تفسیر سورة هل أتی المجلد 2

اشارة

تفسیر سورة هل أتی

نويسنده: عاملی، جعفر مرتضی

تعداد جلد: 2

زبان: عربی

ناشر: المرکز الإسلامي للدراسات - بیروت - لبنان

سال نشر: 1424 هجری قمری

سال نشر: 2003 میلادی

کد کنگره: BP 102/933 /ع 2 ت 7

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الجزء الثاني

الفصل الثاني عشر: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً

اشارة

ص: 5

ص: 6

قال تعالى:

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

اشارة

حيث أظهرت هذه الآية حقيقة هامة،هي أن وقاية اللّه سبحانه و تعالى للأبرار من شر ذلك اليوم،ثم ما فعله بهم من أنه قد لقّاهم نضرة و سرورا لم يكن هو الجزاء لأولئك الأبرار.بل هذه كرامات و ألطاف إلهية،حباهم اللّه تعالى بها،إمعانا في تشريفهم،و مزيدا في الرعاية لهم.

و ذلك حين منّ عليهم بهذا الجزاء العظيم،في مثل هذا الحال الشديد،الذي يواجهه الإنسان بانتقاله إلى عالم الآخرة،الجديد عليه، و هو يوم الفزع الأكبر..

فكانت مراسم الاستقبال لهم هي هذا التشريف الإلهي،الذي تجلى أولا بالحصانة و بالوقاية التي حباهم بها،فحقق لهم الأمن الحقيقي، و الاطمئنان النفسي،ثم حباهم بالنضرة و السرور الذي كان هو الإشارة الحسية الملموسة،التي تزيد من ثقتهم بأن ما حصلوا عليه ليس أمرا عارضا،قد يزول و يتغير..فيما لو فتحت السجلات..بل هو أمر يدخل في دائرة التكريم و التشريف الإلهي الدائم و المستمر،و أن عليهم أن ينتظروا مكافئات أعظم،و ألطافا و عنايات أتم،و أهم،و أعم..

ثم جاء الجزاء الإلهي الذي نتج عن فعلهم،و له أسباب و علل وفق ما اقتضته السنن الإلهية،و فرضه النظام الرباني..الذي لأجله قال تعالى:

«جزاهم»،و لم يقل:أعطاهم،أو تفضل عليهم.

ص: 7

«و جزاهم»..أم جازاهم؟:

و لا نرى أننا بحاجة إلى التذكير بأن التعبير بكلمة جزاهم،التي هي فعل ماض،إنما هو للإشارة إلى أن هذا الأمر كأنه قد حصل و انته حتى ليصح الإخبار عن حصوله.و ذلك لعدة خصوصيات قد أشير إليها أكثر من مرة..

و يبقى سؤال هو:أن التعبير هنا قد جاء بكلمة جزاهم-لا بكلمة جازاهم،فما هو الفرق بين التعبيرين يا ترى؟!

و نقول:

قد يمكن الإجابة عن ذلك بأن كلمة«جازى»تستعمل في مورد العقاب غالبا.بل قد يستفاد من قوله تعالى: وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ، أن كلمة جازى متمحضة في الجزاء بالسوء.

أما كلمة جزى فتستعمل في العقوبة و المثوبة على حد سواء،قال تعالى: وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (1).

و قال في مورد المثوبة: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً.

و قد يقال أيضا:إن كلمة جازى تفيد التدقيق و المقابلة بصرامة،أو فقل:معناها الجزاء وفق ميزان العدل.

أما كلمة جزى فتفيد مطلق المكافأة،حتى و لو بالزيادة على ما يقتضيه ميزان العدل..و لذلك،فإن اللّه تعالى،و إن كان في مورد العقوبة، لا يزيد عن مقدار ما يجازي عليه،و لكنه في مورد المثوبة يزيد في

********

(1) سورة سبأ الآية 33.

ص: 8

المثوبة إلى سبع مائة ضعف،ثم يضاعف لمن يشاء،و هذا أزيد مما يقتضيه العدل.و في المورد الذي نحن فيه،مذ جاء الجزاء وفق مقتضيات التفضل،الذي لا حدود للعطاء فيه،و لأجل ذلك نكّرت كلمة جنة،و كلمة حرير..لإفادة أن ما يعطيهم اللّه إياه يفوق حدود التصور، كما ألمحنا إليه آنفا في قوله تعالى: وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً..

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية:

ثم إن من الواضح:أن كلمة جزى،تعني إعطاء البدل و المكافأة من طرف واحد،و لا يلحظ فيها إلا ما يفعله من يريد إعطاء الجزاء.

أما كلمة جازى،فهي على وزان فاعل،التي تستعمل عادة للدلالة على وجود فعل من الطرفين،بصورة متكافئة و متوازنة،فهي مثل قاتل، و لاعب..

فالجزاء الإلهي إذا كان على سبيل المثوبة،فإنه لا يلحظ فيه الفعل إلا في طرف واحد،و هو اللّه سبحانه..و لا يلحظ فيه التعادل و التوازن بين ما يعطيه اللّه سبحانه،و ما يقدمه العبد من عمل،إذ لا مجال للموازنة بين العطاء الإلهي،و بين الطاعات الصادرة عن العبد..و إن كان فعل العبد له دور التسبيب للفيض و للعطاء الإلهي.لكن لا يلحظ فيه أزيد من ذلك..فيعطي اللّه مقابل الحسنة عشر أمثالها،إلى سبعمائة ضعف،ثم إن اللّه يضاعف لمن يشاء..

و إنما قلنا:إنه لا مجال للمقابلة،بسبب الطاعات أيضا،لأنه إنما يقدر العبد عليها،و يأتي بها بواسطة قدرات أخرى أنعم اللّه بها عليه، و هي لا يمكن إحصاؤها،و لا شكرها.

أما إذا كان على سبيل العقوبة..فإن اللّه سبحانه..و إن كان قد أوعد

ص: 9

العاصين بالجزاء بالمثل،لكن يبقى موضوع العفو،أو التخفيف،مراعاة لكثير من الأمور واردا في كثير من الموارد..بل إن المقابلة بالمثل على نحو الدقة المتناهية قد لا تكون واردة إلا في مورد واحد،و هو ظهور كثرة الكفر و شدته،كما أشارت إليه الآية الكريمة التي تتحدث عن سبأ، الذين أرسل اللّه عليهم سيل العرم،حيث قال سبحانه: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (1).

و يلاحظ:

أن هذه الآية هي الوحيدة التي وردت في القرآن بصيغة«فاعل»، للدلالة على المقابلة بين العمل الصادر منهم،و بين الجزاء الصادر من اللّه سبحانه لهم.و للدلالة على وجود هتك و تعدّ على اللّه تعالى من قبلهم، فناسب ذلك أن يكون في مقابله هتك لحرمتهم و مواجهه لهم بما يسوءهم و في هذا نوع من التوسع في الإطلاق،كما هو ظاهر..

الثواب بالتفضل،أم بالاستحقاق؟:

ثم إنه لا شك في:أن التمرد على المولى يوجب العقوبة،كما أنه بما يمثله من عدوان على نظام الحياة يوجب خللا في هذا النظام، يستوجب العقوبة أيضا،لأن ما يفعله الإنسان لا يقاس بحجمه المادي و حسب..بل تلاحظ فيه الحيثيات الأخرى أيضا..فمن كسر زجاج شباك الغير خطأ فعليه أن يعوض ما كسره،و ينتهي الأمر،لكن من يضرب مولاه عمدا،فإن القضية ليست مجرد ضربة بضربة.إذ يبقى موضوع هتك حرمته من حيث هو مولاه،بدون تعويض،كما أن الأمر بالنسبة

********

(1) سورة سبأ الآية 17.

ص: 10

لجانب الطاعة كذلك،فإن البلخي قد ادعى:أن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل لا بالاستحقاق..

و استدل على ذلك:بأن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة،فلا يستحق فاعلها مثوبة عليها،فما يعطيه اللّه للعبد عليها إنما هو تفضل منه.

و نقول:

إن هذا الكلام باطل،إذ يقبح عند العقلاء أن ينعم أحد على غيره بنعمة،ثم يكلفه،و يوجب عليه شكرها،من دون إيصال ثواب إليه على هذا التكليف،و هم يعدون ذلك نقصا،و ينسبون من يفعل ذلك إلى حب الجاه و الرئاسة و نحو ذلك من المعاني التي لا تصح من الحكيم.

و هذا يعني:أنه إذا كلفه،فإن عليه أن يثيبه على امتثاله لهذا التكليف..و أن المثوبة بالاستحقاق،لا بالتفضل.

و بعبارة أخرى:

إن الطاعة مشقة ألزم اللّه العبد بها،فإن لم تكن لغرض كانت ظلما و عبثا،و هو قبيح لا يصدر من الحكيم.

و إن كانت لغرض..فإن كان يعود إلى اللّه فهو باطل،لأنه تعالى غني عن العالمين.و إن كان الغرض عائدا للمكلف..فإن كان هو الإضرار به كان ظلما قبيحا.

و إن كان هو النفع له،فإن كان مما يصح أن يبتدئ اللّه به العبد، فلما ذا يكلفه به..و إن كان مما لا يصح الابتداء به،بل يحتاج إلى تكليف،فإن العبد يستحق أن يعوضه اللّه عن تلك المشقة التي كلفه بها بمثوبة و أجر..

و هذا معناه:أن مثوبة العبد إنما هي بالاستحقاق،و هو المطلوب..

ص: 11

استحقاق ناشئ عن التفضل:

و الحقيقة هي:أن هذا الاستحقاق ناشئ عن التفضل،و ذلك ببيان:أن مالكية اللّه للعبد و لكل شيء،و كون طاعة العبد إنما تتحقق بالاستفادة من نعمه و تفضلاته و فيوضاته تعالى..-إن ذلك-يجعل تقرير أصل الثواب للعبد المملوك على أفعاله داخلا في دائرة التفضل،فكيف إذا جعل له جزاء مضاعفا أضعافا كثيرة؟!.

و لكنه بعد أن قرر اللّه تعالى ذلك لعباده و مملوكيه بعنوان الجزاء، و تفضّل عليهم بزيادة مقاديره..و أصبح هذا قانونا إلهيا مجعولا،فإن ذلك يدخله في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن.

و لأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يحرم اللّه سبحانه المطيع من هذا الثواب.و لو أنه كان تفضلا،لجاز ذلك..فكيف لو أراد أن يحرم المطيع،و يعطي العاصي؟!فإن الأمر سيكون أشد قبحا،و أعظم شناعة، كما هو ظاهر لا يخفى.

و هذا من قبيل ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة إذا نجح في الامتحان،فإذا نجح ذلك الولد،فسيرى أن له حقا بمطالبة والده بتلك الجائزة.حتى إذا حرمه منها،فسيجد نفسه مظلوما مهانا،فكيف إذا حرمه منها،و أعطاها لأخيه الراسب؟!

و بتعبير أوضح:إن إعمار الأرض،و تحقيق الأهداف الإلهية في إيصال الإنسان إلى كماله،يقتضي تزويده بالأدوات التي تمكنه من ذلك، فكان أن أعطاه اللّه المشاعر،و العقل،و الإرادة،و وفر له جميع أنواع الهدايات:الإلهامية،و الحسية،و الفطرية،و الغرائزية،و العقلية،ثم اعتبره أهلا للخطاب الإلهي..فجعل له قانونا،و أكرمه،و كلفه به..و جعل له كيانا

ص: 12

و شخصية..رغم أنه هو المالك له،فإن مقتضى الأخذ بهذه السياسة هو الالتزام بلوازمها،و الاستجابة لموجباتها،و ترتيب آثارها..فالذي جعلت له كيانا،و كرامة،و رسمت له هدفا،و كلفته بالعمل للوصول إليه باختياره، و قررت له حقوقا،فإنه إذا أنجز ما طلب منه،سيطالب بهذه الحقوق المجعولة له،و لا يرضى بأن تعطى لغيره،حتى لو كان ذلك الغير هو ولده،أو أبوه،أو أخوه،و سيرى نفسه مظلوما إن حصل ذلك فعلا.

«بِما صَبَرُوا» :

ثم إنه مرة يكون الدافع للعطاء هو مراعاة خصوصية في المبذول له، ككونه عالما،أو لأجل حسن سلوكه،أو إلخ..فيعطيه،و لو لم يصدر من ذلك الشخص أي فعل يستحق أن يقابل بشيء آخر..

و مرة يراد بالعطاء أن يكون مقابل جهد يراد أن يكون جزاء له، فتحتاج إلى تحقيق توازن بين المجازى به،و المجازى عليه،من حيث إن هذا أقل،و ذاك أكثر،أو العكس..

و قد يكون هذا العطاء أرجح من حيث الصفة التي يراد مراعاتها فيه، و قد لا يكون كذلك..

و بعد ما تقدم نقول:

هل يريد اللّه تعالى بقوله: وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أن يجعل العطاء و الجزاء،على نفس وجود طبيعة و خصوصية الصبر فيهم؟!..أو أنه يريد أن يجازيهم على فعل صدر منهم،و قد كان هذا الفعل تجسيدا لمفهوم الصبر في الواقع الخارجي؟!

