سلسلة مصطلحات معاصرة : المجتمع المدني المجلد 8

هوية الکتاب

المجتمع المدني

أسسه المفهومية والاصطلاحية واختباراته التاريخية

تألیف محمود کیشانه

الكتاب: المجتمع المدني

أسسه المفهومية والاصطلاحية واختباراته التاريخية

تألیف محمود کیشانه

الناشر : المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة

الطبعة: الأولى 2017م - 1439ه-

محرر الرقمي: سيد جلال الدين عمراني

ص: 1

اشارة

ص: 2

هويّة الكتاب

الكتاب: المجتمع المدني

أسسه المفهومية والاصطلاحية واختباراته التاريخية

تألیف محمود کیشانه

الناشر : المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

العتبة العباسية المقدسة

الطبعة: الأولى 2017م - 1439ه-

ص: 3

ص: 4

الفهرس

مقدمة المركز...9

مقدمة ..... 11

أهمية دراسة الموضوع :...13

منهج الدراسة : ...13

إشكالية الدراسة: ..13

المبحث الأول

الدلالات المعجمية والاصطلاحية للمفهوم :...16

أولاً - المعنى اللغوي: ...16

في المعاجم العربية: ...16

ب في المعاجم الغربية : ...19

ثانيًا - المعنى الاصطلاحي: ...19

المبحث الثاني

البحث التاريخي للمصطلح ومتابعة الجذور :... 26

مقاومة الحكم المطلق: ...27

ص: 5

ب - التطورات السياسية والاقتصادية في العالم الغربي ....... 28

أولاً - دلالات المفهوم في الفكر الغربي ... 31

أ - المفهوم في النظرية السياسية عند جون لوك ........... 33

ب - المفهوم عن آدم فيرجسون: ...34

ج - المفهوم عند توماس بين: ...36

د- المفهوم في الفكر الهيجلي :...37

ه- مفهوم المجتمع المدني عند جرامشي: ...48

و - المفهوم في تصوّر اليسار القديم: ... 49

ز - المفهوم في تصور الليبرالية: ...50

ح - المفهوم في تصوّر الطريق الثالث : ...51

الأطوار التي مرّ بها المجتمع المدني: ...55

الطور الأول: ...55

الطور الثاني: ...60

الطور الثالث: ...64

الطور الرابع: ...66

ص: 6

المبحث الثالث

أركان المجتمع المدني ومبادئه: ...70

أولاً- أركان المجتمع المدني: ...70

ثانيًا- مبادئ المجتمع المدني: ...71

و- الإيمان بوجوب التواصل الثقافي ...77

ثالثًا- مؤسسات المجتمع المدني: ...78

أولاً- منظمات حقوق الإنسان: ...81

ثالثًا- الأحزاب السياسية: ...87

رابعًا - النقابات: ...88

خامسًا - الاتحادات المهنية ..91

سادسًا - الاتحادات الطلابية : ...91

سابعًا - المؤسسات الصحفية: ...92

ثامنًا - الأندية الاجتماعية والرياضية ...93

المبحث الرابع

المجتمع المدني والسياسة: ...96

ص: 7

المبحث الخامس

المجتمع المدني والحراك التنموي: ...104

المبحث السادس

نقد المفهوم: ...120

موقف المؤيدين والمعارضين: ...120

أولاً- الاتجاه الحداثي : ...120

ثانيًا- الاتجاه الثاني: ...122

نقد النزعة اللادينية : ...133

نقد علاقة المجتمع المدني بالدولة: ... 138

نقد استغلال القوى الإمبريالية للمصطلح: ...141

الخاتمة.... 150

المصادر والمراجع ...152

المراجع العربية: ...152

المراجع الأجنبية: ...159

مقالات المجلات والمواقع الألكترونية:... 159

ص: 8

مقدمة المركز

تدخل هذه السلسلة التي يصدرها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في سياق منظومة معرفية يعكف المركز على تظهيرها، وتهدف الى درس وتأصيل ونقد مفاهيم شكلت ولما تزل مرتكزات أساسية في فضاء التفكير المعاصر.

وسعياً الى هذا الهدف وضعت الهيئة المشرفة خارطة برامجية شاملة للعناية بالمصطلحات والمفاهيم الأكثر حضوراً وتداولاً وتأثيراً في العلوم الإنسانية، ولا سيما في حقول الفلسفة وعلم الاجتماع والفكر السياسي، وفلسفة الدين والاقتصاد وتاريخ الحضارات.

أما الغاية من هذا المشروع المعرفي فيمكن إجمالها على النحو التالي: أولاً: الوعي بالمفاهيم وأهميتها المركزية في تشكيل وتنمية المعارف والعلوم الإنسانية وإدراك مبانيها وغاياتها، وبالتالي التعامل معها كضرورة للتواصل مع عالم الأفكار والتعرف على النظريات والمناهج التي تتشكل منها الأنظمة الفكرية المختلفة.

ثانياً: إزالة الغموض حول الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي غالباً ما تستعمل في غير موضعها أو يجري تفسيرها على خلاف المراد منها . لا سيما وأن كثيراً من الإشكاليات المعرفية ناتجة من اضطراب الفهم في تحديد المفاهيم والوقوف على مقاصدها الحقيقية.

ثالثاً: بيان حقيقة ما يؤديه توظيف المفاهيم في ميادين الاحتدام الحضاري بين الشرق والغرب، وما يترتب على هذا التوظيف من آثار سلبية بفعل العولمة الثقافية والقيمية التي تتعرض لها المجتمعات

ص: 9

العربية والإسلامية وخصوصاً في الحقبة المعاصرة.

رابعاً رفد المعاهد الجامعية ومراكز الأبحاث والمنتديات الفكرية بعمل موسوعي جديد يحيط بنشأة المفهوم ومعناه ودلالاته الإصطلاحية، ومجال استخداماته العلمية، فضلاً عن صلاته وارتباطه بالعلوم والمعارف الأخرى. وانطلاقاً من البعد العلمي والمنهجي والتحكيمي لهذا المشروع فقد حرص لامركز على أن يشارك في إنجازه نخبة من كبار الأكاديميين والباحثين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي .

***

في هذه الحلقة من السلسلة يتناول الباحث والأكاديمي المصري محمود كیشانه مصطلح المجتمع المدني ساعياً إلى الإحاطة بدلالاته الاصطلاحية وتموضعه كمفهوم في سياق التجربة التاريخية للحضارات الإنسانية المختلفة، كما يتطرّق إلى المبادئ النظرية التي قام عليها المفهوم والدور الذي أنيط به في سياق التنمية المجتمعية والرقابة المعنوية على سلطات الحكم، ناهيك عن صلته بمفاهيم موازية كالديمقراطية والحداثة وسواها من المفاهيم المعاصرة.

والله ولي التوفيق

ص: 10

مقدمة

المجتمع المدني

يعد مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم التي بدأ تداولها على نطاق أوسع من ذي قبل في المحيط العربي والإسلامي، بعد أن سبقهم الغرب إليه بمراحل ، ذلك أنه من المفاهيم التي تمثل حلقة من حلقات التعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى غير ذلك من القضايا، إن المجتمع المدني ليس هو المجتمع العام، وإنما هو جزء منه يعمل على إقامة مجموعة من العلاقات والروابط الثقافية والاجتماعية والعلمية والسياسية إلى غير ذلك من مجالات التواصل بين الناس التي تقوم على أساس العمل التطوعي، والإرادة الحرة، المصالح الواعية التي في إنجازها إنجاز لمصالح وطنية من الطراز الأول.

وإذا كان المجتمع المدني يُؤسس على التطوع والحرية والمصالح الواعية المستنيرة فإنّه يختلف بذلك عن الأسرة؛ إذ إنّ الأسرة لا تُؤسّس على المبادئ السابقة، وإنما تُؤسس على الحبّ ورابطة الدم أو الوراثة، وهذا يقودنا إلى إدراك حقيقة مهمة ، وهي وإن كانت الأسرة جزءًا أصيلاً من المجتمع يقوم على مبادئ أساسية، فإنّ المجتمع المدني جزء أصيل من المجتمع بقيامه على مبادئ هي في التحليل الأخير مكملة لدور الأسرة، ولكن على نطاق أوسع، تتسع فيه قيمة الأسرية لتضمّ المختلفين في العقيدة والعرق والمذهب ،وغيرها على نحو يجعل التواصل بين الجميع تواصلاً بناء يحتفظ فيه كلّ إنسان بما يدين به، دون تغوّل للآخر؛

ص: 11

تحقيقا لمعاني الإنسانية التي نادى بها الإسلام .

والمجتمع المدني تناوله أكثر مفكّر غربي بالدراسة؛ إيمانًا منهم بأثره ودوره في قيادة المجتمعات، خاصةً على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي منهم على سبيل المثال جون لوك وآدم فيرجسون وتوماس بين وهيجل وأنطونيو جرامشي، ممّن أدركوا قيمة المجتمع المدني ودوره في إثراء المجتمعات على المستويات السابقة، على الرغم من اختلاف تصوّر كلّ فيلسوف المفهوم المجتمع المدني عن الآخر. ومع ذلك فإنّنا لا نعدم وجود بعض التجارب في البيئة الإسلامية التي تدلّ على مضمون مجتمع مدني بصورة أو بأخرى، وهذا ما وجدناه في نظام الوقف الإسلامي والأخويات والمجالس العرفية، وغيرها من التجارب التي ظهرت في البيئة الإسلامية، وكان لها أثرها الكبير.

ولكنّ أهمّ ما يميّز المجتمع المدني قيامه على مجموعة من المبادئ، ومجموعة من الأركان التي تجعله فاعلاً في صيرورة المجتمع واتجاهه إلى الأمام، وهي أسس تزيد في التحليل الأخير من قيم الحرية والتعددية والمواطنة والانتخاب الحر القائم على عملية ديمقراطية سليمة، وسوف نعرضها في هذه الدراسة.

أهمية دراسة الموضوع :

تبدو أهمية موضوع الدراسة من خلال:

كون الموضوع تهتم به الدراسات الفكرية الغربية والعربية على حد سواء باعتباره من الموضوعات الآنية التي لها أهمية قصوى.

تطرح الدراسة قضية المجتمع المدني بين الاصطلاح الغربي

ص: 12

والتجربة الإسلامية.

تأثير المجتمع المدني في الدول على المستويات: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.

كون الموضوع له أهميته التي يتجاهل الكثيرون التطرق إليها.

تحاول الدراسة أن تتعدّى مرحلة تحديد المشكلة ووصفها إلى مرحلة طرح الحلول الممكنة على المدى البعيد والمدى القريب.

منهج الدراسة:

تقوم الدراسة على المنهج التحليلي النقدي المقارن، بهدف تحليل مصطلح المجتمع المدني، وتحديد مبادئه وأركانه ومؤسساته، ونقد المؤثرات الكامنة التي تؤثر فيها مع مقارنة بعض المواقف الغربية والإسلامية من المصطلح، والتعرض لها بالتحليل والنقد.

إشكالية الدراسة :

تنطلق الدراسة من الإجابة عن الإشكاليات الآتية:

ما دلالات المجتمع المدني لغة واصطلاحًا؟

ما المبادئ التي يقوم عليها؟

هل مؤسسات المجتمع المدني لها دور في رقي المجتمعات على عدة صعد ومستويات؟

من أهم المنظرين الذين تناولوا موضوع المجتمع المدني بالدراسة والتحليل ؟

ما جذور المفهوم والأسباب التي أدت لنشأته ؟

ص: 13

ما دلالات المفهوم في الأدبيات الرئيسة المعنية به؟

ما الدور التنموي الذي يقوم به المجتمع المدني؟ هل تحقق المفهوم عمليا؟ أم هناك فصل بين النظرية والتطبيق؟

ما أوجه النقد التي تُوجَّه إلى هذا المفهوم؟

ومن هنا فنحن نتناول قضية المجتمع المدني في من حيث المحاور الآتية:

أولاً - مفهوم المجتمع المدني وأهم مبادئه وأركانه.

ثانيًا - المجتمع المدني في الفكر الغربي.

ثالثًا - مؤسسات المجتمع المدني والأدوار التي تقوم بها.

رابعا - الدور التنموي للمجتمع المدني.

خامسًا – تحليل المفهوم ونقده.

ص: 14

المبحث الأول : الدلالات المعجمية والاصطلاحية للمفهوم

أولاً - المعنى اللغوي :

أ - في المعاجم العربية:

ص: 15

المبحث الأول

الدلالات المعجمية والاصطلاحية للمفهوم :

إذا كان مفهوم المجتمع المدني لا يزال غير معروف أو غامضًا في كثير من الأحيان، وإذا كانت كتب الفلسفة السياسية ترتكز على مفهوم الدولة وتهمّش مفهوم المجتمع المدني فإنّ أي جهود في مجال المجتمع المدني إنما تأتي كمحاولة لجعل مفهوم المجتمع المدني مفهومًا مركزيًا، بحيث ينقله من الهوامش إلى البؤرة ومن الظلام إلى النور والانطلاق منه كنقطة بدء أولى. وما ذلك إلاّ للإيمان العميق بأنّ المجتمع المدني هو الأصل والأساس العقلي المتين لأيّ شرعية سياسية، وأنه المسؤول عن سلامة الحياة السياسية أو فسادها(1).

ومن ثمّ فنحن سنعرض دلالة المفهوم من جانبين الجانب اللغوي، والجانب الاصطلاحي؛ لكي يتبين لنا تحديدًا ما المقصود بالمجتمع المدني؟

ففي معجم لسان العرب: مَدَنَ بالمكان : أَقام به فِعْلٌ مُمات ومنه المدينة، وهي فَعِيلة، وتجمع على مَدَائن، بالهمز، ومُدن ومُدُن بالتخفيف والتثقيل ؛ وفيه قول آخر: إنّه مَفْعلة من دنْتُ أَي مُلكْتُ؛

ص: 16


1- انظر محمد عثمان الخشت المجتمع المدني، سلسلة الشباب الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط الأولى، 2004م. ص 6، 7.

قال ابن بري: لو كانت الميم في مدينة زائدة لم يجز جمعها على مُدْن. وفلان مَدَّنَ المَدائنَ : كما يقال مَصَّرَ الأَمصار(1).

بما يعني أنّ المعاجم العربية القديمة كلسان العرب والجمهرة والعين وغيرها من المعاجم لم تعرف مصطلح المجتمع المدني، وإنما كلّ ما هو موجود من الجذر اللغوي مدن إنما هو ألفاظ المدينة والمدن، ذلك أنّ المصطلح لم يكن معروفًا في تلك الفترة، وإنما نشأ المصطلح في البيئة الغربية الحديثة على يد بعض أعلام

الفكر والفلسفة في الغرب.

ما المعاجم العربية الحديثة فهي على النحو التالي:

جاء في معجم اللغة العربية المعاصر (2) :

مَدَني : اسم منسوب إلى مدينة

خاص بالمواطن أو بمجموع المواطنين، عكس عسكري

القانون فرع من فروع القضاء، يتناول حالة الأفراد وأهليتهم والميراث ونقل الممتلكات والعقود قانون مدني،

الدفاع المدني: النظم والخطط والأبنية المُصمَّمة لحماية المدنيين من الكوارث الطبيعية واعتداءات العدوّ .

الموت المدني: (القانون) الحرمان من الحقوق المدنية نتيجة الإدانة بالخيانة أو بجريمة كبرى غيرها

الطَّيران المدني: الإدارة العامة المشرفة على الطائرات والمنشآت المستخدمة لنقل الركاب والبضائع جوا .

الحقوق المدنية : الحقوق التي يخوّلها القانون لجميع المقيمين

ص: 17


1- انظر ابن منظور، لسان العرب دار صادر - بيروت الثالثة - 1414 ه، مادة مدن.
2- ط عالم الكتب، القاهرة، 2008م، مادة مدن.

في الدَّولة، وهي أشمل من الحقوق السياسية المتصلة باختيار الحاكم، كما أنَّها تتميّز عن الحقوق الطبيعية في أنّ لها قيمة قانونية إلى جانب قيمتها الفلسفيّة المثالية والحقوق المدنية نسبيّة غير مُطلقة تتكيّف أوضاعها مع الزمان والمكان .

التَّربيّة المدنية: التربية المعتمدة على الرُّوح المدنية، وقيم المجتمع مع الاعتراف بحرّيّة الفكرة والعقيدة والتَّعبير عن الرأي .

الحريَّات المدنيَّة: (القانون) أن يُترك للفرد الحق في التعبير عن رأيه وفكره بصراحة ووضوح، وكذلك حرية اختيار المهنة التي يريد مزاولتها، وحرية الانضمام إلى الجمعيات التطوعية وحرية العبادة .

المجتمع المدني: مؤسَّسات المجتمع المستقلة سلطة الدولة عن التي تقوم العلاقات بينها على أساس رابطة اختيارية طوعيّة مثل النقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية ومنظمات حقوق الإنسان

رَجُلٌ مَدَني: مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

أدّى الْخِدْمَةَ الْمَدَنِيَّةُ : الوَاجِبُ الَّذِي يُؤَدِّيهِ العَامِلُ أَوِ الْمُوَظَّفُ خلال فترة مُعَيَّنَةٍ قَبْلَ تَعْيِينِهِ في وَظِيفَتِهِ .

الْمَدَنِيَّةُ الْحَدِيثَةُ : الْحَضَارَةُ وَالْعُمْرَانُ وَكُلُّ الْمُخْترَعَاتِ التَّكْنُولُوجيَّةِ .

الْمُجْتَمَعُ الْمَدَنِيُّ: أَي المُجْتَمَعُ الَّذِي تَكَوَّنَتْ مُؤَسَّسَاتُهُ وَجَمْعِيَّاتُهُ الْحَضَرِيَّةُ .

زَوَاجٌ مَدَنِيٌّ: أَيْ زَوَاجٌ تَتَحَكَمُ فِيهِ القَوَانِينُ العَصْرِيَّةُ، عَكس الزَّوَاجِ الدِّينِيُّ .

القَانُونُ الْمَدَنِيُّ: قَانُونُ الأَحْوَالِ الْخَاضِعَةِ لِتَطَوُّرِ حَيَاةِ الْمُجْتَمَعِ الْعَصْرِيَّة.

والمتأمل في معنى المصطلح في المعجم السابق نجد أنه بدأت

ص: 18

لفظة المجتمع المدني أو المدني تهلّ علينا بمعان قريبة جداً من المتعارف عليه الآن.

ب-في المعاجم الغربية:

ونأخذ مثالاً على ذلك قاموس اكسفورد الذي يعرض للغة المصطلح على النحو التالي(1):

مدني: على الحقوق والواجبات المدنية .... civic

مدني: ملكي غير عسكري أهلي............ civil

عصيان مدني : غير مسلح ....... civil disobedience

القانون المدني: مجموعة القوانين المدنية ... civil law

الزواج المدني. ...civil marriage

موظف حكومة. ... civil servant

الخدمة المدنية. ...civil service

الحرب الأهلية ... civil war

والمتأمل في أغلب هذه المعاني أنّها تقترب شيئًا فشيئًا من المقصود بالمجتمع المدني كما آلت إليه صورته الحالية.

ثانيًا - المعنى الاصطلاحي:

عندما تطرق إهر نبرغ إلى مفهوم المجتمع المدني ذهب إلى أنّه مفهوم ضبابي ومطاط على نحو كبير، كما أنّه لا ينطوي على قدر كبير من الدقة. (2)بما يعني أنّ هذا المصطلح يغلب عليه الغموض، لأنّه قابل لعدّة تفسيرات وتفسيرات مقابلة، وذلك نتيجة اختلاف الرؤى

ص: 19


1- قاموس اكسفورد، قاموس إنجليزي عربي، ص 222 .
2- انظر جون إهرنبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 440 .

الفكرية التي تكون في الغالب ناتجة من ثقافة الكاتب وبيئته الثقافية.

وتعرف موسوعة ويكيبيديا المجتمع المدني بأنّه يشمل الأنشطة التطوعية كافّة التي هدفها تحقيق المصالح والأهداف المشتركة، ويشمل العديد من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية، مثل: النقابات المهنية والمنظمات الخيرية والمنظمات الدينية ومنظمات حقوق الإنسان إلى غير ذلك. إلا أنّ هذا التعريف كما يذهب أحد الباحثين لا يثير مشكلة ولا يجعل من المجتمع المدني مفهومًا له خصوصية، لأنّ أغلب دول العالم، حتى الدول الاستبدادية منها يوجد فيها جمعيات علمية وجمعيات خيرية وجمعيات نفع عام تمارس أنشطتها بمساحة ومراقبة تتسع وتضيق وفق أنظمة داخلية وضغوط خارجية مختلفة .(1)

وإذا ذهبنا إلى الدلالات الأخرى الأكثر خصوصية نجد أن مفهوم المجتمع المدني يعدّ في النظرية السياسية هو المجتمع الذي يتشكل بناء على العقد الاجتماعي، باعتباره اتجاها متمايزا عن الدولة أو منظومة تقابل منظومة الدولة.(2)

أما توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي فإنّه يميّز بين المجتمع المدني وبين الدولة ذاهبًا إلى أنّ المجتمع المدني: هو ذلك المجتمع المجتمع القائم على تنظيم سياسي محكم عن طريق السلطة السياسية ممثلة في الدولة القائمة على فكرة التعاقد، وهي الفكرة التي تقوم على أساس تنازل الفرد عن كلّ شيء للسلطة الحاكمة مقابل توفير الأمن والحماية له، بما يعني أن

ص: 20


1- انظر محمد أحمد علي مفتي، مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية، الرياض، مجلة البيان، مركز البحوث والدراسات، 1435ه، ص 14.
2- شارلوت سيمور موسوعة علم الإنسان ترجمة مشتركة بإشراف أ.د محمد الجوهري، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1998م، ص 614.

المجتمع المدني هو ثمرة عملية التفاوض(1).

أما الفيلسوف جون لوك فذهب إلى أنّه «المجتمع المنظم سياسيا ضمن إطار الدولة مهمته تنظيم عملية سنّ القانون الطبيعي الموجود دون الدولة وفوقها»(2).

ففي التعريف الأول، وهو تعريف توماس هوبز نجد أنّه لم يضع حدودًا فاصلة بين المجتمع المدني وبين الدولة، وذلك نتيجة الاتجاه العام السياسي عند هوبز الذي يجعل الدولة تتحكم في كلّ شيء بما فيها المجتمع المدني. أما في تعريف جون لوك فإنّنا نجد حدودًا فاصلة بينهما، دون أن يقضي ذلك على الروابط الوثيقة بينهما .

أما جان جاك روسو ومونتسكيو فقد جعلا المجتمع المدني المنطقة الوسطى بين السلطة السياسية في الدولة وبين المجتمع العام، فالأول ينظر للمجتمع المدني على أنّه مجتمع صاحب السيادة قائم على العقد الاجتماعي، له القدرة على صنع إرادة عامة تكون فيصلاً بين الحكام والمحكومون(3). في حين كان عند الثاني هو الكيان الأرستقراطي الوسيط المعترف به من قبل السلطة القائمة بين الحاكمين والمحكومين (4).

ص: 21


1- انظر توماس هوبز، اللفياثان الأصول الطبيعية والسياسية لسلة الدولة، ترجمة ديانا حرب بشری صعب، ط هيئى أبو ظبي للثقافة والتارث ( كلمة) ودار الفارابي، الأولى، 2011م ص 216.175 .
2- انظر جون لوك في الحكم المدني، نقله للعربية د. ماجد فخري، بيروت، طبعة اللجنة الدولية لترجمة الروائع 1959م، ص 199 وانظر أيضًا شارلوت سيمور، سميث، موسوعة علم الإنسان، ص 614.
3- انظر جان جاك روسو العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، ترجمة عادل زعيتر، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية الثانية، 1995م، ص 45، 46.
4- انظر فرانسوا شاتيلي أوليفر ،دوهميل تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1984م، ص 92، 93.

في حين نجد توكفيل يركز في تعريفه في الدور الاجتماعي للمجتمع المدني بصورة كبيرة من الصورة المتداولة اليوم، فالمجتمع المدنب عنده قائم على المنظمات المدنية النشطة وعملها في إطار الدولة(1).

ويعرف المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي (1937-1981) المجتمع المدني بأنّه: مجموعة من البنى الفوقية مثل : النقابات والأحزاب والمدارس والجمعيات والصحافة والآداب والكنيسة. (2) ويقابل المجتمع المدني لدى جرامشي المجتمع الرسمي أو ما يسمّى بسلطة الدولة، ويعرّفه المفكر الألماني هابرماس بقوله: «المجتمع المدني نسيج من الجمعيات والهيئات الاجتماعية التي تناقش الحلول الممكنة لبعض المشاكل المرتبطة بالمصلحة العامة»(3).

ومن ثمّ تحوّل المفهوم في أخرياته في وقتنا الراهن من كونه أداة لتغيير النظام السياسي في الدولة الغربية في مراحل نشأته وتطوّره إلى توجّه اجتماعي ،صرف يقوم بالأساس على توفير خدمات للمواطنين لا تستطيع الدولة الوفاء بها، فتحول من كونه ندا إلى كونه شريكا في عملية التنمية المجتمعية على العديد من الصعد.

وهذا ما انتهى إليه تعريف البنك الدولي المعد من قبل من مراكز بحثية رائدة، وهو من أكثر التعريفات المعتمدة، حيث يعرفه بأنه : «المجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير

ص: 22


1- انظر توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين مرسي قنديل، القاهرة، ط عالم الكتب، ج 2 ص 476، 480، 485.
2- 267 by quintin Hoare New York, international publishers Gramsci, Selection from the Prison Notebook, edited and translated , وانظر الحبيب الجنحاني: (المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق عالم الفكر، الكويت، العدد 3 مارس 1999م، ص: 31 .
3- هابرماس : ما هو المجتمع المدني؟، ترجمة مصطفى أعراب ومحمد الهلالي، سنة 1999م، ص : 48

عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استناداً إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية. ومن ثمّ يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات تضم الجماعات المجتمعية المحلية والمنظمات غير الحكومية والنقابات العمالية وجماعات السكان الأصليين والمنظمات الخيرية والمنظمات الدينية والنقابات المهنية ، ومؤسسات العمل الخيري(1).

وعليه فإنّ الدلالات الجديدة التي طرحتها التعريفات الأخيرة تضع كلّ الجمعيات والمؤسسات والتنظيمات الخاصة التي تعمل بشكل مستقلّ عن الدولة في كيان المجتمع المدني، شريطة أن تكون قائمة على مجموعة من القيم النبيلة، هي بالأساس تلبي حاجات إنسانية خيرية، وأن تتغلب على الجانب البيروقراطي الحكومي، وتقوم على التطوّع الإرادي المستقل عن سلطة الدولة.

ثالثًا - مكانة المصطلح في منظومة المفاهيم المرتبطة به:

يعتبر مفهوم المجتمع المدني أحد التعابير الأكثر انتشاراً في نهاية هذا القرن وبداية الألفية الجديدة، والواقع أن انتشاره مرتبط بتحوّلات عميقة شهدها العالم في هذه الفترة. كما ارتبط هذا التوسع في استعماله وشيوعه بمفاهيم أخرى لصيقة به بينهما من ارتباطات عضوية قوية سواء من حيث أطرها المرجعية الفكرية، أو من حيث علاقات التداخل التي بينها في الممارسة الفعلية. تلك المفاهيم هي الدولة الحديثة دولة الحق ،والقانون)، الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهذه المفاهيم في مجموعها تشير إلى حركية اجتماعية

ص: 23


1- مفهوم المجتمع المدني موقع : http://web.worldbank.org/WBSITE/EXTERNAL/EXTARABICHOME/ EXTTOPICS

قوية وسيرورة تحولات عميقة عرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر في البلاد الأوروبية التي دخلت عهد الثورة الصناعية والتحول الرأسمالي قبل ذلك بقرن من الزمن أي في منتصف القرن الثامن .عشر. كما شهدت نهاية هذا القرن انهيار القطبية الثنائية المتشكلة بعد الحرب العالمية الثانية على المستوى العالمي، وزوال دولة الرعاية في معظم البلدان الأوروبية المتقدمة، وفشل أنموذج الدولة الوطنية في البلاد النامية ومنها البلاد العربية في تحقيق حلم التنمية الوطنية بمحوريها، الإصلاح الاقتصادي والتقدم الاجتماعي(1) .

وعليه فإنّ مصطلح المجتمع المدني من ضمن المصطلحات التي تعبر عن حقيقة المرحلة التاريخية التي يعيشها العالم الآن والأمة الإسلامية باعتبارها جزءًا من هذا العالم وهذا المصطلح بمفهومه يتداخل مع مفاهيم أخرى تداخلاً بارزاً، كمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية وغيرها من المفاهيم، بحيث يستمدّ كلّ واحد منهم من الآخر ما يعضد كيانه، فالمجتمع المدني يستمدّ قوته من تطبيقه لمفاهيم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكلّ مفهوم من هذه المفاهيم يستمد من المجتمع المدني ما يعضد به وجوده ،وكيانه فهذه المصطلحات تتبادل المنفعة فيما بينها،وهي منفعة أو مصلحة عامة بالتأكيد، حيث تحاول إعادة تشكيل المجتمعات والعمل على تطوير بنيتها .

ص: 24


1- انظر العياشي عنصر ما هو المجتمع المدني ؟ الجزائر أنموذجًا، ورقة مقدمة لندوة «المشروع القومي و المجتمع المدني» تنظيم قسم الدراسات الفلسفية و الاجتماعية، كلية والآداب والعلوم الإنسانية - سورية، جامعة دمشق 127 ماي/أيار 2000 .

المبحث الثاني : البحث التاريخي للمصطلح ومتابعة الجذور

البحث التاريخي للمصطلح ومتابعة الجذور:

ص: 25

المبحث الثاني

يرى بعض الباحثين العرب أنّ المجتمع المدني ليس بالشيء الجديد، وإنما ترجع جذوره إلى الفكر الفلسفي اليوناني، حيث أشار إليه أرسطو في معرض حديثه باعتباره دولة المدينة، على الرغم من أنه لم يميز في فلسفته السياسية بين المجتمع والدولة(1). وهذا يعني أنّ المجتمع المدني يمثل حركة تطوّر لمجتمع المدن، باعتبار أن الأخير كان يحاول الحفاظ على حقوق الأفراد على المستوى الاجتماعي والسياسي وربما الاقتصادي، وهو الأمر نفسه الذي تحاول أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني من خلال تمكين الأفراد من حقوقهم المدنية والاجتماعية وغيرها، إلا أنّ المصطلح بلفظه كان بعيدًا كثيرًا عن المصطلح اليوم، فضلاً عن الاختلاف في المدلول، وكذلك الشكل المؤسسي الذي تقوم عليه مؤسسات المجتمع المدني اليوم.

إلا أنه يمكن القول إنّ مصطلح المجتمع المدني أخذ في الظهور حديثًا مواكباً تطوّر حركة الفكر الغربي وتنامي البيئة الغربية التي نشأ فيها، دفاعاً عن كلّ من الجانب الاجتماعي والجانب السياسي، وهما الجانبان اللذان اهتم بهما قبلاً توما الأكويني في تأكيده كون المدينة مجالاً للتفاعل البناء والتواصل بين البشر باعتبار الإنسان حيواناً سياسياً واجتماعياً، وذلك في تعليقه على كتاب السياسة

ص: 26


1- انظر الحبيب الحنجاني، المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، ص 36.

لأرسطو، وهي المعاني التي تشكل منها فيما بعد مفهوم (Political Communication)، وعندما ترجم كتاب أرسطو سالف الذكر في القرن الخامس عشر الميلادي بدأ انتشار مصطلح (Societies Civilis) ، ومن ثم الانتقال من مفهوم (Communication) إلى مفهوم (Societies)، كدليل على النزعة الإنسانية التي بدأت تشهدها أوروبا خاصة في إيطاليا(1).

وقد واكب ظهور المجتمع المدني أمران يدلان على نشأة المجتمع المدني والجذور التي أفرزته إلى الوجود، بل يمكن القول إنّ هذين الأمرين قد يكونان سببًا وقد يكونان نتيجة للمجتمع المدني نتيجة التداخل التاريخي بينهما :

مقاومة الحكم المطلق:

في القرن السابع عشر بدأ تداول مصطلح المجتمع المدني مواكباً مع ظهور الأنظمة السياسية الجديدة التي قامت على أنقاض الأنظمة الملكية الاستبدادية في العصور المظلمة، التي كانت تتسم بالحكم المطلق، وقد بدأ هذا التداول على يد مجموعة من المفكرين الغربيين الذين مزجوا في تناولهم لهذا المفهوم بين التنظير الفلسفي والطابع السياسي.

يمكن القول إنّ آدم فيرجسون المفكر الأسكتلندي أثار العديد من القضايا وهو يحاول وضع مفهوم للمجتمع المدني منها السلطة السياسية المستبدة، مبينًا الأخطار الجمّة التي تعقب الاستبداد

ص: 27


1- انظر محمد الغيلاني محنة المجتمع المدني مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية، ط الدار البيضاء، الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، 2005م، ص 6.

السياسي، ومن ثم فقد كان الحراك المجتمعي عنده هو الضمانة الأولى التي تدفع تلك الأخطار وذلك النظام الغاشم.

كما كان الضمانة عند توماس هوبز هو التفريق بين الدولة والمجتمع المدني، فإنّه وهو بصدد الحديث عن قضية حقوق الإنسان دعا إلى تشكيل حكومة تمثل السلطة تكون لها أدوراها المحدّدة، ومجتمع مدني منظم ومؤثر كممثل لآمال المجتمع وتطلعاته على العديد من الأصعدة.

ب - التطورات السياسية والاقتصادية في العالم الغربي:

تطوّر مفهوم المجتمع المدني خاصة والفكر الليبرالي عامة مواكبًا التطورات السياسية والاقتصادية في الفكر الغربي، وتنامي ظهور الحركة البرجوازية، فهيجل في مؤلّفه فلسفة أصول الحق أكد أنّ موقعية المجتمع المدني ومكانته بين الأسرة من جانب والدولة من جانب آخر، ويتكوّن من الجمعيات والنقابات والمؤسسات وغيرها وكلّها يشملها القانون المدني، وكلّ ما ينضوي تحت راية المجتمع المدني عند هيجل يقوم بدور اجتماعي وسياسي؛ لأنّ المجتمع المدني نشأ ليلبي حاجات اجتماعية وسياسية.

في حين كان الفكر الماركسي كان المجتمع المدني بالنسبة له خلاصًا من الدولة الشمولية، فقد كان يتخذه سلاحًا في مواجهة الاستبداد ،الشمولي، ولئن كان ماركس ينظر للمجتمع المدني على أنه ساحة للصراع الطبقي فإنّ أنطونيو جرامشي جعله ساحة للتنافس الاقتصادي والأيديولوجي، «منطلقا من التمييز بين السيطرة السياسية والهيمنة الأيديولوجية، فمع نضج العلاقات الرأسمالية

ص: 28

في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر وانقسام المجتمع إلى طبقات ذات مصالح متفاوتة أو متناقضة، واحتدام الصراع الطبقي كان ولا بد للطبقة الرأسمالية السائدة من بلورة آليات فعّالة الإدارة هذا الصراع واحتوائه بما يضمن حماية مصالحها، وتحقيق الاستقرار في المجتمع»(1).

