كتاب القضاء المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي

المحقق: السيد احمد الحسيني

الناشر: دار القرآن الكريم

المطبعة: مطبعة الخيام

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1401 ه.ق

الصفحات: 374

المكتبة الإسلامية

كتاب القضاء

تأليف: الفقيه المحقق والأصولي المدقق

الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي

(1234 - 1312)

(الجزء الأول)

تحقيق: السيد أحمد الحسيني

محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

من منشورات دار القرآن الكريم

(قم - ایران)

مطبعة الخيام - قم

(1401 ه)

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 3

ص: 4

اشارة

تقديم

الأسس القضائية في التشريع الإسلامي تتباين كثيرا عن الأسس الموضوعة للقضاء في القوانين الوضعية المستقاة من القوانين الغربية الحديثة المعمولة في أكثر البلدان الإسلامية ، فإن الإسلام قد اشترط في القاضي والمقضي فيه والمقضي له وفي المواد القضائية شروطا كثيرة تعنى بالتهذيب النفسي والتربية الروحية أكثر من العناية بالجانب المادي ، ولو أنه لم يهمل ابدا الجانب المادي أيضا بل يهتم به الى حد معقول من الاهتمام اللازم.

الإسلام يحاول في تشريعاته الفقهية وتعاليمه الأخرى ان يوجد وازعا دينيا اخلاقيا في ضمير الإنسان ودخيلة نفسه ، يدفعه في اعماله وأقواله وحتى في نياته الى الخير والسلام وحفظ المصالح العامة والخاصة ، ولا يكتفى بوضع مراقبين على أعماله وتصرفاته وسن قوانين جافة لتحد من جموح هواه وشهواته ونزواته المتغلبة في كثير من الأحيان على عقله وفكره السليم.

ص: 5

انه يربيه تربية صالحة يحس دائما في قرار نفسه انه محاسب على ما يصدر منه من قبل علام الغيوب والمطلع على الخفيات والسرائر ، وهو بهذا يرتدع بنفسه عما يخالف الشرع الحنيف والقوانين الدينية الإلهية ، وتسير الأمور في المجتمع المتدين سيرا مستقيما لا تقعيد فيه ولا انحراف ولا تعد على الحقوق ولا إجحاف.

لقد دلت التجارب على ان سن القوانين وحدها ووضع مراقبين على اعمال الناس لا يكفيان في الحد من الفجائع التي تعتري البشرية ، فان بلادا راقية في نشرياتها تعانى الويلات الأخلاقية والاجتماعية لأنها اتكأت على القانون الموضوع من قبل أناس ليس لهم طريق إلى الضمائر ولم يفتحوا لتربية الوجدان البشرى أى حساب.

ان الإنسان لو لم يحس من نفسه رادعا يحاسبه على اعماله وكل صغيرة وكبيرة تصدر منه ، لم يمنعه شي ء قط من الاقدام على ما تمليه عليه مئاربه ومصالحه الخاصة ، فهو يسعى دائما في أن يسدل الستار على اعماله المخالفة ، فربما ينكشف ويفتح ويؤاخذه القانون ولكن كثيرا ما لا تعرف خفايا اعماله وتبقى تبعاتها وبالأعلى المجتمع.

وحتى واضع القانون نفسه لو لم يحكم عليه الدين الذي يدفع وجدانه إلى الاستقامة ويحيى فيه ضميره الإنساني ، لحاد هذا المقنن عن الطريق المستقيم وأقدم على وضع قوانين تجحف بحقوق المستضعفين ، ولذا نرى الدول الاستعمارية ترتكب المآسى اللاانسانية ثمَّ تحاول في قوانينها تبرير هاتيك الاعمال وخنق الأصوات وقتل الحريات وتسمى ما تفعله باسم العدالة القانونية والدفاع عن الحقوق.

من هنا حاول الإسلام - كما قلنا - ان يوجد في الإنسان نفسه وازعا يمنعه عن ارتكاب المآثم والجرائم قبل ان يحاول وضع مراقبين على

ص: 6

اعماله ، ذلك لأنه أراد استئصال الفساد من الجذور وتربية الإنسان على حب الخير والصلاح والاستقامة في أفعاله وأقواله وخطرات قلبه.

فالقضاء الإسلامي له أسسه الخاصة التي تعنى بتربية الضمير والوجدان قبل العناية بالرقيب الظاهري ، وتوقظ فيه الشعور بالمسؤولية أمام اللّه تعالى والدين ، وتوجهه توجيها صحيحا الى واجباته تجاه الآخرين من القريب والغريب. ويكفى للتدليل على ما قلناه ما اشترطه الفقهاء في القاضي أن يكون عادلا ، فإن العدالة معناها هنا حفظ النفس عن الجور في القضاء وعدم التعدي في الأموال والأنفس وغض الطرف عن الاعراض والنواميس ... وهذا الشرط له مدلوله الروحي الخاص في الضبط عن كثير من الانحرافات التي تصيب القضاء لولاه.

* * *

وفي هذا الوقت الذي يمر بلادنا فيه بتجربة لتطبيق الإسلام ، يحس أكثر من ذي قبل بضرورة تجديد المعالم الإسلامية وإحيائها في مختلف المستويات وبشتى الاشكال العلمية ، من التدريس والتنقيب والكتابة والتأليف ونشر المؤلفات القيمة من آثار أعلامنا الماضين.

لا تتركز دعائم دولة إسلامية إلا بعد بث معارفه الصحيحة الخالصة عن الشوائب في المجتمع وبين الشعب ، فان بث المعارف الإسلامية هو الطريق الانجع لتربية مؤمنين مركزى الايمان يقفون اطوادا راسخة امام الزيغ والكفر لا تزلزلهم العواصف الهابة من وراء حدود بلاد المسلمين.

ولقد أحسن فقيه العصر المرجع الديني الورع سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الكلپايكاني دام ظله الوارف ، إذ بدأ بتدريس القضاء على المستوي الفقهي الرفيع في الحوزة العلمية بقم لتنشئة فقهاء

ص: 7

مجتهدين في القضاء الشرعي وتدريبهم على مسائله وفروعه.

وإلى جانب تدريسه - أدام اللّه ظله - أبدى رغبته الأكيدة في إحياء بعض المؤلفات الهامة في الموضوع لإعلام الفقهاء السابقين - قدس اللّه أسرارهم - كي تتوسع آفاق طلاب العلوم الدينية ويقفوا على أكثر ما يمكن الوقوف عليه من الآراء والنظرات الفقهية.

وكان من المؤلفات المختارة بهذا الصدد « كتاب القضاء » الذي ألفه الفقيه الجليل المحقق البارع شيخنا المقدس الميرزا حبيب اللّه الرشتي - تغمده اللّه برحمته ورضوانه - وهو كتاب جليل يعتنى بالاستدلال للمسائل والفروع عناية تامة ويبحث فيها بحوثا بارعة تدرب الطالب الحوزوى على التعمق في التفكير الفقهي والخروج عن السطحية في الاستنباط والاجتهاد.

وقد أمرني سماحته بإعداد هذا الكتاب للطبع وتصحيحه وإخراجه بالشكل اللائق بالذوق العصرى ، وانا إذ امتثل امره المبارك وأقوم بهذا الجهد أرجو أن أقدم خدمة للحوزة العلمية تسد بعض ما احسه من الفراغ فيها.

واللّه تعالى المسؤول في ان يسدد خطانا ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، انه جل شأنه خير من سئل وأفضل من اعطى.

قم : أول شهر رمضان المبارك 1401 ه.

السيد أحمد الحسيني

ص: 8

ترجمة المؤلّف

ترجمة المؤلف(1)

الشيخ ميرزا حبيب اللّه الرشتي

( 1234 - 1312 )

الشيخ ميرزا حبيب اللّه بن الميرزا محمد علي خان بن إسماعيل خان بن جهانگيرخان القوچاني الرانكوئي الگيلاني الرشتي.

عالم مؤسس ومحقق مدقق ، من أكابر علماء عصره وأساتذة فقهاء أوانه المشاهير.

كان أصل أسرته من « قوچان » الا أن بعض السلاطين الصفوية ألزمهم

ص: 9


1- هذه الترجمة مقتبسة من نقباء البشر 1 / 357 - 360 وأعيان الشيعة 20 / 95 - 102. وانظر أيضا للتوسع : معارف الرجال 1 / 204، ريحانة الأدب 2 / 307 ، أحسن الوديعة 1 / 131 ، تكملة نجوم السماء 2 / 138 ، لباب الألقاب ص 112 ، معجم المؤلفين 3 / 188 ، علماء معاصرين ص 50.

بالنزول الى « رانكوى » من قرى كيلان رشت ، ودفاتر أملاكهم من لدن عصر الصفوية إلى عصرنا موجودة.

وكان والد المترجم من أعاظم الملاكين والأعيان المتمكنين ، ومن العرفاء الصلحاء وأهل الباطن والصفاء ، وقد رأى في ولده هذا منامات صادقة قبل ولادته وبعدها تشعر بأنه يصير عالما ، وقد تفرس فيه بعد نشؤه وتأكد بعض التفاؤلات فيه ، فعزله عن اخوته وأحضر له معلما في بيته يتعهد تربيته وتعليمه الى أن بلغ من العمر حدود ثمانية عشر عاما ، فبعثه الى « قزوين » لتكميل اشتغاله وهيأ له أسباب الرفاه ولوازم العيش وعين له زوجة من عشيرة « أرباب » المعروفة هناك بالشرف.

بقي في « قزوين » مشتغلا على العلامة المولى عبد الكريم الايرواني ، حتى صدرت له منه الإجازة وهو ابن خمس وعشرين سنة في الهجرة إلى « النجف الأشرف » جامعة العلم والدين الكبرى وموئل العلماء من مختلف الأقطار الإسلامية.

هاجر الى « النجف » بأهله ودخلها قبل وفاة الفقيه الأكبر الشيخ محمد حسن النجفي ( صاحب الجواهر ) بثلاث سنين ، فحضر بحثه يوما فعرضت له شبهة عرضها عليه ولم يسمع منه جوابا وتكلم فيها بعض التلاميذ ، ثمَّ قيل له : ان كشف شبهاتك عند الشيخ المرتضى الأنصاري. فقصده وعرضها عليه فأجابه الشيخ وأبان له الفرق بين « الحكومة » و « الورود ».

بهت شيخنا المترجم حيث سمع اصطلاحا جديدا لم يطرق آذانه ، فقال له الشيخ المرتضى : ان اشكالك لا يرتفع الا بالحضور عندي مدة أقلها شهرين.

ص: 10

وكان المترجم إذ ذاك عازما على الرجوع الى « قزوين » ، ولكنه أعرض عن الرجوع وحضر بحث الشيخ فرآه بحرا لا يبلغ قعره ولا ينال دركه ، فعزم على الإقامة بالنجف والاستفادة من درس الشيخ.

بقي مشتغلا في الحوزة العلمية بغاية الجد والاجتهاد في الفقه والأصول ملازما لاستاذه المذكور ومقتبسا من أنواره ومغترفا من بحار علومه ، ومما يؤثر عنه قوله : « ما فاتني بحث من أبحاث الشيخ منذ حضرت بحثه الى يوم تشييعه مع أني كنت مستغنيا عن الحضور قبل وفاته بسبع سنين ».

ولما توفي الشيخ المرتضى انتهى أمر التدريس الى المترجم له ، فكانت حوزته تعد بالمئات ، وأكثرهم من شيوخ العلماء وأفاضل الفقهاء والمجتهدين ، ولم يكن في زمانه أرقى منه تدريسا وأكثر نفعا ، حتى أن أكثر العلماء المشاهير الذين نبغوا بعده في سائر المناطق الشيعية قد تخرجوا عليه وأخذوا عنه ، وكان مجلس درسه محتويا على أصناف العلماء من العرب والعجم من المحققين في الفقه والأصول والمعقول والمنقول وغير ذلك ، لأنه كان وحيد عصره في ابتكار الأفكار الحسنة والتحقيقات المستحسنة وحلاوة التعبير ورشاقة البيان.

هذا ما كان من جهة علمه ، وأما ورعه ونسكه وزهده فهو مما لا يحده القلم ولا يصفه البيان ، فقد كان في غاية الورع والتقوى والزهد عن حطام الدنيا ، وكان سليم الذات صافي النية بسيطا للغاية أعرض عن الرئاسة كل الاعراض ، ولذا لم يقلد ولم تجب اليه الأموال ، وانما كانت المرجعية التقليدية والزعامة الروحية لمعاصره وشريكه في الدرس عند الشيخ الأنصاري ، وهو السيد الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي نزيل سامراء. ولم يرض أن يقلده أحد لكثرة

ص: 11

تورعه في الفتوى وشدة احتياطه فيها ، ولم يتصد للوجوه ولم يقبلها من أحد.

وقد كان معاشه يأتيه من والده أيام حياته ، وبعد وفاته استحضره اخوته لتقسيم الأموال والاملاك الكثيرة ، فلما رأى تكالبهم عليها وتفانيهم دونها أعرض عنهم وعاد الى « النجف » منصرفا عن استحقاقه ، فانقطع معاشه الى سبع سنين باع خلالها كل ما كان يملكه من الأسباب واستقرض ما وسعه القرض ، حتى لقد عجز عن شراء الماء في بعض الأيام. فتشرف أخوه الميرزا نصر اللّه خان الى الزيارة ، فرأى وضعه وقرر له معاشا يسيرا الى سبع سنين.

ويقال انه قبل شيئا ذات مرة من العلامة الشيخ جعفر التستري وأخرى من آخر ، ولما توسعت حاله صرف قدرهما على الفقراء.

وأما عبادته فقد حكي أنه ما طلع الفجر عليه وهو نائم منذ بلغ الحلم ، وقد قضى فرائض والديه ثلاث مرات ، مرة تقليدا ومرتين اجتهادا.

قال تلميذه سيدنا الحسن الصدر في « التكملة » : انه كان شديد الاحتياط دائم العبادة مواظبا على السنن كثير الصلاة والصمت دائبا في العبادة حتى في السفر ، فهو في جميع عمره حتى في أوقات خروجه الى الدرس كان مشغولا بالعبادة ، وكان من الزهد في جانب عظيم ، وكان دائم الطهارة ، تخرج على يده مئات من العلماء ، ولم يكن في زمانه أوفى تدريسا منه ، وله التدريس العالم المشتمل على أصناف العلماء.

له تصانيف كثيرة نافعة تموج بالتحقيقات ، منها :

1 - تقريرات بحث الشيخ الأنصاري فقها وأصولا.

2 - بدائع الأصول ، في أصول الفقه مطبوع.

3 - مقدمة الواجب ، رسالة مبسوطة.

ص: 12

4 - المشتق ، رسالة مطبوعة.

5 - الاجزاء.

6 - المفهوم والمنطوق.

7 - التعادل والتراجيح.

8 - اجتماع الأمر والنهي.

9 - حاشية المكاسب.

10 - شرح شرائع الإسلام ، خرج منه مجلدات في الطهارة والصلاة والزكاة وبعض كتب أخرى غير تامة.

11 - خلل الصلاة.

12 - كتاب التجارة.

13 - كتاب الغصب.

14 - كتاب القضاء والشهادات.

15 - كتاب الوقف والرهن واللقطة.

16 - كاشف الظلام في علم الكلام ، فارسي في أصول الدين.

17 - الإمامة ، رسالة مبسوطة.

18 - حاشية تفسير الجلالين.

خلف ثلاثة أولاد علماء فضلاء : أكبرهم الشيخ محمد المتوفى سنة 1316 ، ثمَّ الشيخ إسماعيل المتوفى سنة 1343 ، ثمَّ الشيخ إسحاق المتوفى سنة 1357.

توفي رحمه اللّه ليلة الخميس رابع عشر جمادى الثانية سنة 1312 ، ودفن وراء شباك الحجرة الواقعة على يسار الداخل الى الصحن العلوي الشريف من باب السوق الكبير ومرقده مزار للرواد.

ص: 13

وقد رثاه جماعة من الشعراء ، منهم الشاعر المعروف السيد جعفر الحلي ، فقال يرثيه ويعزي عنه ابن إمام الجمعة بطهران الذي قد أقام له مجلس الفاتحة :

على م دموع أعيننا تصوب *** إذا لحبيبه اشتاق الحبيب

أصابك يا حبيب اللّه حتف *** أصيب به القبائل والشعوب

أقم ، واللّه جارك ، في ضريح *** موسدة به معك القلوب

ألا لا حان يومك فهو يوم *** على دين الهدى يوم عصيب

نظرت بنور ربك كل غيب *** فكانت نصب عينيك الغيوب

ترى العلماء حشدا واحتفالا *** لتعلم كيف تسأل أو تجيب

سترت عيوب هذا الدهر حينا *** فبعدك مل ء عيبته عيوب

وكنت بقية الحسنات منه *** فبعدك كل ما فيه ذنوب

نشرت العلم في الافاق حتى *** طوى أضلاع شانئك الوجيب

تساقط حكمة فتطير فيها *** الى الناس الشمائل والجنوب

قضيت العمر في تعب وجهد *** وما نال المنى الا التعوب

فلم يرقدك عن علم شباب *** ولم يقعدك عن نفل مشيب

وتترك ما يريبك كل حين *** مجاوزة الى ما لا يريب

أرواد العلوم إلا أقيموا *** بيأس ان مرتعه جديب

فقد واللّه قشع عن سماه *** ضحوك البرق وكاف سكوب

ألا يا دهر هذا منك خطب *** علينا فيه هونت الخطوب

فبعد صنيعك ارم فلا نبالي *** أتخطئنا سهامك أم تصيب

فيا صبرا امام الناس صبرا *** فكل الناس مثلك قد أصيبوا

لقد صدق المخيلة منك بشر *** يلوح وراءه كرم وطيب

ص: 14

وبشر سواك كان له شبيها *** سراب القاع والبرق والخلوب

لقد كرمت طباعك في زمان *** به كرم الطباع هو العجيب

أقول لمن يحاول أن يباري *** علاك وغره الأمل الكذوب

نعم ستنال ما تبغي ولكن *** إذا ما عاد للضرع الحليب

وقال أيضا مؤرخا عام وفاته رحمه اللّه :

بكته الملة الغرا فأرخ *** بكى لحبيبها الشرع الشريف

ص: 15

العمل في الكتاب

لقد قابلنا هذا الكتاب وصححناه على :

1 - نسخة سماحة آية اللّه السيد مصطفى الحسيني الخونساري ، وهي بخط والده المغفور له آية اللّه السيد أحمد الحسيني الخونساري ، وكانت في مجموعة معها القسم الفقهي من كتاب « الاقتصاد الهادي إلى سبيل الرشاد » للشيخ الطوسي وجاء في آخرها :

« لقد وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف بتوفيق اللّه وعونه بيد العبد الإثم أقل السادة أحمد بن محمد رضا الحسيني في يوم السابع من ربيع الثاني من عام الخامس والأربعين وثلاثمائة بعد الالف. ».

وهذه النسخة تامة الا أنها لا تخلو من بعض الاغلاط والتحريفات.

2 - نسخة فضيلة العلامة الشيخ رضا الاستادي ، وهي من أول الكتاب الى

ص: 16

ما يقرب من ثلثه ، وهي مصححة مقابلة جيدة عليها تملك الشيخ إسحاق ابن المؤلف ولعله هو الذي قابلها وصححها.

* * *

هذا وقد رأينا أن نصحح الأخطاء الأدبية التي قد سبقت الى قلم المؤلف ، ولكن لم نرتكب ذلك كلما وجدنا لها مخرجا وتأويلا من قواعد العربية.

كما رأينا أن نضيف في الكتاب عناوين من عندنا تعيين القارئ على معرفة كل مقطع من الموضوع ، وقد جعلناها بين معقوفتين هكذا [ ] ليتمايز ما وضعناه نحن عما هو من أصل الكتاب.

وقد أعاننا مشكورا سماحة العلامة الجليل الشيخ محمد علي أحمديان الأصبهاني في تخريج الأحاديث ، وبعمله هذا يسر علينا بعض الوقت وزاد في قيمة الكتاب العلمية.

ص: 17

الصورة

ص: 18

الصورة

ص: 19

الصورة

ص: 20

الصورة

ص: 21

ص: 22

كتاب القضاء

اشارة

ص: 23

ص: 24

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

( كتاب القضاء )

ومقاصده ثلاثة :

الأول : في القاضي وصفاته.

الثاني : في كيفية القضاء.

الثالث : في أحكام الدعاوي.

ص: 25

المقصد الأول : ( في القضاء )

اشارة

القضاء في اللغة لمعان كثيرة ، منها ما هو المراد به في المقام ، أعني الحكم والإلزام.

وفي عرف الفقهاء عبارة عن ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى.

ويدل على شرعيته في الجملة الأدلة الأربعة ، من الكتاب آيات كثيرة ، أوضحها دلالة قوله تعالى في سورة ص « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ » (1) دلت صريحا على شرعية الحكم بين الناس ، بمعنى فصل الخصومات الواقعة فيما بينهم وقطع المنازعات ، لان الحكم بين الناس لا معنى له سوى الحكومة بالمعنى المبحوث عنه ، أعني فصل الخصومات ، وبه امتاز عن سائر آيات الحكم في الذكر ، لأنها انما تدل على الحكم بما أنزل اللّه ، وهو غير صريح بالمعنى

ص: 26


1- سورة ص : 25.

المقصود ، أعني الإلزام ، لأن الحكم بما أنزل اللّه عبارة عن الاخبار به ، وهو لا يستلزم شريعة الإلزام والحكومة التي هي من شعب الرئاسة. ولذا كان المرجع فيه عند الشك هو أصالة العدم ، بخلاف الحكم بمعنى الاخبار بما أنزل اللّه ، فإن الأصل فيه اما الوجوب فافهم أو الإباحة كما تأتي الإشارة الى ذلك.

[ وجوب الحكم بالحق وجوازه ]

ثمَّ مدلول الآية الشريفة يحتمل وجوب الحكم بالحق وجوازه ، على أن يكون رفعا للحظر المتوهم أو المحقق ، وعلى الأول يحتمل وجهين أيضا :

( الأول ) أن يكون الوجوب متعلقا بالمقيد خاصة ، أعني كون الحكم بالحق ، فالمعنى أن المتفرع على الخلافة والمتوقف عليها وجوب كون الحكم بالحق وعدم متابعة الجور ( الهوى ) ، فلا يدل حينئذ على وجوب أصل المقيد - أعني الحكم - بل يكون في المعنى نظير قوله تعالى « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (1) فيكون حال أصل الحكم في حق الخليفة وغيره من حيث الجواز والوجوب والتحريم مسكوتا عنه.

نعم يدل على جواز أصل الحكم القدر المشترك بين الوجوب وغيره مهملة لا مطلقة ، لأن وجوب القيد يقتضي جواز المقيد في الجملة.

فإن قلت : لا معنى لتفريع كون الحكم بالحق على الخلافة ، لأن الحكم بخلاف الحق لا يجوز لأحد ، فوجوب كون حكم الحاكم إذا حكم على نهج الحق ليس من خواص كون الحاكم خليفة ، لأن وجوبه عقلي ناش من قبح الجور والافتراء.

قلت : نعم لكن لما كان وجوبه في حق الخليفة آكد منه في حق غيره جعل

ص: 27


1- سورة النساء آية 57.

الاية من متفرعات الخلافة ، وهذا مثل قول القائل لإمام الجماعة : أنت إمام الناس فاخضع في صلاتك ، فان الخضوع والخشوع في الصلاة أمر مرغوب إليه في حق كل مصل الا أنه مؤكد في حق الامام ، بل في حق المقربين مطلقا على حسب مقدار قربهم.

( الثاني ) أن يكون المتفرع على الخلافة أصل وجوب الحكم المقيد ، فيدل حينئذ على عدم وجوبه لغير الخليفة ، وأما عدم الجواز فلا.

وعلى الثاني - أعني كون مدلول الآية جواز الحكم بعد الخلافة نظرا الى ورود الأمر به - مقام رفع الحظر يدل على عدم الجواز لغير من يكون خليفة من جانب اللّه ، فالاية حينئذ دليل لفظي على عدم شرعية القضاء لغير الخلفاء زيادة على الأصل المشار اليه. فاحفظ ذلك تنتفع به ، واللّه العالم.

التقاط

[ ما يعتبر في القاضي ]
اشارة

يعتبر في القاضي أمور اتفاقية وأمور خلافية :

ومن الأولى العدالة

التي هي أخص من الايمان الذي هو أخص من الإسلام.

قال في الشرائع : ويدخل فيها الامانة وفعل الواجبات.

وفي هذه العبارة شائبة إجمال ، لأنه إن أراد بالأمانة ضد الخيانة فحسن ، لكن يشبه بإيضاح الواضحات لمن عرف من مفهوم العدالة شيئا مع أن تخصيصه بالذكر بين سائر الكبائر مع كونها من الافراد الواضحة الجلية يخلو عن الفائدة.

وان أراد بها أمرا زائدا عن مفهوم العدالة في سائر المقامات مثل ترك استعمال

ص: 28

الحيل الشرعية الذي لا يوجب فسقا في غير المقام ، ففي اعتباره هنا في القاضي تأمل أو منع.

والظاهر أنه نوع تعريض على من جمع بين العدالة والامانة ، وان ذكر العدالة يغني عن ذكرها بناء على ارادة قصد الخيانة ، كما يشعر به ذكره بعد الفراغ عن ذكر ما يعتبر في العدالة.

ويمكن أن يقال أيضا بأن وجه التخصيص هو كونها أمرا وجوديا بعد الايمان من بين ما يعتبر في ماهية العدالة ، بخلاف غيرها فإنها أمور عدمية ، ولهذا أردفه بفعل الواجبات ، لأنه أيضا مثله في الوجودية - فافهم.

ومن الأمور الاتفاقية الاستقلال بالفتوى

يعني كون الحاكم صاحب ملكة الاجتهاد وقوة استنباط الاحكام كلا أو بعضا ، على الخلاف في مسألة التجزي.

وقد صرح بالاتفاق على اعتبارهما مثل صاحب المسالك ممن يعتبر منه نقل الإجماع لكمال خبرته واطلاعه.

واستدلوا عليه بما دل على اعتبار العلم في القاضي وان التقليد ليس بعلم كما لا يخفى ، لكن بعض أساطين متأخري المتأخرين - كالمحقق القمي على ما نقل عنه في جواب سؤاله ، وبعض من عاصرناه من مشايخنا اكتفى في العلم بمجرد التقليد ، فصرح بجواز قضاء المقلد.

وقبل تنقيح المسألة لا بد من تأسيس الأصل وتحرير محل النزاع ، فنقول :

أما الأصل فقد أشرنا إلى أنه يقتضي المنع ، لأن سلطنة الشخص على إلزام شخص آخر - ولو فيما يقتضيه تكليف ذلك الشخص فضلا عما لا يقتضيه تكليفه - أمر وضعي مختص بمن له السلطنة المطلقة ذاتا ، أعني المولى الحقيقي

ص: 29

جل اسمه ، أو بمن جعله سلطانا من طرفه وخليفة عن جانبه كالنبي والوصي ، فحيث شككنا في ثبوتها فالأصل المحكم فيه هو العدم كسائر الأحكام الوضعية.

ومن هنا يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه يباح به معه مقاتلة فاعل المنكر مثلا أمر على خلاف الأصل الاولي ، ولو قيل بأنه من المستقلات العقلية ، لأن استقلال العقل بذلك لا ينافي الشك في ثبوته لآحاد الناس ، والرجوع الى الأصل في مورد الشك.

ودعوى عدم تعقل الشك في الأحكام العقلية ، مدفوعة بأن الغير المتعقل انما هو الشك في موضوع حكم العقل لا في تشخيص مصاديقه ، فان حكم العقل بقبح تناول المضر لا ينافي الشك في قبح شي ء باعتبار الشك في كونه مضرا ، فحكم العقل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى لابدية قيام شخص بذلك لا ينافي الشك وعدم العلم بخصوص من يقوم به.

لكن الإنصاف أن الأمر بالمعروف - على تقدير حسنه العقلي لزوما أو رجحانا - ثابت في حق كل مكلف. نعم إلزام الشخص فيما لا تقتضيه تكليفه الذي ستعرف أنه المراد من القضاء المصطلح من المستقلات التي لم تثبت إلا في الجملة ، بمعنى استقلال العقل بوجود فاصل للخصومات والمنازعات حفظا للنوع عن الاختلال والحرج والضياع والفتنة والفساد. وأما أن الفاصل من هو وكم هو فليس للعقل اليه سبيل كما لا يخفى ، فيكون الجهل بخصوص القائم بالفصل مع الاستقلال بأصل وجوده كالجهل بقبح الشي ء للشك في كونه مضرا.

وأما محل النزاع فقد ظهر مما ذكرنا في تأسيس الأصل ، وحاصله : ان الإلزام قد يكون فيما يقتضيه تكليف الملزم عليه وقد يكون في غير ما يقتضيه تكليفه :

أما الأول فهو خارج عن مسألة القضاء المبحوث عنها ، بل هو يرجع الى

ص: 30

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بناء على اختصاصه بما هو معروف ومنكر في نظر الفاعل لا في نظر الأمر حتى يندرج فيه مسألة إرشاد الجاهل ، على ما صرح به بعض أجلاء المتأخرين ، وإلا فيكون دائرة الأمر بالمعروف أوسع من الإلزام فيما يقتضيه التكليف وأما هو فأخص مطلقا كما لا يخفى.

فظهر أن المقصود بالبحث فيما نحن فيه هو إلزام الشخص في غير ما يقتضيه تكليفه ، مثل أن يكون الشخص معتقدا لبطلان مقالة الشخص فيحكم عليه بخلاف المعتقد وخلاف ما يقتضيه تكليفه ، لان القضاء المبحوث عنه ليس الا ذلك.

وأكثر موارد القضاء من هذا القبيل ، حتى الحكم بالبينة التي يجب على جميع المكلفين ترتيب آثارها مدعيا ومنكرا وغيرهما ، لان العمل بها انما يجب في صورة الشك والجهل ، فإلزام المنكر المعتقد بكذب البينة مثلا إلزام بغير ما يقتضيه تكليفه.

نعم قد يقال : ان الحكم في صورة الشك - أي شك من قام عليه البينة مثلا - إلزام بحسب التكليف ، لكن يمكن منع كون ذلك من باب القضاء بل من باب الأمر بالمعروف ، نظرا الى أن مجرد قيام البينة في حق الشاك يوجب العمل بمقتضاها من غير ضم حكم الحاكم ، فحكم الحاكم يشبه الأمر بالمعروف.

الا أن يقال : ان الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يستتبع على ما يترتب على القضاء من الأحكام ، فإرجاع القضاء هنا الى ذلك لا وجه له ، بل الوجه أن القضاء كما يكون بما لا يقتضيه تكليف الملزم عليه كذلك يكون بما يقتضيه تكليفه وأما انه لا بد أن يكون من قبيل الأول فلا.

وهذا يكفي في الفرق بينه وبين الأمر بالمعروف ، فإنه لا يكون إلا في الثاني ، فالقضاء أعم من وجه موردا ، ومرجعه في صورة الاجتماع اجراء حكم اللّه الكلي في حق المحكوم عليه وإلزام جزئيته عليه. واللّه العالم. وان كان مرجع

ص: 31

الأمر بالمعروف في تلك الصورة أيضا ذلك ، الا أن هذا الإلزام إذا صدر من الحاكم على وجه الحكومة تأكد به وجوب الالتزام على المحكوم عليه.

وتوضيح ذلك وحقيقة الفرق بين الأمر بالمعروف والقضاء هو أن الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يزيد في تكليف الملزم عليه شيئا على ما يقتضيه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الالتزام بخلاف الإلزام على وجه القضاء ، فإنه سبب لوجوب الالتزام بما الزم ، سواء طابق تكليفه أم خالف. وبعبارة أخرى سواء كان الملزم به لازما في حق الملزم عليه مع قطع النظر عن الإلزام أم لا ، فالملزوم والالتزام سبب للإلزام على وجه الأمر بالمعروف ومسبب عن الإلزام على وجه القضاء ، ولازمه تأكد اللزوم إذا طابق التكليف كما قلنا.

فظهر مما ذكرنا مادة الافتراق ومادة الاجتماع ، فإن الإلزام بما لا يقتضيه التكليف مادة افتراقه عن الأمر بالمعروف ، والإلزام بما يقتضيه تكليف الملزم عليه دون الحاكم الملزم مادة افتراقه من القضاء والإلزام فيما يقتضيه التكليف مورد اجتماعهما الموردي.

ويمكن الفرق أيضا في هذه الصورة باختلاف الجهة ، فإن الحاكم إذا ألزم بعنوان الأمر بالمعروف الذي هو مشترك بين العامي المقلد وبينه ، فهذا لا يزيد في لزوم الحكم ووجوب التزامه ، وان الزم بعنوان القضاء فهو يوجب تأكد الوجوب ، حيث أن التمرد عن الحكم حينئذ معصية من جهة مخالفته لأدلة الحكم ومن جهة رده على الحاكم - فافهم.

[ في قضاء المقلد ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أن مسألة قضاء المقلد تشتمل على مسائل ثلاث :

( الأولى ) قضاؤه مستقلا من غير نصب المجتهد له للقضاء أو توكيل له في

ص: 32

ذلك. وغاية ما يتوهم دلالته على ذلك أمور :

الأول - إطلاق ما دل على وجوب الحكم بما أنزل اللّه من الايات والاخبار كقوله تعالى « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (1) ، وقوله تعالى « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (2) ، وقول الصادق عليه السلام في تعداد القضاة « ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة » وغيرها من الايات والاخبار.

ويرد : أولا بمنع الإطلاق لاهمالهما وورودهما في مقام بيان حكم آخر ، وهو كون الحكم لا بد أن يكون بما أنزل اللّه وعن علم وغير ذلك مما لا يخفى على من لاحظها مع سياقها ومصبها. وثانيا بعد تسليم الإطلاق القابل للاستدلال بأن المأمور بالحكم هو الذي كان عالما بالحق وبما أنزل اللّه تعالى في الشبهات الموضوعية التي هي محل استعمال القاضي للبينة والايمان ، مثل اختلاف المتخاصمين في دين أو بيع أو غصب أو نحوها من الشبهات الموضوعية لا تتوجه هذه الإطلاقات إلى المقلد الجاهل بالحال ، وبأن الحق فيما يقوله المدعي أو المدعى عليه ، كما لا يتوجه الى المجتهد الجاهل بالموضوع أيضا ، مع قطع النظر عن قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » ونحوها مما يعطي ميزانا للقضاء عند الجهل بالموضوع.

فان قلت : بعد ملاحظة أدلة البينة واليمين ونحوها من الموازين المقررة نقول : ان المقلد في الشبهات الموضوعية ليس بجاهل للحق ، وهو مؤدى البينة مثلا ، فيجب عليه الحكم به لكونه حكما بما أنزل اللّه تعالى.

قلت : هذا مبني على مجي ء أدلة البينة وسائر الموازين في حق المقلد أيضا ،

ص: 33


1- سورة المائدة : 44.
2- سورة النساء : 58.

وستعرف عدم المجي ء ، لمنع إطلاقها على وجه يشمل المقلد أيضا.

هذا في الشبهة الموضوعية ، وأما الشبهة الحكمية - بأن كان اختلاف المتخاصمين باعتبار اختلافهما في حكم المسألة مثل مسألة المنجزات ومثل مسألة تحريم عشر رضعات ونحوهما من المسائل الخلافية - فهي على قسمين : أحدهما ما كان رأي الحاكم عن تقليد موافقا لرأي المحكوم عليه في الحكم الشرعي ، بأن ترافعا الى مقلد يوافق المدعى عليه في الحكم الشرعي. والثاني ما كان رأيهما مختلفين.

ولا ريب أن إطلاق الأمر بالحكم بمعنى الإلزام بالحق وبما أنزل اللّه على فرض تسليمه قاصر عن شمول الصورة الأخيرة : اما لان منصرف الإطلاقات غير ذلك ، وهو ما كان الحكم الواقعي فيه متحدا عند الحاكم والمحكوم عليه ، فلو اختلفا كان الحكم بما يراه الحاكم وهو غير مشمول لتلك الإطلاقات. أولان مجرد الإلزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن سلطنة الملزم ونصبه رئيسا غير معقول مع اختلاف المحكوم عليه للحاكم في الحكم الواقعي ، لأن الإلزام إنما يتصور على المتمردين عن الحكم الواقعي. ومن يعتقد تقليدا أو اجتهادا أن الحكم الواقعي غير ما يقوله الحاكم وان حكمه حكم الجاهلية فليس بمتمرد عن الحكم الواقعي على تقدير عدم قبوله لحكم الحاكم الذي اعتقد كونه حكم الجاهلية بل يجب عليه التجافي عن ذلك ، لأنه مأمور بأن يكفر بما ليس بحكم اللّه تعالى وبحكم الجاهلية.

توضيح هذا المقال : ان الحكم الذي أمر الناس بإلزامه على المتمردين اما أن يكون هو حكم اللّه الواقعي من غير تقييد له باعتقاد الملزم - أعني الحاكم - أو يكون مقيدا بما اعتقده الحاكم ، على معنى وجوب إلزام الحكم الذي اعتقده الحاكم أنه حكم اللّه تعالى.

ص: 34

وبعبارة أخرى : اعتقاد الملزم يؤخذ تارة طريقا الى الحكم الواقعي الذي يجب إلزامه وأخرى موضوعا وقيدا للملزم به ، وعلى الأول فالملزوم عليه لا يخلو عن أحوال ثلاث : الاولى أن يكون جاهلا بالحكم الواقعي ، والثانية أن يكون عالما به تقليدا أو اجتهادا بالعلم المطابق لعلم الحاكم ، والثالثة أن يكون عالما بالعلم المخالف. وفي الحالتين الأوليين يعقل إلزام الحاكم بالحكم الواقعي كما لا يخفى ، وفي الحالة الثالثة فالإلزام به غير معقول ، إذ المفروض أن الملزم به ليس الا الحكم الواقعي باعتقاد الملزم الذي فرض طريقا اليه ، والحكم الواقعي باعتقاد المحكوم عليه غير الذي اعتقده لحاكم. وإذا أراد الحاكم إلزامه بمعتقده فله الامتناع عن ذلك قائلا بأنك إنما أمرت بإلزام الواقع وهذا الذي تلزمني به ليس هو الواقع بل هو حكم الجاهلية الذي أمرت أنا بكفرانه.

وعلى الثاني - يعني على تقدير كون الملزم به هو الحكم الذي اعتقده الحاكم الملزم بأن يكون الملزم به الحكم الفعلي للحاكم - فالإلزام بالواقع بهذا النحو معقول في الحالات الثلاث ، لكنه تقييد في آيات الحكم أو تجوز بين ، لان الحكم المأمور به انما هو الحكم الواقعي الذي تختلف فعليته بالقياس الى الحاكم والمحكوم عليه وتقييده باعتقاد الحاكم ، وارادة الحكم الفعلي الخاص منه لا بد له من التماس دليل آخر ، كأدلة النصب والنيابة التي تعرف قصورها عن شمول المقلد.

ودعوى أن الحكم الذي أمر الناس بإلزامه لا يعقل أن يكون طريقة غير اعتقاد الملزم لا تنفع ، لان اعتبار اعتقاده طريقا غير اعتباره موضوعا وقيدا للحكم الواقعي كما لا يخفى على المتدرب.

هذه حال الصورة الأخيرة ، وأما الصورة الاولى - وهي صورة الموافقة في الطريق - فوجوب الإلزام حينئذ مسلم ، بمعنى أنه يجب على كل أحد إلزام المتمرد عن الحق والحكم الواقعي إذا كان موافقا مع الملزم في الحكم الفعلي

ص: 35

لكنه لا ينفع لان مرجعه حينئذ الى الأمر بالمعروف الذي لا ينكره أحد بشرائطه فلا يؤثر إلزامه حينئذ في تكليف الملزم عليه زيادة على ما يقتضيه تكليفه ، وقد عرفت أن الكلام في الإلزام الذي هو سبب لوجوب الالتزام لا مسبب عنه.

فان قلت : بعد تسليم إطلاق الأدلة بالنسبة إلى المقلد يثبت أن إلزامه حيثما يعقل - كما في صورة الموافقة - سبب لإلزام الملزم عليه زيادة عن الالتزام الذي كان يقتضيه تكليفه ، فيحرم عليه مخالفته من جهتين : من جهة نفس أدلة الملزم به الذي يتبعها الإلزام على وجه الأمر بالمعروف ، ومن جهة إلزام الملزم المدلول عليه بآيات الحكم الذي يرجع الى القضاء ، فاذا ثبت قضاء المقلد في هذه الصورة ثبت في صورة المخالفة لعدم القول بالفصل.

قلت : نمنع عدم القول بالفصل فيما ذكر ، لان الفصل المنفي انما هو ثبوت أحكام القضاء لا إلزام المقلد في بعض دون بعض ، فلو ثبت أن إلزام المقلد وحكمه يترتب عليه أحكام القضاء في صورة الموافقة ثبت أيضا ذلك في صورة المخالفة لا أنه إذا ثبت إلزام المقلد المعرى عن جميع الاحكام في الصورة الأولى ثبت أيضا في الصورة الثانية. كيف وقد عرفت أن الإلزام في صورة المخالفة لا يساعده دليل الخصم من أدلة الحكم.

فان قلت : إذا ثبت في صورة الموافقة أن إلزام المقلد مؤثر زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف ثبت أيضا ترتب أحكام القضاء عليه ، لأن القائل بعدم الترتب النماء يقول ان إلزام المقلد لا يرجع الا الى الأمر بالمعروف ، لا أنه إلزام موجب لتكليف زائد ومع ذلك لا تترتب عليه أحكام القضاء.

قلت : نمنع تأثير إلزام المقلد في التكليف زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف وما ذكرنا من تسليم الإطلاق لا يفيد ذلك.

نعم لو ثبت الإلزام في الصورة المخالفة أيضا لم يكن له معنى سوى اقتضائه

ص: 36

في نفسه تكليف الملزم عليه بما الزم ، وأما إذا لم يثبت ذلك أو ثبت عدم اندراج هذه الصورة تحت الإطلاقات فالإلزام الذي دلت عليه الإطلاقات لا يقصد به حينئذ سوى معنى الأمر بالمعروف. فغرضنا من تسليم الإطلاق ومنع شموله لصورة المخالفة بيان أن مفاد الإطلاقات شي ء وراء القضاء المصطلح الذي يؤثر في تكليف المقضي عليه.

وحاصل الكلام : ان إطلاق الحكم لو شمل صورة المخالفة (1) لم يكن له معنى سوى الإلزام القضائي ، لان الإلزام القدر المشترك بين هذه الصورة وغيرها من صور المخالفة لا يعقل سوى ذلك ، وأما إذا قلنا بعدم الشمول والحصر في مجاري الأمر بالمعروف لم يزد في المقتضي على ما يقتضيه الأمر بالمعروف شيئا ، فيكون من جملة أدلته - فافهم.

وثالثا - أي بعد تسليم الإطلاق مطلقا - بأن الإطلاق مقيد بما دل على اشتراط اذن الامام من الإجماع والاخبار ولم يقم دليل على أن المقلد مأذون في القضاء كالمجتهد.

فان قلت : الكلام في المقام بعد الفراغ عن اذن الامام لأنه شرط إجماعا ، لأن القائل بجواز قضاء المقلد يريد نفي شرطية الاجتهاد لا نفي شرطية الاذن ، فالاجتهاد عنده مثل الحرية المختلف فيها ، فكما أن القول بعدم اعتبار الحرية ليس نفيا لاعتبار اذن الامام فكذلك نفي اعتبار الاجتهاد ليس نفيا للاذن. والدليل على ذلك أن العملاء ذكروا شرط الاذن مستقلا مدعيا للإجماع فيه وشرط الاجتهاد أيضا مستقلا ، فرد إطلاق الأدلة بأنها مقيدة بما دل على للاذن ليس في محله.

قلنا : ان ثبت عند هذا القائل اذن الامام للمقلد فهو يكفي ، لأن إذنه دليل على عدم شرطيته ، لأن الإمام لا يأذن في غير المشروط ، وان لم يثبت عنده الاذن

ص: 37


1- « الموافقة » خ ل.

فأي فائدة له في هذه الإطلاقات.

فإن قلت : فائدته إثبات اذن الامام بذلك فإنهما متلازمان ، إذ بعد ما ثبت أن الحكم بين الناس حكم من الأحكام الواقعية الإلهية نظير سائر التكاليف التعبدية بإطلاق الاية الرافع لتوهم كونه من خصائص الامام ومنصوبيه ، فيثبت أيضا اذن الامام لأن كلا من الحكم الشرعي والاذن كاشف عن الأخر عندنا معاشر الإمامية القائلين بالعصمة والوحي دون الخطأ والاجتهاد.

قلت : ان كان الحكم بين الناس من الأحكام الشرعية كحرمة الخمر ووجوب الصلاة واباحة المسكر ونحو ذلك فلا معنى لاشتراطه بإذن الإمام ، لأن الأحكام تعم الناس الامام والمأموم على حد سواء ، فلا معنى لقوله باشتراط الاذن ، ولا معنى لإجماع العلماء على ذلك. واشتراط وجوب صلاة الميت بإذن الولي يرجع الى كونه شرطا للواجب دون الوجوب - فتأمل.

وان كان أمرا من الأمور المقررة لأهل المنصب والرئاسة فما ذكرنا من التقييد وارد عليه ، فان الإطلاق مع ثبوت شرطية اذن الامام بالأدلة اللفظية بل الإجماع لا يجدي في مطلوب الخصم ، فانا نقول حينئذ : ان الحكم بين الناس بمعنى القضاء في نفسه قابل للثبوت في حق المجتهد والمقلد ، لكنه يحتاج إلى إذن الرئيس الواقعي ونصبه ، والقدر الثابت منه في حال الغيبة انما هو الاذن للمجتهد لا المقلد.

ودعوى عموم الاذن لهما بإطلاق أدلة النصب. يعرف ضعفها إنشاء اللّه تعالى.

( الدليل الثاني ) مشهورة ابي خديجة عن الصادق عليه السلام : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منك يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (1).

ص: 38


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 5.

وجه الاستدلال : ان المراد بالعلم ما يشمل الظن الذي دل الدليل على حجيته بعلاقة المشابهة ، وهي وجوب العمل ، للإجماع على عدم اختصاص القضاوة بالعالم المستيقن ونفوذ قضاء المجتهد.

لا يقال : يبقى العلم على ظاهره وتحكم عليه الأدلة الظنية بعد قيام القاطع على اعتبارها ، فلا حاجة الى صرف اللفظ عن ظاهره بإرادة عموم المجاز.

لأنا نقول : العلم أخذ موضوعا للقضاء لا طريقا إليه ، وتحكيم الدليل الدال على الظن على ما يعتبر فيه العلم انما يتصور في العلم الطريقي لا في العلم الموضوعي ، فان التحكيم حينئذ لا بد فيه من التماس دليل آخر سوى أدلة الظنون كما تقرر في محله. مع أن ذلك لا يضر المستدل ، لأن أدلة التقليد حينئذ حاكمة على الرواية كما لا يخفى. فاذا ثبت أن المراد بالعلم ما يشمل الظن الواجب العمل دخل فيه ظن المقلد أيضا.

فإن قلت : المقلد ليس بظان بل هو متعبد بقول المجتهد.

قلت : المراد بالظن كل أمارة يجب العمل بها ولو تعبدا كما لا يخفى.

والجواب عنها :

أولا - ان إطلاق العلم على ما يشمل الظن - وان ذكره بعض في تعريف الفقه - لكنه ليس بمعهود في لغة العرب ، لان المجازات وان كانت نوعية الا أن علاقة المشابهة التي هي من أنواعها لا بد أن تكون في الصفات الظاهرة والجامع القريب لا كل جامع يمكن أن يفرض. ولا ريب أن وجوب العمل ليس من هذا الباب ، خصوصا على طريقة غير أهل الانسداد ممن يقول باعتبار الظنون الخاصة ، فإن مرجع ذلك في الحقيقة إلى التعبد الصرف ، نظرا الى كون الظنون الخاصة ظنونا نوعية غير مشروط بإفادتها الظن في مجاريها ، فليس في مقام العمل بها ظن حتى يشبه بالعلم لمشابهة وجوب العمل ، الا أن يلاحظ المشابهة حينئذ

ص: 39

بين الاحتمال الصرف أو بين ذات الأمارة النوعية وبين العلم.

وثانيا - ان إحراز صفة العلم بالحكم الواقعي في الحاكم لا بد أن يكون منوطا بنظر المحكوم عليه ، كإحراز صفة الرجولية ، لأن إحراز قيود الموضوع يستحيل أن يكون منوطا بنظر غير المخاطب الا بدليل آخر. فإذا أحرز الشخص عند نفسه شخصا جامعا بين الصفتين - أعني الرجولية والعلم بالحكم الواقعي - فعليه التحاكم إليه. ومن الواضح أن الجاهل بالحكم لا يعقل في حقه إحراز العلم به في شخص أو الظن به ، لان ما في وسعه إحراز شخص ظن بأن حكم الخمر الحرمة مثلا ، وهو غير إحراز ظنه بحكم الخمر ، والعلم بأن زيدا ظن بكون حكم الخمر هو الحرمة والعلم بأنه ظن حكم الخمر الواقعي ، بينهما فرق واضح بين.

ولعل المحقق القمي تفطن الى هذه الدقة حيث طابق الاستدلال بالرواية في محكي جواب سؤال على صورة علم المترافعين أو ظنهما بالحكم تقليدا فترافعا الى من يوافقهما في التقليد ، فان الحاكم حينئذ واجد لصفة الظن بالحكم في نظر هما جدا.

لكن نقول في الجواب حينئذ ما مر في صورة الموافقة من القول بالموجب وعدم بهوضه بالمقصود ، لان الحكم والإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه لا يكون يقتضي أزيد مما هو قضية الأمر بالمعرف - الى آخر ما ذكرنا ثمة.

فان قلت : على ما ذكرت يسقط الاستدلال بالرواية على نفوذ القضاء مطلقا حتى في حق المجتهد ، مع أنها من أعظم ما استدلوا به على نفوذ حكم المجتهد في زمن الغيبة.

قلت : الاستدلال بها انما هو لأجل إثبات شرعية القضاء في الجملة ، وان ما ورد من نواهي الحكومة كقوله عليه السلام (1) « اتقوا الحكومة فإنما هي للإمام

ص: 40


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب صفات القاضي.

القائم العالم » الحديث ، مختص بالمخالفين.

وأما الاستدلال بها على اشتراط الاجتهاد أو أن الحاكم هو المجتهد ، فلم نجد من معتمد ، لأن العمدة في هذا الباب هو مقبولة ابن حنظلة (1) مع أن بين المجتهد والمقلد فرقا واضحا ، لان المجتهد باعتبار اتصافه بالعلم ببعض الاحكام وقوة النظر والاجتهاد في الباقي يصدق عليه عرفا العالم دون المقلد. فلو أبقى الحديث على ظاهره العرفي من دون ارتكاب ذلك التجوز الركيك ثمَّ الاستدلال به على نفوذ قضاء المجتهد أيضا - وان كان لا بد من الاستدلال بالمشهور وما يقاربها من الروايات - فليستدل بأحسن الطرق ، وهو حمل القضايا على الأحكام الفعلية الأعم من الأحكام الواقعية والظاهرية ، فإن العمل بالأحكام الفعلية يعم المجتهد والمقلد على حد سواء كما لا يخفى.

لكن نجيب حينئذ : ان هذا الحمل خلاف ظاهر الحديث ، إذ لو كان المراد ما ذكر ينبغي أن يقال شيئا من قضاياهم لا شيئا من قضايانا ، فإضافة القضايا إليهم عليهم السلام ظاهرة أو صريحة في الأحكام الواقعية المختصة - فافهم.

وثالثا - بعد الإغماض عن جميع ذلك انها مخصصة بمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مقام تحديد القاضي الحاكم وتشخيصه ، فإنها ظاهرة في المجتهد. قال الراوي بعد حكم الامام عليه السلام بعدم التحاكم الى المخالفين وأن التوصل كل إلى الحق الثابت بحكمهم توصل الى السحت : فكيف يصنعان - يعني الرجلين المتخاصمين المذكورين في صدر الرواية؟ قال عليه السلام : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما - الحديث (2).

ص: 41


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 4.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 4.

دلت كل واحدة من الفقرات الثلاث بملاحظة ورودها في مقام التحديد المطرد والمنعكس - كما هو الشأن في قيود الحدود - على اختصاص الحكم بالمجتهد ، لظهورهما فيه. لأن رواية الحديث سواء حملت على الرواية المصطلحة في ذلك الزمان أو على المعنى اللغوي - أعني تحمل قول المعصوم عليه السلام بمعنى فهم معناه الذي هو حكم اللّه الواقعي - بعيد الانطباق على المقلد ، لأنه ليس من أهل الرواية بأحد المعنيين كما لا يخفى.

ودعوى أن المجتهد أيضا ليس من أهلها فيختص مضمون الرواية في زمن الأئمة عليهم السلام بالرواية. مدفوعة بأن المجتهد أخص من الراوي ، فكل مجتهد رأو لا محالة.

وأما اختصاص النظر في الحلال والحرام بالمجتهد ، فهو أوضح ، إذ ليس المقلد من أهل النظر كما لا يخفى.

ودعوى أن المراد بالنظر في الاحكام عدم التجافي عنها - كما هو شأن المخالفين المتجافين عن أئمتنا وأحكامهم - فيعم المقلد الشيعي أيضا. مكابرة واضحة ، لظهوره في الرواية والتفكر المختصين بالمجتهد.

وأما معرفة الاحكام فهو أيضا واضح ، خصوصا على الأخذ بظاهر الجمع وان كان ركيكا في الغاية بل مقطوع العدم لظهوره في الاستغراق العرفي الحاصل بالعلم بجملة من الاحكام. والحاصل ان ظهورها في المجتهد ومنكره مكابر.

ودعوى عدم دلالتها على الحصر لعدم حجية مفهوم الوصف ، قد ظهر ضعفها مما أشرنا من ورودها في مقام التحديد الآبي إلا عن الحصر. والعجب كيف يتجرأ في مخالفة رؤساء الفقه المصرحين بالاتفاق على المنع ، مع عدم مصرح منهم بالجواز بمثل هذه الروايات التي خرجت ووصلت من أيديهم إلينا مع عدم ظهورها في المدعى.

ص: 42

ثمَّ ان أول من استدل بها على الجواز المحقق القمي في جواب سؤاله على الوجه الذي قررناه في تقريب الاستدلال ، وقد ذكره في طي الاستدلال كلمات لا تخلو عن النظر ، خصوصا ما ذكره في رد الإجماعات تارة بحملها على قضاؤه المقلد على وجه الإطلاق الراجع إلى رئاسة عامة ، وأخرى بأنها إجماعات منقولة لا تكافؤ ظاهر الروايات ، وهو أعلم بما قال. واللّه العالم.

( الدليل الثالث ) الأدلة الدالة على اعتبار البينة وعمومها للمجتهد والمقلد ، وهي نوعان : أحدهما ما يدل على كونها ميزانا من موازنين القضاء وفصل الخصومة ويشاركها في الحكم اليمين وسائر الموازين. والثاني ما يدل على وجوب العمل بها.

« أما الأول » - فكقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) ، وقوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » الحديث.

فيرد على الاستدلال بها : أنها وردت في بيان ميزان القضاء واستخراج الحقوق ، وأما تعيين القاضي والمستخرج فموكول الى دليل خارج ، فمصبها مصب الإهمال لا مصب الإطلاق حتى ينتفع عند الشك في صفات القاضي ، ولذا لم يستدل أحد بها على نفي ما شك من صفات القاضي.

وغاية ما يتوهم في وجه الاستدلال بها أنها دلت على أن الحكم على طبق البينة في الموضوعات المشتبهة حكم اللّه الواقعي ، فيندرج تحت « ما أنزل اللّه » الذي دل ما تقدم من أدلة الحكم على وجوب الحكم به عموما ، فكما أن المجتهد له أن يحكم بين التخاصمين بمقتضى البينة أو اليمين فكذلك المقلد ، لكون الحكم حكما بما أنزل اللّه تعالى.

وفيه : ان المعلوم من أدلتها كون الحكم على طبق البينة في الجملة من

ص: 43


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

الأحكام الواقعية ، فلعل ذلك مخصوص بالمجتهد ، بمعنى كون حكم غيره بمقتضى البينة حكما بغير ما أنزل اللّه تعالى.

وبعبارة أخرى : علم من الأدلة أن فصل الخصومة بمقتضى البينة حكم من الأحكام الإلهية دون الجاهلية ، لكن على وجه الإهمال القابل للاختصاص بحكم بعض دون بعض ، على أن يكون حكم غير المجتهد بمقتضاها غير ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلا بد من ذكر دليل عام يفيد أن فصل الخصومة بها مطلقا من أحكام اللّه ، وهو مفقود ومع وجوده يستغنى عن التمسك بأدلة الحكم.

وأيضا الحكم بمقتضى البينة حكم أنزله اللّه وليس حكما بما أنزل اللّه ، وتلك الأدلة انما تدل على وجوب الحكم بما أنزل اللّه لا على الحكم الذي أنزله اللّه ، وبينهما بون بعيد - فافهم.

« وأما الثاني » فقد ظهر جوابه مما مر من أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالبينة كأدلة سائر الظنون والطرق الشرعية لا تنهض في الحجية على من يعتقد بكذبها ، فلا بد في إجراء أدلتها فرض صورة علم المحكوم عليه بصدقها وصدق المدعي ، وحينئذ فيلزم بالموجب ونقول : انه يجب عليه العمل بمقتضاها ويجب على سائر الناس أيضا إلزامه عليه مع التمرد ، فيرجع الى الإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه الذي قد عرفت أنه حينئذ لا يزيد عن الأمر بالمعروف في شي ء. واللّه العالم.

تنبيه

اشارة

( مشتمل على أمور )

( الأول ) ان ما تلونا من المقبولة من الفقرات الثلاث ظاهرة أو صريحة ولو

ص: 44

بملاحظة ما بعدها في أن العبرة في القضاء والحكومة بالحكم الواقعي هو علم القاضي وطريقه اليه ، وان كان مقتضى القاعدة - على ما أشرنا إليه - في المشهورة اناطة معرفة موضوع الحكم في الكلام بنظر المخاطب ، لأن الحوالة على أهل النظر وأهل المعرفة مع كون النظر والمعرفة من الأمور المختلف فيها باختلاف الناظرين ، بنفسه يشعر بأن المناط في تشخيص الحكم الذي لا بد أن يتراضى المتخاصمان به هو نظر الناظر.

وإذا لاحظنا مع ذلك أن نزاع المترافعين ولو بسبب الاختلاف في الحكم لا يعقل الشارع إبقاؤه البتة على حاله وإلا لكان تعريضا للنظام على الفساد ، بل لا بد من دفعه وفصله بوجود فاصل بلغ الاشعار حد الدلالة على أن ما يفصل به لا بد أن لا يكون هو الحكم الواقعي من دون تقييد له بطريق الفاصل والا لزم المحذور الذي أشرنا إليه سابقا ، وهو استحالة نفوذ الفصل والقضاء مع الاختلاف في الطريق ، لان المحكوم عليه له أن يرد القاضي الحاكم بأنك أمرت بالقضاء على حسب الواقع النفس الأمري وهذا الذي تلزمني عليه حكم الجاهلية دون الواقع ، بل هو الحكم الواقعي الذي يراه الفاضل؟؟؟ ، وإذا ضممنا الى ذلك قوله عليه السلام « فارضوا به حكما » وقوله عليه السلام « فإني قد جعلته قاضيا » تأكدت الدلالة ، لأن الحكم والقاضي إذا تعقلنا معنا هما المطابقي تعقلنا متبوعيتها في النظر وعدم جواز معارضة المحكوم عليه له بنظره أو تقليده ، وإذا أضفنا الى ذلك تفريع الامام عليه السلام على قضاوته قوله « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه » تأكدت الدلالة كما لا يخفى.

وإذا لاحظنا مع ذلك كله قول الراوي فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضينا أن يكونا ناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما الى آخر المرجحات

ص: 45

صارت الرواية نصا في المطلوب ، وهو القضاء المصطلح - أعني الإلزام في غير ما يقتضيه تكليف المحكوم عليه - بأن يكون ما يفصل به هو الواقع المقيد بالطريق القاضي إليه ، إذ لو كان المفصول به هو الحكم الواقعي الغير المقيد الغير المتصور في صورة اختلاف القاضي والمقضي عليه في الطريق لم يكن العدول من مرجحات الواقع الى ذكر مرجحات الحكمين وجه ، بل لا بد حينئذ من ذكر مرجحات الواقع بقول مطلق ، ولازمه عدم نفوذ أحد الحكمين المعينين إذا كان مرجوحا بالنسبة إلى الحكم الذي التزم به المحكوم عليه.

اللّهم الا أن تنزل الرواية على صورة جهل المتخاصمين بالحكم وعدم ثبوت طريق لهما الى الواقع. ويدفعه إطلاق الرواية كما لا يخفى.

ولو حملنا المشهورة على ما استظهرناه من الاختصاص بالمجتهد بإرادة أهل العلم من قوله « يعلم شيئا » كانت في الدلالة على القضاء المصطلح - أعني اعتبار نظر القاضي ورأيه دون المحكوم عليه مثل المقبولة - كما لا يخفى على المتدرب. وان اختصت المقبولة ببعض الدلالة مثل ذكر المرجحات للحكمين ونحوها. واللّه العالم.

( الثاني ) ان الأدلة الدالة على القضاء المصطلح إذا قيست الى الظن الذي التزم به المحكوم عليه من تقليد أو اجتهاد وتكون مخصصة للدليل الدال على اعتباره ، فيجب على المقلد مثلا الالتزام بفتوى مجتهده ، إلا إذا عارضه حكم حاكم في مقام الخصومة فيجب عليه ترك الالتزام به في تلك الواقعة والالتزام بحكمه ، وهو واضح.

( الثالث ) انه لا حاجة الى قيام دليل آخر من الخارج على حرمة نقض الحكم

ص: 46

لأنه إذا وجب الالتزام بفصل الفاصل وقضاء القاضي بحكم المقبولة والمشهورة ونحو هما من أخبار القضاء وأدلته لم يكن له معنى سوى الالتزام به أبدا والمضي عليه كذلك ، فلا حاجة الى قيام دليل آخر على حرمة نقض الحكم من المحكوم عليه أو من غيره ، لان انقضاء الأمر الذي يتفرع على القضاء يلزمه عقلا بطلان كل ما هو من لوازم البقاء.

وهذا نظير ما أفدنا في رد من زعم أن الأمر بالوفاء بالعقود لا يفيد سوى حكم تكليفي ، وأما الحكم الوضعي - وهو لزوم العقد - فيستفاد من نحو « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (1) حيث قلنا ان وجوب الوفاء بالعقد بنفسه يتضمن لزوم أثره ، وانه إذا وجب الوفاء بمقتضى العقد في جميع الحالات حتى بعد قول البائع والمشتري « فسخت » ، كان ذلك عين اللزوم ، لان هذا الأمر الوضعي لا يزيد في الأثر سوى وجوب الوفاء به في الحالات كلها كما لا يخفى.

( الرابع ) دلالة المقبولة على القضاء في الشبهات الحكمية واضحة ، واما دلالتها عليه في الشبهات الموضوعية فلا تخلو من اشكال ، لا لان موردها الشبهة في الحكم ، لأن العبرة بعموم لفظ الامام عليه السلام لا بخصوص المورد ، بل لان الحكم بمقتضى البينة ليس الحكم بحكمهم بل حكمهم ، وظاهر التفريع تخصيص المفرع عليه كما لا يخفى. فعموم قوله « انظروا » الى قوله « فارضوا به حكما » لا يجدي مع تفريع « فاذا حكم بحكمنا » عليه غيره ، فالمستند للقضاء في الشبهات الموضوعية غير المقبولة من الروايات. ويمكن أن يكون باء « بحكمنا » باء التقوية ، أي حكم حكمنا ، فيعم الشبهات الموضوعية أيضا.

ص: 47


1- الوسائل ج 12 ب 1 من أبواب الخيار.
[ نصب المجتهد المقلد للقضاء وتوكليه ]

هذا تمام الكلام في المسألة الاولى ، وأما المسألتان الأخيرتان - أعني نصب المجتهد المقلد للقضاء والنظر في المرافعات وتوكيله في إجراء صيغة الحكم - فالحق فيهما أيضا عدم الجواز ، للأصل السالم عن معارضة الدليل.

أما الاولى - أعني النصب - فلان إثبات جوازه يتوقف على أمرين أحدهما بمنزلة الصغرى والأخرى بمنزلة الكبرى : أحدهما أن يكون النصب جائزا في حق الامام عليه السلام ، والثاني أن يجوز للمجتهد كلما يجوز للإمام عليه السلام. وكلاهما ممنوعان :

( أما الأول ) فلان جواز نصبه «عليه السلام» موقوف على شرعية قضاء المقلد ، بمعنى عدم كون الاجتهاد من شرائط القضاوة عند اللّه تعالى ، إذ لو لا ذلك لم يجز للإمام عليه السلام نصبه للقضاء ، لأنه لا يأذن في غير المشروع ، ولذا يستدل بأذنه «عليه السلام» في شي ء على شرعيته وكونه من الأحكام الإلهية استدلال « ان » لا استدلال « لم » ، فلو لا اختصاص الاذن بالمشروع انسد الاستدلال.

ومن هنا يعلم أن القول بأن الامام علي عليه السلام له ان يطلق نساء المؤمنين مع القول بأن الطلاق بيد من أخذ بالساق وانه مشروط عند اللّه تعالى برضاء الزوج ، غلط فاحش وان كان النبي وخلفاؤه صلوات اللّه عليهم أجمعين أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع الأمور بنص الآية الشريفة « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » (1) الاية.

وبالجملة إذا كان الاجتهاد - كالرجولية مثلا - معتبرا في القاضي كان نصب المقلد للقضاء كنصب المرأة أمرا غير مشروع ، فجواز نصب الامام له موقوف

ص: 48


1- سورة الأحزاب : 35.

على عدم كون الاجتهاد من الشرائط الإلهية ، ولذا ذكر الفقهاء شرائط القضاوة فردا فردا مضافا الى شرائط الإذن يريدون بيان الحكم الشرعي وأن القضاء المشروع في الشرع الذي هو للإمام أولا ثمَّ لمأذونه لمن هو متصف بالشرائط المزبورة.

فإذا توقف جواز نصبه «عليه السلام» على عدم اشتراط الاجتهاد كان لنا منع الجواز لوجهين :

أحدهما - الأصل الذي أشرنا إليه ، فإن مقتضى الأصل فيما هو من قبيل المعاملات بالمعنى الأعم الاشتراط عند عدم الإطلاق ، لأصالة عدم ترتب الأثر على فاقد الشرط. ودعوى إطلاق آيات الحكم والقضاء ، قد عرفت ما فيه ولا نعيد.

والثاني - الإجماع المستفيض ، حيث صرح غير واحد بالاتفاق على اعتبار الاجتهاد في القاضي ، كما لا يخفى على أهل التتبع والخبرة.

( وأما الثاني ) أعني ثبوت الولاية العامة للمجتهد بحيث يجوز له كل ما يجوز للإمام ، فمبني على النظر في أدلة ولاية الحاكم. وقد أورد الأستاد شيد اللّه أركان افادته في باب المتاجر على عموم تلك الأدلة بما لا محيص عنه ولا ذاب ، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع اليه.

ونقول هنا إجمالا : ان هذه الأدلة كقوله صلى اللّه عليه وآله « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وقول الحجة صلوات اللّه عليه في التوقيع « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه » (2) وقوله عليه السلام « مجاري الأمور بيد الحكام » ونحوها مما يدعى دلالته على عموم ولاية الفقيه العالم الجامع للشرائط لكل شي ء كان للنبي والوصي عليهما السلام وانه نائب منابهم في جميع الأمور إلا ما خرج ، لا يجدي عند الشك ،

ص: 49


1- بحار الأنوار 2 / 22 بلفظ « علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ».
2- الوسائل ج 18 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 9.

لوجوه على سبيل منع الخلو :

( الأول ) ان الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة والعلماء والفقهاء والحكام مقام النبي والوصي صلوات اللّه عليهما في الأمور الثابتة لهم «ع» من حيث النبوة والرسالة لا مطلق الأمور الثابتة لهم ولو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم.

توضيح ذلك : ان تعليق الحكم بالوصف يشعر - خصوصا في مثل المقام المحفوف بقرائن عقلية ونقلية شتى - بالعلية ، فتشبيه العالم بالنبي أو تشبيه الراوي بحجة اللّه لا يفيد الا التنزيل والتشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين اللّه تعالى وعباده ، أو جهة الإمامة التي هي وساطة بين النبي والرعية ، فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه واسطة بين اللّه وخلقه - وهي حيثية تبليغ الاحكام - فهو ثابت لمن ناب منابه وقام مقامه.

وأما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة - كخصائص النبي من الأمور الشرعية والعادية - فالتشبيه والتنزيل المزبورين لا يعطي المشاركة فيها أيضا. ولا ريب أن ما نحن فيه وأشباهه خارج عن الحيثية المشار إليها ، بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الاحكام وتبليغ الحلال والحرام ، حتى أنه لو لا أدلة القضاء وحكم العقل بوجوب اقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة ، دونه خرط القتاد ، فضلا عن إثبات نصب القاضي غيره.

( والثاني ) ان هذه الأدلة وردت في تشخيص من تكون بيده مجاري الأمور من المصالح العامة التي دل العقل أو النقل على وجوب إجرائها ، كمباشرة القضاء ومحافظة مال الصغار وحفظ بيضة الإسلام ونحوها مما ثبت وجوب إجرائها ما دامت الشرعية باقية لا في تشخيص الأمور الجارية ، فلو شك في أمر أنه مشروع جار في المسلمين أم لا ، فلا بد في إثباته من التماس دليل آخر.

ص: 50

والتمسك بعموم المنزلة في بعض الروايات لا ثبات شرعية اجراء كل ما كان للحجة إجراؤه. يدفعه بعد عدم مجيئه فيما شك في شرعيته للحجة كما فيما نحن فيه ، ما عرفت من قصور التنزيل في الحجية والنبوة عن شمول ما هو خارج عن جهة النبوة والرسالة والحجية ، مضافا الى ما فيه افادة التنزيل والتشبيه للعموم إلا في الصفات الظاهرة الجلية التي هي في النبوة والحجية في تبليغ الاحكام.

فمفاد ما دل على قيام الفقيه مقام الإمام في مجاري الأمور ، إيكال النظر في الأمور العامة اليه ، على معنى وقوعها في الخارج على حسب ما يراه فيتبع نظره فيما يتعلق بتجهيز الموتى ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ، ولا يجوز لا حد معارضته بل لا ينفذ لو عارضه ، لا أنه يباشر كل ما يباشره الامام.

( والثالث ) انها على تقدير تسليم عمومها لا بد من تنزيلها على أمور معهودة لكثرة ما يرد عليها من التخصيص التي تشمئز النفس من ارتكابها.

توضيح ذلك : ان كثرة التخصيص بعد ما بلغ حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود ، ولذا حكموا في كلمة الناس في قوله تعالى « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » (1) الاية : بأن المراد به في الأول نعيم بن مسعود وفي الثاني أبو سفيان وأصحابه على طريق العهد دون التخصيص ، حذرا من استهجان تخصيص الأكثر. نعم لو لم يبلغ كثرة التخصيص الى حد الاستهجان كان حينئذ سببا لوهن العام ، بحيث لا تطمئن النفس في العمل بعمومه الا بعد الاطمئنان بعدم كون المورد من الافراد الخارجية ، ولذا قلنا في « لا ضرر » وأشباهها كلا حرج وآيات القصاص أنه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج عن تحتها ، الا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها.

ص: 51


1- سورة آل عمران : 173.
[ حكم التوكيل في القضاء ]

( وأما المسألة الثانية ) أعني مسألة التوكيل فالحق فيها أيضا عدم الجواز وفاقا للكل أو الجل ، لان التوكيل مشروط بعدم اشتراط المباشرة في تأثير الحكم والا لم يعقل فيه التوكيل ، واشتراطها هنا اما معلوم أو مشكوك ، والتمسك بأدلة الوكالة غير مجد في المقام.

وتوضيح المرام : ان الافعال التي يترتب عليها أثر وغرض شرعي على ثلاثة أقسام :

منها - ما يكون ذلك الغرض والأثر لازم ذات الفعل من غير مدخلية إضافته الى بعض دون بعض ، نظير الطهارة الخبثية التي هي أثر الغسل المطلق ، من غير اعتبار محل خاص في التأثير حتى لو صدر من الحيوانات لأثر أيضا أثره.

ومنها - ما يكون الأثر المقصود مترتبا على صدور الفعل من الشخص ولا يكون الأثر أثرا لذاته ، وهذا أيضا على قسمين :

أحد هما : ما كان مطلق الفعل الشامل لنوعي المباشرة والتسبيب كافيا في التأثير على أن يكون المعتبر في حصول ذلك الأثر ذلك الفعل مباشرة أو تسبيبا ، كالثواب المترتب على بناء المسجد ، فان ذلك غير مشروط بالمباشرة بل يترتب على البناء الحاصل من فعل الأجير أيضا.

وثانيهما : ما كان حصول الأثر فيه موقوفا على المباشرة ، بأن يكون ذلك الأثر ثابتا للفعل المتقوم بمحل خاص على وجه يكون للإضافة الى ذلك المحل مدخلية في التأثير ، كالعبادات التي لا يحصل منها الغرض المقصود إلا بالمباشرة.

ومن البديهيات أن التوكيل انما يتصور في أحد القسمين الأولين ، وأما القسم الثاني فالتوكيل فيه من المستحيلات. نعم يتصور التوكيل حينئذ في

ص: 52

ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه ذا أثر لا الفعل من حيث كونه مؤثرا ، فالفعل الذي يترتب عليه الأثر لا يتصور فيه التوكيل ، والذي يتصور فيه التوكيل لا يترتب عليه الأثر.

فلو أحرزنا كون الفعل من أحد القسمين الأولين فلا إشكال في حصوله أصالة ووكالة من غير فرق بينهما ، الا أن ترتب الأثر في القسم الأول لا يتوقف على التسبيب فضلا عن التوكيل والاستنابة أو قصد الوكيل النيابة عن الموكل ، بل يحصل ولو قصد الخلاف والاستقلال.

بخلاف القسم الثاني فإنه على أقسام :

منها : مالا يتوقف حصول الأثر فيه على الاستنابة والتوكيل بل يحصل بمجرد التسبيب ولو من غير استنابة وان حصل أيضا مع التوكيل والاستنابة.

ومن هذا القبيل بناء المسجد لتحصيل الثواب بالاستيجار وتوضي العاجز بفعل الغير بجعله آلة للوضوء فهو المتوضي حقيقة بجوارح الغير الراجع الى التسبيب الصرف. وفي هذا القسم لا يعتبر في محل الفعل شي ء من شرائط التكليف ، حتى لو فرض التسبيب الى فعل الحيوانات لأثر أيضا.

ومنها : ما يحتاج إلى الاستنابة والتوكيل ، إما مع عدم اعتبار قصد النائب النيابة أو مع اعتباره.

ومن قبيل الأول العقود والإيقاعات ، فإن الأثر المقصود منها يترتب على فعلها مباشرة وتسبيبا بالتوكيل لا بغيره ، من غير اعتبار قصد الوكيل النيابة.

ومن الثاني الاستنابة في الأعمال العبادية بالمعنى الأخص.

والغرض الإشارة الإجمالية إلى أقسام القسم الثاني لا إعطاء الضابط ، فان تميز الاقسام مطلوب من ملاحظة أدلة كل باب.

وان شك في كون الفعل من أحدهما أو من القسم الأخير كان ذلك شكا في

ص: 53

صدق الوكالة لا في صحتها ، فان دل دليل عام أو خاص على كون الفعل من أحد الأولين لم يحتج في إثبات الوكالة حينئذ إلى دليل آخر ، كما أنه إذا دل دليل كذلك على جواز الوكالة في المشكوك كان ذلك دليلا على كونه منهما.

إذا تحقق ذلك فنقول : ان ما ورد في باب الوكالة من الأدلة لا يتكفل شي ء منها لبيان هذا المهم ، أعني قبول كل فعل من الأفعال الشرعية للنيابة إلا ما خرج بالدليل ، لان ما ورد فيها كلها مسوق لبيان أحكام الوكالة وشرائطها مثل ما ورد في استمرارها الى بلوغ العزل.

ولا ريب أن الدليل المسوق لبيان أحكام الشي ء كلا أو بعضا لا يدل على تعيين مجاري ذلك الشي ء ومصاديقه ، كما أن الدليل على جواز الوكالة عموما أو خصوصا لا يدل على حكمها وشرائطها ، فهنا مقامان : أحدهما إثبات قبول المشكوك للوكالة ، والثاني بيان حكم الوكالة من حيث كفاية الفعل وعدم اعتبار اللفظ ونحوها من الاحكام. والدليل المتكفل لبيان المقام الأول لا يجدي في المقام الثاني ، كما أن الدليل الوارد في المقام الثاني غير مجد في المقام الأول.

ومن هنا يظهر سقوط الاستدلال بعمومات العقد ، كقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1) عند الشك في القابلية ، لأن الشك فيها شك في صدق الاسم ، كما إذا شك في أن الشي ء الفلاني من المملوكات القابلة للنقل أم لا ، أو أنه من الحقوق القابلة للصلح والتجاوز أم من الاحكام ، فمن تمسك ببعض ما ورد في باب الصلح على جوازه في كل شي ء مشكوك في قابليته باعتبار الشك في كونه من الأحكام أم من الحقوق أو بعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » لا ثبات صحة الصلح حينئذ أو لصحة الوكالة فيما شك في قبوله النيابة ، فقد سهى سهوا بينا.

ص: 54


1- سورة المائدة : 1.

ولأجل ذلك ترى الأصحاب يصرحون في باب الوكالة بجميع ما يقبل الوكالة وما لا يقبل من أول الطهارة إلى آخر الديات ويذكرونها فردا فردا بعد الإشارة إلى شرعية أصل الوكالة.

فظهر أن الشك في قابلية الشي ء للوكالة لا رافع له الا بملاحظة أدلة ذلك الشي ء ، فان دلت على اعتبار المباشرة فيه فهو ، وكذا لو دلت على عدم اعتبارها وان كانت مجملة ، فالمرجع في كل باب الى الأصل المقرر في ذلك الباب. واللّه العالم.

تتمة

[ قضاء المقلد في حال الاضطرار ]

ما ذكرناه من عدم جواز قضاء المقلد كان مختصا بحال الاختيار ، وأما حال الاضطرار - يعني عدم وجود مجتهد في البلد وتعسر الترافع اليه أو تعذره - فيظهر الحال فيه بعد ذكر مقدمة أشرنا إليها إجمالا ، وهي :

ان وجوب القضاء وفصل الخصومات ورفع المنازعات من المستقلات العقلية التي يستقل بها العقل بعد حكمه بوجوب بقاء النظام ، ولذا احتملنا قويا في الآية الشريفة « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ » (1) أن يكون المتفرع على الخلافة القيد ، أعني كون الحكم على نحو الحق ، بأن تكون شرعية أصل الحكم له معلومة بالعقل المستقل ويكون الغرض من التفريع آكدية الحكم بالحق في حق الخلفاء. لكن ذلك الحكم من العقل على وجه الإيجاب الجزئي ، بمعنى حكمه بوجوب وجود القاضي والفاصل في الجملة ، وأما حكمه بوجوب القضاوة على الجميع أو على البعض المعين فلا.

ص: 55


1- سورة ص : 25.

ولا يرد عليه : أن الإجمال في حكم العقل غير معقول ، لأن الإجمال ليس في موضوع حكم العقل ولا في محموله بل في مصاديق الموضوع. نظير استقلاله بقبح تناول المضر ، فإنه لا ينافي شكه في قبح تناول شي ء باعتبار الشك في اندراجه تحت مفهوم المضر.

فالذي يقضي به العقل أن يكون شخص قاضيا بين الناس مع عدم ترتب المفسدة على قضاوته ، ولما لم يتشخص عنده هذا الشخص ولا يدرك مصاديقه فتعيينه موكول الى الشارع العالم بخفيات الأمور ، فتعيين الشرع شخصا للقضاء تشخيص لموضوع حكم العقل ، كما أن حكم الشرع بأصل القضاء تأكيد لحكم العقل ، فان تعين من قبل الشارع القاضي فهو المتبع ، وإلا فإن كان في المكلفين شخص متفق عليه وقدر متيقن وجب الاقتصار عليه ، لأن الضرورة تتقدر بقدرها ، والأوجب على المكلفين جميعا وجوبا عقليا كفائيا ، لاستحالة التعيين المستلزم للترجيح بلا مرجح.

وهذا أصل عقلي مطرد في جميع الأمور الحسبية القاضي بإقامتها العقل المستقل ، كاغاثة الملهوف ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ونحوها من الأمور الحسبية ، فإن الضابط فيها ما ذكرنا من اتباع التعيين الشرعي للمقيم بها ، ومع عدم التعيين الشرعي فالاقتصار على الشخص المتفق عليه والقدر المتيقن ، ومع التساوي فالوجوب الكفائي.

إذا تحقق ذلك فاعلم : أن حكم النزاع في الموضوعات غير حكمه في الحكم الشرعي ، فهنا مسألتان :

( الأولى ) الشبهات الموضوعية

فالذي يقتضيه النظر أن في حال الاضطرار - بمعنى تعذر الرجوع والرفع الى المجتهد أو تعسره تعسر ألا يرضى الشارع بمثله - لا يشترط في القاضي الاجتهاد ،

ص: 56

فيجوز للمقلد حينئذ بل يجب وجوبا عقليا ناشئا من استقلال العقل بمقدماته ولو بملاحظة حال الشارع :

« أحدها » وجوب حسم مادة النزاع والدعوى وعدم جواز الحكم ببقاء الدعاوي غير مفصولة في المنازعات التي هي مجاري البينات والايمان. وهو واضح والإلزام اختلال النظام وتضييع الحقوق والأموال المعلوم من الشرع وجوب حفظها كالنفوس حسبة ، بل ربما يؤدي الى ضياع النفوس المحترمة جدا.

« وثانيها » - عدم جواز الرجوع الى سلطان البلد وتبعته ، لكون الترافع إلى الجائرين رجوعا الى الجبت والطاغوت المحرم بنص الكتاب العزيز والسنة والإجماع المحقق.

فان قلت : حرمة المراجعة إليهم حال الاضطرار غير مسلمة ، لان الضرورات تبيح المحظورات ، وأي ضرورة أعظم من محافظة النظام والحقوق والنفوس ، فلا يزاحمه شي ء من المحرمات.

قلت : المقدمة المحرمة يجوز ارتكابها لبعض الواجبات المهملة إذا انحصرت المقدمات فيها ، وأما مع عدم الانحصار - كما فيما نحن فيه لا مكان وجوب الحفظ المشار اليه بالمرافعة الى غير الجبت والطاغوت - فهي باقية على حرمتها.

فان قلت : ليس في المقام مقدمة مسلمة غيره الا بعد معلومية شرعية قضاء غير المجتهد ، وهو أول الكلام.

قلنا : كونه أول الكلام لا يلحقه بالرجوع الى الجبت والطاغوت في التحريم لأن غاية ما ثبت من الأدلة عدم شرعية قضاء المقلد في حال الاختيار من جهة عدم الدليل لا من جهة حرمته ذاتا كالرجوع الى الجبت. ولو سلم حرمته الذاتية فالقدر المسلم منه حال الاختيار لا مطلقا ، وأما الرجوع الى الطاغوت فحرمته

ص: 57

تعم الأحوال كلها جدا.

« وثالثها » - عدم وجوب الرجوع الى المجتهد الذي فرض كون الرجوع اليه لبعده عن بلد المخاصمة متعذرا أو متعسرا لا يرضى الشارع بمثله ، وهو أيضا واضح. ضرورة أن ما يقع في البلد في كل يوم أو شهر من الدعاوي لو قيل بأنه يجب فيها الرجوع الى المجتهد النائي. وأنه لا بد للمتخاصمين من شد الرحال إليه في قليل من الدعوى أو كثيرة ، كان أمرا مضحكا لا ينبغي نسبته الى عاقل فضلا عن حكيم. وبعد ملاحظة هذه المقدمات فالعقل يستقل بأنه يجب أن يكون في ذلك البلد رافعا للمخاصمات في الشبهات الموضوعية على وجه تأتي إليه الإشارة.

( المسألة الثانية ) ما إذا كان المتنازع فيه من المسائل الخلافية.

مثل منجزات المريض وثبوت الشفعة إذا كان الشركاء أزيد من ثلاثة وتحريم عشر رضعات وأمثالها.

والتحقيق عدم استقلال العقل فيها بوجوب رفع المخاصمات من مقلدي البلد ، لأنه لا يلزم من عدم فصله مخالفة قطعية أو احتمالية للواقع أزيد مما يلزم من الفصل. وليس فيه أيضا اختلال النظام. بل يجب عليهم الرفع الى المجتهد النأي. وليس فيه مشقة أصلا ، مثل ما كان في الشبهات الموضوعية ، إذ لا يحتاج الفصل فيها إلى إقامة بينة وجرحها وتعديلها ، لان الحكم في المسائل الخلافية انما يحصل بمجرد الفتوى ، فيجب على المدعي ترك الدعوى الى أن يستفتي حال المسألة عن المجتهد النائي. وهذا أمر سهل ، لا غاية ما في ذلك استدعاء الاستفتاء زمانا قليلا أو كثيرا ، وترك الدعوى في المسائل الخلافية برهة من الزمان ليس فيه من المحذور شي ء.

ومما ذكرنا ظهر الحال في صورة التداعي أيضا ، فإن تكليف المتداعيين

ص: 58

ترك الخصومة الى أن يظهر الحال ، وعلى المؤمنين كفاية يجب منعهما عن الدعوى ، كمنع المدعي في صورة عدم التداعي.

كما ظهر أيضا أنه لا يرد علينا لزوم تعطيل المال في بعض المسائل الخلافية ، لأنه إنما يقبح لو كان مستداما ، وأما مع تمكن الاستفتاء من المجتهد ولو في عرض سنة أو سنتين فلا ضير فيه.

وأما القول بأن متاركة الدعوى أو ترك المدعي للدعوى وعدم فصلها يستلزم العلم بالمخالفة القطعية ، نظرا الى حصول العلم عادة بأن الدعاوي إذا كثرت - ولو في المسائل الخلافية - حصل العلم بحقية بعضها ، فيلزم من منع الكل مخالفة علمية.

ففيه بعد ما مر من أن الترك ليس مستداما بل في برهة من الزمان : المنع الواضح لان فصل الدعاوي إذا كان الحق في طرف المدعى عليه عند المجتهد الذي يقضي بينهما يتضمن هذا المحذور أيضا ، فإن كان في منع المدعي عن الدعوى في الدعاوي الكثيرة قبحا لاستلزامه المخالفة العلمية - كان قضاء مثل هذا الحاكم أيضا كذلك.

وبالجملة فرق وضاح بين الشبهات الموضوعية والحكمية ، فإنه لا علاج عقلا في الأول الا بمباشرة شخص من أهل البلد للخصومات ، لان تكليف المترافعين على شد الرحال الى المجتهد عسر منفي وأمرهما بترك الدعوى تضييع للحقوق وابقاءهما متعاركين ومتنازعين يستلزم الفساد والفتنة المستلزمين لاختلال النظام ، والرجوع الى حكام الجور ركون الى الجبت والطاغوت.

فيتعين أن يكون من المؤمنين من يقوم بموازين القضاء ، فان غرض الشارع متعلق بإقامتها جدا ، وتعيين المقيم كالنبي والوصي ومأذونهما غرض في غرض ، وحيث يتعذر أحد الغرضين لا يجوز إهمال الغرض الأخر. بخلاف الشبهة

ص: 59

الحكمية ، فإنه لو أمر المتخاصمين بترك النزاع الى أن يظهر الحال من المجتهد فلا يلزم شي ء من المحذورات. وليس لك أن تقول كذلك في الأول ، لأن الاستفتاء لا ينفع.

هذا كله إذا أمكن الرفع الى المجتهد ، وان تعذر اما لعدم وجوده في العالم - العياذ باللّه - أو مع وجوده وعدم إمكان الرجوع اليه فالحكم في الشبهات الحكمية كما ذكرنا ، فيتوقع زمان الاختيار بوجود مجتهد رافع وفاصل للدعاوي.

نعم في بعض المسائل الخلافية يلزم حينئذ تعطيل المال الأبدي ، وحينئذ لا بد من سلوك طريق سالم عن هذا المحذور ، الا أنه لو قيل بمتاركة الدعوى حينئذ وإبقاء المال في حكم مال مالك له ظاهرا ان كان المورد من التداعي والا في يد المدعى عليه لم يلزم أيضا محذور ولا يجوّزه العقل أزيد مما يلزم من حكم الحاكم وقضاء القاضي بمجرد الفتوى كما أشرنا.

وأما الشبهات الموضوعية فالحكم فيها أيضا كما ذكر من وجوب وجود رافع للخصومات من مقلدي البلد ، لكن بينه وبين إمكان الرجوع الى المجتهد مع التعسر في الاستيذان ، فرق يظهر في ضمن بعض التنبيهات.