إن الظاهر أن المراد هنا،هو هذا الشق الثاني..

و ذلك لأن كلمة «بِما صَبَرُوا» تستبطن،أو فقل:تصرح،بأن هذا العطاء

ص: 13

قد كان بسبب وجود مبرر،بل لأجل استحقاق واقعي لما تعطيه إياه.

و هذا معناه:أنه لا بد أن يكون مقدار و ميزات الفعل الصادر من الأبرار ملحوظا في مقام العطاء،ليصح أن يقال إن هذا في مقابل ذاك.

فالباء في قوله «بِما صَبَرُوا» إذن تفيد مقابلة هذا بهذا،و التعويض به عنه،و تفيد الآلية و التسبيب،و أن الوسيلة إلى هذا الجزاء،هي ذلك الصبر.

و هذا يقتضي:أن لا تكون هناك أية منة عليهم بهذا الجزاء،لأنه أعطى في مقابل عمل..و أن هذا العمل ليس عاديا بل هو يحتاج إلى صبر،و تحمل،و جهد..

و بذلك يتضح السبب في:أن اللّه سبحانه قد استخدم نفس هذه الباء أيضا،في قوله: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ (1).و في قوله: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ (2).

الجزاء مقابل الصبر،أم مقابل العمل؟:

و قد تحسن الإشارة إلى أنه تعالى قد جعل الجزاء هنا،مقابل الصبر نفسه،لا مقابل العمل الذي صبروا عليه،ليشير بذلك إلى شدة معاناتهم، و أنها قد بلغت حدا أصبح نفس فعلهم صبرا،و أصبح الجزاء على نفس هذا الصبر..

و قد جاء بكلمة صَبَرُوا بصيغة الماضي،لعله ليشير إلى أن هذا الصبر هو فعل اختياري لهم،و ليس أمرا مفروضا عليهم..فليس حالهم

********

(1) سورة البقرة الآية 45.

(2) سورة الرعد الآية 24.

ص: 14

كحال ذلك السجين الذي يجبر على بعض الأعمال الشاقة..بل هو صبر و حصانة قد اختاروها أنفسهم و اختاروا هم الفعل الذي ينتجها..

و يلاحظ هنا:أنه لم يذكر للصبر أي متعلق،ربما ليفيد أن صبرهم هذا كان شاملا،فهو صبر على الطاعات،فلا يملون منها،و صبر عن المعاصي،فلا يقربونها،و صبر على المصائب و البلايا.و صبر على الأذى في جنب اللّه،و ما إلى ذلك..

و كل صبر لهم في هذه الموارد لم يأت على أساس العجز عن اختيار الطرف الآخر،أو الاضطرار إلى التحمل،بل كما يضطر المحتاج لبيع ما غلا،بثمن بخس،من أجل سد حاجته،بل هو صبر الاحتساب، و هو الصبر الواعي،الذي تنتجه إرادتهم،و يدفعهم حبهم للّه لاختياره.

إنه صبر أنتجه لهم إطعامهم الطعام للمسكين،و اليتيم،و الأسير،على النحو الذي وصف اللّه و رسوله..و ينتجه لهم الوفاء بالنذر،و ينتجه أيضا خوفهم من يوم كان شره مستطيرا..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى قال: بِما صَبَرُوا، و لم يقل:

جزاهم بصبرهم،فإن التعبير بالمصدر قد يوحي بأن هناك أمرا أو شدة قد فرضت عليهم،و أنهم قد تحملوها.و هذا ما ليس بمراد قطعا..

كما أن ما ذكرناه في معنى الباء،إذا أضيف إلى سائر ما أشرنا إليه، يجعلنا نعرف السبب في أنه لم يقل:«على صبرهم».

لذة الاستحقاق:

و لا بد لنا هنا من بيان:أن الجزاء على عمل فيه معاناة،و صبر، و إحساس بالاستحقاق له لذة أخرى تضاف إلى لذة نفس العطاء،من حيث هو عطاء..

ص: 15

فإن الجهد نفسه يجعل للعطاء لذته،و للشعور بالاستحقاق لذة أخرى تضاف إلى ذلك.

و ربما يمكن تأييد ذلك بما نشاهده من تعلق الإنسان،و حرصه الشديد على كل شيء يناله بعد تعب و جهد.بخلاف ما يحصل عليه بسهولة و يسر،فإنه لا يكون له ذلك التعلق به،بل يسهل عليه التخلي عنه،تماما.قال الشاعر:

و من أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد

و لعل سبب اللذة بما يبذل الإنسان في سبيله جهدا،هو أن بذل الجهد يكون سببا في الشعور باستحقاق الجزاء..و هذا يعطي الإنسان شعورا بالعزة،و الكرامة،و بالانتصار،و بالاستقلال في شخصيته و كيانه، و يمنحه ثقة بنفسه.

فعطاء الجزاء إذن له قيمته،و له لذته المميزة.و ربما لا يكون لعطاء التفضل هذا النوع من المزايا،و إن كانت له مزايا من نوع آخر..

و هناك شعور آخر قد يتمازج مع لذة الاستحقاق،و ما ينشأ عنها،ألا و هو شعوره بأن ما يعطى له إنما هو نتيجة ما بذله من جهد و تعب،فهو بذلك قد أسهم في رفع نقصه،و تحويله إلى كمال،و بدّل عجزه بالقوة، و حاجته بالغنى..

و هذه مزايا أخرى يحبها،و يعتز بها،و ترضى روحه بها.

كما أن علاقته بنتاج فعله و جهده الذي كان به كماله،و غناه و قوته، ستكون علاقة لها مغزاها العميق،و أثرها الظاهر في روحه و وجدانه، و إحساسه بالرضا و الغنى،و بالكمال و القوة.

و خلاصة الأمر:أن للنعمة التي أعطيت له لذة،و بهجة،و رونق..

ص: 16

و للشعور بأنها عن استحقاق بسبب تعب و جهد؛لذة أخرى..ثم إن هناك أيضا لذة الكمال و الشعور به..

استطراد..للتوضيح:

و نستطيع أن نستشهد على هذا الذي قلناه بما يلي:

ما ورد عنهم صلوات اللّه و سلامه عليهم:«تهادوا تحابوا فإن الهدية تذهب بالضغائن» (1).

إذ إن الذي يقدم الهدية،هو الذي يحب من أخذ الهدية،و لعله لأن المعطي إنما يبذل له ما حصله بجهده و عرقه،أو ببذل ماء وجهه،أي:

أن جزءا من كيانه،و وجوده قد تجسد بهذا النتاج.و الإنسان يحب نفسه، و كل متعلقاتها،و يتعامل مع كل ما يعود إليها،أو يرتبط بها،بصورة أكثر حميمية،و انجذابا،من تعامله مع الأغيار.

و هذا يشير إلى أنه حين أمرنا اللّه تعالى بالبذل للآخرين،فإنما أراد منا أن ننظر إليهم،و أن نتعامل معهم على أنهم جزء من كياننا و من وجودنا،و ما ذلك إلا لأن تعاملنا هذا سيغير الكثير الكثير من طبيعة حياتنا،و علاقاتنا و مواقفنا من بعضنا البعض.

أما من يأخذ الهدية،فقد يكون في حرج و ضيق،حين يفكر بأن المعطي قد يمنّ عليه بما أعطاه،و يذكّره به حتى بالسلام،و في البسمة و اللفتة،و النظرة،و قد تذهب به أفكاره و خيالاته كل مذهب،ليصل إلى حد أن يفكر بأن يبعده عنه،و يتخلص منه،و لو بالأسلوب السيئ

********

(1) بحار الأنوار ج 72 ص 44 و ج 74 ص 166.

ص: 17

و المهين.و قد شاع ذلك القول المأثور:«اتق شر من أحسنت إليه» (1).

و شاهد آخر على ذلك،هو أن اللّه سبحانه يقول: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (2).

فإن اللّه سبحانه حين شرع أحكام الزواج،لم يذكر واجبات و أحكاما إلزامية خاصة بهذا الواقع الجديد،سوى عدد يسير،ربما لا يصل إلى عدد أصابع اليد الواحدة..و اكتفى فيما عدا ذلك بالأحكام العامة،الشاملة لكل مسلم..

مع أن الاحتكاك في الحياة الزوجية فيما بين الزوجين،يفوق ما يكون في أية حالة أخرى..و الأجواء في داخل البيت الزوجي مهيأة للتدخل في كل شيء يمكن تصوره في مجال تعاطي إنسان مع إنسان آخر..

و ذلك من أعظم الدلائل على أن هذا الدين هو من عند اللّه تعالى..

و هو من مظاهر الإعجاز التشريعي،الدال على أن واضعه هو اللّه العالم بالسرائر..حيث إنه قد تبين من خلال هذا التشريع أنه تعالى لا يريد بناء الحياة الزوجية على أساس مصلحي،أو تجاري،أو سياسي،أو على أساس الخضوع و الانقياد لظروف اجتماعية،أو غيرها..لأن المتوقع في هذه الحال هو أن تنتهي العلاقة بمجرد فقدان تلك المصلحة،أو انتهاء ذلك الظرف السياسي،أو الاجتماعي،أو غيره..أو إذا وجد أي من الشريكين موردا آخر أكثر ربحا،و أعظم فائدة و نفعا.

********

(1) تفسير الميزان ج 2 ص 352.

(2) سورة الروم الآية 21.

ص: 18

كما أنه لا يريد أن يقيم العلاقة على أساس اقتضاء الغريزة و الحب الشهواني،فإنه تأثير سيتضاءل أيضا إلى حد التلاشي التام؛حينما تفقد الغريزة فاعليتها و نشاطها،أو حينما تخبو جذوة الشهوة،لأي سبب كان..

بل يريد أن يقيمها على أساس أقوى من ذلك كله،يستطيع أن يكون هو الحاكم،و المؤثر،في مختلف الظروف و الأحوال،ألا و هو الحب الإنساني،و النظرة الإيمانية..

فكان أن سعى إلى إثارة المشاعر الإنسانية،في كلا الطرفين،تجاه الطرف الآخر،و هيأ المناخ لتمازج تلك المشاعر،لتنتج من ثم حبا إنسانيا صافيا و خالصا،يحمل في داخله معنى القيمة،و معنى الإخلاص، و يتنامى في ظل الرعاية الإلهية ليلتقي بالوجدان،فيهبه حياة،و يقظة دائمة،و يتأصل،و يتجذر،و يتعمق بالإيمان،و التقوى..و يصان و يحفظ في ظل الإحساس بالرقابة الإلهية و الوجدانية.

و من هنا نجد:أن التشريع الإلهي لم يقم نظام الحياة الزوجية على أساس الحق و العدل.و قهر الطرف الآخر به،و فرضه عليه..إذ أنه لم يشرع واجبات كثيرة يمكن المطالبة بها لأي منهما،و ذلك الذي شرعه و فرضه فعلا،لن يحقق لهما الراحة،و السعادة،و الهناء،إلا بقدر ما يحجزهما عن العدوان و التظالم فيما بينهما،حين تبلغ بهما الأمور إلى الخطوط الحمراء،حيث يكمن الخطر،و تتعمق الهاوية السحيقة.

و لسوف يدركان من خلال التجربة العملية:أن هذا ليس هو طريق نيل السعادة،بل إن نيلها وسائل و طرق أخرى لا بد من البحث عنها..

و لن يطول بهما المقام،إذ سيدركان:أنه لا بد لهما من العودة إلى ما يريد اللّه لهما أن يعودا إليه،ألا و هو التوادّ،و التراحم،حسبما أشارت

ص: 19

إليه،الآية الكريمة: وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً (1)أن الملاذ و المنقذ هو الحب الإنساني،لا الحب الغريزي و الشهواني،الذي ليس هو في الحقيقة إلا تعبيرا آخر عن الأنا الطاغي،و المتمرد،الذي يريد أن يستأثر باللذة،و أن يسعد بها،بأية قيمة و بأي ثمن.

و الحب الإنساني و الإيماني:لا يرضى بديلا عن أن يصبح كل من الزوجين جزءا من شخصية الطرف الآخر،و متمما لكيانه،و وجوده: مِنْ أَنْفُسِكُمْ .

و لكن:اللّه سبحانه لا يريد أن يوجد هذا الحب بصورة إعجازية، و بجبرية قاهرة..و إنما يريد لهما أن يقوما معا بتهيئة أسباب وجوده، و موجبات نشوئه.و أن ينتجاه بصورة طبيعية،و أن يتنامى في داخل ذاتهما ليصبح جزءا من التكوين الحقيقي لشخصيتهما الإنسانية.

و قد اعتمد من أجل تحقيق ذلك عنصر التضحية المتبادلة،و التي تكون عن إرادة و اختيار،و من منطلق المعرفة،و الوعي،و الإدراك لحقيقة حاجاتهما الحياتية،في مختلف المجالات..