لقد مرّ المجتمع المدني بمراحل تاريخية عديدة في طريق تطوّره حتى وصل إلى التركيبة المميزة له في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة في الوقت الراهن وتنبغي الإشارة إلى أنّ كلّ مرحلة تميزت بتوفّر حد أدنى من الشروط الضرورية لقيام المجتمع المدني بتركيبته الخاصة. وبهذا الصدد هناك من يحدّد مجموعة من الشروط التاريخية التي تشكل من خلال تمفصلها مناخاً ملائماً، بل ضرورياً لبروز ما يسمّى بالمجتمع المدني في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ولا بد من حضور شرطين على الأقل للدلالة على وجود ظاهرة المجتمع المدني التي ينبغي تمييزها عن ظواهر مثل المواطنة الليبرالية الاقتصاد الرأسمالي وغيرها من الظواهر الأخرى المصاحبة لقيامه (2).

وقد كان من الشروط التاريخية لذلك ما آلت إليه مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة من الانفصال، فقد كان الفصل بين الدولة من جانب والمجتمع المدني هو في التحليل الأخير نتاج ما حدث لهذه المجتمعات من تغير في مستويي الوعي والثقافة مما أدى بدوره إلى تغير في المجتمع، وزيادة تقبله للمجتمع

ص: 29


1- انظر عبد الغفار شكر، المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، ص 176.
2- العياشي عنصر، مرجع سابق.

المدني ومؤسساته. وهذا كان له أثره في التفرقة الواضحة بين الدولة كسلطة وبين وبين آليات الاقتصاد ذاته، وهذا أدّى بدوره إلى بلورة الإطار السياسي والإطار الاقتصادي كإطارين مستقلين لكلّ منهما وجوده المتمايز عن الآخر، وهذا يعود إلى ما ترتب على قيام الثورة الفرنسية من تشكيل الطبقة البرجوازية، التي كان لها أثرها الواضح في الفعل الاقتصادي الغربي. بل لقد كان من أهم الشروط التاريخية التي اعتملت لظهور المجتمع المدني فكرة المواطنة، باعتبارها قضية مفصلية مركزية انضوت على العديد من القضايا الفرعية كحرية العقيدة والتعددية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وغيرها من القضايا التي أكدت دور الفرد واستقلاليته في صناعة الأحداث والمجتمع من حوله، أيا كان انتماؤه العقدي أو الجنسي أو العرقي أو الأيديولوجي.

كما كان من الشروط التاريخية لتكوين المجتمع المدني وتبلوره انشطار الممارسة المجتمعية إلى حقول ذات استقلالية نسبية وبالتالي ظهور الفرق بين آليات عمل المؤسسات الاقتصادية من جهة والمؤسسات الاجتماعية من جهة ثانية، والتمييز بينها بالنظر إلى تباين أهدافها ووظائفها. إضافة إلى تبلور الفرق بين التنظيمات الاجتماعية الطوعية (مثل الجمعيات المهنية الرياضية العلمية النقابات..) المتكونة من مواطنين أحرار ينخرطون فيها بشكل إرادي، والتنظيمات الاجتماعية العضوية ذات الطابع التضامني التي ينتمي إليها الإنسان بفعل المولد (العائلة، الطائفة القبيلة). فضلاً عن ظهور الفروق بين الديمقراطية التمثيلية في الدولة الليبرالية والديمقراطية المباشرة في

ص: 30

التنظيمات الطوعية والمؤسسات الحديثة في المجتمع (1).

ولا يخفى أثر العوامل السياسية والاجتماعية في تشكيل تصور المفكرين لمفهوم المجتمع المدني، ومن ثمّ يذهب الدكتور محمد عثمان الخشت إلى أنّ هيجل تأثر في نظرته عن المجتمع المدني بالواقع السياسي والاجتماعي في عصره، حيث جاء تصور هيجل للمبادئ التي يقوم عليها المجتمع المدني كانعكاس للواقع السياسي والاجتماعي الذي كانت تعيشه أوروبا في عصره، وتصوير ما هو كائن فعلاً، بما يعني أنّ دراسته كانت نوعًا من تقديم صورة عقلية للمتعين، حيث إن مهمة الفلسفة عنده تنحصر في تحليل ما هو موجود فعلاً، لكن ما هو موجود ليس عالماً مقابلاً لما هو عقلي عند هيجل، وإنما هو العقل ذاته، فالفلسفة مرآة للواقع، وهي وليدة زمانها وعصرها(2).

أولاً - دلالات المفهوم في الفكر الغربي :

مفهوم المجتمع المدني يعد من مفاهيم العلوم الإنسانية والاجتماعية التي أصابها التغير والتطوّر في دلالاته منذ بداياته الأولى حتى وقتنا الراهن، والمتتبع لتاريخ ظهوره يتأكد له ذلك، حيث كانت بداية ظهوره في منتصف القرن السابع عشر على يد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي الذي تناول فيه المجتمع المدني بصورة لم يفرّق فيها بينه وبين الدولة (3) أما مواطنه الفيلسوف جون

ص: 31


1- العياشي عنصر، مرجع سابق.
2- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 20، 21.
3- انظر خيري بشارة، واقع و فكرة المجتمع المدني قراءة شرق أوسطية. - منشور في: إشكاليات تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية. رام الله، 1997. - ص.391.

لوك، فقد عمل على تحديد المجتمع المدني مُميّزاً له عن الدولة، دون أن يكون في هذا التمييز إلغاء للروابط التي تجمع بينهما.

أما في القرن الثامن عشر فقد اكتسى مفهوم المجتمع المدني بمعنى آخر يظهر فيه بمظهر الكيان الذي يشغل المساحة بين الدولة ممثلة في السلطة الحاكمة والمجتمع عامة، وهذا ما نجده عند جان جاك روسو، وقد سار مونتسكيو في المسار ذاته، وإذا ما انتقلنا إلى الفيلسوف الألماني هيجل الذي كان حلقة من حلقات تأكيد المساحة التي يشغلها المجتمع المدني بين العائلة والدولة مع وجود فصل بينهما. أما توكفيل فقد اهتم اهتمامًا خاصًا، مستندًا إلى المنظمات المدنية النشطة ودورها في إطار الدولة بالمعنى الضيق للكلمة. وفي الأدبيات الحديثة بخاصة ذات التوجه الراديكالي ارتبط مفهوم المجتمع المدني باسم أنطونيو جرامشي المفكر الشيوعي الإيطالي الذي حاول تجاوز التحديد الماركسي لكونه يعتبر المجتمع المدني مجتمعاً برجوازياً بالأساس، وقد اعتبره جرامشي مجال تحقيق الهيمنة في ظلّ سيادة الرأسمالية، بمعنى فرض النفوذ الثقافي والأيديولوجي للبرجوازية، بينما تكون الدولة مجال تحقيق السيطرة (1).

ويمكن القول إنَّ مفهوم المجتمع المدني يمر بالعديد من المراحل على يد العديد من المفكرين الغربيين، إلا أننا سوف نتاول بالدراسة مفهوم المجتمع المدني عند أبرز المنظرين له من بين هؤلاء المفكرين، وهم على النحو التالي:

ص: 32


1- انظر خيري بشارة السابق، ص 391.

أ - المفهوم في النظرية السياسية عند جون لوك:

ينظر إلى مفهوم المجتمع المدني في ظلّ النظرية السياسية التي تشكلت بناء على العقد الاجتماعي على أنّه الإطار المقابل لإطار الدولة التنظيمي(1)، وجون لوك أشهر الفلاسفة الإنجليز الذين قالوا بنظرية العقد الاجتماعي، والتي تقوم بالأساس على مبدأ الحرية، فالإنسان يمتلك الحرية عنده، وهو يولد بها ولا ينازعه أحد في حقه فيها، بيد أنَّ الإنسان يتنازل طواعية للحاكم عن جزء من حريته مقابل ممارسة الدولة في حفظ الأمن ورعاية المصلحة العليا للشعب، وهذا التنازل عن جزء من الحرية هو تنازل مشروط، فبناء على العقد الاجتماعي الذي يتشكل في صورة دستور متفق عليه بين الحاكم والمحكومين فإنّ شرعية الحاكم مستمدة هذا العقد الاجتماعي، بما يعني أنه تسقط شرعية الحاكم إذا لم يكن العقد الاجتماعي موجوداً. ولذا وجدناه يقول: «فللشعب الحق في أن يخلع عنوة أية قوة تحاول أن تصرفه عما هو ضروري للمجتمع، وعمّا تقوم عليه سلامة الشعب وبقاؤه» (2)

ومن ثمّ فالمجتمع المدني عند جون لوك هو المجتمع الذي يستمد شرعيته من العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة، ومن ثمّ فهو الإطار التنظيمي المقابل للإطار التنظيمي للدولة الذي يواجه الاستبداد، فالفوضى عند لوك ليست هي البديل الوحيد

ص: 33


1- انظر جون لوك في الحكم المدني، نقله للعربية د. ماجد ،فخري، بيروت، طبعة اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959م، ص 199. وانظر أيضًا شارلوت سيمور، سميث، موسوعة علم الإنسان، ص 614.
2- جون لوك في المجتمع المدني، ص 233 انظر هذه القضية تفصيلاً د. إمام عبد الفتاح، مسيرة الديمقراطية، القاهرة، دار الحكمة 2000م، الطبعة الثانية، ص 35، 36.

للاستبداد، لأنّ الحكم الدستوري المقيّد هو الذي يكفينا الفوضى والاستبداد معًا(1)، وهذا دليل على أن لوك عندما طرح فكرته عن العقد الاجتماعي إنما كان يهدف بالأساس إلى مواجهة الاستبداد السياسي، أو ما يُطلق عليه الحق الإلهي للحكام والملوك، ذلك أنّ الله تعالى خلق الناس سواسية، رافضًا موقف من يبررون الاستبداد، داعيًا إلى حق الإنسان في الحرية والتملك؛ لأنّ ذلك هو مبدأ القانون الطبيعي (2). وهذا يدلّل على أنّ الحكم الاستبدادي والمجتمع المدني لا يجتمعان في نظر جون لوك، « وعلى ذلك فإنّ الحكم المطلق الذي يقبض فيه أفراد قليلون على السلطات كافة لا يمكن أن يقوم بجانبه مجتمع مدني، وبالتالي لا يأخذ شكل الحكومة المدنية، إذ إنّ ميزة المجتمع المدني هو تجنّب التحيّز الذي كان يسيطر على الفرد في حالة الطبيعة، عندما يفصل في قضاياه الخاصة، إلى جانب علاج هذا التحيّز، وذلك بإيجاد سلطة عامة يلجأ إليها كلّ فرد وتتولى عنه مهمّة فض المنازعات والفصل في الخصومات، وفي الوقت نفسه تلزمه بالخضوع لأحكامها ، وهذا ركن هام في قيام المجتمع المدني ، يفتقر إليه هؤلاء الذين يخضعون السيطرة الحاكم المطلقة».(3)

ب - المفهوم عن آدم فيرجسون

يمكن القول إنّ انتشار اصطلاح المجتمع المدني يرجع إلى

ص: 34


1- انظر جون لوك في المجتمع المدني، ص 265 266 ، انظر عبد الوهاب أحمد الأفندي الإسلام والدولة الحديثة، لندن، دار الحكمة، بدون، ص 21.
2- انظر جون لوك، في المجتمع المدني، ص 266، 267.
3- جون لوك الحكومة المدنية، ترجمة محمود شوقي الكيال القاهرة، المؤسسة القومية للطباعة والنشر ، ط مطابع شركة الإعلانات الشرقية، ص 77، 78.

المفكر الأسكتلندي آدم فيرجسون في كتابه مقال في تاريخ المجتمع المدني، وتحديدًا في عام 1767م ، حيث جعل المجتمع المدني مرحلة من مراحل تطوّر الإنسانية اجتماعيًا وثقافيًا، فقد جعل مراحل تطوّر الإنسانية على الناحيتين الاجتماعية والثقافية ثلاثة أولها مرحلة التوحّش والتي تقوم أفعال الإنسان فيها على أساس تلبية نداء الغريزة الحيوانية، والثانية مرحلة البربرية أو مرحلة الملكية المستبدة، أو مرحلة المجتمع التجاري وهو المجتمع الذي كان يهتمّ بتحقيق الثروة استناداً إلى المصلحة الذاتية، والثالثة مرحلة المجتمع المدني، وهي تلك المرحلة التي يسودها النظام السياسي العادل البعيد عن الاستبداد أو التقييد للحريات، كما تسوده القيم، ولذا تمثل هذه المرحلة عند آدم فيرجسون مرحلة التمدن الحضاري(1).

وتتمثل البذور الجينية في مفهوم المجتمع المدني في المفاهيم التي تبلورت في نظريات العقد الاجتماعي في الفلسفة السياسية الحديثة، مثل مفهوم الحالة الطبيعية وهي حالة الفطرة التي كان الناس عليها قبل نشأة النظم السياسية والاجتماعية والدينية، ومفهوم عقد الاجتماع الذي تحوّل فيه الإنسان من حالة الفطرة أو اللانظام إلى حالة الاجتماع والنظام السياسي والديني والاجتماعي، ومفهوم حالة المدنية وهي تلك الحالة التي تحوّل الناس إليها، والتي سادت فيها النظم ونشأة فيها السلطة السياسية والدينية، ومفهوم عقد الحكومة الذي ينعقد بين الناس والحاكم، ويعطي للدولة أساس وجودها الشرعي (2). وما إن اكتملت هذه المفاهيم على يد جون لوك

ص: 35


1- Ferguson: An Essay on the History of Civil Society, ed Duncan Forbes, Edinburgh, 1966, p 33
2- انظر الخشت المجتمع المدني عند هيجل، ص 18 .

وجان جاك روسو حتى برز مفهوم المجتمع المدني، وكأنّه الغاية التي كانت تسعى إليه(1).

ويذهب بعض المفكرين الغربيين إلى أنّه على الرغم من« تعبير أرسطو الاقتصاد السياسي وتوابعه المواطنة.. والدولة، وتعبير توما الأكويني المجتمع المدني أو السياسي، وعبارة لوك المجتمع المدني أو السياسي، تشير إلى الدولة السياسية ولا تضع تفرقة أو تمييزا بين كلمتي السياسي والمدني»(2) فإنّ هيجل يعد صاحب اليد الطولى في تحديد مفهوم المجتمع المدني والعمل على بلورته ووضع بعض الأسس والمبادئ الخاصة به، بل العمل على بيان الحدود الفاصلة بينه وبين الدولة من ناحية التنظير الفلسفي .

ج- المفهوم عند توماس بين:

توماس بين مفكر أمريكي ليبرالي، ولد في عام 1737م وتوفي في عام ،1809م آمن بالديمقراطية ودافع عنها حتى مماته، شارك في صناعة الثورة الأمريكية، بل كان مؤلف منشوراتها، دافع بين عن المجتمع المدني ومؤسساته ضد الحكومة، ونظر إليه نظرة مخالفة لتلك التي نظرها هيجل إليه، وقد أظهر حماسة واضحة بالمجتمع المدني بصورة غير محدودة، وقد انتقد توماس بين النظام الملكي وفي إنجلترا خاصة، مؤمنًا بضرورة وجود دستور وفق الديمقراطية التي كان يحلم بها في أمريكا، بعيدًا عن الوصايا البريطانية، ولذا

ص: 36


1- انظر محمد عابد الجابري المجتمع المدني في شروطه التاريخية، مجلة الوسط، العدد 415، 2000م، ص 36.
2- ميخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيجل ترجمة أ.د إمام عبد الفتاح، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م، 113 .

وجدناه يقول: «إنّ تشكيل حكومة خاصة بنا هو حق طبيعي لنا، وعندما يتفكر أي إنسان بجدّية في عدم استقرار الشؤون الإنسانية فسوف يقتنع أنه من الأكثر حكمة وأكثر بكثير أن نضع دستورًا خاصًا بنا بأسلوب هادئ مدروس متأنّ» (1) فالحرية عند توماس بين تفرز لا محالة المجتمع المدني، وهذا يفسر لنا كيف كانت أفكاره ركيزة أساسية للمجتمع المدني الأمريكي، بحيث جعله سلطة موازية لسلطة الدولة.

د- المفهوم في الفكر الهيجلي :

ينظر هيجل للمجتمع المدني على أنّه ثالث الثالوث الذي يتكوّن من الأسرة والدولة والمجتمع المدني، فالأسرة عنده هي الجذر والأصل الأخلاقي الذي تقوم عليه الدولة (2) ، ولا غنى لها عنه بأي حال، وتتسم الأسرة عنده بالحب والوئام والتوافق، فهي تمثل الانسجام الذي يعدّ الصفة الأساسية في تكوين الأسر، ومن هنا فإنّ المجتمع المدني يخرج للنور في مرحلة ما يسمّى بالروح الموضوعي، بين الأسرة والدولة، وصولاً إلى الدولة الحيّة الأخلاقية أو الأخلاق الاجتماعية، وهي التي تناولها هيجل في الجزء الثالث من كتابه أصول فلسفة الحق . (3) ولكن من المؤكد أنّ هذه الأسرة - وكذلك الأسر عامة - يصيبها التفتت وتفقد ما كانت عليه من توافق وانسجام، حيث يتجه الأفراد إلى الانفصال وإحداث أسر مستقلة

ص: 37


1- توماس بين المنطق السليم، ترجمة محمد إبراهيم الجندي القاهرة، طبعة كلمات عربية للترجمة والنشر، الطبعة الأول، 2012م، ص 39 .
2- انظر هيجل أصول فلسفة الحق، ترجمة د. إمام عبد الفتاح القاهرة، طبعة مدبولي، 1996م ص 504.
3- انظر هيجل أصول فلسفة الحق، ص 504.

عن الأسرة الأولى، بيد أنّ هؤلاء الأفراد عندما يخرجون من الأسرة إلى الحياة الاقتصادية، ومن ثم يتجهون إلى الملكية الخاصة، يظهر الاختلاف والصراع على الحاجات والمصالح، كما تطلّ الأنانية بصورة بارزة بين الأفراد المتناحرين وفي الوقت نفسه يظهر نظام تبادل الحاجات، وهذا هو المجتمع المدني عند هيجل(1) . ومن ثم نفهم أن المجتمع المدني عند هيجل قائم على المصلحة والمنفعة المتبادلة، فالأفراد إنما يجتمعون وفق مصلحتهم، وهذا يجعل الجمعيات المدنية المشكلة وفق هذا المبدأ في علاقة، وفي الغالب في نزاع، وهذا يجعل في الحياة الاجتماعية بالتبعية نظامًا خارجيًا بالكلية ناتجا من اتفاق الحاجات وتحديد المتبادل، ومفروضًا من قبل تشريع جماعي(2) .

وقد ذهب روجيه جارودي إلى شيء من هذا، عندما أكد على أنّ تفتت العائلة إلى أشخاص مستقلين يقودنا إلى لحظة جديدة في تحقق الحرية، تلك اللحظة التي يسميها هيجل المجتمع المدني، أي مجمل الأفراد المشتركين في الحياة الاقتصادية في نظام المزاحمة الرأسمالي(3).

ولا يمكن الحديث عن المجتمع عند هيجل دونه ربط بالحديث عن الدولة؛ حيث إنّ «فكرة الدولة هى الفكرة الكلية بوصفها جنسًا، وكقوة مطلقة أعلى من الدول الفردية إنّها الروح وقد وهبت نفسها

ص: 38


1- انظر هيجل أصول فلسفة الحق، ص 504، 505.
2- انظر رينيه سرو وجاك دوندت هيجل ترجمة جوزيف سماحة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م، ص 96.
3- رجاء جارودي، فكر هيجل ترجمة الساس مرقص، بيروت، دار الحقيقة، 1983م، ص 140.

التحقق الفعلي في مسار تاريخ العالم »(1).

يقول ماركيوز: إنّ المركز الذي تحتله فلسفة الحق (القانون) في المذهي الهيجلي يجعل من المستحيل النظر إلى الدولة، وهي أعلى حقيقة في مجال الحق (القانون) على أنّها أعلى حقيقة في المذهب بأسره، فحتى ذلك التأليه الذي كان ينظر به هيجل إلى الدولة لا يمكنه أن يلغي حقيقة قاطعة وهي أنّه أخضع الروح الموضوعية للروح المطلقة، والحقيقة السياسية للحقيقة الفلسفية»(2)

ومن ثم فإنّ المجتمع المدني عند هيجل في حاجة ماسة إلى الدولة باعتبارها إطارًا أو كيانا أكبر؛ لأنّ ذلك ضمانة أكيدة في نظره لجعل المجتمع المدني كياناً مستقلاً، فالدولة تساعده على القيام بوظائفه اقتصاديًا واجتماعيًا وتعليميًا، وكلّ هذه الوظائف مرتبطة بالإطار العامّ الذي تضعه الدولة، ومن ثمّ كان السبيل الذي تتخذه الدولة في توجيه الأفراد نحو الحياة الأخلاقية أو الأخلاق الاجتماعية هو العمل في الجمعيات والاتحادات المهنية والمؤسسات المجتمعية والتجمعات المحلية؛ لأنّ في ذلك ضمانة من عدم تحول المواطنين إلى مجرد تجمعات بلا هوية(3).

يقول هربرت ماركيوز شارحًا موقف هيجل من العلاقة بين المجتمع المدني والدولة : «المجتمع المدني لا يمكن أن يكون غاية في ذاته، لأنّ متناقضاته الكاملة تحول بينه وبين تحقيق وحدة وحرية حقيقية، ولذلك رفض هيجل استقلال المجتمع المدني، وجعله

ص: 39


1- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 504.
2- هربرت ماركيوز العقل والثورة، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م، ص 173.
3- هيجل، أصول فلسفة الحق، ص 496.

خاضعًا للدولة المتمتعة بالاستقلال الذاتي، وينقل هيجل تجسيد نظام العقل من المجتمع المدني إلى الدولة، غير أنّ هذه الأخيرة لا تحلّ محلّ المجتمع المدني، بل تحافظ على حركته، وتصون مصالحه دون أن تغير مضمونه ، وهكذا فإنّ الخطوة التي تتجاوز المجتمع المدني تؤدّي إلى نظام سياسي تسلطي»(1).

ومن ثم فإنّ نظرة هيجل للمجتمع المدني هنا نظرة ناقصة؛ ذلك لأنّه يتّخذ من التناقض الحادث في المجتمع المدني ذريعة للاستبداد، أو مطيّة لتسويغ التسلّط الذي تقوم به السلطة الحاكمة، وبناء عليه فقد جعل الدولة ممثلة في السلطة أعلى من غيرها، وجعل لها السلطة المطلقة، مما جعل سلطتها تتعاظم في مقابل الأفراد أو سلطة المجتمع المدني.

ويمكن القول إنّ المجتمع المدني عند هيجل يعتمد على ركيزتين أساسيتين: الأولى الأنانية أو الذاتية، والثانية تبادل المصالح. فهيجل يقول تأكيدًا للركيزة الأولى: «الشخص العيني الذي هو نفسه موضوع غاياته الجزئية، وبوصفه مجموعة الحاجات ومزيجًا من الهوى والضرورة المادية هو المبدأ الأول في المجتمع المدني »(2).

فالذاتية أو الأنانية هي الركيزة الأولى أو المبدأ الأول في المجتمع المدني عند هيجل، والتي تتمثل في الشخص المحسوس الذي نفسه هدفًا أساسيًا، حيث إنّه يسعى لإشباع غاياته الجزئية، يتخذ من في المأكل والملبس والمسكن وغيرها، وهي كلّها احتياجات شخصية تقوم على دافع غريزي يحصر الفرد في دائرة مغلقة قوامها

ص: 40


1- انظر العقل والثورة، ص 193 .
2- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 431.

الذاتية أو الأنانية أو الفردية، وفيها يكون الفرد معزولاً عن أقرانه؛ حيث تحركه دوافعه المادية وأهواؤه الشخصية (1) .

وهذا يعني أنّ هيجل ينظر للمجتمع المدني نظرة منفعة ذاتية ونرجسية أنانية، وهي نظرة لا تعطي المجتمع المدني أحقيته ومكانته اللائقة به، فهي نظرة قاصرة ناقصة تجعل الإنسان في سعي دائم نحو إشباع حاجاته ومصالحه، دون النظر إلى المجموع، ومن ثم فمن المؤكد أن تتعارض المصالح والحاجات من إنسان لآخر ومن طائفة لأخرى، وهنا يحثّ الصدام غير المحمودة عقباه، ومن ثم يكون المجتمع المدني عامل شقاق في المجتمع في الوقت الذي يفترض فيه أن يكون حلقة الوصل بين الأسر والأفراد من جهة والدولة من جهة أخرى، وهذه نتيجة حتمية لركيزة النفعية والأنانية التي بني عليها هيجل نظرته للمجتمع المدني. نحن نعلم أنّ البدايات دائماً لا تأتي بكمالية الفكرة ونضوج الهدف، وهذا ما حدث بالنسبة للمجتمع المدني عن هيجل، فبداية المصطلح كانت قريبة العهد به، ثم حاول هو أن يقعد له ويعطي له شيئًا من التنظير ، ومن ثم كانت السلبيات؛ نتيجة عدم اختمار الفكرة في البداية، والدليل على ذلك أننا سنجد أنّ الفكرة قد تبلورت على يد اللاحقين بهيجل، وتغلبت على العديد من السلبيات التي حاقت بها.

أما الركيزة الثانية التي يعتمد عليها هيجل في فكرته عن المجتمع المدني فهي التبادلية، وهي تمثل مبدأ أساسيًا عنده، وهو يؤكد هذه الركيزة أو هذا المبدأ قائلاً: «هذا الشخص الجزئي يرتبط بالضرورة بغيره من الشخصيات الجزئية الأخرى حتى إنّ كلاً منهم يقيم ذاته

ص: 41


1- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 431 ،432.

ويشبعها عن طريق الآخرين، وهذا هو عن طريق الصورة الكلية المبدأ الثاني في هذا المجتمع»(1) ويقول أيضًا في موضع آخر:« في عملية السعي إلى تحقيق الغايات -الأنانية - وهو تحقق مشروط على هذا النحو بالكلية - يتشكل نظام كامل من الاعتماد المتبادل، حيث يتداخل نسيج حياة الفرد وسعادته، ووضعه القانوني مع حياة الأفراد الآخرين وسعادتهم وحقوقهم فعلاً، ولا تكون مضمونة إلا داخل هذا النظام المترابط »(2).

وهذه الركيزة الثانية تقوم بالأساس على الركيزة الأولى، إذا لما كان المجتمع المدني عند هيجل يقوم على تلبية حاجات الفرد وإشباع رغباته الذاتية التي تنطوي على أنانية واضحة فهو كان يدرك أيضًا أنه وهو في سبيل تحقيق تلك الحاجات عليه أن يقوم بعملية تبادل مع الآخرين، حتّى يعطيه كلّ واحد منهم ما يفتقده، ويجد عنده الآخرون ما يفقدونه. فالتواصل الإنساني أو الاجتماعي الإنساني في المجتمع المدني عن هيجل ليس غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة نفعية يستطيع من خلالها الإنسان تحقيق غاياته ومصالحه.

ومع هذا فلا يمكن بحال إنكار الدور الذي قام به هيجل في بلورة قضية المجتمع المدني ولو في بعض جزئياتها، ووضعها في بؤرة الاهتمام بغض النظر عن تلك المكانة التي وضع فيها الدولة، إلى الحدّ الذي كان له تأثيره في مجمل فكرته عن المجتمع المدني، فالمجتمع المدني عند هيجل مجموعة مؤسسات وهيئات أهلية ونقابات وجمعيات تعمل في ظلّ الدولة بما وضعته من قوانين

ص: 42


1- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 431.
2- هيجل السابق، ص 432.

منظمة للعلاقة بينه وبين الدولة والأفراد، ويمتاز هذا المجتمع بأنه يساعد الدولة، ويستطيع أن يفعل ما لا تفعله الدولة، بما يعني أنه يرفع عن كواهلها الكثير.

لكنّ هذا المجتمع المدني عنده ليس أساسًا ثابتا أو نتيجة قبلية للحياة الطبيعية، بل هو نتاج عمليات معقدة وطويلة من التحول التاريخي، ومن ثم فإنّ نقد هيجل للنزعة الطبيعية يعتبر أمرًا جديدًا في النظريات الحديثة عن المجتمع المدني، فهيجل لا يرى أيّ انسجام بين العناصر المتنوعة للمجتمع المدني، على عكس العناصر التي تؤلّف النظام الأسري. حيث إنّ الأشياء في المجتمع المدني لها وضع آخر غير الوضع في الأسرة، حيث ينظر هيجل للأشكال المتعددة للتفاعل بين العناصر المتنوعة للمجتمع المدني على أنّها غالبًا غير متناسبة وهشّة ومنشطرة ومتجزئة وموضوع الصراع حقيقي. وعلى العكس من هيجل يرى توماس بين أنّ الطبيعة منتظمة في كلّ أعمالها، وهذا هو السبب في أنّ العناصر المتنوعة للمجتمع المدني تندمج عفويًا وبشكل هارموني(1).

ويمكن القول إنّ المجتمع المدني عند هيجل يمر بثلاث لحظات (2) الأولى، لحظة منظومة الحاجات، وهي اللحظة التي يقوم فيها الإنسان الجزئي بالسعي لتلبية حاجاته الذاتية، بواسطة العمل، وفي هذا السعي لإشباع الذات بواسطة العمل، يقوم بإشباع الحاجات الموضوعية، أي حاجات غيره من الناس، ومن ثم كانت أهمية الروابط الاجتماعية عند هيجل الذي وجدناه يقول: «قدسية

ص: 43


1- انظر الخشت المجتمع المدني عند هيجل، ص 35: 37.
2- انظر هيجل أصول فلسفة الحق، ص 439، وما بعدها.

الزواج وكرامة عضو النقابة هما النقطتان المحوريتان اللتان تدور حولهما ذرّات المجتمع المدني غير المنظمة»(1). والثانية، لحظة تحقيق العدالة القانونية وهي اللحظة التي يجري فيها تطبيق القانون بواسطة المؤسسة القضائية بهدف المحافظة على الشخصية والملكية وصيانتهما من الاعتداء، وإلغاء أي اعتداء عليهما. والثالثة لحظة رعاية وضمان أمن ورفاهية أفراد المجتمع المدني، بوصفها أمرًاً مشتركاً وليست فردية جزئية، وسدّ الثغرات في تطبيق العدالة، وتتجلى هذه اللحظة في السلطة العامة والنقابات.

وتحتل قضية علاقة المجتمع المدني بالدولة مكانًا واضحًا عن كلّ المفكرين الذين تناولوا المجتمع المدني بالدراسة، خاصةً إذا علمنا أنّ المعروف في الوسط الأوروبي أنّه كانت هناك ثلاثة كيانات في السابق يدور بين الشد والجذب، وهي السلطة الحاكمة والكنيسة بنفوذها الديني والمجتمع، ومن ثم كان هدف المجتمع المدني أن يقف بمواجهة السلطة الحاكمة بسياستها المستبدة، والسلطة الدينية الكنسية بانغلاقها بالأفكار القديمة والادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة. وعليه فإنّ المجتمع المدني كان الحلقة الوسطى والتي تمثل الوسطية في التعامل قضايا المجتمع وإشكالياته دون استبداد السلطة السياسية أو السلطة الكنسية في أوروبا في ذلك الوقت.

ويؤكد هيجل علاقة المجتمع المدني بالدولة في قوله: «فإنّ الدولة بما هي كذلك ليست فعلاً نتيجة بمقدار ما هي بداية، ففي داخل الدولة تطورت الأسرة لأول مرة إلى المجتمع المدني، إنّ

ص: 44


1- انظر هيجل ، أصول فلسفة الحق، ص 491.

فكرة الدولة نفسها هي التي شطرت ذاتها إلى هاتين اللحظتين »(1)

فوظيفة الدولة عند هيجل تتمثل في إقامة التوازن بين الفردي والجماعي الذاتي والكلي، إقامة التوازن بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وتنظيم المجتمع المدني ومراقبته بحيث يكون فاعلاً ومؤثراً، إلا أنّ الدولة عنده كانت مهيمنة على المجتمع المدني، إذ لم يكن ينظر إليه على أنّه قطب في مواجهة الدولة، وإنما هو مجرد مرحلة تؤدي إلى الدولة فهو اللحظة الثانية من الحياة الأخلاقية أو الأخلاق الاجتماعية بخلاف اللحظة الأولى وهي الأسرة، واللحظة الثالثة والنهائية الدولة، فالأخيرة هي الأساس الحق للأسرة والمجتمع المدني(2).

ومن ثم فإنّ هيجل يرى في الدولة الأساس الذي لا بد أن ينطلق منه المجتمع المدني فالدولة عند هيجل هي السلطة العليا التي تراقب وتشرف على الأسرة والمجتمع المدني، فالدولة عنده هي المنشأ ،والمآل فهي عنده ضرورة خارجية لكلّ منهما، وطبيعة الدولة هي القوانين والمصالح المتعلقة بها التي تعتمد عليها، وتكمن قوتها في وحدة غايتها الكلية مع المصلحة الجزئية للأفراد، من حيث إنّه على هؤلاء الأفراد حقوق كما لهم من حقوق(3)، وهذا يؤكد أنّ المجتمع المدني عند هيجل لا يعمل بمعزل عن الدولة، فالدولة عنده هي التي ترفع العوائق التي تحيط به، بما يعني نقطة البدء عنده هي الدولة، فهي المحور الذي تدور حوله الأسرة والمجتمع المدني.

ص: 45


1- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 493.
2- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 493.
3- هيجل أصول فلسفة الحق، ص 507 .

ونفهم من ذلك أنّ هيجل يجعل اليد الطولى للدولة في كلّ شيء، وعلى كلّ المستويات الفرد والكنيسة والمجتمع المدني، وهيجل يبرر ذلك بأنّ الدولة أهمّ من أي شخص أو كيان، والدولة عنده تقوم على ثلاث لحظات الأولى لحظة القانون الدستوري الذي يحدّد السلطات الثلاثة : التشريعية والتنفيذية وسلطة الملك، ولا يؤيّد هيجل الفصل بين السلطات، بل يعتبره تدميرا للدولة، والثانية لحظة القانون الدولي، الذي يبين حدود العلاقة بين الدول، والثالثة لحظة تاريخ العالم باعتباره التحقق الفعلي لفكرته عن الدولة. «وفي كلّ لحظة من اللحظات السابقة لا يكفّ هيجل عن توكيد سلطة الدولة، على حساب المجتمع المدني بعامة والفرد بخاصة، وذلك على عكس التصور الليبرالي الذي يحتلّ فيه الفرد محور الارتكاز في البناء السياسي، ويتمتع فيه المجتمع المدني بقسط واضح من الحرية، وذلك عند لوك وتوماس بين وفيرجسون مثلاً. وعلى العكس أيضًا من موقف الفلسفة الثورية عند جرامشي الذي ينتقد الدولة بأجهزتها القمعية التي تملك أدوات القوة والقهر، وأجهزتها التشريعية التي تبرّر وتشرّع القوانين التي تكرس سيطرة الطبقة الحاكمة وأجهزتها الأيديولوجية التي تسعى لكسب رضا الطبقات المحكومة عن الطبقة الحاكمة، كما ينتقد مثقفي السلطة الذين ينشرون تصوّر الطبقة الحاكمة للعالم، وبشكل عام يدعو للوقوف ضد هيمنة الدولة وتسلطها » (1).