[ ما يختص بأحكام المقلد المنصوب للقضاء ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان ما سمعت من سقوط شرط الاجتهاد حال التعسر ليس المراد به استبداد أهل البلد في نصب المقلد للقضاء ، بل يجب عليهم الاستنصاب من المجتهد ، فنصب المجتهد بعض أهل البلد للقضاوة ، وذلك للقاعدة المشار إليها من الاقتصار على القدر المتيقن ، لان احتمال مدخلية نصب المجتهد في تلك الحالة قائم ومعه لا يجوّز العقل - أي لا يستقل - باستبدادهم من دون نصب

ص: 60

المجتهد.

فالمراد من كون الاجتهاد شرطا اختياريا أنه مع التعذر يجوز قضاؤه المقلد بنصب المجتهد ، بخلاف حال الاختيار فإنه لا يجوز مطلقا حتى مع النصب.

( الثاني ) انه لو قيل باستبداد أهل البلد وأنه لا مدخلية لنصب الحاكم في حال الاضطرار لا يجوز لهم الاستبداد أيضا. نظير مسائل التقليد ، فان القول بجواز تقليد المفضول مثلا لا ينفع بحال العامي المقلد ، إذ يجب عليه على كل حال الرجوع الى الأعلم.

فالجواز وعدم الجواز في هذه المسائل انما هو حكم المسألة التي يجري على طبقها المجتهد لا المقلد ، بل المقلد يجب عليه سلوك القدر المتيقن ، لأن الأخذ بغيره من المسائل النظرية يحتاج الى اجتهاد صحيح ليس المقلد من أهله ، والقدر المتيقن في كل مسألة شي ء كالرجوع إلى الأعلم في مسألة التقليد والاستنصاب من المجتهد فيما نحن فيه ، ثمَّ المجتهد يرى رأيه فيفتي بمقتضى رأيه. فالبحث في أمثال هذه المسائل إنما ينفع للمجتهد دون المقلد ، وهو واضح ومتضح في محله.

( الثالث ) إذا نصب المجتهد مقلدا للقضاء ، ففي جواز قضائه مطلقا أو في خصوص ما لو رفع الى المجتهد لكان حرجا. وجهان مبنيان على أن العسر والحرج المنفيين في الشرع هل هما منوطان بالحرج والعسر الغالبين أو الشخصيين.

وقد مضى في باب الغصب في إتقان قاعدة لا ضرر بعض الكلام في ذلك ، فعلى الأول يقضي مطلقا وعلى الثاني لا يقضي الا في الموارد العسرية والحرجية.

وفي غيرها - كما إذا لم يكن على المدعي والمنكر المسير الى المجتهد مع البينة والجارح والمعدل عسرا أصلا ، أو كان الفاصل لدعواهما هو اليمين خاصة مع

ص: 61

سهولة المسافرة إلى المجتهد في غاية السهولة ، يرجع الى المجتهد.

ويمكن أن يقال : انه لو قيل بأن المناط هو الحرج الشخصي لم يلاحظ فيما نحن فيه خصوصيات الموارد أيضا ، لأن تميز موارد الحرج عن غيرها ينجر الى الاحتياط في الموارد المشتبهة وهو بالرجوع الى المجتهد ، فيلزم الحرج والعسر أيضا. نظير ما قيل في نتيجة دليل الانسداد من بطلان الاحتياط ولو في مجاريه ، لان تميز موارد الاحتياط لعسره ينجر الى الاحتياط في كثير من الشبهات الذي هو عسر ، خصوصا في حق المقلد العامي الذي لا يتمكن من تميز موارده الجلية فضلا عن الخفية.

لكنه قياس مع الفارق ، لأن المسافرة إلى المجتهد ليست من الأمور التي لا يعرف سهولتها وصعوبتها كما لا يخفى.

( الرابع ) هل يجب على المقلد المنصوب القضاء بحسب ما يقتضيه تقليده في موازين القضاء أو يجب عليه الأخذ بالطريق الأرجح والأقوى ، كموافقة المشهور ان كان من أهل معرفة ذلك ، ونحوه من الأمور المقررة المترتبة للتقليد عند عدم المجتهد.

وبعبارة أخرى : حال القضاء بعد فرض نصب المجتهد كحال التقليد في الرجوع الى كتب الأصحاب والأخذ بالمشهور ثمَّ الأكثر قائلا وهكذا ، أو يجب على المنصوب القضاوة على حسب التقليد؟ وجهان أقواهما الثاني ، لأن ترجيحات المقلد لا عبرة بها في نظر الشارع ، والأخذ بأقوى الطريقين انما هو تكليف من كلف بالنظر ، وأما من منع عنه وأمر بأمر تعبدي كالتقليد فما يلوح له من الظنون الموافقة لذلك الأمر التعبدي أو المخالفة له مثل الحجر الموضوع في جنب الشجر ، فالتقليد والقضاء حيث يجوز يصدران من مصدر واحد.

ونظير هذا التوهم ما توهم في رد الاستدلال على وجوب تقليد الأعلم ،

ص: 62

بأنه الأقرب الى الواقع ، من أن قول المفضول قد يكون هو الأقرب لموافقة الشهرة ونحوها. وفساده يظهر مما أشرنا إليه هنا وبسطناه في محله.

( الخامس ) هل يجب على المقلد القضاء بحسب تقليد مجتهده أو بحسب رأي المجتهد الناصب له أو يتخير ، والمقصود بيان تكليف المجتهد وأنه بأي شي ء يفتي لا تكليف المقلد ، فإنه يجب استظهار الحال من السؤال عن المجتهد الناصب على أي حال كما مر.

والظاهر أن المرجع فيه نظر الناصب أيضا ، ولو للقاعدة المشار إليها من الأخذ بالقدر المتيقن أو لأن الطرق المخالفة لرأيه غير فاصل للقضاء ، كما هو الشأن في جميع الأمور المختلفة.

( السادس ) يجب على الناصب نصب أعلم أهل البلد تقليدا وأورعهم ، إلى آخر ما يرجح به في المجتهدين من المرجحات ، وهو واضح لأنه القدر المتيقن.

( السابع ) يجب على أهل البلد في الصورة الأخيرة - يعني حال تعذر الاستنصاب أيضا - نصب أعلم أهل البلد للقضاء ، وميزان القاضي حينئذ هو ميزان التقليد عند تعذر المجتهد ، وهو مذكور في محله على نحو من الترتيب.

هذا إذا لم يكن المقلد القاضي ملتزما بتقليد ، والا فيقضي حسبما يقتضيه تقليده.

( الثامن ) قضاء المقلد في جميع الفروض المزبورة فائدته رفع الفتنة والفساد ومحافظة الحقوق خاصة ، وأما سائر ما يترتب على قضاء المجتهد من الأحكام - كحرمة النقض وعدم جواز تجديد المرافعة - فلا لان العقل انما يستقل بما ذكرنا ، وأما هذه الأحكام فهي أمور ثابتة من الأدلة الشرعية.

وما ذكرنا سابقا من عدم الاحتياج في إثبات حرمة النقض الى غير أدلة

ص: 63

القضاء فإنما هو في الأدلة الشرعية ، فإن لفظ « القضاء » يستفاد منه حرمة النقض أيضا على ما مر إليه الإشارة ، ومن الواضح أن حكم العقل أمر لبي معرى عن جميع المفاهيم التي تستفاد من الأدلة اللفظية.

ثمَّ ان المحقق القمي قد سمعت أنه تعرض لبعض هذه الفروع في جواب سؤاله ، وعلى صاحب المجال المراجعة إليه لا بد. واللّه العالم بحقائق الأمور.

التقاط [ عدم جواز الترافع الى حكام الجور ]

لا يجوز الترافع والتحاكم الى حكام الجور في حال الاختيار ، أي مع إمكان الرجوع الى حكامنا بالأدلة الأربعة :

( فمن الكتاب ) قوله تعالى « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (1).

ورد على ما قيل في حق بعض المنافقين الذي وقع بينه وبين بعض اليهود منازعة حيث رضي اليهودي بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وامتنع عن ذلك ورضي بحكم بعض اليهود.

ودلالته على حرمة المرافعة إلى الطاغوت المراد به حكام الجور واضحة من احدى الجهتين :

( إحداهما ) أن يقال : ان التعجب المدلول عليه بقوله « أَلَمْ تَرَ » متوجه ومتعلق بالجمع بين زعم الايمان وارادة التحاكم الى الطاغوت ، فيدل على أن زعم الايمان لا يجامع تلك الإرادة فضلا عن المزعوم به - أعني الايمان - والمراد - أعني التحاكم - فيكون الكلام في أعلى درجة البلاغة والمبالغة في

ص: 64


1- سورة النساء : 59.

بيان حرمة الترافع إليهم.

( وثانيتهما ) كما هو ظاهر ما يقتضيه قاعدة اللفظ أن يقال : ان محل التعجب ليس هذا الجمع بين الأمرين بل هو ارادة التحاكم الى الطاغوت مع كونهم مأمورين بكفرانه ، فيكون حينئذ أيضا دليلا صريحا على حرمته كما لا يخفى.

لكن الأول أبلغ وآكد في المطلوب كما قلنا ، لكن يكون العدول من الايمان الى الزعم حينئذ حيث لم يقل « الى الذين آمنوا » بل قال « يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا » لنكتتين : إحداهما التنبيه على نفاقهم وأنهم يزعمون أنهم مؤمنون وليسوا منهم واقعا ، والثانية التنبيه على أن ارادة التحاكم الى الطاغوت ناش من نفاقهم أعني الايمان الزعمي ، بناء على اشعار التعليق على الوصف بعليته.

( ومن السنة ) مقبولة عمر بن حنظلة وفيها : من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به (1).

وكلمة « سحتا » حال مفسرة للموصوف.

وقد استشكل صاحب الكفاية في كونه سحتا مع كونه حقا فيما إذا كان المتنازع فيه عينا. وفيه ان ظاهر لفظ « السحت » الدين ، لأنه عبارة عن مال الغير ، فلا ينطبق على ما إذا كان المأخوذ بحكم الطاغوت عينا إذا كان حقا ، بأن يكون المأخوذ ماله في الواقع.

ولعله توهم أن السحت مطلق المال الحرام ولو كان مال نفسه إذا حرم لعارض. وهو فاسد. بل السحت لغة معناه مال الغير المحرم. فلا دلالة في الحديث حينئذ على حرمة المأخوذ إذا كان عينا.

ص: 65


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

ولا إشكال ، لأن الدين لا يتشخص بدفع المدعى عليه كرها ناشئا من حكم الحاكم ، فيكون سحتا لكونه باقيا في ملك الدافع ، الا أن يتوصل الى حله بنحو آخر خارج عن مفروض الحديث كالمقاصة ونحوها ، وهو خارج عن مدلول الرواية ، ضرورة عدم سوق الحديث لا ثبات حرمة المأخوذ بحيث لا يقبل سببا محللا.

والحاصل ان مقتضى الإجبار الجوري على الدفع أنه لا يتشخص ما في ذمة الدافع في المدفوع ، ومعه لا شبهة في كونه سحتا حراما. وإمكان عروض سبب الحل بعد ذلك لمقاصة ونحوها لا ينافي الحكم بحرمته وبكونه سحتا قبل طرو السبب - فافهم.

هذا إذا كانت المقاصة جائزة مع وجود الحاكم وإمكان التوصل إلى الحق بحكمه ، والا فلا إشكال في الحديث أصلا ، لأن مفروض الحديث صورة إمكان الرجوع والترافع الى حكام العدل ، فيكون المأخوذ سحتا غير جار فيه التقاص أيضا.

هذا حكم حال الاختيار ، وأما حال الاضطرار - بمعنى عدم إمكان التوصل إلى الحق الا بالتحاكم الى حكام الجور - فالظاهر الجواز. وما يقال من أنه اعانة على الإثم فيحرم ، مدفوع :

أولا - بالمنع لاختلاف الحيثيتين ، فان التحاكم حينئذ توصل إلى الحق ، فمن هذه الحيثية لا يندرج تحت الإعانة ، فإن بعض الافعال يتنوع بحسب القصد كما لا يخفى. مع أنه لا اعانة فيه للحاكم المرجوع إليه أصلا.

وثانيا - ان أدلة نفي الضرر حاكم على ما دل على حرمة الإعانة ، نظير حكومتها على سائر التكاليف الشرعية. واللّه العالم.

ص: 66

التقاط [ لم يجبر واجد شرائط القضاء على القضاء مع وجود مثله ]

قال في الشرائع : لو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله ، ولو ألزمه الإمام قال في الخلاف لم يكن له الامتناع ، لان ما يلزم به الامام واجب ، ونحن نمنع الإلزام ، إذ الإمام لم يلزم بما ليس لازما - انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره من عدم الجبر مشكل مع كون القضاء كفائيا ، لان الكفائية عند الأكثر تتضمن التعيين الحتمي وان كان فعل البعض مسقطا ، ومع فرض الوجوب التعييني اتجه الإجبار. الا أن يقال : انه بالامتناع يخرج عن القابلية لكونه فسقا.

وهو جيد ، لكن يلزمه عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا ، مع أنه صرح فيها بالإجبار ووجوب الإجابة.

ويمكن أن يقال : ان القضاء انما يكون كفائيا بعد اذن الامام ، وكلامهم في بيان الحال قبل حصول الاذن ، فهو قبل تحقق الاذن ليس بواجب على أحد ، حتى يكون كفائيا أو غيره.

ويدفعه : أولا ان لازم ذلك عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا. وثانيا ان القضاء واجب كفائي ، واذن الامام شرط الصحة نظير اذن الولي في صلاة الميت - فتأمل.

ثمَّ ان ما ذكره المحقق في رد الشيخ لا يخلو عن غموض واشكال ، وتوضيح المقام ان أمر الامام وإلزامه على أنحاء : منها ما يتعلق بالواجبات العينية ، ومنها ما يتعلق بالسياسات ، ومنها ما يتعلق بالأمور العادية الراجعة إلى حوائج الإمام عليه السلام كشراء اللحم وتزويج المرأة وما شابههما.

ص: 67

لا إشكال في وجوب طاعة الإمام عليه السلام في الأول ، لأن أمره حينئذ أمر اللّه تعالى ، بلا تحقيق أن تسمية ذلك الطاعة للإمام مسامحة ، لأن الأمر بالواجبات المجهولة لا جهة له الا الكشف عن أمر اللّه تعالى وبالواجبات المعلومة لا جهة له سوى الأمر بالمعروف المساوي فيه كل الناس.

وكذا لا إشكال في وجوب إطاعته في القسم الثاني الراجع الى السياسات المدنية ، لأن التدبير المدني في الرعية أمر مأمور به من قبل اللّه تعالى ، فهو راجع الى القسم الأول حقيقة.

وأما الثالث الذي هو مصداق اطاعة الامام عليه السلام ليس الا ، فوجوبها أيضا ثابتة بالأدلة الأربعة ، قال اللّه تعالى « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) دل على استقلال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في الإطاعة ، وهو لا يكون إلا في الأوامر الراجع مصالحها اليه «صلی الله علیه و آله و سلم» .

إذا تحقق ذلك فالأمر بالواجبات الكفائية إذا فرض كونه على وجه الحتم والإلزام لا بد أن يرجع الى أحد القسمين الأخيرين ، فاما أن يكون تعيين الملزم عليه له خصوصية راجعة إلى السياسات أو إلى الامام عليه السلام. وعلى التقديرين اتجه ما في الخلاف ولا يظهر وجه لما ذكره المحقق.

ولعل مراد المحقق أن الأمر بالواجبات الكفائية من حيث أنه واجب كفائي لا يجب إجابته ، لأن هذه الحيثية غير ملزمة ، والأمر بها لا يزيد عن هذه الحيثية ، فلو وجدنا إلزامه «عليه السلام» لواجب كفائي حملناه على الإلزام من الحيثية المشار إليها ، فلا يجب الإجابة لا أنه إذا علمنا الإلزام زائدا على ما يقتضيه الكفائية لم يجب الإجابة أيضا ، وهو واضح. واللّه أعلم.

ص: 68


1- سورة النساء : 59.

التقاط [ حكم ما يعود إلى القاضي من الأموال ]

فوائد القضاوة وما يصل الى القضاوة من جهة القضاوة على أقسام بين حلال وحرام :

( منها ) ارتزاق القاضي من بيت المال ، وهو البيت المجتمع فيه مال المسلمين ، أعني ما أعد لمصالحهم ، كسهم سبيل اللّه من الزكاة والأجور المحصلة من الأراضي الخراجية والأوقاف العامة لكل المسلمين ، فان هذه الأموال فالمسلمون فيها شرع سواء. وليس المراد به مطلق الزكاة أو ما يرجع الى الفقراء ، فيجوز لوالي البلد أن يرزق القاضي من بيت المال إذا امتنع من مباشرة القضاوة إلا به.

أما على القول بجواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية فواضح ، فيدل على جواز الارتزاق حينئذ فحوى ما دل على جواز أخذ الأجرة ، لأن الارتزاق ليس بأجرة حقيقة وان كان يرجع إليها بحسب المعنى.

وأما على القول بعدم جواز أخذ الأجرة فلان الارتزاق لا يصدق عليه الأجرة حقيقة كما عرفت فلا مانع منه. نعم مع وجود المتبرع بالقضاوة ففي جواز الرزق للوالي وجهان : من كون نصب القاضي من المصالح العامة ، ومن أن مصلحة المسلمين مع وجود المتبرع نصبه لا نصب المرتزق ، الا أن يكون في نصبه مزية راجعة إلى المسلمين.

ولا فرق فيما ذكرنا بين صورة الانحصار وعدمه ولا بين احتياج المنصوب وعدمه ، لكن في الشرائع الفرق بين الصور ، فاشترط في جواز الارتزاق أحد الأمرين اما الحاجة أو عدم الانحصار ، فلو لم ينحصر جاز مطلقا ومع كون الأفضل عدم الارتزاق عند عدم الحاجة ، وان كان محتاجا جاز مطلقا أيضا.

ولعل الوجه في ذلك صدق الرشوة المنهي عنها للقاضي عليه. ولا بعد فيه ،

ص: 69

الا أن قضية ذلك عدم الفرق أيضا بين الصور ، كما أن قضية ما ذكرنا أيضا عدم الفرق.

فظهر أن الحق الارتزاق مطلقا ، للإجماع ظاهرا على جوازه في الجملة ، فلو كان رشوة حرم جدا ، كما أنه لو كان أجرة كان حاله حال أخذ الأجرة في سائر الواجبات الكفائية ، مع أن جواز الارتزاق في الجملة لا اشكال فيه ولا خلاف ، وهذا يدل على مغايرة حقيقته لحقيقتهما.

( ومنها ) أخذ الأجرة.

وجوازه مبني على أخذها في الواجبات الكفائية ، وقد بسط الأستاد دامت إفاداته المقال في هذا المجال في المتاجر مع زيادة توضيح وتحقيق.

وجملة القول فيه : ان مقتضى القاعدة أن ما دل على صحة الإجارة وما في حكمها لا مانع من العمل به في الواجبات حتى العينية فضلا عن الكفائية من حيث أنها واجبات ، بل المانع من العمل به أحد أمور إذا وجد أحدها حرمت الأجرة مطلقا واجبا كان المتعلق أو غيره :

أحدها - أن يكون المتعلق مما لا ينتفع به المستأجر ، فالأدلة الدالة على الإجارة غير شاملة لمثل ذلك ، بل الدليل على فسادها حينئذ موجود ، لكونه أكلا للمال بالباطل ، لان العمل إذا لم يكن يصل نفعه إلى المستأجر لم يصلح للعوضية ، فيكون شبيه البيع بلا ثمن.

ويتفرع على هذا الشرط فساد استيجار الشخص لما يجب عليه من العمل كصلاة الظهر مثلا ، فإن عبادة كل شخص لا تنفع إلا بحاله ، وفرض بعض الفوائد على مثله - كتحصيل الثواب بتعويد الشخص على العبادة وما أشبهها - فوائد راجعة إلى الاستيجار والتعويد وليست راجعة إلى نفس العمل كما لا يخفى. مع أن فرض بعض الفوائد إذا لم يكن معهودا في نوع العمل المستأجر عليه لا عبرة

ص: 70

به في أحكام العقود المعاوضية كما لا يخفى.

وقد يتوهم أن الواجب من حيث كونه واجبا ينافي أخذ الأجرة بإزائه ، وهو ممنوع الا أن يرجع الى الشرط الثالث.

وثانيها - أن لا يكون الأثر المتعلق مشروطا بأمر ينافيه إيقاعه للغير.

[ الكلام في الاستيجار على بعض العبادات ]

ويتفرع على ذلك عدم صحة الاستيجار على بعض العبادات الغير واجبة ، كالصلاة المعادة وكغسل الجمعة ، فإن أثر العبادة مشروط بقصد القربة ، وينافيها إيقاع العبادة وفاء للمستأجر.

وقد يتوهم أن الأمر بوفاء العقد يؤكد جهة التقرب فضلا عن أن يكون مانعا.

وهو سهو ، لأن الأمر بالوفاء انما يعقل امتثاله وترتب الثواب عليه بعد إمكان تسليم العمل الذي هو محقق عنوان الوفاء. والعمل الذي وقع عليه الإجارة انما هو التعبد بالصلاة لا نفسها ، والتعبد بها - مع كون الداعي والمحرك إليها هو تملك الأجرة - غير معقول.

فان قلت : يمكن أن يأتي بالصلاة لغير هذا الداعي ، بل لداعي الأمر بالوفاء بمقتضى الإجارة ، فإن هذا أمر ممكن ، فاذا تمكن من ذلك صحت الإجارة ووجب الإتيان لأجل هذا الداعي المحصل للتقرب مقدمة للوفاء المأمور به ، إذ الصلاة حينئذ عبادة لكونها مصداقا للوفاء المأمور به ، ولا يشترط في كون الشي ء عبادة إمكان التقرب بها من جميع الجهات والعناوين.

قلت : هذه التقرب انما حصل بقصد امتثال الأمر بالوفاء ومقدمة الوفاء التي يحتاج إليها هو التقرب الذي يتعلق به الأمر بالوفاء ، أعني التعبد بالصلاة والتقرب بها مع قطع النظر عن هذا الأمر ، إذ المفروض اعتبار التقرب فيما يتحقق به

ص: 71

الوفاء ، أعني ما يوفى به.

ومن الواضح عدم صلاحية التقرب الحاصل من امتثال الأمر أن يكون مجزيا عن التقرب المعتبر في المأمور به. نعم لو أمكن التقرب بالصلاة مثلا مع قطع النظر عن كونه وفاء مأمورا به أمكن حصول تقرب آخر فيه بملاحظة كون هذا المتقرب به امتثالا لأمر آخر وهو الأمر بالوفاء - فافهم.

فان قلت : يمكن التقرب بالصلاة باعتبار كونها راجحة في نفسها مع قطع النظر عن كونها متعلقا للإجارة ، فيصح الاستيجار لها حينئذ ويجب على المؤجر إتيانها بداعي رجحانها الذاتي.

قلت : رجحانها الذاتي إنما يعقل ان يكون منشأ للتقرب إذا كان هو الداعي ، وكون داعيا انما يعقل إذا كان لغير الإجارة ، والا فيؤول الأمر إلى كون الأجرة داعيا إلى الداعي الذي هو الرجحان ، وهو ينافي التقرب ، كما إذا كان الداعي هو نفس الأجرة ابتداء. فلا فرق بين أن يكون الداعي إلى الصلاة مثلا ابتداء غير رجحانها الذاتي أو يكون الداعي إليها منتهيا الى الغير.

فان قلت : قد ورد بعض العبادات لبعض الغايات كسعة الرزق وحصول الولد ، وهذا يبطل ما قلت ، فلا ينافي القربة المعتبرة في الصلاة كون الداعي إلى التقرب بها التوصل الى بعض المنافع المباحة.

قلت : فرق واضح بين كون المنفعة المباحة الداعية إلى التقرب - أعني فعل الصلاة مثلا - اللّه من الخالق وبين كونها من المخلوق ، فإن الثاني ينافي القربة دون الأول - فافهم.

هذا ، وربما يتوهم أن ما ذكرناه من منافاة قصد القربة للاستيجار فيما يعتبر فيه التقرب يستلزم القول بعدم صحة استيجار الولي للقضاء عن الميت وان صح التبرع بالقضاء عنه ، وكذا الاستيجار بسائر العبادات المشروع فيها التبرع بها عن الغير

ص: 72

كتلاوة القرآن وزيارة الأئمة وصلاة الهدية وأمثالها ، نظرا الى عدم منافاة التبرع لقصد القربة فيها ، بخلاف قصد أخذ الأجرة.

وعلى ذلك يبنى قول جماعة بالمنع عن الاستيجار للصوم والصلاة عن الميت مع القول بصحة التبرع بهما عنه. وهو خطأ لأن الإجارة فيما ذكر انما يقع على النيابة لا على متعلقها - أعني نفس العبادة. والنيابة نفسها ليست من العبادات المتوقف صحتها على قصد القربة حتى ينافيه الاستيجار ، بل هي من المعاملات التي يؤثر أثرها بلا قربة ، سواء كان متعلقها من المعاملات أيضا أم من العبادات ، فالاجير النائب ينزل نفسه بمنزلة المستنيب ، تنزيلا جعليا وفاء لعقد الإجارة ، وبعد هذا التنزيل يكون بمنزلة المستنيب ، فيتوجه إليه الأمر المتوجه الى المستنيب ، فيكون فعله وتقربه تقربه. وهذا - أعني صيرورة فعله فعله - هو المراد بأثر النيابة.

[ حقيقة النيابة وآثارها ]

وتوضيح المقام يستدعي كشف القناع عن حقيقة النيابة وذكر بعض ما يترتب عليها من الاثار ، فنقول :

ان النيابة عبارة عن تنزيل الشخص نفسه بمنزلة شخص آخر فيما يكون له أولا وبالذات من الافعال ، ثمَّ إتيان المنوب فيه بقصد النيابة. وهو أمر من الأمور الواقعية الخارجية المتعارفة بين الناس ، ولا يقدح في كونها من الأمور الواقعية كونها أمرا اعتباريا كسائر الأمور الاعتبارية المتعارفة بين الناس ، مثل الذمة وتملك المعدوم ونحو هما من الأمور الاعتبارية ، بل التحقيق أن أكثر ما يجري بين الناس من المعاملات التي أمضاها الشارع لا حقيقة لها سوى الاعتبار ، كالوكالة والضمانة والكفالة والوصاية وأمثالها من المعاملات.

والفرق بينها وبين الوكالة أن الوكالة صفة قائمة بالوكيل حاصلة من التوكيل ،

ص: 73

بخلاف النيابة فإنها عبارة عن فعل النائب وتنزيله نفسه منزلة المنوب عنه من غير حاجة الى الاستنابة. نعم ربما بتوقف ترتب أثرها التي يأتي ذكره عليها على الاستنابة بحيث لا يترتب شي ء على التبرع بها ، كما في النيابات المتعارفة في الأمور العادية ، فان النيابة في تلك الأمور لا تجدي شيئا إلا بعد تحقق الاستنابة ، فمن قبّل يد زيد نيابة عن عمرو مثلا فتقبيله لا يكون بمنزلة تقبيل عمرو الا بعد استنابة عمرو له في التقبيل. وكذلك في أكثر الشرعيات ، فان النيابة فيها أيضا غير مؤثرة إلا بعد الاستنابة.

نعم في بعض العبادات حصل من الشارع إمضاء الشارع النيابة التبرعية كالزيارة مثلا ، لكنه يقتصر فيه على مورد الإمضاء ، كما أنه يقتصر في تأثير النيابة مطلقا حتى مع الاستنابة على الإمضاء الشرعي والرخصة الشرعية ، فالوكالة نظير الوصاية صفة من الصفات.

والنيابة فعل نفساني يعرض الفعل الخارجي ، فيكون عنوانا له ، كالتواضع والإكرام العارضين للقيام ، كما أن الضمانة فعل يفعل بالجوارح.

والغرض ان النيابة حيثما تصح تجري مجرى البيع والصلح ونحوهما من المعاملات في كونها فعلا اختياريا سببا لبعض الاحكام على حد سببية المبيع مثلا للملكية ، وأما أثر النيابة وفائدة ذلك التنزيل التي تجري مجرى فائدة البيع - أعني الملك - فهو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه وصيرورة فعله بمنزلة فعله ، كما أن فائدة الضمانة صيرورة الضامن كالمضمون عنه وصيرورة ما في ذمته من الدين في ذمة الضامن.

ويتفرع على ذلك أنه إذا كان المنوب فيه من العبادات توجه التكليف المتوجه الى المنوب عنه وجوبا أو ندبا إلى النائب كذلك بعد فرض صحة النيابة ، لأن النائب إذا صار بحكم العرف بعد إمضاء الشارع بمنزلة المنوب

ص: 74

عنه فلا معنى للمنزلة حينئذ إلا ثبوت ما كان ثابتا في حق المنوب عنه من الأحكام الشرعية ولوازمها في حق النائب.

هذا ما يساعده بعض الانظار القاصرة التي منها نظري الفاتر.

وأما الذي تلقيناه من الأستاذ فهو أن النيابة عنوان يلحق للفعل المنوب فيه وبه يصير متعلقا للإجارة وهو كون الصلاة مثلا عن فلان ، فالصلاة من حيث ذاتها عبادة ومن حيث وصفها - أعني تقيدها بكونها عن الغير - معاملة محضة ، نظير الصلاة والصلاة في البيت ، فكما أن اعتبار القربة في الصلاة لا ينافي عدمها في وقوعها في البيت حتى أنه يجوز أخذ الأجرة على إيقاع الصلاة في البيت مثلا ، كذلك لا ينافي القربة في فعلها ذاتا عدم القربة في فعلها نيابة.

وقد انكشف مما حققنا أمور لا بأس بالإشارة إليها قبل التكلم في أصل المسألة استكثارا لتوضيح الحال :

( أحدها ) عدم الفرق بين النيابة في المعاملات كالتزويج والبيع والصلح وبينها في العبادات في كون كل منهما من قبيل المعاملات الغير المشروطة في تأثيراتها بقصد القربة ، وان الفرق انما هو بين الفعل المنوب فيه ، فكما أن النيابة في الفعل تؤثر أثرها المشار إليها - أعني صيرورة بيع النائب بمنزلة بيع المنوب عنه - من غير اشتراطها بقصد القربة كنفس المنوب فيه - أعني البيع - كذلك النيابة في الزيارة أو الصلاة مثلا تؤثر الأثر المذكور وتجعل زيارة النائب بمنزلة زيارة المنوب عنه من غير اشتراط نفسها بالقربة ، على خلاف المنوب فيه الذي هو الزيارة مثلا.

نعم يحتاج في صحة النيابة في الأول إلى استنابته من المنوب عنه سابقا أو لا حقا ، بخلاف صحتها في الثاني فإنها غير محتاجة إلى شي ء منها ، لا لإمضاء الشارع وحكمه بصحة التبرع بها في العبادات المعهودة كما أشرنا إليها آنفا.

ص: 75

( وثانيها ) عدم توقف تأثير النيابة في الحكم الوضعي المشار اليه على استحبابها ، بل يؤثر ولو لم يكن مستحبا ، بل ولو كانت بلا حكم أصلا حتى الإباحة ، كما لو فرض غفلة النائب عن حكم النيابة التكليفي ، فإنها حينئذ لا حكم لها جدا ويقتضي ثبوت الحكم الوضعي قطعا ، نظير سائر المعاملات. فعلى القول بعدم اقتضاء النهي فيها للفساد يكون صحتها غير منافية لحرمتها أيضا.

وبالجملة أفرض النيابة كالبيع وقل فيها ما تقول فيه. ومنه يظهر أنه يجوز أن يكون حكم النيابة وحكم المنوب عنه فيه متخالفين ، فيجوز أن يكون المنوب فيه مستحبا أو واجبا على المنوب عنه عباديا أو غيره والنيابة جائزة أو مكروهة أو حراما ، لان متعلق النهي انما هي النيابة ، فلو عصى النائب وناب النيابة المنهي عنها كان كمن غصب المبيع وباع بالبيع المنهي عنه. فعلى القول بعدم فساد البيع حينئذ وحصول الملك به تكون النيابة المحرمة أيضا صحيحة ويترتب عليها ما يترتب على النيابة المباحة أو المستحبة.

ولكن هذا مجرد فرض لا واقعية له في الشرعيات ، لان النيابات المشروعة كلها مباحة أو مستحبة وليست منهيا عنها ، لان مشروعيتها ثبتت بدليل خاص لا بدليل عام ، كالأمر بوفاء العقد حتى يتعلق النهي ببعض أقسامها مع الحكم بصحتها نظرا الى ذلك الدليل العام ، وان تحريم السبب من حيث هو لا ينافي ترتب المسبب - فافهم.

لكن جواز كون النيابة حراما مع كون المنوب فيه عبادة مبني على التصوير الأول في معنى النيابة من كونها عبارة عن التنزيل النفساني ، فعلى التصوير الأخير لا بد أن لا يكون حراما. نظير الفرق بين الإباحة والحرمة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فافهم كما أن أكثر ما نبهنا عليه من الأمور مبني أيضا على ذلك التصوير - فافهم.

ص: 76

( وثالثها ) ان النائب في العبادات ينوي النيابة أولا ، وهو التنزيل الاقتراحي المتعارف الذي أمضاه الشارع من دون اشتراطه بقصد التقرب ، ثمَّ يأتي بالفعل العبادي متقربا الى اللّه ، بأن يقصد امتثال أمر المنوب عنه. فالنائب في الزيارة مثلا يتقرب بالزيارة الى اللّه تعالى نيابة عن المنوب عنه لا بالنيابة به ، ومعناه عند التحليل أن هناك فعلين متغايرين :

أحدهما - فعل قلبي معاملي مستتبع لأثر وضعي ، وذلك الفعل هو النيابة والأثر هو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه. وهذا الفعل غير مشروط بقصد القربة ، بل عرفت أنه يمكن أن تكون محرمة فضلا عن أن تكون مستحبة أو مباحة.

والأخر - فعل ظاهري صادر من الجوارح ، عبادي مشروط صحته وترتب الأثر المقصود عليه بقصد القربة ، والتقرب بأحد الفعلين غير متوقف على التقرب بالآخر ، فيمكن أن يتقرب بالنيابة دون الفعل المنوب فيه ، كما إذا كان الفعل من المعاملات كالبيع مثلا وعرض للنيابة رجحان عرضي مثل عنوان الإجابة ونحوه ، فالنائب له أن يتقرب حينئذ بما يفعله نيابة ، لكن التقرب حينئذ انما هو بفعله القلبي أعني النيابة دون الفعل الظاهري أعني الإيجاب والقبول. ويمكن العكس أيضا ، بأن يكون المنوب فيه من العبادات الراجحة ، فان التقرب حينئذ يحصل بالفعل العبادي خاصة مع قطع النظر عن النيابة.

وأما النيابة فيمكن فرض التقرب بها أيضا إذا كان الداعي إليها رجحانها الشرعي على ما ينطق باستحبابها في بعض العبادات كالزيارة وتلاوة القرآن جملة من الاخبار. ويمكن وقوعها بلا قربة اما لغفلة النائب عن رجحانها الشرعي أو للجهل به ، كما في أكثر نيابات العوام عن إخوانهم المؤمنين في الزيارات وغيرها من العبادات ، فإنها في هذه الصورة لا يعقل التقرب بها ، بل التقرب حينئذ مختص

ص: 77

بذلك الفعل العبادي المنوب فيه أو لعدم قصد القربة مع الالتفات الى حكمها التكليفي باعتبار كون الداعي إليها أمرا خارجا عن الرجحان الشرعي كأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة أو نحو ذلك.

والحاصل ان وقوع القربة لا ينافي وقوع الفعل المنوب فيه متقربا به ، فينوي النائب في الصلاة مثلا أنه يصلي متقربا الى اللّه تعالى نيابة عن زيد مثلا.

لا يقال : ليس القربة إلا كون الداعي إلى الصلاة أمر اللّه تعالى ، وكون الداعي أمر اللّه كيف يجامع كون النيابة في فعل الصلاة لأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة مثلا.

لأنا نقول : ان توهم المنافاة بينهما نشأ من الغفلة عما بينا من معنى النيابة ، لأنك إذا فرضت النيابة فعلا والمنوب فيه فعلا آخر اندفع التوهم جدا ، لان اختلاف الدواعي إنما يمتنع مع اتحاد الفعل لا مع تعدده. وكون الفعل الخارجي لا تعدد فيه ، قد عرفت أنه غير قادح ، لأن أحد الفعلين - وهو النيابة - فعل قلبي يعبر عنه بالتنزيل في النفس وليس بفعل خارجي ، وانما الخارجي المنوب فيه.

وبالجملة إذا حصلت النيابة صار النائب بمنزلة المنوب عنه ، فيتوجه إليه الأمر الذي كان متوجها الى المنوب عنه ، فان كان المنوب فيه من تكليفات المنوب عنه خاصة كالصلاة عن الميت فتوجه الأمر إلى النائب حينئذ واضح ، وأما إذا كان مشتركا بينه وبين النائب في المطلوبية - كالزيارة وتلاوة القرآن حيث أن النائب مأمور بالأمر الندبي بهما نحو مأمورية المندوب عنه - فاذا قصد النيابة توجه إليه أمر المنوب عنه أيضا.

فخاصية النيابة في العبادات إثبات أمر المنوب عنه في حق النائب ، وبعد ذلك يتقرب بذلك الأمر كأنه يتقرب به المنوب عنه ، ففعله فعله وتقربه تقربه ،

ص: 78

كما أن أمره أمره ، وقضية ذلك أنه لا يصل اليه من ثواب العمل شي ء بل الى المنوب عنه خاصة. نعم إذا نوى القربة في أصل النيابة كان له ثواب امتثال الأمر الندبي المتعلق بالنيابة.

( ورابعها ) ان النيابة كسائر المعاملات أمر توقيفي لا بد من ثبوت شرعيتها شرعا ولو امضاء كما أشرنا اليه ، ولذا لا تصح النيابة في بعض العبادات كالطهارة والأغسال المندوبة لعدم ثبوتها فيها ، بخلاف البعض الأخر كالزيارة والصلاة والتلاوة وطريق الإمضاء بنحو القول بأن من ناب في عمل كذا عن آخر وصل اليه ثوابه ، وهو واضح.

ومن طريق الإمضاء الأمر بها والتصريح باستحبابها ، لان استحباب النيابة ليس الا لكونها صلة وإحسانا ، وكونها كذلك يتوقف على صحتها والألم تكن كذلك. وإذا دل دليل على استحبابها في شي ء دل دلالة عقلية التزامية على صحتها وترتب الأثر عليها ، وهو وصول ثواب العمل ان كان عبادة أو فائدته ان كان غيرها الى المنوب عنه ، بخلاف استحباب سائر المعاملات ، كاستحباب البيع مثلا ، فإنه لا يدل عقلا على صحته الا من جهة أخرى خارجة عما ذكرنا ، وهي دعوى أن الشارع لا يحكم بصحة معاملة فاسدة - فافهم.

( وخامسها ) ان التبرع شرط في استحباب النيابة للعبادات التي ثبت شرعيتها فيها ، لقصور الأدلة عن الدلالة على استحبابها مطلقا ولو مع أخذ الأجرة ، لو لم تكن صريحة أو ظاهرة على اشتراط التبرع وليس شرطا لصحة النيابة بل لا يعقل أن يكون شرطا لها ، لأن النيابة قبل اتصافها بالصحة لا تتصف بالتبرع ولا يصدق عليها جدا ، لأن النيابة المجردة عن ملاحظة صحتها وترتب أثرها - أعني إيصال النفع والثواب الى المنوب عنه - ليس عطاء لشي ء على الغير بل هو لغو صرف.

ص: 79

والتبرع مأخوذ في حقيقة العطاء المجاني ، ويشبه الهبة المجانية والهدية ومعناه الفارسية پيش كش ، وإذا كان كذلك امتنع ثبوت الصحة للنيابة التبرعية بل لا بد من ثبوتها للنيابة من حيث هي.

وهذا أصل مطرد ، وهو أن القيد إذا كان متأخرا في الرتبة عن المحمول امتنع اعتباره في الموضوع ثمَّ إثبات المحمول على مجموع القيد والمقيد.

( وسادسها ) ان العبادة إذا شرع فيها النيابة جاز الاستيجار عليها وإذا لم يثبت لم يجز ، لان الاستيجار في الأول استئجار على غير العبادة حقيقة وفي الثاني عليها نفسها ، فيمتنع كما أوضحناه كمال الإيضاح.

[ جواز النيابة عن الأموات ]

إذا عرفت هذه الأمور اتضح لك مسألة جواز الاستيجار للصلاة ، وتحرير المسألة : أن جماعة منعوا الاستيجار على العبادات للغير وجوزوا التبرع بها عنه في المواضع المعهودة التي ثبت شرعية النيابة فيها ، كالصلاة عن الميت والزيارة ونحوهما ، استدلالا بأن الاستيجار ينافي قصد القربة المعتبرة في العبادات ، وبأن أدلة النيابة انما اقتضت شرعيتها في حق الولي أو المتبرع ، فالاستئجار عليها استيجار على ما لم يبلغ صحته.

وكلا هما قد ظهر فسادهما بما لا مزيد عليه :

فان الأول مردود بما مر من أن الأجرة انما هي في مقابل النيابة لا في مقابل العبادة حتى ينافي قصد القربة ، وقد عرفت أن عدم قصد التقرب في النيابة لا ينافي قصده في المنوب عنه وبالعكس ، والإلزام فساد النيابات الشرعية أيضا إذا كان المتبرع غافلا عن رجحان النيابة ناويا لغرض آخر كمحافظة الصداقة غير الرجحان.

وكذا الثاني مردود بما أشرنا إليه في الأمر الخامس من أن اشتراط صحة

ص: 80

النيابة بالتبرع بها غير معقول فضلا عن كونه تقييدا لما دل على الصحة بلا دليل مضافا الى أن التبرع مسكوت عنه في القسم الأول من طريق الإمضاء ، إذ ما دل على شرعية النيابة في مثل الصلاة والزيارة وأنها سبب لوصول الثواب المندوب فيه الى المنوب عنه مطلقة غير مقيدة بالتبرع.

نعم لا يبعد أن يقال : ان ما دل على استحباب النيابة فيها وأنه يكتب للنائب مثل ما يصل الى المنوب عنه أو ضعفه ظاهر في التبرع ، فيكون الاستحباب مقيدا به بحيث ينافيه الأجرة كما أشرنا إليه أيضا ، مع أن ما ثبت في الحج من الاستنابة عند العجز والاستيجار للنيابة فيه نقض على الاستدلال الأول.

وبالجملة جواز الإجارة في العبادات يتوقف على ثبوت شرعية النيابة فيها ولو تبرعا ، وإذا ثبت شرعيتها وأنها تصير سببا لسقوط الأمر عن المنوب عنه ووصول ثواب العمل بكليته اليه صح الاستيجار على النيابة حينئذ لعموم أدلة الإجارة.

ومن هنا قال الشهيد في محكي الذكرى : هذه المسألة - أعني الاستيجار على فعل الصلاة الواجبة - مبنية على مقدمتين : إحداهما جواز الصلاة للميت وهذه اجماعية والاخبار الصحيحة ناطقة بها كما تلوناها. والثانية أنه كلما جازت الصلاة عن الميت جاز الاستيجار عنه ، وهذه المقدمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر عنه ، ولا يخالف فيها أحد من الإمامية ولا غيرهم ، لان المخالف من العامة إنما منع لزعمه أنه لا يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، أما من يقول بإمكان وقوعها له - وهم جميع الإمامية - فلا يمكنه القول بمنع الاستيجار الا أن يخرق الإجماع في إحدى المقدمتين - انتهى كلامه رفع مقامه وقد بلغ في المتانة وحسن الاستدلال أقصاه.

والظاهر أنه أراد بالعمل المستأجر عليه فيما نحن فيه النيابة دون الصلاة المنوب فيها ، كما يشعر به التمسك بعموم الاستيجار على الأعمال المباحة - فافهم وتأمل.

ص: 81

وهو عين ما فصلناه وحققناه كما هو الشأن في كثير من تحقيقاتنا في الأصول والفقه حيث أنها شرح وتوضيح وكشف قناع عن مراد الأساطين السابقين. بل وإليها يرجع أيضا ما عن ابن طاوس في البشرى من الاستدلال على صلاة النيابة بإجارة تبرعا أو بوصية نافذة بما ورد في قضاء الصلاة عن الميت من الاخبار ، فإن هذه الاخبار مع عدم نهوضها بالتصريح على الإجارة تكفي في المدعى بعد ملاحظة عمومات الإجارة كما عرفت في كلام الشهيد.

ومن جميع ما ذكرنا سقط ما ذكره بعض أهل النظر من محشي الروضة في مقام الرد على السيد وعلى الشهيد حيث قال في المقام الأول : انه ليس في الاخبار تصريح بجواز فعل الأجنبي والاستيجار بل وردت على وجه الإطلاق ، مع أن بعضها مقيد بالولي ، والموافق للأصول وجوب حمل المطلق منها لو أريد ما فاته الميت على المقيد وإيجابه على الولي.

وفيه : انه لا حاجة الى التصريح كما عرفت ، بل يكفي في صحة الاستيجار مجرد ثبوت شرعية القضاء عن الميت ، مع أن ما ادعاه من أن الموافق للأصول تقييد المطلق منها بالمقيد مخالف للأصول ، لأن الشيئين لا يحمل أحدهما على الأخر في الأحكام الوضعية التي منها المقام ، أعني صحة القضاء عن الميت ، مع أن قضية المطلقات جواز القضاء عن الميت وقضية المقيد وجوبه على الولي وفي مثله لا يحمل المطلق على المقيد أيضا.

وقال في المقام الثاني ما لا يخلو عن إجمال واشكال فلنذكره بعباراته ، قال بعد نقل كلام الشهيد المتقدم : ولا يخفى أن ما ذكره من الإجماع على جواز الصلاة عن الميت ان أراد به ما يفعل الولي فمسلم بل يجب عليه ان كان مما فاته وان أراد غيره فلا الا مع التبرع تطوعا ، وما قال بدخولها في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، فامكانها ممنوع مع أن

ص: 82

الإباحة في العبادات غير متصورة بل انها راجحة الفعل ، ولا سيما مع توجه التكليف بها في حياته وإلى الولي بعد وفاته ، ويكون حينئذ نيابة الحي ممتنعة كما صرحوا به. ومنه يعلم حال الإجماع ، بل المفهوم من الروايات التبرع على وجه التطوع ، وبعضهم جوز الإجارة فيه كالأجير في الذبح وهو في محل النظر أيضا. نعم كل راجح إذا خوطب به مع الاذن في الاستنابة يمكن الأجرة فيه إذا لم يجد المتبرع ، لكن المخاطب هنا ليس الميت حتى يجوز الاستنابة للعذر ، والتبرع عند التحقيق لا يرد على وجه الخطاب وانما هو كالإهداء إليه كما لا يخفى على من تأمل في تلك الروايات. فالقول بالاستيجار مطلقا لا يخلو عن ضعف ، والعمل بالوصية إنما يتصور في المشروع ، ومشروعية الاستيجار ممنوع كما عرفت - انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

ولا يخفى ما فيه من اشتباه المراد ، فإن أراد ما ذكرنا في تقرير الاستدلال الثاني من الفرق بين التبرع والاستيجار بحسب المستفاد من الأدلة ففيه ما عرفت وان أراد إنكار النيابة رأسا وان القدر الثابت من الروايات أنه يجب على الولي صلاة ما فات عن الميت وان الأجنبي له أن يتطوع الصلاة هدية للميت لا النيابة - كما لعله المظنون الظاهر من مجامع كلماته - ففيه أنه مكابرة واضحة. كيف وقضاء الولي لا معنى له الا نيابة عن الميت ، وكذا تبرع الأجنبي عبارة عن نيابته عنه تبرعا.

وأما ما ذكره من أنه لا معنى للإباحة في العبادة. فقد عرفت ما به يندفع ذلك في شرح مراد الشهيد حيث قلنا ان مراده من العمل المستأجر عليه هي النيابة دون الصلاة.

وأما تضعيف إطلاق القول بالاستيجار ، فالمراد به غير واضح. فإن أراد به صحة الاستيجار مع الاذن في الاستنابة. ففيه أنه غير محتاج اليه بل يكفي شرعية

ص: 83

النيابة ، وبعد ثبوتها ثبت الاذن بعمومات الإجارة. وان أراد به الفرق بين استئجار الولي وغيره بالتزامه صحة الأول دون الثاني على أبعد الاحتمالين ، فهو تحكم والتأمل في سائر كلماته يقضي ببعض التشويش.

[ إهداء ثواب العبادات للأموات أو الإحياء ]

هذا تمام الكلام في مسألة النيابة ، بقي الكلام في مسألة أخرى قريبة منها في الثمرة وأدق منها في النظر ، أعني صلاة الهدية للأموات بل الإحياء أيضا ، على ما وردت به بعض الروايات ، فنقول :

ان هاهنا مطلبين : أحدهما إهداء ثواب العمل بعد وقوعه وبذله على الغير والثاني الاستيجار على صلاة الهدية ، ويندرج تحته الاستيجار على صلاة الوحشة ليلة دفن الميت.

( أما الأول ) فالظاهر المصرح به في الاخبار عدم الإشكال في جوازه وأنه بعد الإهداء يصل الى المهدى اليه ثواب ذلك العمل. نعم في المعاوضة عليه وجعله عوضا في مثل البيع والصلح وسائر العقود العوضية نوع تأمل ، لأن ثواب اللّه في الآخرة - وان كان أمرا مملوكا له مستحقا عليه - الا أنه لا سنخية له مع الأموال والأعمال الدنيوية ، ولم تجر عادة الشرع ولا العرف على احتسابه من الماليات والا لم يبق فقير في الدنيا ، لأنه يتمكن حينئذ أن يبيع أو يصالح شيئا من مثوباته الأخروية بشي ء من الأموال الدنيوية وربما يصير بذلك الشخص مستطيعا ، وهو غير مأنوس وغير معهود بين المتشرعة جدا.

وبالجملة ثواب الآخرة مملوك جدا على نحو آخر من المملوكية بين قابل للإهداء وممتنع لقبول المعاوضة عليه.

( وأما الثاني ) أعني الاستيجار على صلاة الهدية - ففيه غموض وإشكال ،

ص: 84

لأنه ليس في المقام عنوان عملي غير نفس العبادة الخارجية حتى يجعل متعلق الإجارة ذلك العمل ويبقى قصد القربة في نفس العمل العبادي سليما عن المنافي بل عنوان الهدية بالنسبة إلى صلاة الهدية مثلا مثل عنوان الإعادة بالنسبة إلى الصلاة المعادة ، أمر اعتباري انتزاعي بعد الفعل بملاحظة بعض عوارضه كالإهداء فحالها حال المعادة في عدم قبول الاستيجار على التطويل الذي ارتكبناه في توضيح الحال.

اللّهم الا أن يفرض هنا فعلان وعنوانان أيضا ، ويجعل متعلق الإجارة الفعل الغير العبادي كالنيابة ، بأن يقال إهداء الشي ء أمر مغاير لذلك الشي ء المهدى عرفا سواء كان المهدى عينا خارجيا كاهداء العبد والثوب أو عملا من الأعمال أيضا ، إذ الإهداء فعل واحد يعرفه أهل العرف ولا تتفاوت حقيقته باختلاف المهدي ، فكما الاستيجار على إهداء الثوب ليس معاوضة على نفس الثوب بل داخل في المعاوضة على الاعمال ، كذلك الاستيجار على إهداء الصلاة أمر لا يرجع الى المعاوضة والاستيجار على المهدى - أعني الصلاة.

لا يقال : الإهداء مأخوذ في حقيقته التبرع ، فاذا اشترط الأجرة على إهداء الثوب - فضلا عن إهداء الصلاة - خرج الفعل المستأجر عليه عن كونه إهداء.

لأنا نقول : انما نمنع الخروج والتوهم إنما ينشأ من ملاحظة المستأجر والمهدى اليه شخصا واحدا ، فليفرض مغايرتهما ، بأن وقع الإجارة على إهداء الثوب مثلا لأجنبي غير المستأجر فإنه بالنسبة الى ذلك الأجنبي المهدى اليه إهداء لأنه بالنسبة إليه تبرع ، إذ الأجرة انما أخذها المهدى بصيغة الفاعل من غير المهدى اليه ، وهذا يشهد بأن أخذ الأجرة على الإهداء لا يخرجه عن كونه إهداء.

وهذا مثل أخذ الأجرة على ضيافة العلماء مثلا ، فان عنوان الضيافة في نفسه خال عن الأجرة ، وأخذ الأجرة انما هو لهذا العمل الخالي عن الأجرة. ولو

ص: 85

سلم خروجه عن حقيقة الهدية والتبرع فلا يقدح فيما نحن بصدد تصحيحه من الاستيجار على فعل الصلاة المتقرب بها هدية أو شبه هدية.

فان قلت : العبادة مشروطة بالتقرب ، والتقرب انما هو للمهدي ، وليس مثل مسألة النيابة ، حيث أن تقرب النائب يقوم مقام تقرب المنوب عنه باعتبار كون الممثل - أعني الأمر - أمر المنوب عنه ، ولا يعقل أن يتجاوز تقرب الشخص الى شخص آخر ، فكيف يعقل الإهداء في العبادات نفسها ، مع أن شرط الإهداء انتقال المهدي الى المهدى اليه.

قلت : العمل المتقرب به إذا وقع هدية رجع جميع آثاره الى المهدى اليه ، وهذا هو معنى إهداء الأعمال ، وإلا فنفس العمل ولو لم يكن عباديا يمتنع انتقاله من عامله الى غيره ، فمعنى إهداء العمل - كتمليك العمل بالإجارة - إدخال حاصله ومنفعته وأثره ، إلى كيس الأخر وهذا المعنى لا ينافي اختصاص التقرب في العبادات بالعامل ، لان المقصود بالإهداء إدخال أثر هذا العمل المتقرب به في كيس الأخر. وبالجملة العمدة تصوير عنوان عمل آخر غير عنوان العبادة وبعد ذلك فسائر الإشكالات هينة الاندفاع ، والمسألة غامضة لا بد فيها من التأمل الصائب. واللّه الهادي.

( الأمر الثالث ) من الأمور التي وجودها مانع من أخذ الأجرة وعدمها شرط لحليتها أن لا يكون العمل حقا لغير المستأجر أوله قبل الإجارة ، فإنه لو كان كذلك كانت الأجرة سحتا لكونه أكلا للمال بالباطل ، مثل البيع بلا ثمن والإجارة بلا منفعة في مقابل الأجرة.

ويتفرع عليه حرمة الأجرة المأخوذة كما في مقابل ما يتعلق بالموتى من الواجبات الكفائية حتى التوصليات منها كالكفن والدفن ، فان ظاهر أدلتها أنها من حقوق الميت الواجبة على الاحياء وانه مستحق له ، فأخذ الأجرة في مقابل

ص: 86

شي ء منها كأخذ الأجرة في عمل مستحق لاخر ، مثل البناء المستحق عليه بنذر أو إجارة أو نحو هما ، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة بإزائه ثانيا من آخر.

وقد ظهر مما ذكرنا أن بعض الواجبات مما يحرم أخذ الأجرة في مقابله لاختلال الشرطين الأخيرين ، مثل بعض العبادات التي فهمنا من دليله أنه حق لادمي ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الصلاة عن الميت. كما أنه قد ظهر أيضا أن الشرطين الأخيرين يمكن إرجاعهما إلى الشرط الأول ، فإن العمل إذا كان بحيث يشترط في ترتب أثره أمر ينافي أخذ الأجرة كالقربة أو كان حقا لا حد كان من موارد اختلال الشرط الأول أيضا ، وهو أن يكون له أثر ونفع يصل الى المستأجر.

[ الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه ]

إذا تحقق الشروط الثلاثة فلنرجع إلى مسألة جواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية ، والظاهر أن من جوز الإجارة عليها ادعى وجود الشرائط الثلاثة ومن منع ادعى اختلال أحدها. والظاهر أن كلمات المحققين من المانعين والمجوزين راجعة الى ما ذكرنا ، فمن سلك مسلكا آخر في تصحيح الإجارة عليها أو المنع فقد اشتبهت عليه المسألة كمال الاشتباه ، فنقول :

ان الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه من حيث الشرطين الأولين :

أما الشرط الأول - وهو كون العمل مما يصل نفعه إلى المستأجر ، فلان فائدة فعل الواجب الكفائي سقوطه عن المستأجر ، وهذا من الفوائد التي يمكن بذل المال بإزائها ، مع أن الواجب الكفائي قد يكون فيه منفعة دنيوية وأصله إلى المستأجر كالصناعات ، فباعتبار مراعاة الشرط الأول لا يمكن المنع عن الاستيجار على الواجبات الكفائية مطلقا ، بل ينفى حينئذ التفصيل لو لم يكن سقوط التكليف من المنافع المصححة للإجارة.

ص: 87

وأما الشرط الثاني - فلان الوجوب الكفائي قد لا يكون تعبديا ينافيه أخذ الأجرة كما هو الأكثر ، فيبقى اناطة الصحة والفساد على مراعاة الشرط الثالث ، والى ذلك ينظر كلام المحقق وغيره من المعتبرين من تعليل المنع بأنه - أي الأجير - يؤدي فرضا.

وتوضيحه : ان المانع يدعي أن العمل المستأجر عليه لا بد أن لا يكون مستحقا على الأجير بمقتضى الشرط الثالث ، لأنه إذا كان كذلك امتنع على الأجير تمليكه الغير ثانيا لأنه كتمليك مال الغير ، ومن الواضح أن فعل الواجب الكفائي مستحق على الأجير لله تعالى ، فيكون حقا لغير المستأجر.

ودعوى : ان متعلق حق اللّه انما هو كلي الفعل كالدفن الكلي مثلا ، والكلي لا يتعين في الخارج الا بتعين من هو في ذمته ، وتعينه انما يكون بالقصد كسائر الأعمال والأقوال المشتركة - بأن يوجد الفعل بقصد أنه واجب عليه كفاية - فلو فعل لا بهذا القصد بل بقصد أنه واجب على المستأجر أيضا أو مجردا عن القصد رأسا ، كان ذلك غير العمل المستحق عليه وكان تمليك مثل هذا العمل تمليكا لأمر غير مملوك.

مدفوعة : بأن القصد انما يحتاج إليه في التميز إذا كان العمل معنونا بعنوانين وكان متعلق الطلب أحدهما ، كاشتراك « بسم اللّه » بين الفاتحة وغيرها مثلا. وأما إذا كان متعلق التكليف هو كلي العمل والفعل وكان من التوصليات التي لا يفتقر في حصولها في الخارج الى قصد ، فما يوجد من العمل في الخارج ينطبق على ذلك الكلي الذي تعلق به التكليف ويكون عينه ، وبذلك يسقط التكليف.

ولذا ذكرنا في الأصول أنه إذا أمر بطبيعة تارة على وجه الوجوب وأخرى على وجه الندب اتصف الفرد الموجود منها في الخارج أولا بالوجوب ليس إلا وامتنع عروض الندب له ولو نوى ذلك ، غاية الأمر انه إذا كان عباديا يقع لاغيا

ص: 88

فلا يحتسب من الواجب أيضا. على خلاف التدقيق الذي ادعينا في بعض تنبيهات مقدمة الواجب حيث رجحنا هناك الصحة واحتسابه من الواجب نظرا إلى كفاية رجحانه الذاتي في قصد القربة ، كالوضوء المستحبي في وقت الفريضة.

هذا ويمكن الجواب عن ذلك بأن العمل من حيث صدوره من شخص خاص غير مستحق عليه لله تعالى بل من حيث صدوره عن الجميع. ومتعلق الإجارة انما هو العمل من الحيثية الاولى لا الثانية ، مع أن كون العمل مستحقا لله غير كونه مستحقا للناس ، فان استحقاق اللّه تعالى على نحو آخر من الاستحقاق ، فلا نسلم بطلان تمليك المملوك مطلقا ، بل الباطل انما هو تمليك مملوك الناس.

والحاصل ان الوجوب الكفائي لم يثبت مانعيته عن الاستيجار. نعم في صورة التعيين والانحصار أمكن القول بالبطلان ، لما ذكرنا من انطباق ما يوجد من الكلي المأمور به أولا عليه ، فيكون أخذ الأجرة بإزائه أخذا لها بلا مقابل بل يدخل في ملك المستأجر.

[ الفرق بين ماله اجرة وما ليس له اجرة عرفا ]

هذا كله في مثل الكفن والدفن مما لا أجرة له عرفا ولا حاجة لهم اليه مع قطع النظر عن عروض الوجوب الكفائي. وأما مثل الصناعات مما كان له الأجرة قبل عروض الوجوب ، أي مع قطع النظر عنه باعتبار مساس حوائجهم إليه - فأخذ الأجرة فيه أظهر. بيان ذلك :

ان الواجبات الكفائية على قسمين :

« أحدهما » - ما لا قيمة له ولا أجرة عليه عرفا مع قطع النظر عن كونه واجبا كفائيا ، بحيث يكون تموله العرفي وتأهله للاستيجار عليه باعتبار عروض الواجب الكفائي له عليه ، وذلك كاستقبال الميت مثلا ، فإنه مع قطع النظر عن عروض الوجوب له ليس شيئا ذا أجرة في العرف لعدم مساس ذلك بحوائج الناس معادا ومعاشا.

ص: 89

والظاهر أن وجوب التعليم في الأمور التي يجب تعلمها كذلك - خصوصا بعد ما ورد أن اللّه تعالى لم يكلف الجاهل بالتعلم الا بعد إيجابه التعليم على العالم (1) - فان تعليم العالم إذا كان في الرتبة قبل احتياج الناس اليه كما هو قضية المقدمية كان من الأمور الغير المرغوب إليه الذي لا تمول له عرفا في تلك المرتبة ، ونحوها الدفن والكفن الشرعيين.

« والثاني » - ما له أجرة عرفا مع قطع النظر عن الوجوب أيضا كالصناعات ، وما ذكرنا من الإشكال في جواز الأجرة انما يتجه في القسم الأول ، وأما القسم الثاني فيمكن القول فيه بأن الوجوب الكفائي لم يلحق أحدا إلا بالعمل على وجه الأجرة دون التبرع أو الأعم.

والفرق هو أن القسم الأول لما لم يكن قبل عروض الوجوب أمرا متقوما لم يكن محترما وامتنع اتصافه بالتبرع كالاتصاف بكونه في مقابل الأجرة ، لأن التبرع عدم أخذ العوض في مقابل ماله شأنية العوض لا كل ما لا يؤخذ عوضه ، وإذا امتنع ذلك الممتنع القول بعروض الوجوب من أول الأمر للعمل مع الأجرة ، نحو امتناع عروض الطلب للفعل المقرون بالقربة كما أومأنا اليه آنفا وقلنا ان القيود المتحصلة والمتصورة بعد فرض المحمول يستحيل اعتبارها في الموضوع.

بخلاف القسم الثاني ، فإنه لا مانع من القول بأن متعلق الوجوب في هذا القسم انما هو التكسب دون التبرع ، فيقال : ان اللّه تعالى أوجب التكسب بالخياطة مثلا لا نفسها ، ووجوب التكسب لا ينافي أخذ الأجرة بل تحققه كما لا ينافيه أيضا التبرع.

وان شئت قلت : أن الواجب انما هو بذل العمل المحترم ، والمقوم ، ووجوب بذل المال المحترم أو العمل المحترم لا يوجب سلب الاحترام حتى يمتنع

ص: 90


1- الكافي ، الأصول 1 / 41.

أخذ الأجرة. مثل الإنفاق في حال المخمصة ، فإن وجوبه لا يقتضي المجانية بل يجب عليه الإنفاق وعلى المنفق بذل العوض فان امتنع استقر في ذمته.

والدليل على ذلك : ان الدليل على وجوب الصناعات دليل عقلي ينشأ من استقلال العقل بوجوب محافظة النظام ، وهذا لا يقتضي التبرع بالعمل فيبقى احترام العمل بحاله. ويترتب عليه انه لو تعين الصنعة في شخص تعين العمل عليه وعلى المعمول له دفع الأجرة لذلك الدليل العقلي المشار إليه ، إذ لو وجب التبرع لزم اختلال النظام أيضا ، مثل ما يلزم على تقدير عدم الوجوب أو أشد كما لا يخفى.

وفائدة الوجوب تظهر فيما لو امتنع حتى مع الأجرة عند التعيين ، فلا يرد أن العمل مع الأجرة إيجابه سفه ، لأن الأجرة هي بنفسها داعية اليه ، فطلبه مع ذلك الداعي يشبه طلب الحاصل ، ومع عدم التعيين فلا يجب بذل الأجرة إلا مع الاشتراط ، فليس للصانع العمل وأخذ الأجرة قهرا.

ويترتب على ذلك أن الطبيب مثلا لو عالج قبل تضييق زمان العلاج لم يكن له شي ء في ذمة المريض ، ولو نوى الأجرة ان عالج في صورة الانحصار أو مع تضييق الأمر وعدم اقدام الغير وجب على المريض أجرة المثل حينئذ مع عدم التبرع ، ومع الامتناع يستقر في ذمته.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الواجب العيني والكفائي في هذا القسم ، وانما الفرق بينهما في القسم الأول.

وقد تلخص مما ذكرنا في أخذ الأجرة على الواجبات الكفائية أنه مع اجتماع الشرائط الثلاثة المتقدمة يجوز أخذ الأجرة سواء كان عينيا أو كفائيا ، وان الاشكال كله في تشخيص صغرى الشروط ومعرفة وجودها أو اختلالها ، فنقول :

ص: 91

ان الواجب إذا لم يكن تعبديا فلينظر فان كان له أجرة في العادة مع قطع النظر عن الحكم الشرعي كالصناعات جاز أخذ الأجرة مطلقا سواء كان عينيا أو كفائيا ، لأن متعلق الوجوب في مثله انما هو العمل المحترم المقوم ، ووجوب مثله لا يقتضي المجانية وسلب الاحترام كما عرفت. وان لم يكن له أجرة كذلك فان كان كفائيا فالظاهر عدم المانع من أخذ الأجرة عليه ، أما من جهة الشرطين الأولين فواضح ، وأما من جهة الشرط الثالث فلما عرفت من أن متعلق حق اللّه انما هو العمل من حيث صدوره عن الجميع ، ومتعلق الإجارة هو العمل من حيث صدوره عن الشخص ، وفيه تأمل. وان كان عينيا أو كفائيا معينا فالظاهر بناء على مراعاة الشرط الثالث حرمة أخذ الأجرة.

هذا كله في الواجبات الكفائية ، وأما المستحبات الكفائية - مثل ما يتعلق بدفن الموتى وكفنهم وصلاتهم وغسلهم من الزيادة على المقدار الواجب على القول باستحباب الغسل أيضا بعد حصول الواجب - فالظاهر عدم الاشكال ، والخلاف في التوصليات منها دون التعبديات ، ذلا مانع من أخذ الأجرة عليها حتى من جهة مراعاة الشرط الثالث أيضا ، ضرورة عدم كونها مستحقة على الأجير.

والعجب ممن منع الاستيجار على الواجبات الكفائية من جهة قصد القربة ، مع أنه لا فرق من هذه الجهة بين الواجبات والمستحبات.

[ عود إلى أخذ الأجرة على القضاء ]

هذه خلاصة ما اقتضاه المجال في تحقيق الحال في مسألة جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، فلنعد الى ما كنا فيه وذكرنا هذه المسألة لأجله - أعني أخذ الأجرة على القضاوة - فنقول :

لا بد أن ينظر أولا في أن القضاء هل هو من القسم الثاني - أعني ماله منفعة

ص: 92

محترمة مع قطع النظر عن شرعيته كالصناعات - أو من الأول كما هو الأظهر :

فإن كان من الثاني جاز أخذ الأجرة عليه حتى مع التعيين ، وعدم الاحتياج الى أن يستظهر من أدلته وجوب التبرع به كوجوب التعليم ، حيث أن الظاهر من أدلته أيضا التبرع وعدم الأجرة خصوصا بعد ملاحظة حرمة الرشوة على القاضي ، فإنه لو لم تشمل مثل الجعل فلا أقل من تقويته لذلك الاستظهار ، وان كان من الأول فلا بد أيضا من النظر في انه كوجوب التعليم أو كأداء الشهادة ، بأن يكون القضاء حقا من حقوق المسلمين على القضاة. وعلى الثاني فقد عرفت عدم جواز أخذ الأجرة عليه بمقتضى الشرط الأول ، وأما على الأول فقضية ما ذكرنا الفرق بين صورتي الانحصار وعدمه ، لكن عرفت استظهار التبرعية من أدلة القضاوة مطلقاً

التقاط [ ما يثبت به ولاية القاضي ]

تثبت ولاية القاضي بالبينة العادلة كما هو الأصل في الموضوعات كلها الا ما ثبت فيه الاحتياج إلى الأكثر أو الأقل ، وكذا تثبت بالاستفاضة على ما صرح به غير واحد من الأصحاب منهم المحقق والشهيدان ، وذكروا استطرادا أمورا أخر تثبت بها كالنسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق ، ولا بد أولا من بيان المراد بالاستفاضة في المقام :

اعلم أن « الاستفاضة » استفعال من « الفيض » وقد أطلق مجردا ومزيدا على معان متقاربة ، قوله تعالى « أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ » (1) أي ادفعوا من حيث دفع الناس ، ومنه الإفاضة من العرفات ، أي الدفع بكثرة ، ويقال أفاض السيل فيضا إذا كثر وسال ، وفاض الإناء فيضا امتلأ.

ص: 93


1- سورة البقرة : 199.

وفي مجمع البحرين بعد ذكر جملة من إطلاقات فاض : وأفاض واستفاض الحديث شاع في الناس واشتهر ، فهو مستفيض اسم فاعل ، ومنه « أثر مستفيض » أي مشهور.

لكن الظاهر أن هذه الإطلاقات مع ما بها من التفاوت والمغايرة الضعيفة صادرة من مصدر واحد ، ومعنى جامع بين الكل ، لأنا ذكرنا أن دأب العرب التعدي من المعنى الأصلي الى ما يقاربه ويناسبه في الجملة بنحو من التوسع ، من غير استناد إلى القرائن ليكون تجوزا أو وضعا آخر ليكون مشتركا أو منقولا. ولعل الجامع هو التراكم والتكاثر ، فإنهما يمكن انطباقهما على جميع هذه الاستعمالات ولو بضرب من التوسع والتسامح كما لا يخفى على المتدرب.

وفي اصطلاح الأصوليين عبارة عن خبر جماعة تزيد على الثلاثة وتقصر عن حد التواتر.

وأما في اصطلاح الفقهاء فقد صرح في الروضة بأنه لا حد له ، الا أنه يعتبر أن يزيد عن عدد البينة العادلة ، ليحصل الفرق بين العدول وغيره.

وأيضا المستفيض في الأصول معدود من الاحاد التي لا تفيد العلم ، وأما عند الفقهاء ففيه إجمال واشتباه ، لان ظاهر المحقق على ما استظهره ثاني الشهيدين اعتبار حصول العلم بالاستفاضة ، ونقل عن بعض الاكتفاء بالظن المتقارب المتاخم وعن بعض الاكتفاء بمطلق الظن ، بل ظاهر بعض مشايخنا أن خبر جماعة من المسلمين بنفسه حجة في هذه الأمور ، بل في غيرها أيضا تعبدا محضا مجردا عن الظن مستظهرا بظاهر بعض الروايات.

وتحقيق المسألة : هو أن غرض الأصحاب بها ان كان هو الخبر المفيد للعلم فيرد عليهم أنه لا وجه للتخصيص بالاستفاضة ولا بهذه الأمور السبعة ، لأن العلم في مثل المقام متبع من أي شي ء حصل وفي أي مقام يفرض ، لان مفروض كلام

ص: 94

الأصحاب مقام عمل الشخص نفسه كما هو صريح قولهم وتثبت ولاية القاضي ، والعلم في مقام العمل طريق محض بحكم العقل الذي لا يقبل التخصيص والتخصص كما تقرر في محله.

نعم في مقام حكم الحاكم أو في مقام الشهادة فالعلم بالموضوعات علم موضوعي ، فيمكن أن يكون للعلم الحاصل بالاستفاضة خصوصية من بين سائر أسباب العلم أوجبت اعتبار الشارع له في مقام الحكم ، بناء على عدم جواز حكم الحاكم بعلمه مطلقا أو في مقام الشهادة بمقتضى العلم مطلقا.

ولكن الذي يرى جواز الحكم بالعلم مطلقا أو جواز الشهادة كذلك - كأكثر من تعرض للمسألة - لا يحسن منه أيضا تخصيص الحكم بالاستفاضة ولا بهذه الأمور.

وكيف كان فإن أرادوا بالاستفاضة ما يفيد العلم عادة بنفسه أو بملاحظة القرائن على أبعد الاحتمالات فما ذكروه من الثبوت

جيد متين ، لكن يبقى الكلام في وجه التخصيص بالاستفاضة بهذه الأمور ، وان أرادوا بها ما يفيد الظن المتاخم الاطمئناني أو مطلقا فثبوت هذه الأمور خاصة بهادون غيرها يحتاج الى دليل يدل على حجية الاستفاضة على وجه لا يتناول ما عداه.

وأما ما قيل من أن الاستفاضة لا اختصاص لها بهذه الأمور وان ذكر الأصحاب لها بالخصوص انما هو لأجل كونها غالبا مجرى لها دون غيرها مما يغلب فيه جريان البينة. فليس في محله ، لبعده عن ظاهر التخصيص كما لا يخفى ، خصوصا مع ملاحظة تقييدهم الملك بالمطلق ، فان تقييد الموضوع بقيد يشاركه غيره في الحكم ، ركيك في الغاية إلا لنكتة كغلبة القيد في الوجود الخارجي ، مثل غلبة كون الربا في الحجر والملك المطلق ليس بأغلب من الملك المسبب عن مثل البيع.

ص: 95

[ الأدلة على اعتبار الاستفاضة الظنية ]

ودعوى أن غلبة جريان الاستفاضة في المطلق أوجبت أيضا التقييد به.

فاسدة ، لأن غلبة ارتباط أحد متعلقات الحكم بشي ء لا يقتضي تقييد الحكم به مع عمومه لما سواه كما لا يخفى ، فلا بد حينئذ من اقامة الدليل على اعتبار الاستفاضة الظنية على وجه يختص بهذه الأمور. ويمكن أن يستدل عليه بوجوه :

( الأول ) السيرة القطعية الجارية بين المسلمين ، فان طريقة السلف والخلف مستقرة على المراجعة الى من اشتهر ولايته وقضاوته بين الناس بحيث يكشف عن إمضاء المعصوم ، وهكذا على ترتب آثار النسب والملك المطلق الى آخر السبعة بمجرد الشياع والاشتهار وان كان بعضها كالموت دون بعض في ذلك.

( الثاني ) عسر إقامة البينة كما لا يخفى على من عاشر أهل الابتلاء بهذه الأمور ، لان توقيف أمور الناس في حوائجهم إلى القضاة والولاة حتى يثبت عندهم بالبينة العادلة الجامعة للشرائط التي لا يعرفها الا العلماء ، ولاية القاضي عسر بين بل حرج واضح.

وكذا التوقف في ترتب آثار النسب ، خصوصا فيما يتعلق بالبطون السابقة حتى يشهد عدلان على النسب من غير أن يكون مستند الشهود أيضا هو الاستفاضة والا فالظاهر مساواة مقام الشهادة لمقام العمل ، بل الثاني أولى كما لا يخفى.

هذا ، ولكن دليل العسر إنما ينفي التوقف على البينة ويثبت حجية شي ء آخر ، وأما كونه الاستفاضة فموكول إلى قرينة الإجماع. توضيحه : ان عسر إقامة البينة قد يوجب سقوطها رأسا كما في موارد قبول قول المدعي بمجرد دعواه مثل ما لا يعلم الا من قبله ، وقد يوجب سقوط بعض شرائطه مثل ما لا يستطيع الرجال على الاطلاع به ، فان جميع شرائط البينة لا بد من إحرازها فيه إلا ما

ص: 96

يستلزم منه العسر وهو الذكورية. وبالجملة عسر إقامة البينة يوجب سقوط شرائطها كلا أو بعضا.

وأما الاكتفاء بقول المدعي أو بخبر واحد أو بإخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة لا بد في تعيينها من التماس دليل ، فكان العسر قرينة صارفة لا تغني عن القرينة المعينة ، فلا بد في الحكم بالاستفاضة من التمسك بالإجماع بعد فرض عدم اشتراط البينة.

( الثالث ) بعض الروايات ، كمرسلة يونس عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحق للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال عليه السلام : خمسة يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم الولايات والمناكح والذبائح والشهادة والمواريث ، فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته لا يسأل عن باطنه (1).

وعن الفقيه « الأنصاب » مكان « المواريث » كما أن عن بعض نسخ التهذيب « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم ».

استدل به في محكي كشف اللثام. تقريب الاستدلال : أن المراد بالحكم هو الحكم اللغوي ، أعني مضمون القضية ، وظاهره يراد به ما يظهر منها بين الناس ويشيع فيما بينهم ، فالمراد ما كان من هذه الأمور معروفا شائعا يجب الأخذ به ولا يسأل عن باطنها. وهكذا التقريب لو كان « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم » بل التقريب حينئذ أظهر.

والتحقيق عدم دلالتها على شي ء من المقصود ، لان الظاهر اما أن يراد به ما يقابل الواقع أو يراد به الواضح. وعلى الأول فلا دخل له بالمقام ، لان الظاهر المقابل للواقع عبارة عما يستفاد من الامارات المفيدة للظن نوعا ، مثل سوق المسلمين ويد

ص: 97


1- الوسائل 18 ب 22 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المسلم وفعل المسلم والفراش وحسن الظاهر ونحوها ، لان الظاهر يقول مطلق من غير التقييد يكون عند جماعة أو عند الكل المقابل للواقع يتبادر منه ذلك ، كما لا يخفى على ذي وجدان سليم. وعلى الثاني فهو أبعد من الأول بالنسبة إلى المقصود ، لان الواضح بقول مطلق يعني من دون إضافته إلى شخص دون شخص لا ينطبق الا على البديهيات ، وهذا مع بعده عن ظاهر الرواية أو صريحها مخالف للإجماع مناف للغرض.

وكان المستدل حمل الظاهر على المعنى الأخير ، مقيدا بكونه عند جماعة ، حتى يكون المفاد أنه يجب الأخذ بهذه الخمسة لوضوح الحكم والحال عند جماعة ، وهو كما ترى.

ومما يؤيد المعنى الأول بل يدل عليه تصريح الامام عليه السلام بقوله « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا » الى آخره ، لأن الأخذ بالظاهر المأمون جزئي من جزئيات اعتبار ظاهر الأمارات الظنية وفرع من فروعه لأمن جزئيات اشتهار المطلب وشيوعه بين الناس كما رام المستدل.

فان قلت : على المعنى الأول يندرج فيه الخبر المستفيض أيضا ، لأنه من الظواهر والأمارات المفيدة للظن مثل اليد والسوق ونحو هما فينهض بإثبات المقصود.

قلت : الاستفاضة ليست من الامارات المفيدة للظن نوعا بل شخصا ، إذ ليس لها حد سوى كونها مقرونة بإفادة الظن ، ومثل هذه لا تعد من الظواهر بقول مطلق التي هي عبارة أخرى عن الامارات النوعية. والحاصل ان من تأمل في الرواية أدنى تأمل يجدها بالدلالة على إمضاء الأمارات الشرعية في هذه الأمور أولى من الدلالة على اعتبار الاستفاضة.

ومما استدل به من الروايات أيضا رواية حريز الواردة في إسماعيل بن

ص: 98

ابن عبد اللّه الطويلة ، وموضع الاستشهاد منها قوله عليه السلام : إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (1). حيث تدل على وجوب تصديق المؤمنين ، فيجب قبول اخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة.

وفيه ما لا يخفى ، إذا المراد بالمؤمنين في الرواية هو الجنس ، لأنه المتعين بعد تعذر الاستغراق ، وتصديق جنس المؤمن المأمور به في الروايات والممدوح في الكتاب المعني بقوله تعالى « يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ » ، يراد به معنى غير قبول الشهادة ، ضرورة قيام الضرورة على عدم فبول شهادة بعض المؤمنين من غير اعتبار شي ء من الصفات ، وهو التصديق مع عدم ترتيب الاثار الذي هو مفاد قوله تعالى « قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ » (2).

مضافا الى كون الأمر بالتصديق في هذه الرواية أمرا إرشاديا ، لمعلومية عدم حرمة استيداع الفاسق شرعا. ومن الواضح أن مجرد الاتهام يكفي في الأمر الإرشادي ولا حاجة الى كون قول المؤمنين حجة شرعية حتى يتفرع عليه ثبوت فسق الرجال شرعا ، بل لو جعلنا الأمر بالتصديق شرعيا لوجب إخراج المورد كما لا يخفى.

والحاصل ان اخبار المؤمنين عن فسق شخص موجب للنهي الإرشادي عن استيمانه ، من غير أن يكون حجة شرعية ، فلعل نظر الإمام في الأمر بتصديقهم المراد به ترك عدم الاعتناء المبالاة بقولهم الى كون قولهم منشأ للتهمة المانعة عن الاستيمان لا الى كون قولهم حجة شرعية.

نعم في صحيحة أبي يعفور (3) الواردة في العدالة دلالة على ثبوتها بالاشتهار ، وكذا

ص: 99


1- الوسائل ب 6 من كتاب الوديعة وأحكامها.
2- سورة التوبة : 60.
3- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات.

في النبوي : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا تخاصما اليه رجلان قال للمدعي ألك حجة ، فان أقام بينة يرضى بها ويعرفها نفذ الحكم على المدعى عليه - الى أن قال - وان جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كل منهما من حيث لا يشعر الأخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحالهم ، فاذا أثنوا عليه قضى على المدعي عليه وإذا رجعا بخبر شي ء قبيح لم يفضحهم - الحديث (1). لكنهما منزلان على الغالب ، وهو حصول العلم من الفحص في قبائل الشهود ، ومع ذلك فموردهما خصوص العدالة.

ومثلهما ما ورد في تنازع الزوجين في متاع البيت من أنه لو سألت من بين لابتيها - أي جبلي منى - لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الزوج فتعطى التي جاءت به (2). فان ظاهر الاعتداد بقول من بين اللابيتين لكنه منزل أيضا على الغالب في إفادة العلم ، ومع ذلك فلا دخل له بهذه الأمور السبعة.

والحاصل ان مثل هذه الروايات وان وردت في بعض آحاد المسائل لكنها لا تنهض للفقيه دليلا على اعتبار الاستفاضة مطلقا ولا في مجاريها أيضا كما عرفت.

( الرابع ) الدليل الانسدادى ، فان باب العلم في هذه الأمور غالبا منسد ، والرجوع الى الأصل يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، فلا بد من الاعتماد على الظن.

وهذا جيد ، لكنه يفيد العمل بكل ظن ، فيبطل تخصيص الحكم بالاستفاضة وبالأمور السبعة ، بل كل أمر من الموضوعات يكون حاله كذلك يتبع فيه الظن

ص: 100


1- الوسائل ج 18 ب 6 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

كما ذكرناه مرارا.

( الخامس ) الأولوية ، لأن الظن الحاصل من الشياع أقوى من الظن الحاصل من بعض أفراد البينة. استدل به في المسالك ، وهو كما ترى لا ينفعنا ، لأن الأولوية القطعية واضحة المنع والظنية غير مجدية الا أن تكون لفظية بالفحوى ، ولا مجال له في المقام. واللّه العالم.

التقاط [ هل ينعزل القضاة بموت الإمام؟ ]

إذا مات الامام فعن الشيخ تارة ان الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع وأخرى عدم الانعزال ، كما أن الأصحاب أيضا اختلفوا في ذلك على ما في المسالك.

وجه الأول أمران :

( الأول ) ان ولاية القضاء متقومة بإذن الامام ونصبه ، والاذن مما لا بقاء له بعد موت الاذن ، ومن هنا أطبقوا على انعزال الوكيل بموت الموكل. وبالجملة لا معنى لبقاء حكم الاذن بعد زواله بموت أو عزل ، وبقاء الوكالة إلى زمان بلوغ العزل أمر ثابت على خلاف القاعدة ، لأنها تقتضي الانعزال بمجرد العزل الواقعي وان لم يعلم به الوكيل كما في موت الموكل. والحاصل ان صفة الاذن بديهي الزوال بموت الاذن ، فلا يبقى أثره جدا.

( الثاني ) ان متعلق ولاية القاضي انما هو في الافعال والأمور التي كان ولايتها للإمام عليه السلام ، فالقاضي إنما يتولى أفعال الإمام بإذنه ، فاذا مات فات متعلق الاذن كفوت متعلق الوكالة في شي ء بفواته.

وهذا معنى قول من استدل على الانعزال بأن ولايتهم فرع ولايته ، فاذا زال

ص: 101

الأصل زال الفرع.

ومن زعم أن المراد عدم ثبوت ولاية للإمام على الأعصار المستقبلة وان ولاية امام كل عصر مختصة بعصره. فقد سها سهوا بينا ، لان كل نبي أو وصي مسلط على كل تصرف يرى فيه مصلحة سواء اختص بزمانه أو عم الأزمنة كلها ، حتى ان آدم على نبينا وآله وعليه السلام كان له من التصرفات ما يدوم أثره إلى يوم قيام القيامة.

وهو واضح ، لأن ولاية أولياء اللّه ولاية إلهية تامة عامة كاملة - فافهم حتى لا يشتبه عليك الفرق بين اختصاص ولاية الإمام بعصره وبين ما قلنا من فوات متعلق الاذن بموت الاذن.

وجه الثاني أيضا أمران :

أحد هما - حسبان أن نصب القاضي فعل من أفعال الامام وجعل من مجعولاته كسائر أفعاله وتصرفاته ، مثل الإعطاء والمنع والبيع والشراء وأمثالها ، وهو ماض مطلقا كما ستعرف في نصب الفقيه والقضاة العامة ، وليس من قبيل إنشاء الاذن في شي ء حتى يزول بموت ونحوه.

والثاني - الاستصحاب.

وكلاهما ضعيفان ، لأن الأول غير ثابت والثاني ليس بحجة في مثل المقام ، على ما هو المختار من عدم الاعتبار بالاستصحاب في الشك باعتبار المقتضي.

ثمَّ ان أدلة الطرفين جارية في المنصوب العام ، مثل قول الصادق عليه السلام في مقبولة ابن حنظلة : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا - انتهى ونحوه (1).

لكن الظاهر المصرح به في المسالك الإطباق على عدم الانعزال ، ولعله لأجل ظهور مثل قوله عليه السلام « انظروا » في جعل المنصب لا في الاذن في القضاوة خاصة ، فلا يزول بموت الامام وان كان الخطاب الشفاهي مختصا

ص: 102


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

بالمخاطب ، لان المفروض موت المخاطب - بالكسر - دون المخاطب.

وربما يعلل أيضا - كما في المسالك - بأن التولية العامة اعلام بالحكم الشرعي وانه من أهل الولاية ، كالاعلام بحجية قول العدل ، والحكم الشرعي لا يختلف باختلاف موت الامام ، وهو حسن وان كان مشروطا بإذن الإمام عليه السلام ، نظير وجوب الصلاة على الميت مشروطا بإذن الولي ، وقد أشرنا الى ما في ذلك فيما سبق - فتأمل.

وهكذا الكلام في الفقيه حال الغيبة ، بل الحكم هنا أولى ، لأنهم قائمون مقام الحجة المنتظر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الكرام ، فيخرج من جزئيات مسألة عزل القضاة بموت الامام ، بل هو خارج عما نحن فيه مطلقا ، لأنهم منصوبون في حال الغيبة بحكم الأدلة العامة ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة (1) ونحوها ، ولا معنى لانعزالهم بموت أحد الأئمة السابقين كما لا يخفى.

فما في المسالك من اجراء البحث في الفقيه حال الغيبة وجعل نصبهم من باب الاعلام كما بينا غير صحيح. ولعل تقييد الفقيه بحال الغيبة سهو من قلمه ، والصواب ما حررنا من جعل محل الكلام النواب العامة الذين نصبهم الصادق عليه السلام بمثل قوله « انظروا الى من كان منكم » إلخ. واللّه العالم.

بقي الكلام في منصوبي الفقهاء والمجتهدين في حال الغيبة ، والظاهر أن الحكم أيضا كما ذكر من الانعزال ، بل هنا أولى ، لأن بقاء ولاية المنصوبين - كما يقوم على الأطفال مثلا - مبني على كون ولايتهم تصرفا من تصرفا الفقيه ونصبا منه ، وقدرته على مثل ذلك النصب وشرعيته غير معلومة ، والتمسك بعمومات أدلة الولاية قد عرفت ضعفه فيما سبق عند البحث عن جواز قضاء المقلد فارجع وتأمل.

ص: 103


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

ومما ذكرنا يظهر ضعف أحد الوجهين المذكورين في المسالك ، أعني وجه عدم الانعزال في المتصرفين في شغل عام كقوام الأطفال والوقوف. وما علله به من ترتب الضرر بولايتهم الى أن يتجدد الولاية. واضح المنع. واللّه العالم.

التقاط [ علم القاضي هل يكون بينة للقضاء ]

اختلفوا في قضاء القاضي غير الامام عليه السلام بعلمه على أقوال ، ثالثها القضاء في حقوق الناس لا في حقوق اللّه ، ورابعها العكس. والأكثر على جواز القضاء مطلقا ، وهو الأظهر.