فحين يشعر كل من الزوجين بضعف الطرف الآخر،و بحاجته للمساعدة و الرعاية،فستتحرك مشاعر الرحمة فيه،و سيدعوه ذلك لمد يد العون له.حتى إذا تكرر هذا العون و التعاهد له مرة بعد أخرى،فإن ذلك سيجعله يتعلق به،لأن جزءا من جهده،و من عرقه،قد تجسد فيه،و سيزداد هذا التعلق على مر الأيام تبعا لتكرر ذلك بسبب اقتضاء الطبيعة الإنسانية له..

و لعل هذا يفسر لنا سرّ شدة تعلق الأم بطفلها،فإن سببه هو مدى ما

********

(1) سورة الروم الآية 21.

ص: 20

تبذله من جهد في مساعدته،و هي ترى ضعفه و حاجته،فتسهر عليه، و تتحمل الكثير من المشاق في سبيله.

أما الأب فإن ما يبذله من جهد و تضحيات مباشرة في سبيل الطفل؛ لا يصل إلى حد ما تبذله أمه فلذا كان من الطبيعي أن العاطفي بالولد عن درجة التعلق العاطفي به لدى أبيه.

و بذلك يتضح ما يشير إليه قوله تعالى: جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً فإن المودة-كما قالوا (1)-هي الحب الظاهر أثره في مقام العمل..

غير أن علينا أن لا ننسى أن هذا الحب قد يفقد بعض توهجه، بسبب ضعف أو فقد بعض موجباته،التي تسللت إلى عناصر الإلزام في قرار الزواج،مما له صفة غرائزية،أو ذوقية،نشأت عن ملاحظة حالة جمالية معينة،فيكون ضعف تلك الموجبات سببا في بعض الخفوت، و ضعف التأثير في الحركة العملية،و السلوكية،الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى تدخل العنصر الثاني،و هو الرحمة،التي هي انفعال نفساني،قوامه رقي في الإدراك الإنساني،و شفافية،و صفاء،و تألق،في روح الإنسان و نفسه..

نعم تأتي هذه الرحمة الإنسانية لتكون هي الضمانة الحقيقية لبقاء هذه العلاقة الرحيمة،و الحميمة،و الصادقة،محتفظة بقوتها،و بحيويتها..

و المثال الثالث الذي نذكره هنا ما رواه الكليني رحمه اللّه من أن الإمام الرضا [عليه السّلام]رأى مع غلمانه شخصا أسود،يعمل معهم بالطين،فسألهم عنه،فقالوا:إنه يعاونهم و يعطونه شيئا،فغضب[عليه السّلام]من ذلك.

********

(1) عن كنز الفوائد للكراجكي.

ص: 21

فسأله سليمان بن جعفر الجعفري عن ذلك..

فقال:«إني قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرة،أن يعمل معهم أحد حتى يقاطعوه أجرته.

و اعلم أنه ما من أحد يعمل لك شيئا بغير مقاطعة،ثم زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعافه على أجرته،إلا ظن أنك قد نقصته أجرته.و إذا قاطعته،ثم أعطيته أجرته حمدك على الوفاء،فإن زدته حبة عرف ذلك لك،و رأى أنك قد زدته» (1).

نعم..إن جهد الإنسان عزيز عليه،لأنه يبذله من أغلى و أعز شيء في الوجود عليه،و هو كيانه و عرقه،و شخصيته،و سوف لن يكون دقيقا في تقديره لقيمته،بل هو سوف يذهب في ذلك إلى أقصى المذاهب، إنه سوف لا ينظر الى العمل،بل سوف ينظر إلى من عمل،فهو إنما يطلب قيمة تفرض عليه أن يتخلى عن العلاقة القائمة بينه و بين بعض منه،و جزء من ذاته..

و معنى هذا:أن التخلي لن يكون سهلا،إذا قيس بالتخلي عن أمر ليست له به هذه الصلة،بل هو لغيره،و دوره فيه،هو دور الحفظ و الأمانة..فإنه سيلحظ في هذا الحال قيمة نفس ذلك الشيء المؤتمن عليه..و سوف تنقطع علاقته به بمجرد حصوله على هذه القيمة..

مقارنة بين الجزاء..و بين العمل:

و مراجعة الآيات الشريفة تعطينا:أنه سبحانه قد ذكر أمورا يقوم بها الأبرار،ثم قابلها تعالى بجزاء متعدد المناحي،و الكيفيات،و الحالات..

********

(1) الكافي ج 5 ص 288 و بحار الأنوار ج 49 ص 106.

ص: 22

فذكر أن الأبرار: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً* وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً..

و أنهم يقولون لمن يطعمونهم: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ و أنهم«لا يريدون جزاء»،و أنهم«لا يريدون شكورا»..و أنهم«يشربون من كأس كان مزاجها كافورا»،و أنهم«يفرجون العين التي يشربون بها تفجيرا»..

و بعد أن ذكر هذه الأحوال للأبرار قابل ذلك بجزاء بيّن كثيرا من حالاته،و مفرداته فكان هذا الجزاء«جنة،و حريرا»، «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ » ..حيث قطوف الجنة دانية عليهم،و مذللة لهم تذليلا.. «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ » ،و بأكواب إلخ..

لما ذا لم يذكر الحور العين؟:

و ربما يرى البعض:أن اللّه سبحانه لم يذكر الحور العين في جملة مفردات نعيم الأبرار هنا إكراما للزهراء[عليها الصلاة و السّلام]..لأن السورة نزلت في علي،و فاطمة،و الحسنين[عليهم السّلام]..

و نقول:

إنه ليس لدينا ما يمنع من أن يكون هذا التكريم مقصودا،و لكن لا بد أن نضيف إلى ذلك:

أولا:لأن لهذه السورة الشريفة خصوصية تنفرد بها فيما يرتبط ببيان طبيعة الجزاء الذي أعده اللّه سبحانه للأبرار،فإن عمدة ما أشارت إليه من مفردات هذا النعيم،هو حالات من النعيم المعنوي،و اللذات التي يدركها الإنسان بمشاعره،و فكره،و عقله،و روحه،من حيث إنها تعبير عن مقام سام،و عن تكريم و إجلال و تقدير..

بل إنه حتى حينما تحدث تعالى عن أمور حسّيّة،فإنما ساقها

ص: 23

بطريقة توحي بحالات و معان،تثير لذات معنوية،روحية،و شاعرية،أكثر مما هي مؤثرة في النعيم الحسي،و اللذة الجسدية..

فمثلا:جعل جزاءهم نفس الجنة،لا مجرد دخول الجنة و السكنى فيها،و ذلك يشير إلى أن المطلوب هو إثارة الشعور بالمالكية،و القدرة، و التصرف من موقع المالك،لا من موقع الساكن و النزيل،فإن من يشعر بملكية الشيء يكون تصرفه فيه أقوى و أعمق،و تراوده مشاعر طمأنينة، و ثبات و سكينة أقوى.

كما أنه تعالى قد ذكر في هذه السورة لذة الاستحقاق،و لذة الجزاء..

بعد معاناة الجهد،و الضعف،و الحاجة،من قبل أولئك الأبرار،و ذكر أيضا لذة رفع الجهد،و زوال الضعف،و دفع الحاجة،و لذة الكمال،و لذة العطاء بعد المعاناة..

و بيّن في هذه السورة المباركة أيضا حالات التصرف و آفاقه،فلاحظ قوله: مُتَّكِئِينَ ، فإنها تلمح إلى لذة القدرة على التصرف،و إلى التصرف الفعلي الذي يحسّ الإنسان بلذته فعلا أيضا..و ستأتي بقية التفاصيل..

فإذا قارنت هذه اللذات المعنوية التكريمية بأنواع تلك الأعمال التي تصدى الأبرار لها،فإنك ستجد تناسبا عجيبا فيما بين طبيعة الأعمال و طبيعة الجزاء عليها..

فإن الوفاء بالنذر،و الخوف من ذلك اليوم،و إطعام الطعام في تلك الأحوال التي وصفناها،و بهذه الروحية التي بيّنها القرآن،و كون الهدف هو رضا اللّه،و ليس الحصول على النعيم و الجنان..ثم تفجيرهم للعين تفجيرا بالعمل الصالح..و..و-إن كل هذا-يناسب تماما مفردات هذا

ص: 24

النعيم المعنوي التي وردت في هذه السورة على أنها جزاء على صبرهم..و هذا الجزاء هو الذي يحقق طموحاتهم،و ما يفكرون فيه..

ثانيا:هناك أمور كثيرة ذكرها اللّه سبحانه في سائر السور القرآنية، على أنها من مفردات النعيم و لم تذكر هنا،فهو لم يذكر مثلا أنهار العسل،و أنهار اللبن،و النخل،و الرمان،و غير ذلك،فعدم ذكر الحور العين هنا لعله لأن المورد ليس من موارد الجزاء بها..

«جنّة»:

و حول كلمة«جنّة»نشير إلى ما يلي:

1-قد أشرنا آنفا إلى أن اللّه تعالى قد جعل جزاء الأبرار نفس الجنة،و ليس جزاؤهم مجرد السكنى فيها..و قد قلنا:إن تصرف المالك في الدار مثلا أقوى و ألذّ،و أرضى له من تصرفه فيه كنزيل..

2-لقد قال تعالى: جَنَّةً بتنوين التنكير،ليظهر أنها فوق حدود التصور،فلا مجال لمعرفة حقيقتها،و وعي أوصافها و خصوصياتها.

فالتنوين إنما هو لأجل تفخيمها،و تعظيمها بما لا مزيد عليه.

3-إن نفس إبهام هذه الجنة يهيئ لخاطر هؤلاء الأبرار لذة أخرى، و هي لذة محاولة استحضار ذلك النعيم.لا ليكون خيالا لذيذا،بل ليكون تصورات لها تطبيقاتها الواقعية..

فلهم إذن لذتان:

إحداهما:تأتي من خلال التفكير في هذه الجنة و عظمتها و فخامتها.

و الأخرى:هي الاستفادة من الجنة مباشرة..

و حتى حين يكون الأبرار في الجنة،فإن لذتهم ستتضاعف،إذا شعروا أن هناك درجات،و حالات من النعيم،أعدها اللّه لهم،لو طلبوا

ص: 25

شهودها لوجدوها،و لكن هذا الشهود و الكشف،لا بد أن يأتي بصورة تدريجية،لأن تصوراتهم قد تكون قاصرة عن نيل آفاقها،و عن إدراك حالاتها الجمالية،و غير ذلك مما هو فيها،في آن واحد.

«جنّة و حريرا»،لما ذا؟:

و يرد سؤال:إنه إذا كان سبحانه قد جعل الجنة جزاءهم،فإن الحرير سيكون أحد مفردات النعيم فيها،فلما ذا قال: جَنَّةً وَ حَرِيراً؟!

و قد يقال في الجواب:إن هذا من باب التفصيل بعد الإجمال،فإن اللّه سبحانه قد جازاهم بالجنة فقط،ثم فصل لهم حالاتها و حالاتهم فيها، فلا يوجد هناك سوى جزاء واحد..قد بيّنه اللّه على هذا النحو.

و نقول:قد يناقش في هذه الإجابة بأن هذا الكلام قد يكون صحيحا بالنسبة لما ورد بعد قوله:«و حريرا»..و لكنه قد لا يكون ظاهرا،و لا مقبولا،بالنسبة لهذه الكلمة بالذات التي عطفت على الجنة بالواو، و العطف يقتضي المغايرة.

غير أننا ندفع هذه المناقشة:بأنه يكفي في التغاير أن يكون بالعموم و الخصوص،فيذكر الأمر الجامع أولا،ثم تخصّص بعض مفرداته بالذكر لغرض ما،و هذا كما تقول لمن تريد أن ترغّبه في زيارتك:ائت إلينا، و سنقدم لك قصرا مجهزا بكل ما تحب،و فيه مقاعد وثيرة،و لوحات زيتية رائعة و..و..الخ..

و يبقى سؤال،و هو:لما ذا اختار اللّه سبحانه و تعالى هذا النوع من التعبير؟

و لما ذا اختص ذلك بالحرير دون سواه من مفردات نعيم الجنة؟!.

و الجواب:أن المراد هنا هو الإشارة إلى أن هذا الجزاء على نحوين:

ص: 26

أحدهما:ثابت و مستمر.و هو وجود الجنة،و وجود الحرير..

و الآخر:هو حالات و تصرفات تتصرّم و تنقضي،لأنها مرهونة بإرادة أولئك الأبرار أنفسهم،و يتجلى ذلك في قوله: «مُتَّكِئِينَ » ، «وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها» ، «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ » ،«و يسقون»،الخ..

فهو يذكر تصرفات و أحداثا لها بداية و نهاية،و هي تابعة لإرادة الأبرار..أما الجنة و الحرير فليسا من هذا القبيل..بل هما من الأمور العينية،و لذتهما قائمة في نفس ذاتهما.و ليست اللذة بالفعل و بالحدث المتصرّم.