والسؤال الذي نود طرحه هنا مؤدّاه هل تصوّر هيجل للدولة تصوّر ليبرالي أم تصوّر شمولي؟ الحقيقة أن موقف هيجل يدعو إلى

ص: 46


1- الخشت المجتمع المدني عند هيجل، ص 44 ، 45.

اتخاذ الرأي الأول في بعض أفكاره حول الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني، خاصة في تأكيده أهمية الأخير ، وأثر مؤسساته في خدمة المجتمع والدولة، كما أنّ موقفه يدعو إلى اتخاذ الرأي الثاني في بعض أفكاره التي تجعل من الدولة قطبًا أوحد كلّ قطاعات الدولة تدور في فلكه ومنها المجتمع المدني، وأنّ الدولة هي المهيمنة على كلّ شيء، وما المجتمع المدني إلا أداة من أدواتها.

إنّ الدولة عند هيجل شمولية، ولكن شموليتها من نوع خاص، فليست تقوم على الاستبداد الذي كانت تمارسه الدول في مرحلة ،الطبيعة، وإنما شمولية تحمل معنى السيطرة لا الاستبداد، هذه السيطرة نابعة من إرادة الأفراد أنفسهم. كما تبدو ليبراليته في كون المبادئ التي تقوم عليها الدولة عنده قد أقيمت على استبصار عقلي، واهتمام عميق بالوجود ورفاهية الموجود البشري الفرد، وعلى الإنسان بوصفه حرًا، وعلى أنّه وجود يحدد نفسه بنفسه(1). وربما كان هيجل ذاته من أوحى بهذين المتناقضين.

لكن من المهم أن نعرف المقصود بالدولة، فهل المقصود بالدولة الكلّ الذي ينضوي تحت لوائه الشعب والأقليم والحكومة؟ أم المقصود بها الحكومة والسلطة السياسية فقط ؟ بالطبع إنما المقصود بالدولة هنا هو السلطة أو الحكومة، بما تقوم به من وظائف أهمها حماية عموم الشعب وتوفير الحماية والأمان اللازمين له، لأنّ منع الطغيان والاعتداء من قبل أفراد الشعب بعضهم على بعض من الوظائف الأساسية للدولة، سواء أكان طغيانًا على حرية الأفراد، أم

ص: 47


1- انظر ميشيل متياس هيجل والديمقراطية، ترجمة د. أمام عبد الفتاح، بيروت، دار الحداثة، 1990م، ط 1، ص 14.

على قوانين السوق، أم طغيانًا يتمثل في الوقوع في الجريمة، بحيث تقوم بوضع أسس للعلاقة بين أفراد المجتمع كله كل ذلك وفق قوة القانون الذي يؤسّس له نظاماً جمهورياً دستورياً ديمقراطياً.

ه- مفهوم المجتمع المدني عند جرامشي:

أما أنطونيو جرامشي الفيلسوف الإيطالي ذو النزعة الماركسية، الذي ولد في عام 1891م وتوفي في عام 1937م، والذي يعدّ من مؤسسي الحزب الشيوعي في إيطاليا، فقد أولى اهتمامًا كبيرًا بالمجتمع المدني، وإذا كان هيجل جعل فلسفته السياسية قائمة على تصوّره للدولة، فإنّ جرامشي كان على العكس من ذلك تمامًا، حيث جعل فلسفته السياسية قائمة بالأساس على تصوره للمجتمع المدني، فجرامشي انتقد السلطتين التنفيذية ممثلة في سلطة الدولة والسلطة التشريعية التي تشرّع القوانين، فالأولى عنده تسلّط أجهزتها في قمع الشعب وإذلاله وسلب حرّيته المكفولة له طبعًا، والثانية تعمل على تمرير القوانين القمعية التي تسنّها الدولة من أجل استمرارية تسلّطها واستبدادها، بل تبرر لها ذلك، ومن ثمّ فإنّ المجتمع المدني عند جرامشي يقوم على مواجهة تسلّط الدولة، ومحاولة العودة بالإنسان إلى الحرية.

ومن ثم فإنّ دور جرامشي في تاريخ المجتمع المدني دور كبير، حيث عالج قضية المجتمع المدني تحت إطار نظريته في السيطرة والهيمنة الطبقية المقيتة، وجعله محورًا تدور حوله أفكاره في الثورة الشيوعية (1). وعليه فقد حارب جرامشي سيطرة الدولة، وكان البديل

ص: 48


1- انظر ،غرامشي كراسات السجن، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة، دار المستقبل العربي 1994م، ص 11.

عنده هو المجتمع المدني، بيد أنّه لم يلغ دور الدولة، وإنما أراد تقنين دورها بحيث تكون أداة في تفعيل الحياة السياسية، ومن ثمّ كان لديه محوران رئيسان يضمنان سيطرة الطبقة البرجوازية : الأول محور الدولة بما تملكه من أدوات تحقق لها السيطرة السياسية، والمحور الثاني هو محور المجتمع المدني، بما ينضوي تحته من نقابات وأحزاب وجمعيات ودور عبادة ودور تعليم وبها تتحقق الهيمنة والسيطرة الأيديولوجية التي يحتاج أي نظام إليها(1) . وإذا كان السلطة عند جرامشي لا تقوم إلا بالسيطرة على أجهزة الدولة، فإنّ الحفاظ على السلطة لا يتحقق بذلك فقط، بل لا بد من تواصل مع المجتمع المدني، وذلك يكون من خلال منظمات المجتمع المدني والعمل الثقافي البناء، وبذلك تستطيع السيطرة على المجتمع(2).

و - المفهوم في تصوّر اليسار القديم

اليسار القديم مصطلح يطلق على الديمقراطية الاجتماعية القديمة، ومفهوم المجتمع المدني عند أصحاب هذا الاتجاه يحمل معاني السلبية وعدم الفاعلية الحقيقية، ذلك أنّ المجتمع المدني هنا مجرد خاضع للدولة ليس إلا، فهو يؤمن بالتنظيم الجماعي الذي تكون فيه اليد العليا للدولة، وليس هناك مساحة للعمل الفردي إلا فيما ندر، ومن ثم فهو لا يؤمن بفكرة السوق المفتوح. كما أنّ لديه - فيما يذهب إليه الدكتور الخشت - نزوعًا قويًا نحو الحياة الآلية، ويرى التدخل الشامل للدولة في الحياة الاقتصادية

ص: 49


1- Gramsci, Selection from the Prison Notebook, edited and translated, by quintin Hoare New York, international publishers, p 267
2- p 267, 268. ibid

والاجتماعية، ويلزمها بإتاحة السلع والخدمات العامة(1).

ز - المفهوم في تصور الليبرالية:

المجتمع المدني يحتل مكانة كبيرة في التصور الليبرالي، إذ إنّه يتمتع بحرية أكبر من أي تصور آخر ، وقد عرضنا لذلك عند كلّ من جون لوك وتوماس بين وآدم فيرجسون ويعدّ هذا التصوّر تعبيراً عن الليبرالية عموماً التي تنادي بالحرية في مجاليها الاقتصادي والسياسي، كما أنّها اتجاه يؤمن بالتعددية المذهبية والدينية والمواطنة وحقوق الإنسان، ويسمح هذا الاتجاه بتكوين الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والنقابات العمالية التي تعبر مصالح المنتمين إليها وتدافع عنها، كلّ ذلك في إطار ديمقراطي برلماني صرف، يفصل بين السلطات الثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية.

ومن ثم فإنّ مفهوم المجتمع المدني عند اليمين الليبرالي الجذري يؤكد الاستقلالية التامة للمجتمع المدني وعدم خضوعه لأي شكل من أشكال المراقبة من الحكومة، ويرى أنّ دور الحكومة ينبغي أن يكون صغيرًا ومحدودًا جدًا، ونزعته السوقية غير محدودة ومبالغ فيها، كما أنّ له نزعة أخلاقية استبدادية ومتسلطة، ويؤكد النزعة الفردية الاقتصادية، أمّا سوق العمل فهو حرّ بشكل مطلق (2) .

غير أنّ مفهوم المجتمع المدني عند الليبرالية- كما هو عند غيرها- مرتبط بدلالات أيديولوجية، فالرؤية الليبرالية تختلف عن رؤية اليسار، فالمجتمع المدني في الرؤية الأولى م على حرية الإرادة

ص: 50


1- انظر د. محمد عثمان الخشت الطريق الثالث في عالم متغير جريدة الأهرام، صفحة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 15/ 11 / 1999م.
2- انظر د. محمد عثمان الخشت المجتمع المدني والمواطنة 72.

والمسؤولية الفردية والتطوّع المرتبط بتحقيق المصلحة العامة، بما يعني أنّها رؤية تتيح أن يعمل الأفراد على صنع مصيرهم بأنفسهم، وباستطاعتهم الأخذ بيد غيرهم إلى تحديد مصيرهم أيضًا، وهذا من شأنه أن يكون له مردود إيجابي يتيح إنشاء الجمعيات التطوعية وجمعيات الأوقاف الخيرية والمنتديات والنقابات والنوادي والأحزاب وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وهي كلها تمثل بعدًا تنمويًا يساعد السلطة التنفيذية في القيام بالأعمال الموكولة إليها. وتتضح هذه الرؤية بصورة بارزة بمقارنتها بالرؤية الهيجلية أو الرؤية الماركسية والشيوعية فرؤية هيجل تقوم كما تبين على أنانيّة المجتمع المدني وتبادل المنفعة، وهذا يفسر سبب انحسار المجتمع المدني عنده وتقلّصه في مقابل التوسع في كيان الدولة، في حين كانت الرؤية الماركسية والشيوعية مرتبطة بالنظام الطبقي الذي لا يتّسم بأي نوع من التكافؤ أو العدل الاجتماعي، وهذا يفسّر بدوره ذلك الاتجاه الذي يرفع راية تهميش دور المجتمع المدني، ومحاولة الإجهاز عليه.

ح -المفهوم في تصوّر الطريق الثالث:

تبلور مصطلح الطريق الثالث عند أنتوني جيدنز في كتابه: الطريق الثالث.. تجديد الديمقراطية الاجتماعية، وهذا الاتجاه يحاول التغلب على السلبيات التي نتجت من الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة بحيث تكفل السلطة الحاكمة المجتمع المدني الذي يعمل بكامل حريته مع وجود نظام لتبادل ،المراقبة، فالسلطة لها مواردها الضرورية والتي لا غنى عنها في تقديم المساعدات للمناطق الأكثر احتياجًا، عن طريق تحسين

ص: 51

مستوى معيشة الأفراد أو من خلال تقديم القروض الصغيرة التي تعمل على تنمية اقتصادية محلية، كما أنّ السلطة الحاكمة ملزمة بمراقبة المجتمع المدني في حالة الخروج على المبادئ المتعارف عليها، أو في حالة غلبة المصلحة بين أفراد المجتمع المدني، في حين أنّ المجتمع المدني الفعّال يصون الأفراد ويحميهم من طغيان الدولة وبطشها (1) .

ثانيًا - الأسباب والمناخ الذي أدى إلى ظهور المصطلح:

يمكن القول إنّ هناك ثلاثة أسباب رئيسة لنشأة المجتمع المدني تنضوي تحتها العديد من الأسباب الفرعية، وهذه الأسباب تعبرعن ثلاث مراحل رئيسة فى نشأته تتربط بها ولا تنفصل عنه. ومن ثمّ يمكن النظر إلى علاقة المجتمع المدني بالدولة في الغرب من خلال ثلاث مراحل:(2)

الأولى، تمتد من ميكيافيلي حتى الثورة الفرنسية، وكان مطلب المجتمع المدني فيها اتحاد القاعدة الاجتماعية مع البنية السياسية لتشكيل الجسد الاجتماعي بهدف إقصاء الكنيسة عن الحياة العامة، واستقلال الدنيوي عن السماوي.

الثانية، بعد الثورة الفرنسية كان هدف المجتمع المدني استقلال المجتمع عن الدولة.

الثالثة في القرن العشرين إيجاد مساحات تلاق مع الدولة لتحقيق الرفاه للإنسان.

ص: 52


1- انظر أنتوني جيدنز الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية المتعالية، ترجمة د. أحمد زايد، و د. محمد محيي الدين القاهرة المجلس الأعلى للثقافة، 1999م، ص المقدمة.
2- انظر محمد مرسي، بين الدولة والمجتمع المدني مقال منشور بموقع إضاءات في 17 يناير 2017م.

تطوّر مفهوم المجتمع المدني كما قلنا سابقا في القرنين السابع عشر والثامن عشر في الفكر الغربي مواكبًا في ذلك الحركة الفكرية والفلسفية التي ظهرت في ذلك الوقت فقد كانت هناك ثورتان في الغرب ثورة فكرية من جانب وثورة صناعية من جانب آخر، وتعدّ نظرية العقد الاجتماعي الأساس الذي انطلق منه مفهوم المجتمع المدني، فقد كانت مرحلة العقد الاجتماعي تاريخيًا هو المرحلة التي بلورت فكرة المجتمع المدني في أوروبا. فلا شكّ في أنّ رواد الحركة الفلسفية في إنجلترا وفرنسا من أمثال توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو دأبوا على التأسيس لتوافق تعاقدي، ونظرية اجتماعية كانت مؤسسة على ضرورة وضع حدود فاصلة بين الدولة والمجتمع ؛ تأسيسا للقضاء على النظام الاستبدادي، وقد ظهر ذلك جيدًا عند توماس هوبز وجون لوك وجون استيوارت مل ، فقد كانت مهمتهم الأساسية بناء مجتمع منظم قائم على أساس من العقد الاجتماعي أو الاتفاق التعاقدي، الذي مهد السبيل للمجتمع المدني الذي يستطيع أن يقوم بمهامه خارج تسلّط الدولة في دولة تعاقد قانوني وإنساني.

يكفي أن ندرك أن الذي مهد السبيل لنشأة المجتمع المدني وتطوّره تلك الثورات الأوروبية، التي قامت ضدّ نظام الحكم الملكي، فأزيلت كلّ الامتيازات التي كان يحصل عليها النبلاء والأمراء والحاشية، بما لهم من حقوق امتلاك الأراضي الأقطاعية، والمجالس العرفية الكنسية ومبدأ التوريث على الحكم، لتؤسس دولة جديدة تقوم على حكم الشعب لنفسه، وتؤمن بقيم المواطنة. ومن ثم وجد المجتمع المدني يتطوّر مع الأحداث شيئًا فشيئًا،

ص: 53

يقوم على عوامل الكفاءة الذاتية وليس عوامل الدم أو الحسب أو القرابة، مجتمع يدين بالأنشطة الاقتصادية، في ظلّ سلطة سياسية

غير مستبدة.

ومن ثمّ كان العقد الاجتماعي مؤذنا بالقضاء على مرحلة ما يسمّى بالحالة الطبيعية أو حالة الحرب، وما إن تطوّر مفهوم العقد الاجتماعي حتى بدت فكرة المجتمع المدني تتطور معها بالتبعية، بحيث يكون المجتمع المدني قادرًا على تسيير أموره في إطار خارج عن إطار الدولة، مع أنّه مكمل لها في الحقيقة.

وإذا كانت نشأة المجتمع المدني في إنجلترا وفرنسا مواكبة لفكرة العقد الاجتماعي الداعي للانتصار على حالة الحرب، فإنّ الأمر في ألمانيا على يد هيجل كان مختلفا، لأنّ فكرة العقد في ذلك الحين قد تبلورت على يد السابقين، وبرغم أنّ فكرة العقد الاجتماعي لم يكن لها مردودها على فكر هيجل في كتاب أصول فلسفة الحق، فإنّ مفهوم المجتمع المدني عنده كان يهدف من ورائه إلى محاولة اللحاق بالركب الإنجليزي الفرنسي، وتلافي مرحلة التأخر التي كانت عليها ألمانيا بالمقارنة بإنجلترا وفرنسا في ذلك الوقت.

وهيجل نفسه كان المجتمع المدني يمثل لديه خطوة على طريق تحقيق الدولة القومية التي يأمل بها واقعيًا، فالمجتمع المدني كان رحلة متقدمة على مرحلة الحالة الطبيعية أو حالة الحرب التي كان يحاربها على الدوام، ومن ثمّ فالمجتمع المدني برغم كونه يمثل مجموع العلاقات القانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تقيم على أساسها العلاقات بين الأفراد، فإنّ ذلك في نظر هيجل خطوة على طريق تحقيق دولته القومية المأمولة.

ص: 54

في حين إذا نظرنا للفكر الماركسي «فإنّ المجتمع المدنيهو الأساس الواقعي للدولة التي تستمد وجودها واستمرارها من ظاهرة انقسام المجتمع إلى طبقات وأنّ الدولة هي أداة لتوظيف استمرارية سيطرة الطبقة الاقتصادية الأقوى على الجميع ، وبالتالي فهي تعبر عن الصراع الطبقي وتمثل ديكتاتورية الطبقة الأقوى»(1) فماركس كان يتخذ من قضية الفصل في الاقتصاد السياسي بين الدولة المجتمع نقطة البدء بالنسبة له في تشكيل فكرته عن المجتمع المدني.

الأطوار التي مر بها المجتمع المدني:

الطور الأول:

يمكن تقسيم الأطوار التي مرّ بها المجتمع المدني والتي تلقي لنا الضوء على المناخ الذي ظهر فيه .

وكذلك الأسباب الفاعلة التي جعلته في بؤرة الصدارة، إلى مجموعة من المراحل(2)، هي على النحو التالي:

الطور الأول:

وهذا الطور هو طوّر القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهي فترة سطوع فجر الرأسمالية، وقد احتلت قضية المجتمع المدني فيها مكانة كبيرة ، حيث حاول مفكرو هذين القرنين العمل على قيام المجتمع المدني بدور سياسي يساعد على تحطيم الأسس الدينية الكنسية، والنظام الارستقراطي، باعتبارهما في نظرهم من العوائق التي

ص: 55


1- خالد جاسم إبراهيم، الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، 2013م، ص 40 .
2- اعتمدنا في تقسيم هذه الأطوار علي كتاب على عبد الصادق، مفهوم المجتمع المدني قراءة أولية، القاهرة، دار المحروسة، الطبعة الأولى، 2004م، ص 19 وما بعدها.

تقيد وصول المجتمع المدني إلى غاياته وأهدافه التي كانوا يرمون إليها، فقد أردوا بناء اتجاه سياسي يرتبط بالمجتمع ويعبر عنه بعيدا عن التسلّط الكنسي القائم على نظرية التكليف الإلهي أو الإرث العائلي ومن ثمّ فقد حاول هؤلاء المفكرون نقل السيادة من كونها سيادة الحق الإلهي الكنسي إلى سيادة الشعب لنفسه، وهذه الفكرة الرئيسة التي كانت تقوم عليها الحداثة الغربية، ويعد أبرز رواد هذه الطور أو هذه المرحلة الأولى في نشأة المجتمع المدني توماس هوبز وجون لوك وتوكفيل ومونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهم.

وبالنظر إلى جهود توماس هوبز (1588 - 1679) نجدها تصبّ في هذا المنحي القائم على استهداف المجتمع المدني في تحقيق سيادة الشعب لنفسه عن طريق اختيار نظام الحكم الذي يرتئيه وفق عملية سياسية منظمة والقضاء على كلّ مظاهر الحكم المطلق المبني على أسس كنسية، وفق نوع من العقد الاجتماعي الذي ينتقل فيه الشعب من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية. بيد أنّ هوبز كان له مواقفه التي تعدّ ضربًا لسيادة الشعب ومبادئ المجتمع المدني، حيث نادى خلافا لجان جاك روسو بأنّ السلطة سلطة الحاكم مطلقة ومهيمنة على كلّ شيء في المجتمع بما فيها الدين(1)، استنادا منه إلى أنّ المجتمع المدني المنظم سياسيًا يستلزم فرض قوة رادعة على نطاق ،واسع فرغبة الإنسان في حفظ ذاته عند هوبز تقتضي وجود سلطة سيادية تستطيع أن تقيم الشروط الدنيا للسلم الاجتماعي، فالمجتمع المدني لا تقوم له قائمة عنده إلا بالسيادة، ويُؤسّس بالسيادة، ولا

ص: 56


1- انظر توماس هوبز ،الليفاثان ص 114، 175 ، 216.

يمكن تمييزه شكليًا عن الدولة(1). وهذا يؤكد المناخ الذي ظهر فيه مفهوم المجتمع المدني عند هوبز كان يستلزم وجوده باعتباره الجسر الذي يجري العبور عليه من حال الفطرة إلى حال التنظيم السياسي السيادي .

في حين اختلفت نظرة جون لوك للمجتمع المدني عن نظرة توماس هوبز، بخاصة أنّ الظروف التي أحاطت به جعلته يتخذ المجتمع المدني كنقطة ارتكاز للقضاء على العديد من الإشكاليات السياسية خاصة، فالمجتمع المدني عند لوك إنما كان هدفه الرئيس يكمن في معالجة انحصار السلطة في يد فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، الذين لا هم لهم إلا إشباع رغباتهم وشهواتهم نحو التسلّط والسيطرة ،والاستبداد والعمل على نقلها إلى يد الشعب، بحيث تتحوّل من كونها سلطة خاصة في يد حاكم فرد أو طائفة كنسية إلى سلطة عامة، تكون فيها الكلمة للشعب.

أما روسو فقد كان مؤمنًا بوجود عقد اجتماعي قائم على إرادة شعبية تكون لها الكلمة في اختيار الحاكم، فضلاً عن أنّ سلطة الحاكم لا هي مقدسة كما هي الحال في الحكم المطلق، ولا هي مطلقة وغير محدّدة كما ذهب هوبز، ومن ثمّ العقد الاجتماعي وشرعية السلطة عنده صنوان لا يفترقان فكلّ منهما ملازم للآخر، فلا مجال لسلطة شرعية دون عقد اجتماعي، كما أنّه لا مجال لعقد اجتماعي لا يؤدّي لسلطة شرعية، ومن ثمّ فالعقد الاجتماعي عملية أساسية يجري بموجبها الانتقال من الحالة الطبيعية حالة الحرب إلى حالة المجتمع المدني المؤهّل لقيادة المجتمع إلى مرحلة

ص: 57


1- انظر جون إهر نبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 154 .

الحداثة، ومن ثمّ فهناك ارتباط وثيق عند روسو بين المجتمع المدني والعقد الاجتماعي(1).

في حين نجد أنّ هناك ظروفًا تاريخية أخرى هي التي جعلت المجتمع المدني بارزاً بصورة أخرى عند آدم فيرجسون، فآدم فيرجسون أراد أن ينقل المجتمع المدني من كونه يعتمد على المصالح الخاصة، والعمل على تأسيه على المشاعر الأخلاقية الفطرية، فلم يكن المجتمع المدني قائماً عنده على المصالح الخاصة بغرض البقاء، وإنما كان تعبيراً عن التطوّر الأخلاقي والعلمي، ومن ثم كان المجتمع المدني عند هيجل يقوم على التأسيس لعلاقات أخلاقية مشتركة، بديلا للعلاقات الذاتية القائمة على المصلحة أو المنافع المتبادلة.

ولكن إذا كان فيرجسون يؤمن بالروابط القائمة على المحبة والتعاون والإيثار لتأسيس مجتمع مدني قوي وراسخ، فهل كان مؤمنًا بأنّ تلك الروابط تستطيع مواجهة ضغط السوق وما سيتبعه من النظام الرأسمالي؟ إنّ المجتمع المدني تحوّل شيئًا فشيئًا إلى أداة لصناعة الثروة ،والمال، بل تحوّل من الاجتماع والعمومية إلى الخصوصية، وهذا ما كان يمثل ريبًا وقلقا، ومن ثمّ «كان فيرجسون يقف على أعتاب بدايات التطور الناضج لمجتمع السوق، واستبق ما سيفعله مجيء الرأسمالية بالجماعة الأخلاقية المتجسّدة التي كانت بالنسبة له نموذجًا للمجتمع المدني، ولكنه لم يستطع أن يرى المستقبل بوضوح كبير كان تسليع العلاقات الإنسانية حوالي عام 1767، وهو وضع أكثر تقدّمًا على نحو لافت مما كان عليه

ص: 58


1- انظر جان جاك روسو العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، ترجمة عادل زعيتر، بیروت، مؤسسة الأبحاث العربية، الثانية، 1995م، ص 46 .45 .

الحال أيام جون لوك، كان هذا التسليع يقوّض المجتمع المدني القديم ويقيم شروط مجتمع جديد كان فيرجسون قادرًا على أن يعبر عن بعض الموضوعات الأساسية التي ستؤطّر مدارك الاقتصاد السياسي البريطاني الكلاسيكي، في الوقت نفسه الذي سعى فيه إلى إضفاء صفة أخلاقية على أفكار لوك، وإحياء التقاليد القديمة للحياة الأخلاقية . »(1) غير أنّ الكشف عن العلاقات الاجتماعية الرأسمالية كان في حاجة إلى فحص متأن للمعايير الجديدة، وهذه كانت المهمة التي نذر آدم سميث نفسه لها.

ويعد آدم سميث أول من قدّم المجتمع المدني البرجوازي فعمل جدّيًا على مزج الأنشطة الاقتصادية والأسواق المستندة إلى تقسيم العمل بالمجتمع المدني، ومن ثمّ فقد أسهم على غرار لوك في تأكيد القاعدة الليبرالية القائلة بأنّ أنشطة الناس في الأسواق وليس في السياسة، هي التي تصنع من المجتمع المدني لحمة واحدة، ومن ثمّ أصبحت الفضيلة العمومية تتولّد من النتائج غير المقصودة للفعل الاقتصادي المعني بمصلحته الذاتية، وليس عن السياسة(2). وهذا يعني أنّ آدم سميث حاول إقامة مجتمعه المدني على أسس اقتصادية وقوانين السوق، محاولاً تهميش الجانب السياسي بقدر المستطاع، غير أنه وهو في سبيل ذلك لم يستطع أن ينفك عن مبدأ المصلحة ،الذاتية، فالرغبات والشهوات للأفراد الذين يهتمون بمصلحتهم الشخصية صارت أساسًا للوصول إلى الفضيلة العمومية، فليس المقصود إذن الصالح العام كصالح عام ،

ص: 59


1- جون إهر نبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 193.
2- انظر جون إهر نبرغ السابق، ص 212.

وإنما المقصود من خلالها المصالح الشخصية للأفراد، التي ينتج منها توجّه عام يسميه سميث الفضيلة العمومية التي تتحقق عن الفعل الاقتصادي المبني على المصلحة الذاتية.

الطور الثاني:

يمثل هذا الطور القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي تلاشي فيه تدريجيًا النظام الإقطاعي في أوروبا نهائيًا، نتيجة الانتصارات المتتالية التي حققتها الرأسمالية على المستوى الاقتصادي، تلك الانتصارات التي تلاها انتصارات على المستوى السياسي، فقد شهد القرن التاسع عشر قطيعة شبه كاملة مع النظام الإقطاعي، حيث حققت الرأسمالية ثورتها الصناعية، وعملت على نقل السياسة من المجال الكنسي الديني والمجال العرفي إلى المجال الاجتماعي، أي جعلتها حقيقة تعاقدية، وجرى تصفية النظام الحرفي، ونشوء الاقتصاد النقدي، وتحلل الملكيات الإقطاعية، وقد كان لهذه التغيرات تأثيراتها في الأفراد والمجتمعات؛ حيث أدت إلى الانسلاخ من علاقاتهم القديمة ممّا طرح بقوة قضية المجتمع المدني وإعادة بناء المجتمع المدني الصناعي على أسس جديدة وفهم حقيقته التي آل إليها، وقد تصدّى لهذه القضية بعض مفكّري هذا القرن كهيجل وماركس(1) .

لقد كان للثورة الفرنسية أهمية تاريخية كبيرة في فتح باب الحرية وهو الأمر الذي تأثر به هيجل كثيراً ، فالحرية أصبحت مطلبًا لكلّ من المجتمع والدولة، وهذا ما أدّى إلى تفعيل مبدأ الحرية على أرض الواقع العملي في فرنسا ومنها إلى بقية الدول الأوروبية، ولا شكّ

ص: 60


1- انظر خالد جاسم إبراهيم الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني، ص 30، 31.

في أنّ الحرية تستلزم استخدام العقل، فالعقل هو الذي يكبح جماح الحرية، ويجعلها تسير وفق مقتضياته هو، ومن ثمّ كان المجتمع المدني عند هيجل يعمل على تطبيق شروط التفكير الحرّ في حياتنا، بحيث يعمل الإنسان بوعي على تحقيق ذاته، وعليه صارت الحرية هي المبدأ الذي لا غنى عنه وأساس كلّ نشاط في المجتمع - ومن ثمّ -العالم- يهدف إلى تقرير مصير لجماعة من الناس كبرت أم صغرت، ومن ثمّ فقد كان التاريخ الإنساني لا ينفك عن الحرية في نظر هيجل، لأنّ الحرية تعني الوجود، فلا تاريخ حقيقياً للإنسانية دون وجود حقيقي للحرية.

وقد فتح هذا التصوّر الهيجلي للحرية الباب على مصرعيه أمام النظريات الحديثة التي تتناول المجتمع المدني بالدراسة بعيدًا عن الدولة، فكان أول من طوّر مفهوم الحداثة باعتبارها ميادين متعددة، فوضع بذلك نهاية للاتجاهات النظرية المبكرة التي كانت سائدة، وجعل ميادين الحياة الاجتماعية الثلاثة : العائلة والمجتمع المدني والدولة بني مختلفة التطور الأخلاقي، بل جعلها لحظات متصلة منفصلة من الحرية، بحيث يتحقق فيها تقرير المصير الذاتي للأفراد، في المجتمعات الأخلاقية الأوسع التي يتخذ فيها الأشخاص الأحرار خياراتهم الأخلاقية(1).

غير أن مبدأ الحرية عند هيجل كأساس للمجتمع المدني اصطدم بنزعته نحو الذاتية أو الأنانية التي أسّسه عليها، فالمجتمع المدني يزدهر بوجود الإنسان الذي انفك من قيود الماضي ونظامه الإقطاعي، ليدخل في عصره الجديد بنزعة اقتصادية قوامها الحفاظ

ص: 61


1- انظر جون إهر نبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 241.

على المصالح الخاصة، التي تنظمها قواعد السوق، في ظلّ حداثة آلت على نفسها الانفكاك من كلّ مظاهر الماضي، ومن ثم كان المجتمع المدني المناسب عند هيجل هو مجموعة العلاقات الاجتماعية التي تعمل بمعزل عن الدولة، وهذه العلاقات تقوم على مبدأ المصالح المتبادلة، المتأصلة في الوعي الفردي للأفراد.

وهذا السعي الدائم نحو المجتمع المادي الجديد جعل نظرة هيجل للمجتمع المدني قائمة على المنفعة، ومن ثم كان المجتمع المدني عنده مجتمع المصالح الذاتية، فقد كان عنده ساحة للصراع والسعي الدائم نحو التملك، كما كان ساحة للانقسام، ولا يستطيع التحكّم في مجتمع مثل هذا غير الدولة الشمولية، التي تطلق يدها في كلّ شيء حتى شؤون المجتمع المدني، ومن ثمّ فلها الهيمنة عليه، ولا يستطيع العمل بمعزل عنها .

أما ماركس فقد حاول في البداية السير خلف هيجل في فكرته السائدة عن المجتمع المدني باعتباره كيانًا قائماً على المصلحة الذاتية، إلا أنه سرعان ما فطن إلى أنّ نظام الحاجات الهيجلي لا يلبي حاجته ونظرته عن المجتمع المدني، بخاصة أنّ الفكرة عند هيجل فقدت الأداة الواصلة بين الظاهرة الاقتصادية السياسية والظاهرة الاجتماعية، وهذا ما حاول ماركس إتيانه وفق توجه مادي في نظرته للدولة والمجتمع المدني ومن ثم بدأ بالاهتمام بالمسألة الاجتماعية، بخاصة أن قضية فشل الثورة الفرنسية في تحقيق المساواة على المستوى الاقتصادي قد أثارت انتباهه، فقد كانت هذه المسألة مثار نقاش وتحليل كبير من قبل اليسار قبل ماركس وقد أكمل هو ذاته ذلك، محاولاً تفسير العديد من الإشكاليات

ص: 62

الاجتماعية والاقتصادية التي وجد صعوبة في حلّها سياسيا، ومن ثمّ رفض فكرة المجتمع المدني عند هيجل، وحاول البحث عن بديل مقنع من وجهة نظره لهذه الإشكالية، بخاصة أنه واكب تاريخيًا تسارعًا كبيرًا صناعيًا وتطورات سياسية، جعلته يعمل على إرساء نقد مادي للشروط الاجتماعية، وهو الأمر الذي جعل نظرته للمجتمع المدني نظرة متطرفة كثيراً، أوصلته إلى حد رفض المجتمع المدني ذاته.

فقد كان ماركس ينطلق في فكرته عن المجتمع المدني على ضرورة الفصل بين الأمور الخاصة الذاتية والأمور العامة أو السياسية، وهو الفصل الذي تبعه فصل من نوع آخر، وهو فصل المجتمع المدني عن الدولة، وهذا الفصل كان مبنيّاً عنده بالأساس على إفراغ الدين المسيحي من المضمون السياسي، وإفراغ المجتمع المدني أيضًا من الجوانب السياسية، ولذا يذهب إلى أنّ الدولة المسيحية الكاملة من وجهة نظره هي الدولة التي تعرف بكونها دولة دون النظر لديانة مواطنيها، وأنّ تحرّر الدولة المسيحية من الدين المسيحي لا يعني تحرّر الإنسان الحقيقي من الدين(1).

ومن ثمّ جعل القضية الجوهرية قضية كيفية الاتجاه بالمجتمع المدني اتجاها ديمقراطيًا، بحيث يجعل منه هدفًا لنشاط ديمقراطي ارتآه، بهدف التحرّر من الأفكار التي طرحها هيجل ومن سبقه، فعمل على نقد المجتمع المدني بما يقوم عليه من علاقات قائمة وتحويله إلى وجهة أخرى، إذ كان يرى أنّ المساواة أمام القانون والثورة

ص: 63


1- Karl Marx, On the jewish Question, in: Karl Marx, Frederick Engels: CollectedWorks, vol.3 p. 155.

السياسية هما البديل لإقامة ديمقراطية اجتماعية، يتحول المجتمع المدني بناء عليها التحوّل الذي يرتئيه. وعليه فقد كان المجتمع المدني عند ماركس منبثقاً من طبيعة الظروف التي مر بها المجتمع الألماني في تلك الفترة، فقد كان يبحث عما يسمى الانعتاق الألماني، ولن يتحقق هذا الانعتاق إلا من خلال البروليتاريا، «إنّ البروليتاريا في الوقت الذي تعلن فيه انحلال النظام العالمي القائم حتى وقتنا هذا، فهي تكشف عن سرّ وجودها، حيث إنّها تمثل في الحقيقة انحلال النظام العالمي.»(1) وعليه فإن البروليتارية عند ماركس- وهي الطبقة التي تبيع قوة عملها - لا تقوم في ظنّه إلا على تحرير الإنسان ونفي المجتمع المدني مطلقًا، ويستند في ذلك إلى أنّ الطبقة العاملة في تطوّر تاريخي مستمر ومتطوّر، فالطبقة العاملة بعد الثورة الفرنسية ألغت الطبقية كلّها، وهذه الطبقة هي القادرة عنده على ألغاء المجتمع المدني وإنشاء اتحاد يقضي على الطبقات وما تترتب عليها من صراعات وهذا يؤكّد أنّه إذا كانت المادية القديمة تعتمد على المجتمع المدني، فإنّ المادية الجديدة عند ماركس كانت تعلن أنّها ترفع راية الاتحاد الإنساني، مع تحفّظنا على هذا الرأي.