واعلم أن أصل القضاء بالمعنى المبحوث عنه أمر على خلاف القاعدة ، أشرنا إلى وجهه في صدر الباب عند البحث عن جواز قضاء المقلد ، وحاصله : ان القضاء سلطنة إلزام شرعي للشخص على ما لا يقتضيه تكليفه ، سواء كان القضاء بمقتضى العلم أو بمقتضى البينة ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي.

وهذا هو المراد مما ذكرنا في الالتقاط المتقدم من كون العلم في مسألة القضاء موضوعا قابلا للإثبات والنفي ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي في مقام الحجية ، لكن إذا فرض وجوب القضاء لا محالة فلا معنى لعدم اعتبار العلم ولا لاعتبار سائر الموازين في مقابله. مثلا إذا علم القاضي بحقية الدعوى فالإعراض عن مقتضى العلم والرجوع الى اليمين لا معنى له ، أو علم مثلا أن قاتل زيد هو عمرو وأقيمت البينة على كونه خالدا فان الحكم بالقصاص عن خالد وعدم الحكم بالقصاص عن عمرو مع العلم بأن خالدا ليس بقاتل ، يوجب التخصيص في أدلة الأحكام الواقعية ، مع أن القاضي إنما أمر بالقضاء حسب الحق الواقعي.

ص: 104

وقد أجاد في المسالك في مقام الاستدلال على المدعي حيث تمسك في اعتبار العلم بمثل قوله تعالى « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » ، فإن الخطاب بقطع السارق وغيره من الخطابات لا يحتاج في تنجيزها سوى العلم القاطع للعذر.

ومن هنا ظهر أن التمسك بأدلة البينة أو ببعض ما ورد في باب القضاء من حصر الموازين في الأربعة أو نحو ذلك. فاسد جدا ، للقطع بأن الموازين الشرعية كلها أمارات على الواقع ، ومن شأن الامارة اختصاصها بالجاهل.

والحاصل ان القول بعدم حجية العلم للقاضي وانه انما يقضي حسب البينة مثلا ولو علم بكذبها تصويب محض أما في الموضوعات ، فهو باطل بالضرورة والإجماع ، لأن القاتل والزاني والمديون ونحوها من موضوعات الاحكام ليس مما يعم الموضوع الواقعي وما يقام عليه البينة إجماعا وضرورة من العامة والخاصة ، أو تصويب في الموضوعات بملاحظة تعلق الاحكام ، بمعنى ثبوتها للأمرين الموضوع الواقعي والظاهري الذي أقيم عليه البينة.

وهذا وان لم يكن ضروري البطلان كالأول - بل ربما قال به بعض - ولكنه بديهي السقوط عن الانظار ، فالحق ما عليه الأكثر من القضاء بالعلم مطلقا.

وأما الامام عليه السلام فقد نقل الاتفاق على قضائه بعلمه ، فالأمر فيه أوضح بعد دعوى غير واحد الاتفاق عليه.

وأما ظاهر بعض الروايات الدالة على اغضائهم عليهم السلام عن علومهم في المعاملة مع الناس ، بقول مطلق أو في خصوص فصل الخصومات. فروايات متشابهة قابلة لضروب من التأويل والتوجيه التي : منها عدم التفتيش والسؤال لا عدم العمل بالعلم مع حصوله ، ومنها اقتضاء المصلحة في خصوص المقام للاعراض عن الواقع ، ومنها غير ذلك مما لا يحد تحت حد ، مضافا الى عدم وضوحها سندا ودلالة.

ص: 105

وبالجملة لم يثبت لنا إهمال الامام لعلمه في مورد ، وعلى تقدير الثبوت فهو قضية في واقعة محتملة لكثير من التأويلات والتوجيهات التي ذكر السيد قدس سره جملة منها. واللّه العالم.

التقاط [ حبس المدعى عليه لو كانت بينة المدعى غير تامة ]

قال الشيخ في محكي المبسوط : إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها جاز للحاكم حبسه لتقام البينة على ما ادعاه.

واستشكل فيه المحقق « قده » من حيث أنه لم يثبت الحق بتلك البينة بعد حق يوجب عقوبة الحبس.

ومبنى الخلاف - على ما ذكره في المسالك - على أن العدالة شرط أو أن الفسق مانع ، فالشيخ بنى على الثاني والمشهور على الأول.

أقول : بناء الشيخ على كون الفسق مانعا لا يجديه أيضا في تعجيل الحبس إذ لا بد من رفع المانع في اقتضاء العلة التامة أثره.

ولعله مبنى - مضافا الى ما ذكر - على شي ء آخر أيضا ، وهو أن المانع يكفي للحكم بعدمه الشك في وجوده ولو لم يقتضيه شي ء من الامارات ، ولا يلزم في نفي المانع من الاستناد إلى شي ء بعد الأصل ، إذ لو لا ذلك لوجب أيضا عدم الحكم حتى يعلم أن البينة غير فاسقة اما بالوجدان أو بالأصل ، بأن كان الشاهدان غير فاسقين في السابق.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين كون العدالة شرطا أو الفسق مانعا الا على الاكتفاء بالشك في رفع المانع أو دعوى ان الفسق مطلقا مجرى للأصل باعتبار

ص: 106

كونه أمرا حادثا لا محالة. والأول غير ثابت بل المظنون خلافه كما ذكرنا في الأصول ، والثاني مبني على كون الفسق مجرد صدور بعض الأفعال القبيحة ، بأن يكون بينه وبين العدالة واسطة ، وهو غير بعيد.

ويمكن ابتناء الخلاف على كون العدالة هي ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو الملكة أو حسن الظاهر ، وهو أحسن.

وفي عبارة المسالك هنا نوع مؤاخذة ، لأنه جعل البنائين بناء واحدا على ما يظهر من ظاهر التفريع في قوله « فالشيخ بنى في جواز الحبس على أصله من ثبوت العدالة الى أن يظهر خلافها » ، مع احتمال كون المراد من هذا الأصل كون الإسلام طريقا للعدالة لا نفسها ، فتصير المباني ثلاثة والمؤاخذة أيضا باقية كما لا يخفى.

ثمَّ ان إطلاق البينة على ذات الشاهدين - كما في عبارة الشرائع - اما مبني على المسامحة على أن البينة في الاصطلاح اسم لذات العدلين لأنها مقيدة بالعدالة. واللّه العالم.

التقاط ( في نقض الحكم )

اعلم أن حرمة نقض الحكم في الجملة مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وقد أشرنا في صدر الباب الى أن حرمة النقض لا يحتاج في إثباتها إلى دليل آخر غير ما دل على وجوب الرضا بحكم الحاكم بعد تصور حقيقة الحكم ، فان الحكم المبحوث عنه - على ما سبق مرارا - عبارة عن فصل الخصومة وقطع المنازعة بإلزام أحد المتخاصمين على غير ما يقتضيه تكليفه.

ومن الواضح أن النزاع يستحيل أن يطرأ عليه فصلان متماثلان أو متضادان ،

ص: 107

نحو استحالة فصل أمر متصل مرتين ، فاذا تحقق مرة عند حاكم جامع لشرائط صحة القضاء فصل الخصومة فلم يبق أمر قابل للفصل شرعا بعد ، سواء رضي الخصمان بتجديد المرافعة أم لا ، لان رضاء هما يقع لا غيا بعد فرض عدم خصومة بينهما شرعا ، وان جواب المنكر منهما بالنفي غير مسموع ومطالبة المدعي منهما بالحق غير مقبولة في الإسلام ، فلا حاجة حينئذ إلى إقامة دليل من نص أو إجماع على حرمة النقض وان كانا موجودين في المسألة كما لا يخفى.

فما مال اليه بعض مشايخنا قدس سره من عدم المانع من تجديد المرافعة على تقدير رضاء المحكوم عليه. ليس في محله بعد ما عرفت من عدم بقاء محل قابل للفصل بعد الحكم الأول.

[ ما يجوز فيه نقض الحكم ]

نعم يجوز النقض في مواضع ثلاثة ، وهي المواضع التي يقع فيها الحكم الأول من أصله لاغيا غير مؤثر لا أنه حقيقة نقض للحكم بعد صحته :

( أحدها ) ما لو علم الحاكم أو غيره مخالفة حكم الحاكم الأول للحكم الإلهي الواقعي علما قطعيا ، سواء كان ذلك بنظر الحاكم الثاني في الحكم الأول حيثما يجوز له النظر أو بظهور المخالفة من غير نظر ، فإنه يجوز النقض حينئذ حتى يتجدد المرافعة ، لأنه الحكم على حد غيره من الامارات فلا يكون حجة إلا مع الجهل بالواقع ، وأما مع العلم به فلا حكومة له ولغيرها من الامارات على الواقع أبدا ، بل لا يعقل ذلك الأعلى التصويب الباطل.

نعم حكم الحاكم حاكم على سائر الأمارات كائنا ما كان ، بمعنى وجوب متابعة الحكم على الوجه الذي أمرنا بمتابعته لا تنزيل المحكوم به بمنزلة الواقع وتحكيمه على ما ينافيه من الامارات القائمة في مورد الحكم من تقليد أو اجتهاد

ص: 108

كما يأتي. ومنه يعلم أن التمسك بإطلاق أدلة حرمة الرد هنا ليس في محله مع إمكان دعوى الإجماع عليه.

( وثانيها ) ما لو علم مخالفة الحكم لدليل معتبر عند الكل ، كالخبر الصحيح المعمول به الثابت في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض ، فان نقض الحكم حينئذ جائز على ما صرح به غير واحد ، لان العلم بالواقع الاولى والواقع الثانوي مع وحدته بين الكل سيان في عدم جواز المخالفة ، ولذا جعلوا الإجماع من الأدلة القطعية التي لا يجوز مخالفتها ، مع أنه قد لا يكشف بها عن الواقع بل عن وجود دليل معتبر عند الكل ، بحيث لو فرض مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لم يفت الا بمضمونه.

والحاصل ان المناط على كون المحكوم به مخالفا للتكليف الفعلي المتبع عند الكل ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، كمدلول ظاهر كتاب سالم عن المعارض أو ظاهر سنة متواترة أو إجماع كاشف عن دليل ظني معتبر أو خبر واحد صحيح عند الكل على القول به مثلا.

وأما مخالفة الحكم الثانوي مطلقا فليس محل النقض ، لأن الأحكام الثانوية متعددة حسب تعدد الآراء ، فليس لمجتهد ابطال ما زعم الأخر حكما إلهيا والا لم يبق للحكم مورد لا ينتقض فيه الا نادرا.

وأدلة حرمة الرد يتعين الشمول للمسائل الاجتهادية الخلافية ، بل مورد مقبولة عمر بن حنظلة التي هي من أمتن أدلة حرمة الرد هي صورة الاختلاف في الحكم.

والحاصل ان المخالفة في الرأي لا يوجب جواز النقض مطلقا ، بل تتوقف على كونها بحيث لا تخفى على أحد يراعى لوظائف الاجتهاد.

( وثالثها ) ما لو ظهر خطأ الحاكم في الاجتهاد قصورا أو تقصير ، مثل الاستناد في الحكم الى كتاب فيه ترك أو خبر معارض أقوى مع ترك الفحص أو على

ص: 109

بعض كتب الاخبار من غير المراجعة إلى غيره أو غير ذلك مما ينافي الاجتهاد الصحيح.

ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون الحكم موافقا للواقع أو مخالفا. لان سبب جواز النقض هنا فساد الاجتهاد لا مخالفة الواقع. والسر في ذلك أن الاجتهاد في مقام الحكم موضوعي لا طريق صرف الى الواقع ، فلا يجدي مصادفته للواقع مع اختلال شرائط صحته ، ولذا لا ينفذ حكم المقلد ولو مع مطابقته للواقع.

ومن هنا يعلم الفرق بين هذا وسابقة ، لان سبب النقض في الثاني مخالفة الحكم للواقع الثانوي المعتبر عند الكل ولو كان صادرا عن اجتهاد صحيح وهنا مجرد فساد الاجتهاد ، سواء صادف الواقع الأولى أو الثانوي أم لا. ولو عممت الخطأ في الاجتهاد بحيث يندرج فيه الثاني كان الفرق بينهما بالعموم والخصوص المطلقين كما لا يخفى.

هذا كله في المسائل الخلافية ، وأما الحكم في الموضوعات فالظاهر عدم الفرق بينهما الا على بعض الوجوه ، وحاصله ان العلم بخطإ الحاكم في الموضوع أو قصوره أو تقصيره في استعمال موازين القضاء يصحح نقضه في الباطن جدا ، بمعنى عدم وجوب الالتزام بآثار الحكم في الواقع كما يجب على الجاهل الشاك ، فيجوز المقاصة الباطنية في غير اليمين مثلا ، وأما النقض جهارا - بمعنى تجديد المرافعة من رأس - فلعل فيه بعض المحذور المانع من النقض ، بل الأمر كذلك في المسائل الخلافية ، فلو أوجب تجديد المرافعة فتنة أو إهانة محرمة على الحاكم الأول لم يجز على احتمال.

ثمَّ المراد بالنقض ليس ما يتبادر منه ، أعني ابطال الأمر المستمر ، بل المراد هو الحكم بفساد حكم به الأول من حين صدوره ، ففي لفظ « النقض » هنا

ص: 110

مسامحة.

ومن هنا يعلم أنه لو شك في جواز النقض وعدمه لم يجز التمسك بالاستصحاب لإثبات العدم ، لان الشك في النقض شك في وقوع الحكم الأول صحيحا حين صدوره ، بل المحكم فيه هو التمسك بأصالة عدم ترتب الأثر على حكم الحاكم الثاني على اشكال فيه - فتأمل.

التقاط [ ما ذا يراد من حرمة نقض الحكم؟ ]

هل المراد بحرمة النقض في مواردها الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا في نوعه أو في شخصه ، أو بآثاره من حيث انفصال الخصومة.

مثلا إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس وطهارته فحكم الحاكم بالطهارة ، ففي وجوب ترتيب جميع آثار الطهارة على نوع العصير أو على شخصه المتنازع فيه - سواء وافق اجتهاد المرتب أو تقليده أم خالف - أو خصوص الأثر الذي بسببه وقعت الخصومة - أعني صحة البيع وتملك البائع الثمن من غير ترتيب المشتري أو غيره سائر آثار الطهارة كإباحة الأكل والصلاة ونحوهما إذا لم يساعد تكليفه - وجوه ، أقربها الأخير ، لقصور الأدلة عن الدلالة على تحكيم الحكم على تكليف الشخص الأمن حيث انفصال الخصومة.

بل الظاهر من بعض الأدلة كقوله « فارضوا به حكما » (1) مجرد ارتفاع الخصومة لأنه الذي يقبل الحكم بمعنى الإلزام وأما غيره من الاثار فليس مما يقبل ذلك ، بل الحكم بالنسبة إلى الاثار الأخر بمنزلة الفتوى أو الشهادة التي

ص: 111


1- الوسائل ج 18 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1.

لا تنفذ في حق حاكم آخر ومقلديه.

ومما ذكرنا ظهر ضعف ما قد يتوهم هنا من التفصيل بين ما إذا كان متعلق الحكم طهارة العصير مثلا بأن يقول الحاكم حكمت بطهارته فالأول أو الثاني أو أداء الثمن بأن يقول للمشتري حكمت عليك برد الثمن فالثالث ، لأن الطهارة من حيث هي مع قطع النظر عن استلزامها أداء الثمن لا تحتمل الحكم بل الفتوى ، ومع هذه الحيثية ترجع الى الثاني.

ثمَّ انه لو قيل بأحد الأولين امتنع الحكم بنجاسة ذلك العصير الجزئي أبدا حتى في مخاصمة أخرى بين اثنين آخرين ، بخلاف الثالث ، فإنه غير مانع عن الحكم بنجاسته في منازعة أخرى. فلو باع المشتري ذلك العصير بتقليد أو اجتهاد فيه ووقع النزاع بينه وبين البائع في الطهارة والنجاسة فترافعا الى حاكم آخر يرى نجاسته نفذ حكمه بالنجاسة.

ولو قيل بالثاني في الملازمة بينه وبين الأول بعدم القول بالفصل بين جزئيات العصير الخارجية وجهان : وجه الثاني إمكان القول بجواز خرق الإجماع المركب في الأحكام الظاهرية كما تقرر ذلك في الأصول. الا أن يقال بالفرق بين خرقه بحسب الأصول أو بحسب التقليد وغيره من الامارات المجعولة ، فيجوز الأول دون الثاني ، وهو تحكم. نعم لو أوجب التفكيك مخالفة قطعية عملية لم يجز ، كما لا يجوز ذلك بحسب الأصول أيضا.

[ نقض الفتوى بالحكم وبالعكس ]

هذا هو الكلام إجمالا في نقض الحكم بالحكم ، وأما نقض الفتوى بالحكم وبالعكس فقد ظهر أيضا مما ذكر ، وهو جواز الأول دون الثاني ، لأن حكم الحاكم حاكم على جميع الطرق والامارات. ومقتضى الحكومة أن لا يمنع

ص: 112

الفتوى السابقة من نفوذه ولا يرفع المتأخرة لأثره.

وأما نقض الفتوى بالفتوى - أي رفع اليد عن آثار الفتوى السابقة ماضيا ومستقبلا بالفتوى المتأخرة - فالكلام فيهما محرر في الأصول تعرضنا لجملة القول فيه في مسألة الاجزاء ، وإجمال القول هنا هو : ان الفتويين تارة تكونان من مجتهد واحد وأخرى من مجتهدين :

( أما الأول ) فقد ذكرنا في الأصول أن الحق فيه النقض ، بمعنى وجوب رفع اليد عن آثار الفتوى المعدول عنها في الماضي والمستقبل ، نظرا الى عدم كون الأمر للاجزاء ، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والاحكام ، على خلاف ضعيف في بعضها كالعبادات وبعض أقسام المعاملات.

نعم استثنينا من صورة النقض قضاء العبادات على احتمال قوي للعسر والحرج في مظان جريانهما ، وذكرنا أيضا أن قيام السيرة على عدم النقض مطلقا - وان ادعاه بعض - أمر غير ثابت.

وكذا دعوى لزوم العسر والحرج ، خصوصا بعد ملاحظة الاتفاق على النقض في صورة العدول بدليل علمي ، فان الطرق الشرعية تجري مجرى العلم في الحكاية عن الواقع أولا وآخرا. ودعوى أن الحرج والعسر المترتبين على العدول العلمي غير قادحين لشذوذه. مدفوعة بأن العدول مطلقا ظنيا كان أو قطعيا شاذ خصوصا في المسائل المبتلى بها.

ونحن لم نجد في عصرنا مجتهدا عدل في شي ء من تلك المسائل ، بل هو محض فرض لو وقع لكان نادرا. واختلاف فتاوى العلامة في كتبه الاستدلالية لا ينافي دعوى الشذوذ ، لان حال كتب الاستدلال غير حال رسائل الفتوى.

نعم هنا كلام آخر ، وهو الفرق بين المجتهد ومقلديه ودعوى عدم النقض في حقهم ، لأن أدلة التقليد باعتبار كونها أدلة لبية محصلة من مجموع الكتاب

ص: 113

والسنة والإجماع يمكن دعوى اختصاصها بالجاهل الغير المتعبد بشي ء من الطرق ، ولذا لا يتناول المجتهد جدا والمقلد إذا قلد مجتهده في المسألة أمكن إلحاقه بالمجتهد من حيث كونه متعبدا في مقام التكليف بطريق شرعي وهو التقليد ، فلا تتناوله تلك الأدلة اللبية.

لكن قوينا في الأصول النقض في حقه وإلا لزم القول باستمرارهم على تقليدهم في المستقبل أيضا ، وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، فكما أن رفع اليد عن الفتوى المعدول عنها وجب عليهم في المستقبل فكذا في الماضي.

وما ذكرنا من قصور شمول الأدلة لا تفاوت فيه بين الماضي والمستقبل ، مع أن الشك في تناول الأدلة للعامي المقلد في الماضي معارض بالشك في حجية الفتوى القديمة في حقهم بعد العدول ، بمعنى أن أدلة التقليد لا إطلاق فيها كما أوضحناه في محله. والقدر المعلوم من حجية تلك الفتوى في حقهم هو إذا لم يعدل المجتهد ، وأما بعده فيرجع الى الأصل القاضي بالقدر المتيقن ، وهو الأخذ باللاحقة. وكيف كان فهذا الكلام لا كرامة فيه.

( وأما الثاني ) أعني نقض المجتهد فتوى غيره - بمعنى عدم ترتب آثاره في الماضي والمستقبل والحال - فالكلام فيه بمقتضى القواعد مثل ما مر من النقض ، لكن الخلاف فيه لعله أكثر وآكد ، وان نقل عن العميدي والعلامة وغيرهما دعوى الإجماع على النقض.

ومدرك المسألة في الموضعين شي ء ذكرناه أيضا في الأصول من أن الطرق والأمارات الشرعية هل هي محدثة للمصلحة كما يقوله أهل التصويب المحال أو مغيرة لها أو طريق محض مشتمل على المصلحة الطريقية أو غير مشتمل. فان قلنا بالأولين لم يعقل النقض ، وان قلنا بأحد الأخيرين وجب.

وقد رجحنا في الأصول الثالث صونا لأمر الشارع بالتعبد عن خلو المصلحة

ص: 114

وقلنا ان حال الأدلة الشرعية حال الأمارات في الموضوعات ، فكما أن كل شخص مكلف بما عنده من الامارة على حياة زيد أو موته أو طهارة شي ء أو نجاسته ، كذلك المجتهد مكلف بما عنده من الأدلة طابق دليل الغير أم خالف ، فلا يجب بل لا يجوز له ترتيب آثار الزوجية بين اثنين فيما لا يساعده اجتهاده وان ساعده اجتهاد الغير أو اجتهاد الزوجين ، وكذا سائر المعاملات والعبادات والطهارات.

والحاصل ان مقتضى القاعدة النقض الا فيما قام فيه السيرة أو الحرج.

وربما قيل بأن الأمور الإضافية - كالزوجية والملكية ونظائر هما - لا يجوز فيها النقض مطلقا لأنها أمورات عرفية لا واقعية لها سوى ما عهدوه والتزموه فيما بينهم ، من غير نظر الى شي ء من الأسباب الشرعية ، وان كانت هي أيضا من أسباب تحقق عناوين هذه الأمور.

ويؤيده أن العرف إذا فهموا حرمة التصرف في أموال الكفار وأزواجهم لم يتوقفوا على ترتيب حكم الزوجية والملكية على أزواجهم وأموالهم في طريقتهم ولو مع قطع النظر عما ورد في الشرع من الأمر بإقرارهم على طريقتهم وأخذهم بمعتقدهم الذي لا يعرفه إلا علماء المتشرعة. فالمدار في هذه الأمور ليس على حقائقها الواقعية الثابتة عند الشارع حتى يجري فيها التخطئة ويترتب عليه النقض. بل على الإضافات الحاصلة من الأسباب الظاهرية المستعملة فيما بينهم طابقت الأسباب الواقعية أم خالفت ، بل سواء كانت أسبابا شرعية أو من مجعولاتهم ، مثل ما يجري بين الكفار من أسباب هذه الأمور.

وهذا وان ذهب اليه بعض أهل النظر من المتأخرين ، لكن الحكم به أيضا لا يخلو عن اشكال. فكيف كان فتحقيق هذه المسألة مطالب من الأصول. واللّه العالم.

ص: 115

التقاط [ تتبع الحاكم حكم من قبله ]

ذكر في الشرائع أنه ليس على الحاكم من قبله ، لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه. وذكر قبله ما ينافي ذلك ، وجمع بينهما في المسالك بما لا بعد فيه معنى لا لفظا.

وظاهر العبارة أن النظر يجوز للحاكم ولو لم يزعم المحكوم عليه الجور ، حيث أن قوله « ليس عليه » نفي الوجوب لا الجواز ، ولعله كذلك قبل صدور الحكم من الأول بعد الثبوت ، إذ لا مانع منه ، لأنه ليس بالتجسس المنهي عنه ، الا أن يكون غرضه الاطلاع على عيوب الحاكم الأول فيحرم ، وأما بعد الحكم فالظاهر أيضا كذلك لما ذكرنا.

ثمَّ ان الظاهر من وجوب النظر على الحاكم اختصاص الكلام بالحكم في الشبهات الحكمية ، خصوصا بملاحظة ادعاء المحكوم عليه الحكم الجوري ، لان دعوى الجور ليس مما ينفع فيه البينة ، إذ هو من قبيل الشهادة على الرضاع المحرم ونحوه مما يتضمن الاخبار بحكم اللّه.

ويمكن تنزيل دعوى الجور على ذكر شي ء من أسبابه ، كالحكم بالبينة الفاسقة عنده أو مطالبة اليمين من المدعي ونحوه مما يسمع فيه البينة ، وحينئذ فيكون المراد بنظر الحاكم تجديد المرافعة.

التقاط [ ترجمة مترجم الدعوى شهادة أو رواية؟ ]

إذا افتقر الحاكم الى من يترجم مراد الخصمين أو الشاهدين مثلا ، جاز له أخذ

ص: 116

المترجم والمشي بمقتضى الترجمة.

والاشكال المذكور في دلالة آية النبإ على حجية الاخبار مع الواسطة ، يجري في المقام أيضا كالإقرار بالإقرار. لكن الظاهر عدم الخلاف في سماع قول المترجم ، وإنما الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار العدالة فيه في اعتبار العدد.

ومبنى المسألة على كون الترجمة شهادة أو رواية مثلا ، وذكروا في تميز الشهادة عن غيرها أمرا مذكورة في محلها لا يخلو جلها أو كلها عن النظر.

والذي تلقيناه من الأستاد الأنصاري دام ظله هو أن الشهادة عبارة عن كل خبر صدر في مقام التوقع والانتظار ، فكل خبر كان مسبوقا بسؤال محقق أو مقدر بمعنى وقوعه في مقام انتظار شخص له كالاخبار ابتدائية غير مسبوقة بسؤال عن مضامينها تحقيقا أو تقديرا.

ومن هنا يظهر اندراج الترجمة تحت الشهادة ، فيعتبر فيها التعدد ، للإجماع على اعتباره فيها.

ثمَّ لو شك في كون شي ء شهادة أو رواية يرجع الى إطلاق ما دل على اعتبار قول العدل مطلقا ، سواء انضم معه عدل آخر أم لا ، بناء على حجية قول العدل كذلك ، اقتصارا فيما خرج عن تحت العام - وهي الشهادة - على القدر المعلوم كونه من أفردها ، كما هو الشأن في كل مخصص مجمل بحسب المفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، فإن المرجع في الفرد المشكوك الاندراج هو العام. ولو منع عن عموم حجية قول العدل كان المرجع في الموارد المشكوكة أصالة عدم الحجية كما لا يخفى. واللّه العالم.

ص: 117

التقاط [ هل يكفي إظهار الإسلام في الشهادة ] [ أو لا بد من العلم بالعدالة ]

إذا عرف إسلام الشاهدين وجهل عدالتهما ، توقف الحاكم حتى يتحقق ما يبنى عليه من عدالة أو فسق عند المشهور ، خلافا للمحكي عن الخلاف ، فذهب إلى أنه يحكم بمجرد ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق. وهذا هو الأصل عند الشيخ في كل موضع يشترط فيه العدالة ، فيترتب أثرها بمجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وتبعه بعض القدماء أيضا من الشيعة. والمشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين هو الأول.

وهاهنا قول ثالث صرح به بعض رؤساء المتأخرين (1) وفاقا لما استظهره من كلام بعض القدماء ، وهو عدم الاكتفاء بالإسلام واعتبار حسن الظاهر.

والمراد بالاكتفاء بالإسلام أو بحسن الظاهر كونهما طريقين جعليين من الشارع إلى العدالة التي هي ملكة من الملكات وصفة من الصفات ، نظير سائر الطرق الشرعية كالبينة وفعل المسلم وأصالة الطهارة ، لا أن العدالة عبارة عنهما كما تو همه جملة من المتأخرين حيث زعموا أن الاختلافات في المقام راجعة إلى حقيقة العدالة وأنها الملكة أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر.

ولكنه سهو واضح ، لان القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر ، غير معقول عقلا ونقلا. فهنا مقامان : الأول عدم كون العدالة عبارة عن الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند أحد من العلماء ، والثاني عدم اعتبار هما في مقام الكشف عنها.

( لنا على الأول ) ان العدالة والفسق أمران متضادان بالبداهة والوجدان ،

ص: 118


1- قائله الوحيد البهبهاني « قده ».

فلا يجتمعان في مورد واحد ضرورة ، ولو كان الإسلام مع عدم ظهور الفسق نفس العدالة جاز اجتماعها مع الفسق النفس الأمري ، لعدم المنافاة بين الجهل به وثبوته واقعا. والسر في ذلك أنه إذا اعتبر في أحد الشيئين عدم العلم بالآخر جاز اجتماعهما واقعا وخرجا عن الضدية.

وأما عدم ثبوته فعلا فلان بناء الشيخ على العدالة بمجرد الإسلام ، وعدم ظهور الفسق ليس فيه دلالة على كونه هو العدالة ، بل فيه الدلالة على الخلاف كما أوضحنا. مضافا الى ظهور ما في محكي الخلاف على المدعي بأن الأصل في الإسلام هو العدالة ، لأن القول بكون الإسلام مع عدم ظهور الفسق هو العدالة ينافي جعل العدالة في المسلمين من الأصول.

ومن شواهد ما ذكرنا عبارة الشرائع حين نقل الخلاف عن الشيخ ، حيث أرسل وجوب البحث عن العدالة مع الجهل بها إرسال المسلمات ثمَّ قال : وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما. ثمَّ ذكر خلاف الشيخ في وجوب البحث.

ووجه الشهادة : ان الغرض من قوله « وكذا ذكر خلاف الشيخ » في بعض أقسام المسألة الاولى ، وهذا ينافي كون العدالة هو ظهور الإسلام ، إذ العدالة حينئذ مجهولة عند الشيخ حتى يبحث عنها ، مع أن ظاهر العبارة اختلاف الشيخ في وجوب البحث حينئذ لا في تحقق العدالة.

مع أن إرسال الأولى إرسال المسلمات يقتضي فرض صورة تكون العدالة فيها مجهولة غير مبحوث عنها عند الكل حتى الشيخ ، وعلى تقدير كون الإسلام نفس العدالة لم يتصور ذلك الفرض.

وأيضا فرض عنوان المسألة الخلافية بما إذا عرف الإسلام وجهل العدالة ، لا يجامع القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند الشيخ كما لا يخفى. نعم ربما أطلق عليه العدالة في كلام الشيخ وفي كلام غيره المتعرضين

ص: 119

لنقل قوله ، لكنه مسامحة في التعبير وتنزيل لا يجري مجرى العدالة عند الشيخ منزلتها.

وهذا صاحب المسالك لما دخل في المسألة حرر الخلاف في وجوب البحث عن العدالة والاعتماد على ظاهر الإسلام. وهو كما ترى صريح في كون الخلاف في طريقها ، ثمَّ بعد نقل أدلة الأول قال : وفي هذه الأدلة نظر :

أما الآية - يعني قوله تعالى « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (1) - فليس فيها أن المراد منها ما ذا. ومدعي الاكتفاء بظهور الإسلام إذا لم يظهر الفسق يقول :

ان ذلك هو العدالة وانها الأصل في المسلم. بمعنى أن حاله يحتمل على القيام بالواجبات وترك المحرمات ، ومن ثمَّ جرى عليه هذا الحكم حتى لا يجوز رميه بفعل محرم ولا ترك واجب أخذا بظاهر الحال ، واتفق الكل على بناء عقده على الصحيح - انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنه وان نسب الى الشيخ أنه يقول بأن العدالة هو ظهور الإسلام لكن جعل ذلك عبارة أخرى عن الأصل والأخذ بظاهر حال المسلم. وحمله على عدم فعل القبائح وترك الواجبات قرينة على مسامحته في العبارة الأولى.

نعم ظاهر ما ذكره ثانيا بقوله : ثانيا سلمنا ان العدالة أمر آخر غير الإسلام وهي الملكة الاتية لكن لا يشترط العلم بوجودها بل يكفي عدم العلم بانتفائها - إلخ ، بقرينة المقابلة يوهم خلاف المقصود.

لكن الأمر في ذلك كله سهل بعد وضوح الأمر وبداهته ومعلومية كونها مسامحات في العبارة ، كما يصرح بذلك قول صاحب المسالك أيضا في شرح قول المصنف « ولا يجوز التعويل على حسن الظاهر » حيث قال : ومن اكتفى بالإسلام وجعله دليلا على العدالة اكتفي بحسن الظاهر بطريق أولى.

ص: 120


1- سورة الطلاق : 2.

مع أن الاخبار التي استند إليها الشيخ كلها ظاهرة في كون الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريقا إلى العدالة لا نفسها ، مضافا الى شهادة غير واحد من الاخبار تصريحا وتلويحا ، بأن العدالة حالة من حالات الشخص وصفة من أوصافه توجب الطمأنينة في أقواله ، مثل ما اشتمل على الوثاقة والعفة والصيانة كما في صحيحة ابن ابي يعفور (1) وغيرها مما يقاربها في الدلالة على كون العدالة حالة رادعة.

بل يمكن الاستدلال عليه بآية النبإ أيضا ، نظرا الى عدم الفرق بين العدالة بمعنى ظهور الإسلام والفسق في الردع عن التعمد في الكذب الذي صار احتماله سببا لوجوب التبين الرافع للندم وقباحة تعليل الحكم الخاص ، أعني التبين في خبر الفاسق خاصة بعلة مشتركة بينه وبين ضده.

ومن هنا لو ادعي تطابق الاخبار وكلمات الأخيار على كون العدالة هي الحالة وأنها مطابقة لمعناها العرفي أعني الاستقامة ، لوضوح عدم اتصاف الشخص بالاستقامة في نظر الشرع والعرف الا باعتبار ما به من الملكات والحالات الباعثة على ارتكاب حسان الافعال والأخلاق وانزجار قبائحهما ، كان دعوى مع البينة والبرهان.

وكذا الكلام في حسن الظاهر بالمعنى المقابل للباطن ، فان مثل ذلك أيضا يجامع الفسق الباطني ، فلا يكونان متضادين ، وأيضا على تقدير كونه نفس العدالة استحال تبين فسق الشهود أبدا ، مع أن الشيخ والمكتفين بحسن الظاهر يوافقون الأصحاب في عنوان مسألة تبين فسق الشهود.

نعم يمكن بناء على ظهور الإسلام جعل التبين عبارة عن ظهور كفرهم ، وهو كما ترى من المضحكات ، لان الشيخ ولا غيره من الأصحاب لا يرضون بذلك.

أترى أنه لو تبين فسق من ظاهره الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو ظاهره الاتصاف

ص: 121


1- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات ح 1.

بالحسن بفعل كبيرة قبل الشهادة ، فهل الشيخ أو أحد من المسلمين يرى نفوذ شهادته وجواز الحكم على طبقه إذا كان التبين بعد إقامة الشهادة وقبل صدور الحكم ، كما هو لازم جعل نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق العدالة ، فإنه من قبيل صدور الكبيرة من ذي الملكة بعد تمام الشهادة الذي لا يمنع عن الحكم بلا اشكال.

[ ما هي حقيقة العدالة؟ ]

هذا ، ثمَّ ان العدالة عند الشيخ بعد معلومية كونها ما ذكر يحتمل أن يكون أحد أمور ثلاثة :

( الأول ) الملكة على ما هو الظاهر الموافق للعرف والشرع.

( والثاني ) الإسلام مع عدم الفسق الواقعي ، لا عدم ظهوره الذي يجامع الفسق الباطني ، على أن يكون عدم الظهور دليلا تعبديا شرعيا أو ظنيا نوعيا على الجزء الأخير الذي يعتبر في العدالة بمعنى الملكة أيضا.

( والثالث ) خصوص عدم الفسق الواقعي ، بأن يكون الإسلام مقسما للعدالة والفسق لا معتبرا في المفهوم الأول ، فالمسلم العادل هو من لا يفسق بإخلال واجب أو ارتكاب محرم ، والمسلم الفاسق من كان لا يبالي عن القبائح ويرتكبها ، فتنطبق العدالة حينئذ عند الشيخ على ما يعطي ظاهر عبارة جمع كثير من القدماء ، حيث يفسرون العدالة بمجرد ارتكاب الواجبات والانتهاء المحرمات ، لو لم نرجع هذا التفسير أيضا الى الملكة كما هو الظاهر من قولهم « فلان لا يفعل كذا » أي له حالة رادعة عنه.

مضافا الى عدم معقولية كون الفعل والترك الاتفاقيين الغير الصادرين من حالة نفسانية مناطا للعدالة ، لأنه غير داخل تحت ضابط حتى يجعل المدار عليه فيقال مثلا : ان المدار على عدم ارتكاب في آن الشهادة أو قبله بيوم أو يومين

ص: 122

أو سنة أو سنتين أو في جميع السنين الماضية أو غير ذلك من المضحكات.

بخلاف المقرونين بالملكة والحالة ، فإن المناط حينئذ على تلك الحالة بشرط عدم فعل الكبيرة أو التوبة على تقدير الفعل.

ولعل ظاهر قوله « الأصل في الإسلام العدالة » غير الثاني ، لأن الإسلام بناء عليه معتبر في العدالة جزءا لا أمارة عليها ، وقد عرفت أن هذه العبارة ظاهرة في كون الإسلام طريقا إليها. وكذا غير الثالث ، لأن الإسلام بناء عليه غير معتبر في العدالة أصلا لا طريقا ولا موضوعا. وظاهر العبارة المزبورة مدخليتهما في العدالة لا في المقسم كما احتملنا.

( ولنا على المقام الثاني ) أن الاكتفاء بعدم ظهور الفسق وعدم البحث عن الباطن وان ورد بها أخبار متكاثرة واضحة الدلالة لكنها شاذة معارضة بأقوى منها دلالة وعملا. نعم الاكتفاء بحسن الظاهر له وجه لشهادة جملة من الاخبار ، بل يدل عليه قوله عليه السلام بعد ذكر أن العدالة هي العفاف في صحيحة ابن ابي يعفور « والدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على الناس تفتيش ما وراء ذلك » (1) ، فإنه صريح في أن ملكة التستر - أعني حفظ ظاهره من القبائح - دليل على العدالة.

لكن في الاعتماد على حسن الظاهر أي ملكته تعبدا محضا مثل الأصول التعبدية حتى فيما لو علم كون التستر حياء من الناس لا خوفا من اللّه مع الشك في الفسق الواقعي ، أو مشروطا بإفادته العلم كما نقل عن ظاهر الشهيد الثاني في كتاب الصلاة ، وهو ظاهر المحقق هنا حيث أوجب البحث ولم يجوز الاعتماد على حسن الظاهر ، أو الظن المطلق نوعا أو شخصا ، أو الظن الاطمئناني الشخصي.

ص: 123


1- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات ح 1.

وجوه أو أقوال ، أقربها الأخير ، يدل عليه قوله عليه السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره - أي الشاهد - ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (1) ، فان حسن الظاهر انما يكون مأمونا إذا كان بحيث يظن معه عدم الخيانة ظنا فعليا.

[ أمور تتعلق بالملكة ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان المراد بالملكة ملكة التجافي عن جميع الكبائر ، فلا عبرة بملكة البعض دون البعض والا لكان جميع الناس عادلين الا من شذ ، إذ مأمن أحد الا وفيه حالة رادعة عن بعض المعاصي لا محالة ، الا أن يقال : ان المراد بالملكة هي الحالة الناشئة عن خوف اللّه تعالى ، ومثل ذلك لا يقبل التشكيك. وفيه نظر.

( والثاني ) ان الملكة لا تنافي فعلية المعصية الكبيرة ، لان الملكات قد تغلب.

ومن العجب اعتقاد بعض امتناع ذلك حتى نفوا ثبوت الملكة في مثل سلمان.

نعم صدور المعصية ينافي العدالة ، لأنها عبارة عن الملكة المقيدة بعدم المعصية لا عن مجرد الملكة ، فصدور المعصية يوجب زوال أحد الجزئين.

( والثالث ) ان معيد العدالة التوبة مع العزم على عدم المعاودة. فإذا علم ذلك من مرتكب الكبيرة مع إحراز ملكته عادت عدالته.

( والرابع ) ان كل معصية تنافي المكلة ، فالتجري بها ظاهرا كذلك وان لم نقل بحرمته شرعا ، لأن التجري في مقام الكشف عن عدم الاكتراث في الدين وعدم المبالات عن النواميس الشرعية لا يقصر عن نفس المعصية - فافهم. واللّه العالم.

ص: 124


1- الوسائل ج 18 ب 23 من أبواب كيفية الحكم.

التقاط [ نقض حكم الحاكم إذا عرف فسق الشهود ]

إذا حكم الحاكم بعد إحراز العدالة كل على مذهبه ثمَّ ظهر للحاكم فسق الشهود قبل الحكم ، فهل يجب عليه نقض الحكم كما صرح به غير واحد أم لا.

وعلى تقدير النقض ففي وجوب النقض على كل من كان عالما بفسقهم من مجتهد أو مقلد ، أو التفصيل بين علم الحكام فالنقض وعلم المقلد فالعدم. وجوه واحتمالات تنشأ من التأمل في أن عدالة الشهود شرط علمي للحاكم أو واقعي ، وعلى الأول فهل العبرة بعلم الحاكم الذي حكم أو نوع الحكام ، وعلى الثاني يجب على كل من علم بفسقهم نقض الحكم كما لو علم الحاكم نفسه سواء كان مجتهدا أو مقلدا.

لا يقال : إذا كانت العدالة شرطا واقعيا لم ينفذ الحكم إلا في حق من علم بعد التهم ، فيجوز للشاك النقض أيضا كالعالم بالفسق.

لأنا نقول : علم الحاكم يقوم مقام علم غيره في صورة الشك خاصة لا مطلقا ، وعلى الأول من شقي الأول لا يجوز النقض مطلقا حتى من الحاكم وعلى الثاني يجوز لغير الحاكم من سائر الحكام النقض دون المقلد ، فكل حاكم يتبع علمه بالعدالة والفسق وأما صورة الجهل فمثل ما ذكر من قيام علم الحاكم الذي حكم مقام علم غيره.

وهذه الوجوه آتية في عدالة شهود الطلاق أيضا بالنسبة إلى المطلق أو الشهود أو غيرهم من سائر المكلفين.

والتحقيق أن حكم الحاكم بمقتضى البينة نظير فتوى المجتهد بمؤدى الرواية ، وان الفتوى والحكم كليهما ناظران الى مدلول الامارة الشرعية من حيث كونه مدلولا لها لا من حيث كونه مطابقا للواقع ، فوظيفة الحاكم الإلزام بما تقوله البينة العادلة من حيث كونه قول البينة لا من حيث كونه صدقا أو كذبا ، كما أن وظيفة

ص: 125

المفتي الإفتاء بمدلول الرواية من حيث كونه مدلولها.

وقضية تلك الحيثية أنه إذا تبين فسق الشهود تبين فساد الحكم ، وانه لا حكم هنا واقعا بل ظاهرا. كما لو تبين فسق الراوي للمقلد على مذهب مجتهده الذي يعتبر العدالة في الراوي ، فإنه لا شبهة في وجوب نقض الفتوى ماضيا ومستقبلا.

والحاصل ان فساد المستند في الحكم والفتوى بمثل اختلال هذا الشرط - أعني العدالة - يستلزم فساد الحكم وان شك في الخطأ الواقعي ، إذا ليس المفتي به والمحكوم به هو مدلول الامارة من حيث كونه مطابقا للواقع حتى يشك مع اختلال بعض شرائط القبول في صحة الحكم أو الفتوى ، بل هو من حيث كونه مدلولها.

وهذه الحيثية تنتفي عند بعض شرائط تلك الامارة ، فالحكم المستند إلى شهادة الزور أو شهادة الفاسق ليس بحكم متبع وإلزام نافذ في الواقع كالفتوى بمؤدي قول الفاسق مثلا عند مشترطي العدالة في الراوي ، بل الأمر في الشهادة أيضا كذلك ، إذا الشاهد لو علم مستند شهادته وفساده يجب متابعته مطلقا وان احتمل مطابقته للواقع ، فمن شهد بالفجر أو الهلال مستندا إلى شي ء علم عدم صلاحيته للشهادة لم يجب قبول قوله.

والحاصل ان التعبد بمقتضى الامارات والأدلة الشرعية يرجع الى وجوب العمل بمؤدياتها من حيث كونها مستفادة منها لا من حيث المطابقة للواقع وعدمها ، فلا يعقل مع فسادها باختلال بعض شرائط العمل موضوع للتعبد الشرعي.

فظهر أن مقتضى القاعدة هو الاحتمال الثاني - أعني كون العدالة شرطا واقعيا - لان وجود الموضوع شرط واقعي لحكمه ، ولا يعقل أن يكون شرطا علميا الا بعد فرض عدم كونه هو الموضوع ، فمن حكم أو أفتى أو عمل بمؤدى البراءة المشروطة بعدم الناقل مع وجوده في الواقع وخطائه في الفحص خطأ

ص: 126

غير معذور كان الحكم صوريا ظاهريا في مرحلة الظاهر أيضا.

وأما شهود الطلاق فالظاهر من أدلته أيضا اعتبار العدالة الواقعية فيهم ، فلو كان الشاهدان فاسقين حرم عليهما تزويج المرأة المطلقة بمحضرهما وهكذا غيرهم. لكن في القواعد أنه يجوز لهما نكاحها على اشكال. وعلى الأول فإحراز العدالة منوط بنظر المطلق ، فيكفي إحرازه على إحراز غيره في صورة الشك لا مطلقا.

هذا ، وقد يقال ان كون العدالة شرطا واقعيا في حق جميع المكلفين مشكل ، لما يترتب عليه من المفاسد التي لا يظن بالتزام أحد إياها ، مثل سماع قول كل من يتمرد من قبول حكم الحاكم مدعيا لفسق الشهود ولزوم الهرج والمرج ، فلا يبعد القول بأن علم غير الحكام بفسق الشهود غير مؤثر في جواز النقض ، وأما الحكام فلا ضير في القول بجواز النقض في حقهم ، بمعنى عدم وجوب إنفاذ الحكم المستند إلى البينة الفاسقة عليهم إذا كانوا عالمين بها.

وعبارة الشرائع في هذه المسألة لا تخلو عن إجمال ، قال : ولو حكم بالظاهر ثمَّ تبين فسقهما وقت الحكم نقض حكمه. لاحتمال البناء على المعلوم والمجهول في الفعلين ، أعني حكم ونقض ، فعلى الأول اختص النقض بالحاكم ، وعلى الثاني عم كل من تبين عنده فسق الشهود. واللّه العالم.

التقاط [ كيفية تعديل الشهود أو جرحهم ]

اختلفوا في قبول التعديل والجرح مطلقين أو مفصلين أو مختلفين على أقول ، وقبل الخوض في المسألة فلتقدم مقدمتين :

( الاولى ) ان متعلق الاخبار قد يكون حكما شرعيا صرفا ، وقد يكون موضع

ص: 127

الحكم الصرف ، وقد يكون ملفقا منهما.

لا إشكال في أن الأول يرجع الى الاجتهاد والفتوى ، كما أن الثاني إلى الشهادة. ومثل الأول الاخبار بحدود الموضوعات المستنبطة. فإنه أيضا يرجع الى الفتوى دون الشهادة. وأما الثالث فالتحقيق فيه انه أيضا ملحق بالفتوى وان كان بينهما بعض الفرق ، مثاله الشهادة بالمملك لا بالملك ، إذا الشهادة على حصول المملك ترجع إلى الشهادة بوجود شي ء خارجي والفتوى بأنه مملك ، ومثل الاخبار بالرضاع فان مرجعه أيضا الى نحو من الفتوى ، بل هو مندرج تحت الاخبار بوجود الموضوع المستنبط من حيث وصفه العنواني الراجع الى نحو الاجتهاد ، ولذا ذهب الأكثر الى عدم قبول الشهادة على الرضاع الا مفصلا بذكر مرات الرضعة.

وأما الشهادة على أمر مبين متحد مفهوما بين الكل مختلف بحسب الأسباب فخارج عما نحن فيه ، فان المشهود به إذا لم يكن متضمنا للفتوى بل كان من الموضوعات الصرفة الخارجية فالشهادة به مقبولة وان كان له أسباب مختلفة بين صحيح وفاسد ، كالملكية والزوجية والحرية ونحوها ، فان عموم حجية قول العدل يشملها إلا إذا علم الاستناد فيها إلى الأسباب الفاسدة ، والا لما بقي للمسلمين شهادة ، إذ ما من خبر الا ويمكن الاستناد فيه الى سبب حدسي فاسد.

ومن هذا القبيل الشهادة على البيع ، فإنها مقبولة من غير استفصال عن صيغته وشرائطه ، لأن النقل أمر عرفي لا تعدد فيه ولا اختلاف بحسب الانظار ، وانما الخلاف في أسبابه.

وقد يقال : ان قبول الشهادة على البيع مطلقا أما باعتبار حمل الفعل على الصحيح الواقعي ، واما باعتبار حمل الحاكم أو حمل الشهود اتكالا على أصالة الصحة التي جعلها الشارع دليلا على الصحيح الواقعي ، ولو مع العلم باختلاف رأي البائع مع

ص: 128

رأى الحامل فضلا عن الشك فيه ، والأول أولى. فتأمل.

( والثانية ) ان مناط العدالة والفسق على الاقتحام في المعصية الاعتقادية دون الواقعية ، فمن تناول كل قبيح باعتقاد معذور من اجتهاد أو تقليد أو قصور بحليته لم يكن فاسقا ، بل يتصف بالعدالة إذا كان معه الحالة الرادعة عن ارتكاب ما يراه فسقا.

وأما تناول المباحات معتقدا لحرمتها جهلا مركبا من اجتهاد أو تقليد فخروجه عن العدالة مبني على القول بأن التجري مثل المعصية ، وستأتي الإشارة اليه.

ومقتضى ذلك التوقف في الحكم بعدالة شخص أو فسقه إذا فعل فعلا وشك في اعتقاده الحل أو الحرمة وان كان في نظر الحاكم حراما.

[ شرطية التفصيل في الجرح ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في قبول الجرح مطلقا أو مفصلا ، والمشهور الثاني استنادا الى أن الحاكم قد يخالف رأيه لرأي المزكي ، فيبني في التفسيق على مذهبه مع مخالفته رأي الحاكم ، حتى انهم صرحوا باختصاص القبول مطلقا بما إذا كان الحاكم والمزكي متوافقين في أسباب الفسق ومفهوم الكبيرة وأشخاصها.

وهذا الكلام بظاهره غير مستقيم ، لما ظهر في المقدمة الأخيرة من أن الفسق لا يحصل الا بعد اعتقاد الفاعل معصية الفعل ، ومقتضى ذلك عدم العبرة برأي الحاكم أو المزكي بل برأي المزكى.

ويمكن توجيه كلامهم بأن ملاحظة رأي الحاكم أو المزكي انما هو لأجل الاختلاف في مفهوم الكبيرة ومصاديقها لا في عدد المعاصي ، وهو مما يوجب الاستفصال.

ص: 129

توضيحه : ان الفسق يحصل بالمعصية الكبيرة ، ولا بد فيما يحصل به من إحراز أمرين : أحدهما كونه معصية ، والثاني كونها كبيرة. والأول هو الذي قلنا باناطته على رأي الفاعل في الحل أو الحرمة ، وأما الثاني فالمناط فيه هو نظر من يريد ترتيب آثار العدالة من تزكية أو حكم أو غير هما ، وذلك لان المعصية تخرج عن كونها معصية بالجهل ، وأما الكبر والصغر فلا يؤثر فيهما الجهل.

مثلا : إذا قيل ان الكبيرة ما أوعد اللّه عليه النار ، فهذا المعنى لا يتغير بعلم الفاعل ولا بجهله بإيعاده تعالى ، فلو فعل فعلا معتقدا بكونه معصية غافلا عن كونه كبيرة أو جاهلا به أو معتقدا بكونه صغيرة فيجري عليه حكم فاعل الكبيرة من الاثار الوضعية عند العالم بالحال ، ولو انعكس ، انعكس.

فلو اعتقد الفاعل كونه كبيرة دون الحاكم أو المزكي أو غير هما ممن يريد ترتيب آثار الفسق والعدالة اما باعتبار الاختلاف في مفهوم الكبيرة - كما إذا كان رأي الفاعل أن كل ما أوعد اللّه عليه فهو كبيرة - وارتكب شيئا منها وكان رأي الحاكم أنها أخص من ذلك وانها خصوص ما أوعد اللّه عليه النار ، أو في مصداقها من جهة بعض الاشتباهات في الأدلة كما إذا اتفقا على أن الكبيرة ما أوعد اللّه عليه النار واختلفا في إيعاد النار على بعض المعاصي - كالغناء في غير مقام اللّهو باعتبار دعوى النافي أن آية اللّهو (1) التي استدل بها الامام عليه السلام على كونه من الكبائر (2) لا تعم ما كان منه في غير مقام اللّهو - أو في مصداقها من جهة الشبهة الموضوعية الخارجية كما إذا كان معتقد الفاعل أنه يشرب خمرا ومعتقد الحاكم أو المزكي أنه شرب عصيرا محرما ، لم يحكم بفسقه في الصور الثلاث.

نعم يمكن التفسيق في الصورتين الأخير تين ، بناء على أن التجري في

ص: 130


1- وهي قوله تعالى « وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... » [ سورة لقمان : 6 ].
2- الوسائل ج 12 ب 15 من أبواب ما يكتسب به ح 1.

المعصية مثلها في أصلها ووصفها ، دون الصورة الأولى التي هي محط نظر الأصحاب خاصة أو مع الصورة الثانية أيضا ، لعدم تحقق التجري فيها بالنسبة الى ما اعتقده كبيرة ، لأن التجري بها مرجعه الى اعتقاده صدق ما ظن أنه كبيرة على ما يأتي من الصغيرة الواقعية في نظره.

والأمر فيها ليس كذلك ، لان المفروض فيها أن مرتبة المعصية محفوظة عند الفاعل ، وليس مخطئا في اعتقاد تحقق تلك المرتبة فيما يأتي به من المعصية وانما هو مخطئ في ظن وسعة دائرة الكبيرة حيث اعتقد شمولها لتلك المرتبة.

والحاصل ان خطأ الشخص في كون ما يأتي به من المعصية كبيرة ، تارة يكون من جهة الصغير وأخرى من جهة الكبرى. والأول مثل ما إذا أصاب في كون شرب الخمر كبيرة وأخطأ في اعتقاد كون ما يأتي به من الشرب شرب خمر ، والثاني مثل ما إذا أخطأ في كون النظر إلى الأجنبية كبيرة وأصاب في اعتقاد كون ما يأتي به من أفراد النظر.

والتجري بالكبيرة انما يتحقق بالأول دون الثاني ، لأن الناظر إلى الأجنبية مثلا مع علمه بمرتبة معصيته وكونها أخف من الزنا التي هي كبيرة لم يتجر على المولى بشي ء.

ولو اعتقد جهلا أن هذه المرتبة الخفيفة تشارك المرتبة الأكيدة من العصيان في عنوان الكبيرة الذي ترتب عليه في الاخبار وكلمات الأخيار بعض الاثار الوضعية كالتفسيق وعدم التكفير إلا بالتوبة. أترى أن من يرى أن كل معصية كبيرة فهو عاص بنفس المعصية ومتجري بوصفها عند من يخطئه.

وكذلك يمكن منع اجراء حكم فاعل الكبيرة في المسألة الأولى في الشبهة الموضوعية ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد أنه العصير ، لان شرب الخمر إذا كان مغفولا عنه لم يتحقق حينئذ معصية شرب الخمر أصلا حتى يجري عليه حكم

ص: 131

فاعل الكبيرة.

وما قلنا من عدم تأثير العلم والجهل في الكبر والصغر ، انما هو بعد تحقق العصيان بذات الكبيرة ، وأما مع فرض عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى ذاتها فلا معنى لجريان حكم المعصية الكبيرة عليها. الا أن يقال : ان الغفلة عن عنوان شرب الخمر انما يخرجه عن المعصية إذا لم يتصف بالمعصية بعنوان آخر كشرب العصير ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد كونه ماء. وأما مع الاتصاف فنمنع عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى شرب الخمر حينئذ.

نعم في الشبهة الحكمية يتجه الحكم بالفسق ، لما أشرنا من أن الجهل بكون المعصية كبيرة مع الالتفات إلى أصل العصيان لا يمنع عن ترتيب آثار الكبيرة.

وكيف كان فقد ظهر مما ذكرنا وجه غير بعيد لصحة القول المشهور من لزوم الاستفصال ، لأنا إذا قلنا ان مناط الفسق والعدالة على ارتكاب الكبيرة الواقعية وعدم الارتكاب فلا جرم يسقط نظر المزكي والفاعل عن الاعتبار في كبر المعصية وصغرها ، لان طريق الواقع لكل شخص اعتقاده لا اعتقاد غيره ، فالمزكي لا بد أن يكون موافقا مع الحاكم في أسباب الفسق حتى تقبل شهادته ، فمع شك الحاكم في الموافقة لا بد له من الاستفصال.

لكن هذا الوجه لا يجري في قول من يرى ان المعاصي كلها كبيرة كابن إدريس ، فإنه يقتضي الاعتماد على رأي الفاعل دون الحاكم أو المزكي.

[ حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ]

هذا ، وفي المقام شي ء آخر لو تم لزم قبول الجرح مطلقا ، وهو حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ، ولو مع الاختلاف في أسباب المخبر به كما أشرنا

ص: 132

إليه في ذيل المقدمة الأولى ، فإذا أخبر بالفسق الواقعي باعتقاده وجب على السامع تصديقه في ذلك الاعتقاد والحكم بمطابقته للواقع ، كما إذا أخبر بالملكية والزوجية ، لأن أدلة الشهادة وأدلة تصديق العادل انما تدل على تصديق الخبر دون المخبر ، فان الفاسق والعادل سيان في التصديق المخبري الراجع الى حمل اخباره على وجه مباح دون مطابقة الواقع. والاختلاف في أسباب المخبر به لا يقدح إذا كان متعلق الاخبار هو الواقع.

وفيه نظر ، لأن أدلة صحة قول العدل لا تساعد على قبول اخباره الناشئ عن الاجتهاد إجماعا وعن الحدس على الأقوى ، ولذا لا يعتبر قول المجتهد وفتواه ولو على سبيل الجزم واليقين الا على مقلديه ، وإذا فرضنا كون المخبر به من الأمور المختلف فيها بحسب الأسباب انتهى الإخبار به إلى شهادة وفتوى.

مثلا : إذا أخبر بالملكية مستندا فيها إلى المعاطاة فهذا الاخبار ينحل الى قضيتين :

إحداهما الشهادة على وقوع المعاطاة ، والثانية الفتوى بإفادتها الملكية. وبعد فرض الإجماع مثلا على عدم حجية الفتوى يسقط اخباره بالملكية عن الاعتبار عند السامع ، سواء كان عالما بفساد المعاطاة أو شاكا في صحتها.

وما ذكرت من دلالة الأدلة على التصديق الخبري لا يقتضي تصديق المخبر في اجتهاده بالاتفاق ، كما إذا أخبر بنجاسة عرق الجنب مثلا ، ولازم ذلك عدم حجية الشهادة المتضمنة للاجتهاد والفتوى أيضا كما في الأمثلة المشار إليها ، لأن المشهود به إذا كان مختلفا فيه بحسب الحقيقة كالرضاع أو بحسب الأسباب كالملكية تضمنت نحوا من الإفتاء.

ودعوى أن قضية تصديق العادل في القسم الأخير حمل الخبر على ما يطابق الواقع في اعتقاد السامع دون المتكلم. فاسدة ، لأن تصديق العادل في خبره عبارة عن الحكم بثبوت مضمونه واقعا في اعتقاده لا في اعتقاد السامع.

ص: 133

توضيح المقام : انه إذا أخبر شخص فهاهنا أمور قابلة للتصديق : أحدها مطابقة الخبر لاعتقاده ، ومقابله تعمد الكذب. والثاني ثبوت مضمونه الذي قصده من الكلام واقعا في اعتقاده ، ومقابله السهو والخطأ في الاعتقاد. وثالثها ثبوت مضمونه واقعا بقول مطلق.

والأول لا كلام لنافيه. والثاني هو الذي يجب الحكم به ، ويسمى بالصدق الخبري ، لان الصدق ليس إلا مطابقة ما أراده المتكلم من الألفاظ للواقع لا مطابقة ما لم يقصد به. مثلا إذا قال « هذا ملك لزيد » فلا بد أولا من تحصيل مراده من هذا الكلام ثمَّ الحكم بمطابقته للواقع ، فلو علمنا أنه أراد بالملك ما وقع عليه المعاطاة وجب تصديقه في ذلك لا فيما لم يقصده ، أعني ما وقع عليه القصد مثلا ، فاذا كان البائع يرى عدم حصول الملك بالمعاطاة فكيف يحكم بحصول الملك الواقعي بمجرد اخباره بالملك. والثالث هو الذي ينفع في المقام.

ولا دليل عليهم كما عرفت ، لان دليل تصديق خبر العادل مركب من أمور لا يثبت المقصود في المقام :

( أحدها ) الحكم بعدم تعمده بالكذب ، وهو أمر ثابت بالكتاب والسنة بل الإجماع أيضا في الجملة.

( والثاني ) الحكم بعدم ارادته خلاف ظاهر كلامه ، لأنه من مقدمات الصدق الخبري أيضا وان لم يكن من مقدمات الصدق المخبرى ، وهذا يدل عليه أصالة الحقيقية.

( والثالث ) عدم اشتباهه وخطأه فيما يستند فيه الى الحسن دون الحدس والاجتهاد ، ولا ريب هنا أن السامع إذا حمل شهادته بالملك على ما يحصل بعد المعاطاة التي يرى المخبر سببيتها دون السامع مثلا لم يكن فيه مخالفة للمقدمة الأولى كما هو واضح ولا للمقدمة الثانية لعدم تجوز في أطراف الكلام حينئذ

ص: 134

كما لا يخفى ولا للمقدمة الثالثة لعدم استناده في الاخبار الى الحس بل الى الاجتهاد الغير القائم على تصديقه دليل إلى الآن بل الدليل على خلافه.

فظهر مما ذكرناه أنه كما لا يجب تصديق الشاهد في أمثال المقام إذا علم استناده الى السبب الفاسد عند السامع كذلك لا يجب إذا شك في الاستناد اليه والى السبب الصحيح من حدس أو اجتهاد ، فالمخبر بالملك وان احتمل في حقه الاستناد الى العقد الصحيح الجامع لشرائط الصحة عند الكل فلا يقبل قوله أيضا لدورانه بين ما يقبل وما لا يقبل ، والشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أيضا بطلان ما أشير إليه في المقدمة الاولى من قبول الشهادة إذا كان المشهود به مفهوما متحدا مختلفا فيه بحسب الأسباب.

فإن قلت : لم يتوقف أحد في قبول الشهادة على الملك والزوجية مع اختلاف العماء في أسباب الملكية والزوجية ، وكذا في قبول الشهادة على سائر الموضوعات الصرفة ، كالهلال ودخول الوقت ونحو هما مع قيام احتمال استناد الشاهد الى بعض الأسباب الحدسية في الكل. وعلى ما ذكرنا من عدم تصديق العادل فيما يحتمل فيه الاجتهاد أو الحدس لزم التوقف في هذه الصورة رأسا ، ولعل فساده بديهي.

قلت : وجه قبول الشهادة بهذه الأمور مع الشك في الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل أحد أمور لا يجري شي ء منها في الاخبار عن الفسق :

( أحدها ) دعوى قيام السيرة المستمرة الكاشفة عن دليل آخر غير أدلة تصديق العادل من حيث أنه عادل ، فيكون الأصل في الاخبار بهذه الأمور الصحة الواقعية ، نظير أصالة الصحة في الأفعال على القول بكونها دليلا على الصحة الواقعية وان لم يقتضها ظاهر حال المسلم.

ص: 135

( وثانيها ) إجراء أصالة الصحة في أسباب الملكية والزوجية مثلا التي أخبر بها العادل بناء على القول المزبور ، وهذا هو الذي أشرنا إليه في ذيل المقدمة الأولى ، حيث قلنا ان الشاهد إذا أخبر بالبيع مثلا فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يحمل هذا البيع الثابت بالبينة على البيع الصحيح الواقعي لا الصحيح عند الفاعل ، وهكذا إذا أخبر بالملكية ، فإن الاخبار بها اخبار بسببها التزاما ، فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يعمل أصالة الصحة في ذلك المدلول الالتزامي ، أعني السبب.

( وثالثها ) ندرة السبب المختلف فيه لهذه الأمور وجودا ، فإن أسبابها المختلف فيها وان كانت كثيرة في نفسها لكن الغالب استنادها في الخارج الى السبب المتفق فيه لكونها من الموارد المطلوب فيها شرعا وعرفا الاحتياط التام.

هذا في مثل الملكية والزوجية مما يكون له سبب في الشرع ، وأما سائر الموضوعات العرفية الصرفة - كالهلال ودخول الوقت وموت زيد - فالغالب أيضا فيها استناد علم الشاهد بها الى الأمور الحسية أو الحدسية المنتهية إلى الحس.

وهذه الغلبة مما جرى على متابعتها بناء العقلاء ولحقه إمضاء الشارع أيضا ، بل يمكن نفي هذه الاحتمال النادر ، أعني احتمال الاستناد الى السبب المختلف فيه أو الحدس الباطل بالأصل فيهما ، لأن أصالة عدم الخطأ في الاجتهاد أو الحدس انما يمنع جريانه عكس احتمال الخطأ في الحس باعتبار عدم افادته الظن النوعي عند العقلاء ، والا فلا مانع منه جدا.

ومن الواضح أن أصالة عدم الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل في الأمور الحسية لا يبعد القول بإفادته الظن النوعي ومتابعته عند العقلاء.

ولا ريب أن شيئا من هذه الأمور لا يجري في الاخبار بالفسق ، إذ ليس على قبول الاخبار به مطلقا سيرة تكشف عن دليل آخر غير أدلة التصديق. كيف والمشهور

ص: 136

بين العلماء قولا وفعلا الاستفصال عن سبب الفسق ، وكذا لم يتحصل فيه الغلبة المشار إليها.

وأما أصالة الصحة فعدم جريانها في الاخبار بالفسق - أي في مدلوله الالتزامي أعني السبب - واضح ، لأن أسباب الفسق ليست مما تقبل الصحة والفساد.

كل ذلك مضافا الى عدم كون الاخبار بالفسق مثل الأخبار بالملكية من الأمور الواقعية المتحدة بحسب المفهوم عند الكل ، بل مثل الاخبار بالرضاع والملك الذي يختلف حقيقته بحسب اختلاف الأنظار.

[ كيفية تعديل الشهود ]

كل ذلك في الفسق ، وأما العدالة فقد تبين الحال فيها أيضا مما ذكرنا ، لأنه إن جعلناها من المفهومات المتحدة عند الكل جرى فيها ما قويناه من حمل الاخبار بمثلها على الواقع باعتقاد السامع والا لم ينفع خبر حسي أو ما في حكمه أصلا ، لقيام احتمال الحدس في الكل الا ما شذ. وعلى هذا يكون أصالة الصحة من جزئيات هذه القاعدة ، أعني قاعدة حمل الاخبار على الصحة ، بمعنى اندراجهما معا تحت قاعدة أخرى.

وهو ما قواه بعض مشايخ متأخري المتأخرين في كشف الغطاء من أن الأصل في كل شي ء مردد بين صحيح نافع وفاسد غير نافع الصحة فعلا كان أو قولا أو عينا خارجيا. فمدعي العيب يطالب بالبينة ، لأن الأصل السلامة مثلا.

وان قيل بتعدد مفهومها وتردده بين الملكة وحسن الظاهر وظهور الإسلام ، جرى فيه ما قلنا في مثل الشهادة بالرضاع من عدم الإشكال في الاستفصال. لكن قد يقال بوجوب الاستفصال على التقدير الأول أيضا ، لأن العدالة وان كانت هي الملكة عند الكل الا أن تقييدها بعدم الفسق الواقعي يجعلها مثل الفسق في

ص: 137

الاستفصال ، لأن الملكة المقيدة بعدم صدور الكبيرة الواقعية تختلف بحسب الانظار على حد اختلافها في مفهوم الكبيرة ومصاديقها ، فاذا جعلنا المدار في الكبيرة على اعتقاد الحاكم كان مدار العدالة أيضا عليه ، وهو واضح.

فيجب على الحاكم حينئذ الاستفصال عن ملكة اجتناب جزئيات ما رآه كبيرة ، بأن يقول إله ملكة الكف عن الزنا وشرب الخمر وشرب العصير لو زعمه كبيرة ، الى آخر ما يراه كبيرة حذرا من مخالفة رأى الشاهد لرأيه في الكبيرة ، فإذا شهد بملكة الكل سئل ثانيا عن بقاء العدالة لعدم صدور شي ء من تلك الكبائر ، ولو شهد الشاهد بملكة الكف عن جميع المعاصي وعدم صدور شي ء منها كفى من غير استفصال.

تذنيب [ اعتبار العلم في مستند التعديل ]

مستند الشاهد في الجرح لا بد أن يكون علميا ، فلا يكتفى بالظن بالفسق قطعا ، ولعله لا خلاف فيه أيضا. وأما مستنده في التعديل فمقتضى القاعدة أيضا اعتبار العلم بها في الشهادة وان قلنا بكفاية الظن لترتيب سائر آثار العدالة ، إذ لا ملازمة بينهما جدا ، بل الأمر بالعكس نظرا الى ما دل على اعتبار العلم في الشهادة زيادة على ما هو الأصل في كل شي ء.

لكن يمكن الاستدلال على كفاية الظن بأن الاقتصار على العلم في الشهادة بالعدالة حرج شديد موجب لاختلال أمور المسلمين لانسداد طريق العلم إليها غالبا ، فلا بد من الاكتفاء بالظن كسائر ما يغلب فيه انسداد باب العلم ، مضافا الى ظاهر الاخبار البالغة حد الاستفاضة أو التواتر الواردة في الباب ، فإن أقل ما تدل عليه هو الاتكال والاعتماد في ترتيب آثار العدالة على الصلاح الظاهري

ص: 138

المفيد للظن.

ودعوى التفكيك بين جواز الشهادة وسائر الاثار. مدفوعة بإطلاق ما يستفاد منها من كون صلاح الظاهر طريقا على العدالة ودليلا عليها كما نطق به قوله عليه السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (1) وقوله عليه السلام في صحيحة ابن ابي يعفور « والدال على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه » (2) ، مضافا الى قوله عليه السلام في هذه الصحيحة بعد ذلك « حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته ويجب عليهم توليته وإظهار عدالته » لان التعديل إظهار للعدالة كما لا يخفى ، والى ما في رواية أخرى أيضا من الدلالة على أن « من حسن ظاهره كملت مروته وظهرت عدالته » ، فإنها تدل بدلالة الإيماء والتنبيه على كبرى محذوفة صغراه قوله « كملت مروته » والا لغي الكلام كما لا يخفى. وهي أن كل من ظهرت عدالته وجب الالتزام بآثار العدالة في حقه التي من جملتها الشهادة.

ثمَّ ان في الاكتفاء بمطلق الظن أو اعتبار الظن الاطمئناني مطلقا أو خصوص ما يحصل منه من حسن الظاهر وصلاح ظاهر الحال. وجوه أظهرها وأحوطها الأخير ، بل لا يبعد دلالة ما في المرسلة على ذلك ، لان مأمونية الظاهر لا تنفك عن اطمينان الخاطر وطمأنينة القلب ، فيقيد به إطلاق الباقي لو كان فيها دلالة على الاكتفاء بمطلق الظن بناء على التقييد في الأحكام الوضعية حتى في المثبتين مطلقا - فافهم. واللّه العالم.

ص: 139


1- الوسائل ج 18 ب 22 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات.

التقاط [ العمل بقول الجارح عند اختلاف الشهود ]

إذا اختلف الشهود في الجرح والتعديل ولم يرجع الى التكاذب - بأن اكتفيا بالجرح والتعديل المطلقين - كأن أخبر أحد بأنه فاسق والأخر بأنه عادل - فمقتضى القاعدة العمل بقول الجارح ، لأن الأخبار بالعدالة من حيث هو مع قطع النظر عن فرض بعض الخصوصيات إخبار بأمر وجودي هو الملكة وعدمي هو عدم صدور الكبيرة مثلا. ولا ريب أن الاخبار بالأمر العدمي مستنده عدم العلم أو الأصل ، فلا يعارض به ما هو بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، أعني أخبار الجارح بالوجود.

والحاصل ان الجرح والتعديل لو خليا وأنفسهما فالجارح مقدم ، لعدم المعارضة بينهما كعدم معارضة الأصل والدليل ، فان مرجع التعديل الى الاخبار بالملكة وعدم وجدان المعصية ومرجع الجرح الى وجدانها ، فلو عمل بقول الجارح لم يكذب المعدول باعتبار عدم منافاة قول الجارح لقوله ، بخلاف ما لو عمل بقول المعدل فإنه تكذيب لقول الجارح بوجدان المعصية. ومقتضى وجوب تصديق العادل أن يجمع بين قوليهما بما ذكر.

واستشكل فيه المحقق الكاظمي في المحصول بأن التعديل والجرح اخباران بأمرين لا يجتمعان في الواقع لا بمجرد حسن ظاهر أو صدور معصية حتى يجمع بينهما.

وفيه : انا لا نقول بأن المخبر به في الجرح والتعديل ليس هو الأمر الواقعي ، بل نقول ان طريق اخبار المعدل به هو الأصل الذي لا يعارض حسن الجارح بالفسق - فافهم.

ص: 140

فان قلت : فرق بين الاخبار بالعدالة الواقعية اعتمادا على الظن الحاصل من الأصل وعدم الوجدان بعد الفحص وبين الاخبار بالعدالة الظاهرية أعني الملكة مع عدم العلم بالفسق ، فإن الأول يعارض اخبار الجارح بالفسق قطعا غاية الأمر كون المقام من قبيل تعارض الظني والقطعي ، والثاني لا يعارضه جدا.

ضرورة عدم المنافاة بين عدم العلم بالمعصية والعلم بها ، وظاهر الاخبار بالعدالة هو الأول ، ولذا استدل في المسالك على تقديم الجرح بأنه مستند الى الحس والتعديل مستند الى عدم المعاينة والأصل ، وهما ظنيان فكان الأول أولى. فإذا ثبت التعارض فالعمل بالجرح طرح لقول المعدل لا جمع بينهما ، فينبغي ملاحظة المرجحات كما ذكره المحقق المشار اليه.

قلت : لو سلمنا ان ظاهر الاخبار بالعدالة اخبار بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم الوجدان ، فليس بينه وبين الجرح أيضا معارضة أصلا.

[ الكلام في الامارة وكيفية قبولها ]

والنكتة في ذلك أن الامارة إذا كانت بحيث تزول ذاتا بالعلم بخلافها كانت نسبتها الى كل أمارة إلى خلافها كنسبة الأصل إلى الدليل في عدم المعارضة ، وانما تقبل الامارة للمعارضة إذا لم يكن العلم بالخلاف رافعا لموضوعها بل لحكمها ، كالخبر مثلا فان العلم بكذبه لا يرفع ذاته بل اعتباره ، لان الخبر خبر في صورة العلم بالكذب أيضا بخلاف عدم الوجدان وعدم الدليل وعدم البيان ونحوها من الامارات العدمية بعد الفحص والتتبع ، كأصل البراءة أيضا على القول باعتبارها من باب الظن ، فان العلم بالوجود أو الدليل أو البيان يضاد أنفسها ويوجب زوال ذواتها لا أنه يوجب عدم اعتبارها.

فعدم وجدان الدليل مثلا - وان كان أمارة ظنية على عدم الحكم الواقعي

ص: 141

والظاهري بعد الفحص - الا أنه لا يعقل أن يكون معارضا للدليل بعد العلم. فحينئذ لا تفاوت بين القول بكون التعديل اخبارا بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم معاينة الفسق أو كونه إخبارا بالعدالة الظاهرية - أعني الملكة وعدم العلم بالفسق - في أن الاخبار بالجرح غير معارض له جدا ، فالعمل بالجرح - كما قالوا - من كونه جمعا بين الخبرين لا طرحا لخبر العدالة.

[ معنى تصديق المخبر بالعدالة والفسق ]

نعم هنا اشكال آخر يجري فيما لو كان التعديل اخبارا بالعدالة الظاهرية أيضا ، وهو أن الاخبار بالعدالة الظاهرية وان كان يجتمع مع الاخبار بالفسق الواقعي مع الفسق النفس الأمري ، لكن الالتزام بهما معا غير ممكن.

ومعنى تصديق الخبر وجوب الالتزام بمضمونه سواء كان حكما ظاهريا أو واقعيا ، فمعنى تصديق المخبر بالعدالة الظاهرية الالتزام بآثارها ولو في مرحلة الظاهر ، ومعنى تصديق المخبر بالفسق الواقعي أيضا الالتزام بآثار الفسق.

وقضية الجمع بينهما الالتزام بالأمرين معا ، وهو محال ، فالعمل بخبر الجارح ترجيح له على الخبر المعدل لا أن فيه جمعا بينهما.

ويمكن دفعه بأن معنى تصديق الخبر أن يجعل الشخص نفسه بمنزلة المخبر لا الالتزام بما يلتزم به المخبر ، فقبول العدالة الظاهرية معناه الالتزام بها ما لم يقم دليل على الواقع ، فان المخبر غير ملتزم بما أخبر به الا كذلك ، حتى لو ظفر على ما يدل على الواقع وجب عليه الأخذ به. نعم لو كان معنى تصديق الاخبار بالحكم الظاهري الالتزام به واقعا تعارض الجرح والتعديل جدا.

توضيحه : انه إذا أخبر شخص بأمر ظاهري كالعدالة وانحصار الوارث والطهارة وكل ما يشتمل على أمر عدمي ، ففي تصديقه يتصور مفهومان : أحدهما

ص: 142

الالتزام الواقعي بالحكم الظاهري ، والثاني الالتزام الظاهري بالحكم الواقعي على حد التزام المخبر. وعلى الأول يعارض الاخبار به مع الاخبار بضده دون الثاني. ونحن ندعي الثاني ، لأن الحكم الظاهري ليس أمرا منضبطا بل يختلف باختلاف الأشخاص ، فالمخبر به انما يخبر عن حكمه الظاهري لا عن حكم غيره ، فالالتزام به لا يزيد عما قلنا.

وقد يقال : ان الاخبار بالحكم الظاهري من حيث هو غير قابل للتصديق ، لان السامع ان كان شاكا في حكم الواقعي فهو ملتزم بالظاهري من غير حاجة الى تصديق الغير وان كان عالما بالواقع ، فيجب عليه العمل بعلمه لا بالأخبار بالحكم الظاهري - فافهم.

ومن هنا يظهر أن مورد التصديق بالأخبار بالحكم الظاهري لا بد أن يكون غير ما يكفي مجرد الشك في الحكم به ، مثل ما لا يجري فيه الأصل بمجرد الشك الابتدائي كانحصار الوارث ، فان الحكم به بمجرد الشك من دون فحص يستلزم مخالفات كثيرة ، فإذا شهد به عند الحاكم صدقه في الفحص الذي امتاز الشاهد به عن الحاكم ، لا مثل الطهارة التي يكفي في الحكم بها مجرد عدم العلم بالنجاسة من غير فحص ، وحينئذ يجري بحث التعارض فيما نحن فيه ، لأنه من قبيل الأول ، وسيتم الكلام الى آخر ما قلناه.

فان قلت : يمكن أن يكون مستند الجرح العلم بالمعصية وعدم العلم بالتوبة بعدها ، ومستند التعديل العلم بالتوبة ، فينعكس الأمر ويكون الجرح حينئذ بمنزلة الأصل والتعديل بمنزلة الدليل ، وهذا الاحتمال يعارض الاحتمال الأول فيجب التوقف. نعم لو كان التعديل مرجعه الى عدم العلم بالكبيرة ومرجع الجرح الى العلم بها دائما اتجه تقديم الجارح ، وأما مع قيام الاحتمال المزبور في كل جرح وتعديل فلا وجه للتقديم بل لا بد من التوقف ، لان نسبة الأصلية

ص: 143

والدليلية الى كل منهما على حد سواء.

قلت : ذلك الاحتمال أمر خارج عن مدلول قول المعدل ، لان حاق معنى التعديل لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي - وهو الملكة - وعدم العلم بوجودي آخر وهو الفسق ، كما أن معنى الجرح لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي وهو المعصية الكبيرة وعدم العلم بوجودي آخر وهو التوبة ، فيؤخذ كل منهما في معلومه وهو الأمر الوجودي لا في مجهوله ، بل يرجع فيه الى الأصل لو لم يعارضه قول الأخر.

ومقتضى أخذ قول المعدل في معلومه تصديقه في الملكة ومقتضى عدم الأخذ في مجهوله الرجوع في الفسق الى الأصل. لكن يمنع عن الأصل تصديق قول الجارح في معلومة ، لأنه بالنسبة إليه دليل وارد ، كما أن مقتضى عدم تصديقه في مجهوله - أعني التوبة - الرجوع الى الأصل ، فيلخص من التصديقين ثبوت الفسق كما لا يخفى.

وأما احتمال استناد المعدل الى العلم بالتوبة بعد الفسق الذي شهد به الجارح فلا يدل ظاهر لفظ التعديل عليه ، لان العالم لا يدل على الخاص بل على القدر المشترك. فالاخبار بمجي ء الرجل مثلا لا يترتب عليه حكم مجي ء زيد بل حكم مجي ء جنس الرجل.

ووجه كون التعديل أعم منه واضح ، لأن العدالة قد تحصل بالملكة مع عدم تحقق الفسق في الخارج وقد تحصل بالتوبة بعد سبق المعصية. وهذا قسم خاص من الملكة ، كما ان الملكة الابتدائية بدون سبق المعصية قسم آخر ، والقدر المشترك بينهما هي الملكة مع عدم الفسق ، فاذا أخبر المعدل بالعدالة وجب تصديقه في ذلك القدر المشترك الذي هو القدر المتيقن لا في الملكة الخاصة الحاصلة بالتوبة بحمل كلامه عليها.

نعم لو علمنا منه ذلك قدم قوله على الجارح ، كما إذا شهد الجارح بالفسق

ص: 144

في يوم الجمعة والعدل بالتوبة في يوم السبت.

[ لو اختلف زمان التعديل والجرح ]

وقد جعل في محكي المبسوط من هذا القبيل ما لو كان زمان التعديل مؤخرا عن زمان الجرح ، كما إذا انتقل الشاهد من بلد الى آخر فشهد بينة من أهل البلد المنتقل عنه بفسقه ومن أهل البلد المنتقل إليه بالعدالة ، أو إذا سافر الشاهد وشهد شاهد بفسقه في الحضر وآخر بعدالته في السفر باعتبار ما آنس منه في الطريق من الأمور الكاشفة عن العدالة.

وفيه نظر ، وان كان ظاهر صاحب المسالك السكوت عنه المنبئ عن الرضا ، لان تقديم قول المعدل حينئذ ليس إلا لأجل كونه نصا في عدالته في الزمان المتأخر ، وقول الجارح ظاهر بالنسبة اليه ونصا في الزمان المتقدم ، فيصرف عن ظاهر الجرح بنص التعديل. وحاصله ان الاخبار بالفسق في يوم الجمعة مثلا لا ينافي عدالته في يوم السبت ، فلا يعارض ذلك الاخبار بعدالته يوم الجمعة ، لأن الأخبار الثاني دليل بالنسبة الى الاخبار الأخر ، لظهور عدم دلالته على الفسق في يوم السبت الا بالظهور الحاصل من ملاحظة الاستصحاب الذي لا يعارض الدليل.

وفيه :

( أولا ) النقض ، لأن تأخير زمان العدالة المشهود بها لو كان سببا لتقديم قول المعدل لزم التوقف في صورة التقارن ، لان التفاوت بينهما ليس الا من جهة اختلاف زماني الفسق والعدالة ، وتأثير الاختلاف إذا كان هو تقديم قول المعدل بصيرورته حينئذ نصا بالنسبة الى ما يقتضيه قول الجارح ، فيكون أثر الاتحاد عدم التقديم ، أعني التوقف باعتبار عدم الخصوصية في قول المعدل وكونه ظاهرا في العدالة كظهور قول الجارح في عدمها لا تقديم قول الجارح.

ص: 145

وبعبارة أخرى : إذا كان قول الجارح في صورة التأخير ظاهرا وقول المعدل نصا لزم أن يكون في صورة الاتحاد - أي اتحاد زماني الفسق والعدالة كأن يقول الجارح هو فاسق الان والمعدل هو عادل الان - ظاهرين متعارضين موجبين للتوقف ، كما هو الشأن في تعارض الظاهرين الا أن يكون قول الجارح مقدما - فافهم.

( وثانيا ) ان وجه تقديم قول الجارح في صورة الاتحاد بعينه موجود في صورة التغاير ، واحتمال استناد قول المعدل الى علمه بالتوبة بعد الفسق الذي أخبر به الجارح موجود فيها أيضا. وقد عرفت أن هذا الاحتمال أمر خارج عن حاق التعديل ، فلا يصار اليه الا بتصريح المعدل به.

هذا هو الكلام في صورة الإطلاق ، أي فيما لم يرجع الجرح والتعديل الى التكاذب ، فان رجعا اليه فالمشهور أيضا تقديم قول الجارح ، عملا بمعنى التوقف والرجوع الى ما يقتضيه أصالة عدم العدالة والتكاذب ، بأن عين الجارح زمان المعصية وشهد المعدل بأنه في ذلك الزمان كان مشغولا بعمل ينافي الاشتغال بتلك المعصية.

ومن صورته أيضا ما لو كانت المعصية المشهود بها مما لا يجامع الملكة ، كقطع الطريق وأخذ عشور أموال المسلمين ، فإن أمثال هذه الكبائر العظمى القريبة من الكفر لا تجامع ملكة العدالة ، فالاخبار بها اخبار بعدمها ، كما أن الاخبار بالملكة اخبار بخلافها وعدم صدورها. ومثله ما لو كانت المعصية مما يمتنع خفاؤها على المعدل عادة فإنه يرجع أيضا الى التكاذب.

لكن لا يبعد تقديم قول المعدل في هذه الصورة إذا كان المعدل يدعي الاطلاع على وجه صحيح لهذا العمل القبيح الصوري مع اختفائه على الجارح ، فيكون الجرح حينئذ بمنزلة الاخبار عن الظاهر والتعديل بمنزلة الاخبار عن الباطن.

ص: 146

هذا ، وقد يتأمل في كون الفرض الأول من قبيل تكاذب الجارح والمعدل ، لأن الأخبار بكون المجروح في غير مكان المعصية في زمانها ليس تعديلا له بل اخبارا بأمر ينافيها ، لان المخبر ربما لا يخبر بعدالته لو سئل عنها.

نعم الفرض الأخير أقرب منه بالمثال وان كان فيها أيضا بعض المنافيات. وكيف كان فالتحقيق أن التوقف لا يستلزم العمل بما يقتضيه الجرح مطلقا ، فان التكاذب إذا كان في معصية لا ينافي الملكة ، فالتوقف فيه يقتضي العمل بما يوافق التعديل ، لأنه بعد تعارض قوليهما يرجع الى أصالة عدم صدور المعصية. فيبنى حينئذ على العدالة ، لأن الفرض إحراز الملكة ، وانما النزاع والتكاذب في الفسق باعتبار صدور المعصية لا باعتبار وجودها وعدمها. نعم لو كان التكاذب يرجع الى إثبات الملكة ونفيها كان التوقف مستلزما للعمل بما يوافق الجرح ، لأصالة العدم بعد تعارض القولين. واللّه العالم.

التقاط [ عند تعارض الجرح والتعديل يؤخذ بالأرجح ]

لا عبرة بالمرجحات في تعارض الجرح والتعديل على ما صرح به غير واحد ، حتى من يرى العمل بالظن المطلق في الاحكام وفي ترجيح الاخبار كالسيد في محكي الرياض وولده النبيل في محكي المفاتيح.

وهو الأصل فيما شك في اعتباره من الظنون استدلالا وترجيحا ، لان الاستناد الى الظن لا يفرق فيه بين الاحتجاج به على وجه الاستقلال أو الترجيح كما فصلناه في الأصول حيث سوينا بين الوجهين في حرمة العمل.

نعم قد يقال بناء على كون البينة طريقا شرعيا الى الموضوعات الخارجية ، ان طريقة العقلاء في أمثاله على متابعة أقرب الطريقين الى الواقع وأرجحهما ،

ص: 147

لكن ذلك أيضا مبني على لابدية الترجيح ، فإنه لا بد حينئذ من وجوب الأخذ بالأرجح. واللابدية أيضا تحتاج الى مقدمات لم يثبت شي ء منها في المقام ، منها عدم إمكان الاحتياط أو عدم وجوبه ، وحاصله ثبوت التخيير على فرض التكافؤ ، فإنه مما لا بد فيه من الأخذ بالأقوى.

والحاصل انه إذا ثبت التخيير بين الطريقين على فرض التكافؤ فمقتضى العقل بل النقل أيضا الأخذ بالأرجح - فتأمل. وأما إذا لم يثبت ذلك بل كان اللازم في تلك الصورة التوقف - مثل ما نحن فيه - فطريقة العقلاء لا يسلم كونها على الأخذ بالأقرب والأرجح ، وما نحن فيه من قبيل الثاني إجماعا عند من لم يقدم الجرح مطلقا.