الجنة و الحرير أولا:

و قد بدأ بالحديث عن الجنة و الحرير باعتبار أن إدراك الإنسان للذة الحسية أسرع من إدراكه للذة المعنوية و الروحية التي تحتاج إلى وسائط.

فلبس الحرير يلذ للإنسان،لكن تذليل القطوف،و دنو الظلال..يحتاج إلى وسائط لوعي مفهوم التكريم فيه.و هو مفهوم لا يكفي أن يتصوره الإنسان،بل لا بد لكي تنشرح نفسه له من أن يدرك أنه هو المقصود به، و أن يدرك أنه لم يأت على سبيل الصدفة،بل هو عمل مقصود لفاعله المختار.

و حين يطاف عليهم بآنية،فعليه أن يدرك أولا وجود مخلوق يحمل آنية،و يطوف عليه بها،و أن يدرك أن هناك إرادة وراء ذلك التطواف بالآنية،ثم أن يدرك أن لهذا الفعل هدفا،و أن هذا الهدف هو تكريمه..

فهذه وسائط عديدة لا بد له أن يمر بها قبل أن تنشرح نفسه لهذا التطواف بالآنية.

و الاتكاء على الأرائك أيضا يحتاج إلى وسائط لإدراك لذته..و من

ص: 27

هذه الوسائط إدراك المتكئ أنه قد حصل على ما يرغب في الحصول عليه،و التفاته إلى فراغ باله منه..ثم إرادة المتكى للاتكاء نفسه،و كذلك إرادة أن يكون ذلك على الأرائك،ثم إرادة أن يكون هذا الاتكاء تعبيرا عن ذلك الحصول،و تجسيدا لفراغ البال بهذه الكيفية،و أن يشعر بأنه يمارس حريته الفردية في الاستفادة من هذا الفراغ الحاصل..

الجنة أولا:

و من جهة أخرى،فقد قدّم ذكر الجنة في الآية على ذكر الحرير..

لأن إعطاء الجنة معناه:إعطاء مختلف اللذائذ الحسية،فضلا عن غيرها.

و هي الأوضح،و الأصرح،في النعيم،و في التكريم.

و تبدأ اللذة فيها بنفس اسمها حيث يشعر من يكون فيها:أنه محاط، و مغمور بالنعيم و بالنعم،و أن كل شيء فيها حسن جميل،ثم هو لذيذ و محبوب و مطلوب..

ثم ثنّى بذكر الحرير الذي تكون لذته أيضا حسيّة،لا يحتاج نيلها إلى أكثر من ممارستها.و لكن الحرير إنما يعبر عن نفسه،و لا يعبر عن سائر النعم التي في الجنة..

ثم يذكر بصورة متعاقبة تلك النعم التي يحتاج إدراكها إلى توسيط وسائط،و يحتاج نيلها إلى حركة نحوها،و التي هي في الحقيقة تصرفات و ممارسات مختارة في تلك الجنة..

أضف إلى ذلك:أن التنعم بالجنة إنما هو بنفس الكون فيها،أما التنعم بالحرير،فيحتاج إلى الالتفات،و الترجيح له،و اختياره،و إرادة لبسه،ثم لبسه فعلا،و إلى التقلب فيه.

***

ص: 28

الفصل الثالث عشر: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً

اشارة

ص: 29

ص: 30

قال تعالى:

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ .

«متّكئين»:

ثم شرع سبحانه بذكر تفاصيل مفردات النعيم الإدراكي و المعنوي، الروحي،و الشعوري،فبدأ أولا بذكر صفة الاتكاء في الجنة للأبرار،دون ما سواها من الصفات،و لعل سبب ذلك:أن الاتكاء هو نتيجة الشعور بالكمال و بالغنى.و هو أول مراتب النعيم،و هو مفتاح كل لذة في الجنة كما سنرى.

و التنعم بالاتكاء يحتاج إلى التفات،و ترجيح لفعل على سواه،ثم إلى اختيار و إرادة،و حركة و فعل،و أريكة،و جلوس عليها.و هو-كما قلنا-يشير إلى العديد من الخصوصيات،من قبيل:الشعور بالسكينة، و فراغ البال،و سكون الخاطر،و الرضا الناشئ عن وصول الإنسان إلى كماله،و إلى القوة بعد الضعف،و إلى الغنى بعد الحاجة،و إلى الواجدية بعد الفاقدية.

إنها جلسة الآمن المطمئن،الذي لا يحذر شيئا،إذ لم يعد هناك مجهول..و ليس هناك ما يخاف منه،و لم تعد هناك أية حالة ترقب،فقد أصبح الآن في منازل الكرامة الإلهية،و حقق الاتصال بمصدر القوة، و محل الفيوضات.

هذا كله بالإضافة إلى أن في ذلك تعبيرا عن الاعتزاز و الغنى،

ص: 31

و إعلانا بهذا الإكرام الإلهي..إنها جلسة تعبر عن الحقيقة،فلا تصنّع فيها، و لا يرى نفسه بحاجة إلى أي تظاهر بغير الواقع،و ليست هي جلسة استكبار و جبروت،كما هو حال الفراعنة و الجبارين..

إنها الحالة الطبيعية،و العفوية و فيها يتجلى انسجام هؤلاء الأبرار مع كمالاتهم،و مع كرامة اللّه لهم،فهم إذن لا يحتاجون إلى ذلك التصنع، و لا إلى الاستكبار،فإنهم الذين يملكون اللذة و لا تملكهم.و هم يدركون أن لذة الاستكبار،ممزوجة بالخوف من السقوط،و من سوء العواقب.أما لذتهم هم فهي العاقبة لهم،و هي المصير.

«فيها»:

و تأتي كلمة«فيها»بعد كلمة متكئين مباشرة،حيث قال: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ و لم يقل:«متكئين على الأرائك فيها»..فيرد سؤال عن سبب هذا التقديم لكلمة:«فيها»؟!..

و قد يكون الجواب هو:أنه إنما قدم كلمة«فيها»لكي لا يحصل أي شعور بانفصال عن الجنة،و لو بمثل حد السيف،حتى في مجال التخيل، و التصور و الوهم،أو الإحساس العابر.و بذلك تتم لهم اللذة التصورية الفكرية الروحية،و لا تهتز تلك الطمأنينة التي تتمثل بالحديث عن الاتكاء.

«الأرائك»:

و السؤال هنا هو:أنه تعالى قال: عَلَى الْأَرائِكِ ، و لم يقل على الكراسي،أو المقاعد،كما أنه لم يقل:«على العروش»،فإذا كانت كلمة مقاعد و كراسي لا توحي بشيء سوى التجافي عن الأرض،فإن كلمة العرش تفيد معنى السلطنة،و الهيبة،و العظمة،و القدرة..

ص: 32

و الجواب:

لعل سبب اختيار كلمة اَلْأَرائِكِ على ما عداها هو أن الأريكة هي الفراش الوثير،الذي يكون على الأسرّة في حجلة العروس.

فلعله يريد أن يفهمنا:أن لذة الجنة هي للجنة من حيث هي جنة، و هي لذة حقيقية و طبيعية،و ليست لذة تخيلية،أو فقل تصورية،و لا هي لذة الشعور بحالة العنفوان الداخلي،و الاستكبار،أو الشعور بالعظمة الذي يكون لدى المتسلطين،فإن هذه لذائذ تخيلية تصورية،و ليست واقعية..

أما الاتكاء على الأرائك في حجلة العروس.فيعطي الإنسان لذة واقعية ينساق إليها الإنسان بفطرته،و بأحاسيسه.فهو يلتذ بالمحيط من حوله،و بالفراش الوثير،و بوجوده في جو السرور؛لذة حقيقية.و ليست لذة ناشئة عن تضخيم الأمور بالأوهام و التخيلات،و بالعناوين الكبيرة و الفضفاضة..

و قد جاءت كلمة فِيها لتؤكد على هذا النعيم الحقيقي،من حيث إن اللذة ناشئة من نعيم في الجنة نفسها.

و من أن الجلوس على الأريكة كان جلوسا طبيعيا في هذه الجنة بالذات.فلا مكان للتخيل و لا للخيال.

هل هي لذة الفراغ؟

:

و قد يحلو للبعض أن يثير سؤالا هنا فيقول:ليس للفراغ و الكسل و الخمول لذة..و الحديث عن الأرائك يوحي لنا بهذا الفراغ و الخمول؛ فكيف يمكن قبول ذلك؟!.

و نقول:

إن لذة عمل الصالحات،ليست ناشئة من مجرد الحركة الجسدية،

ص: 33

أو من نفس حركة الفكر،و إلا لكان يكفي في حصولها مجرد العبث.

و لكان أكثر الناس عملا،و جهدا جسديا و فكريا،هم أعظم الناس لذة، مع أن الأمر ليس كذلك..

فإن الحقيقة هي أن اللذة إنما تنشأ من الشعور بأن بذل الجهد رافع للنقص،محقق للكمال،و للتناسق و الانسجام في قضايا حساسة تهم الإنسان،و يسعد بحصولها،أو بكونها على حالة معينة..

نعيم الأبرار:

و لتقريب هذا الأمر نقول:

لو أن أشخاصا دخلوا روضة غناء،رائعة في مباهجها و في مزاياها.

و كان أحدهم رساما،و الآخر عالما،و الثالث تاجرا مثلا،و هكذا..ثم كان أحدهم ذكيا،و الآخر غبيا،و الثالث حساسا،و الرابع بليد الإحساس..

فإنك ستجدهم يختلفون في إدراك جماليات تلك الروضة،و في الابتهاج لها،و التلذذ بها..

كما أن موجبات اللذة لأحدهم قد تختلف عن موجباتها لغيره.فهذا يلتذ بالألوان،و ذاك يلتذ بحالات التناسق،و ثالث يلتذ بالأحجام الكبيرة، و آخر يلتذ بدقائق الصنع،و لطائفه..و ما إلى ذلك..

و في نفس السياق، نقول:قد تكون لذة هذا بالأطعمة،و آخر بالمبصرات،و ثالث بالمقامات،و رابع بالرضا الإلهي..و خامس بالحالات و الكيفيات،بل قد تكون اللذة لدى بعض الناس،بالخضوع للآخر، و الانقياد له،و العيش في كنفه،و في ظله..

أضف إلى هذا و ذاك: أن اللذة في الجنة إنما يصنعها لك عملك، و جهدك،و نواياك،كما أن من خلال عملك هذا،تتكون لك قابليات

ص: 34

و تحصل استعدادات لتلقي هذا النوع من النعم،أو ذاك..

فأنت تلتذ بالشجرة التي غرسها لك تسبيحك،و الآخر يلتذ بالقصر الذي حصل عليه بحجّه إلى البيت الحرام،أو بغير ذلك من أعماله، و آخر يلتذ بالحورية التي أوصله إليها بره بوالديه..

و في مثال آخر نقول:

لو أن النجار دخل بيتا قد صنع هو أبوابه،و خزائنه،و مقاعده، و غيرها،فسيلتذ بما يراه من جمال الصنع فيها،و سيشعر بالفخر و الاعتزاز،من خلال إحساسه بأنه هو الذي استطاع أن يرفع نقصا، و يحقق كمالا و لو بنسبة معينة،بالرغم من أنه قد أخذ أجره،و انته من عمله قبل سنوات..

و إذا رأى فيها خللا أو نقصا،فسيحزنه ذلك،و سيأسف له.و لو أنه عرف أن هناك من عبث بتلك الأشياء و شوّهها عن عمد،فسوف يكون مستاء منه،لائما له،ناقما عليه..

كما أن ذلك الشخص العابث نفسه،لو دخل على ذلك البيت، فسيشعر بالإحراج و الخجل و الضيق أمام ذلك النجار،رغم أنه قد يكون فعل ذلك امتثالا لأمر سيده الذي حسب أن في هذا التخريب كمالا له، أو دفع ضرر،أو نقص عنه.

و بنفس هذه النظرة نعالج الإشكال المتقدم: فإن بذل الجهد،و التعب، و تحمل المسئولية في الجنة ليس هو منشأ اللذة،كما أن الفراغ ليس منشأ للملال،و الخمول،و الكسل.لأن الذي يجعل العمل لذيذا هو كونه مسبوقا بالتعب،و بألم الحرمان و النقص.و لا نقص،و لا فقدان،و لا حرمان،و لا آلام،و لا تعب في الجنة ليكون العمل لذيذا من حيث كونه

ص: 35

رافعا له.بل ذلك من خصوصيات عالم الدنيا،التي هي عالم النقص و الفقدان.

بل اللذة في الجنة إنما هي بالشعور بالغنى باللّه،و بالكمال، و بالواجدية الحقيقية،و بحالات الجمال الواقعية،الناشئة عن رؤية الانسجام و التناسق الواقعي بين الأشياء،و بذلك يتحقق الرضا الواقعي.

و ليس للجهد الجسدي أي دور في هذا الشعور.

