه حصوليا أو حضوريا لامتناع اتّحاد الصور أو الموجودات الخارجية مع الذات الواجبة تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، و من قال بأحدهما فإنّما هو في علمه التفصيلي الزائد على ذاته بزعمه كما ستعرفه.

ثم إنّ هذا العلم الإجمالي لا يكفي لتحقيق هذا النظام الأجمل الموجود، فإنّه يقتضي العلم التفصيلي المتقدّم كما لا يخفى. و هذا الإشكال يجري في التقريب الأول بلا خفاء.

و أمّا في الثاني فلأنّا نقول: إنّ القائل به، و إن يسند النظام إلى الصور المذكورة؛ إلاّ أنها أيضا تحتاج في صدورها عن الواجب إلى علم سابق عليها. و ما قيل: من أن علمه بذاته يكفي لصدورها فهو مما لا برهان عليه.

و أما في الثالث فلأجل أن العلم المفروض مجمل و بسيط، فلا يفي لفاعليته التامّة الكاملة الاختيارية، فتأمّل.

الجهة الخامسة: في العلم التفصيلي للحكماء
اشارة

معلومية الشيء إمّا بمجرّد حضور ذاته و عدم غيبتها، أو بتوسّط صورته. و الأول هو العلم الحضوري، و الثاني هو العلم الحصولي. و كلا العلمين فينا متحقّق، فإنّا نعلم ذاتنا بنفس ذاتنا، و الصور المرتسمة في أذهاننا بنفس تلك الصور، و نعلم الأشياء الخارجية بصورها و هذا واضح.

و إنّما الكلام في العلم التفصيلي الثابت للواجب تعالى، و أنّه حصولي أو حضوري؟

فيه خلاف شديد، فذهب أرسطو و غيره و توابع المشائين - منهم الشيخان: أبو النصر الفارابي و ابن سينا، و تلميذه بهمنيار و كثير من المتأخرين - إلى الأول و تخيل ارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى و حصولها فيها. و سلك السهروردي (بل في الأسفار: و حكم بصحة هذه الطريقة كل من أتى بعده) الثاني و أنّ الأشياء - سواء كانت مجرّدات أو مادّيات. مركّبات أو

ص: 172


1- الإسراء 85/17.

بسائط - بوجوداتها الخارجية مناط علمه تعالى و عالميته بها، قال في الأسفار: فعلمه تعالى عنده - الشيخ الاشراقي - محض إضافة إشراقية، فواجب الوجود مستغن في علمه تعالى بالأشياء عن الصور، و له الاشراق و التسلط المطلق، فلا يحجبه شيء عن شيء، و علمه و بصره واحد؛ إذ علمه يرجع إلى بصره، لا إن بصره يرجع إلى علمه كما في غير هذه القاعدة... الخ.

و أمّا المحقّق الطوسي فلم يوافق السهروردي كلّيا، فإنّه - أي السهروردي - أجرى هذه القاعدة في الأجسام و الجسمانيات كلّها، و إن حضور ذواتها كاف في أن تعلم بالإضافة الاشراقية، و المحقّق المذكور لم يكتف بذلك، بل جعل مناط علمه بالأجسام و الجسمانيات ارتسام صور هما في المبادئ العقلية و النفسية، فالقاعدة عنده مختصّة بتلك المبادئ، كما في الأسفار، لكن السبزواري جعل القولين واحدا فلاحظ.

و كيف ما كان فبيان هذا القول نأخذه من عبارة المحقّق الطوسي في محكي شرح رسالة العلم(1) قال قدّس سرّه: و الحق أنّه ليس من شرط كلّ إدراك ان يكون بصورة ذهنية؛ و ذلك لأن ذات العاقل إنما يعقل نفسه بعين صورته التي بها هي هي، و أيضا المدرك للصورة الذهنية إنّما يدركها بعين تلك الصورة لا بصورة أخرى، و إلاّ لتسلسل(2)، و لزم مع ذلك أن يجمع في محلّ واحد صورا متساوية في الماهية مختلفة بالعدد فقط، و ذلك محال. فإذن إنّما يحتاج في الإدراك إلى صورة المدرك، أمّا الاحتياج إلى صورة ذهنية فقد يكون لكون المدرك غير حاضر عند المدرك، و عدم الحضور يكون إما لكون المدرك غير موجود أصلا أو لكونه غير موجود عند المدرك، أي يكون بحيث لا يصل إليه الإدراك البتة؛ و ذلك إنما يكون بسبب شيء من الموانع العائدة إمّا إلى المدرك نفسه، أو آلة الإدراك أو إليهما جميعا.

ثم قال: و إدراك الأول تعلاى إمّا لذاته فيكون بعين ذاته لا غير، و يتّحد هناك المدرك و المدرك و الإدراك و لا يتعدد إلاّ بالاعتبارات التي تستعملها العقول؛ و إمّا لمعلولاته القريبة، فيكون بأعيان ذوات تلك المعلومات؛ اذ لا يتصوّر هناك عدم حضور بالمعاني المذكورة أصلا، و يتّحد هناك المدركات و الإدراكات و لا يتعدّدان إلاّ بالاعتبار و يغايرهما المدرك؛ و اما لمعلولاته البعيدة كالماديات و المعدومات التي من شأنها إمكان أن يوجد في وقت، أو ان يتعلّق بموجود، فيكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أولا و بالذات، و كذلك إلى ان ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركيها؛ و ذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر، و المدرك للحاضر يدرك لما يحضر معه، فإذن لا يعزب عن علمه

ص: 173


1- الشوارق 226/2.
2- أقول: و التسلسل المذكور ممنوع لانقطاع السلسلة بانقطاع الالتفات في غيره تعالى.

مثقال ذرة في الارض و لا في السماء و لا اصغر منها و لا اكبر، فيكون ذوات معلولاته مرتسمة بجميع الصور؛ و هي التي يعبر عنها تارة بالكتاب المبين، و تارة باللوح المحفوظ و يسمّيهما الحكماء بالعقول الفعالة. انتهى.

و قال في شرح الاشارات - في ضمن كلامه -: ولا تظنن أن كونك محلا لتلك الصورة شرط في تعقّلك إيّاها، فإنّك تعقل ذاتك مع أنك لست محلا لها، بل إنما كان كونك محلا لتلك الصورة شرطا في حصول تلك الصورة الذي هو شرط في تعقلك إياها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك حصل التعقل من غير حلول فيك... الخ.

أقول: و الانصاف ان هذا الظن لم يظهر دفعه، فالبيان غير واف لإثبات مذهبه. و بالجملة: ان الحصول الذي يكفي في تحقّق العلم على ما هو المسلم إنّما هو الحصول المتحقق في ضمن الاتحاد كما في علم ذاتنا بذاتنا، أو القيام كما في قيام الصور بذهننا قياما حلوليا، و أما كفاية مطلق الحصول على أيّ نحو كان في ذلك فممنوع كما ذكره المحقق اللاهجي أيضا(1).

أقول: و ممّا يزيّف هذا القول لزومه خلو الواجب عن العلم التفصيلي أبدا؛ اذ الموجودات بأسرها لا تجتمع في زمان، فهو لا يعلم جميع الأشياء في وقت من الأوقات إلاّ ان يلتزم بتحقّق الأشياء أزلا في مواطنها الحادثة كما مرّ بحثه، و قد علمت أنه أيضا غير ثابت. هذا مع أن فعل الفاعل المختار لا بدّ من مسبوقيّته بالعلم، و قد مرّ أن العلم الإجمالي لا يكفي لذلك.

و أما ما أورده صاحب الأسفار على هذا القول من الإيرادات الثمانية فهو لا يخلو عن كلام، فإنّه بين ما يتوجه على نفس السهروردي لا على القول نفسه، و بين ما هو غير وارد، و بين ما هو غير ظاهر في نفسه؛ و لذ لم يعتن بها السبزواري، فاختار هذا القول في المنظومة زائدا على ما اختاره من مذهب هذا المورد، لكن الحقّ بطلان المذهبين معا كما عرفت، و اللّه الهادي.

نقل و نقد

استدلّ الشيخ الإشراقي على هذا القول بقاعدة الملازمة حيث قال - على ما في الاسفار -:

إنّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود من حيث هو موجود، فيجب له، و إذا تحقّق شيء منه في معلومه فتحقّقه له أولى، و كلّ ما هو أولى فهو واجب له بالضرورة. و إذا صحّ العلم الإشراقي للنفس ففي الواجب الوجود أولى، فيدرك ذاته لا بأمر زائد عليها، و يدرك ما سواه بمجرّد إضافة الإشراق عليها... الخ.

و أمّا المحقّق الطوسي فله دليل آخر، و محصله: أن ذاته تعالى علّة لما سواه، و علمه بذاته

ص: 174


1- الشوارق 228/2.

عين ذاته؛ و العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، و حيث إنّ العلّة - أي ذاته تعالى و علمه بها - واحدة، فالمعلول - هو ما عداه و العلم به - أيضا واحد؛ ضرورة عدم صدور الكثير عن الواحد.

أقول: و هذا أحسن من الوجه الأول كما لا يخفى، لكنّ الوجهين ضعيفان: أمّا الأول فبعد ما عرفت منافي عموم علمه، لا يبقى له مجال بالضرورة. و أمّا الثاني ففيه:

أولا: منع جريان قاعدة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول كما مرّ.

و ثانيا: منع قاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد، كما سبق. ص و أما القول الأول - اعني تفسير علمه التفصيلي بالعلم الحصولي - فمجمله: أن العلم إمّا فعلي و إما انفعالي، و الأول ما يكون سببا لوجود المعلوم في الخارج سواء كان سببا ناقصا - كعلم البنّاء، حيث إنّه يصوّر في ذهنه لقوة خيالية صورة البيت، ثم تصير تلك الصورة محرّكة لاعضائه حتى يوجد البيت في الخارج، فإنّ علمه هذا يفتقر في إيجاد البيت إلى آلة و زمان خاصّ و شرائط أخرى - أو سببا تاما كعلم الباري بالعالم، فإن مجرّد علمه به كاف لوجوده، فصدور الأشياء عن الباري جلّ اسمه في الخارج بأنّها عقلت أولا فصدرت، و تعقله تعالى إياها ليست بأنها وجدت أولا فعقلت؛ لأنّ صدورها عن عقله لا عقله من صدورها، فالواجب يعلم ذاته فيفيض صور الأشياء عنه معقولة لأنّها من لوازم ذاته، فعلمه بما سواه من جهة هذه الصور و هي علمه العنائي الموجب للنظام، و هذه الصور صادرة عنه تعلى مرتسمة في ذاته الواجبة.

و استدلّ له بأنّه تعالى يعلم ذاته و ذاته سبب للأشياء، و العلم بالسبب التامّ للشيء يوجب العلم بذلك الشيء، فذاته تعلم جميع الأشياء في الازل، لكن الأشياء كلّها غير موجودة في لأزل بوجود أصيل، فلو لم تكن موجودة بوجود علمي لم يتحقّق العلم الضرورة استدعائه المعلوم، و لا يعقل تعلّقه بالمعدوم الصرف، فظهر كون الأشياء موجودة بالوجود العقلي الصوري عند الباري قبل وجودها الخارجي.

ثم إن هذه الصور إما منفصلة عن الباري فيلزم المثل الافلاطونية، و إما بأن تكون أجزاء لذاته فيلزم التركيب في ذاته، و كلاهما محالان؛ أو بان تكون زائدة على ذاته لكنها متّصلة بها مرتسمة فيها، و هو المطلوب.

أقول: قد تقدّم أن اللّه عالم بالأشياء أزلا بالعلم الذي هو ذاته كما برهنّا عليه، و أما أنه تعلّق بالصور أو بالذوات الموجودة في مواطنها فهذا مما لا سبيل لنا إلى تعقله كما مر، فنقول حينئذ:

إنّ هذا الدليل مدخول، فإن علمه بالأشياء عين ذاته لا الصور الفائضة عنه، و أيضا نوقض بلقدرة الواجبة الأزلية؛ لأنها مثل العلم صفة ذات إضافة تتعلّق بالمقدورات، و لا شكّ أن قدرته تعالى شاملة لجميع الممكنات أزلا مع عدم وجودها في لأزل، و لا يمكن دفعه بالصور الأزلية،

ص: 175

فإنّ ذوات الأشياء الخارجية مقدورة بأنفسها كصورها، فلا بدّ من تحقّق نفس هذه الموجودات أزلا و إلاّ لم يتحقّق القدرة.

و أما ما أجاب عنه الحكيم الشيرازي في أسفاره بأنّ القدرة و إن سلم جريان الدليل فيها، و أنّ حكمها حكم العلم في اقتضاء الطرفين، لكن لا نسلم تخلف الحكم في القدرة؛ اذ كما في العلم لا يلزم وجود المعلوم بعينه الخارجي بل يكفي وجوده بصورته، فكذلك لا يلزم وجود المقدور بعينه الخارجي بل وجوده بصورته، و ذلك الوجود الصوري كما أنّه معلوم له كذلك مقدور صادر عنه، فواضح البطلان لما صرح المورد من ان المقدور بوجوده الخارجي مقدور، فحضور صورته لا يكفي لمقدورية ذاته الخارجية، و هذا واضح جدا.

لكن الانصاف أنّ هذا النقض غير متين، فإنّ القدرة - على ما عرفت منا تفسيرها - لا تقضى وجود المقدور ولو بصورته كما نشاهد ذلك في أنفسنا، فإنّا قادرون على أمور غير موجودة خارجا من غير أن تقوم قدرتنا بصور تلك الأمور.

و أما العلم فلا بد له من شيء يتعلّق به سواء كان عينا خارجيا أو صورة ذهنية، فإنّه يستلزم الانكشاف عن العالم، و المعدوم الصرف لا انكشاف له. و أمّا ما أورده عليه في الأسفار فهو لا يرجع إلى أساس صحيح فلاحظ و لا نطول المقام بذكره ورده.

هذا ما يرجع إلى الدليل، و أما لدعوى نفسها فهي مزيفة من وجوه:

الأول: ما أفاده المحقق الطوسي قدّس سرّه في محكي شرح الإشارات من أن ارتسام الصور الممكنة في ذاته تعالى يوجب تكثّره و هذا باطل. و أمّا ما أجاب عنه المحقق الشيرازي في أسفاره و المحقّق اللاهجي في شوارقه و «گوهر مراد»، و صرح الشيخ ابن سينا نفسه، بأن حصول الكثرة بالترتيب السببي و المسببي، فلا ينثلم بها الوحدة، كما في الفعل حيث إنّه تعالى يوجد الكثير بالترتيب مع أنه لا يصدر الكثير عن الواحد، فهو عجيب من هؤلاء الباحثين، فإن الترتيب و إن كان يمنع الكثرة في مسألة الإيجاد و لا يصادم القاعدة القائلة بعدم صدور الكثير عن الواحد، إلاّ أنه لا يرتبط بالمقام؛ إذ بعد الالتزام بارتسام الصور المطابقة للأشياء الخارجية في ذاته تعالى لا بدّ من فرض تكثر الذات حسب تكثر الصور، سواء كان حصولها بالترتيب أو بغير الترتيب، و هذا قريب من البداهة، و لما كان تجزّي الباري و تركّبه محالا كان هذا القول أيضا محالا.

الثاني: إنه يلزم كونه تعالى موصوفا بصفات زائدة على ذاته غير إضافية و لا سلبية، مع أنه باطل باتّفاق من الإمامية و الفلاسفة، فإنّهم يعتقدون العينية. و هذا أيضا ممّا أورده المحقّق الطوسي قدّس سرّه على هذا المدعى، و أنت بعد ما عرفت بطلان العلم الإجمالي المزعوم المتقدّم، تعلم

ص: 176

أن جواب هؤلاء المتقدّمين عن هذا الاعتراض لا يرجع إلى محصل.

الثالث: إنّ هذه الدعوى ترجع عند التحقيق إلى قول الأشاعرة القائلين بزيادة الصفات القديمة القائمة بذاته تعالى فيبطله ما يبطلها و الأصول المتقدّمة تفسد ما يمكن أن يجاب عن هذا الرجوع.

الرابع: إنّ مدار هذا القول على العلم الفعلي، و إن علم الواجب بذاته يوجب فيضان هذه الصور عنه، و سيأتي في مبحث الإرادة إن شاء اللّه بطلانه، و إن علمه تعالى ليس بفعلي بأن يكون علّة لفعله، و لا بانفعالي بأن يكون صورة حاصلة من المعلوم، فإن علمه عين ذاته كما سيأتي برهانه، و الصور لا تكون ذات الواجب الوجود فإنّها مخلوقة له؛ و لأنها عرض فلا يمكن اتّحادها مع الواجب، فإذن علم أن علمه تابع للأشياء في التعلّق و الاضافة لا في أصل تحققه. و بالجملة:

علمه تعالى ليس بحضوري و لا بحصولي و لا بفعلي و لا بانفعالي و لا بإجمالي و لا بتفصيلي ممّا اصطلحوا عليه.

ثم إنّ لصاحب الأسفار وجوها من الإيراد على قول المشّائين القائلين بارتسام الصور في ذاته، لكنها غير واردة عليهم إلاّ الواحد منها بناء على أصالة الوجود فراجع.

هذا تمام كلامنا حول الأقوال المهمّة الدائرة على علمه تعالى و بيان ما هو الحقّ في المقام و الحمد للّه، و قد عرفت إلى هذه الأقاويل نشأت من قياس علم الواجب بعلمنا أملا، و من عدم الالتفات إلى استحالة فهمنا بحقيقة فإنّه تعالى و صفاته الذاتية.

الجهة السادسة: حول البداء

قد ظهر أن مذهب الإمامية طبقا للبراهين العقلية و الآيات القرآنية و السنة القطعية هو عموم علمه تعالى بالأشياء، و أنه لا يتصوّر الجهل و البداء في حقّه أصلا، كما دريته دراية كاملة.

و أما ما ورد في روايات أهل العصمة و الطهارة من إثبات البداء له تعالى فهو بمعنى الابداء، أي أبدى اللّه شيئا كذا، للناس بعدما أخفاه عليهم. و هذا أمر معقول لا غبار عليه، و قد تقدّمت رواية البزنطي عن الرضا عليه السّلام في الجهة الثانية القائلة بكفر من اعتقد تعلّق علمه بالشيء بعد كونه.

و ممّا يدل على مرادنا أيضا رواية أبي بصير و سماعة(1): من زعم أن اللّه عزّ و جلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرؤوا منه. و رواية ابن سنان عنه أيضا(2): إن اللّه يقدّم ما يشاء، و يؤخّر

ص: 177


1- بحار الأنوار 111/4.
2- بحار الأنوار 121/4.

ما يشاء، و يمحو ما يشاء، و يثبت ما يشاء، و عنده أم الكتاب. و قال: فكلّ أمر يريده اللّه فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ و قد كان في علمه، إنّ اللّه لا يبدو له من جهل.

و روى الصدوق في عقائده(1) عن الصادق عليه السّلام: من زعم أن اللّه بدا له من شيء بداء ندامة فهو عند ما كافر باللّه العظيم. و صحيحة عبد اللّه بن سنان(2) عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: ما بدا للّه في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له. و رواية عمرو(3) عنه عليه السّلام: إن اللّه لم يبد له من جهل، لكن الذين طبع اللّه على قلوبهم و لا يخافون اللّه و لا يستحيون من الناس ينسبون إلى الامامية القول بالبداء، أي ظهور الشيء للّه تعالى بعد خفائه عليه، سبحانك هذا بهتان عظيم و لا يوجد من الإمامية قائل بذلك فضلا عن أن يكون ذلك معتقد جميعهم.

ثم إننا نذكر جملة من كلمات بعض علمائنا الأعلام توضيحا للمراد و تعميما للانتفاع و ردّا على هؤلاء المتقوّلين، فنقول: قال شيخنا الأجل المفيد (336 أو 338-413) في كتابه أوائل المقالات(4):

أقول: في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ و أمثاله من الإفقار بعد الإغناء و الإمراض بعد الإعفاء و الإماتة بعد الإحياء، و ما يذهب أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال و الأرزاق و النقصان منها بالأعمال. فأمّا إطلاق لفظ البداء فإنّما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد و بين اللّه عزّ و جلّ ولو لم يرد به سمع، أعلم صحّته ما استجزت إطلاقه(5) كما أنه لو لم يرد على سمع بأن اللّه يغضب و يرضى و يحب و يعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه، و لكنّه لمّا جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، و ليس بيني و بين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، و إنما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه...

و هذا مذهب الامامية بأسرها انتهى.

و له كلام طويل آخر في توضيح هذه المسألة في شرحه على عقائد الصدوق رحمه اللّه حيث قال: فالمعنى في قول الإمامية: بدا للّه في كذا، أي ظهر له فيه، و معنى ظهر فيه أي ظهر منه، و ليس المراد منه تعقّب الرأي و وضوح أمر كان قد خفي عنه... الخ.

و نظيره كلام الشيخ الصدوق و السيد المرتضى و الشيخ الطوسي و غيرهم من أعيان الطائفة

ص: 178


1- العقائد الصدوق/ 73.
2- الكافي 148/1.
3- الكافي 148/1.
4- أوائل المقالات/ 53.
5- أقول: ففي صحيح البخاري 146/4 بإسناده عن أبي عمرة أن أبا هريرة سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله يقول: إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص و أعمى و أقرع بدا للّه عزّ و جلّ أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص... الخ.

و أعاظم الملّة قدس اللّه اسرارهم(1).

و لسيدنا الأستاذ العظيم الفقيه الأصولي العلاّمة الخوئي - دام ظله - كلمة حول معنى البداء و تحليله في مدخل تفسيره «البيان» ينبغي نقل بعضها تتميما للفائدة، قال - دام ظله الوارف -(2):

ثم إنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمّا المحتوم منه فلا يتخلّف، و لا بدّ من أن تتعلق المشيئة بما تعلّق به القضاء. و توضيح ذلك: أنّ القضاء على ثلاثة أقسام:

الأول: قضاء اللّه الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه، و العلم المخزون لذي استأثر به لنفسه، و لا ريب أن البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في أخبار كثيرة عن أهل البيت عليهم السّلام أن البداء إنّما ينشأ من هذا العلم.

الثاني: قضاء اللّه الذي أخبر نبيّه و ملائكته بأنه سيقع حتما، و لا ريب في أنّ هذا القسم أيضا لا يقع فيه البداء، و ان افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه.

الثالث: قضاء اللّه الذي أخبر نبيّه و ملائكته بوقوعه في الخارج إلاّ أنّه موقوف على أن لا تتعلّق مشيئة اللّه بخلافه، و هذا القسم هو الذي يقع فيه البداء يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (3).

و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة... إلى أن قال: و البداء إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو و الإثبات، فلا يستلزم نسبة الجهل إلى اللّه تعالى.

فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العلم تحت سلطان اللّه و قدرته في حدوثه و بقائه، و أنّ إرادة اللّه نافذة في الأشياء أزلا و أبدا، بل و في القول بالبداء يتّضح الفارق بين العلم الإلهي و بين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين - و إن كانوا أنبياء أو أوصياء - لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإنّ بعضا منهم - و إن كان عالما بتعليم اللّه إيّاه - بجميع عوالم الممكنات - لا يحيط بما أحاط به علم اللّه المخزون الذي استأثر به لنفسه، فلا يعلم إلاّ ما أخبره اللّه على نحو الحتم.

و القول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى اللّه و طلبه إجابة دعائه منه و كفاية مهمّاته و توفيقه للطاعة و إبعاده عن المعصية، فإنّ إنكار البداء و الالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة - كما يراه اليهود و من يحذو حذوهم - يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإنّ ما

ص: 179


1- لاحظ الجزء الرابع من البحار و تعاليقه.
2- البيان/ 271.
3- الرعد 39/13.

يطلبه العبد من ربّه إن كان قد جرى قلم التقدير بانفاذه فهو كائن لا محالة، و لا حاجة إلى الدعاء و التوسّل، و إن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا و لم ينفعه الدعاء، Ṣيترك التضرّع إلى خلقه.

و هذا هو سرّ ما ورد في روايات كثيرة(1) عن أهل البيت عليهم السّلام من الاهتمام بشأن البداء، كقول الصادق عليه السّلام في رواية هشام بن سالم:

«ما عظم اللّه عزّ و جلّ بمثل البداء»، و قوله عليه السّلام في رواية محمد بن مسلم:

«ما بعث اللّه عزّ و جلّ نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، و خلع الانداد، و أن اللّه يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما يشاء».

و السرّ في هذا الاهتمام: أن إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ اللّه غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فإنّ كلا القولين يؤيّس العبد من إجابة دعائه، و ذلك يوجب عدم توجّهه في طلباته إلى ربّه مع أن القرآن يحثّ العبد بالتوجّه إلى ربّه.

أقول: و لنعم ما قال الصادق عليه السّلام في رواية مالك الجهني(2):

«لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه». و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين الذي كلّ يوم هو في شأن.

الجهة السابعة: في أن معلوماته أكثر من مقدوراته

قد ثبت ممّا تقدّم أن معلوماته تعالى أكثر من مقدوراته، فإن علمه تعالى يشمل الممكنات و الضروريات و الممتنعات و جميع المفاهيم الاعتبارية و الانتزاعية، و أمّا قدرته فهي تختصّ بالممكنات، فحينئذ يمكن أن يتوهّم أحد أن هذا ينافي ما عليه الإمامية و الحكمء من عينية صفاته مع ذاته تعالى، و عينية كلّ صفة مع صفة أخرى خارجا؛ إذ لو كان القدرة و العلم أمرا واحدا لما تفارقا في كثير من الموارد.

و جوابه: أن الاختلاف لا يرجع إلى الصفة بل إلى المتعلّق، فإن الأشياء بين ما يقبل المقدورية و بين ما لا يقبلها حينما يقبل جميعها المعلومية، فإذن لا منافاة بين أكثرية المعلومات و عينية قدرته مع علمه جلّ جلاله، كما لا منافاة بين العينية المذكورة و ثبوت الإضافة للعلم و القدرة دون الحياة، فإن اتّصافه بالحياة و الموجودية لا يتوقّف على شيء و لا تعلّق لهما بشيء، و ذلك يرجع إلى اختلاف المفاهيم، فإنّ مفهوم الحياة و الوجود مغاير لمفهوم العلم و القدرة حتى في الواجب الوجود، و إنّما الوحدة في جانب المصداق و الخارج.

ص: 180


1- ذكرها المجلسي في الجزء الرابع من البحار.
2- أصول الكافي 148/1.
الجهة الثامنة: حول العلم الحادث

و هي مشتملة على ذكر ما تتضمّنه جملة من الآيات العلم الحادث له تعالى، و اليك نقلها بلا إيفائها:

1 - وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا(1).

2 - لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَخٰافُهُ (2).

3 - وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ (3).

4 - لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا(4).

5 - إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ..(5).

6 - ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ (6).

7 - اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَيٰاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً(7).

فهذه الآيات الشريفة و غيرها تدلّ على إثبات العلم الحادث له تعالى، و قد مرّ أن علمه بالأشياء أزلا كعلمه بها بعدها، فيمكن أن تحمل على العلم الشهودي على ما قال به جمع كثير في سمعه و بصره كما يأتي، و نحن و إن لا نوافقهم في ذلك في هاتين الصفتين لجهة غير جارية هي في المقام، لكنا نقول هنا: إنّ له علمين، و هما: العلم غير الشهودي الذي هو عين ذاته على ما تقدّم، و العلم الشهودي الحادث بعد وجود المعلوم خارجا، أو أن تحمل على المشاكلة و جرى الكلام مع المخاطبين على ما هو مقتضى أحوالهم و طبائعهم من تحصل علمهم بالشيء بعد وجوده.

هذا، و لكن في النفس من هذه الآيات شيء، و لا أذكر عاجلا من تعرّض لهذه المشكلة تفصيلا. نسأل اللّه التوفيق من فضله.

ص: 181


1- آل عمران 141/3.
2- المائدة 94/5.
3- الحديد 26/57.
4- الجن 28/72.
5- سبأ 21/34.
6- الكهف 12/18.
7- الملك 2/67.
الفصل الثالث في سمعه و بصره تعالى
اشارة

المورد الأول: في أصل ثبوت سمعه و بصره شرعا و عقلا

المورد الثاني: في معنى سمعه و بصره

المورد الثالث: في تخصيص السمع و البصر بالذكر شرعا

المورد الرابع: في الروايات الواردة حولهما

ص: 182

الفصل الثالث في سمعه و بصره تعالى و الكلام فيه في موارد:

المورد الأول: في اصل ثبوت سمعه و بصره شرعا و عقلا

أما شرعا فاتّصافه تعالى بالسمع و البصر و الإدراك قطعي بل ضروري و الكتاب و السنة به مشحونان، و أمّا عقلا فلوجوه:

الأوّل: ما ذكره المحقق الطوسي قدّس سرّه(1) بقوله: و يدلّ عليه إحاطته بما يصحّ أن يسمع و يبصر؛ فلهذا المعنى و للإذن الشرعي بإطلاق هاتين الصفتين عليه يوصف بهما.

الثاني: ما ذكر العلامة في الباب الحادي عشر(2) بقوله: لأنه حيّ فيصحّ أن يدرك و قد ورد القرآن بثبوته له فيجب إثباته له.

الثالث: ما ذكره بعض الأشاعرة(3) بأنّه تعالى حيّ و كلّ حي يصحّ اتّصافه بالسمع و البصر، و من صحّ اتّصافه بصفة اتّصف بها أو بضدّها، و ضدّ السمع و البصر هو الصمم و العمى و أنهما من صفات النقص، فامتنع اتّصافه تعالى بهما، فوجب اتّصافه بالسمع و البصر.

الرابع: ما استدلّ به بعضهم - كما يظهر من الشوارق(4) - من أنّه حيّ و كلّ حيّ يصح أن يسمع و يبصر، و ما أمكن حقّ الواجب تعالى واجب له.

أقول: إن كان المراد بهما هو العلم بالمسموعات و المبصرات فالمقام داخل في المسألة المتقدّمة، فيتم الوجه الأول و الرابع، و لكن لا بد أن يقال في الوجه الرابع: إنّ اتّصاف الواجب بهما ممكن، فهما ثابتان بلا توسيط الحياة، فإنها عندهم بمعنى اتّصافه بالعلم و القدرة، و مفاد التقرير يكون هكذا: المتّصف بالعلم و القدرة يمكنه العلم، و هو كما ترى!

و إن كان شيئا آخر فلا؛ إذ ليس حياته كحياة الممكن حتى أمكن في حقّه ما أمكن في حقّنا،

ص: 183


1- شرح قواعد العقائد/ 48.
2- شرح الباب الحادي عشر/ 18.
3- شرح المواقف 72/3.
4- الشوارق 263/2.

فلا تكفي قاعدة الملازمة و لا إحاطته بما يصحّ ان يبصر و يسمع، فإن علمه به غير سمعه و بصره به.

و أما الوجه الثاني فهو راجع إلى الرابع؛ لأنّ ما امكن في حقّه واجب بلا حاجة إلى توسيط النقل.

و أما الجه الثالث فهو ضعيف جدا؛ لأنّ الحياة المأخوذة في الصغرى غير المأخوذة في الكبرى و إلاّ فهي مصادرة، و الصمم و العمى من قبيل عدم الملكة بالنسبة إلى السمع و البصر لا أنهما ضدان لهما، فيمكن خلو الواجب عن كليهما. و بالجملة: إن قلنا بتضمّن هاتين الصفتين ما يزيد على العلم الثابت له بالأدلة المتقدمة فلا سبيل للعقل إلى إثباتهما، و إلاّ فيجري فيه الأدلّة المذكورة، و لا يحتاج إلى ذكر هذه الوجوه أو تكرارها.

هذا و من الناس من نفى هاتين الصفتين اللتين دلّ عليهما الكتاب و السنة و تمسّكوا له بوجهين:

الأول: إنهما تأثر الحاسة عن المسموع و المبصر أو مشروطان به كسائر الاحساسات، و هو محال في حق اللّه تعالى.

و ردّ بمنع كونهما كذلك في الواجب؛ لأن صفاته مخالفة بالحقيقة لصفاتنا.

الثاني: إثبات السمع و البصر في الأزل و لا مسموع و لا مبصر فيه خروج عن المعقول.

و أجيب عنه بأن انتفاء التعلّق أزلا لا يستلزم انتفاء الصفة، كما في سمعنا و بصرنا، فإن خلوّهما عن الإدراك في وقت لا يوجب انتفاءهما أصلا في ذلك الوقت، و في الجوابين كلام لعله سينجلي فيما بعد.

المورد الثاني: في تفسير سمعه و بصره

و فيه أقوال:

الأول: إنّهما عبارة عن العلم بالمسموعات و المبصرات، فهما فردان لمطلق العلم. قال به الفلاسفة كما قيل، أو الفلاسفة النافون لعلمه بالجزئيات على وجه جزئي كما في الأسفار، و الكعبي و أبو الحسين البصري.

أقول: و هذا هو مختار المفيد في كتابه أوائل المقالات(1) و العلامة في شرح قواعد العقائد و بعض آخر من أصحابنا. قال شيخنا المفيد - بعد ما فسر السمع و البصر و الإدراك و كونه راء بالعلم خاصّة دون ما زاد عليه في المعنى -: و لست أعلم من متكلّمي الإمامية في هذا الباب

ص: 184


1- أوائل المقالات/ 21.

خلافا، و هو مذهب البغداديين من المعتزلة و جماعة عن المرجئة و نفر من الزيدية، و يخالف فيه المشبهة و إخوانهم من أصحاب الصفات و البصريون من اهل الاعتزال. انتهى.

أقول: دليلهم واضح فإن زيادة معنى البصر و السمع على العلم ترجع إلى الاحساس المنفي عنه تعالى، فلا بدّ من ارجاعهما إلى العلم، و إليه ذهب أبو الحسن الأشعري كما في شرح القوشجي و الأسفار.

الثاني: إنّهما زائدتان على العلم كما عن جمهور الأشاعرة و المعتزلة و الكرامية، فإنه إذا علم شيء علما جليا ثم وقع عليه البصر يوجد بين الحالتين تفرقة ضرورة، فإن الحالة الثانية تشتمل على زيادة مع حصول العلم فيهما، فذلك الزائد هو الأبصار، و احتياجنا إلى الآلة إنما هو لعجزنا و قصورنا. و أما الواجب فيحصل له الابصار بلا آلة، و هذا هو الذي ذهب إليه السهروردي - فارجع علمه إلى بصره - و صاحب الأسفار و من تبعه و قد بيّنه في أسفاره فلاحظ.

الثالث: إنّهما نوعان من الإدراك لا يتعلّقان إلا بالموجود العيني، فهما من توابع الفعل، فيكونان حادثين بعد الوجود(1). قال به طائفة(2).

و بالجملة: البصر و السمع عندهم عبارة عن تعلّق العلم بالمسموع و المبصر الخارجيين.

الرابع: التوقّف كما عن المحقّق الطوسي قدّس سرّه في نقد المحصل، قال: و الأولى أن يقال: لما ورد النقل آمنا بذلك، و عرفنا أنهما لا يكونان إلاّ بالآلتين المعروفتين، و اعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما.

أقول: و كلام العلامة في شرح التجريد أيضا مشعر بذلك.

أقول: القول الثاني هو الأوفق بمدلول لفظ البصير و السميع، فإن الإدراك ليس هو العلم المطلق، و لا العلم بالجزئيات، بل و لا العلم المتعلّق بالمحسوسات بأي طريق كان، بل هو الكشف المحسوس الذي إذا كان صادرا عنّا يسمّى إحساسا.

و هذا النحو من لإدراك أشدّ في المحسوسات من العلم الحضوري الذي تخيّله السهروردي، ألا ترى أن الصور الحالّة فينا معلومة لنا بالعلم الحضوري، ولو أدركناها بالإحساس كان انكشافها حينئذ أشدّ من علمنا الحضوري بالفعل؟ فهذا المعنى إمّا هو المعنى الحقيقي للفظة الإدراك و السمع و البصر على تقدير عدم مداخلة العضو في معانيها، أو هو أقرب المعاني المجازية على تقدير مداخلته فيها.

غير أن الذي يوجب رفضه، بل و كذا رفض القول الثالث هو ما دلّ على قدم هذه الصفات

ص: 185


1- كما نقله في البحار 73/4.
2- شرح المواقف 73/3.