هذا مضافا الى احتمال كون البينة أمرا تعبديا غير ملحوظ فيه جهة الكشف عن الواقع أصلا كالأصول ، بل لعله أقوى الاحتمالين في البينة. وحاصله كون البينة موضوعا للحكم وسببا له لا طريقا اليه.

ومع هذا الاحتمال يسقط اعتبار المرجح رأسا ، لأن المرجح لا بد أن يكون من جنس ما فيه الترجيح ليتأكد به مصلحة العمل والأمور الكاشفة عن الواقع والناظرة اليه ، ومثل الأكثرية والأعدلية والاوثقية ونحوها لا مساس لجهة الحكم الشرعي ومصلحته بناء على هذا الاحتمال ، وهذا مثل ترجيح أحد الفريقين باعتبار عظم جثته ونحوها من المضحكات.

التقاط [ جواز الاستناد في ملكة العدالة إلى الاستصحاب ]

قد ذكرنا أن مستند الشاهد بالعدالة لا يلزم أن يكون علميا للزوم الحرج

ص: 148

والضيق ، وانه يجوز له الاستناد في الملكة إلى الظن وفي عدم الفسق بعد إحرازها الى الأصل.

واعلم أيضا أنه يجوز الشهادة عليها بسبب الاستصحاب ، بأن كانت الملكة الرادعة المشكوكة البقاء بعد العلم بها سابقا ، فيشهد بها مع الشك في زوالها أو طرو الفسق ، فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الاستصحابية. ولو شهد بالعدالة السابقة جاز للحاكم البناء على العدالة الفعلية بالاستصحاب.

والأصل في هذا الباب أن أدلة الاستصحاب حاكمة على اعتبار العلم في الشهادة وان كان العلم فيها موضوعا. إذ لا مانع عن مثل هذه الحكومة وان احتاج الى دليل آخر غير دليل جعل أصل الامارة الحاكمة.

ويمكن أن يكون ذلك الدليل هو الإجماع ، لأن الشهادة بالملك والدين ونحوهما من الموضوعات جائزة بمقتضى الاستصحاب. نعم حكم الحاكم بها لا يجوز أن يستند اليه لخروجه عن موازين القضاء ، وأما الحكم بالعدالة فليس من القضاء المحتاج الى الموازين المعهودة - فافهم.

التقاط [ وجوب سماع دعوى المجهول ]

دعوى المجهول مما ذهب الشيخ الى عدم وجوب سماعها وأكثر المتأخرين إلى الوجوب.

وقول الشيخ ليس مبنيا على خروجها بالنص ، فلا ينفع في رده التمسك بعموم أدلة القضاء أو إطلاقها لو كان لها عموم أو إطلاق ينفع في المقام ، بل على منع جريان فائدة القضاء وترتب أثر السماع ، لأن فائدة سماع الدعوى انما هو الإلزام بها بعد ثبوتها.

ص: 149

وهذه الفائدة غير متصورة في الدعوى المجهولة ، لأن العنوان المجهول المقول بالتشكيك لا يفيد الإلزام ، إذ لا يتصور الأمر بدفع المجهول الأعلى أحد وجوه كلها باطلة في المقام :

( أحدها ) الأمر بدفعه على وجه الإبهام ، وهو غير معقول ، لان المبهم مع وصف الإبهام لا يمكن دفعه حتى يلزم به.

( والثاني ) الأمر به على وجه التخيير للدافع أو للمدفوع اليه ، وهو إلزام بغير المدعي به ، لان المفروض كونه أمرا معينا في

الواقع مبهما في الظاهر.

( والثالث ) الأمر به على القدر المعلوم والمتيقن من محتملاته ، كالأمر بدفع الدين المجهول على دفع أقل ما يحتمله المدعي ، وهو أمر معقول لكنه ليس إلزاما بأمر مجهول بل بأمر معلوم. وليس مما يتفرع على سماع دعوى المجهول أيضا ، لأن ذلك في المعنى دعوى لأمر معلوم في ضمن عبارة متضمنة لأمر بلا فائدة ، أعني احتمال الزائد.

والحاصل ان سماع الدعوى المجهولة ان كان لأجل الإلزام بالقدر المتيقن.

فهذا سماع لدعوى أمر معلوم لا مجهول ، وهو خارج عن مفروض المسألة.

مضافا الى أن الإلزام بالقدر المتيقن لا يتمشى فيما إذا دار المجهول بين المتباينين كالثوب والفرس. الا أن يقال : ان دعوى العين المغصوبة فائدتها الإلزام بالقيمة فرارا عن خلود الحبس كما مر في كتاب الغصب ، فيرجع حينئذ إلى الأقل والأكثر المتداخلين.

فان قلت : نختار الوجه الأول ، أعني الإلزام بالمجهول على إبهامه. قولك « انه يتعذر تسليمه فلا يقبل الإلزام ». قلنا ممنوع لا مكان أدائه بالاحتياط أو الخروج عن عهدته بالصلح.

قلنا : إذا كانت المسألة من مجرى البراءة لدوران الأمر بين الأقل والأكثر

ص: 150

في الدين والعين كليهما كما عرفت فحكم الحاكم لا يوجب انقلاب حكمها الى الاحتياط ، بل غاية ما يترتب على الحكم تنزيل المحكوم به منزلة الواقع.

ولا ريب أن اشتغال الذمة واقعا بأمر مجهول مردد بين الأقل والأكثر لا يزيد حكمه على إيجاب القدر الأقل ، فيرجع الأمر في سماع الدعوى إلى الإلزام بالقدر المعلوم. وقد عرفت أنه ليس سماعا للدعوى المجهولة من حيث أنها مجهولة ، أي في ذلك الوصف العنواني.

والقول بأن الأمر قد يدور بين المتباينين كالثوب والفرس فيترتب على سماع دعوى ذلك الحكم باشتغال ذمته به واقعا المقتضي للاحتياط. قد عرفت ما فيه من أن دعوى الأعيان على تقدير سماعها انما تؤثر في الغرامة لا في دفع العين ، فيندرج تحت الأقل والأكثر المتداخلين.

ولو فرض تعلق الدعوى بأحد العينين الموجودتين حتى لا يرجع الى التغريم ، فالاحتياط فيه أيضا لا يرجع الى محصل ، إذ لا احتياط للحاكم في الحكم بدفع المتباينين تحصيلا للبراءة ، لأنه إعطاء للمال على غير مستحقه قطعا ولا للمحكوم له في أخذ هما ، بل هو مخالف للاحتياط في حقه.

نعم الاحتياط في تكليف المحكوم عليه يقتضي الصلح أو إرضاء المحكوم له ولو بدفعهما ، لكنه احتياط لا يلزم عليه بسبب الحكم ، بل يدور مدار علمه باشتغال الذمة وجهله به ، سواء حكم الحاكم باشتغال الذمة أم لا.

[ سماع الدعوى على الغائب ]

ومما يدل على أن المجهول على نحو إجماله لا يقبل الإلزام استثناء القائلين بسماع دعوى المجهول الدعوى على الغائب كالعلامة والمحقق ، إذ لا يتفاوت بناء على ما ذكر بين الدعوى على الحاضر أو الغائب ، فهذا الاستثناء دليل على

ص: 151

أن فائدة سماع لدعوى أمر وراء الإلزام بالمجهول ، كاحتمال إقرار المدعي أو نحو ذلك مما يتبين به الحال بغير حكم الحاكم - فافهم.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الدعوى المجهولة من جميع الجهات - كدعوى شي ء متمول - أو من بعض الوجوه ، ولا بين دعوى الدين أو العين.

فان التحقيق في الكل عدم السماع في ذلك العنوان المجهول بوصف المجهولية ما لم يأخذ المدعي بالقدر المتيقن منه في تحرير الدعوى.

فان قلت : عدم صلاحية المجهول للحكم لا يقتضي عدم وجوب السماع لما يترتب عليه من بعض الفوائد كالإقرار ونحوه ، فيجب على القاضي السماع رجاء لا خراج الحق ولو بغير الحكم كالإقرار.

قلت : وجوب السماع مقدمة لما هو الغرض من تشريع الحكم ، وذلك الغرض ليس سوى الإلزام بالمدعى به على تقدير البينة أو الحلف ، وأما رجاء الإقرار فهو من قبيل الفوائد المترتبة على السماع أحيانا كترتبها على مكالمة غير الحاكم مع المدعى عليه من المؤمنين المحسنين المصلحين.

والحاصل انه لما علم أن الغرض من نصب الحاكم أمر وراء ما يعم جميع الناس - وهو الإلزام بالحق بموازين القضاء - فلا جرم يختص وجوب سماع الدعوى بما إذا احتمل حصول هذا الغرض ، فمع امتناع حصوله لو أوجبنا أيضا السماع كان قد أوجبنا المقدمة مع تعذر ذيها ، وهو كما ترى.

فإن قلت : لا نسلم انحصار غرض الشرع في الإلزام ، بل نقول ان الغرض هو إخراج الحق بأي وجه كان حتى بالإقرار ونحوه ، فيجب السماع حيث يحتمل حصول الغرض على بعض الوجوه.

قلت : الدعوى والاستعداد اللذين هما بابان من أبواب الفقه : الأول عبارة عن ادعاء حق يتضمن لإنكار المدعى عليه ، لان الدعوى هو الشكوى ، ومجرد

ص: 152

الاخبار بحق على الغير دون إظهار إنكار الخصم ولو في ضمن « لا ادري » ليس يصدق عليه الشكوى. والثاني عبارة عن قبول الشكوى ، ومن الواضح أن قبول الشكوى لا معنى له الا الإلزام على المشتكى عنه بما به الشكوى لا إحضاره لرجاء إقراره.

ومن هنا يظهر أن الحكم المستند إلى إقرار الخصم ليس استعداء من الحاكم حقيقة ، كما أن الإلزام على المقر المماطل بالأداء ليس قضاء مصطلحا بل أمرا بالمعروف أو سياسة من السياسات.

[ النقاش في سماع دعوى المجهول ]

ومن جميع ما ذكرنا ظهر فساد ما استدل به على السماع تارة بالعمومات وأخرى بالقياس إلى الوصية بالمجهول أو الإقرار به فإنهما جائزان ، وينفذ الأول فيما هو القدر المعلوم من محتملاته ، ويلزمه الثاني بالتفصيل.

وجه فساد الأول ان العمومات انما تنهض فيما يترتب فيه على السماع غرض تشريع الحكم وهو الإلزام ، وقد ظهر أنه لا يترتب على السماع دعوى المجهول ما لم يرجع الى دعوى القدر المتيقن ، ووجه فساد الثاني أن الوصية بالمجهول انما صحت بإطلاق أدلة الوصية بعد معلومية صدقها عليها وعدم المانع ، والمفروض في المقام عدم شمول الأدلة للدعاوي المجهولة الغير النافعة إلا في القدر المتيقن ، وكذا الإقرار بالمجهول ، فإنه لا فرق بينه وبين الإقرار بالمعلوم في كون كل منهما قابلا للإلزام ولو بعد الاستفصال. ومن الواضح أن الاستفصال من المنكر غير معقول بخلاف الاستفصال من المقر.

وما ذكره الشهيد الثاني في الروضة والمسالك من أنه فرق اعتباري لا يصلح منشأ للحكم الشرعي. يدفعه أن المنشأ للحكم - أعني قبول الإقرار بالمجهول

ص: 153

وعدم قبول دعوى المجهول - ما ذكرنا من نهوض أدلة الإقرار بعد إمكان الاستفصال في القبول وعدم نهوض أدلة السماع.

ومن الفرق المزبور يعلم أن دعوى الإقرار بالمجهول أو الوصية به أيضا غير مسموعتين ، لامتناع الاستفصال هنا أيضا وان أمكن في نفس الإقرار. لكن في المسالك نفي الخلاف في سماعهما ، ولعل المراد به السماع في القدر المتيقن ، وان كان بعيدا لعدم الفرق حينئذ بين هاتين الدعويين وغير هما من الدعاوي المجهولة.

ويمكن أن يقال : ان الإقرار بالمجهول لما كان حكمه شرعا الاستفصال وجب سماع دعواه لترتب الفائدة على السماع حينئذ ، وهو الاستفصال. وفيه تأمل ، لأن المنكر للإقرار كيف يؤمر بالتفصيل مع إنكاره ، وان صح صح الاستفصال في دعوى المجهول أيضا.

والحاصل ان الاستفصال من خواص الإقرار فلا يعم الإنكار وان كان غير معتبر محجوجا عليه بالبينة ، سواء كان المنكر هو الحق المجهول أو الإقرار بحق مجهول. وكذلك الكلام في دعوى الإقرار المجهول فإنه مثل دعوى الإقرار بالمجهول.

ولعله لما ذكرنا من التوجيه والتأمل تردد الشهيد مع قوله بعد سماع الدعوى المجهولة في سماع دعوى الإقرار بالمجهول ، وذكر فيه الوجهان.

ثمَّ انه بناء على ما ذكر من عدم سماع دعوى المجهول لو ادعى دعوى مجهولة فللحاكم تلقينه صورة الدعوى بما يرجع الدعوى الى التعيين ، كادعاء القدر المتيقن لو كان المدعى به دينا ولو كان عينا فيلقنه الحاكم بأنه على تقدير الثبوت لا سبيل لك الى عين المال ، بناء على ما تقدم في مسألة الغصب من أن دعوى الأعيان لا تؤثر مع إنكار المدعى عليه الا في الغرامة بل لك أن تغرمه بالقيمة ،

ص: 154

ثمَّ يلقنه صورة ترجع الى التعيين. فلو كان المدعى به أحد العينين الموجودين سقطت الدعوى رأسا ، إذ لا ثمرة لسماعها أصلا. والقائلون بالسماع لا يظن أنهم يقولون به في هذه الصورة ، خصوصا بعد ملاحظة بعضهم لوجوب إخراج الحق ، ضرورة عدم تصور الإخراج في هذه الصورة.

ودعوى إيجاب السماع لو جاء الإقرار قد ظهر جوابها.

ومن هنا أمكن أن يكون النزاع في السماع لفظيا ، لأنا لم ننكر أيضا وجوب السماع باعتبار القدر المتيقن وانما ننكر سماعها من غير أن يرجع الى التعيين.

والظاهر أن القائلين بالسماع أيضا لا يقولون بسماعها الا من جهة ما يترتب عليها من رجاء الحكم بالقدر المتيقن. وهو جيد لا غائلة فيه لكنه ليس سماعا لدعوى المجهول ، والثمرة تظهر فيما فرضنا من الصورة التي ليس فيها قدر متيقن. واللّه العالم.

تنبيهان [ إحضار الخصم بالتماس خصمه ]

( الأول ) ذكر المحقق وغيره قبل هذه المسألة أنه إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضرا ، سواء حرر المدعي الدعوى أو لم يحرر.

وفيه اشكال من وجهين :

« أحدهما » - أن سماع الدعوى الغير المحررة واجابة مدعيها في إحضار الخصم ينافي عدم سماع الدعوى المجهولة ، كيف وإبهام الأولى أكثر من إبهام الثانية ، لما في الاولى من الاحتمالات التي لم تسمع الدعوى على تقدير بعضها قطعا ، كاحتمال دعوى غير مشروعة ، بخلاف الثانية فإن وجه عدم سماعها ممحض في إبهام المدعى به.

ويمكن دفعه بأن إجابة المدعي في إحضار خصمه غير السماع المنفي في

ص: 155

الدعوى المجهولة ، لاحتمال كونها من السياسات التي قد تجب على الحاكم بنفسها أو مقدمة للدعوى التي سماعها من حقوق المدعي. وبعبارة أخرى :

وجوب سماع الدعاوي المحررة شي ء واجابة المدعي بإحضار الخصم لتحرير الدعوى شي ء آخر ، فلا منافاة بين عدم الأول لجهل المدعى به ووجوب الثاني سياسة أو مقدمة للتحرير - فتأمل.

« وثانيهما » - انه إذا لم يكن الدعوى محررة لم يعلم شرط وجوب إحضار الخصم ، لان وجوبه مقدمة لاستنقاذ حق المدعي أو إيفاء بحقه في سماع الدعوى الصحيحة ، ولا يعلم شي ء من الأمرين قبل التحرير ، والشك في شرط الوجوب يوجب الشك في نفسه.

نعم لو علم من حال المدعي ان له دعوى صحيحة نسلم وجوب الإحضار قبل التحرير ، ولكن كلمات الأصحاب مطلقة.

ويمكن ذبه - مضافا الى ما عرفت في دفع الاشكال من الوجه الأول - باعمال أصالة الصحة في الدعوى ، فإنها مما تتصف بالصحة والفساد ، فيجري فيها الأصل المزبور ، أو بأن وجوب سماع الدعوى الصحيحة انما هو لاستنقاذ حق المدعي المحتمل لا المعلوم. وهذا الاحتمال قائم قبل التحرير أيضا.

والسر في الموضعين أنه لو بني على عدم التعرض لمقدمات الاستنقاذ الا بعد العلم بثبوت المستنقذ - أعني الحق - لزم تضييع حقوق كثيرة واختلال أمور المسلمين كما لا يخفى.

( الثاني ) ان عدم وجوب سماع الدعوى المجهولة فيما كان فيه قدر متيقن مبني على ما يأتي في المسألة الاتية من اشتراط الجزم في الدعوى والا وجب السماع لأنها تنحل حينئذ إلى دعوى مجزومة بالنسبة إلى القدر المتيقن ومشكوكة

ص: 156

بالنسبة إلى الزائد ، فتسمع على القول بعدم اشتراط الجزم لكن مع مراعاة ما يأتي من الشروط. واللّه العالم.

التقاط [ اعتبار الجزم في الدعوى ]

اختلفوا في اعتبار الجزم في الدعوى بعد الاتفاق ظاهرا على عدم وجوب الفحص عن الباطن على الحاكم إذا كانت صورة الدعوى جزمية.

وتوضيح المقال : ان الدعوى الغير الجزمية - سواء كانت ظنية أو وهمية - اما أن يكون للمدعي طريق شرعي إليها كالأصل أو البينة أم لا. والكلام في كل منها يقع في جهتين : إحداهما من حيث الحكم التكليفي ، والأخرى من حيث الحكم الوضعي - أعني وجوب السماع على الحاكم واعمال قواعد القضاء.

أما القسم الأول : فالظاهر عدم الاشكال فيه من حيث التكليف ، فلا اثم على من كان له بينة على حق على أحد أو أصل يقتضي ذلك الحق أن يطالبه بذلك الحق ويدعي عليه ولو على سبيل الجزم ، سواء قلنا ان الدعوى إنشاء لا يقبل الصدق والكذب أو قلنا انه إخبار ، أما على الأول فواضح ، وأما على الثاني فلان الكذب هنا مقرون بالمصلحة المجوزة ، وهو استنقاذ الحق الذي قام عليه أمارة شرعية.

وأما من حيث الحكم الوضعي فالظاهر أن فيه اشكالا ، بل لا يبعد القول بعدم ترتب شي ء من الأحكام المترتبة على الدعاوي عليه ، فلا يجب على الحاكم سماعها ، لان الظاهر أن الاخبار بالحق على الغير ما لم يقترن بالجزم والمطالبة لم يصدق عليه الدعوى عرفا.

فلو قال اني احتمل دينا لي في ذمة زيد أو أظن ، لم يجب على الحاكم

ص: 157

ما يجب عليه في الدعاوي المجزومة لأنه لم يدع شيئا ، وانما أخبر بخبر لا فائدة فيه الإظهار الحال ، فلا بد للظان إبراز الدعوى بصورة الجزم والمطالبة تحقيقا لمعنى الدعوى.

ولو اقتصر على مجرد المطالبة - بأن يقول المدعي ان لي بينة على اشتغال ذمتك واني مطالب به بمقتضى البينة - كفى على الظاهر. فالقول باشتراط الجزم على الدعوى زيادة على المطالبة لا يخلو عن إشكال أو منع ، ويمكن تنزيل كلام من اعتبره على المطالبة.

وكيف كان فيجب على الحاكم حينئذ سماع هذه الدعوى ، ولو علم بالحال وأنه يدعي عن ظن أو وهم لا عن جزم. والدليل عليه أمور :

( الأول ) ان المقتضى للسماع موجود وهو أدلة القضاء ، والمانع وهو عدم ترتب الفائدة على السماع كما في القسم الثاني مفقود.

( والثاني ) ان في عدم سماع مثل هذه الدعوى تقاعدا عن إحقاق الحقوق الذي هو الغرض من تشريع القضاء كما مر.

( والثالث ) فحوى ما دل على حلف الامناء فيما إذا ادعوا التلف ، فان دعوى المستأمن عدم التلف عليه غالبا أو دائما دعوى غير مجزومة مستند الى عدم العلم أو أصالة العدم.

( والرابع ) فحوى خصوص ما ورد في الصائغ والقصار والحائك من جواز إحلافهم إذا اتهموا ، معللا باحتمال استخراج شي ء منهم.

وهذا وسابقة وان لم يكن موردهما ما إذا كان الظان هو المدعي بل المنكر - وهو المستأمن أو المستأجر - لكن الاستدلال بهما من حيث المناط المنقح ، لأنه إذا أثر الظن في إحلاف المدعي أثر في إحلاف المنكر أيضا لاتحاد المناط ثمَّ يتوجه اليمين على المدعي. ولا رد هنا ، لاشتراط الجزم في اليمين كما سيأتي ،

ص: 158

فإن حلف والا فيبنى على القضاء بالنكول ، فان قضى به الزم والا فالدعوى توقف.

وأما القسم الثاني : فلا إشكال في أن الحكم التكليفي فيه الحرمة بناء على كون الدعوى اخبارا لكونه كذبا ، وما ذكرنا من المصلحة غير جارية هنا ، لان المفروض هنا عدم قيام أمارة شرعية على الحق ، فليس له حق ظاهري أو واقعي حتى يجوز الكذب مقدمة لاستنقاذه. ومجرد احتماله الذي لا دليل عليه بل الدليل على خلافه - وهو الأصل - لا يصلح مجوزا له.

وأما الحكم الوضعي - أعني سماع الدعوى - فمبني على ما أشرنا إليه في الالتقاط السابق من أن الغرض الذي وجب سماع الدعوى لأجله ، هو منحصر في الإلزام حتى لا يجب حيث لا يكون للدعوى قابلية ذاتية للإلزام أم لا بل متى احتمل احدى الفوائد المترتبة على السماع كإقرار المدعى عليه أو يمينه المسقط لحق الدعوى أو نحوهما مما قد يترتب على سماع الدعوى من الفوائد ، وجب السماع مقدمة لها.

فان قلنا بالأول - كما لعله الأقوى - لم يجب السماع هنا إذا علم الحاكم بأنه يدعي من غير جزم ولا أمارة شرعية ، لاستحالة الحكم له على خصمه بما يدعيه ، لان المفروض كونه ممنوعا في الشرع عن أخذ المدعي به فكيف يتعلق به الحكم ولا أقبل رجاء للإقراء أو الصلح.

هذا ، وقد يستدل على مساواة القسمين بالأخبار المشار إليها الواردة في الصائغ والصانع والحائك ، كخبري بكر بن حبيب في أحدهما قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أعطيت جبة الى القصار فذهب بزعمه. قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شي ء (1).

وخبر ابى بصير عنه عليه السلام : لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك

ص: 159


1- الوسائل ج 13 ب 29 من أبواب الإجارة ح 16.

الا أن يكونوا متهمين فيخوفون بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منهم شيئا (1) ، نظرا إلى إطلاقه وعمومه لجميع صور الاتهام التي منها دعوى الخيانة والتفريط ، خصوصا في الرواية الأخيرة ، حيث لا اشعار ولا دلالة فيها على اختصاص الحكم بصورة دعواهم الذهاب والتلف.

الا أن يقال : ان الظاهر من الاستخراج المعلل به الإحلاف كونه على وفق الأصل ، بمعنى ثبوت الحق ولو ظاهرا. إذ لا يقال للدعوى المخالفة للأصل وسائر الطرق الشرعية انها استخراج للحق بل تسبب وتوصل إلى إحداث حق غير ثابت - فتأمل.

وقد يستدل أيضا على مساواتهما بالوجه الثاني ، أعني استلزام الاقتصار في السماع على الدعاوي اليقينية وعدم سماع الدعاوي الظنية والوهمية تضييع حقوق الناس المحترمة. أترى أن دعوى السرقة لو بني فيها على اعتبار الجزم فهل يستخرج مسروق.

ثمَّ ان كلمات الأصحاب في المسألة غير منقحة ، من حيث أن بعضها ظاهر في أن الجزم من شروط المدعي لا الدعوى ، ومقتضاه الإثم والحرمة في أصل الفرض للدعوى ، وأما اشتراط صيغة الدعوى بالجزم فلا ، ومقتضاه سماع قوله « أظن » أو « أتوهم » على تقدير الإثم. وظاهر عبارة المحقق العكس - يعنى اعتبار الجزم في الصيغة - والحق ما فصلناه.

تنبيهان [ في الظن في الدعوى ومحله ]

( الأول ) ان ذكر الوهم في مقابل الظن كما في الشرائع وعن القواعد لا يخلو عن شي ء ، لأنه ان أريد بالوهم معناه المعروف - أعني الطرف المرجوح

ص: 160


1- الوسائل ج 13 ب 29 من أبواب الإجارة ح 11 وفي آخره « فيخوف بالبينة. ».

ففيه من الطفرة ما لا يخفى ، إذ ينبغي ذكر الشك أولا ثمَّ ذكر الوهم لأنه أقرب الى الظن. وان أريد به الظن - كما يراد به الاحتمال الموجود في موارد التهمة فمرجعه الى الظن أيضا ، فلا وجه للمقابلة.

ويمكن أن يقال : ان المراد به الظن المسبب عن امارة كالاحتمال الموجود في موارد التهمة ، فإن التهمة عبارة عن الرجحان الحاصل ببعض الامارات ، والمراد بالظن هو مطلق الرجحان حتى ترجع المقابلة الى مقابلة العام والخاص أو يعم الرجحان الحاصل من غير سبب. أو يقال : ان المراد بالظن الرجحان القوي وبالوهم الظن الضعيف.

( الثاني ) ان ظاهر كلمات القوم سماع الدعوى الظنية في موضعين : أحدهما دعوى الوارث بحسب ما يجده في ديوان أبيه وخطه ، والثاني دعوى الحاكم أو الإمام عليه السلام دينا لمن لا وارث له بمقتضى ديوانه ورسم خطه. فان ظاهر هم عدم الخلاف في إحلاف المدعى عليه فيهما والقضاء بالنكول على القول به.

ودعوى تنزيل المسألتين على صورة علم الوارث أو الحاكم بسبب ملاحظة الديوان لا يلائم تعليلهم بعدم رد اليمين الى الوارث والحاكم بعدم علمهما. ولعل الكلام فيهما يأتي.

التقاط ( في جواب المدعى عليه )

وهو اما إقرار أو إنكار أو سكوت. وزاد الأردبيلي وجملة ممن تأخر عنه قسما رابعا وهو قوله « لا أدري » ، ووجه عدم ذكر القدماء له اما مبني على غفلتهم أو ادراجهم إياه في أحد القسمين الأخيرين.

والأول في غاية البعد ، فأما ان الإنكار عندهم يعم نفي الواقع ونفي العلم ،

ص: 161

أو يقال ان السكوت باعتبار احتمال كونه عن عناد أو جهل يشمل قوله « لا أدري » ، فإنه نحو سكوت عن التعرض لما يدعيه المدعي من الحق ، إذ الجواب لا بد أن يكون ناظرا الى نفس المدعى به وهو الحق لا إلى شي ء آخر لم يدعه المدعي - أعني العلم - فهو بالنسبة إلى الدعوى سكوت وان كان غير سكوت بنفسه.

والأول أقرب ، فإن الإنكار وعدم العلم متساويان في التمرد عن الحق ، وان كان الأول من حيث العلم بعدمه والثاني من حيث عدم العلم بوجوده. وربما يستظهر ذلك أيضا مما ذكروه في جواب الوارث للمدعي على مورثه بقوله « لا أدري » ، فإنهم يجعلونه من إنكار الوارث. نعم لا يترتب على الجواب ب- « لا أدري » حكم الإنكار من الاستحلاف أورد اليمين إلا إذا ادعي عليه العلم.

وكيف كان فإن أقر فالإقرار حجة مستقلة من غير الاحتياج الى ضم الحكم بلا خلاف ولا اشكال ، لعموم أدلة الإقرار. قال في الشرائع : أما الإقرار فيلزم إذا كان جائز التصرف ، وهل يحكم به عليه من دون مسألة المدعي؟ قيل لا ، لأنه حق له فلا يستوفي إلا بمسألته - انتهى.

وقوله « وهل يحكم » إلخ ، دليل على ما قلنا من أن الإقرار بنفسه ملزم ، لان المراد بقوله « فيلزم » ان كان إلزام خصوص الحاكم بالحكم لم يتأخر ذكر الحكم وشرطه ، وحينئذ فثمرة حكم الحاكم تظهر في بعض ما هو من خواص الحكم ، كحرمة النقض وأمثالها.

[ لا بد من الحكم بعد البينة لإثبات الدعوى ]

وأما البينة ففي المسالك من غير ذلك خلاف : ان الحق لا يثبت بمجرد إقامتها ، بل لا بد معه من حكم الحاكم. ثمَّ قال : والفرق ان البينة منوطة باجتهاد

ص: 162

الحاكم في قبولها وردها وهو غير معلوم بخلاف الإقرار - انتهى كلامه حسن مقامه.

وما ذكره من الفرق محل نظر ، لأن أدلة حجية البينة مطلقة كأدلة الإقرار ، فلا وجه لتقييدها بضم حكم الحاكم. مع أن الظاهر عدم الاشكال بل عدم خلاف معتد به في ثبوت الموضوعات بها كالحياة والموت والطهارة والنجاسة من غير حكم الحاكم. وكونها أمرا اجتهاديا محتاجا الى النظر لا يوجب عدم نهوضها في إثبات ما قامت عليه من الحق إذا كان أمرها من حيث العدالة وسائر شرائط القبول واضحا ، فينقل الكلام في البينة التي كانت حجة عند الكل.

والحاصل ان قضية ما يقضى به حجية البينة وكونها أمارة شرعية إلى الموضوعات ثبوت الحق بمجرد قيامها كالإقرار ، فلا وجه لاعتبار حكم الحاكم.

ومقتضى ذلك إلزام كل أحد للمدعي عليه بالحق بمجرد سماع البينة المقبولة عند السامع وترتيب آثار ثبوت ذلك الحق سواء كان ذلك الحق عينا أو دينا.

الا أنه قد يقال : ان ترتيب الغير آثار البينة من حيث ثبوت الحق فصل عملي للخصومة ، وقد ثبت أن فصل الخصومة بجميع أنحائه من خصائص الحاكم. توضيح المقام : انه إذا قامت البينة على اشتغال ذمة المدعى عليه مثلا فترتب الاثار عليه والجري على طبقه والالتزام بحجيته للكل في نفسه قبل الحكم عبارة عن جواز أخذ الحق عنه وإعطائه المدعي أو قبول المصالحة من المدعي على ذلك الحق أو التقاص من أمواله أو أخذ شي ء منه سرقة وإعطائه المدعي أو نحو ذلك مما يرجع الى تنزيل ذلك الدين المدعى به أو العين منزلة حقوق المدعي وأمواله.

ولا ريب أن ذلك فصل للخصومة بينهما عملا وان لم يكن حكما مصطلحا ،

ص: 163

ولذا يصح صدور الحكم من الحاكم على تقدير كونها حجة مستقلة أيضا وفصلها شأن الحاكم ليس الا.

ودعوى أن حجية البينة في ثبوت الحق مرجعها الى كونها بمنزلة العلم بالحق ، فكما أن العالم إذا عمل بمقتضى علمه وعمل مع ذلك الحق معاملة حق المدعي ، لم يكن ذلك منافيا لما ثبت من اختصاص القضاء بالحاكم ، إذ لا يقال له انه فاصل للخصومة ، بل عامل بمقتضى ما علمه من ثبوت ذلك الحق ، كذلك من قامت عنده البينة إذا رتب عليها الاثار لم يكن فاصلا للخصومة.

مدفوعة بأن المراد بالفصل ليس هو الحكم المصطلح حتى يقال ان العمل بمقتضى العلم أو البينة ليس فصلا لها ، بل المراد ما عرفت من مجرد تطبيق العمل على وفق حقيقة المدعي ولو سرا من غير التعرض للمدعي عليه ظاهرا. ولا ريب أنه مداخلة بين الخصمين من حيث ثبوت الحق وعدمه ونحو فصل عملي للخصومة.

فإن قلت : ينبغي حينئذ أن لا يجوز للعالم أيضا العمل بمقتضى ما علمه من ثبوت الحق للمدعي نظرا الى اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم.

قلنا : اعتبار العلم في ترتيب آثار المعلوم عقلي لا يقبل التخصيص ، بخلاف اعتبار البينة ، فإنه لما كان ثابتا من الشرع أمكن تخصيصها بغير الحقوق نظرا الى ما استفيد من أدلة القضاء من اختصاص الفصل بالقضاة.

ومن هنا يعلم أن ترتيب سائر آثار ما قامت عليه البينة غير جهة كونه حقا للمدعي مما يرجع الى تكاليف المرتب نفسه لا مانع منه ، فلو قامت البينة مثلا على نجاسة المبيع قبل حكم الحاكم بها وجب على من سمعها الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، فان ترتيب هذا الأثر غير مرتبط بمسألة الفصل فيجوز ، وانما المرتبط به ترتيب أثرها من حيث فساد البيع وكون ثمنها ملكا للمشتري وجواز أخذه من البائع سرقة مثلا ودفعه الى المشتري.

ص: 164

[ موضع حجية البينة ]

والحاصل ان البينة حجة إذا لم تستلزم ثبوت حق على الغير وان استلزمت ثبوت حق على العامل بها ، كما لو شهد عند الوارث بينة على اشتغال ذمة أبيه بدين مثلا فيجب على الوارث وفاؤه لعدم الخصومة هنا ، وأما معها - كما لو شهدت على عين في يد زيد مثلا - لم يثبت كونها للمدعي وان لم يكن زيد منكرا ، لان حجيتها في إثبات شي ء على الغير موقوفة على ضم حكم الحاكم ، فحالها حال اليمين في كونها ميزانا للحاكم لا لغيره ، ويتفارقان من جهة حجية الأول في غير مقام الخصومة دون الثاني.

فإن قلت : لا دليل على اختصاص مطلق فصل الخصومة حتى العملي منها بالحاكم ، لأن أدلة القضاء وردت في الفصل القولي لا في مطلق الفصل.

قلت : يستفاد من مجموعها - ولو بملاحظة كونه من شعب الرئاسة المطلقة - أن المداخلة في أمر المتخاصمين من الجهة التي وقعت فيها الخصومة - أعني الحق وقطع النزاع ظاهرا وباطنا وبأي وجه كان - مختص بالحاكم.

ومما ذكرنا ظهر أنه كما لا يجوز الالتزام بآثار البينة سرا كذلك لا يجوز جهرا ، بأن يتعرض للمنكر ويلزمه بدفع الحق كما هو شأن الحاكم. بيانه : ان حجية البينة في إثبات الحق من غير انضمام الحكم اليه لها مراتب ثلاث : إحداها جواز ترتيب آثاره الراجعة إلى تكليف المرتب مدعيا وغيره دون الراجعة إلى نفس الحق نفيا وإثباتا ، وثانيتيها ترتيب جميع الاثار حتى ما يرجع الى ثبوت الحق لكن سرا من غير مزاحمة للمنكر في تكليفه كما هو شأن الحاكم خاصة ، وثالثتها الترتب مطلقا سرا وجهارا. والثابت من وجوه حجيتها هو الأول دون الأخيرين.

ص: 165

ثمَّ ان ما ذكرنا وجه مخرج لقول الأكثر بعدم حجية البينة إلا مع الحكم ، وصحته أو سقمه يحتاج الى مزيد تأمل في كلمات العلماء وأخبار البينة والقضاء.

[ الإقرار سبب لإلزام المقر بما أقربه ]

هذا كله في البينة ، وأما الإقرار فلا شبهة في أنه ليس بحجة في ترتيب الاثار الراجعة إلى تكليف من سمع الإقرار ، لأنه ليس طريقا شرعيا إلى إثبات الموضوعات ونفيها كسائر الامارات والطرق وانما هو سبب إلزام المقر بما أقر به ، لان قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لا يدل على أزيد مما ذكرنا ، سواء كان الظرف متعلقا بالإقرار أو الجائز. وانما الكلام في سببيته للإلزام هل هي مشروطة بانضمام حكم الحاكم نحو حجية البينة أم لا ، وعلى الثاني فهل المراد بالإلزام ترتيب آثار ثبوت الحق سرا خاصة بحيث لا يزاحم المقر الراجع عن إقراره في ظاهر تكليفه أو ما يعم الإلزام الظاهري الذي يرد على تكليفه في الظاهر ، كما هو من خواص القضاء الاصطلاحي ، فإنه على ما سبق في صدر الباب عبارة عن إلزام الشخص بما لا يقتضيه تكليفه ، عكس الأمر بالمعروف.

توضيح المطلب : ان المقر إذا نكل ورجع عن إقراره وادعى شبهة داعية له إلى الإقرار الصادر ، فمقتضى القاعدة عدم مزاحمته فيما يراه بعد الإنكار من تكليفه ، خصوصا إذا علم منه الصدق في دعوى الشبهة وانه كان مشتبها في الإقرار الصادر منه ، لان هذه المزاحمة لا تنهض بإثباتها أدلة الأمر بالمعروف ولا غيرها من سائر الأدلة إلا ما قد يتوهم استفادته من أدلة الإقرار من أن نفوذه ومضيه عبارة عن قهر المقر وإلزامه بما أقر ، وان علمنا منه الشبهة في نفس الإقرار إذا كان أصل ثبوت المقر به محتملا ، فلا بد من النظر في القدر المستفاد من مثل قوله

ص: 166

« إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فهل هو الإلزام بحيث لا يحصل المزاحمة له في تكليفه ، وحاصله إلزامه في أصل ثبوت الحق واقعا وجواز التقاص من أموالهم سرا أو نحو ذلك مما يرجع الى ثمرات اشتغال ذمته الواقعي إذا كان المدعى به دينا مثلا ، أو الإلزام مع المزاجمة المزبورة كما هو شأن الحاكم ، فنقول :

قد عرفت ان الإلزام على خلاف ما يقتضيه تكليف الشخص أمر من شعب الرئاسة المختصة بالإمام عليه السلام ونوابه - أعني الحكام - فيكون معنى جواز الإقرار ونفوذه حينئذ هو المعنى الأول.

فإن قلت : هذا المعنى أيضا غير لائق إلا بحال الحاكم ، كما مر في وجه عدم حجية البينة ، لأنه أيضا فصل عملي للخصومة ، والمستفاد من أدلة القضاء اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم كما قلت.

قلت : نعم لكن وزان قولهم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » غير وزان قوله « البينة حجة » مثلا ، فان الظاهر المتبادر من الأول - لو لم نقل به الالتزام على خلاف ما يقتضيه التكليف الذي هو وظيفة الحاكم. فلا أقل من القول بكونه الإلزام في أصل ثبوت الحق من حيث أنه حق على المقر. وحينئذ فيخصص به ما استظهرنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أقسام الفصل بالحاكم ، وانما لم نقل بذلك في البينة بل قلنا بأن هذه الأدلة بملاحظة هذا الاستظهار تخصص أدلة حجية البينة بغير ما إذا تضمنت حقا على الغير باعتبار كون هذه الأدلة أخص من أدلة البينة - فافهم.

وأما اليمين فالظاهر أنه حجة من غير ضم حكم الحاكم بالبراءة ، فإذا حلف المنكر عند الحاكم ذهب حلفه بما فيه ، فلا يجوز تعرضه لا للمدعي ولا لمن يعلم بكذبه الأعلى تقدير جواز تعرضه بعد الحكم أيضا. والحاصل ان اليمين

ص: 167

قبل صدور الحكم وبعده على حد سواء ، لعموم أدلته وإطلاقها على وجه لا يتأمل في عدم اشتراطها بصدور الحكم ، فراجع اليه وتأمل.

[ مسائل من أحكام الإقرار ]

بقي أشياء :

( الأول ) انه إذا قيل بأن البينة يثبت به الحق قبل الحكم كالإقرار ، فهل يعتبر فيه ما يعتبر في مستند الحاكم من الشرائط أم لا.

بيانه : انه يعتبر في البينة التي هي ميزان للحاكم أمور اتفاقية وأمور خلافية ، ومن الأول أن تكون البينة القائمة على الحق حيا عند تحرير الدعوى ، فلا يجوز له الحكم بمقتضى البينة التي ماتت قبل المرافعة وأن لا يكون إقامة الشهادة منهم قبل سؤال الحاكم وغير ذلك من الشروط الاتية ، ومن الثاني أن لا يطرأ الفسق ما بين الإقامة والحكم ، فلو فسق بعدها لم يحكم بسببها على الخلاف الاتي إنشاء اللّه. وحينئذ فلا بد من التأمل في أن هذه الشروط هل هي معتبرة فيها على القول بعدم الحاجة الى حكم الحاكم أيضا أم لا.

والثمرة بينهما واضحة : فعلى الأول لا يجوز ترتيب آثار البينة التي أقامت الشهادة قبل سؤال السامع المرتب ، وكذا إذا كانا ميتين ، فإنه إذا لم يكن قد رتب الاثار حين سماعها ما لم يكن له الترتيب بعد الممات على هذا التقدير ، وهكذا الى سائر الشرائط. وعلى الثاني يجوز ترتيب الاثار بمجرد قيام البينة على أي وجه كان ، ولا ريب أن مقتضى إطلاق أدلة البينة عدم مراعاة تلك الشروط رأسا.

ومثل هذا القول هو النظر إلى إطلاق أدلتها ، فلا بد لمن يقول به أن يلتزم بحجيتها مطلقا ، وحينئذ فيشكل الأمر في كثير من فروعات هذا القول ، مثل ما إذا علم الحاكم بالبينة وماتت قبل المرافعة ، فإنه بمقتضى ما اتفقوا عليه ظاهرا

ص: 168

من عدم جواز الحكم بالبينة السابقة أن يكون وظيفة الحاكم حينئذ إحلاف المنكر الذي علم بقيام البينة على اشتغال ذمته. ومقتضى القول بحجية البينة مطلقا من غير انضمام الحكم اليه أن يجوز له ترتيب آثار الاشتغال ، وهذا أيضا مما يفصح بفساد القول المزبور - الى غير ذلك مما يتفرع عليه من غوامض المسائل ومشكلات الفروع.

( الثاني ) ان الفتوى في الشبهات الحكمية مثل الإقرار في الشبهات الموضوعية ، فكما أن الإقرار حجة قبل لحوق الحكم كذلك الفتوى في المرافعات التي منشأها الاشتباه في الحكم الشرعي ، بمعنى أن ما عند كل شخص من المدعي وغيره من الفتوى أو الاجتهاد يجوز له العمل سرا وترتيب آثاره باطنا من غير ترقب صدور الحكم على طبقه. وهذا من فروع ما أشرنا إليه في مسألة النقض.

( الثالث ) ان فائدة الإقرار في المال قد تتوقف على اعمال بعض الأصول العملية كما لو أقر بدين في الماضي ، أو اعمال بعض الأصول اللفظية كما لو أقر بلفظ محتمل لخلاف المقصود وظاهر فيه.

ولا إشكال في أن الحاكم يجري الأصلين ويأخذه بإقراره حالا في الأول وعلى حسب ما يقتضيه ظاهر لفظ الإقرار في الثاني. وأما غير الحاكم ففي الاقتصار على الإلزام به من غير أعمال الأصل مطلقا فيلزمه بدين الماضي في الماضي إذا كان هناك فائدة مترتبة على الاشتغال في الماضي دون الحال في الأول ، وبالقدر المتيقن من مدلول لفظ الإقرار لو كان هناك قدر متيقن يترتب على الإلزام به فائدة في الثاني ، أو الإلزام مع اعمال الأصل مطلقا ، أو التفصيل بين الأصل العملي فالأول واللفظ فالثاني ، وجوه :

« وجه الأول » - ان البينة أقوى الطرق الشرعية ، ولذا لا يعارضها شي ء منها ، وبعد ما عرفت أنها ليست حجة إذا تضمنت حقا على الغير الا للحاكم فما عداها

ص: 169

بطريق أولى ، بل الوجه المذكور في عدم حجيتها بعينه يجري في غيرها.

والحاصل ان الطرق الشرعية غير الإقرار الذي فائدته الإلزام خاصة كما ظهر ملغاة في إثبات الحق على الغير الا للحاكم ، لما استفدنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم سوى الإقرار ، فإذا لم ينهض الإقرار بإثبات الحق الا بضميمة غيره من سائر الطرق كان العمل به أيضا من خصائص المجتهد ، لان المستند إليه حينئذ حقيقة هو ذلك الطريق دون الإقرار بنفسه.

« ووجه الثاني » - أنه فرق بين الأصول وسائر الطرق التعبدية ، لأن العمل بالأصول أمر مركوز في أذهان العقلاء ، وتعبد الشرع بها يرجع الى نحو من الإمضاء ، وبعد ملاحظة بنائهم على العمل بها يكون الإقرار بالماضي مثلا إقرارا بالحال وبالظاهر إقرارا بالنص ، فيلزم بهما بمقتضى قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

« ووجه الثالث » - أن الأصول العملية لو سلم كون العمل بها مركوزا في أذهان العقلاء فليست محققة لموضوع الإقرار بما يقتضيها ، بل انما هي سبب آخر للإلزام بالحق في عرض الإقرار ، فالإقرار سبب للإلزام في نفسه والأصل المسبوق به سبب آخر له عند العقلاء من غير أن يرجع الى الإقرار بحيث يندرج تحت اسمه.

كيف والمفروض أن المنكر غير معترف باشتغال ذمته الفعلي ، ومع عدم الاعتراف به كيف يصدق عليه أنه مقر وان كان عدم اعترافه غير مسموع عند العقلاء بل محجوجا عليه بالاستصحاب.

وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها محققة لموضوع الإقرار ، فإن مجاري الإخبارات على الظواهر اللفظية ، فليس الإلزام بما يقتضيه ظاهر اللفظ إلزاما بشي ء آخر غير الإقرار حتى يندرج تحت الأصل الذي أصلنا من عدم نهوض

ص: 170

الطرق الواقعية في إثبات الحق سوى الإقرار.

وقد يناقش فيه : بأن قضية قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » الإلزام بما علم أنه أقر به ، وأما الإلزام بما ظن أنه أقر به فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كما قلنا نظير ذلك في رد من تمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر الكتاب والسنة ، فان كان ذلك الدليل هو بناء العقلاء ، فيرد عليه حينئذ ما أشرنا إليه في تأسيس الأصل المزبور من أن أدلة القضاء مخصصة للظنون المعتبرة بغير ما تضمنت حقا على الغير ، لأنه لا يترتب على بناء العقلاء على العمل بالظن اللفظي سوى حجيته في غير مقام إثبات حق على الغير بالنسبة إلى خصوص الاثار الراجعة إلى ثبوت الحق من حيث أنه حق لأمن حيثيات أخرى راجعة إلى تكليف الشخص كما مر.

الا أن يقال : ان الإقرار يشمل القسمين القطعي والظني ، فالدليل على الإلزام بمقتضى الإقرار الظني أيضا هو قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ، ويستند في شموله للقسمين الى بناء العقلاء ، على أن الاخبار بلفظ ظاهر في ثبوت الحق إقرار به.

وليس المقام نظير التمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر القرآن ، لان ظواهر القرآن ان لم يثبت حجيتها فلا ينفع فيها حديث الثقلين ، وان ثبتت حجيتها ببناء العقلاء استغني عن الحديث بل لا يبقى له معنى سوى الإرشاد مثل أوامر الإطاعة. بخلاف ما نحن فيه ، لأنه بعد ثبوت حجية الظواهر يتحقق موضوع الإقرار. وأما جواز الإلزام به بعد الصدق فنحتاج فيه أيضا الى أدلة الإقرار ، لما عرفت من أن أدلة حجية الطرق لا تنفع في المقام سوى دليل الإقرار ، فنحن نثبت أولا صدق الإقرار على ما يدل عليه ظاهر لفظ الإقرار لبناء العقلاء على حجية الظواهر ثمَّ نستدل على نفوذه بأدلة الإقرار - فافهم.

ص: 171

( الرابع ) هل يجوز الحكم بعد الإقرار قبل التماس المدعي أم لا ، ومبنى المسألة أحد أمور :

الأول - انه لو قلنا بكون الحكم حقا للمدعي لم يجوز قبل مطالبته كما أشار إليه المحقق ، وان قلنا انه تكليف محض على الحاكم يرجع الى نحو الأمر بالمعروف ، وان لم يكن منه حقيقة فيجوز.

وانما قيدنا التكليف بكونه محضا لأنه لو كان فيه جهة الحقيقة أيضا توقف على مطالبة صاحب الحق أيضا. ومن هنا يعلم ضعف هذا المبنى ، لان الظاهر عدم كونه تكليفا محضا للحاكم وان لم يكن حقا محضا أيضا ، نظرا الى كون إحقاق الحق وكذا رفع الظلم عن الشخص واجبا شرعا مع توقفه على رضى المظلوم.

الثاني - انه لا شبهة في كونه حقا ، وانما الكلام في أن حقيته انما يتحقق بعد الالتماس ، كوجوب إقامة الشهادة واستحباب إجابة المؤمن فإنهما مأتيان بعد السؤال ، أو أنه حق قبل الالتماس أيضا. فعلى الأول لا يجوز أي لا يترتب عليه الأثر ، وعلى الثاني يجوز لان كونه حقا لا يقضي بعدم جواز أدائه قبل المطالبة ، كما في الدين فإن أداءه جائز طالب الدائن أم لا.

الثالث - انه لا إشكال في أنه حق مطلقا ، ولكن الإشكال في أنه من الحقوق التي تأخيرها أيضا حق لأربابها ، كالدين المؤجل على أقوى الوجهين ، لأن الدائن له الامتناع عن أخذ الدين وإبقاءه في ذمة المديون قبل بلوغ الأجل ، مع احتمال أن يكون التأجيل محض الترفيه لحال المديون فلا يكون للدائن الامتناع أم لا. فعلى الأول لا يجوز ، لا حقيقة الشي ء إذا كانت بيد ذي الحق فعلا وتركا لم يجز أداؤه قبل المطالبة ، وإلا جاز وان لم يجز مع المنع لان كون الشي ء حقا لا يقضى بتوقف أدائه على المطالبة مطلقا ، لأن الإذن النوعي الموجود

ص: 172

في نوع ذوي الحقوق يكفي في المطالبة ، نعم إذا منع كان ذلك في حكم الاسقاط عن الحكم - فتأمل.

الرابع - انه لا إشكال في كونه من الحقوق التي فعلها حق وتركها أيضا حق ، وأنه يتوقف على رضاء صاحب الحق ومطالبته ، وانما الكلام في اكتفاء شهادة الحال في الاذن والمطالبة وعدمه أو في وجود شهادة الحال وعدمها ، وأوجه الأمور ثالثها.

التقاط ( في دعوى المدعى عليه الإعسار )

قال في الشرائع بعد ذكر أقسام الجواب وبعض ما يجري في مجلس المرافعة وأحكامها : ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله ، فان استبان فقره أنظره ، وفي تسليمه الى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان ، أشهرهما الانظار حتى يوسر ، وهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلس.

وفي هذه العبارة إجمال وإغلاق ، لأن المراد بكشف الحال يحتمل أن يكون الكشف الشرعي بمطالبة البينة أو الإقرار وأن يكون الكشف الحقيقي بالفحص والتجسس من المطلعين على حقيقة الحال.

وعلى الأول يكون المراد بعدم تبين الحال الذي يدل عليه قوله أخيرا « وهل يحبس حتى يتبين الحال » عدم البينة والإقرار ، وبالتفصيل المذكور في باب المفلس ما ذكره هناك من الحبس مع وجود مال ظاهر بيده وعدم الحبس مع عدم وجوده.

وعلى الثاني يكون المراد بعدم تبين الحال عدم انكشاف الحال بالفحص

ص: 173

وبالتفصيل المزبور هناك في قواعد القضاء من مطالبة البينة والاستحلاف وغير هما مما ذكره هناك.

وظاهر عبارة المسالك ينطبق على الأخير كما يظهر للمتأمل ، كما أن عبارة الفاضل في القواعد صريحة أيضا في ذلك ، حيث فرض البحث مع جهل الحال بعد فقد البينة والإقرار ، فإن البحث بعد فقد هما لا معنى له سوى الانكشاف الحقيقي. وحينئذ فيشكل على عبارة الشرائع هذه ، حيث أوجب أولا كشف الحال بالفحص ثمَّ استعمال البينة وسائر موازين القضاء ، إذ ليس في الدعاوي ما يكون حاله كذلك ، بأن يوقف الاستحلاف أو طلب البينة حتى يتفحص الحاكم عن حقيقة الحال. الا أن يقال : ان الإعسار من الموضوعات التي يتوقف استعمال الأصل فيها حتى يتفحص - فتأمل.

ثمَّ أن في العبارة إجمالا آخر ، من حيث أنه لم يعلم أن مفروض الكلام دعوى الإعسار قبل الحكم بعد ثبوت الحق أو بعد الحكم ، وان كان ظاهر المسالك هو الأخير - فراجع وتأمل.

[ هل يحتاج في إثبات الإعسار إلى اليمين؟ ]

ثمَّ ان مسألة دعوى الإعسار كلمات الأصحاب فيها مضطربة من حيث الاحتياج الى اليمين بعد إقامة البينة وعدمه ، ففي الشرائع في باب المفلس : ان المعسر إن أقام البينة على تلف المال الذي كان بيده لم يحتج الى اليمين ، وان أقامها على مطلق الإعسار فللغرماء إحلافه. وفي موضع من محكي التذكرة عكس ذلك ، وفي موضع آخر منه أنه لا يمين في الموضعين.

ولنكشف الحال في المسألة بعد ذكر مقدمة يتبين بها المدعي من المنكر في مسألة الإعسار :

ص: 174

اعلم أن الإعسار أمر وجودي ينشأ دائما من عدم المال ، لأنه عبارة عن نحو ضيق في المعيشة وسوء حال في المعاش ، نظير الفقر والفاقة ، فان الفقر عبارة عن الاحتياج الذي هو أمر وجودي ، ومنشؤه عدم المكنة والثروة وفقدان المال.

ودعوى أن مفهوم العسر عين ذلك المفهوم العدمي - أعني عدم المال - شطط من الكلام يعرف وجهة من ملاحظة افتراقهما كثيرا ، فإن الإنسان قد يكون في سعة من أمر معاشه مع فقدانه المال رأسا ، كواجبي النفقة مثل الولد والزوجة بل العبد أيضا إذا كان متنعما بأنواع النعم ، فإن هؤلاء كثيرا ما لا يكونون في العسر والضيق ، سواء كان لهم مال يبذل فيما عليهم من الحقوق كالدين والجناية أم لا.

ودعوى أن هؤلاء إذا لم يستطيعوا أداء ما عليهم من الحقوق فيكونون أولي الإعسار بالنسبة إلى أداء الحق وان لم يكونوا كذلك بالنسبة إلى مئونة المعاش.

مدفوعة بأن مجرد ثبوت الحق في الذمة مع قطع النظر عن مطالبة صاحب الحق ووجوب أدائه شرعا ليس مما يصدق به الإعسار العرفي ، وكلامنا في تشخيص المعسر الذي يبحث عن جواز مطالبته وعدمه. وهذا الإعسار لا يعقل أن يكون تحققه بعد المطالبة ووجوب الأداء ، لأن الشي ء إذا كان مقدما على شي ء آخر في المرتبة امتنع أن يكون ذلك الشي ء المقدم من أحكام ذلك الشي ء المؤخر. وهنا لما فرضنا أن للمطالبة مدخلية في تحقق الإعسار كانت مقدمة عليه طبعا ، فيمتنع أن تكون من أحكامه وجودا وعدما.

والحاصل ان غرضنا تشخيص الإعسار الذي نتكلم في جواز المطالبة وعدمها معه وبيان مورد افتراقه عن ذلك المفهوم العدمي - أعني عدم المال - لا بيان مطلق الإعسار حتى ما يمتنع أن تكون المطالبة وجودا وعدما من أحكامه

ص: 175

كالاعسار الذي يتحقق موضوعه بعد المطالبة ، وهذا هو الذي لا يفارق عدم المال ، وأما الأول فقد عرفت مفارقته عنه.

فان قلت : الحكم هو جواز المطالبة وعدم الجواز لا نفس المطالبة ، فلا يمتنع عروضه للإعسار الذي يتوقف على المطالبة حرمة مطالبة المعسر مطلقا سواء كان معسرا بدون المطالبة أو بعدها.

قلت : نعم لكن ذلك أيضا لا يبطل ما ادعيناه من مفارقة عدم المال عن الإعسار ، لأنا نفرض من سمعت غير مطالب بدين أو حق ، فان العسر حينئذ غير متحقق مع عدم المال رأسا.

[ في مفهوم العسر ]

وكيف كان فلا شبهة في أن مفهوم العسر أمر وجودي لكن مع ملاحظة أمر عدمي ، وهو فقدان المكنة الموجودة في صورة اليسار التي يتحقق بسببها مفهومه.

توضيح ذلك : ان اللفظ قد يكون معناه وجوديا محضا وقد يكون عدميا كذلك وقد يكون أمرا وجوديا ملحوظا فيه معنى عدمي ، وذلك مثل لفظ « الحد » فإنه عبارة عن جزء وجودي لا يكون بعده جزء آخر ، ومثل « اللازم » فإنه عبارة عن أمر وجودي لا ينفك عن وجودي آخر ، ومثل « الإلزام » فإنه عبارة عن أمر وجودي وهو مرتبة خاصة من الطلب مع عدم الرضا بالترك ، ومثل « الحبس » فإنه عبارة عن كون الشخص في مكان بحيث لا يقدر على الكون في مكان آخر ، ومثل « الشرط » فإنه عبارة عن شي ء وجودي أو عدمي يلزم من عدمه عدم شي ء آخر - الى غير ذلك من الألفاظ الدالة على أمور وجودية مع ملاحظة أمر عدمي ، بحيث لو جرد ذلك الوجودي عن ملاحظة ذلك المعني العدمي كان إطلاق اللفظ عليه غلطا ويحتاج الى لفظ آخر.

ص: 176

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان العسر اسم لمرتبة من المكنة بملاحظة فقدانها للمكنة الموجودة في صورة اليسار ، لكن مناط الحكم الشرعي - وهو حرمة المطالبة - الظاهر هو ذلك المفهوم العدمي.

وحاصله : كون اليسار الذي هو عبارة عن مقابل ذلك العدمي شرطا لجواز المطالبة لا كون الإعسار مانعا ، وان كان ظاهرا صدر قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (1) ذلك ، لكن ذيلة ظاهر فيما قلناه ، أعني كون اليسار شرطا للمطالبة و عدم اليسار موضوعا لحرمة المطالبة دون العسر الذي هو الوجودي. توضيح ذلك : أن معنى الانظار هو الإمهال ، والإمهال أمر عدمي محض وقد علق وجوبه بمقتضى صدر الآية على العسر الذي قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه أمر عدمي.

وتعليق أمر عدمي على شي ء وجودي يدل على مانعيته للوجود ، كما في قوله عليه السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي ء » (2) فان أخذنا بظاهر الصدر لزم الحكم بأن العسر هو المانع عن المطالبة وأنه الموضوع للحكم الشرعي.

لكن لما كان ملاحظة عدم اليسار معتبرا في معنى العسر جاز أن يقال ان : تعليق الإمهال على العسر باعتبار كون ذلك المفهوم العدمي الذي هو لازمه سببا لعدم المطالبة وكون نقيضه الذي هو اليسار شرطا لجوازها.

وهذا الاحتمال في نفسه خلاف ظاهر الصدر ، لكن إذا نظرنا الى نفس الإنظار إلى حصول الميسرة فيتعين ذلك ، لأنه صريح في أن الميسرة شرط لجواز المطالبة شرعا كما أن القدرة شرط للتكليف عقلا ، فيكون سبب الحرمة عدم ذلك الشرط لا الأمر الوجودي المقارن له - أعني الإعسار.

ص: 177


1- سورة البقرة الآية 280.
2- الوسائل ج 1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 بلفظ « إذا كان الماء قدر كر... ».

ومما ذكرنا ظهر ما في كلام من زعم أن العسر مانع عن المطالبة ، وليس عدم المال والمكنة شرطا وسببا لحرمة المطالبة. ويتفرع على ذلك أن دعوى الإعسار مطابق للأصل ، لأنه في الحقيقة دعوى لأمر عدمي ، أعني عدم اليسار على الوجه الذي بينا. وعليه اتفقت كلمات الجل أو الكل ، حيث يعللون يمين المعسر بأنه منكر وبأن الإنسان خلق معسرا كما عن الشيخ.

نعم لو بنينا على أن العسر مانع وان حرمة المطالبة متفرع على ثبوت العسر لا أن جوازها مشروط باليسار كان مدعي الإعسار مدعيا مخالفا للأصل.

إذا تمهدت المقدمتان فالكلام في دعوى الإعسار يقع في مقامين : أحدهما دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ، والثاني دعواه فيما كان هناك مال سابقا أو كان أصل الدعوى مالا مثل القرض وثمن المتاع.

[ دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ]

( أما الأول ) فظاهر الجل كالمحقق والعلامة والشهيدين «رحمه اللّه» أنه لو أقام فيه على إعساره بينة خلي سبيله.

قال في الشرائع في باب المفلس : وان لم يكن له مال ظاهر - أي للمفلس - وادعى الإعسار فإن وجد البينة قضى بها وان عدمها وكان قبلا له أصل مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره ، وإذا شهدت البينة بتلف أمواله قضى بها ولم يكلف اليمين ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره ، أما لو شهدت بالإعسار مطلقا لم تقبل حتى تكون مطلعة على باطن أموره بالصحبة المؤكدة ، وللغرماء إحلافه دفعا للاحتمال الخفي ، ولو لم يعلم له أصل مال وادعى الإعسار قبلت دعواه ولا يكلف البينة وللغرماء مطالبته باليمين - انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره.

ص: 178

ودلالته بل صراحته في أن البينة يكتفى بها من مدعي الإعسار مطلقا حتى فيما لو لم يعلم أصل مال ، واضحة بشهادة ترك الاستفصال ، لأنه أطلق القضاء بالبينة مع وجودها ، وفصل في صورة عدمها بين المقامين في الحبس واليمين. وقريب منه عبارة القواعد.

وأما عبارة الشهيد في اللمعة فيمكن استفادته منها أيضا ، قال فيها : فان ادعى الإعسار وثبت صدقه فيه ببينة مطلعة على باطن أمره أو بتصديق خصمه له أو كان أصل الدعوى بغير مال وحلف ترك.

فان الترديد في عبارة المصنفين غالبا أو دائما محمول على منع الخلو ، وعلى هذا يكون مقتضاه أن صدق دعوى الإعسار يثبت بالبينة مطلقا ، سواء كان الدعوى بمال وهو المقام الثاني أو بغير مال كما هو المفروض في المقام الأول.

نعم لو حمل الترديد على منع الجمع لم يدل على كفاية البينة في المقام الأول بل يدل على عدم الكفاية. وأما عبارة الروضة وشرحها فصريحة في قبول البينة حينئذ ، بل بعدم الافتقار الى اليمين بالأولوية ، خلاف ما ذكره جماعة في صورة سبق المال أو كون الدعوى مالا من جواز إحلاف مدعي الإعسار مع إقامة البينة أيضا.

بل لعل ما صرح به في الروضة من عدم اليمين في المقام الأول مع إقامة البينة يمكن القول بأنه ظاهر الشرائع والقواعد وكل من أطلق القول بكفاية البينة في ثبوت الإعسار ، وحينئذ فيشكل المسألة من جهتين :

( إحداهما ) ان دعوى الإعسار في المقام الأول - أعني ما إذا لم يعلم له مال سابق ولم يكن أصل الدعوى مالا - ان كانت مطابقة للأصل كما قلنا فلا وجه للاقناع عنه بالبينة ، لأن المنكر لا يسمع منه البينة ، بمعنى أنه لا يكتفى بها ، وان كانت مخالفة للأصل فلا وجه للاكتفاء منه باليمين كما هو صريح الشرائع

ص: 179

وغيره ، لان المدعى لا ينفع له اليمين. فأما أن يقال : ان مدعى الإعسار في هذه الصورة مدعي لكن يطالب باليمين أيضا استظهارا - كما في غير موضع - أو يقال انه منكر ولكن تسمع منه البينة ، على خلاف القاعدة.

( وثانيتهما ) ان البينة على الإعسار في المقام الثاني قد صرح بعضهم كالمحقق بأنها لا تغني عن اليمين أيضا. والفرق بينه وبين المقام الأول غير واضح ، فلا بد لمن يرى جواز الإحلاف مع البينة في المقام الثاني القول بجوازه في المقام الأول أيضا.

ويمكن الجواب عن الإشكال الأول بوجوه :

« الأول » - المنع عن قبول البينة من مدعي الإعسار في المقام الأول ، فإن المصرح به قليل مع إمكان منع دلالة عبارة المحقق مع تصريحه بعدم مطالبة البينة حينئذ - فارجع وتأمل.

« والثاني » - ان دعوى الإعسار بعد ثبوت الحق مخالفة لأصالة الاشتغال المقتضية للبراءة ، فيكون مدعيها مدعيا ، لان الثابت في ذمته مأمور بالأداء ، فادعاء العسر حينئذ ادعاء للبراءة بعد ثبوت الاشتغال ، فيكون مخالفا للأصل. وفيه نظر واضح.

« والثالث » - ان الإعسار قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه العدم ، وكل شي ء يكون كذلك يمكن مطالبة البينة عليه باعتبار جزئه الوجودي واليمين باعتبار جزئه العدمي.

فإن قلت : مطالبة البينة على الجزء الوجودي بعد عدم كونه موضوعا للحكم الشرعي بل الموضوع هو ذلك الجزء العدمي لا وجه لها.

قلت : لما كان ذلك الجزء الوجودي مسببا عن ذلك الجزء العدمي كما عرفت كانت البينة عليه مثبتا لذلك العدم بالملازمة الانية.

ص: 180

وحاصل هذا الوجه أصل ، وهو أن المنكر إذا كان قوله ملزوما لأمر وجودي صح منه إقامة البينة ، وانما لم يصح منه ذلك في النفي المحض الذي ليس له أثر وجودي - فافهم.

( والرابع ) المنع من عدم سماع البينة من المنكر ، وانما الفرق بينه وبين المدعي أنه مطالب به بخلافه فإنه غير مطالب الا باليمين ، ولكن لو أقام البينة لنمنع عدم قبولها منه لعموم أدلتها.

فإن قلت : ظاهر قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) عدم سماع اليمين من المدعي والبينة من المنكر من وجهين : « أحدهما » التفصيل القاطع للشركة ، فلو كان المدعي والمنكر متشاركين في قبول البينة أو اليمين مطلقا أو في بعض الموارد كان التفصيل أو إطلاقه لغوا كما لا يخفى.

« وثانيهما » ان المسند إليه إذا كان محلى باللام أفاد حصره في الخبر ، سواء كان وصفا كقولك « الأمير زيد » أولا كقولك « الكرم في العرب » كما صرح أساطين علم العربية والبيان.

وقد ذكرنا في الأصول أن وجهه دلالة اللام حينئذ على ثبوت جنس المسند إليه في المسند ، وثبوت الجنس لشي ء بعد فرض كون المقام مقام البيان يستلزم ثبوت كل فرد ، وثبوت كل فرد في المسند يمنع من ثبوت بعض الافراد لغيره.

ويؤيده بل يدل عليه ما ورد في تقديم بينة الخارج وعدم قبولها من الذي في يده العين المتنازع فيها.

قلت : ما ذكرت من ظهور الرواية في الحصر المانع عن قبول البينة من المنكر مسلم ، لكنا نصرفها عن ظاهرها بقرينتين داخلية وخارجية :

ص: 181


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ، عدة احاديث بلفظ « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ».

( أما الأولى ) فهي ان الفقرة الأخيرة بعد ورودها عقيب الاولى - نظير الأمر الوارد عقيب الحظر - لا يفيد سوى الرخصة. توضيحه : ان مفاد كلمة الاستعلاء في الفقرتين ليس هو الحكم التكليفي كما لا يخفى ، لوضوح أن اقامة البينة على المدعي ليس بواجب عليه ، بل الحكم الوضعي ، وهو اشتراط تحقيق مقالة المدعي بإقامة البينة وتحقيق المنكر مقالته باليمين ، ولما كان إقامة البينة كلفة دلت الفقرة الأولى على اشتراط ثبوت قوله بها وعدم كفاية شي ء آخر. وأما اليمين فهي وان كانت في نفسها كلفة في مقابل عدمها لكنها في جنب إقامة البينة أمر هين.

ومن الواضح أن سبق مطالبة الأمر الأسهل من المنكر بعد ذكر مطالبة الأمر الأصعب من المدعي لا يكون مؤداه سوى الترفيه والرخصة كالأمر بعد الحظر أو توهمه ، لا عدم اجزاء الأمر الأصعب على تقدير تبرعه به كعدم أجزاء أمر اليمين من المدعي.

ومما يدل على أن اليمين ليست كلفة مع وضوح أن المدعي إذا أريد الترفيه بحاله لعسر إقامة البينة عليه أو لنكتة أخرى سمع قوله باليمين. والحاصل ان الاكتفاء باليمين حقيقة تصديق لقول المكتفى عنه من غير كلفة ، وأما مطالبة البينة فهو رد لقول المطالب منه حقيقة ، ولذا يقال ان القول قوله بيمينه لا بنيته.

ومن هنا علم أن عدم ذكر البينة مع اليمين مع تساويهما لأجل استهجان ذكر الأثقل مع الأخف ، كالتخيير بين الأقل والأكثر.

ثمَّ لا يذهب عليك أن ذلك لا يستلزم التخصيص في الفقرة الأولى ، لأن مفادها حينئذ حصر مطالبة جميع أفراد البينة في المدعي ، وهو باق على عمومه ، لا حصر كفاية جميع أفرادها فيه - فافهم.

نعم كل ما يكتفى فيه من المدعي باليمين فهو تخصيص في الفقرة الاولى ، وكل ما لا يكتفى فيه من المنكر فهو تخصيص في الفقرة الثانية ، والتخصيص

ص: 182

الأول كثير وأما التخصيص الثاني فهو في الدماء أيضا ثابت ، وذلك لان ظاهر الفقرتين حصر المدعى في البينة والمنكر في اليمين أيضا لعين ما ذكرنا في حصر البينة في المدعى.

وحاصله : ان المسند المحلى باللام أيضا يدل على العموم ولو كان للجنس في مقام البيان لقاعدة الحكمة ، فمفاد « البينة على المدعى » أن كل بينة على المدعى وكل مدع عليه البينة ، وكذا مفاد « اليمين على المنكر » ، فكل موضع لا يكتفى من المنكر باليمين بل يطالب منه البينة فهو تخصيص في الفقرة الأولى باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند اليه وفي الفقرة الثانية أيضا باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند.

وأما القرينة الخارجية فهي ما ورد في الدماء من « ان اللّه تعالى حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وفي دمائكم بأن اليمين على المدعي والبينة على المنكر محافظة للدماء » (1). وجه كونها قرينة : أن الإجماع قائم على كفاية البينة في دعوى الدم فكذا في الإنكار في غير الدماء ، لأن المغايرة بينهما انما هي في كون المدعي في الدماء بمنزلة المنكر في غيره ، فالحكم الثابت في دعوى الدماء ثابت في المنكر في غيرها.

وما ورد أيضا من أن اللّه تعالى أوحى الى نبي من أنبيائه أن احكم بين الناس. فقال : يا رب كيف أحكم بما لم يره عيني ولا سمعت أذني؟ فقال : أحكم بالبينات وأضفهم إلى اسمي. قال المعصوم عليه السلام : هذا لمن لم يكن له بينة (2). بناء على كون المراد بالموصول المنكر دون المدعي.

ص: 183


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 3 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وما رواه أيضا في العيون في باب العلل من تعليل يمين المنكر بأنه جاحد لا يستطيع على إقامة البينة على الجحود (1). فإنه يدل على أن تعيين اليمين للمنكر مبني على الرخصة والترفيه وأنه لو استطاع على إقامة البينة - بأن كان إنكاره متضمنا لأمر وجودي قابل لا قامتها عليه - سمع منه ، الا أن الرواية وردت في إبداء الحكمة ، ولكنه لا يخلو عن نحو تأييد لما قلنا.

وأما رواية منصور (2) الواردة في تقديم بينة الخارج والمصرحة بعدم قبول البينة من الذي في يده العين - أعني المنكر - فلا تنهض في منع قبولها في غير صورة المعارضة الذي كلامنا فيه ، لان البحث في أن المنكر هل يسمع منه البينة وهل تكون بينته مغنية عن يمين أم لا مع قطع النظر عن صورة التعارض؟ فيمكن الالتزام بمضمون الرواية في صورة المعارضة وجعلها دليلا على ترجيح بينة الخارج حتى يكون دليلا على المطلوب ، لان الترجيح فرع كون الطرف المقابل حجة.

ومن هنا يظهر سقوط ما أورده الفاضل في كشف اللثام على ما في القواعد حيث جمع العلامة فيها بين ترجيح بينة الخارج وبين سماع البينة من ذي اليد في صورة عدم المعارضة ، إذ لا منافاة بين عدم القبول في صورة التعارض لرجحان معارضة ذاتا وبين القول بحجيته بدون التعارض كما لا يخفى.

( الخامس ) ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية ومدخليته في الحكم ، فيستفاد من قوله « اليمين على المنكر » أنه من حيث إنكاره وجحوده لا يطالب ولا يسمع منه سوى اليمين ، فلو كان منكر يتضمن قوله ادعاء أمر وجودي مستلزم عقلا أو عادة لصدق إنكاره - كما في المقام وكما في صورة الاختلاف في وجه

ص: 184


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

الإجارة بأن قال الموجر آجرتك بعشرة وقال المستأجر بل بخمسة - فلا يستفاد منه عدم قبول البينة منه من حيث ادعائه لذلك الأمر الوجودي.

ودعوى أنه إذا اشتمل الإنكار على ادعاء أمر وجودي كان المنكر مدعيا من جهة وان كان منكرا من جهة إنكاره. مدفوعة بأن مجرد تضمن الإنكار لادعاء أمر وجودي لا يجعله مدعيا ، ولذا لا يحكم في مثله بالتحالف فلا يطالب اليمين في مسألة الاختلاف في وجه الإجارة الا من المستأجر ، على ما صرح به في المسالك ناسبا له الى المشهور ناقلا لخلاف الشيخ وقوله بالتحالف.

[ مواضع تقبل فيها بينة المنكر ]

وقد صرح غير واحد بقبول البينة من المنكر في مواضع :

« منها » - ما ذكروه في دعوى تلف المغصوب حيث حكموا فيه بسماع قول المدعي - أعني الغاصب - حذرا من لزوم تخليد الحبس والعقوبة.

وأورد عليه بالنقض فيما إذا أقام المنكر - أعني المالك - البينة على البقاء ، فلو لا إقامة البينة من المنكر الذي يقتدر على إقامتها باعتبار اشتمال مقالته على أمر وجودي كان النقض ساقطا غير صالح للإلزام على القوم.

« ومنها » - مسألة الاختلاف في وجه الإجارة المشار إليها ، فإن هذه أيضا مما صرح به في المسالك مرسلا له إرسال الواضحات.

والحاصل : ان مواضع سماع البينة من المنكر في كلمات القوم تصريحا وتلويحا كثيرة. نعم كثيرا ما يصرحون بعدم السماع أيضا في مسائل مخصوصة وعلى وجه الكلية أيضا ، كما صرح به المحقق في الشرائع والفاضل في كشف اللثام والسيد في محكي الرياض. لكن القدر الجامع بين الكلمات والأدلة يمكن أن يكون ما ذكرنا من التفصيل بين صور الإنكار والقبول فيما يتضمن منه

ص: 185

لادعاء أمر وجودي مسبب عن أمر عدمي. وعليك بالتأمل والنظر في كلماتهم.

لكن هذا التفصيل أيضا غير منضبط ، لان القول بسماع البينة من المنكر في كل مقام يتضمن إنكاره لأمر وجودي ولو بالاستلزام أيضا مشكل. مثلا لو أقام البينة على موت مورث مدعي الدين قبل تاريخ التمسك الذي تمسك به في دعوى الدين من جانب مورثه أشكل سماع بينته.

الا أن يقال : ان الميزان هو أن يكون الإثبات الذي يقيم عليه البينة متعلقا لغرض المنكر بالذات ، كإقامة المالك البينة على بقاء المغصوب ، فيخرج مثل إقامة البينة على موت المورث قبل تاريخ التمسك ، فان موته ليس متعلقا لغرضه بالذات بل باعتبار استلزامه لعدم اشتغال ذمته بالدين.

وهو أيضا مشكل ، لأن إقامة المستأجر البينة على قدر ما يدعيه من الأجرة أيضا إقامة لها على غير المقصود بالذات ، لان الغرض منها نفي ما يدعيه الموجر من الزيادة. وكيف كان فالنظر في الأدلة لا يبعد مساعدته على سماع البينة من المنكر إذا كان إنكاره مستلزما لأمر وجودي يكون متعلق غرضه ، وأما مساعدة كلمات العلماء لجميع جزئيات هذا الميزان فلا نلتزم به ولا نقول به.

[ سماع البينة من المنكر على ما ينفعه ]

ثمَّ ان المحقق القمي في محكي جواب سؤاله اختار ما قويناه من سماع البينة من المنكر حيث يقيمها على ما ينفعه ويحقق مقالته ، واستدل عليه بعد تزييف دلالة « البينة على المدعي واليمين على أنكر » على عدم السماع بقاعدة كون التفصيل قاطعا للشركة بما حاصله : ان التفصيل انما هو في الأمر الواجب على المتخاصمين دون الكافي ، فالمدعي والمنكر ممتازان في أن الأول يجب عليه إقامة البينة والثاني لا يجب الا اليمين ، بأمور :

ص: 186

« منها » - ما ورد فيمن ادعى على الباقر عليه السلام بغلة اشتراها من شخص فصدقه وسلمه البغلة ، ثمَّ ادعى سرجها أيضا فكذبه وقال «عليه السلام» : ان لي بينة على أن السرج لي (1). فإنه عليه السلام كان ذا يد على السرج ومع ذلك استند في كون السرج ماله إلى البينة.

ودلالته وان كانت محل مناقشة ، لأنه عليه السلام لم يكن معه في مقام المرافعة والخصومة بل في مقام بيان الواقع ، لكنه لا يخلو عن تأييد لما قلنا.

« ومنها » - قول أمير المؤمنين عليه السلام حين طالب منه أبو بكر البينة على ملكية فدك : حكمت بخلاف ما حكم به رسول اللّه «صلی الله علیه و آله و سلم» من ان البينة على المدعى واليمين على من أنكر ، لم تطالب البينة مني ولا تطالبها من المسلمين (2).

فان جوابه عليه السلام يشعر أو يدل على قبول البينة من المنكر ، والا كان عليه أن يقول لم تطالبني البينة مع أن المنكر لا يسمع منه البينة. وحاصله الى تقريره عليه السلام له على مطالبة البينة من حيث اشتمالها على فائدة له وردعه في تعيين المطالبة منه لا من المسلمين.

ومنه يندفع ما قد يتوهم من دلالة قوله عليه السلام « بخلاف ما حكم به رسول اللّه » على خلاف المقصود وان البينة من المنكر خلاف حكم رسول اللّه «صلی الله علیه و آله و سلم» . وجه الاندفاع : ان المخالفة اما هي في المطالبة والتقرير انما هو في إفادة البينة فائدة في حق المنكر - فافهم.

ثمَّ ان كونه عليه السلام منكرا في ملكية فدك اما باعتبار كونها في يده أو باعتبار ما تقتضيه قواعد الميراث. ثمَّ ان دلالته أيضا خفية أو ممنوعة ، كما يظهر بالتأمل من وجوه ، لكنه لا تخلو عن نحو تأييد أيضا.

ص: 187


1- الوسائل.
2- الوسائل

« ومنها » - ادعاء صاحب المهذب البارع الإجماع على أنه إذا تنازع اثنان في عين تحت يد هما قضى لمن كان له بينة إذا لم يقم صاحب البينة.

وأنت بعد الإحاطة بما قدمنا وبكلمات الأصحاب كالمحقق والفاضل الأصفهاني وصاحب الرياض المصرحين بعدم القبول والشهيد المتأمل في ذلك في الدروس وغيرهم تعرف ما في هذا الإجماع.

وأما ما ذكره في تزييف دلالة التفصيل على قطع الشركة وتبعه بعض مشايخنا ، ففيه ما لا يخفى ، لان قبول البينة من المنكر ينافي إيجاب اليمين عليه ، لأنه أحد فردي الواجب المخير.

ودعوى كون البينة مسقطة وان التكليف تعلق باليمين خاصة كما يقال مثل ذلك في بعض المقدمات. شطط من القول هنا ، لان اليمين والبينة ليس شي ء منهما تكليفا بل كل منهما مسقط محض.

وأما الإشكال الثاني فنقول في حسمه : تارة بعدم الفرق بين المقامين ، فمن يرى الإحلاف في بعض صور المقام الثاني الذي تأتي الإشارة إليه يلزمه القول به في المقام الأول في تلك الصورة أيضا. وأخرى بإمكان الفرق بينهما ، وهو أن البينة القائمة على الإعسار في المقام الأول - أعني غير المسبوق بالمال - لا بد أن تكون وافية بتمام المدعى ، بأن تكون نافية للاحتمال الخفي الذي علل بدفعه اليمين في المقام الثاني.

وأما البينة القائمة على الإعسار في المسبوق بالمال فستعرف أنها قد تكون وافية رافعة للاحتمال الخفي ، فيستغني عن اليمين حينئذ مثل الأول كما سنذكره ، وان تكون غير وافية محتاجة في تماميتها الى اليمين. فالبينة التي تحتاج الى اليمين لما كانت مختصة بالمقام الثاني - كما سنذكر - اختص اليمين به أيضا ، بخلاف المقام الأول فإن مثل هذه البينة لما لم تسمع في المقام الأول استغني

ص: 188

عن اليمين ، فالفرق بين المقامين انما جاء من قبل الفرق بين بينهما لأمن أنفسهما.

وانما لم تسمع البينة الغير الوافية في المقام الأول لأنه لا يلزم من عدم سماعها محذور ، إذ المنكر - أعني مدعي الإعسار في المقام الأول - ان شاء أن يستريح عن اليمين فعليه إقامة البينة الوافية وان عسر عليه إقامتها فيستريح الى اليمين ، إذ لا يطالب منه أزيد منها. بخلاف المقام الثاني الذي فرضنا كون مدعي الإعسار فيه مدعيا ، فان وظيفته ليس اليمين لكونه مدعيا ، فلو كلف بالبينة التامة لزم تخليد الحبس إذا عدمها ، فيقنع عنها بالبينة الغير الرافعية للاحتمال الخفي وينجبر ضعفه باليمين - فتأمل وانتظر تمام الكلام.

ثمَّ ان البينة المعتبرة في المقام الأول يعتبر فيها الخبرة والاطلاع التام بحال المدعى ، فان شهدت بالإعسار اعتمادا على الأصل لم تقبل وان قبل مثلها في غير المقام ، لأن الشهادة المستندة إلى الأصل انما تعتبر حيث تعتبر إذا لم يكن نسبة الأصل الذي استند اليه الشاهد الى الجميع سواء والا فلا معنى لقبول مثلها ، فاذا كانت الحالة السابقة في شي ء معلومة لكل أحد وشهد شاهد على طبقها بمقتضى الاستصحاب لم تنفع شهادته جدا ، فلو شهدت في المقام بالإعسار باعتبار كونه مطابقا للاستصحاب لم ينفع وانما ينفع لو كانت شهادته مستندة الى ما هو من خصائصه كالخبرة والاطلاع التأمين بحال المدعي. ومن هنا اعتبروا في بينة الإعسار الخبرة والاطلاع على بواطن الأمر.

فظهر أن البينة في المقام الأول على ثلاثة أقسام لاغية ومغنية عن اليمين وغير مغنية ، والاولى ما كانت مستندة الى الأصل ، والثانية ما كانت نافية للاحتمال الخفي ، والثالثة ما يبقى معه الاحتمال. وهذه قد عرفت الحال فيها وأنها لو لم تقبل في هذا المقام لم يكن بعيدا.

ص: 189

ثمَّ لو شك في كون البينة من الأولى أو الثانية فالكلام فيه مثل الكلام فيما احتمل استناد الشهادة إلى الحدس ، وقد مضى حكمه فيما تقدم.

[ الصور المختلفة في الشهادة على الإعسار ]

( وأما المقام الثاني ) فتفصيل القول فيه : ان دعوى الإعسار اما أن تكون مع العلم بسبق اليسار أو بسبق مال مخصوص واف بالدعوى كلا أو بعضا ، كما إذا كان أصل الدعوى مالا مثل ثمن المبيع أو القرض أو نحوهما مما يتضمن العلم بسبق مال معين باعتراف الخصمين. وعلى التقديرين فاما أن تشهد البينة على الإعسار أو على تلف المال أو الأموال.

ثمَّ ان الشهادة على كل من الإعسار أو تلف الأموال : قد تكون على وجه ينفي احتمال المال الخفي ، كما إذا شهدت على ارتداد مدعي الإعسار أو صلحه عن جميع أمواله شخصا أو بيعه أو نحو ذلك مما يستلزم عدم المال رأسا سرا وعلانية ، وقد تكون على وجه يبقى معه احتمال بقاء بعض الأموال السابقة أو تجدد مال آخر ، كما إذا شهدت بعد الخلطة التامة على تلف جميع أمواله الظاهرة بغرق أو حرق أو نحوهما ، فالصور ثمان :

( الاولى ) ما إذا شهدت على الإعسار مع العلم بسبق اليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي.

وهذه لا إشكال في قبولها مجردا عن اليمين ، ولا يظن شمول كلمات من قال بالإحلاف مع البينة كالمحقق لمثل هذه الصورة ، خصوصا مع عدم مجي ء ما علل به من نفي الاحتمال الخفي فيها كما لا يخفى.

( الثانية ) مثل الصورة مع كون الشهادة غير نافية لاحتمال البقاء ، كما إذا شهدت بالعسر والضيق اللائقين بحال الفاقدين ، لا بما يلزم عقلا أو شرعا أو عادة

ص: 190

لفقدان المال ، فان الضيق قد يجامع المال الواقعي وان كان منشؤه غالبا عدمه.

وهذه مورد الإشكال الذي اضطرب فيه كلام بعض من تصدى لدفعه. وجه الاشكال : ان مدعي الإعسار في هذه الصورة مدع ، والمدعي لا ينفع يمينه سواء كانت بينته وافية بالمقصود أم لا ، غاية الأمر أنه إذا لم تكن وافية قضى لصاحبه بعد الحلف.

ولو قيل : ان المدعي فيما يعسر فيه اقامة البينة يكلف باليمين والمقام منه لان عدم المال الواقعي مما يعسر عليه إقامة البينة نوعا ولو كان مسبوقا باليسار ، لأن غاية ما يمكن أن يعلم به الشاهد هو تلف أمواله الظاهرة ، وهو غير مناف لبقاء شي ء من الأموال أو تجدد مال جديد مخفي ، فصار المقام ما يعسر فيه اقامة البينة نوعا ، فيكتفى فيه باليمين.

قيل : ان عسر إقامة البينة نوعا يوجب العدول الى اليمين رأسا ، وليس المقام كذلك ، لأنهم لا يقولون بحلف مدعي الإعسار إذا لم يكن له بينة وانما يقولون به معها ، فان كان المقام من موارد العسر لم يحتج إلى البينة والا لم ينفع اليمين أيضا ، فالجمع بينهما مما لا يساعده شي ء من القواعد.

وتفصى بعض مشايخنا قدس سره عن الاشكال ووجه الجمع بينهما ، بأنه قبل إقامة البينة الناقضة مدعي ضعيف الجانب ، فلا يكتفي منه باليمين بل عليه البينة ، وبعد إقامة البينة الناقصة يقوى جانبه نحو قوة جانب المنكر الذي اكتفي منه باليمين لقوة جانبه ، فيكلف باليمين كسائر الموارد التي يحلف المدعي لقوة جانبه باعتبار مساعدة الظاهر له ، مثل مدعي الإنفاق على الزوجة مع التيام الأخلاق ، وانما لم يقنع منه بتلك البينة القائمة لعدم وفائها بالمقصود وهو العسر الواقعي وعدم المال النفس الأمري. هذا غاية ما يحسن في توجيه كلامه.

وفيه بعد ونظر من وجوه :

ص: 191

الأول - ان اليمين لا يدور مدار قوة الجانب ولو حصلت من الظهور مطلقا في مقابل الأصل. كيف وتقديم قول من يدعي على طبق الظاهر معدود محصور ثبت الحكم فيها بالأدلة الخاصة.

والثاني - انه على تقدير اعتبار الظهور مطلقا في سقوط البينة والإقناع باليمين فالمعتبر انما هو الظهور النوعي الداخلي لا الظهور الشخصي مطلقا ولا الظهور الخارجي مطلقا ، بأن يكون مستنده بعض الامارات الخارجية الغير المعتبرة ، كقول عدل أو عدلين غير ناهض بالمقصود ، وإلا لزم القول بحلف المدعي إذا كان له شاهد واحد ، وهو كما ترى.