الطور الثالث:

وبدأ هذا الطور في الربع الأول من القرن العشرين على يد أنطونيو جرامشي، وقد قدّم لنا أفكاره في كتابين شهيرين هما: دفاتر السجن والأمير الحديث، وقد طرح موضوع المجتمع المدني في ظلّ هيمنة

ص: 64


1- Karl Marx, Contribution to the Critique of Hegels Philosophy of law, in Karl Marx, Frederick Engels: Collected Works, vol.3 P. 8

وسيطرة طبقية واضحة، وعمل على تأكيد فكرته من خلال رافدين الرافد الأول الدولة بما تملكه من أجهزة تحقق لها الهيمنة السياسية، والرافد الثاني هو المجتمع المدني بما يمثله من أحزاب ونقابات وجمعيات ومؤسسات تعليمية ودور عبادة ووسائل إعلام(1).

بيد أنّ المجتمع المدني عند جرامشي لا يقوم على تهميش دور الدولة أو هيمنتها؛ لأنّه كان يرى أنّ العمل في مجال المجتمع المدني يمثل جزءًا من إطار عمل الدولة، وهذا يفسر لنا اتجاه جرامشي إلى أنّ المثقف لا يستمد قيمته إلا إذا كان عضويًا، بمعنى أن يكون فاعلاً في المجتمع ويرتبط بمشروع سياسي.

وتزداد أهمية المجتمع المدني ونضج مؤسساته لما يقوم به من دور في تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصائرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من إفقارهم، وما يقوم به من دور في نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية ثقافة بناء المؤسسات ثقافة الإعلاء من شأن المواطن، وتأكيد إرادة المواطنين في الفعل التاريخي وجذبهم إلى ساحة الفعل التاريخي والمساهمة بفاعلية في تحقيق التحولات الكبرى للمجتمعات حتى لا تترك حكرا على النخب الحاكمة (2). ومن ثمّ يرى المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشى أنّ المجتمع المدني ساحة للصراع داخل المؤسسات السياسية والنقابية والفكرية للمجتمع الرأسمالي، تمارس من خلاله الطبقة البورجوازية هيمنتها الثقافية أو تصعد من خلاله بشائر الهيمنة المضادة للطبقة العاملة (3).

ص: 65


1- Gramsci, Selection from the Prison Notebook, edited and translated, by quintin Hoare New York, international publishers, p 267
2- انظر .د أحمد ثابت الديمقراطية المصرية على مشارف القرن القادم، كتاب المحروسة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر القاهرة، الطبعة الأولى، يناير 1999 ص 20.
3- د. مصطفى كامل السيد، مفهوم المجتمع المدني ومصر، ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطي في مصر جماعة تنمية الديمقراطية 20 نوفمبر، 1997 القاهرة. ص 3 .

الطور الرابع:

وهي الفترة التي تبدأ من العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وإلى الآن، وهي تلك الفترة التي ربط فيها مفهوم المجتمع المدني بفكرة التنظيمات والمؤسسات ذات الجوانب الاجتماعية التي تعدّ عاملاً مساعدًا إلى جانب الدولة ولا يعمل تحت إمرتها، وهذا

يعني أنّ تلك المرحلة تعدّ مرحلة متطوّرة عن المرحلة السابقة، فقد استعانت بجوهر الفكرة عند جرامشي القائمة على المؤسسات والمنظمات بعيدًا عن مرجعية الفكرة القائمة على الهيمنة والسيطرة.

وتجلى في هذا الطور التاريخي من مراحل أطوار المجتمع المدني الأهداف السامية له التي تتمثل في حلّ العديد من الإشكاليات التي تواجه المواطنين والعمل على تخفيف المعاناة التي يلاقونها، خاصة تلك الفئة المهضومة والمهمشة التي ليست في حسبان سلطة الدولة ولا تشملها عناية ،أجهزتها إنّ المجتمع المدني في تلك الفترة اعتبر شريكا أساسيًا للدولة، في تحقيق التنمية اللازمة والمجتمع والمشاركة في بنائه على مختلف الصعد، وقد استطاع من خلال جهوده إعداد العديد من الكوادر الشابة والمؤهلة ودفعها إلى المشاركة في العمل المجتمعي بفاعلية، بخاصة أنه ظهر ككيان فاعل تنبثق عنه منظمات ومؤسسات استطاعت حشد الكثيرين من المخلصين وتوجيههم لخدمة المجتمع وتنميته.

وقد استطاع المجتمع المدني بمؤسساته أن يمثل أداة للضغط الشعبي، يؤثر في السلطة السياسية، ويوجهها الوجهة الي يرتضيها في العديد من القضايا المجتمعية المهمة، فضلاً عن أنّه في الغرب

ص: 66

استطاع أن يكون ندا يمنع القطاعين العام والخاص من احتكار المجتمع، بيد أنه من أهم ما يميز تلك المرحلة من المجتمع المدني شيوع جوّ الحرية والاختيار الحرّ داخل منظماته ومؤسساته وهو الأمر الذي يعوزه القطاع الحكومي، الأمر الذي أعطاها القدرة على وضع السياسات الخاصة بهم وتحديد الأهداف وأنشطة العمل واختيار القيادات والأعضاء في انتخاب حرّ مباشر، وتعدّ هذه الأمور فضلاً عن الجانب التطوعي من الأمور التي أعطت لمؤسسات المجتمع المدني ثقلها في المجتمع وأريحية أكبر من نظيراتها الربحية، التي لا تستحوذ على ثقة المجتمع العام مثلها. ومن ثم شارك المجتمع المدني بفاعلية، وقدّر له التنامي على المستويين الأفقي والرأسي.

وبالجملة فإنّ هناك ثلاثة توجهات فكرية تحكم مراحل تطوّر المجتمع المدني (1):

الأول، الكلاسيكي، وهو الذي كان قائماً على أساس الربط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي.

الثاني ،الحداثي، وهو الذي كان قائماً على أساس الربط بين المجتمع المدني والمصلحة الذاتية والحرية واقتصاد السوق.

الثالث، وهو التوجّه الذي عمل على تقييد سلطة الدولة وترسيخ قيم الحرية.

ومن ثم فإنّه بعد عرض الأطوار السابقة يمكن التأكيد إجمالاً - بناء على تصنيف أحد الباحثين أنّ مفهوم المجتمع المدني المعاصر نشأ من تصادم بين تيارين رئيسيين في الفكر السياسي الغربي؛ الأول تطوّر من ميكافيلي وهو بز عبر لوك وكانط ثمّ مونتسكيو وتوكفيل إلى

ص: 67


1- انظر جون ،إهر نبرع مرجع سابق، ص 16، 17.

مفكّري الليبرالية المعاصرة. أمّا الثاني فمر من هيغل عبر ماركس وغرامشي إلى هابرماس ومنظري اليسار الأوروبي الجديد. لكنَّ المفهومين تقاربا بعد ذلك إلى حدّ كبير حيث انتقل الليبراليون من اعتبار المجتمع المدني ساحة توحّش تحتاج إلى سلطان الدولة إلى اعتباره ساحة تحضر وتواصل بناء. وعند اليسار المعتدل فإنّ المجتمع المدني تحوّل من فضاء هيمنة البرجوازية إلى فضاء شبه محايد، ثم إلى ساحة للتواصل الإيجابي (1).

ص: 68


1- انظر محمد مرسي، بين الدولة والمجتمع المدني، مقال منشور بموقع إضاءات في 17 يناير 2017م.

المبحث الثالث : أركان المجتمع المدني ومبادئه

أولاً أركان المجتمع المدني:

ص: 69

المبحث الثالث

أركان المجتمع المدني ومبادؤه:

يقوم المجتمع المدني على مجموعة من الأركان، بصرف النظر عن الاتجاه القائل بالاستقلالية التامة للمجتمع المدني عند الدولة، وعدم خضوعها لأيّ نوع من المراقبة، وبصرف النظر عن الاتجاه القائل بأنّ الدولة هي المهيمن على المجتمع المدني ومتحكمة فيه، وهذه الأركان مستخلصة من أهمية المجتمع المدني والإيمان بدوره في المجتمع عموماً، وقد تطرق أكثر من مفكّر إلى هذه الأركان على اختلاف يسير بينهم، ومن ثم يمكن تنحية كلّ مظاهر الخلاف بينهم هنا، لننتهي إلى المنطقة الوسطى أو القاسم المشترك في قضية أركان المجتمع المدني.

ويمكن القول إذن إنَّ أركان المجتمع المدني تتلخص في(1):

الركن الأول - الإرادة الحرة، إذ من المعلوم أن المجتمع المدني بمؤسساته ينطوي على التطوّع الحرّ القائم على محاولة الوصول إلى توفير أرضية مشتركة للتواصل بين الأفراد من جانب والسلطة من جانب آخر، وهذا التطوّع يقوم على إرادة حرة، ليس فيها أيّ نوع من الإجبار، إذ لو أجبر الشخص على أداء دور ما في المجتمع المدني لفقدنا قيمة المجتمع المدني على المستوى التطبيقي، إذ

ص: 70


1- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 17، 18.

كيف يفعل خلاف ما ينادي له من مبادئ وأفكار.

الركن الثاني- التنظيم، ويتمثل التنظيم في ضرورة وجود لوائح تنظم العمل داخل المؤسسة أو الهيئة أو الجمعية، التي تنتمي للمجتمع المدني، وينظم العمل داخلها، ومن خلالها تتبين شروط العضوية، فضلاً عن وجود نظام عام يحدّد العلاقات بين مؤسسات المجتمع المدني، بعضها ببعض وبينها وبين الدولة.

الركن الثالث- قبول التعددية، ويعتبر من الأركان الأساسية للمجتمع المدني، فالتعدّد سُنّة كونية أودعها الله تعالى في الكون، ومن ثم كان على المجتمع المدني وهو في مرحلة تأسيسه لقيم نبيلة وإيجابية داخل المجتمع أن يؤمن بالآخر وحقوقه كاملة غير منقوصة.

ثانيا- مبادئ المجتمع المدني:

يقوم المجتمع المدني الفعّال على مجموعة من المبادئ التي يعدّ إرساؤها إرساء لمجتمع فعّال على الصعد كافّة، ومن هذه المبادئ:

أ- المساواة، فلا مكان لمجتمع مدني لا يساوي بين المختلفين في العقيدة أو العرق أو المذهب أو القبيلة أو الجنس أو غيرها من الاعتبارات، وإنما يجب أن تكون المساواة في الحقوق والواجبات على حدّ سواء، والأفضلية أو المعيار الفيصل في الحكم على عمل الفرد إنما ترجع إلى مدى اجتهاده والتميّز الحاصل الذي يقوم به، أو ما يمكن التعبير عنه بالكفاءة. وتحتل قضية المساواة بين الرجل والمرأة أهمية كبرى في سياق المجتمع المدني الغربي، إلا أننا نرى أنّ تلك المساواة المطلقة لا تتفق في نظر الشريعة الإسلامية، فالمرأة الغربية تأخذ في الميراث مثل الرجل، في حين أنّ الإسلام يقرّ بأنّ

ص: 71

للذكر مثل حظ الأنثيين، كما أنّ المرأة الغربية المطلقة وفقا لمبادئ المجتمع المدني تنال نصف ثروة زوجها ، وهذا ما لا يتفق مع الشريعة أيضًا، ومن ثمّ فإنّه يجب مراعاة تلك الاختلافات الجوهرية ونحن نتعامل مع هذا المفهوم وفق المنظومة الدينية الإسلامية.

ب- حرية الاعتقاد، وهي من المبادئ الأساسية للمجتمع المدني، فمادام المجتمع المدني مجتمعا حرا، فلا شكّ في أنه يقوم على حماية حرية الاعتقاد، وهي تمثل مظهرا من مظاهر حماية الآخر المواطن المختلف مع عموم المجتمع الذي يدين بالعقيدة الأساسية أو الديانة الرسمية للدولة.

ج- المواطنة المواطنة مصطلح شامل لكل معاني الاعتراف بالآخر وحقوقه، إلا أنّه عند قطاع كبير - على مستوى الأفراد والدول - لا يُطبّق إلا على مستويات محدودة، فهو يطبق في دول التشدّد وجماعات تسييس الدين على المنتمين لها فقط، بل إنّنا قد نرى ذلك واضحا للعيان في العديد من الدول الغربية التي تدّعي المدنية والديمقراطية ومن ثمّ نجد صعوبة واضحة في تحديد المعنى الدقيق لمصطلح المواطنة. «ومع أنّ هناك كتابات كثيرة تناولت مفهوم المواطنة، إلا أنه لا يزال مفهومًا إشكاليا تختلف حوله التحليلات الفلسفية، وتتعارض في شأنه النظريات الاجتماعية، ولم تنته النظريات السياسية إلى رأي أخير يوضح ماهيته، وبالتالي لا تزال تتباين في تحديد معالمه ومضمونه الأنظمة السياسية عبر العالم، بل عبر أحزاب الدولة الواحدة »(1).

ص: 72


1- د. محمد عثمان الخشت فلسفة المواطنة في عصر التنوير القاهرة، ط دار الثقافة العربية، 2012م، ص 9.

لقد كان ظهور الإسلام بمبادئه النقية وسماحته الواسعة نقطة تحوّل واضحة في تاريخ الإنسانية، نحو إرساء مضمون واضح للمواطنة في دولة تؤمن بحق الآخر عقديًا وفكريًا وعرقيا- وعلى الصعد كافّة في العيش تحت سقف وطن واحد تتكفّل الدولة فيه بتحقيق العدل والمساواة للجميع ولئن كان تطبيق مفهوم المواطنة قد مرّ في التاريخ الإسلامي بعدّة تحولات تنتقص من قيمة المسلمين وتبين عدم تأثرهم بالمبادئ التي دعا إليها الإسلام، فإنّنا نعتقد أنّ هذه التحوّلات كان لها نصيب كبير من التأثير فيما يشهده الواقع الإسلامي الآن الذي صار بعيدًا عن هذه المبادئ السامية، فقد استبدلت التيارات الإسلامية المتشدّدة بالدين تدينا وبالشريعة تشريعا؛ حتّى أضحى الإسلام غريبًا في البيئة الإسلامية متهما من جراء الأفعال التي يرتكبها مدعو الأصولية.

يمكن القول إنّ المجتمع المدني أساسه الإيمان بفكرة المواطنة، فالمواطنة تعني تقدير الآخر ومسالمته وعدم التدخل في شؤونه وتأمينه على نفسه وما يملك، ولقد تحقق ذلك في عهد النبوة؛ حيث استقبل الرسول نصاری نجران بمسجده وقام على خدمتهم بنفسه وسالمهم وأمر بحمايتهم وعدم التدخل في شؤونهم الخاصة وأمنهم على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وغائبهم وشاهدهم وبيعتهم وصلواتهم لا يغير أسقفًا عن أسقفيته ولا راهبا عن رهبانيته.

وإذا كان تاريخ المواطنة في الغرب لا ينفك عن تاريخ الحداثة، والاثنان معا لا ينفكان عن تاريخ المجتمع المدني؛ إذ كان المجتمع المدني جزءًا من تاريخ المواطنة الغربي والحداثة الغربية، فقد مرّ مفهوم المواطنة في الفكر الغربي بمجموعة من العقبات

ص: 73

حتى تشكل بصورته التي وصل عليها الآن، وقد أرساه العديد من المفكرين على مر تاريخ الفكر الغربي، بما يعني أنه لم يكن نبتا بلا بذر، أو طرحًا بلا حرث، بل لقد كان تاريخ المواطنة يرتبط ارتباطاً وثيقًا في أوروبا بتاريخ الحداثة، إذ لا نستطيع أن ننظر إلى المواطنة بمعزل عن الحداثة، فقد كانت كلّ مرحلة تاريخية من تاريخ الحداثة تعبيراً حقيقيًا عن المراحل التاريخية التي مرت بها المواطنة، فهما كالتوأم الملتصق ، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن حدث هذا ماتا بلا عودة، وسقطا بدون نهوض . فهل نستطيع أن نغفل عصر النهضة في إيطاليا في القرن السادس عشر ؟ أم هل نغفل عصر التنوير بدءًا من بيكون؟ أم نغفل عصر فلسفة الأنوار في كلّ من ألمانيا وإنجلترا، عند كلّ من كانط وهيوم؟

ومن ثمّ يمكن القول إن مفهوم المواطنة في الفكر الغربي صار ذا أبعاد واضحة، فهو في التحليل الأخير المعنى الأساسي والمبنى الرئيسي الذي يضمّ معاني الحقوق والواجبات دون تمييز على أساس الدين أو اللون أو العرق أو اللغة، أو على أساس غيرها من أنواع التمييزات التي لا توجد إلا في دول التخلّف ومجتمعات الأنا فقط.

ونحن نرى من جانبنا أنّ مفهوم المواطنة في الفكر الغربي له جذوره التي سيق منها، وقد انتهى به هذا إلى الصورة التي تكونت في الفكر الغربي الآن، فقد انطلق المفهوم إلى إقرار مبادئ حقوق الإنسان على مستوياتها كافة السياسية والاقتصادية وحقوق التقاضي والحقوق الفكرية، والحقوق العقدية وغيرها، وهو الأمر الذي لا نجد له نصيبًا عند أي مفكرينا العرب قديما، حتّى بدا المصطلح كأنّه غريبًا في واقعه النظري - عن البيئة الإسلامية، على

ص: 74

الرغم من أنّ مضامين مفهوم المواطنة تجد لها مجالاً واسعًا داخل النص الديني المقدس.

ومن ثمّ انتهى مفهوم المواطنة في الغرب إلى القول أنّها تمتع الشخص بحقوق وواجبات، وممارستها في بقعة جغرافية معينة لها حدود محددة، تعرف في الوقت الراهن بالدولة القومية الحديثة، التي يستند إلى حكم القانون، في دولة المواطنة جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات. لا تمييز بينهم بحسب الاختلاف في الدين أو النوع أو اللون أو العرق أو الموقع الاجتماعي، وبالتالي فإنّ القانون يحقق المساواة داخل المجتمعات، ويفرض النظام ويجعل العلاقات بين البشر ،متوقعة أي تجري وفق تصور مسبق، يعرفه ويراضيه الجميع (1).

فالنصوص المقدسة تحتفي بمضامين قضية المواطنة وما تكتنفها من قضايا تعدّ في التحليل الأخير - اعترافًا من القرآن والسنة بقضايا حقوق الإنسان وتأكيدًا لها . إلا أنّه يمكن القول إنّه قد اختلفت النظرة إلى المقصود بالمواطنة في الوطن العربي والإسلامي، وهذا ما يجب أن يكون المجتمع المدني فطنا إليه، فهناك من نظر للمواطنة على أنّها حقوق وحسب؛ إذ للفرد على هذه النظرة أن ينال ما يشاء كيفما يشاء على النحو الذي يشاء بصرف النظر عن كون هذا الفعل يتفق مع الدين والأعراف والتقاليد أم لا، وهي النظرة التي نرى أنّها لا تخدم الوطن ولا تخدم الدين وهناك نظرة تنظر للمواطنة على أنها حقوق وواجبات، ومن ثم فهي في نظرنا- تعبر عن الإيمان

ص: 75


1- انظر سامح فوزي المواطنة، ط مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الأولى، 2007م، ص 7 .

بالتعددية السياسية، وتؤمن بالحرية المقيدة، التي تقف عند حدود الإضرار بالآخرين، وتحمل في جعبتها الاعتراف بحقوق الآخر، وحقوق الملكية والحفاظ على حرية المال والنفس والعقيدة، وهي النظرة التي نرى أنها مقبولة دينا وعقلاً.

د- الإيمان بالحرية، فالحرية إحدى المكتسبات التي تكتسبها الشعوب، وهي في طريق تحقيق نهضتها الشاملة، ومن ثم فإنّ من المبادئ الرئيسة التي يعمل على تحقيقها إرساء قيم الحرية داخل المجتمع، شريطة أن تكون هذه الحرية مقيدة بثلاثة شروط الأول، أن تكون هذه الحرية في ضوء القانون والدستور، والثاني، ألا يترتب عليها إلحاق الضرر بالآخرين دون وجه حق، والثالث، أن يكون صاحبها أهلاً للتكليف، يتحمّل مسوؤلية أفعاله، ومن ثمّ ينال الجزاء المناسب في حال الانحراف. بيد أنّ الحرية بمعناها العام لا يتفق مع الدين، لأنّ هذا المعنى العام للحرية يتيح للفرد في الغرب أن يتزوج زواجًا مثليًا، أو أن يدخل في علاقة جنسية ما دون عقد زواج، وهذه أمور لا تتفق مع منظومة القيم الإسلامية.

ه - الالتزام بالواجب، فلا حقوق دون واجبات فزيادة وتأكيد النزعة والحقوق الفردية يجب أن يكون مصحوبًا بزياداة الالتزامات والواجبات الفردية، فالحق في عيشة كريمة مصحوب بضرورة إتقان العمل، وتعويضات البطالة حق للفرد، وواجب على الحكومة والمجتمع المدني معًا، لكن ليس بشكل مطلق، بل مصحوب بالالتزام بعدم التكاسل والحرص بالبحث المستمر عن العمل من خلال قواعد وآليات تمدد طبقًا لحالة المجتمع (1).

ص: 76


1- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 20.

و الإيمان بوجوب التواصل الثقافي :

يؤمن المجتمع المدني بضرورة التواصل الثقافي بين الدول والأفراد على عدة مستويات، ومن ثمّ تكثر في ظله الملتقيات والندوات والمؤتمرات التي تعمل على إشاعة أسس الحوار والتسامح مع الآخر، وهناك مؤسسات مدنية دولية تقدّم منحًا لترسيخ ذلك التوجه داخل المجتمعات التي تقدّم تلك المنح، وهناك مؤسسات مدنية داخلية تحاول السير في الاتجاه نفسه، إلا أنّ الخوف هو أن تكون مثل هذه المنظمات أو المؤسسات مقدمة لغزو فكري.

وإذا كان هناك من ينتقد مقولة الغزو الفكري معتبراً إياها كلامًا فارغا ولا معنى له، فإنّه ينظر إلى معنى غير المعنى الذي نظر إليه معارضو الغزو الفكري، ففي حين نظر إليه على أنّ التواصل الثقافي أو الثقافة الوافدة خير للوطن والأمة من حيث إنّها إحدى سبل التواصل مع الآخر الغربي، فقد نظر الرافضون إلى الشق الآخر من هذه الثقافة؛ حيث إنّها بما تحويه من أفكار تخالف العقيدة والتقاليد تعدّ ضربًا للهوية العربية والثوابت الدينية.

ونحن نعتقد بدورنا أنّ الثقافة البنّاءة تفيد الوطن وتفيد الدين في آن واحد، غير أننا نرى بعض المفكرين في بعض المؤسسات المدنية يصدرون لنا نوعًا من الثقافة الهدّامة التي لا تتناسب مع شرع أو عرف وهذا النوع من الثقافة لا يمد جسورًا من التواصل والتحاور بين الحضارات، وإنما يمثل - بالأحرى - تغليبًا لثقافة غربية على ثقافة الأمم والشعوب. وقد يدلّ على ذلك ما يعج به مجتمعنا من أفكار دخيلة ومظاهر غريبة، لا تستند إلى ثقافة هادفة وإنما تنطوي على مساوئ يرفضها العقل والدين، بخاصة أن مجتمعاتنا في

ص: 77

قطاع كبير من أبنائها - بنت فكرتها عن الثقافة الغربية على الأمور الشكلية لا الجوهرية، فحصرتها في المأكل والملبس وغيرها من المظاهر الشكلية متغافلة عن جوهر هذه الحضارة من اهتمام بقيمة العلم والعمل والسعي الجاد نحو المستقبل، والإيمان بمبادئ

الديمقراطية والشورى في الحكم.

ثالثًا - مؤسسات المجتمع المدني:

مؤسسات المجتمع المدني عديدة ومتنوعة، ليست حكومية، ولا تتبع مبدأ الوراثة أو الدم أو غيرها وهي كما أكدنا سلفًا تقوم على الإرادة التطوعية الحرة، التي لا تدّخر جهدًا في الارتقاء بالمجتمع على مجموعة من المستويات، وهي تنشأ وتعمل وفق القوانين الموضوعة لها من قبل الدولة، ووفق مواد الدستور، وهذا لا يمنع أن تضع مؤسسات المجتمع المدني اللائحة والضوابط الخاصة بها، التي تسير عليها، وتضع من خلالها شروط العضوية، شريطة ألا تخلّ اللائحة أو الضوابط الموضوعة بمواد القانون أو الدستور. ومن ضمن مؤسّسات المجتمع المدني: المنظمات الحقوقية، الجمعيات الخيرية، الأحزاب السياسية، النقابات العمالية، الاتحادات المهنية والاتحادات الطلابية والمؤسسات الصحفية الأهلية وليست الحكومية، والغرف التجارية، والنوادي الاجتماعية والرياضية، وغيرها من المؤسسات غير الحكومية، التي تنطبق عليها شروط المجتمع المدني.

ويمكن حصر مكوّنات المجتمع المدني من منظمات غير حكومية وروابط وجمعيات ومؤسسات وهيئات واتحادات،

ص: 78

ودراسة أنشطتها وتأثيرها العام، فيما يلي:

أ - مجموعات المصالح الخاصة: وهي المنظمات المهنية والاتحادات والنقابات والجمعيات التي تلتئم فيها شريحة معينة، ترتبط فيما بينها باهتمامات ومصالح مشتركة ذات طبيعة اقتصادية، اجتماعية ومهنية، تحدّد السياسات التي تدعو اليها، وتدافع عنها، إضافة إلى أنّ بإمكانها أن تتخذ مواقف عامة من قضايا ذات اهتمام عام تقع خارج الأمور التي تخصها مباشرة. ومن أمثلة هذه التنظيمات الاتحادات المهنية مثل اتحادات الطلاب واتحادات العمال واتحاد الفلاحين واتحاد (الاقتصاديين) والنقابات المشكلة لها فضلا عن النقابات المهنية الأخرى مثل نقابات (المحامين،المهندسين ، الأطباء المهندسين الزراعين، الصحافين، الصيادلة، أطباء الأسنان المهن الصحية المحاسبين والمدققين المعلمين وغيرها)، التي تشكل رأس الحربة في جماعات الضغط السياسي والاجتماعي والعام(1) .

ب- مجموعة المصالح العامة (2). وهي مكونات المجتمع المدني، التي تنشط في الاتجاه الاجتماعي العام، الذي يخص المجتمع كله. وتشكل هذه المجموعات جزءا من جماعات الضغط السياسي غير أنّه محدّد مقارنة بالمجموعة الأولى، لكنه ذو دور اجتماعي وتنموي وحضاري كبير، وفي حالة ارتقائه إلى مستوى رفيع في الأداء، فانّه سيشكل قاعدة معلوماتية واسعة لمراكز القرار السياسي، فضلاً عن أنّ أنشطتها ذات التوسع الأفقي ستكون ذا اثر ملحوظ

ص: 79


1- انظر هيثم طالب الحسيني، دور وآليات المجتمع المدني في مسار البناء الديمقراطي السليم للدولة العراقية مجلة النبأ العدد 84، تشرين الثاني، 2006م.
2- انظر هيثم طالب الحسيني، المرجع السابق.

في العملية السياسية الدستورية وبالذات طرح الأسماء ذات الفرصة الأكبر لتحظى بمقاعد ممثلى الشعب. ويمكن تحديد المكوّنات التالية لهذه المجموعات:

أولا: منظمات البيئة وحماية البيئة.

ثانيا : منظمات الرفاه الاجتماعي والاتحادات التعاونية.

ثالثا: منظمات حماية المستهلك.

رابعا: منظمات الحدّ من الجريمة والوقاية منها.

خامسا : منظمات الوقاية الصحية والخدمات الطبية.

سادسا: المنظمات التي تدعو إلى ثقافة معينة مثل منظمات (حقوق الإنسان، حقوق المرأة حماية الطفل، رعاية الأسرة، الأمومة والطفولة).

ح- هيئات الإعلام ووسائله غير الحكومية. وهي الهيئات غير الربحية المستقلة في سياساتها وبرامجها وميزانياتها اعتماداً على الدعم المالي، غير أنّه لا بد من أن يجري ترخيصها ومتابعة أنشطتها في الإطار التنسيقي والتقني العام، ولجهة ضوابط الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، ويدخل ضمن هذه المجموعات الصحفيون العاملون في مؤسسات الصحيفة المقروءة والمسموعة والمرئية(1).

د - مكوّنات المجتمع العلمي. وهي المراكز البحثية العلمية والمؤسسات العلمية والكليات الأهلية، ومجمعات العلوم واللغة ومجالس البحث العلمي، والروابط الأكاديمية التي ينشط من خلالها المفكّرون والباحثون واصحاب الرأي والفكر، بما يطلق

ص: 80


1- انظر هيثم طالب الحسيني، المرجع السابق.

عليه تجمعات المجتمع العلمي(1).

ه - المشاريع الصناعية الصغيرة. وهي الورش الإنتاجية ومعامل الصيانة والأنشطة الصناعية الصغيرة الخيرية. إنّ هذه المكونات يكون لها دور حيوي في المجتمع، لجهة القضاء على البطالة، وامتصاص الحجم الكبير من العمالة الواسعة ولا سيّما غير المؤهلة تأهيلاً علمياً عالياً، فهي بذلك توفّر فرصاً للعمل، كما أنّها تؤهّل أعداداً من المهارات والمهن الإبداعية، التي تمثل سمة رفيعة للمجتمع وقاعدة للتراث الوطني. إنّ المشاريع التي يجري تشغيلها كجزء من أنشطة المجتمع المدني، كخدمة اجتماعية ستؤدي دوراً اجتماعياً، خاصة إذا ما جرى تنظيمها قانوناً وفق تقاليد ديمقراطية تتبع في اختيار إداراتها ومسؤوليتها (2).

و - واجهات المؤسسة الدينية. ومنها الهيئات الدينية والجمعيات المتخصّصة أو المهتمة بالتوعية والتثقيف الديني ولا يخفى أهمية هذه المكوّنات في التأثير الاجتماعي والسياسي، سواء في صنع القرار أو رفض وتأييد التكليف الحكومي، فضلاً عن كونها تمثل امتدادات طبيعية لحركات وتنظيمات سياسية (3).

وسوف نذكر بعض مؤسسات المجتمع المدني التي تنتمي إلى بعض المكوّنات السابقة، لنرى كيف تعدّ هذه المؤسسات من صميم المجتمع المدني، وهي على النحو التالي:

أولاً - منظمات حقوق الإنسان:

ص: 81


1- انظر هيثم طالب الحسيني المرجع السابق.
2- انظر هيثم طالب الحسيني المرجع السابق.
3- انظر هيثم طالب الحسيني المرجع السابق.

تعد منظمات حقوق الإنسان من منظمات أو مؤسّسات المجتمع المدني، التي تقوم على إرادة تطوعية حرّة يجري بموجبها انضمام الحقوقيين إليها برغبتهم، أو ربما بترشيح من الجهات المسؤولة، كما أنّه يقوم على تحقيق بعض المصالح المستنيرة، وهي في التحليل الأخير مصالح تخص حقوق الإنسان في الحرية والتعليم والأمن والعقيدة وغيرها من الحقوق التي كفلتها له الشرائع والقوانين، وعليه فإنّ منظمات المجتمع المدني تعدّ من المجتمع المدني.

ومن فقد صرّح نافي بيلاي المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة في أكتوبر 2012 أنّ أولى عناية خاصة لمسألة معاملة الدول وعلاقاتها مع المدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين وباقي العناصر الفاعلة في المجتمع المدني مؤكدًا أنه لن تتحسّن حالة حقوق الإنسان بدون المشاركة الفاعلة لمجتمع مدني قوي حر ومستقل(1) .

فالمجتمع المدني يساهم يوميا في تعزيز وحماية وتحسين حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم ومهما اختلفت تسميتهم المدافعون عن حقوق الإنسان المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، نقابات المحامين النوادي الطلابية نقابات العمال المعاهد الجامعية، المدونين أو الجمعيات الخيرية التي تعمل مع فئات عرضة للتمييز - فإنّ العناصر الفاعلة في المجتمع المدني تعمل لأجل مستقبل أفضل وتتشارك في أهداف عامة لتحقيق

ص: 82


1- civilsociety@ohchr.org

العدالة والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية (1) .

وتقوم العناصر الفاعلة في المجتمع المدني بتأدية عملها في مجال حقوق الإنسان عبر طرائق عدة كحمل هموم المواطنين والرأي العام؛ العمل على رأب الصدع في المجتمعات التي تعاني بسبب الصراعات الدفاع عن الفئات التي تعاني التمييز أو الحرمان؛ تبادل المعلومات؛ مناصرة ومراقبة تنفيذ معايير حقوق الإنسان؛ التبليغ عن أي انتهاكات تتعلق بهذا الموضوع؛ مساعدة ودعم ضحايا الانتهاكات إطلاق حملات من أجل تطوير معايير جديدة لحقوق الإنسان؛ وتقديم المشورة بشأن السياسات لدفع جدول الأعمال الخاص بحقوق الإنسان والمساهمة في توفير نظام حماية فعّال على الصعيد الوطني وتقديم التدريب في هذا المجال(2).

بيد أنّ منظمات حقوق الإنسان الغربية بالمقابل تكيل بمكيالين في كثير من الأحيان، فهناك العديد من الدول التي لا تستطيع منظمات حقوق الإنسان الدولية ولا المجتمع المدني الدولي أن تعاقبها على ما ترتكبه ليل نهار من انتهاك لحقوق الإنسان، انظر مثلاً إلى ما ترتكبه إسرائيل ليل نهار في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، أو ما يرتكب بحق المسلمين في العديد من بلدان العالم كبورما وأفريقيا الوسطى. في حين تُعلّق المشانق أولاً بأول عندما يرتكب انتهاك لحق من حقوق الإنسان في البدان الفقيرة أو المهضوم حقها، لفقرها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أيضًا ، أو لأنها ليس بها مكان يذكر في ميزان القوى العالمي فكثيراً ما نرى أنَّ الدول الامبريالية

ص: 83


1- civilsociety@ohchr.org
2- civilsociety@ohchr.org

تجعل قضية حقوق الإنسان هذه ذريعة للضغط على الدول التي لا تنتمي إليها في حين تغض الطرف عن انتهاكات حقوق الانسان في دول اخرى صديقة لها. ناهيك عن عدم رعاية حقوق الانسان في مجتمعاتها وغير مجتمعاتها بالشكل الكافي والصحيح، وكيف نفسّر الجمع بين الادّعاء بحقوق الانسان والقصف النووي لليابان الذي راح ضحيته عشرات الآلاف.