إن تمّت صحّة أسانيدها. و كونها من الصفات الذاتية؛ اذ لا موجود محسوس أزلا حتى يتعلّق به هذا الإدراك. فإذن لا بدّ من إرجاعه إلى العلم كما قال الاولون.

و أما الاعتذار المتقدّم في جواب الإيراد الثاني للنافين فهو في موضع منع؛ اذ ليس حالهما حال العلم المطلق حتى لا يضرهما فقدان المتعلّق، فتلخّص أن الأظهر هو القول الأول، و الأحوط هو القول الرابع فإنه مقتضى التثبت الديني.

و أما الروايات الواردة في المقام فلم استفد منها شيئا يترجّح به أحد المعنيين سوى ذكر السمع و البصر في مقابل العلم المشعر بالتعدد، و فوق كلّ ذي علم عليم. نعم قول امير المؤمنين عليه السّلام - على ما في خطبته المشهورة(1) -: «أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها» يؤيد القول الاول، بل يمكن أن يجعل أكثر ما تقدّم من الروايات الدالة على عموم علمه مؤيدا له. و للّه الهادي.

المورد الثالث: في تخصيص السمع و البصر بالذكر شرعا

قالوا: إن عدم اتّصافه تعالى بالشمّ و اللمس و الذوق لأجل عدم وروده من الشرع، و أسماء اللّه توفيقية.

و لعلّ النكتة في تخصيص السمع و البصر بالذكر شرعا دون البقية، هو ردع المكلّفين عن المعاصي، فإن اعتاد عامّة الناس بهما يمنعهم من الاقتحام في الجرائر و الجرائم و نفي توهم الجسمية في حقّه تعالى، فإنّ تلك البقية أشدّ ارتباطا بالجسم كما لا يخفى، و إلاّ فهو تعالى كما يعلم المسموعات و المبصرات كذلك يعلم المشمومات و المذوقات و الملموسات، إلاّ أن يقال:

إن هذا يتمّ على التفسير الأول و أمّا على التفسير الثاني فلا؛ إذ المفروض أن المعنى الزائد المذكور على العلم غير ثابت بالعقل بل بالنقل و هو مختص بهما، و يمكن إثباته في البقية بقاعدة الملازمة بعد إمكانه بل وقوعه في المبصرات و المسموعات، فتدبّر جيدا.

المورد الرابع: الروايات الواردة في السمع و البصر

إن ما وجدته من الروايات الواردة حول هاتين الصفتين عاجلا هو سبع نذكر واحدة منها، و هي: ما رواه ثقة الإسلام الكليني باسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام - و السند

ص: 186


1- أصول الكافي 135/1.

صحيح - أنه قال في صفة القديم: إنّه واحد، صمد، أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة.

قال: قلت: جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنّه يسمع بغير الذي يبصر، و يبصر بغير الذي يسمع. قال: فقال: كذبوا و الحدوا و شبّهوا، تعالى اللّه عن ذلك، إنّه سميع بصير، يسمع بما يبصر و يبصر بما يسمع. قال: قلت: يزعمون أنّه يصير على ما يعقلون. قال: فقال: تعالى اللّه إنّما يعقل ما كان بصفة المخلوق و ليس اللّه كذلك(1).

و ربّما تشعر الرواية بالقول الأوّل. و اللّه العالم.

ص: 187


1- أصول الكافي 108/1.
الفصل الرابع أنّه تعالى حيّ
اشارة

ص: 188

الفصل الرابع أنّه تعالى حيّ قد علم بالضرورة من الدين و ثبت بالكتاب و السنة و اتّفاق أهل الملل أنه تعالى حي؛ و حيث إن الحياة المتحقّقة في الحيوان - و هي صفة تقتضي الحس و الحركة مشروطة باعتدال المزاج - غير ممكنة في حقه تعالى، اختلفوا في تفسيرها على أقوال:

1 - إنّها عبارة عن عدم استحالة كونه عالما و قادرا. نسب(1) إلى المتكلّمين من الإمامية و المعتزلة، و قيل(2): إنّه مذهب الحكماء و أبي الحسين البصري، و مرجعها اذن إلى الصفات السلبية كما لا يخفى.

2 - إنّها صفة توجب صحّة العلم و لاقدرة، فهي إذن صفة زائد على ذاته المتّصفة بالعلم و القدرة. نقل هذا عن الأشاعرة و جمهور المعتزلة أي قدمائهم القائلين بزيادة الصفات(3).

3 - إنّها بمعنى الدرك و الفعل، فكونه تعالى حيا أنه دراك فعّال، أي كون ذاته بحيث تكون درّاكة و فعّالة، و إلاّ فهذا القول ظاهر الفساد، فإنّ حياته التي هي من صفاته الذاتية لا تكون نفس الفعل. حكى هذا القول من الحكماء، المجلسي(4) و غيره.

4 - معنى كونه حيّا هو الفعّال المدبّر اختاره الصدوق في كتابه التوحيد(5).

أقول: الحياة و الممات كالحركة و السكون، و القيام و الجلوس منفية عنه تعلى بانتفاء موضوعها، أعني الجسم و الجسماني، فلو كنّا نحن و عقولنا لما جوّزنا اتّصافه بالحياة أصلا، و لكن لمّا ورد النقل به جوّزناه تعبّدا.

و عليه فجميع هذه الأقوال بلا شاهد و دليل عليها، بل هي - باستثناء الأول - ثابتة العدم، فإنّ القول الثاني يبطل بالمذهب الصحيح من عينية الصفات، و الثالث و الرابع مستلزمان قدم

ص: 189


1- بحار الأنوار 69/4.
2- المواقف 66/3 و غيرها.
3- المصدر نفسه.
4- بحار الأنوار 68/4.
5- بحار الأنوار 192/4.

العالم فيبطلان ببطلان لازمها، و العجب من الصدوق فإنّه مع اعتقاده بحدوث العالم فسّر حياته تعالى - و هي من صفاته الذاتية - بما يلزم قدم العالم. و بالجملة لا بدّ ان يقول إمّا بقدم العالم أو بحدوث الحياة، و كلا الأمرين باطل عنده.

و أما القول الأول فاتّصافه بالعلم و القدرة إنّما يستكشف عن وجوده تعالى و أنه موجود غير معدوم لا عن حياته، فإنّها لا تكون شرطا للعلم و القدرة مطلقا كما لا يخفى.

فالانصاف أنّه لم يتّضح لنا معنى الحياة الواردة في حقّه تعالى شرعا، نعم لو قلنا بأن معنى الحياة في الحيوان يتمّ بإدراك و فعل كما ادّعاه صاحب الأسفار لكان القول الثالث حقا، و حينئذ يمكن إثباته عقلا بقاعدة الملازمة المتقدّمة لكن على نحو لا يستلزم قدم العالم، إلاّ أنه غير ظاهر.

و يمكن أن يقال: إن هذه الصفة حيث وردت في الكتاب و السنة الملقيين على عامة الناس حسب عقولهم، أريد بها ما هو متفاهم عندهم فلا يكون معناها بمجمل، فيكون حياته بمعنى أنه يتمكّن من الفعل و أنّه يمكن أن يصدر منه آثاره اختيارا و ليس كالميت حيث لا أثر له، أو بمعنى انه م وجود غير معدوم و اللّه العالم.

و أعلم أن الحياة على أقسام حياة الإنسان، و حياة الحيوان و لعلّها على درجات: حياة الملائكة، و حياة الجن، حياة الموجودات الحية في المجرّات و السماوات و لعلّها على أقسام متباينة، و هناك أقسام آخر للحياة كحياة الخلايا، و حياة أعضاء البدن و حياة الشعر و غيرها، كما ذكرها الطب الجديد و نقلتها في كتابنا «الفقه و مسائل طبية» الذي ألّفناه بعد أكثر من أربعين عاما أو أكثر من تأليف هذا الكتاب و نحن لا نعرف حقيقة حياة هذه المخلوقات، بل لا نعلم حقيقة حياتنا إلاّ بمقدار أنها حصلت من تعلّق الروح بالبدن تعلّقا تدبيريا، و أمّا حقيقة حياتنا فهي مجهولة لنا إلاّ بآثارها من التغذية و النمو و الحسّ و الحركة و الإدراك و التكاثر و نحو ذلك، كما بيّنت في علم الإحياء الحديث (البايولوجيا)، فكيف نحيط بحياته تعالى، حتى نعرّفها في الكلام و الفلسفة! و الأقوى ردّ جميع الأقوال المذكورة في الكتاب و غيره و التوقّف في معرفتها و إنّ المذكورات، من آثار الحياة لا عينها؟؟؟ و لا من لوازمها(1).

إلحاق و إتمام

قد برهنّا - إلى الآن - على وجوده و وجوبه و قدرته و اختياره و بصره و سمعه و حياته.

و لكن يرجع اختياره إلى قدرته، و أما سمعه و بصره فقد مرّ أنهما من أفراد علمه أو من توابعه،

ص: 190


1- ذكرنا هذه الزيادة عند طبع الكتاب مرّة ثالثة في سنة 1385 ه. ق - 1427 ه. ق.

على تردّد في ذلك، و أما الوجوب فليس الا الوجود الغير المسبوق بالعدم، فأصول صفاته ثلاثة:

بعد وجوده: الحياة و العلم و القدرة، و البقية راجعة اليها.

فإلى الوجود يرجع الأزلية و الأبدية السرمدية و البقاء و الحقّية و السالمية و الدوام و أمثالها.

و إلى العلم يرجع رؤيته(1) و إحاطته و حكمته على أحد الوجهين و عينه و أمثالها.

و إلى القدرة يرجع قوته و بطشه و شدّته و يده و قهره و نظائرها. و ستقف إن شاء اللّه على أن هذا التعدّد الثلاثي إنما يجول في ميدان المفهوم و ساحة الاعتبار فقط، و إلاّ ففي واقع المصداق ليس إلاّ الذات الأحدية البسيطة، فكلّه الوجود و القدرة و العلم، و علمه قدرته و وجوده، و قدرته علمه و وجوده، و وجوده علمه و قدرته. وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ (2).

ص: 191


1- كما قال تعالى: وَ نَرٰاهُ قَرِيباً.
2- طه 111/20.
الموقف الثاني في صفاته المدحية

ص: 192

الموقف الثاني في صفاته المدحية

قد مضى أن صفاته الثبوتية إما ذاتية قائمة بذاته تعالى قياما ذاتيا، و إمّا فعلية قائمة بها قياما صدوريا.

و هنا قسم آخر لم يلتفت إليه الباحثون أو أهملوه لعدم الخلاف فيه، و سميناه نحن ب «الصفات المدحية» و هي قائمة به تعال قياما وقوعيا(1) مثل: محمود، مقصود، مطلوب، وكيل - بمعنى من يعتمد عليه - مرجع، ظاهر - أي معلوم للمكن بآثاره - باطن أي مجهول بحقيقته، إلى غير ذلك.

فإن أمثال هذه النعوت ليست بذاتية و لا بفعلية صدرت مباديها عنه تعالى و هو ظاهر.

ص: 193


1- و سنذكر أقسام القيام في مبحث تكلّمه من الموقف الثالث إن شاء اللّه.
الموقف الثالث في صفاته الفعلية
اشارة

الفريدة الأولى: في إرادته تعالى

الفريدة الثانية: في أسباب فعله تعالى

الفريدة الثالثة: في حكمته

الفريدة الرابعة: في تكلّمه

الفريدة الخامسة: في صدقه تعالى

الفريدة السادسة: في رحمته

الفريدة السابعة: في أنّه جبّار و قهّار

الفريدة الثامنة: في رضاه و سخطه

الفريدة التاسعة: في جملة من صفاته الفعلية الأخرى

خاتمة في حدوث أفعاله (حدوث العالم)

ص: 194

الموقف الثالث في صفاته الفعلية قالت اليهود: يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ (1) فهو كلّ يوم في شأن جديد و إحدث بديع لم يكن، يحكم ما يريد و يفعل ما يشاء؛ و لا رادع عن فعله و لا مانع من قضائه، فله الإحياء و الإمحاء و الرحم و الغفران و الغضب و الجود و الرزق و التدبير و الكفالة و الهداية و الفصل و الوصل و الإغناء و الحفظ، و غير ذلك ممّا لا يعدّ و لا يحصى. فسبحان الذي يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء أحد غيره(2).

و قد مضى أنّ انحصار الصفات في الثمانية بلا أساس غير أن التعرّض و البحث يخصّ بعضها دون الجميع إمّا لأجل الأهمية أو لوقوع الخلاف فيه.

ثم إنّ الفلاسفة اصطلحوا على تخصيص لفظ «الإبداع» بإفادة موجود غير مسبوق بالمادة و المدّة كالعقول، و قالوا: إنّه أفضل أنحاء الإيجاد. و التكوين بإفادة شيء مسبوق بالمادّة كالماديات، و الإحداث بإفادة شيء مسبوق بالمدّة كالحوادث اليومية، و الاختراع بإيجاد شيء بلا مثل له في الخارج. و أمّا الفعل و الخلق و الصنع فهي بمعنى واحد أعم، و يطلقون على جميع الموجودات الممكنة ألفاظ المخلوق و المصنوع و المفعول. كما ذكره المحقق اللاهجي(3).

و لكن في شرح المنظومة(4): المفعول إما أن يكون مسبوقا بالمادّة و المدّة و هو الكائن؛ و إما ان لا يكون مسبوقا بشيء منهما و هو المبتدع؛ و إما أن يكون بالمادّة دون المدّة و هو المخترع، و إمّا عكسه فاحتمال في بادي الرأي غير متحقّق في الخارج. و مثّل للثالث بالفلك و الفلكيات، فإنها مسبوقة بالمادة دون الزمان المتأخّر عن حركة الفلك المتأخّرة عن نفسه.

أقول: لا مشاحّة في الاصطلاح غير أنّ الصحيح مسبوقية نوع فعله بالعدم كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه.

ص: 195


1- المائدة 64/5.
2- مأخوذ من حديث معتبر سندا.
3- گوهر مراد/ 200.
4- شرح المنظومة/ 181.

و كيفما كان فلنرجع إلى بيان صفاته الفعلية المناسبة للذكر مزيدا للمعرفة بشؤونه تعالى و توضيحا لمداليها، و اللّه وليّ السداد و التأييد.

و تمام الكلام في ضمن فرائد:

ص: 196

الفريدة الأولى في إرادته تعالى

الناحية الأولى: الإرادة بمعنى القصد

الناحية الثانية: في إثبات إرادته تعالى

الناحية الثالثة: جريان التعبّد في الإرادة

الناحية الرابعة: في بيان الأقوال في الإرادة و تحقيق الحق

ص: 197

الفريدة الأولى في إرادته تعالى
اشارة

و هي من مهمّات هذا الفن، فإنّ اختياره تعالى و حدوث العالم مرتبطان بها و الكلام فيها من نواح:

الناحية الأولى: الإرادة بمعنى القصد

الأظهر أنّ الإرادة بمعنى القصد كما هو المتبادر منها، و التبادر علامة الحقيقة، و بالجملة هي من صفات النفس فاستعمالها في الطلب و إن كان جائزا بل واقعا، لكنّه مجازي، فإن الطلب مبرز للإرادة لانفسها، و لا يبعد أنّها باقية على معناها اللغوي بلا اصطلاح جديد، فإنّ التعاريف المذكورة في ألسنة القوم شرح لفظي تبيّن مفهومها.

و بالجملة: القصد من الصفات الوجدانية و هي معلومة لكلّ أحد فلا حاجة إلى تعريفه، غير أن الباحثين اختلفوا في معنى الإرادة اختلافا واسعا، و قد تعرّض لنقله الحكيم الشيرازي في مبحث قدرة اللّه و إرادته من كتاب الأسفار مفصّلا، و الأحسن ما ذكرنا و سيأتي ما يرتبط بالمقام في بعض مباحث العدل إن شاء اللّه.

و هنا اختلاف آخر و هو اتّحاد الإرادة و الطلب مفهوما و مصداقا و عدمه، فعن الأشعريين اختيار الثاني، و عن العدلية اختيار الأول. و المسألة محرّرة في أصول الفقه من كتب أصحابنا على وجه مفصّل.

هذا كلّه في إرادة الإنسان، و أما إرادة الواجب فيمتنع تفسيرها بالقصد المذكور فإنها من الصفات النفسانية الموقوفة على الجسم و الجسمانيات، أيضا القصد مسبوق بالتصوّر و التصديق الملازمين للجهل السابق و لحلول الحادث فيه تعالى و لاستكماله، فتأمّل و كل ذلك عليه من المحالات، و أيضا القصد لا يبقى بعد حصول المقصود فيلزم التغير فيه تعالى؛ و لذا اختلف أهل النظر في معناها على أقوال يأتي ذكرها.

ص: 198

الناحية الثانية: في إثبات إرادته تعالى

لا ريب في إثبات إرادته تعالى، فإنّ القرآن و السنّة تدلاّن عليه دلالة قطعية، و قد نقلوا اتّفاق أهل الملل و النحل عليه، بل و إطباق العقلاء أيضا، و قالوا: إنّه من الضروريات الدينية.

و استدلّوا عليه مضافا إلى ذلك من العقل بأن اللّه تعالى أوجد بعض الممكنات دون بعض، و في زمان دون زمان، فلا بدّ لهذا التخصيص من مخصّص و هو الإرادة؛ إذ وجوده و قدرته و علمه و حياته متساوية إلى وجود الأشياء و عدمها، و إلى تمام الازمان.

و هذا الدليل تامّ حتى عند من يرى جواز الترجيح بلا مرجّح، فإنّه لا ينكر الإرادة بل ما يدعو إلى العمل من اعتقاد نفع أو غيره؛ و لذا يصرّح بان الهارب من السبع يرجّح أحد الطريقين المتساويين بإرادته بلا مرجّح آخر، فما ذكره المحقّق الطوسي - من عدم جريانه على القول الأخير - غير تامّ (1)، لكن من يفسر إرادته تعالى بنفس الإيجاد و الإحداث، فلا يرى لهذا الاستدلال صحّة، و لذا صرح شيخنا المفيد بأن إثبات الإرادة للّه تعالى من جهة النقل دون العقل(2).

الناحية الثالثة: جريان التعبّد في الإرادة

ذكرنا في المباحث السابقة المعيار في جريان التعبّد الشرعي و عدمه في الأصول الاعتقادية و فروعها، و عليه لا شكّ في جريان التعبّد في هذه المسألة، فإذا ثبت من الشرع ما يفسّر به مفهوم إرادته تعالى، و لم يكن من العقل على خلافه محذور، يتّبع لا محالة.

الناحية الرابعة: في بيان الأقولا في الإرادة
اشارة

فعن الحكماء كما في جملة من كتبهم: أنها العلم بالنظام الأصلح.

و عن متكلّمي الإمامية(3) أو جمهورهم(4) أو مشهورهم(5) و جماعة من رؤساء المعتزلة(6): أنّها العلم بما في الفعل من المصلحة، و يسمونه بالداعي.

و عن الأشاعرة و جمهور معتزلة البصرة: أنّها صفة ثالثة مغايرة للعلم و القدرة، و هي توجب

ص: 199


1- شرح قواعد العقائد/ 41.
2- أوائل المقالات/ 19.
3- مرآة العقول/ 76.
4- حاشية الآشتياني على رسائل الشيخ/ 35.
5- بحار الأنوار 136/4.
6- شرح المواقف 67/3.

أحد المقدورين لذاتها.

و عن الكعبي: أنّها في فعله علمه بما في الفعل من المصلحة.

و عن البلخي: أنّها فيه إيجاده، و أما في أفعال غيره فقالا: إنها أمره بها.

و عن ضرار: كونه تعالى مريدا، نفس ذاته.

و عن الكرامية: أنها حدثة قائمة به تعالى.

و عن الجبائية: أنها حادثة لا في محلّ.

و عن الحسين النجار معنى مريديته كونه غير مغلوب و لا مكره.

فهذه أقوال تسعة، لكن الثاني يرجع إلى الاول؛ اذ لا فرق بينهما من جهة أن التأثير من العلم بالأصلح، و إنّما يفترقان في أن الأصلح المذكور هل هو علّة غائية لفعله تعالى كما يقوله المتكلّمون، أو لا بل العلة الغائبة هو نفس ذاته المقدّسة دون سواها؟ فإنّ العلي لا يقصد لأجل السافل كما يتوهّمه الفلاسفة. و بكلمة واضحة: الاختلاف بينهما في العلّة الغائية دون العلّة الفاعلية التي هي المبحوث عنها في المقام، فما به التخصيص و عنه التأثير هو علمه تعالى بالأصلح على كلا القولين، فافهم جيّدا.

و أمّا القول الثالث فهو مبني على أصل فاسد و هو زيادة صفاته تعالى و قدمها، فإذا هدمناه - كما يأتي في المقصد الرابع إن شاء اللّه - ينهدم القول المذكور، نعم يحتمل أن تكون الإرادة بلا رجوعها إلى العلم و غيره من الصفات الذاتية على نحو العينية، و هذا يحتاج إلى جواب آخر و سيأتي بحثه. و أما نقل عن ضرار فهو مجمل إلاّ أن يرجع إلى القول الأول. و من رواية سليمان المروزي المنقولة في توحيد الصدوق يظهر أن له قولا آخر نسب إليه.

و أما القول الرابع فهو ايضا راجع إلى الثاني، و تفسيره إرادة اللّه المتعلّقة بأفعلنا بالأمر إمّا من جهة إبطال شبهة الجبر، و إما للإشارة إلى تقسيم الإرادة إلى التكوينية و التشريعية؛ و به يظهر حال تفصيل القول الخامس أيضا فإنّه قول بحدوث إرادته تعالى و إنه نفس الإيجاد، و حيث إنّ إيجاده أفعال غيره غير معقول و إلاّ كانت الافعال أفعاله لا افعال غيره، فسّرها بالأمر بها.

و أمّا القول السابع فأورد عليه أنّه مستلزم لكونه تعالى محلاّ للحوادث.

و أمّا الثامن فردّ باستحالة صفة لا في محلّ فينتقص به حدّ الجوهر و العرض.

هذا و أوردوا على القولين معا لزوم التسلسل في الإرادات، فإن الإرادة حادثة و كلّ حادث لا بدّ له من إرادة، و هذا ظاهر.

و أما القول الأخير فهو تعريف للإرادة بلوازمها لا بنفسها.

فالمتحصّل أن ما يصحّ تفسير إرادته تعالى به أمور ثلاثة:

ص: 200

1 - إنّها صفة في قبال سائر الصفات من دون رجوعها إلى العلم.

2 - إنّها علمه بالأصلح، فتكون هي واجبة عين ذاته تعالى.

3 - إنّها الإيجد و الإحداث فتكون حادثة.

أمّا الوجه الأول فقد اختاره بعض الأجلاء من أهل المعقول و المنقول قال: «و من البين أن مفهوم الإرادة كما هو مختار الأكابر من المحقّقين هو الابتهاج و الرضا و ما يقاربهما مفهوما، و يعبر عنه بالشوق الأكيد فينا، و السرّ في التعبير عنها بالشوق فينا و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى: إنّا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامين في الفاعلية، و فاعليتنا لكل شيء بالقوة؛ فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد المميلة جميعا للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى فإنه لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوّة و النقصان فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، و حيث إنّه صرف الوجود و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج و ذاته مرضى لذاته أتم الرضا.

و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - و هي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، فإنّ من أحبّ شيئا أحبّ آثاره، و هذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل، و هي التي وردت الاخبار عن الائمة الطاهرين سلام اللّه عليهم بحدوثها...

و الوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير و بالصلاح: أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا و هو ليس العلم بلا رضا و إلاّ كانت الرطوبة الحاصلة بمجرّد تصوّر الحموضة اختيارية... و كذلك ليس الرضا بلا علم و إلاّ كانت جميع الآثار و المعاليل الموافقة لطبايع مؤثّراتها و عللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل الصادر عن شعور و رضا.

فمجرّد الملاءمة و الرضا المستفادين من نظام الخير و الصلاح التام لا يوجب الاختيارية، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختياريا منه تعالى هو العلم بنظام الخير لا أن الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير. ص و هذا الذي ذكرنا مع موافقته للبرهان مرموز في كلمات الأعيان بل مصرّح به في كلمات جملة من الأركان...» و قال أيضا: «إن حقيقة إرادته تعالى في مرتبة ذاته ابتهاج ذاته بذاته... فهو صرف الخير و الخير هو الملائم اللذيذ الموجب للابتهاج و الرضا، فهو صرف الرضا و الابتهاج، كما كان صرف العلم و القدرة... الخ»(1).

أقول: و من جملة الأركان الفيلسوف الشهير صاحب الأسفار و السبزواري في شرح

ص: 201


1- نهاية الدراية شرح كفاية الأصول 164/1.

منظومته و حاشية الأسفار، ففي الأسفار: الإرادة و المحبّة معنى واحد كالعلم، و هي في الواجب عين ذاته، و هي بعينها عين الداعي. و قال في فصل آخر: بل هو مبتهج بذاته و عاشق لذاته، و يلزم من هذا الابتهاج و يترشّح منه حصول سائر الخيرات و الابتهاجات... إلخ لكنه صرح غير مرّة أيضا بأن إرادته هو العلم بالنظام الأتم و نسبه إلى مذهب الحكماء كما يظهر لمن لاحظ مبحث القدرة و الإرادة من إلهيات أسفاره.

لكن الحقّ أن الإرادة ليست نفس الشوق و الابتهاج كما عرفت، بل و لا ملزومة له كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء، و كثير من الأفعال العبثية و الجزافية، و كما في تناول الأدوية و غيرها كما صرّح به في الأسفار أيضا.

و أمّا ما تصوّره في حقّ الواجب المجرّد القديم من الابتهاج، ففيه: أن الابتهاج و الرضا و ما يقاربهما مفهوما غير معقولة في حقّه؛ لبراءته عن الجسم و الجسمانيات و لا يفي دليل لإثبات الابتهاج في حقّه، و لا مجال لقياس الواجب على الممكن بوجه. و أمّا إن أريد بالابتهاج معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا فلا بد من بيانه و ذكر برهانه، و أنّى لهم بذلك. هذا مع أن الفعل الاختياري لا يتحقّق بمجرّد العلم و الرضا، فإن من تصوّر الحموضة تصوّرا قهريا و حصلت الرطوبة في فمه، لا يقال: إنّه حصل الرطوبة باختياره و إن كان راضيا و مائلا بحصولها.

فالانصاف أن ما ذكره هذا المدقّق الجليل لا يتمّ قطعا.

و أما القول الثاني فقد عرفت قائله، و ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته وجوه:

1 - ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد من أنّ الإرادة ليست زائدة على الداعي، و إلاّ لزم التسلسل على تقدير حدوثها، أو تعدد القدماء بناء على تقدير قدمها.

أقول: إلزام التسلسل على حدوث الإرادة معروف و مشهور و قد ذكره الكثيرون، و ربما أجيب عنه بأجوبة غير دافعة عنه، لكن هذا الإلزام عندي هيّن جدا؛ اذ المراد بالإرادة الحادثة هو الإيجاد و الإحداث لا غير، و من الضروري أنّ الإيجاد فينا و فيه تعالى لا يحتاج إلى إيجاد آخر. نعم هو يحتاج إلى مرجح و هو علمه بالأصلح.

2 - الإرادة الواجبة له ممكنة، فهي ثابتة له بالقاعدة الملازمة.

و فيه: أنّها إمّا الابتهاج فقد عرفت عدم تعقّله في حقّه تعالى. و إمّا العلم بالصلاح و الخير فسيأتي أنه غير مؤثّر فلا يصلح تفسير الإرادة به فإنّها مؤثّرة، و إمّا ما ندركه نحن من أنفسنا فهو ممتنع في حقّ الواجب المجرّد و لا معنى معقول لها غير هذه الثلاثة، فإذن الصغرى باطلة في هذا القياس.

3 - إنّ الإرادة إن كانت من لاصفات الذاتية فتمّ الدست، و إلاّ فإن كانت قديمة لزم تعدد

ص: 202

القدماء الذي يقول به الأشعريون و هو فاسد يقينا، و إن كانت حادثة فإمّا في غير محل و إمّا في محل هو غيره تعالى، فهو باطل كما لا يخفى.

و إن كانت حالّة فيه تعالى لزم كونه محلاّ للحوادث، و هو ممتنع كما سندلل عليه، فبطلان هذه الشقوق يعيّن المطلوب.

أقول: إرادته الحادثة قائمة به تعالى قياما صدوريا لا قياما حلوليا، و سيأتي بيان توضيح أقسام القيام في مبحث التكلم إن شاء اللّه.

و بالجملة: المليون بأسرهم يقولون بفاعليته تعالى، و أنه فعّال و كلّ فعل قائم بفاعله، و ليس هذا من الحلول و كونه تعالى محلاّ للحادثات بشيء، و الإرادة ليست إلاّ نفس الإيجاد، و هذا واضح.

كيف يؤثّر العلم؟

الذي يدور عليه هذا القول و يقوم به هو كون علمه تعالى فعليا، فإذا ثبت ذلك فقد تمّ المطلوب، و لا بدّ من تسليم أن إرادته هي علمه بنظام الخير و الألح، و إلا فالمصير إلى القول الثالث متعيّن.

فنقول: الذي نتعقّله من مفهوم العلم هو ما به انكشاف الأشياء و جلاؤها عند العقل، و أما كونه ذا تأثير فليس ببين، فلا بدّ من تبيينه بالبرهان، و إني كلّما تصفّحت مظانّه لم أجد منهم دليلا على ذلك أصلا، لا في مباحث الأعراض و لا في مبحث أقسام الفاعل و لا في الالهيات، سوى أمثلة ذكروها مثل علم المهندس، فإنه يتصوّر البناء أولا ثم يوجده على وفق علمه، فهذا العلم فعلي إذ المعلوم تابع له دون العكس كما في الانفعالي.

قال في الأسفار: و لا استبعاد في كون العلم نفسه سببا لصدور الأشياء و وجودها، كالماشي على جدار دقيق العرض إذا تصوّر السقوط يسقط بتصوّره، و عدّ من هذا القبيل تأثير بعض النفوس بالهمّة و الوهم، و كذا إصابة العين التي علم تأثيرها بإخبار الوحي و السنة، من قوله تعالى: وَ إِنْ يَكٰادُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصٰارِهِمْ لَمّٰا سَمِعُوا اَلذِّكْرَ(1)، و من قوله صلّى اللّه عليه و اله:

«العين تدخل الرجل القبر و الجمل القدر». و إذا جاز أن يكون العلم الضعيف البشري مؤثرا في وجود المعلوم فأولى أن يجوز ذلك في العلم الأزلي لمنشئ العالم من العدم الصرف. انتهى.

و الإنصاف أنّ ذلك منهم عجيب! يفرّعون جملة من البحوث المهمّة في الإلهيات على أصل من الأصول المهمّة العقلية الاعتقادية و لا يقدرون على إثباته، فيكتفون بذكر مثال و استشهاد

ص: 203


1- القلم 51/68.

و قياس ضعيف، ثم يدّعون أن الفلسفة تحصيل الحقائق، و يطعنون على غيرهم بالتقليد و المسامحة في ناموس البرهان و الاستدلال! أليس علم المهندس أيضا انفعاليا أخذ من مشاهداته الخارجية غالبا؟ نعم هو بالنسبة إلى هذا العمل سابق لكنّه لا تأثير له تماما، و إنّما هو من مقدّمات إرادة ذلك العمل، و إلاّ فالبناء لا يوجد ولو تصوّره البنّاء ألف مرّة.

و بالجملة: إن أرادوا أن العلم في طريق العمل فهذا ممّا لا شكّ فيه لعاقل؛ إذ كل عمل اختياري لا بد له من تصوّر و تصديق ولو ارتكاز، و نحن نقر إقرارا ضروريا أن علمه تعالى بالصلاح هو المرجّح لأفعاله و به يترجّح وجوداتها على أعدامها، و بعض أطوارها على الأخر؛ و إن أريد أنّه المؤثّر التامّ - كما قالوا ذلك في علم اللّه سبحانه و سمّوه الفاعل بالعناية - فقد عرفت أنه محض الدعوى، و المثال الذي ذكروه لا يفي به، بل الوجدان على خلافه.

و أمّا المثال الثاني ففيه: أن تصوّر السقوط ممّن قام على جدار عال، علم واحد موجود في الخائف المدهوش الذي يسقط به، و فيمن اعتاد القيام عليه بكثرة التكرار لا يسقط به كالبناء فوق الأبنية و الجدران العالية، ولو كان علة لم يختلف كما اعترف به بعض أفاضلهم أيضا، بل الصحيح أنّه لا علم في المثال المفروض؛ إذ الصاعد لعى الدار يحتمل سقوطه، و نفس هذا الاحتمال يولد الخوف في قلبه، و هذا الخوف هو الذي يسبّب سقوطه، فهو لا يستند إلى العلم، فتأمل.

و أمّا تأثير النفس و إصابة العين فهما و إن كانا ثابتين في الجملة، لكن المقام منهما أجنبي بلا خفاء فيه.

فإذن قد تحصّل أن ما تسالموا عليه من تقسيم العلم إلى الفعلي و الانفعالي، و جعل الأول علّة المعلوم لا تابعا له، أمر خيالي فاسد جدا لا واقع له أبدا.

و منه يظهر أن القول الثاني في تفسير إرادته كالقول الأول منهدم الاساس و ما فرع عليه ساقط أيضا. فإذن لا بدّ من الرجوع إلى القول الثالث و هو أن علمه تعالى غير علّة للمكنات بل العلّة هو الإيجاد المسمى بالإرادة، و أمّا القصد فلا يعقل في حقّه كما يتصوّر في حقنا؛ و لذا قلنا:

إن إثبات الإرادة للّه القديم نقلي لا عقلي.

و ممّا يدلّ على أن إرادته تعالى ليست راجعة إلى علمه و أن علمه ليس بفعلي - زائدا على ما ذكرنا - وجهان:

الأول: إنه يعلم نفسه و يعلم الضروريات كلزوم الامكان للمكن و الزوجية للاربعة و نحوهما، و يعلم امتناع الممتنعات، مع أن علمه بهذه الأمور لا يكون بفعلي و مؤثّر قطعا، و لا يمكن أن يتفوّه به عاقل جزما، فمطلق علمه ليس بفعلي فلئن كان، فهو علمه بالممكن الأصلح،

ص: 204

فإذن نسأل من أين جاءت هذه السببية و التأثير؟ أليس علمه تعالى شيئا واحدا لا اختلاف في حقيقته؛ لأنها عين الذات المقدّسة، فإذا لم يكن التأثير مستندا إلى العلم فنفسه، و إلا لم يتعلّق بالضروريات الآبية عن التأثير المذكور مع أن علمه متعلّق بها اتّفاقا، فلا بد من استناده إمّا إلى نفس الأصلح، و هذا هو معنى كون الشيء مؤثّرا و متأثرا، و معنى إثبات عجز الإله، و معنى الترجّح بلا مرجح، و معنى إنكار فاعلية الحقّ بتاتا؛ و إما إلى تعلّق العلم بالأصلح، و هذا أيضا باطل؛ إذا التعلّق المذكور اعتباري بعض محض و هو لا يصير منشأ للتأثير، كيف ولو كان كذلك لكان تعلّق علمنا بالأصلح أيضا مؤثّرا؟ و هو كما ترى.

الثاني: إن اللّه تعالى يعلم كلّ شيء كما مر، فيعلم الشرّ و الظلم و الكفر و القبايح بما هي شرّ و ظلم و كفر و قبايح، بلا فرق بين علمه بها و علمه بالعدل و الإيمان و الخير و المحاسن أصلا، بل يعلم الجميع مع أنه تعالى لعدله و حكمته لا يريد الطائفة الأولى أبدا، فيعلم أن إرادته غير علمه، فتأمل.

و أمّا ما أجاب عنه في الأسفار و أطال فيظهر ضعفه من نفس هذا التقريب فلا نطوّل بذكره و نقده، فقد ثبت حينئذ ثبوتا قطعيا أن إرادته هو إحداثه و إيجاده لا غير، فإن بطلان القولين الأولين يعين الالتزام بهذا القول، اذ لا شقّ رابع.