والحاصل ان الظهور قد يكون حاصلا من الأمور الداخلية كدعوى إنفاق الزوج على الزوجة مع التيام الأخلاق ودعوى الزوجة الدخول مع الخلوة وسلامة الرجل من العيب ونحوهما مما يظهر فيه صدق المدعي في نفسه مع قطع النظر عن معاضدة أمارة خارجية ، وقد يكون خارجيا حاصلا من ملاحظة أمر خارج ، والمعتبر على القول بدوران الحلف مدار الظهور دون الأصل هو الأول دون الثاني.

والثالث - ان التقوية تحصيل في المقام الأول أيضا ، مع أن القائل باليمين في المقام الثاني لا يقول به في المقام الأول كما عرفته.

والذي يمكن أن يوجه به الجمع بين البينة واليمين هنا وترفع الاشكال هو أن يقال : ان عسر إقامة البينة باب في الفقه ، لسقوط البينة من المدعي شرطا أو شطرا أو رأسا ، بحسب اختلاف المقامات كما أومأنا إليه في بعض الالتقاطات السابقة. فقد يوجب سقوط بعض شرائطها كالذكورية كما في الموارد التي يكتفى فيها بشهادة النسوان ، وكالعدالة كما في موارد الاستفاضة ، وكالعلم كما في مواضع

ص: 192

قبول الشهادة الظنية مثل العدالة ونحوها ، وقد يوجب سقوط أصلها كما في الموارد التي يقدم قول المدعي فيها بيمينه.

وما نحن فيه من قبيل الأخير ، فان اقامة البينة على عدم المال الواقعي المخفي لما كان عسرا عدل عنه في مقدار العسر الى اليمين ، وانما لم يعدل عنها إليها رأسا لا إقامتها على عدم الأموال الظاهرية وعلى الضيق والشدة ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال هذا المقدار من الميسور بالمعسور.

فنقول : ان مطالبة البينة لأجل إثبات ما يسهل إثباته من الضيق الكاشف عن عدم الأموال الظاهرة ومطالبة اليمين لأجل إثبات ما يصعب إثباته من عدم المال الباطني ، وهذا نظير موارد جريان قاعدة الميسور في العبادات ، فكما أن قاعدة الميسور قاضية بإهمال بعض أجزاء العبادات وشروطها المعسورة مع مراعاة الميسور كذلك قاعدة عسر إقامة البينة قاضية بإهمال القدر المعسور من مراعاتها شرطا أو شطرا.

ومن جملة الشروط أو الشطور وفاؤها بالمدعى بنفي الاحتمال الخفي ، فحيث لم تكن وافية فلينظر : فان كان في مراعاة الوفاء عسر عدل في التوفية إلى اليمين كما يعدل إليها لو كان العسر في أصل إقامتها.

ومنه يظهر وجه عدم العدول إليها مع عدم البينة ، لأن إقامتها ولو غير وافية ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال الميسور بتعذر المعسور.

فان قلت : لو أن شخصا كان عليه إقامة البينة على تمام ما يدعيه من العشرة مثلا عسرا مع إقامتها على الخمسة فهل يحلف عدولا في القدر المعسور الى اليمين كما ذكرت؟.

قلت : المناط هو العسر النوعي لا الشخصي.

ومما ذكرنا ظهر أن اليمين في المقام ليست من قبيل اليمين الاستظهارية في الدعوى على الميت ونحوها ولا من قبيل جزء السبب كاليمين المنضمة مع

ص: 193

الشاهد في دعوى الأموال بل من قبيل اعتضاد السبب وجبران ضعفه في الدلالة والصراحة في المدعى بجابر ، لان اليمين الاستظهارية لدفع ما ربما يقال بعد ثبوت المدعى مثل دعوى الإبراء أو الوفاء أو نحوهما ، وهذا اليمين محتاج إليها في أصل ثبوت الدعوى. وكذا ضميمة الشاهد في دعوى الأموال جزء سبب شرعي كالشاهد ، بخلاف هذه اليمين فإنها ليست لدفع ما يقال بعد ثبوت الدعوى ولا جزء السبب الشرعي بل جابر دلالته.

( الصورة الثالثة ) أن تشهد على تلف الأموال في المسبوق باليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي ، مثل أن تشهد على ما يستلزم شرعا أو عقلا لعدم المال الواقعي ، كالارتداد والبيع والصلح ونحوها ، وحكمها حكم الصورة الأولى.

( الصورة الرابعة ) مثل الصورة مع بقاء احتمال اليسار ، اما لاحتمال بقاء بعض الأموال السابقة حيث يحتمل خفاء بعضها على البينة واما لاحتمال تجدد مال بعد تلفها ، وحكمها حكم الثانية في الاحتياج الى اليمين.

وعليها ينزل قول العلامة بالإحلاف مع بينة التلف في موضع من التذكرة ، كما ينزل على سابقها قول من فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار بعدم الإحلاف في الأول دون الثاني كالمحقق. وان كان هذا لا يخلو عن نحو تفكيك معيب في العبارة ، والا أشكل الفرق ولا يكاد يتم ، الا أن يقال : ان الشهادة على تلف الأموال السابقة نافية لاحتمال بقاء شي ء من الأموال السابقة تصديقا للبينة.

وأما احتمال تجدد المال. فهو مدفوع بالأصل كما في المقام الأول ، فإن كان يدعيه مدعي اليسار فله الإحلاف ، كما في المقام الأول ، بل هو منه حقيقة ، فلا يندرج تحت صورة العلم بسبق اليسار وان لم يدعه. فلا وجه للإحلاف ، لأن تلف الأموال المعلومة قد يثبت بالبينة بحيث لا يبقى معه الاحتمال الخفي كما في جميع المقامات ، لأن البينة إذا شهدت بشي ء فلا يلتفت الى احتمال

ص: 194

خطأها وغفلتها وجهلها بالواقع وغيرها من الأموال الخفية أو المتجددة يدعيها الخصم حتى يستحلف لأجله.

والحاصل ان شهادة البينة على تلف الأموال المعلومة على حد شهادتها على الارتداد مثلا في تلف الأموال الظاهرة ، واحتمال تجدد المال غير ضائر ، والكلام بالنسبة إليه مثل الكلام في المقام الأول فله حكم نفسه. واحتمال بقاء شي ء من الأموال المعلومة منفي في القسمين بالبينة ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى احتمال خفاء بعض الأموال على البينة من أول الأمر ، فإنه مثل احتمال التجدد منفي بالأصل كالمقام الأول.

فظهر وجه كلام المحقق من أنه مع قيام البينة على التلف لا حاجة الى اليمين ، يعني بالقياس إلى الأموال السابقة وتلفها لا مع دعوى المدعي بعض الأموال غير التي شهدت البينة بتلفها ، أو دعوى تجدد بعض الأموال بعد التلف ، فإنه يندرج تحت المقام الأول المفروض عدم العلم باليسار ، ومع قيامها على الإعسار المطلق لا بد من اليمين ، لأن غاية ما تشهد به البينة هو ذلك الأمر الوجودي الذي قد تفارق عدم المال الواقعي ، فيكون دلالتها على المراد - وهو العسر الواقعي - ناقصة فيحتاج الى المكمل. الى آخر ما عرفت في الصورة الثانية.

لكن يبقى الكلام حينئذ في توجيه العكس الذي ذهب إليه في موضع من التذكرة ، وتوجيهه أن يقال : ان مفروض كلام الفاضل في بينة التلف أن تشهد البينة على تلف الأموال الظاهرة ساكتا عن الاحتمالات الخفية كما في الصورة الثانية.

وحينئذ فوجه اليمين في بينة التلف ما قلنا في بينة الإعسار من أن في رفع الاحتمالات الخفية بالبينة لما كان عسرا نوعيا عدل فيه الى اليمين عملا بالقاعدة المشار إليها.

ويوجه عدم اليمين في بينة الإعسار بحملها على ما لا يبقى معه الاحتمال الخفي كالصورة الأولى ، أو بما أشار إليه البعض من أن بينة الإعسار بعد فرض

ص: 195

خبرتها واطلاعها على بواطن الأمور تفي بالمدعي ، لأنها تثبت الضيق والشدة اللائقين بحال الفاقد. وبه يثبت الإعسار ، لأن الحكم الشرعي لا يناط على دفع الاحتمالات الواهية ولا على زيادة مداقة في الفحص عن البواطن ، فاذا ثبت أن الرجل يصبر على ما لا يصبر عليه الملي غالبا كفى ذلك في ثبوت إعساره ، ولا يلتفت الى الاحتمالات التي خفيت على البينة. وفيه تأمل والأول أولى.

كما أن ما وجهنا به كلام العلامة في بينة التلف أولى مما وجهنا به كلام المحقق في بينة التلف ، لان احتمال تجدد المال في صورة قيام البينة على التلف - وان كان في نفسه مخالفا للأصل - لكن استصحاب بقاء اليسار مع احتمال التجدد حاكم على أصالة العدم ، كما تقرر في استصحاب الكلي. وكذا احتمال خفاء بعض الأموال على الشاهد من أول الأمر ، فإن أصالة العدم وان كان بنفسه جاريا الا أن استصحاب كلي اليسار المحتمل وجوده في ضمن فرد آخر خفي غير الأفراد المعلومة العدم حاكم عليه أيضا كما تحقق في محله.

والحاصل انه متى حصل العلم باليسار السابق كان مدعي الإعسار مخالفا للأصل ، سواء كان احتمال اليسار باعتبار احتمال تجدد مال بعد التلف أو باحتمال خفاء مال غير الأموال الظاهرة أو باحتمال بقاء بعض الأموال الظاهرية ، فليس وظيفته اليمين بشي ء من الاعتبارات ، وحينئذ فلا فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار المطلق في الاحتياج الى الحلف وعدمه.

وحاصل الكلام من أوله الى آخره : ان مع قيام الاحتمال الخفي لا بد من اليمين في بينة التلف وبينة الإعسار ، لما ذكرنا من القاعدة ، ومع عدمه فلا حاجة إليها.

ومن فرق بينهما فأحسن الوجوه في توجيهه حمل البينة على التلف في كلامه على غير البينة على الإعسار.

ص: 196

ومن الإحاطة بما ذكرنا يعرف الكلام في الصور الباقية الأربع ، كما يعرف الكلام من حيث الإحلاف وعدمه في المقام الأول الذي فرض فيه عدم العلم بسبق اليسار ، وان ما ذكرنا من الاحتياج الى اليمين في البينة الغير النافية جار فيه أيضا.

وان الفرق بينه وبين المقام الثاني مع فرض اتحاد البينة مشكل ، الا أن يتمسك بما نبهنا عليه من منع سماع البينة الغير النافية في المقام الأول ، نظرا الى ما لمدعي الإعسار فيه من المندوحة والاستراحة إلى اليمين على تقدير فقدانه البينة النافية الكاملة.

التقاط [ حلف المنكر يسقط جميع حقوق المدعى ]

إذا حلف المنكر سقطت الدعوى في الحال والاستقبال ، وليس للمدعي مطالبته بالحق ولا الاقتصاص من أمواله كما كان له ذلك قبل التحليف ، ولا معاودة المحاكمة ولا تسمع دعواه لو فعل ، ولكن ذمة المنكر مشغولة بالحق ولا تحصل له البراءة في نفس الأمر.

وبهذا كله صرح في المسالك ناسبا له الى المشهور نافيا لظهور الخلاف فيه بعد فرض الكلام فيما إذا لم يقم على حقه بينة بعد الإحلاف.

ومستند المسألة أخبار بين الأمر بتصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق وبين المصرح بذهاب اليمين بحق المدعي وإبطاله وانه لا حق له على المنكر بعد الإحلاف وبين النافي للتقاص سرا.

وتوضيح الحال في المسألة : ان الدعوى اما أن تكون في الدين أو العين ، فان كانت في الدين فلا إشكال في عدم حصول البراءة الواقعية للمنكر بالحلف

ص: 197

للإجماع ظاهرا على وجوب التخلص عنه على المنكر فيما بينه وبين اللّه لو كانت اليمين كاذبة ، ولأنه إذا أقر بعد الحلف جاز المطالبة ظاهرا وباطنا كما سيأتي ، فلو كانت الذمة بريئة كان الإقرار لغوا ، لأنه إقرار بشي ء كان في ذمته قبل الحلف لا بعده ، وسيأتي توضيحه أيضا.

وكذا لا إشكال في عدم العود الى الدعوى ولا في عدم جواز المطالبة ، وأما حرمة المقاصة فلو لا ما دل عليها بالخصوص كان حالها نظير ما يأتي ، ولكن الخبر الوارد في جناية اليهودي صريح في عدم جوازها ، ولعله لا خلاف فيها معتدا به.

وأما ترتب سائر أحكام الملكية على وجه لا يكون فيه تعرض للمنكر ولا لحاله ظاهرا ولا باطنا - مثل الاحتساب من الزكاة والخمس ونحو هما - فمال بعض مشايخنا قدس سره في ملحقات كتابه إلى العدم ، استظهارا له من مثل قوله عليه السلام في الروايات « ذهبت اليمين بما فيه » (1) و « انها أبطلت كل ما ادعاه قبله » (2) ، لكن الإنصاف انه محل تأمل بل منع ، لأنه ان أريد دلالتها على خروج ما في ذمة المنكر من الدين عن المالية رأسا نمنع إمكان دعوى الإجماع على عدمه ، لما عرفت من وجوب التخلص عنه على المنكر بلا خلاف ظاهر ، وعدم براءة ذمته في نفس الأمر المقتضي لاشتغالها بالدين ، فلا دلالة فيها على ذلك والإلزام القول بكون اليمين من النواقل إذا كان المدعى به عينا ، فان ذهاب جميع جهات الملكية والمالية في العين لا معنى له سوى خروجها عن ملك المالك ، ولعله مما لا يلتزم به أحد.

والتفكيك بين العين والدين بالتزام بقاء بعض الجهات المالية في الأول

ص: 198


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
2- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

دون الثاني ، وان أمكن لكنه يحتاج الى دليل ، ولا دليل في خصوص العين لا يجري في الدين سوى قصور دلالتها على ذهاب جميع الجهات المالية.

ودعوى ان الدليل في العين هو الإجماع في مثل المقام. كلام قشري لا يليق بمن عرف الإجماع الناشئ عن دليل تعبدي والناشئ عن مقتضى القواعد العامة مع قصور دلالة المخرج. فاذا ثبت أن الذاهب انما هو بعض الجهات المالية لا جميعها فالقدر المتيقن منه ما قلنا من المطالبة أو التعرض لحاله الباطني أيضا.

ويؤيده ما في خبر آخر من النهي عن الأخذ بعد اليمين (1) مكان ما اشتمل عليه غيره من الإذهاب والإبطال ، فإن المقام وان لم يكن من موارد التخصيص أو التقييد الا أن المظنون اتحاد مفاد الكل. وان أريد دلالتها على بقاء الدين على حكم مال المدعي مع عدم جواز تصرفه فيه بشي ء من التصرفات ، فهذا في العين وان كان أمرا معقولا لكنه في الدين ليس بمعقول ، لأن مالية الدين ليس على حد مالية العين الراجعة الى صفة اضافية بينها وبين المالك ، بل هي عبارة عن صرف ترتيب أحكام المالية من التصرفات ، فبقاء المالية وعدم نفوذ شي ء من التصرفات فيه كالتناقض.

فان قلت : أثر بقاء المالية ممحض فيما يتعلق بالأخرة من العقوبات والمؤاخذة ونحو هما مما يترتب على شغل الذمة بحق الناس ، وأما ما يتعلق بالدنيا فلا ضير في عدم ثبوت شي ء منها.

قلت : ما يتعلق باشتغال الذمة في الآخرة ليس شيئا قابلا لإثبات صفة المالية للدين ، لأنك عرفت أن مالية الدين حقيقتها ترتيب أحكام المال وما يتعلق بالاشتغال في الآخرة ليس من الحكم الشرعي في شي ء ، مع أن المؤاخذة والعقاب

ص: 199


1- الوسائل ج 18 ب 10 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

ونحو هما مما يرجع الى الأمور الأخروية ، يكفي في ترتبها مجرد الحلف الفاجر ولو قلنا بخروج المال عن المالية رأسا حتى في العين ، لأنه حينئذ بمنزلة الإتلاف التي لا توجب شيئا سوى الإثم والعقاب ، فلا يكون فرق حينئذ بين ثبوت بقاء المالية وذهابها رأسا - فافهم.

وقد يستدل أيضا بما دل على تصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق (1) ، فإن عموم التصديق بجميع الجهات المالية يقتضي الاعتراض عن جميع التصرفات وفيه مضافا الى ما عرفت في غيره أن وزان تصديق الحالف المأمور به هنا ، وزان تصديق المؤمن المأمور به في الاخبار ، وان المراد عدم الاتهام والتصديق المخبري الصوري لا ترتب آثار مطابقة قول المؤمن للواقع.

فان قلت : حكم الامام عليه السلام بذهاب اليمين بالحق ثمَّ استشهد بالنبوي الأمر بتصديق الحالف ، فيكون المراد بتصديقه أمرا غير محض عدم الاتهام والتصديق المخبري الذي لا يترتب عليه ذهاب العين بالحق وعدم جواز التعرض.

قلت : القدر المحتاج إليه في صحة الاستشهاد كون المستشهد له مما يندرج تحت الشاهد ، وأما اقتضاء الاستشهاد لعموم الشاهد فلا. بل قد يقال : ان الاستشهاد المزبور مما يوهن دلالة قوله عليه السلام « ذهبت اليمين » على عدم التعرض الباطني كالمقاصة ، ويوجب اختصاصه بعدم جواز المطالبة جهارا ، لان التصديق المأمور به ليس مؤداه سوى التجافي عن المعارضة والمخاصمة ، نظير تصديق المؤمن الفاسق مثلا.

ومما ذكرنا ظهر أن تعقيب الأمر بالتصديق في النبوي بقوله صلى اللّه عليه وآله « ذهبت اليمين بحق المدعي أيضا » لا يعطي عموما في التصديق.

هذا كله مع أن الخارج عن تحت عموم الأمر بالتصديق أكثر من داخله ،

ص: 200


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

إذ ليس يجب على الناس متابعة من أخبر خبرا ثمَّ حلف باللّه تعالى على طبقه ، وتقييده بمقام المرافعة يحتاج الى دليل ، وذيله المشار اليه لا يقتضي التقييد بحسب القواعد اللفظية.

والقول بأن المقيد هو الإجماع. قد عرفت ما في مثله.

كل ذلك مضافا الى أن في الروايات السابقة التي هي أظهر دلالة من الأمر بالتصديق ما يستظهر منه الفطن العارف بأساليب الكلام ومزايا الدلالات ، كخبر ابن ابي يعفور قال بعد ما قال الامام عليه السلام : ذهبت اليمين بحق المدعي فلا حق له. قلت : وان كان له بينة عادلة؟ قال : نعم وان أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له - الحديث (1).

وجه الاستظهار أن كلمة « ان » الوصلية تدل على رفع توهم عدم مناسبة الشرط للجزاء وتوهم مانعيته له ، ومن الواضح أن اقامة البينة إنما يتوهم منافاته للمطالبة والتعرض لحال المنكر أو ماله لا ببعض التصرفات التي تتوقف على ثبوت الحق واقعا لا ظاهرا كالإبراء والعتق مثلا ، فلو أن الامام عليه السلام أراد بذهاب اليمين عدم جواز الإبراء والاحتساب السري من الزكاة أيضا وان الراوي أيضا فهم ذلك من كلامه عليه السلام كان قوله « وان أقام البينة » وقوله في جوابه « نعم » بمكان من الركاكة والاستهجان ، إذ قيام البينة وعدمه بالنسبة إلى مثل تلك التصرفات لا يؤثر شيئا ، لأنها منوطة بثبوت الحق واقعا لا ظاهرا ، بل كان عليه لو أراد توضيح الحال أن يقول ولو أقام بينة فكيف الحكم لا التعبير بأن الوصيلة المشعرة بالاستبعاد الغير اللائق بالمقام.

فظهر أن التعبير بها مبني على كون الحكم المدلول عليه بقوله عليه السلام « ذهبت اليمين » مما لا يناسبه إقامة البينة ، وليس هو إلا حرمة المطالبة وترتب

ص: 201


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

سائر الاثار جهارا لا خفاء.

ثمَّ ان لازم القول بسلب جميع الاثار المالية في الدين عدم حصول التهاتر القهري أيضا لو فرض إتلاف المدعي شيئا من أموال المنكر يساوي قيمته بمقدار الدين الذي في ذمته. وهو كما ترى أثر قهري ، لأن التهاتر في مورده ، إذ لا يعقل اشتغال ذمة الشخص بعين ما اشتغل ذمة الشخص الأخر كالدينار الكلي ، فاذا فرض أن ما في ذمة المنكر دينار وقيمة التألف أيضا دينار حصل البراءة قهرا.

وبالجملة مفاسد هذا القول يضيق عن الإحاطة بها نطاق البيان ، وكيف بمثل هذه الأدلة الموهونة الدلالة يلتزم بخلاف القواعد المتينة ، سيما مع عدم مصرح به سوى من عرفت مع تأمله وتردده واعترافه بأنه لا يخلو عن نظر واشكال.

ومما يبعده أيضا تصريحه وتصريحهم بأن المنكر لو كذب بالإقرار عاد المطالبة والتعرض ، فإنه مع ذهاب المالية الدنيوية رأسا لا يكاد يتم ذلك الا بالتزام كون الإقرار سببا جديدا في حدوث المالية ، بخلاف ما لو قلنا ببقاء المالية وان الذاهب هو السلطنة على بعض الاثار كالتعرض والمطالبة.

[ لو أقر المنكر عاد حكم المطالبة والتقاص ]

توضيح المقام ، انه قد تطابق النص والفتوى على أن المنكر الحالف لو أقر بالحق مطلقا - سواء كان عند الحاكم أو عند غيره أو في السر - عاد حكم المطالبة والتقاص وغيرهما مما لم يكن له قبل الإقرار بعد الحلف.

وهذا على تقدير ذهاب المالية مشكل ، لأن الإقرار لا يقتضي إلا الإلزام بالمقربه ، فحيث كان المقر به أمرا غير مترتب عليه شي ء من الأثر وقع لاغيا ، وعلى القول بذهاب المالية رأسا فالإقرار به إقرار بما مر غير ملزم وانه كالإقرار بالدين الذي يتعقبه المسقط مثل الإبراء ونحوه ، فلا بد من الالتزام بأن الإقرار

ص: 202

سبب شرعي تعبدي لحدوث مال جديد في ذمة المقر مع العلم بعدم ثبوت مال في ذمته قبل الإقرار.

وهذا جدل لا يلتفت اليه من أنس بالفقه أنسا ، بخلاف ما لو قيل بما اخترنا من بقاء صفة المالية وعدم جواز ترتب بعض الاحكام لمانع الإنكار المقرون باليمين ، لأنا نقول حينئذ : ان الإقرار يرفع المانع من استيفاء الحق. وبعبارة أخرى :

ان المنع انما تعلق باستيفاء الحق من المنكر بعد اليمين ما دام منكرا وبعد الإقرار يرتفع الموضوع.

الا أن يقال بمثله على ذلك القول أيضا ، بأن يقال : ان الإنكار كان مانعا عن ترتب جميع الاثار المالية ما دام منكرا وتكذيب النفس يرفع المانع.

وكيف كان فقد ظهر أن التمسك في الحكم المزبور - أعني جواز المطالبة بأدلة الإقرار - غير سديد ، لأن أدلة الإقرار انما تفيد الإلزام إذا كان المقر به أمرا ملزما ، فلا بد أولا من إحراز كون الدين بعد الحلف من الأمور الملزمة ثمَّ التمسك بها ، لا التمسك بها مع قطع النظر عن ذلك حتى على احتمال خروجه عن المالية في الدنيا رأسا ، فإنه حينئذ كالإقرار بالدين بعد تحقق المسقط.

( تجديد مقال لتوضيح حال )

قد عرفت أن الأمر بالتصديق في النبوي نظير قرينة ، أعني الأمر بإعطاء الحالف له معنى آخر غير ترتيب آثار النفي والبراءة ، وان ذهاب اليمين بحق المدعي وإبطالها إياه ونفي الحق بعد اليمين لا دلالة لها أيضا على نفي جميع تصرفات المدعي من المطالبة وغيرها.

ونقول أيضا طلبا لمزيد البيان : ان ذهاب اليمين بالحق وإبطاله لا بد أن يراد به - بدلالة الاقتضاء كما في حديث رفع الخطأ والنسيان - ابطال الاثار

ص: 203

لا ابطال نفس المال ، لأن إبطال الشي ء الثابت خصوصا إذا كان من الأعيان الخارجية لا معنى له ، فيدور الأمر بين أن يكون المراد ابطال جميع الاثار حتى ما يرجع الى المنكر بحيث يكون المنكر بعد الحلف برئ الذمة رأسا الذي هو خلاف الإجماع ظاهرا أو إبطال جميع ما يرجع الى المدعي خاصة من الاثار أو إبطال خصوص ما يليق بمقام الدعوى والخصومة أعني المطالبة وتجديد دعوى أخرى ونحوها مما يشاركها في التعرض لحال المنكر.

والأول لو قلنا بكونه المتعذر في مثل المقام مع إمكان منعه وإرجاعه إلى نفي الأثر الظاهر ، فلا بد من المصير الى غيره بقرينة الإجماع بزعمك وبمساعدة المقام بزعمنا ، فتعين أحد الأخيرين ، وأولهما تحكم بلا دليل.

ودعوى ان القرينة هي الأقربية بالمعنى الحقيقي بعد تعذر الأول الذي هو أقرب من الكل. كما ترى ، فتعين الثاني ، أعني إرجاع الابطال إلى الأثر الظاهر اللائق بالمقام ، لان المقام مقام إعطاء ميزان القضاء وفصل الخصومة.

ومن الواضح أن موازين الفصل لا يزيد مقتضاها على مجرد ترك الدعوى والخصومة ، ومن هنا يعلم أنه لو لا النص الوارد في حرمة المقاصة بعد اليمين لم يجز الحكم بها بدلالة هذه الروايات وكان حال اليمين حال البينة في جواز المقاصة الباطنية أيضا. مضافا الى أن قوله عليه السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي » وانها أبطلت كل ما ادعاه ، لا يدل الا على إبطالها الحق من حيث الدعوى لأمن حيثيات أخرى كما لا يخفى.

نعم من بين هذه الروايات ذيل الرواية الدالة على حرمة المقاصة المعلل فيها بأنه رضي بيمينه وقد مضت اليمين بما فيها (1). يمكن أن يستدل به على ذهاب جميع الجهات المالية من طرف المدعي حتى مثل قابليته للإبراء ونحوها ،

ص: 204


1- الوسائل ج 18 ب 10 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

لان التعليل في قوة كبرى صغراها حرمة المقاصة ، فكأنه قال عليه السلام : ان المقاصة حق من الحقوق ، ولا شي ء من الحقوق بثابت بعد اليمين. ولا يجري ما قلنا في سائر الروايات ، لأن إرجاع الإمضاء إلى خصوص جهة المخاصمة والتعرض والادعاء يوجب عدم الارتباط بين الدليل والمدعى ، لان المقاصة ليست من جهات الدعوى والمخاصمة فلا بد من إرجاعه إلى معنى عام شامل.

فهو اما ذهاب جميع التصرفات المالية من طرف المدعي حتى مثل الإبراء والاحتساب ، أو القدر الجامع بين قطع الخصومة وحرمة المقاصة ، والثاني لا مجال له كما أشرنا إليه لكونه تحكما بلا دليل وبعيدا عن الفهم السليم ، فتعين الأول.

وفيه : ان ذيل الرواية ليس في مقام التعليل حتى يكون في مقام إعطاء القاعدة ، بل اللام في كلمة « اليمين » للعهد والإشارة إلى اليمين المتقدم ذكرها ، فقوله « فقد مضت اليمين بما فيها » عبارة أخرى عما نهى عنه أولا من الأخذ. نعم قوله « لكنك رضيت بيمينه » في قوة التعليل لعدم الأخذ والمضي.

وكيف كان فالإنصاف أن العدول عن مقتضى القواعد المحكمة بمثل هذه الدلالة التي تتوقف على دقة النظر مع عدم مصرح به من الفقهاء جرأة عظيمة ، خصوصا مع ما سمعت عن غير واحد من أن اليمين لا يحصل به البراءة الواقعية ومع ملاحظة إطلاق ما ذكروه في غير المقام من أن حكم الحاكم لا يغير الواقع ، فإنه يعم المستند الى اليمين.

ودعوى أن إطلاق كلامهم ورد في بيان ما يترتب على حكم الحاكم من حيث أنه حكم ، فلا يدل على عدم تغييره الواقع باعتبار شي ء آخر يقارنه وينضم اليه كاليمين. مدفوعة بأن موضوع الحكم إذا كان في بعض الموارد ملازما لعنوان ينافي الحكم كان الإطلاق قبيحا كما قررناه في الأصول وأوردنا به على

ص: 205

الحلي في مقدار ما ينزح لموت الكافر من البئر حيث رجع في حكمه الى مالا نص فيه وحمل النص الوارد فيه على أنه مسوق لبيان حكم الموت من حيث انه موت ، فتأمل جيدا.

ثمَّ ان الفرق بين القولين وثمرات بقاء أحكام المالية عدا المطالبة والمقاصة لا تكاد لكثرتها تحصى. مثلا إذا أوصى للمدعي بالدين على المنكر ومات قبل القبول بعد اعترافه به كان للورثة حق القبول على المختار لا على القول الأخر ، وهكذا الى آخر ما لا يخفى.

[ هل يذهب الحلف بالحق في العين أيضا؟ ]

هذا كله في الدين ، وأما العين فينبغي النظر في أن الروايات شاملة لها أم لا. قد يقال بعدم تقييد فيها بالدين ، لأن الحق يعم الدين والعين ، ويؤيده أن الدليل على انقطاع الخصومة باليمين في العين ليس سوى هذه الروايات.

والتحقيق أن الشامل منها للعين غير نافع ، والنافع منها غير شامل ، فان ما عدا الرواية الدالة على عدم المقاصة قد عرفت أن مؤداها لا يزيد على انقطاع الخصومة وحرمة العود إلى الخصومة وسائر وجوه المعارضة ، وبها تمت مسألة فصل الخصومة في الدين والعين بواسطة اليمين.

والرواية الدالة على عدم المقاصة غير شاملة للعين ، لعدم عموم فيها سوى ما يتوهم من عموم الموصول في قوله « مضت اليمين بما فيها » ، وقد عرفت أن الظاهر منها العهد كاللام في اليمين ، ويؤيده صيغة الماضي المشيرة الى ما سبق ذكره ، فلا دلالة فيها على حرمة المقاصة في العين.

نعم يدل عليها أمران آخران :

( أحدهما ) ان التقاص فرع السلطنة على المقتص عليه شرعا ، واليمين

ص: 206

قاطعة للسلطنة الشرعية على الشخص إجلالا لاسمه تعالى.

والحاصل ان التقاص فرع استحقاق المطالبة شرعا لا فرع الاستحقاق للمال ، فلو استحق المال ولم يستحق المطالبة لم يجز له التقاص ، لأن السلطنة على مال الشخص سلطنة عليه كما لا يخفى. وأقل ما يدل عليه روايات المسألة ، حتى مثل الأمر بالتصديق والرضا باليمين أن لا يكون للمدعي سلطنة على المنكر الحالف ، ونفي السلطنة على الشخص يمنع المقاصة لكونها متفرعة على السلطنة عليه ، لاستلزام السلطنة على المال السلطنة على المالك.

ومن هنا أمكن تصحيح دلالة غير الرواية الواردة في عدم التقاص على حرمة المقاصة أيضا.

( والثاني ) رواية سليمان بن خالد : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمَّ وقع له عندي مال آخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع؟ قال : ان خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما ائتمنته عليه (1).

فان المال يشمل العين والدين ، بل ظاهر قوله « عنده » هو العين ، الا أن يمنع دلالتها باعتبار كونها واردة في مقاصة الودعي ، وهو غير المقام.

[ لو وجد المدعي عين ماله يجوز أخذه ]

ثمَّ انه لو ظفر المدعي بالعين على وجه لا يكون في أخذها اهانة بالحاكم جاز الأخذ ، حتى لو قلنا في مسألة الدين بعدم جواز شي ء من التصرفات ، وذلك لان الدين ليس سوى الحقوق التي يستحقها الدائن والحق قابل للإبطال والذهاب ، فيمكن الاستدلال بقوله عليه السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي

ص: 207


1- الوسائل ج 6 ب 83 من أبواب ما يكتسب به ح 7.

وأبطلت كل ما ادعاه » على ذهاب تلك الحقوق بأسرها ، بخلاف العين فإن ابطالها مع قطع النظر عن الاحكام غير معقول ، فلا بد من إرجاع الابطال إلى الأحكام المتعلقة بها. والأحكام الباطلة الذاهبة المتعلقة بها ليست الا ما كان من قبيل السلطنة على الحالف نفسا أو مالا ، وأما الاحكام التي لا يلزم من ترتبها تعرض بحاله فلا وجه لذهابها وبطلانها.

ومن الواضح أن التصرف في العين بحيث لا ينجر إلى خصومة ومنازعة ودعوى أخرى ليس سلطنة على المنكر ولا على ماله ، وكذا ليس إنشاء مخاصمة جديدة كما لا يخفى.

فالحق أن التصرف الباطني الغير الآئل الى اهانة الحكم أو الى منازعة ومشاجرة جديدة جائز بخلاف المقاصة لما عرفت ، واللّه العالم.

[ في جواز التقاص من المنكر ]

بقي شي ء ، وهو أن في مسألة التنازع في الثمن والمثمن الذي ينجر الأمر فيه الى التحالف ، قد صرح غير واحد بالتقاص ، فيقتص البائع مثلا بالمبيع المردود اليه بعد حلف المشتري على نفي الثمن الذي يستحقه البائع في ذمة المشتري الذي نفاه بحلفه.

وهذا ربما يقال بمنافاته لما أجمعوا هنا عليه من عدم جواز التقاص بعد الحلف. نعم لو قيل ان التحالف سبب شرعي تعبدي لا فلانفساخ العقد أو لفسخ الحاكم ارتفع المنافاة ، لكن على ما ذكره في الروضة من التقاص ربما يتوهم ورود الاشكال ، والجواب عنه ان حرمة المقاصة بعد الحلف ليس لأجل كون الحلف ناقلا كما لا يخفى ، بل لأجل احترام عرض الحالف فلا يدعى عليه ثانيا واحترام ماله فلا يقاص منه.

ص: 208

وقضية ذلك اختصاص الحرمة بالمقاصة التي ينافيها الحلف ويكرهها الحالف ، لا المقاصة التي لا ينافيها الحلف بل يؤكدها ولا يكرهها الحالف بل يحبها ويرضى بها كما في المقام ، لأن المشتري الحالف على عدم وقوع البيع بالثمن الذي يدعيه البائع يريد دفع سلطنة البائع عليه بالثمن المخصوص ويرضى بأول أمرها الى ما كان قبل البيع ، فلو تمرد البائع عن قبول البيع فهو مناف لمقتضى الحلف بخلاف ما لو قبله وجعله قصاصا عما له في ذمة المشترى ، فإنه تصديق ظاهري بحلف المشتري وعمل على طبق حلفه ظاهرا.

ومن هذا البيان ظهر إمكان تقرير الإشكال في غير التحالف أيضا ، كمدعي البيع ومنكره الحالف على عدمه ، كما ظهر جوابه أيضا ، فالإشكال مشترك الورود بين صورة التحالف وغيره ، وكذا الجواب.

وحاصل الجواب : ان مقتضى حلف المشتري على نفي البيع بالثمن المخصوص مع اعتراف البائع بعدم البيع على الثمن الذي يدعيه المشتري كون المبيع باقيا في ملك البائع ، ففي تصرف البائع فيه واحتسابه قصاصا عن الثمن الذي يدعيه تصديق للحلف ظاهرا وعمل بأدلة المقاصة باطنا ، فالتقاص الباطني إذا كان منافيا لتصديق الحالف ظاهرا فهي التي تمنعها اليمين لا ما كان فيها تصديق صوري للحالف.

ويمكن أن يجاب أيضا في مسألة التحالف خاصة : بأن المتداعيين معترفان بأن كلا منهما يستحق على الأخر شيئا وانما الخلاف في الخصوصية والحلف انما وقع على نفيه مطلق المال ، فحينئذ نقول : ان البائع مثلا يأخذ المبيع قصاصا عما له على المشتري لا على الثمن الذي نفاه المشتري بحلفه.

فان قلت : الذي يستحقه البائع مثلا - وهو الثمن المخصوص الذي يدعيه - قد ذهب بحلف المشتري ، والذي يعترف المشتري من الثمن ينفيه البائع

ص: 209

ويعترف بعدم استحقاقه ، فلا يبقى مال يمكن أن يجعل المبيع في مقابله.

قلت : لا منافاة بين عدم استحقاق البائع شيئا من الخصوصيتين واستحقاقه مالا كليا بمقتضى اعتراف المشتري واعتقاد البائع ، لأن الحكم يتبع الدليل ولو على نحو يقتضي الجمع بين المتضادين أو المتناقضين ، ومن الواضح أن جواز المقاصة حكم من أحكام استحقاق المال المطلق لا المال المعين.

وان شئت قلت : ان الثمن الذي يعترف به المشتري لا ينفيه البائع بحسب مقدار ماليته ، فمقدار مالية ذلك الثمن أمر متفق الثبوت في ذمة المشتري ، فيعطى البائع عن مقدار ماليته لا عن نفسه ، لان نفسه مع قطع النظر عن المالية لا يقبل المقاصة ، الا أن مقتضى ذلك أن يقتصر في المقاصة على مقدار مالية الثمن الذي يعترف به المشتري.

والظاهر أن من يقول بالمقاصة في التحالف يقول بأنه يقتص بمقدار ما يدعيه المقاص من الثمن مثلا لا بمقدار ما يدعيه المقاص منه. والثمرة بينهما تظهر في مقدار الزيادة التي يجب على البائع مثلا دسها في مال المشتري ، فإنه يختلف زيادة ونقصانا باختلاف الوجهين.

ثمَّ انه قد ظهر أن الحكم في صورة كون الثمن دينا على خلاف ما قلنا في الدين من حرمة المقاصة ، فلو كان الثمن عينا فهل يحكم فيه بخلاف ما حكمنا في العين من جواز التصرف في العين باطنا ، بأن يدس البائع مثلا المبيع في مال المشتري ويتصرف بعين الثمن الذي وقع البيع عليه باعتقاد البائع؟ وجهان.

وجه العدم أن التصرف في الثمن تكذيب للحالف وتعرض له فلا يجوز ، ووجه الجواز - وهو الأقوى - أنه تصرف في ملكه لا في ملك المشتري ، وليس فيه تعرض للمشتري الحالف لا لنفسه بالدعوى والمخاصمة ولا لماله ، وليس فيه

ص: 210

أيضا تكذيب صوري للحلف لابتنائه على الخفاء ، وأما تكذيب الحالف باطنا فلا ضير فيه ، بل هو مقتضى عدم كون الحلف مغيرا للواقع. واللّه العالم.

التقاط [ هل تسقط دعوى المدعي مع النكول ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي فأما أن ينكل عن اليمين ولا يحلف أو يحلف ، فلو نكل سقطت دعواه في ذلك المجلس بلا خلاف ولا اشكال ، والروايات ناطقة به.

وهل تسقط دعواه مطلقا حتى في غير ذلك المجلس - بأن لا يسمع دعواه أبدا ولو أقام بينة - أو يختص سقوط الدعوى بذلك المجلس. قولان ، ذهب الى الثاني جماعة منهم الشهيدان على ما حكي عنهما ناسبا له في الروضة إلى المشهور ، لكن عن جماعة دعوى الإجماع على السقوط.

ويدل عليه إطلاق الاخبار والاستصحاب ، بناء على أن المجمع عليه في ذلك المجلس هو سقوط الدعوى بحيث لا يسمع منه إقامة البينة حينئذ ، فإنه يستصحب حينئذ متى شك في حدوث حق جديد ، وأما لو كان المجمع عليه مجرد عدم سماع قوله ثانيا في ذلك المجلس وعدم سلطنته على المنكر في ذلك المجلس لم يجز الاستصحاب إذا شك في وجوب سماع قوله في مجلس آخر ، لان السلطنة في كل آن موضوع مستقل غيرها في آن آخر ، فلا ينسحب حكم أحدهما إلى الأخر ، بخلاف الحق فإنه إذا سقط سقط والعود يحتاج الى دليل - فافهم.

وان حلف ثبت حقه نصا وفتوى ، وهل هي في حكم بينة المدعي أو بمنزلة إقرار المنكر؟ وجهان بل قولان. وربما قيل انها قسم ثالث ، فلا يجري فيها

ص: 211

حكم شي ء من البينة والإقرار بل يرجع في كل حكم الى ما يقتضيه القواعد فيه. وذكروا لهذا الخلاف ثمرات مذكورة في كتب الفقهاء.

[ الأدلة على سقوط الدعوى مع النكول ]

والمهم هنا بيان أمرين : أحدهما وجه الحصر الذي ذكره غير واحد ، والثاني وجه القولين على تقدير ثبوت الانحصار.

( أما الأول ) فيمكن أن يستدل عليه بعموم « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) ، فإنه يقضي بالانحصار على البيان الذي مر في بعض الالتقاطات السابقة. وحاصله ان الحكم بجنس البينة على جنس المدعي في مثل المقام يفيد أن كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه البينة ، فإذا ثبت أن يمين المدعي هنا تثبت حقه على المنكر ، فلا بد أن يكون يمينه اما بمنزلة البينة في الحكم حتى لا يلزم تخصيص في العالم المزبور أو تكون بمنزلة البينة إقرار المنكر الذي يرتفع به أصل الخصومة.

فلو قيل : ان اليمين ليست بمنزلة صيرورة الدعوى بمنزلة التسالم والتصالح - كما لو أقر المنكر - بل قسم ثالث لميزان فصل الخصومة لزمه بطلان الحصر المستفاد من العموم.

وهذا نظير ما ذكروه في التحليل من أنه بمنزلة ملك اليمين أو بمنزلة النكاح اتباعا لظاهر الآية الشريفة الناطقة بمحافظة الفروج الا على الأزواج أو ما ملكت الايمان. ولب الكلام ان الأمر دائر بين الإلحاق الموضوعي والتخصيص.

توضيحه : ان الشارع حصر حجة المدعي المثبتة لحقه في البينة بمقتضى قوله « البينة على المدعي » ، ثمَّ قال في دليل آخر ان اليمين المردودة أيضا يثبت

ص: 212


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

بها الحق ، فإن كان المراد بالبينة ما يعم اليمين على أن يكون اليمين في نظره بمنزلتها ومشاركتها في الحكم بقي الحصر بحاله وسلم العموم أيضا عن التخصيص ، لأن الإخراج والإدخال الموضوعيين ليسا من التخصيص في شي ء كما حققناه في الأصول.

ولذا لم نذهب الى أن الاستصحاب ونحوه من الأصول بل الأمارات أيضا مخصصة للواقع ، بل مؤدياتها ملحقة بموضوعات الأحكام إلحاقا جعليا. وأما لو كان المراد بالبينة ما لا يعم اليمين وكانت اليمين حجة أخرى في عرض البينة بطل الحصر وتخصص العموم.

ومثل هذا التقرير يقال في مسألة التحليل.

وحيث أن أصالة العموم في البينة على المدعي مع عدم ظهور أدلة اليمين في استقلالها وتخصيص العموم بها يقتضي بقاء الحصر. وبعبارة أخرى : الإلحاق الموضوعي في صورة الشك ، فلا جرم يكون اليمين بمنزلة البينة ان كانت حجة للمدعي وإلا لزم أن تكون بمنزلة ارتفاع الخصومة بإقرار المنكر ، إذ لا ثالث لهما مع بقاء الحصر وأصالة العموم على حالها.

مضافا الى ظهور بعض أدلة اليمين في كونها بمنزلة البينة وسكوت الباقي عن التخصيص وعن كونها حجة أخرى مستقلة ، كخبر يونس : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين ، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وان لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي ، وان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه ، فان لم يحلف رد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه ، فان أبى أن يحلف فلا شي ء له (1).

وجه الظهور : ان ما عدا اليمين المردودة كلها في حكم البينة وملحقة بها

ص: 213


1- الوسائل ج 18 ب 15 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

كأنها تفاصيل البينة التي حصر حجة المدعي في الروايات العديدة فيها ، مثل ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية (1). يعني بها القرعة بناء على كون المراد بالقاطعة الفاصلة لا الجازمة ، فإنها حينئذ يمين المنكر لأنها التي تقطع الخصومة وترفعها. وغيرها مما دل على انحصار فصل الدعوى بالبينة ويمين المنكر.

نعم في الموارد التي يقدم قول المدعي بيمينه - وبالجملة كل يمين يحلفها المدعي بأصل الشرع لا بالرد - نلتزم بكون اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة في عرض البينة.

وأما وجه القولين :

( فوجه الأول ) أن يمين المدعي يمين على الإثبات وطريق شرعي له الى ثبوت الحق عند الحاكم ، مثل سائر الموارد المقبول فيها قول المدعي بيمينه ، الا أن الفرق أن اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة لمساعدة أدلتها للتخصيص وهنا في حكم البينة ، إذ الخصم معترف بأنها على تقدير كونها حجة مثبة للحق ، فلا بد أن تكون مثل البينة وليست حجة مستقلة والا عاد الكلام الى المقام الأول ، والمفروض أن التنازع في أنها مثل اليمين أو البينة لا بد أن يكون بعد التسالم على الحصر ، فاذا كانت حجة على المدعي على ثبوت الحق فلا جرم يكون مثل البينة.

( ووجه الثاني ) ان هذه اليمين ليست على حد سائر الايمان الثابتة بأصل الشرع للمدعي بل هي يمين المنكر المردودة اليه ، ورد اليمين في قوة الإقرار بالحق ، فكأنه مقر والا كان يحلف ولم يردها على المدعي.

وهذا وان كان وجها اعتباريا الا أنه يصلح سرا للحكم المنصوص عليه.

ص: 214


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

والصواب أن يقال في وجه الثاني : ان الأمر بالتصديق المأمور به في النبوي المتقدم « من حلف لكم باللّه فصدقوه » (1) يجعل يمينه في حكم الإقرار ، فإن المنكر مأمور بتصديقه بعد رد اليمين ، والتصديق والإقرار بمعنى ، والحاكم أيضا مأمور بترتيب آثار التصديق المأمور به ، فيكون حال اليمين المردودة حال الإقرار في الاثار الشرعية وحال المدعي حال المقر له.

وجوابه : ان تصديق الحالف إذا أخذنا بظاهره أفاد وجوب ترتيب آثار المصدق به لا آثار نفس التصديق ، نظير مفاد أدلة تصديق العادل ، فهو على خلاف الظاهر ، يعني كون اليمين بمنزلة البينة أولى.

[ عدم تمامية أدلة سقوط الدعوى مع النكول ]

والتحقيق أن إتمام ما ذكروه من الحصر بحسب القواعد اللفظية مشكل ، لان العمومات القاضية بالحصر قابلة للتخصيص ، وأدلة اليمين غير ناظرة إلى مدلول تلك العمومات حتى تكون مفسرة للبينة بل منافية لها ومعارضة لعمومها.

ولو سلم فغاية الأمر الشك في كونها مخصصة أو جاعلة لليمين بمنزلة البينة ، ومقتضى الشك الرجوع فيما يخالف القاعدة من أحكام البينة إلى الأصول والقواعد ، وكذا اقامة الدليل اللفظي على كونها بمنزلة البينة أو الإقرار أشكل.

والذي يقتضيه التأمل أن يقال في وجه الحصر : ان أمر اليمين في الواقع مردد بين كونها بمنزلة البينة في الأحكام الثابتة لها من حيث كونها حجة شرعية مثبتة للحق وبين كونها بمنزلة الإقرار كذلك ، لاشتمالها على التزام المنكر بقول المدعي بعد اليمين.

توضيح ذلك : ان اليمين المردودة قد اجتمعت فيها جهتان : جهة حكاية

ص: 215


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

عن الواقع وكشف عنه نظير كشف الأدلة الاجتهادية الحاكمة على الأصول ، وجهة التزام من طرف المدعي الراد ، لان وضع رد اليمين ومبناه على التزام الراد - وهو المنكر للحق - على تقدير حلف المدعي اليمين مثل الالتزام الذي هو في الإقرار. غاية الأمر ان المقر المخبر عن الواقع ملتزم بالحق المقر به منجزا والمنكر الراد ملتزم به معلقا على حلف المدعي ، فان كان الشارع لا حظ جهتها الاولى في جعلها حجة مثبتة للحق فلا بد أن تكون مثل البينة من الأحكام المجعولة لها من حيث كونها حجة لأمن حيث كونها بينة ، فان كان من الاحكام مالا يعقل انسحابه الى غير البينة ولو كانت شرعية مثلا الترجيح بالأعدلية ونحوها عند التعارض حيثما تلاحظ المرجحات ، ومثل الجمع بين البينتين إذا كانت شهادة أحدهما على المدعي بالتصريح والتنصيص والأخر على خلافه بنحو الإطلاق والظهور القابل للجمع مع الأول ، فإن مثل هذه الاحكام لا يعقل ثبوتها لليمين على تقدير كونها حجة شرعية كالبينة كما لا يخفى. ولعل الأصحاب المرددين لها بين الأمرين لا يريدون ترتيب مثل هذه الاحكام على تقدير كونها بمنزلة البينة ، كما سيظهر ذلك من بعض ما سنشير اليه.

وان كان الشارع قد لا حظ جهتها الثانية فلا بد أن تكون مثل الإقرار في الأحكام الثابتة له من جهة كونها التزاما بالحق لا الأحكام الثابتة له من جهة كونها إقرارا مثل كونه مكذبا للبينة التي يقيمها بعد الإقرار ، فإنه من خواص ذات الإقرار ، وحينئذ فيبطل كثير من الفروعات التي ذكروها ثمرة للنزاع :

مثل ما ذكروه فيما لو أقام المدعى عليه بينة على رد المال المدعى به بعد حلف المدعي اليمين المردودة من أنها لو كانت بمنزلة الإقرار لم تسمع كما لا تسمع فيما لو أقر بعدم الرد ولو كانت بمنزلة البينة على عدم الرد مثلا سمعت وقضي له ، اما لتقديم بينة الإثبات على بينة النفي وكذا على ما في حكمه ، أو لأن اليمين

ص: 216

المردودة إذا كانت بمنزلة البينة لم تكن تنفع من المدعي في المقام لكونها بينة على النفي ، وغير ذلك.

وجه البطلان : أنه لو قيل بأن اليمين مثل الإقرار لم يترتب عليها عدم قبول البينة بعدها ، لأنه من خواص ذات الإقرار باعتبار كونه تكذيبا للبينة ، فلا وجه لجريان مثله في اليمين أيضا.

ومثل ما ذكروه أيضا من عدم الاحتياج الى حكم الحاكم لو كانت بمنزلة الإقرار بخلاف ما لو كانت مثل البينة.

فإن هذه الثمرة أيضا لا تخلو عن إشكال ، لأن عدم احتياج الإقرار إلى حكم الحاكم يمكن القول بأنه من خواص ذات الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة والتشاجر ، وعدم الاحتياج الى الحكم لعله لأجل ذلك لا لأمر تعبدي ثابت في الإقرار ، وحينئذ نقول : الظاهر أن الشارع لا حظ جهة كونه حجة كاشفة عن الواقع في مقابل الأصول لوجهين : أحدهما ان مقتضى تصديق الحالف المأمور به ترتيب آثار الصدق لا آثار التصديق كما نبهنا عليه آنفا ، والثاني ان ظاهر رواية استخراج الحقوق بالأربعة المشار إليها كون اليمين بمنزلة البينة في إثبات الحق. واستخراجه بقرينتين :

الاولى - ان ظاهر الاستخراج كونها حجة ، فإنه لو كان بمنزلة الإقرار لم يتحقق بسببها الاستخراج ، بل المنكر باعتبار نكوله عن اليمين فقد سبب الى ثبوت حق المدعي ، بل الأمر في الإقرار الحقيقي أيضا كذلك ، كما ذكرنا في البحث عن الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة ، وأسباب ارتفاع الخصومة ليست أسبابا للمدعي في استخراج حقه ، لان صدق الاستخراج يتوقف على بقاء المنكر على إنكاره حتى يكون المدعي بواسطة إقامة حجة عليه مستخرجا لحقه ، وهو واضح.

ص: 217

والثانية - ان قرينة المقابلة تقتضي ما ذكرنا ، لان اليمين المردودة آخر الأربعة ، والثلاثة السابقة عليها كلها حجج للمدعي مثل البينة والشاهد واليمين ورجل وامرأتان.

لا يقال : قبل اليمين المردودة ذكرت في الرواية يمين المنكر ، وهي ليست حجة في شي ء بل أمرا قاطعا للخصومة ، فتكون اليمين مثلها لا مثل ما قبلها من الثلاثة.

لأنا نقول : يمين المنكر ذكرت في الرواية توطئة لذكر اليمين المردودة لا أصالة ، بأن تكون بيانا لميزان القضاء.

[ معنى كون اليمين بمنزلة البينة ]

ثمَّ الظاهر أن كونها بمنزلة البينة انما هو بالنسبة إلى المتخاصمين كما صرح به الشهيد في القواعد لا بالنسبة الى من عداهما ، لان ذكر اليمين في مقام استخراج الحق لا يزيد مؤداه على كونها حجة من حيث استخراج الحق لا حجيته في إثبات المدعى بقول مطلق كالبينة ، والأمر بالتصديق أيضا على تقدير دلالته على ترتيب آثار الصدق دون التصديق لا يدل على أمر زائد على ترتب الصدق من الحجية المزبورة.

ودعوى ان قرينة المقابلة تقتضي كونها مثل البينة. مدفوعة بأنه لو لا ما يدل على حجية البينة مطلقا من الأدلة والعمومات ، لما حكمنا بمقتضى هذه الرواية الواردة في مقام التنازع على أزيد من الحجية في حق المتخاصمين في البينة أيضا ، وحينئذ فلا ينتزع العين المتنازع فيها من المنكر بعد حلف المدعي إذا كانت العين في يد ثالث ، لأنها حجة بالنسبة إلى المنكر خاصة.

وفائدته التغريم للحيلولة إذا كان الثالث متلقيا للعين من المنكر ، فلو ادعى عينا أقر بها المدعى عليه لغير المدعي ونكل عن اليمين فحلف المدعي لم ينتزع

ص: 218

العين من يد المقر له ، لأنها ليست مثل البينة بالنسبة إلى الغير أيضا بل بالنسبة إلى خصوص المدعى عليه ، وفائدته حينئذ تغريمه قيمة العين للحيلولة.

فلو قلنا بأنها مثل الإقرار مبنى على كون الإقرار المسبوق بالإقرار لاخر سببا لضمان القيمة للحيلولة ، فمن يقول به كان كما إذا قيل بكونها مثل البينة فلا ثمرة ومن لا يقول به خرجت المسألة عن موضع إحلاف المنكر ، لأن الإحلاف لا يجوز فيما لو أقر الحالف لم يترتب على أثره إقرار ، بل من القواعد المقررة عندهم أن الحلف محله ما لو إقرار الحالف ينفع إقراره.

ومن هنا اتجه أن يقال : بناء على هذا القول - أي القول بعدم فائدة للإقرار الثاني - لم ينفع القول بكونها مثل البينة أيضا إذا كانت المماثلة بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين ، لأنه إذا خرجت المسألة عن مورد الإحلاف باعتبار عدم نفع الإقرار فلا يكون مورده باعتبار كون اليمين المردودة بمنزلة البينة.

والحاصل انهم في مورد الإحلاف ذكروا للفرق بين إلحاقها باليمين أو بالبينة ثمرات ، وهو انما يتم لو كانت مثل البينة مطلقا حتى في حق غير المتخاصمين ، إذ لو لم تكن حجة إلا في حقهما لم يكن فرق بين القولين الا أن يجعل الإحلاف وعدمه من ثمرات المسألة ، كما جعله الشهيد في القواعد ، فإنه ذكر فيها أربع عشرة ثمرة أكثرها يرجع الى ذلك ، وحاصله : انه لو قلنا بأنها مثل البينة ولو من حق المتخاصمين احلف المقر ، وفائدته النكول وحلف المدعي ثمَّ التغريم » ، وان قلنا بكونها مثل اليمين لم يحلف إلا إذا كان للإقرار فائدة.

[ الادعاء على من يقر بغير ما يدعيه المدعى ]

ومن فروع المسألة أيضا ما لو ادعى زوجية امرأة مقرة بالزوجية لغير المدعي ، فعلى القول بأنها مثل الإقرار لم تحلف الا على القول بتغريم الإقرار

ص: 219

الثاني ، وأما على القول بكونها مثل البينة أحلفت على أي حال ، وفائدته رجاء النكول وحلف المدعي ثمَّ تغريمها المهر.

وظاهر كلمات الأصحاب المفروغية عن أنها ليست مثل البينة بقول مطلق حتى في حق غير المتخاصمين ، يعلم ذلك من كلماتهم في أبواب الفقه.

وهذا الشهيد الثاني قال فيما إذا ادعى الاثنان عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما فلآخر إحلاف ذي اليد ، فان نكل وردها الى المدعي غرم قيمة نصف العين. ولم يفصل بين ما لو قيل بأن اليمين المردودة مثل البينة أو مثل الإقرار ، مع انها لو كانت مثل البينة في حق غير المتخاصمين أيضا لم يتجه الإحلاف في تغريم النصف ، لان التغريم لا يتم على القول بأنها مثلها مطلقا ، لان مقتضى ذلك استرداد نصف العين من يد الأخر المقر له.

ومثله المحقق في التداعي ، فإنه صرح في بعض فروعه بأن فائدة اليمين المردودة على القول بأنها مثل الإقرار التغريم لا استرداد العين. لكن ظاهر المحكي عن الدروس أنها لو كانت مثل البينة أثرت أثرها مطلقا حتى بالنسبة الى غير المتخاصمين ، حيث قال : انها - أي اليمين المردودة - كالإقرار فلا ينفذ في حق غيره ، وقيل كالبينة ، وهو بعيد. فان مقابلة القول بأنها مثل البينة في مقابل القول بأنها مثل الإقرار الذي لا ينفذ في حق غيره ، صريح أو ظاهر في أنها على تقدير كونها مثل البينة تنفذ في حق غير هما أيضا.

ومثله العلامة في باب النكاح فيما لو ادعى اثنان زوجية امرأة فصدقت أحدهما ، أنها لو ردت اليمين إلى الأخر فحلفت انتزعت من الأول للثاني.

فإن قلت : إذا كان لليمين المردودة جهتان جهة الإثبات وجهة الالتزام فلم لا يلتزم بمقتضى الجهتين حتى يكون قسما ثالثا ، فيلتزم بترتيب آثار البينة من حيث كونها حجة مثبتة وبآثار الإقرار من جهة اشتمالها على التزام المنكر بالحق

ص: 220

ولو تقديرا. نعم إذا كان بين مقتضاهما تناف - بأن يكون مقتضى كونهما مثل البينة عدم ترتيب حكمه ومقتضى كونه بمنزلة الإقرار ترتيبه أو بالعكس - توقف ويرجع الى مقتضى القاعدة ، وبهذا تكون اليمين المردودة قسما ثالثا.

قلت : هذا القول ساقط بعد ما قررنا ، لأن أحكام ذات البينة من حيث أنها بينة لأمن حيث كونها حجة مثبتة قد عرفت عدم قابلية ثبوتها لليمين ، وكذلك أحكام ذات الإقرار وبقية أحكامها نلتزم بثبوتها فيها.

قولك : فتكون قسما ثالثا.

قلنا : ان أرادوا كونها مثل البينة أنها كذلك في جميع الاحكام ، وكذا من كونها مثل الإقرار فهذه قسم ثالث ، وان أرادوا المماثلة في كونها حجة مثبتة للحق في حق المتخاصمين خاصة فهو إلحاق لها بالبينة لا بالإقرار.

[ ثمرة كون اليمين مثل البينة ]

ثمَّ ان الثمرة بين كونها مثل البينة في حق المتخاصمين خاصة أو مثل الإقرار. كالمعدومة ، لأن الأحكام التعبدية الثابتة للإقرار قد عرفت ثبوتها لها من حيث كونها إقرارا ، فلا تنسحب الى اليمين لعدم مساعدة الدليل وكذا أحكام البينة ، فيبقى من الثمرة ما أشرنا إليه ناقلا له عن الشهيد من الإحلاف وعدمه في كثير من الصور.

لكنا نقول : بأنها مثل البينة في كونها حجة مثبتة بالنسبة إلى المتخاصمين ، ولا نرى لهذه الثمرة أيضا وقعا ومحلا ، وذلك لان المقام : قد يكون من مورد اليمين والبينة معا ، وهذا لا فرق بين كونه بينة أو إقرارا ، لأن فائدتها على التقديرين ثبوت الحق بالنسبة إلى المنكر ولا ينفذ على غيره. وقد يكون من موارد البينة دون الإقرار ، كالموارد التي لا يترتب على إقرار المنكر ثمرة ، مثل ما أشرنا

ص: 221

إليه من مسألة الإقرار بعد الإقرار على قول الشيخ القائل بعدم نفوذ إقراره الثاني لعدم قابلية المحل ، فنقول :

قولك : انها لو كانت مثل الإقرار خرجت المسألة عن مورد الإحلاف ، لان فائدته الرد ثمَّ حلف المدعي ، فإذا كان حلفه بمنزلة إقرار المدعى عليه وقع لاغيا ، لعدم نفوذ إقراره حينئذ.

قلنا : نحن نقول حينئذ أنها سواء كانت بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة يحلف المدعى عليه هنا ، وفائدته الرد لعموم أدلة اليمين المردودة ، فلا يلزم من القول بكونه مثل الإقرار في كونه ملزما عدم الإحلاف هنا لفرض عموم الأدلة.

والحاصل ان شئت اجعلها مثل البينة أو الإقرار ، فمقتضى العموم هنا الإحلاف فلا ثمرة بين جعلها كالبينة أو كالإقرار ، فإنه ان أريد من جعلها كالإقرار سقط الإحلاف في مثل المقام فهو ممنوع للعموم.

[ الحلف من موارد الإقرار لا البينة ]

وقد تكون المسألة من موارد الإقرار دون البينة فحينئذ يثمر الخلاف ، فإنها لو كانت بمنزلة البينة لم ينفع العموم ، لان العموم انما ينفع إذا كان المقام صالحا لإقامة المدعي الحجة ، فإذا فرض عدم قبوله البينة التي هي أقوى الحجج المثبتة لم ينفع عموم ما دل على أن اليمين حجة مثبتة لحق المدعي ، فيتوقف الإحلاف حينئذ على القول بكونها مثل الإقرار.

لكنا نمنع وجود مثل هذه الصورة ، بأن ينفع فيها إقرار المدعى عليه ولا ينفع فيها حجة المدعي ، وما ذكروه مثالا لهذه الصورة محل مناقشة ، فإنهم جعلوا من هذا الباب ما لو ادعى البائع مرابحة زيادة الثمن عما أخبر به أولا وأنكر المشتري وادعى عليه البائع العلم ، فان بينة البائع على ما يدعيه من الثمن

ص: 222

غير مسموعة ، لأن إخباره السابق مكذب لها ، بخلاف أخبار المشتري وتصديقه للبائع فإنه ينفع.

وفيه : انا نمنع عدم سماع بينة البائع حينئذ على وجه الإطلاق. وتوضيحه : ان البائع اما أن يقيم البينة على زيادة الثمن ، واما أن يقيمها على علم المشتري بها ، واما أن يقيمها على خطأ في الاخبار الأول. والاخبار السابق انما يكذب بينتها في الصورة الاولى ، وفي هذه الصورة يمكن منع سماع يمينه أيضا ، لأن حال اليمين وحال البينة في شرط عدم التكذيب سواء ، فلو حلف حلفا قد سبق منه تكذيبه أمكن القول بعدم اعتبار هذا الحلف شرعا حتى يكون مثل إقرار المدعي ، لان قيام الحلف منزلة الإقرار انما يكون في اليمين بعد اعتبارها ، ومن شرائط اعتبارها عدم تكذيب الحالف لها ، ولذا لو أقر المنكر بعد الحلف وكذب نفسه بطل أثر اليمين كما مر ، ولا فرق في التكذيب بين لا حقه وسابقة.

وأما الصورتان الأخيرتان فلا مانع من سماع البينة فيهما خصوصا الأخيرة ، إذ البينة على علم المشتري بالثمن لا يكذبها الاخبار السابق.

ولا ريب أن كون اليمين المردودة بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار انما هو بالنسبة إلى متعلق الإقرار لا شي ء آخر ، فاليمين على القول بكونها بمنزلة الإقرار كالبينة بالنسبة إلى متعلق الإقرار على القول الأخر لا بالنسبة إلى شي ء آخر ، وعلى تقدير كونها بمنزلة الإقرار تكون في المسألة بمنزلة إقرار المشتري بالعلم بالزيادة وعلى تقدير كونها بمنزلة البينة تكون بمنزلتها بالنسبة إلى علمه أيضا لا بالنسبة إلى شي ء آخر. ومن الواضح أن البينة على علمه ليس يكذبها الاخبار السابق.

وبالجملة نمنع عدم نفع إقامة البينة في المسألة لو قلنا بنفع الإقرار ، وحينئذ نتمسك بعموم أدلة اليمين ونخرجه في مثل المقام أيضا. وبذلك تنعدم الثمرة رأسا.

وصار ملخص الكلام : انا نعمل بعموم أدلة اليمين ونحلف المدعى عليه

ص: 223

مطلقا ونجري عليها حكم الحجة المثبتة للحق بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين لا مطلقا كما هو خيرة العلامة ، سواء كان في هذا اختيار كونها قسما ثالثا أو إلحاقها بالبينة من حيث كونها حجة مثبتة.

تذنيب [ نكول المدعى عن اليمين المردودة ] [ ونكول المدعى عليه على القضاء بالنكول ]

نظير هذا النزاع يتصور في نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المدعى عليه على القول بالقضاء بالنكول ، فيقال في الأول هل هو بمنزلة إقرار المدعى أو بمنزلة يمين المنكر ، وفي الثاني هل هو بمنزلة إقرار المدعى عليه أو بمنزلة يمين المدعي المردودة.

ولعله يتفرع عليه بعض الثمرات التي توهم ترتبها على النزاع في اليمين المردودة ، والأصحاب لم يتعرضوا في النكولين لما قلنا.

والكلام النافع فيهما أن يقال : بأن القدر الثابت من الأدلة في الموضعين سقوط الدعوى في مجلس الدعوى ، وقوله عليه السلام « فلا حق له » في نكول المدعي أو نكول المنكر على القول به وان كان يتراءى في بادئ الرأي دلالته على عدم سماع البينة بعده ، فيكون مثل إقرار الناكل مثلا.

لكنه ليس كذلك ، لما أشرنا إليه فيما سبق من أن نفي الحق في مقام المخاصمة لا يزيد مؤداه على سقوط الدعوى في ذلك اليمين ، وأما سقوطها على وجه لا ينفع بعده إقامة البينة فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كاستصحاب ورواية كما في يمين المنكر.

ص: 224

هذا ، وتأمل بعد ذلك في الاخبار وكلمات الأخيار. واللّه الهادي إلى الصواب.

التقاط [ نكول المدعى عن اليمين والرد معا ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي وحلف فقد عرفت الكلام فيه ، وان نكل عن اليمين والرد ففي عدم القضاء بالنكول الا بعد رد الحاكم اليمين الى المدعي أو القضاء بالنكول؟ قولان مشهور أن أشهر هما الأول ، وهو قضية الأصل في المسألة من وجوه ، لأصالة عدم جواز القضاء وعدم صحته ، بمعنى ترتب أثر المقصود من القضاء.

وربما تمسك بأصالة براءة ذمة المنكر عن الحق بدون حلف المدعي ، وأما معه فهو المتفق عليه ، أو عن الحلف ، وليس بوجه.

أما الأول : فلان اشتغال ذمة المنكر واقعا لا يختلف بسبب اليمين المردودة وعدمها كما لا يخفى ، واشتغال ذمتها ظاهرا - بمعنى وجوب دفع الحق - فهو تابع لشرعية القضاء بالنكول وصحته ، وقد عرفت أن قضية الأصل عدمها.

وأما الثاني : فلان وجوب الحلف عليه ليس وجوبا تكليفيا يدفع بالأصل كما لا يخفى.

( حجة القول الأول ) بعد الأصول عموم الأدلة الدالة على انحصار موازين القضاء في البينة بالمعنى الأعم والايمان ، منها الرواية المتقدمة القاضية بانحصار استخراج الحقوق في الأربعة التي ليس منها نكول المنكر عن اليمين والرد معا.

وهذه أظهرها دلالة ، لإباء سياقها عن التخصيص رأسا ، حتى لو ثبت شي ء غيرها فلا بد من ارتكاب تمحل غير التخصيص ، اما بإدراجه تحت شي ء من الأربعة

ص: 225

ولو بضرب من التوسع والتسامح أو بحملها على الغالب المتعارف الشائع.

توضيحه : ان سياق الرواية آب عن التخصيص ، وأما التخصص فلا ، فاذا ثبت شرعية استخراج حق المدعي بشي ء غير داخل تحت الأربعة مثل اليمين في الموارد التي ثبت فيها بأصل الشرع لا بالرد مثل مظان قبول قوله بيمينه ، فلا بد فيه من تمحل يرجع الى التخصص لا التخصيص ، كأن يقال المراد بالحقوق أمور معهودة أو الحقوق مخصصة بغير تلك الحقوق التي تستخرج بيمين المدعي الغير المردودة ، فإن تخصيص الحقوق غير تخصيص الرواية ، لأن تخصيص الرواية تصرف في المحصور فيه ، وهو الذي يأبى عنه سياقها ، وأما تخصيص الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان المراد بالاستخراج الغالبي لا مطلقا ، فيكون كارتكاب التخصيص في الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان ذلك شي ء دخل تحت أحد الأربعة ، ويجعل ذلك الدليل القاضي بكونه من موازين القضاء دليلا على ذلك حفظا للمحصور فيه عن التخصيص ، لأن الإلحاق الموضوعي لا ينافي بقاء المعموم بحاله.

فإن قلت : من جملة الأربعة اليمين المردودة التي يردها المنكر دون الحاكم وهو أمر خامس ، ومن يقول بالقضاء بالنكول يجعله أيضا خامس الموازين ، فالرواية غير واردة عليه. بيانه : ان القاضي بالنكول لا يجعله سادس الموازين بل خامسها ، ومقتضى الرواية أيضا كون الموازين خمسة ، لان الميزان الرابع فيها اليمين المردودة من المنكر ، فإذا أضيف إليها المردودة من قبل الحاكم صارت الموازين خمسة ، فالرواية لا بد من الخروج عن ظاهرها بالتزام ميزان آخر يكون خامس الموازين ، وذلك الميزان الخامس عند القاضي بالنكول هو النكول وعند غيره هي اليمين المردودة.

ص: 226

قلت : لا نسلم أن الرواية غير باقية على ظاهرها ، لان الميزان الرابع فيها ليس سوى اليمين المردودة ، وكونها مردودة من الحاكم لأمن المنكر لا يجعلها قسما آخر حتى يزيد الميزان على الأربعة ، لأن يمين المدعي هي يمين المنكر ، سواء جاء من قبل المنكر أو من قبل الحاكم.

ولو سلم فتنزيل المردودة من المنكر منزلة المردودة من قبل الحاكم إبقاء لظاهر الحصر بحاله ، لما عرفت من أن التنزيل والإلحاق الموضوعي غير مناف لبقاء الحصر على ظاهره ، خصوصا مثل هذا التنزيل الذي هو بمكان من القرب الى الاعتبار.

والحاصل ان الالتزام بكون النكول ميزانا للقضاء لا يجامعه الحصر المستفاد من الرواية كما لا يخفى ، بخلاف التزام كون اليمين المردودة التي يردها الحاكم ، فان ذلك غير مضر بالحصر تحقيقا أو تنزيلا - فافهم.

ومنها - حديث « انما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1). ودلالته واضحة ، لأن نكول المدعي خارج عنهما معا بخلاف اليمين التي يردها الحاكم لأنها داخلة في الثاني.

ودعوى أن المراد بالايمان هي يمين المنكر لا المدعي. ممنوعة بدليل قبول قول المدعي في بعض الموارد بيمينه.

ودعوى خروجها بالدليل. ليس بأولى من حمل الايمان على ما يعم يمين المدعي ، مضافا الى أنا ندعي أن اليمين المردودة هي يمين المنكر ، سواء كان الراد هو المنكر أو الحاكم.

ومنها - ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ،

ص: 227


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وسنة جارية (1). أي القرعة. والنكول خارج عن الثلاثة - إلى أخر ما عرفت هنالك.

وغير ذلك مما دل على حصر حجة المدعي في البينة وخلاص المنكر عن أداء الحق باليمين.

وقد يستدل على المطلوب أيضا برواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي. قال : يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق ، فان لم يفعل فلا حق له (2).

وأجاب عنها في المسالك بضعف سندها بقاسم بن سليمان وضعف دلالتها أيضا بظهورها في كون الراد هو المنكر ، لأن صيغة « يرد » أن قرئت معلوما رجع الضمير المستتر فيها الى المنكر بقرينة رجوع الضمير المستتر في المعطوف عليه - أعني يستحلف - اليه ، فيكون الراد هو المنكر لا الحاكم. وان قرئت مجهولا كان الراد هو الحاكم ، لعدم استتار ضمير فيها حينئذ ، وظاهره الأول.

واستدل أيضا برواية هشام عنه عليه السلام « يرد اليمين على المدعي » (3).

والعمدة هي العمومات.

وحجة القول الثاني أيضا روايات عامة وخاصة :

منها - قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على المنكر » (4).

استدل به في المسالك وغيره ، وتقريب الاستدلال حسبما مرت إليه الإشارة : ان الفقرة الثانية باعتبار تعريف المسند والمسند اليه تفيد قضيتين عامتين ، إحداهما ان كل يمين على المنكر ، والثانية أن كل منكر عليه اليمين كما مرت إليه الإشارة سابقا. ومقتضى عموم القضية الاولى عدم القضاء بيمين المدعي ، لان يمين

ص: 228


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
3- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 3.
4- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

المدعي ليس يمين المنكر ، فليست يمين شرعا بحكم عكس نقيض القضية ، أعني كل ما ليس على المنكر ليس بيمين ، خرج عن عمومها يمين المدعي إذا كان الراد هو المنكر ، وأما غيرها فلا دليل.

لا يقال : عدم القضاء بيمين المدعي لا يستلزم المطلوب ، وهو القضاء بالنكول ، لجواز عدم القضاء رأسا وإيقاف الدعوى أو حبس المنكر حتى يفعل أحد الأمرين أو الأمور من اليمين أو الرد أو أداء الحق.

قلنا : مفروض البحث وجوب القضاء في صورة النكول اما قبل الرد الى المدعي أو بعده ، فاذا ثبت بمقتضى العموم عدم القضاء باليمين تعين القضاء بالنكول.

وفيه :

أولا : ان قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » مسوق لبيان وظيفتهما في ابتداء الأمر ، فالوظيفة الأولية للمدعي هي إقامة البينة ، فلا يكلف ابتداء الا بها ، وكذا وظيفة المنكر الأولية هي اليمين ، فلا يطالب الا بها. وأما وظيفتهما الثانوية - بمعنى وظيفة المدعي مع عدم إقامة البينة ووظيفة المنكر مع عدم الحلف - فهو ساكت عن بيانها. فلا بد من التماس دليل آخر في صورة نكول المنكر عن اليمين أو عدم إقامة المدعي البينة. ومن هنا يعلم أن القضاء باليمين المردودة من قبل المنكر أيضا ليس تخصيصا في عمومها.

وثانيا : ان القضاء بالنكول من دون رد اليمين الى المدعي تخصيصا زائدا في عكس الفقرة الأولى ، لان مقتضى عكسها بحكم تعريف المسند ان كل مدعى عليه البينة بمعنى عدم الحكم له الا بها خرج عنها اليمين إذا ردها المنكر أو الحاكم بالاتفاق ، وأما النكول المجرد عن الرد فلا.

لا يقال : لا نسلم خروج اليمين إذا كان الراد هو الحاكم ، لأنه أول الدعوى ، والقاضي بالنكول لا يقول به ، فالأمر يدور بين خروج النكول أو خروج اليمين

ص: 229

عن العموم ، لا أن خروج اليمين اتفاقي وخروج النكول مشكوك فيه.

لأنا نقول : المراد ان القضاء بالنكول يتصور على قسمين : أحدهما القضاء به بعد رد الحاكم اليمين ، وهذا اتفاقي ، لأن الفريقين كليهما يقولان به ، أما القائل بالرد فواضح وأما القاضي بالنكول فهو أيضا يقضي حينئذ ولو كان لا جل النكول لا لأجل اليمين ، فغرضنا من الاتفاق أن النكول الذي يتعقبه الرد قد خرج عن عموم القضاء بالاتفاق ، سواء كان الخارج هو النكول المجرد أو المتعقب بها ، وأما النكول الذي لا يتعقبه رد فالقضاء به مشكوك ، ومقتضى ما ذكرنا من العموم عدم القضاء.

والحاصل ان القضاء باليمين يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة ، والقضاء بالنكول يستلزمه في عكس الفقرة الاولى ، وأحد التخصيصين ليس بأولى من الأخر.

الا أن يقال : ان القضاء باليمين كما يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة كذلك يستلزم تخصيصا في عكسها ، لأنه إذا اعتبرنا في القضاء الرد فلازمه أن يقضي للمنكر إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة. والقضاء بنكول المدعي تخصيص في عكس الفقرة الأخيرة ، لأن قضية عكسها أن لا يتخلص المنكر الا باليمين ، على التقريب الذي عرفت في عموم الفقرة الأولى أصلا وعكسا. فالأمر يدور بين التخصيص والتخصيص ، والأول أرجح ، فيثبت القضاء بالنكول ويسقط اشتراط الرد.

لا يقال : القضاء بنكول المدعي مما لا كلام فيه ، فهو خارج عن عموم عكس الفقرة الأخيرة بالروايات السابقة ، فهو لازم على أي تقدير.

قلت : نكول المدعي عن اليمين إذا كان الراد المنكر غير نكوله إذا كان

ص: 230

الراد الحاكم ، والإجماع لو كان فإنما هو على القضاء بالأول دون الثاني ، فالقضاء به تخصيص آخر في عكس الفقرة الأخيرة.

ومنها - رواية البصري عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه على ما في محكي الكافي والتهذيب قال : قلت للشيخ - يعني موسى بن جعفر عليه السلام - خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون لا البينة بماله. قال : فيمين المدعي عليه ، فان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه ، وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف والا فلا حق له ، لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البينة ، فإذا ادعى ولا بينة فلا حق له ، لان المدعى عليه ليس بحي ، ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت عليه حق (1).

دلت يصدرها وذيلها على القضاء بمجرد عدم حلف المدعى عليه من دون اشتراطه يرد اليمين : أما الصدر فهو قوله « وان لم يحلف فعليه » ، فإنه يدل على ثبوت الحق عليه بمجرد عدم الحلف من دون اعتبار أمر آخر.

وأورد عليه بوجوه :

« الأول » ان سند الرواية ضعيف لاشتماله على ياسين الضرير.

« والثاني » ان متنها مختلف ، لأنها بعينها مروية في الفقه وليس فيها قوله « وان لم يحلف فعليه » بل « وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له ».

وعلى هذا فلا مساس لها بالمدعي ، واختلاف المتن عيب في الرواية يسقطها عن الاعتبار.

« والثالث » ان ظاهرها مقيد لا محالة ، للإجماع على عدم ثبوت الحق على

ص: 231


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المنكر بمجرد عدم الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : أما رد اليمين وحلف المدعي ، أو نكوله عن الرد أيضا. والاستدلال انما يتم لو كان القيد المقدر ولم يرد ، وهو ممنوع لاحتمال نكوله وحلف المدعي. والحاصل ان التقدير لازم ، فالمقدر اما لم يرد فيكون المعنى ان المدعى عليه ان لم يحلف ولم يرد - أي نكل عن الرد - فعليه الحق أو حلف المدعي ، والمعنى أنه ان لم يحلف وحلف المدعي فعليه الحق. والاستدلال يتم به على الأول ، وأما على الثاني فهي دليل على عدم القضاء بالنكول كما لا يخفى.

وهذه الوجوه كلها مردودة :

( أما الأول ) فلان ضعف السند مع حصول الوثاقة وسكون النفس غير معيب على الرواية ، والرواية مما رواه المشايخ الثلاثة ، فهي مجمع على روايتها وان كان في متنها نحو اختلاف. مع أن الرواية مأخوذة من كتاب احمد بن محمد بن عيسى ، وهو بمكان من الإتقان والمداقة في الرواية حتى أمر بإخراج البرقي من قم لكونه يروي عن الضعفاء. مع أنها معمول بها عند الكل في الجملة ، وهو جابر لسندها ، ولا يشترط في جبران السند بالعمل عمل الأصحاب بجميع فقراتها. نعم ذلك شرط في جبر الدلالة ، فيتقدر الانجبار بمقدار العمل.

( وأما الثاني ) فلان مثل هذا الاختلاف لا يضر ، لعدم رجوعه الى التكاذب والتعارض ، لا مكان الجمع ، بأن كان الكليني «رحمه اللّه» قد أسقط بعض فقرات الرواية وأسقط الفقيه البعض الأخر ، وكان ما ذكره كل منهما هو الذي أسقطه الأخر ، فيؤخذ بهما معا خروجا عن ظاهر كل منهما بنص الأخر ، فإن عدم تعرض الكليني لما رواه الصدوق من الفقرة ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن صريح الصدوق كونها منها ، فيكون التعارض بينهما تعارض النفي والإثبات ،

ص: 232

وكذا عدم تعرض الصدوق لما في الكافي ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن الكافي مصرح بكونها منها.

والحاصل ان هذا الاختلاف بمنزلة روايتين غير متعارضتين ، فيعمل بهما معا ويثبت المطلوب ، ولهذا جمع الشيخ الحرفي الوسائل بينهما ، فروى الرواية جامعة لهما ، وصورة ما عن الوسائل هكذا : وان حلف فلا حق له ، وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه (1).

وأوردها بعض مشايخنا أيضا في جواهره على وجه الجمع بين الفقرتين لكن بعكس ترتيب الوسائل ، فراجع اليه. والحاصل ان ما صنعه في الوسائل في محله.

ومن العجائب ما عن بعض نسخ الوسائل من روايتها على طور رابع ، وصورته ، وان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه وان حلف فلا حق له.

وكيف كان فالعمل بهما معا لا مانع منه.

ثمَّ لو بني على التعارض سقطت عن الاستدلال للإجماع ، وقد يرجع الفقيه لكون الصدوق أضبط.

( وأما الثالث ) فلان التقدير في المقام غير لازم ، بل المقام مقام دوران الأمر بين التقييد بالأقل والأكثر ، وذلك لان إطلاق « وان لم يحلف فعليه » يشمل صورا : أحدها ما إذا لم يحلف ولم يرد بأن يكون ناكلا عن اليمين وردها ، وثانيها ما إذا لم يحلف ورد اليمين وحلف المدعي ، وثالثها ما إذا ردها ولم يحلف المدعي.

والصورة الأخيرة خارجة عن تحت الإطلاق قطعا ، إذ ليس في هذه الصورة شي ء على المنكر جدا. والصورة الثانية باقية تحت الإطلاق ، لأنه إذا حلف

ص: 233


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المدعي ثبت على المنكر الحق. والصورة الاولى مشكوك فيها ، والقاضي بالنكول يدعي بقاءها تحت الإطلاق أيضا والقاتل بعدم القضاء يقول بخروجها ، فالمقام مقام التقييد بالأكثر أو الأقل لا مقام التقدير ودوران المقدر بين الأمرين.

وأما ذيل الرواية فهو قوله عليه السلام « وليس المدعى عليه بحي ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو برد اليمين عليه ». وجه الدلالة : ان مقابلة إلزامه بالحق للحلف ولرده اليمين ظاهرة أو صريحة في أن المدعى عليه إذا لم يحلف ولم يرد الزم بالحق من غير اعتبار أمر آخر.

ودعوى ان المراد الإلزام بالحق بعد رده اليمين على المدعي. خروج عن ظاهر المقابلة ، وبعد رد الحاكم تقييد بلا دليل.

وقد يناقش في دلالتها بسبب إجمال « يرد » لاحتمال كونه مبنيا للمجهول فيسقط عن الاستدلال ، لان مفاد الرواية حينئذ أن المدعى عليه يكلف أولا باليمين وان أبى فبالحق ، وان أبي فالحاكم يرد اليمين الى المدعي ويقضي بعد حلف المدعي.

ويبعده أمران :

أحدهما - ان مقابلة الإلزام بالحق لرد الحاكم لا معنى له ، للإجماع على أن الحاكم ليس مخيرا بين الإلزام بالحق من دون الرد الذي هو عبارة أخرى عن القضاء بالنكول وبين الرد ، ومجرد تكليفه بأداء الحق من غير إلزام ليس بمعنى الإلزام في شي ء.

والثاني - انه ان قرئ مجهولا لم يكن في الكلام قرينة مقالية أو مقامية تدل على المدعي الذي هو مرجع لضمير « عليه » ، فالكلام يخرج الى حد الغلط ، بخلاف ما لو قرئ معلوما فان الضمير المستتر فيه يرجع الى المدعى عليه ، وهو يكون بمنزلة سبق ذكر المدعي - فافهم.

ص: 234

هذا مع احتمال أن يكون عبارة الحديث « برده اليمين » بالموحدة ، فيكون مفعولا بالواسطة لألزم.

ثمَّ ان الإلزام باليمين أو الحق أو الرد يحتمل معنيين : أحدهما كونه في مقام إنشاء الحكم الشرعي ، فالمعنى ان حكم اللّه حينئذ الإلزام بأحد الأمور ، والاستدلال به حينئذ واضح ، لان القضاء بالنكول هو الإلزام بالحق إذا لم يرد.

والثاني أن يكون مسوقا لبيان الواقع ، بمعنى أن المدعى عليه لو كان حيا لكان يلزمه أحد الأمور ، لا أن الإلزام بأحدها وظيفة الحاكم.

ووجه لزوم أحد هذه الأمور للمدعي عليه الحي : هو أن وظيفته شرعا الحلف أو رده اليمين ، فيلزمه الحاكم بأحدهما ويقهره عليهما الا أن يختار أحدهما ، فمتى لم يختر شيئا فهو في عقوبة الحاكم وإلزامه الى أن يفك نفسه ويتوصل الى خلاص نفسه مع التمرد منهما برد الحق ، فلزوم الأمور المذكورة له ليس لأجل كون الإلزام بأحدها حكم اللّه تعالى ، بل لان حكمه تعالى هو الإلزام باليمين أو الرد.

لكن قد ينجر الأمر الى أن المدعى عليه لا يحلف ولا يرد ولكن يخلص نفسه بدفع الحق ، فقوله « الزم اليمين » إلخ بيان لما ينتهي اليه أمر المدعى عليه الحي ولو باختيار نفسه. وعلى هذا يثبت القضاء بالنكول أيضا ، لأن رد الحاكم يمنع عن لزوم أحد هذه الأمور ، إذ ربما ينكل عن اليمين فيسقط حقه ، فلا بد من القول بعدم الرد محافظة للحصر.

لا يقال : القضاء بالنكول غير دفع المدعى عليه الحق تخلصا عن اليمين والرد.

لأنا نقول : « أولا » انه يبطل القضاء بالرد كما عرفت ، وإذا بطل ذلك ثبت القضاء بالنكول ، لاتفاق الفريقين على أنه لا بد من القضاء. « وثانيا » ان القضاء

ص: 235

بالنكول لا يقصد منه سوى إخراج الحق بدون الرد ، وهو بعينه ما يدل عليه الرواية - فتأمل.

ومنها - رواية الأخرس : سأل محمد بن مسلم الصادق عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف؟ قال : ان أمير المؤمنين عليه السلام كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها ، فامتنع فألزمه الدين (1).

وظاهرها الإلزام بدون رد اليمين والا لنقل ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. مضافا الى ظهور كلمة الفاء في « فألزمه الدين » على تعقيب الإلزام للامتناع بلا مهلة فتخلل اليمين بينهما.

ودعوى ان حكاية الحال مجملة لا تصلح للاستدلال. ساقطة في مثل المقام المسوق لجواب السؤال ، خصوصا إذا كان الحاكي هو الامام عليه السلام.

لكن يمكن المناقشة فيها بوجه آخر ، وهو ان الإجماع قائم على عدم القضاء بمجرد الامتناع عن الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : اما النكول عن رد اليمين أو اليمين المردودة ، فلا بد من الالتزام بإهمال المكاتبة وعدم اشتمالها على تمام ميزان القضاء ، فتكون مجملة.

ولا يوجه بما وجهنا به الاستدلال بقوله « ولا يحلف » في رواية البصري ، تضعيفا لورود مثل هذه المناقشة الذي تو همه بعض الأجلاء كما لا يخفى.

هذا مدرك القول الثاني ، ومع ذلك فالقول الأول لم يبعد ، لما تقدم. واللّه العالم.