إن الفراغ ليس مملولا لأهل الجنة..بل هو لذيذ لهم..تماما كما هو الحال في الفراغ الذي يعيشه من يذهب للنزهة أو للاصطياف،فإنه يبقى ساعات و أياما؛يتلذذ بالمناظر الجميلة الخلابة.و بما يراه من تناسق، و كمال،و جمال.و لا يشعر بوجود نقص يدفعه للعمل على رفعه و إزالته.

«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً»:

و الملاحظ:أنه تعالى قدّم كلمة «فيها» على قوله: «شمسا»، كما قدمها في قوله: فِيها عَلَى الْأَرائِكِ .

و قد عرفنا بعض ما ربما يمكن استفادته من هذا التقديم.فلا حاجة إلى الإعادة..

غير أننا نشير هنا إلى أنه قد يقال: لقد كان يمكن الاستغناء هنا عن كلمة فيها.فلما ذا آثر الإتيان بها..

و يمكن أن يجاب: بأن حذف كلمة «فيها» يتضمن تغييبا و سكوتا عن ذكر الجنة،و لو بضميرها.و لربما يغفل الإنسان و لو للحظة،فيتوهم أن فقد الشمس-التي هي مصدر النور،و الدفء،و..و..-سيؤثر على راحته و سعادته،و سينقص منها،و سيواجه الإحساس بالحاجة إليها، فإذا جاء التصريح،بصورة متتابعة ليذكره دائما بأنه موجود في الجنة،

ص: 36

فإنه سيبقى مطمئنا إلى أن ما سيفقده لا بد أن يكون أمرا لا يناسب محيط الجنة؛بل يكون وجوده هو المضر..و قد استبعد لأجل ذلك.

و الخلاصة: أن الشمس حسب ما اعتادوه منها قد تؤذي في حرها، أو في بعض إشعاعاتها،و حتى في نورها في بعض الحالات..فتمس الحاجة إلى الحماية منها.أما في الجنة فإنهم يجدون النور و الدفء، و كل ما يحتاجونه مع أنهم لا يرون فيها شمسا لكي يحتاجوا إلى ما يحميهم منها.

و هذا غاية الغنى. .فإنه إذا كان حصول الإنسان على ما يريد بواسطة شيء بعينه،فإن ذلك يجعله بحاجة إلى ذلك الشيء،و أما إذا حصل على ما يريد من دون واسطة فسيشعر بالغنى،و بالرضا،و بالاعتزاز.

فكيف إذا كان وجود تلك الواسطة،و ذلك الشيء،سيؤكد الحاجة إلى وسائل أخرى تحمي من بعض آثاره أيضا؟!.

«وَ لا زَمْهَرِيراً»:

ثم قررت الآية: أنهم في نفس الوقت الذي لا يجدون فيه الشمس، فإنهم سوف لا يعانون من أية سلبية تترتب على فقدانها..فلا مبرر لأية مخاوف من أن يكون فقدانها معناه فقدان دفئها أيضا،مما سيؤدي إلى مواجهة حالة من البرد الشديد إلى حد الزمهرير،و هذا سوف تنشأ عنه متاعب لا بد من التخلص منها.

فجاء التطمين الإلهي لهم ليقول: إن عدم رؤية الشمس لا يعني الابتلاء بسلبيات فقدانها.بل الأمر على عكس ذلك تماما.

و من جهة أخرى،فإنهم يقولون: إن الزمهرير في لغة طي هو القمر..

فلعل المقصود بيان أن النور في الجنة لا يحتاج في تحققه إلى شمس،

ص: 37

و لا إلى قمر.

غير أن ذلك يحتاج الى إثبات أن يكون القرآن قد استفاد من لغة «طي»في خصوص هذا المورد،و هو ما يحتاج إلى دليل،و إلى مبرر، و كلاهما مفقود.

تعلق النفي بذات،و بصفة!!:

و ملاحظة أخرى هي:أنه تعالى قد نفى الحر و البرد،و نفى أيضا الليل،و الحاجة إلى الشمس،بتعبير واحد،و ذلك حين قال: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً.

و قد تعلق النفي للشمس و للزمهرير،بأسلوب الرؤية لذات الشمس، و نفي رؤية البرد،و نفي درجته و مستواه و هو صفة الزمهريرية.لأنها هي التي تسبب الأذى للإنسان..أما البرد نفسه فإنه لم يرد أن ينفيه،لأنه قد يكون لذيذا في بعض الحالات،كما لو جاء في قسوة الحر،ثم هو يعطي الجو لطافة و لو بدون وجود حرّ،و لذا توجه النفي في الآية إلى خصوص الحالة المؤذية من البرد،و هي الزمهريرية..و لم ينف البرد اللطيف الناعم في أيام الربيع مثلا.

«لا يَرَوْنَ »:

و قد نفى اللّه تعالى رؤية «الزمهرير» في الجنة،مع أن الزمهرير لا يدرك بالباصرة،و لا تقع عليه الرؤية،بل هو مما يدرك بالحسّ..لأن المراد هو نفي وجود الشمس و الزمهرير،بواسطة نفي رؤيتها،و ذلك يلازم نفي آثارهما..لأن الزمهرير و إن كان لا يرى بالبصر،لكن إحساس الإنسان بالحر و البرد جسديا قد يكون كاذبا أيضا..فأراد تعالى بقوله:

لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً، أن يؤكد على حقيقة:أن الإحساس

ص: 38

بالزمهرير،يكون قويا،حتى كأنه يتجسد له،و كأنه يراه بعينيه،ثم هو قد جسده له بالفعل،و جعله حقيقة ماثلة له،يراها رأي العين،ثم أورد عليها النفي بكلمة«لا».

«شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً»:

أما بالنسبة لتنكير لفظي الشمس و الزمهرير،فإنما هو لإفادة عموم النفي،حتى لا يدخل في الوهم أن لكل عالم من العوالم شمسه التي تناسبه،و حره و برده الناشئ عن أسبابه الخاصة به..فجاء النفي لجميع ما يمكن أن يتوهمه الإنسان في هذا الاتجاه..ليعيش الإنسان الطمأنينة الحقيقية،التي هي من موجبات سعادته التامة و الحقيقية،و النعيم المقيم..

اللف و النشر المرتب:

و قد ذكرت الآية السابقة الجنة أولا..و في الآية الثانية ذكر الاتكاء أولا،لأن الاتكاء يناسب الكون و الحضور في الجنة..

و في الآية الأولى ذكر الحرير ثانيا..و في الآية الثانية ذكر عدم رؤيتهم للشمس و لا للزمهرير ثانيا..و هذا يناسب لبس الحرير،الذي هو الأفضل في المواقع التي ليس فيها شمس و لا زمهرير،و لا حر و لا برد، فتكتمل لهم بذلك اللذة الجسدية.

ففي الآيتين لفّ و نشر مرتب لأجل الإشعار بهذه اللطائف،كما هو ظاهر.

***

ص: 39

ص: 40

الفصل الرابع عشر: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً

اشارة

ص: 41

ص: 42

قوله تعالى:

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً.

«وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها»:

ثم إنه برغم أن الشمس غير موجودة فعلا،فإن الظلال موجودة بالفعل،لكي تعطي المنظر العام حالة جمالية رائعة،و تناسقا بديعا،إذ إن اللذة لا تكون دائما في الظل من حيث إنه من موجبات التوقي من حرارة الشمس أو من نورها،بل هناك لذة الإحساس بالتناسق العام، حيث تكمل به الملامح الجمالية للطبيعة.

فالعين التي فيها بياض،إنما تصبح جميلة،بالسواد المتحرك فيها، و الخال الأسود على الخد يعطي ذلك الخد المخالف له في اللون المزيد من الروعة الأخاذة،و الجمال البديع..إذ إن مجرد أن تتشارك الأشكال و الألوان،و الظلال في إعطاء الانطباع،لهو مما يزيد الطبيعة جمالا، و روعة،و رونقا..

و من الأمور الطريفة ما يذكرونه:أن رساما هنديا أهدى لملكه صورة لعصفور يقف على سنبلة.و كانت رائعة الجمال..فأعجب بها الملك و وضعها للناس،و جعل جائزة لمن يظهر فيها عيبا..

فعجز الناس عن ذلك،إلى أن جاء رجل عجوز،و قال:إن في الصورة عيبا مهما،فسأله الملك عنه،فقال:إنه حين يقف العصفور على السنبلة فلا بد أن تنحني شيئا قليلا،بسبب ثقله،و ضعفها،و الرسام لم

ص: 43

يظهر هذا الانحناء..

فربح ذلك العجوز جائزة الملك بهذه الملاحظة.رغم أنه لا توجد أية مشكلة في رسم ملامح العصفور،و لا في رسم السنبلة ذاتها.

و الخلاصة:أن للظلال دورا هاما في تجسيد الكمال،و إبراز معالم الجمال..فالانحناءة البسيطة التي فقدتها تلك الصورة،قد أفقدتها جانبا من الروعة كان منوطا بها،و بالتالي،فإن الإحساس باللذة سوف يتضاءل تبعا لذلك..

و علينا أن لا ننسى أن عدم إدراك فريق من الناس لفقد تلك الخصوصية لا يدفع حقيقة وجود هذا النقص فيها،و لا يقاس إدراك أهل الدنيا للأمور بمستوى و حقيقة إدراك الأبرار لها في الجنة،لأن إدراك أهل الدنيا يحتاج إلى وسائط،و إلى أهلية و استعداد مع وجود حجب و موانع كثيرة،تحول بينهم و بين ذلك..أما الأبرار فلا يعانون من أي شيء من ذلك،بل هم فوق مستوى البشر من هذه الناحية.حيث يشعرون بحقائق الأمور بصورة أعمق،و أصبحت لهم علاقة مباشرة مع واقع تلك الحقائق..لأن أعمالهم الحسنة في الدنيا هي التي أوصلتهم إلى هذا المستوى من الإدراك و الوعي في الآخرة،بعد كشف الغطاء عنهم، حيث لم تعد هناك حجب دنيوية،و تساقطت وسائل الإدراك التي قد لا تستطيع إعطاء الصورة ما يكفيها من النقاء و الصفاء..

أما الأبرار الحقيقيون،و هم أهل البيت عليهم السّلام،فإن الغطاء كان مكشوفا عنهم،منذ أن أشهدهم اللّه خلق كل شيء..

و على كل حال،فإن للظلال لذّات عظيمة لا يريد اللّه أن يحرم الأبرار منها.

ص: 44

و ما أجمل الظلال الدانية،دون أن يكون هناك ما يحتاج الإنسان إلى أن يتظلل منه.

و قد جعل اللّه سبحانه الأبرار هم المحور لهذه الظلال،فجاء بكلمة «عليهم»مقدما لها على الظلال.فقال: عَلَيْهِمْ ظِلالُها.. تماما كما صنع بالنسبة لكلمة فيها..حينما كانت الجنة هي المحور،حسبما تقدم..

أضف إلى ما تقدم:أن وجود الظلال يساعد على إدراك حقيقة النور و قيمته،و يعطي الفرصة لتنويع الاستفادة من كل الحالات و الأوضاع،فلا يشعر الإنسان أن شيئا ما قد فرض عليه،و لم يعد بإمكانه الاستغناء عنه.

هذا بالنسبة لغير المعصومين.أما المعصوم فلا يحتاج إلى مساعدته على إدراك أي حقيقة..

ثم إن فقد الشمس لا يعني أن لا تبقى حاجة إلى بعض آثارها،لكن الشعور بالغنى عن الشمس مع الحصول على آثارها،و ما يراد منها،هو الغاية في النعيم التي ما بعدها غاية..

بل قد يكون وجود شمس لا حاجة إليها في التأثير مسيئا للناحية الجمالية،و مفسدا للتناسق العام.

العطف بالواو:

ثم إننا إذا راجعنا الآيات الكريمة في هذه السورة فسنجد:أنه تعالى يعطف بالواو جملة،ثم يأتي بما هو منصوب على الحال،ثم يعطف عليه حالا أخرى بالواو..ثم يعود لعطف جملة أخرى على الجملة،التي سبقت الحالين معا..

فهو يقول: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ .. إلى أن يقول: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..

ص: 45

فهو يقول: فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً* وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً* مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً* وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً* وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ .. إلى أن يقول: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ..

فهو في هذه الآيات يستعمل الفعل الماضى المبني للمجهول «ذلّلت»،و المبني للمعلوم«وقاهم»،«لقّاهم»،و اسم الفاعل«متّكئين»، «دانية»،و المضارع المبني للمعلوم«يطوف»،و المبني للمجهول«يطاف»، و مع الواو«و دانية»،و بدونها«متّكئين».

و لكل حالة من هذه الحالات خصوصية مستقلة،أو تابعة يراد إبرازها،و الاستفادة منها..

و مثال ذلك:

أنك تارة تورد الحالة أو المعنى المستقل،فتقول:هذا فلان..

و مرة يراد بيان أحوال و أوصاف متضادة لذلك الموصوف،كقولك:

فلان شجاع و عالم و نجار..

و تارة ثالثة تورد الكلام لتثبت للموصوف صفة،ثم تتبع تلك الصفة ببيان تفاصيلها و حالاتها،كقولك:فلان عالم؛دقيق النظر،متبحر،محقق..