ثانيًا - الجمعيات الأهلية الخيرية :

يمكن القول إنّه في سياق الوضع العربي الراهن تعدّ المنظمات الأهلية جزءًا لا يتجزأ من المجتمع المدني، في السياق العالمي عامة والعربي خاصة(1)، والمقصود بالمنظمات أو الجمعيات الأهلية الخيرية التي تعتبر من قبيل المجتمع المدني نوعان: الأولى هي تلك الجمعيات التي لا تقوم على روابط القبيلة أو الدين أو المذهبية، ومن ثمّ تعدّ هذه الجمعيات الخيرية التي لا تنطلق من هذه المنطلقات من مؤسسات المجتمع المدني، والثانية هي تلك المؤسسات الدينية الخيرية التي لها دورها الكبير في إشاعة روح التضامن والتكافل بين أبناء الدين الواحد، خاصة في محاولاتها الدؤوبة لتوفيرها سبل العيش بكرامة لهم، إلا إنّ هذه المؤسسات الدينية يمكن أن تساهم من جانب ما في خدمة المجتمع المدني حقيقة، وذلك بأن تكون منشأة حسب القانون والدستور، وأن تقوم على الإرادة التطوعية الحرة، ومن ثمّ فنحن نذهب إلى لزوم أن نتبع هذه الجمعيات سياسة المساواة المطلقة حتى نتدخل في سياق المجتمع المدني، وذلك إذا كان الأمر يتعلّق سياسة دولة فهو

ص: 84


1- Chalioun, Burhan : Le malaise arabe: Etat contre nation.- Alger, ENAG, 1991.

صحيح حيث الدولة مكلفة بالتعامل المتساوي مع أبناء شعبها أما المؤسسات الاهلية الدينية فهذا غير ملزم لها، إذ على سبيل المثال لا يجوز إعطاء الزكاة الواجبة لغير المسلم.

يمكن القول إنّ مشكلة الفقر التي بدأت تزداد على مستوى العالم، تخلّف وما تبعها من في العديد من الدول دول العالم الثالث جعل العديد من الدول الغربية تنتبه لهذه الإشكالية العويصة، فكان التفكير دائمًا في كيفية الاستفادة من المؤسسات الخيرية، وهو ما ترتب عليه صحوة كبيرة في نظام الموارد الخيرية، حتى وصل حجم الأموال الخيرية في هذه المؤسسات ما يربو على تريليونين من الدولارات. ويمكن القول إنّ هناك العديد من النظم الغربية، مثل نظام ،تراست ونظام إندومنت، ونظام فونديشن، وغيرها من الأنظمة الغربية فهل يمكننا أن نستفيد من هذه الأنظمة في التطبيق في مجال الجمعيات الخيرية؟

ويمكن القول إنّ عدد المنظمات المؤسسات الخيرية في الغرب من الضخامة بمكان بحيث يدلّ على اهتمام الجانب الغربي به وإدراك أهميته فعدد المؤسسات الخيرية في أمريكا 1427455 مؤسسة خيرية، وعددها في 200000، وفي كندا 8000 وفي قائمة أغنى المؤسسات الخيرية الخاصة في العالم بلغ حجم الوقف فيها عام 2005م 177.7 مليار دولار موزعة على مؤسسات خيرية في الدانمارك والسويد وانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية(1)، ومن حيث حجم تبرعات الأفراد للمؤسسات الخيرية فإنه بلغ عام 2004م

ص: 85


1- www.answers.com ، بحث كلمة: أغنى المؤسسات، نقلاً عن محمد عبد الحليم عمر تجربة إدارة الأوقاف في جمهورية مصر العربية ، ص 33.

190 مليار من إجمالي تبرعات ،250 مليار، بنسبة %76 ، كما أنّ متوسط نسبة التبرع الوقفي للفرد الأمريكي 2.3 من دخله، 1% لذوي الدخل المنخفض، %3.1 لذوي الدخل المرتفع، من إجمالي %70 إلى 80% من الشعب الأمريكي الذين يساهمون في التبرعات، ومن التبرعات الخيرية في أمريكا والغرب حصلت المؤسسات الدينية على %35.5 ، والمؤسسات التعليمية على %13.6، والمؤسسات التعليمية 24.5% والخدمات الإنسانية 25.6%.(1).

مما لا شك فيه إذن أن الاتجاه الخيري من الممكن أن يكون له مردود استثماري اقتصادي عال، إلا أنّه للسياسات الخاطئة المتبعة حياله فإنّ دوره ليس على المستوى المأمول باعتباره جهة أهلية، فحجم أموال الوقف فقط في مصر يتجاوز الثمانية مليار جنيه، أما العائد الاستثماري منها بعد خصم مصاريف الوقف فإنّه لا يتعدّى مئة مليون جنيه، بما يعني أنّ العائد الاستثماري منه لا تتعدى نسبته %1.25 (واحد وربع في المائة)(2). وهذه في الحقيقة نسبة ضئيلة للغاية لا تتماشى مع مقتضيات الربح، فمن يقول إنّ رأس المال في مشروع ما لا يربح أكثر من واحد وربع في المائة. ومما لا شك فيه أنّ هناك بعض الإيجابيات التي نتجت عن بعض أنظمة الوقف الغربي التي يمكن الاستفادة منها، كالتمويل المادي وكالتنظيم الإداري، والمتابعة الفعّالة لأوجه الصرف، وإن كان هناك بعض السلبيات الكثيرة التي نتجت منه خاصة في أوجه الصرف السلبية، كالصرف على الشواذ جنسيًا وغيره من بنود الصرف التي لا تتفق مع قيم وعادات المجتمع الشرقي.

ص: 86


1- www.amb-usa.fr.org ، نقلاً عن السابق، ص 34.
2- انظر محمد عبد الحليم عمر، تجربة إدارة الأوقاف في مصر، ص 23.

ثالثا- الأحزاب السياسية:

هناك اختلاف كبير بين المهتمين بالمجتمع المدني وقضاياه في ضمّ الأحزاب السياسية إلى المجتمع المدني، وموضع الاختلاف يرجع إلى أنّ هناك بعض الأحزاب الكرتونية أو الزائفة التي تدعي العمل الديمقراطي وهي في الحقيقة مجرد بوق للسلطة، فالأحزاب المصطنعة هي دائماً جزء من الحكومة؛ لأنّها من صنعها، وهي جزء من نظام أو توقراطي مقنع يعلن الديمقراطية، ويبطن الأوتوقراطية؛ لأنّها محكومة ببناء استبدادي تحلّ فيه رغبة رئيس الحزب محل الانتخاب كأساس للشرعية، ولا تزال هذه الأحزاب المصطنعة تعيش باستراتيجيات الماضي، وتتمسك برموزه التي أصبحت خارج التاريخ، ولا يزال رئيس كلّ حزب متمسكا برئاسة حزبه، باعتباره إقطاعية خاصة، والأجيال القديمة لا تزال كاتمة على أنفاس الأجيال الجديدة، وتحبط أي رغبة عندها في الإصلاح والتطوير، كما تقطع عليها أي محاولة للصعود الخدمة الوطن، ولذلك فهي معزولة عن المجتمع المدني، وعن الجماهير التي فقدت الثقة فيها، ولا سيّما أنها غير قادرة حتى الآن، على تقديم برامج عملية لحلّ مشكلات الجماهير، ولا تزال تعيش على ترديد الشعارات العامة والجوفاء دون منهج أو آليات عملية، وتجمّدت عند مرحلة تاريخية لم يعد لها وجود» (1).

أمّا الأحزاب الحقيقية التي تعارض سياسة الحكومات من أجل التقويم، فهي تعد من مؤس من مؤسسات المجتمع، بدون جدال في ذلك، و ذلك أنّها تعمل جاهدة على نقل آمال الشعب وتطلعاته في سياقات

ص: 87


1- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 28 ، 29 .

عدّة، وتعمل وفق أسس ومعايير ومبادئ المجتمع المدني في القيام على إرادة تطوعية حرّة، وتبني المصالح التي من شأنها الارتقاء بالوطن والمواطن، فضلاً عن اتباعها أساليب العمل الديمقراطي وأهمها الانتخاب الحرّ لرئيس الحزب والأعضاء، إذ لا يمكن أن نجد رئيس هذه الأحزاب على كرسي الرئاسة على الدوام، وإنما تداول السلطة أهم سمة تتميّز بها، ومن ثمّ تعطي صورة راقية للجمع بين النظرية والتطبيق.

رابعًا- النقابات:

يمكن القول إنّ «النقابات والجمعيات الثقافية والحقوقية والأحزاب السياسية تشكل أهم مقومات المجتمع المدني. وإذا كان انتماء النقابات والجمعيات المختلفة إلى المجتمع المدني لا يثير أيّ نقاش ولا اعتراض، فإنّ اعتبار الأحزاب السياسية أحد مكوّنات هذا المجتمع المدني على العكس من ذلك، يثير الكثير من الأسئلة. ذلك أنّه يجب أن نذكر أنّه لا مجال للحديث عن مجتمع مدني داخل مجتمع معين إلا مقابل وجود هيئات وتنظيمات أخرى مختلفة»(1).

ومن ثمّ تعدّ النقابة أداة مهمة من أدوات المجتمع المدني، لها دور كبير في تحقيق نوع من التضامن الاجتماعي بين العمال المنضوين تحتها (2)، ومن ثم فإنّها تمثل للعامل أسرة أكبر من أسرته الحقيقية، بل إنّه يجد عن طريقها ما يؤمن معاشه، ويزيد في ثروته، والإقرار بمزاياه، وفي النقابة يجد الفرد الشرف المهني والثمرة التي يستحقها

ص: 88


1- د. حسن قرنفل : المجتمع المدني والنخبة السياسية، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 1997م، ص: 57 .
2- انظر جان بيار لوفيفر وبيار ماشيري هيجل والمجتمع، ترجمة منصور القاضي، بيروت، الأولى، 1993م، ص 51.

لعمله الجادّ، وفي حضن النقابة يجد العضو الأمانة والفضيلة»(1)

وهناك شرطان أساسيان للعمل النقابي(2):

الأول، أن يكون لدى أعضاء المهنة معرفة دقيقة ومتميزة، وذات طابع تخصصي، وإفادة للآخرين ذلك أنّها ليست عملاً ميسورًا للجميع من أفراد الشعب، لأنّها تتطلب تعليمًا وتدريبًا طويل الأمد. الثاني، أن يقوم أعضاء النقابة بسنّ مجموعة من المبادئ والقواعد والقيم التي تحدّد طبيعة الممارسات المهنية والأخلاقيات التي تحكمها، شريطة أن تختلف عما سواها من المبادئ والقيم والقواعد التي تحكم أي مواطن عادي، أو تحكم العمال غير المتخصصين، وتكون بمثابة معايير مهنية ملزمة لجميع الأعضاء دون استثناء.

وينطبق هذان الشرطان على النقابات مثل نقابة المعلمين نقابة الأطباء، نقابة ،التطبيقيين نقابة المهندسين نقابة المحامين نقابة المحاسبين، نقابة الصحفيين، وغيرهما من النقابات التي ينطبق عليها هذان الشرطان وكلّها يعمل على رعاية مصالح الأعضاء الاقتصادية والاجتماعية، عن طريق الضغط على الحكومات وعلى الهيئات التشريعية، والمشاركة في العمل السياسي في بعض الحالات المعينة (3).

وتتميز النقابة بأنّها المكان الآمن الذي يأوي إليه عضو النقابة ويرتاح فيه، إذ ليس لغير المتخصص أن ينضم إليها، فهو ليس مجرد عامل باليومية أو عن طريق التعاقد المؤقت، ذلك أنّ العضو يؤدّي عملا منتظماً دائماً وليس مؤقتًا، وهو يقوم بهذا الدور إلى أن يحال على

ص: 89


1- د. عبدالرحمن بدوي فلسفة السياسة والقانون عند هيجل، ص 153، 154.
2- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 24.
3- انظر عبد الوهاب الكيالي بالاشتراك موسوعة السياسة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1986م، ج 6، ص 604.

المعاش، أو في حالة الوفاة، كما تتميّز النقابة بقدرتها على إعطاء العضو المساحة الكافية لإبراز آرائه وأفكاره في مجال التخصص، إذ هناك مرونة أكثر ، وقيود أقلّ ذلك أنّ النقابيين لا يكونون تحت طائلة المراقبة المباشرة في أعمالهم، مثلما هي حال الموظفين، ولا يلتزمون بساعات محددة للحضور والانصراف على خلاف الوضع في الوظائف الحكومية ، لكن في مقابل هذه الميزات هناك قواعد في السلوك تفوق تلك المطلوبة من فئات المجتمع الأخرى، إذ يجب عليهم الالتزام بمستوى من الانضباط أكبر من المستوى الذي يخضع له الآخرون من غير المنتمين إلى النقابة، وهو المستوى الذي يستلزمه الميثاق الأخلاقي للسلوك، الذي تضعه النقابة، التي تجمع أعضاء المهنة في جماعة مهنية واحدة ذاتية التنظيم»(1).

إنّ النظر إلى مهام النقابات والأدوار التي تقوم بها ليدلنا على أهميتها باعتبارها مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني لا تقوم على أساس الدين أو العرق أو المذهب أو غيرها من أساليب التمييز، ومن ثم يمكن أن نشير إلى أهم هذه المهام، وهي على النحو التالي:

أ- العمل على توفير أقصي درجات الرعاية بالأعضاء المنتمين إليها.

ب- إتاحة الفرصة للأعضاء لأن يكونوا أعضاء عاملين ضمن مجلس إدارة النقابة وهو مجلس منتخب من عموم الأعضاء عن طريق التصويت الحرّ، وتكون مهمته الأساسية إدارة شؤون النقابة والعاملين بها بهدف تحقيق الآمال والأهداف التي قصدها النقابيون.

ج- تأمين الأعضاء ضد الحوادث والأخطار التي تواجههم أثناء أداء أعمالهم الموكولة إليهم.

ص: 90


1- انظر الخشت المجتمع المدني والدولة، ص 25.

د- مساعدة الأعضاء ماليًا في حالة الفقد وربما المرض لأي من أفراد أسرته.

ه - الإشراف على تنفيذ خطط التحسين التي تهدف إلى الارتقاء مهنيًا بالأعضاء.

و - مشاركة الأعضاء في النواحي الاجتماعية والثقافية.

ز- توفير سبل زيادة الإنتاج والعمل على حلّ المشاكل التي تواجه النقابي.

خامسًا - الاتحادات المهنية:

تقوم فكرة الاتحادات المهنية على أساس أن كل مهنة معينة يستطيع أصحابها أن يكونوا اتحادًا، يدافع عنهم ويقدّم العديد من الخدمات لهم، والاتحادات المهنية اتجاها موازيًا يسير جنبًا إلى جنب النقابات، وهذه الاتحادات المهنية تقوم بالأساس على الإرادة الحرة التطوعية؛ حيث ينضم للاتحادات مجموعة من أصحاب المهنة الواحدة بهدف تقديم خدمات تطوعية لزملائهم في المهنة بحرية وإرادة واعية مستنيرة، كما أنّهم يجمعهم تحقيق المصلحة العامة المستنيرة والواعية، ومجلس إدارة الاتحاد يجري اختياره في انتخابات حرة نزيهة، من الأعضاء الذين ينتمون له، ويتشكل المجلس من رئيس ومجموعة من الأعضاء الذين أتى بهم الانتخاب الحر بما يعني أنه تعبير حرّ عن المجتمع المدني، وما يضمه من مؤسسات.

سادسًا - الاتحادات الطلابية :

تعد الاتحادات الطلابية واجهة مميّزة من واجهات المجتمع

ص: 91

المدني، والاتحادات الطلابية عبارة عن تشكيل طلابي يُنتخَب من قبل الطلبة، فكلّ مؤسّسة تعليمية سواء أكانت قبل التعليم الجامعي، ونقصد بها المدرسة في المرحلة الابتدائية أم الإعدادية أم الثانوية، أم كانت مؤسسات التعليم الجامعي كلية أكانت أم معهدًا، تقوم بعمل انتخابات حرّة بين الطلاب لاختيار الاتحاد الطلابي في المؤسسة التعليمية، ذلك الاتحاد الذي يعبّر عنهم، وهذا الاتحاد يتكوّن من أمين اتحاد الطلبة على مستوى المؤسسة التعليمية ويعاونه مجموعة من الأعضاء الذين أتي بهم الانتخاب الحرّ المباشر، واتحاد الطلبة يقوم على تقديم الخدمات لكلّ طلبة المؤسسة التعليمية في عدة مستويات تكمل بعضها بعضا، مثل المستوى الاجتماعي والمستوى الثقافي والمستوى الرياضي وغيرها من المستويات التي تقدّم من خلال الاتحاد مجموعة من الأنشطة في هذه المستويات وغيرها خدمة للطلبة. وتقوم الاتحادات الطلابية على بند الإرادة الحرة التطوعيّة الحرّة، وعلى بند المصالح الواعية المستنيرة، ومن ثمّ يعدّ الاتحاد الطلابي علامة مميّزة على المجتمع المدني، حيث يعدّ نموذجًا على الحراك السياسي في مجتمع ما، ذلك أنّ الانتخابات الطلابية تعوّد الطلاب على الحياة السياسية السليمة الخالية من أيّ شوائب، وبالتالي تزرع في الطالب حبّ المشاركة في صنع مستقبل وطنه السياسي في بدايات حياته، حتى يكون فردا نافعًا في المجتمع.

سابعًا- المؤسسات الصحفية:

تعتبر المؤسسات الصحفية من ضمن مؤسسات المجتمع المدني غير أنّه يجب التفريق بين نوعين من الصحافة: الصحافة الحكومية،

ص: 92

والصحافة الأهلية، ولا تعد الأولى من مؤسسات المجتمع المدني؛ لأنّها لسان حال الحكومة أو السلطة، وليست لسان حال الشعب في حين تعدّ الثانية من مؤسسات المجتمع المدني، باعتبارها معبرة عن آمال الشعب وتطلعاته وأحلامه على صعد عدة كالصعيد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، كما أنّ المؤسسة الصحفية التي يصح أن يطلق عليها مؤسسة مجتمع مدني تمثل نوعًا من الرقابة على أداء الحكومة، حتى كانت رقابة أخلاقية غير ملزمة، يكفي أنّها تعبر عن ضمير الشعب، وهي تمثل مؤسسة مجتمع مدني؛ لأنّها تقوم تحقيق مبدأ المصلحة العامة والإرادة الحرة في توصيل طموحات الشعب إلى السلطة، في حين نفتقد هذين الأمرين مع المؤسسات الصحفية الحكومية باعتبارها تمثل بوق السلطة، فهي تسمع وتطيع ليس إلا، إذ ليست تطبق بحال إلا المصلحة الخاصة مصلحة السلطة، ولا تقوم على مبدأ الإرادة الحرة. ولكن هذا لا يعني أنّ كلّ ما هو معارض للحكومة من المؤسسات الصحفية يعتبر من مؤسسات المجتمع المدني، إذ إنّنا نجد بعض المؤسسات التي تروّج للإثارة بهدف الربح، أو التي تعارض من أجل المعارضة من أجل كسب ما، ومثل هذه المؤسسات لا تعتبر من المجتمع المدني.

ثامنًا - الأندية الاجتماعية والرياضية :

تعد الأندية الاجتماعية والرياضية من تلك المؤسسات التي تنتم- تنتمي للمجتمع المدني، ويمكن القول إنّ هناك أندية اجتماعية فقط وأندية رياضية فقط وأندية تجمع بين الاثنين معًا، فالأندية الاجتماعية هي أندية تقدم خدمات لمجموع الأعضاء كالرحلات والمعسكرات

ص: 93

وخدمة التريض داخل النادي وغيرها من الخدمات، في حين أن الأندية الرياضية هي تلك التي تقوم على رياضة ما أو مجموعة رياضات، دون أن تقدّم خدمات اجتماعية للأعضاء؛ نتيجة فقر النادي ماليًا، أو نتيجة عدم وجود المكان الذي يتسع لإنشاء المنشآت الاجتماعية، في حين أنّ الأندية الاجتماعية الرياضية هي تلك التي تقدم خدمات اجتماعية للأعضاء بجوار الصرف على الفرق الرياضية التي تلعب باسم النادي، والميزة الأساسية لهذه الأندية أنها تقدم متعة كروية وترفيها اجتماعيًا للأعضاء المنتسبين إليها، كما أنّ هذه الأندية لها مجلس إدارة ومجلس إدارة النادي هو مجلس منتخب من الجمعية العمومية للنادي، ومن ثم فإنّ هذا المجلس جاء ليلبي احتياجات الأعضاء، فإذا قصر في أداء مهامه الموكولة إليه فإنّ للجمعية العمومية سحب الثقة منه بأغلبية الأصوات.

والدولة لا تتدخل من قريب أو ببعيد في انتخابات الأندية أو إدارة شؤونها ، لكن للدولة حق المراقبة، خاصة في الجوانب المالية، ولا سيّما أن مجلس الإدارة ليس له الحق في الحصول على أيّ مميزات مالية؛ لأنّ جهوده في الأساس تطوعية، كما أنّ للدولة حلّ مجلس الإدارة إذا ثبت أن هناك ما يدينه، مع الوضع في الاعتبار أنّ هناك قانونًا ينظم هذه الأندية، وتعدّ مخالفته مخالفة توجب العقاب.

ص: 94

المبحث الرابع : المجتمع المدني والسياسة

ص: 95

المبحث الرابع

المجتمع المدني والسياسة:

هل المجتمع المدني سابق للديمقراطية؟ أم الديمقراطية هي التي تسبق المجتمع المدني ؟ أم بمعنى آخر هل وجود الديمقراطية شرط في وجود المجتمع المدني؟ أم المجتمع المدني هو الذي يعد شرطًا في وجود الديمقراطية ؟ الحقيقة أن المجتمع المدني من الخطأ النظر إليه على أنّه مجرّد المنظمات غير الحكومية وحسب؛ لأننا بذلك نقصيه من المشاركة في صناعة الحراك السياسي في ،الغرب، ذلك أنّ كلّ عقبة تجاوزها المجتمع المدني في تاريخ صيرورته، تمثل في الوقت نفسه خطوة على طريق الديمقراطية، وكلّ نجاح حققته الديمقراطية في شروطها التاريخية هو نجاح للمجتمع المدني؛ لأنّ كلا منهما شريك للآخر في النجاح، كما أنه شريك له في الفشل، حتى مع اختلاف مدلولات المجتمع المدني من عصر الآخر. لقد كان للمجتمع المدني معنى آخر مخالف الدلالة المفهوم اليوم، حيث كان يعني الحقوق المدنية، التعاقد، حق الاقتراع الحرّ، الانتخابات البرلمانية، حقوق المواطنة. و بهذا المعنى قاد إلى بناء الديمقراطية في المجتمعات الغربية في مرحلة تاريخية سابقة. لكن علينا تجنب طريقة التفكير الميكانيكي، لأننا عند القول إنّ المجتمع المدني قاد إلى الديمقراطية فإن ذلك لا يعني تقديم أحدهما على الأخر في علاقة سببية صورية، بل يعني أنّ سيرورة ظهوره وتكوينه هي بذاتها سيرورة بناء الديمقراطية. أمّا

ص: 96

أن نعتبر مؤسسات وتنظيمات المجتمع الحديث هي ذاتها المجتمع المدني، بينما لا تعدو أن تكون في الواقع أحد المظاهر المجسّدة له في مرحلة تاريخية معينة من تطوّر المجتمعات الغربية، ثم نقوم بمحاولة زرعها في بيئة غريبة عنها وبأثر رجعي (بمعنى نتوقع منها أن تحدث اليوم النتائج والآثار التي أدت إليها سابقا.)، فإنّ ذلك يشير إلى درجة من السذاجة وربما الوهم القائم على الاعتقاد بأنّ تلك المنظمات غير الحكومية سوف تقود المجتمعات العربية نحو الديمقراطية. بل في مثل هذه الحالة يصبح من الخطأ الاعتقاد أن «المجتمع المدني هو شرط وجود الديمقراطية»(1).

ومن ثم فإنّ مؤسسات المجتمع المدني في علاقتها بالدولة تسعي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف غير المباشرة، «من أهمّها منع احتكار الدولة لإدارة المجتمع والمشاركة في إدارته، كما إنّها ضمانة لعدم احتكار القطاع الخاص للمجتمع، وتطوير ورفع مستوى جودة العمل العام كما أنّها أيضا أداة جيدة للضغط الشعبي وضمان جودة إدارة ،الدولة ووسيلة وضمانة ومعيار الحيوية المجتمع ومستوى تحضره، لذلك فإنّ سعة ونمو المجتمع المدني دلالة حقيقية على مدى جودة النظام الديمقراطي الحاكم بما يفرضه من التركيز في قضايا بعينها وفرضها على مائدة صناع القرار السياسي، والقدرة على المشاركة في صناعة وتغيير سياسات الأنظمة الرسمية، وبهذا فهو يشارك بقوة في بناء وتعزيز وتمكين مفاهيم وخطط وأدوات وبرامج تمكين الحكم الراشد، إضافة إلى كونه أحد أهمّ أدوات الرقابة المجتمعية لإدارة وضبط وترشيد

ص: 97


1- العياشي عنصر، مرجع سابق.

الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع من أسفل لأعلى (الحكم) الرشيد = قيادة نوعية + مشروع وبرنامج نهضوي + مشاركة مجتمعية فاعلة مما يؤكد أنّ المجتمع المدني هو أحد أهم مكونات البناء الديمقراطي في الدولة المدنية الحديثة»(1).

ومن ثم فإنَّ الحراك السياسي له دور في: «دعم استقلالية مبادرات المجتمع المدني بالتوسع في تنظيم الجماهير وإقامة مؤسسات المجتمع المدني، والسير إلى طريق التنمية الوطنية المعتمدة على النفس للحدّ من العلاقات اللامتكافئة وتحقيق قدر مناسب من العدالة الاجتماعية، تمكن المجتمع المدني من ممارسة دوره في دعم التطوّر الديمقراطي للمجتمع. ويحتاج السير بنجاح إلى طريق التطور الديمقراطي على ثقافة ترسخ في المجتمع التعاون واحترام الآخر والتنافس والصراع السلميين» (2)

ونحن في بلادنا العربية نحتاج من المجتمع المدني فيما يتعلّق بالحراك السياسي أمرين:

الأول - تداول السلطة مدنيا : اختلفت النظرة إلى المقصود بالمدنية في الوطن العربي والإسلامي، فهناك من نظر للمدنية على أنّها المرادف للحرية المطلقة، إذ للفرد على هذه النظرة أن يفعل ما يشاء كيفما يشاء على النحو الذي يشاء، بصرف النظر عن كون هذا الفعل يتفق مع الدين والأعراف والتقاليد أم لا، وهي النظرة التي نرى أنّها لا تخدم الوطن ولا تخدم الدين، وهناك نظرة تنظر للمدنية على أنّها تمسك بالعقيدة مع الإيمان بالتعددية، وهي تؤمن

ص: 98


1- إبراهيم رمضان الديب، مرجع سابق.
2- محمد مورو : المجتمع الأهلي، آفاق معرفية متجددة، منشورات العرفان، ص:84

بالحرية المقيدة، التي تقف عند حدود الإضرار بالآخرين، وتحمل في جعبتها الاعتراف بحقوق الآخر، وحقوق الملكية والحفاظ على حرية المال والنفس والعقيدة، وهي النظرة التي نرى أنها مقبولة ديناً وعقلاً. وعليه فإنّ الدولة المدنية الحديثة ليس فيها مكان للثيوقراطية أو الاستبدادية بكل أشكالها المعروفة عبر التاريخ. ومن مبادئ المدنية العمل على مبدأ تداول السلطة، فالمنصب ليس مُخلّداً لأحد، وهذا وإن كان واجباً في المناصب الصغيرة، فهو أوجب ما يكون في منصب الولاية العامة.

الثاني- الإصلاح السياسي: ويبقى الإصلاح السياسي من الركائز الأساسية التي لا تقوم نهضة حقيقية بدونه، كما تقديم حلول واقعية للأزمات العربية والسياسية خاصة من أولويات المجتمع المدني، حيث تبدو منطقتنا العربية بعد الربيع العربي وقد تحوّل حالها إلى النقيض تماماً مما كانت ترجوه الشعوب العربية ذاتها، خصوصاً بعد أن تداخلت الأيديولوجيات، بل انتقل الحراك الثوري من مجرّد حراك سياسي إلى بؤرة صراع مسلح، ينذر بأن يقود المنطقة إلى الجحيم. ويبدو لي أنّ هناك حلولاً واقعية يمكن أن تبني جسوراً من الثقة بين جميع الأطراف في بلادنا العربية الغالية، حتّى يعود لها مكانها ودورها، نتيجة الخلافات السياسية، وهذه الجسور تنبني على عدّة محاور يمكن للمجتمع المدني أن يعمل عليها :

- أهمّها وضع خطة سياسية محكمة لكيفية التواصل بكلّ حبّ وود وفاعلية - بين أبناء الوطن الواحد لا يكون فيها المنهج المتبع هو منهج الإقصاء، فما أحوجنا إلى لم الشمل، ولا نود أن يكون هذا المنهج هو المنهج المتبع، لأنّ مخاطره تتوالى على المدى

ص: 99

القريب والمدى البعيد، ومن ثمّ فإنّ على أبناء الوطن العربي كلّ في موطنه أن يعلموا أن الحكمة واجبة والجلوس على طاولة الحوار أقرب الوسائل للمّ الشمل وليس منطق القوة والمغالبة. ومن ثمّ وجب العمل على بناء جسور من التواصل بين التيارات المتناحرة من خلال تواري الأيديولوجيات الخاصة والأجندات الحزبية، وأن تكون مصلحة الوطن هي العليا، فمادام الإسلام ينادي بالديمقراطية، الشورى، والمواطنة والسماح بالتعددية واحترام الإنسان، وهي كذلك مبادئ تنادي بها التيارات العلمانية أيضاً، فلماذا لا نبني على هذه النقاط المشتركة وننبذ مواطن الخلاف والشقاق الجوهرية، رغبة في الارتقاء بالوطن ؟ لماذا لا تكون الأولوية للعمل الجاد من أجل الوطن؟

- ومن ثم فلقد وجب على المجتمع المدني المشاركة في عمل ميثاق شرف إعلامي حقيقي يكون توجهه الأساسي نحو نبذ الفرقة والشقاق باعتبارهما الأداة التي يتخذها التعصب مطية له، ولا مانع من أن يحدّد هذا الميثاق الدورات التأهيلية التي يجب على الإعلامي اجتيازها حتى يكون أداؤه الإعلامي عامل تجميع لا عامل تفريق؛ إذ إنّ أغلب مذيعي العرب في حاجة إلى الإلمام بثقافة التواصل لا ثقافة التهييج، وليعلم كلّ إعلامي أنّ كلّ كلمة تخرج من فيه لها أثرها في طبقات الشعوب، باعتبار أنّ الإعلام موجه إلى الشعوب التي لم تأخذ حظها من التفكير العلمي المنهجي، وباعتبار أنّ ما يقرب من 40 في المئة من الشعوب العربية، أو يزيد، في مرحلة الأمية، ومتى نقض على هذه الأمية يكن للشعوب دورها في نقد الإعلام وبيان غنّه من سمينه .

ص: 100

- ومن ثم لزم على المجتمع المدني كذلك أن يشارك في إجراء المصالحة الشاملة بين كلّ فرقاء الوطن الذين يمثلون التيارات السياسية الإسلامية والعلمانية، وذلك عن طريق عقد مؤتمرات تدعى إليه جميع القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، وليس الأحزاب والقوى السياسية الكرتونية التي ليس لها نصيب في الشارع، وإن كان لها النصيب الأكبر في الفضائيات - ولا مانع من أن تكون هذ المؤتمرات بوساطة ورعاية دول عربية وأجنبية مشهود لها بالنزاهة - يجري الاتفاق فيه على بنود عمل واضحة تمثل رؤية حقيقية للمستقبل، ليس فيها إقصاء ولا إبعاد ولا تخوين ولا محسوبية ولا تكفير ولا اتهام بالرجعية، بحيث تقوم هذه البنود على سيادة القانون والفصل بين السلطات، ضماناً لحياة ديمقراطية سليمة.

- العمل على أن يوجه كلّ فريق في وطننا العربي، سواء كان في موقع المسؤولية أو موقع المعارضة عنايته إلى مشاكل الشارع أكثر من تركيزه في مكاسب السياسة والاقتراب من الكراسي والمناصب السياسية، فإنّ مشاكل من نوع: الفقر والبطالة والتعليم وغيرها من المشاكل الأخرى في حاجة إلى الاهتمام، وكيفية تقديم الحلول للتغلب عليها. فنحن في حاجة إلى فكر بنّاء لا الى فكر هدام، فقد أتت الصراعات الداخلية من أجل المناصب الزائلة على الأخضر واليابس في كثير من بلادنا؛ إذ ما أحوج هذا الوطن إلى أياد تبني ولا تهدم، تحنو ولا تقتل. فإذا فعلنا ذلك فسوف نكون يداً واحدة تعمل دوماً في جانب الخير.

- ضرورة المساعدة في القضاء على الجمود بجميع أشكاله التي

ص: 101

تؤدّي إلى إيقاف حركة التقدم في كلّ ركن من أركان المجتمع، وذلك بالثورة عليه سواء أكان هذا الجمود جمودًا سياسيًا أو جمودًا فكريًا.

- التمسك بالحكم الديمقراطي، فهذا أفضل الوسائل التي تتيح حرية التعبير عن الرأي، وما يستلزمه ذلك الرأي، وما يستلزمه ذلك من ضرورة وجود أساليب الحكم النيابي، فتلك من أهم الفروق التي تمتاز بها الأمم الغربية.

- ضرورة المشاركة في التوعية بضرورة وجود أحزاب سياسية قوية من العوامل المهمة فى الإصلاح السياسي بأي قطر من الأقطار، لأنّ المعارضة الحقيقية هى الميزان الذى تزن به السلطة الحاكمة سياستها، وتكشف لها مقدار ما ينطوى على توجهاتها من إيجابيات وسلبيات، ثم لا نود أن تكون الأحزاب الموجودة على الساحة أحزاباً كرتونية؛ لأنّ ذلك لا يخدم عملية الإصلاح السياسي، كما أنّه لا يخدم المجتمع ككل.

- تثقيف الشعب سياسيًا من أهم مبادئ الإصلاح السياسي، وهنا لا بد من أن يكون للإعلام الهادف دور محمود في ذلك، مع ضرورة تأكيد نشر الوعي السياسي في جنبات الوطن خاصة في المناطق العشوائية والمناطق الفقيرة، ويكون محور عملها حول الموضوعات الآتية : المشاركة السياسية الفعّالة طريق تقدّم الوطن، الحوار السياسي لا النزاع السياسى أساس العملية السياسية، الحقوق السياسية للمواطن والواجبات توضيح بعض المواقف السياسية دون تحيّز، الحزبية السياسية للمواطن لا تعني الانشاق والفرقة. ومن هنا تبدو مقولة الإصلاح السياسي أمراً طبيعيًا ومقبولاً وسهل المنال، فالإصلاح السياسي ليس يوتوبيا فارابية أو يوتوبيا أفلاطونية، وإنما هو أمر واقعي يمكن تحقيقه بتكاتف الجهود وإخلاص النوايا.