تذييل [ مستثنيات عدم القضاء بالنكول ]

قد استثنى الأصحاب من مسألة عدم القضاء بالنكول على القول به مواضع ،

ص: 236


1- الوسائل ج 18 ب 33 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وظاهره الاستثناء كما في المسالك (1) القضاء به فيها على القول بعدم القضاء به مطلقا : منها دعوى التهمة وقد تقدمت ، ومنها دعوى الوصي ما لا لليتيم ، ومنها دعواه على الورثة إيصاء الميت مالا للفقراء. والضابط كل موضع امتنع رد اليمين الى المدعي لمانع عقلي أو شرعي ، ولعله يأتي إنشاء اللّه تعالى بيان ذلك المانع الشرعي أو العقلي في المواضع المشار إليها.

ويمكن أن يستدل على الاستثناء بوجوه :

( منها ) أن فصل الخصومة في تلك المواضع ، مما لا بد منه ، لعموم الايات والاخبار الإمرة بالحكم بما أنزل اللّه تعالى الدالة على سماع الدعوى. مضافا الى ما فيه من المحافظة على عدم ضياع الحقوق الذي هو الداعي إلى شرعية أصل القضاء والى ظاهر اتفاقهم على ذلك.

ولو قيل بتوقيف الدعوى عند تمرد المنكر من الحلف على القول بعدم القضاء بالنكول ، وإذا ثبت سماع الدعوى فيها فلا بد من القضاء بالنكول ، إذ على تقدير عدمه لا يترتب على السماع فائدة إذا لم يكن للمدعي بينة ، لان الحاكم لا يقدر حينئذ إلزام المنكر بشي ء ، فإن غاية ماله ان يقول له « احلف وان شئت لا تحلف فليس عليك شي ء » ، ومن المعلوم أن ذلك عين عدم سماع الدعوى.

فان قلت : نمنع وجوب سماع الدعوى فيها مع عدم البينة ، لأن أوامر الحكم بما أنزل اللّه تعالى متخصص بحكم العقل بما إذا كان هناك ميزان للحكم. ومن هنا لا يسمع الدعوى على الميت أو الصغير. وبالجملة كل موضع ليس المدعى عليه قابلا للإحلاف إذا لم يكن للمدعي بينة وليس في هذه المواضع بعد فقد البينة ميزان للحكم ، لان يمين المنكر على تقدير كونها ميزانا فإنما هي في صورة إمكان الرد لا مطلقا ، لظاهر قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بالأربعة » التي ليس منها القضاء بالنكول بدون الرد.

ص: 237


1- واعلم ان ظاهر المسالك الاستثناء من الرد لأمن القضاء بالنكول - فافهم « منه ».

قلت : أولا كلامنا مع الجماعة الذين رأوا سماع الدعوى مع عدم القضاء بالنكول وإيقاف الدعوى. وثانيا انه لا دلالة في الرواية على انحصار ميزان القضاء في الأربعة مطلقا بل في الموارد التي يمكن فيها الرد ، لأنها مسوقة لبيان الموازين التي هي تحت قدرة المدعي استظهارا من لفظ « الاستخراج » كما يظهر وجهه بالتدبر. ولو سلم الإطلاق ففيما يأتي دلالة على التقييد بصورة إمكان الرد.

( ومنها ) قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) ، لأن ظاهر الفقرة الأخيرة - كما مر غير مرة - حصر وجوه خلاص المنكر وانفكا كه من قيد الدعوى في اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فحيث لا يحلف الزم بالحق ، خرج منه صورة نكول المدعي عن اليمين المردودة مع إمكان الرد وبقي الباقي.

فإن قلت : ظاهر الفقرة الأولى أيضا حصر حجج الدعوى وأسباب استخراج حقه بالبينة ، خرج منه اليمين المردودة أو نكول المدعي عليه عن رد اليمين على القضاء بالنكول ، وأما نكوله عن اليمين مع عدم النكول عن الرد باعتبار عدم إمكانه فلا دليل على خروجه.

قلت : أولا أنا ندعي بقرينة كلمة « على » انها لا تدل الا على انحصار حجج المدعي التي هي تحت قدرته واختياره كالبينة ونحوها في البينة ، وأما ما هو خارج عن اختياره كنكول المنكر فلا يندرج في عموم المحصور - فافهم وتأمل.

وثانيا انا نجمع بين الفقرتين ونقول : أما المدعي فليس له حجة في هذه المواضع على إثبات حقه ، وأما المنكر فليس له خلاص أيضا إلا باليمين ، ويترتب عليه أن المنكر اما أن يحلف أو يؤدي الحق أو يحبس تحقيقا لمعنى حصر خلاصه في اليمين - فتأمل.

ص: 238


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

( ومنها ) قوله عليه السلام في رواية البصري المتقدمة « وان لم يحلف - أي المنكر - فعليه الحق » ، فإن غاية ما يرد على إطلاقه تقييده برد الحاكم اليمين الى المدعي مع إمكانه وأما مع عدمه فلا.

فان قلت : هذا معارض بما في الروايات الأخر من أن المدعي إذا لم يحلف فلا شي ء له.

قلت : المراد عدم الحلف مع الرد لا مطلقا ، خصوصا مع ملاحظة ما في بعض الروايات ، حيث أن فيها بدل ولم يحلف « وان أبى عن الحلف أو امتنع » ، فان ظاهر الإباء والامتناع أو صريحهما عدم الحلف فيما له أن يحلف لا فيما لا يجوز له الحلف لمانع شرعي أو عقلي.

( ومنها ) أن سير الموازين الشرعية للقضاء والتأمل فيها يقضي باعتبار نكول المنكر عن اليمين ميزانا للقضاء أيضا ، لأنه أمارة نوعية على اشتغال الذمة ، مثل نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المنكر عن الرد على القول بالقضاء به ، فيكون نكول المنكر عن اليمين أيضا كذلك - فتأمل.

( ومنها ) ما سبق في المسألة السابقة من الروايات الواردة في خصوص موضع الدعوى تهمة الذي يندرج في مفروض المسألة ، كقوله عليه السلام في الصائغ والأجير : ان اتهمته فاستحلفه لعله يستخرج منه شيئا.

وجه الدلالة ، انه لو لا القضاء بالنكول فلا يترتب الاستخراج على الاستحلاف ، لان المدعي ان حلف وان لم يحلف فلا يلزم عليه شي ء على هذا القول.

ودعوى ان احتمال الاستخراج لرجاء الإقرار بسبب الاستحلاف مدفوع : أولا بأن الخارج بسبب الإقرار لا يصدق عليه عنوان المستخرج ، وثانيا ان رجاء الإقرار من الاستحلاف على تقدير عدم القضاء بالنكول لا وجه له ، لان الاستحلاف انما يجدي في الإقرار إذا كان الامتناع من الحلف تعظيما لله تعالى متوقفا عليه. وأما

ص: 239

إذا لم يكن متوقفا عليه ولا على دفع الحق بل يتحقق مع عدمهما أيضا فلا وجه للرجاء المزبور. الا أن يقال : ان الاستحلاف في الرواية محمول على الاستحلاف في غير مقام الحكومة ، فتدبر.

هذه وجوه يمكن توجيه الاستثناء بها بمعنى الحكم بالقضاء بالنكول على القول بعدمه في غير المقام ، ولكن للمناقشة في الكل أو الجل نظر. ولو قيل بالحبس حتى يقر أو يحلف كان أوجه ، وان كان لا يقاف الدعوى رأسا أيضا وجه ، ولكن القول بسقوط حق المدعي نظرا إلى إطلاق ما سمعت من أنه إذا لم يحلف فلا شي ء له ، بمكان من الضعف والسقوط. واللّه العالم.

التقاط [ لا يستحلف المدعى لو أقام بينة تثبت حقه ]

إذا أقام المدعي بينة قابلة لا ثبات الحق لم يستحلف إذا كان المدعى عليه حيا عاقلا بالغا حاضرا. بلا خلاف موجود أو محكي ، عملا بالروايات المصرحة بالمعتضدة بمقتضى قاعدة كون البينة حجة مستقلة والعمومات الحاصرة لتكليف المدعي في البينة.

وما ورد في بعض الروايات من وصية علي عليه السلام لشريح برد اليمين الى المدعي مع إقامة البينة لكونه أجلى للعمى (1). محمول على ما لو انقلب المنكر مدعيا فاستحلفه ، أو على ما إذا كانت الدعوى على غير الجامع للأوصاف المزبورة.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا شهدت البينة على سبب الحق واستصحبه الحاكم - على القول بجوازه - أو شهدت بالحق الفعلي اتكالا على الاستصحاب. وان

ص: 240


1- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

كان احتمال عدم ثبوت الحق واقعا قائما وانتفاؤه مما لم يتفرع على البينة في الصورتين ، فان هذا الاحتمال مع فرض حجية البينة في الصورتين لا يعتنى به بحيث يوجب توقف الحكم بالاشتغال الفعلي على ضم اليمين بالبينة ، للإجماع المحقق على أن المنكر إذا لم يستحلف المدعى يثبت الحق بالبينة في الصورتين ، فلو لا إتمام الحجة بمجردها لزم الحلف طلبه المنكر أو لم يطلب استكمالا للحجة.

ودعوى أنه إذا لم يطلب وسكت فسكوته دليل على اعترافه بعدم حصول البراءة على فرض وجود السبب ، فيؤخذ بمقتضى ظاهر سكوته في مقام البيان ، بخلاف ما إذا ادعى البراءة الفعلية. وان كان احتمالا وجيها الا أنه مجرد تخريج لا دليل عليه.

فثبت أن قيام الحجة على السبب يكفي في إثبات الحق الفعلي ولا يعتنى معها على احتمال البراءة الفعلية ، سواء ادعاها المنكر أم لم يدع. نعم له دعوى الإبراء أو الأداء أو نحوهما مما يوجب انقلاب المنكر مدعيا ، فيسمع حينئذ قوله ويستحلف المدعي حينئذ لكونه منكرا ، بلا خلاف ظاهر فيه بين الأصحاب.

وعليه نزل في كشف اللثام قول العلامة « ولو التمس بعد إقامة البينة عليه - أي على الحق - إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب » يعني انه لو التمس الإحلاف بعد دعوى ما يوجب انقلاب المنكر مدعيا كالإبراء والأداء لا دعوى البراءة الفعلية وعدم الاستحقاق الفعلي ، فإنه لا ينطبق الا على الاحتمال المزبور الذي لا دليل عليه ، ونعم التنزيل. وبه يجمع بينه وبين ما قال بعده « ولو التمس المنكر يمين المدعي مع الشهادة لم يلزم إجابته » فإنه لولاه لتناقض القولان جدا.

هذا إذا كان المدعى عليه حيا ، وأما إذا كان ميتا فيستحلف على المشهور ، لما في رواية عبد الرحمن البصري وقد تقدم ذكرها برمتها في المسألة السابقة (1) ،

ص: 241


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وفيها : وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو قد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف والا فلا حق له ، لأنا لا ندري لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البينة - الحديث.

وهذه الرواية لا شي ء عليها دلالة وسندا ، لان يس الضرير الذي ضعفت الرواية لأجله وكون مجهولا يتبين حسن حاله من كون الرواية مأخوذة من كتاب احمد بن إسحاق القمي لأنه كان لا يروي عن الضعفاء بل كان يأمر بإخراج من دأبه ذلك من قم مثل محمد بن خالد البرقي كما أشرنا إليه سابقا.

مع أن المناط عندنا ليس على وثاقة الراوي وعدالته ، بل على الظن الاطمئناني بالصدور الذي يتحقق غالبا من عمل جملة من الأصحاب فضلا عن عمل الجل أو الكل ، فالعمل بها في مواردها لا كلام فيه وانما الكلام في تنقيح العلة وإلغاء بعض الخصوصيات التي اشتمل عليها العلة ، مثل كون المدعي أصيلا لا وكيلا أو وصيا أو وليا وكون المدعى به دينا وكون المدعى عليه ميتا وكون الاحتمال المنفي باليمين احتمال حصول البراءة في حياة المدعى عليه لا في مماته ، وكون احتمال البراءة ناشئا من حصول مبرئة بعد الاشتغال لأمن احتمال فساد السبب الذي شهد به الشهود كالإقرار للتورية ، والعقد الفاقد لبعض الشروط المخفي على الشاهدين ، وكون الحجة خصوص البينة لا الشاهد واليمين وما في حكمهما وكون البراءة حاصلة من فعل الميت كما يقتضيه قوله « وفاه » لأمن إبراء المدعي أو وفاء الأجنبي ونحو ذلك مما لا يخفى.

[ الإشارة إلى مواضع تلغى فيها خصوصيات العلة ]

وبالجملة في العلة خصوصيات لا خلاف ولا إشكال في إلغائها وخصوصيات

ص: 242

في إلغائها إشكال أو خلاف ، فهاهنا مقامات لا بأس بالإشارة إليها مفصلا ليرجع فيما يشك في إلغائه واعتباره الى الأصل وهو عدم الاعتبار :

( فمن الاولى ) كون المدعي والمدعى عليه رجلين على ما يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ ، إذ الظاهر عدم اعتبار الرجولية لا في المدعي ولا في المدعى عليه إجماعا.

( ومنها ) كون الاحتمال المنفي باليمين احتمال وفاء الميت في حال حياته ، إذ الظاهر عدم العبرة به أيضا ، فلو علم عدم وفائه واحتمل إبراء المدعي له في حال حياته أو وفاء الغير عنه تبرعا أو مع الاذن كالوكيل أو احتمال شي ء من المسقطات وأسباب براءة ذمة الميت في حال حياته وغيرها توجهت اليمين الاستظهاري أيضا ، بنفي ذلك كله.

ولا مدخلية لخصوصية وفاء الميت ، وان كان هو مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ ، وحينئذ فيكون قوله عليه السلام ، « ولعله قد وفاه » كناية عن مطلق المبرئ للذمة ، مثل قول القائل « لا أبرح عن هذا المكان حتى يؤذن المؤذن ».

( ومن الثانية ) كون البراءة المحتملة هي البراءة حال الحياة ، فلو علم بموته مشغول الذمة واحتمل حصول البراءة بعد الموت فإنه محل الاشكال والتأمل في المسالك وغيره ، والجمود على صريح الرواية اختصاص الحكم باحتمال البراءة في حال الحياة ، فيرجع مع القطع بعدمه إلى القاعدة التي أشرنا إليها من عدم اعتبار ضم اليمين ولو احتمل حصولها بعد الموت.

وجه الاشكال : انه ينبغي النظر في أن اعتبار اليمين هنا هل هو من جهة توقف ثبوت الدعوى على اليمين المنضمة إلى البينة ، بأن تكون البينة باعتبار عدم نهوضها بإثبات الاستحقاق الفعلي إلا باعمال الاستصحاب ناقصة محتاجة في

ص: 243

إثبات الفعلية إلا دفع احتمال البراءة الواقعية باليمين أو من جهة مراعاة احتمال دعوى الميت البراءة لو كان حيا.

وعلى الأول يتعدى في الحكم عما يقتضيه ظاهر اللفظ ويحمل التقييد باحتمال الوفاء في حال الحياة على الغالب ، لان الغالب عدم حصول البراءة بعد الموت إلا بأداء الوارث ويؤخذ بإطلاق الحكم ، كما هو الشأن في كل قيد جرى مجرى الغالب ، فيقال : ان قوله « فعلى المدعي اليمين » مطلق واختصاص العلة بما إذا كانت البراءة المحتملة في حال حياته محمول على الغالب ، وهو تسالم الوارث مع المدعي بقاء الحق فعلا على تقدير موته وعليه الحق ، فلا يؤثر في تقييد المطلق.

وعلى الأخير يقتصر في الحكم على ظاهر العلة ويقال : ان اليمين هذه انما شرعت لدفع احتمال ما للميت أن يدعيه لا لنقصان في هذه البينة على خلافها في غير الدعوى على الميت.

توضيحه : انه إذا ثبت الحق عند الحاكم ببينة عادلة فللمدعي عليه دعاوي مسموعة : أحدها دعوى جرح الشهود ، وهذه يقوم بها أولياء الميت. وثانيها دعوى الإبراء أو الوفاء مع البينة ، وهذه تدفع بالأصل ، لا صلاة عدم الحجة على الاحتمال المزبور. وثالثها دعوى أحدهما أو بما يقرب منهما في حصول براءة الذمة بلا بينة ، وهذه لا يترتب عليها سوى توجيه اليمين الى المدعي ، فجعل الشارع الحاكم نائبا منوب الميت في استحلاف المدعي مراعاة لجانب الميت.

ومثله اليمين في الدعوى على الغائب على القول بها ، فإنها اليمين التي لو كان المدعى عليه حاضرا لطلبها ، واليه أشار الشيخ في محكي المبسوط حيث قال : ان المدعى عليه الغائب لو حضر وادعى جرح الشهود أن اقامة البينة على

ص: 244

التأدية فهو على حجته ، وان ادعى ما يتوجه عليه اليمين فيقول الحاكم أني قد استحلفته نيابة عنك. وعلى هذا فلا معنى للاستحلاف لا جل احتمال حصول البراءة بعد الموت ، إذ ليس للميت دعوى ذلك حتى يقوم الحاكم مقامه في الاستحلاف.

والحاصل ان الدعوى على الشخص في مماته تنزيل منزلة الدعوى عليه في حال حياته ، ويراعى حينئذ جانب الميت باستحلاف المدعي دفعا لاحتمال أنه لو كانت الدعوى في حال الحياة فربما كان يتوجه اليمين الى المدعي ، ومن الواضح أنه لو كانت الدعوى في حال الحياة لما كان له ادعاء حصول البراءة بعد الممات وانما يكون ذلك لو نزل الميت بمنزلة الحي في حال الدعوى كما لا يخفى.

وفرق واضح بين تنزيل الدعوى في حال الممات منزلة الدعوى حال الحياة وبين تنزيل المدعى عليه الميت منزلة الحي ، وادعاء حصول البراءة بعد الموت انما يتعقل منه على الثاني دون الأول. نعم للوارث دعوى البراءة بعد الموت وإحلاف المدعي ، ولا كلام فيه.

ويمكن ترجيح الاحتمال الثاني بظاهر العلة بعد حملها على العلة الحقيقية دون الصورية التي هي في قوة القضية الكلية. وجه الدلالة : ان قضية التعليل في كلمات المعصوم لا بد أن يكون بالأمور المعلومة المفروغ عنها أو المأنوسة عند المخاطب ، فان التعليل لحكم تعبدي توقيفي بأمر توقيفي غير معلوم للمخاطب ولا مأنوس قبل مستهجن جدا إلا فيما كان الغرض منها بيان قاعدة كلية دون العلة ، مثل أن يقال « زيد وارث عمرو لأنه ابنه » ، وهذا لا يتم على تقدير كون المراد بقوله عليه السلام « لأنا لا ندري » إبداء احتمال البراءة كما يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ ، لعدم صلاحية احتمال البراءة الواقعية لأن تكون علة للاستحلاف الا من باب أخذ أصل العلة أيضا أخذ المسلمات ، وهو كما ترى بمكان من القبح لعرائه عن الفائدة.

ص: 245

[ فرض دعوى الميت البراءة لو كان حيا ]

وأما لو قولنا بأن المراد به إبداء احتمال دعوى الميت للبراءة على تقدير الحياة كان تعليله من الأمور المعلومة المفروغ عنها ، لان دعوى البراءة بعد ثبوت سبب الاشتغال مستتبعة شرعا لتوجه اليمين الى المدعي بحيث يعلمه كل أحد.

وإذا كانت الدعوى المزبورة حكمها الاستحلاف حسن تعليل وجوب الاستحلاف استظهارا عند احتمالها على تقدير الحياة ، وان كان تعليل أصل الاستحلاف بالاحتمال المزبور غير مستحسن ، لان الحكم ببعض آثار الشي ء إذا كان على وجه الاحتياط جاز تعليله باحتمال وجود ذلك الشي ء ، والذي لا يحسن تعليله بمجرد الاحتمال التقديري ، انما هو الحكم به لا على وجه الاستظهار والاحتياط.

توضيح المقام : ان الاستحلاف هنا بعد قيام البينة الاستصحابية خروج عما تقتضيه عمومات البينة وقاعدة الاستصحاب ، فلا بد من تعليله إذا علل بعلة غير مطردة في جميع مجاري الاستصحاب وأغلب مجاري البينة ، فإن التعليل بعلة مطردة مع عدم اطراد الحكم مستهجن جدا ، وحينئذ فإن كان المراد بقوله « لأنا لا ندري » إلخ ، تعليل الاستحلاف باحتمال البراءة الواقعية كان تعليلا بالعلة المطردة مع عدم اطراد الحكم ، لان هذا الاحتمال قائم في الدعوى على الحي أيضا مع عدم الاستحلاف هنا كما عرفت ، بخلاف ما لو قيل ان المراد تعليله باحتمال دعوى الميت البراءة ، فإن العلة حينئذ تختص بمورد الحكم وما يضاهيه من موارد قيام هذا الاحتمال كالدعوى على الغائب وأخواته ويحسن بذلك التعليل ويكون مرجعه إلى مراعاة الاحتياط في اعمال موازين القضاء ، كما أن الأول يرجع الى الاحتياط في الحكم باشتغال الذمة الذي يقتضيه البينة بضميمة الاستصحاب.

ص: 246

ومن الواضح أن إيجاب الاحتياط في الحكم بالاشتغال مع اقتضاء الاستصحاب خلافه أمر غير معهود ، فلا يحسن تعليله بأمر يكون مثله في الغرابة ، أعني احتمال البراءة الواقعية.

وأما إيجاب الاحتياط في استعمال موازين القضاء بالجمع بين البينة واليمين مراعاة لاحتمال دعوى لا يترتب عليها سوى الاستحلاف ، أمر مأنوس بالاذهان كأنه من الأمور المعلومة عند المخاطب.

ويمكن استفادة ذلك أيضا من قوله « أو بغير بينة » ، إذ لو كان المقصود إبداء احتمال البراءة الذي يجري في جميع الموارد كفى في ذلك قوله « ببينة » ، فيعلم من ذلك أنه عليه السلام أراد بقوله « بغير بينة » إبداء احتمال يستتبع الاستحلاف إذ لو كان قد وفي بغير بينة فليس له سوى الاستحلاف.

وبالجملة فرق واضح بين قولنا « يجب الاستحلاف لاحتمال البراءة الواقعية » وبين قولنا « يجب لاحتمال دعوى البراءة » ، فإن الأول تعليل ركيك مخالف لقاعدة حجية البينة والاستصحاب والثاني غير مخالف لشي ء منهما ، أمر مأنوس بالاذهان كأنه أمر معلوم ، لان دعوى البراءة على تقدير فعليتها بعد ثبوت الاشتغال مستتبعة للاستحلاف جدا ، وعلى تقدير كونها تقديرية يناسبها الاستحلاف استظهارا ، ومرجعه الى الاحتياط والأخذ بالأوثق في استعمال ميزان القضاء ، لان الاحتياط في كل شي ء بحسبه.

والاحتياط في اعمال الموازين هو مراعاة جميع الدعاوي المحتملة واستعمال ما يناسب كل منها من الموازين حتى يكون الحكم جامعا للميزان على كل تقدير كما في المقام ، فان المدعى عليه لو كان حيا فاما يعترف بالحق أو يدعي البراءة الأصلية أو يدعي البراءة الطارئة بعد الاشتغال ببينة أو يدعيها بغير بينة ، وعلى جميع التقادير يقع الحكم موقعه ، أما على الأول فواضح وأما على الثاني فلان

ص: 247

دعوى البراءة الأصلية لا يلتفت إليها للبينة القائمة على أصل الاشتغال ، وكذا على الثالث ، لان الفرض عجزه عن إقامة البينة وكذا عجز الحاكم أو الوارث ، وأما على الأخير فيلتفت الى دعواه ويستحلف المدعي ، فإذا حلف المدعي مع البينة كان الحكم بما يدعيه حكما جامعا لجميع ما تيسر من موازين القضاء.

ثمَّ ان المراد بقوله « لأنا لا ندري لعله وفي » إبداء احتمال دعوى البراءة الحاصلة قبل الموت كما هو صريح الرواية. فلا يتعدى الى احتمال دعوى البراءة الحاصلة بعد الموت ، وان كان هذا في حسن التعليل مثل الأول.

مضافا الى أن الإنسان إذا مات مشغول الذمة كان دعوى بقاء الاشتغال الى زمان الدعوى ادعاء على الورثة ، فيعامل معها حينئذ ما يعامل مع الدعاوي على الاحياء ، فلا وجه لاستحلاف المدعي مع عدم ادعاء الوارث للبراءة ، ومع الادعاء فلا اشكال ولا كلام في الاستحلاف لكونها دعوى صحيحة مسموعة يترتب عليها الاستحلاف مع عدم البينة.

[ بعض ثمرات قول المدعى « لا ندري » ]

ثمَّ انه لا يذهب عليك ما بين الوجهين من الفروع والثمرات ، فإنها كثيرة جدا :

( فمن الثمرات ) أنه لو قيل بالوجه الأول - أعني كون المقصود من قوله « لا ندري لعله وفاه » تعليل الاستحلاف بإبداء احتمال البراءة - لم يسقط الحلف إذا شهدت البينة بالاشتغال حال الموت ، إذ الفرض على هذا الوجه عدم صلاحية البينة المجردة لا ثبات الحق على الميت ، بل لا بد من ضم اليمين بها حتى يكونا معا حجة تامة ، فلا بد من الاستحلاف أيضا دفعا للاحتمال المخفي على الشهود تكملة للبينة ، وأما لو قيل بالوجه الثاني سقط الحلف جدا ، لان الشهود إذا شهدت بالاشتغال في حال الموت لم يلتفت الى دعواه البراءة ، لمصادمتها للشهود.

ص: 248

( ومنها ) أنه لو كان المدعي على الميت لم يتمكن من الحلف كالوكيل بدون دعوى العلم عليه أو الوصي أو الولي سقط الحلف على الثاني ، لأن الحلف إذا كان وجهه الاحتياط في ميزان القضاء والدفع ما للميت أن يدعيه على تقدير الحياة ، اختص بما إذا كانت على تقدير فعليتها مؤثرة في الاستحلاف ، لان مزية الفرع على الأصل لا معنى لها. فاذا فرضنا أنه لو كان حيا وادعى البراءة لم يكن له استحلاف المدعي فكيف يستحلفه الحاكم مراعاة لتلك الدعوى.

وأما على الأول فلا يسقط ، لان اليمين شرعت حينئذ تكلمة للبينة وجزء من الحجة ، فإذا تعذرت نقصت الحجة ويوقف الدعوى ، وهذا معنى عدم السقوط.

وبعبارة أخرى : إذا قلنا بالوجه الثاني فاليمين شرط اختياري وإذا قلنا بالأول فهو شرط مطلقا.

( ومنها ) لو فرض أن المدعي ممن لا يجوز له أن يحلف على البت كالوارث : فعلى الأول يسقط الحلف ويوقف الدعوى ، لان اليمين المذكورة في الرواية يمين على الإثبات والاشتغال الواقعي ، فإذا قلنا ان يمين المدعي لدفع احتمال البراءة الواقعية تكملة للبينة فلا وجه للعدول عنها الى اليمين على نفي العلم إذا تعذرت على البت ، بل غاية الأمر إيقاف الدعوى لنقصان الميزان. وأما على الوجه الثاني ثبت الحلف وتمَّ القضاء ، لان الغرض من هذه اليمين لما كان دفع دعوى محتملة دارت من حيث كونها على البت وعدمه مدار الدعوى ، فان كانت في موضع يترتب عليها فيه اليمين على البت توجهت كذلك على المدعي والا فعلى نفي العلم.

( ومنها ) مسألة الدعوى على الغائب والمجنون والصغير والمغمى عليه ونحوهم فإنها متفرعة على الوجهين : فعلى الأول لا وجه لإلحاقهم بالميت ، لان عدم حجية البينة بالاستقلال بل مع اليمين في خصوص الدعوى على الميت لا يستلزم عدم الحجية في الدعوى على غيره أيضا ، فلا وجه للإلحاق. وأما على

ص: 249

الوجه الثاني فلما كان مبناه على كون اليمين لدفع الدعوى فلا جرم يطرد في كل مقام يقوم فيه احتمال الدعوى.

ومن الثانية أيضا كون المدعى به دينا ، مقتضى الجمود على ظاهر الرواية اختصاص الحكم به وعدم التعدي إلى العين بقرينة « وفاه » ، فان ضميره الذي هو بمنزلة مفعوله الأول يرجع الى الرجل المدعى ومفعوله الثاني وهو الحق محذوف ، والمعنى وفي الرجل حقه ، وتوفية الرجل حقه ظاهر بل صريح في كون ذلك الحق دينا ، لان تأدية العين لا يطلق عليها التوفية ، يقال وفيت الرجل أو أوفيته إذا أديت دينه ، أما لان الوفاء عبارة عن إعطاء ما في الذمة وإبرائها عما عليها من الحق أو لأن الوفاء إذا بني على باب التفعيل أو الافعال ونسب الى الشخص فيراد به الخروج عن عهدة دينه لا عينه.

لكن يمكن إلغاء خصوصية الدين أيضا ، نحو إلغاء خصوصية مباشرة الميت للتوفية بذوق الفقاهة ، لأنه المعيار في مثل المقام ، والا فلا ضابطة لذلك بل الأمر يدور مدار الحدس ، فكما قلنا لا مدخلية لخصوصية التوفية بل لو احتمل إبراء المدعي أو وفاء الأجنبي وجب الاستحلاف أيضا ، فكذلك نقول ان خصوصية الدين أيضا ملغاة ، إذ المدار على قيام احتمال دعوى الميت لو كان حيا دعوى يترتب عليها الاستحلاف ، وهو في العين أيضا موجود ، فان الميت لو كان حيا فربما كان يدعي انتقال العين التي أقام المدعي على استحقاقها البينة ويستحلف.

المدعي والحاصل ان المسألة غامضة ، والمدار على حدس الفقيه القاطع بإلغاء خصوصية الدين.

( ومنها ) كون حجة المدعي خصوص البينة على ما يقتضيه الجمود على ظاهر الرواية أيضا ، لكن الظاهر عدم الفرق بينها وبين سائر الموازين كالشاهد واليمين ورجل وامرأتين ، وهل يعتبر تعدد الحلف بناء على التعدي في الأول

ص: 250

أم يكفي يمين جامعة بين الحدوث والبقاء كما ذكره العلامة في محكي؟ وجه العدم :

انهما مترتبان ، لان اليمين الاولى جزء من الميزان للدعوى الاولى واليمين الثانية لدفع الدعوى الثانية المحتملة بعد الفراغ عن الدعوى الاولى ، فلا بد أولا من فصل الدعوى الاولى باليمين ثمَّ تقدير دعوى أخرى ثمَّ اليمين ، وهذا مثل ما لو انقلب المنكر مدعيا واستحلف ، فان اليمين هذه لتأخر رتبتها عن الدعوى الأولى التي كان فيها منكرا لا يستحلف قبل طي الدعوى الاولى ، فعدم كفاية اليمين الجامعة ليس لأن الواحدة لا تقوم مقام الاثنتين بل لما بينهما من الترتيب الرتبي. لكن الأظهر الكفاية لأن الترتيب انما هو بين الدعويين لا بين ميزانيهما ، فلو فرض كون إحداهما فعلية والأخرى تقديرية جاز اجتماعهما واجتماع ميزانيهما.

ومنه يعلم الوجه في عدم جواز الحلف قبل دعوى الإبراء إذا كان المدعى عليه حيا ، لان الدعويين المترتبتين المتحققتين لا يجتمعان جدا فلا يجمع بين ميزانيهما. وليس هذا من باب تداخل اليمين ، لان الحلف بأمور متعددة ينحل الى الايمان المتعددة ، ولذا لو قال « واللّه لأفعلن كذا وكذا وكذا » وحنث بترك الكل كان عليه ثلاث كفارات.

( ومنها ) كون احتمال البراءة ناشئا من احتمال حصول المبرئ بعد سبب الاشتغال إذا كان المدعى به دينا أو حصول الناقل بعد سبب الملكية إذا كان عينا ، لا من احتمال فساد السبب كالتورية في الإقرار وفساد الشرط في العقد ونحوهما ، فإن التعدي عن الأول الذي هو مورد التعليل الى الثاني أيضا مبني على حدس الفقيه.

ولا بعد فيه بناء على ما استظهرنا من التعليل من كون الغرض من اليمين دفع الدعوى المحتملة لا دفع احتمال البراءة ، فإنه إذا كان الاحتياط في ميزان القضاء

ص: 251

بمراعاة الدعاوي المحتملة واجبا على القاضي دار الحكم مدار تقدير دعوى يترتب عليه الإحلاف ، سواء تعلقت بالرفع بعد حصول السبب أو بالدفع بأن تتعلق بأصل السبب وتجعله غير مؤثر.

[ الدعوى على الحي الذي لا لسان له حين الدعوى ]

هذا كله في الدعوى على الميت ، وأما التعدي منه الى الحي الذي لا لسان له حين الدعوى كالغائب والمجنون والصغير والمغمى عليه ونحوهم فقد تقدم في ذكر ثمرات الوجهين المزبورين أنه على الوجه الثاني الذي استظهرنا لا إشكال في التعدي ، وأما على الوجه الأول فقد قلنا ان التعدي مشكل.

لكن الأظهر عدم الفرق بين الوجهين في المقام وان كان التعدي على الوجه الثاني أوضح ، لأن قوله عليه السلام « لأنا لا ندري لعله وفاه » علة منصوصة تجري في كل مقام يقوم فيه احتمال الوفاء ، ولا نقتصر على موردها الذي هو الميت ، ولو أخذنا بمجامع خصوصياتها ولم نتعد عن شي ء منها.

فما في المسالك من إبداء الفرق بين الميت وبين هؤلاء ، مبني على عدم الالتفات الى النص بالعلة ، وان منصوص العلة يكفي فيه خصوصية المورد ، فلا يقتصر في مثل قوله « الخمر حرام لإسكاره أو لأنه مسكر » على حرمة الخمر خاصة بل يتعدى الى كل مسكر ويحكم بحرمته باتفاق غير المرتضى «رحمه اللّه» ، وحينئذ نقول : ان الغائب بل كل من يتطرق في حقه احتمال الوفاء ولا لسان له حين الدعوى في حكم الميت لأنا لا ندره لعله وفاه - انتهى.

لكن في خصوص القضاء على الغائب وردت روايات صريحة في أنه إذا قامت البينة على الحق سلم المال الى المدعي بكفلاء ويكون الغائب على حجته

ص: 252

إذا حضر (1) ، ومقتضاها عدم ثبوت اليمين الاستظهارية في الدعوى عليه من جهة الحصر الظاهر من السكوت في مقام البيان ، فيتعارض عموم العلة المنصوصة تعارض العامين ، لان عموم التعليل يقضي بالاستحلاف مع قيام احتمال دعوى الوفاء مطلقا في الميت وغيره.

وإطلاق قوله « يقضي على الغائب إذا قامت عليه البينة ويباع أمواله » يقضي بكفاية البينة سواء كان معها يمين أم لا ، ففي صورة حلف المدعي لا إشكال في القضاء ، وفي صورة عدم الحلف يتعارضان فيه.

وقد يقرر النسبة بينهما بأن التعليل صريح في صورة قيام احتمال الدعوى وعام من حيث كون المدعى عليه الغائب وغيره ، وتلك الرواية صريحة في الغائب ومطلقة من حيث قيام احتمال الدعوى وعدمه ، كما إذا كان بقاء الحق على تقدير ثبوته معلوما ، فمورد التعارض - أعني محل الاجتماع - هو الدعوى على الغائب مع قيام الاحتمال المزبور.

وقد يقال : ان الرواية أخص مطلقا من العلة ، لأن صورة عدم قيام احتمال الدعوى فرض نادر لا يصلح لحمل الرواية عليها ، فتكون كالصريح في صورة قيام الاحتمال الذي هو مورد الاجتماع ، وبعد ملاحظة الحصر المستفاد من السكوت في مقام البيان تكون أخص من العلة.

والانصاف أن ظهور العلة في الاستحلاف أقوى من ظهورها في العدم على أي تقدير ، فيعمل بظهور العلة ، لأن المدار في رجحان الدلالة على قوة الظهور وضعفه. ولذا حكمنا بأن ظهور منطوق آية النبإ من حيث العلة في عدم العمل بالظن ولو كان حاصلا من قول العدل أقوى من ظهور مفهومها في القبول وان كان المفهوم أخص من المنطوق.

ص: 253


1- الوسائل ج 18 ب 26 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

والسر فيما ادعينا أن ظهور السكوت في مقام البيان الذي يوجب كون الرواية أخص من العلة المنصوصة ظهور عقلي وظهور العلة ظهور لفظي ، فهو مقدم على الظهور العقلي وان كان هو مقدما على الأصول.

ودعوى ان ما في الرواية من أن الغائب على حجته يؤكد الحصر المستفاد من السكوت ممنوعة ، لأن المراد بالحجة التي عليها الغائب هي إقامة البينة ، ولو سلم إطلاقها الشامل للإحلاف أيضا مع أنه كما ترى نقول أيضا : ان كون الغائب على حجته بمعنى جواز الإحلاف له إذا حضر وادعى الإبراء لا ينافي استحلاف القاضي أيضا قبل حضوره ، لان استحلافه احتياط فيما يصدر منه من القضاء ، وهذا لا ينافي كون الغائب أيضا على حجته إذا حضر.

ومن هنا يظهر أن ما في الدروس من الجمع بين إحلاف الحاكم قبل حضور الغائب وإحلافه إذا حضر ، ليس كل البعيد. ولعل الكلام يأتي فيه إنشاء اللّه تعالى.

نعم لو قلنا بتكافؤ الظهورين وتساقطهما كان المرجع العمومات النافية لليمين مع البينة ، مثل قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بالبيان المتقدم.

ثمَّ ان المناط في الدعوى على الغائب وأخواته قيام احتمال البراءة إلى حين الدعوى الى زمان الغيبة كالموت في الدعوى على الميت ، فلا بد أن يكون اليمين على بقاء الحق فعلا وعدم حصول البراءة لا قبل الغيبة ولا بعدها على خلاف الدعوى على الميت ، فإنك عرفت أن المعتبر فيها احتمال البراءة قبل الموت لا بعده.

والفرق واضح ، لان احتمال البراءة بعد الموت ليس مما يتعلق بالميت بل بالورثة ، بخلاف احتمال البراءة بعد الغيبة ، فإن الغائب على فرض حضوره له دعوى البراءة بعد الغيبة.

ص: 254

[ لو كان المدعى وكيلا عن غائب ]

هذا كله فيما إذا كان المدعي على الغائب مثلا أصيلا ، فلو كان وكيلا فهل يستحلف الوكيل مطلقا أو لا يستحلف مطلقا ، أو يفصل بين ما إذا كانت الدعوى المحتملة التقديرية دعوى إبراء الموكل أو قبضه فلا يستحلف وبين ما إذا كانت دعوى قبض الوكيل أو علمه بقبض الموكل فيستحلف؟ وجوه مبنية على استحلاف الوكيل المدعي على الحاضر مطلقا أو عدم الاستحلاف أو التفصيل بين الصورتين.

وحيث أن الأظهر الموافق لقول الأكثر في صورة دعوى الوكيل على الحاضر هو التفصيل ، كان الحكم في دعواه على الغائب أيضا كذلك ، لان الفرع لا يزيد على الأصل. فإذا كان المدعى عليه الحاضر - على تقدير إبراء الموكل أو قبضه - لا يستحلف الوكيل فكيف يستحلفه الحاكم لاحتمال دعوى الغائب إبراء الموكل.

نعم لما كان دعوى الحاضر على الوكيل قبضه أو علمه بقبض الموكل مسموعة مستتبعة لا حلافه استحلف أيضا في الدعوى على الغائب على عدم القبض أو عدم العلم به.

ولو قيل : ان دعوى الحاضر على الوكيل قبضه أو علمه غير مسموعة أيضا ، فلا يتوجه الحلف على عدمها على الوكيل ، كان الحكم في الدعوى على الغائب عدم الاستحلاف أيضا مطلقا. فظهر وجوه المسألة المشار إليها.

وكيف كان فلو قيل باستحلاف الوكيل فلا كلام ، والا ففي القضاء بالبينة أو عدم القضاء وإيقاف الدعوى الى زمان حضور الغائب أو مباشرة الموكل بنفسه الدعوى أيضا. وجهان أشير إليهما فيما تقدم من أن اليمين هل هي شرط في القضاء على الميت والغائب ونحو هما مطلقا أو إذا كانت ممكنة. وعلى الأول

ص: 255

توقف الدعوى لعدم تحقق شرط القضاء الذي هو البينة مع اليمين ، وعلى الثاني يقضي كما مر.

وصرح بعض مشايخنا بعدم تسليم المال الى الوكيل ، لعدم ثبوت الحق بدون الحلف والوكيل لا يحلف ، وقد عرفت الحال في حلف الوكيل.

وقد تقدم أيضا أن اليمين إذا لم تكن مكملة للبينة - بأن كانت لدفع احتمال البراءة الخفي - بل مشروعة لدفع الدعاوي المحتملة احتياطا للقاضي في مسألة القضاء لا احتياطا في مراعاة الواقع كما على فرض التكملة كانت شرطا في حال الإمكان لا مطلقا. واللّه العالم.

التقاط [ هل يسلم الحق الى المدعى لو كان المدعى عليه غائبا؟ ]

إذا ادعي على الغائب وتمَّ ميزان القضاء ففي الروايات أنه لا يسلم الحق الى المدعي أو وكيله الا بكفلاء ، وصرح بمضمونها في الشرائع وعمل بها ، لكنه لا يقول باليمين في الدعوى على الغائب والصبي ، فيكون الكفيل عنده عوضا عن اليمين كما في المسالك ، لكن عن القواعد اعتبار اليمين والكفيل معا.

ولعله أولى ، إذ مسألة التكفيل لا ربط لها بمسألة اليمين ، لأن القائل بعدم اليمين يقول أيضا بتمام الحجة بالبينة المحضة ، فيكون القول بالتكفيل للتعبد بالنص ، ولا مانع منه مع كون القضاء على هؤلاء مبنيا على مراعاة الاحتياط على ما اخترنا من اعتبار اليمين للعلة المنصوصة.

ثمَّ أن أخذ الكفيل هنا مشكل من حيث عدم انطباقه على القواعد :

أما أولا : فلان الحجة بعد ما تمت فلا وجه للتكفيل ، إذ ليس للغائب عليه سلطنة فعلية ، واحتمال اقامة الحجة بعد الحضور لا يعجل العقوبة - فتأمل.

ص: 256

وأما ثانيا : فلان الكفالة هنا عبارة عن الضمانة ، خصوصا بقرينة ما في بعض هذه الروايات من اعتبار الملاءة في المدعى عند تسليم المال اليه وليس المراد بها الكفالة المصطلحة. والضمانة لا بد فيها من موجب معلوم للمضمون حتى لا يرجع الى ضمان ما لم يجب ولم يعلم بعد ثبوت كون المدعى مستحقا عليه.

الا أن يقال : انه ضمان ما لم يتبين أو ضمان العين. توضيحه : ان الضمانة على أقسام : ضمانة الدين ونحوه من الجرم والغرامة المترتبة على الإتلافات ، وضمانة العين وهي التي جوزها المحقق في كتاب الضمان واستشكل فيه صاحب المسالك ، وهو أن يتعهد الشخص لعين من الأعيان كتعهد اليد العارية لما تستولي عليه ، ومرجعها الى التزام الضامن بكون تلفها من كيسه لا من كيس مالكها ، وضمان ما لم يجب وهو أن يضم الشخص بشي ء لم يوجد سببه بعد كضمان صداق زوجة يتزوجها شخص بعد ، وضمان ما لم يتبين كضمان درك المبيع فإنه إذا احتمل كون المبيع مستحقا للغير احتمل استحقاق المشتري على البائع بعضوه ، فضمان شخص لما على المشتري إذا تبين فساد العقد ضمان لأمر محتمل الوجود غير معلوم وليس من ضمان ما لم يجب. وما نحن فيه يحتمل أن يكون من القسم الأخير أو من ضمانة العين.

التقاط [ سكوت المدعى عند اقامة الدعوى ]

إذا سكت المدعي ولم يجب فان كان لعذر كوحشة أو غباوة أو صمم أو خرس أرفق به ، ويوصل في الأخيرين إلى معرفة الجواب بالإشارة الموصلة اليه. وان كان عند عناد ففيه أقوال ثلاثة نقلها في الشرائع : أحدها أنه يحبس

ص: 257

حتى يتبين الحال ، والثاني أنه يجبر ويلزم بالضرب ونحوه حتى يجيب ، والثالث أنه يقول له الحاكم أجب والا جعلتك ناكلا.

والأخير أظهر ، لأن الإجبار أو الحبس متفرعان على أن لا يكون هناك ميزان شرعي لفصل الخصومة ، وأما معه فلا وجه للعدول عنه الى ما لم يتحقق سببه بعد. وإطلاق الأدلة الماضية قاضية بأن وظيفة المدعى عليه اليمين أو الرد فاذا سكت قضى بالنكول عليه مع الرد أو بدونه على الاختلاف المتقدم.

وفي رواية البصري الماضية « وان لم يحلف - أي المدعى عليه - فعليه » كما في الكافي والتهذيب ، ولا ريب أنه إذا سكت يصدق عليه أنه لم يحلف.

وحينئذ فإن قضينا بالنكول حكم عليه بعد قوله « أجب والا جعلتك ناكلا » والا فبعد رد اليمين الى المدعي.

ثمَّ ان ظاهر الأقوال الثلاثة أنه لا يسأل عن المدعى هل له بينة أم لا. وهو الذي استظهره المحقق القمي من كلامهم فيما حكي عنه ، وأورد عليهم بأن البينة مقدمة على الحبس أو الإجبار أو القضاء بالنكول.

والحق أن هذا الاستظهار ليس في محله ، فلا وقع للإيراد المذكور أيضا ، لأن كلماتهم هنا وان كانت مطلقة بحسب الظاهر لكن الظاهر بل المعلوم أن مصب الأقوال الثلاثة في بيان وظيفة القاضي إذا لم يكن للمدعي بينة لا مطلقا حتى لو أقام البينة لم تسمع ، إذ لا وجه لذلك ، كما لا وجه لتوهم قول الأصحاب به. فغرضهم ان الجواب بالسكوت حكمه ما ذا كما أن الجواب بالإنكار حكمه اليمين ، فكما أن قولهم بإحلاف المنكر انما هو بعد فقد البينة كذلك قولهم بحبس الساكت أو إجباره أو إجراء حكم النكول عليه.

ص: 258

[ إذا قال المدعى « لا أدرى » ]

هذا واضح ، وانما الإشكال فيما لو قال في الجواب « لا أدري ما تقول » ، فان فيه أقوالا واحتمالات :

( أحدها ) توقف القضاء على البينة وعدم اليمين مطلقا وعدم الرد وعدم القضاء بالنكول تنزيلا له منزلة الميت الذي لا لسان له أو منزلة الصبي أو الغائب ونحوهم ممن لا لسان له في الجواب ، لأنه إذا قال « لا أدري » كانت الدعوى لا منكر لها. ولم نجد قائلا ، بل ذكر بعض مشايخنا قدس سره احتمالا معترفا بأنه خلاف الإجماع ظاهرا.

( والثاني ) انه يحلف يمين نفي العلم ، ويكتفى به في سقوط الدعوى ، لكن لو أقام البينة بعدها سمعت ، على خلاف يمين البت التي لا تسمع البينة بعدها. وهذا مختار بعض مشايخنا قدس سره.

واستدل عليه بما حاصله : ان المدعى عليه وظيفته اليمين نصا وفتوى ، وأما كونها على نحو البت أو على نفي العلم فيتبع كيفية الإنكار ، فإن كان على وجه ينفي الاستحقاق الواقعي فهي على البت ، أو على وجه ينفي الاستحقاق الظاهري فهي على نفي العلم. ويظهر من محكي مجمع البرهان الميل اليه ، وعن الكفاية نفي البعد عنه.

( والثالث ) انه يحلف يمين البت اتكالا على الأصل. ذكره في محكي الكفاية على نحو الإمكان والاحتمال.

( والرابع ) عدم توقف القضاء على البينة وعدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم ، بل برد اليمين على المدعي بناء على عدم القضاء بالنكول أو مطلقا.

ص: 259

وهو ظاهر الكل أو الجل على ما اعترف به غير واحد منهم الأردبيلي والسبزواري قدس سر هما ، وهو الأقوى.

لنا على ذلك ظهور الاتفاق وإطلاق الاخبار :

أما الأول - فلأنهم اتفقوا على أن الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل المدعى عليه فاليمين لا بد أن تكون على نحو البت ، وإذا كانت متعلقة بفعل غير المدعى عليه كالميت فيكفي أن تكون على نفي العلم. ثمَّ انهم اختلفوا في بعض الفروع في كون اليمين على البت أو على نفي العلم ، مثل ما لو كانت الدعوى متعلقة بفعل البهيمة أو بفعل العبد ، ومثل دعوى الاخوة ونحوها ، فقيل انه لا بد أن تكون اليمين على نحو البت ، وقيل انه يكفي أن تكون على نفي العلم إلحاقا لها بفعل الغير.

ولا ريب انهم حيثما يقولون باعتبار البت في اليمين معناه القضاء بالنكول أو مع الرد حيثما تعذرت اليمين على نحو البت بعذر شرعي أو عقلي ، مثل ما إذا كان المدعى عليه المنكر قد نذر سابقا أن لا يحلف باللّه صادقا وكاذبا ، فإن شرطية البت في اليمين حينئذ قاضية بالنكول أو مع الرد. والحاصل ان اليمين على نحو البت حيثما تعتبر فهي شرط مطلق ثابت في حال الإمكان والتعذر.

وقضية بقاء الشرطية مع العذر والقضاء بالنكول أو مع الرد ، ولعل المكتفى في مسألتنا هذه باليمين على نفي العلم يقول في صورة التعذر الناشئ من النذر بتوقف القضاء على البينة. وهو كما ترى ، وقد عرفت انهم اعتبروا البت في اليمين إذا كانت الدعوى متعلقة بفعل النفس ، وقضية ذلك أنه إذا تعذرت اليمين البتية قضى بالنكول أو مع الرد.

فان قلت : ما صرحوا به من البت في اليمين إذا كانت الدعوى متعلقة بفعل النفس مبنى على الغالب ، وهو علم الشخص بفعله ، فلا يجري فيما لا يعلم بفعله ، فإنه حينئذ كفعل الغير.

ص: 260

قلنا : أولا دعوى الغلبة ممنوعة ، لأن العلم بعدم الشي ء واقعا غالبا متعسر ، لابتنائه على الإحاطة بجميع أسباب وجوده الخفية والقطع بانتفائها أجمع ، سواء كان ذلك الشي ء فعل نفسه أو فعل غيره.

وثانيا : ان الغلبة المزبورة ليست بحيث يكون صورة عدم العلم بفعل النفس معها مسكوتا عنها في كلامهم ، كيف مع أنا لو لم نقل بأكثرية هذه الصورة بالنسبة إلى صورة العلم أو مساواتها لها فلا أقل من كثرتها في نفسها بحيث يبعد خروجها عن كلامهم ، فاما أن يقال انها داخلة تحت إطلاق قولهم باعتبار البت في اليمين ، أو يقال انها مهملة مسكوت عنها في كلامهم ، أو يقال ان حكمها حكم الدعوى المتعلقة بفعل الغير ، وكلها كما ترى.

وثالثا : ان موضوع المسألتين الخلافيتين وموضوع المسألة الاتفاقية واحد كما لا يخفى ، ولا ريب أنه لا يمكن أن يجعل مفروض كلامهم في المسألتين الخلافيتين كون المدعى عليه عالما بالواقع ، بأن يكون إنكاره متوجها الى الواقع ، لان يمين العالم لا بد أن تكون على نحو البت باعتراف الخصم وباتفاق الكل إذا كانت الدعوى غير متعلقة بفعل الغير ، فلا بد أن يجعل موضوع المسألة مطلق المدعى عليه ، سواء كان عالما بالواقع أو جاهلا.

وبالجملة من راجع كلماتهم في تقسيم اليمين على قسمين على أنهم حيثما يقولون باعتبار البت في اليمين لا يشترطون فيه علم المدعى عليه بالحال ، وعلم أيضا أن خلاف العامة مع الأصحاب وفيما بينهم - حيث ذهب بعضهم الى كون اليمين دائما على البت سواء تعلقت بفعل النفس أو بفعل الغير وبعضهم إلى أنها دائما على نفي العلم كذلك - ليس مقصورا بصورة علم المدعى عليه أو جهله بل مطلق شامل للصورتين.

وثمرته ما أشرنا من أن اليمين حيثما كانت على البت وتعذرت لجهل المدعى

ص: 261

عليه أو لعذر آخر قضى بالنكول أو بعد الرد ، مع أن إيقاف سماع الدعوى على البينة مما لم يلتزم به أحد. ولازم المكتفي باليمين على نفي العلم ذلك إذا كان المدعي معترفا بعدم علمه.

فان قلت : قد صرح بعضهم بأن الوارث ان علم بالحال فيما يتعلق بمورثه من الدعاوي حلف على البت ، والا فيكتفى منه باليمين على عدم العلم. وقضية المقابلة أن يكون الأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فقولهم « ان اليمين فيما يتعلق بفعل النفس لا بد أن تكون على البت » ينزل أيضا على صورة العلم بالحال ، نظير قولهم في فعل الغير.

قلت : المصرح قد اختلط عليه الحال بعض الاختلاط ، لأنا نقول : ان الوارث يكتفي منه الحلف على عدم العلم مطلقا سواء علم بالحال أم لا. والظاهر أنه رأي الكل أو الجل ، ومقتضى المقابلة أنه لا يكتفي في فعل النفس أيضا إلا بالبت. ولعل التصريح المزبور منشؤه الاشتباه في مسألتنا هذه.

[ اعتبار الحلف في المدعى عليه ]

وأما الاخبار فهي أيضا تدل على اعتبار الحلف في المدعى عليه وان كان في بعضها التقييد بالجحود والإنكار ، لأن المقام ليس مقام التقييد كما لا يخفى ، والخصم أيضا يساعدنا على ذلك وانما يدعي أن اليمين أعم من أن تكون على البت أو على نفي العلم.

وأنت خبير بأن اليمين المقابلة للبينة لا يراد بها سوى ما يتعلق منها بالواقع كالبينة ، فالمراد باليمين ليست الا ما كانت ناظرة إلى نفي الدعوى واقعا كالبينة المثبتة لها كذلك :

فمنها ما مر في ذيل حديث البصري « ولو كان المدعى عليه حيا لا لزم اليمين

ص: 262

أو الحق أو يرد اليمين » (1) ، فإنه صريح الدلالة في أن المدعى عليه الحي لا مفر له من أحد هذه الأمور الثلاثة ، سواء قلنا ان الترديد قد لو حظ فيه حال الموارد جميعا أو حال كل مورد : فعلى الأول فهو ترديد توزيعي ، يعني ان المدعى عليه قد يكون ممن يلزم باليمين كالمنكر ، وقد يكون ممن يلزم بالحق كما لو أقر ، وقد يكون ممن يلزم بالرد كالساكت أو من يقول « لا أدري ». وعلى الثاني فهو تخيير شرعي يرجع الى كل مدعى عليه ، فيقول له الحاكم اما أن تحلف أو تعطي الحق أو ترد اليمين.

أما شموله للمقام بناء على الأول فواضح ، لأن الذي يلزم بالرد خاصة ليس الا الساكت ومن يقول « لا أدري » ، وأما شموله له بناء على الثاني فلان المجيب بلا أدري يمكن في حقه الترديد بين الأمور الثلاثة ، إذ لا مانع له من اليمين على البت في نظرنا ، لاحتمال علمه بالعدم ، ويعبر عنه بعدم العلم الذي هو أعم من العلم بالعدم ، فيقول له اما أن تحلف على البت ان كنت عالما بالعدم واما أن تعطي الحق أو ترد ولو فرضنا كونه جاهلا وان قوله « لا أدري » مبني على جهله بالحال لا على علمه بالعدم.

فمع أنه كلام خارج عن الفرض لان الفرض حكم الجواب بلا أدري مع قطع النظر عن علمنا بحاله نظير حكم الجواب بالإنكار ، وان كان شاكا أو كاذبا أو فرضنا تصريحه في الجواب بالجهل نقول حينئذ : انه يجب عليه ما يجب على المنكر بطريق البت إذا علمنا بجهله وكونه شاكا.

والحاصل ان حكم الجواب بلا أدري مسألة وحكم الشاك مسألة أخرى تجرى فيمن يجيب بلا أدري أو يجيب بالإنكار ، ومقتضى الدليل هو الالتزام بأحد

ص: 263


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

الأمور الثلاثة ، سواء أجاب بالإنكار أو بلا أدري أو سكت ، وسواء كان ظاهر قوله مطابقا لاعتقاده أم لا.

هذا كله مع أنا لو فرضنا أنه اختار الرد بدون إلزام الحاكم توجه اليمين الى المدعى قطعا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، ويتم الكلام في صورة عدم الاختيار بالإجماع المركب ، لان الرد إذا قلنا به في الجملة قلنا به مطلقا ، لوضوح كون يمين المنكر حينئذ ميزانا للقضاء ، والقائل بعدم الرد لعله يدعي أن الميزان هو يمين المدعى عليه على نفي العلم.

ومما ذكرنا ظهر وجوه بقية الأقوال وضعفها أيضا حتى القول الثاني. نعم قد يستدل بل قد استدل عليه - مضافا الى ما تقدم من إطلاق قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ببعض الأخبار الدالة على أن الرجل لا يحلف الا على علمه ، كخبر ابي بصير ومرسلة يونس « لا يستحلف الرجل الا على علمه » ولا تقع اليمين الا على العلم استحلف أو لم يستحلف (1).

وفيه : انها مسوقة لبيان وظيفة الحالف في مقام التكليف ، وان الشاك لا يحل له الحلف. وأين هذا من مسألتنا هذه التي نبحث فيها عن ميزان القضاء إذا كان المدعى عليه قول « لا أدري » أو كان شاكا في الواقع. واللّه العالم.

مسائل ( متعلقة بالقضاء على الغائب )

( أولها ) لا اشكال نصا وفتوى في القضاء على الغائب عن البلد إذا كان بعيدا ، وأما الغائب عن مجلس القضاء وهو الحاضر في البلد ، فان كان الحضور متعذرا له فلا اشكال ولا خلاف أيضا في القضاء عليه ، ودليله جميع أدلة القضاء مع

ص: 264


1- الكافي ج 7 ص 445 باب لا يحلف الرجل الا على علمه.

قاعدة نفي الضرر ، وأما مع عدم التعذر ففي القضاء عليه قولان ، والمشهور القضاء ، لكن الدليل عليه غير مساعد ، لعدم وفاء الإطلاقات بالدلالة على ذلك لإهمالها من هذه الجهة أو لانسباق الحاضر منها واختصاص ما ورد في خصوص القضاء على الغائب بالنائي بحكم التبادر.

مضافا الى ما يظهر من روايات عديدة ناطقة بعدم القضاء الا بعد السؤال عن المدعى عليه المعللة بأن ذلك أحوط وأبى في القضاء ، مثل رواية محمد ابن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الأخر ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء (1). ومثله غيره.

ودعوى اختصاصها بالمتخاصمين الحاضرين. لا تضر ، لان الظاهر منها إعطاء قاعدة القضاوة من غير مدخلية لحضور الخصم وغيبته ، فالسؤال عن المدعى عليه كسائر ما ورد في آداب القضاء أمر راجع الى شرائط القضاوة ، سواء تعلقت بالحاضر أو الغائب.

وأما ظهورها في الندب ، فغير قادح أيضا بعد كون الحكم في الحاضر على نحو الوجوب بالإجماع ، وتعليل الحكم الوجوبي بما يلوح منه الندب باب معروف في الروايات يراد إبداء المناسبة.

ونظيره ما ذكره المحقق القمي في استدلال الامام عليه السلام على طرح الشاذ النادر من الروايتين المتعارضتين بحديث التثليث الذي حمله على الاستحباب. فما عن عوائد المحقق النراقي من حمل الرواية على الاستحباب ليس بجيد.

لا يقال : ربما يكون في عدم الحكم على الحاضر في البلد الغائب عن

ص: 265


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب آداب القاضي ح 2 وهو عن أبى جعفر عليه السلام.

مجلس القضاء ضرر على المدعي ، فيجب بقاعدة نفي الضرر التي هي المستند في القضاء على من يتعذر عليه الحضور.

لأنا نقول : قاعدة نفي الضرر لا يعمل بها إلا في مقام الاطمئنان لكثرة ما بها من التخصيص ، ولا اطمينان بها في القضاء وان نسب الى المشهور القول به.

فتأمل. مع أن الكلام في المقام مع قطع النظر عن لزوم الضرر وان القضاء هل يشترط بحضور المدعى عليه في غير الغائب عن البلد أم لا ، فلو قيل بالاشتراط لم يلزم منه عدم الفضاء مطلقا حتى ينفى الضرر.

وقد يتوهم دلالة النبوي « إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الأخر قضى للذي وفي » وأمثاله على المدعى. وهو سهو ، لان ذلك دليل على القضاء على الممتنع ، وهو خارج عن محل الكلام.

ثمَّ ان التعذر الذي يسوغ معه القضاء على غير الحاضر في المجلس ، أمر موكول الى العرف لأحد له شرعا ، فيختلف باختلاف الأحوال والازمان والأمكنة والمدعي والمدعى عليه ، ومن جملة العذر ما لو صبر المدعي الى زواله فات بعض حوائجه ، مثل مصاحبة رفقة السفر ، الى غير ذلك مما يظهر بالمراجعة إلى العرف.

ثمَّ الغائب عن البلد ان كان قريبا منه حكمه حكم البعيد الى حد المسافة لإطلاق أدلة الغائب ومعلومية صدقه على مطلق الخارج عن البلد ، ولكن ذلك أيضا موكول الى العرف ، ولا يبعد تحديد ذلك بحد الترخص الشرعي لأنه مما يساعد عليه العرف أيضا.

( فرع ) لو كان المدعى به متعلقا باثنين أحدهما حاضر والأخر غائب فأقام المدعي البينة وقضى فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى الغائب الأخر حكمه حكم القضاء على الغائب أم لا؟ فيه وجوه.

مثاله دعوى الزوجية ، فلو ادعى أحد زوجية امرأة حاضرة وقضى له بالبينة ،

ص: 266

فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى آخر غائب يدعي زوجيته مثل القضاء على الغائب أم لا؟

قد يقال ذلك ، وفائدته الاستحلاف استظهارا على القول به في القضاء على الغائب لو كان هناك دعوى محتملة من ذلك الغائب ويكون هو على حجته إذا حضر.

وقد يقال ان القضاء ينفذ عليه منجزا من دون استحلاف ، إلحاقا له بالقضاء على الحاضر. وهو أضعف الوجوه.

وقد يقال عدم نفوذ القضاء عليه مطلقا ، بل يجب تجديد إقامة البينة إذا حضر.

وقد يقال ان المدعي حينئذ يكون منكرا بالقياس الى ذلك الأخر ، لقوة جانبه بإقامة البينة فله إذا حضر الدعوى عليه.

ثمَّ ان الحكم التسجيلي الذي ذكره في محكي القواعد ليس من باب القضاء على الغائب ، وهو أن يقيم ذو اليد على ملكية ما في يده تسجيلا على من يتوهم مخاصمته ومنازعته ، وهذا على تقدير صحته ليس من باب القضاء على الغائب. واللّه العالم.

( الثانية ) المدعي على الغائب اما أن يتعرض جحوده أو يتعرض لإقراره أو لا يتعرض شيئا منهما ، والأول هو القدر المتيقن من أدلة القضاء على الغائب ، وأما الثاني فقد صرح في محكي القواعد على عدم القضاء حينئذ لاشتراط الجحود ، والظاهر أنه شرط في مطلق الدعوى والمخاصمة ، لأن الدعوى وما يشتق منه من الصيغ ظاهر في المخاصمة والمشاجرة ، ومع التنزل فلا أقل من قصور أدلة القضاء على الحاضر والغائب عن التناول لذلك.

وحال الأخير يظهر مما ذكر ، فان شرطنا الجحود لم تسمع الدعوى والا

ص: 267

سمعت ، لكن في محكي القواعد مع اشتراطه الجحود ان عدم التعرض للإقرار يكفي في سماع الدعوى.

هذا بالنسبة إلى الحكم والقضاء ، وأما بالنسبة إلى أخذ المال فقد صرح في محكي التحرير بأنها تسمع ولو مع التعرض للاعتراف مع تصريحه بعدم سماعها للحكم. ولا بعد فيه بناء على عموم حجية البينة مع اعمال قاعدة نفي الضرر حيثما تجري ، ولا ينافيه ما نقلنا من عدم حجية البينة فيما يتعلق بحقوق الناس الا بعد الحكم. ولا حكم في المقام ، لان ذلك مختص بصورة التشاجر والتنازع ولو محتملا ، ومع فرض اعتراف الغائب لا نزاع هنا ، فيكون إثبات المال كسائر الموضوعات مثل إثبات الهلال ونحوه.

الا أن يقال : ان قول المدعي لا يكفي في ثبوت إقرار الغائب ، فلو أثبت إقراره أيضا بالبينة أخذ المال ، فحيث لم يثبت إقراره بعد يكون المقام مقام الدعوى ولو احتمالا. واللّه العالم.

( الثالثة ) لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل وادعى الغريم التسليم الى الموكل ولا بينة ، ففي الإلزام تردد بين الوقوف في الحكم لاحتمال الأداء وبين الحكم وإلغاء دعواه ، لان التوقف يؤدي الى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء ، والأول أشبه.

هذه عبارة الشرائع ، وفهم منه المسالك أن المصنف اختار الإلزام والحكم.

وفي بعض حواشي المسالك ان ظاهر العبارة التوقف.

والأول أظهر احتمالا ومحتملا ، وذلك لان دعوى الغريم التسليم الى الموكل دعوى على الغائب بلا بينة ، ولا تسمع الدعوى على الغائب الا بالبينة.

ومنه يظهر أنه لا يمين هنا أيضا لأجل هذه الدعوى.

نعم لو ادعى على الوكيل العلم بالتسليم فله الإحلاف ، لأنه دعوى متعلقة

ص: 268

بفعل الغير ، والدعوى المتعلقة بفعل الغير يترتب عليها يمين نفي العلم إذا تعرض المدعي للعلم.

ثمَّ انه لا وجه هنا للتكفيل الذي احتمله بعض ، تسوية بينه وبين الدعوى على الغائب الذي تقدم دلالة الأخبار عليه فيها ، لان هذه الدعوى بعد ما كانت ساقطة في الشرع لم يتزلزل شرعا الدفع ، وإذا لم يتزلزل الدفع لم يكن وجه للكفيل.

نعم لو كان المدعى عليه أيضا غائبا - بأن ادعى وكيل الغائب على وكيل الغائب أو عليه - توجه التكفيل ، لان المدعى عليه إذا كان غائبا قام هنا احتمال دعوى مسموعة ، غاية الأمر عدم تأثير هذا الاحتمال عاجلا في الاستحلاف نظرا إلى غيبة المدعي وعدم جواز حلف الوكيل عنه ولكنه لا يوجب عدم مراعاة ذلك الاحتمال رأسا ، إذ من المحتمل أنه إذا حضر وحضر خصمه احلف.

وقضية المراعاة التكفيل بناء على جوازه مطلقا أو في خصوص تسليم مال الغائب.

فظهر الفرق بينه وبين الأول ، لان المدعي للتكفيل في الأول حاضر ودعواه التسليم الى الموكل غير معتبرة ، فلا مقتضى للتحليف. بخلاف الثاني ، فإن مقتضى التحليف فيه موجود ، وهو احتمال دعوى الغائب إذا حضر. وانما لا يستحلف لأجل فقد الشرط وهو حضور الموكل.

ثمَّ التكفيل للدفع المتزلزل مرجعه الى ضمان ما لم يتبين وجود سببه مع احتماله في الواقع ، ومنه ضمان درك الثمن وضمان العين والتعهد بها ، وسماه في محكي القواعد بالاستيثاق وعدله موارد من الفقه :

( منها ) ضمان درك المهر ، والدئل عليه على وجه يكون قاعدة كلية مفقود ، لكن أصل شرعيته في الجملة ثابتة ، كما مر في دفع مال الغائب بكفلاء. ولعله

ص: 269

يكفي في جواز اشتراطه في ضمن عقد من العقود كالبيع والصلح ، لأن الشي ء إذا ثبت شرعيته في الجملة أمكن الحكم باندراجه تحت عموم الأدلة ، وأما مع الشك في أصل شرعيته ففيه اشكال.

مثلا العدول من الجماعة إلى الفرادى لما ثبت شرعيته في الجملة - كما في صلاة الخوف - أمكن القول بجوازه في الجماعة لأدلة الجماعة ، وأما العدول من الانفراد إلى الجماعة لما لم يثبت أصلا لم يجز القول به الا من زعم ان أدلة الجماعة مطلقة لا مهملة.

وكيف كان فالظاهر أن التكفيل ليس تعبدا محضا بل لأجل الاستيثاق كما فهمه الشهيد ، فيسقط إذا كان الأخذ موثوقا به في الرد مع تحقق سببه ، وإلا لزم التسلسل ، لان الكفيل أيضا يحتاج الى كفيل آخر. واللّه العالم.

ص: 270

القول في كيفية الاستحلاف

التقاط [ عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى ]

ظاهر الأصحاب الاتفاق على أنه لا بد أن يكون الحلف المثبت لحق أو النافي له - وبالجملة في مقام الدعوى - باللّه تعالى ، فلو حلف بغيره لغي الحلف.

هذا في المسلم ، وأما اليهودي والنصراني والمجوسي والدهري والوثني وما أشبههم ، فقد ذكر في محكي المبسوط والشرائع أنه يجوز إحلافهم بغيره تعالى ، مع تقييده في الشرائع بما إذا كان الحلف به أردع. لكن النصوص عاما وخاصا متفقة على عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى ، منها ما سمعت في السابق « اقض بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » (1).

وأما في غير مقام الدعوى فالكلام فيه تارة من حيث الحكم الوضعي كوجوب الكفارة وحصول فصل الخصومة به وأخرى من حيث الحكم التكليفي : أما الأول فالظاهر عدم الخلاف في أنه لا يترتب عليه الأثران ، وأما الثاني فقد اختلف فيه.

ص: 271


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2 و3.

والاخبار الناهية كثيرة ، لكنها معارضة بالسيرة المستمرة وبما علم من أفعال المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فإنهم كثيرا يحلفون بآبائهم وبالجملة بغير اللّه تعالى. وقد جمع غير واحد بحمل الأخبار الناهية على الكراهة ، وهو أيضا مشكل ، لأن الكراهة أيضا منافية لأفعالهم.

ودعوى أن الافعال منزلة على بيان عدم الحرمة ، شطط من القول. نعم يمكن حمل الافعال على بعض المصالح الخفية.

مع أن الاخبار الناهية شاملة لمقام الدعوى أيضا ، وحملها على الكراهة ينافي القول بعدم ترتب الأثر على الحلف ، بل وكذلك حملها على الحرمة ، لأن الحرمة لا تنافي ثبوت الحكم الوضعي ، فلو حملت على الكراهة فلا بد من حملها على غير مقام الدعوى. ولا بأس به ، لان عدم ترتب الأثر على الحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى أدلته كثيرة : منها ما أشرنا إليه حيث قال جل اسمه « وأضفه إلى اسمي ».

مضافا الى الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، وهو الحلف به تعالى. فيدفع ما يقتضي الاكتفاء بالحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى ، إذ ليس هو إطلاق مثل قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». وهو كما ترى ، لأنا لو لم نقل بأن المنساق من اليمين هو اليمين باللّه تعالى فلا أقل من عدم إطلاقها. فافهم واللّه العالم.

التقاط [ كيفية إحلاف المجوس ]

ذهب الشيخ في محكي المبسوط إلى أنه لا يقتصر في حلف المجوس على لفظ الجلالة ، بل يضيف الى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل احتمال ارادة غير الذات

ص: 272

المقدسة كخالق الظلمة والنور ، لان المجوسي سمى النور إلها ، فاذا أتى بلفظ الخالق نص في الذات المقدسة.

ومال اليه بل قال به بعض من تأخر ، نظرا الى لزوم إحراز وقوع الحلف بالجلالة ، ومع احتمال ارادته غيرها لم يكن الحلف به تعالى محرزا ، فلا يتحقق ميزان القضاء.

وقد يناقش فيه : بأن احتمال ارادة الخلاف غير قادح في مقابل الظهور اللفظي ، ولذا لا يعتنى باحتمال التورية أو احتمال شي ء آخر ينافي ظاهر اللفظ ، والا انسد باب الفصل بالإيمان ، لأن الإحاطة بالأمر القلبي والعلم به أمر غير ميسور.

ويدفع ذلك بأن احتمال ارادة غير الذات المقدسة هنا ليس في مقابل ظهور لفظي ، لأن المتكلم إذا كان له اصطلاح أو اعتقاد مغاير لاعتقاد السامع في لفظ من الألفاظ لم يجز حمله على مقصود السامع لعدم الظهور.

نعم ما ذكر من عدم الاجتزاء باحتمال التورية حق لما ذكر ، لكن الأظهر أيضا الاقتصار ، لإطلاق الاخبار بل ونصها في خصوص المجوسي واليهودي والنصراني ، ولان عدم الاعتقاد بوجود الذات المقدسة - العياذ باللّه - لا ينافي وقوع الحلف بها ، لان المقصود إحلاف المدعى عليه بالذات المقدسة التي وجودها حق ثابت اعتقده الحالف أم لا.

ومن المشايخ من بالغ في ذلك فقال بالاقتصار حتى مع العلم بأنه أراد باللفظة المباركة غير الذات المقدسة أخذا بإطلاق الاخبار. وهو كما ترى جمود بارد ، لأنا إذا علمنا ارادة غير الذات المقدسة فقد علمنا بعدم وقوع الحلف بها ، ومجرد ذكر لفظ الجلالة لا يجدي بعد ما لم يكن المقصود من اللفظ المعنى.

ص: 273

التقاط [ التغليظ في الإحلاف ]

يكفي في الحلف الذي هو ميزان القضاء أن يقول الحالف « واللّه ماله قبلي حق » ، والظاهر الاكتفاء بغير لفظ الجلالة أيضا من أسماء اللّه الخاصة الصريحة في الذات المقدسة ، لا طلاق بعض الاخبار وعدم صلاحية ما فيه خصوص لفظ الجلالة للتقييد ، ولذا لم يشترطه الأصحاب فيما عثرناه.

نعم يستحب للحاكم التغليظ في الحلف في الحقوق كلها ، سوى المال الذي لا يبلغ نصاب القطع على المشهور بين الأصحاب ، لكن في المسالك انه غير واضح المستند.

أقول : يمكن استفادته من إحلاف النبي صلى اللّه عليه وآله بعض اليهود على نحو التغليظ وان كان في غير مقام المرافعة ، ومن حلف الأخرس الذي روي عن أمير المؤمنين عليه السلام فإنه على نحو التغليظ (1) ، وما روي عنه عليه السلام أيضا في حلف الظالم بالبراءة من حول اللّه وقوته معللا بأنه يعجل في المؤاخذة (2) ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. مضافا الى كون التغليظ أردع ، فناسب مراعاته استظهارا.

لكن لا يستحب للحالف الإجابة ، بل ربما يكره ، لأن الخفة في الحلف مرغوب إليها ، خلافا لبعض العامة فأوجب التغليظ عليه ، وللآخر فأنكر الاستحباب للحاكم أيضا.

ثمَّ التغليظ بالمكان يحصل بالاستحباب في الأمكنة المشرفة ، وبالزمان في

ص: 274


1- الوسائل ج 18 ب 29 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.
2- الوسائل ج 16 ب 33 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2 و3.

الأوقات المباركة ، وبالقول بإضافة سائر أسماء اللّه تعالى الى لفظ الجلالة.

وهل يعتبر فيه اختيار أسماء الجلال كالقاهر والمهلك والمدرك ونحوها ، أو يجعل بأسماء الجمال والرحمة أيضا كالرحمن والرحيم. قد يقال بالأول لأن فائدة التغليظ التخويف وذكر أسماء الرحمة ينافيه ، وقد يقال بالثاني لأن ذكر الأوصاف يعطي تعظيما للمحلوف به فيعظم الحلف لأجل ذلك ، وهو المعهود من فعل الأكابر حيث كان حلفهم المغلظ هكذا « والذي نفسي بيده » ، و « الذي خلق النور والظلم وبرئ النسم » ، « والذي بعثك بالحق » مخاطبا للنبي صلى اللّه عليه وآله ، وأمثال ذلك الى ما شاء اللّه.

وفي الاخبار الواردة في الباب أيضا ما هو مشتمل على التغليظ بغير أسماء الجمال كما لا يخفى. واللّه العالم.

التقاط [ لو حلف على عدم الإجابة إلى التغليظ ]

إذا حلف أحد أن لا يجيبه الى التغليظ فالتمسه خصمه ، ففي الشرائع لم تنحل بيمينه ، وعن الدروس فيه نظر من اشتمالها على ترك المستحب ومن توهم اختصاصه بالحاكم.

واعلم أن ما ذكره في الدروس يشير الى اعتبار الرجحان في متعلق الحلف ، وعلى ذلك تبنى المسألة على استحباب التغليظ للحالف أو وجوبه. فان قيل بعدم الاعتبار أو قيل بعدم استحباب التغليظ أو وجوبه فمقتضى القاعدة عدم الانحلال ، لكن ورد أنه « إذا وجدت خيرا منه - أي مما حلفت عليه - فافعله » (1) ، ومقتضى ذلك الانحلال ، لان الإجابة مستحبة ولو تعلقت بمكروه. ومنه ما روي

ص: 275


1- الوسائل ج 16 ب 38 من كتاب الايمان ح 1.

عن الامام عليه السلام من الحلف على ضرب بعض غلمانه ثمَّ العفو عنه (1) ، لان الضرب وان كان في نفسه راجحا في نظره عليه السلام لكن العفو كان أرجح.

وان قيل بوجوبه لم تنحل ، لان اليمين والنذر والعهد ونحوها من العناوين الثانوية يعتبر في متعلقها الجواز الشرعي إجمالا ، لأن موضوع هذه العناوين متأخر عن موضوع الأحكام الأولية ، فلا بد من عروضها لواجب أو حرام أو مباح أو مستحب أو مكروه ، وحيث لا سبيل الى الحرام تعين أحد الأربعة. ومنه يظهر أن المراد بالجواز باقي الاحكام الأربعة.

[ الكلام في العناوين الثانوية ]

وحيث انجر الكلام الى ذكر العناوين الثانوية ناسب نقل بعض الكلام فيما يتعلق بها ، فنقول وباللّه الاستعانة وعليه التكلان والاعتصام :

ان الحكم الشرعي ان لم يتعلق في موضوعه حكم آخر وجودا أو عدما سمي ذلك الموضوع بالعنوان الاولي ، فالعنوان الاولي ما كان الحكم ثابتا لذاته قبل ثبوت حكم آخر أو انتفائه عنه كشرب الخمر وأكل السكر ، فإن الحرمة والحلية ثابتتان لذاتهما.

ولا يجوز أن يقال ان شرب الخمر المباح ذاتا أو الواجب كذلك حرام ، لان المفروض ثبوت الحرمة له قبل اتصافه بحكم آخر نفيا أو إثباتا ، فهو خلاف الفرض ، وللزوم التسلسل ، لأنه ينقل الكلام الى ذلك الحكم الذي قيد بوجوده أو عدمه شرب الخمر ، فلا بد من الانتهاء الى حكم ثابت لذاته قبل ملاحظة حكم آخر له ، وان لوحظ حكم آخر وجودا أو عدما سمي بالعنوان الثانوي ، لأنه عنوان للفعل بعد أن كان في نفسه متصفا بحكم شرعي.

ص: 276


1- الوسائل ج 16 ب 18 من أبواب كتاب الايمان ح 1 و2 و3 و4.

وهذا مثل اطاعة الوالدين واجابة المؤمن وإدخال السرور في قبله وإنفاذ الوصية والوكالة والوفاء بالنذر والعهد والشرط والصلح وفعل مقدمات الواجب وما أشبهها ، لأنها عناوين تعلق بها الحكم الشرعي بعد اتصاف مصاديقها بأحد الأحكام الشرعية قبل عروض تلك العناوين.

وبعبارة أخرى : هذه العناوين مصاديقها الخارجية أمور موصوفة بأحد الأحكام قبل اتصافها بتلك العناوين ، فالفعل الذي يتعلق به النذر قبل أن يتعلق به ويجعله مصداقا للمنذور لا بد أن يتصف بأحد الاحكام ، وهكذا سائر العناوين المزبورة.

وحينئذ ننقل الكلام الى ذلك الحكم ونقول : انه لا بد أن تكون غير الحرمة ، لأن الحرام ليس قابلا لان يتعلق به الوجوب ، بخلاف سائر الاحكام فان تعلقها بموضوع لا يمنع من تعلق حكم آخر به ماثله أو غايره ، لان مرجع المماثلة إلى تأكد المصلحة. ومن هنا لم يجز تحليل حرام بصيغة النذر ولا بصيغة الصلح ولا بالوكالة ولا من جهة المقدمية لواجب ولا من جهة كونه اجابة للمؤمن ولا غيرها من العناوين الثانوية إجماعا وقولا واحدا.

[ الدليل على أن العنوان الثانوي مختص بما عدا الحرام ]

نعم لا بد من التأمل في أن اختصاصها بما عدا الحرام هل يستفاد من أدلتها أو لا بد فيه من الاستناد الى دليل آخر؟

قد يقال بالأول ، لأنا لو قطعنا النظر عما دل على اختصاص النذر والعهد بالراجح الحاكم على أدلة النذر والعهد واليمين وعن قوله عليه السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » الحاكمة على أدلة اطاعة الوالدين والزوج والسيد والوصي والملتمس وأدلة إدخال السرور ، وعن قوله « كل شرط جائز إلا ما

ص: 277

أحل حراما أو حرم حلالا (1) » الحاكم على أدلة جواز الشرط والصلح بل النذر والعهد ونحوها مما يندرج تحت الشرط اللغوي الذي هو مطلق الالتزام والبناء على شي ء ، أو عن غيرها مما يستند اليه قبل الإجماع في إرجاع العناوين المزبور الى غير الحرام.

جاز أن يقال : ان النسبة بينها وبين ما دل على الحكم الاولي الثابت لذات ذلك الفعل عموم من وجه ، سواء كان ذلك الحكم هي الحرمة أو الإباحة ، لأن الأحكام الخمسة كلها متضادة ، فكما لا يجتمع وجوب الوفاء بالنذر مع الحرمة الفعلية كذلك لا يجتمع مع الإباحة الفعلية.

ويؤيده أن ظاهر الأدلة الخاصة الحاكمة المشار إليها هو عموم أدلة تلك العناوين وعدم اختصاصها بنفسها بالمباحات ، والا لم تكن تلك الأدلة حاكمة ، مع أن قوله عليه السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » منطوقه يحكم على أدلة الإطاعة ويتناول بعمومها لولده ، فكما يمكن أن يقال ان المنذور يجب فعله إلا إذا كان شرب خمر كذلك يمكن أن يقال شرب الخمر حرام الا إذا كان منذورا به. ولذا ترى بعض ما يشاركها في ثانوية العنوان - كمحافظة النص واجابة الملهوف واغاثته - مقدما على كل حرام أو واجب ، وليس هذا إلا لعدم مجي ء الدليل الحاكم فيه مع ثبوت ترجيحه شرعا على أدلة الاحكام.

وقد يقال بالثاني ، لأن الظاهر من سياق أدلة هذه العناوين اشتمالها على مقتضى الحكم - أي الوجوب مثلا - بخلاف أدلة الأحكام الأولية ، فإن ظاهرها اشتمال موضوعاتها للعلة التامة. ومن الواضح أن المقتضي لا يؤثر في نفسه ، بل لا بد فيه من عدم المانع ، وأي مانع من اشتمال الفعل على علة الحرام.

بخلاف العلة التامة ، فإن تأثيرها لا يتوقف على شي ء. مثلا قوله « الخمر

ص: 278


1- الوسائل ج 6 كتاب التجارة ب 6 من أبواب الخيار ح 5.

حرام » يستفاد منه أن الخمر مشتملة على العلة التامة للحرمة ، وقوله « يجب الوفاء بالنذر » يستفاد منه أن النذر فيه ما يقتضي الوجوب ، فاذا تعلق بشرب الخمر لم يؤثر لمكان المانع.

فان قلت : إذا كان الأمر كذلك فلا بد من عدم تعلقه بالمباح أيضا فضلا عن الواجب والمكروه أو المستحب ، لان ظاهر قوله « السكر مباح » مثلا أن السكر مشتمل على العلة التامة للإباحة ، وعلة الإباحة أيضا لا يؤثر معها مقتضي الوجوب.

قلت : فرق بين علة الإباحة وعلة التحريم ، لأن علة الإباحة مركبة من أمر عدمي - وهو عدم وجوب ما يقتضي الإلزام بالفعل أو الترك - بخلاف علة التحريم فإنها مركبة من الأمور الوجودية المقتضية للإلزام بالترك ، ولا ريب أن عدم المقتضي للإلزام لا ينافي عروضه بسبب أمر خارج.

نعم لو كان علة الإباحة أيضا راجعة إلى أمر وجودي محض - كما في بعض الموارد مثل اباحة النكاح على ما يظهر من استدلال الامام عليه السلام على بطلان اشتراط عدم التزويج في عقد النكاح بقوله تعالى « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » (1) - اتجه القول بعدم قبوله الالتزام بالترك بسبب الشرط ، لكنه أمر خارج عما يقتضيه حقيقة الإباحة ثابت في بعض الموارد الخاصة لخصوصيات موجودة فيه.

ثمَّ ان مثل الحرام ترك الواجب المعين ، لأن علة الإلزام مانع عن تأثير مقتضى الترك ، وأما الواجب المخير فهو كالإباحة فعلا وتركا ، إذ ليس في شي ء من فعله وتركه علة الإلزام ، وكذا المستحب والمكروه بل فعل الواجب المعين ، لأن علة الإلزام بالفعل لا يمنع عن تأثير المقتضي الإلزام به ، لأن تأثيره حينئذ

ص: 279


1- سورة النساء : 3.

تأكد المصلحة. فلا فرق حينئذ بين تعلق النذر مثلا بالمباح أو المستحب والمكروه وبين تعلقه بفعل الواجب.

[ عدم مزاحمة المستحبات للمحرمات ]

ومما ذكرنا ظهر عدم مزاحمة شي ء من المستحبات لشي ء من المحرمات ، لأن أدلة الاستحباب تدل على اشتمال المستحب لمصلحة غير ملزمة للترك مع رجحان في الفعل ، ومرجعه الى عدم مقتضي الإلزام ، وهذا لا يخرجه عن قابلية عروض علة الإلزام بالترك.

فان قلت : سلمنا أن علة لإباحة يمكن اجتماعها مع مقتضى الإلزام ، لكنا نقول ان إطلاق قوله « السكر مباح » أو عمومه يدل على سلامة جميع أفراد السكر عن عروض ما يقتضي الإلزام. مثلا إذا قال المولى « أكرم جيراني » فهذا يدل على كونهم أصدقاء وليس فيهم عدو وإلا لزم التخصيص في ذلك العموم لعدم صلاحية العدو للإكرام.

قلت : لما علم من الخارج أن موضوع المباح مما يصلح أن يعرفه موضوع الوجوب أو الحرمة فلا جرم يكون قوله « السكر مباح » في قوة قوله ما ليس فيه جهة الإلزام فعلا أو تركا من أفراد السكر فهو مباح ، فموضوع الإباحة وان كان في ظاهر الدليل هو ذات السكر لكنه في الحقيقة ليس تلك الذات المطلقة بل الذات المعلقة بعدم عروض ما يقتضي الإلزام.

ولا ريب انه متى شك حينئذ في فرد من أفراد السكر من حيث اشتماله على مقتضى الإلزام وعدمه فهو شك في موضوع الدليل ، كما إذا شك في موضوع العالم المأمور بالإكرام فلا مسرح للتمسك بالعموم حينئذ ، بل ينزل العموم أو

ص: 280

الإطلاق على وروده في مقام بيان حكم آخر ، وهو حكم ذات السكر في نفسها مع قطع النظر عن العوارض.

نعم لو كان موضوع الدليل عاما وعلم من الخارج أن هناك مخصصا - كما في مثال « أكرم جيراني » - استكشف من العموم سلامة أفراده الموجودة الخارجة عن عنوان ذلك التخصيص.

وحاصل الفرق بينه وبين ما نحن فيه : ان عدم عروض مقتضى الإلزام جزء من موضوع المباح وقيد من قيوده ، بخلاف الصداقة فإنها ليست شرطا حتى يجب إحرازها عند الشك ، بل غاية الأمر أن العداوة مانعة ، فان شك في وجوده استكشف عن العموم سلامة الافراد عنه ، فما نحن فيه من قبيل المخصص اللفظي والمثال من المخصص العقلي ، وقد حققنا في الأصول الفرق بين المثالين ، وان كان التمسك بكل منهما عند الشك تمسكا بالعام في الهيئة المصداقية. فافهم.