فالأوصاف الأخيرة إنما هي لبيان حالات العالم.و كذا لو قلت فلان شجاع؛يقاتل ساعات طويلة،يهاجم الألوف،و لا يلبس درعا،و لا يهاب الموت..أو قلت:هو نجار ماهر،يصنع الأبواب،و الخزائن،و الكراسي، و المناضد،و كل ما يطلب منه..

و قد جاء قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً وفقا للنحو الثاني،و قوله: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها

ص: 46

وفقا لهذا النحو الأخير،لأن فيه بيان حالهم،من حيث إنهم: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً..

«و دانية»:

ثم إنه يلاحظ هنا:

ألف-إنه تعالى قدم الحديث عن دنو الظلال على الحديث عن تذليل القطوف.و هذا أمر طبيعي،فإن لذة الاستقرار و السكينة تطلب قبل لذة الطعام.

ب-إنه بدأ بكلمة«و دانية»،و لم يبدأ بكلمة«ظلالها»،ربما ليبقى المحور و المرتكز هو الأبرار أنفسهم،حيث يراد أن يظهر لهم و لغيرهم:أنهم هم مورد العناية،و أن كل شيء في الجنة إنما هو لأجلهم.

و لو أنه بدأ بالحديث عن الظلال لحدث-و لو على مستوى التخيل و الشعور-إحساس بأن الظلال دانية هناك بطبيعتها،و ليس بالضرورة أن يكون ذلك لأجلهم،فهي دانية بذاتها،ثم يستفيد منها من يرغب بذلك، مع أن المقصود هو أن دنو الظلال قد كان فعلا إلهيا تكريميا هم المقصودون به بأعيانهم و بأشخاصهم.

ج-و أما اختيار التعبير بكلمة«دانية»حيث لم يقل:و هم تحت ظلالها،أو نحو ذلك،فلعله ليشير إلى أن الظلال قريبة منهم،و عليهم، و لكنها ليست بحيث تفرض وجودها عليهم،أو أنهم مستغرقون فيها إلى حد يجعلها جزءا من واقع حياتهم،بل إن دنوها منهم و عليهم لا يضر باستقلاليتهم،و لا في إمكانية الابتعاد عن هذه الظلال متى شاءوا.

د-إن كلمة«دانية»اسم فاعل،يفيد الثبوت و الدوام،و فعلية الاتصاف به.

ص: 47

«عليهم»:

ثم إنه سبحانه قال: وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها، و لم يقل:«دانية إليهم»..

فلعله لأجل أن يشير إلى أن ظلال الجنة ليست مثل ظلال الدنيا..فظلال الجنة تحتضن الأبرار،و هي رفيقة بهم،حانية عليهم.

و لو أنه قال:«دانية إليهم»،لم يفهم منه معنى احتضانها لهم،بل يفهم منه مجرد قرب الظل منهم..كما هو الحال في ظلال الدنيا؛التي تنشأ من الحيلولة بين الشاخص،أو الشيء،و بين مصدر النور،أو الوهج،فيستأثر ذلك الشاخص الحائل بدفقات النور و الوهج،و يمنعها من الوصول،فلا تصل إلى ما يقع الظل عليه.

و هذا معناه:أن ثمة مؤثرات تتحكم في مدى قدرة هذا الظل على الانتشار و الانحسار،مما يعني أنه قد يستفيد منه فريق،و يحرم منه آخرون،لمعنى كامن في الظل نفسه يؤكد قصوره هنا،أو يفرض انتشاره و حضوره هناك.

أما في الآخرة و في الجنة بالذات فإن الظل لا يعاني من أي شيء من هذا القبيل،و ليس فيه أي قصور،بل يكون هو الداني عليهم، و القاصد إليهم،و المحتضن لهم.ففعل الدنو و الاحتضان صادر منه هو، و ليس نتيجة حركة و اقتراب أو حضور و غياب،يفكرون فيه،ثم يختارونه،و يقصدون إليه.

مفردات نعيم الجنة:

و واضح:أن مفردات نعيم الجنة لا تشبه مفردات نعيم الدنيا،و إن تشابهت الأسماء.فالفضة في الآخرة هي كالزجاج و القوارير في صفائها، و ليست كذلك فضة الدنيا،و إن كان لا بد من وجود شبه يصحح إطلاق

ص: 48

الاسم..و كذلك الأنهار التي هي من لبن أو من عسل مصفى.

و هكذا يكون الحال بالنسبة لخمر الآخرة،فإنها ليس فيها غول(أي أثر سلبي)،و هي أيضا لذة للشاربين،مهما شربوا،و لكن خمر الدنيا لا يمكن الالتذاذ بها حين ذهاب العقل.

و قبل ذهاب العقل لا تكون اللذة بخمريتها،بل بشيء آخر، كالحلاوة أو الحموضة أو نحو ذلك مما لا يكون هو المقصود للشارب، إذ المقصود هو غيبوبة العقل،و حين حصول المطلوب لا توجد لذة لأن العقل إذا فقد؛فقد الإحساس باللذة.

و كذلك الحال في طرف العقوبة،فإن الروايات قد دلت على أن نار الآخرة لا تشبه نار الدنيا،إلا في الاسم..

و على كل حال،فإن اللّه سبحانه قد ذكر في القرآن الكريم مفردات كثيرة و متنوعة للنعيم،و في هذه السورة المباركة شطر منها..و لا شك أن في بيانها فائدة عظيمة،من حيث تأثيرها في عمق الإيمان،و في إيجاد الحوافز للسعي لنيل رضا اللّه سبحانه.و في شفاء صدور قوم مؤمنين، و غيظ أعدائهم،و ما إلى ذلك..

تقديم كلمة«عليهم»:

و قد يتساءل البعض عن سبب تقديم كلمة«عليهم»على كلمة «ظلالها»،حيث لم يقل:و دانية ظلالها عليهم..

و ربما يكون الجواب قد علم مما تقدم،فإنه تعالى لا يريد أن يدخل في خيال أحد الأبرار-و لو للحظة واحدة يفرضها التدرج في التعبير و البيان-أن ثمة فصلا بين الأبرار و بين النعيم،أو أن يتوهم أحد:

أن دنو الظلال في الجنة،إنما هو الحالة الطبيعية،فأراد أن يعرفنا:أنه دنوّ

ص: 49

لهم،و لأجل إعزازهم،و تكريمهم.و ليس هو حالة ثابتة للجنة،و لا ترتبط بالأبرار..

الضمير في«ظلالها»:

و الضمير في قوله تعالى:«ظلالها»يعود للجنة،لا للشمس،فشجر الجنة له ظلال دانية عليهم،رغم عدم وجود شمس تكون في هذه الجهة،أو في تلك،و يتحكم في بعدها و دنوها نظام بعينه،بل الظلال الموجودة إنما تتحكم بها إرادة و رغبات أهل الجنة،فالظلال خاضعة لإرادتهم،تابعة لرغباتهم،لأنهم هم المقصودون بالكرامة،و الإعزاز،و يراد لهم أن يصلوا إلى ما تشتهيه أنفسهم.

فالظلال لا بد أن تكون بحيث ترضيهم،و تكون سببا في حصولهم على اللذة و النعيم،لا أن تضايقهم،و تصبح عبئا عليهم..

إن تمام النعمة عليهم هي أن يتحكموا بالظلال،لا أن تتحكم بهم الظلال.

و هذا يعطيهم نعيما آخر من خلال إحساسهم بامتلاكهم لقدرات جديدة،حيث يرون في أنفسهم القدرة على التصرف في الأمور التكوينية،بالإضافة إلى لذة الطمأنينة إلى وجدان طموحاتهم،و الشعور بالاستقلالية،و ما إلى ذلك.

«وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً»:

و من مفردات نعيم الجنة التي يدركها الأبرار ببعض الوسائط،تذليل قطوفها لهم في حين هم يرون شموخها،و تحديها،و تمنّعها..الأمر الذي يجعلهم يتلمسون هذا الإكرام الإلهي لهم بصورة حسية و عملية،حيث إن هذا التذليل ليس عملا للأبرار،كما كان الحال في الاتكاء..و ليس هو

ص: 50

مجرد أمر مفقود يدركون فقده،و يتلمسون آثاره كما هو الحال في عدم وجود الشمس و الزمهرير..بل هذا التذليل فعل يكرم اللّه به الأبرار، و يشعرون من خلال حدوثه،و تجدد حصوله لهم،مرة بعد أخرى، باستمرار النظر و الرعاية الإلهية لهم،و هذا يعطيهم المزيد من البهجة و السرور،و السعادة،من خلال الإحساس برضا اللّه،و محبته،و رعايته، و لطفه،فإن هذا غاية النعيم لهم.

يضاف إلى ذلك:أن رؤية الأبرار لهذا التذليل يعطيهم إحساسا بأن الأشياء مسخرة لهم،و هي طوع إرادتهم،و رهن إشارتهم..خصوصا و أن ما يرونه مذللا لهم،قد كان مستعصيا عليهم،و يبذلون تعبا و جهدا من أجل الوصول إليه.و كل ذلك يفتح أمام أعينهم،آفاقا أرحب للشعور بمحبة اللّه سبحانه،و الإحساس بهذا التكريم و التعظيم..

إن الإنسان حين يعمل عملا،و يأخذ مقابله،فإنه لا يحس بالكرامة بمستوى شعور من يرى أن اللّه يعطيه ليكرمه،و ليظهر له المزيد من حدبه عليه،و حقيقة رعايته له..

لأن أخذ الأجر مقابل العمل لا يعبر عن وجود مزايا إنسانية سامية تستحق التقدير،و لا عن وجود خلق رضي،أو نبل و شمم،بل قد يكون العمل نابعا من حبه لنفسه،و من سعيه للحفاظ عليها..و تلك هي عبادة التجار حسب ما ورد عن أمير المؤمنين[عليه السّلام].

«قطوفها»:

القطوف جمع قطف-بالكسر،و قطف بالضم غلط-و هو الثمر الذي اجتني و أخذ.و لكن المراد هنا هو الثمر الباقي على الشجر، و المؤهل للاقتطاف و التذليل،مقابل الاستعصاء و التمنع.

ص: 51

فالقطوف تتمنع بحسب طبعها،و للتغلب على هذا التمنع لذة و نشوة.و لذلك تجد أنه لو جيء لك بقطف لتأكله،فإنك لا تهتم له،و لا تلتذ به بمقدار ما لو قطفته أنت عن الشجرة.

و بذلك يكون اللّه سبحانه قد بيّن لنا:أن في الجنة لذة التذليل، و رؤية حالة الانقياد بعد الاستعصاء و التمنع.

«تذليلا»:

و فائدة الإتيان بالمفعول المطلق هنا هو التأكيد على معنى التذليل، و هي لذة السيطرة و التمكن من الطبيعة.الأمر الذي كان يعجز الإنسان عنه في الدنيا..

إن النعيم في الآخرة،ليس بأكل تلك القطوف،بل هو بالتغلب على امتناعها..و هو ما كان يطمح له في الدنيا،و يسعى للحصول عليه،فكان يخترع له الآلات،و يهيئ الأموال ليستخدمها في ذلك التذليل (1)أما في جنة الآخرة،فقد أصبح كل شيء مذللا،فلا يحتاج إلى جهد،و قد سقط نظام الوسائل بكلمة واحدة هي: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً، لأن نظام الجنة يختلف عن نظام الدنيا.

***

********

(1) إن الأعمال في الدنيا منصبة بصورة عامة على هذا الأمر بالذات،فالإنسان يطلب الولد،و يستفيد من الوسائل الموصلة إليه،و يطلب المال فيتوسل له بالبيع و الشراء، مثلا،و يطلب الحب و الثمر فيتوسل له بالزراعة،و يطلب الشفاء،فيستخدم العلم و المال للحصول عليه،و يطلب الانتقال،فيستخدم وسائله من سيارة و دابة و غيرهما. و يخترع مكبرات الصوت و الطائرة،و يطلب الجنة فيتوسل لها بالأعمال الصالحة.

ص: 52

الفصل الخامس عشر: وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا

اشارة

ص: 53

ص: 54

قوله تعالى:

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا

«وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ »:

لقد وردت كلمة«يطاف»هنا بصيغة المبني للمفعول..و لعله بهدف التوطئة إلى أن يتمحض الحديث عن المطاف به،و هو الأكواب، و صفاتها،و خصوصياتها..

و لكنه فيما يأتي استعمل نفس مادة«ط.و.ف.»،و لكن بصيغة البناء للفاعل..لأن الغرض هناك تعلق ببيان حال الطائفين..

و كلمة«يطاف عليهم»تشير إلى أن هناك كرامة لهؤلاء،و أن ثمة احتراما،و اهتماما بهم..لأن خدمتهم و الطواف عليهم بالأكواب،إما لأجل عجزهم عن الوصول إلى حاجاتهم بأنفسهم،أو لأجل إكرامهم،و إظهار الحب و التقدير لهم.و لا شك بأن الأول غير متصور لأنه لا ينسجم مع ما أريد لهم من النعيم،و راحة البال في الجنة.فيتعين هذا الثاني..