ص: 102

المبحث الخامس : المجتمع المدني والحراك التنموي

ص: 103

المبحث الخامس

المجتمع المدني والحراك التنموي:

لا شكّ في أنّ عملية التنمية التي يقوم بها المجتمع المدني تختلف النظر إليها بين مؤيد ومعارض، فالرافض لوجود مجتمع مدني بالأساس، يستند إلى الخطر الذي يمثله على الهوية الإسلامية بجانبيها الاجتماعي والثقافي، وأنّ المجتمع المدني يمثل نموذجًا غربيًا، في حين يؤيّده البعض لكونه عاملاً أساسياً في توعية الناس ومحاولة النهوض بهم على بعض الصعد ولو جزئيًا. ولعلّ ذلك الخلاف ناتج من عدة أمور منها بعض المنطلقات التي ينطلق منها المجتمع المدني وأهمها تهميش الديني، أو عدم الإلمام بالمجتمع المدني وفهم أهدافه ومضامينه باعتباره المجال الواقع بين الأسرة والدولة، يحاول أن يعمل على توفير أكبر قدر من المصالح المشتركة، والثاني عدم وضوح دور المجتمع المدني العربي على أرض الواقع، أو قلة الإحساس بدوره، نتيجة عدم وصوله للناس، أو ناتج من قيود السلطة العليا، والثالث تلك الممارسات الخاطئة التي تفرزها بعض المؤسسات التي تنتمي إليه، كأن تكون مؤسسة تنافق السلطة الحاكمة، أو أن تتبنّى العنف، وقد تكون المؤسسة منشأة لمناصرة حزب ما أو مسؤول ما في الدولة، وهذه كلّها مما يشين المجتمع المدني ويقلّل من دوره. إلا أنّ ذلك يجب ألا يصرفنا عن الدور التنموي الذي يقوم به المجتمع المدني، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى، شريطة أن تصدق النوايا مع الالتزام

ص: 104

بآداب المجتمع وخصوصياته المشكلة لهويته.

ومما يؤكد ذلك إعلان الحق في التنمية كحق من حقوق الإنسان عام 1986م، جاء فيه: «إنّ التنمية هي عملية شاملة تتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وهي تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للمجتمع كله وللأفراد على السواء، ذلك على أساس المشاركة الناشطة والحرّة والاساسية في التنمية وفي التوزيع العادل للعائدات». وهذا دليل على أنّ التنمية عملية شاملة تتناول الحقوق الاقتصادية والثقافية والسياسية )

فالاتفاقيات الدولية تكفل حقوقًا تدفع الحكومات إلى أن تضمنها للمواطنين كالحق في العمل اللائق لا مجرد العمل، والحماية الاجتماعية، ولاسيما للفقراء والمعوزين والعاطلين من العمل والمسنين وحقوق الاسرة وتحسين الظروف المعيشية عموما وتأمين وضمان الصحة والتعليم للجميع وحق السكن اللائق والمشاركة في الحياة الثقافية بحرية، فضلاً عن المشاركة الفاعلة للمواطنين من موقع المسؤولية حيث إنّ الحقوق تقابلها الواجبات، ومفهوم الواجبات يتعدّى مجرد المساهمة في دفع الضرائب الى القيام بمهام إضافية ومباشرة كالمشاركة في تحقيق التنمية.

ويمكن القول إنّه ظهر اهتمام بارز ومتزايد بالمجتمع المدني مع بدايات القرن الحادي والعشرين وقد ظهر هذا الاهتمام من الجامعة العربية بدليل عدد المبادرات التي طرحتها في عام 2002 م وكان من أهم مظاهرها استحداث منصب «مفوض الأمين العام للمجتمع المدني»، ثمّ جرى تطوير المنصب لاحقاً ليصبح مبعوث الأمين العام للمجتمع المدني، وفي العام ذاته جرى استحداث

ص: 105

إدارة تعني بشؤون «المجتمع المدني»، وذلك في إطار إعادة هيكلة الأمانة العامة وتطوير منظومة العمل العربي المشترك. وبإنشاء إدارة منظمات المجتمع المدني في عام 2002، صارت حلقة الوصل بين مؤسسات المجتمع المدني والجامعة العربية؛ إيمانًا بذلك الدور الذي تقوم به مؤسسات المجتمع المدني على العديد من الأصعدة.

وبالنظر إلى القرارات التي أصدرتها القمم العربية بشأن المجتمع المدني نجد اهتمامًا كبيراً لا ينقصه إلا تطبيق تلك القرارات بالجدية اللازمة من قبل الحكومات والدول.

فقد أصدرت القمّة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية (يناير 2009- الكويت) قراراً تحت رقم (15) نص على:

أولاً- تفعيل دور المجتمع المدني في مختلف المجالات

الاقتصادية والاجتماعية والتنموية وتعزيز الشراكة مع منظماته ومؤسساته، بما يحقق الأهداف التنموية والاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء.

ثانيا- دعم جهود منظمات المجتمع المدني العربية، منظمات المجتمع المدني العربية على الصعيدين الإقليمي والدولي وخصوصاً نشاطاتها الرامية لإبراز الهوية العربية.

كما نص برنامج العمل الصادر عن القمة على: يضطلع المجتمع المدني بأدوار مكملة للجهود الحكومية وموازية لها، لتحقيق المزيد من التنمية، مما يتطلّب :

تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني لتضطلع بمسؤوليتها تجاه المجتمع.

ص: 106

تطوير التشريعات في الدول العربية لتعزيز التعاون بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني.

تبادل التجارب الناجحة بين مؤسّسات المجتمع المدني.

كما أصدرت القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية (يناير - 2011- شرم الشيخ قرارًا تحت رقم (18) نص على:

دعوة الدول العربية إلى دعم وتوسيع مجالات عمل منظمات ومؤسسات المجتمع المدني العربي كشركاء في عملية التنمية وتفعيل أدوارها وتيسير مشاركتها في فعاليات منظومة العمل العربي المشترك. دعوة منظمات ومؤسسات المجتمع المدني العربي إلى تنسيق جهودها والمساهمة بفاعلية في الجهود التنموية في الدول العربية. كما أوصت القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية (يناير 2011- الرياض) بتفعيل دور منظمات المجتمع المدني العربي:

دعوة الدول الأعضاء إلى مواصلة جهودها الرامية إلى تحقيق شراكة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني وخاصة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

دعوة منظمات ومؤسسات المجتمع المدني إلى تقديم المزيد من المبادرات في المجالات الاجتماعية والتنموية والمساعدات الإنسانية، بما يسهم في تحقيق التنمية الشاملة في المنطقة العربية. بيد أنّه لا يمكن تحقيق التنمية الحقيقية إلا بإرساء مجتمع الديمقراطية والعدالة ودولة الحق والعدالة والمواطنة الصالحة ونشر العلم بين كلّ أفراد الشعب وتوزيع الثروات بكلّ إنصاف وتشغيل العقل والمنطق وتغيير العقليات الموروثة وتحرير العقل من أي فكر مسبق وإعطاء

ص: 107

الأولوية للتجريب العلمي والاختراع التقني عن طريق تطوير التعليم والتربية وإعلاء خطاب التسامح والانفتاح على الآخر وإرساء الفكر الفلسفي الايجابي الذي يساهم في اختراع النظريات وإثراء التجارب التطبيقية الناجحة لتحقيق مجتمع مزدهر يؤمن بالديناميكية والفاعلية السياسية القائمة على المشاركة وخدمة الصالح العام(1).

وتنبني التنمية الحقيقية في جوهرها على أربعة عناصر أساسية وهي: الإنتاجية والمساواة والاستدامة وتمكين المجتمع المدني بقوة التمثيل السياسي للمشاركة في اتخاذ القرارات الصائبة من أجل المساهمة في تحقيق التنمية البشرية الفضلى (2).

ومن ثمّ فللمجتمع المدني أثر مهمة في عملية التنمية داخل المجتمع العام، ولا يقتصر دوره على الناحية الفردية فقط، بل له أن يشارك في عملية الانتاج والاستثمار ، فضلاً عن العمل على إنشاء شركات أهلية ومؤسسات تطوعية في أي من المجالات التي تعود بالنفع على الوطن والمواطن ، ذلك أنّ المساهمة في هذه المجالات يعني- في التحليل الأخير - توفير فرص عمل للشباب وغيرهم، وهذا بدوره يساهم في القضاء على مشكلة البطالة ولو جزئيًا، ممّا يقضي على العديد من الإشكاليات الخطيرة التي يقع فيها بعض الشباب كالتطرف أو الإدمان وغيرهما من الإشكاليات التي تتفشى في ظلّ ازدياد البطالة، ويفسّر لنا هذا لماذا تقل أعباء الدولة في ظلّ وجود مؤسسات مجتمع مدني قوية؟ فضلاً عن أنّ هذا يطلق يد الدول

ص: 108


1- انظر خيري عزيز: قضايا التنمية والتحديث في الوطن العربي، منشورات دار الآفاق الجديدة ،بيروت، لبنان، ط1، 1983 .
2- جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي سلسلة دراسات التنمية البشرية، ،العدد 6، بيروت، لبنان، 1997م، ص: 35 .

في الاهتمام ببعض الضروريات الأخرى في مجال الصحة والتعليم مثلاً. وفي بعض الدول الأفريقية ينظر البنك الدولي إلى المجتمع المدني لما يستطيع أن يقوم به من مساعدة في تعبئة الموارد بالطرائق التي تعجز الدولة عن القيام بها وباعتباره «دولة الظل التي تقوم بوظائف تقليدية للدولة مثل إنشاء وإدارة المدارس ومراكز الرعاية الصحيّة ومشروعات الأشغال العامة كشق الطرق والترع(1) .

ويظهر نشاط المجتمع المدني جلياً - كما يذهب إلى ذلك أحد الباحثين من خلال الحملات الدعائية الناجحة التي تدور حول قضايا بعينها مثل حظر زراعة الألغام الأرضية وإلغاء الديون وحماية البيئة، والتي نجحت في حشد آلاف المساندين في شتى أنحاء المعمورة. فقطاع المجتمع المدني لا يبرز فقط كجهة فاعلة واضحة على المستوى المجتمعي في أجزاء كثيرة من العالم، لكنّه يتّسم كذلك بتنوع ثري في طبيعته وتركيبته . كما أنه يمتاز بكونه يعتمد في أنشطته على المتطوّعين غالب الأحوال، كما تمتدّ أنشطته إلى كثير من المجالات التنموية بأبعادها كافّة (2).

ويمكن القول إنّ مجالات عمل المجتمع المدني متنوّعة بدرجة كبيرة؛ حيث تشمل جميع شرائح المجتمع العمرية النوعية من الدعوة والتربية والتعليم والتدريب والتأهيل، إلى الصحة، إلى الأدب والثقافة والفن والإعلام وحقوق الإنسان، والعمل الإنساني الإغاثي والمحافظة على البيئة. وتتدرج مستويات العمل المدني

ص: 109


1- انظر أجوسا واى أوساجاى التكيف الهيكلي والمجتمع المدني والتماسك الوطني في أفريقيا، مجلة أفريقية عربية مركز البحوث العربية بالقاهرة المجلد الثالث ص 19-52 .
2- انظر د. أحمد إبراهيم ملاوي أهمية منظمات المجتمع المدني في التنمية، بحث منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 28، العدد ( 2 )، 2008، ص258.

من مؤسّسة، وجمعية ومركز ، إلى رابطة لعدد من المؤسسات على أساس جغرافي، أو تخصصي في مجال العمل (رابطة المؤسسات الخيرية بالقاهرة) (رابطة مؤسسات الأيتام بالقاهرة)، وتتجلى أعلى مستوياته حين يصل مستوى الشبكة الوطنية أو الإقليمية والعالمية التي تجمع في عضويتها المؤسسات العاملة في المجال نفسه(1).

إن دور منظمات المجتمع المجتمع المدني يتنامى مع ازدياد الحاجة الى انخراط جهات إضافية في مهام وبرامج التنمية، ولاسيما بعد قصور الدولة وأجهزتها ومواردها عن تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين. ولما كانت هذه الاحتياجات حقاً من حقوقهم، وباتت تلبيتها ملحة وضرورية لتأمين الأمن الانساني والاستقرار الاجتماعي، كان لا بد من توسيع المجال أمام منظمات المجتمع المدني لتصبح شريكا في عملية التنمية للاستفادة من مواردها البشرية والمادية ومن الخبرات التي تكتنزها (2).

ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى ثلاثة أنواع من المجالات التي تعمل فيها منظمات المجتمع المدني(3):

أولاً- توفير الخدمات، وهي المهام التقليدية التي دأبت على القيام بها المنظمات غير الحكومية والاهلية منذ عقود والتي تتضمن الجمعيات والهيئات الخيرية والمنظمات غير الحكومية المتخصصة. وتجدر الاشارة إلى أن المجتمع المدني يتمتع بقدرات

ص: 110


1- إبراهيم رمضان الديب المجتمع المدني ودوره في الصعود الحضاري، على الرابط: D8%A7%/24/2/http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2013
2- انظر سعيد ياسين ،موسی دور منظمات المجتمع المدني في التنمية، على الرابط التالي: htm.2-https://www.zowaa.org/Arabic/articles/art%20260112
3- انظر سعيد ياسين موسى المرجع السابق.

فنية وتقنية عالية تمكنه من توفير نوعية مقبولة من الخدمات، فضلا عن قدرته في الوصول إلى الفئات الأكثر حاجة ولاسيما في الأرياف والمناطق النائية .

ثانيا- المساهمة في العملية التنموية من خلال تقوية وتمكين المجتمعات المحلية، وفي هذا المجال له دور في بناء القدرات وتنمية المهارات والتدريب بمختلف المجالات التنموية كالتخطيط الاستراتيجي وصياغة البرامج التنموية وتنفيذها وتوسيع المشاركة الشعبية فيها.

ثالثًا - المساهمة في رسم السياسات والخطط العامة على المستويين الوطني والمحلي من خلال اقتراح البدائل والتفاوض عليها أو التأثير في السياسات العامة لإدراج هذه البدائل فيها، ولتحقيق أهدافه، يقوم هذا النوع من منظمات المجتمع المدني

بتنفيذ الاستراتيجيات التالية (1):

الرصد والمراقبة، حيث إنّ حق الاطلاع والحصول على المعلومات هو حق من حقوق المواطن، ويساهم هذا الحق في إتاحة الفرص أمام المجتمع للاطلاع على السياسات التنموية المقترحة وبالتالي الاطلاع على سبل تنفيذها وعلى نتائجها .

تطوير الأطر القانونية ذات الشأن، حيث إنّ التنمية تستلزم إصدار مجموعة من القوانين التي تكفل هذا الحق وتحميه إضافة إلى القوانين التي تضمن شفافية المعلومات والحق في المشاركة. وبالتالي لا بدّ من إصدار القوانين التي تكفل هذا الحق وآليات

ص: 111


1- انظر سعيد ياسين موسى المرجع السابق.

تنفيذه للمساهمة في تحقيق التنمية إضافة إلى التشريعات ذات الصلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والتصدي للانتهاكات التي تشمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأسر وللأفراد، وذلك عن طريق الضغط والمدافعة وكسب التأييد من أجل الاعتراف بحقوق المواطنين وتأمينها وللقيام بهذه المهام، يستخدم المجتمع المدني الأدوات المتاحة والمعترف بها دولياً من قبل الحكومات كافة بما في ذلك العهود والاتفاقيات الدولية التي تكفل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إضافة إلى الحق في التنمية وحقوق المرأة والطفل والأشخاص ذوي الإعاقة وغيرها.

وإذا تحدثنا عن دور المجتمع المدني في التنمية الاقتصادية، فذلك من أهم الأدوار التنموية التي يستطيع المجتمع المدني القيام بها، ومساعدة الدولة في التغلب على العديد من الإشكاليات الاقتصادية وتوابعها من الإشكاليات الفرعية الناجمة عنها، وقد فطنت الدول الغربية إلى أهمية هذا الدور، فساهم المجتمع المدني في إنشاء الشركات والمؤسسات الأهلية ذات الاتجاه التجاري والإنتاج الصناعي، وربما الزراعي أيضًا، وهذه المساهمات ينتج عنها فرص عمل جيدة تتطلب أيدي عاملة، ومن ثمّ تقلّ البطالة، ويرفع المجتمع المدني بذلك عن كاهل الدولة العديد من الإشكاليات التي تترتب عليها، ومن ثم يقل العبء وتستغل الجهود في أمور أخرى كالتعليم بمراحله المختلفة، بما يمثله من بناء الشخصية الوطن والمواطن والتوسع العمراني، وشق الترع والجسور، وإنشاء الطرق، وخطوط سكك الحديد، والإنتاج الزراعي، وغيرها من الإنشاءات التي تعدّ

ص: 112

أساس البنية التحتية، بما يعني أن دور المجتمع المدني يمثل نوعًا من الشراكة بينه وبين الدولة ممثلة في الحكومة.

والدليل على ذلك تتبع النمسا وألمانيا مفهوم المجتمع المدني على هذا المفهوم الموسع ، حيث تتيح الدولة للأهالي إنشاء شركات ومؤسسات تساهمية إلى أبعد الحدود. وفي الوقت التي تقوم فيه الدولة بإنشاء المقومات الأساسية مثل بناء البنية التحتية، وتشغيل سكك الحديد والمواني والبريد فهي تهتم أيضاً بأن تقوم الأجهزة التشريعية بتحديد العلاقة بين صاحب العمل والعامل والعمال. فمثلاً يقرّر المشرع بأن يكون التأمين الصحي للعامل وذويه من القصر مناصفة بين صاحب العمل والعامل . كما ينظم المشرع تأمين العامل ضدّ البطالة إذا ما ساء حال شركة ما واضطرت لتسريح بعض من عمالها. فالدولة هي التي تقوم بتحصيل تأمين البطالة من المنبع أي من الشركة أو المؤسسة مباشرة وتحدّده وترفعه بحسب غلاء الأسعار، وهي التي تقوم بعد ذلك بدفع إعانة البطالة للعامل بالقدر وللمدة التي حدّدها القانون. معظم الشركات الألمانية والنمساوية الكبيرة، مثل سيمنز ودايملر بنز وكروب للحديد والصلب وباير للصناعات الكيميائية وصناعة الدواء هي شركات مساهمة تمتلكها الأهالي فهي أدوات إنتاجية وتوفّر فرص العمل والعلاقة بينها وبين العملين فيها ينظمها المشرع، فهي منظومة نشطة للتضامن الاجتماعي وتحقيق الرخاء»(1).

أما الدكتور سعد الدين إبراهيم فيعرفه بأنه: «مجموعة التنظيمات التطوعية الحرّة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق

ص: 113


1- http://mawdoo3.com

مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام، والتآخي والتسامح والإدارة السليمة للتنوع والخلاف»(1).

والمجتمع المدني نسيج واحد ومترابط من العلاقات التي تقوم بين الأفراد من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. وهي علاقات أساسها تبادل المصالح والمنافع والتعاقد والتراضى والتفاهم والاختلاف والحقوق والواجبات والمسؤوليات، ومحاسبة الدولة في المستويات كافة التي يستدعى فيها الأمر محاسبتها، ومن جهة إجرائية، فإنّ هذا النسيج الواحد من العلاقات يستدعي أن يتجسّد في مؤسسات طوعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وحقوقية متعدّدة تشكل في مجموعها القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها مشروعية الدولة من جهة، ووسيلة محاسبتها إذا استدعى الأمر ذلك من جهة أخرى (2).

إنّ المجتمع المدني يمثل كل نشاط تطوّعي تقوم به المؤسسات أو الجمعيات ذات الصفة الأهلية، أي التي لا تمثل العمل الحكومي أو المؤسسات الحكومية، وهذه المؤسسات أو الجمعيات التي تمثل المجتمع المدني تقوم على مجموعة من الأهداف المشتركة والقيم الخيرية التي ترجو من خلالها تحسين المجتمع على المستويات كافّة (3)، هذا النشاط التطوّعى له العديد من الصور المتنوّعة، منها

ص: 114


1- سعد الدين إبراهيم المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، مقدمة كتاب: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في البحرين مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية 1995م، ص:5
2- انظر عبد الغفار شكر: المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى ،2003م، ص: 20 وانظر د. حامد خليل الوطن العربي والمجتمع المدني، كراسات استراتيجية مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق، العدد الأول - السنة الأولى - خريف 2000. ص 12.
3- انظر د. الحبيب الجنحاني المجتمع المدني بين النظرية والممارسة، مجلة عالم الفكر تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب دولة الكويت، العدد الثالث، المجلد السابع والعشرون يناير / مارس 1999 ص 36 .

ما يتعلّق بمجال القطاع الاجتماعي، ومنها ما يتعلّق بقطاع التعليم ومنها ما يتعلّق بالجانب السياسي، بما يعني أن المجتمع المدني يقوم على تحقيق مجموعة من الأهداف التي تعجز الجهات الحكومية على القيام بها، أو تقصر فيها، فيكون المجتمع المدني بذلك عاملاً من العوامل المهمة في تحقيق مصالح أبناء المجتمع الواحد على عدة صعد، وهو بذلك أداة رقابية مهمة وإن كانت غير ملزمة لسياسات الدولة، بحيث تؤكد على الجوانب الإيجابية في هذه السياسات وتضع من الخطط ما هو كفيل بضمان استمراريته، وتشير إلى الجوانب السلبية وتحرص على تعريتها وكشفها أمام الرأي العام، وتضع من الضغوط ما هو كفيل بالقضاء عليها، بما يعني أن المجتمع المدني بمؤسساته يعتبر المرآة التي تظهر فيها صورة الدولة والمجتمعات عموماً، وبقدر قبح الصورة يكون قبح الواقع، وبقدر نقاء الصورة يكون نقاء الدولة والمجتمع عموماً. بيد أنّه يجب الحظر ونحن ننظر إلى المجتمع المدني من أن ننظر إليه نظرة نظرة مقطوعة عن سياقها، ذلك أن استيراد فكرة المجتمع المدني بالمعنى الشائع اليوم (المنظمات غير الحكومية) مقطوعة عن إطارها المرجعيّ التاريخي يتضمّن مخاطر عديدة ليس أقلها الاعتقاد الواهم بوجود عمل سياسي ديمقراطي، بينما الواقع يشير إلى غياب شيء اسمه الحقل السياسي له استقلالية نسبية عن بقية الحقول الأخرى الاجتماعية، الثقافية الاقتصادية... و في أحسن الحالات انغلاق هذا الحقل أمام المبادرة السياسية الحرة و تميّزه بدرجة عالية من التقييد والاستعمال الأداتي من قبل النظام، بل أسوأ من ذلك اغتراب القطاع العريض من المجتمع عن عملية البناء الديمقراطي بسبب

ص: 115

الاعتقاد الخاطئ أنّها عملية تخص الأقلية من المجتمع (النخب الفكرية البيروقراطية التكنوقراطية، الاقتصادية...) و ذلك بسبب الممارسات التي تقوم بها هذه النخب من جهة، و بسبب التصوّر الخاطئ عن المجتمع المدني الذي يختزله إلى المنظمات غير الحكومية الحديثة خصوصاً، من جهة ثانية (1) .

ومؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية تعد مؤسسات غير ربحية، وهذه تعمل أساساً على أن يكون لها كيانها في المجتمع وفي حياة الناس باستنادها الى منطلقات أخلاقية وثقافية وسياسية واجتماعية ودينية وعلمية التي تعدّ أساساً منطلقات خيرية، وتوجد العديد من الدراسات الشرقية التي تناولت المجتمع المدني من حيث النشأة والتكوين وبمنظمات المجتمع المدني ومؤسساته في مصر خاصة والوطن العربي عامة (2) . ولاسيّما أنّ المجتمع المدني زادت فاعليته في بعض الفترات الزمنية، الأمر الذي ترتب عليه بعض التواتر الحادث بينه وبين السلطات الحاكمة، عندما ظهر دوره على المستويين الاجتماعي والسياسي، بعد تطبيق سياسة الانفتاح والخصخصة في بعض الدول العربية، فضلاً عن أنّه ظهر نوع جديد من المؤسسات غير الربحية، والتي عملت في مجال حقوق الإنسان كما ظهرت العديد من الجمعيات التي أنشأها بعض رجال الأعمال (3) .

ص: 116


1- انظر العياشي عنصر التحول الديمقراطي في الجزائر الواقع و الأفاق.- ورقة قدمت لندوة: الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية - الآردن، جامعة ألا البيت 30 نوفمبر - 02 ديسمبر 1999 .
2- انظر سعد الدين إبراهيم المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في مصر، القاهرة، ط دار قباء، 2000م، ص المقدمة.
3- انظر أماني قنديل المجتمع المدني في مصر في مطلع ألفية جديدة، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 2000م، ص 13، 14.

فالمجتمع المدني- بناءً على رأينا- هو مجموعة من الكيانات أو المؤسسات التي لا تقوم على أساس التعصب – سواء أكان هذا التعصب للقبيلة أم العشيرة أم الدين أم العرق أم اللون، أم الأيديولوجية الفكرية أم غيرها من مظاهر العصبية - وإنما يقوم على إرساء قيم المواطنة وتنوير المجتمع - بما له من حقوق وما عليه من واجبات - والعمل الجاد المبني على إرادة تطوعية حرّة لا تقوم على الربح أو الارتزاق، وينظم أفرادها شؤونها، بما لا يخلّ بمبادئ الحق والخير التي تقوم على رعايتها الدولة بما لها من حق الإشراف والمراقبة.

وإذا كانت الأسرة أو العشيرة والقبيلة التي لا تزال مفاهيمها هي الفاعلة في حركة مجتمعاتنا، وفي كلّ المجتمعات النامية تقوم على الروابط غير التطوعية، ولا تقوم على الإرادة الحرة، بل تقوم على الوراثة أو رابطة الدم أو الميلاد، والقيمة الأساسية التي تحكمها هي الولاء، فإنّ من غير الصواب عند فريق من الباحثين اعتبار الأسرة أو العائلة أو أيّ رابطة عرقية مؤسسة من ضمن مؤسسات المجتمع المدني، فالرابطة التي تخضع لها المجموعات العرقية صغيرة كانت أم كبيرة، غير الرابطة التي يخضع لها المجتمع المدني والقيمة التي تحكم إحداها لا تحكم الأخرى(1).

والملاحظ أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تقوم في الغالب على رابطة الدم والوراثة وهذه وإن كانت أمرا مهماً في إرساء قيم التواصل والإخاء والإنسانية، فإنّ الكثيرين لا يعتبرونها من مؤسسات المجتمع المدني بناء على التعريف السابق.

ص: 117


1- انظر محمد عثمان الخشت المجتمع المدني والدولة القاهرة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الأولى، 2007م، ص 14.

ويمكن القول إنّ المجتمع المدني يتميّز كثيراً عن الدولة وعن الأسرة؛ إذ يمكن القول على حدّ تعبير إدموند بيرك إنّه الأسرة الكبيرة، وهو يعمل على القيام بالعديد من الأنشطة التطوعية، وهو بذلك يميز عن الدولة أو سلطة الدولة بمعنى أدق، ذلك أنّ هناك ارتباطا وثيقًا بين الدولة كتعبير عن السلطة الحاكمة وبين الأيديولوجيا، فأغلب الدول إن لم يكن جميعها تنظر للمجتمع المدني نظرة أيديولوجية صرفة، ولذا نجد الدولة الشمولية الجذرية، لا تؤمن بما يسمى بالمجتمع المدني، ومن ثم فلا نقابات عمالية تدعو لحقوق العمال ولا تجمعات ولا أندية ولا أحزاب سياسية معارضة، ولا مؤسسات لحقوق الإنسان وغيرها من مظاهر المجتمع المدني؛ لأنّها تعدّ من المحظورات في مثل هذه الدول. وكذلك نجد الدولة الليبرالية تتيح الفرصة أمام انطلاق المجتمع المدني تحت رعاية ومظلّة الدولة، باعتباره ينطوي على مبادئ الحرية والاختيار والمسؤولية، بما يعني أنّ المجتمع المدني بمؤسساته يعمل جاهدًا على مساعدة الآخرين وتبصيرهم بحقيقة الدور الذي يجب عليهم أن يقوموا به تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، في حال كان هذا المجتمع المدني يتسم بالقوة والمرونة في الوقت نفسه بما يشمله من مؤسسات خيرية تطوعية وجمعيات أهلية تجعله مجالاً خاصًا يساعد الأنظمة في ترسيخ معاني الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. أمّا المفهوم من وجهة النظر الهيجلية فإنّه يضعه أمام كل من الأسرة والسلطة كبديل استراتيجي يستطيع أن يحدث الاتزان داخل المجتمع، في حين يظلّ الاتجاه الماركسي يربط نظرته للمجتمع المدني بنظرته إلى النظام الطبقي والظلم الاجتماعي .

ص: 118

المبحث السادس : نقد المفهوم

نقد المفهوم:

ص: 119

المبحث السادس

لا يمكن الحديث عن المجتمع المدني دون الوقوف على ما ينطوي على المفهوم من إشكاليات تثير العديد من السلبيات المتعلقة به، والتي يعني إبرازها توجيهًا له وجهة صحيحة من وقع الفكر الإنساني عامة، ومن منظور الفكر الإسلامي خاصة في تقاطعات المفهوم مع الدين، ومن ثمّ يمكن الوقوف على نقد المفهوم من خلال طرح القضايا الآتية على طاولة النقد.

موقف المؤيدين والمعارضين:

أولاً- الاتجاه الحداثي

يمكن القول بدءًا إنّ المجتمع المدني لم يلق قبول الجميع، كما لم يلق رفض الجميع في البيئة الإسلامية والعربية المعاصرة، وإنما انقسم المعاصرون حوله بين مؤيد ومعارض، وكلّ فريق حاول أن يسوق الأدلة التي يدعم بها وجهة نظره، ومن ثم انقسموا إلى اتجاهين :

أولاً- الاتجاه الحداثي

يرى أصحاب هذا الاتجاه أن المجتمع المدني إنما هو أداة تحمل مدلولاً ينطوي على مجموعة من الأهداف والغايات المحدّدة، والتي تلخص في استبعاد الشأن الديني والديمقراطية الليبرالية والتعددية، بما يعني أنّه إنما جاء محمّلاً بالعديد من الأطر الأيديولوجية، ويربط

ص: 120

أصحاب هذا الاتجاه بين المجتمع المدني والدولة المدنية القائمة على القانون الوضعي. غير أنّه مما يؤخذ على المجتمع المدني وأصحاب هذا الاتجاه خاصة أنّ هناك العديد من القوانين التي لا يستمد قيمتها من قيم عليا تفرضها على الناس، وإنما تنطلق من أرضية تحقيق رضا الناس ومصالحهم ليس إلا. ومن ثم وجدنا المجتمع المدني في الغرب يشجع على سن قوانين تشرع لإباحة الزنا واللواط وزواج المثلين وهي كلّها أمور لا تتفق مع الأعراف والتقاليد، ولا تتفق مع الأديان أيضاً.

ولذا من أهم المبادئ عند أصحاب هذا الاتجاه أنّ المجتمع المدني هو الذي يصوغ قوانينه وشرائعه بنفسه، ولا علاقة للدين بشيء من مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، فالحلال والحرام والواجب والمستحب والمكروه هو ما يقره المجتمع المدني لا الدين(1).

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أنّ التنظيمات التقليدية في المجتمع المدني تلعب دوراً قمعياً في علاقتها بالفرد، يحظى بحمايتها لا لكونه فرداً مستقلاً له حقوق يقرها القانون، بل لأنه يمثل وحدة أولية في بنائها. كما تحقق ذلك الدور من خلال اعترافها وإقرارها بسلطوية الدولة وليس بمعارضتها ورفضها. وفي المقابل تعجز التنظيمات الطوعية الحديثة عن لعب دور الوسيط لأنّها تقوم على فكرة الانتماء الطوعي للأفراد، لكنّهم دون حقوق معترف بها أو مكرّسة قانونياً بسبب الطبيعة السلطوية للأنظمة السياسية التي

ص: 121


1- انظر ماجد الزميع، الدولة المدنية بين الاتجاه العقلي الإسلامي المعاصر والاتجاه العلماني، دراسة عقدية قسم الثقافة الإسلامية كلية التربية جامعة الملك سعود بالرياض، 1432ه، ص 188 .

يعيشون في ظلّها. لعلّ هذه إحدى المفارقات التي يواجهها أولئك الذين يسحبون فكرة المجتمع المدني ، وهي ثمرة سيرورة تاريخية واجتماعية متميزة على الواقع الاجتماعي العربي دون الالتفات إلى خصوصية المرحلة التي يمر بها في تكوينه. ولعل هذه أيضاً معضلة تواجهها التنظيمات غير الحكومية الحديثة في البلاد العربية لأنها، غير قادرة على حماية الأفراد أمام تعسف الدولة، ولا على إعادة إنتاج ذاتها كأحد مظاهر السوق المحلية(1).

ثانيًا- الاتجاه الثاني:

وهو الاتجاه المحافظ وفي داخل هذا الاتجاه تكمن العديد من المواقف حيال المجتمع المدني، ومن ثم يمكن تقسيم أصحاب هذا الاتجاه إلى عدة أقسام:

أ - الفريق الأول يرفض رفضا مطلقًا المجتمع المدني أو المشاركة في مؤسساته حتى مجرد قبولها؛ لأنّه بالنسبة لهذا الفريق يدخل في دائرة التحريم، ومن ثمّ يرفض مفهوم المجتمع المدني بداعي نشأة المجتمع المدني وعوامل تطوره، إذ من المعلوم أنّ المجتمع المدني ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالتطورات الحداثية الغربية خاصة في شقها السياسي؛ حيث ترتب على مجموعة من الثورات على المستويات العلمية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الغرب وهذا على ظنّهم ما نفتقده في بيئتنا العربية، بل يبرّر أصحاب هذا الفريق موقفهم بالاستناد إلى أنّ المجتمع المدني نشأ وتأسس بناء على ثلاثة اتجاهات اعتلجت جميعًا فكانت البذرة التي أنبتته،

ص: 122


1- انظر عزمي بشارة، مرجع سابق، ص 401 402.

وهي الليبرالية والرأسمالية والعلمانية، ومن ثمّ يرفض أصحاب هذا الاتجاه المجتمع المدني؛ لأنّهم يرون أنّ هذه الاتجاهات لا تتفق مع القيم الإسلامية في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية العلميّة، كما يؤسس أصحاب هذا الاتجاه رفضهم على أنّ المجتمع المدني قام بالأساس على العلمانية، التي تفصل بين الدين والدولة، وأنّ الإسلام نظام شامل كلي لا يفصل بين هذا وتلك، وأخيراً يؤسسون رأيهم استناداً إلى أن الديمقراطية التي هي التي ينادى بها لشيوع المجتمع المدني لم تتحقق فعليًا على أرض الواقع في بلادنا إلا فيما ندر.