فان قلت : لا نجد فرقا بين قوله « الخمر حرام » و « الصلاة واجبة » ونحوهما مما سيق لبيان الحكم العنوان الاولي ، وبين قوله « النذر واجب الوفاء » و « الصلح جائز » وأمثالهما من العناوين الثانوية ، فإن كان ظاهر الأول اشتمال الفعل على علة الإلزام بالفعل أو الترك كان ظاهر الثاني أيضا ذلك ، فدعوى أن مفاد الأول اشتمال الفعل للعلية التامة ومفاد الثاني اشتماله على المقتضي. تحكم بارد وتعسف ساقط ، وإذا كان ظاهرهما الدلالة على اشتمال الفعل للعلة التامة أو المقتضي تعارضا في مادة الاجتماع.

قلت : ما ذكرت وان كان يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ لكن المنصف يعرض عنه ، لان الفرق بين العنوان الاولي الذي لا يعتبر في مفهومه فعل آخر كشرب الخمر وبين العنوان الثانوي الذي يعرض لذوات الافعال كالنذر الذي

ص: 281

يتعلق بفعل لا محالة. مما لا ينكر من حيث أن وزان الأول وزان « الظلم حرام » ووزان الثاني وزان « الصدق واجب ».

ومما يؤيده ويضعف ما زعمت أن العناوين الثانوية على ما نقول سالمة عن التخصيص وعلى ما تقول مخصصة بأدلة المحرمات إجماعا ، وعدم التخصيص أولى. فافهم واللّه العالم بحقيقة الحال.

[ الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة ]

ثمَّ ان هنا مسألة أخرى غير مفروضة في عبارة الشرائع الماضية ، وهي الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة. والفرق بينهما على تقدير وجوب الإجابة أنه لا ينعقد اليمين رأسا على الثاني ، وكذا لو قيل باستحبابها مع اشتراط الرجحان في متعلق اليمين ، بخلافه على الأول فإنها تنعقد وتنحل بحكم قوله عليه السلام « إذا وجدت خيرا منه فافعله » ونحوه. واللّه العالم.

التقاط [ حلف الأخرس بالإشارة ]

مقتضى القاعدة أن يكون حلف الأخرس بالإشارة ، لان إشارته قائمة مقام فعله في جميع أبواب الفقه حتى العبادات ، حتى أن بعضهم حكم بأن إشارته في الصلاة بمنزلة كلامه فيبطلها تنزيلا لها منزلة الكلام. وان كان قد يناقش فيه بعدم صدق الكلام عليه عرفا وان شاركه في وجه المناسبة لمعناه اللغوي الذي هو « الكلم » أي الجرح ، لكنه لا يخلو عن قوة جدا.

وما ذكرنا هو المعمول به المشهور بين القدماء والمتأخرين ، فلا بد حينئذ من حمل الرواية الواردة في تحليفه المشتملة على كيفية من التغليط في اليمين

ص: 282

والأمر بشربها على محامل لا تنافي الحكم المشهور. وليس علينا في أمثال المقام تعيين العيب الذي في الرواية ، بل الاعراض عنها متعين وان كان سندها صحيحا.

التقاط [ المراد من الاستحلاف في مجلس القضاء ]

قال في الشرائع : لا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس القضاء الا مع العذر كالمرض المانع وشبهه ، وحينئذ فيستنيب الحاكم من يحلفه في منزله ، وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز الى مجمع الرجال والممنوعة بأحد الاعذار.

واعلم أن المراد بالاستحلاف في العبارة وفي أحاديث الباب وكلمات الأصحاب هو الحلف عن طلب كالاستنباط ، لا مجرد طلب الحلف أو الاذن بناء على كون الاستفعال لمجرد طلب الفعل حصل أو لم يحصل ، لان الاستفعال أحد إطلاقاته ما ذكرناه من تحصيل الفعل عن طلب ، وأمثلته كثيرة ، وهو المراد ، لأن الاذن في الحلف الظاهر أنه لا يعتبر فيه المجلس ، فلو أذن في غيره وحلف فيه أجزأ على القول باعتبار المجلس.

ثمَّ المراد بمجلس القضاء اما المجلس النوعي وهو ما بني للقضاء فيه واما المجلس الشخصي وهو ما وقع فيه الخصومة والدعوى. والمتبادر من العبارة هو الأول ، وحينئذ فالمعتبر هو وقوع الحلف فيه حضر الحاكم أم لا ، وعلى الثاني فالمتبادر اشتراط الحضور.

وكيف كان ففي العبارة احتمالات : أحدها أن يكون المقصود وقوع الحلف في حضور الحاكم ، سواء كان الحاكم في مجلس القضاء النوعي أو الشخصي أو لم يكن فيه ، والثاني اعتبار كون الحلف في مجلس القضاء بأحد المعنيين حضر الحاكم أو لم يحضر. والثالث أن يكون الحلف في مجلس

ص: 283

الحكم وحضور الحاكم وهذا أخص من الأولين ، والرابع الاحتراز عن الحلف في البيت لا في حضور الحاكم ولا في مجلس القضاء. وتعيين أحد الاحتمالات على وجه يتعين القول به احتمالا ومنحلا مشكل.

ثمَّ المسألة لا مستند لها في الأدلة ، وظاهر صاحب المسالك أنه على وجه الكراهة. وهو مشكل ، لان مثل هذه العبارة الواردة في شرائط القضاء وآدابه آب عن الحمل على الكراهة ، كيف وقد ذكر بعضهم كالشهيد «رحمه اللّه» في محكي الدروس هذا الحكم في باب شرائط اليمين التي كلها على وجه الاشتراط واللزوم.

وكيف كان فالقدر المتيقن من هذه العبارة وأمثالها هو عدم جواز حلف الحاكم إلا في بيته ، بمعنى عدم سقوط حلف المدعي بذلك بدون حضور الحاكم وبدون أن يكون في مجلس القضاء. وهذا يمكن الاستدلال عليه بتوقيفية القضاء وعدم ثبوت إطلاق أدلة اليمين باعتبار ورودها في مقام بيان أصل الميزان ، مضافا الى الطريقة المألوفة المعهودة بين المسلمين من عدم الاستحلاف إلا في مجلس الحكم والمرافعة.

ثمَّ ان هذا شرط في اليمين التي يستحقها المدعي وليس من وظائف القاضي ، فلا يؤثر الاستنابة في حال الاختيار. نعم لو كان من وظائفه أمكن القول بعدم اعتبار المباشرة مع احتماله للشك في قبوله الاستنابة كأصل القضاء. واللّه العالم.

التقاط [ حكم الحلف باللغات غير العربية ]

قد عرفت أنه يكفي في الحلف أن يقول « واللّه ليس قبلي حق » ، وكذا يكفي الحلف بسائر أسماء اللّه تعالى الخاصة. وهل يعتبر العربية أو يكفي بالأسماء الفارسية ونحوها أيضا الظاهر الكفاية خصوصا عند التعذر.

ص: 284

لكن الإشكال في وجود الاسم للذات المقدسة في الفارسي ، وإطلاق لفظ « خدا » على الذات المقدسة يقوي في النظر كونه كإطلاق لفظ « الرب » ، لان « خدا » في الفارسية بمعنى الصاحب. ومن المحتمل قويا ان إطلاقه عليه تعالى من قبيل إطلاق الكلي على أكمل الافراد.

وكيف كان فالظاهر الجواز ، لا طلاق بعض لأدلة وعدم صلاحية ما فيه خصوص الأسامي العربية للتقييد. واللّه العالم.

التقاط [ البينة وظيفة المدعى واليمين وظيفة المنكر ]

بعد ما عرفت وثبت بالنص والإجماع أنه لا بد في طي الدعوى من ميزان للقاضي وأنه لا يكفي مطلق ما يكفي في مقام عمل نفس الشخص من الأصول والأمارات الشرعية وأنه منحصر في البينة والايمان. فاعلم أن مقتضى الأصل الاولي أن تكون البينة من وظائف المدعي واليمين وظيفة للمنكر ، فلو أغمضنا النظر عن المستفيض « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ودار الأمر بين مطالبة البينة عن المدعي واليمين عن المنكر أو العكس تعين الأول بمقتضى الأصل المشار اليه.

ونعني بالأصل الاولي ما هو القاعدة والقانون عند العقلاء المستقر عليه طريقتهم والمركوز في جبلتهم في مثل المقام ، فان بناءهم على مطالبة البينة من الذي يدعي خلاف الأصل وعلى تحميل الأثقل من الميزانين عليه والأخف على من يوافق قوله الأصل ، بل بناؤهم على عدم تحميل موافق الأصل شيئا والاقتصار في الفصل بين المتنازعين على وجود البينة وعدمها.

لكن الشارع تصرف في طريقتهم هذه في الجملة ، بأن نصب للفصل عند

ص: 285

عدم البينة أيضا ميزانا وهي اليمين وأمضى ما عليه من مطالبتهم البينة من المدعي.

والحاصل انا إذا وجدنا قول الشارع « فاحكم بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » أو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) وعلمنا أن القضاء لا بد له من فاصل ولا يكفي في رفع الخصومة المشي على طبق كل أصل أو أمارة شرعية يكفي في غير مقام رفع الخصومة حكمنا بمقتضى القانون المقرر عند كافة العقلاء أنه لا بد أن يكون المطلوب بالبينة هو المدعي وباليمين هو المنكر ، لأن قوة جانبه وموافقة قوله للأصل يمنع من تحميله الأشق والأثقل كما يمنع عند العقلاء من تحميله اليمين.

فان قلت : لو لا قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لم يعلم من قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » ولو بملاحظة طريقة العقلاء أنه لا بد أن يتوجه اليمين الى المنكر ، لاحتمال كون كل من البينة واليمين ميزانا مطلوبا من المدعي وكون المنكر مستريحا من كل تحميل ، لما معه من الأصل الذي هو حجة شرعية ، كما اعترفت أن العقلاء بناؤهم على ذلك وان لم يمضه الشارع.

هذا مضافا الى ما في إرجاع البينة الى المدعي من الموافقة والمطابقة لأدلة حجية البينة ، فإن الفصل بمقتضى البينة نحو استعمال لدليل حجيتها الوارد في مقام تحكيمها على الأصول. والحاصل ان المنكر له حجة داخلة ، فمطالبة الحجة منه ثانيا أمر بديع لا يساعده قانون العرف ولا قانون الشرع المشروع لحجية البينة ، فإنها شرعت في إثبات ما ليس عليه حجة شرعية لا لا ثبات ما عليه بعض الأمارات الشرعية ، وان كانت فيه أيضا معتبرة على تقدير قيامها.

فظهر مما ذكر أن مطالبة البينة من المنكر خروج عن مقتضى الأصل الأولي

ص: 286


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

من جهتين : إحداهما تنظر الى بناء العقلاء ، والثانية تنظر الى نحو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » فلا بد من إرجاع البينة الى المدعي. ويتعين بذلك رجوع الميزان الأخر ، وهو اليمين الى المنكر.

قلت : كلامنا بعد الفراغ عن أن القضاء سواء كان للمدعي أو للمنكر لا يكون عند الشارع الا بميزان من الميزانين المزبورين وان أحدهما وظيفة المدعي والأخر وظيفة المنكر ، ولكن لا تشخص وظيفة كل منهما من وظيفة الأخر ، فحينئذ نقول : ان البينة وظيفة المدعي واليمين وظيفة المنكر. وهذا معنى كلام المحقق وغيره. ومع فقدها - أي البينة - فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية ، وهو أولى باليمين.

وليس مرجع هذا الكلام الى الاستناد الى قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». نعم ذكر قبل ذلك كلاما يرجع اليه حيث قال : البحث الثاني في يمين المنكر والمدعي ، اليمين يتوجه الى المنكر تعويلا على الخبر. فشكر اللّه سعيه حيث أتى في ضمن كلمتين بما فصلناه من الطريقتين من الأصل الاولي والثانوي المدلول عليه بالخبر.

ثمَّ انه قد خرج عن هذا الأصل موارد وجهت اليمين فيها الى المدعي ، كدعوى الدم مع اللوث ، أي قيام أمارة شخصية على صدق الدعوى ، ونحوها مما يقدم فيه قول المدعي في أبواب الفقه مراعاة لامارة نوعية قائمة على صدق الدعوى ، كدعوى الدخول مع الخلوة والتيام الخلقين والسلامة عن المرض أو دعوى الإنفاق ونحو هذه الموارد ، أو لا مارة شخصية اعتبرها الشارع كدعوى الدم مع اللوث ، أو لوجود مانع عن مطالبة اليمين من المنكر.

والسر في الخروج هو أن إرجاع اليمين الى المنكر انما كان لقوة جانبه ، وفي المواضع المشار إليها لا قوة في جانبه باعتبار قيام الظن النوعي أو الشخصي

ص: 287

على خلافه ، بل القوة حينئذ في جانب المدعي. لكن ذلك أيضا ليس على وجه مطرد ، لان الاعتماد ليس على كل أمارة نوعية أو شخصية بل لا بد من قيام دليل على اعتبارها ، فيكون مرجع ما ذكرنا بعد مشاهدة الأصل إلى بيان السر والحكمة دون الدليل.

هذا في موارد وجود الامارة ، وأما في غيرها فمطالبة اليمين عن المدعي دون المنكر لا بد أن يكون لمانع ، مثل اختلال النظام وحصول الهرج والمرج والعسر والحرج وتخليد الحبس ونحوها. ومن موارد وجود الأمارة القوية لجانب المدعي ما لو أقام شاهدا واحدا ، فالشاهد واليمين أيضا من موارد توجه اليمين الى المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ لا بد من الجزم في اليمين ]

لا بد في اليمين أن تكون ناظرة إلى الواقع على وجه الجزم ، فلو كانت ناظرة إلى الظاهر لم يكف ، لان اليمين الواردة في الأدلة هي اليمين المطابقة للدعوى والدعوى متعلقة بالواقع. وأيضا حال اليمين والبينة واحد ، والبينة حاكية عن الواقع فكذا اليمين.

وكذا لا بد فيها من الجزم ، فلو كان الحالف شاكا معترفا بشكه لم يكف ، لعدم صدق الاخبار على القضية إذا كان المتكلم بها شاكا في مطابقتها للواقع ، فلا يشمله الأدلة الدالة على تصديق الحالف ، كعدم شمول أدلة تصديق العادل للأخبار المقرون بالشك في المطابقة إذا كان الحال واضحة. نعم مع عدم وضوح الحال فظاهر الأخبار القاضي بالجزم متبع.

والذي يدل على ما قلنا أن خروج معلوم الكذب عن تحت الأدلة الإمرة

ص: 288

بالتصديق ليس على وجه التخصيص بل التخصص ، لان الخبر المعلوم الكذب ليس بمشمول لعنوان الخبر ، لان الخبر حقيقة في الصادق أو ما كان مطابقا لاعتقاد المخبر ، ولأن المأمور بالتصديق ليس الا خصوص ما كان حاكيا عن اعتقاد المخبر ، وهو الأجود.

[ اليمين المتكلة على الأمارات والأصول ]

إذا تحقق ذلك فاعلم ان مقتضى القاعدة أن اليمين على الواقع نفيا أو إثباتا اتكالا على الأمارات الشرعية أو الأصول التعبدية لا يترتب عليها الأثر ، لأن المحلوف عليه حينئذ اما الثبوت أو النفي الظاهريين أو الواقعيين ، والأول كأن يحلف المنكر على براءة ذمته أو على عدم كون العين المتنازع فيها للمدعي ظاهرا :

فان كان الحلف على الظاهري لم يطابق الدعوى ، لان الدعوى متعلقة باشتغال ذمتها واقعا ، وأما الاشتغال الظاهري المشروط بالعلم فربما لا يدعيه المدعي بل ربما يعترف بعدمه إذا علم بجهل المنكر بالحال ، فلا فائدة في الحلف على عدمه ، لعدم كونه المدعى به كما أشرنا اليه.

وان كان الحلف على الواقعي اتكالا على الامارة الشرعية فهو وان تطابق الدعوى لكنك عرفت اعتبار الجزم ولو بظاهر الحال في الاخبار الذي يحلف عليه. وهو مفقود في المقام بحكم الفرض ، لأن مجاري الأصول بل الأمارات الشرعية غالبا مشكوك ، مع أن الظاهر أيضا حكمة حكم الشك.

وان شئت قلت : ان العلم اعتبر في جواز الحلف موضوعا لا طريقا حتى يقوم مقامه الامارات والأصول. هذا بالنسبة إلى الحكم الوضعي ، وأما الحكم

ص: 289

التكليفي فالظاهر الحرمة ، لأنه قول بما لا يعلم وكذب بين. نعم مع وضوح الحال يمكن منع قبحه ، لعدم ترتب شي ء عليه من الإغراء ونحوه.

ويدل على ما ذكر زيادة على كونه مقتضى القاعدة بعض الروايات أيضا ، مثل ما في علل فضل بن شاذان المروي في العيون (1) ، فإنه علل عدم مطالبة البينة من المنكر بأنه جاحد ولا يقدر على إقامة البينة ، فلو كان الاخبار بمقتضى الأصل عن الواقع جائزا لكان إقامة البينة على النفي ممكنا بمقتضى الأصل ، بل قد يظهر من الأصحاب أنه مفروغ عنه فيما بينهم ، لأنهم قسموا اليمين الى قسمين يمين البت ويمين نفي العلم ، وجعلوا محل الثاني ما إذا تعلقت بفعل الغير ، فلو لا عدم جواز اليمين على البت بمقتضى الأصول كانت اليمين مطلقا على البت ، لان متعلق الدعوى إذا كان فعل الغير يحلف على نفيه بتا بمقتضى الأصل.

هذا ما تقتضيه الأدلة ، لكن الالتزام به والبناء عليه مشكل ، مع قطع النظر عن خصوص ما ورد من جواز الاخبار بمقتضى بعض الأمارات ، لأن ذلك يستلزم سد باب الدعاوي والإنكار والشهادات والايمان في كثير من الإشهاد كالملكية والزوجية والنسب والعدالة والطهارة والنجاسة ونحوها مما لا يمكن إحرازها إلا باستعمال أصل من الأصول أو امارة من الامارات.

بل الاشكال جاز في جميع الأمور التي يترتب عليها الأحكام الشرعية ، فلا يتم الاخبار بالغصب أو الإتلاف أو القتل أو البيع أو الطلاق الى جميع الموضوعات الا مع الإغماض عن بعض الاحتمالات المنافية لتحقق المخبر به اتكالا على بعض الأصول اللفظية أو العملية أو الأمارات الشرعية كالفراش وأصالة الصحة ، لأنه إذا ادعى ملكية عين في يد شخص فلا بد من طرح احتمال دخولها في

ص: 290


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

ملك ذي اليد بسبب خفي ولو في سابق الازمان بالنسبة إلى الأيادي السابقة التي تلفها المدعي من تلك الأيادي.

وكذا إذا ادعى دينا فلا بد من الإغماض عن بعض ما يحتمل ولو بعيدا من الأمور المانعة عن الاشتغال أو الموجبة للبراءة ، وأما دعوى الغصب والإتلاف فالإشكال يجري فيما يتعلقان به من المال ، وكذا القتل.

وبالجملة من تحلى بحلية الانصاف وجد من نفسه أن الاخبار بأحد هذه الأمور في مقام الدعوى أو في مقام الإنكار أو في مقام الشهادة أو في مقام الحلف أو في مقام المكاتبة والقصة لا يتم الا بعد استعمال بعض الأصول والأمارات التعبدية الشرعية أو العقلائية ، فلو بنى على عدم ترتب الأحكام الوضعية على الاخبار بها في شي ء من المقامات المشار إليها إلا بعد الإحاطة التامة بواقعيات هذه الأمور إحاطة علمية جزمية غير مستندة الى أصل من الأصول أو الامارات انسد باب الدعوى والإقرار والإنكار والشهادة واليمين. وفساده بمكان لا يحتاج الى النظر الخفي.

هذا مضافا الى ما عليه بناء العلماء وسيرة المسلمين وطريقة أهل العرف من جميع الأديان ، أما العلماء فان ديدنهم الاخبار بالأحكام الواقعية بصورة الجزم ، كالحكم بأن هذا حرام وهذا حلال ، مع أن مستندهم في تلك الإخبارات والفتاوى ليس إلا الأصول والأمارات الشرعية التي مجاريها مشكوكة.

ودعوى أن قول الفقيه « هذا حرام » اخبار بالحرمة الظاهرية. شطط من الكلام بعد كون الحلال والحرام من دون التقييد بالقيد الظاهري ظاهرين أو صريحين في الحلال والحرام الواقعيين.

وأما المسلمون وأهل العرف من الأديان فان اخبارهم بزوجية امرأة أو ملكية عين أو نسب شخص في مقام القصة أو في مقام الدعوى أو في مقامات

ص: 291

أخرى ، ليس مبنيا على العلم اليقيني بالموضوع الواقعي. أترى أنه لو تزوج أحد بالفارسي تقليدا أو اجتهادا فهل يتوقف الزوج أو غيره في إطلاق الزوجة على المعقود عليها ، وهكذا من تزوج امرأة ارتضع من أمهات عشر رضعات ، أو غير ذلك من الأمثلة التي لا تحصى كما وكيفا.

والحاصل ان بناء العرف من العوام والخواص على الاخبار بهذه الأمور إذا ساعد عليها أصل شرعي أو امارة شرعية إلى تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء ، نظرا الى مساواته لها في جميع الاثار والأحكام الشرعية برجوع القضية الظاهرة في التنجيز الى البناء والتقدير ، بأن يكون معنى قول الفقيه « هذا حرام » أنه حرام بناء على مطابقة الامارة القائمة عليه للواقع ، وهكذا معنى قولهم لزوجة زيدانها زوجته نظرا الى ما أفتى به المفتي. وعلى التقديرين فالاخبار متعلق بالواقع بصورة الجزم ولو تنزيلا أو تقديرا.

ومع ذلك كله كيف يمكن القول بعدم جواز الاخبار بالواقع بمقتضى الأصول والأمارات ، أم كيف يشترط في الدعوى أو الحلف أو الإنكار أو الشهادة الجزم بالواقع بحيث لا يكون هناك احتمال يحتاج في نفيه الى التعبد بسبب شرعي أو أصل أو امارة شرعيين. فهل يقول أحد انه لو ادعى زوجية امرأة عقد عليها تقليدا أو اجتهادا ظنيا ، فهذه دعوى ظنية أو مشكوكة.

فالمسهل للخطب والمهون للأمر والجامع بين الأدلة وكلمات العلماء هو أن يقال : ان مجاري الأصول والامارات والأسباب الشرعية شرعا وعرفا يجري عليها حكم الواقع ، فيجوز الادعاء بمقتضى الاستصحاب وكذا الإنكار وكذا الشهادة وكذا اليمين ويترتب عليها الاثار الشرعية كلها ، لكن يشترط عدم مصادمة الجهة المتكل فيها على الاستصحاب مثلا لدعوى مدعى في مقابلها.

وبذلك يجمع بين ما عرفت من بنائهم وبين ما أثبتوه في كتبهم من اشتراط

ص: 292

البت في اليمين والجزم في الدعوى والعلم في الشهادة ، فنقول : إذا ادعى شخص عينا في يد آخر فهنا أمور لا بد للمدعي دفعها بالأصل ، مثل احتمالات كون العين المتنازع فيها للمدعي عليه بالأسباب الخفية سابقا أو لاحقا ويجوز له الاتكال على الاستصحاب في اليمين على الواقع بتا إذا ردت اليمين اليه ولو علم الحاكم أو المنكر بأن يمينه مستندة من بعض الوجوه الى الاستصحاب.

لكن إذا وقع قضية بعض هذه الأصول طرفا لدعوى المدعى عليه - بأن ادعى انتقال العين اليه من جده أو أبيه أو أمه أو نحو ذلك - سقط الأصل المزبور من الاعتبار ، فلو حلف والحال هذه اتكالا على الأصل ولم ينفع ، بل وجب عليه الحلف البتي إذا رد اليه مثلا.

ومن هنا جازت الشهادة بمقتضى الاستصحاب ولو علم الحاكم أو المدعى عليه بالحال ويقضي بالبينة المستندة إليها أيضا ، لاعتبار الاستصحاب وكفايته في إحراز الواقع للشاهد ولغيره. مع أن المنكر لو انقلب مدعيا وادعى المبرئ أو المسقط لم تنفع البينة الاستصحابية حينئذ ولم يجز للمدعي إذا رد الحلف عليه اليمين على البت اتكالا على ذلك الاستصحاب الذي يدعي المنكر خلافه.

[ لو كان الاخبار مستندا الى الأصل ]

والحاصل ان السير والتتبع في الفتاوى مع ملاحظة ما جرت عليه سيرة المسلمين يقضي بقيام مجاري الامارات والأصول مقام الواقع مطلقا حتى في مقام الدعوى ، إلا الأصل أو الأمارة التي يدعي المدعى عليه خلافه لا جميع الأصول ، وحينئذ فلو كان الاخبار مستندا من جميع الوجوه أو من بعضها الى الأصل فان لم يكن في مقابله دعوى - بأن كانت الدعوى ناظرة إلى جهة غير راجعة الى ما قام عليه الاستصحاب واعتمد عليه المدعي في دعواه الجزمية أو

ص: 293

الشاهد في شهادته أو الحالف في حلفه البتي - ترتب عليه جميع الأحكام الشرعية وضعا وتكليفا ، فلو كان في مقام الدعوى حل له ذلك ، ولو كان في مقام الشهادة حل ونفذ ، وكذا لو كان في مقام الحلف فتنفصل به الخصومة ، وان كان يدعي المدعى عليه خلافه سقط الأصل في جميع المقامات المزبورة من الجزم من تلك الجهة دون سائر الجهات.

وقد يشكل ذلك بأن المنكر لا بد أن يستند في اخباره الى الأصل في بعض الوجوه ، خصوصا فيما إذا كانت الدعوى في دين كلي أو عين غير مستندة الى سبب خاص ، فكيف يحلف على البت مع كون جميع الأصول المتكل عليها في مقابلها دعوى المدعي.

والجواب ان الدعوى إذا كانت مطلقة غير مستندة الى سبب خاص معلوم احتملت أسبابا جديدة بعضها معلوم العدم عند المنكر وبعضها مشكوك لا بد له في نفيه من الاتكال بالأصل ، وحيث أن السبب المشكوك لم يعلم استناد دعوى المدعي إليه لاحتمال استنادها الى السبب الذي يعلم المنكر جزما بانتفائه صح له الحلف البتي. وهذا المقدار يكفي في اعتبار الاستصحاب ولا يجب على المتكل عليه الحراز عدم كونه معرضا للدعوى ، بل إذا لم يعلم بكونه كذلك جاز له الاعتماد عليه في الاخبار الجزمي.

ومما ذكرنا ظهر سر ما صرحوا به من عدم جواز الحلف بتا إذا كان متعلق الدعوى فعل الخير ، إلا إذا علم المدعى عليه علما جزميا بعدمه ، لأنه إذا لم يعلم ذلك فلا بد من الاستناد الى الأصل في الحلف البتي. وقد عرفت ان الاستصحاب إذا كان معرضا لدعوى المدعي لا يجوز الحلف بمقتضاه بتا ، ولو حلف لم يترتب عليه الأثر أيضا مع العلم بالحال.

وكذا ظهر أن من صرح باعتبار الجزم في صحة اليمين وأنها لا يجوز مع

ص: 294

الشك كالشهيد في محكي الدروس وغيره ، فمراده الجزم الذي عليه بناء المتشرعة في مخاطباتهم ومكالماتهم في هذه المشار إليها ، وهو الجزم المبني على تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء كما عرفت ، لا الجزم المبني على الإحاطة التامة بالواقع ، فان مفاسد ذلك مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان. وكذا ظهر أيضا ان كل ما يجوز الشهادة عليه جازت اليمين وبالعكس. واللّه العالم.

التقاط [ يلزم الحلف على القطع لا نفي العلم ]

قال في الشرائع يلزم الحلف على القطع مطردا ، الا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم. فلو ادعى عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم ، ولو ادعي على أبيه الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدع عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم. وكذا لو قيل « قبض وكيلك » وأراد بالتقييد بالنفي أن الحلف على إثبات فعل الغير أيضا ، لا بد أن يكون على القطع والبت. فالأقسام أربعة : إثبات فعل النفس ، ونفيه ، وإثبات فعل الغير ، ونفيه. وفي الثلاثة الأولى يعتبر البت ، وفي الرابع يكفي الحلف على نفي العلم لكن بشرط أن يتعرض المدعي لعلم المنكر والا انحصر طريق الدعوى في البينة.

وقد توهم أنه إذا اشترط في الحلف على نفي العلم كان الحلف أيضا على البت والقطع ، لان المدعى به حينئذ هو علم المنكر كالوارث مثلا والإنكار متوجه اليه ، فاذا حلف على عدم العلم كان الحلف قطعيا ، فصرح بأن الحلف دائما على البت.

وليس بوجه ، لان التعرض لعلم الوارث شرط لتوجه اليمين في دعوى

ص: 295

المال ، والا فأصل دعوى العلم ليس مما يوجب يمينا على نفي العلم ، ولذا ذكرنا سابقا أن الجواب بلا أدري لا يستتبع اليمين على نفي العلم ولو ادعاه المدعي بل يرد اليمين الى المدعي في هذه الحال أيضا ، أعني في حال دعوى المدعي العلم عليه.

والحاصل ان اليمين على نفي العلم إذا كانت في دعوى المال مع التعرض للعلم خرجت اليمين عن كونها قطعية جزمية وصح تقسيمها الى قسمين ، وانما لا يصح إذا كان يمين نفي العلم فيما إذا كان أصل المدعى به هو العلم لا المال مثلا مع اشتراط التعرض للعلم. وفرق بين كون يمين نفي العلم فاصلة لدعوى المال بشرط التعرض للعلم وبين كونها لفصل دعوى العلم ، فإنها في الأولى ليست بقطعية بخلافها في الثانية.

[ الدعوى على نتيجة الفعل ]

ثمَّ ان الدعاوي على أقسام ثلاثة : منها ما يتعلق بفعل النفس مثل الأمثلة المزبورة ، ومنها ما يتعلق بفعل الغير كامثلة المذكورة ، ومنها ما ليس من الافعال بل النتائج مع احتمال استناده الى فعل النفس أو فعل الغير.

لا إشكال في حكم الأولين ، وانما الإشكال في القسم الثالث ، مثل دعوى اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحو هما ، وقد يحصل من فعل غيره اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحوهما ، وقد يحصل من فعل غيره كدابته أو عبده أو مورثه أو نحو ذلك ، فله يلحق ذلك بفعل النفس أو بفعل الغير؟ ظاهر هم الأول ، فيحكمون في مثلها باليمين على نحو الجزم والقطع.

ويشكل ذلك بأن الدعوى في مثلها غير معلومة التعلق بفعل النفس ، لاحتمال تعلقها بفعل الغير كما ذكر.

ويمكن دفع الاشكال بالنظر الى ما حققناه في الالتقاط السابق حيث قلنا

ص: 296

انه يكفي في اليمين البتية احتمال استناد دعوى المدعي الى ما يعلم المنكر بانتفائه لا الى ما اعتمد في نفيه بالاستصحاب ، فان مثل ذلك يجري في المقام أيضا ، لأنه إذا ادعى شيئا يحتمل استناده الى فعل المنكر ، والى فعل غيره فان كانت في الواقع مستندة الى فعل نفسه فالحلف القطعي في محله كما هو واضح ، وان كانت مستندة الى فعل غيره فالحلف البتي على نفي فعل الغير أيضا جائز أو مع العلم بانتفائه.

والاستصحاب النافي لاستناده إلى أفعال الغير قائم مقام العلم ، إذ قد عرفت أن الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب جائز إذا لم يكن في طرف الدعوى أو واجب شك في ذلك.

والحاصل ان المنكر في هذه الأمثلة لما لم يكن عالما باستناد دعوى المدعى الى فعل غيره كان كمن يعلم بعدم الاستناد في جواز الحلف البتي ، نظرا الى كونه احتمالا في مقابل الاستصحاب ، لان عدم العلم باستناد الدعوى الى الاحتمال المخالف للاستصحاب يكفي في الحلف البتي على عدمه اتكالا على الاستصحاب.

فان قلت : قضية القاعدة - ولو بعد تسليم هذه القاعدة أعني جواز الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب بشرط عدم مصادمته مع دعوى المدعي أيضا - عدم جواز الحلف البتي ، لأن الشك في الشرط لا يوجب الشك في المشروط ، فاذا احتمل المنكر كون أصالة عدم فعل الغير الذي أتكل عليه معرضا لدعوى المدعي لم يجز له الحلف البتي ، لاشتراط ذلك بعدم كونه معرضا لها.

قلت : إذا أنكر المنكر الاشتغال فظاهر اخباره الجزم بالعدم ، وهو أمر ممكن ولو بعيدا ، كما إذا صالحه المدعي عن المتنازع فيه وقبضه قبل الدعوى فإنه حينئذ جازم بعدم الاشتغال. فتأمل.

وظاهر الاخبار يوجب توجه الحلف البتي عليه ، ولو فرض الكلام فيما

ص: 297

إذا علمنا أنه أتكل في بعض الاحتمالات الخفية بالأصل ، فنقول حينئذ : انه يكفي في مطالبة الحلف البتي من المنكر عدم إحرازه سبب الحلف الغير البتي ، أعني استناد الدعوى الى فعل الغير الذي لا يعلم بانتفائه علما وجدانيا ، اما لعمومات الحلف الظاهرة في الحلف البتي كما مر. فتأمل ، أو لأصالة عدم استناد الدعوى الى ذلك السبب المستلزمة لاستنادها الى سبب يقتضي الحلف البتي. فتأمل ، أولان الشرط الذي اعتبرناه في الحلف بمقتضى الاستصحاب - أعني عدم كونه معرضا للدعوى - أمر ثابت من كلمات العلماء على خلاف ما عليه طريقة المتشرعة قاطبة من الاعتماد على الأصول والأمارات في أخبارهم الجزمية ولم يثبت أزيد من ذلك ، فنقول :

قضية القاعدة الثابتة من بناء العوام والخواص جواز الحلف البتي بمقتضى الأصل ، مثلا خرج من تحتها صورة العلم التفصيلي بكون الأصل المعتمد عليه معرضا للدعوى ، وأما صورة الشك في ذلك فهي باقية تحت القاعدة. فتأمل ، أو لأن ظاهر الاخبار يقتضي كونه جازما بانتفاء جميع الأسباب ، سواء كان فعل نفسه أو فعل غيره وعلمنا إجمالا باتكاله في نفي بعض الأسباب على الاستصحاب مثلا لا يمنع عن الحكم بمقتضى ذلك الاخبار الجزمي ، وهو الإحلاف على نحو البت ، لان سلب جميع الأسباب يتضمن ما يتعلق بأفعاله من الأسباب أيضا ، وهو - أعني نفي ما يرجع الى فعله من الأسباب - يكفي في مطالبة الحلف البتي ، والمعلوم بالإجمال - أعنى الاستناد الى الاستصحاب في نفي بعض الأسباب - لا يعلم رجوعه الى ما يتعلق بفعل نفسه وعدم العلم بما يمنع من الحلف البتي كاف في مقابل ظاهر الاخبار المقتضي له.

وتوضيح المسألة : ان المنكر في الأمثلة المزبورة التي ظاهر اخباره هو العلم بعدم الأسباب رأسا ان لم يعلم استناده في نفي بعضها الى الاستصحاب

ص: 298

كما يتفق كثيرا ما فلا إشكال في كون يمينه على نحو البت ، لان العالم يمينه على البت سواء كان في فعل نفسه أو في فعل غيره وان علمنا أنه أتكل في نفي البعض الى الاستصحاب ، فان علمنا أن ذلك البعض لا يرجع الى فعل نفسه وانه ما لم يعلم ما يرجع الى فعله من الأسباب كلا ، فلا إشكال أيضا في كون يمينه على نحو البت.

لا يقال : كيف لا اشكال فيه مع أنه يحتمل استناد المدعي الى فعل غيره الذي اعتمد المنكر في نفيه بالأصل ، وقضية تطابق الدعوى واليمين إحراز كون الدعوى راجعة إلى فعل نفسه حتى يقتصر في فصلها بالحلف القطعي ، والا فبمقتضى القاعدة اما إلزام المدعي في هذه الصور بذكر السبب أو الجمع بين حلفين : أحدهما القطعي لاحتمال استنادها الى فعل نفسه الذي فرض علم المنكر بعدمه ، وثانيهما الحلف على نفي العلم بوجود ما يرجع الى فعل غيره من الأسباب.

لأنا نقول : اما إلزام المدعي بالتفصيل فلا وجه له بعد عدم الدليل عليه وكون دعوى أصل التنمية دعوى صحيحة. وأما الجمع بين الحلفين ، ففيه : ان الحلف على نفي فعل الغير مشروط بادعائه المدعي بشرط الفرض للعلم أيضا ، وأصل الدعوى هنا غير معلوم فضلا عن الشرط المزبور. مع إمكان أن يقال : ان الحلف على عدم التنمية ينحل الى الحلف البتي على عدم الأسباب التي يعلم بانتفائها وعلى نفي العلم بالأسباب التي يحتمل وجودها.

هذا ان علمنا بأن السبب المنفي بالأصل يرجع الى غير فعل نفسه ، وان علمنا انه يرجع الى فعل نفسه ، فهاهنا نلتزم بأنه ليس مقام الحلف البتي وأنه لو حلف أيضا مع علمنا بالحال لا ينفع بل يرد اليمين الى المدعي بناء على ما سمعت في مسألة « لا أدري » على الخلاف المذكور سابقا.

ص: 299

وان جهل الحال من هذه الجهة بعد العلم الإجمالي باستناد المنكر في بعض الأسباب المردد بين فعله وفعل غيره بالاستصحاب فنقول أيضا : وظيفته الحلف القطعي لما ذكرنا من الجري على مقتضى ظاهر الاخبار من العلم بانتفاء جميع الأسباب التي منها فعل نفسه مع عدم معلومية الصارف ، وهذا مثل ما قد يقال في اللفظ الواقع في مقابل ظاهر لفظ آخر المردد بين احتمال يكون على تقديره صارفا لفظ الآخر وبين احتمال لا يكون صارفا ولا مستتبعا بحكم من عدم صلاحيته للصرف حينئذ.

ومثله الكلام فيما نحن فيه ، فان معلومية استناد المنكر في نفي بعض الأسباب مع دورانه بين أن يرجع الى فعل نفسه فيمنع عن الحلف أو يرجع الى فعل غيره ويكون فعل نفسه معلوم العدم ، فلا يؤثر في شي ء لا يمنع عن العدول عما يقتضيه ظاهر الاخبار ، وهو عدم الاستناد في نفي فعل نفسه الى الاستصحاب.

[ وجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ]

ثمَّ ان تمَّ ما ادعيناه من حجية ظاهر الاخبار في عدم استناد المنكر الى فعل نفسه الى الاستصحاب فهو والا ففي المسألة إشكال ، لوجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ، ومع الشك في جزمه بما يتعلق بفعل نفسه كيف لا يحرز كون حلفه مطابقا لها.

والحاصل انه لا بد من إحراز كون الجواب والحلف جوابا وحلفا على كل تقدير ، ومن التقادير والاحتمالات كون الدعوى متعلقة بفعل المنكر وكون الإنكار الجزمي ناظرا إلى أسباب ترجع الى فعل غيره لا الى فعل نفسه ، فلا يمكن إحراز المطابقة حتى بالحلف البتي.

وأيضا كيف يلزمه الحاكم بالحلف البتي مع أن البت على نفي فعل الغير

ص: 300

ليس بلازم شرعا. ولا ريب ان الحلف بناء على نفي التنمية حلف على نفي فعل الغير ، لأن النتائج بنفسها ليست من الافعال بل مسببة منها ، وسلب المحتمل يمكن أن يكون من أفعال الغير ، فإذا ألزمه الحاكم بنفي التنمية بتا فقد ألزمه على الحلف البتي فيما يرجع الى فعل الغير.

توضيح ذلك : ان تعذر العلم بنفي فعل الغير غالبا أوجب قياما لحلف على نفي العلم مقام الحلف البتي ، ولا فرق في التعذر المذكور بين أن يكون متعلق الحلف فعلا معينا من أفعال الغير وبين أن يكون غير معين ، داخلا تحت أمور يحتمل كون بعضها من أفعال الغير ، فاذا كان الحلف على نفي فعل المعين بتا مرفوعا عن المنكر لم يتعقل مطالبة الحلف على نفي شي ء يحتمل أن يكون سببه فعل الغير ، بل هذا أولى بالرفع كما لا يخفى. ومقتضى ذلك عدم إلزامه بالحلف البتي إذا كانت الدعوى في النتائج.

ويمكن دفع الإشكال الأول بظاهر الاخبار كما مر ، والاشكال الثاني بأن التعذر حكمه في رفع الحلف البتي على نفي فعل الغير لا علة ، فيقتصر في الخروج عن قضية الأصل الذي قررنا - وهو كون اليمين على نحو البت - على مورد الحكمة ، وهو ما إذا أحرزنا كون متعلق الدعوى فعل الغير ، ودعوى التنمية ليست دعوى متعلقة بفعل الغير وان كانت متعلقة بفعله بحسب الاحتمال العقلي.

والحاصل ان الخارج عن تحت الأصل إذا كانت هي الدعوى المتعلقة بعنوان فعل الغير لم ينطبق على دعوى أمور يحتمل أن يكون سببها فعل غير معين من الغير ، فيرجع فيه الى الأصل.

وان تمَّ ما ذكر في رفع الإشكال الأول من إحراز كونه جازما في فعل النفس بمقتضى ظاهر الاخبار ، وتمَّ أيضا ما ذكرنا في رفع الإشكال الثاني من الرجوع

ص: 301

الى الأصل فيما هو خارج عن عنوان المخصص. فهو والا كما هو الظاهر في الثاني بناء على كونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، أمكن أن يقال : ان المدعي حينئذ يطالب بذكر السبب ، فان ذكر سببا يرجع الى فعل نفس المنكر استفصل المنكر ثانيا في تعين ذلك السبب المعلوم بالإجمال انه مجرى الأصل ، فإن قال انه فعل نفسه كلف بالرد ، لان اليمين في فعل النفس لا بد أن يكون مع الجزم ، وان قال انه فعل غيره كلف باليمين الجزمية ، وان قال المدعي لا أعلم السبب استفصل المنكر أيضا ، فإن قال ان السبب المتكل في نفيه على الأصل فعل غيره لا فعل نفسه كان الحكم كالصورة التي ذكرنا حكمها ، وهي ما لو علمنا أنه جازم في نفي فعل نفسه ، وان قال انه فعل نفسه كلف بالرد أيضا أو يكلف المدعي بالبينة لاحتمال كون مستنده فعل غيره.

[ الآراء في يمين نفي العلم ]

هذه هي الحال في دعوى النتائج ، وأما أصل المسألة فالأقوال فيها أربعة :

« أحدها » - ما ذهب اليه بعض العامة من إنكار يمين نفي العلم رأسا وانحصاره في الحلف على نفي الواقع جزما ، سواء كان في فعل النفس أو فعل الغير. غاية الأمر المنكر إذا كان جاهلا بالحال فهو في مقام تعذر الحلف ووجوب الرد الى المدعي ، فيحكم بعد رده أو رد الحاكم أو يقضي بالنكول.

ويدل على هذا الرأي جميع أدلة اليمين ، إذ قد عرفت أن ظاهر بعضها وصريح الأخر اليمين الناظرة الى الواقع الذي هو متعلق الدعوى والبينة ، فاليمين على نفي العلم ليست من الموازين ، غاية الأمر انه إذا كان جاهلا يرد ، نحو قوله عليه السلام في جواب من سأله عن الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة يستحلف أو يرد اليمين. وقوله عليه السلام في رواية أخرى : لو كان المدعى

ص: 302

عليه حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد (1). بناء على سوقه لبيان مجموع موارد القضاء لا كل واحد حتى ينزل على الصورة المقابلة لليمين والرد معا كصورة العلم. وقد استوفينا الكلام في توضيحه في مسألة « لا أدري » والجواب بالسكوت.

« وثانيها » - ما يقابله من إنكار اليمين الجزمية رأسا وانحصارها في نفي العلم مطلقا ، سواء كان في فعل النفس أو فعل الغير. ويشهد له ما أسلفنا قبل الالتقاط السابق من بناء العقلاء على انحصار فصل الخصومة في وجود البينة للمدعي وعدمها للمدعي عليه من غير حاجة الى اليمين أصلا ، لأن العمل بهذا البناء وان كان يقتضي استراحة المنكر من الحلف رأسا لكن لما كان يحتمل أن يكون كاذبا في دعواه العلم بالعدم وعالما بثبوت الحق استحلف حتى يتشخص عدم كونه عالما بالحق ، وإلا فاليمين على نفي العلم لا مساس لها بالدعوى المتعلقة بالواقع ، فلا وجه لكونها ميزانا في فعلها وطيها.

والحاصل ان الاكتفاء باليمين على نفي العلم مطلقا حتى في فعل النفس لا وجه له سوى القول بأن عدم علم المدعى عليه بالحق مع عدم القامة المدعي حجة شرعية يكفي في الحكم بعدم الحق ، وهو موافق للأصل ، لأن الجاهل مع عدم قيام الحجة يجري على العدم حتى يجي ء ما يصرفه عن تكليف نفسه ، وانما يستحلفه على عدم العلم لإحراز جهله وتبعيد اخباره بالعدم المستلزم لجهله عن الكذب.

وعلى هذا يتجه الاكتفاء في مسألة « لا أدري » باليمين على نفي العلم كما سمعته من بعض مشايخنا ، بل لعله مبني على هذا القول ، ولا يتم على سائر الأقوال في المسألة كما لا يخفى.

ومما يتفرع على القول المزبور : ان المدعي لو اعترف بجهل المدعى

ص: 303


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

عليه سقط اليمين رأسا وانحصر قطع الخصومة في إقامة البينة ، لأن اليمين على نفي العلم إذا كانت فائدته إحراز جهل المدعى عليه لعدم صلاحية كونها ميزانا لفصل الدعوى الناظرة الى الواقع فباعتراف المدعي بالجهل يستغنى عن استكشاف الجهل بالحلف.

ويتفرع عليه أيضا سماع قيام البينة بعد يمين المنكر ، لأنه لم يحلف على نفي الواقع حتى يذهب بحق المدعي كما في الأدلة بل على نفي العلم ، ولا منافاة بين عدم علمه وثبوت الحق بالبينة وغير ذلك من الفروعات الراجعة إلى الثمرة والفرق بين اليمين والبينة ويمين نفي العلم ، كما سيأتي الكلام فيها إنشاء اللّه تعالى.

وقد يقال : ان مقتضى هذا القول عدم جواز رد اليمين الى المدعي أيضا ، لأن يمين المدعي لا بد أن تكون لا ثبات الحق وهذا اليمين متعلقها العلم دون الواقع.

ويدفع بمنع الملازمة ، إذ اليمين المردودة لا بد أن تكون على إثبات الحق وان كانت في الأصل على نفي العلم ، ولذا لو رد الوارث اليمين الى المدعي حلف على الواقع.

« وثالثها » - ما هو المختار عند الخاصة جلا أو كلا ، وهو الذي ذكره المحقق في العبارة السابقة من التفصيل في النفي بين فعل النفس أو فعل الغير ، ففي الأول لا بد من البت يعني على نفي الواقع ، وفي الثاني يكفي على نفي العلم. ومرجعه إلى ملاحظة العسر واليسر الغالبين ، كما يصرح به كلمات جملة من الأصحاب المتعرضين لذكر العلة ، للتفصيل المذكور كصاحب المسالك وفاقا للمحكي عن الشيخ ، لان العلم بفعل النفس وجودا وعدما غالبا أمر ميسور ، بخلاف فعل الغير فان العلم بعدمه غالبا متعذر ، فاكتفي فيه بعدم العلم ، فصار

ص: 304

عدم العلم في هذا النوع بمنزلة عدم الحق واقعا ، ولذا لو اعترف المدعي بعدم العلم سقط دعواه وتتوقف على إقامة البينة.

قال الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد : لو ادعى عليه موت مورثه سمعت في موضع السماع ، فلو أنكر حلف على نفي العلم ان ادعاه عليه كما يحلف على نفي غصبه وإتلافه. ويحتمل الحلف على البت لكثرة اطلاع الوارث على ذلك.

ويحتمل الفرق بين حضوره وغيبته عند موت المدعى به ، والأصحاب على الأول - انتهى كلامه قدس سره.

ومبنى الاحتمال الأخير على ملاحظة التعذر الصنفي ، لان صنف موت الغائب غالبا يتعذر فيه العلم ، كما أن مبنى القول المشهور على ملاحظة العسر النوعي ، فإن فعل الغير نوعا مما يعسر العلم بنفيه بخلاف فعل النفس. وهنا احتمال خامس ، وهو ملاحظة نوع الافعال ، كالإتلاف في حال النوم ، فان العلم بهذا النوع متعذر.

وكيف كان فالتفصيل المشهور هو المذهب ، والدليل عليه - بعد الحكمة المشار إليها - ما يظهر من جملة من الروايات :

( منها ) تعليل عدم مطالبة البينة من المنكر بأنه لا يقدر على إقامة البينة على الجحود في رواية فضل بن شاذان المتقدمة (1) ، لأن الشهادة واليمين متساويان في كون كل منهما اخبارا جزميا بالواقع ، فتعليل عدم البينة بعدم إمكانها على النفي يدل على عدم اعتبار تعلق اليمين بنفي الواقع إذا كان متعذرا أو متعسرا ، كنفي فعل الغير.

أقول : لا يقال قضية التعليل عدم اعتبار تعلقها بالنفي الواقعي مطلقا سواء

ص: 305


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

كان في فعل النفس أو فعل الغير ، فيكون ظهور التعليل دليلا مخرجا عن ظواهر ما اقتضت اعتبار تعلقها بالواقع من الأدلة.

لأنا نقول : ان الشهادة من الإخبارات المتعلقة بفعل الغير ، فيقتصر في إلحاق اليمين بها على موردها. ويؤيده أن التعليل قد سبق لبيان العدول من مطالبة البينة من المنكر الى يمينه ، وتعليل أحد الضدين بالعلة المشتركة بينه وبين الضد الأخر قبيح ، فلو كان المناط الاخبار بمطلق النفي - حتى نفي فعل النفس - لم يصح التعليل المزبور ، للاختصاص بإقامة البينة لجريانه في اليمين على فعل النفس أيضا ، فلا بد من إرجاع التعليل الى الاخبار المتعلق بنفي فعل الغير.

الا أن يقال : ان هذا ليس بأولى من جعل يمين المدعي التي علل العدول عن البينة إليها بالتعليل المذكور يمين نفي العلم. بل هذا أولى ، لأن ظهور التعليل في العموم أقوى من اليمين في البينة الناظرة الى نفي الواقع.

وفيه تعسف لا يخفى ، لان اليمين المذكور في الرواية - خصوصا بملاحظة سائر الروايات - كالصريحة في اليمين الناظرة الى الواقع ، فكيف تعارض ظهورها ظهور التعليل في العموم مع إمكان منع ظهوره بملاحظة كون أصل الشهادة من الإخبارات الناظرة الى خصوص نفي الشي ء عن الواقع.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو قال المنكر « لا أدري » ، فإن التعليل لا يجري فيه أيضا ، فلا يقال : ان مقتضاه سقوط الحلف في حقه لتعذره في حقه ، لان تعذر الشهادة على النفي ليس أمرا دائميا بل غالبيا ، فالمدار على غلبة التعذر.

ومن الواضح انتفاء العلة فيما يتعلق بنفي فعل النفس ، فلو فرض صورة يكون الشخص غير عالم بفعله فهو لا يصير منشأ لدخول نوعه تحت عموم العلة.

فإن قلت : ان قضية التعليل سقوط الحلف على نفي فعل الغير بتا ، ولكنه لا يدل على الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، بل مقتضى القاعدة بعد سقوط

ص: 306

الحلف البتي تعين الرد الى المدعي بقوله عليه السلام « أو يحلف أو يرد ».

قلت : الاجتزاء بيمين نفي العلم انما يستفاد من التعليل بعد ملاحظة أنه لا بد للمنكر من الحلف ، فبمقتضى قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

فإن قلت : اليمين المذكورة هي اليمين على نحو البت كما مر غير مرة ، فإذا خرج مورد عن صلاحية الحلف البتي دخل تحت قوله عليه السلام « أو يرد » ودعوى تخصيص عموم البينة على المدعي ، كما ترى.

قلنا : يستكشف من التعليل المزبور أن عدم العلم بفعل الغير ينزل شرعا منزلة العدم الواقعي ، فالحلف على نفي العلم به حلف جزمي ولو ادعاء ، فلا يلزم تخصيص في العموم المزبور - فافهم.

( ومنها ) الرواية الواردة في الرهن (1) ، وفيها تصريح بأن الوارث يحلف على نفي العلم بما ادعى على المورث.

( ومنها ) رواية حفص الواردة في جواز الشهادة بمقتضى اليد (2) ، وحاصل مضمونها أن الراوي اعتقد عدم جواز الشهادة على ملكية ما في اليد بمقتضى اليد ، معللا باحتمال كونه لغيره وانما تجوز على اليد ، ورده الامام عليه السلام بأنك إذا اشتريت منه ما في يده فهل تحلف على أنه صار ملكك.

وجه الاستدلال : ان الحلف على دخول ما اشتراه من ذي اليد في ملكه مع احتمال اليد التي تلفه منها على غير الحقية يرجع الى الحلف على نفي فعل الغير ، لان احتمال كون تلك اليد غاصبة أو نحوها من الاحتمالات المخالفة للأصول لا بد منه في الحلف البتي على لازم حقية اليد - أعني الملكية - وقد

ص: 307


1- الوسائل ج 6 ب 30 من أبواب أحكام الرهن ح 1.
2- الوسائل ج ب من أبواب كيفية الحكم ح.

حكم الامام عليه السلام بجواز هذا الحلف ، فعلم أن الحلف على نفي فعل الغير مع عدم العلم أمر جائز.

فإن قلت : مقتضى الرواية جواز الاعتماد على الأصول في الحلف ، وأين هذا من الدلالة على أن المدعى عليه يحلف على نفي العلم بفعل الغير وأنه يجزيه عن الحلف البتي.

قلنا : الحلف البتي على ما يتوقف على نفي فعل الغير بالأصول حلف على نفي العلم مع وضوح الحال بأن علم أنه استند في هذا الحلف على الأصول ، إذ لا فرق بين قوله « واللّه لا علم لي بما تدعيه » وبين قوله « واللّه ليس ما تدعيه حقا » ، مع العلم بأنه اعتمد في نفي الدعوى على الاستصحاب. وهكذا حال الحلف على ما يتوقف على نفي فعل الغير.

الا أن الانصاف أن في دلالتها على المدعي نظر ، لان جواز كون الحلف البتي مستندا الى الاستصحاب لا يدل على الكفاية به مع وضوح الحال.

والحاصل : ان مدلول الرواية أنه يجوز للشخص الاعتماد في نفي فعل الغير بالاستصحاب وإبراز الحلف بصورة البت فيما بينه وبين الخصم ، والمدعى كفاية الحلف على نفي العلم بفعل الغير أو على نفيه بمقتضى الاستصحاب ، مع وضوح الحال في مقام الدعوى عن الحلف البتي الغير المستند ظاهرا الى الاستصحاب.

مضافا الى ما في الرواية من الإشكال : تارة من حيث كون الحكم في المقيس عليه من جواز الشهادة على الملك بمقتضى اليد خلاف قول الأكثر ، وأخرى من ثبوت الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، لان عدم دلالة اليد على الملك لا ينافي سببيتها لانتقال ما في اليد الى المنتقل إليه ، إذ يمكن كون اليد يد وكيل أو مأذون ، فمقتضى أصالة الصحة في اليد - وهي التصرف والشراء الواقعيين -

ص: 308

صحة الشراء وانتقال العين إلى المشتري ، فرد عدم جواز الشهادة على الملك بمقتضى اليد بجواز الحلف على الملكية بعد الشراء من المشتري يرجع الى بعض المعاني الذي علمه عند الامام عليه السلام.

[ يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى ]

ثمَّ ان يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى ، بمعنى كونها ميزانا للقضاء كاليمين على نحو البت ، أو توجب متاركة الدعوى وانقطاع السلطنة الفعلية.

وهذان الاحتمالان جاريان في يمين نفي العلم مطلقا حتى على القول بالاكتفاء في فعل النفس ، ويتفرع عليهما أنه على الثاني فالدعوى باقية ، بمعنى أن المدعي على حجته لو أقام البينة ويجوز المقاصة أيضا ولا يحرم نقض الحكم المستند إليها - الى غير ذلك مما سمعت في يمين المنكر سابقا. وأما على الأول فقد يقال انها مشاركة لليمين البتية في جميع الاحكام ، فلا تسمع البينة بعدها ولا يجوز المقاصة ولا نقض الحكم - الى غير ذلك من الأمور.

وقد يفصل على هذا التقدير بين الأحكام المزبورة ، فالبينة تسمع كبينة الغائب بالنسبة إلى اليمين الاستظهارية ، إذ الوجه في عدم سماع البينة بعد يمين المنكر كونها مكذبة لها ، وهاهنا لا تكذيب ، إذ لا منافاة بين تصديق يمين نفي العلم والعمل بالبينة القائمة على الواقع.

ودعوى أن قضية كون الشي ء ميزانا للقضاء سقوط الدعوى بعدها رأسا بحيث لا تسمع إقامة البينة بعدها ممنوعة. لأن المناط في سقوط الدعوى رأسا وسقوط اعتبار البينة تنافي مقتضى البينة لمؤدي الميزان الذي فصلت الدعوى به ، وأما مع عدم التنافي فلا ، ولذا قلنا ان البينة بعد اليمين المردودة مسموعة حتى لو قيل بأنها كالإقرار. فلو حلف المدعي بعد رد المنكر على شراء الدار

ص: 309

المتنازع فيها مثلا قضي له ، لكن لو أقام المنكر البينة على انتقالها اليه بعد الشراء سمعت بينتها.

نعم لو أقر المنكر من أول الأمر بأن الدار ملك المشتري لم تسمع بعده إقامة البينة ، ولكن اليمين المردودة التي هي بمنزلة إقراره في الإلزام لا تمنع عن سماع البينة ، لأن عدم السماع في صورة الإقرار كان لأجل تكذيبه لها بإقراره لا لأجل كون الإقرار حجة عليه وميزانا للقضاء حتى يجري حكمه في البينة المردودة.

والحاصل ان يمين نفي العلم إذا كان ميزانا للقضاء والفصل فليس كاليمين البتية من جهة عدم سماع البينة بعدها ، بل بمنزلة اليمين الاستظهارية في الدعوى على الغائب ، ومثل اليمين المردودة بالنسبة إلى اليمين التي لا تنافيها.

وأما المقاصة ففيها اشكال من حيث اختصاص أدلة حرمتها باليمين البتية ، لكونها المتبادرة من اليمين الواردة في الأدلة ، فلا تجري في يمين نفي العلم ولو كانت ميزانا ، ومن حيث قيام عدم علم المدعي عليه مقام عدم الواقع شرعا نظرا الى قبول اليمين النافية للواقع في حقه للعسر الغالبي باليمين على نفي العلم.

وأما سائر الاحكام فلا بد من النظر في أدلتها أيضا ، فيبقى من الفرق بين الاحتمالين عدم سقوط الدعوى في الثاني دون الأول وان لم يمنع عن سماع البينة بعده. فتأمل واللّه العالم.

التقاط [ دعوى علم المدعي بالمدعى عليه ]

قد عرفت أن الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل الغير كفى في فصلها يمين المدعى عليه على نفي العلم بشرط أن يتعرض المدعي دعوى الواقع علم المدعى عليه ،

ص: 310

بأن يقول « لي على مورثك كذا وأنت عالم به » ، والكلام هنا في موضعين : أحدهما في دعوى العلم مستقلا لا في ضمن دعوى الواقع ، وهذا لا اختصاص له بفعل الغير ، فيجري فيما لو ادعى على أحد انك عالم باشتغال ذمتك بكذا مثلا. والثاني دعوى العلم في ضمن دعوى الواقع ، ومحله فعل الغير ، إذ لا تأثير لدعوى العلم فيما يتعلق بفعل النفس.

( أما الموضع الأول ) فمحصل القول فيه : ان دعوى العلم ان رجع الى دعوى الواقع بناء على كون العلم حقيقة في الاعتقاد الجازم المطابق الى دعوى الواقع وهو واضح ، والفرض للعلم يقع لاغيا في فعل النفس ومؤثرا في الإحلاف على نفي العلم في فعل الغير وان لم يرجع الى دعوى الواقع ، كما إذا كان المراد من العلم مجرد الاعتقاد ، فالظاهر عدم سماع مثل هذه الدعوى ، لان الاعتقاد لا يترتب عليه الأثر. نعم لو قيل بأن الاعتقاد في حكم الإقرار كانت دعواه مسموعة.

( وأما الموضع الثاني ) فظاهر كلمات الأصحاب أنه يشترط في إحلاف المدعى عليه دعوى المدعي بطريق الجزم علم المدعى عليه ، لكن الذي يقتضيه النظر في الأدلة والتأمل في الفتاوي أن المراد بتعرض دعوى العلم عدم اعتراف المدعي بجهل المدعى عليه لا اشتراط جزمه في الدعوى ، فما لم يعترف بجهله حلف المدعى عليه يمين نفي العلم ، سواء علم بعلمه أو ادعاه أولم يعلم وسكت.

والسر في ذلك : ان الشارع أقام يمين المدعى عليه هنا مقام الحلف على نفي الواقع ، فلا بد للمدعي عليه من الحلف اما على نفي الواقع أو نفي العلم أو الرد ، سواء ادعى المدعي علم المدعى عليه أو لم يدع بل اقتصر على مطالبة اليمين.

ودعوى أن دعوى العلم إذا كان مع الاحتمال دون الجزم كانت الدعوى غير مجزومة فلا تسمع. مدفوعة بأن دعوى أصل المال لما كانت جزئية كفت

ص: 311

في سماعها ، وعدم علمه بعلم المدعى عليه لا يجعل أصل الدعوى ظنية أو شكية.

نعم يرد هذا على من زعم بطلان تقسيم اليمين الى القسمين وانها منحصرة في البتية ، بناء على إرجاع يمين نفي العلم بفعل الغير الى دعوى العلم لا الى دعوى الواقع كما نقلناه آنفا ، إذ لا بد له من الالتزام بسماع الدعوى الغير المجزومة هنا ، واستثناؤه عما ذكروه من اشتراط الجزم في الدعوى أو من القول بسقوط الدعوى حينئذ واشتراطها بدعوى العلم جزما.

وبعبارة أخرى : ان يمين الوارث على نفي العلم ان جعلناها فاصلة لدعوى الواقع وقلنا بصحة التقسيم ، لم يرد على القول بعدم اشتراط الجزم في دعوى العلم شي ء ، وأما لو جعلناها فاصلة لدعوى العلم وقلنا ان اشتراط الأصحاب دعوى العلم على الوارث لأجل سقوط دعوى المال رأسا وعدم توجهها الى الوارث وانما المتوجه إليه هي دعوى العلم. يرد عليه أحد أمرين : اما عدم سماع الدعوى في صورة شك المدعي في علم الوارث ، أو القول باستثناء هذه الدعوى عن حكم سائر الدعاوي في شرط الجزم ، وهو كما ترى مما لا يلتزم به أحد.

ودعوى إمكان الالتزام بالأول - أعني عدم سماع الدعوى في الصورة المزبورة لظهور كلام الأصحاب في اشتراط الجزم في دعوى العلم - يدفعها ما يأتي من عدم الظهور أو قيام القرينة على خلافه.

[ الدليل على عدم الجزم في دعوى العلم ]

ثمَّ الدليل على ما ادعينا من عدم اعتبار الجزم في دعوى العلم بل عدم اعتبار دعوى العلم رأسا بل للمدعي إحلاف المدعى عليه من دون دعوى العلم إذا لم يعترف بعدم علمه إطلاق الأدلة الماضية الناطقة بانحصار أمر المدعى عليه وخلاصه

ص: 312

من تبعة الدعوى بأحد أمور أما أداء الحق أو اليمين أو الرد ، فنقول :

إذا لم يعترف المدعي بعدم علم الوارث مثلا وقال « لا أدري أنت عالم أم لا » فهذه الصورة اما داخلة في الإطلاقات والعمومات أو خارجة ، والثاني لا سبيل اليه. ودعوى مساواة هذه الصورة لصورة الاعتراف بجهله ، مدفوعة بأن صورة الاعتراف لا يتصور فيه الحلف ، ضرورة مساعدته المدعي له في عدم الحلف ، فكيف يستحلفه عليه ، والاستحلاف على نفي الواقع أيضا لا سبيل له ، لكون الدعوى متعلقة بفعل الغير ، فعلى الأول ثبت المدعى وهو الإحلاف أو الرد.

فان قلت : ظاهر ما دل على انحصار أمر المدعى عليه في الثلاثة هو الانحصار فيما إذا كان وظيفة المدعى عليه اليمين البتية ، فلا يجري فيما إذا كانت وظيفته اليمين على نفي العلم.

قلنا : بعد ما عرفت أن اليمين على نفي العلم بمنزلة اليمين البتية في فعل الغير ، جرى فيه حكم اليمين البتية حرفا بحرف - فافهم.

هذه حال الأدلة ، وأما كلمات الأصحاب فظاهرها اشتراط دعوى العلم وان كان هو سقوط الدعوى مع عدم التعرض لدعوى العلم ، لكنا ننزلها على ما قلنا من الاحتراز عن صورة الجعل بقرينة عموم الأدلة المشار إليها مع العلم أو الظن بعدم

عثورهم على دليل مخرج غير ما دل على الإقناع من الوارث ونحوه بالحلف على نفي العلم ، فإنه قاصر عن افادة ما صرحوا به من اشتراط دعوى العلم الا بالمعنى الذي قررنا به.

والحاصل ان ظواهر الأدلة كما قد يصار عنها بظواهر كلمات الأصحاب كذلك قد يصار بها عن ظواهر الكلمات إذا لم يطمئن منها ما يوجب الخروج عن ظواهر الأدلة ، ونحن لما نظرنا الى عدم ثبوت الدليل المخرج في أيديهم

ص: 313

أيضا وعلمنا انهم لم يشترطوا دعوى العلم لا جل دليل تعبدي مخفي علينا ، علمنا أن مقصودهم من اشتراط العلم مقدار ما يساعد عليه القواعد العامة ، وهو إخراج صورة الاعتراف ، فان عدم سماع الدعوى حينئذ موافق للقواعد.

هذا مضافا الى ما ستقف من بعض القرائن في كلامهم على ما ذكرنا ، حيث يفرعون على اشتراط دعوى العلم أنه لو ساعده المدعي على عدم العلم لم يسمع دعواه ، فان المقصود لو كان اشتراط دعوى العلم كان دائرة التفريع أو سمع فيشمل ما لو لم يساعده على عدم العلم بل قال « لا أدري أنت عالم أم لا » - فافهم وانتظر تمام الكلام فيما بعد. واللّه العالم.

التقاط [ دعاوي لا يعلم فيها كيفية الحلف ]

يشكل الحال في فروع من حيث كون الحلف فيها على البت أو على نفي العلم : منها دعوى إتلاف البهيمة زرعا أو غيره ، ومنها دعوى جناية العبد - الى غير ذلك من الفروع المذكورة في كتب الأصحاب.

[ دعوى إتلاف البهيمة شيئا ]

( والأظهر في المسألة الأولى ) الإلحاق بفعل النفس ، بل هو هو. توضيح ذلك : ان إتلاف البهيمة تارة يكون عن تقصير المالك في الحفظ وأخرى لا عن تقصير ، والدعوى في الصورة الأخيرة غير مسموعة ، فلا بد من فرض الكلام في صورة التقصير ، بأن ادعى عليه التقصير وأنكره.

وهذا لا إشكال أيضا في كون الدعوى متعلقة بفعل النفس ، ومحل الاشكال

ص: 314

ما إذا كان أصل التقصير الذي هو سبب شرعي للضمان مسلما وكان الاختلاف في الإتلاف.

وجه الاشكال : ان الإتلاف فعل الغير المدعى عليه جدا ، وكون البهيمة لازمة لها لا يوجب صد فعل النفس عليه ، فيلزم الحلف على نفي العلم لكونه فعل الغير ، أو للمناط الذي أشير إليه من التعذر الغالبي ، فإن التعذر الغالبي إذا كان الموجب لسقوط الحلف البتي في نفي فعل الغير الذي يصدر من المكلف الذي له ذمة ، لزم أن يكون كذلك في مطلق فعل الغير ، بل في غير الفعل أيضا من الأمور الخارجية التي تؤثر في الضمان كالريح.

والجواب : ان إتلاف البهيمة من حيث كونه إتلافا صادرا من البهيمة لا تسمع دعواه ، وانما تسمع دعواه من حيث كونه دخيلا في اتصاف فعل الشخص بكونه سببا للضمان ، ولا يلزم في تعلق الدعوى بفعل النفس عدم مدخلية أمر خارج عن فعل النفس فيه ، والألم يسمع دعوى البيع أيضا ، لأن البيع الصحيح - أي نفس الإيجاب الصحيح - يناط تأثيره بأمور كثيرة لا ترجع الى فعل البائع ، ككون المبيع مملوكا أو مأذونا أو مرئيا أو نحوها من الأوصاف التي لو فرض تجرد البيع عنها لم تسمع دعواه مجردا عنها.

والحاصل ان المدعى به إذا كان أمرا يرجع الى فعل النفس ذاتا أو صفة أو ملفقا كان من موارد دعوى فعل النفس ، ولا يلزم من كونه من هذه الموارد رجوعه الى فعل النفس بكله وتمامه.

فان قلت : قضية رواية العلل إلحاق المقام ونحوه بفعل الغير وإن كان يصدق عليه انه يرجع الى فعل النفس في الجملة ، لأن عموم التعليل المشتمل عليه الرواية يقتضي سقوط الإحلاف البتي ، حيث يرجع الى نفي أمر يرجع الى

ص: 315

غير المدعى عليه ، فقد لا يتعذر العلم بالنفي مع تعين الحلف على نفي العلم وقد يتعذر مع وجوب البتي وقد يجتمعان.

والحاصل ان القدر المتيقن فيما خرج عن تحت أصالة كون الحلف على نحو البت ليس الا ما كان فعل الغير المدعى به سببا لاشتغال ذمة المدعى عليه أو لثبوت حق عليه أو نحو ذلك. وأما مطلق فعل الغير حتى مثل الأمور التي توجب اتصاف فعل النفس بالسببية فلا ، إذ ليس في أدلة الباب إطلاق أو عموم ، بل استنقدنا سقوط الحلف البتي عن مثل الوارث عن مجموع ما في الباب من الاخبار وكلمات الأخيار ، وليس فيها إطلاق يقضي بالبت في كل ما هو خارج عن فعل النفس ، ولذا لو كان المدعى به أمرا غير راجع الى فعل فاعل كان الحلف على البت أيضا مثل دعوى وجود التركة للميت أو دعوى موت المورث أو دعوى هبوب الريح فيما يترتب عليه ضمان على المدعى عليه أو غير ذلك.

والحاصل ان المدار في يمين نفي العلم كون المدعى فعلا صادرا من الغير من غير أن يؤثر وجوده في فعل النفس ، فلو لم يكن كذلك فالحلف على البت سواء لم يكن فعلا أصلا أو فعلا مؤثرا في فعل النفس. والوجه ما أشرنا إليه من الاقتصار فيما خالف الأصل على العذر.

ومن هنا يعلم أنه لو كانت الشبهة من جهة الشك في كونه فعل الغير أو فعل النفس فاليمين أيضا على البت.

[ دعوى جناية العبد ]

( وأما المسألة الثانية ) فالأظهر أن الدعوى متعلقة فيها بفعل الغير - أعني العبد - لان فعل العبد سبب للإتلاف مستقل من غير أن يرجع الى فعل سيده ذاتا أو صفة ، وعدم ثبوت الذمة للعبد أو ثبوتها لا مدخلية له في كون الإتلاف

ص: 316

صادرا من العبد ، غاية الأمر أنه على تقدير عدم ثبوت ذمته تكون جناية خسارة على سيده.

وهذا لا بد منه في كل مقام يكون الدعوى متعلقة بفعل الغير ، إذ لو لا تأثير فعل الغير في ثبوت حق على المدعى عليه لم تتوجه الدعوى ، ولذا يشترط في سماع الدعوى على الميت أمور لو لا أحدها لم يتعلق حق على الوارث ، ففعل العبد مثل فعل المورث من حيث كون كل منهما فعل الغير ومؤثرا في ثبوت حق على المدعى عليه ، غاية الأمر انه على تقدير ثبوت الذمة للعبد عدم توجه الدعوى على السيد في فعل العبد كعدم توجهها في الدعوى على الميت مع عدم اجتماع شروط اشتغال ذمة الوارث أو ثبوت حق عليه. واللّه العالم.

التقاط [ تتوجه اليمين على الوارث في صور ادعاء العلم ]

قال في الشرائع : لا تتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع عليه العلم بموت المورث والعلم بالحق وانه ترك في يده مالا ، ولو ساعد المدعي على عدم أحد هذه الأمور لم تتوجه.

ومثله قال في القواعد ، قال : ولا تتوجه اليمين على الوراث ما لم يدع علمه بموت مورثه وبحقه وأنه ترك مالا في يده ، فلو سلم المدعي جهل الوارث بأحدها لم يتوجه عليه حق.

وظاهر العبارتين كالمسالك أن المدعي على تقدير الاعتراف بجهله بالحق أو الموت سقط الدعوى رأسا ، بمعنى أن الدعوى حينئذ من الدعاوي التي لا تستحق الجواب.

وفيه اشكال من حيث أن الدعوى حينئذ مسموعة بالبينة بالاتفاق ظاهرا ،

ص: 317

فلا بد من تنزيل كلامهم على عدم سماع الدعوى مجردة عن البينة ، فيكون المراد من عدم توجه الدعوى كما في المسالك أو عدم توجه الحق كما في القواعد عدم توجهها ، أي عدم ترتب شي ء عليها بمجردها مع عدم البينة.

ولا ضير في ذلك ، لان أمثال هذه المسامحة غير عزيزة في كلماتهم. ألا ترى أن المحقق جعل من شرائط توجه اليمين دعوى أصل التركة في يد الوارث لا دعوى علمها ، بناء على عطف قوله « وانه ترك » على « العلم » لا « الموت » ، كما هو الظاهر ، خصوصا بعد ملاحظة ما يصرح به بعد ذلك من كون حلف الوارث على نفي التركة لا بد أن يكون بطريق القطع والبت ، مع أن دعوى التركة من شرائط أصل الدعوى على الوارث لا توجه اليمين ، إذ لو لم يدعها وقعت الدعوى لغوا محضا.

ومثله عبارة القواعد في المسامحة ، حيث صرح بأن المدعي لو سلم جهل الوارث بأحد الأمور المزبورة لم تتوجه الحق ، مع أن من جملة الأمور المزبورة دعوى أنه ترك مالا ، فإن أراد من الحق اليمين لم يحسن جعله دعوى التركة أو دعوى العلم بها من شرائط التوجه ، لان دعوى أصل التركة من شرائط أصل الدعوى لا من شرائط توجه اليمين. الا أن يقال : شرط سماع الدعوى شرط لتوجه اليمين أيضا ، ودعوى العلم بها ليست شرطا لسماع الدعوى ولا لتوجه اليمين ، إذ لو اعترف المدعي بجهل الوارث بالتركة وأثبتها بالبينة ثمَّ ادعى عليه العلم بالحق توجه اليمين أيضا.

وتبعهم في المسامحة أيضا الشهيد « رحمه اللّه » في محكي الدروس حيث ذكر في شرائط توجه اليمين الى الوارث دعوى المدعي موت المورث ووجود التركة ، وكذا ذكر في شرط سماع الدعوى دعوى المدعي علم الوارث.

ص: 318

والحاصل ان أمثال هذه المسامحات في كلامهم كثيرة ، فلا بد من محافظة النظر عن الجمود على ظاهرها بعد الظفر بما هو المراد الواقعي.

[ المراد من دعوى علم الوارث ]

وكيف كان فقد ذكرنا قبل الالتقاط السابق ان ظاهر هذه العبارات وان كان شرطية دعوى العلم ، فلا يتوجه اليمين مع عدم الدعوى كما صرح به بعض مشايخنا «رحمه اللّه» ، الا أن مقتضى التأمل الصادق سقوط هذا الشرط بالمعنى المزبور وكون المراد الاحتراز عن صورة اعتراف المدعي بجهل الوارث ، وذكرنا أيضا بعض الأدلة عليه ونزيد هنا ونقول :

ان قضية الأدلة العامة أن كل مدعى عليه عليه اليمين أو الرد ، مثل قوله « يستخلفه أو يرد » (1) ومثل قوله « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » (2) ، فالوارث لا بد له من الحلف أو الرد مطلقا ادعى عليه العلم أم لا ، خرج صورة اعتراف المدعي بجهله لعدم فائدة للحلف هنا ، لان حكمة تشريع الحلف كونه تشفيا للمحلوف له وأمارة لغيره ، وبعد مساعدة المدعي بجهل المدعى عليه لم يترتب عليه التشفي كما لا يخفى. وكذا لا يعقل كون الحلف على نفى العلم أمارة إلى الواقع.

وقد يوجه عدم الحلف في صورة الاعتراف بأن الحلف انما هو لدعوى العلم ، فحيث لا دعوى فلا حلف ، وهذا مبني على كون يمين نفي العلم مشروعة لأجل فصل دعوى العلم لا دعوى الواقع ، وقد ذكرنا مرارا فساده.

وأما الأدلة الخاصة فهي أيضا مطلقة ، إذ ليس فيما استدللنا به على شرعية

ص: 319


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 - 6.

يمين نفي العلم في فعل الغير مثل رواية العلل المعللة ومثل رواية الرهن ومثل رواية حفص الواردة في اليد تقييد بصورة دعوى العلم الا من يمنع إطلاقها ويدعي ورودها في غير المقام (1).

نعم يمكن الاستدلال برواية البصري الواردة في الرجل يدعى قبل الرجل الحق فلا يكون له البينة بماله. قال : فيمين المدعى عليه ، فان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه ، وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف فلا حق له. الى أن قال : فان ادعى ولا بينة فلا حق له - الحديث (2).

وجه الدلالة من وجهين :

أحدهما - أنه قد اجتمع فيه كيفية تحرير الدعوى على الحي وكيفية تحرير الدعوى على الميت مع اتحاد الكيفيتين فلو ، كان الدعوى على الميت لها كيفية مغايرة كما على تقدير اشتراط دعوى العلم كان الواجب التنبيه عليها.

لا يقال : ما نحن فيه هي الدعوى بلا بينة ومورد الرواية الدعوى مع البينة ، ولا نقول ان دعوى العلم شرط في الثاني أيضا بل فيما لم يكن للمدعي بينة ، فان لم يتعرض للعلم حينئذ لم تسمع دعواه سواء كان شاكا أو معترفا بعدم العلم.

لأنا نقول : قيام البينة وعدمه انما هو بعد تحرير الدعوى ، ويظهر من الرواية ان كيفية تحرير الدعوى على الميت ليست كيفية مغايرة لكيفية تحريرها على الحي - فافهم.

والثاني - ان قوله « فلا حق له » بظاهره مخالف للإجماع ، إذا لو ادعى المدعي علم الوارث واستحلفه ونكل عن الحلف أورده وحلف المدعي أثبت

ص: 320


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم.

عليه الحق ، فلا بد من تقييد إطلاقه بما دل على ثبوت الحق بعد نكول الوارث عن الحلف وإطلاق أدلة التقييد ، وهي التي تدل على عدم خلاص المنكر الا بالحلف مع عدم البينة الواقعية يقضي بثبوت الحق بالنكول عن الحلف مطلقا ، سواء كان مع دعوى العلم أولا ، ولا ريب ان إطلاق المقيد حاكم على إطلاق المطلق ، فلا يقال : ان قوله « لاحق » عام أو مطلق خرج عن تحته صورة نكول الوارث عن الحلف مع دعوى العلم ، وأما مع عدم دعواه فلا دليل على خروجها عنها ، بل قضية إطلاقه البناء على عدم ثبوت الحق ، وهو معنى اعتبار دعوى العلم.

ثمَّ الظاهر أن يمين نفي العلم بفعل الغير رخصة لا عزيمة ، فيجوز له الحلف البتي إذا كان عالما بالواقع ويجزيه ، وهل يجزيه الحلف على النفي الظاهري ، بأن يحلف على نفي فعل الغير بمقتضى الاستصحاب مثلا أم لا بد من الحلف على نفي الواقع جزما أو على نفي العلم وجهان ، من أن الحلف على عدم العلم بشي ء والحلف على عدمه الواقعي اتكالا على عدم العلم به ، مرجعهما واحد ، ومن الاقتصار في الخروج عن أصالة كون الحلف على نحو البت على القدر المتيقن ، وهو الحلف على نفي العلم ، واللّه العالم.

التقاط [ الغريم مولى العبد عند الادعاء عليه ]

قال في الشرائع : إذا ادعي على العبد فالغريم مولاه ، ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية ، والمراد بالغريم من يؤخذ بالحق ويطالب منه ، يعني ان المدعى عليه هو العبد فيعامل معه ما يعامل مع المدعى عليه الحر من حيث

ص: 321

السؤال والجواب والإقرار والإنكار والحلف والرد الى غير ذلك من وظائف الدعوى ولكن الغريم مولاه.

فان ثبت على العبد شي ء بمقتضى ميزان القضاء ، فان كان أثره يرجع الى العبد فيما بعد العتق كالإتلاف فالمالية ونحوها فلا شي ء على المولى ، وان كان أثره مما يرجع الى العبد عاجلا - على معنى أنه لو كان حرا كان عليه شي ء من الحقوق - فهذا يطالب به المولى ، بمعنى أن المولى حينئذ يقع طرفا للمنازعة والمخاصمة من حيث دفع الحق ، فإن كان ذلك الميزان الذي فصل به الدعوى على العبد حجة شرعية مثل البينة فعلى المولى دفع الحق ، والا فلا بد للمدعي من اقامة الحجة عليه وطرح النزاع معه.

وليس المراد أنه إذا ألزم العبد بكل ميزان شرعي لزم المولى الحق ، بل المراد أنه لا شي ء على العبد عاجلا ، وانما الحق الذي ادعى على العبد من المال أو الجناية على المولى ، وأما ان ذلك الحق يلزم المولى فعلا أو شأنا فهو موكول إلى مساعدة القواعد.

ومما ذكرنا في معنى العبارة يسقط جل ما في المسالك من الاشكال على العبارة أو كله.

التقاط [ عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ]

لا اشكال ولا خلاف في عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ، لأنه كلما يتوجه الدعوى على الحلف وعكسه النقيض كلما لا يتوجه الحلف لا يتوجه الدعوى ، ولم يتقرر الحلف طريقا شرعيا الى ثبوت الحد إجماعا ، مضافا الى النص والاعتبار الجلي المستنبط من الاخبار.

ص: 322

ولان حلف المنكر هنا لا طائل تحته ، لأن فائدة الحلف كما أشرنا إليه هو التشفي للمحلوف له وهو المدعى مثلا ، والمحلوف له هنا هو اللّه تعالى.

هذا في حق اللّه المحض ، وأما مورد تعلق الحقين فان كان حق الآدمي حق مالي كالسرقة فيعمل في كل حق بمقتضاه ، وان كان حقا غير مالي كالقذف ففي سماع الدعوى بلا بينة وجهان أو قولان ، وإطلاق أدلة القضاء يقتضي السماع. واللّه العالم.

التقاط [ مواضع تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة ]

قد عرفت عدم سماع الدعوى مجردة عن البينة في غير حق اللّه وعدم خلاص المدعي الا بالبينة وعدم خلاص المنكر الا باليمين.

فاعلم أن موارد خرجت عن تحت القواعد الثلاث فقد تسمع مجردة عن البينة ، اما مع اليمين أو بدونها أيضا ، وقد يتخلص المنكر بلا يمين أيضا.

وهذه الموارد كثيرة قد ثبت الحكم في كل واحد واحد منها بالدليل من إجماع ونحوه ، واحصاؤها خارج عن حيز استطاعة القلم في باب واحد ، ولا ضابط أيضا لتلك الموارد غير أن ما سقط فيه مطالبة البينة عن المدعي بعضها مستند الى وجود المانع عن تكليف المدعي بالبينة كتضييع الحقوق وبعضها مستند الى وهن في الأصل الذي في جانب المنكر وقوة في جانب المدعي وبعضها مستند إلى الأمرين :

( فمن الأول ) يمكن أن يكون مدعي البلوغ بالإنبات ، فان اقامة البينة عليه غالبا متعذر أو متعسر ، فيلزم من إيقاف سماع دعواه عليها ضياع الحقوق غالبا.

ودعوى الودعي التلف ، لان تكليف الامناء بالبينة في دعوى التلف ينجر

ص: 323

الى فتور رغبة الناس عن قبول الودائع ، فهو المانع من العمل بمقتضى الأصل الذي عليه بناء العقلاء من مطالبة الحجة من المدعي.

( ومن الثاني ) دعوى الدخول مع الخلوة والتيام الأخلاق وانتفاء الموانع ، فإن أصالة عدم الدخول التي صارت سببا لصدق المدعي على مدعيه موهونة بمعارضة الظاهر المستند إلى العادة ، فأشبه المنكر في قوة وسقط عنه كلفة البينة.

ومن الأخير تقديم قول مدعي الدم في اللوث بيمينه ، لأن القوة في جانب المدعي ، لمكان الامارة على صدقه مع كونه على وفق المصلحة ، حيث أن مطالبة البينة في دعوى الدم من المدعي مظنة ضياع الدم.

بل صرح بهذه المصلحة في حديث « ان اللّه حكم في دمائكم بخلاف ما حكم في أموالكم » (1) ، لأن الإمام عليه السلام قد علل فيه عدم الاكتفاء باليمين من المنكر بأنه يوجب ضياع الدماء ، لكن المصالح الموجودة في تلك الموارد ليست علة مطردة حتى ينفعنا في الفروع المشتبهة ، بل انما هو على وجه الحكمة التي لا تتعدى عن موردها ، فلا بد في سقوطه إقامة البينة من المدعي من قيام دليل مخصوص لعموم نحو « البينة على المدعي » ، فان ثبت عمل به من حيث سقوط البينة.

وأما العدول عنها الى اليمين فلا بد أيضا من قيام دليل آخر ، إذ المدعي بعد ما عرفنا سقوط وظيفته الشرعية - أعني البينة - فلا دليل على قيام اليمين التي هي وظيفة المنكر مقامه ، بل لا بد من تصديقه بلا يمين ، وهو مخالف للأصل من جهتين : إحداهما من جهة طرح ذلك الأصل الذي يدعي خلافه ، والثاني من حيث كونه خروجا عن قاعدة انحصار القضاء بالبينة أو الإيمان.

ص: 324


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 3.

[ الاستدلال بقيام اليمين مقام البينة ]

هذا ، ويمكن الاستدلال بعد قيام الدليل على سقوط البينة عن المدعي على قيام اليمين مقامه ، وذلك لان مقتضى عموم نحو قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » أن لا يكون قضاء إلا بأحدهما ، ومقتضى قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » أن تكون البينة وظيفة للمدعي مطلقا ، فاذا ثبت في مورد سقوط البينة عن المدعي فمقتضى عموم قوله عليه السلام « انما » استعمال الميزان الأخر ، وهي اليمين ، لأن إطلاق المطلق لا يهمل عند انتفاء المقيد.

مثلا إذا ثبت « أعتق رقبة » ثمَّ ورد « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإن ثبت التكليف بالمؤمنة على حالة لم يكتف منه بعتق الكافرة ، أما إذا انتفى التكليف بالمؤمنة - كما إذا لم يتمكن المكلف بعتق المؤمنة على عتقها - أورد تخصيص على دليل وجوب عتق المؤمنة ، مثل أن يكون المأمور بعتقها نوع من الرجال كالتجار ، ثمَّ ورد تخصيص آخر دل على عدم وجوب عتقها على بعض المأمورين كان المتبع حينئذ إطلاق الأمر بالعتق ووجب عتق الكافرة حينئذ على ذلك البعض.

وما نحن فيه كذلك ، لان مقتضى ما دل على لا بدية أحد الميزانين في كل قضاء الاكتفاء بأحدهما في كل قضاء ، لكن الحديث المفصل - أعني قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » قضى بأن القضاء إذا كان للمدعي فلا بد أن يكون ميزانه البينة ، ومقتضى عموم مطالبة البينة من كل مدعى يقضى له ، فاذا ثبت في بعض المدعى أنه يقضى له بلا بينة لعسر أو حرج أو شي ء آخر ، رجعنا حينئذ إلى إطلاق الأدلة الاولى القاضية بلا بدية أحد الميزانين في القضاء ، فيتعين تصديق قوله حينئذ بيمينه.

ص: 325

وهذا هو السر في أن الفقهاء إذا اقتضى قواعدهم مطالبة البينة من المدعى مثلا فيقولون ان القول قوله بيمينه لا مطلقا.

ويرشد إليه أيضا تعليل الإمام في حديث الدماء كما أشرنا إليه ، حيث علل عدم الاكتفاء باليمين من المنكر هنا بأنه يوجب ضياع الدم مع أن عدم الاكتفاء منه باليمين لا يستلزم كون وظيفته البينة ، فيظهر أنه حيثما ينتفي أحد الميزانين يقوم الميزان الأخر مقامه.

لكن هذا أيضا غير مطرد ، فربما تسقط البينة من المدعي بلا يمين ، وكذا تسقط اليمين عن المنكر بلا بينة ، فمن الأول دعوى صاحب المال دفع الزكاة إلى المستحق فإنها مقبولة بلا يمين ، ومن الثاني إبدال النصاب في أثناء الحلول ، فإنه منكر مع عدم مطالبة البينة منه ، وجعله صاحب المسالك من موارد تقديم قول المدعي.