و من الواضح:أن إحساسهم بهذه الرعاية الإلهية يعطيهم أعظم الإحساس باللذة و النعيم..

الكماليات،أم الضروريات؟:

و إذا قرأنا آيات هذه السورة المباركة،فسنجد أن فيها حديثا عن الأمور التي لا بد منها للإنسان في حياته،كالمسكن،و الطعام و الشراب،

ص: 55

و نحو ذلك،و حديثا عن أمور لا تدخل في هذا السياق،بل هي من الكماليات،إن جاز التعبير.

و قد ذكر النوع الأول بما له من مواصفات تثير الشوق و الحنين إليه، و الرغبة به،فذكر سبحانه طهورية الشراب،و لباس الحرير في الجنة، و الاتكاء على الأرائك في مواضع السكنى و الاستقرار،و الوقاية من البرد و الحر،بالإعلان حتى عن عدم رؤية شمس و لا زمهرير..

مما يعني أن المطلوب الأساسي،و هو الطعام و الشراب،و الظل، و الدفء،و السكن،و اللباس،-و هي أمور ضرورية في الحياة-قد بيّنت بمواصفات راقية جدا،و مثيرة للانتباه،و محركة للهمم للوصول إليها و نيلها من خلال العمل لها في عالم الدنيا..

و لا بد أن يحصل للأبرار-في نيل هذه الأمور الأساسية-لذتان؛ لذة تلبية الحاجة،و السكون و الطمأنينة،و الشعور بالوجدان لحاجات رئيسية.و لذة الحصول على تلك الميزات و المواصفات الإضافية،و هي كون السكن هو الجنة،و الملبس هو الحرير،و ما إلى ذلك..

و من المعلوم:أن كل مطيع للّه يدخل الجنة،و ينال من نعيمها الخالد،لكن هناك مستويات و حالات لهذا النعيم لا ينالها جميع من في الجنة،بل ينالها أولئك المقربون،و يفوزون بالتنعم بها،رغم أنها لا تدخل في دائرة ما هو ضروري لهم،بل هي من مظاهر النعمة،و من تجليات التكريم الإلهي.فإن حياة الإنسان لا تتقوم بوجود من يخدمه، و يلبي طلباته،و يقرب له ما يحتاج إليه..إذ يمكنه أن يمارس ذلك بنفسه،و ربما يكون لهذه الممارسة لذتها أيضا..كما أنه يمكنه أن يشرب الماء و اللبن،اللذين لا توصف لذتهما..دون أن يطاف عليه بأكواب كانت قوارير من فضة قدروها تقديرا.

ص: 56

و جهد الإنسان في هذه الدنيا هو الذي يحدد مستويات و مواصفات النعيم في الآخرة.فالإنسان العامل هو الذي يتحكم بمفردات النعيم التي يهيئها اللّه له،و يصنع مواصفاتها،و مقاديرها و أحجامها،و أنواعها،وفقا لقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً.. حيث أعاد الضمير لهم،أي للأبرار المتنعمين كما يظهر.

التنوع في النعيم:

و اللافت:أنه تعالى قد أعطاهم هذا النعيم العظيم،و حباهم بهذا التكريم لترتاح له،و تلتذ به الروح و القلب،و المشاعر،و الأحاسيس الباطنية،تماما كما أعطى للجسد ما يناسبه من أنواع النعيم المادية.

و النعيم الذي يهتم بإبراز معالمه هنا،هو نعيم روحي معنوي بالدرجة الأولى،يرتبط بالإدراك العقلي،و بالإحساس الروحي للمعاني السامية و الشريفة لمعنى الكرامة،و الرضا و القرب من اللّه..

و ليس هو مما تناله الجوارح بصورة مباشرة..

و ما ذلك إلا لأن اللّه سبحانه يريد للإنسان أن يسمو في إدراكه و في عقله،و في إنسانيته،و أخلاقه،و مشاعره،و لا يرضى له أن يبقى يعيش في دائرة المحسوسات،فلا يطيع اللّه إلا حين يرى العصا،و لا يحس بالمعاني الإنسانية و الروحية إلا حين تنالها جوارحه الظاهرية..تماما كما يريد للمرأة أن تلبس الحجاب،و لكن إذا لبسته عن اقتناع بلزوم طاعة اللّه،و إحساس بعظمته و بحضوره،فإن ذلك يوجب لها أسمى مقام عنده، لأن الحجاب خوفا من العصا،هو أدنى مراتب الطاعة..حيث يكون الهدف هو حماية جسدها من الآلام،لا لأنها تريد أن تتلذذ بطاعة اللّه سبحانه..و أن تحمي الجسد من خلال الإحساس بلذة الطاعة.

ص: 57

و الخلاصة:أنه تعالى يريد للإنسان أن يكون أنبل من أن يخضع للأمر المعنوي من موقع حماية الجسد..

التسلسل الطبيعي:

و قد ذكر اللّه تعالى الطواف على الأبرار بالأكواب ليؤكد على هذا الرقي في إدراك الأبرار،لتكون لذتهم الكبرى هي بالكرامة الإلهية لهم،لا بالملذات المادية،و الجسدية،و إن كان الجسد غير محروم من ذلك أيضا.

و لذلك فإنه حين أشار سبحانه إلى ذلك،إنما عالجه من الناحية الإدراكية لحالات الجمال،و التي تعطي قيمة اعتبارية معنوية بالدرجة الأولى..فبدأ بالحديث عن الطواف عليهم في إشارة منه إلى هذا التكريم و التعزيز لهم.

ثم ذكر أن الطواف ليس بالشراب،و إنما هو بالآنية..

ثم قال:إن الآنية من فضة..

ثم أشار إلى الأكواب..

ثم ذكر أنها قوارير..

و انته إلى الحديث عن التقدير في الصنع،و الدقة فيه..

شرح الكلمات أولا:

و لا بد لنا،أولا:من شرح هذه الكلمات،ثم نتابع الكلام حول ما يرتبط من مطالب،فنقول:

الآنية:هي الوعاء.و الظاهر:أن المراد هنا هو ما توضع عليه الأكواب..

الكوب:هو القدح،الذي لا عروة له و لا خرطوم،و يأخذه طالبه و يشرب منه من أي جهة أراد.

ص: 58

القوارير:هي الزجاج،أو البلور الصافي،و لعل سبب تسميتها بالقوارير هو أن الشراب يستقر فيها..

كلمة«من»نشوية،أم بيانية؟:

و بعد..فهل إن كلمة«من»في قوله: مِنْ فِضَّةٍ ، هي النشوية؟!ليكون المعنى:أن الآنية التي كان أصلها فضة،و كانت من تراب الجنة؛هي التي يطاف بها عليهم..و هذا كما يقال:الإنسان من تراب.أي أنه نشأ من تراب، من دون إشارة إلى حقيقته الفعلية التي هي:لحم و دم و عظم و..و..

أم أن كلمة«من»هي الجنسية،أي هي آنية من جنس الفضة،كما يقال:

خاتم من حديد،أو من ذهب.أو كما يقال:الإنسان من لحم و دم و عظم..

فتكون«من»لبيان ما هو عليه الآن،و لا تشير إلى ما كان عليه في السابق..

ثم إن التصريح بكلمة:«من»ليس ضروريا،حين تكون الإضافة بيانية،فيقال خاتم حديد،أو خاتم فضة..

و أما لما ذا يصرحون بكلمة«من»أحيانا،فلعله:

أولا:لأجل أن لهذا التصريح فوائد،منها التنصيص على المعنى؛ لإزالة أيّ لبس أو شبهة،و منها التأكيد على أنه مقصود و مراد،و أن الالتفات إليه حاصل بالفعل.

و في هذا تقريب للمعنى المقصود إلى الحس،فإن ما ينال بالحس المباشر أوقع في النفس،و يكون التعلق به أشد،و الوضوح له أكثر من ذلك الذي يعلم عن طريق الإشارة إليه،لأن الإشارة تحتاج إلى جهد عقلي و فكري لربط بعض الأمور ببعضها الآخر..ليتحقق الانتقال من معنى إلى معنى..و من المعلوم إلى المجهول..

و ثانيا:إن المقصود هنا هو إثارة المشاعر و الأحاسيس،و إيجاد

ص: 59

البواعث و الحوافز لدى الإنسان لنيل تلك النعم الجليلة،و الوصول إلى مقامات الكرامة في الجنة،ليتعلق بها و يشتاق إليها طالبها،و تتوجه إليها أفكاره و عواطفه فعلا..

و هذا يحتاج إلى التصريح،و إلى الوضوح..أما الإشارة غير المباشرة فإنها تحمل معها احتمالات الغفلة عن التفاعل معها،الأمر الذي يعني الغفلة عن المراد،فلا بد من تحاشيها في مقام كهذا..

ثالثا:إن الإيصال السريع إلى المراد-لأكثر من سبب-لا يتلاءم مع الإشارة و الإيماء حيث يحتاج ذلك إلى إعطاء فرصة للعقل لربط الأمور ببعضها البعض..في الوقت التي يحتاج فيه إلى الانتقال المباشر..

و هذا يدلنا على:أن كلمة«من»مهمة جدا و ضرورية في هذا المقام..الذي يحتاج إلى التأكيد و التنصيص،و إزالة أية شبهة.ليمكن إثارة الأحاسيس و المشاعر بصورة مباشرة،و كذلك من أجل تحقيق المزيد من التعلق بالمطلوب،و ليكون وقعه في النفس أشد..

كلمة«كانت»:

و حول كلمة«كانت»في قوله تعالى: كانَتْ قَوارِيرَا.. نقول:هي كان التامة،لا الناقصة،و المعنى:«أنها وجدت قوارير»،فليس ثمة تحول من حالة إلى حالة،لكي لا يتوهم أحد أنه تحول غير خالص و لكي لا يثير احتمالات في واقع أصالتها التامة و الحقيقية..

«من فضّة»:

و أما لما ذا ذكر الفضة بالخصوص،و لم يذكر الذهب مثلا،مع أنه الأغلى و الأهم بنظر الناس.فلعله لما ذكرناه من أن تراب الجنة من فضة، و للفضة خصوصيات،لا توجد في الذهب،و قد قصد هنا أن يستفيد من

ص: 60

هذه الخصوصيات معان تناسب الحال.

إنه تعالى يريد أن يحقق الانسجام بين المعاني التي تتشكل منها ملامح الصورة بجميع عناصرها،و ذلك حين يحقق الانسجام بين الآنية و الأكواب التي يقدم بها الشراب..ليدرك الإنسان من خلال ذلك مستوى من الكرامة و الإعزاز الإلهي للأبرار.

و لأجل ذلك:لم يتحدث اللّه سبحانه عن طعم الشراب هنا،بل تحدث عن النواحي الجمالية التي يريد لها أن تفرض مستوى أعلى من اللذة التي يعطيها طعم الشراب.

و خلاصة القول:إنه تعالى يتعاطى مع هذا الأمر على قاعدة إيجاد الحوافز،و انشداد الأرواح إلى نيل هذا الشرف العظيم..و لأجل ذلك،فإنه قدم صورة جمالية في مستوى الإعجاز،حيث أراد أن يرتفع بالإنسان إلى مستويات من الإحساس الأشد رهافة،و الإدراك الأعمق،و الأكثر تجذرا و أصالة..و هو يهيئ له صورة لا بد له من التعاطي معها بإيجابية و انجذاب حقيقي،و هو يدرك الجمال الساكن في تلك الصورة،و الظاهر بمستوى إعجازي في التناسق و التكامل..فتلذّ روحه من خلال تذوقه و إدراكه لذلك بعمق..

***

ص: 61

ص: 62

الفصل السادس عشر: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً

اشارة

ص: 63

ص: 64

قوله تعالى:

قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً.

«قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ »:

و قد ظهر:أن ثمة حالة إعجازية،تظهر من خلال الصورة التي رسمتها الآيات لآنية من فضة و لأكواب من فضة،و هي في نفس الوقت قوارير..

و ذلك لأن الفضة التي نعرفها لا ينفذ البصر منها إلى الجهة الأخرى، بل هو يرتد عنها عاجزا عن اختراقها.فكيف تكون-و الحالة هذه- قوارير؟!ما دام أن القوارير ينفذ البصر منها بسبب شفافيتها!!..

إن هذه صورة جمالية إعجازية رائعة..أن تتمازج صفات القوارير مع صفات الفضة،من حيث الصفاء،و الشفافية،فقد روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]:أن البصر ينفذ من فضة الجنة،بسبب شفافيتها..

و من حيث التماسك،في مواجهة الصدمات،إذ إنها لا تتحطم كما تتحطم القوارير،بل هي تحتفظ بتماسكها،كالفضة..

و كذلك من حيث اللمعان و البريق..

ثم من حيث تركيبة العنصر الذي يكون للفضة..

و أيضا من حيث اللون الخاص بها..

ثم من حيث ليونة ملمسها..