ب -الفريق الثاني، يقبل مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني؛ لدورها في خدمة المجتمع، ولا يمانع من المشاركة فيها. وهذا الفريق يؤيد مفهوم المجتمع المدني، مستندًا إلى إنه نظريًا يمكن القول الإسلام كمنظومة يقوم على مجموعة من الأسس الحرية والمساواة والعدالة والشورى والمعارضة والنقد الذاتي، وهي المبادئ التي يعمل عليها المجتمع المدني ويؤسس نفسه عليها، بما يعني أنه ليس هناك ما يمنع من قبول مفهوم مجتمع مدني يعبر عن الثقافة الإسلامية والعربية، ولاسيما أنه في ظلّ هذا الفهم تتعاظم قيم التعددية والحق في الاختلاف وغيرها من المبادئ التي تعبر عن وجود مجتمع مدني خاصة أنه تطبيقيًا فإنّ التاريخ الإسلامي يخبرنا عن مجموعة من التجارب التي تدلّ على وجود مجتمع مدني جرت ممارسته عمليا، دون وجود المصطلح نظريًا، والمتأمل في صحيفة المدينة يتأكد له ذلك تمامًا، كما أنّ المتأمل في نظام الوقف الإسلامي يتأكد له أيضًا كيف طبق المسلمون بعض مبادئ

ص: 123

المجتمع المدني تطبيقيًا، وهذا الدستور المدني الإسلامي.

وهذا الفريق ينطلق من المميزات الخاصة التي يتمتع بها المجتمع المدني، والكشف عن فرصته الكبيرة في إنجاز جزء كبير من استحقاقات الصعود الحضاري القادم للعرب والمسلمين فمؤسسات المجتمع المدني هي تجمع بشري منظم وفق قواعد العمل المؤسسي الحديث يعمل لتحقيق أهداف ومصالح عامة محدّدة تهدف لخدمة وتنمية المجتمع في شكل مؤسسة مدنية غير حكومية، تطوعية لا تهدف لتحقيق ربح تنطلق من القيم التي اجتمع عليها أعضاؤها، شرط ألا تتعارض مع قيم وثوابت المجتمع، وتتعدّد منطلقات العمل المدني بين الأيديولوجية، السياسية، الإنسانية الاجتماعية منفردة ومجتمعة، ومن أهمّ أمثلتها الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، والأحزاب والنقابات العمالية، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية والنقابات المهنية والعمالية ومؤسسات العمل الخيري وتتنوع مجالات عمل المجتمع المدني لتشمل شرائح المجتمع العمرية النوعية كافة من الدعوة والتربية والتعليم والتدريب والتأهيل، إلى الصحة، إلى الأدب والثقافة والفن والإعلام وحقوق الإنسان والعمل الإنساني الإغاثي والمحافظة على البيئة (1) .

ج - الفريق الثالث يتحفظ على أصل الفكرة، مع القول بجواز حتى ضرورة المشاركة في مثل تلك الجمعيات، مع مراعاة عدد من الضوابط منها ألا يكون قيامها على أصل باطل أو قاعدة فاسدة، كجمعيات إزاحة الفواصل بين الأديان، أو الجمعيات التي تروج

ص: 124


1- إبراهيم رمضان ديب مرجع سابق.

للشذوذ الجنسي والفساد الأخلاقي، وألا تتبني نصا معارضًا للدين، وألا تؤدي المشاركة فيه إلى الدعم والإقرار لحكومات ظالمة تستمدّ شرعيتها من دعم تلك المؤسسات(1) .

والحقيقة أن المجتمع المدني في بداية نشأته مختلف كثيرا عن المراحل المتأخرة، وهي تلك المراحل التي جعل كلّ همه منصبًا فيها على الاهتمام بالمؤسسات التنموية والجمعيات الخيرية، إذ تحوّل الأمر من كونه أداة سياسية اقتصادية واجتماعية تقوم على مبدأ اللاديني كما هو في بداية نشأته إلى كونه أداة لمحاولة مساعدة المهمشين والفقراء والمحتاجين في أي مجال من مجالات العوز والاحتياج. ونحن نجد العديد من المنظمات الأهلية مثل الجمعيات الدينية التي تشكل الغالبية العظمى من منظمات المجتمع المدني ذات الشأن الاجتماعي، وكذلك الجمعيات الثقافية التي تقوم على خصوصية وهوية المجتمع أو هويات محلية داخل المجتمع الواحد، كالجمعيات النوبية في مصر، أو الجمعيات الأمازيغية في الجزائر مثلاً، وهذا يقودنا إلى أنّ هناك من المفكرين تأسيسا على ما سبق من يربط بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، فهناك من ينظر إلى التطابق بين المفهومين في البيئة العربية، وهذا الرأي ما نحن عليه، وهناك رأي رفض مثل هذا النوع من التطابق با عبارهما يشيران إلى مستويين مختلفين من التطور الاجتماعي، مع اعتبار أنّ المجتمع الأهلي جزء من المجتمع المدني.

ولكن الملاحظ في هذا التقسيم المجتمع المدني والمجتمع الأهلي- أنّ كلّ فريق ينظر للمجتمع المدني حسب أيديولوجيته،

ص: 125


1- انظر ماجد الزميع، الدولة المدنية، ص 200 وما بعدها.

وهذا بدوره يؤدّي إلى تقسيم العمل ذاته، حيث تبين «وجود نوع من التواؤم في التمييز بين المجتمع المدني والأهلي من جهة، وتقسيم العمل بين القوى الاجتماعية ذات التوجهات الأيديولوجية والسياسية المتباينة من جهة أخرى. إذ بينما نجد القوى الاجتماعية المحسوبة تقليديا على اليسار والمسماة اليوم القوى الديمقراطية بنزعتها الحداثية والعلمانية تستعمل بقوة مصطلح المجتمع المدني»، وتسيطر على التنظيمات والمؤسسات العاملة في مجال حقوق الإنسان (منظمات حقوق الإنسان مراكز البحث والدراسات في حقل التنمية الاجتماعية والمشاركة السياسية...). نجد في المقابل القوى الاجتماعية ذات التوجه التقليدي والديني المحافظ حاضرة بقوة في مجال الجميعات والتنظيمات الأهلية، مفضلة استعمال هذا المصطلح الذي تراه أكثر تعبيراً عن خصوصية الواقع في المجتمعات العربية. ويبدو وزن وتأثير هذه القوى بخاصة في التنظيمات الأهلية ذات الطابع المهني و بشكل أخص تنظيمات الخدمة والرعاية الاجتماعية الخدمة الصحية، التربية والتعليم، الشؤون العائلية»(1) . ومن هنا يلاحظ أن القوى التي تستخدم مصطلح المجتمع المدني تحاول أن تجعل من المجتمع المدني كيانًا مستقلاً في مواجهة الدولة، واكتساب خطوات في طريق الديمقراطية الي تسعى إليها، إلا أنّ العقبة الحقيقية التي تقف سدًا منيعًا أمام محاولاتها، ينحصر في ضعف القاعدة الجماهيرية التي ترتكز عليها، مقارنةً بنظيرتها من التيارات المحافظة، فضلاً عن هذه القوى تستند إلى مجموعة من النخب الذين ليس لهم تأثير

ص: 126


1- انظر العياشي عنصر ، ما هو المجتمع المدني ؟ مرجع سابق.

حقيقي في الشارع، وهذا يعرقل كل المساعي التي تسعى إليها في حين نجد الأمر مختلفاً مع الاتجاهات المحافظة، إذ إنّنا نجد لها حضورًا كبيرًا من الناحية الجماهيرية نتيجة الخدمات الاجتماعية التي تقدمها، غير أنّها لا تستطيع بحشودها أن تجبر الدولة على تغییر سیاستها نتيجة سلطتها الاستبدادية وأجهزتها القمعية.

ومن ثم فإنّنا نرى أنّ المجتمع المدني هو الكيان الوسيط الذي يمثل حلقة الوصل بين المجتمع العام والدولة، ومن ثم فهو يشمل كلّ المؤسسات والجمعيات التي تقوم بهذا الدور، بغض النظر عن توجهاتها أو أيديولوجيتها، شريطة أن تقدم خدمتها للمجتمع، بما في ذلك الأحزاب السياسية، والجمعيات الدينية، والروابط والمؤسسات ذات الطابع الخدمي محليًا أو إقليميًا أو دوليًا. فقد استطاع المجتمع المدني أن يناضل من أجل العديد من القضايا الدولية التي أستطاع من خلالها أن يكسب لها حشداً هائلاً من المؤيدين في العديد من دول العالم، مثل القضايا التي تتعلّق بحماية البيئة، أو بنوك الطعام أو الديون بين الدول، أو زراعة الألغام، مما يؤكّد أنّ المجتمع المدني يقوم بمهام محلية ودولية لا يمكن الاستغناء عنها .

وبناء عليه فإنه من غير المقبول بالنسبة لنا رفض المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني التي تقدم خدماتها للعديد من الطوائف؛ استنادًا إلى أنّ هذه المؤسسات لا ترتكز على بعد ديني؛ لأنّ الخدمات التي تقدّمها أغلب هذه المؤسسات لا تقوم على أساس الفصل بين المستهدفين جمعيات حقوق الإنسان مثلاً لا تفرق بين صاحب حق مسلم وصاحب حق غير مسلم، فالاثنان

ص: 127

شريكان في الحقوق والواجبات أيضًا، كما أنّ من هذه المؤسسات ما يخدم المسلمين وحدهم أو غير المسلمين وحدهم. فضلاً عن أنّ المجتمع الإسلامي لم يكن يعدم منذ وجوده مؤسسات أو جمعيات أهلية، فإنّ التاريخ يكشف لنا عن العديد من أوجه الأنشطة على الصعيد الاجتماعي والمهني والحرفي، التي كانت تصاغ في شكل كيانات أو تجمعات قريبة الشكل بالعديد من جمعيات المجتمع المدني الآن وخصوصاً الشكل النقابي، وهذه التجمعات أو الكيانات كانت تعمل على مساعدة الدولة، ولكن بشكل مستقل.

الشيء نفسه يقال على الاتجاه الحداثي الذي يرفض مطلقًا وجود جمعيات أو مؤسسات مجتمع مدني تقوم على أساس ديني، وهذا أمر غير مقبول بالنسبة لنا أيضًا، فما المانع من أن تكون هناك جمعيات تقدّم خدمات لأتباع الدين المنتمين له، فهل لنا أن ننكر أنّ الأوقاف الخيرية الإسلامية تقدّم خدمة جليلة للمسلمين من ذوي الاحتياج والفقر، وهي تقوم على أساس ديني؟ أم هل لنا أن ننكر الجمعيات الخيرية التي تقدّم خدمات جليلة على الجانب الاجتماعي؟ الأمر نفسه يقال عن الوقف الأرثوذوكسي وما يقدّمه من خدمات اجتماعية للمسيحيين، فهل لنا أن ننكر على الوقف الأرثوذوكسي لكونه يندرج ضمن مؤسسات المجتمع المدني؟ بالطبع لا، ومن ثمّ فنحن نرى الصراع في قضية المجتمع المدني صراع بين أيديولوجيتين كبيرتين هما الأصولية والعلمانية، ولو أنّنا نحيّنا هذه النظرة الأيديولوجية لأمكن لنا تقبّل بسهولة فكرة مؤسسات مجتمع مدني على أساس ديني.

نقد مبدأ الذاتية أو المصلحة الشخصية:

ص: 128

يمكن القول إنّه من الغريب أنّ هناك العديد من المفكرين الذي أسسوا المجتمع المدني على مجموعة من الأسس غير المقبولة، التي يثبت تهافتها أمام النقد، فالمجتمع المدني على يد هوبز ولوك كان يقوم على المصلحة الذاتية وفق عقد اجتماعي تضمّنه السلطة السياسية ومن ثمّ فشل المجتمع المدني عندهما في مد جسور التعاون البناء بين المجتمع العام، لأنّه تحوّل إلى مجتمع مدني يشبه السوق الكلمة العليا فيه لأصحاب المصالح التجارية العامة على حساب الربح، والتأسيس على ثقافة العرض والطلب، وإنما في الحقيقة يجب أن يقوم المجتمع المدني على قيم التكافل والأثرة والكرم وغيرها من القيم، أما أن يؤسس على قيم أخرى تنطلق من المصلحة البحتة، فإنّه سيكون ساعتها ساحة للصراع، فضلاً عن أنّه بذلك يلغي دور العاطفة والعقل، ويغلب الناحية الشهوانية القائمة على تلبية نداء الغريزة، ولن يجري تلبية هذا النداء إلا استناداً إلى المصلحة الذاتية الآنية؛ حيث إنّ هذه الذاتية أو الأنانية ستدفع الناس إلى العيش في وحدة موحشة، أو في صراع مع الآخرين على تحقيق المصالح الذاتية.

وهذا ما أكده عليه آدم فيرجسون ذاته في نقده للمجتمع المدني الذي انتهي إليه هوبز ولوك، لإيمانه بأنّ العاطفة والعقل هما رباط المجتمعات وقوتها، وإذا كان آدم فيرجسون مؤمنًا بأنّ العيش والبقاء هما ينبوع الفعل الإنساني، إلا أنّه لم يكن منجرفًا إلى هذه الفكرة كما فهمها من قبله من المهتمين بالمجتمع المدني، وإنما كان مؤمنًا أنّ هناك هدفًا أسمى للشعوب وهي بصدد تشكيل مجتمعاتهم يغلب عليه غريزة حبّ البقاء، لإيمانه بأنّ الإنسان كائن أخلاقي في المقام

ص: 129

الأول، وبناء على وضع المصلحة الذاتية في الصدارة فإنّ الإنسان وقتها في نظر آدم فيرجسون سيضع الأفراد موضع اهتمامه بقدر ما يقدمون له من مصالح، ويتصدر المشهد منطق الربح والخسارة، وسيكون الحكم في العلاقة مقاييس النفع والضرر (1).

ومن ثم فإنّه يمكن القول إنّ المبادئ التي يسير عليها المجتمع المدني عند هوبز ولوك وسميث وهيجل من بعدهما ليست قائمة على القيم الأخلاقية الثابتة أو القانون الأخلاقي العام، وإنما يقوم على قانون زائف قوامه الذاتية، ومن ثم تحول المجتمع المدني إلى سوق كبير الكلّ يسعى فيه إلى تحقيق أهدافه الشخصية ومصالح المأمولة، مستنيدين في ذلك إلى ما يسمّى بالعقل الذرائعي؛ لأنّ العقل الذرائعي يساعد الأفراد على تشخيص مصالحهم، ويدلّهم على السبيل الأفضل لتطمينها، لقد حلّت الخبرة والعادة محل المبدأ الأخلاقي، والفضيلة القبليين بوصفهما معيارين للحقيقة، ولا يتوقع من الناس اتباع القواعد الأخلاقية إلا إذا لبت حاجاتهم المباشرة، وما من شيء أوسع من المصلحة العامة يمكن أن يجمع الأفراد في أي فاعلية مشتركة، فالمجتمع المدني لا يتشكل بغير تفاعلات خارجية بين عقلانيين ساعين إلى مصالحهم الذاتية»(2). ونحن نرى أنّ مبدأ المصلحة ينسف بنيان المجتمع المدني من أساسه، ويقضي على مبادئ الحق والواجب، ويعود بنا إلى نفعية سفسطائية مقيتة، يتعدّى خطرها الأفراد إلى المجتمع عامة.

حتى إنّ مبدأ الذاتية أو الأنانية الذي آمن به هؤلاء المفكرون

ص: 130


1- Adam Ferguson, An Essay on the History of Civil Society, New Brunswick , NJ: Transaction Publishers, 1995, p 31, 32
2- جون إهر نبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 217 .

كجزء من المجتمع المدني أثبت فشله فالفرد يمكن أن يشبع مطالبه ومصالحه في وقت وجيز، بيد أنّه لن يكفّ عن المطالب والرغبات، وبالتالي فإنّ المجتمع المدني بناء على قيامه على مبدأ المصلحة يصبح غير قادر على ملاحقة تسلسل الرغبات، لما يتولّد عن هذا المبدأ من توالد مطالب ورغبات جديدة على الدوام، ومن ثمّ فبتزايد هذه الحاجات يكون هناك صنفان من الناس : صنف قادر على تلبية هذه الحاجات، وصنف آخر غير قادر، ومن ثمّ ينشأ الفقر ، لأنَّ هذا الصنف الثاني يعجز عن الوصول إلى إشباع حاجاته على الدوام، ومن ثمّ يتحوّل المجتمع المدني من كونه سيلة لتحقيق الرفاهية والرخاء والعدل للفرد إلى معوّل تتكسر عليه كل معاني المساواة التي آمن بها. ومن ثمّ يتحوّل المجتمع المدني من المصلحة إلى الصراع، صراع الحاجات وهذا يترتب عليه قدر كبير من العزلة والانفصال؛ لأنّ الصراع على الحاجات ينشأ عنه من غير شكّ حقد وكراهية، يتبعهما جفوة وانفصال بين أفراد المجتمع. وقد فطن هيجل ذاته إلى هذه القضية التي لا نرى أنه استطاع التغلّب عليها عندما أكد أنه إذا كان المستوى الحياتي لغالبية الأفراد ينحط إلى حدّ البؤس والكفاف، وإذا انعدم الشعور بالتمييز بين الحق والباطل، وإذا فقد الإنسان معنى الاستقامة واحترام ذاته، فإنّ هذا سيؤدي إلى خلق فئة من المعوزين والبؤساء ، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى زعزعة السلم الاجتماعي؛ لأنّه حينها سوف تكون الثروة في يد فئة قليلة من الناس (1).

وقد حاول هيجل التغلب على هذه الإشكالية بتأكيد دور الدولة

ص: 131


1- انظر هيجل أصول فلسفة الحق، ص 150 .

وجعلها حكماً ورقيبًا على تضارب المصالح الذي ينتج من مبدأ الأنانية أو الذاتية، فالدولة عند هيجل ليست آلية لحفظ السلام فحسب، كما أنّها ليست آلية لتنفيذ مصالح الحاكم، إنّ دور الدولة نابع من الإيمان بالمجتمع المدني ذاته فإذا كان هناك تزايد في حاجات الفرد، الأمر الذي يجعله يتخذ العديد من الوسائل والأدوات التي تكفل له إشباع حاجاته، فإنّ هيجل يرى أن ذلك باعث على عوامل ذات مصالح عامة، وعندما يشغل المرء نفسه بها فإنّ ذلك يعود بالنفع على المجتمع كله، وهذه المنفعة العامة تكون في ظلّ مراقبة سلطة الدولة، باعتبار الدولة هي قمة التطوّر الأخلاقي الإنساني، فهي لديها القدرة على دحر التناحر القائم في المجتمع المدني على تلبية المصالح، فالدولة سلطة منفصلة ومستقلة في الوقت ذاته، مهمتها الأساسية إقامة نظام العدالة بعيدًا عن نظام المصالح الذاتية الأناني.

وعلى الرغم من هذه الذاتية فإنّ الركيزة الثانية أو المبدأ الثاني تشكل لحظة الاجتماع والاتصال، بينما كانت تشكل الركيزة الأولى أو المبدأ الأول لحظة الانشطار ، ومن ثمّ فإنّ المجتمع المدني عند هيجل يقوم على الانشطار والاجتماع معًا، مما يعكس التناقض الذي يقوم عليه المجتمع المدني عنده، حيث يبدو التعارض بوضوح بين الجزئي في المبدأ الأول والكلي في المبدأ الثاني، بين الأنانية في الأول والتواصلية في الثاني بين الاستقلالية في الأول والاعتمادية في الثاني(1).

وهذا يعني أنّ تلك النظرة التي نظر بها هيجل إلى المجتمع المدني

ص: 132


1- انظر الخشت المجتمع المدني عند هيجل، ص 33.

كانت نظرة كما قلنا غير مكتملة؛ إذ يفترضه فاقدًا للأهلية، ومن ثم أعطى للدولة صلاحيات مطلقة تشل من حركته بما يجعله منزوع المشروعية والتأثير في الواقع المحيط، فكانت الدولة عند هيجل مسيطرة على المجتمع المدني إلى حد الاستبداد، فالمراقبة حتمية، والتحكم أمر لا مفرّ منه، وربما هذا ما جعل المجتمع المدني عنده يحتلّ تلك الصورة القاتمة السلبية.

وإذا كانت بعض مؤسسات المجتمع المدني تقوم في الغالب على مبدأ المصلحة أو المصلحة المتبادلة فإنّ هذا في رأيي مما يهدم أركان المجتمع المدني لا في بلد ما فحسب بل في العالم أجمع، وقد رفض كرين برينتون تأكيدًا الرفض مبدأ المصلحة أو النفعية برغم تبنيه مبدأ الاشتراكية - النظر إلى مبدأ النفعية كمقياس أو معيار أخلاقي؛ نتيجة الآثار السيئة التي تترتب عليه والتي تنحصر في تقوقع الإنسان داخل ذاته، حتّى أنّه ليصير غير اجتماعي ألبتة(1). وبناءً عليه فإن مبدأ المصلحة أو المنفعة غير ملائم لطبيعة المجتمع المدني؛ لأنه مبدأ ثبت فشله في الفكر الغربي عامة نظريًا وتطبيقيًا. ومن ثم فإنّ الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه مؤسسات المجتمع المدني هو المدني هو مبدأ الخير والحق؛ لأنّهما مبدآن ثابتان لا يتغيران بتغير الزمان والمكان، في حين مبدأ المصلحة مبدأ نسبي قابل للاتفاق والاختلاف.

نقد النزعة اللادينية:

تأسست الدعوة إلى المجتمع المدني في بداياتها على أمرين: الأول القضاء على الحكم الملكي المطلق، أي استبدال نظام حكم

ص: 133


1- تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 م، ص 231 ، 232.

الشعب لنفسه بالنظام المطلق القائم، والثاني القضاء على التسلّط الديني الكنسي، بمعنى عزل يد الكنيسة عن التدخل في الشأن السياسي أو الاقتصادي، ففيما يتعلّق بالأمر الأول، فقد كان سقوط الملكية إيذانًا بالمساواة بين جميع أبناء الشعب دون استثناء أو تمييز لفرد على آخر، ولم تكن الدولة كما كانت ملكا للملك، وصارت الإرادة الشعب، وليست إرادة الملك كما كان في السابق، فالدولة تسير حيث تريد إرادة الشعب فغدا الشعب من حينها يمثل نفسه وألغيت الحواجز بين الشعب والسلطة السياسية. أما فيما يتعلق بالأمر الثاني، فقد كانت الكنيسة تمثل دولة بموازاة الدولة أو دولة من داخل الدولة، ولذا بنت الأفكار الجديدة في الغرب في ذلك الوقت المجتمع المدني على أساس عزل الكنيسة أو الدين المسيحي عن التأثير في مجريات الحياة، وكان من مظاهر ذلك العزل القضاء على الامتيازات الإقطاعية التي كانت تنعم بها الكنيسة ورجالها، ومن ثم فقدت ممتلكاتها ومجالسها ومؤسساتها المالية ومؤسساتها التعليمية والخيرية وغيرها وتحوّلت ملكية هذه كلّها إلى الشعب وصارت الكنيسة تقف عند حدود كونها مؤسسة روحية لا أكثر. حتى إذا جاءت الثورة الفرنسية وقد أكملت القضاء على النظام الديني الكنسي، وصارت في طريق ما سمّي بالإصلاح الديني، وجعلت الإنسان سيد قراره في شؤون حياته الدينية والدينوية.

وفي هذا الشأن كان الصراع الفكري بين أصحاب التفكير الديني الكنسي وأصحاب التفكير العقلاني الأوروبي، الذي كان السمة الغالبة في أوروبا في فترات كثيرة أدّى في نهاية المطاف إلى عزل الكنيسة عند الدولة، وهنا بدأ عهد اللاديني الأوروربي، حيث

ص: 134

اتخذت هذه القضية كركيزة أساسية للحضارة الأوروبية، وقد ظهر هذا الفصل أول ما ظهر على يد توماس هوبز في كتابه التنين، ومن ثمّ فقد أدت الثورة على الحكم الكنسي إلى ظهور ثنائية: اللاهوتي الديني والدنيوي المدني، وهذا أدّى بدوره إلى ظهور بعض التقسيمات مثل: المجتمع الديني والمجتمع المدني الزواج الديني والزواج المدني، المؤسسات المدنية والمؤسسات الدينية.

ولكن ولئن كان الفكر الكنسي الأوروبي يقوم على أسس غير مقبولة، كالإدعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة، وفرض الرؤى الشخصية على أنّها أحكام سماوية واجبة النفاذ، فإنّ هذا لم يكن من المقبول مطلقًا، وإذا كان هذا تطرفاً في الفكر من قبل الكنيسة فقد واجهه تطرف من نوع آخر، فجاء مفكرو عصر التنوير الأوروبي فرفضوا وجود سلطة خارجية تضع طريقًا يعالج واقع الحياة أو تبين المبادئ الأخلاقية أو تضع قواعد السلوك؛ لكي توجه إلى أتباعها، وهذا مظهر من مظاهر اللادينية في الفكر الغربي قام على أساسها المجتمع المدني في أوروبا. ومن هنا كان الفكرة السائدة عن المجتمع المدني، فهو يفصل فصلاً تاما بين الدين وواقع الحياة، ولا يسمح بوجود دور له، حتى على المستوى السلوكي والأخلاقي، ومن ثمّ فإنّ التراث الغربي - بناء على أحد الباحثين - يشكّل المرجعية الفكرية التي يُؤسّس عليها المجتمع المدني، وليس في وسع أي مفكر مهما أوتي من رؤى أن يضع تفسيرا للمفهوم خارج إطار الرؤية الغربية التي وضعها هيجل وماركس وجرامشي (1).

ص: 135


1- انظر توفيق المديني، المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، 1997م، ص 105.

إن اللادينية هي الأساس الأول في بنيان المجتمع المدني، والمتأمل في مراحل تطوّر المجتمع المدني يجد أنّ المجتمع المدني يرتبط ارتباطًا قويًا بالدولة اللادينية وهذا ما أكده جاد الكريم الجباعي عندما ذهب إلى أنّ المجتمع المدني واللاديني وجهان لعملة واحدة، أو مدخلان نظریان و واقعان تاریخيان، يفضي كلّ منهما إلى الآخر بالضرورة(1) . وهذا الأمر نجد أنّه لا يتفق مع الدين الإسلامي الذي وضع مجموعة من الأسس التي تتعلّق بالحرام والحلال ورسم طريقًا للمسلم يستطيع من خلاله أن يتعامل مع واقع الحياة. فإذا كان المقصود من الربط بين المجتمع المدني واللاديني تأكيد الحرية واحترام كلّ الأديان ونشر ثقافة التسامح والتعايش، فإنّ هذه المبادئ لا يغفلها الإسلام، بل يؤكدها، ويجعلها هدفًا من أجلّ أهدافه، ومن هنا يسقط الأساس الذي بنى عليه المجتمع المدني وهو الأساس اللاديني.

فإذا كان المجتمع المدني يحمل معنى محايدًا يقف من الأديان والمعتقدات موقفًا واحدًا لا يفرق فيه بين دين وآخر أو معتقد وآخر؛ إيمانا بأنه من حق الجميع تبني ما يعتقدونه من أفكار وعقائد، فإنّ الإسلام كدين لا يمنع من تحقيق أي من هذه المعاني والأفكار، ووثيقة المدينة خير مثال على ذلك، ومن هنا أيضًا فإنّ إبعاد الدين الإسلامي بقيمه الروحية عن مجال المجتمع المدني بدعوى أنّه يحارب حرية المعتقد التي قام عليها المجتمع المدني أمر تثبت النصوص الدينية قرآنًا وسنة خلافه.

ص: 136


1- انظر جاد الكريم الجباعي الأسس الليبرالية للمجتمع المدني، الحوار المتمدن، العدد 113، منشور بتاريخ 18 / 2 / 2005م، ص 1.

والحقيقة أنّ المبدأ اللاديني يقدم نفسه من خلال توجهين : الأول، الذي ينادي صراحة بتبنّي اللادينية وإقصاء الدين عن واقع حياة الناس وسلوكهم وأفعالهم الثاني، وهو التوجه المقنّع الذي يتبنى اللادينية من خلال بعض المفاهيم، ومنها المجتمع المدني(1).

وتبقى هناك جزئية مهمة ونحن بصدد الحديث عن المجتمع المدني، وهي الحيادية، فمما لا شكّ فيه أنّه إذا كان المقصود بالحيادية النظر إلى الجميع من حيث الحقوق والواجبات نظرة متساوية سواء أكانوا مختلفين في العقيدة أم الجنس أم العرق أم اللون، فهذا أمر لا جدال فيه إلا أنّ هذه الحيادية قد تستغل في أمور غير مقبولة شكلاً ومضموناً من ناحية الدين أو العرف، فتبيح دولة المجتمع المدني الإجهاض واللواط والزنا، وليس في استطاعة القانون المدني أو المجتمع المدني أن يسن قانونا لمحاربة هذه الأفعال؛ تحقيقًا لمبدأ الحيادية الذي يرتئيه وهذا مرفوض تمامًا في دائرة الفكر الإسلامي.

كما يظهر البعد اللاديني في المجتمع المدني عند البعض في التعريف الذي يقوم على حصره في إطار المنظمات غير الإرثية وغير الحكومية التتي تنشأ لخدمة المصالح، أو المبادئ المشتركة لأعضائها، بحيث تلغي الروابط الدينية أو العائلية (2)، لأنّ مثل هذا التعريف يقود إلى استثناء مؤسسات دينية لها دورها في العمل

ص: 137


1- انظر د. محمد يحيى أقنعة العلمانية قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة، مجلة البيان، 2008/6/2 م .
2- انظر في ذلك سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، الكويت، دار سعاد الصباح، 1991م، ص 242 .

الاجتماعي والإنساني، وهي الأوقاف كذلك يقود إلى استثناء الجمعيات الخيرية الدينية التي تقوم بدور رائد في محاربة الفقر والغلاء للفقراء والمحتاجين.

نقد علاقة المجتمع المدني بالدولة:

يمكن القول إنّ المجتمع المدني عبر تاريخ كان تابعًا للدولة وليس العكس إلا في بعض الأفكار التي راجت بعض الوقت على يد بعض الأقلام، بل ربما استخدم في بعض الدول وبعض الأوقات كمحلّل للعملية السياسية، أو التظاهر بالديمقراطية، وفي هذا الصدد ذهب عزمي بشارة إلى أن المجتمع المدني لعب خارج أوروبا دورًا مشبوها، حيث يشبّه بدور القابلة المتسترة على عملية إجهاض سياسية، عملية لا تسييس، أو دور العميل المزدوج الذي يعادي السياسة باسم الديمقراطية، ثم يدير ظهره لها، بذريعة كونها معركة سياسية، ومن ثم فالمجتمع المدني عنده دون سياسة، وخارج عن سياق المعركة من أجل الديمقراطية هو عملية إجهاض . ومن ثم فقد شبه الوضع بأنه صراع ثقافي عالمي كالصراع الاقتصادي العالمي، ومن ثمّ وجدناه يقول: «وكما توجد حروب على الوكالات الأجنبية في الاقتصاد، كذلك يوجد تنافس بين النخب الثقافية على وكالات الأفكار، بخاصة أن مؤسسات المجتمع المدني التي يجرى الحديث عنها غالبًا ما يكون تمويلها بأموال المساعدات الغربية»(1).

ويرى جون كين أنّ تصوّر الفكر الغربي للعلاقة بين الدولة والمجتمع

ص: 138


1- انظر ،عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 2008م، ص 17 .

أنتج خمس صيغ لطبيعة المجتمع المدني وعلاقته بالدولة(1).

الأولى، كما يمثلها هوبز وآخرون ترى أن مهمة الدولة هي الانقلاب على مجتمع الطبيعة غير الآمن، وإحلال المجتمع المدني مكانه، وهو مجتمع يتماهى مع الدولة وتكون هي الأساس فيه. إن هوبز - كما يرى جون إهرنبرغ - قد فشل في فهم مسألة أنّ الذات لم يعد بحاجة إلى سلطة صاحب السيادة، أو السياسة الآمرة، حيث إنّ الحفاظ على الذات يمكن أن يندمج مع حماية الملكية، ومن ثمّ فلم تدرك نظريته السياسية المحضة أنّ القوى الاقتصادية يمكن أن تنظم المجتمع المدني، شريطة أن يعمل في جو من الحرية وتوافر شروطها، وفي ظلّ دولة ذات سيادة محدودة(2).

الثانية، ويمثلها لوك وكانط والاتجاه الاسكتلندي، ويرى المجتمع المدني حالة طبيعية، وأنّ مهمّة الدولة ليست الانقلاب عليه، وإنما المحافظة عليه ورعايته وتطويره. إلا أنّه ممّا يؤخذ على جون لوك أنّه جعل سلطة الدولة سلطة لا محدودة، وهذه السلطة سوف تقضي أول ما تقضي على الأمن الذي هي في الأصل منوطة بتحقيقه، وهذا بدوره يجعل من المجتمع المدني أداة مغلولة، ويصبح وجوده بدوره أمرًا مستحيلاً.

الثالثة، تؤكّد أنّ الدولة شرٌّ لا بدّ منه ويجب مقاومتها والحدّ من سلطانها إلى الحد الأدنى.

الرابعة المنظور الهيجلي الذي يرى الدولة مكملة للمجتمع

ص: 139


1- انظر محمد مرسي، بين الدولة والمجتمع المدني، مقال منشور بموقع إضاءات في 17 يناير 2017م.
2- انظر جون ،إهر نبرغ المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 170 ،171.

المدني، ولكنّها عابرة له وقوّامة عليه، وشرط لإعطائه البعد الأخلاقي والعمومي .

وخامسًا ،وأخيرا ، المفهوم الذي يرى أهمية استقلالية المجتمع المدني عن الدولة، وأهميته ليس لكفّ غلوائها والحدّ من سلطانها وحسب، بل للحدّ من هيمنة الأغلبية الشعبية ضد الأفراد والأقليات أيضاً. وهذا المنظور يمثله كلّ من توكفيل وجون ستيوارت ميل.

إلا أننا ننهي هذه المراحل بإيجابياتها وسلبياتها إلى أنَّ العلاقة بيت الدولة والمجتمع المدني من الواجب أن تكون علاقة وثيقة لا تنفصم عراها بأي حال، لأنّهما شريكان في الهدف وهو الارتقاء بالوطن والمواطن، فالدولة تعدّ الحصن الحصين للمجتمع المدني إذا ما أدركت دوره وآمنت به فتضع له القوانين واللوائح التي تنظم له سیر العمل أولاً، وتساعده بالتوجيه والإرشاد والمساندة ثانيًا، مع وضع نظام لمراقبته ولمتابعته ثالثًا. أما المجتمع المدني فهو يقوم بدور المساعد للدولة في حلّ العديد من الإشكاليات التي تعجز هي عن حلّها، أو يكشف عن مواطن خلل في المجتمع لم تكن الدولة على دراية به وتحاول تقديم نوعية المساعدة التي تتوافق معها، وذلك خدمة للمواطنين.