و هذا القول هو الذي اختاره ثقة الإسلام الكليني(1) و الشيخ الأجل الصدوق(2) و الشيخ الأعظم المفيد(3) حيث قال: إن إرادة اللّه تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله و إرادته لأفعال خلقه أمره بالأفعال، و بهذا جاءت الآثار عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى اللّه عليه و اله، و هو مذهب سائر الإمامية إلاّ من شذّ منها عن قرب و فارق ما كان عليه الأسلاف(4)، و إليه يذهب جمهور البغداديين من المعتزلة، و أبو القاسم البلخي خاصّة، و جماعة من المرجئة، و يخالف فيه من المعتزلة البصريون و يوافقهم على الخلاف فيه المشبّهة و أصحاب الصفات انتهى.

قوله: نفس أفعاله، أي نفس إيجاداته فلا تغفل.

فظهر أن هذا القول هو مختار الإمامية في الاعصار الاولى غير أن المتأخّرين منهم أو أو جماعة من المتأخّرين عدلوا عنه إلى القول بأنّها العلم بالمصلحة، و لعمري إن هذا القول لا يجامع القول باختياره تعالى أصلا كما أشرنا إليه سابقا أيضا.

ص: 205


1- أصول الكافي 109/1.
2- توحيد الصدوق/ 11.
3- أوائل المقالات/ 19.
4- فما في الكتاب المنسوب إليه المسمى ب «نكت الاعتقاد» من تفسيرها بعلمه الموجب لوجود الفعل غير صحيح عنه، فتأمّل.

و أظن أن القائلين به من متكلّمي الإمامية جماعة غير كثيرة على خلاف ما مرّ من المجلسي رحمه اللّه من نسبته إلى مشهورهم أو جميعهم، و يدلّ على ما ذكرناه أو يؤيّده أن السيّد المرتضى الرازي رحمه للّه ذكر في باب الحادي و العشرين من كتابه تبصرة العوام في عداد معتقدات الإمامية: أن اللّه مريد بالإرادات الحادثة، فنسب حدوثها إلى الإمامية قاطبة، و اختاره من متأخّري المتأخّرين جمع كثير كصاحب مجمع البحرين و صاحب الفصول و صاحب تفسير لوامع التنزيل و سواطع التأويل(1) و صاحب كفاية الموحدين قدّس سرّهم و سيدنا الأستاذ المحقق الخوئي - دام ظله العالى - و غيرهم، بل المظنون أنه مختار معظم الأخباريين من أصحابنا، حتى إن المحدّث الجزائري جعل حدوث الإرادة - في محكي شرح التهذيب(2) - موارد التعارض بين العقل القطعي الدالّ على قدمها و الشرع الدالّ على حدوثها؛ و لذا حكم بتقدّم الشرع عليه، لكنك عرفت أن العقل يوافق النقل على حدوثها، و ما توهّمه هذا المحدث الجليل ضعيف جدا.

و بالجملة: إن هذا القول كما يقتضيه العقل يدلّ عليه ظاهر الكتاب و صريح السنة أيضا، أما القرآن المجيد، فاليك بعض آياته الكريمة:

1 - إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (3).

2 - إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (4). فكلمة «إذا» تدلّ على حدوث الإرادة، فان الصفات الذاتية يستحيل تحققها في وقت دون وقت.

3 - ثُمَّ إِذٰا شٰاءَ أَنْشَرَهُ (5).

4 - إِنْ أَرٰادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرٰادَ بِكُمْ رَحْمَةً (6).

5 - يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ(7). وجه الدلالة واضح، و قد مرّ في أول هذا المقصد ما يوضّح المقام إيضاحا تامّا.

و أما السنّة فإليك ما بلغه جهدي من الروايات:

1 - صحيحة صفوان قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام:

أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللّه تعالى فإرادته

ص: 206


1- لوامع التنزل و سواطع التأويل 8/7.
2- الحاكي هو المحقق الآشتياني في حاشية الرسائل/ 35.
3- يس 82/36.
4- النحل 40/16.
5-
6- الأحزاب 17/33.
7- البقرة 185/2.

إحداثه لا غير ذلك؛ لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكر، و لا كيف لذلك كما انه لا كيف له»(1).

2 - صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السّلام قال:

«خلق اللّه المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة»(2) و معنى هذه الرواية على مسلكنا: أنه تعالى أوجد الأشياء و أعطى لها الوجود بإيجاده، و أمّا هذا الإيجاد فهو صادر عنه تعالى بنفسه لا بإيجاد ثان كما هو واضح، و كأنّ الرواية ناظرة إلى إبطال التسلسل المتوهّم المتقدّم.

3 - صحيحة محمد بن مسلم عنه عليه السّلام قال: «المشيئة محدثة»(3).

4 - صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: «قلت: لم يزل اللّه مريدا؟ قال: إن المريد لا يكون إلاّ المراد معه، لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد»(4).

5 - رواية بكير بن اعين قال:

«قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: علم اللّه و مشيئته مختلفان أو متّفقان؟ فقال: العلم ليس هو المشيئة، ألا ترى إنك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا ت قول:

سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: إن شاء اللّه، دليل على أنه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، و علم اللّه سابق المشيئة»(5). و في التوحيد: «و علم اللّه سابق للمشية»(6).

أقول: و هذه الرواية الشريفة ناصّة على بطلان القول الثاني، فيتعين القول الثالث كما يدلّ عليه قوله: «و علم اللّه سابق للمشيئة».

6 - صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري قال: «قال الرضا عليه السّلام:

«المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أن اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد»(7).

أقول: لأنه يستلزم إيجابه و قدم العالم.

7 - رواية أبي سعيد القماط قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثم خلق الأشياء بالمشيئة»(8).

ص: 207


1- أصول الكافي 109/1.
2- أصول الكافي 110/1.
3- أصول الكافي 110/1.
4- أصول الكافي 109/1.
5- أصول الكافي 109/1.
6- التوحيد/ 144.
7- البحار 145/4.
8- البحار 145/4.

و لعلّ المراد بالقبلية: القبلية الرتبية؛ و لذا يقال: أوجد فوجد و لا يعكس. و على أيّ فالرواية تدلّ على حدوث الإرادة و هو المطلوب. و يحتمل أن تكون المشيئة بمعناها الآتى.

8 - حديث الاهليلجة المعروف حيث قال الرضا عليه السّلام في جواب الطبيب:

«إن الإرادة من العباد: الضمير و ما يبدو بعد ذلك من الفعل، و أما من اللّه عزّ و جلّ فالإرادة للفعل إحداثه، طنما يقول: كن فيكون بلا تعب و كيف»(1).

9 - رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السّلام(2) ففيها:

«كان - عزّ و جلّ - و لا متكلّم و لا مريد و لا متحرّك و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه»(3).

10 - رواية الهاشمي الطويلة المشتملة على مباحثة الرضا عليه السّلام مع أهل الملل، ففيها قال عمران:

«فأيّ شيء غيره؟ قال الرضا عليه السّلام: مشيئته و اسمه و صفته و ما أشبه ذلك، و كل ذلك محدث مخلوق مدبر»، و قال عليه السّلام فيها أيضا: «و اعلم: الابداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة»(4).

11 - رواية النوفلي الهاشمي(5) المتقدّم عنه عليه السّلام في مناظرته مع سليمان المروزي، و للامام عليه السّلام كلام طويل في هذه الرواية، في إبطال قدم الإرادة و كونها من صفات الذات و كونها نفس العلم و كونها نفس الأشياء كما قال به جمع من أصحاب الفلسفة، و قسّموا الإرادة إلى الذاتية و الفعلية، و لعمري إن الرواية بطولها و تشديدها حجّة ساطعة على مرادنا، و كأن الامام عليه السّلام كان ناظرا إلى أقوال الفلاسفة فردّ عليهم، فلاحظها و اللّه الهادي.

12 - صحيحة يونس عن الرضا عليه السّلام ففيها(6):

«قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل.

قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه» و في رواية الهامشي عن الكاظم عليه السّلام، أيضا تفسير معنى شاء بابتداء الفعل(7).

13 - رواية ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه السّلام قال فيها:

«أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا. فقال:

ص: 208


1- البحار 196/3.
2- البحار 31/5.
3- التوحيد، الباب 64.
4- التوحيد، الباب 64.
5- التوحيد، الباب 65.
6- مرآة العقول 104/1، و البحار 122/5.
7- الكافي 150/1.

همّه بالشيء، أو تدري ما أراد؟ قال: لا، قال: إتمامه على المشيئة»(1).

أقول: لعلّ المراد بالهمّ هو ابتداء الفعل كما يفهم من قوله: اتمامه، و من تصريح الرواية المتقدّمة بذلك، و إلاّ فالهمّ عليه محال، و قد صرح به في الروايات المتقدّمة أيضا.

و أمّا الفرق بين المشيئة و الإرادة فسيأتي بحثه إن شاء اللّه.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات الدالّة على حدوث الإرادة، و لم أجد رواية - ولو ضعيفة السند و الدلالة - على أنّها قديمة أو عين ذاته تعالى أو هي راجعة إلى العلم، مع أن الصفات الذاتية مصرّح بها في روايات كثيرة عن أهل العصمة و النبوّة سلام اللّه عليهم أجمعين.

و أمّا ما ذكره بعض الأماجد(2) من آل كاشف الغطاء - من أن الإرادة في لسان أهل البيت تطلق على معنيين: الخلق الإيجاد. ثم العلم حسبما استقصينا من أحاديثهم. و استشهد للثاني برواية نقلها عن الكافي. فهو ممنوع و الموجود في الكافي مغاير لما نقله في كتابه على ان استعمال الإرادة في العلم أحيانا لا يسمن و لا يغني من شيء أصلا كما لا يخفى، و لا سيما بعد ما صرّح في الرواية الخامسة بتغايرهما.

إزاحة و إنارة

قد تحصّل أن الروايات صريحة كما هي الأكثر أو ظاهرة غاية الظهور في حدوث الإرادة، و جملة منها صحيحة الاسناد، فلا يعتريها شكّ و ارتياب، غير أن جماعة من الباحثين كالمحقّق الداماد على ما في الأسفار، و المحدث المجلسي في البحار و مرآة العقول، و صاحب الاسفار في شرحه على الكافي، و الفيض الكاشاني في الوافي، و الفياض اللاهجي في الشوارق و گوهر مراد، و الشيخ المحقّق محمد حسين في نهاية الدراية و تحفة الحكيم، و غيرهم في غيرها اغمضوا أعينهم عن صراحة هذه الروايات فوجّهوها بتوجيهات باردة و حملوها على محامل بعيدة فاسدة، بل بعضها مخالف لصراحة بعض الروايات المذكورة.

و اني لا أرى فائدة في إيرادها و إبطالها، فالمنصف إذا راجعها و لاحظها بالقياس إلى الروايات يجدها موهومة موهونة، و العجب أن الائمة عليهم السّلام بيّنوا صفات الذات و عينيتها معها، و لكن لما وصل بيانهم إلى الإرادة لم يبيّنوها لعدم استعداد الأذهان كما يقول بعض هؤلاء، أو أنهم عليهم السّلام بيّنوا الإرادة الفعلية و أهملوا ذكر الإرادة الذاتية، مع أنّه لا أثر إلاّ في أوهام هذا القوم.

و إن تعجب فعجب من المجلسي قدّس سرّه فإنه مع جموده الجميل على ظواهر الروايات كيف ترك

ص: 209


1- البحار 122/5.
2- الدين و الإسلام 188/1.

النصوص و أصرّ على تأويلها و العصمة لأهلها؟!

تتمة

ثم إنك - بعد ما دريت معنى الإرادة تقدر على تطبيق جملة كثيرة من الآيات الكتابية عليه(1).

نعم ربما يعسر تفسير بعض الآيات المشتملة على هذه المادة - الإرادة و المشيئة - بهذا المعنى كقوله تعالى: إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ مٰا يُرِيدُ(2)، و قوله: وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يُرِيدُ(3)، و قوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ(4) و غيرها فإن تنزيلها على الإحداث و الإيجاد و الفيض و إعمال القدرة و إنفاذ القوّة إلى غير ذلك من الألفاظ المترادفة بعيد جدا، فلك أن تحملها على القصد للمشاكلة لإرادتنا كما في قوله تعالى يريد ان ينقض فنسب الإرادة إلى الجدار مع أنه لاقصد له اصلا، و ان ابيت عن ذلك فلا بد لك أن تحملها على المعنى الثاني للإرادة، فإن لها معنيين كما يأتي إن شاء اللّه، فكن على بصيرة من أمرك.

ص: 210


1- الآيات المتضمّنة للفظة الإرادة و المشيئة تزيد على المئة و الستّين على ما استخرجناها من القرآن الحكيم.
2- المائدة 1/5.
3- البقرة 253/2.
4- هود 107/11.
الفريدة الثانية في أسباب فعله تعالى
اشارة

المسألة الأولى: في اللوح

المسألة الثانية: في فرق المشيئة و الإرادة

المسألة الثالثة: في الكراهة و الاختيار

المسألة الرابعة: في الإرادة التكوينية و التشريعية

المسألة الخامسة: في القدر

المسألة السادسة: في القضاء

خاتمة: في آراء الناس في القضاء و القدر

ص: 211

الفريدة الثانية في أسباب فعله تعالى علمه تعالى بالمصلحة في وجود شيء مرجّح لإيجاده بالاختيار كما عرفت، فليس لفعله تصوّر و تصديق و شوق و قصد و لا غيرها سوى علمه المخصوص، و أنت إذا أخذت الفطانة بيدك تعلم أن اعتبار المصلحة المذكورة لأجل الحذر عن اللغوية و العبثية فقط، و إلاّ فهو فاعل مختار يمكنه فعل ما يشاء.

هذا بالنظر إلى القضاء العقلي، و أمّا بالنسبة إلى البيان الشرعي فلفعله تعالى أسباب و هي:

المشيئة و الإرادة و القدر و القضاء، كما تدلّ الرواية علي بن إبراهيم الهاشمي(1) قال: «سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام يقول: لا يكون إلاّ ما شاء اللّه و أراد و قدّر و قضى. قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل. قلت: ما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له».

في الرواية سقط يظهر من رواية يونس - غير المعتبر - عن يونس عن الرضا عليه السّلام... «و لكن لا يكون إلاّ ما شاء اللّه و أراد و قدر و قضى. أتدري ما المشية ما يونس؟ قال: لا. قال: هو الذكر الأوّل. و تدري ما الإرادة؟ قلت: لا. قال: العزيمة على ما شاء. و تدري ما التقدير؟ قلت: لا. قال:

هو وضع الحدود من الآجال و الأرزاق و البقاء و الفناء. و تدري ما القضاء؟ قلت: لا. قال: هو إقامة العين و لا يكون إلاّ ما شاء اللّه في الذكر الأوّل»(2).

و حسنة يونس(3) حيث قال يونس: «لا يكون إلاّ بما شاء اللّه و أراد و قدر و قضى، فقال الرضا: لا يكون إلاّ ما شاء اللّه و أراد و قدّر و قضى».

و رواية حمزة بن حمران(4) ففيها قوله: «و إنهم لا يضعون شيئا من ذلك إلاّ بإرادة اللّه و مشيئته و قضائه و قدره. فقال الصادق عليه السّلام: هذا دين اللّه الذي أنا عليه و آبائي». و رواه الصدوق

ص: 212


1- أصول الكافي 150/1.
2- البحار 117/5.
3- الكافي 158/1.
4- بحار الأنوار 162/5.

بسند آخر عنه عن الصادق عليه السّلام(1)، و البرقي في محاسنه بسند ثالث عنه مضمرا لكن فيه(2):

«و لا يكون إلاّ ما شاء اللّه و قضى و قدّر و أراد فقال... الخ».

و رواية معلى بن محمد قال(3):

«سأل العالم: كيف علم اللّه؟ قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة، و بمشيئته كانت الإرادة، و بإرادته كان التقدير، و بتقديره كان القضاء، و بقضائه كان الإمضاء، و العلم متقدّم على المشيئة، و المشيئة ثانية و الإرادة ثالثة، و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء... فالعلم في المعلوم قبل كونه و المشيئة في المنشأ قبل عينه، و الإرادة في المراد قبل قيامه، و التقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها و القضاء بالإمضاء هو المبرم... فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، و بالمشيئة عرف (من التعريف) صفاتها، و حدودها، و بالإرادة ميز أنفسها في الوانها و صفاتها، و بالتقدير قدّر أقواتها (عن التوحيد أوقاتها) و عرف أولها و آخرها... الخ».

و رواية هشام بن سالم المروية عن المحاسن(4) قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«إنّ اللّه إذا أراد شيئا قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه».

و رواية ابن اسحاق المتقدّمة قال: «قال أبو الحسن الرضا عليه السّلام ليونس مولى علي بن يقطين:

يا يونس، لا تتكلّم بالقدر. قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلاّ ما أراد اللّه و شاء و قضى و قدّر. فقال: ليس هكذا أĪول و لكن اقول: لا يكون إلاّ ما شاء اللّه و أراد و قدّر و قضى. ثم قال: أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا. فقال: همّه بالشيء، أو تدري ما أراد؟ قال: لا. قال: إتمامه على المشيئة. فقال: أو تدري ما قدر؟ قال: لا قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء. ثم قال: إن اللّه إذا شاء شيئا أراده، و إذا أراده قدّره، و إذا قدّره قضاه، و إذا قضاه أمضاه... الخ»(5).

و رواية حريز و ابن مسكان عن الصادق عليه السّلام أنه قال:

«لا يكون شيء في الأرض و لا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة و إرادة و قدر و قضاء و إذن و كتاب و أجل، فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر»(6).

و رواية ذكريا بن عمران عن موسى بن جعفر عليه السّلام قال:

«لا يكون شيء في السماوات و لا في الأرض إلاّ بسبع: بقضاء و قدر و إرادة و مشيئة و كتاب و اجل و أذن، فمن زعم غير هذا فقد

ص: 213


1- بحار الأنوار 36/5.
2- بحار الأنوار 41/5.
3- أصول الكافي 148/1.
4- البحار 121/5.
5- البحار 122/5.
6- أصول الكافي 149/1.

كذب على اللّه أو ردّ على اللّه عزّ و جلّ»(1).

تعقيب و تحصيل

قد تحصّل من هذه الروايات و غيرها المستفيضة(2) أن أسباب فعله تعالى هي المشيئة و الإرادة و القدر و القضاء بالترتيب المذكور من تقدم المشيئة على الإرادة المتقدّمة على القدر السابق على قضائه، على عكس ما اشتهر بين الناس من تقدّم القضاء على القدر، و هذا الترتيب مستفاد من صراحة بعض الروايات و ظهور بعضها الآخر، و أمّا ما في بعضها من خلافه فهو محمول على مجرّد بيان الأمور المذكورة و عدم النظارة إلى حيثية الترتيب كما لا يخفى، و مثله ما في بعض أدعية شهر رمضان من قولهم عليهم السّلام: تقضي و تقدّر.

و أمّا الإذن و الأجل و الكتاب المزبورة في الروايتين الاخيرتين فيمكن أن يحمل الأول منها - و هو الإذن - على قدرته أو علمه أو إمضائه، فعلى الأولين يرجع إلى ذاته، و على الثالث فهو فعله أي إرادته بالمعنى المتقدّم.

و أما الأجل فهو داخل في القدر و تخصيصه بالذكر لعلّه للاهتمام. و أمّا الكتاب فلعلّ المراد به كتابة الأشياء في اللوح المحفوظ كما نطق به القرآن قبل السنة على ما يأتي إن شاء اللّه فلا شيء سبب لفعله تعالى وراء هذه الأمور الأربعة.

ثم إنه لا شك - حسب دلالة هذه الروايات - أن المشيئة و الإرادة اللتين هما من أسباب فعله تعالى غير الإرادة المتقدّمة في الفريدة الأولى التي هي نفس إيجاده و إحداثه، فإنها بعد القضاء و التي وقعت في سلسلة أسباب الفعل تتقدّم على الإمضاء الذي هو إيجاده بمراتب كما عرفت.

و هذا فليكن مفروغا عنه مقطوعا به، بلحاظ هذه الروايات و من هنا ينقدح أن لإرادته تعالى معنين: أحدهما الإيجاد، و الثاني ما ستعرفه هنا.

إذا تقرّر ذلك فنقول: الظاهر أن المشيئة بمعنى ذكر أصل إيجاد الشيء في علمه تعالى فقط أو في اللوح المحفوظ أيضا كما هو الأظهر المدلول عليه بقوله عليه السّلام: «الذكر الاول» و الإرادة هو تثبيته و تقريره و تتميمه في علمه أو في اللوح أيضا، فنسبة الإرادة إلى المشيئة في اللوح نسبة المؤكد - بالكسر - إلى المؤكّد بالفتح، و ان شئت فقل: إن المشيئة تشبه التصوّر في حقّنا، و الإرادة الشوق فينا من وجه، و إن كان التشبيه غير كامل.

و أمّا القدر فهو بمعناه اللغوي و هذا بمنزلة التصديق بالنفع فينا، و عليه فسببيته لأفعاله

ص: 214


1- المصدر نفسه.
2- أسانيد أكثرها ضعيفة، و بحث المتن مبنيّ على فرض الاطمينان بصدور بعضها، كما هو غير بعيد.

تعالى عقلية لا تعبّدية محضة؛ إذ الفاعل المختار ما لم يتصوّر الشيء بحدوده لا يطلبه لعدم ترتّب غرضه عليه بعد كما لا يخفى.

و أمّا ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) من تفسير القضاء و القدر بالأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، و التمكين من فعل الحسنة و ترك المعصية، و المعونة على القربة إليه و الخذلان لمن عصاه، و الوعد و الوعيد، و الترغيب و الترهيب، و أن كل ذلك قضاء اللّه في أفعالنا و قدره بأعمالنا... الخ فهو لا ينافي ما ذكرنا؛ لأن مصداق القدر في الأفعال الاختيارية للمكلفين من وجهتها التشريعية ليس الا ذلك، فكأن الامام عليه السّلام لم يكن في مقام بيان تقدير الأفعال بما هي تكوينية بل بما هي متعلّقة للتكليف، كما يظهر من ملاحظة صدر الرواية، و لا شك أن جميع ما ذكره عليه السّلام قدر و قضاء.

و بالجملة حمل الأمر و النهي و غيرهما - في هذه الرواية - على القضاء ليس من الحمل الذاتي و الحصر المفهومي، بل من الحمل الشائع الصناعي.

و أمّا القضاء فهو الحكم البتي المستتبع للإمضاء غالبا، فهو بمنزلة القصد فينا، و إنما قلنا غالبا للجمع بين هذه الروايات و نحوها و بين ما دلّ على أن الدعاء - و كذا غيره - يرد القضاء.

و الخلاصة: أنّه يكتب في اللوح المحفوظ أولا أن الشيء الفلاني يوجد، ثم يكتب توكيده و اتمامه، فكأن الأول مقتض لوجود الشيء و الثاني شرطه، ثم يكتب حدوده من خواصه و أوله و آخره و غيرها من تشخصاته، ثم يكتب الحكم البتي على إيجاده، فالأول هو المشيئة، و الثاني هو الإرادة، و الثالث هو القدر، و الرابع هو القضاء، و الخامس اعني - الايجاد و الامضاء - هو الإرادة المبحوث عنها في الفريدة الأولى.

قال الاديب الطريحي في مجمع البحرين في كلمة المشيئة: قال بعض أفاضل العلماء:

المشيئة و الإرادة و القدر و القضاء كلّها بمعنى النقش في اللوح المحفوظ، و هي من صفات الفعل لا الذات... الخ.

و سيأتي مزيد تصحيحه أيضا. ثم إن إتقان هذه الفريدة و إيضاحها موقوف على البحث عن مسائل مهمّة أخرى لا يمكن إهمالها، فنقول و باللّه الاعتصام:

المسألة الأولى: في اللوح
اشارة

المستفاد من الكتاب و السنة أن اللّه - في عالم الكون - كتابا ذكر فيه جميع الأشياء بتفاصيلها، و قد اشتهر اسمه - على حدّ تفسير القرآن المجيد - باللوح المحفوظ، و إليك نبذة من

ص: 215


1- بحار الأنوار 96/5، 126.

الآيات الكريمة في هذا الشأن:

1 - وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ كِتٰاباً(1).

2 - وَ مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (2).

3 - أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتٰابٍ (3).

4 - لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (4).

5 - وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا كُلٌّ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ (5).

6 - بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ(6).

و الآيات في ذلك كثيرة جدا. و تصوّر هذا الكتاب في عصر الكامبيوتر أصبح سهلا.

فثبت أن هذا اللوح قد ذكر فيه جميع الأشياء لمصالح هو سبحانه أعلم بها منّا.

و الروايات الواردة حول الموضوع من طريقنا و طريق العامّة أيضا كثيرة، ربما يبلغ عددها العشرين كما نقلها العلاّمة المجلسي قدّس سرّه في كتاب السماء و العالم من بحار الأنوار، و إليك بعضها و هو ما رواه علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: «أوّل ما خلق اللّه القلم فقال له: اكتب. فكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة». و في صحيح البخاري قال النبي صلّى اللّه عليه و اله:

«كان اللّه و لم يكن شيء غيره و كان عرشه على الماء و كتب في الذكر كلّ شيء».

تتمّة

قال المجلسي قدّس سرّه: ثم اعلم أن لآيات و الأخبار تدلّ على أن اللّه خلق لو حين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات، احدهما: اللوح المحفوظ الذي لا تغير فيه أصلا و هو مطابق لعلمه تعالى، و الآخر: لوح المحو و الإثبات فيثبت فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة... الخ(7).

ص: 216


1- النبأ 29/78.
2- النمل 75/26.
3- الحج 70/22.
4- سبأ 3/34.
5- هود 6/11.
6- البروج 21/85، 22.
7- البحار 136/2، كتاب بدء الخلق، في آخر رواية حصين بن عمران.

أقول: قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ (1) يدلّ على اللوحين المذكورين، فإنّ اللوح المحفوظ قد كتب فيه كلّ شيء فلا يغيب عنه ذكر شيء كما مر، فهذا المحو و الإثبات لا بدّ ان يكونا في لوح آخر، ففي صحيحة حفص ابن البختري و هشام بن سالم و غيرهما عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال في هذه الآية يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ قال: «فقال:

و هل يمحي إلاّ ما كان ثابتا، و هل يثبت إلاّ ما لم يكن؟»(2)، فهذه الصحيحة دالة على تغيار اللوحين، فإن المحو بعد الإثبات و الإثبات بعد المحو لا يكونان في اللوح المحفوظ لما عرفت من ضبط كلّ شيء فيه بوجهه الكامل من الأول، فلا موضوع للتغير و التبدّل، فتحصّل أن الإثبات و المحو في لوح، و أم الكتاب لوح آخر، و هو اللوح المحفوظ. و مثل هذه الصحيحة رواية الأرمني عن العسكري عليه السّلام(3)، و مرسلة العياشي عن جميل عن الصادق عليه السّلام(4).

و ممّا يدل على وجود اللوحين مرسلة عمار بن موسى كما رواه العياشي عن الصادق عليه السّلام، سأل عن قول اللّه: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ... الخ قال: «إن ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه ما يشاء و يثبت، فمن ذلك الذي يرد الدّعاء القضاء، و ذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يرد به القضاء، حتى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئا»(5)، فهذا ما أحرزنا دلالته على وجود اللوحين فما ذكره المجلسي قدّس سرّه من دلالة الآيات و الاخبار عليه: منظور فيه. فانا لم نجد من الكتاب و السنة غير ما ذكرنا.

تنبيه

اللوح عند الفلاسفة هو العقل المفارق كما تقدّم في كلام المحقّق الطوسي قدّس سرّه. و عرّفه في الأسفار و غيره بالنفس الكلّية الفلكية. قال بعض أفاضلهم(6): ان كنّا بحثنا عن اللوح من جهة العقل، فالبرهان يثبت في الوجود أمرا نسبته إلى الحوادث الكونية نسبة الكتاب إلى ما فيه من المكتوب، و من البديهي أن لوحا جسمانيا لا يسع كتابة ما يستقبل نفسه و اجزائه من الحالات و القصص في أزمنة غير متناهية و إن كبر ما كبر، فضلا عن شرح حال كلّ شيء في الأبد الغير المتناهي؛ و إن كنّا بحثنا من جهة النقل فالأخبار نفسها تؤول اللوح و القلم إلى إلى ملكين من

ص: 217


1- الرعد 39/13.
2- أصول الكافي 146/1.
3- البحار 115/4.
4- المصدر نفسه/ 118.
5- البحار 121/4.
6- البحار 131/4، الحاشية.

ملائكة اللّه... الخ.

و قال الصدوق في اعتقاداته: اعتقادنا في اللوح و القلم أنهما ملكان انتهى.

و يظهر من المجلسي في السماء و العالم من كتاب بحاره الميل إليه و قال: إذ يمكن كونهما ملكين، و مع ذلك يكون أحدهما آلة النقش و الآخر منقوشا فيه.

أقول: و مستندهما في ذلك روايتان(1): الأولى ما عن سفيان الثوري عن الصادق عليه السّلام قال فيه: «فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك... الخ».

الثانية: رواية إبراهيم الكرخي قال: «سألت جعفر بن محمد عليهما السّلام عن اللوح و القلم فقال:

هما ملكان»(2).

أقول: و لكنهما ضعيفان من حيث السند فلا اعتداد بهما، و لعلّه لأجل هذا قال شيخنا المفيد(3): و أمّا من ذهب إلى أن اللوح و القلم ملكان فقد أبعد بذلك و أنى به عن الحقّ؛ اذ الملائكة عليهم السّلام لا تسمّى ألواحا و لا أقلاما و لا يعرف في اللغة اسم ملك و لا بشر لوح و لا قلم.

انتهى.

أقول: و الانصاف أن حقيقة اللوح و القلم غير ثابتة شرعا، فلا ينبغي البناء على طرف دون طرف، و إنّما الثابت شرعا أصل وجودهما، فإنّ الخبرين المتقدّمين مع ضعف سنديهما لا يخلو ان عن المعارض أيضا، فلاحظ تفسير البرهان فالصحيح التوقف.

قال بعض العامّة(4): اللوح المحفوظ عند جمهور أهل الشرع جسم فوق السماء السابعة كتب فيه ما كان و ما سيكون إلى يوم القيامة كما يكتب في الالواح المعهودة، و ليس هذا بمستحيل؛ لأن الكائنات عندنا متناهية، فلا يلزم عدم تناهي اللوح المذكور في المقدار. و أمّا عند الفلاسفة فهو النفس الكلّي للفلك الأعظم يرتسم فيه الكائنات ارتسام المعلوم في العالم.

انتهى.

أقول: ما نسبه إلى الجمهور فتوى لابد له من الدليل، و أما ما ذكره من نفي الاستحالة فهو مزيّف بأن الكائنات متناهية عندنا من طرف أوّل، و أما من طرف آخر فهي غير متناهية بالضرورة الإسلامية القائمة على خلود المكلّفين في الجنة و النار.

نعم ما ذكره الحكماء أيضا دعوى بلا دليل، و لا سيما بعد ظهور بطلان الأفلاك الموهومة

ص: 218


1- البحر 76/14.
2- البحار 76/14.
3- شرح عقائد الصدوق/ 29.
4- شرح المواقف 77/3، الحاشية.

المذكورة في هذه الأعصار.

فإذا علمت اللوح و ما فيه فقد هان عليك تصديق ما ذكرنا من أن الأسباب الأربعة المذكورة إنّما هي بكتابتها في اللوح دون مجرّد تقرّرها في العلم القديم، كما يشهد له عد العلم في قبال الأمور المذكورة في رواية المعلى، و هذا هو مختار العلاّمة الحلي قدّس سرّه في شرح التجريد.

و بالجملة هذا و ان لم يكن بجزمي من ملاحظة الروايات المتقدّمة بنفسها غير رواية المعلى، إلاّ أنه ممّا يقتضيه الاعتبار العقلي الناشئ من تلك الروايات و غيرها، و يمكن ان يستشهد له بصحيحة عبد اللّه بن سنان(1) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سمعته يقول: ان القضاء و القدر خلقان من خلق اللّه، و اللّه يزيد في الخلق ما يشاء»؛ إذ لا معنى لكونهما مخلوقين إلاّ كونهما مكتوبين؛ اذ تقرّر حدود الأشياء في العلم و الحكم عليها لا يسمّى مخلوقا، فهذه الرواية كقوله تعالى: يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ (2).

و أمّا ما احتمله المجلسي رحمه اللّه من ضمّ حرف الخاء - أي صفتان من صفات اللّه - فهو مرجوح، لقوله عليه السّلام: «و اللّه يزيد في الخلق ما يشاء» فإنه بمنزلة كبرى منطبقة على قوله:

«خلقان»، و من الظاهر ان صفاته غير مخلوقة و لا قابلة للزيادة و النقصان.

ثم إن المجلسي قد نقل هذه الرواية عن التوحيد عن عبد اللّه بن سلمان لا ابن سنان كما في النسخة الموجودة عندي من التوحيد، و رواه أيضا عن تفسير القمي عن حمران عن الصادق عليه السّلام، و عن البصائر عن جميل عنه عليه السّلام فلاحظ(3) فتدبر و اللّه العالم.

المسألة الثانية: في فرق المشيئة و الإرادة و فيها أقوال:

1 - إنه لا بدّ من تحقّق معنى في نفس الفاعل المختار منا بعد العلم و قبل الفعل، و هذا المعنى من حيث ارتباطه بالفاعل يسمى مشيئة، و من حيث ارتباطه بالفعل يسمّى إرادة، ذكره بعض سادة العصر(4).

2 - الفرق بين لمشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية و التقدّم و المقارنة، و كذا الفرق بين القضاء و القدر على المشهور، و أما في الأخبار فالقضاء بمعنى الحكم و الإيجاب، فيأخّر عن القدر.

ص: 219


1- توحيد الصدوق، الباب 59.
2- الرعد 39/13.
3- البحار 120/5 و 112.
4- أصول الكافي 150/1، الحاشية.

ذكره المحدث الفيض(1) و المحقّق صاحب الفصول في مبحث نفي الجبر و التفويض من كتابه.

3 - المشيئة قصد الفعل أو تركه على نحو كان نسبتها متساوية، و الإرادة تعلّقه بالفعل أو الترك بخصوصه، قال به بعضهم(2) و ذكر أنّ هذا الفرق مأخوذ ممّا روي عن الرضا عليه السّلام.

4 - ما قيل(3) من أنه لا فرق بينهما إلاّ عند الكرامية، حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزلية يتناول ما شاء اللّه بها من أحداث محدث، و الإرادة حادثة محدثة متعدّدة تعدّد المرادات.

5 - لا فرق بينهما في العبد، و أمّا في حق القديم فالمشيئة بمعنى التقدير، نقل عن جماعة من القدماء.

أقول: للإرادة و المشيئة - كما عرفت منا - معنيان: الإيجاد و الإحداث و النقش في اللوح، و إن كان نفس هذا النقش أيضا إحداثا لكنه ليس إحداثا لوجود الشيء خارجا.

أما المعنى الاول فالظاهر المطابق لمدلول الروايات الأولى اتحادهما فيه، فهما مترادفان و يدلّ عليه الاستعمالات القرآنية أيضا، و يشهد له ما عن الرضا عليه السّلام، و اعلم أن الإبداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة كما مر.

و أمّا المعنى الثاني فالروايات الثانية ناصّة على اختلافهما فيه كما عرفت، و ذكرنا أن نسبة الإرادة إلى المشيئة نسبة المؤكد إلى المؤكّد بالفتح، و نسبة الشرط إلى المقتضى.

و بالجملة المشيئة ذكر وجو الشيء في اللوح، و الإرادة ذكر تأكيده و العزيمة عليه، فالأقوال الخمسة كلها لا ترجع إلى أساس صحيح.

فإن الأول إن تمّ لتمّ في حقنا دون الباري.

و الثاني ضعيف جدا؛ إذ المشيئة و الإرادة كلتاهما متساويتان من حيث الجزئية و الكلية و التقدم على الفعل كما عرفت. و الظاهر أن هذين العلمين لم يلتفتا إلى تعدّد معنى الإرادة فحسبا أنها بمعنى الإيجاد مطلقا، و هذا الاستظهار من عبارة الفصول أقوى.