وفيه نظر ، لان مدعي الابدال يدعي براءة ذمته عن الزكاة أو سلامة عين ماله من تعلقها به ، فهو موافق للأصل ، بخلاف العامل أو الجابي أو الفقير المطالبين للزكاة ، فإنهم يدعون خلاف الأصل المزبور.

ودعوى أن الشك في تعلق الزكاة مسبب عن الشك في الابدال ، والأصل عدمه لأنه حادث ، فيكون مدعيه مخالفا للأصل. مدفوعة بأن أصالة عدم الابدال لا تثبت كون المال الموجود محلا لتعلق الزكاة إلا بناء على اعتبار الأصل المثبت كما لا يخفى ، فيكون قول مدعي الزكاة غير مطابق للأصل نافع بخلاف المالك.

لكن الاعتذار عن هذه المواضع ونحوها مما ذكره صاحب المسالك وغيره بأنها ليست من مجاري القضاء بين الناس حقيقة وان كان متعلق الدعوى فيها من حقوق الناس لأنها أشبه بحقوق اللّه أو الموضوعات التي لا يجري فيها القضاء كالطهارة والنجاسة والهلال وان تضمنت أحيانا بعض حقوق الناس.

ص: 326

ويمكن استظهار ذلك في خصوص الزكاة من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام كما في الزكاة في حديث طويل منقول في محكي الوسائل المشتمل على كمال الرفق ولين العريكة مع صاحب الزكاة ، فإن فيها بعض الآداب الذي يظهر منه أن الزكاة لا تحل الا بدفع صاحب المال وانها ليست من موارد القضاء ومجاري الخصومة. ولعل المراجع الى الحديث الشريف يستفيد بعض ما خفي علينا من المطالب (1).

فان قلت : قضية قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » حصر حجة المدعي في البينة وعدم كون اليمين حجة له لأنه قضية الحصر ، فاذا ثبت في مقام سقوط البينة عن المدعي لزم تصديق قوله بلا بينة لا الحكم بقيام اليمين مقام البينة بالأدلة الدالة على لابدية أحد الميزانين في القضاء ، إذ بعد معلومية عدم كون اليمين حجة للمدعي وان حجته منحصرة في البينة لا يبقى لتلك الأدلة دلالة على قيام اليمين مقام البينة.

وقياسه بمثال « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » قياس مع الفارق ، لان مفاد « أعتق رقبة مؤمنة » ليس سوى وجوب المؤمنة ، واما مع عدم كفاية عتق الكافرة فيستفاد من عدم الدليل لا دلالة الدليل على عدمه ، وقوله « البينة على المدعي » يدل زيادة على إلزام المدعي بالبينة على عدم كون اليمين حجة له بمقتضى الحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند اليه.

قلت : قوله « البينة على المدعي » يدل على أمرين : أحدهما كون البينة حجة ، للمدعي والثاني كونها متعينة عليه - بمعنى عدم كفاية اليمين له. والحصر المستفاد من القضية يرجع الى الثاني ، وما ذكرت مبني على رجوعه إلى الأول ، إذ

ص: 327


1- الوسائل ج 6 ب 14 من أبواب زكاة الأنعام ح 1.

انحصار الكفاية في البينة انما يقتضي عدم كفاية اليمين لا عدم كونها حجة له شرعا.

وانما قلنا برجوع الحصر الى الثاني لأنا استفدنا من مقابلة الفقرتين أن الفقرة الأولى مسوقة لبيان التكليف الأثقل كما أن الفقرة الثانية لبيان رفع الأثقل وكفاية الأسهل - أعني اليمين - ومقتضى ذلك أن يرجع الحصر الى الثاني ، لأن مفاد قوله « البينة على المدعي » بعد الاستفادة المزبورة أن البينة متعينة على المدعي ، فالحصر يرجع الى المتعين الذي هو بمنزلة محمول القضية حقيقة.

ومن هنا يسقط توهم بعض المنافاة بين ما ذكرنا هنا وما قدمنا في الالتقاطات السابقة ، حيث قلنا : ان قضية تعريف المسند والمسند اليه ان كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه عليه اليمين ، فيتوهم أن قضية الكلية الثانية عدم حجية اليمين للمدعي أصلا ، ولذا قلنا ان موارد تصديق المدعى بيمينه قد خرج بالدليل.

وجه السقوط : ان قضية الكلية الثانية في نفي الاكتفاء باليمين من المدعي ، وهذا يكفي في كون موارد تصديق قوله بيمينه خارجا بالدليل ، وليس قضية الكلية عدم كون اليمين حجة للمدعي.

والحاصل ان العمل بما دل على لابدية الميزان من اليمين أو البينة في القضاء متعين إذا ثبت سقوط البينة من المدعى ، فيقدم قوله بيمينه. نعم لو كان دليل السقوط على وجه يستفاد منه عدم الحاجة الى شي ء آخر فحينئذ لا بد من النظر في أن المراد هو القضاء بلا ميزان أو مجرد التصديق ، فان التصديق لا بد من أن يكون على وجه القضاء ، وان أمكن أن يكون كذلك مثل القضاء بالنكول على القول به ، بناء على كونه من مقامات تصديق قول المدعي ، فإنه لا بينة هنا ولا يمين ، فقد يكون مفاد الدليل سقوط البينة من المدعي ، وحينئذ فلا بد في القضاء من اليمين أيضا عملا بالأدلة العامة كما عرفت.

ص: 328

وقد يكون مفاد الدليل سقوط الأمرين ، فحينئذ لا بد من النظر والتأمل ، فإن دل على شرعية القضاء حينئذ عمل به والا فيصدق قول المدعي بلا بينة ولا يمين من غير قضاء ، كمدعي الابدال والدفع في مسألة الزكاة.

ويحتمل أن يكون من هذا الباب تصديق الامناء حيث لا يمين الا من باب القضاء ، لان ما دل على لابدية الميزان في القضاء لا يصار عنها بمجرد دلالة الدليل على التصديق بلا ميزان ، لان التصديق أعم من القضاء.

هذا كله في المدعي ، وأما المنكر فالظاهر أنه ان دل دليل على سقوط اليمين في حقه قضي له ، لان المنكر يكفيه اليمين في القضاء له مطلقا ، فاذا سقطت سقط البينة بطريق أولى ، إلا إذا كان المقام لا يجري فيه الأولوية ، كمنكر الدم فان سقوط البينة فيه لا يستلزمه سقوط اليمين نظرا إلى زيادة الاهتمام بالدماء.

نعم لو لم يعلم من الدليل الدال على سقوط اليمين سقوطه في مقام القضاء بل احتمل أن يكون المراد مجرد التصديق صدق قوله وخلي سبيله باليمين من غير قضاء ، مثل مدعي الابدال بناء على كونه منكرا كما هو الأظهر لعموم الأدلة ، فالأولوية إنما تجري بعد معلومية أن المراد بالتصديق بغير يمين هو القضاء لا مجرد تخلية السبيل. واللّه العالم.

التقاط ( في الصلح عن الدعوى باليمين حيث لا سبيل إليها شرعاً )

اعلم أن الدعوى قد ينحصر فصلها في البينة ، بمعنى عدم سماعها الا بها ، كالدعوى مع التهمة على القول بسماعها والدعوى على الميت مع عدم دعوى العلم على الورثة ، فان المدعي في هذه وأمثالها ان لم يكن له البينة فليس له الدعوى والإحلاف ، فهل له الصلح عن الدعوى بالحلف أم لا.

ص: 329

وليس في الكتب المعروفة عنوان لهذه المسألة ، ويندرج تحتها صلح المتنازعين عند عدم وجود الحاكم. وبالجملة كل مقام ليس للمدعي سلطنة على إحلاف غير المدعى عليه ، اما لكون الدعوى مما لا تسمع إلا بالبينة أو لفقد شرط من شروط القضاء كالاجتهاد.

وانما خصصنا الكلام بما إذا كان للمدعي سلطنة على الإحلاف مع عدم الفرق بينه وبين ما كان شرائط الإحلاف فيه موجودة - بأن يصالح المدعي عن دعواه الصحيحة بحلف المدعى عليه من غير مرافعة إلى الحكام - لأن فائدة المسألة انما تظهر فيه ، إذ مع سلطنته على الإحلاف.

وكيف كان فالصلح تارة يقع على المدعى به وأخرى على الدعوى ، وثمرة الصلح على الدعوى إسقاط كل ما كان للمدعي من الاثار الوضعية والتكليفية ، مثل إسقاط يمين المنكر لجميع آثار الدعوى لا المدعى به.

وأما الصلح عن المدعى به - بأن يقول المدعي « صالحتك عما ادعي من العين أو الدين بأن تحلف باللّه على براءة ذمتك » مثلا - فهو على قسمين : أحد هما أن يكون المصالح به أعني الحلف هو الحلف على براءة الذمة بعد الصلح ، والثاني الحلف على براءتها قبل الصلح.

لا إشكال في فساد الصلح على الوجه الأول ، لأن الصلح لو كان صحيحا برئت ذمة المدعى عليه بعد الصلح جدا ، فيكون الحلف على البراءة بعده لغوا لا يترتب عليه غرض العقلاء ، إذ فائدته للمدعي التشفي ، وهو انما يتصور مع تجويز كذب الحالف ، وأما مع العلم بالصدق فلا فائدة فيه أصلا ، فيلزم من صحة الصلح فساده.

وأما على الوجه الثاني فالحلف حينئذ ليس هو الحلف الذي شرع ميزانا لطي الدعاوي ، لأن الحلف هذا مورده ما لو أقر المدعى عليه لألزم ، وهذا ليس

ص: 330

كذلك ، لان المدعى عليه على تقدير صحة الصلح لو أقر باشتغال ذمته قبل الصلح لم ينفع للمدعي كما هو واضح ، وليس أيضا مسقطا للمدعي به لسقوطه بنفس الصلح ، فالكلام في صحة هذا الصلح مثل الكلام في صحة ما لو صالح على اليمين في غير مقام الدعوى ، مثل أن يقول « صالحتك عن كذا على أن تحلف باللّه على كذا » ، وحينئذ فلا بد من إحراز شرائط العوض ، مثل كونه مباحا وكونه متعلقا به غرض عقلائي ، إذ مع انتفائهما أو انتفاء أحدهما لا وجه لصحة الصلح ، وحينئذ نقول :

ان أحوال المدعي ثلاثة : فاما أن يعلم بأن المدعى عليه يحلف صادقا باعتقاده أو كاذبا أو لا يعلم شيئا منهما ، والحلف في الصورة الأولى لغو كما مر ، لعدم حصول التشفي بحلف الصادق باعتقاده. وفي الثانية حرام للمدعي عليه بذله ، وشرط عوض الصلح أن يكون مقدور التسليم شرعا وعقلا ، بل لا يجوز للمدعي أيضا استيفاؤه ، لأنه اعانة على الإثم ، والاذن في المعصية معصية عقلا وشرعا. وفي الصورة الثالثة مردد بين اللغو وممتنع التسليم ، وعلى أي حال فلا يصلح أن يكون عوضا في الصلح ، لان شرط العوض أن يكون من الأمور التي يترتب عليها غرض العقلاء وان يكون لكل من المتصالحين أمرا جائزا والا فلا يمكن تسليمه ولا تسلمه.

فان قلت : إذا كان الاذن في الحلف الكاذب معصية فكيف يتوقف حلف المنكر على رخصة المدعي إذا كان عالما بكذبه في اعتقاده.

قلنا : فرق بين المقامين ، لان مرجع شرطية إذن المدعي في حلف المنكر الى عدم رفع اليد عن المخاصمة ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، ولا يجب على المدعي رفع اليد عن المخاصمة محافظة للمنكر عن الحلف الفاجر. بخلاف الصلح على اليمين الفاجرة ، فإنه اعانة على الإثم واقدام على القبيح.

ص: 331

توضيح الفرق بين المقامين : ان التسبيب الى القبيح قبيح ، وأما رفع اليد عن عمل يحصل بذلك الرفع ترك القبيح ليس بواجب ، فلو كان الشخص مشتغلا بشغل مباح بالذات وكان تركه سببا لعدم صدور المعصية عن شخص فلا يجب الترك حينئذ ، وأما التسبيب إلى المعصية والإعانة عليها فهو غير جائز.

فالمدعي لما كان رفع يده عن المخاصمة سببا لعدم صدور الحلف الكاذب عن المنكر فهو ليس بواجب عليه ، وأما الصلح على اليمين الفاجرة ومطالبتها بعد الصلح فلما كان تسبيبا إلى المعصية فهو غير جائز.

وانما قلنا ان مرجع إذن المدعي في حلف المنكر الى رفع اليد عن المخاصمة لا الى الرضا باليمين الفاجرة ، لأن يمين المنكر انما شرعت لخلاص المنكر من يد المدعي ، وليس حجة متوجهة من قبل المدعي الى المنكر فيما لم يرفع المدعي يده عن المنكر ، فلا سبيل له الى التخلص الا باليمين ، وهو أمر بيد المنكر لا بيد المدعي ، إذ لا معنى لكون خلاص المنكر بيد المدعي بل للمدعي إبقاء يده على المخاصمة وللمنكر خلاص نفسه من يده ، فاذا لم يكن بينة فلا بد من السؤال عن المدعي واستكشاف حاله من حيث ترك المخاصمة حتى يتخلص المنكر بدون اليمين أو عدم تركها حتى يتخلص المنكر بيمينه.

ومن أجل ذلك كان اذن المدعي في الحلف في معنى عدم رفع يده عن المخاصمة.

ومن هنا قد يقال : بأن المدعي يجب عليه أيضا إظهار عدم الرضا باليمين إذا علم بكذب الحالف في اعتقاده مع الاذن وبدونه ، إذ لا منافاة بين الاذن بالمعنى المذكور وبين عدم الرضا وإظهار الكراهة ، وانما المنافاة بين عدم الرضا والاذن بمعنى الطلب لا بمعنى عدم رفع اليد عن المخاصمة.

ودعوى قبح كل عمل يتوقف على ترك صدور القبيح عن شخص مثل التسبيب لكون كل منهما مصداقا للإعانة. واضحة المنع ، لان ترك العمل المذكور

ص: 332

داخل في عنوان إيجاد المانع عن وقوع المعصية ، والإعانة ترجع إلى إيجاد مقدمات المعصية ، ولا دليل على وجوب الأول بعد فرض استناد جميع مقدمات المعصية وأسبابها إلى فعل مريدها ، بخلاف الثاني فإنه واجب تركا للإعانة التي مرجعها إلى إيجاد بعض المقدمات.

هذا هو تمام الكلام في الصلح عن المدعى به ، وأما الصلح عن الدعوى فيعلم الكلام فيه بما ذكرنا ، لان عدم اشتمال الحلف على شرائط العوضية لا يتفاوت فيه بين المقامين. واللّه العالم.

وقد وافقنا في هذه المسألة ما نقل عن المحقق القمي في بعض جواب سؤاله.

التقاط ( في تورية الحالف )

تعرضها في القواعد ، ومحصل الكلام فيه : ان الحالف ان كان مبطلا ظالما فالبحث في توريته في الحلف : تارة من حيث الحكم التكليفي ، وأخرى من حيث الحكم الوضعي.

أما الحكم التكليفي فالظاهر أنه لا إشكال في حرمته أيضا ، وان قلنا بأن التورية لا تندرج في اسم الكذب.

وأما في حكمه الذي هو القبح العقلي والشرعي ، فلو حلف المنكر على براءة ذمته كاذبا فلا ينفعه في التفصي عن الإثم والعقاب أن يوري في حلفه بالقلب أو باللسان على وجه لا يسمعه القاضي أو المدعي.

والدليل على ذلك هو العقل المستقل ، لأنه وان كان حلفا صادقا الا أن مناط قبح الحلف الكاذب الذي دل عليه العقل والنقل - مضافا الى قبح الكذب -

ص: 333

موجود في ذلك الحلف الصادق الذي جعله عرضة لا بطال حق الناس ، لان قبح الحلف الكاذب انما هو لأجل كونه هتكا لاحترام اسم اللّه تعالى. ولا ريب أن كونه هتكا ليس متوقفا على كونه كذبا ، لان الهتك انما يحصل باستحقاره باللّه تعالى من حيث أن قضية التعظيم عدم جعل الحلف به وسيلة إلى المقاصد الحقة فضلا عن التوصل الى المقاصد الباطلة.

والحاصل ان استعظام المولى له مراتب : منها ما هو متصف بالحسن الغير الملزم ، كترك الحلف به للتوصل الى المقاصد المباحة ، فإنه راجح عقلا وشرعا لما فيه من التعظيم الواضح. ومنها ما هو متصف بالحسن الملزم ، كعدم الحلف به للتوصل الى المقاصد المحرمة ، سواء كان بطريق الكذب أو بطريق الصدق الذي هو التورية.

ولعل حرمة التورية في الحلف الكاذب ومساواته مع الكذب هو المشهور بين العلماء كما ادعاه الشيخ دام ظله.

ومن هنا يظهر أنه من الكبائر ، لأن قبحه مثل قبح الحلف الكاذب الذي لا إشكال في كونه كبيرة.

وأما الحكم الوضعي فالظاهر أيضا عدم ترتبه ، فلا يحصل به فصل الدعوى ويظهر الثمرة فيما إذا حصل العلم للقاضي أو غيره بالتورية ، والا فظاهر الحلف عدم التورية.

[ تورية المظلوم في الحلف جائزة ]

هذا إذا كان الحالف ظالما ، وأما إذا كان مظلوما فيجوز له التورية بل قد يجب كالودعي الذي ادعى عليه جورا ، فان التورية في الحلف الذي يتوجه إليه في الدعوى الجورية واجبة له.

ص: 334

نعم الظاهر جواز الكذب له أيضا ، فيحلف كاذبا تخلصا عن جور المدعي وإيصالا للوديعة إلى صاحبها ، للأخبار الدالة على جواز الحلف الكاذب للتخلص من الظالم ، حتى ورد أنه أحلى من العسل.

لكن قد يقال : ان مصب تلك الاخبار ما إذا حصل الاضطرار والإلجاء إلى الكذب ، ومع إمكان التورية لا يتصور الإلجاء ، لأن النية أمر قلبي لا يعقل الإكراه عليه ، فيشكل الأمر بين الأخذ بظاهر الاخبار فلا يجب التورية وبين طرحها لمراعاة الاضطرار التي دل عليها العقل والنقل فلا يجوز الكذب مطلقا.

ويمكن التفصي بحمل الاخبار على ما هو الغالب المتعارف بين الناس من عدم التفات الملجأ والمضطر حين الاضطرار إلى التورية ، فإن المضطر على طلاق امرأته أو بيع ماله غالبا لا يوري في طلاقه وبيعه ، بل إذا طلق كان مع قصد المعنى.

وبذلك يجمع أيضا بين ما دلت عليه الاخبار وقام عليه الإجماع من عدم صحة طلاق المكره مثلا مع عدم قبول حقيقة الطلاق الذي هو الإنشاء القلبي المقرون بالكاشف للإكراه ، لإمكان إرادة معنى آخر من لفظة « طالق » غير إنشاء الطلاق كذاهب مثلا.

وجه الجمع : ان الإكراه على حقيقة الطلاق كثيرا ما أمر يقع في الخارج مثل صورة غفلة المكره عن التورية فحينئذ يقع غير مؤثر.

وبذلك يندفع ما أورده المحقق الثاني في محكي وديعة جامع المقاصد على العلامة حيث قال بجواز حلف الودعي كاذبا تخلصا من الظالم بأن الكذب مع إمكان التورية لا ضرورة إليه.

ص: 335

تذنيب [ هل تثبت الشفعة عند إلزام القاضي بالحلف عليها ]

قال في القواعد بعد مسألة التورية في الحلف : ولو كان القاضي يعتقد ثبوت الشفعة مع الكثرة لم يكن لمعتقد نفيها الحلف على نفي اللزوم بتأويل اعتقاد نفسه ، بل إذا ألزمه القاضي صار لازما ظاهرا وعليه أن يحلف ، وهل يلزمه باطنا؟ اشكال أقربه اللزوم ان كان مقلدا لا مجتهدا.

توضيح المسألة : ان الخصومة إذا كان منشأها الاختلاف في الحكم الشرعي كثبوت الشفعة مع الكثرة فإن حررت الدعوى عن وجه عرف القاضي بأن الاختلاف لأجل الاشتباه في الحكم الشرعي فالفاصل حينئذ هو رأي القاضي ولا سبيل الى الحلف حينئذ ، وليس كلامه ناظرا الى مثل ذلك قطعا ، وان حررت الدعوى على وجه يرجع الى النزاع الموضوعي - كما لو قال مدعي الثبوت لخصمه « يجب عليك رد المبيع لثبوت حق الشفعة » وقال صاحبه « الرد ليس بلازم على » توجه الحلف الى منكر اللزوم على نفي اللزوم الواقعي ، وهذا معنى قوله « يلزمه ظاهرا ».

ثمَّ في لزومه باطنا أيضا - بمعنى عدم جواز التورية في الحلف بتأويل اعتقاد نفسه باطنا - اشكال كما ذكره ، أقر به اللزوم إذا كان مقلدا لا مجتهدا ، وليس المراد باللزوم الباطني هو اللزوم بعد اليمين المردودة كما تو همه بعض.

ووجه الإشكال في اللزوم الباطني : هو التأمل في منع أدلة القضاء عن التورية في الحلف على نفي اللزوم الواقعي ، اما لان أدلة القضاء انما تدل على نفوذ إلزامات القاضي وحكمه بوجوب الحلف على نفي اللزوم الواقعي ليس فيه جهة إلزام بل انما هو محض بيان الحكم الشرعي وبيان وظيفة المنكر في

ص: 336

تخلصه عن الخصومة ، أو لأن معنى إلزام القاضي على تقدير شموله لمثل المقام ، لا يمنع التورية ، لان التورية تمحل شرعي للفرار عن الإلزام لا مخالفة للإلزام الصادر.

وبعبارة أخرى : مقتضى أدلة القضاء أن القاضي إذا ألزم بشي ء لزم ، وهذا انما يتم فيما إذا لم يكن الملزم به قابلا للتورية ، والا فبالتورية يخرج عن كونه ملزما به. وكلا الوجهين منفيان :

( أما الأول ) فلأن الحاكم وظيفته في جميع المرافعات بيان وظيفة المتخاصمين والإلزام بمقتضاها حتى المرافعات الموضوعية ، ومعنى نفوذ إلزام الحاكم أنه إذا ألزم بمقتضى بعض الوظائف لزم العمل به ، فإذا ألزم المحكوم عليه هنا بالحلف على عدم اللزوم الواقعي لم يجز له مخالفته بالتورية.

( وأما الثاني ) فلأن التورية أيضا فيما الزم الحاكم به مخالفة لإلزام الحاكم ، لان الحاكم يلزمه على نفي اللزوم الواقعي ، فمتى لم يحلف عليه ولو بالتورية فقد خالف الإلزام كما لا يخفى.

ودعوى أن التورية هنا كالتورية فيما إذا كان الحالف مظلوما. مدفوعة بأن المحلف هنا ليس بظالم في اعتقاده. نعم إذا كان مذهب القاضي مخالفا لمذهب المتخاصمين أمكن صدق الظلم حينئذ ، ويتفرع عليه جواز التورية.

ومما ذكرنا ظهر وجه القول بعدم جواز التورية مطلقا في المقلد والمجتهد كما عن ظاهر الدروس ، كما ظهر أيضا وجه القول بجواز التورية مطلقا كما عن المبسوط.

وأما وجه التفصيل بين المقلد والمجتهد الذي استقر به في القواعد ومال إليه في محكي الإيضاح فهو : ان المجتهد إذا رأى فساد دليل القاضي على ثبوت الشفعة مثلا وأن ما أدى اليه ظنه من نفي الشفعة هو الحق ، فإطلاق ما دل على

ص: 337

النفي وما دل على اعتباره يقتضي جواز العمل به مطلقا حكم القاضي بخلافه أم لا ، بخلاف المقلد فإنه لا دليل له على فساد حكم القاضي ، بل نسبة حكم القاضي وحكم مجتهده الذي قلده في نفي الشفعة اليه على حد سواء ، فحاله كحال سائر مقلدي القاضي في نفوذ حكمه عليه.

والتحقيق في المسألة هو النظر في أدلة القضاء وأنها تدل على حرمة الرد خاصة أو على وجوب ترتيب آثار الحكم واقعا زيادة على الرد ، فان كان الأول جاز التورية للمجتهد والمقلد على حد سواء ، وان كان الثاني لم يجز كذلك :

أما في المقلد فالأمر واضح ، وأما في المجتهد فلأن هذه الأدلة حاكمة على دليل اعتبار الامارة القائمة على نفي الشفعة مثلا ، فتكون حجية تلك الأمارة القائمة في غير صورة المعارضة لحكم القاضي. ولا يبعد رجحان الثاني على الأول ، فيتجه إطلاق ما عن الشهيد في الدروس. واللّه العالم.

التقاط [ هل تنتقل التركة إلى الوارث ] [ لو كان على الميت دين محيط بها ]

لو مات شخص وعليه دين محيط بالتركة ففي انتقالها الى الوارث انتقالا متزلزلا مراعى بأداء الدين أو عدم الانتقال وبقاؤها على حكم مال الميت.

قولان مشهوران بين الأصحاب ، فذهب أكثر القدماء الى الثاني وأكثر المتأخرين إلى الأول.

والمراد بكونها في حكم مال الميت كونها في حكم مال الحي ، إذ الميت ليس له مال حقيقي حتى تكون التركة مع الدين في حكم ما له الحقيقي ، ففي

ص: 338

العبارة نوع قصور أو مسامحة في إفادة المراد ، ولعل المراد أن التركة مال حكمي للميت لا أنها في حكم ماله الحقيقي.

والأصل في المسألة عدم الانتقال إلى الورثة وعدم جريان حكم مال الميت عليها أيضا ، فكل منهما مخالف له.

وما يتوهم أن بقاءها في حكم مال الميت قضية الاستصحاب أو استصحاب عدم الانتقال أو استصحاب بقاء العلقة والربط الموجودين بين الميت وبين التركة. فليس بشي ء ، لأن العلقة كانت قائمة بالحي وهو الإنسان ، ولا حياة حتى يتصور بقاء العلقة القائمة بها ، فإن الباقي أمران : الجسم العنصري الذي صار جمادا ، والروح المجرد. وشي ء منهما لا يصلح أن يكون مالكا : أما الجسم فلانه جماد والجمادات لا يعقل تملكها ، وأما الروح فلا أن صلاحيته لإضافة طرف الملكية أمر غير معلوم أو معلوم العدم ، لوضوح كون المالكية من خصائص الإنسان المركب من الروح والجسم ، فلا تثبت لمجرد الروح.

وأما استصحاب بقاء الاحكام والاثار الموجودة في حال الحياة. ففيه أنه لم يكن في حال الحياة أثر متعلق بأعيان التركة حتى يستصحب ، بل مقتضى الأصل عدم تعلق حق الديان بأعيانها ، ضرورة كونها في حال الحياة متعلقة بذمة مالكها لا بأعيانها.

فظهر أن القولين متساويان في الحاجة الى الدليل ، والدليل على القول الأول - وهو الانتقال - أمران عقلي ونقلي ، أما النقلي فاطلاقات آيات الإرث وأخبارها ، فان نحو قوله تعالى « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » (1) مطلق غير مقيد بما إذا لم يكن هناك دين ، غاية الأمر انه ثبت من الأدلة أن الديان حقهم متعلق بالتركة كتعلق

ص: 339


1- سورة النساء آية : 8.

حق المرتهن بالرهن مثلا ، وهذا يوجب تزلزلا في ملكية الأقربين لا نفي الملكية رأسا.

ويجاب عنها : بأن إطلاقها مقيد بالاية المبتدئة للإرث فيما بعد الوصية والدين « وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » إلى قوله « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » (1) ، ووجه التقييد واضح.

وأجيب : بحمل اللام في المقيد على افادة الاستقرار ، أي استقرار ملكية النصف انما هو بعد الأمرين.

ورد : بأن اللام لإفادة أصل الملكية لا لإفادة استقرارها.

ويدفعه : أن استقرار الملك ليس أمرا خارجا عن أصل الملكية ، بل هو عبارة عن الملكية التامة. وهذا هو عين معنى اللام ، لأنها انما تدل على الملكية التامة : إما لأنها تدل على مطلق الاختصاص الغير المقيد بحال دون حال ، ويستفاد من عدم القيد الملك المستقر ، لان الملك الغير المستقر ليس فيه اختصاص مطلق ، بل المقيد بما إذا حصل موجب الاستقرار. أو لأن اللام منصرف الى الاختصاص المطلق ، ولازمه هذا الفرد من الملكية ، أعني التام المستقر.

[ إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء ]

والثمرة بين الوجهين تظهر فيما ورد في الاخبار من أنه إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء ، فان قلنا ان التمام والاستقرار يستفادان من إطلاق الاختصاص الذي تدل عليه اللام فالحديث دليل على مذهب القدماء ، لأن النفي حينئذ متوجه إلى حقيقة الاختصاص وجنسه لا الى فرده الكامل أعني المستقر ، ضرورة عدم اعتباره في مدلول اللام واستفادته من مقام الإطلاق. وان قلنا بالثاني

ص: 340


1- سورة النساء آية : 13.

فليس فيه دلالة على مذهبهم ، لان مدلول اللام إذا كان بحكم الانصراف الناشئ من غلبة الاستعمال مثلا أو بحكم الوضع هو الملك المستقر ، فلا جرم إذا وقع في حيز النفي توجه النفي إلى الاستقرار لا الملك المطلق.

وقد يقال : انه على الأول أيضا كذلك ، لان اللام لم يقع في حيز النفي في القضية السلبية في الاخبار بل وقع محكوما به في تلك القضية ، فقوله « ليس للوارث شي ء » لم يتوجه فيه النهي إلى مدلول اللام فقط حتى يفيد سلب مطلق الاختصاص المنافي للملكية رأسا ، بل الى المدلوله في حال عدم تقييده التي تفيد الاختصاص المطلق ، فيفيد سلب الاختصاص المطلق لا سلب مطلق الاختصاص.

وتوضيحه : ان اللفظ « إذا » في حال عدم تقييده ينصرف الى بعض أفراده لأجل عدم التقييد ، فلا يتفاوت فيه بين أن يثبت لشي ء أو ينفي عنه ، ففي الصورتين يتوجه كيف القضية من الإيجاب أو السلب الى ذلك الفرد المستفاد من عدم القيد ، فاذا قلنا هذا مختص بهذا دل على الاختصاص المطلق ، لان الاختصاص إذا لم يقيد بقيد ينصرف الى الفرد الكامل منه ، أعني الاختصاص من كل وجه ، وإذا وضعنا مكان الإيجاب السلب وقلنا هذا ليس مختصا بهذا دل أيضا على سلب الاختصاص المطلق الذي هو الفرد الكامل من الاختصاص لا على سلب مطلق الاختصاص.

ولذا لا ينافي مدلول هذه القضية السلبية ثبوت بعض مراتب الاختصاص ، وانما يتوجه النهي إلى حاق مدلول اللفظ إذا وقع محكوما عليه ، مثل لا رجل ولا شي ء ولا اختصاص ونحوها ، فيدل على نفي مدلول اللفظ مطلقا في ضمن أي فرد كان ، وحينئذ أمكن منع دلالة ما ورد في الاخبار من أنه ليس للورثة شي ء مع الدين على مذهب القدماء ، وهو سلب مطلق الملكية على الوجهين ، سواء قلنا بأن الملكية التامة يستفاد من عدم تقييد الاختصاص المستفاد من اللام أو من حاق اللام باعتبار رفعه أو انصرافه لغلبة الاستعمال إلى الملكية التامة المستقرة.

ص: 341

هذا ، ويرد على الرد أن اللام ان كان لإفادة الاستقرار فلا بد من الحمل عليه في المطلقات أيضا ، إذ حملها في المطلقات على افادة مطلق الملك ، وفي الاية المقيدة على الاستقرار لا وجه له سوى البناء على ترجيح التصرف في المقيد على التصرف في المطلق. وهو بديهي البطلان في محله ، فاذا حملت في الموضعين على الاستقرار خرجت المطلقات عن الدلالة على الملكية أيضا ، لدلالتها حينئذ على استقرارها المقيد بحكم الآية المقيدة بما بعد الدين.

والحاصل ان اللام ان كانت ظاهرة في أصل الملكية فمقتضى الآية المقيدة تقييد أصل الملكية المستفادة من المطلقات ، وان كانت ظاهرة في استقرار الملك فمقتضاها تقييد استقرار الملك ، ففي صورة وجود الدين لا يجري مدلول المطلقات أعني الاستقرار ، وأما ثبوت أصل الملك فلا بد له من التماس دليل آخر.

وعلى التقديرين فالمطلقات تخرج عن الدلالة على مذهب المتأخرين ، وانما لا تخرج لو حملت اللام في المطلقات على الملك وفي المقيد على الاستقرار.

وهو كما ترى خارج عن مقتضى القواعد ، لان اللام ان كانت لإفادة أصل الملكية فلا بد من الحمل على ظاهرها في المقيد أيضا ، لأن التصرف في المطلق بالتقييد أولى من التزام خلاف ظاهر في المقيد ، فلا يحمل أمر « أعتق رقبة مؤمنة » على الاستحباب جمعا بينه وبين « أعتق رقبة ».

هذا إذا لم يؤخذ بمفهوم قيد بعد الوصية والدين ، والا فالاية المقيدة دليل على مذهب القدماء على التقدير الأول - أعني حمل اللام في الموضعين على الملك المطلق - دون الثاني.

ومن هنا يظهر أن هذه الآية ليست دليلا على مذهب القدماء مطلقا ولا على تقدير اعتبار المفهوم وحمل اللام في الموضعين على الملك.

هذا ، ثمَّ ان في تركيب الآية المقيدة نوع غموض ، لان الظرف - أعني

ص: 342

قوله تعالى « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » - يحتمل أن يكون متعلقا بمتعلق خبر المبتدإ المقدم ، أعني قوله « لكم » ، والمعنى نصف ما ترك الا بعدهما ، ولا ريب أن المملوك بعد إخراجهما هو نصف الباقي لا نصف ما ترك. ويحتمل أن يكون حالا للموصول ، فالمعنى ان ما ترك حال كونه بعد الوصية والدين مملوك لكم ، وهذا مثل قول القائل « العشرة بعد إخراج الثلاثة منها علي ».

ويمكن التوجيه على تقدير تعلقه بمتعلق « لكم » بأن ذلك إشارة الى أن الوصية والدين مانعان من ملك مجموع ما ترك ، بحيث لو فرض انتفاؤهما رأسا أو بعد الموت ولو بتبرع متبرع أو بإبراء أو نحوهما كانت التركة للوارث.

ولأجل الإيهام الى هذا المعنى سمي ما ينتقل الى الزوج بعد الوصية والدين بنصف التركة ، يعني ان المقصود إعدامهما وإعدامهما لا يستلزم خروج شي ء عن ملك الوارث مطلقا حتى يكون المنتقل اليه نصف الباقي ولو استلزمه على بعض الوجوه كما إذا أخرجا من عين التركة.

[ المراد بالوصية والدين ]

ومن هنا يعلم أن المراد بالوصية والدين نفسهما لا إخراجهما أو أداؤهما أو وفاؤهما أو غير ذلك من الأمور التي يناقش في طردها وعكسها مع كون التقدير مخالفا للأصل ، فالمعنى أن نفس الوصية - أي العين الموصى بها - ونفس الدين مانعان عن الإرث مع وجود المقتضي ، فمع وجودهما لا ارث ومع عدمهما بأي نحو من أنحاء العدم يثبت الإرث ، ولذا لا يتفاوت فيه بين إخراجهما من أعيان التركة أو من غيرها ولا بين إيفاء الوارث أو إيفاء الغير تبرعا أو حصول البراءة قهرا ببعض أسبابها ، فليس المراد أن تمام التركة مثلا

ص: 343

مملوك للوارث بعد إخراجهما منها فإنه غير معقول ، بل المراد أن تمامها مملوك للوارث بشرط عدم الدين المحيط مثلا.

وهذا معنى لا غبار عليه ، وذلك مثل ما يقال ان كفن الميت يخرج من التركة ، فليس المراد أن مقدار ما يساويه ليس من الإرث فلا بد من إقراره ، بل المراد أن حق الميت وحاجته مقدم على حق الوارث وحاجته ، فلو غرق الميت أو حرق زال المانع من ارث مقدار الكفن.

هذه حال الايات المقيدة للإطلاق بما بعد الوصية والدين ، وأما الاخبار النافية لكون التركة للوارث المثبتة إياها للغرماء فقد ظهر النظر في دلالتها أيضا على مذهب القدماء ، وان كان لها ظهور بدوي في ذلك.

وحاصل لما ذكرنا : ان نفي كون التركة للوارث لا يدل في دقيق النظر على سلب جميع أنحاء الملكية بل على سلب الملكية التامة التي من لوازمها الاستقلال في التصرف ، فالمراد أنه ليس للورثة التركة بمعنى التصرف فيها والاستقلال في أمرها مع بقاء الدين ، سواء كانت اللام موضوعة للاختصاص أو منصرفا اليه بحاقه وجوهرة أو كانت لمطلق الاختصاص واستفيد الكمال والتمام من عدم القيد كما مر.

وهذا ينطبق على مذهب المتأخرين ، لأن ملكية التركة للورثة مع الدين عندهم ملكية ناقصة ، بمعنى فقدانها لكمالها الذي يستتبع الاستقلال في التصرف لا الملكية التامة المنفية بحكم الاخبار ولا الملكية المتزلزلة كالملكية في زمان الخيار ، لأنها أنقص منها بمراتب ، إذ الخيار لا يمنع عن شي ء من التصرفات بخلاف الدين فإنه مانع عنها رأسا ، فما في بعض الكلمات من تعبير الملكية على مذهب المتأخرين بالملكية المتزلزلة مسامحة أو قصور في العبارة.

ص: 344

[ جرح أدلة القدماء في المسألة ]

ومما ذكرنا ظهر أدلة مختار القدماء من الايات والاخبار وجوابها وانه ليس فيها دلالة عليه الا على تقدير حمل اللام على الملكية المطلقة ثمَّ إثبات المفهوم القيدي بعد الوصية والدين في الايات ، وكلاهما كما ترى.

وأما الدليل العقلي على مذهب المتأخرين فتقريره بعد بيان مقدمتين :

إحداهما - عدم قابلية الميت للتملك ، وهذا مضافا الى كونه إجماعيا ظاهرا - لان القدماء يقولون انه في حكم مال الميت لا أنه مال له حقيقة - مما يساعد البرهان والوجدان عليه ، لأن الجدة أحد الأعراض التي لم يعلم قابلية ثبوتها للمجردات ، حتى أن ثبوت الملكية بالمعنى الذي يثبت للإنسان لله تعالى أيضا ممنوع أو ممتنع ، لان هذه الإضافة الخاصة - أعني العلقة الخاصة الحاصلة بين الإنسان وبين أعيان الأموال - متقومة بطرفين أحدهما الإنسان والثاني العين ، وثبوت مثل هذه العلقة لغير الحيوان الناطق ضروري البطلان ، وثبوت غيرها مما يخطر في ذهن المكابر المتعسف لا يمنع ثبوتها لغيره حتى الجمادات والحيوانات. والحاصل ان علاقة الملكية هذه العلاقة المعهودة المعدودة من الاعراض التسعة لا يتعقل ثبوتها لغير الإنسان - أي الحيوان الناطق.

وثانيتهما - ان الملك بلا مالك أو المال بلا صاحب أيضا من المستحيلات الأولية ، ضرورة امتناع قيام النسبة إلا بالمنتسبين ، والمراد بالمالية ما يساوق الملكية في الافتقار الى مالك وصاحب لمجرد ما يصلح لبذل المال في مقابله ، فإن المالية بهذا المعنى ثابتة للمباحات الأصلية أيضا. والحاصل ان الملكية والمالية كما لا يتعقل ثبوتها بدون المال والمملوك كذلك لا يتعقل بدون المالك وصاحب المال.

ص: 345

إذا تحققتا فنقول : بالموت تخرج التركة عن ملك الميت بحكم المقدمة الاولى ، فلا بد له من مالك تقوم به الملكية بحكم المقدمة الثانية ، وليس هو إلا الوارث ، للإجماع ظاهرا على عدم دخوله في ملك الغرماء ، لان القدماء يزعمون بقاءها في حكم مال الميت.

فان قلت : لم لا يجوز أن تخرج التركة عن الملكية والمالية بموت صاحبها فلا تكون ملكا لأحد ، بل قضية خروجها عن ملك الميت بحكم البرهان ، مضافا الى أصالة عدم دخولها في ملك أحد ذلك.

قلت : هذا الاحتمال مدفوع بظواهر جميع ما في باب الميراث من الايات والاخبار وكلمات الأخيار ، لتطابقها على انتقال المال الى الوارث ، بل هو قضية لفظ الإرث ومشتقاته ، لأن الإرث بمعنى الانتقال ، وحقيقته تستدعي بقاء صفة الملكية مع تبدل المالك.

وبهذا الاعتبار بعد البيع والصلح مثلا من النواقل ، لأنه سبب لتبدل مالك بمالك مع بقاء الملك على صفة الملكية في الحالتين. وعلى تقدير خروج التركة بالموت عن الملكية لا معنى لانتقالها من الميت الى الوارث ، لان تملكهم لها بعد الدين يكون تملكا جديدا كتملك المباحات الأصلية. وهو بديهي البطلان ، إذ لم يظن أحد أن التركة قبل أداء الدين مثل المباحات التي ليست ملكا لا حد وان تملك الوارث لها باعتبار حق الأولوية ، كتملك صاحب الخمر المستحيل الى الخل.

والحاصل ان أعيان مال الميت ليست مثل دية الجناية الواقعية على الميت في دخولها في ملك الوارث ابتداء ، أي من غير انتقالها من الميت إليهم ، بل مثل سائر ما ينتقل من مالك الى آخر بسبب شرعي كالبيع ، فالموت في الشريعة أحد أسباب الانتقال لا انه سبب زوال الملكية ، وإطلاق الإرث على تملك الوارث

ص: 346

لما يحصل في شبكة المورث أو لما باعه المورث مع الخيار باعمال حق الخيار بالفسخ أو نحو ذلك مما يدخل في ملك الوارث اعتبارا باعتبار إرثهم لحق من الحقوق المستتبعة للمال ، مبني على نحو من التجوز أو المسامحة باعتبار ملاحظة انتقال أصل السبب وهو الحق ، فسمي تملكهم للنتيجة باسم تملكهم للمقدمة كما في الأول ، أو باعتبار تنزيل الملك الحاصل بالفسخ الذي هو عبارة عن ازالة العقد من حينه منزلة الإرث الحقيقي.

فالفسخ وان لم يكن كاشفا عن فساد العقد بل ناقلا بعد صحته لكنه ابطال لأثره ، فيدخل في ملك صاحب الخيار من حين فسخ المبيع من زمان البيع ، فكأنه من جملة أعيان ما تركه المورث حكما وان لم يكن كذلك حقيقة.

وربما يقال بصدق الإرث على الملك الحاصل بالفسخ حقيقة ، لأن الوارث تلقاه من المورث حقيقة باعتبار تلقيهم سبب هذا الملك اعترض الخيار. وليس بشي ء ، لأن الوارث قد تلقى من المورث محض الحق ، وهو أمر وراء الملك الحاصل بسبب الفسخ ، ولذا ليس لغرماء الميت إلزام الورثة على الفسخ بل الوارث له الامتناع عن ذلك ، لعدم تلقيه من المورث شيئا سوى الحق.

نعم لو قيل بصدق الإرث الحقيقي على ملك ما في شبكة المورث ، نظرا الى دخوله في ملك الوارث قهرا من غير مدخلية لفظ الوارث. لم يكن بذلك البعيد.

وأما صدق الوارث على من أسلم بعد موت المورث وقبل القسمة ، فهو ليس أيضا على حقيقته ، بل عدم الصدق هنا أوضح ، ضرورة عدم انتقال شي ء من التركة إليه حتى على قول المتأخرين ، فإنه حال موت المورث كان ممنوعا من التملك بالإرث. فكيف يقال انه ورث أباه مثلا حقيقة بعد ما عرفت من كون الإرث عبارة عن الانتقال الذي هو عبارة عن تبدل مالك بمالك وعن تلقي الملك من الوارث.

ص: 347

ومن هنا لم يجز إثبات الإرث له بأدلة الميراث ، بل لا بد له من دليل آخر لولاه لكان محروما بمقتضى الأدلة المخصصة لها بغير الكافر.

نعم يكفي أدلة الميراث في الأمثلة المتقدمة ، فلا يحتاج في إرث الوارث لما في شبكة مورثه أو للخمر التي استحالت الى الخل بعد الموت أو للمبيع الذي باع المورث مع الخيار بعد الفسخ إلى أدلة أخرى ، بل يكفي أدلة الميراث. فظاهر أن موارد عدم صدق الإرث الحقيقي على أطوار مختلفة :

فمنها ما يستدل عليه بنفس أدلة الميراث وان لم يصدق عليه الإرث الحقيقي ، لأن صدق الإرث حقيقة على انتقال الحق الذي هو سبب لحصول ملك جديد للوارث يكفي في إثبات ذلك الملك له ، ومنها ما يحتاج إلى أدلة أخرى.

فإن قلت : صدق الإرث على ملك الورثة للتركة انما هو باعتبار مكان سبب الانتقال الذي هو الموت أو النسب حين الموت لا باعتبار انتقال الفعلي ، وهذا وان قلنا انه خلاف الظاهر من لفظ « الإرث » لكنه غير بعيد بعد ملاحظة تقييد الإرث بما بعد الوصية والدين ، فنزل وجود سبب الانتقال حين الموت بمنزلة الانتقال الفعلي ، فأطلق الوارث على الورثة.

قلنا : ليس في أدلة الميراث تقييد لفظ الإرث بما بعد الدين ، بل الأدلة المقيدة كلها مشتملة على كلمة اللام الدالة على الملكية ، فيدور الأمر بين صرف اليد عن ظاهر لفظ الإرث في الكتاب والسنة بحمله على الانتقال الثاني المستند الى وجود السبب وإبقاء اللام في المقيدات على ظاهرها وهو الملكية وبين الأخذ بظاهر لفظ الإرث ومشتقاته الظاهرة في الانتقال الفعلي الحقيقي والتصرف في كلمة اللام بحملها على الاستقرار كما فعله الأصحاب.

وهذا التصرف وان كان خلاف مقتضى القاعدة - لأنها تقتضي إبقاء المقيد على حاله وتقييد المطلق كما قلنا - لكنها قد يصار عنها الى التصرف في القيد

ص: 348

ويبقى المطلق على إطلاقه إذا كان ذلك التصرف أقرب ، كما هو الشأن في جميع موارد تعارض الأحوال ، لأن التخصيص مثلا وان كان أرجح من المجاز مثلا نوعا الا أن بعض المجازات لقربه يقدم عليه ، فليس كل تقييد أولى من كل تصرف في المقيد كما في المقام ، فإن إطلاق الأدلة المشتملة على لفظ الإرث يقتضي الانتقال الفعلي مطلقا مع الدين وعدمه ، لكن ورد في مقابلها أدلة مشتملة على لفظة اللام مقيدة بما بعد الدين ، ومقتضي قاعدة التقييد حمل المطلق على غير المقيد ، فلا ملكية في مورده أصلا.

لكن هذا الحمل يستلزم التصرف في لفظ الإرث ومشتقاته بحملها على الانتقال الشأني ، وهو تصرف مرجوح يمكن الاستراحة عنه بحمل اللام في الأدلة المقيدة على استقرار الملك ، ولو قلنا بأنها موضوعة لأصل الملكية لا لاستقرارها ، فضلا عما لو قلنا بانصرافها من حيث الإطلاق أو من حيث غلبة الاستعمال أو من حيث الوضع الى الاستقرار كما هو الأظهر ، فنحملها على الاستقرار فرارا عن حمل الإرث على الانتقال الشأني.

نعم لو كانت الأدلة المقيدة أيضا مشتملة على لفظ الإرث مكان اللام أمكن جعله قرينة على ارادة الانتقال الشأني من لفظه في المطلقات على الانتقال بما بعد الدين أو في حمله على الانتقال الشأني في المطلقات والفعلي في المقيدات.

وعلى التقديرين لا يكون مع الدين انتقال فعلي من غير تفاوت ، فلا وجه لترجيح أحدهما على الأخر ، وان أمكن ترجيح التقييد أيضا إبقاء للفظ الإرث في الموضعين على ظاهره الذي هو الانتقال الفعلي.

فإن قلت : قد ورد في رواية سليمان بن خالد « ان الوارث يرث الدية بعد الدين (1) » ، فيقيد به إطلاق ما اشتمل على لفظ الإرث من أدلة الميراث.

ص: 349


1- الوسائل ج 17 ب 10 من أبواب موانع الإرث ح 1.

قلنا : لفظ الإرث إذا نسب الى المال فمعناه الأخذ ، أي يأخذ الدية ، وما قلناه من تفسيره بالانتقال انما هو إذا نسب الى المورث ، فمعنى « ورث زيد أباه » أنه انتقل المال اليه ، ومعنى « ورث زيد الدار » إذا أخذها إرثا - فافهم وتأمل.

هذا ما أدى اليه النظر في الأدلة من العقل والنقل.

[ استدلال المحقق القمي على مسألة الإرث المقيد ]

ثمَّ ان المحقق القمي سلك في الاستدلال على مذهب القدماء مسلكا آخر أشار إليه في القوانين في الاجتهاد والتقليد وفصل القول فيه في بعض جواب سؤاله ، وهو أن الأدلة المقيدة المشتملة على التقييد بما بعد الدين والوصية تدل على أن الإرث انما يتحقق بعد أداء الدين ، فقبل الأداء فالتركة غير منتقلة إلى الورثة. وحاصله حمل كلمة « بعد » على بعد الزماني وعلى أن مطلق الدين يمنع من الإرث ولو لم يكن بالنسبة إلى الفاضل في غير المستوعب.

وذكر في طي وجوه الرد على المتأخرين أن الايات المقيدة مجملة من حيث دورانها بين تقييد الملك أو الاستقرار ، فيسقط عمومات الإرث عن الاستدلال ، لكنها من العام المخصص بالمجمل.

وفيه : ان حمل « بعد » على البعد الزماني مبني أولا على تقدير في المقام ، وقد عرفت أن معنى الآية تام من غير الالتزام بالتقدير ، لان قوله « من بعد وصية أو دين » سواء كان قيدا للظرف المتقدم - أعني لكم ومرجعه الى تعلقه بمتعلقه أو قيدا أي حالا لما ترك أو للسهام كما في كشف اللثام ، فمعناه افادة مانعية الدين من غير حاجة الى تقدير أداء أو وفاء أو نحوهما.

وأما ما ذكره من كون العمومات مخصصة بالمجمل. ففيه ما لا يخفى ، لأن

ص: 350

إجمال المخصص انما يقدح في الاستدلال بالعام إذا كان على وجه يوجب التخصيص على جميع الاحتمالات ، وأما إذا كان الاجمال باعتبار دورانه بين احتمال يكون مخصصا - كما إذا كان اللام في المسألة للملكية وبين احتمال لا يكون مخصصا كما لو حملت على الاستقرار - فالعام لا يسقط عن الحجية ، بل ربما يجعل عموم العام رافعا لا جمال ذلك المخصص كما تقرر في محله.

وربما يستدل على كل من القولين ببعض الفروع المجمع عليها ، لان بعضها يناسب القول الأول وبعضها يناسب القول الثاني ، لكن الكل ساقط عن صلاحية الاحتجاج ، لعدم استلزامها شرعا أو عقلا لشي ء من القولين. نعم لو تمَّ الحجة لكان في بعضها تأييدا ، مثلا قيام الإجماع على سلطنة الوارث على البيع ونحوه ولو بقبول الدين في الذمة أو بأدائه من ماله.

وبالجملة أحقية الورثة بأعيان التركة آية كونه مالكا ولو كان محجورا في بعض جهات التصرف ، لان الملك لا ينافي الحجر ، بخلاف السلطنة على عين فإنه ينافي عدم الملكية رأسا ، ومرجعه الى أن السلطنة ينكشف كشفا إنيا عن الملكية بمقتضى عموم سلطنة الناس على أموالهم ، والا فأحقية الورثة بأعيانها أو سلطنته على بعض التصرفات بنفسها ليس مما يستلزم كونه مالكا الا باعتبار ملاحظة ما أثبت الملازمة بين المال والسلطنة ، مثل قوله « الناس مسلطون على أموالهم ».

ومع ذلك ففي المناقشة فيه مجال واسع واضح يظهر للمتأمل ، لكنه لا يخلو عن تأييد للقول الثاني.

ومثله الإجماع على أن الحالف مع الشاهد في دعوى مال للمورث هو الوارث ، وغير المالك لا يحلف ، لان الحلف لا يثبت مال الغير ، فان مرجعه الى ما دل على عدم إثبات الحلف مالا للغير ، فإنه يدل على الملكية في موارد

ص: 351

صحة الحلف بالإن ، والا فلا شهادة في صحة الحلف على إثبات مال للمورث على كون الحالف مالكا للتركة.

إلى غيرهما من الفروع التي لا ينافي عدم الملكية في نفسها إلا بملاحظة أدلتها التي أثبتت الملازمة بينها وبين الملكية.

[ عدم جواز تصرفات الوارث في الإرث المقيد ]

ثمَّ انه بناء على القول الأول - أعني عدم انتقال المال إلى الورثة - لا ينبغي الإشكال في عدم جواز تصرفاته تكليفا ووضعا ، فلا يصح بيعه لشي ء من أعيان التركة أو إتلاف بعضها أو نحوهما من التصرفات الاتلافية. وأما على القول الثاني - أعني الانتقال - ففي جواز التصرف وعدمه اشكال معبر بأن تعلق الدين بالتركة هل هو كتعلق الدين بالمرهون أو كتعلق أرش الجناية برقبة العبد.

والتحقيق أن الوراث لا يجوز له شي ء من التصرفات المتلفة لجهة المالية ، والدليل عليه ما ورد في الدية من أن الميت أحق بها من الوراث (1) ، فان فحواها يشتمل لسائر التركة ، إذ الدية لم تكن داخلة في ملك الميت أصلا بخلاف التركة.

وجه الدلالة واضح ، فإن الأحقية ظاهرها الملكية ، ولذا يستدل بمثل قوله « من سبق الى مباح فهو أحق به » (2) على كون الحيازة من أسباب حصول الملك.

ومع التنزيل عن الملكية فلا أقل من الحق المانع عن تصرفات الوارث وهجره عن الانتفاعات المالية قبل حصول براءة ذمة الميت.

وما ورد أيضا في عبد مأذون اختلف فيه وفيما في يده بين غرماء مالكه الميت والورثة ، من أنه لا سبيل للورثة الى ذلك العبد وما في يده قبل الدين. وهو

ص: 352


1- الوسائل ج 17 ب 14 من أبواب موانع الميراث.
2- الكافي 4 / 546 ، ح 33.

أوضح دلالة من سابقة ، لان نفي السبيل آكد في تغليظ مراتب الحجر بعد صرفه عن ظاهره الذي هو عدم الملكية ، جمعا بينه وبين ما دل على أصل الانتقال على رأي المتأخرين.

وما ورد في الإنفاق على عيال الميت من أنه إذا كان عليه دين محيط بجميع المال فلا ينفق عليهم والا ينفق من أوسط المال.

وغيرها مما يدل على حجر الوارث بعد التنزل عن دلالتها على عدم الانتقال.

وانما قيدنا التصرف المنهي بكونه مفوتا لجهة المالية إذ لا مانع من التصرف الغير المتلف لها ، مثل معاوضة عين من أعيان التركة بعين آخر يساويه في القيمة والمالية ، فإن مثل هذا التصرف لا يمنع منه ، لان حق الديان انما تعلق بمالية التركة لا بأعيانها من حيث ذواتها.

وهذا مثل حق الورثة بالنسبة إلى الزائد عن الثلث على القول بكون المنجزات منه لا من الأصل ، فإن التنجيز المفوت للمالية ممنوع لا مطلقا ، فلو باع جميع التركة بثمن المثل مثلا نفذ البيع من غير اجازة الورثة. وكذا الوصية بما يزيد عن الثلث ، فلو أوصى بجميع التركة في مقابل ما يساويها في القيمة نفذت الوصية ظاهرا.

وبالجملة حق الديان ليس متعلقا بذوات أعيان التركة من حيث هي بل من حيث المالية ، فمتى كانت المالية محفوظة نفذ تصرف الوارث ، مثل المثال المشار اليه. ولا ينفع ضمان الوراث للدين من عنده ، فإن مصلحة الغرماء عدمه ، فكل تصرف لم يكن فيه مصلحة الغرماء من حيث وصول الدين لم ينفذ من الورثة.

وربما قيل بجوازه مع قدرة الغرماء على الفسخ ، جمعا بين الأدلة المانعة وبين « الناس مسلطون على أموالهم ».

ص: 353

وفيه : ان ما قلنا أقرب الجموع في الأدلة بعد صرف الأدلة النافية عن ظاهرها الاولي - أعني نفي الملكية رأسا.

[ الرهن يمنع من التصرفات مطلقا ]

ومما ذكرنا ظهر أن هذا التعلق ليس على حد تعلق الرهن مطلقا ، لأن الرهانة تمنع التصرف مطلقا حتى ما لا يرجع الى تلف المالية ، وقد عرفت أن حق الغرماء ليس كذلك بل على وجه لا يمنع من بعض التصرفات الذي ليس فيه تفويت لمالية التركة ، ولو بمثل البيع لأنه تفويت لمالية الجميع الى حصول ملك جديد - أعني الثمن - فلا تجوز.

ودخول الثمن في حكم التركة لا معنى له بعد فرض بيع الوارث لنفسه ، فالبيع بمنزلة الإتلاف في عدم الجواز.

نعم يجوز تبديل عين من الأعيان بعين مساوقة لها في المالية ، لعدم فوات شي ء من جهات المالية ، سواء كانت المبادلة بطريق البيع أم لا.

فصار الحاصل : انه لا يجوز للورثة احداث تصرف يكون ضررا على الغرماء ، فلو باع قاصدا لا كل الثمن كان ممنوعا لكونه خيانة في حق الغرماء ، ولو باع لا بهذا القصد بل قاصدا لكون الثمن من جملة ما يتعلق به حق الغرماء كان جائزا.

ومن هنا أمكن الفرق بين المبيع بعين خارجي تقوم مقام المبيع في المالية وبين البيع الكلي في الذمة ، فيجوز الأول دون الثاني ، إذ تبديل المال الخارجي بما في الذمة ليس مصلحة الغرماء.

[ لا يجوز للوصي التصرف المفوت للمالية ]

ومن هنا أمكن القول بأن تصرف الوصي في الثلث أيضا كذلك ، فلا يجوز

ص: 354

له التصرف الذي يكون تفويت للمالية ، وأما التصرف الغير المفوت - مثل تبديل عين الثلث بشي ء آخر مساو له في المالية مثل تبديل الحنطة بالدرهم - فيجوز إذا كان التصرف أمرا لا يتفاوت الحال فيه بين الحنطة وقيمتها ، كالاستيجار لقضاء الصوم والصلاة ، من غير فرق بين تصريح الوصي بالإذن في التبديل أو عدم الإذن رأسا ، خلافا للمحكي عن المحقق التستري الشيخ أسد اللّه.

فان قلت : ظاهر كلمات الأصحاب يأبى عما تقول ، لان حق الديان ان كان مثل حق الرهن فقد صرحوا بعدم جواز البيع والعتق ونحوهما من التصرفات حينئذ مطلقا كالتصرف في الرهن ، وان كان مثل أرش الجناية فيجوز مطلقا وينتقل الحق إلى ذمة الوارث ، كحق الأرش بعد بيع العبد الجاني ، وان كان حقا ثالثا فقد صرحوا أيضا بجواز البيع وسائر التصرفات ، فالقول بجواز البيع إذا لم يترتب عليه ضرر على الغرماء مما يأباه كلامهم في الفروع.

قلت : ما ذكرنا هو مقتضى التأمل في الأدلة ، لأنا نعلم أن تعليق الإرث بما بعد الدين في الايات والاخبار ليس إلا لأجل وصول حق الغرماء ، ومن الواضح ان مراعاة الوصول لا يقتضي أزيد من منع الوارث عن التصرفات الضررية على الغرماء ، وأما التصرفات الغير الضررية - مثل ما يكون فيه مصلحة للغرماء أو للورثة من غير تفاوت فيه لحال الغرماء - فلا يستفاد من الأدلة.

وإباء كلمات الأصحاب عنه أيضا ممنوع ، بل الظاهر أن البيع في كلامهم مثال عن كل تصرف ضرري لا مطلق البيع ، خصوصا بملاحظة اقترانه بالعتق الذي ليس فيه مصلحة الغرماء.

فان قلت : الاحتمالات الثلاثة كيف تتصور حينئذ؟

قلنا : تصويرها واضح ، وهو أن التصرفات الضررية التي تصدر من الوارث

ص: 355

باطلة ، يعني متوقفة على إمضاء الغرماء على تقدير كونه كحق الرهانة وصحيحة على التقديرين الآخرين.

ولا يذهب عليك أن ما اخترنا يشبه القول بأن النزاع في القيمة دون أعيان التركة ، فإن الوارث أحق بها من جميع الناس على القول بالانتقال ، وحق الغرماء انما تعلق بمالية التركة ، فالتصرف الذاهب بالمالية يجي ء فيه الاحتمالات الثلاثة.

ثمَّ اعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين القول الأول - أعني عدم الانتقال - والقول الثاني ، فنقول : على القول الأول يجوز للوارث أيضا التصرف في التركة ما لم يكن المقصود إضرار الغرماء أو يترتب عليه الإضرار وان لم يكن مقصودا ، ولا منافاة بين عدم ملك الورثة للتركة وبين نفوذ تصرفاتهم بالتصرف الغير الضرري بنص آية « أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » ، فإن أولويتهم بالتركة - أي بأعيانها - تقتضي كمال أحقيتهم بها من غيرهم ، خرج بحكم أدلة الدين بعض مراتب الأحقية وهي الملكية. وأما الولاية في التقليب والتقلب بها على وجه لا ينافي المنساق من أدلة الدين ومصبها - كالتقليب الغير الضار على الغرماء الغير المنافي لعلة عدم الملكية ، أعني وصول حق الغرماء - فلم يقم دليل على خلافها.

[ الكلام في الدين غير المحيط بالإرث ]

هذه حال الدين المحيط ، وأما غير المحيط فالكلام فيه : تارة في مقدار مقابل للدين من التركة ، وأخرى في الباقي. وفي كل منهما : تارة نتكلم أيضا في ملكية الوارث ، وأخرى في تصرفاته.

أما ما عدا المقابل فالظاهر عدم الاشكال والخلاف في كونه ملكا للورثة

ص: 356

إلا ما سبق من المحقق القمي. وربما يتوهم أن ظاهر عبارة العلامة عدم الملكية هنا دون القسم الأول - أعني ما كان الدين فيه محيطا بالتركة - وهو مع يعد صدوره عن العلامة بعدا لا يعارضه صريح الكلام فلا بد من تأويله فضلا عن ظاهره فإنه ليس في العبارة دلالة عليه.

قال في ميراث القواعد : من مات وعليه دين مستوعب للتركة فالأقرب عندي أن التركة للورثة لكن يمنعون منها كالرهن حتى يقضى الدين ، وقيل يبقى على حكم مال الميت ولا ينتقل الى الوارث ، وتظهر الفائدة في النماء.

ولو لم يكن مستوعبا انتقل إلى الورثة ما فضل عن الدين وان ما قابله على حكم مال الميت وتكون التركة بأجمعها كالرهن - انتهى.

وفيه : ان معنى قوله « على حكم مال الميت » في العبارة الأخيرة أنه يبنى على حكم ماله ، فيجري فيه الخلاف المتقدم من حيث الانتقال إلى الورثة أو عدم الانتقال ، وليس المراد به ما هو المراد به في العبارة المتقدمة ، أعني عدم الانتقال إلى الورثة. ومنشأ الاشتباه تقدير متعلق « على » في العبارة الثانية نحو يبنى لا يبقى ، والقرينة على ذلك سبق الإشارة إلى الخلاف في المسألة ، لأن ذلك يبين كون المتعلق في هذه العبارة يبني لا يبقى.

ولقد أصاب في محكي كشف اللثام بأصل المراد ، لكن بطريق آخر ، وهو تنزيل قوله « على حكم مال الميت » في الأخير على قول قبل السابق ذكره وكيف كان فالمراد واضح إذا جردنا النظر عن كون المتعلق يبقى.

وأما جواز التصرف للوارث ففيه وجهان بل قولان ، وقد عرفت قول العلامة في هذه العبارة بأن التركة تكون بأجمعها كالرهن. ولعله الأقرب والأشبه بالقواعد.

أما على القول بكون مقدار الدين في حكم مال الميت وأنه غير منتقل الى

ص: 357

الورثة ، فلان مقدار الدين أمر كلي مساو في جميع أعيان التركة ، فكل ما يتصرف فيه الوارث من أعيان التركة فقد تعلق به حق الميت تعلق الكلي بالفرد لا تعلق الجزء بالكل ، كتعلق حق الشريك بالمشترك فإنه على نحو الإشاعة ، بخلاف تعلق الكلي بالعين فإنه ليس على هذا النحو ، ولذا لا يدخل عليه النقص إذا تلف شي ء من أعيان التركة كما لا يدخل النقص على مال المشتري صاعا من صبرة إذا تلف شي ء منها.

فان قلت : تعلق الكلي بالعين لا يمنع عن التصرف فيها مطلقا ، بل إذا انحصرت في مقدار ذلك الحق الكلي ، لأنه إذا كان في غير المتصرف فيه سعة للكلي كان الكلي محفوظا عن التصرف ، ولذا يجوز للبائع في المثال المشار اليه التصرف في الصبرة ما لم ينته الى الصاع فاذا انتهت اليه تعيين كونه للمشتري ، إذ لا مصداق للصاع الكلي من الصبرة حينئذ سواء ، فان تصرف فيه البائع فيرجع الى خيار التسليم أو تلف فيرجع الى مسألة تلف المبيع قبل القبض. وبالجملة إذا كانت عين أو أعيان تعلق بها حق كلي فمقتضى القاعدة جواز التصرف فيها ما دام في تلك الأعيان سعة لذلك الحق ، لأن التصرف حينئذ ليس فيه بل في غيره ، فلا وجه لعدم الجواز ، فاذا انحصر مصداق ذلك الحق في فرد تعين كونه ذلك الحق الكلي ، فلا يجوز التصرف لكونه تصرفا في حق الغير.

قلنا : فرق بين الكلي المتعلق بالصبرة وأشباهه وبين الكلي المتعلق بالتركة أعني الدين ، لان هذا الكلي - أعني الدين - وجوده مانع عن استقرار ملك الوارث للفاضل وان لم يكن مانعا عن أصل ملكه له ، وذلك لما عرفت في تفسير الاية أن المراد بما بعد الدين أن التركة لا تنتقل الى الوارث الا حال كونها مع عدم الدين ، فحال وجود الدين ولو كان غير مستوعب لا يصدق على شي ء من أعيان التركة عنوان ما ترك حال عدم الدين وان أمكن أن يتصف بهذا العنوان

ص: 358

فيما بعد ، فإذا أراد الوارث التصرف في شي ء من التركة جاء احتمال كونه من التركة حال وجود الدين أبدا واحتمال طرو صدق كونه من التركة حال عدم الدين ، بأن يصير الدين بعده معدوما.

ولأجل مجي ء الاحتمالين ومراعاة الاحتمال الأول يمنع عن التصرف فيه ، فالتصرف في شي ء من التركة مع وجود الدين معرض للضرر على الغرماء وان لم يعلم كونه ضررا فعلا ، لا أنه ان أوفى الدين انكشف عن كون المتصرف فيه حقا طلقا للوارث ، لاتصافه بعد الأداء بكونه من التركة حال عدم الدين ، وان لم يوفه ولا حصل مبرئ آخر انكشف كون المتصرف فيه من التركة حال وجود الدين ، فينتقل الدين حينئذ إلى ذمة الوارث مع تلف الباقي بآفة سماوية.

وقد عرفت أن انتقال العين إلى الذمة ليس فيه مصلحة الغرماء ، فلا يجوز ، إذ لا فرق في التصرف المنهي عنه بين كونه ضررا أو معرضا له ، بمعنى دورانه بين احتمال انتقال الدين إلى الذمة فيكون ضررا وبين عدم الانتقال فلا يكون ضررا.

ولا يذهب عليك ان ما ذكرنا لا يرجع الى مختار القمي ، حيث قال بعدم انتقال الفاضل إلى الورثة مع وجود الدين كما تقدم.

لأنا نقول : ان الوارث يملك ما عدا الدين ملكا فعليا مع وجود الدين ، لكن ذلك أمر بحسب الواقع وأما بحسب الظاهر فهو محجور عن جميع التركة باعتبار عدم العلم بكون المتصرف فيه قبل الدين من مصاديق ما ترك حال وجود الدين.

ولا يخفى على من سدد النظر في فهم ما قلنا أن الصاع من الصبرة ليس كذلك ، لان بيع الصاع لا يوجب اختصاص ملك البائع بالصبرة حال عدم الصاع ، لأن قضية نقل الكلي من عين ليس أزيد من نقل ذلك الكلي على كلية إلى المشتري ،

ص: 359

وأما كون وجود الصاع مانعا عن ملك البائع أو عن استقرار ملكه للصبرة فليس من مقتضياته.

فانكشف الفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة بيع الصاع من الصبرة ، واتضح أيضا عدم الملازمة بين استحالة بيع الكلي كما قيل واستحالة سريان حق الديان الى تمام التركة كما توهم.

[ هل تجب فطرة العبد إذا مات السيد وعليه دين؟ ]

ومن الإحاطة بما قلنا يسهل الخطب في عبارة الشرائع في باب الزكاة ، حيث دلت على عدم وجوب فطرة العبد على الورثة إذا مات المورث بعد الهلال وعليه دين. ويتحقق المحاكمة فيما في تلك العبارة من اختلاف المشارب ، حيث أخذ المحقق القمي بإطلاقه فجعله ناظرا الى ما اختاره من عدم نقل التركة إلى الورثة مع الدين مطلقا في المستوعب وغيره ، ووافقه صاحب المسالك في الأخذ بالإطلاق ، فأورد عليه بأنه انما يتم على القول بعدم انتقال التركة إلى الورثة لا مطلقا ، وحمله صاحب المدارك على صورة الاستيعاب تأويلا للإطلاق.

وجه كون ما قلنا استراحة عن جميع هذه الخيالات : ان التركة ليست ملكا طلقا مستقرا للوارث مع الدين ولو الغير المستوعب كما عرفت ، والمناط في زكاة الفطرة هو الملك التام المستقر كما في زكاة المال.

والحاصل ان كل جزء من اجزاء التركة يحتمل لحوق صفة عدم الدين إليها ويحتمل عدم اللحوق ، والمفروض أن ملك الوارث على القول بعدم انتقال مقابل الدين الى الوارث كما هو مذهب المحقق انما هو التركة في حال عدم الدين ، فكل عين من أعيان التركة يحتمل دخوله تحت هذا العنوان فيما بعد فيكون ملكا للوارث ويحتمل عدم الدخول ، كما إذا بقي الدين مع تلف سائر

ص: 360

التركة فيكون ملكا للميت ، لأنه إذا تلف الباقي من غير تفريط من الوارث يتعين كون الباقي للغرماء ، فقبل انعدام الدين لا يمكن الحكم بالملكية للوارث في شي ء من الأعيان.

وان شئت قلت : ان ما قابل الدين على كليه باق في ملك الميت حكما ، ومقتضى كليه تساوي جميع أجزاء التركة إليه ، لأنه يصدق على كل واحد من مصاديق ما قابل أنه مفهوم ما قابل وان صدق عليه أيضا أنه غير ما قابل بجعل ما قابل غيره ، لكن صدق غير ما قابل عليه لا يكفي بعد فرض صدق ما قابل عليه ، إذ لا مرجح لأحد العنوانين على الأخر ، فينبغي الانتظار الى أن يتبين الحال بانعدام الدين وعدمه ، فان انعدم تعين كونه ملكا للوارث لكونه مصداقا للتركة حال الانعدام ، وان لم ينعدم - بأن تلف ما عداه من التركة - تعين كونه للميت ، لانحصار مصداق ما قابل الدين فيه في حال وجود الدين الى القول بأن الدين في الجملة مانع عن ارث مجموع التركة كما ذهب اليه المحقق القمي ، ولا الى تنزيل العبارة على الدين المستوعب كما عن المدارك ، بل تمَّ ذلك على القول بأن خصوص ما قابل لا يدخل في ملك الوارث سواء كان الدين مستوعبا أم لا كما بينا.

هذا على القول بأن عدم انتقال ما قبال الى ملك الورثة ، وأما على القول الأخر - أعني الدخول - فالظاهر أيضا حجر الورثة عن مجموع التركة. وعلى هذا جرى في دين القواعد وميراثه حيث قال بأن التركة بأجمعها كالرهن بقول مطلق تارة وبالتصريح أخرى.

ومما ذكرنا ظهر الحال في فرع آخر ذكره في دين القواعد ، مثل أن الوارث لو تصرف في التركة ثمَّ ظهر دين سابق أو تجدد الدين باعتبار وجود سببه في حال الحياة كالجناية ، فإنه كالتصرف في حال العلم بوجود الدين.

كما ظهر أيضا حال ما في بعض الروايات من أن الوارث لا يتصرف في

ص: 361

التركة إلا مع الضمان ، فان المراد بالضمان لا بد أن يكون هو الضمان الشرعي الناقل لما في ذمة الميت إلى ذمة الوارث فيعتبر فيه رضائه الغرماء ، وأما ضمانه من عنده فلا ينفع الا مع من أن يكون مليا ويكون غرضه الوفاء والأداء.

ثمَّ في الدين الغير المستوعب انما يمنع من التصرف إذا لم يكن الباقي بحسب العادة مأمونا من الزوال وإلا جاز ، لان المناط في التصرف المنهي هو تفويت حق الغرماء أو كونه في معرض التفويت ، فحيث لا تفويت ولا تعريض جاز. واللّه العالم.

تذنيب ( في المطالب بحقوق الميت على الناس )

وفيه مسائل :

( الأولى ) المطالبة والمحاكمة.

وهو جائز للغريم والوارث ، لوجود المقتضي وهو كون الدعوى ملزمة وعدم المانع.

( الثانية ) الإحلاف.

وهذا أيضا مشترك بين الغريم والوارث ، إذ لا مانع منه بعد صحة الدعوى ، ولا يشترط في الإحلاف إلا كون الدعوى مسموعة ، قالوا : كلما يتوجه فيه الجواب على الخصم يتوجه اليمين.

( الثالثة ) الحلف.

وهذا مختص بالوارث ، فلا يجوز للغريم ، أما عدم الجواز له فلأن اليمين لا تثبت مالا لغيره ، والتركة اما ملك للوارث أو في حكم مال الميت. وبالجملة

ص: 362

الغريم كالأجنبي ليس له ولاية على الميت وأمواله - وان كان له حق الاستيفاء من أمواله كما أن المرتهن أيضا ليس له الحلف على إثبات الملك للراهن إذا ادعى على العين المرهونة ، وأما جوازه للوارث فلأنه قائم مقام الوارث فله الولاية على أمواله ، سواء قلنا بانتقال التركة اليه أو قلنا ببقائه في حكم مال الميت ، أما على الأول فواضح وأما على الثاني فلانه وان لم تكن التركة ملكا فعليا له لكنه أولى بالميت وأمواله في المطالبة عن غيره بحكم آية تفضيل أولي الأرحام بعضها على بعض.

ودعوى ان الحلف لا يثبت ملكا لغيره. فيها :

أولا - انه لا عموم في ذلك يعم المقام.

وثانيا - ان المراد أنها لا تثبت ملكا لغير الحالف لا أنها لا تثبت ملكا لا يكون للحالف. وبينهما فرق واضح ، وما نحن فيه من الثاني ، لأن حلف الوارث لا يثبت ملكا لأحد ، إما للميت فواضح لعدم وجود حقيقة الملك بالنسبة اليه ، وأما بالنسبة إلى الغرماء فللإجماع على أن التركة ليست ملكا للغرماء. نعم هو يثبت شيئا يمكن أن يصير ملكا للحالف أو لغيره.

وثالثا - ان الملك الثاني ثابت للورثة أيضا ، لأن الموت والنسب سببان للإرث ، وبهذا الاعتبار أطلق الوارث على الوارث على القول بعدم الانتقال.

وهذا في حكم الملك الفعلي من هذه الجهة ، إذ القدر المعلوم من عدم إثبات الحلف ملكا للغير أن يكون الحالف غير مالك للمحلوف عليه لا فعلا ولا شأنا ، بأن لا يكون سبب الملك موجودا أيضا ، وأما مع وجود سبب الملك فلا دليل على عدم جوازه بعد عموم أدلة اليمين المردودة.

هذا ، ثمَّ لو ادعى الغريم وأحلف سقط حقه مما في ذمة المدعى عليه ظاهرا وباطنا ، فلا يجوز له المقاصة أيضا ، كما تقدم في يمين المنكر من أنها تذهب

ص: 363

بما فيه. لكن حق الوارث لا يسقط بهذه الدعوى ، فله الدعوى ثانيا ، فإن أقام بينة أو شاهدا وحلف يثبت الدين.

وهل للغرماء حينئذ نصيب منه بعد حلف المدعى عليه لهم؟ الظاهر عدم الإشكال في كون الدين حينئذ كسائر التركة بالنسبة إلى تعلق حق الغرماء إذا استوفى ذلك الدين ، لأنه بعد الاستيفاء من جملة ما ترك لا يقال ذهب يمين المدعى بحق الغريم فكيف يتعلق حقه بذلك الدين الذي استوفاه الوارث.

قلنا : ذهاب اليمين بما فيه قد عرفت أنه ليس على وجه يبدل الواقع ويؤثر فيه على وجه يحرم معه التعرض سرا وجهرا كالمقاصة ، فكل حكم من الاحكام لا يعد ثبوته تعرضا بحال الحالف لا بأس من ترتيبه. ولا ريب أن الدين يتعلق واقعا بالتركة ، وترتيب آثار هذا الحكم قبل ثبوت الدين بعد حلف المدعى عليه للتغريم تعرض بحاله وتكذيب عملي لحلفه ، وأما بعد ثبوت الدين ووجوده في الخارج وصيرورته في عنوان ما ترك فليس العمل بمقتضاه تعرضا بحاله.

هذا بعد الاستيفاء ، وأما قبله ففي جواز مطالبة الغريم حينئذ إشكال في محكي القواعد : من أن اليمين ذهبت بما فيه فلا حق للغريم عليه ، ومن صيرورة الدين بعد البينة أو الشاهد واليمين من جملة التركة.

كذا حرر وجه الإشكال في محكي كشف اللثام ، والظاهر أن وجه شي ء آخر ، وهو أن ما في الذمة ليس على حد العين في صدق عنوان ما ترك عليها ، لان كون ما في الذمة من جملة التركة عبارة عن ثبوت حق من الميت في ذمة المديون يكون صاحبه ومطالبه اثنان الغريم والوارث ، فاذا سقط حق الغريم يحلف المديون كان معنى سقوطه ما كان له من حق المطالبة ، فكيف يعود ذلك الحق الذاهب.

ص: 364

بخلاف كون العين من جملة ما ترك ، فإنه عبارة عن اتصافها بصفة المالية كسائر الأعيان إما للوارث أو للميت حكما ، فما في ذمة المديون قبل تعينه في الخارج ليس شيئا قابلا لتعلق حق الغريم بعد فرض سقوط ما كان له من المطالبة ، وأما بعد التعيين الخارجي وتشخصه باستيفاء الوارث دخل تحت عنوان التركة التي هي مجمع حق الغريم والوارث. واللّه العالم.

ص: 365

ص: 366

فهرس الكتاب

عنوان / الصفحة

كلمة محقق الكتاب... 5

ترجمة المؤلّف... 10

بدء الكتاب... 25

معنى القضاء لغة و عرفاً... 23

وجوب الحكم بالحق وجوازه... 27

ما يعتبر في القاضي من الشرائط... 28

العدالة و معناها الفقهى... 28

استقلال الحاكم بالفتوى... 29

الفرق بين الحكم و الفتوى... 31

مسائل في قضاء المقلد... 32

الادلة على قضاء الحاكم مستقلا... 33

اختلاف المتخاصمين في الشبهة الحكمية... 34

وجوب الزام المتمرد بالحكم... 35

المراد من العلم مايشمل الظن الذي دل الدليل على حجيته... 39

ص: 367

من أدلة وجوب الحكم مادل على اعتبار البينة... 43

علم القاضي في القضاء و الحكم... 45

حرمة نقض الحكم... 46

القضاء في الشبهات الموضوعية... 47

نصب المجتهد المقلد للقضاء وتوكليه... 48

هل يجوز نصب الامام القاضي غير المجتهد... 48

البحث في الولاية العامة للمجتهد... 49

الجواب عن الادلة الواردة في ذلك... 50

حكم التوكيل في القضاء... 52

تقسيم الافعال التي يترتب عليها أثر شرعي... 52

قضاء المقلد في حال الاضطرار... 55

القضاء في الشبهات الموضوعية عند الاضطرار... 56

عدم استقلال العقل في المسائل الخلافية... 58

ما يختص بأحكام المقلد المنصوب للقضاء... 60

عدم جواز الترافع الى حكام الجور... 64

الادلة على حرمة التحاكم الى الطاغوت... 64

لا يجبر واجد شرائط القضاء على القضاء مع وجود مثله... 67

حكم ما يعود إلى القاضي من الأموال... 69

ارتزاق القاضي من بيت المال... 69

أخذ الاجرة على القضاء... 70

الكلام في الاستيجار على بعض العبادات... 71

حقيقة النيابة وآثارها... 73

ص: 368

عدم الفرق بين النيابة في المعاملات و العبادات... 75

عدم توقف تأثير النيابة في الحكم الوضعي على استحبابها... 76

النائب ينوي في العبادات النيابة ثم القربة... 77

النيابة أمر توقيفي لابد من ثبوت شرعيتها... 79

جواز النيابة عن الأموات... 80

جواز الاجارة في العبادات يتوقف على ثبوت شرعية النيابة فيها... 81

إهداء ثواب العبادات للأموات أو الإحياء... 84

الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه... 87

الفرق بين ماله اجرة وما ليس له اجرة عرفا... 89

عود إلى أخذ الأجرة على القضاء... 92

ما يثبت به ولاية القاضي... 93

معنى الاستفاضة في الخبر... 93

غرض الفقهاء من الخبر المستفيض... 94

الأدلة على اعتبار الاستفاضة الظنية... 96

هل ينعزل القضاة بموت الإمام؟... 101

علم القاضي هل يكون بينة للقضاء... 104

حبس المدعى عليه لو كانت بينة المدعى غير تامة... 106

في نقض حكم الحاكم... 107

ما يجوز فيه نقض الحكم... 108

ما ذا يراد من حرمة نقض الحكم؟... 111

نقض الفتوى بالحكم وبالعكس... 112

نقض المجتهد فتوى غيره... 114

ص: 369

تتبع الحاكم حكم من قبله... 116

ترجمة مترجم الدعوى شهادة أو رواية؟... 116

هل يكفي إظهار الإسلام في الشهادة... 118

ما هي حقيقة العدالة؟... 122

أمور تتعلق بالملكة... 124

نقض حكم الحاكم إذا عرف فسق الشهود... 125

كيفية تعديل الشهود أو جرحهم... 127

شرطية التفصيل في الجرح... 129

حمل كلام المخبر على الصدق الخبري... 132

كيفية تعديل الشهود... 137

اعتبار العلم في مستند التعديل... 138

العمل بقول الجارح عند اختلاف الشهود... 140

الكلام في الامارة وكيفية قبولها... 141

معنى تصديق المخبر بالعدالة والفسق... 142

لو اختلف زمان التعديل والجرح... 145

عند تعارض الجرح والتعديل يؤخذ بالأرجح... 147

جواز الاستناد في ملكة العدالة إلى الاستصحاب... 148

وجوب سماع دعوى المجهول... 149

سماع الدعوى على الغائب... 151

النقاش في سماع دعوى المجهول... 153

إحضار الخصم بالتماس خصمه... 155

اعتبار الجزم في الدعوى... 157

ص: 370

في الظن في الدعوى ومحله... 160

في جواب المدعى عليه... 161

لا بد من الحكم بعد البينة لإثبات الدعوى... 162

موضع حجية البينة... 165

الإقرار سبب لإلزام المقر بما أقربه... 166

مسائل من أحكام الإقرار... 168

في دعوى المدعى عليه الإعسار... 173

هل يحتاج في إثبات الإعسار إلى اليمين؟... 174

في مفهوم العسر... 176

دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال... 178

مواضع تقبل فيها بينة المنكر... 185

سماع البينة من المنكر على ما ينفعه... 186

الصور المختلفة في الشهادة على الإعسار... 190

حلف المنكر يسقط جميع حقوق المدعى... 197

لو أقر المنكر عاد حكم المطالبة والتقاص... 202

تجديد مقال لتوضيح حال... 203

هل يذهب الحلف بالحق في العين أيضا؟... 206

لو وجد المدعي عين ماله يجوز أخذه... 207

في جواز التقاص من المنكر... 208

هل تسقط دعوى المدعي مع النكول... 211

ص: 371

الأدلة على سقوط الدعوى مع النكول... 212

عدم تمامية أدلة سقوط الدعوى مع النكول... 215

معنى كون اليمين بمنزلة البينة... 218

الادعاء على من يقر بغير ما يدعيه المدعى... 219

ثمرة كون اليمين مثل البينة... 221

الحلف من موارد الإقرار لا البينة... 222

نكول المدعى عن اليمين المردودة... 224

نكول المدعى عن اليمين والرد معا... 225

مستثنيات عدم القضاء بالنكول... 236

لا يستحلف المدعى لو أقام بينة تثبت حقه... 240

الإشارة إلى مواضع تلغى فيها خصوصيات العلة... 242

اليمين في الدعوى على الغائب... 244

فرض دعوى الميت البراءة لو كان حيا... 246

بعض ثمرات قول المدعى « لا ندري »... 248

الدعوى على الحي الذي لا لسان له حين الدعوى... 252

لو كان المدعى وكيلا عن غائب... 255

هل يسلم الحق الى المدعى لو كان المدعى عليه غائبا؟... 256

سكوت المدعى عند اقامة الدعوى... 257

إذا قال المدعى « لا أدرى »... 259

اعتبار الحلف في المدعى عليه... 262

مسائل متعلقة بالقضاء على الغائب... 264

القضاء على الغائب عن البلد... 264

ص: 372

تقسيم المدعي على الغائب... 267

مطالبة الوكيل عن صاحب الحق... 268

القول في كيفية الاستحلاف... 271

عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى... 271

كيفية إحلاف المجوس... 272

التغليظ في الإحلاف... 274

لو حلف على عدم الإجابة إلى التغليظ... 275

الكلام في العناوين الثانوية... 276

العنوان الثانوي مختص بما عدا الحرام... 277

عدم مزاحمة المستحبات للمحرمات... 280

الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة... 282

حلف الأخرس بالإشارة... 282

المراد من الاستحلاف في مجلس القضاء... 283

حكم الحلف باللغات غير العربية... 284

البينة وظيفة المدعى واليمين وظيفة المنكر... 285

لا بد من الجزم في اليمين... 288

اليمين المتكلة على الأمارات والأصول... 289

لو كان الاخبار مستندا الى الأصل... 293

يلزم الحلف على القطع لا نفي العلم... 295

الدعوى على نتيجة الفعل... 296

وجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى... 300

الآراء في يمين نفي العلم... 302

ص: 373

يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى... 309

دعوى علم المدعي بالمدعى عليه... 310

الدليل على عدم الجزم في دعوى العلم... 312

دعاوي لا يعلم فيها كيفية الحلف... 314

دعوى إتلاف البهيمة شيئا... 314

دعوى جناية العبد... 316

تتوجه اليمين على الوارث في صور ادعاء العلم... 317

المراد من دعوى علم الوارث... 319

الغريم مولى العبد عند الادعاء عليه... 321

عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة... 322

مواضع تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة... 323

الاستدلال بقيام اليمين مقام البينة... 325

في الصلح عن الدعوى باليمين حيث لا سبيل إليها شرعاً... 329

في تورية الحالف... 333

تورية المظلوم في الحلف جائزة... 334

هل تثبت الشفعة عند إلزام القاضي بالحلف عليها... 336

هل تنتقل التركة إلى الوارث... 338

إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء... 340

المراد بالوصية والدين... 343

جرح أدلة القدماء في المسألة... 345

صدق الارث علی الملك الحاصل بالفسخ حقيقة... 347

ص: 374

استدلال المحقق القمي على مسألة الإرث المقيد... 350

عدم جواز تصرفات الوارث في الإرث المقيد... 352

الرهن يمنع من التصرفات مطلقا... 354

لا يجوز للوصي التصرف المفوت للمالية... 354

الكلام في الدين غير المحيط بالإرث... 356

هل تجب فطرة العبد إذا مات السيد وعليه دين؟... 360

في المطالب بحقوق الميت على الناس... 362

فهرس الكتاب... 367

ص: 375

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.