قد يرى البعض أنَّ هناك علاقة تضادّ أو تنافر بين الدولة والمجتمع المدني، باعتبار أنّ الأولى تستند إلى الإكراه والإجبار، في حين أنّ الثاني يستند إلى الحرية كأساس باعتباره يقوم على التطوّع الإراديّ الحرّ، بيد أنّه يجب أن ينظر إلى نقاط الالتقاء التي تجمع بين الاثنين، والتي نستطيع استغلالها من أجل مصلحة المجموع. فالمتأمّل في طبيعة العلاقة بينهما يجدها متداخلة ومعقدة ومتشابكة بحيث

ص: 140

يجد أنه ليس من السهل الفصل بينهما، فالدولة كيان أعلى يحمى المجتمع المدني والمجتمع المدني مكمل لدور الدولة داخل المجتمع، ومن ثمّ كان عليه أن تسانده وتثمن دوره، وكان عليه أن يكون العين التي ترى بها الدولة سلبياتها.

وقد اتخذ بعض المفكرين المهتمين بالمجتمع المدني على مرّ تاريخه مواقف متباينة من حيث علاقة المجتمع المدني بالدولة، بيد أنّ أقسى المواقف هي تلك التي اتخذت النهج الشمولي الجذريّ، وهي ذلك النهج الذي تتخذ فيه الدولة صورة المسيطر والمهيمن والمستبد، وفي مثل هذا النوع من النظام السياسي السلطوي لا يكون للمجتمع المدني دوراً في إصلاح المجتمع ولا الارتقاء به.

نقد استغلال القوى الإمبريالية للمصطلح:

ولعلّ المتأمل في الواقع العالمي بما ينطوي عليه من إزدواجية في المعايير ليدرك بسهولة كيف استغلت منظمات المجتمع المدني الدولية الأمر في صالح القوى الإمبريالية العالمية، ففي الوقت الذي كان يجب فيه على هذه المنظمات استغلال تلك الفرصة لإقامة جسور من التلاقي الإنساني والتخطيط الجيد عالميًا، والعمل بتوجّه إنساني صرف يستوعب كلّ البلدان وكلّ الاختلافات وكلّ التوجهات العالمية، وذلك لبناء مجتمع مدني إنساني يخدم الإنسانية في المجالات كافة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وغيرها، نجد أنَّ الأمر يستخدم لمصلحة القوى العالمية الكبرى والتنكيل بكلّ ما سواها رغبة في تحقيق مصالحها وأطماعها، ومن ثم صارت هذه المنظمات

ص: 141

مجرد منظمات شاخ بنيانها ونيل من سمعتها، وفقدت مكانتها التي كان من الواجب أن تحوزها، وتكسب بها ثقة العالم.

وإذا كان المجتمع المدني له تأثيره القوي حينًا والخافت حينًا آخر منذ بدء ظهوره في القرن السابع عشر إلى وقتنا هذا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وإذا كان قد بدأ ليبراليا على يد كلّ من هيوم وآدم سميث، وانتقل على يد جرامشي إلى نوع من التطور القائم على العمل المبني على مؤسساته خدمية، منتهيًا بهابرماس الذي أتي بفكرة المجال العمومي التي تمثل لقاءً من نوع ما بين الليبرالية والماركسية، فإنّ الأمر تحول في نهاية المطاف إلى أن أصبح المجتمع المدني أداة لضرب الدول بعضها بعضا، فلا يخفى ما صنعته بعض دول أوروبا الغربية تجاه الشيوعية، فقد موّلت وحرّضت المجتمع المدني للإيقاع بالدول الشيوعية والقضاء عليها في أوروبا الشرقية، باعتباره الكيان الذي يفصل بين المجتمع والدولة، والبديل القائم على حراك اجتماعي.

ولا شكّ في أنّ النظام العولمي العالمي قد استغلّ المجتمع المدني أسوأ استغلال، فالعولمة الرأسمالية أثرت وستؤثر في حياة الشعوب بصورة فجة، حيث قامت بدمج اقتصاد دول العالم في الاقتصاد الرأسمالي العالمي الذي تقوده وتسيره لمصلحتها دول العالم المتقدّم، تحت مزاعم اقتصاد عالمي واحد تكون فيه مصلحة هذه الدول الراعية لها الأولوية القصوى، وذلك من خلال وضع آليات للسوق تضع من خلالها قيودًا على الدول الأخرى تمكنها من انتقال استثماراتها ورأس المال، فضلاً عن كلّ ما يتعلّق بالسلع والمستلزمات الخدمية دون أدنى قيد أو شرط، تطبيقا لمبادئ

ص: 142

الليبرالية الجديدة، وهي المبادئ التي تعدّ المهيمنة والمسيطرة على التوجهات العالمية، ويوكل إليها إعادة تشكيل وهيكلة العالم والحق أنّ الخاسر الوحيد في ذلك هم الدول النامية والفقيرة وخصوصاً دول العالم الثالث التي نصنف نحن العرب على أننا منهم، فقد كثرت المشاكل في هذه الدول نتيجة تلك السياسات المؤدلجة عالميًا من قوى بعينها، يكفي أن نعلم أنّ تلك القوى هي التي تتحكّم في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بما وضعاه من شروط قاسية تزيد الدول الفقيرة افتقاراً والدول الغنية غنى تحت ما يسمّى بالتكيف الهيكلي. غير أنّ هذه القوى لما رأت افتضاح أمرها، راحت تخفّف من حدة الأمر، ولتخفيف حدة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي حرصت قوى العولمة على توظيف المجتمع المدني ليكون بديلاً للدولة الوطنية التي تنسحب من أدوارها التقليدية ومسئولياتها في دعم الفئات الفقيرة وتوزيع الدخل لمصلحة الطبقات العاملة والكادحة والفئات الضعيفة، وتهدف قوى العولمة من دعمها للمجتمع المدني أن يقوم بدور البديل للدولة في مجال دعم الفئات الفقيرة وتستخدم كملطف لحدة المشاكل الناجمة عن تطبيق سياسات التكيف الهيكلي مثل الفقر والبطالة والتهميش فيكون إطاراً يعبّئ شرائح وقوى اجتماعية تتحمل عبء مواجهة هذه المشاكل وسيكون ذلك بالقطع على حساب دوره في دعم التطور الديمقراطي للبلاد»(1).

ومن ثم فإنّ الإمبريالية اتخذت من بعض منظمات المجتمع المدني محليًا ودوليًا أداة لتنفيذ أجندتها الخاصة، فمما لا شكّ

ص: 143


1- انظر عبد الغفار ،شكر مفهوم المجتمع المدني، نشأة وتطور المجتمع المدني، مكوناته وإطاره التنظيمي ،

فيه أنّ البنك الدولي اتخذ من بعض هذه المنظمات وسيلة لجلب العديد والعديد من أسرار الدول وأخبارها المستورة ، ولتربية كوادر مجتمعية بديلة تبرر له ما يفعله بدولهم الفقيرة، أو للإبقاء على الوضع الاقتصادي والسياسي هادئا تحقيقا لأهدافهم الاستعلائية وهذا يفسر لماذا تنفق الأموال الغربية ببذخ على ممثلي هذه المنظمات بخاصة المنظمات الدولية غير الحكومية، التي لا تضع أموالها في مشاريع بالدول الفقيرة بناء على احتياجات هذه الدول، ولكن حسب أجندتها وسياستها الخارجية وهذا بالتالي جعل مؤسسات المجتمع المدني -الداخلية داخل الوطن - أسيرة الأموال الأجنبية أو المساعدات التي تقدّمها، فبريق المال يجعل هذه المؤسسات راضخة في ذلة لها، ويتمثل هذا الرضوخ بصورة سافرة في تشبع هذه المنظمات الداخلية بقيم ومقاييس نظيرتها الدولية، وإلا فانقطاع الأموال هو السبيل.

ويمكن القول إنّ الإمبريالية وإن كان يقصد بها الدول الكبرى، فإنّها تتمثل في أمريكا خاصة، حيث صارت الإمبريالية تعني الاحتلال والسيطرة والهيمنة على العالم ومقدراته، حتى صار ما يمكن أن نسمّيه النزاع بين الإمبريالات على نهب خيرات العالم. لقد كانت النزعة القومية هو المعين الذي تولّدت عنه الإمبريالية التي كانت لديها الرغبة الجامحة نحو السيطرة والتحكم، فتحوّل المفهوم من كونه مفهومًا اقتصاديًا طبقيًا إلى مفهوم سياسي بامتياز. حتى على المستوى الاقتصادي فقد صار الأمر غاية في الخطورة، فقد صار بين الدول ليس فيه أدنى تكافؤ في إطار اتفاقيات السوق المفتوح على مصراعيه، الذي كان المدخل لإحكام سيطرة القوى

ص: 144

الإمبريالية على العالم، حيث أرادت وحققت ما سعت إليه مجتمعًا كبيرًا عبر اقتصاد السوق الحرّ في ظلّ عالم تسوده العولمة.

ومن ثم فإن «هذا الأمر يفرض السؤال عن ماهية الإمبريالية؟ حيث إنّ الشعور التحرري أسّس لفهم سياسي».......؛ لتساوي الاستعمار، أو الميل للسيطرة .

والملاحظ أنّ الرأسمال الإمبريالي يرتكز في أيدي قلة من الرأسماليين بحيث يكونون ما يشبه اللوبي الذي يستقطب العديد من الرأسماليين الصغار، بحيث يستطيعون التحكم في مقدّرات البلدان، وهذا يشي بأنّ الإمبريالية العالمية تشكل كيانًا عالميًا من الرأسماليين في العديد من الدول والقارات بهدف اقتسام العالم وإحكام السيطرة عليه، ومن ثمّ فإنّ السمة الرئيسة في الإمبريالية السياسية التي تستخدم المجتمع المدني كأحد أدواتها هي العمل على ازدياد حدة الصراع، والعمل الدائب على اضطهاد الوطني والقومي بتبنّي الظلم الذي منشأه ارتكاز المال في يد في يد القلّة، القلّة، ومع فقدان روح المنافسة الحرّة في سوق العمل، حتى مع وجود معارضة ما فإنّ قوة الإمبريالية بما تشمله من منظمات غير حكومية قادرة على دحرها تحت قوة احتلالية فعلى سبيل المثال إذا كانت الرؤية الأساسية للإمبريالية تقوم على أساس أنّ التجارة مع بلدان العالم والعالم الثالث منه على الخصوص لا تنمو بصورة أسرع إلا في ظلّ احتلال عسكري فالصادرات والواردات تنمو في ظلّ علاقة استعمارية وفق الفهم الإمبريالي، في حين أنّ النظرة القيمية الأخلاقية تفترض أنّ التجارة يمكن الوصول إلى أعلى معدلاتها في الإطار السلمي، وليس عن طريق القهر الإمبريالي الذي يقوم على

ص: 145

الاحتكار وظلامية رأس المال واحتلال الدول لامتلاك المستعمرات التي تدرّ المال.

ومن ثمّ فإنّ الفخّ الذي نصبته القوى الإمبريالية هو فخ النظام السياسي المعقد الذي ابتدعته الإمبريالية لمحاولة تحقيق هيمنتها على الشعوب التي تستضعفها كافة. وعليه فإنه حسب رأي أحد الباحثين بالتمعن الجيد سرعان ما يتبين أنّ الخيار التاعس الذي تريد قوى الامبريالية أن تحصرنا فيه هو خيار بين أمرين أحلاهما مر عند النهاية (1):

أولهما هو خيار التبعية المطلقة للإمبريالية التي ترهقنا عندئذ اقتصاديا وثقافيا وحضاريا بدعوى إصلاح هياكلنا في المجالات كافة مقابل مدنا بالفتات من كلّ شيء يتساقط على موائدها بما في ذلك فتات الحريات الديمقراطية، وهذا الأخير لا نحصل عليه فعليا عند النهاية حتى بعد أن نهم بالتقاطه، ذلك أنّ الديمقراطية في غياب التوجّه الوطني لا يمكن أن تكون مهما وقع التبجح بها إلا موهومة. فالطغم الكومبرادورية الحاكمة المكرسة للهيمنة الإمبريالية هي رهينة قوانين موضوعية تجعلها مستبدة بالضرورة فتقسيم العمل عالميا، والمراجعات الهيكلية المفروضة وما ينتج من ذلك من نشاط طفيلي بل مافيوزي للنخب الحاكمة بالبلدان المستضعفة هي كلّها عناصر تجعل ترسّب الثقافة الاقطاعية بمثابة العامل المساهم الذي من شأنه أن يزيد حدة الاستبداد الناجم في الحقيقة عن تناقض

ص: 146


1- انظر محمد صالح التومي، الإمبريالية والنخب الحاكمة والمجتمع المدني أو مثلث الهيمنة في مناخ العولمة مقال منشور بموقع مجلة الشعب بتاريخ 9 / 10 / 2010م.

سياسة الولاء للإمبريالية مع مصالح الشعوب.

أما ثاني هذين الخيارين فهو مقاومة تلك التبعية مهما كانت درجة المقاومة ودفع الثمن مناورات تتسلّط علينا ومقاطعة وحصاراً وعدواناً ما قد يحفّز المشاعر الوطنية لكنّه كثيراً ما يدفع حكّامنا بدعوى إحكام المواجهة مع العدوّ إلى إلغاء الديمقراطية من الخيارات المطروحة على شعوبنا والحال أن إيجاد الأشكال المناسبة لإشراك الجماهير في تسيير أمورها من شأنه أن يزيد دعم اللحمة الوطنية. إن "ما يجب أن نفهمه أيضاً هنا هو أنّ الإمبريالية قد تضطرّ حتى في صفوف أتباعها إلى التعامل مع الحالات النفسية المستعصية بشيء من الحدّة، إذ من المعروف أنّ خدمة مصالح الإمبريالية لا يمكن أن تتم ولأسباب موضوعية دون هذه الدرجة أو الأخرى من قمع الشعوب من قبل النخب الحاكمة وتدرك الإمبريالية هذه الحقيقة بدليل رعايتها لفرق النظام العام تجهيزاً وتعهداً وتدريباً ومساندتها عند الضرورة للأنظمة الدموية، وهي مساندة تصل الى حد مشاركتها في جرائمها إلى نهاية المطاف عند اللزوم أو ما يكفي من الوقت لإعداد بدائل جديدة تسهر على مصالحها (1). وهذا يفسر لنا شيئًا من الأهمية بمكان، وهو أنّ النظم السياسية الحاكمة في هذه البلاد المقهورة إنما تستمد سلطانها وتسلّطها من القوى الإمبريالية الكبرى، ومن ثم فإنّ هذه القوى لا تتخلى عن تلك النظم بسهولة ما دامت تحكمها مسألتي المال والسلطة، وذلك بتسخير

ص: 147


1- انظر محمد صالح التومي، الإمبريالية والنخب الحاكمة والمجتمع المدني أو مثلث الهيمنة في مناخ العولمة مقال منشور بموقع مجلة الشعب بتاريخ 9 / 10 / 2010م.

منظمات المجتمع المدني الموالية لها في هذه الدول للإبقاء على السلطة المرادة أطول فترة ممكنة بل التحريض ضدّ المعارضين واتهامهم بالعمالة والخيانة لإبعادهم عن ساحة السلطة السياسية، غير أنّ هذه القوى ما إن آنست وجود تنافس حقيقي على السلطة في هذه البلدان حتى نجدها تستخدم المنظمات نفسها، لتتشدّق بالديمقراطية وضرورة تداول السلطة وهي في ذلك تخفض رأسها أمام شدّة التيار ، ولكنها تتدخل لتحدث التغيير الذي تريده بما يخدم مصالحها هي، فتطرح البديل الآمن حاملاً شعار حقوق الإنسان والحرية وربما الاستقلالية عن الدول الغربية زيادة في الإيهام والتمويه على الشعوب، وهذا البديل يحمي هذه القوى من ظهور مفاجئ لقوى معارضة تؤمن باستقلالية هذه الشعوب وحقها في الرفاهية البعيدة عن التبعية، فتكون خنجراً موجها نحو مصالح قوى الإمبريالية العالمية.

ومن ثم فإن القوى الإمبريالية تجد في المجتمع المدني الداخلي أي داخل الدول المهضومة أداة قوية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، فهي لا تكتفي بممثلي السلطة الحاكمة، وإنما تستخدم المجتمع المدني كمعارض تستخدمه كعصا تخويف تخوّف بها هؤلاء الممثّلين للسلطة، فتضمن من جانب ولاءهم لها، ومن جانب آخر تظهر أمام الشعب أنّها تقف مع المجتمع المدني المدافع عن الحرية وتداول السلطة بالانتخاب الحرّ، في حين أنّها تقوم بعملية ترويض للجانبين.

«ولعلّه من الواجب عند هذا الحدّ لفت الانتباه الى آخر آلية ابتدعتها الإمبريالية في هذا الاتجاه فمحاسبة أوغستنو بينوتشيه

ص: 148

دكتاتور الشيلي الدموي الذي أنجز سنة 1973 انقلاباً عسكرياً على حكومة الدكتور« سلفا دور ألندي » الاشتراكية تنفيذا آنذاك لرغبة شركة «آي. تي. تي »الأمريكية المهتمة بالنحاس الشيلي، قد تبدو بالنسبة لما يسمّى بالمجتمع المدني كاستجابة لمطالبه ولكنّها محاسبة تجري في الحقيقة في الحدود التي تمكن من رفع درجة الائتمار بالأوامر والانضباط مستقبلاً لدى النخب الحاكمة الموالية للإمبريالية في هذا البلد أو الآخر. إنّ المجتمع المدني يقع إذن تحت المغازلة المكثفة للقوى الإمبريالية وهي مغازلة مبنية على المغالطة أحيانا وعلى الالتقاء الفعلي للمصالح أحيانا أخرى إذ لا شك في أنّ مصلحة الإمبريالية تقتضى الاعتماد رئيسياً على النخب الحاكمة واحتياطياً وحسب على النخب البديلة عملاً بالمقولة القائلة: إنّ عصفوراً واحداً في القفص خير من عشرة فوق الشجرة، ولكن الحكمة تقتضي عندئذ بأن يبقى الفخ منصوباً لاصطياد عصفور بديل يحلّ محلّ الموجود في القفص تحسباً لاختناق هذا الأخير أو لتعفنه في مكانه لهذا السبب أو الآخر (1).

ومن ثم فإنّ خطورة الإمبريالية بتأثيرها الشديد في المجتمع المدني تعدّ أكبر أسباب النقد التي توجّه للمجتمع المدني بمؤسساته ومنظماته الدولية والمحلّية.

ص: 149


1- انظر محمد صالح التّومي، الإمبريالية والنخب الحاكمة والمجتمع المدني أو مثلث الهيمنة في مناخ العولمة مقال منشور بموقع مجلة الشعب بتاريخ 9 / 10 / 2010م.

الخاتمة

وعلى ذلك فإنّ المجتمع المدني يختلف عن الأسرة والمجتمع العام، فهو الحلقة الواصلة بين المجتمع العام من جهة والدولة ممثلة في السلطة من جانب آخر، يقوم على الإرادة الحرة التطوعية وعلى المصالح المستنيرة الواعية كما أنّه ليس صنيعة الدولة أو السلطة، وإن كان يعمل تحت رقابتها، والمجتمع المدني يتكوّن من مؤسسات عدّة كالنقابات بأنواعها ، والجمعيات الخيرية، والأحزاب السياسية، وغيرها من المؤسسات التي عرضنا لها بالشرح.

وقد مرّ المجتمع المدني بالعديد من المراحل التاريخية التي صاحبت حركة الحداثة الغربية، وكذلك حركة إرساء مفهوم المواطنة، ومن ثم فقد كثر المنظرون للمصطلح في الفكر الغربي فرأينا جون لوك وآدم فيرجسون وتوماس بين وهيجل وأنطونيو جرامشي وغيرهم، إلا أننا لا نعدم المجتمع المدني على مستوى التجربة في البيئة الإسلامية والعربية فقد ظهرت لنا العديد من التجارب التي تدلّ على تطبيق للمجتمع المدني في بعض الأمور كالوقف الإسلامي والأخويات وغيرهما.

والملاحظ في المجتمع المدني أنّه يقوم على مجموعة من الأركان الأساسية التي لا يقوم إلا بها كالإرادة التطوعية الحرة، والمصالح الواعية المستنيرة، كما يقوم على مجموعة من المبادئ التي يعدّ تطبيقها تطبيقًا للمجتمع المدني كالمساواة وحقوق الإنسان والتعددية الدينية والمذهبية وغيرها، ما يعني أنّ المجتمع المدني

ص: 150

بالأساس يهتم بالإنسان ويجعله محور اهتمامه، فما جهود المجتمع المدني على تشبعها إلا منصبة على خدمة الإنسان. والمتأمل في مؤسسات المجتمع المدني التي عرضنا لها يتأكد له ذلك، فهناك منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية الأهلية وغيرها .

وهنا تكمن قيمة المجتمع المدني ودوره في الحراك التنموي، فالتنمية ليست على مستوى الإمكانات المادية فحسب، بل على مستوى الكوادر البشرية، وذلك هو الأهمّ.

بيد أنّ المجتمع المدني ليس واجهة إيجابية وحسب، بل إنّنا نرى في العديد من أوجه النقد والقصور التي شابت دوره وأثرت فيه وفي دوره المنوط به بتبنيه بعض الأفكار التي تتهافت أمام النقد العقلي السليم، أو أمام منظومة الفكر الإسلامي، وهذا ما حاولنا تأكيده في المبحث الأخير.

ص: 151

المصادر والمراجع

المراجع العربية:

.د. إبراهيم البيومي غانم نحو تفعيل دور نظام الوقف في توثيق علاقة المجتمع بالدولة، بحث منشور في مجلة المستقبل العربي، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، العدد 266 فبراير 2001م.

ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار تحقيق د. على المنتصر الكتاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1405ه، ط الرابعة، ج 1.

ابن عابدين حاشية ابن عابدين، ط دار إحياء التراث العربي، ج 3.

ابن قدامة، المغني، القاهرة، ط مكتبة الكليات الأزهرية، بدون ج .5.

ابن منظور، لسان العرب، ط القاهرة بدون تاریخ، ج 1، ص 133.

ابن منظور، لسان العرب، بيروت، ط دار صادر، الأولى، 2000م، مادة وقف،

ابن هشام، السيرة النبوية، مصر، ط دار المنار، 1994م، المجلد الأول.

أجوسا واى أوساجاى التكيف الهيكلي والمجتمع المدني والتماسك الوطني في أفريقيا، مجلة أفريقية عربية، مركز البحوث العربية بالقاهرة المجلد الثالث.

.د. أحمد إبراهيم ،ملاوي، أهمية منظمات المجتمع المدني في التنمية، بحث منشور في مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، المجلد 28، العدد

ص: 152

(2) ، 2008 .

د. أحمد ،ثابت الديمقراطية المصرية على مشارف القرن القادم، كتاب المحروسة، مركز المحروسة للبحوث والتدريب والنشر القاهرة، الطبعة الأولى، يناير -1999.

د. إمام عبد الفتاح مسيرة الديمقراطية القاهرة، دار الحكمة 2000م ، الطبعة الثانية.

أماني قنديل، المجتمع المدني في مصر في مطلع ألفية جديدة، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام 2000م .

أنتوني جيدنز، الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية، ترجمة د. أحمد زايد، و د. محمد محيي الدين القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1999م.

توكفيل، الديمقراطية في أمريكا، ترجمة أمين مرسي قنديل القاهرة، ط عالم الكتب، ج 2.

توماس بين المنطق السليم، ترجمة محمد إبراهيم الجندي، القاهرة، طبعة كلمات عربية للترجمة والنشر، الطبعة الأول، 2012م.

توماس هوبز، اللفياثان الأصول الطبيعية والسياسية لسياسة الدولة، ترجمة ديانا حرب بشرى صعب ط هيئى أبو ظبي للثقافة والتارث (كلمة) ودار الفارابي، الأولى، 2011م.

جان بيار لوفيفر وبيار ماشيري هيجل والمجتمع، ترجمة منصور القاضي بيروت، الأولى، 1993م.

جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية، ترجمة

ص: 153

عادل زعيتر، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، الثانية، 1995م.

جون لوك ، الحكومة المدنية، ترجمة محمود شوقي الكيال، القاهرة، المؤسسة القومية للطباعة والنشر ، ط مطابع شركة الإعلانات الشرقية.

جون لوك في الحكم المدني، نقله للعربية د. ماجد فخري، بيروت، طبعة اللجنة الدولية لترجمة الروائع، 1959م.

جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، سلسلة دراسات التنمية البشرية العدد 6 بيروت، لبنان، 1997م.

د حامد خليل، الوطن العربي والمجتمع المدني، كراسات استراتيجية، مجلة فصلية تصدر عن مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق، العدد الأول - السنة الأولى - خريف 2000.

د. الحبيب الجنحاني المجتمع المدني بين النظرية والممارسة مجلة عالم الفكر، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، العدد الثالث المجلد السابع والعشرون، يناير / مارس، 1999.

د. حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 1997م.

خالد جاسم إبراهيم، الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني، رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، 2013م.

خيري بشارة، واقع و فكرة المجتمع المدني قراءة شرق أوسطية. - منشور في: إشكاليات تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي، المؤسسة الفلسطينية الدراسة الديمقراطية - رام الله، 1997.

ص: 154

خيري عزيز قضايا التنمية والتحديث في الوطن العربي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، لبنان، ط1، 1983

رجاء جارودي، فكر هيجل ترجمة الساس مرقص، بيروت، دار الحقيقة 1983م.

رینیه سرو وجاك دوندت هيجل ترجمة جوزيف سماحة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1974م.

سعد الدين إبراهيم: (المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي)، مقدمة كتاب: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في البحرين، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، 1995م.

سعد الدين إبراهيم المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في مصر، القاهرة، ط دار قباء، 2000م.

سامح ،فوزي المواطنة ط مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الأولى، 2007 م.

السرخسي، المبسوط ،بیروت لبنان ط دار المعرفة، المجلد 12.

السيد ،سابق فقه السنة، بيروت، دار الفكر ، ط الرابعة، 1983م، ج 3.

شارلوت سيمور، موسوعة علم الإنسان ترجمة مشتركة بإشراف أ. د محمد الجوهري، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1998م.

شهيدة الباز دور المنظمات الأهلية العربية في تنمية المجتمعات المحلية، مجلة أفريقية عربية مركز البحوث العربية بالقاهرة، المجلد الثالث أكتوبر، 2000م.

ص: 155

.د عبدالرحمن بدوي فلسفة القانون والسياسة عند هيجل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأولى، 1996م .

عبد السلام إبراهيم بغدادي الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1993م.

عبد الغفار شكر : المجتمع الأهلي ودوره في بناء الديمقراطية، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى، 2003م.

عبد الوهاب أحمد الأفندي، الإسلام والدولة الحديثة، لندن، دار الحكمة، بدون.

عبد الوهاب الكيالي بالاشتراك، موسوعة السياسة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 1986م.

عطية فتحى الويشى «أحكام الوقف وحركة التقنين في دول العالم الإسلامي المعاصر » الأمانة العامة للأوقاف بالكويت 2002م.

على عبد الصادق، مفهوم المجتمع المدني قراءة أولية، القاهرة، دار المحروسة، الطبعة الأولى، 2004م.

العياشي عنصر التحول الديمقراطي في الجزائر، الواقع و الأفاق.- ورقة قدمت لندوة: الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية.- الآردن، جامعة ألا البيت 30 نوفمبر - 02 ديسمبر 1999.

العياشي عنصر، ما هو المجتمع المدني ؟ الجزائر أنموذجا، ورقة مقدمة لندوة «المشروع القومي و المجتمع المدني» تنظيم قسم الدراسات الفلسفية و الاجتماعية كلية و الآداب والعلوم الإنسانية - سورية، جامعة دمشق، 7-12 ماي/أيار 2000.

ص: 156

غرامشي كراسات ،السجن ترجمة عادل ،زعيتر القاهرة، دار المستقبل العربي، 1994م.

فرانسوا شاتيلي، أوليفر دوهميل تاريخ الأفكار السياسية، ترجمة خليل أحمد خليل، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1984م.

كرين برينتون، تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001 م.

محمد أحمد علي مفتي، مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية، الرياض، مجلة البيان مركز البحوث والدراسات 1435ه.

محمد عابد الجابري المجتمع المدني في شروطه التاريخية، مجلة الوسط، العدد 415، 2000م.

محمد عبد الحليم عمر، تجربة إدارة الأوقاف في جمهورية مصر العربية، ندوة التطبيق المعاصر للوقف المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة، بالتعاون مع الأمانة العامة للأوقاف بالكويت، قازان، تتارستان، 14 – 17 / 6 / 2004م.

.د. محمد عثمان الخشت الطريق الثالث في عالم متغير جريدة الأهرام صفحة مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 15/ 11 / 1999م.

د. محمد عثمان الخشت فلسفة المواطنة في عصر التنوير، القاهرة، ط دار الثقافة العربية، 2012م.

محمد عثمان الخشت المجتمع المدني سلسلة الشباب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط الأولى، 2004م.

ص: 157

محمد عثمان الخشت المجتمع المدني عند هيجل، القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م.

محمد عثمان الخشت المجتمع المدني والدولة، القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الأولى، 2007م.

محمد عمارة، التعددية ( الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية، القاهرة، نهضة مصر للنشر والتوزيع، 1997.

محمد محمد أمين الأوقاف والحياة الاجتماعية فى مصر دار النهضة العربية بالقاهرة 1980م.

محمد مورو: المجتمع الأهلي، آفاق معرفية متجددة، منشورات العرفان، بدون.

.د. مصطفى كامل السيد مفهوم المجتمع المدني ومصر، ورقة مقدمة إلى مؤتمر مستقبل التطور الديمقراطي في مصر جماعة تنمية الديمقراطية 2-3 نوفمبر، 1997 القاهرة.

ميخائيل أنوود، معجم مصطلحات هيجل ترجمة أ.د إمام عبد الفتاح، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م.

ميشيل متياس، هيجل والديمقراطية ترجمة د. أمام عبد الفتاح، بيروت، دار الحداثة، 1990م، ط 1.

هابرماس : ما هو المجتمع المدني ؟ ، ترجمة مصطفى أعراب ومحمد الهلالي، سنة 1999م.

هربرت ماركيوز العقل والثورة، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م.

هربرت ماركيوز العقل والثورة هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة د. فؤاد زكريا ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1979م.

ص: 158

هيثم طالب الحسيني، دور وآليات المجتمع المدني في مسار البناء الديمقراطي السليم للدولة العراقية، مجلة النبأ، العدد 84، تشرين الثاني، 2006م.

هيجل أصول فلسفة الحق، ترجمة د. إمام عبد الفتاح، القاهرة، طبعة مدبولي، 1996م.

المراجع الأجنبية:

Chalioun, Burhan : Le malaise arabe : Etat contre nation. - Alger,

ENAG, 1991.

Ferguson: An Essay on the History of Civil Society, ed Duncan

Forbes, Edinburgh, 1966,

Gramsci, Selection from the Prison Notebook, edited and

translated, by quintin Hoare New York, international publishers

-Karl Marx, On the jewish Question, in: Karl Marx, Frederick

Engels: CollectedWorks, vol...

Karl Marx, Contribution to the Critique of Hegels Philosophy of

law, in Karl Marx, Frederick Engels: CollectedWorks, vol.3.

مقالات المجلات والمواقع الألكترونية:

إبراهيم رمضان الديب المجتمع المدني ودوره في الصعود الحضاري، على الرابط :

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/

opinions/201324/2//%D8%A7

- جاد الكريم الجباعي، الأسس الليبرالية للمجتمع المدني، الحوار المتمدن،

ص: 159

العدد 113 منشور بتاريخ 2005/2/18م .

سعيد ياسين موسى دور منظمات المجتمع المدني في التنمية، على الرابط

التالي:

https://www.zowaa.org/Arabic/articles/art%202601122-.htm

سلامة كيلة، نقد نزعة الأنتي إمبريالست مقال منشور بمجلة الجديد، في 1 / 8 / 2015م، عدد 7.

د. عبد الجبار العبيدي، وثيقة المدينة وشرعية الدولة، على الرابط التالي:

http://almothaqaf.com/index.php/derasat/888193.html

- محمد صالح التّومي، الإمبريالية والنخب الحاكمة والمجتمع المدني أو مثلث الهيمنة في مناخ العولمة مقال منشور بموقع مجلة الشعب بتاريخ 9 / 2010/10 م.

- محمد مرسي بين الدولة والمجتمع المدني مقال منشور بموقع إضاءات في 17 يناير 2017م.

د. محمد يحيى يحيى، أقنعة العلمانية قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة، مجلة البيان، 2/ 6 / 2008م.

مصطفى عطية جمعه، تعريف المجتمع المدني، 2016/10/1م على الرابط:

http://www.alukah.net/culture/0107726//ixzz4cnMXTn1s

civilsociety@ohchr.org

ص: 160

المؤلف في سطور

محمود كيشانه

باحث مصري، ومدرس محاضر للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب، جامعة القاهرة فرع الخرطوم .

دكتوراه في العلوم الإسلامية مادة فلسفة إسلامية كلية دار العلوم جامعة القاهرة، 2013

من مؤلفاته

1- الأسس الفكرية والمنهجية في الفلسفة الإسلامية المعاصرة (نموذج محمد عثمان الخشت ) دار رهف القاهرة الأولى، 2014م .

2 - الدين والنهضة قراءة في إشكالية التخلف الحضاري عند المسلمين، مطبعة الفرج، مصر، الأولى، 2014م .

3 - علم الكلام ونشأة الأيديولوجية الفكرية، ط مكتبة شاكر للنشر والتوزيع 2015م.

4 - فلسفة الأخلاق عند إخوان الصفا دراسة تحليلية مقارنة بيروت - الجزائر ط روافد وابن النديم، الأولى، 2017م.

5- بين النزعة العقلية والنزعة الدينية في القراءات الرشدية المعاصرة، ابن رشد في فكر محمود ،قاسم ألمانيا، ط نور للنشر، 2016م.

6- النزعة النقدية في الفلسفة العربية المعاصرة نموذج وتطبيقه، الأردن، ط دار الوراق للطباعة والنشر 2017م. تحت الطبع .

7- حرية الإنسان في فلسفة الطبع والاكتساب ،الجزائر، ط دار النشر الجامعي 2017م.

8- قراءات في الفلسفة العربية المعاصرة، الجزائر، ط دار النشر الجامعي، 2017م.

9- الدعارة الفكرية دراسة في نقد الفكر العربي المعاصر، ألمانيا، ط نور للنشر، 2017م.

10- المجتمع المدني دراسة نقدية في بناء المفهوم المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية والسياسيات، بيروت، لبنان(تحت الطبع).

11- منهجية النقد، دار قناديل العلم للنشر والتوزيع السعودية (تحت الطبع).

هذا الكتاب

ص: 161

المجتمع المدني

هذه الحلقة من السلسلة يتناول الباحث والأكاديمي المصري محمود كيشانه مصطلح المجتمع المدني ساعياً إلى الإحاطة بدلالاته الاصطلاحية وتموضعه كمفهوم في سياق التجربة التاريخية للحضارات الإنسانية المختلفة، كما يتطرّق إلى المبادئ النظرية التي قام عليها المفهوم والدور الذي أنيط به في سياق التنمية المجتمعية والرقابة المعنوية على سلطات الحكم، ناهيك عن صلته بمفاهيم موازية كالديمقراطية والحداثة وسواها من المفاهيم المعاصرة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتیجية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 162

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.