و أما الثالث فهو شيء عجيب فإنه أطلق المشيئة على التردّد و لا شكّ في بطلانه، و أعجب منه إسناد قوله إلى الرواية، فإنّك قد لاحظت الروايات على ما مرّ، و لا يوجد فيها إشعار به.

و أمّا الرابع فلما دللنا على بطلان قدم المشيئة مع أن الفرق المذكور دعوى بلا شاهد و مثله القول الخامس، فلا تطلب الحقيقة إلاّ من أهلها.

ص: 220


1- الوافي 114/1.
2- شمع اليقين/ 16.
3- كما نقله في الشوارق 259/2.
المسألة الثالثة: في الكراهة و الاختيار

الكراهة بمعنى عدم الإيجاد أو بمعنى عدم النقش، و ربما تأتي بمعنى منع الإلطاف و إيجاد المانع أيضا، و لعلّ قوله تعالى: وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ (1) بالمعنى الثالث، و أمّا على المشهور فالكراهة بمعنى العلم بعدم المصلحة.

و أمّا الفرق بين الإرادة و الاختيار فهو أن الاختيار إيثار لأحد الطرفين و ميل إليه، أو التمكّن منه. و الإرادة هي القصد إلى اصدار ما يؤثره و يميل إليه، فكأنّ المختار ينظر إلى الطرفين و يميل إلى أحدهما، و المريد ينظر إلى الطرف الذي يميل اليه، هذا في الشاهد. و أما في الباري تعالى فيشبه أن يكون كلاهما واحدا كما في الشوارق و غيرها.

و لكن على طريقتنا الحقّة الإرادة هي الإيجاد و الإفاضة، و الاختيار هو التمكّن من الفعل و الترك، فالفرق بينهما ظاهر جدا. و للاختيار معنى آخر و هو الترجيح، و هذا عين الإيجاد الذي هو معنى الإرادة، فلا تغفل.

و سيأتي أن بعض أصحاب الحكمة قد خلطوا بين المعنيين و اشتبه عليهم الاختيار بمعنى له ان يفعل و له ان لا يفعل، و الاختيار بمعنى الترجيح.

المسألة الرابعة: في الإرادة التكوينية و التشريعية

قسّموا الإرادة إلى: التكوينية و التشريعية، فالأولى هو علمه بالنظام الأصلح، و الثانية علمه بالمصلحة في فعل المكلف، و تخلّف المراد عن الأولى غير معقول ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن العلّة، و أمّا تخلّفه عن الثانية فلا، بل هو واقع كما في الآثام و المعاصي و الفسوق.

و لسيدنا الأستاذ المحقق الحكيم - دام ظله العالي - كلام يوضّح المقام إيضاحا تامّا، و إليك شطر منه:

«فالإرادة التشريعية هي إرادة الشيء بلحاظ وجوده من حيث التشريع و تقابلها الإرادة التكوينية و هي المتعلقة بالفعل من جميع جهات وجوده و منه يظهر ان امتناع تخلف المراد عن الإرادة انما هو في المراد بالإرادة التكوينية لا التشريعية، اذ الثانية لم تتعلق بالمراد من جميع جهات وجوده و انما تعلقت به من جهة تشريع حكمه... نعم لو لم يحفظ وجود المراد من قبل التشريع يلزم تخلّف المراد عن الإرادة لكن المفروض حفظه كذلك بتحقق التشريع انتهي. و قال ايضا: ان الإرادة التكوينية و التشريعية من سنخ واحد و انما الاختلاف في كيفية

ص: 221


1- التوبة 46/9.

التعلق بالمراد... الخ»(1).

و أما سيدنا الأستاذ المحقّق الخوئي - أدام اللّه ظله - فقد أبطل هذا التقسيم بإبطال الإرادة التشريعية؛ اذ لا يعقل تعلّق إرادته تعالى بفعل الغير الاختياري إلاّ على سبيل الجبر، فالفعل فعله تعالى لا فعل الغير، نعم لا مضايقة من هذه التسمية بلحاظ كون متعلق الإرادة أمرا شرعيا، ففي الحقيقة الإرادة تكوينية أبدا غير أن متعلّقها تارة من التكوينيات و أخرى من الشرعيات.

أقول: و يمكن أن نتخلّص من هذا الاعتراض بما ذكره بعض الأفاضل بقوله: للمشيئة و الإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينية الحقيقية و الإرادة التشريعية الاعتبارية، فإن إرادة الانسان التي تتعلّق بفعل نفسه حقيقية تكوينية، تؤثّر في الاعضاء للانبعاث إلى الفعل و يستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع، و أما الإرادة التي تتعلّق منا بفعل الغير - كما اذا أمرنا بشيء أو نهينا عن شيء - فإنّها إرادة بحسب الوضع و الاعتبار، لا تتعلّق بفعل الغير تكوينا... الخ(2).

فالشوق و إن يتعلّق بالملائم بشكل واحد، سواء كان الملائم المذكور فعل نفسه او غيره، إلاّ أن الإرادة و هي القصد لا تتعلّق إلاّ بأمره و نهيه لا بفعل الغير الا بحسب الاعتبار، و لعلّ هذا هو مراد الجميع فلا اختلاف في المقام؛ اذ مركز النفي غير مركز الاثبات فافهم.

و منه يظهر جواز تخلّف المراد عن إرادته التشريعية دون التكوينية، فإن عمل المكلّف مراد بالاعتبار لا واقعا، و الذي يكون مرادا واقع هو التشريع، و تخلّفه عنها محال، فإنها بالنسبة إليه تكوينية.

لكن يشكل بأنّ إرادة اللّه - التي هي نفس الإيجادبلا يعقل تعلّقها بالتشريع الذي ليس الا اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فإنّه اعتباري صرف، فكيف يصحّ أن يتعلّق الإيجاد بشيء غير موجود؟

هذا، و يمكن أن يقال: إن الإرادة بمعنى الايجاد لا تقسم بهذا التقسيم، و إنما الإرادة بمعنى النقش في اللوح هي التي تنقسم إليهما، فإن المنقوش إن كان أمرا تكوينيا فهي الإرادة التكوينية، و إن كان حكما شرعيا فهي الإرادة التشريعية، فتدبّر في المقام و اللّه ولي الإفضال.

المسألة الخامسة: في القدر

قال في مجمع البحرين: فالقدر - بالفتح فالسكون - ما يقدره اللّه من القضاء، و بالفتح ما

ص: 222


1- حقائق الأصول 152/1.
2- أصول الكافي 151/1، الحاشية.

صدر مقدورا عن فعل القادر... الخ(1).

و في مختار الصحاح: قدر الشيء مبلغه.

قلت: و هو بسكون الدال و فتحها، ذكره في التهذيب و المجمل، و قدر اللّه و قدره بمعنى، و هو في الاصل مصدر... و القدر أيضا ما يقدره اللّه من القضاء. إذا تقرّر ذلك فالكلام يقع فيه من جهات:

الأولى: في عموم تعلّقه بكلّي شيء، و هذا ممّا لا يحتاج إلى دليل؛ اذ كلّ شيء لا بد له من حدّ خاصّ من جميع الجهات بلا شك، و قد مرّ أن كلّ شيء - بجميع حالاته و أوصافه - ثابت في علم اللّه و مذكور في اللوح.

و لا نعنى بالقدر إلاّ تحديد الشيء من جميع جوانبه، فقد ثبت أن كلّ شيء بقدر اللّه سبحانه، و لعلّه المؤمى إليه بقوله تعالى: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ(2)، و قوله تعالى: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدٰارٍ(3). و أما ما في تفسير الرازي من احتمال كون القدر في الآية الأولى بمعنى التقدير أو المقدار أو القدر المقابل للقضاء فمن الفضول؛ إذ المقدار و التقدير عين معنى القدر الذي هو مقابل للقضاء كما عرفت، و هو المدلول عليه لبعض الروايات أيضاو(4)

الثانية: في أن النهي الوارد عن الكلام في القدر(5) لا يشمل شرح مفهومه و بيان مدلوله كما فعلنا، بل الظاهر أنه راجع إلى السؤال عن علّة تقديره تعالى و أنّه لم قدّر كذلك؟ و ما قدر كذا؟ فإن عقول الناس لا تصل إلى علل الأشياء أبدا. فوزانه وزان قوله تعالى: لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ (6) و هذا الذي استظهرنا هو أحد احتمالي كلام شيخنا المفيد قدّس سرّه(7) في هذه المسألة.

الثالثة: في أنه ذمّت القدرية في أخبارنا اشدّ الذمّ، و أن قوله تعالى: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ(8) نزل في حقهم. و ورد أيضا التحريض على الإيمان بالقدر و عدم التكذيب به(9).

و قال الرازي عند تفسير هذه الآية: أكثر المفسرين اتّفقوا على أنّها نازلة في القدرية...

ص: 223


1- و قد تسكّن داله، و منه: ليلة القدر كما قال.
2- القمر 49/54.
3- الرعد 8/13.
4- البحار 93/5 و 95 و 114 و غيرها.
5- البحار 97/5 و 110 و 126.
6- الأنبياء 23/21.
7- شرح عقائد الصدوق/ 20.
8- القمر 48/54 و 49.
9- و هذه الروايات منتشرة في أوائل الجزء الخامس من البحار.

و كثرت الأحاديث في القدرية.

و عن شارح المقاصد: لا خلاف في ذم القدرية، و قد ورد في صحاح الاحاديث لعن اللّه القدرية على لسان سبعين نبيا... الخ.

فالمسألة متسالم عليها، إلاّ أن الكلام في تشخيصهم، فإن كلاّ من المعتزلة و الأشاعرة ادّعى صاحبتهم مصداقا للروايات، غير أن الرازي أراح الفرقتين من هذه المعضلة فقال في تفسيره الكبير: و الحقّ أنّ القدري الذي نزل فيه الآية هو الذي ينكر القدر و يقول بأنّ الحوادث كلّها حادثة بالكواكب و اتّصالاتها... الخ. و أمّا القدري في هذه الأمة فجعله الذي ينكر قدرة اللّه إن قلنا: إنّ النسبة للنفي، أو الذي يثبت قدرة غير اللّه على الحوادث إن قلنا: إن لنسبة للإثبات.

و قال أيضا: و الحقّ الصراح أنّ كلّ واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية، و لا يصير واحد منهم قدريا إلاّ إذا صار النافي نافيا للقدرة و المثبت منكرا للتكليف، يعني به الجبري الذي ينفي التكليف لعدم الاختيار في المكلف.

هذا و قال العلامة المجلسي قدّس سرّه(1): إنّ لفظ القدري يطلق في أخبارنا على الجبري و على التفويضي... الخ.

و ما ذكره صحيح فالقدرية كلّ من لم يستقم في قدرة اللّه و قدره سواء كان في جانب التفريط كالمفوضة، أو في طرف الإفاط كأتباع الجهم و مقلّدي الأشعري.

فإن قلت: القدري إذا كان لفظه من القدرة فهو يشمل الطائفتين المتقدّمتين، فإن إحداهما تقول: بكفاية قدرة العبد في أفعاله و عدم إحتيجه فيها إلى اللّه تعالى، و ثانيتهما تقول بتأثير قدرة اللّه وحده و عدم استناد أفعال العباد إلى قدرتهم و إرادتهم.

و أما إذا قلنا بأن لفظ القدري من القدر و التقدير الذي هو مع القضاء كما هو الظاهر فلا يرتبط بهاتين الطائفتين، فإنهما لا ينكران تحديد الأشياء في اللوح و لا أن الجبر و التفويض يستلزمان ذلك، كيف و ذكر التقدير لا يزيد على علمه بالتقدير؟ فكما أن الثاني لا ينافيهما فكذا الأول.

قلت يمكن أن يقال: إن القدر و القدرة متلازمان في الإنكار و الإفراط، فإن هؤلاء يزعمون أن لقدر اللّه تأثيرا، فإذا قالوا: إن أفعالنا ليست بقدرة اللّه بل بقدرتنا، فمعناه أنّهم ينكرون تعلّق قدره بها أيضا، و هكذا إذا قيل: إن كلّ شيء حتى أفعال الإنسان واقع بقدرة اللّه تعالى، فلا بدّ لقائله أن يقول: إن كلّ شيء حتى فعل العبد واقع بقدره تعالى لا باختيار العبد، و هذا هو التعدّي في قدر اللّه تعالى.

ص: 224


1- البحار 5/5.

و هذا الذي ذكرنا يستفاد من مجموع الروايات الواردة في باب نفي الجبر و التفويض و باب القضاء و القدر، و يؤيّد ذلك ما في شرح المواقف(1): و المعتزلة ينكرون القضاء و القدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد، و يثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال و لا يسندون وجودها إلى ذلك العلم، بل إلى اختيار العباد و قدرتهم انتهى.

و سيأتي في مبحث عموم إرادته، و هو مبحث الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين، أن جميع الأشياء واقع وفق تقدير اللّه سبحانه حتى أفعال العباد خلافا للمعتزلة، و مع ذلك العبد مختار في فعله خلافا للاشعرية، فالقدر و القضاء لا ينافيان الاختيار كما زعموه، و هذا هو الأمر بين الأمرين الذي ثبت من آل محمد - صلّى اللّه عليه و عليهم - و قالت به الإمامية.

و الحاصل: أن الجبري يسند جميع القبائح و الآثام إلى قدر اللّه فهو قدري، و التفويضي يسند أفعاله إلى نفسه و ينكر قدره فيها، فهو قدري فتشملهم الروايات، فتأمّل.

المسألة السادسة: في القضاء
اشارة

قال الصدوق رحمه اللّه(2): و سمعت بعض أهل العلم يقول: القضاء على عشرة أوجه: الاول العلم... و الثاني: الاعلام... و الثالث: الحكم... و الرابع: القول... الخامس: الحتم. و السادس الأمر... السابع: الخلق... الثامن: الفعل... التاسع: الاتمام... العاشر: الفراغ... الحادي عشر: القتل كما في مجمع البحرين.

أقول: الظاهر أن هذه المذكورات ليست بمعان موضوع لها اللفظ بالاشتراك اللفظي، بل بعضها داخل في البعض، فذكرها من باب اشتباه المفهوم بالمصداق و بعضها غير ثابت في نفسه، و للفقهاء فيه إصطلاح آخر و هو إتيان العمل المؤقت خارج وقته، و لا يبعد أن يكون معناه الحكم الفصل تكوينيا كان أو اعتباريا، و بهذا المفهوم الفارد يستعمل في المعاني المذكورة، و قد عرفت أن معنى القضاء الذي هو من أسباب الفعل هو كتابة الحكم البتي - ولو من غير جهة الدعاء و الصدقة و نحوهما - في اللوح.

و يدلّ على عمومه ما مرّ و رواية حمزة بن محمد الطيار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام(3) قال:

«ما من قبض و لا بسط إلاّ و للّه فيه مشئية و قضا، ن ابتلاء»، و روايته الأخر عنه عليه السّلام قال:

«إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط ممّا أمر اللّه به أو نهى عنه إلاّ و فيه للّه عزّ و جلّ ابتلاء و قضاء»، و ما في

ص: 225


1- شرح المواقف 145/3.
2- توحيد الصدوق، الباب 59.
3- أصول الكافي 152/1.

آخر رواية أبان المذكورة في التوحيد و غيره(1) من قول الصادق عليه السّلام:

«و ان كان كلّ شيء بقضاء اللّه و قدره فالحزن لماذا؟»، و المتتبّع يجد أكثر من ذلك، و الأمر سهل.

نكتة

روى الصدوق بإسناده عن ابن نباتة(2) قال: إن أمير المؤمنين عليه السّلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء اللّه؟ قال: أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عز و جل انتهى.

و يشكل أولا: بأن وقوع الحائط عليه السّلام لم يحرزه السائل أنه من قضاء اللّه، فهو منه تخرّص، بل قضاء اللّه تشريعا هو فراره من عنده، و قد أقرّه الإمام على سؤاله.

و ثانيا: إن قضاء اللّه فرع قدره و مترتّب عليه و القدر أصل له، فلا مخالفة بينهما حتى يفرّ من أحدهما إلى الآخر. و يمكن أن يقال: إنّ مقصوده عليه السّلام أن اللّه كما قضى على الحائط السقوط قدر عمري باقيا بعد ذلك، و بالجملة كما ان السقوط - بعد تقريره - مقضى فكذا بقاء حياتي - قبل قضائه - مقدر، فافر من قضاء اللّه المتعلق بسقوط الحائط إلى قدر اللّه المتعلق بحياتي فتأمل.

تنبيه: بقي هنا شيء و هو ما اتّفقوا عليه من لزوم الرضا بالقضاء.

أقول: الكلام تارة في أصل تصوير الرضا بالقضاء، و أخرى في لزومه، و البحث عن هذه المسألة و إن كان مربوطا بالمقام، غير أنّا ذكرناه في مسائل الجبر و التفويض، فسيمر تفصيله عليك هناك إن شاء اللّه.

دقيقة

الروايات الواردة في ترغيب المكلّفين إلى الرضا بكثرتها مختصة بالقضاء دون القدر. نعم في الدعاء الذي قرأ ليلة الجمعة قبل فجره: «و الرضا بقضائك و قدرك».

و اما الروايات الواردة في الإيمان و عدم التكذيب فهي مخصوصة بالقدر، فاللازم هو الإيمان بالقدر و عدم التكذيب به، و الرضا بالقضاء.

أقول: و الوجه في ذلك - على ما اظن - أن الفعل الخارجي هو الذي يعتريه السخط و الرضا و قد مرّ أن القضاء هو الحكم الفصل و هو آخر مقدمات فعله تعالى، بحيث إن الفعل يصدر عنه؛ فلذا أمر الائمة عليهم السّلام بالرضا بمناشئ الفعل الأخير المستتبع له، و بما أن القضاء تابع للقدر و أن

ص: 226


1- توحيد الصدوق، الباب 59.
2- توحيد الصدوق، الباب 59.

الأصل في أفعاله هو تقديره و تدبيره، أمروا بالإيمان به، و بما أن المصالح و المفاسد الواقعية غير معلومة للإنسان، منعوا عن الخوض فيه، و اللّه العالم.

خاتمة حول آراء الناس في القدر و القضاء

مسألة القدر و القضاء ممّا جاءت به جميع الأديان و ليست من خصائص الاسلام كما قيل، و هي من المسائل التي توجّه المسلمون إليها في الصدر الأول، كما يظهر من الآثار، ثم اتّسعت دائرتها باتّساع الآراء و الأنظار حتى أصبحت عند الناس من المعضلات التي لا تنحل، و الحال أن الأمر ليس كذلك كما عرفته من أئمة اهل البيت - سلام اللّه عليهم أجمعين - لكن للباحثين فيها أقوال، و اليك نبذة منها:

قال خاتم الفلاسفة في كتابه الأسفار: و أمّا القضاء فهي عندهم - أي المشائيين - عبارة عن وجود الصور العقلية لجميع الموجودات فائضة عنه تعالى على سبيل الابداع دفعة بلا زمان؛ لكونها عندهم من جملة العالم و من أفعال اللّه المبائنة ذواتها لذاته، و عندنا صور علمية لازمة لذاته بلا جعل و تأثير و تأثر، و ليست من أجزاء العالم؛ اذ ليست لها حيثية عدمية و لا إمكانات واقعية، فالقضاء الربانية - و هي صور علم اللّه - قديمة بالذات باقية ببقاء اللّه كما مرّ بيانه. و أمّا القدر فهو عبارة عن وجود صور الموجودات في عالم النفسي السماوي على الوجه الجزئي، مطابقة لما في موادّها الخرجية الشخصية، مستندة إلى أسبابها و عللها، واجبة بها، لازمة لأوقاتها المعيّنة و أمكنتها المخصوصة. انتهى.

قال الفياض اللاهجي(1): و لفظا القضاء و القدر ربّما يطلقان بحسب العلم، و ربّما بحسب الوجود، فإذا أطلقا في العلم كان المراد من القضاء العلم الإجمالي البسيط الذي هو عين الواجب تعالى. و من القدر الصور العلمية المفصّلة؛ و إذا أطلقا في الوجود، كان المراد من القضاء المعلول الأول الذي اشتمل إجمالا على جميع وجودات ما بعده؛ و المراد من القدر أعيان الموجودات الكلية و الجزئية المتحقّقة في الخارج على سبيل التفصيل.

و على كلّ، القدر تفصيل للقضاء، و الأقرب إلى التحقيق هو الاطلاق الثاني، أعني الإطلاق بحسب الوجود؛ اذ من الظاهر ان القضاء و القدر اعتباران للأشياء باعتبار تعلّق فاعلية الواجب بها، و ليس العلم إلاّ اعتبار ظهور الأشياء و انكشافها؛ و لذا إن الشارح المحقّق - يعني به العلامة الطوسي - و الشارح المشكّك - الرازي - كليهما فسّرا لفظ القضاء و القدر في شرح الإشارات بما يطابق الإطلاق الثاني. قال الرازي: و أمّا لفظا القضاء و القدر فنعني بالقضاء معلوله الأول؛ لأنّ

ص: 227


1- گوهر مراد/ 230، و ما ذكرناه ترجمة كلامه بالفارسية.

القضاء هو الحكم الواحد الذي ترتّب عليه سائر التفاصيل و المعلول الاول كذلك. و أمّا القدر فهو سائر المعلولات الصادرة عنه طولا و عرضا؛ لانها بالنسبة إلى المعلول تجري مجرى تفصيل الجملة و هو القدر.

و قال المحقق الطوسي: فاعلم أن القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة و مجملة على سبيل الإبداع، و القدر عبارة عن وجودها في موادّها الخارجية بعد حصول شرائطها مفصّلة واحدا بعد واحد، كما جاء في التنزيل: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ...(1).

و قال الرازي في تفسيره عنده قوله تعالى: إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ(2): و قالت الفلاسفة... إنّ ما يقصد إليه فقضاء و ما يلزمه فقدر، فيقولون: خلق النار حارّة بقضاء و هو مقتضي به؛ لأنها ينبغي ان تكون كذلك، لكن من لوازمها أنها إذا تعلّقت بقطن عجوز... تحرقه فهو بقدر لا بقضاء، و هو كلام فاسد، بل القضاء ما في العلم و القدر ما في الإرادة... الخ.

و قال الجرجاني في شرح المواقف(3): و اعلم أنّ قضاء اللّه عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، و قدره إيجاده إيّاها على قدر مخصوص و تقدير معين في ذواتها و أحوالها. و أمّا عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام و أكمل الانتظام، و هو المسمّى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه و أكملها، و القدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرّر في القضاء. انتهى.

إلى غير ذلك من الكلمات و التعابير المختلفة و المتضادة، و هي ظلمات بعضها فوق بعض و لا يكشف بها واقع القضاء و القدر الذي أراده الدين الاسلامي من هذين اللفظين المذكورين، فهذه الاقاويل - لو صحّت في أنفسها - اصطلاحات من أربابها و لا دخل لها بالقدر و القضاء الثابتين شرعا، مع أنها في أنفسها أيضا غير تامّة كما يعرفها المتطلّع على أصولنا الحقة المتقدّمة و الآتية، و اللّه الهادي الملهم.

ص: 228


1- الحجر 21/15.
2- القمر 49/54.
3- شرح المواقف 146/3.
الفريدة الثالثة في حكمته

براهين حكمته تعالى

تفريع و تكميل: في أدلّة النظام الأحسن الفعلي الحاضر

مسألة: في ترجيح أحد المتساويين على الآخر

ص: 229

الفريدة الثالثة في حكمته
اشارة

الحكمة ربّما تفسّر بالعلم بالأشياء على ما هي عليه، و حيث إنّا قد أسلفنا القول في علمه تعالى فلا نبحث عنها بهذا المعنى. و ربّما تفسر بإصدار الأشياء و ابداعها على أكمل ما ينبغي أن يصدر، و هذا المعنى هو المقصود في هذا المبحث. و الانصاف أنه أشرف من أكثر المسائل، و مع ذلك قد تسامح فيه الكلاميون و لم يبحثوا عنه حقّ البحث.

و كيف ما كان، و الذي يدلّ على إثبات حكمته بهذا المعنى و أنه لا يفعل إلاّ ما هو أكمل الوجوه الممكنة و أفضلها، وجوه:

الأول: إنّه تعالى عالم بجميع جهات الفعل المحسنة و المقبحة، و قادر على إيجاده بأيّ وجه شاء، و ليس له حاجة و شهوة بشيء أصلا، فلا مانع و لا رادع له من إتيانه أبدا، فإذا فرض دوران الأمر بين إيجاد شيء عليه وجه أكمل و أسدّ ممكن و إيجاده على وجه كامل فضلا عن ناقص، فلا شكّ في اختياره تعالى الجانب الأول بالضرورة، ألا ترى أنا معاشر العقلاء في مفروض المثال نختار إيجاد الشيء على النحو الأكمل فالأكمل بطبيعة عقولنا و خميرة فطرتنا بلا تردد و توقّف، فما علمك بالواجب المتعالي عن النقصان، المتكامل ذاتا بكل الكمال؟

فإن قلت: فكيف هؤلاء العقلاء الذين يختارون اللذات الآنية و الشهوات الدنية و يؤثرونها على الأنعام الدائمية و الآلاء العظيمة؟ و كيف يرجّحون مقتضى الشهوية و الغضبية على العاقلة؟ و غضب الخالق على رضاه؟

قلت: المختار لهذه الأمور حين اختياره لا محالة يرى أرجحية فعلها من تركها و إلاّ لما فعلها، فالجاني - لضعف عقله و غلبة شهوته أو غضبه - يعتقد في ذلك الحين أن جريمته أرجح من تركها، فيرتكبها و لا دخل لمفسدتها الواقعية في اختياره هذا، و اعتقاده الأرجحية كما لا يخفى، فهذا السؤال غير متوجّه إلى المقام، فإن الإقدام على القبيح إمّا من جهة الجهل أو الغفلة عن حقيقة الحال أو من جهة مزاحمة الداعي، و محل الكلام فرض انتفاء الجميع، و إن شئت فقل: إنّ اختيار الناقص بل الكامل على لأكمل في مفروض المثال ترجيح المرجوح على الراجح، و هو ممتنع عقلا.

ص: 230

الثاني: إن اتقان أكثر أفعاله محرز، و كلّ ما يزداد في رقي العلوم و يتّسع دائرتها يزداد في انكشاف حكمته البالغة المتحققة في الأشياء، و يظهر اتقان المصنوعات و إحكامها على وجه أدق تندهش به العقول و تضطرب الافكار، فيضطر الانسان إلى الاقرار بحكمته و كمال خلقته و تمام فاعليته. فلست ان ترى فِي خَلْقِ اَلرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ فَارْجِعِ اَلْبَصَرَ هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ و البصيرة كرّات يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خٰاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (1)و البصيرة عجزة و هي متحيرة.

و عن هرشل: كلّما اتّسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدافعة القوية على وجود خالق أزلي لا حدّ لقدرته و لا نهاية، فالجيولوجيون - علماء طبقات الأرض - و الرياضيون و الطبيعيون قد تعاونوا و تضامنوا على تشييد صرح العلم، و هو صرح عظمة اللّه وحده. انتهى.

فالناظر لهذه الكائنات المرموزة التي تظهر كلّ يوم عجائبها، بكراتها السامية المنظمة الكثيرة الكبيرة التي تخرج عن سلطان عقولنا، و بموجوداتها الأرضية البرية و البحرية إلى المكروبات الصغر، و إلى حكم أعضاء الإنسان نفسه و إلى... و الى... و إلى ما لا نهاية، يتقّين - يقينا تامّا قويا متأكدا و أشدّ من كلّ يقين - أنّ فاعلها و موجدها خلق جميع أفعاله بإحكام و اتقان كما إذا شاهدنا ماكنة دقيقة و علمنا إحكام جملة من أجزائها و جهلنا اتقان بعضها، فإنّ عقلنا يحكم باتقانه واقعا و لا يجعل جهل دليلا على عدم اتقانه، فهذا الاستقراء و إن كان ناقصا ضرورة عدم إحراز الحكمة في جميع إفعاله غير أن العقل - بقوة الحدس - يذعن بحكمته تعالى مطلقا اذعانا قطعيا قهريا.

هذا، و لكن مقتضى هذه الحجة إثبات محكمية أفعاله و اتقانها و عدم الخلل فيها. و أمّا صدورها عنه على أكمل الوجوه الممكنة كما هو المقصود فلا يثبت بها، فانا لم نحرز المقيس عليه بهذا الوصف، بل لا يمكن للبشر العادي تحصيله، فقد ظهر الفرق بينهما و بين الحجّة الأولى في المفاد.

الثالث: إن إرادته تعالى هو علمه بالنظام الأكمل، فكل أكمل فهو موجود لا محالة ضرورة استحالة تخلّف المعلول عن علّته، فلو تحقّق ما ليس بأكمل و أصلح في الخارج، فقد وجد المعلول بلا علّة و هذا هو الترجّح بلا مرجح.

أقول: و هذا أحسن الأدلة حتى من الوجه الأول فإنّه يبطل إمكان اختيار المقابل للأكمل فضلا عن وقوعه.

لكن يرد عليه: أولا: ما مرّ من إبطال كون العلم إرادة و مؤثرا.

ص: 231


1- الملك 4/67.

و ثانيا: إنّه لا دليل على كون العلم بالأصلح هو الإرادة، بل يمكن أن يكون العلم بالصالح إرادة فلا يثبت المقصود، إلاّ أن يقال: إن ختيار الكامل و ترك الأكمل - مع إمكانه - شر، و هو ممتنع على الواجب، فتأمّل. فإن العلم بالأصلح و أن لم يكن إرادة و مؤثّرا، لكن لا شك في أنّه مرجّح لإرادته و إحداثه، فيتمّ به المطلوب.

الرابع: إن اختيار غير الأكمل مع إمكانه نقص و هو عليه محال، لكنه مزيّف بأن النقص في أفعاله هو عبارة أخرى عن القبح الممتنع عليه من جهة حكمته، فيكون الاستدلال دوريا.

الخامس: دلالة النقل عليه، فقد وصف اللّه نفسه في كتابه بالحكيم وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ قِيلاً(1). و هكذا في السنة.

قال الفاضل الطريحي في مجمع البحرين: المحكم في اللغة المضبوط المتقن. الحكمة العلم الذي يرفع الإنسان عن فعل القبيح مستعار من المحكمة: اللجام، و هي ما أحاط بحنك الدابة، يمنعها الخروج، و الحكمة فهم المعاني سميت حكمة لأنّها مانعة عن الجهل.

ثم قال: و من أسمائه: الحكيم و القاضي، فالحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يحكم الأشياء و يتقنها، فهو فعيل بمعنى مفعل، أو ذو الحكمة و هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم انتهى.

أقول: المقطوع من الكتاب و السنة مثل قوله تعالى: اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (2)و غيره هو حكمته بمعنى اتقان فعله، و أمّا إنّه على أكمل انحائه الممكنة فلا، فهذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني في المفاد.

هذا و لكن المعنى الأول و إن ثبت شرعا لكنّه غير قابل للتعبّد؛ إذ حجّية الشرع موقوفة على امتناع الكذب و القبح عليه تعالى، و هذا الامتناع موقوف على حكمته و عدم الفساد في أفعاله، نعم إذا ثبت عقلا إحكام أفعاله و إنّه لا يفعل القبيح و الفاسد كما في الوجه الثاني - و هو المستفاد من الوجه الأول أيضا بالأولوية - امكن التعبّد بأخباره بأنّه يصدر الأشياء عنه بأكمل محتملاتها الممكنة، و لكنّه غير واقع، فما يصحّ به التعبّد لم يثبت شرعا ثبوتا قطعيا، و ما لا يصلح التعبّد به فهو ثابت كذلك. فلا بدّ لنا من حمله على الإرشاد إلى حكم العقل بحكمته أو إثبات وجوده و غيره، فتدبر جيدا.

فالعمدة في المقام هو الوجهان الأولان، أولهما برهان لمي، و ثانيهما دليل إني. و الأول يدلّ على أنّ الصادر عنه يكون على نحو الأكمل، بل و على لزوم صدور الأكمل عنه لزوما غير مناف

ص: 232


1- النساء 122/4.
2- السجدة 7/32.

لاختياره، و الثاني يدلّ على أن أفعاله محكمة متقنة، فلا خلل و لا فساد و لا قبح و لا نقص في أفعاله تعالى.

تفريع و تكميل: في أدلّة النظام العقلي الحاضر

بعد ما تقرّر أن أفعاله تعالى على أفضل ما ينبغي أن تكون، و أكمل ما يمكن أن تصدر عنه، بحيث لا يتصوّر مرتبة ارقى ممّا هي عليه، فقد ظهر أنّه لا يمكن وجود نظام أحسن و أكمل من النظام الفعلي الحاضر، فإنّه على آخر درجة من درجات الكمال، و كأنّه ظاهر لا يحتاج إلى بيان أزيد ممّا تقدّم.

و لهذا المطلب أدلة أخرى ذكرها الفلاسفه و غيرهم إلاّ أنّها بين ما يرجع إلى المختار و بين ما لا يتمّ على أصولنا المبرهن عليها، و نحن نذكر وجهين منها:

الأول: ما عن الغزالي من أنّه لا يمكن أن يوجد العالم أحسن ممّا هو عليه؛ لأنّه لو أمكن ذلك و لم يعلم الصانع المختار أنّه ممكن إيجاد ما هو أحسن، فيتناهى علمه المحيط بالكلّيات و الجزئيات، و إن علم و لم يفعل مع القدرة عليه فهو يناقض جوده الشامل لجميع الموجودات.

و استحسنه العربي في محكي فتوحاته، ثم الحكيم الشيرازي في أسفاره، فقال في ربوبياتها(1): و هو كلام برهاني، فإنّ الباري - جلّ شأنه - غير متناهي القوة، تام الجود و الفيض، فكلّ ما لا يكون له مادّة و لا يحتاج إلى استعداد خاصّ و لا أيضا له مضادّ ممانع، فهو بمجرّد إمكانه الذاتي فائض عنه تعالى على وجه الابداع. و مجموع النظام له ماهية واحدة كلّية و صورة نوعية وحدانية بلا مادّة، و كل ما لا مادّة له نوعه منحصر في شخصه... فلم يمكن افضل من هذا النظام نوعا و لا شخصا. انتهى.

أقول: حديث الجود ليس بخطابي فإنّه واجب عليه بحسب حكمته كما مر، نعم ليس بواجب عنه على ما سلف في بحث اختياره، فقول الغزالي راجع إلى المختار.

و أمّا ما أتى به صاحب الأسفار فهو ضعيف، فإنّ فرض العالم بمجموعه موجودا واحدا غير مادي مجرّد خيال ينفع الشعراء و لا وزن له في المباحث العقلية، و ربما سنفصل القول فيه في بعض مسائل التوحيد إن شاء اللّه.

الثاني: ما ذكره اللاهجي(2) ناقلا عن الحكماء، و محصّله: أنّ الواجب الوجود خير محض، فإنّ الخير ليس إلاّ فعلية الوجود و كمالاته و تماميتهما، و الشر فقدان الوجود أو كمالاته، و واجب الوجود عين الوجود و تامّ الوجود و كامل في وجوده و كمالاته، فهو خير محض و لا

ص: 233


1- الحكمة المتعالية ج 7 ص 91، الفصل «7» في أن وقوع ما بعده الجمهور شرورا فى هذا العالم قد تعلقت به الارادة الأزلية صلاحا لحال الكائنات.
2- گوهر مراد/ 224.

موجود غيره بخير محض، و كلّ ما هو خير محض لا يصدر عنه إلاّ الخير المحض؛ إذ جهة صدور الشر - و هي العدم - ليس بمتحقق فيه... و ظاهر أنّ سبب نظام الكلّ - أي المجموع من حيث هو مجموع - ليس إلاّ الواجب الوجود، فهو خير محض على وجه لا يمكن الأتمّ منه إذا مكان الأتمّ من هذا النظام يستلزم عدم تمامية هذا النظام، فإذا لم يكن بتامّ لزم كونه شرا، فيمتنع صدوره عن الخير المحض.

أقول: و للنظر فيه مواضع.

منها: ما تقدم في بحث الشرور.

و منه: أن الواجب و إن كان هو المؤثّر في الكل، غير أن للعقول و الأفلاك أيضا تأثيرا فيه، فإنّها عندهم واقعة في السلسلة الفاعلية و تكون جهات مؤثّريته تعالى، و حيث إن هذه الأمور ممكنة و إمكاناتها عدمية، و العدم شرّ، فلا يتحقّق الخير المحض في المعاليل.

و منها: أن فيه تناقضا، فانه تارة يقول: و لا موجود غيره بخير محض، و أخرى يدّعى أن الجميع خير محض، فتأمّل، فإن البرهان على قدرتنا تام و هو يدلّ على نفي النقص في ذاته تعالى أيضا.

فإن قلت: كيف يكون هذا النظام على نهاية الكمال و غاية الإتقان و الحال أنّ المصائب و البلايا محيطة بالحيوان و لا سيما الانسان؟

هذا من ناحية و من ناحية أخرى أنّ الآثام و المعاصي و القتل و هتك الناموس و الظلم و غير ذلك من الجنايات ما زالت مستمرّة الصدور عن نوع الإنسان حتى قتل الأنبياء و الأولياء و ضعفت الديانة و الانسانية و أخفيت معالم الشرع و قلّ الديانون.

قلت: أما البلايا و المصائب فقد مرّ بحثها مفصلا و أمّا المعاصي فهي و إن كان مبغوضا عليها للّه الحكيم سبحانه من حيثية التشريع و قبيحة في نفسها غير أن تكليف الإنسان لما كان ذا مصلحة هامّة في نفس الأمر، و هو كان موقوفا على اختيار الإنسان و تمكنه، و إلاّ لارتفع فائدة التشريع و بطل الثواب و العقاب، فجعل اللّه الإنسان مختارا ثم كلّفه، فهذه الجنايات مستندة إلى اختيار الإنسان، و اختياره ممّا لا بدّ منه لمصلحة أهمّ من قبح هذه المفاسد، فافهم جيدا.

مسألة: في ترجيح أحد المتساويين على الآخر

هل يحسن للمختار أن يرجّح أحد المتساويين على الآخر بمجرّد إرادته ام لا؟ و على تقدير العدم هل هو جائز أو ممتنع؟

ص: 234

المعروف عن الأشاعرة هو الجواز بل الوقوع(1)، و عن العدلية - الامامية و المعتزلة - و الحكماء امتناعة(2). و الظاهر تمركز النزاع في المختار فقط، فإن الموجب إذا رجّح أحد المتساويين على الآخر - كما إذا احرق النار أحد المتساويين فقط - فقد وقع الترجح بلا مرجّح، لكنّه مجرّد فرض باطل.

ثم إن الأشاعرة ليس لهم دليل على قولهم سوى ذكر أمثلة و دعوى الضرورة على وقوع الترجيح بلا مرجح فيها، مع أن بعضهم ناقش في الأمثلة المذكورة(3).

قال المحقق الاشتياني: و استدلّوا عليه - أي الأشاعرة على الجواز - بالوجدان؛ حيث إنّ العطشان و الجائع و الهارب من السبع يختار أحد القدحين و الرغيفين و الطريقين مع فرض المساواة من جميع الجهات التي لها دخل في الترجيح، فيعلم من ذلك أن اختيار أحد طرفي الممكن لا يتوقّف على مرجّح خارجي. و العدلية من الإمامية و المعتزلة إلى الثاني، لما عرفت من قضاء ضرورة العقل بعدم تعلّق الاختيار بأحد طرفي الممكن من دون داع و سبب، فلو وجد لوجد بلا سبب، و هذا معنى رجوع الترجيح بلا مرجّح إلى الترجح بلا مرجح.

و أما ما زعمه الأشاعرة ففاسد جدا.

أما أولا: فلمنع تحقّق التساوي من جميع الجهات فيما مثّلوا به و أمثاله، و مجرد الفرض لا يوجب تحقّق المفروض، و المدار عليه لا على فرضه.

و أما ثانيا: فلأنّا نختار بعد التسليم عدم اختيار أحدهما، و مجرّد دعواه لا يفيد في شيء...

الخ.

أقول: هذان الجوابان اللذان نقلا عن المعتزلة، بل ادّعوا الضرورة على الجواب الثاني، ممنوعان جدا، بل الضرورة على خلافه و أن المضطرّ يختار أحدهما بلا تردد. و الانصاف أنّهما لا يستحقان الجواب.

و يلحق بهما في الضعف ما أجاب به صاحب الأسفار(4) فإنه مبني على الجبر و أن أفعال المخلوقين أفعال اللّه تعالى. فلاحظ.

قال بعض أهل التدقيق من جامعي المعقول و المنقول(5): تحقيق المقام أنّ الترجيح موضوعه الفعل الإرادي، و ثبوت الإرادة فيه مفروغ عنه، و إلاّ لكان ترجحا بلا مرجح، و هو

ص: 235


1- شرح المواقف 218/2.
2- حاشية المحقق الآشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري/ 246.
3- شرح المواقف 218/2.
4- الأسفار 209/1.
5- نهاية الدراية في شرح كفاية الأصول 170/3.

مساوق للمعلول بلا علّة، و امتناعه بديهي بلا يختلف فيه أحد، ففي الموضوع الإرادي قالوا بقبحه تارة و بامتناعه اخرى بيانه:

إن الاشاعرة بنوا على خلو أفعال اللّه تعلى التكوينية و التشريعية عن الغايات الذاتية و العرضية، و عن الحكم و المصالح الواقعية نظرا إلى جواز الترجيح بلا مرجّح لا مكان الإرادة الجزافية تمسّكا منهم بامثلة جزئية... و نفيا منهم للحسن و القبح بالكلّية، فالفعل الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد، فلا يلزم المعلول بلا علّة، و حيث لا حسن و لا قبح فلا يتّصف مثل هذا الفعل الخالي عن الغاية بكونه قبيحا.

و أجاب الحكماء - بعد إثبات الحسن و القبح عقلا في كلية افعال اللّه تعالى و العبد - بأن الفعل الخالي عن الغاية و الغرض قبيح من كل عاقل، و بأن تجويز الإرادة الجزافية يؤول إلى تجويز الترجح بلا مرجح؛ لأن الإرادة من الممكنات فتعلّقها بأحد الأمرين دون تعلق إرادة أخرى بالآخر إما بإرادة أخرى فيدور أو يتسلسل، و إمّا بلا إرادة... كان معناه حدوث الإرادة بلا سبب و هو عين الترجح بلا مرجح... فبالإضافة إلى نفس الفعل و إن كان ترجيحا بلا مرجح، إلاّ أنه بالإضافة إلى إرادته ترجح بلا مرجح.

فعلم ممّا ذكرنا أنّ محل النزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية و الغرض لا الخالي عن الغرض العقلائي، فإنه لم يقع النزاع في إمكانه، كما علم أن القبح بأي نظر و أن الامتناع بأي لحاظ فإنه قبيح بالنظر إلى خلوه عن الحكمة و المصلحة و ممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب، غاية الأمر ان الموجب في إرادته تعالى منحصرة في الحكمة و المصلحة ل مطلق الغرض.

و أما مسألة ترجيح المرجوح على الراجح فهي أجنبية عن مقاصد الحكماء، و الأشاعرة في تلك المسألة المتداولة، إلاّ أنه يمكن فرضها قبيحا تارة و ممتنعا أخرى، فبالنظر إلى خلو الفعل عن جهة مصحّحة من حكمة و مصلحة قبيح و بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا سبب ممتنع.

و يزيد على الترجيح بلا مرجح بأن ترك الراجح مع وجود غاية مصححة قبيح آخر و تخلف الإرادة عما يوجبها محال آخر انتهى.

أقول: فقد ظهر أن استحالة الترجيح بلا مرجح لأجل رجوعه إلى الترجح بلا مرجح و إلا فهو ليس بمحال. انتهى.

و أما ما ذكره المحقّق اللاهجي(1) من استحالة الترجيح المذكور في نفسه أيضا، بل ادّعى بداهتها عند الوجدان المستقيم، فمما لم نعرف له وجها.

ص: 236


1- گوهر مراد/ 147.

و التحقيق أن الترجيح بلا مرجح ربما يصير ممتنعا، و ربما يكون ممكنا، فإذا أمكن فهو تارة يكون واجبا و لازما فضلا عن مجرّد كونه حسنا، و أخرى يكون قبيحا.

بيان ذلك: أن الترجيح بمجرّد الإرادة من دون سبب و مرجح أصلا محال لما تقدم، و لا وقع لإنكار الأشعريين و غيرهم؛ و بمرجح غير عقلائي قبيح، كما في تقديم المفضول على الفاضل لأجل كبر السن مثلا، و هذا ممكن قبيح و ليس بمحال كما هو ظاهر؛ و بمرجح عقلائي قائم بطبيعي الفعل الجامع للفردين لازم و واجب كما في الأمثلة المتقدمة و غيرها؛ و ذلك لأن طبيعي الفعل إذا كان ذا مصلحة ملزمة أو غير ملزمة و كانت الأفراد بالنسبة إيه متساوية، حيث إن كلا منها محصّل له و محقّق اياه، فلا يجوز أو لا ينبغي للعاقل ان يترك أصل الفعل المشتمل على الملاك لأجل استواء الأفراد في المزية و تحصيل الغرض، ألا ترى أن العقلاء بأسرهم يقبحون من ترك الأكل من أحد الإنائين المتساويين حتى مات جوعا، بل يضحكون على من اعتذر عنه بعدم جواز الترجيح بلا مرجح أو قبحه.

و السرّ في جوازه و عدم مآله إلى الترجح هو أن المنظور إليه استقلالا هو طبيعي الفعل وحده و أما الافراد فلا نظارة إليها إلا آلة و تبعا، فالإرادة المتعلّقة بطبيعي الفعل المذكور تسوغ اختيار رأي من الأفراد و لا تؤول إلى الإرادة الجزافية الممتنعة.

و هذا الذي ذكرنا - مضافا إلى عدم الدليل على امتناعه بل الدليل على صحته كما عرفت منا - ضروري أيضا كما يفهم من المثال المزبور، فالصحيح في المسألة هو هذا التفصيل الثلاثي.

و أما ما تقدّم من المحقق الآشتياني من نسبة القول بالامتناع إلى الإمامية و المعتزة ففيه:

أن كثيرا من المتزلة قائلون بالجواز، كما نقله اللاهجي(1).

و أما الإمامية فلم يثبت هذا القول منهم جليا بل ذهب بعض الأجلاء الأصوليين(2) منهم إلى الجواز مطلقا. و الحق ما قلنا.

ص: 237


1- گوهر مراد/ 147.
2- و هو المحقق صاحب الكفاية قدّس سرّه 369/2 من كتابه و يمكن حمله على ما ذكرنا من التفصيل.
الفريدة الرابعة في تكلّمه

المقام الأول: في حدوثه

المقام الثاني: في الكلام النفسي

المقام الثالث: في اطلاق الكلام على القرآن

ص: 238

الفريدة الرابعة في تكلّمه
اشارة

التكلّم هو التحدث، و الكلام هو القول كما في القاموس و غيره. فهو في أصل اللغة عبارة عن أصوات متتابعة لمعنى مفهوم.

و إن شئت فقل: إنّه الحروف المنتظمة المسموعة، فهو من الكيف المسموع. قال المحدث المجلسي رحمه اللّه(1): فالإمامية قالوا بحدوث كلامه تعالى و أنّه مؤلّف من أصوات و حروف، و هو قائم بغيره. و معنى كونه تعالى متكلّما عندهم أنّه موجد تلك الحروف و الأصوات في الجسم كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي صلّى اللّه عليه و اله أو غيره كشجرة موسى، و به قالت المعتزلة أيضا...

الخ.

أقول: إن أراد من الحروف تلفّظها فهو متين، و إن أراد نقشها كما يشهد له ذكر اللوح المحفوظ، أو إلهامها كما يشعر به ذكر النبي، فيردّه أن النقش و الإلهام ليسا بكلام، و فاعلهما ليس بمتكلّم بل و ملهم و منقش أو كاتب.

و بالجملة الذي هو من فعله ليس إلاّ مثل كلام الآدميين بلا فرق أصلا غير أن إصداره عنا بجارحة مفقودة في حقه تعالى.

ثم إن الفاضل المقداد(2) ذكر أن طريق إثبات تكلّمه تعالى عند الأشاعرة عقلي و عند المعتزلة نقلي، لكن فيه نظر بل منع كما ستعرفه.

نعم ربما استدلّ عليه من جهة العقل جماعة من غير الأشعرية، و إليك بيان الوجوه العقلية المذكورة و غيرها:

1 - قاعدة الملازمة المتقدّمة، استدل بها اللاهجي(3) و ابنه قدّس سرّهما(4) لكنّك عرفت فيما تقدّم اختصاص القاعدة بالصفات الذاتية و أنه لا مجرى لها في أفعاله تعالى التي هي ممكنة

ص: 239


1- بحار الأنوار 150/4.
2- شرح الباب الحادي عشر/ 19.
3- سرمايه إيمان/ 31.
4- شمع اليقين/ 17.

بالإمكان الخاصّ.

و أمّا ما صنعه المستدل من تفسير كلامه تعالى بالقدرة على إيجاد الألفاظ لا نفس الألفاظ فإنها كلام بمعنى ما يتكلم به؛ و ذلك لأن الكلام من صفاته تعالى و صفاته لا تكون حادثة(1)، فهو تعسّف بلا جهة و لا فرق في كلام اللّه و غيره كما عرفت.

و أما دليله فهو خلط بين صفاته الذاتية و الفعلية، فإنا و إن نصفه بالتكلّم و أنه متكلّم إلاّ أنه من صفات أفعاله كغيره من الأفعال، و هذا واضح جدا.

و مثله في الضعف ما يظهر من المحقّق الطوسي قدّس سرّه في التجريد من أن عموم قدرته يدلّ على ثبوت الكلام، فإن الكلام و إن كان مقدورا له إلاّ أنه ليس كلّ مقدور بواقع و موجود خارجا بالضرورة.

2 - عدم التكلّم ممن يصحّ اتّصافه به نقص و اتّصاف بأضداد الكلام، و هو محال على اللّه تعالى. فإن نوقش في كونه نقصا سيما إذا كان مع قدرته على الكلام - كما في السكوت - فلا خفاء في أن المتكلّم أكمل من غيره و يمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه. ذكره القوشجي(2) دليلا لقول المحقّق الطوسي في تجريده.

أقول: بعد تخصيصه بما لا يزال و إلاّ فهو واضح الفساد، يرد عليه منع النقص قطعا و عدم اتّصافه بأضداده جزما؛ اذ تكلّمه إيجاد الصوت و نقيضه عدم الايجاد، و هذا ليس بضدّ.

و أما الخرس فهو في المخلوق دون الخالق المنزّه عن الجوارح، بل ضدّ التكلم فيه إيجاد شيء آخر غير الصوت، و هو كمال له و منع أكملية المتكلّم من غيره، و إلاّ لزم استمرار إيجاده الاصوات إلى الابد! أو أكملية مخلوقه منه من هذه الجهة حين عدم إيجاده الصوت و تكلّمهم.

و بالجملة هذا الوجه ضعيف جدا لمنع جميع مقدماته، و منه انقدح بطلان ما استدلّ به الفاضل الطبرسي(3) من أن التكلم كمال لفعله فعدمه نقص له، و النقص بجميع أنحائه محال عليه؛ إذ فيه أن إيجاد الصوت ممّا لا كمال فيه بحيث يعدّ عدمه نقصا، أي قبيحا كما هو الظاهر.

3 - اللطف واجب على اللّه الحكيم سواء فسّر ببيان المصلحة و المفسدة، أو بتقريب المكلف إلى الطاعة و إبعاده عن المعصية، و هو لا يمكن إلاّ بإنزال الكتب و إرسال الرسل، و إنزال الكتب موقوف على التكلّم بما يعرفه المخاطب من الكلام، فوجب عليه التكلّم عقلا.(4)

ص: 240


1- كما في الشوارق و سرمايه إيمان.
2- شرح التجريد/ 356.
3- كفاية الموحدين 328/1.
4- المصدر نفسه/ 327.

و فيه: أولا: منع وجوب اللطف و سيأتي بحثه.

و ثانيا: أن إنزال الكتاب غير موقوف على التكلّم، بل يمكن بنقش الحروف في اللوح ليطالعه الملك المبلغ إلى النبي أو الرسول، بل اللطف غير موقوف على إنزال الكتاب أصلا؛ لا مكان إلهام اللّه نبيه في النوم أو اليقظة الأحكام و المعارف النافعة للناس؛ و لذا لم يكن لكلّ نبي كتاب كما يأتي.

4 - إن اللّه قادر على كلّ ممكن، فالتكلّم - بما أنه ممكن - مقدور، و الداعي و الغرض من إيجاده متحقّق، و الصارف و المانع مفقود، فوجب تحقّق التكلّم لاستحالة تخلف المعلول عن علّته. ذكره و سابقه في كفاية الموحّدين(1).

أقول: تحقّق الداعي غير بين و لا بمبين، و لعلّه أراد به انزال الكتب، و قد عرفت ما فيه.

5 - إجماع الأنبياء و تواتر أخبارهم سلام اللّه عليهم بذلك. ذكره جمع. و لكنه محتاج إلى علم الغيب؛ اذ لم يصل إلينا من نبي - غير خاتمهم صلّى اللّه عليه و اله - أنه تعالى متكلّم، و قد عرفت أن إنزال الكتب و الوحي لا يدلاّن على تكلّمه لاحتمال استنادهما إلى إيجاد الحروف المنقوشة دون المسموعة.

6 - إجماع المليين و اتّفاق المسلمين.

7 - الكتاب و السنة، فمن الأول قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً(2) و قوله:

وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ (3) و قوله تعالى: يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ (4) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على قوله؛ و من الثاني ما سيجيء بعضه. و هذا الوجه هو العمدة في المقام، فتحصل أن إثبات تكلّمه نقلي لا عقلي.

إذا تقرّر ذلك فاعلم أن ها هنا مقامات للبحث:

المقام الأول: في حدوثه

لا خفاء في أن كلامه حادث، فإنه عبارة عن إيجاد الصوت القائم بالهواء المعدوم في الأزل بناء على حدوث العالم، و أيضا قدمه يستلزم وجود المخاطب القديم صونا عن اللغوية، و المسلّم بين المتكلّمين عدمه، فيبطل قدم الكلام ولو بتوارد الأمثال، و يثبت

ص: 241


1- المصدر نفسه/ 328.
2- النساء 164/5.
3- الأعراف 143/6.
4- البقرة 75/2.

حدوثه شخصا و نوعا.

و أيضا الحروف المسموعة من الموجودات الغير القارة، و لا يمكن جمع حرفين منهما في آن واحد، فلا بدّ من الترتّب بينهما، و لا شكّ أن الحروف المسبوق المتأخّر عن السابق حادث، فكذا السابق فإنه سابق عليه بزمان محدود، و المتقدّم على الحادث بمقدار محدود حادث بالضرورة. كلّ ذلك واضح لا سترة عليه، و قد نصّ عليه القرآن الكريم أيضا حيث قال: مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ (1) و قال: وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ مُحْدَثٍ (2).

و مع ذلك فالحنابلة - أتباع أحمد بن حنبل، من أهل السنة - ادّعوا أن كلامه حرف و صوت يقومان بذاته تعالى، و أنه قديم، و قد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا: الجلد و الغلاف قديمان فضلا عن المصحف(3). سبحانك عن هذه الضلالة العظيمة.

و أمّا الكراهية فهم و إن خالفوا هؤلاء في قدم الكلام و قالوا بحدوثه، لكنّهم وافقوهم في قيامه بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به(4)، لكن سيأتي بطلان هذا التجويز و أن قيام الحوادث و حلولها به تعالى ممتنع عقلا.

و من هنا اخترع الأشاعرة الكلام النفسي ليصحّ قيامه بذاته و لا يلزم منه ما ذكره الكرامية، فكأن هؤلاء الاحزاب لم يصلوا إلى الحقّ أصلا، و لم يفهموا أن الحروف لا تصير قديمة، و أن الحادث لا يحلّ فيه تعالى، و أن قيام الحادث به لا يستلزم الحلول حتى يحتاج إلى الاختراع الفاسد المذكور، فإن قيام المبادئ بذويها على أنحاء شتى، و نحن نذكرها هنا فانه ينفعك في غير المقام أيضا، فلا تقع في الغلط و الضلالة كما وقع فيه أقوام، فنقول و باللّه الاعتماد:

1 - القيام الحلولي، مثل: مريض، ميت، جائع، خائف، شجاع، عالم، حليم، طويل، أسود، قائم، عاشق، غضبان، راض، محبّ، عدو... إلى غير ذلك من المبادئ التي تحلّ محالها و يسمى قيامها بالقيام الحلولي.

2 - القيام الانتزاعي: و هو ما ليس بإزاء المبدأ في الخارج شيء متأصّل، و يعبّر عنه في بعض أفراده بالمحمول بالصميمة، مثل: ممكن، زوج، مالك، حر، عبد، مملوك، أب، ابن، قريب، بعيد، واحد... إلى غير ذلك من المبادئ الاعتبارية التي لا تحقّق لها في الخارج أصلا، و إنما

ص: 242


1- الأنبياء 2/21.
2- الشعراء 5/26.
3- شرح المواقف 76/3 و كذلك في غيره. و في الحاشية شرحها: نقل عن بعضهم أن الجسم الذي كتب به القرآن فانتظم حروفا و رقوما هو بعينه كلام اللّه، و قد صار قديما بعد ما كان حادثا!
4- المصدر نفسه.

الموجود هو نفس الذات، و أما المبدأ فهو إما في الذهن فقط كما هو الغالب، أو في نفس الأمر كما في مثل الإمكان و الامتناع، و زوجية الأربعة، و نحوها.

3 - القيام الوقوعي، مثل: محمود، مضروب، مشكور، منصور، معلوم، معبود... إلى غير ذلك من المشتقات التي تحمل مبادئها على ذويها باعتبار وقوعها عليها وقوعا حسّيا أو اعتباريا.

4 - القيام الذاتي: و هو ما كان المبدأ نفس الذات، مثل: قولنا: الوجود موجود، فإذا قلت في تحليل الموجود: شيء له الوجود، فذلك الشيء نفس الوجود بلا مداخلة شيء آخر. و مثله قولنا: الضوء مضئ و النور منور.

و من هذا القبيل الصفات الذاتية الثابتة للواجب الوجود، بناء على مذهب أهل الحقّ من عينيتها مع الذات، فإذا قلنا أنه عالم، قادر، حيّ، و غير ذلك فقد اعترفنا بقيام مبادئها بذاته تعالى، و الحال أنها نفس ذاته المقدسة.

و أما على زعم الأشعريين فهي داخلة في القسم الأول، و على حسبان جمع من الاعتزاليين داخلة في القسم الثاني كما لا يخفى على البصير.

فإن قلت: فقد اختلف إطلاق هذه الصفات عند أهل الحقّ على الخالق و المخلوق، حيث إن قيام مبادئها في الأول ذاتي و في الثاني حلولي، فهل يلتزمون بالاشتراك أو المجاز أو غير ذلك؟

قلت: لا بل الإطلاق على كلا الموردين حقيقة، و الاستعمال بنحو فارد، و الاختلاف الواقع في ناحية المصدق غير مرتبط بجانب المفاهيم التي عليها مدار وضع الألفاظ. و تحقيق هذه المسألة في أصول الفقه.

5 - القيام الصدوري: و هو ما كان المبدأ صادرا عن الفاعل و حالاّ في غيره، كالقاتل، و الكاسر، و الجارح، و الضارب، و المعطى، و المكرم و نحوها، و من هذا القبيل التمّار و الحداد و اللابن و الصبّاغ و نحوها بناء على تفسيرها ببائع التمر و الحديد و اللبن أو صانع الحديد و عامل الصبغ، و أمّا لو فسّرناها بغير هذا المعنى فلا بدّ من جعل القيام فيها قسما برأسه و تسميته بالقيام الاعتباري؛ اذ لا يدخل في القسم الثاني كما لا يخفى.

و هذا التقسيم ممّا لا يحتاج إلى دليل و شاهد، فإنه بيّن في نفسه، فإن العاقل إذا تصوّره على وجهه يصدّقه لا محالة، و يذعن بأن المشتقّات و ما بحكمها لم توضع للقيام الحلولي فقط، بل لمطلق القيام و تعيين أحد الأقسام من خصوصيات الموارد، كما في سائر الألفاظ الموضوعة، كلفظ الإنسان مثلا فإنه وضع للطبيعي الجامع، و أمّا كونه متحرّكا أو ساكنا، عالما أو جاهلا، ذكرا أو أنثى إلى غير ذلك من أقسامه فهو يستفاد من الخارج و هذا واضح جدا، اللهم إلاّ أن يرجح الشخص تقليد مشايخه الأولين على وجدانه و إدراكاته الأولية.

ص: 243

فإذا تحقّق ذلك فاعلم أن جميع أفعاله تعالى قائمة به قياما صدوريا، كما أن صفاته الذاتية قائمة به قياما ذاتيا كما مر، فالتكلّم كنظائره من الأفعال صادر عنه و قائم به قياما صدوريا، و يحلّ في جسم من الأجسام لا فيه تعالى، بل الصحيح أن قيام مبدأ التكلّم بالمتكلّم الممكن أيضا قيام صدوري، و فرقه عن الواجب بالجارحة المخصوصة لا يرتبط بما هو محل البحث، فإن صدور الكلام عن العضو المذكور غير معتبر في مفهوم التكلّم أصلا، كعدم اعتبار جهل المتكلّم أو فقره أو سيادته أو علمه أو غير ذلك من الخصوصيات، بل معناه هو إيجاد الكلام كما دريت.

و أنت من عقائد الحنابلة و الكرامية في الكلام اللفظي، و من أوهام الأشعرية في الكلام النفسي الآتي و غيره من المسائل الأصولية، تعلم قيمة قول نبيك الأكرام صلّى اللّه عليه و اله:

«مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تركها غرق» و الهداية من اللّه تعالى.

المقام الثاني: في الكلام النفسي
اشارة

فقد تحصّل أن كلامه هو الحروف المسموعة، و تكلّمه إيجادها مثل كلامنا و تكلمنا، و هذا هو مذهب الإمامية و وافقهم عليه المعتزلة. و أما الأشاعرة فلا أدري أنهم يتبعوننا في ذلك بأسرهم أم لا؟ غير ان المصرّح به في كلام جماعة منهم(1) هو الأول و قبول أن كلامه اللفظي حادث غير قائم به، الا أنهم اثبتوا معنى آخر للكلام؛ و سموه بالكلام النفسي(2).

أقول: الكلام تارة في تصوّره، و أخرى في تصديقه، فللبحث جهتان:

أما الجهة الأولى:

فقد قال جمع من أعلامنا: إنه غير معقول في نفسه لكن الأشعرية أصرت على تصويره ففي المواقف و شرحها(3): و هو المعنى القائم بالنفس الذي يعبّر عنه بالألفاظ، و نقول هو الكلام حقيقة، و هو قديم قائم بذاته تعالى، و نزعم أنه غير العبارات؛ إذ تختلف العبارات بالأزمنة و الأمكنة و الأقوام و لا يختلف ذلك المعنى النفسي، بل يدلّ عليه بالإشارة و الكتابة كما يدلّ

ص: 244


1- لاحظ شرح المواقف و حواشيه و شرح القوشجي و كلام ابن روزبهان.
2- قال الأحسائي في شرح المشاعر: إن هذا قول الأشعري و متابعيه تبعا لمحمد بن عبد الوهاب القطان. أقول: و عن بعض العامّة نقلا عن بعض العلماء أنه ما تلفّظ بالكلام النفسي أحد إلاّ في أثناء المئة الثالثة، و لم يكن قبل ذلك في لسان أحد. لاحظ إحقاق الحق 222/1. و فحاشيته لبعض المتتبعين: قيل: إن أول من تفوّه به أبو محمد عبد اللّه المتكلّم البغدادي من أهل القرن الثالث.
3- شرح المواقف 77/3.

عليه بالعبارة، و الطلب الذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغيّر مع تغيّر العبارات، و غير المتغير غير المتغير، و هو غير العلم؛ إذ قد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه؛ و غير الإرادة؛ لانه قد يأمر الرجل بما لا يريده كالمختبر. و أما قدمه فلامتناع حلول الحوادث في الواجب... و هو واحد(1) و انقسامه إلى الأمر و النهي و الاستفهام و الخبر و النداء بحسب التعلق، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا، و باعتبار تعلّقه بشيء آخر... يكون أمرا، و كذا الحال في البواقى. و قيل: كلامه خمسة. و قال ابن سعيد من الأشاعرة: هو في الأزل واحد و ليس متّصفا بشيء من تلك الخمسة، و إنّما يصير فيما لا يزال.

أقول: كلّ ذلك لا يرجع إلى معنى معقول:

أما أولا: فدعوى أنه الكلام حقيقة دعوى كاذبة فإنّ الكلام حقيقة هو الحروف المسموعة كما مر؛ و لذا اعترف ابن روزبهان أن هذا المعنى ممّا لا يفهمه العرف.

و أما ثانيا: فلأنهم لم يعلموا الفرق بين التصوّر و التصديق، و إلاّ لم يدعوا تغايره مع العلم، فإن الأخبار - ولو عن شيء مقطوع العدم - أمر اختياري لا بدّ له من تصوّر و علم، و لا مانع من أن يتصوّر المخبر ما يذعن بعدمه ثم يخبر عن وجوده، فالعلم التصوري موجود. و لعمري إن أكثر ما قالوه في معناه لا يخرج عن معنى العلم أصلا، فهذا المعنى هو الوجود الذهني ولو كان تصورا لا تصديقا.

و أما ثالثا: فكما أنه لا إرادة حقيقة في فرض الاختيار، و لا طلب جديا أيضا، بل الموجود هو الطلب الصوري و فيه تأمّل.

و أما رابعا: فلما ذكره بعض الأشاعرة(2) بأن قوله تعالى أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ (3) مع قوله:

وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ (4) متباينان لفظا و معنى تباين، زيد مع عمر، فالقول باتّحادهما في الأزل قول باتّحاد الآيتين، و هو ضروري البطلان.

و أما خامسا: فلأجل أن الالتزام بكون الكلام النفسي المذكور مدلولا للكلام اللفظي التزام بأنه أمر و نهي و خبر و استفهام و تمن و ترجّ و تعجّب و قسم و نداء، فإن الكلام اللفظي ليس إلاّ أحد هذه الأمور، و من البديهي عدم تعقل معنى آخر له وراء هذه المعاني، فإذا صحّ ذلك فيلزمهم الالتزام بكذبه تعالى و سفهه تعالى اللّه عما يقول الظالمون الجاهلون علوا كبيرا؛ و ذلك لأنه أخبر

ص: 245


1- شرح المواقف 83/3.
2- حاشية شرح المواقف 82/3.
3- البقرة 110/2.
4- الإسراء 32/17.

بقوله: إِنّٰا أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ (1) و هكذا أخبر عن وقوع جملة كثيرة من الأمور، و الحال أن وقوعها غير ثابت في الأزل.

و الكلام النفسي عندهم قديم، و أيضا أنه أمر بأمور و نهى عن أمور و حكى أشياء، و الحال أنه لا مكلّف و لا مخاطب في الأزل، و قطعية بطلان التالي يكشف عن قطعية بطلان المقدّم.

و أما إنكار اتّصافه بهذه الأنواع في الأزل مع كونه مدلولا للفظ، فهو عسير جدا، كما اعترف به القوشجي، بل هو غير معقول أصلا.

و أما سادسا: فلوقوع النسخ اتّفاقا، و هو غير راجع إلى اللفظ فقط، بل إلى المعنى قطعا، فلو كان الكلام قديما لما وقع النسخ الذي هو بمعنى الدفع حقيقة، و الرفع صورة؛ و ذلك لما تسالم عليه الجميع من أن ما ثبت قدمه امتنع رفعه، بل لزم أبديته و هذا ظاهر.

ثم إن صحّة هذه القاعدة المتسالم عليها بإطلاقها و إن كانت غير ثابتة عندي، و قد تقدّم بحثها في البحوث الماضية، إلا أنها في غير الأفعال الاختيارية مما لا شكّ فيه، و الكلام النفسي من الصفات دون الأفعال.

قاله القوشجي في تصوير هذا الكلام النفسي(2).

أقول: المعنى النفسي الذي يدّعون أنه قائم بنفس المتكلم و مغاير للعلم في صورة الاخبار عمّا لا يعلمه، هو إدراك مدلول الخبر، اعني حصوله في الذهن مطلقا.

أقول: هل الإدراك المذكور إلاّ العلم التصوّري فأين المغايرة؟ و لعمري إن هذا غير خاف على المبتدئين. قال ابن روزبهان(3) في تصويره: ليراجع الشخص إلى نفسه إنه إذا أراد التكلّم بالكلام فهل يفهم من ذاته أنه يزور - يقوم و يحسن - و يرتّب معان فيعزم على التكلم بها... و يقول في نفسه: سأتكلّم بهذا... فهذا هو الكلام النفسي.

أقول: و بمثله أجاب عن لزوم السفه و الكذب كما أوردناه في الإيراد الخامس، و لكنه ما التفت إلى أن ما ذكره ليس إلاّ تصوّر المعاني و تصوّر ترتيبها و التصديق بحسنه، فيدخل في العلم الذي يتخيّل تغايره معه، فلا دافع عن لزوم السفه و الكذب أصلا.

و قيل: إنه ألفاظ متخيّلته.

أقول: و هذا أيضا راجع إلى التصوّر كما هو ظاهر مع أن هذه التلفيقات لا تتمّ إلا بقياس الغائب على الشاهد الباطل اتّفاقا.

ص: 246


1- نوح 1/71.
2- شرح التجريد/ 277.
3- إحقاق الحق 204/1.

ثم إن الكلام و إن دلّ على التصوّر و التصديق، لكنها دلالة عقلية كدلالة كلّ فعل اختياري على مقدّماته، فالأقوال و الأفعال من هذه الجهة سواء، فليست بوضعية فضلا عن كونها لفظية.

تعقيب و تحقيق

الذي يظهر من هؤلاء الناس أن معنى الأمر و النهي هو الطلب - أي طلب الفعل و طلب الترك - القائم بالنفس المغاير للإرادة.

و أمّا الأخبار فقال القوشجي(1): و الأشاعرة يدعون أن نسبة أحد طرفي الخبر قائمة بنفس المتكلم و مغايرة للعلم... الخ فيكون معنى الأخبار عندهم هو هذه النسبة.

أقول: أما الطلب فهو عندي و عند جملة من أصحابنا الأصوليين المتأخرين مغاير للإرادة، كما أشرنا إليه في أول الفريدة الثانية، فإن الإرادة بمعنى القصد و من النفسيات.

و أما الطلب فهو بمعنى السعي نحو الشيء؛ و لذا يقال لمن عزم على تحصيل العلم و لكنّه لم يحصله بعد: إنه مريد للعلم، و لا يقال: إنه طالب؛ إذ هو ما طلبه بعد فهو من الأفعال، و منه ينقدح أنه ليس قائما بنفس المتكلّم فإنه فعل لا صفة.

فالذي يدلّ على أنه غير الإرادة خلافا لجمع من أصحابنا و المعتزلة هو الذي يدلّ على أنه غير قائم بالنفس، فلا يكون معنى للكلام النفسي في الأمر و النهي.

و أيضا الأمر و النهي بنفسهما مصداقان للطلب لا أنهما وضعا لمعنى الطلب و هو موضوع له لهما.

و أما الأخبار فالمنسوب إلى العدلية(2) أنه دال على ثبوت النسبة و عدمها، نعم خالف فيه بعضهم منهم سيدنا الأستاذ المحقق - دام ظله - فذهب إلى أن معناه أمر آخر قرّرناه مع جوابه في أصول الفقه، فحينئذ يتّحد المذهبان - أي: مذهب جمهور العدلية و مذهب الأشعرية - في ذلك مع أن النزاع بينهما قائم أشد قيام، و إلى هذا ينظر ما حكى عن المحقق الرشتي قدّس سرّه في بدائعه من أن الالتزام بالنسبة الحكمية التزام بالكلام النفسي.

أقول: و التحقيق عدم الاتّحاد؛ و ذلك لأن لفظ النسبة يطلق على المعنيين:

أحدهما: الصفة الموجودة النفسية في قبال سائر الصفات النفسانية، و هذه هي مراد الأشعرين، و يجعلونها الكلام النفسي في الأخبار، و يزعمون قدمها في الواجب.

ثانيهما: الأمر الاعتباري المحض الملحوظ للعقل بين المحمول و الموضوع الساري في

ص: 247


1- شرح التجريد/ 276.
2- كفاية الأصول 98/1.

الممتنعات، و بين الشيء و نفسه و لوازمه، مثل: اجتماع الضدّين محال، زيد زيد، الانسان ممكن، و النسبة الوجودية غير معقولة في هذه الموارد، و قيام هذه النسبة الاعتبارية في النفس على حدّ قيام سائر الأمور الاعتبارية مثل الملكية و الزوجية و الأمور الإضافية مثل الفوقية و التحتية و نحوها.

و إن شئت فقل: إن النسبة الأولى قائمة بالنفس قياما عينيا على حذو قيام العلم و الشوق و التمنّي، و الثانية قائمة بها قياما علميا مثل قيام الموجودات الخارجية بالنفس فإنه بصورها لا بأعيانها؛ و لذا يقول الأصحاب و من تبعهم بصحّة الثانية و بطلان الأولى و أنها غير معقولة، و ما قالوه حقّ لمن أنصف من نفسه و لم يكابر وجدانه تحفظا على تقليده مذهب أبائه و أشياخه!

فتحصل: أن كلامه تعالى هو إيجاده الألفاظ المترتّبة المسموعة الدالة على معانيها المنقسمة تقسيما ذاتيا إلى الإخبار و الإنشاء الطلبي و غير الطلبي، و ليس هنا معنى آخر غير الصفات المشهورة من العلم و الإرادة و نحوهما يسمي كلاما نفسيا كما تخيله هؤلاء.

و كلامه تعالى هذا حادث متكثّر مثل تكثر بقية أفعاله، كالرزق و الخلق و الأحياء و الإماتة و نحوها، كل ذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثم إن للعضدي توهما آخر ضعف ممّا مرّ نقله الجرجاني في شرح كتابه المواقف في هذا المقام، و قد اعترف التفتازاني في شرح العقائد النفسية و القوشجي في شرح التجريد بخروجه عن التعقّل و طور العقل، فلا نطيل الكلام بنقله ورده.

ثم للإحسئي حديث آخر حول الكلام النفسي في شرحه على عرشية الحكيم الشهير الشيرازي، و لا بأس بنقل كلامه و كلام الماتن مختصرا. قال الماتن(1): الكلام ليس كما قالته الأشاعرة: صفة نفسية و معاني قديمة قائمة بذاته... لأنه غير معقول، و إلاّ لكان علما لا كلاما.

و ليس عبارة عن مجرّد خلق الأصوات و الحروف الدالة على المعاني، و إلاّ لكان كلّ كلام اللّه و لا يفيد التقييد بكونه على قصد إعلام الغير من قبل اللّه أو على قصد الإلقاء من قبله؛ اذ الكل من عنده. ولو أريد بلا واسطة فهو غير جائز أيضا، و الا لم يكن أصواتا و حروفا بل هو عبارة عن إنشاء كلمات تامّات... الخ.

قال الشارح: ذكر الكلام بعد العلم لجعله إياه من الصفات الذاتية، و المستفاد من فحوى كلامه و كلام أتباعه - مثل الملا محسن - أنه قديم... لأنه بعض الشؤون الذاتية... و قد صرح الملا محسن في كتابه انوار الحكمة و التكلّم فينا ملكة قائمة بذواتنا... و فيه سبحانه عين ذاته... قوله:

«ليس كما قالته الأشاعرة» أصحاب علي بن إسماعيل بن أبي بشير أبي الحسن الاشعري...

ص: 248


1- شرح العرشية/ 67.

و كان على طريقة المعتزلة يقول بحدوث القرآن ثم خطب و هو قاض بالبصرة، و عدل إلى مذهب محمد بن عبد الوهاب القطان...

أقول: الذي ظهر لي أن الأشاعرة أشاروا إلى معنى لو كان ذلك في حقّ الحادث لكان صحيحا، و لكن بطلان قولهم لا من حيث إنّه غير معقول بل هو معقول معروف إلا أنهم عجزوا عن التعبير في بيان ما أرادوا بعبارة تدلّ على مطلوبهم، فلمّا نظر مخالفوهم إلى المفهوم من خصوص تعبيرهم عنه وجدوا شيئا لا يعرف العقل استقامته... و العبارة الدالة على مرادهم: هو أن النفس لها كلام مثل كلام اللسان بحروف و أصوات إلاّ أنها نفسية، فالنفس تخاطب مثال غيرها و تأمره و تنهاه و تطلب منه و كذلك، مثالها و هو قولهم: مثل حديث النفس، لأن النفس قد تحدّث نفسها و تحدّث غيرها بكلام مشتمل على كلمات لفظية و حروف صوتية مثل الكلام المسموع بالأذان، إلا أنه نفسي لا جسماني. هذا كلامهما.

أقول: أمّا قول الماتن «و إلا لكان كلّ كلام اللّه» فهو مبني على كون أفعال المخلوق أفعال اللّه، أي على الجبر الباطل عندنا و عند متابعينا من المعتزلة.

و أما قوله: «و إلا لم يكن أصواتا و حروفا» فهو مبني على أن الصادر عن اللّه تعالى بلا واسطة أمر مجرّد، و سيأتي في آخر هذا الجزء بطلانه.

و أما جعله إياه من الصفات الذاتية فهو أضعف بناء على إرادة ما أرادته الشريعة الإسلامية من هذه الكلمة، و إلاّ فلكل أحد الاصطلاح بكل ما أراد!

و أما ما أتى به الشارح الأحسائي و زعم عجز الطرفين عن فهمه فهو شيء عجيب، فإنّه ليس إلاّ تصوّر الألفاظ لا غير، و كلامه بطوله و ما أصرّ عليه من أنّه غير العلم خبط و غلط، فلا نطول المقام به، فاستقم و لا تكن من ذوي الاعوجاج.

و أمّا الجهة الثانية

ففي بيان أدلتهم على ذلك المرام الخيالي و هي وجوه:

1 - إن الكلام صفة له، و كل ما هو صفة له فهو قديم، فكلامه قديم.

أقول: و هذا منهم عجيب، فإنّ الكلام ليس بصفة بل هو يضاف إلى اللّه فيقال: كلام اللّه، و لا يقال: اللّه كلام. كما يقال: زيد مخلوق اللّه، و لا يقال: اللّه زيد المخلوق، فالكلام الذي هو مؤلّف من الحروف و الأصوات مخلوقه لا وصفه، و ما يتّصف به هو التكلّم فيقال: اللّه متكلم، أي ثبت له التكلم، و هذا ظاهر للمبتدئين، فلو تمّت الكبرى لكانت النتيجة هي قدم التكلم الذي هو إيجاد الحروف المذكورة لا نفس الكلام؛ ليحتاج حينئذ إلى الكلام النفسي، فافهم.

و أما الكبرى فإن أريد بالصفة المذكورة فيها مطلق ما يتّصف به اللّه سبحانه فهي باطلة؛ إذ

ص: 249

صفاته الفعلية كلها حادثة، كما تقول: اللّه رازق خالق رحيم مميت معطي مثيب و معاقب، إلى غير ذلك، و إنما القديم صفاته الذاتية.

و إن أريد بها الصفة الذاتية فالأوسط غير متكرّر فان التكلّم في الصغرى صفة فعلية و هذا واضح.

و إن شئت فقل على سبيل النقض: إن اللّه كما يتّصف بالكلام النفسي على زعمهم يتّصف بالكلام اللفظي باعترافهم، فلا بدّ لهم من القول بقدم اللفظي بعين هذا الوجه! فهذا التلفيق فاسد جدا.

2 - كلّ متكلّم يرتب الكلام في نفسه قبل التلفّظ به، و اللفظ كاشف عن الكلام النفسي المذكور، كما قال الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد و إنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

و فيه: أن الكلام النفسي بهذا المعنى تصوّر الألفاظ لا غير، و لا نمنع عن إطلاق الكلام عليه غير أنه عين العلم، و دلالة اللفظ عليه ليست بلفظية بل هي عقلية كما في الافعال على ما قلنا سابقا.

3 - إن إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح بلا عناية فيقال: في نفسي كلام، و في التنزيل وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ(1).

أقول: و هذا كما يقال: في نفسي أن أسافر غدا، و في نفسي صوم الجمعة، و هكذا، فهل للصوم و المسافرة مسافرة نفسية و صوم نفسي حتى يكون للكلام كلام نفسي؟

4 - إطلاق المتكلّم على الواجب صحيح، و معناه من قام به الكلام لا من أوجده؛ و لذا لا يقال: الذائق على من أوجد الذائقة، و لا المتحرك إلاّ لمن قام به الحركة، و القائم به تعالى لا يكون إلاّ قديما.

أقول: قد عرفت ضعفه، و إن قيام المبادئ بذويها على أنحاء مختلفة، و أنه ليس بحلولي دائما، فهذا الإشكال صدر عن غفلة و جهالة بأنحاء القيام، و إلا فيرد عليه استلزامه قدم الرزق و الخلق و غيرهما، كما هو واضح.

و في خاتمة البحث نقول: الدليل على إثبات أصل هذه الصفة للواجب هو إجماع الأنبياء و تواتر أخبارهم بأن اللّه أمر بكذا و نهى عن كذا، و الأمر و النهي من أقسام الكلام كما قالوا؛ و الثاني القرآن العزيز، و كلاهما يدلّ على الكلام اللفظي دون النفسي، فلا ملزم بل لا مجوز لهم أن يعتقدوا بالكلام النفسي القائم بذاته بعد قبولهم الكلام اللفظي، فتأمّل جيدا.

ص: 250


1- الملك 13/67.
المقام الثالث: في إطلاق الكلام على القرآن

قد عرفت أن الكلام من مقولة الكيف المسموع، و لا يقال للالفاظ المنقوشة: إنها كلام. و أما إطلاق الكلام على القرآن المجيد في لسان المسلمين تبعا لقوله تعالى: حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ فهو باعتبار أن هذه الحروف أوجدها اللّه سبحانه من غير وساطة، فمن سمعها - ولو من إنسان - فكأنّما سمع من اللّه تعالى.

و هذا الإطلاق - بهذه العناية - شائع في العرف؛ و لذا يقال: سمعت كلامك من فلان، بلغني كلامك، و هكذا، فالقرآن بمعنى كلامه حادث ضرورة حدوث الالفاظ المسموعة، و كذا بمعنى المنقوش و المكتوب، و هو واضح و إن عميت عنه الحنابلة حتى إن إمامهم أحمد بن حنبل أفتى بكفر من اعتقد مخلوقية القرآن! و نقل أيضا(1) عن شرح المقاصد مناظرة أبي حنيفة و أبي يوسف ستة أشهر، ثم استقرار رأيهما على أنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر!

و لعمري أن تكلّمه تعالى ممّا لا يحتاج إلى بحث و توضيح أصلا، غير أن مخالفة هؤلاء الناس و تفرّدهم بأمر باطل حملنا على هذا البحث، و نختم كلامنا في هذه الفريدة بنقل بعض الروايات الواردة عن أهل العصمة و الطهارة:

ففي آخر رواية أبي بصير(2) قال: «قلت: فلم يزل اللّه متكلما؟ قال فقال - أي الصادق عليه السّلام -: إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان اللّه عزّ و جل و لا متكلّم». و رواها المفيد باختصار(3) و في آخرها: «كان اللّه عزّ و جل و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام» و كذلك الشيخ الطوسي قدّس سرّه(4)، و أما الصدوق فرواها بتعبير آخر لكن ذيلها متّحد مع ما رواه الكليني(5).

و في رواية عبد الملك بن أعين قال عليه السّلام: «كلام اللّه محدث و غير أزلي». و في صحيحة صفوان قال الرضا عليه السّلام في جواب أبي قرة المحدث: «التوراة و الإنجيل و الزبور و القرآن و كل كتاب أنزله كان كلام اللّه أنزله للعالمين نورا و هدى، و هي كلها محدثة، فقال أبو قرة: فهل يفنى؟ قال عليه السّلام: أجمع المسلمون على أن ما سوى اللّه فعل اللّه، و التوراة و الإنجيل و الزبور القرآن فعل اللّه؛ ألم تسمع الناس يقولون: رب القرآن... كلّها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء...

فمن زعم انهن لن يزلن فقد أظهر أن اللّه ليس بأول قديم و لا واحد، و ان الكلام لم يزل معه.

أقول: و هذا هو الإلزام بتعدّد القدماء كما اشتهر و سيأتي في محلّه.

ص: 251


1- آخر الشوارق، الجزء الثاني.
2- أصول الكافي 107/1.
3- بحار الأنوار 150/4.
4- المصدر نفسه/ 68.
5- المصدر نفسه/ 72.
الفريدة الخامسة في صدقه تعالى

ص: 252

الفريدة الخامسة في صدقه تعالى

لا شكّ في أنه صادق في كلامه و إخباره، فإن الكذب قبيح و هو ينافي حكمته البالغة المبرهن عليها سالفا، فلا يصدر عنه الكذب بالضرورة.

ثم إن الصدق و إن من نعوت الكلام باعتبار مطابقته للواقع، لكن مرادنا هو الأعم، و هو عدم إغرائه غيره بخلاف الواقع سواء كان من ناحية التكلم أو من جهة الإلهام أو من جانب النقش في اللوح أو من غيرها. فهو و إن كان قادرا على جميع القبائح إلا أنه لا يفعلها البتة؛ لأنه حكيم كما عرفت.

و هنا وجوه أخر استدلّ بها على هذا الوصف كما في كفاية الموحّدين و غيرها:

1 - لا داعي للكذب سوى العجز و الاضطرار المنفيين في حقّه تعالى فهو صادق.

أقول: حصر الداعي فيما ذكر ممنوع، كما يظهر ممّا قلناه في حكمته تعالى، فهذا البيان ناقص إلا أن يرجع إلى ما قرّرناه.

2 - لو جاز عليه الكذب لارتفع منه الوثوق و الاعتماد بوعده و وعيده؛ لاحتمال تخلّفه في ثوابه و عقابه، و التالي مخالف لضرورة العقل فكذا المقدم.

أقول: و هذا من قبيل إثبات العلّة بالمعلول ثبوتا و هو باطل جزما.

و إن شئت فقل: إن الوثوق المذكور إنّما يحصل من أجل أنه صادق فلو عكس لجاء الدور المحال.

هذا، و لكن العضدي و الجرجاني و القوشجي نقلوا هذا الوجه عن المعتزلة بنحو آخر، و هو:

إن في ارتفاع الوثوق عن إخباره تعالى بالثواب و العقاب و سائر ما أخبر به من الأحوال الآخرة و الأولى، فوات مصالح لا تحصى، و الأصلح عليه واجب، فلا يجوز الاخلال به.

أقول: وجوب الأصلح إن تمّ فهو لأجل محذور القبح كما يأتي، و هو يكفي لإثبات صدقه بلا توسيط الوجوب المذكور.

3 - لو جاز عليه لانتفى فائدة الترغيب في الطاعات و الترغيب على المعاصي. و فيه ما تقدم.

ص: 253

4 - جواز الكذب عليه مستلزم للظلم على العباد؛ إذ يجوز حينئذ أن يأمر بالمفاسدة و يخبر عن المهالك، و أن ينهي عمّا هو مصالحهم و منافعهم، و هذا ظلم.

أقول: و فيه أولا: إن الملازمة ممنوعة، إذ جواز الكذب لا يلازم الظلم نفسه بل جوازه.

و ثانيا: إن هذا ليس بدليل لمي و لا إني، فإن المقدم لا علّية و لا معلولية له للتالي، بل بطلان الكذب و بطلان الظلم كلاهما معلولان لبطلان القبح و عدم صدوره عن اللّه الحكيم، فتفظن.

5 - الكتاب و السنة كقوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ قِيلاً.

أقول: الاستدلال بالأول دور مصرّح، و بالثاني دور مضمر كما هو ظاهر.

6 - اتّفاق الملل عليه.

أقول: وجهه ما مرّ فليس بدليل مستقل.

7 - إخبار الأنبياء و الأوصياء بذلك بالتواتر.

و فيه: ما في سابقه مع أنّه ليس هنا خبر واحد صحيح نقل عن أحدهم في هذا الباب. و إنّما نعلم ذلك - أي اخبار الأنبياء بصدقه تعالى - من جهة مامر من الدليل العقلي، كل ذلك ظاهر.

و أما الذين ينكرون الحسن و القبح العقليين بلسانهم فاستدلّوا على إثبات صدقه تعالى بأمور:

1 - الأول إن الكذب نقص، و النقص عليه محال إجماعا، و أيضا فيلزم على تقدير أن يقع الكذب في كلامه أن نكون نحن أكمل منه في بعض الأوقات، أعني وقت صدقنا في كلامنا.

2 - إنه لو اتّصف بالكذب لكان كذبه قديما؛ اذ لا قوم الحادث بذاته تعالى، فيلزم أن يمتنع عليه الصدق المقابل لذلك الكذب، و إلاّ لجاز زوال ذلك الكذب و هو محال، فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، و اللازم باطل، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه.

3 - و عليه اعتمادهم لصحّته و دلالته على الصدق في الكلام النفسي و اللفظي معا، و هو خبر النبي صلّى اللّه عليه و اله بكونه صادقا في كلامه كلّه. و هذا ممّا يعلم بالضرورة من الدين، بل نقول تواتر عن الأنبياء عليهم السّلام كونه صادقا.

لا يقال: صدق النبي موقوف على تصديق اللّه إياه، و هو موقوف على كونه تعالى صادقا، فلو ثبت صدقه تعالى بصدق النبي لزم الدور.

فانه يقال: تصديق النبي غير موقوف على صدقه تعالى بل على المعجزة، فهو تصديق فعلى لا قولي، و دلالتها على التصديق دلالة عادية لا يتطرّق إليها شبهة.

أقول: أمّا الوجه الاول فهو مخصوص بالكلام النفسي - كما صرح به الجرجاني - دون

ص: 254

اللفظي فإنه من الافعال، و النقص فيها عين القبح العقلي كما اعترف به العضدي في مواقفه، و هو عندهم غير ثابت، و ما تكلّف القوشجي من إجرائه في اللفظي أيضا، لا يرجع إلى محصل أصلا.

و كذا الوجه الثاني كما اعترف به العضدي أيضا، فإن الكلام اللفظي الكاذب حادث فلا يمتنع عدمه.

فهذان الوجهان إن تمّا لدلاّ على صدق الكلام النفسي، دون اللفظي الذي هو الأهم في المقام، و قد عرفت أن النفسي غير معقول، و ما هو معقول لا يكون مدلول اللفظي قطعا.

فهذان الوجهان ساقطان، مع أن الوجه الأول يزيف بأن الكبرى ممّا لا دليل عليها إلا الاجماع الذي استفادوا حجّيته من ظواهر الكتاب و السنة، و من الضروري أن اعتبارهما موقوفين على صدقه تعالى في كلامه و هو عين النزاع في المقام.

و أمّا لزوم أكمليتنا منه تعالى فبطلانه على قواعد الأشعريين غير بيّن، و لا بمبين، فان أئمتهم يقولون: إن القول بالكمال و النقصان خطابي.

و الوجه الثاني ممنوع من جهة أن دعوى الضرورة المذكورة من قبيل قياس الغائب على الشاهد، فان كذبنا غير قديم، فلذا يمكننا التكلّم صادقين بالضرورة، و أما إذا كان قديما فلا تجري فيه الضرورة المذكورة.

و أيضا ينتقض بامتناع الكذب عليه، فإن صدقه قديم فيمتنع عدمه فلا يمكنه الكذب، مع أنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا يمكنه الإخبار على خلافه.

و أما الوجه الثالث فهو يزيف أولا: بما قدّمناه في مبحث علمه تعالى في جواب من استدلّ على إثباته بالأدلة النقلية.

و ثانيا: إنه لا دلالة للمعجزة على صدق النبي في دعوى نبوته على أصولهم، فإنهم ينكرون تعلل أفعاله بالأغراض و يجوزون عليه جميع القبائح العقلية، بدعوى أنه لاقبح بالنسبة إليه تعالى، فإذن إجراء المعجزة و إن كان يدلّ على وجود الواجب الوجود، لكنّه لا يدل على نبوّة المدّعي، فإن اللّه لم يجرها لتصديق دعواه، و إلا الزام تعلّل أفعاله بالغرض، و هو مستلزم لنقصه في أوهامهم؛ و دعوى الضرورة في حصول العلم العادي مع هذا البناء مجازفة واضحة و مكابرة ظاهرة؛ و لذا اضطر بعضهم بإن يجوّز الكذب على اللّه(1) تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

و هذا معنى قول بعض أصحابنا: ان القواعد الإسلامية لا تجري على أصول الاشاعرة. و هو متين، فإنه إذا لم يثبت صدقه تعالى فلا يثبت شيء من الشرعيات الاعتقادية و العملية، فيجوز حينئذ إنكار جملة من الضروريات الدينية، إلى غير ذلك من المفاسد الكثيرة.

ص: 255


1- نقله السيد الجليل المعاصر في حاشيته على إحقاق الحق 231/1.

بقي في المقام أمران:

الأمر الأول: لا إشكال في حدوث صدقه فإنه من صفة أفعاله، نعم لا يقال في العرف: كان اللّه و لم يكن صادقا لإشعاره بثبوت ضدّه له، بل لا بدّ أن نقول: كان اللّه و لم يكن متكلّما أو فاعلا، فالمسلوب هو المنشأ.

هذا و لكن في رواية جابر عن الباقر عليه السّلام قال:

«إن اللّه تبارك و تعالى كان - و لا شيء غيره - نورا لا ظلمة فيه و صادقا لا كذب فيه و عالما لا جهل فيه و حيا لا موت فيه و كذلك هو اليوم و كذلك لا يزال ابدا»(1) و في رواية المفضل عن الصادق عليه السّلام

«... و صدق ليس فيه كذب و عدل ليس فيه جور... كذلك لم يزل و لا يزال... الخ»(2).

أقول: و يمكن حمل الصدق فيهما على الحقّ و الكذب على الباطل فيرجعان إلى الصفات الثبوتية، و تشهد له صحيحة هشام بن سالم(3) عن الصادق عليه السّلام ففيها:

«هو نور لا ظلمة فيه، و حياة لا موت فيه، و علم لا جهل فيه، و حقّ لا باطل فيه... الخ» و يحتمل أن يكون الصدق و العدل بمعنى سلب الكذب و الجور كما ذكره الامام أيضا، و لا شك أنه تعالى كان في الأزل غير كاذب و لا بجائر. و الأمر سهل.

الأمر الثاني: قد عرفت أن امتناع الكذب عليه تعالى إنما هو من جهة عدم صدور القبح عنه، و سيأتي في المقصد الخامس أن الصحيح كونه بالوجوه و الاعتبار. فإذن يمكن أن يقول قائل: بمنع امتناع الكذب عليه؛ إذ على هذا القول - أي كون القبح بالوجوه و الاعتبار - يمكن أن تتحقّق في الكذب مصلحة مرجّحة لوقوعه رافعة لقبحه، فإذا تطرّق هذا الاحتمال فقد بطل الاستدلال على امتناع الكذب المذكور.

و يؤيده ما ثبت عند أصحابنا الإمامية - رضي اللّه عنهم - من جواز التقية على الإمام، فانها لا تختصّ عندهم بالأفعال بل، تجري في الأقوال أيضا، فإذا جاز أن يقول الإمام عبارة كاشفة عن الواقع على خلاف ما هو عليه مراعاة لمصلحة التقية، جاز مثله في حقّ النبي بل و في حق اللّه تعالى.

و من هنا ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الإسلام - كما في الفصول الغروية في الأصول الفقهية - إلى أن الأخبار الواردة في الشريعة ممّا يتعلّق بتعذيب الكفار و الفساق بأسرها أخبار صورية غير مطابقة للواقع، قصد بها مجرّد التخويف لحفظ النظام و تكميل الأنام.

ص: 256


1- بحار الأنوار 69/4.
2- المصدر نفسه 306/3.
3- المصدر نفسه 70/4.

هذا و لكن هذا الإشكال مقطوع البطلان، فإن القبح و إن كان بالوجوه و الاعتبار غير أنّه من الواضح أنّ قبح الكذب لا يزول إلاّ من جهة الاضطرار الممتنع في حقّ القادر على كلّ شيء، فإنه لا يعجزه شيء في السماوات و الأرض، فلا يعقل جواز الكذب في حقّه أبدا، و هذا ظاهر.

و أمّا النبي فقد استدلّ المحقّق الأصولي صاحب الفصول على امتناع الكذب في حقّه بوجهين:

الأول: إن المعجزة تدلّ على تصديق اللّه إيّاه فيما يدّعي و يخبر به، و لا ريب في قبح تصديق الكاذب إلاّ مع الاضطرار؛ لأنّه في معنى الكذب و قد ثبت امتناع الاضطرار عليه تعالى.

الثاني: إنه لو جاز التقية على النبياء لزال فائدة بعثتهم، و هو مناف للحكمة الباعثة عليه.

ثم قال: و أمّا الإمام فليس الحال فيه كذلك، و الفرق أن النبي منصوب بقاعدة اللطف لاظهار الحقّ و إمحاق الباطل و إتمام الحجّة و قطع المعاذير على من آمن برسالته و من كفر بها، سواء أمن من شره أو لم يأمن، و أمّا الإمام فهو و إن كان قائما مقام الرسول في كونه الرئيس العام الواجب اتّباعه على سائر الأنام، إلاّ أن منصبه منصب العلماء الحاملين لأحكام الشريعة و أسرارها، الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر عند التمكّن من الضرر، فإذا اضطرّوا إلى التقيّة في الكلام جاز لهم ذلك بطريق التورية.

و اسر في ذلك: أن الحجّة قد تمّت و لزمت على الأنام ببيان الرسول عليه و آله السلام حتى بالنسبة إلى وجوب معرفة الإمام و اتّباعه، فشأنه بعد الرسول إنّما هو إزاحة الجهل ببيان ما يحتاج إليه من تفاصيل المعارف و الأحكام مع أمن الضرر، و لا ريب أن هذا لطف آخر لا يغني عنه اللطف السابق، و عند التحقيق هذا كمال لذلك اللطف... الخ.

أقول: لم أر لحدّ الآن أحدا من علمائنا ذكر جواز التقية على النبي صلّى اللّه عليه و اله غير أن جملة من علماء العامة نسبه إلى الامامية، و أنّهم يقولون بجواز التقية على النبي، و هذه النسبة كذب، بل الأمر بالعكس؛ اذ يظهر من بعض رواياتهم أن النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و اله كان يتّقي من قوم عائشة، كما ورد(1) أنه صلّى اللّه عليه و اله قال لعائشة: لو لا أن لقومك عهدا بالجاهلية - و في رواية عهد حديث بالكفر - و أخاف أن ينكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم فادخلت ما أخرج عنه... الخ، فتدبر.

و أما ما ذكره صاحب الفصول قدّس سرّه من الوجهين المتقدّمين و الفرق بين الإمام و النبي فهو ممنوع بل ظاهر الفساد، كما لا يخفى على الخبير.

ص: 257


1- رواه القاضي في صوارمه عن الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة، و من المتّفق عليه، و ذكره شارح الوقاية من الحنفية في كتاب الحجّ.
الفريدة السادسة في رحمته

الفرق بين الرحمن و الرحيم

نقد كلام سيدنا الأستاذ الخوئي

ص: 258

الفريدة السادسة في رحمته الفرق بين الرحمن و الرحيم قد وصف اللّه نفسه بالرحمن و الرحيم، و هما مشتقان من الرحمة، و هي - كما في القاموس - الرقّة و المغفرة و التعطّف، و عليه فليست الرقّة مأخوذة في مفهومها حتى لا يكون استعمالها في حقّه تعالى حقيقيا كما يظهر من مجمع البحرين. و إلى الاول ذهب بعض السادة الأفذاذ من أساتذتنا الأعلام في تفسيره(1)، و قال: إن الرقّة من لوازم الرحمة في البشر.

ثم إنّه لا شك أن لفظة الرحمن لا تطلق على غيره بخلاف الرحيم؛ و علله الشهيد الثاني قدّس سرّه(2) بأن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، و ليس الوجه فيه كونها من الصفات الغالبة؛ لأنه يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى بحسب الوضع انتهى.

أقول: إنكار الجواز بحسب الوضع مشكل، نعم لا شكّ فيه بحسب الشرع، بل هو بمنزلة العلم في حقه تعالى؛ و لذا لا يقال: رحمان بنا أو بالناس، و قد استعمل في القرآن المجيد في غير مورد من دون اعتبار الوصفية كقوله تعالى: هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ (3)و قوله: وَ مٰا أَنْزَلَ اَلرَّحْمٰنُ مِنْ شَيْ ءٍ (4) و قوله: إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ و غيرها.

و أما ما نقله الصدوق قدّس سرّه من أن قوما جوّزوا أن يقال للرجل: رحمان، فهو باطل و خطأ.

ثم إن الفرق بين الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية بوجهين:

1 - ما قاله الشهيد رحمه اللّه من أن تعقيب الرحمن بالرحيم من قبيل التتميم، فطنه لما دلّ الرحمن على جلائل النعم و أصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، لكنه ليس بوجه وجيه.

2 - ما ذكره أستاذنا المتقدّم - دام ظله - من أن الفارق بين الصفتين أن الرحيم يدلّ على لزوم الرحمة للذات و عدم انفكاكها عنها، و الرحمن يدلّ على ثبوت الرحمة فقط... الخ و ذلك لما

ص: 259


1- البيان/ 300.
2- ديباجة شرح اللمعة.
3- يس 52/36.
4- يس 15/36.

افاده أولا بقوله: و من خصائص هذه الصيغة - الرحيم - أنها تستعمل غالبا في الغرائز و اللوازم الغير المنفكة عن الذات: كالعليم و القدير و الشريف و الوضيع و غيرها.

أقول: ليس مراده عدم انفكاك الرحمة عن ذاته تعالى مطلقا حتى يلزم قدم المرحوم فإنه لا يقول بقدم العالم.

و يظهر نم الأخبار فرق ثالث بينهما و هو أن الرحمة الرحمانية تعمّ جميع الخلق، و الرحمة الرحيمية تخصّ المؤمنين فقط، و هذه الروايات موجودة في أوائل تفسير البرهان(1):

منها: ما رواه بطرق عديده عن الصادقين عليهم السِّام في تفسير البسملة، قال:

«الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم ملك اللّه، و اللّه إله كل شيء، و الرحمن بجميع خلقه، و الرحيم بالمؤمنين خاصة».

و منها: رواية عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام:

«الرحمن بجميع خلقه، و الرحيم بالمؤمنين خاصّة».

و منها: مرسلة صفوان عنه عليه السّلام:

«قلت: الرحمن. قال: بجميع العامل. قلت: الرحيم. قال:

بالمؤمنين خاصّة».

و مثلها رواية ابن سنان، و قريب منها رواية أبي بصير. و هو المستفاد من رواية محمد بن سيار الطويلة عن العسكري عليه السّلام، و إليه يرجع ما في المجمع و الصافي من قول الصادق عليه السّلام:

«الرحمن اسم خاصّ لصفة عامة، و الرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة» فإن معناه أن لفظ الرحمن يختص باللّه و لا يطلق على غيره لكن معناه عام لجميع العالم، و لفظ الرحيم يطلق عليه و على غيره لكن معناه مخصوص بالمؤمنين، أو أن الرحمة الرحمانية خاصّة بالدنيا عامة للمؤمن و الكافر، و الرحيمية عامة للدنيا و الآخرة لكن مختصة بالمؤمنين.

و لا منافاة بين هذه الروايات و ما في المجمع من رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه و اله:

«قال عيسى بن مريم: الرحمن رحمن الدنيا، و الرحيم رحيم الآخرة، فإنه رحمان في الدنيا برحمته على الجميع، و رحيم في الآخرة برجوع رحمته إلى ما يتعلّق بالآخرة و إن كانت الرحمة على المؤمنين في الدنيا».

و أما ما عن الصحيفة السجادة من قوله عليه السّلام:

«يا رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما» فلا شك في أنه رحيم على المؤمنين في الدنيا و الآخرة.

نعم يشكل إثبات الرحمة الرحمانية في الآخرة و يمكن أن تكون مختصّة بالمؤمنين؛ إذ لا دليل على انقطاع الرحمة المذكورة في الآخرة حتى من المؤمنين. نعم في الصافي عن تفسير

ص: 260


1- و يوجد بعضها في تفسير القمي و بعضها في الكافي و في غيرهما، و فيها الصحيح و غيره.

العسكري: «الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، و بعباده الكافرين في الرفق في دعائهم إلى موافقته». فينافي ما تقدم.

و يمكن ان يقال: ان شمول الرحمة الرحيمية للكافرين إنما هي من جهة دعوتهم إلى الإيمان و الدين، فلا ترتبط بأمور دنياهم، فلا منافاة بينهما.

فإذا ثبت ذلك فقد بان لك ضعف الفرقين المتقدمين، نعم هذا الفرق يلائم القول الثاني، فإن الرحمة الرحمانية حيث لا تلازم الذات فهي منحصرة في الدنيا، و الرحيمية حيث لا تنفكّ عنها فهي عامة في الدارين، و لكن سيدنا الاستاذ - دامت أيام إفاداته - لم يرتض هذا الفرق و قال: لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها؛ لمخالفتها الكتاب العزير، فإنه قد استعمل فيه لفظ الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة كقوله تعالى:

1 - فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

2 - نَبِّئْ عِبٰادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ (2).

3 - إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (3).

4 - رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً(4).

5 - وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنْ شٰاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً(5).

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و في بعض الأدعية و الروايات: رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما.

نقد كلام سيدنا الأستاذ الخوئي ثم قال - دام ظله الوارف -: و يمكن أن يوجّه هذا الاختصاص بأن الرحمة الإلهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة فكأنها لم تكن رحمة، و ما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب و الخسران، فان الرحمة الزائلة تندكّ أمام العذاب الدائم لا محالة، و بلحاظ ذلك صح أن يقال:

الرحمة مختصّة بالمؤمنين أو بالآخرة. انتهى كلامه الشريف.

أقول: و من الواضح أن اللّه لا يغفر للمشركين و الكافرين، ففي كل آية ذكرت صفة الغفور

ص: 261


1- إبراهيم 36/14.
2- الحجر 49/15.
3- الحج 65/12.
4- الإسراء 66/17.
5- الأحزاب 24/32.

قبل صفة الرحيم كانت صفة الرحيم مختصّة بالمؤمنين بشهادة السياق و إن لم تكن تلك الروايات ثابتة، و منه ظهر عدم متانة الاستدلال بالآية الأولى و الثانية و الثالثة التي هي العمدة.

أو نقول كما قال الصادق عليه السّلام كما في تفسير الصافي في ذيل الآية الأولى: تقدر ان تغفر له و ترحمه. و لا شك إن اللّه قادر على أن يرحم الكفّار بالرحمة الرحيمية.

ثم إن شمول الرحمة الرحيمية لغير المؤمنين في هذه الآيات و غيرها إنّما هو بالإطلاق أو بالعموم؛ إذ لم أجد آية دلّت على أن اللّه رحيم بالكافرين، و لا شك أن هذه الروايات صالحة للتقييد و التخصيص، كما هي من الضروريات الفقهية و المسلّمات الأصولية في هذه الأعصار.

و أما ما أفاده من التوجيه فهو إنما يتمّ إذا كانت الرحمة بإطلاقها منفيّة عن الكافرين و ثابتة للمؤمنين، و الحال أنه ليس كذلك بل المنفي هو الحصّة الخاصّة منها، فيلزم أن تكون الرحمة الرحمانية غير مندكّة أمام العذاب الدائم، و هو كما ترى فافهم.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الرحمة من صفات أفعاله تعالى، فإنه بمعنى الفضل و الجود و الكرم و نحوها فما في مشتقات كفاية الأصول للمحقق الهروي و أنوار التوحيد لسبط النراقي - رحمهما اللّه - من عدها من الصفات الذاتية ممّا لا وجه له أبدا، كما أن ما يظهر من المحقّق الطوسي في تجريده من أن وجوب الوجود يدلّ على ثبوت جوده أيضا غير تام؛ بناء على ما هو المختار عنده و عندنا من اختيار الواجب، فيمكن أن يكون الواجب غير رحيم و جواد.

نعم الذي يتخيل ضرورة صدور فعله عنه له أن يدّعى ذلك كما هو ظاهر.

ثم إنّ الرحمة و الجود لا تنافي تعلّل أفعاله بالأغراض العائدة إلى غيره بل تؤكّده خلافا للفلاسفة، و سيأتي بحثه إن شاء اللّه الرحمن.

ثم إن الظاهر من العلاّمة الحلي(1) و القوشجي(2) في شرحهما على التجريد. إرجاع الرحمة و الكرم و الرضاء إلى الإرادة و هو غير صحيح، فان الرحمة غير الإرادة قال اللّه تعالى:

يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشٰاءُ. فتأمّل رحمنا اللّه و إياكم فإنه رحمان رحيم.

ص: 262


1- شرح التجريد للعلاّمة الحلّي/ 185.
2- شرح التجريد للقوشجي/ 372.
الفريدة السابعة في أنه جبّار و قهّار

ص: 263

الفريدة السابعة في أنه جبّار و قهّار فهو يجبر الخلق على الأمور التي ليس لهم فيها اختيار أو يجبر حالهم و يصلحها.

و أمّا القهر فهو إما بمعنى القدرة أو بمعنى الغلبة، قال أمين الإسلام الطبرسي(1): و الجبار في صفة اللّه صفة تعظيم لأنه يفيد الاقتدار، و هو سبحانه لم يزل جبارا بمعنى أن ذاته تدعو العوارف بها إلى تعظيمها، و الفرق بين الجبّار و القهّار أن القهار هو الغالب لمن ناواه، أو كان في حكم المناوي بمعصيته. إياه و لا يوصف سبحانه فيما لم يزل بأنه قهّار، و الجبّار في صفة المخلوقين صفة ذمّ لأنه يتعظم بما ليس له، فان العظمة للّه سبحانه. انتهى.

قال العلامة في شرح التجريد: فهو يجبر لما بالقوة بالفعل و التكميل كالمادة بالصور. و فسّر القهار بمعنى أنه يقهر العدم بالوجود و التأثير.

أقول: و المتحصّل أن الجبار إن أخذ من الجبران أو الغلبة فهو من صفاته الفعلية، و إن أخذ من العظمة و نحوها كما في كلام الامين الطبرسي و شيخنا الأجل الصدوق و غيرهما فهو من الصفات الذاتية، و أمّا القهر فهو بمعناه الأول من الثانية و بمعناه الثاني من الأولى.

ص: 264


1- مجمع البيان 299/1.
الفريدة الثامنة في رضائه و سخطه

ص: 265

الفريدة الثامنة في رضائه و سخطه قد ثبت بالقرآن و السنة اتّصافه بالرضاء و الغضب و السخط، و لا شك أن هذه من الصفات النفسانية الممتنعة على الواجب المجرّد عن الجسم و لواحقه، و أما إرجاع الرضاء إلى الإرادة - و لا سيما إذا كانت من الصفات الذاتية - فهو فاسد جدا كما مرّ، و الاستعمالات القرآنية لا تناسبه، و في بعض الروايات: «شاء و أراد و لم يرض» إلاّ أن يراد به في الرواية الرضا التشريعي.

و الحاصل: أن المستفاد من الظواهر الشرعية كون هذه الصفات من الصفات الفعلية، و حينئذ لا بدّ من العمل بالقاعدة الناطقة ب «خذ الغايات و اترك المبادئ» فيحتمل أن رضاه ثوابه، و غضبه و سخطه، عقابه، كما تدلّ عليه الأخبار أيضا. و يمكن استعمالها بمعنى إرادة الثواب و العقاب، بمعنى كتابتهما في اللوح أو في صحيفة أعماله. و هذا المعنى محتمل قويا في جملة من موارد استعمالاته في الشريعة المقدسة.

ثم إن الروايات الواردة في الباب ست(1) نذكر إحداها و هي ما رواه ثقة الإسلام الكليني(2)باسناده عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل ابا عبد اللّه عليه السّلام فكان من سؤاله أن قال له: فله رضاء و سخط؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «نعم و لكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، و ذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال؛ لأن المخلوق أجوف معتمل مركب، للأشياء فيه مدخل، و خالقنا لا مدخل للأشياء فيه؛ لأنه واحد، واحدي الذات، واحدي المعنى فرضاه ثوابه و سخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه و ينقله من حال إلى حال؛ لأن ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين. رضي اللّه عنّا و عنكم.

ص: 266


1- لاحظ أصول الكافي، البحار 66/4.
2- أصول الكافي 110/1.
الفريدة التاسعة في جملة من صفاته الفعلية الأخر

ص: 267

الفريدة التاسعة في جملة من صفاته الفعلية الأخر

فمنها أنه قيوم. قال الصدوق(1): القيوم و القيام... من قمت بالشيء إذا وليته بنفسك و توليت حفظه و إصلاحه. انتهى.

و عليه فهو من الصفات الفعلية. و قال العلامة في شرح التجريد: إنه قائم بذاته مقيم لغيره.

و عليه فهو من الصفات الذاتية باعتبار جزئه الأول.

و منها: أنه واسع، قال الامين الطبرسي(2) و الواسع في صفات القديم اختلف في معناه، و قيل: إنه واسع العطاء أي المكرمة، و قيل: هو واسع الرحمة، و يؤيده قوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ. و قيل: إنه واسع المقدور. انتهى.

و قيل: الواسع المحيط بكل شيء علما. و قيل غير ذلك، فعلى بعض الوجوه صفة ذاتية، و على بعضها الآخر فعلية، و الأمر سهل.

و منها: أنه نور، كما قال: اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ (3). قيل: النور ظاهر بنفسه مظهر لغير و اللّه كذلك. و قيل: إنه بمعنى المنور أي موجد النور و يؤيده قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ (4)فإن الإضافة تدلّ على المغايرة، و في جملة من الروايات(5) أنه بمعنى الهادئ، و المناسبة بين النور و الهداية غير خافية، فهو من الصفات الفعلية لكن في صحيح هشام بن سالم و رواية جابر المتقدّمين - في بحث صدقه - أنه نور لا ظلمة فيه، فهو من الصفات الذاتية، و لعلّه حينئذ بمعنى الوجود أو الكمال، فللنور معنيان: الاول الوجود و الكمال و العظمة، و الثاني الهداية نورنا اللّه.

و منها: أنه وكيل بمعنى أنه قائم بأمر مخلوقه كما قال: وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً(6) و قد نفى

ص: 268


1- البحار 201/4.
2- مجمع البيان 275/1.
3- النور 35/24.
4- النور 35/24.
5- البحار 15/4.
6- النساء 81/4.

الوكالة عن نبيّه الأعظم صلّى اللّه عليه و اله كما قال: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (1)، قال الطريحي في مجمع البحرين عند قوله تعالى: أَلاّٰ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً(2)، أي معتمدا تكلون إليه أموركم، و على الأول فهي صفة فعلية، و على الثاني فهي صفة مدحية.

و منها: أنه لطيف، و قد ذكرت له معان ثلاثة: الأول: أنه ذوبرّ و إحسان، و الثاني: أنه لطيف في فعله و تدبيره، الثالث: أنه الخالق للأشياء اللطيفة، ففي الحديث الاهليلجي المعروف: قلت سمّيناه لطيفا للخلق اللطيف، و لعلمه بالشيء اللطيف ممّا خلق من البعوض و الذرة و ما هو أصغر منها، لا يكاد تدركه الأبصار و العقول لصغر خلقه من عينه و سمعه و صورته، أنّه لطيف بخلق يخلق اللطيف كما سميناه قويا بخلق القوي.

أقول: و لعلّ هذا منه عليه السّلام تنبيه على وجود المكروبات و الجراثيم المستكشفة في هذه الأعصار بالآلات المخصوصة المستحدثة المعدومة في زمانه عليه السّلام، فهو من معجزاته سلام اللّه عليه و آله و على آبائه الطاهرين و أبنائه الطيّبين.

و في نهاية البحث، إنّه تعالى كلّ يوم في شأن جديد. و إنّه فعال لما يشاء.

و انّه لا حول و لا قوّة إلاّ به. و في الحديث المعتبر سندا: «يا من يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء أحد غيره»، فله صفات فعلية كثيرة.

ص: 269


1- الأنعام 66/6.
2- الإسراء 2/17.
خاتمة في حدوث أفعاله
اشارة

المقام الأول: في نقل الأقوال

المقام الثاني: فيما استدلّ به لقدم العالم

أدلّة حدوث العالم

النقل و الحدوث

أوّل ما خلقه اللّه

فناء العالم

تعدّد العوالم

استدراك

ص: 270

خاتمة في حدوث أفعاله قد مرّ أن صفاته إمّا ذاتية و إمّا مدحية و إمّا فعلية، و هي نفس أفعاله تعالى، و المقصود هنا أن فعله بتمامه هل هو حادث أم لا؟ بل منه ما هو قديم و منه ما هو حادث؟ و هذا هو النزاع المعروف بحدوث العالم و قدمه.

و المراد بالحدوث هو المسبوقية بالعدم لا بالغير فقط و إن لم يكن مسبوقا بالعدم، فإنه ليس من الحدوث في شيء، نعم اصطلح الفلسفة على ذلك، و لا مشاحة في الاصطلاح. فالحدوث عندهم مرادف للإمكان الذاتي. و الحاصل أن مرادنا بالحدوث هو معناه الواقعي، و هو المسبوق بالعدم. و الكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في نقل الأقوال

1 - حدوث ما سوى اللّه و صفاته، فالأشياء صادرة عنه تعالى بعد أن لم تكن أصلا. هذا هو مذهب المتكلّمين قاطبة، بل ادّعى غير واحد اتّفاق المليين عليه، بل نسب إلى جمع ما أساطين الحكمة و قدمء الفلاسفة، و قيل: إن القول بقدم العالم و أزلية الحركات ظهر بعد أرسطو(1). و لكن ستعرف أن حدوث العالم بمعناه الواقعي ممّا لم يلتزم به فرقة غير الشيعة الإمامية. فيما أعلم.

2 - قدم السماوات بذواتها و صفاتها إلاّ الحركات و الأوضاع، فإنهما قديمتان بالنوع فقالوا:

إن الفلكيات قديمة بموادّها و صورها الجسمية و النوعية و بمقاديرها و أشكالها و غيرهما من الأعراض، و أمّا العنصريات فقديمة بموادّها و بصورها الجسمية بنوعها و بصورها النوعية بجنسها، و أمّا الصور المشخّصة في هذه الصور الجسمية و النوعية و الأعراض المختصة فهي حادثة. حكي عن أرسطو و من وافقه و منهم الفارابي و ابن سينا و غيرهما.

أقول: و لا شك في أنهم قائلون بقدم العقول أيضا، بل مرّ التزامهم بقدم الصور المرتسمة في

ص: 271


1- البحار 49/14.

ذاته تعالى التي جعلوها مناط علمه بالأشياء، و سموها بالعلم التفصيلي.

3 - قدم العالم ذاتا و حدوثه صفة، نسب إلى جماعة، لكن اختلفوا في هذه الذات القديمة فقيل: إنه ماء، و قيل: إنه بخار، و قيل غير ذلك.

4 - ما ذهب إليه صاحب الأسفار و من تبعه من قدم العقول و حدوث الطبائع من جهة الحركة الجوهرية، لكن هذا الحدوث حدوث فردي و ليس بنوعي لئلاّ يلزم انقطاع الفيض و إمساك الجود، كما صرح به نفسه و السبزواري في شرح المنظومة، و على هذا القول يتمّ القياس المعروف: إن العالم متغيّر، و كل متغير حادث، و لا يرد عليه حينئذ منع الصغرى في الذوات و اختصاصها بالصفات.

5 - ما ذكره السيد الداماد من حدوث العالم بأجمعه، لكنه حدوث دهري، و أوضحه السبزواري في شرح منظومته و إليك ملخصه: إن كل موجود فلوجوده وعاء أو ما يجرى مجراه، فوعاء السيالات كالحركات و المتحرّكات هو الزمان سواء كان بنفسه أو باطرافه، و ما يجرى مجري الوعاء للمفارقات النورية هو الدهر، و هو كنفسها بسيط مجرّد عن الكمية و الاتّصال و نحوها، و ما يجري مجرى الوعاء للحق و صفاته و أسمائه هو السرمد، فمعنى الحدوث الدهري: أن عالم الملك(1) مسبوق بالعدم الدهري؛ لأنه مسبوق بوجود الملكوت الذي وعاؤه الدهر سبقا دهريا.

و إن شئت فقل: إنّ وجود عالم الملك مسبوق بعدمه الواقعي الفلكي الواقع في عالم الدهر، بمعنى أنه ليس بموجود بالوجود الدهري، فهو حينئذ معدوم بذلك الوجود، بل هو موجود بوجود عالم الملك كما قيل. و هكذا حال الدهر بالنسبة إلى السرمد.

و الحاصل: أن العالم عنده مسبوق الوجود بالعدم الواقعي الدهري، لا الزماني الموهوم كما يقول المتكلّم، و لا العدم المجامع الذي في مرتبة الماهية فقط كما ينسب إلى بعض الفلاسفة.

6 - ما ذكره السبزواري في شرح المنظومة من الحدوث الأسمى و هو غير واضح، و شرحه بعض الأفاضل بما يرجع إلى نفي العالم رأسا.

المقام الثاني: فيما استدلّ به لقدم العالم
اشارة

و هو وجوه لكنا نذكر أهمّها، و هو أنه إذا لاحظنا الواجب أزلا في طرف و جميع ما عداه - بحيث لا يشذّ عنه شيء - في طرف آخر، فحينئذ إما أن يكون الواجب سبحانه علّة تامة لشيء ما أم لا، و على الأول يلزم قدم ذلك الشيء المعلول؛ ضرورة استحالة تخلّف المعلول عن

ص: 272


1- و هو عالم الناسوت و يقال له: عالم الشهادة أيضا.

علّتة التامة؛ و على الثاني توقّف وجود الأثر - و هو العالم - على شيء آخر، فهذا مع كونه خلفا يرد عليه أنّ هذا الشيء إن كان قديما فقد ثبت أيضا قدم العالم، و إن كان حادثا فلا بدّ له من مرجّح حادث، و إلاّ لكان الحادث غير حادث، ثم ننقل الكلام إلى ذلك المرجّح الحادث في احتياجه إلى مرجّح آخر حادث، و هكذا إلى غير النهاية، فيلزم قدم العالم من وجود حوادث لا أول لها.

و إن شئت فقل: إن العالم بماله من الشروط الحادثة المذكورة بحيث لا يشذّ عنها شيء، إذا لا حظنا الواجب إليه فهو إما علة تامة له ام لا، الاول يثبت المطلوب، و الثاني يوجب نفي وجود العالم أزلا و أبدا.

أقول: و هذا أقوى دليلهم في هذا المقام، و قد أجاب عنه المتكلّمون بوجوه عديدة و بجوابات مختلفة، و إليك بيان بعضها:

الجواب الأول: ما هو المشهور بين المتكلّمين(1) من أن الفلاسفة إنما يقولون بقدم العالم لزعمهم لزوم توسّط أمر ذي جهتي استمرار و تجدّد بين الحادث اليومي و القديم؛ لئلا يلزم التخلف عن العلة التامّة.

و نحن نقول: إنه الزمان و لا يلزم القدم لكونه أمرا اعتباريا انتزاعيا، و أدلة وجوده مدخولة و لا نقول بانتزاعه من موجود ممكن حتى يلزم القدم أيضا، بل هو منتزع من بقائه تعالى(2) فكما انهم يصحّحون ربط الحادث بالقديم بالحركة و الزمان، كذلك نصححه أيضا بالزمان و كون الزمان مقدار حركة الفلك ممنوع، بل نعلم بديهة أنه إذا لم يتحرك الفلا مثلا، يتوهّم هذا الامتداد المسمّى بالزمان، و القول بأنّه لعلّه من بديهة الوهم لا يصغى اليه.

ثم إنّ الزمان و إن كان وهميا إلا أنه ليس باختراعي، بل و نفس أمري؛ و مثل هذا الوهمي يصحّ انّ يكون منشأ للأمور الموجود، لا بأن يكون فاعلا لها بل دخيلا فيها.

و حاصل هذا الجواب: أنا نختار أنه ليس في الأزل مستجمعا لشرائط التأثير.

قولهم: فلا بد له من مرجح حادث.

قلنا: هو تمام قطعة من الزمان يتوقّ Ṣ عليها وجود العالم و يرتبط به الحادث بالقديم على نحو ما التزمه الفلاسفة في الحركة.

ص: 273


1- السماء و العالم/ 57.
2- هذا هو المسمى بالزمان الموهوم، و هو الامتداد الموهوم المنتزع من بقاء الواجب. و أما الزمان المتوهّم فهو الامتداد الموهوم غير المنتزع من بقاء الواجب، فالموهوم ما لا فرد لا يحاذيه، و لكن له منشأ الانتزاع، و المتوهّم ما لا فرد له و لا منشأ لانتزاعه. و يجعلون هذا الزمان وعاء لعدم العالم، فيقولون: إن العالم حادث زماني و ليس بقديم.

و ما قيل: من امتناع انتزاع الزمان من بقاء الواجب لعدم المناسبة بين الأمر التدريجي و ما لا تدريج فيه أصلا، و إنما هو منتزع من الحركة القطعية التي هي أمر تدريجي غير قارّ.

فجوابه: أن اعتبار المناسبة المذكورة غير بيّن و لا بمبين على نحو الإطلاق، و على فرض تسلميه فهو غير منحصر فيما نفهمه، لاحتمال وجود مناسبة خفيّة علينا، ألا ترى أن أكثر الانتزاعيات - كالزوجية و الفردية و الفوقية و التحتية و غيرها - ينتزع من محالها و لا يحكم وجداننا بتحقّق مناسبات تفصيلية بين كلّ منتزع و ما ينتزع منه؟

لا يقال: البقاء ينتزع من الزمان فلو عكس لدار.

فإنّه يقال: إن الزمان المزبور ينتزع من نفس وجود الواجب الذي لا يعرضه العدم، فتوقّف البقاء عليه لا يستلزم محذورا.

فإن قلت: لو انتزع الزمان منه لكان صفة له، كما هو شأن سائر ما ينتزع منه، مثل العلم و الإرادة و القدرة و الخلق و غيرها، مع أنه لا يتّصف به لا بالحمل مواطاة و هو ظاهر، و لا اشتقاقا فإنه ليس بزماني.

قلنا: لا نسلم أن كلّ ما ينتزع من شيء يجب أن يكون صفة له؛ لأن مناط الوصفية هو وجود العلاقة الناعتية بينهما، و استلزام الانتزاع لهذه العلاقة غير بيّن و لا بمبين، ولو سلم فنقول: إن ما ورد من أنه تعالى لبيس بزماني و لا بمكاني معناه: أنه كما لا يحيط به مكان حتى يكون ظرفا له مشتملا عليه، كذلك لا يحيط به زمان حتى يتقدّم عليه جزء من ذلك الزمان و يتأخّر عنه جزء آخر منه، فيكون وجوده مقارنا لحدّ خاصّ من الزمان مسبوقا بحدّ آخر منه خال عن وجوده.

و أما مقارنة الحقّ القديم للزمان و تحقّقه معه في نفس الأمر من الأزل إلى الأبد، فلا شكّ في صحّته و وقوعه. و هذا المقدار كاف فيما نحن بصدده.

و أما عدم اتّصافه بالمكان فلعدم تحقّق كلا المعنيين المفروضين في الزمان هناك، فليس المكان محيطا به و لا مقارنا له. ثم إن ما ورد شرعا من أنه قديم أزلي سرمدي أبدي دائم و غيرها يشهد ب. نه تعالى زماني بالمعنى الثاني، و ليس فيه مانع.

الجواب الثاني: ما استظهره المجلسي قدّس سرّه من أكثر قدماء الإمامية و اختاره هو أيضا و قال:

إنه في غاية المتانة، و هو مبنى على عدم صحّة انتزاع الزمان منه تعالى و على أنه ليس بزماني مطلقا.

و محصّله: أنا لا نسلم تخلّف المعلول عن العلّة في فرض حدوث العالم، فان التخلّف إنما يتصوّر لو كانت العلّة زمانية و وجدت العلّة في زمان و لم يوجد المعلول معه في ذلك الزمان، و هنا لعلّ العلّة و المعلول كليهما لم يكونا زمانيين، أما العلّة فانتفاء الزمان عنها واضح، و أما

ص: 274

المعلوم فالكلام في الصادر الأول، و هناك لم يوجد زمان و لا زماني أصلا.

و بالجملة: إذا كانت العلّة و المعلول كلاهما زمانيين يجب أن يجمعها آن أو زمان، و إلاّ فلا، و نظيره التخلّف المكاني، فإنه لو كانا مكانيين يتصوّر الاجتماع و الافتراق و المماسة و اللامماسة، و أما إذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مكانيين لم يتصوّر أمثال هذه الأمور، و كذا إنما يتصوّر الترجيح بلا مرجّح إذا تحقّق زمان وقع أمر في جزء منه دون جزء و صدر المعلول عن العلّة مرّة و لم يصدر مرة أخرى، فإذا فرضنا الزمان معدوما فلا يجري فيه أمثال هذه الأوهام الكاذبة الحاصلة من الألفة بالزمان و المكان.

فصاحب هذا القول يقول: بأن الزمان و الحركات و سلسلة الحوادث كلّها متناهية في طرف الماضي، و أن جميع الممكنات ينتهي في جهة الماضي في الخارج إلى عدم مطلق و لا شيء بحت، لا امتداد فيه و لا تكمّم و لا تدريج و لا قارّية و لا سيلان.

و يقرب من هذا القول أو يرجع إليه ما أفاده المحقق الطوسي قدّس سرّه في تجريده، و محصّله: أن الحدوث اختصّ بوقت الإحداث، لانتفاء وقت قبله، فلا معنى لطلب الترجيح فيه.

أقول: لكن السؤال يتوجّه إلى نفس الوقت المذكور، و أنه لم وجد في هذا الحدّ دون سابقه؟ إلا أن يقال: لا تدرّج و لا امتداد قبل الوقت المذكور حتى يسأل عن الترجيح، فتأمل.

الجواب الثالث: ما قيل من عدم تحقّق جميع ما لا بدّ منه في وجود العالم في الأزل، إذ من جملته تعلّق الإرادة بوجوده في الأزل، و لم تتعلّق الإرادة بوجوده في الأزل بل وجوده فيما لا يزال من الأوقات الآتية لحكمة و مصلحة.

الجواب الرابع: النقض بالحادث اليومي، فإن هذا الوجه لو تمّ لابطل الحادث مطلقا، إذ نقول حينئذ: هل الواجب علّة تامّة لشيء ما أم لا؟ فعلى الثاني ينتفي العالم، و على الأول نأخذ الصادر الأول، و نقول: الواجب مع هذا الصادر إما أن يكون علّة تامّة لشيء ما ممّا عداهما أم لا، و يلزم قدم الصادر الثاني، و هكذا ينتهي إلى الحادث اليومي فيدخل في سلسلة القدماء، و هذا خلف.

الجواب الخامس: ما ذكره المستحلّون للترجيح بلا مرجّح من أن الفاعل المختار يتمكّن من إيجاد فعل بلا مرجّح وداع.

إلى غير ذلك من الأجوبة التي لا حاجة إلى نقلها.

لكنّ الخامس باطل كما مرّ في مبحث الترجيح بلا مرجّح، و قد عرفت أن الحقّ هو التفصيل الثاني.

و الرابع فيه بحث طويل الذيل.

ص: 275

و الثالث ممنوع؛ اذ الامتداد الوهمي المذكور عدم بحت لا تأثير له في توليد المصلحة في طرف المفعول، فإن كان أصلح فهو كذلك أزلا، فلا يقاس بالحوادث الزمانية التي يختلف صلاحها و فسادها باختلاف الزمان.

و الثاني يصعب قبوله؛ إذ بعد تمامية فاعلية الواجب و كونه علّة تامّة لا يتصوّر تخلّف المعلول عنه، و قدماء الإمامية لم يثبت منهم تجويز هذا المعنى، و عبارة المجلسي المتقدّمة أيضا غير ظاهرة حقّ الظهور في هذه النسبة إليهم، بل الظاهر منها هو نفي الزمان الموهوم عنه تعالى، فلاحظ.

و الأول أورد على بامتناع انتزاع الأمر التدريجي عن من هو بريء من التدرّج و السيلان، اللهم إلا أن يقال: ان الوجهين المذكورين - الاول الثاني - و إن لم يكونا بثابتين، لكنّهما يوجبان الاحتمال المنافي للدليل المتقدّم، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

تحقيق و تفنيد

هذا الذي ذكره الفلاسفة و تشعّب المتكلّمون في جوابه إلى شعب مجرّد تلفيق لا واقع له أصلا، بل السؤال المذكور فيه غلط لا مسرح له في المقام.

توضيح ذلك: أن ما عنه التأثير على قسمين: الفاعل المختار و العلّة الموجبة، و الأول كالحيوان؛ إذ له أن يفعل و له ان لا يفعل، و الثاني كالأسباب الطبيعية، و السؤال المذكور في الدليل المزبور إنما يتمشّى على الثاني فإن المؤثّر الطبيعي إمّا تامّة كالنار بالنسبة إلى الحرارة و الشمس بالنسبة إلى النهار، و إما ليس كذلك بل مقتض له يتوقّف تنجّز أثره على شرط أو أمر آخر كالنار بالقياس إلى الإحراق و الشمس إلى التسخين. و أما الفاعل المختار فمهما بلغ شوقه إلى إيجاد الفعل الملائم له فهو متمكّن من الفعل و الترك، و لا يجب الفعل عنه أصلا، فإن الوجوب السابق باطل في أفعاله، فالفعل موقوف على إعمال قدرته لا على شوقه.

اذا تقرر ذلك فنقول: إنا قد قرّرنا سابقا أن اللّه تعالى ليس بعلّة موجبة بفتح الجيم، و حقّقنا أيضا أن إرادته ليست هو علمه بالأصلح أو نفس ذاته ابتداء بلا رجوعها إلى العلم، بل هي حادثة؛ فحينئذ له أن يفعل و له أن لا يفعل، و السؤال المذكور لا مجرى له في حقّه تعالى كما عرفت، و لنا أن نختار كلاّ من الشقين فنقول: إنه تعالى كان مستجمعا لجميع شرائط التأثير، و علة تامة، بمعنى أنه غير محتاج إلى شيء بحيث إن شاء لفعل، أو نقول: إنه ليس مستجمعا لشرائط التأثير، و ليس بعلّة تامة، و نعني به أن الفعل غير صادر عنه؛ لأنه لم يرده و لا يمكن صدوره عنه اضطرارا و إيجابا.

فهذا السؤال - بعد تمهيد الأصول السالفة الحقّة من اختياره تعالى و حدوث إرادته - ممّا لا

ص: 276

مجال له أبدا من جهة الحكمة النظرية و أحكام العقل العلمية. نعم يمكن أن يقرّر الاستدلال من وجهة الحكمة العملية فيقال: الواجب و ان كان مختارا غير أن إهمال الأصلح أو الصالح قبيح منه، و هو لحكمته البالغة لا يفعله و ان كان قادرا عليه، بل مرّ أن صدور الأكمل أو الكامل لازم عنه، فهذا السؤال له وجه و لا يدفعه الوجوه المتقدّمة كما هو مسلم عند من انصف من نفسه.

و لكن هؤلاء القوم لو تركوا العصبية و العناد، و امتنعوا من السب و الطعن، و أسكتوا غضبهم لنجيبهم بأنّ قدم الممكن ممتنع، و الممتنع المحال لا يعقل صدوره عن الواجب؛ إذ لا قابلية له لتعلّق القدرة الكاملة العميمة الواجبة به فأين ترك الجود و امساك الفيض؟ و أين البخل؟ و مع الغض عما قلناه آنفا أين تخلّف المعلول عن العلّة؟ فإن الشيء اذا كان ممتنع الوجود لا يصير معلولا ابدا، و هذا ظاهر.

و أما توضيح الجواب فسيمرّ عليك إن شاء اللّه، فانتظر و هذا الجواب يكفي لإبطال جميع الوجوه المستدلّ بها على قدم العالم.

أدلّة حدوث العالم

أكثر المتكلّمون دلائلهم على حدوث ما سوى اللّه، و قد نقل أكثرها صاحب الأسفار في آخر إلهيات كتابه الأسفار، و أجاب عنه حسب ما اقتضى تفكيره الفلسفي، و ها هنا وجوه أخر نذكرها نحن مع وجه واحد من تلك الدلائل، فمنها ما في المواقف و غيرها(1) من أن العالم فعل الفاعل المختار، و القديم لا يستند إلى المختار كما مر، فينتج من الشكل الثاني أن العالم ليس بقديم.

أقول: الصغرى برهانية عندنا كما دريت في مبحث الاختيار، و أما الكبرى فهي مسلّمة بين المتكلّمين و الفلاسفة فان القصد لا يتعلّق إلا بالمعدوم بالضرورة، لكن قد عرفت أن ما استدلّ لتصحيحها غير تمام و سيأتي ما يتعلق به.

و منها: ما دلّ على استحالة مطلق ما لا نهاية له في جانب الماضي من برهان التطبيق و غيره، لكننا أشرنا فيما مضى إلى أنه عندي غير تمام.

و منها: ما ذكره العلاّمة المجلسي قدّس سرّه(2) من أن الجعل لا يتصوّر في لقديم؛ لأن تأثير العلّة إما إفاضة أصل الوجود، و إما إفادة بقاء الوجود و استمرار الجعل الأول، و الاول هي العلّة الموجدة و الثاني هي المبقية، و الموجود الدائمي محال أن تكون له علّة موجودة كما تحكم به

ص: 277


1- شرح المواقف 494/2.
2- السماء و العالم/ 52.

الفطرة السليمة، سواء كان بالاختيار أو بالإيجاب لكن الأول أوضح و أظهر، و ممّا ينبّه عليه أن في الحوادث المشاهدة في الآن الأول تأثير العلّة هو إفاضة أصل الوجود، و في كل آن بعده من آنات زمان الوجود تأثير العلّة هو إبقاء الوجود و استمرار الجعل الأول، فلو كان ممكن دائمي الوجود، فكل آن يفرض من آنات زمان وجوده غير المتناهي في طرف الماضي فهو آن البقاء و استمرار الوجود، و لا يتحقّق آن إفاضة أصل الوجود، فجيمع زمان الوجود هو زمان البقاء، و لا يتحقق آن و لا زمان للإيجاد و أصل الوجود قطعا.. لو كان... قديما لزم أن لا يحتاج إلى علّة أصلا، أما الموجدة فلما مرّ، و أما المبقية فلأنها فرع الموجدة.

أقول: يظهر حاله ممّا يأتي إن شاء اللّه.

إنارة عقليّة

لا ريب في أن ما سوى اللّه تعالى ممكن كما تنطق به أدلة التوحيد، و هذا ممّا اتّفق عليه الفريقان، و كلّ ممكن فهو حادث لا محالة، فالعالم حادث و هذا هو المطلوب.

أما الكبرى فنقول في تصحيحها: إن الممكن مفتقر في تحقّقه إلى مؤثّر بالضرورة؛ و لا يعقل أن يوجد حال وجوده فإنه من تحصيل الحاصل المحال، فلا بدّ أن يوجد حال لا وجود له، فيكون وجوده مسبوقا بلا وجوده، و هذا هو معنى الحدوث.

و قرّره في الأسفار هكذا(1): تأثير المؤثر إما حال عدمه أو حال حدوثه أو حال بقائه، و الأولان يفيدان لادعوى، و الثالث باطل؛ لأنه يلزم تحصيل الحاصل و هو محال.

ثم قال: و الجواب، أنا نختار أن التأثير في حال الوجود و البقاء، قوله: ذلك إيجاد للموجود أو إبقاء للباقي. قلنا: ليس الأمر كذلك و إنما كان كذلك لو كان الفاعل يعطيه وجودا ثانيا و بقاء مستأنفا و ليس كذلك، بل الفاعل يوجده بنفس هذا الايجاد؛ لأن تأثير الفاعل في شي عبارة عن كونه تابعا له في الوجود، واجب الوجود بعلته.

ثم الذي يدلّ على أن التأثير يجب أن يكون في حال الوجود وجوه:

أحدها: إنه لو بطل أن يكون التأثير في حال الوجود، وجب أن يكون إما في حال العدم، و يلزم من ذلك الجمع بين الوجود و العدم، و ذلك ممتنع، أو لا في حال الوجود و لا في حال العدم، فيلزم من ذلك ثبوت الواسطة بينهما، و ذلك أيضا باطل.

ثانيها: إن الإمكان - في كلّ ممكن - علّة تامّة للاحتياج، لما يحكم هذا العقل بأنه أمكن فاحتاج، فلو لم يحتج حال البقاء لزم إما الانقلاب في الماهية، أو تخلف المعلول

ص: 278


1- لاحظ أواخر فن ربوبياتها.

عن العلّة التامّة.

ثالثها:... إن صفاته زائدة على ذاته، قديمة موجودة بإيجاد الذات إياها عند الأشاعرة، فهي مادة النقض عليهم.

رابعها: إنه لو استغني الممكن في حال بقائه عن المؤثّر، فلزم أنه لو فرض انعدام الباري لم ينعدم العالم، و لزمهم أن لا ينعدم شيء من الحوادث، و ذلك باطل قبيح شنيع. لكن بعضهم التزموه... الخ.

خامسها: إن الدليل منقوض عليهم باحتياج الحوادث في الأعدام الازلية إلى العلة؛ إذ الممكن كما لا يوجد بنفسه لا ينعدم بذاته، فيلزم عليهم إعدام المعدوم. انتهى كلامه.

أقول: هذا الجواب بماله من الدلائل المذكورة لا يرجع إلى محصل، فإن ما اخترعه من عند نفسه من تفسير التأثير بكون المتأثّر تابعا للمؤثّر في الوجود لا يرجع إلى معنى معقول، بل معنى التأثير هو الإصدار و الإبداع و الايجاد و ا شئت فسمه، و هذا الإيجاد إما بنحو الترشّح كما في النار و الحرارة و غيرها من الأسباب الطبيعية، و إما بنحو التكوين لا من شيء كما في الحيوان و أفعاله الاختيارية.

و هذا التكوين مستلزم لعدم الفعل قبله كما هو المحسوس، و حيث إن الواجب فاعل مختار عند المليين كما مر، فتكون أفعاله - كأفعال الحيوان - مسبوقة بالعدم، بل و يمكن حينئذ دعوى الضرورة على حدوث العالم، فإن أفاعلينا المشاهدة مسبوقة بالعدم، و إنما توجد بعد عدمها، و التأثير في حال عدمها لا في حال وجودها، فكذا أفعال الواجب؛ اذ لا فرق بين أفعالنا و أفعاله تعالى من هذه الناحية، و ليست للقصد الكائن فينا مدخلية في هذا المعنى حتى يتفاوت الحال، كما لا يخفى.

ولب المرام و خلاصة المقال: أن الممكن إن كان موجودا قبل الإيجاد فهو ترجّح بلا مرجح، و إن كان معدوما فهو الحدوث المدّعى و لا شق ثالث بالضرورة.

و بالجملة: لو لم نقدر على دعوى أن كلّ ممكن يوجده المؤثر حادث، بدعوى أن تأثير العلل الموجبة في معاليلها هو متابعة المعلول علته في الوجود و ترشّحه عنه - كما ذكره المستدل - و هو لا يستلزم حدوث المعلول اذا كانت علته قديمة مع أن الدعوى المذكورة منظور فيها، فلا شك في قولنا: إن كل ممكن يوجده الفاعل المختار فهو حادث، و إلا لزم تحصيل الحاصل، بل ندّعي أنه محسوس؛ و حيث إن خالق الممكنات بأسرها هو الواجب المختار فيثبت أن كلّ ممكن حادث فافهم و اغتنم.

و المتحصل: أن حدوث العالم مبني على اختياره تعالى لا أن اختياره يستفاد من حدوث

ص: 279

العالم، كما يزعم أكثر المتكلّمين أو جميعهم.

هذا ما يرجع إلى نفس الجواب، أما ما استدلّ به من الوجوه الخمسة، فنقول:

إن الوجه الأول خلاف المحسوس في أفعالنا، و تحليل المقام: أن العدم في قولنا: الإيجاد حال العدم، أخذ على نحو الظرفية دون الشرطية، فنفس الإيجاد يخرجه من العدم، فلا يجتمع السلب و الإيجاب.

و الوجه الثاني عجيب؛ اذ من يقول بأن الإمكان ليس بعلّة الاحتياج؟ و ما هو ربطه بالمقام؟ و قد سلف تحقيق افتقار الممكن في البقاء في محلّه فلاحظ.

و بالجملة: علّية الإمكان للحاجة لا تنافي إشتراط العدم في المفعول، كيف و إيجاد الموجود بوصف كونه موجودا محال؟ لأنه من تحصيل الحاصل مع أن الإمكان ثابت له مع وصف الموجودية المذكورة.

و أما الوجه الثالث فإن تمّ فهو نقض على مقلدي الأشعري و غيرهم، كما أفاد المستدل.

و أما الوجه الرابع فقد ظهر جوابه من جواب الثاني.

و بالجملة: الدليل المتقدّم لا ينافي احتياج الممكن في بقائه حتى يلزم من إثباته بطلانه.

و أمّا الوجه الأخير فجوابه: إن الممكن ما لا يقتضي الوجود و لا العدم بحسب ذاته عند العقل، و أما بحسب الخارج فإن تحقّق مؤثّره فهو موجود و إلاّ فهو معدوم، فالإعدام غير الإيجاد؛ إذ الثاني أمر واقعي خارجى؛ و لذا لا يمكن تعلّقه بالموجود كما دريت، و أما الإعدام فهو أمر عقلي محض، و هو في الخارج عبارة عن عدم الإيجاد، فلا معنى للسؤال عن أن إعدام الممكن حال وجوده أو حال عدمه؟ حتى يلزم من الشق الثاني تحصيل الحاصل كما قصده المورد، بل هو عدم فعل المؤثّر، فلا تأثير و لا تأثّر.

و بالجملة: عدم المعلول من جهة عدم الإيجاد لكن بالاستناد العقلي، لا الخارجي كما في الإيجاد، فالموردان مختلفان فلا معنى للنقض، فافهم.

فإذن تحصّل أن العقل حاكم و الحس شاهد، بأنه يشترط في الفعل الاختياري تقدّم العدم عليه لا تقدّما رتبيا وحده كما زعمه السبزواري(1)، بل تقدّما فكيا واقعيا لا يجامع المتقدّم المتأخّر أصلا.

نعم إن صاحب الأسفار عقد بابا في الأمور العامّة من كتاب أسفاره(2)، و أورد فيه ثمانية أوجه على عدم اشتراط العدم في الفعل، و أصرّ على دلالتها على مطلوبه، لكن يظهر من كلامه

ص: 280


1- الأسفار 390/2، الحاشية.
2- الأسفار 383/2.

في أول هذا الباب أنه كان حين تقرير الوجوه المذكورة و إيرادها ساخطا على المتكلّمين المخالفين له و لأقرانه في هذا الباب، و كأن هذا السخط أوجب انحرافه عن جادة الاعتدال؛ فلذا لم يصب في شيء من كلماته، حيث إن الوجوه المذكورة كلها ضعيفة سخيفة، بل بعضها غير مربوط بالمقام، و بعضها إن تمّ لتمّ في خصوص العلّة الموجبة دون الفاعل المختار.

و لذا علّق السبزواري على أصل عنوان الباب: و كفى في إبطاله - أي إبطال تقدّم العدم على الفعل - لزوم تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، و لكننا برهنا على اختياره تعالى فلا ربط للبحث المذكور بالمقام.

و حيث إن ذكر تلك الوجوه الثمانية و إبطالها يفي إلى التطويل الممل تركناها و أهملنا إيرادها، و المنصف الفطن إذ لاحظها بدقّة يعرف وجه الخلل فيها، و اللّه الهادي.

و لنا دليل ثان على حدوث ما سوى اللّه من الموجودات، و هو ما برهنّا عليه من حدوث إرادته تعالى، فإن الأشياء مسبّبة عن إرادة اللّه تعالى اتّفاقا، و من الضروري تأخّر المعلول عن العلّة و تقدمها عليه، فإذا ثبت حدوث العلّة كان المعلول أولى بالحدوث بالضرورة، فالأشياء بأسرها حادثة لا محالة، و مرجّح الإحداث و الإرادة علمه تعالى بالأصلح، و كيفية قدرته أي كونه تعالى بحيث له أن يفعل و له أن يفعل.

لا يقال: الثابت ممّا تقدّم هو حدوث الإرادة شخصية لا نوعية، فيمكن قدمها بتعاقب أفرادها بلا انقطاع من الطرف الأول، كما لا انقطاع لها من الجانب الآخر اتّفاقا.

قلت: إذا كان كلّ فرد حادثا لكان الجميع حادثا بحكم الحدس القطعي، و هذا نظير ما ذكروه في برهان الحيثيات الدال على إبطال التسلسل، فلاحظ.

قال السيد الداماد في محكي القبسات(1): و القانون الضابط أن الحكم المستوعب الشمولي لكلّ واحد واحد إذا صحّ على جميع تقادير الوجود لكلّ من الآحاد مطلقا منفردا كان عن غيره أو ملحوظا على الاجتماع كالحكم بالإمكان على كلّ ممكن كان ينسحب ذيله على المجموع الجملي أيضا من غير امتراء، و إن اختصّ بكلّ واحد واحد بشرط الانفراد كان حكم الجملة غير حكم الآحاد (كالحكم على كل إنسان بإشباع رغيف إيّاه).

أقول: و المقام من قبيل الأول كما لا يخفى، فحدوث إرادته تعالى كما يترتّب عليها اختياره تعالى، كذا يترتّب عليها حدوث العالم، فتدبر.

ص: 281


1- شرح المنظومة/ 130.
النقل و الحدوث
اشارة

قد قضى العقل بحدوث الممكنات قاطبة، و أن كلّ ممكن موجود لا بد من مسبوقيّته بالعدم غير المجامع لوجوده، و أما الشرع فهو أيضا كذلك، و دلالته عليه من وجوه:

الأول: دعوى اجماع الأنبياء و الأوصياء عليه، كما عن السيد الداماد قدّس سرّه في قبساته(1)، و هو الظاهر من صاحب الأسفار أيضا.

أقول: و هي محتاجة إلى علم الغيب؛ إذ لا طريق لنا إلى أن نبيّا من الأنبياء - سلام اللّه عليهم - قال بحدوث العالم بالمعنى المتنازع فيه، فضلا عن إحراز اتّفاق جميعهم على ذلك، مع أنه إن تمّ لدلّ على نفي العقول أيضا، و لا يلتزم به مدّعي الإجماع نفسه.

الثاني: إجماع الملل الأربع عليه، و هم اليهود و النصارى و المجوس و المسلمون، ادّعاه جمع من المتكلّمين، كالشهرستاني في كتاب نهاية الاقدام و صحّحه المحقّق الطوسي(2)، و ادّعاه أيضا العلاّمة الحلّي قدّس سرّه لكن على حدوث الأجسام فقط(3) إلاّ أن يقال: العقول غير ثابتة أو غير ممكنة عند المليين، و حدوث الأجسام هو حدوث العالم. و ممّن ادّعاه أيضا العلاّمة المجلسي و كذلك في المواقف و شرحها(4)، و الإصبهاني في شرح طوالع الأنوار للبيضاوي (المسمى بمطالع الأنظار) و كذا غيرهم.

لكن الجزم بهذه النسبة مشكل، بل غير ممكن، فإن المنقول عن اليهود أن الواجب في الجهة كبقية الأجسام، و هو مماس للصفحة العليا من العرش و يجوز عليه الحركة و الانتقال و تبدل الجهات(5)، أليس هذا التزاما بقدم الجهة و العرش؟ و هذا هو مذهب محمد بن كرام من اهل السنة بعينه.

و أما النصارى فقولهم بالقدماء الثلاثة مشهور(6).

و أما المجوس فمنهم من قال بالقدماء الخمسة، و هي: النفس و الخلأ و الزمان و الهيولى و الواجب، و اختاره ابن زكريا الرازي؛ و منهم من قال بقدم النور و الظلمة، و منهم من قال بقدم الباري و الشيطان، و منهم من قال بقدم الكواكب السبعة، و منهم من قال بأزلية الطبائع

ص: 282


1- البحار 49/14 الطبعة القديمة.
2- المصدر نفسه.
3- شرح التجريد/ 100.
4- شرح المواقف 490/2.
5- شرح المواقف 16/3.
6- لاحظ الفصل في الملل 48/1.

الاربعة(1)... إلى غير ذلك من الخرافات، فأين اجماع الملل؟ إلا أن يقال: إنهم اتّفقوا على حدوث الأفلاك و العناصر، و هذا أيضا غير معلوم.

الثالث: الضرورة الدينية على حدوث ما سوى اللّه و صفاته، كما نقله المجلسي قدّس سرّه عن بعضهم(2).

أقول: الأشاعرة و غيرهم قالوا بقدم صفاته السبع أو الاحدى عشرة، و المعتزلة قالوا بثبوت الأحوال أزلا و لم يقولوا بحدوث جميع الأشياء، فكيف يمكن أن يقال: إن القول بقدم العقول كفر و مخالف للضرورة الدينية دون القول بقدم الصفات الزائدة؟ فكما أن الأشعري يتمحل بأنها لا هو و لا غيره، كذلك الفلسفي يقول: إن العقول ليست من العالم، بل هي من شؤون الواجب الوجود، موجودة بوجوده لا بإيجاده، باقية ببقائه لا بإبقائه كما صرّح به صاحب الأسفار، بل الالتزام بالقول الثاني أهون من الالتزام بالقول الأول بكثير، و ان كان كلاهما ممّا لا يرجع إلى محصل.

و أمّا المجسّمة و المشبّهة فحالهما أظهر من أن يخفى، فقولهم: بأن اللّه جالس على العرش في جهة الفوق يستلزم قدم العرش و الجهة، و قد مرّ عن بعض الحنابلة القول بقدم جلد القرآن.

و قال السيد الرازي في كتابه تبصرة العوام: إن أهل بخاري يقولون بقدم الإيمان، و أهل سمرقند يقولون بقدم الهداية، فأين الضرورة الدينية، و أين إجماع المسلمين؟ اللهم الا على بعض الأجسام.

نعم الذين يقولون بحدوث تمام العالم و جميع ما سوى اللّه هم الطائفة الإمامية - رضوان اللّه عليهم - فإنهم لا يقولون بقدم شيء سوى ذات الواجب الوجود المستجمع للصفات الكمالية التي هي عين ذاته؛ و لكن لا ينبغي لأحد أن يدّعي الضرورة المذهبية على حدوث العالم؛ إذ معنى الضرورة و كون الشيء ضروريا هو كونه معروفا معلوما عند جميع أهل ذلك المذهب أو معظمهم بحيث صار جزءا له، و هذا مثل عصمة الائمة، و وجوب الخمس، و جواز المتعة و استحباب القنوت في الصلاة، و نحو ذلك في مذهب الامامية.

و من المعلوم أن حدوث العالم ليس بهذه المرتبة من الاشتهار و العرفان، بل لا يحسن دعوى إجماع العلماء الإمامية أيضا على ذلك؛ لأن الإجماع الذي هو دليل مستقلّ في قبال الأدلة الثالثة هو الإجماع التعبّدي الذي لا يستند المجمعون إلى شيء آخر من الأدلة، و إلا لم يكن الإجماع بدليل مستقلّ، بل لا بدّ من النظر إلى نفس ذلك المستند كما قرر في أصول

ص: 283


1- الفصل 34/1-35.
2- السماء و العالم/ 49، الطبعة القديمة.

الفقه، و من المعلوم أن إجماع الإمامية على ذلك إنما هو من جهة الأدلّة العقلية التي ذكرنا بعضها، و من جهة الأدلّة النقلية من الكتاب و السنة، و لا أقل من احتمال ذلك، فلا ينهض الإجماع حجّة على المقام.

و أما تكفير من قال بقدم العالم و أنه في حكم باقي الكفّار كما عن العلامة الحلّي و غيره، فهو محل نظر. قال الاول في محكي كلامه(1): من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف؛ لأن الفارق بين المسلم و الكافر ذلك، و حكمه حكم باقي الكفّار بالإجماع. انتهى.

أقول: الفارق بينهما أمور كثيرة غير هذا، و دعوى الإجماع على كفره عندي غير ثابتة و لا حجّية فيه.

و بالجملة: أن الممكنات بأسرها حادثة عقلا و شرعا كتابا و سنّة، غير أن من أنكر حدوث بعضها لشبهة فهو لا يخرج عن الإسلام، فافهم.

الرابع: القرآن الكريم فإنه يدلّ على حدوث السماوات و الأرض، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة جدّا، فان الخلق لا يعقل إلاّ في المسبوق بالعدم كما مر. و أمّا دلالته على حدوث ما سوى اللّه جميعا فبآيات نذكر بعضها:

1 - ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ (2).

2 - وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ (3).

3 - خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ (4).

4 - إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ(5)... إلى غير ذلك.

الخامس: السنة، و نقلها يستوجب وضع كتاب مستقل، و هي قطعية بمجموعها دلالة و سندا(6) و قد نقل أكثرها العلاّمة المجلسي قدّس سرّه في السماء و العالم من بحاره شكر اللّه مساعيه الجميلة، و الإنصاف أنه لو لم يكن في المقام إلا الأخبار الواردة في حدوث إرادته تعالى كما مرت لكفت لإثبات المراد.

و أما ما ذكره اللاهجي من عدم دلالة الأخبار على حدوث العالم بالمعنى الذي يقوله المتكلّمون، بل على مطلق الحدوث الصادق على الحدوث الذاتي كما يقوله الفلاسفة، فمن

ص: 284


1- السماء و العالم/ 49.
2- غافر 62/40.
3- الذاريات 49/51.
4- الأنعام 101/6.
5- القمر 49/54.
6- نعم لم أجد عاجلا ما هو المشهور: «كان اللّه و لم يكن معه شيء» لكن يوجد ما هو قريب منه لفظا.

أضعف الكلام و أسخف القول، فلا يستحقّ الاعتناء.

فتحصّل أن العقل و النقل متّفقان على مسبوقية جميع الموجودات الممكنة بالعدم، و من هن صحّ أن يقال: كلّ ما ثبت قدمه لزم دوامه و لا يمكن فناؤه كما لا يخفى؛ إذ الممكن القديم لا يمكن صدوره من المختار، لكن لا لأجل أن قصده لا يدعو إلى الموجود كما قاله شركاء الفن؛ اذ هو غير جار في حقّ القديم كما مرّ، بل لما عرفت من أن إيجاد الممكن موقوف على عدمه، فتدبر.

و أمّا ما ذكره السيد الداماد من الحدوث الدهري فهو غير صحيح عندي في نفسه، و المقام لا يسع التعرّض له.

عدّة مطالب جليلة

الأول: في أول ما خلقه اللّه. و أنه ما هو؟

قال الفلاسفة: إنه العقل الأول(1) و استدلوا عليه بوجوه:

1 - من طريق النقل و الشريعة، فعن النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و اله أول ما خلق اللّه العقل.

2 - من جهة قاعدة الممكن الاشرف؛ اذ لا اشرف من العقل.

3 - من جهة قاعدة امتناع صدور الكثير من الواحد.

4 - من مسلك الملاءمة و المناسبة الذاتية بين المقتضي و المقتضى، فيجب أن يكون المناسبة الذاتية الحاصلة للعقل الأول و المعلول الأقدم أتمّ و أكمل ما يتصوّر من المناسبات بالقياس إلى أي ممكن فرض بعده، فاذن إن هو الا أكرم العقول القادسة.

5 - من جهة إخراج ما بالقوّة إلى ما بالفعل للنفوس في باب كمالاتها العلمية و العملية، فان مخرج ذواتها من القوّة إلى الفعل ليس ذواتها لوجوه كثيرة، فلا بدّ من معلم قدسي و مصوّر عقلي متوسّط بين الفياض الحق و النفوس المستفيضة، و يجب أن يكون بريئا من القوّة و الاستعداد و الانفعال و إلاّ لاحتاج إلى مكمّل آخر يخرجه من القوّة إلى الكمال، فيتسلسل إلى غير ذلك من المناهج التي عدّها في الأسفار إلى ثلاثة عشر منهجا.

أقول: الوجه الثاني موقوف على الوجه الثالث الباطل عندنا بما تقدّم، و الرابع استحساني محض فهو ينفع مقام الخطابة، الا أن يرجع إلى الوجه الثاني فيكون باطلا، و كذا الخامس فإنه تلفيق محض لو لم يرجع إلى الوجه المذكور، بل أكثر الوجوه راجعة اليه.

ص: 285


1- ربما يظهر من صاحب الأسفار أنه الوجود المنبسط دون العقل الأول، و لكن أورد عليه بأنه الصدور، فالعقل الأول هو الصادر الأول، نعم هو مسبوق بالصدور.

و بالجملة: هذه الوجوه العقلية التي ذكرها صاحب الأسفار مما لا يرجع إلى أساس متين و ميزان عقلي؛ و لذا أهملنا تفصيلها و بيانها، فالانصاف أنه لا دليل على أصل وجود العقول فضلا عن كونها أول الموجودات، بل لو كان حقيقة العقول مناقضة للحدوث لكان عدمها مقطوعا به لما عرفت من قطعية حدوث العالم. و القول بأنها ليست من العالم من أرذل الكلام، فإن الموجود إما ممكن و إما واجب بالضرورة، و لا شق ثالث لهما، فهي إن كانت واجبة فتدفعها أدلة التوحيد، و إن كانت ممكنة فهي حادثة كبقية أجزاء العالم الامكاني، فهذا التمجمج غير نافع.

أما الوجه الأول فهو و إن كان مشهورا في الألسن بل في گوهر مراد(1)، أنه ورد في روايات الأئمة المعصومين عليهم السّلام، لكنه لا أصل له، و لم نجد الرواية من طرقنا، و هذا العلامة المجلسي يعترف أيضا في كتبه - كالبحار و مرآة العقول - بعدم وجدانه إيّاها، نعم رواها في غوالي اللآلي(2) مرسلا عن النبي صلّى اللّه عليه و اله و لعلّه أخذه من العامّة مع أنه مرسل لا اعتداد به، و قد طعن في هذا الكتاب من لم يكن دأبه الطعن في الروايات المجهولة سندا.

نعم في الكافي(3) باسناده عن سماعة بن مهران عن الصادق عليه السّلام في حديث: أن اللّه عزّ و جل خلق العقل، و هو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره... الخ بل في البحار(4) أن له اسانيد كثيرة، لكنه أيضا غير مفيد؛ اذ لا دلالة له على تقدّم خلقة العقل على جميع الأشياء، و سيأتي أن جملة من الأخبار تدلّ على أن أول ما خلق اللّه هو الماء مع أنه ليس بروحاني.

بقي هنا ما نقل عن ابن طاووس في كتابه سعد السعود(5) من قوله: و كان المسلمون قد رووا أول ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل. فاقبل، و قابل: ادبر. فأدبر... الخ.

أقول: و لعلّه اراد العامّة أو اشتبه في عبرة الرواية، و إلاّ فهذا المضمون غير ثابت في رواياتنا، و فيها: «لمّا خلق اللّه العقل» نعم احتمل أن بعض المؤلفين ادّعى وجوده في تفسير علي بن إبراهيم و لكنني لم اجده فيه. و لا عبرة به أن وجد، فإن التفسير المذكور غير معتبر.

و ممّا يدلّ على أن العقل ليس أول ما خلق اللّه ما في غير واحد من الروايات: ما خلقت خلقا أحبّ منك، فإن الظاهر أن النفي راجع إلى الأحبّية وحدها دون الخلقة أيضا، و الا لا تكريم فيه للعقل، و الحال أن اللّه في مقام تكريمه.

ص: 286


1- گوهر مراد/ 212.
2- بحار الأنوار 97/1.
3- الكافي 21/1.
4- السماء و العالم/ 64.
5- سعد السعود/ 202، طبع النجف.

و أما استنباط أول المخلوقات من الأخبار فهو لا يخلو من صعوبة، فإنها مختلفة المضامين في بدو النظر، ففي بعضها أنه الماء، و في بعضها أنه النور، و في بعضها أنوار النبي الاكرم و الائمة من ذريته صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم، و في بعضها أنه العرش، و في بعضها نور النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و اله. وحده قال العلاّمة المجلسي قدّس سرّه(1) و في بعض الأخبار العامية عن النبي صلّى اللّه عليه و اله: أول ما خلق روحي. و عن تفسير علي بن إبراهيم(2) عن الصادق عليه السّلام: أنّ أوّل ما خلق اللّه القلم، و عن ابن الأثير في الكامل: صح في الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنه سمعه يقول: أن أول ما خلق القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن(3).

أقول و الاخير معارض بما اورده في تفسير البرهان حول قوله تعالى: ن وَ اَلْقَلَمِ وَ مٰا يَسْطُرُونَ (4)، من الروايات فلاحظ.

و أما الأقول فقيل: إنه الماء، و قيل: إنه الهواء، و قيل: إنه النار، و قيل: إنه البخار، و قيل: إنه النور و الظلمة، و قيل: إنه الأجزاء الصغار، و قيل: انه المكان. ص و عن التوراة: أن مبدأ الخلق جوهر خلقه اللّه، ثم نظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء.

أقول: و لعل الأظهر في المقام أنه نور النبي و أنوار الائمة سلام اللّه عليهم، و في جملة من الأخبار تقدّم الخمسة الطيبة على غيرهم، و الصحيح هو التوقّف عن الحكم فيه.

الثاني: فناء العالم

إنّ فناء العالم بأسره ممكن عندنا، و أما عند الفلاسفة فلا، فإن صدوره عن الواجب واجب الفيض، و الفيض عنه لازم و دائم، بل العقول موجودة بوجوده تعالى عندهم لا بإيجاده.

و بالجملة: علة العالم نفس ذاته، و تخلّف المعلول عن العلة محال، فلا يمكن إعدام العالم رأسا.

ثم لا يخفى أنه لو أمكن صدور الممكن القديم عنه تعالى لحكمنا أيضا بإمكان فنائه؛ إذ مجرّد القدم لا يستلزم البقاء و امتناع الفناء، بل المستلزم له صدور الشيء ولو كان حادثا عن علة موجبة قديمة، و هذا ظاهر.

ص: 287


1- السماء و العالم/ 64. الطبعة القديمة.
2- و الرواية صحيحة سندا كما مر في البحث عن اللوح. لكنّها في تفسير القمي و هو غير معتبر كما ذكرنا بعد ذلك في بحوث في علم الرجال.
3- السماء و العالم/ 65.
4- القلم 1/68.

و أما مّا عن الكرامية من تخيّل امتناع فناء الاجسام مع حدوثها و صدورها عن المختار فهو فاسد جدا.

الثالث: في تعدد العوالم

و الروايات فيه كثيرة نذكر بعضها:

1 - مرسلة عبد الخالق عن الصادق عليه السّلام(1) قال: إن اللّه عزّ و جل اثنا عشر ألف عالم كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين، ما يرى عالم منهم أن اللّه عزّ و جل عالما غيرهم، و إني الحجّة عليهم.

2 - رواية جابر بن يزيد عن الباقر عليه السّلام قال: سألت ابا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جل:

أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (2) فقال: يا جابر، تأويل ذلك: أن اللّه إذا افني هذا الخلق و هذا العالم و سكن أهل الجنة الجنة، و أهل النار النار جدّد اللّه عالما(3) غير هذا العالم، و جدّد عالما من غير فحولة و لا إنث يعبدونه، و خلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم، و سماء غير هذه السماء تظلّهم، و لعلك ترى أن اللّه عزّ و جل إنما خلق هذا العالم الواحد، أو ترى أن اللّه عزّ و جل لم يخلق بشرا غيركم، بلى و اللّه لقد خلق اللّه تبارك و تعالى ألف ألف عالم، و ألف ألف (ميليون واحد) آدم، و أنت في آخر تلك العوالم و أولئك الآدميين.

أقول: كوننا في آخر تلك العوالم لا ينافي وجود عوالم أخرى بعدنا كما هو ظاهر، فلا تنافي بين صدر الرواية و ذيلها.

3 - رواية محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لقد خلق اللّه عزّ و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه، ثم خلق اللّه عزّ و جل آدم أبا البشر و خلق ذرّيته منه، و لا و اللّه ما خلت الجنّة من أرواح المؤمنين منذ خلقها و لا خلت النار من أرواح الكفّار و العصاة منذ خلقها عزّ و جل، لعلكم ترون أنه اذا كان يوم القيامة و صيّر اللّه أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة، و صيّر أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار أن اللّه تبارك و تعالى لا يعبد في بلاده؟ و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحدونه؟ بلى و اللّه ليخلقن اللّه خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحّدونه و يعظّمونه، و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلهم... الخ.

ص: 288


1- السماء و العالم/ 66، الطبعة القديمة المجلّد الرابع عشر.
2- ق 15/50.
3- و في نسخة: خلقا.

4 - مرسلة ابن ابي عمير(1) عن الصادق عليه السّلام يرفع الحديث إلى الحسن بن علي عليه السّلام أنه قال:

إن للّه مدينتين إحداهما بالمشرق و الأخرى بالمغرب... و فيها(2) سبعين ألف ألف لغة يتكلّم كل لغة بخلاف لغة صاحبه، و أنا أعرف جميع اللغات و ما فيها و ما بينهما، و ما عليهما حجّة غيري و الحسين أخي.

5 - رواية عبد الصمد قال: دخل رجل على علي بن الحسين عليه السّلام فقال له علي بن الحسين:

من أنت؟ قال: أنا منجم. قال: فأنت عرّاف؟ قال: فنظر إليه ثم قال: هل أدلك على رجل قد مرّ مذ دخلت علينا في أربع عشر عالما كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرّات لم يتحرّك من مكانه؟ قال:

من هو؟ قال: أنا و إن شئت أنبأتك بما أكلت و ما ادّخرت في بيتك.

و الروايات غير المعتبرة سندا، كثيرة في ذلك و لعلّه المراد بقوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (3).

إلى هنا تمّ الجزء الأوّل وفق تقسيم المؤلف و ختمه بعبارة:

هذا تمام كلامنا في هذا المقام، و به نتخم الجزء الأول من كتابنا «صراط الحق» و نسأل اللّه التوفيق لطبع بقية الأجزاء، و القبول بفضله و كرمه، و أن يجعله نافعا للمسترشدين و هداية للطالبين بحقّ محمد و آله عليهم السّلام أفضل العالمين، و له الحمد أبد الابدين.

و قد وقع الفراغ من تبييضه بيد مؤلّفه الفقير إلى رحمة ربه الغني محمد آصف المحسني ليلة الاثنين من سادس شهر شوال سنة 1384 ه في النجف الأشرف في جواز أمير المؤمنين و سيّد الوصيين صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله.

استدراك

ذكرنا في آخر هذا الجزء بعض الروايات الدالة على تعدّد الأسباب و اتّساع العالم.

و فيما يلي نبيّن بعض الشيء عن هذه المسألة من وجهة نظر علم الهيئة الحديث، فنقول:

شخّص عالم النجوم هرشل بمنظاره أنّ المجرّة ليست سحابا عاديا و حزاما من الغيوم الغازية المتناثرة في الفضاء اللامتناهي، بل هي أكداس من النجوم تعتبر شمسنا مع منظومتها إحدى نجومها المتوسطة، و تفصلها عن مركز المجرّة 30 ألف سنة ضوئية، و قد قدّر عدد الكواكب داخل هذه المجرّة بمئتي ألف مليون كوكب.

ص: 289


1- السماء و العالم/ 48.
2- أي المدينة.
3- الفاتحة 2/1.

و أظهرت الدراسات التي أجريت بواسطة المنظار الفلكي بدائرة الأرصاد الجوية في مانت و يلسن بكاليفورنيا أن المسافة بين أقرب المجرّات إلى الكرة الأرضية ما بين 000، 680 إلى 000، 000، 500 سنة ضوئية.

و المجرّات متناثرة في الفضاء بنسق واحد، و المسافة بين مجرّتين منها تقرّب من 000، 200 سنة ضوئية، و يشتمل أفق العالم إلى الحدّ الذي يمكن أن يرى على 000، 000، 100 مجرّة مستقلّة.

كان هذا جزءا من مدى اتّساع العالم و ترامي أطرافه ممّا يعكس عظمة الخالق العليم و قدرته و حكمته. و لا يخفى أنّ سرعة الضوء في الثانية الواحدة هي 000، 300 كيلومتر تقريبا.

ثم بعد ذلك جاء دور تلسكوب هبل فاثبتت عدد المجرّات المكتشفة لحدّ الآن (سنة طبع الكتاب) إلى 000، 000، 000، 125!!

نعم الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 290

مصادر التأليف

1 - إحقاق الحقّ

2 - الأسفار

3 - أصول الكافي

4 - أنوار التوحيد

5 - أوائل المقالات

6 - بحار الأنوار

7 - تفسير البرهان

8 - تفسير البيان لسيدنا الأستاذ

9 - تفسير الرازي

10 - تفسير الصافي

11 - تفسير الميزان

11 - توحيد الصدوق

12 - حقّ اليقين

13 - درر الفوائد

14 - درر الفوائد

15 - الدين و الإسلام

16 - رجال المامقاني

17 - الرحلة المدرسية

18 - رسائل الشيخ

19 - روضة المسائل

20 - رهبر خرد

21 - شرح الباب الحادي عشر

22 - شرح التجريد للعلامة

23 - شرح قواعد العقائد

24 - شرح القوشجي

25 - شرح المشاعر و شرح العرشية

26 - شرح المنظومة

27 - شرح المواقف

28 - شمع اليقين

29 - الشوارق

30 - فصوص الفارابي

31 - فصول الأصول

32 - فلسفتنا

33 - الفهرست لابن النديم

34 - فيلسوف نماها

35 - قوانين الأصول

36 - كفاية الأصول

37 - كفاية الموحدين

38 - گوهر مراد و سرمايه ايمان

39 - مجمع البحرين

40 - مجمع البيان

41 - مختار الصحاح

42 - مطالع الأنظار

43 - الملل و النحل

44 - نهاية الدراية

45 - الوافي

46 - و غيرها

ص: 291

فهرس المحتويات

مدخل 10

الفائدة الأولى: في تعريف علم الكلام و موضوعه و غرضه و غيرها 11

الفائدة الثانية: في وضع الكلام 16

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة 19

بقي هنا بحوث مهمة 23

البحث الأول: في عموم إعتبار الادراكات العقلية: 23

البحث الثاني: في الفرق بين المسائل الضرورية و النظرية 24

البحث الثالث: في الحجج النقلية 25

تفصيل و تحقيق 26

تتمة 30

البحث الرابع: عما ينبغي أن يجعل خاتمة لهذه الفائدة و فاتحة لما يأتي بعدها من المطالب 30

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر 32

نقل و نقد 33

تعقيب و تكميل 36

تطبيق 38

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد 40

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية 47

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي و الإرشادي 52

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم 54

الفائدة التاسعة: في خواصّ الواجب الوجود 56

تحليل و تنقيد 66

ص: 292

الموقف الأول: في تحليل نفس المدعى، و أنّه ما هو مقصودهم من نفي الماهية عنه تعالى و أنها عين وجوده؟ 66

الموقف الثاني: في صحة تلك الوجوه و سقمها 68

الفائدة العاشرة: في خواصّ الممكن 70

الخاصة الأوّلى: عدم اقتضائه الوجود و العدم 70

الشعبة الأولى: في الأولوية الذاتية 70

الشعبة الثانية: في الأولوية الغيرية 73

الخاصّة الثانية: حاجة الممكن 75

نقل و ابطال 77

الخاصّة الثالثة: حاجة الممكن بقاء 78

تحليل و تسجيل 79

تكميل و تطبيق 79

هداية 80

نكتة 80

مسألة 81

الخاصّة الرابعة: أن كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود و الماهية 82

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور و التسلسل 83

تتميم و تقسيم 85

مقاصد الكتاب 87

المقصد الاول: الواجب لذاته 89

من هم المخالفون في هذا المقصد؟ و ما هو اعتقادهم؟ 94

تفتيش و تفنيد 95

النظام الكامل 102

يقضي على علّية المادة 102

ما يقول المادّيون عن هذا النظام الأجمل 104

خاتمة 108

المقصد الثاني: تمهيد في صفاته الثبوتية 110

الفصل الأول: في قدرته تعالى 115

ص: 293

الناحية الأولى: في إثبات أصل القدرة 115

الناحية الثانية: في كيفية القدرة و تفسيرها 116

تعقيب تحصيلي 119

خلاصة المقال في تنقيح المقام 130

تنبيه 130

الناحخية الثالثة: في عموم قدرته 131

مطالب مهمّة 133

المطلب الأوّل 133

تنوير عقلي 136

المطلب الثاني 140

المطلب الثالث 141

الفصل الثاني: في علمه تعالى 144

الجهة الأولى: في إثبات أصل علمه تعالى 144

وهم و دفع 144

الجهة الثانية: في بيان عموم علمه 147

هداية 152

الجهة الثالثة: في إبطال الآراء المنحرقة 157

الجهة الرابعة: في بيان العلم الاجمالي للحكماء 168

الجهة الخامسة: في العلم التفصيلي للحكماء 172

نقل و نقد 174

الجهة السادسة: حول البداء 177

الجهة السابعة: مقدوراته أقل من معلوماته تعالى 180

الجهة الثامنة: جملة من الآيات في العلم الحادث له تعالى 181

الفصل الثالث: في سمعه و بصره تعالى 183

المورد الأول: في اصل ثبوت سمعه و بصره شرعا و عقلا 183

المورد الثاني: في تفسير سمعه و بصره 184

المورد الثالث: في تخصيص السمع و البصر بالذكر شرعا 186

المورد الرابع: الروايات الواردة في السمع و البصر 186

ص: 294

الفصل الرابع: أنّه تعالى حيّ و أقسام الحياة 189

إلحاق و إتمام 190

الموقف الثاني: في صفاته المدحية 193

الموقف الثالث: في صفاته الفعلية 195

الفريدة الأولى: في إرادته تعالى 198

الناحية الأولى: الإرادة بمعنى القصد 198

الناحية الثانية: في إثبات إرادته تعالى 199

الناحية الثالثة: جريان التعبّد في الإرادة 199

الناحية الرابعة: في بيان الأقوال في الإرادة 199

كيف يؤثّر العلم؟ 203

إزاحة و إنارة 209

تتمة 210

الفريدة الثانية: في أسباب فعله تعالى 212

تعقيب و تحصيل 214

المسألة الأولى: في اللوح 215

تتمّة 216

تنبيه 217

المسألة الثانية: في فرق المشيئة و الإرادة 219

المسألة الثالثة: في الكراهة و الاختيار 221

المسألة الرابعة: في الإرادة التكوينية و التشريعية 221

المسألة الخامسة: في القدر 222

المسألة السادسة: في القضاء 225

نكتة 226

دقيقة 226

خاتمة حول آراء الناس في القدر و القضاء 227

الفريدة الثالثة: في حكمته 230

تفريع و تكميل: في أدلّة النظام العقلي الحاضر 233

مسألة: في ترجيح أحد المتساويين على الآخر 234

ص: 295

الفريدة الرابعة: في تكلّمه 239

المقام الأول: في حدوثه 241

المقام الثاني: في الكلام النفسي 244

أما الجهة الأولى: 244

تعقيب و تحقيق 247

و أمّا الجهة الثانية 249

المقام الثالث: في إطلاق الكلام على القرآن 251

الفيدة الخامسة: في صدقه تعالى 253

الفريدة السادسة: في رحمته 259

الفريدة السابعة: في أنه جبّار و قهّار 264

الفريدة الثامنة: في رضائه و سخطه 266

الفريدة التاسعة: في جملة من صفاته الفعلية الأخر 268

خاتمة: في حدوث أفعاله 271

المقام الأوّل: في نقل الأقوال 271

المقام الثاني: فيما استدلّ به لقدم العالم 272

تحقيق و تفنيد 276

أدلّة حدوث العلم 277

إنارة عقليّة 278

النقل و الحدوث 282

الأول: في أول ما خلقه اللّه. و أنه ما هو؟ 285

الثاني: فناء العالم 287

الثالث: في تعدد العوالم 288

استدراك 289

مصادر التأليف 291

فهرس المحتويات 292

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.