ص: 65

و كرامة معدنها،و ما له من قيمة اعتبارية..

إن لكل مفردة من هذه المفردات،و لجميع هذه الصفات و الميزات لذة تناسبه:حسية تارة،و روحية أخرى،و ذوقية بجمالياتها المختلفة ثالثة..

ثم هناك لذة رؤية الشراب في داخلها،و الإحساس بالواجدية له باستمرار..

ثم تأتي اللذة الناشئة عن دقة الصنع،التي أشير إليها بقوله تعالى:

قَدَّرُوها تَقْدِيراً.. و ما إلى ذلك..

و علينا أن لا ننسى أخيرا..أن هناك لذائذ تنشأ عن ملاحظة كل عنصر بذاته،فلكل عنصر نعيم يناسبه..فإن هناك لذة و نعيم بملاحظة المجموع أيضا من حيث هو مجموع مركب متناسق،يراد له أن يشير بشكله المجموعي إلى أمر ما..

فإن بعض الأمور إنما تعطي حالة جمالية و إيحائية في خصوص حالة اجتماعها و تركيبها على صفة خاصة،فإذا انفرد بعضها عن بعض، فإنها تفقد أي جمال و إيحاء،بل ربما تصير إلى حالة متناهية في السذاجة،و في القبح.

و لكن الأمر هنا ليس كذلك،إذ إن للعناصر المتمايزة جمالها الأخّاذ، و لها بالانضمام إلى بعضها البعض جمال آخر رائع،يضاف إلى ما عداه.

تماما كما لو أردت أن تتناول طعامك في داخل غرفتك،بما هي عليه من حالة الفوضى.أو أردت أن تتناوله في حديقة غناء،فسوف تجد أنك في الحديقة تحصل على لذة أخرى تضاف إلى لذة الطعام نفسه..

ص: 66

توضيح و اختصار:

إن قيمة الذهب في الدنيا لا يجب أن تكون هي نفس قيمته في الآخرة.و مع افتراض كونها كذلك،فإن لكل معدن قيمته،تفرضها ميزاته، و أهميته الخاصة به.التي يفرضها حجم تأثيرها و تأثيره في الهدف الذي يراد الوصول إليه،و قيمة ذلك الهدف و حساسيته الفعلية،و من الواضح:

أن ذلك يختلف و يتفاوت..فقد لا يصلح هذا للموضع الذي يصلح فيه ذاك،و لا يؤدي وظيفته،كما أنه قد يكون للمكان و الزمان،و الحالات التي يراد الاستفادة منه فيها دخالة ظاهرة في إعطاء القيمة و الأهمية و الامتياز لأحدهما على الآخر..

و فيما نحن فيه نقول:إن الذي يناسب الصورة الجمالية التي يراد رسمها،و تكوينها،و إظهار التناسق الفريد بين عناصرها هو خصوص أن تكون الأكواب و الأواني من فضة،إذ لا يراد التأكيد على الآنية و الأكواب،من حيث هي ظروف يوضع فيها شيء ما،كالشراب أو غيره، كما لا يراد التأكيد على الشراب من حيث طعمه أو نكهته،أو نحوهما..

بل يراد-كما قلنا-رسم صورة جمالية،واقعية،من خلال إبراز تناسب، و تناسق،و تكامل بين عناصرها،الأمر الذي لا بد أن يترك أكبر الأثر على الذوق،و الإدراك،و الروح،و الشعور..

فلا مجال للسؤال بعد هذا عن السبب في عدم الاستفادة من عنصر الذهب،إذ لا مكان لهذا العنصر أساسا في عناصر هذه الصورة التي يتم الحديث عنها،و التي يراد بها تحريك العقل،و الفكر،و المشاعر؛لتتعلق بالجنة،و لتندفع للعمل من أجلها..

ص: 67

«قدّروها»:

و إن دقة الصنع و حسن هندسة الشيء،و مطابقة المراد و المطلوب للضوابط،لهو أمر ترتاح له النفوس،و تلتذ به الأرواح،سواء أ كان ذلك الضبط و الدقة في ناحية المضمون،-و تركيبة العناصر،و التقدير للنواحي الهندسية-،أم كان تقديرا لما يوضع فيها،من حيث اشتماله على المقادير المطلوبة في الطعم،و اللون،و الرائحة،و الاشتداد،و الانسياب،و اللزوجة، و غيرها من صفات..

و أما لما ذا لم يقل:قدّرت تقديرا،بل قال:«قدّروها»فلعله لأجل إظهار الاهتمام بالدلالة على فاعل هذا التقدير..

ثم أكد الفعل بالمصدر،فقال:«تقديرا»ربما للتدليل على أن هذا التقدير قد جاء عن قصد،و عناية،و استجابة لمقتضيات واقعية،تدخلت في صنعها إرادات للأبرار،و هي التي فرضت هذه الأشكال،و الأحجام، و المسافات،و الحالات على ما هي عليه..

و لو أنه قال:قدّرت،فلعله يفهم من ذلك:أن الجنة قد خلقت وفق هندسة معينة،بغص النظر عن إرادات و أفعال العباد،و أن اللّه يريد أن يسكن فيها من أطاعه،لكي يستفيدوا منها،على ما هي عليه،من دون أن يكون لهم أي دور أو اختيار في هندستها،و صنعها،و طبيعة تكوين الأشياء فيها..

الضمير في«قدّروها»:

و قد قال:قدروها،و الظاهر أن الضمير عائد إما إلى الملائكة،أو إلى الأبرار،و لعل هذا هو الأنسب،إذ لا حديث عن غيرهم،و لا يصح إرجاع الضمير إلى لفظ الجلالة،لأنه ضمير جمع..و لا إلى الولدان المخلدين،

ص: 68

لأنهم إنما خلقوا ليسعد الأبرار بوجودهم،و ليس لهم دور في صنع الجنة..

فالأبرار هم الذين لهم دور في هذا التقدير،و ذلك لأن عملهم للصالحات في الدنيا ينتج لهم حالات من النعيم تناسب ذلك العمل، و تحمل مواصفاته،و صفاءه،و خلوصه،و جهاته،و ميزاته..

و لذلك اختلفت عليها المثوبات من حيث الكم،و النوع، و المواصفات،حيث تجد في النصوص أن لكل عمل جزاءه المناسب له.

فهذا ثوابه قصر،و ذاك ثوابه حور عين،و ذلك ثوابه تكون حدائق و أعنابا،و هكذا..و هذا العمل يوصل إلى مقام كذا..لكن عملا آخر يوصل إلى مقام آخر.

و إذا كانت جارحة بعينها هي التي أنجزت عملا ما،-كالعين حين تغض عن محارم اللّه-فإن الثواب سيكون متناسبا مع ما يتطلبه عمل تلك الجارحة،و مع مستوى ما بذلته من جهد،و غير ذلك من حالات..

التقدير:

و بديهي:أنه لا بد في تقدير الأمور من الاستناد إلى معيار يفرض هذا المقدار أو ذاك،و لا يكون الأمر عشوائيا..فمن أراد بناء غرفة،فإن سعتها سوف يفرضها غرض ما.و هذه السعة تفرض مستوى ارتفاع تلك الغرفة،و نظام التهوئة الذي يعتمد فيها،و كميات النور التي تحتاج إليها، ثم مراعاة ذلك في فتحاتها،وسعة الباب و ارتفاعه،و ما إلى ذلك..

و حين يزرع الفلاح الحب،فإن اللّه هو الذي ينبته،لكن وفق نظام يراعي فيه الزارع كمية البذر،و كمية المياه في الري،و طبيعة التربة، و موقعها في الأماكن الحارة أو الباردة،في المرتفعات أو المنخفضات،

ص: 69

و ما إلى ذلك..

فالعمل الصالح،و حالاته و مستوياته،و نوعه،و ميزاته،و ما إلى ذلك..

قد أوجد هذا النعيم الذي يحصل عليه،و أثّر في مقاديره،و أحجامه، و أشكاله،و أنواعه،و مستوياته،و ميزاته،و أوجد لشراب الأبرار مثلا هذا الطعم،و هذا اللون،و هذه الرائحة،و ذلك المقدار،و تلك اللزوجة..

لكن شخصا آخر قد تكون لشرابه ميزات و خصائص أخرى،و يلتذ به بصورة أقل،أو أعمق،لأن هذا هو ما أنتجه له فعله،و فرضه له عمله في دار الدنيا..

و التقدير نفسه من أسباب اللذة أيضا،مع أنه لا ينفصل عن وجود ما تجسد به..إذ إنه ليس شكلا يدخل في صورة الهيكلية العامة،ثم يفقد معناه.بل هو باق في شعور الإنسان بهذه المقايسة بين عمله،و بين ما أنتجه له ذلك العمل..

تنوع الملذات:

و قد ظهر:أن هناك لذات فكرية تنشأ من إدراك المعادلات،و هناك لذة ذوقية منشؤها إدراك الانسجام و التناسق في الأشكال الهندسية، و هناك لذة روحية من خلال الشعور بالكرامة الإلهية،و الرضا،و هناك لذات حسية،من خلال الشعور بطعم الشراب،في قوله تعالى:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. و كذا الحال في نعومة الحرير،هذا بالإضافة إلى لذات للمشاعر،و غير ذلك..

***

ص: 70

الفصل السابع عشر: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً

اشارة

ص: 71

ص: 72

قوله تعالى:

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.

«و يسقون»:لما ذا الواو؟!

و قد قال تعالى:«و يسقون»بالواو،ربما لأجل الإلماح إلى استقلالية هذا النوع من النعيم،لأن نفس هذه الاستقلالية لها لذتها أيضا..و قد جعل نفس سقيهم هو محور الحديث،لا نفس الشراب الذي يسقى،لأنه لا يريد أن يجعل الشراب نفسه هو المحور في ذلك،بحيث تكون الأمور الأخرى من حالاته،و شئونه التي تزيد في لذته.

و يؤكد هذه الاستقلالية،إضافة كلمة«فيها»بعد كلمة«يسقون»كما سنرى.إذ إن نفس هذا السقي في الجنة هو الآخر نعيم يضاف إلى ما سواه..

و لو أنه لم يرد إفادة هذا المعنى،لأمكن الاكتفاء بكلمة:«يسقون».

«يُسْقَوْنَ »:

و يلاحظ:أنه تعالى قال:«يسقون»و لم يقل:«يشربون»..

و ما ذلك إلا لأن المراد هو تكريمهم،ليتنعموا بهذا الشعور بالعزة و بالكرامة الإلهية،و يؤكد هذا الشعور:أنهم في الجنة..و أن هذا مما هيأه اللّه لهم.

فهذه المعاملة تشير إلى أنهم موضع عناية،و اهتمام و رعاية،فهم لا يكلفون بالسعي إلى حاجاتهم،بل هي تقدّم لهم،للدلالة على قيمتهم

ص: 73

و موقعهم،و فضلهم،و استحقاقهم..

«فيها»:

أما كلمة«فيها»فقد أشرنا إلى أنه تعالى يريد من خلالها،تحسيس الأبرار بأنهم في الجنة ليزيد ذلك في بهجتهم و سرورهم..

«كاسا»:

و التنوين في قوله:«كأسا»هو تنوين التنكير،و هو يشير إلى الإفراد و الوحدة،و لعله لأجل إفهام الأبرار أن ريّهم الدائم يتحقق بشربهم لهذا الكأس،بحيث لا يحتاجون إلى غيرها.خصوصا و أنها تبقى كأسا مملوءة دائما،لا ينالها النضوب،و لا تصير قدحا فارغا حسبما تقدم.

و في هذا التنوين أيضا،إبهام لحالات تلك الكأس،لعل الهدف منه إطلاق عنان الخيال الذي سيذهب كل مذهب في رسم صورة هذه الكأس،شكلا،و لونا،و حجما،و نوعا.الأمر الذي يوجب درجات غير متناهية من التلذذ بجمالها..

و بما أن إطلاق كلمة الكأس إنما يصح في صورة كونها مملوءة،فإن الخيال لا بد أن يسعى أيضا لتلمس حقيقة ما فيها من شراب،و ما يوجبه من لذة غير متناهية أيضا،و كذلك الحال بالنسبة للتلذذ بذلك المزيج..

و يؤكد إرادة هذه المعاني،و تعمد الإبهام و الإجمال،أنه تعالى لم يذكر حقيقة أو نوع الشراب الذي يكون في ذلك الكأس،بل ذكر لهم مزاجه فقط..

لما ذا التعدية المباشرة:

إنه تعالى قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً.. فجاءت التعدية مباشرة،و من

ص: 74

دون توسط حرف الجر،فلم يقل:يسقون من كأس،أو بكأس،أو نحو ذلك..

مع أن الشرب إنما يكون لما في الكأس لا للكأس نفسه،فما هو السبب في ذلك؟!

الجواب:

أنه تعالى يريد أن يشير إلى أن كل ما في هذه الكأس مطلوب، و مرغوب فيه،و ليس فيها ما يرغب عنه،فليس فيها ما هو من قبيل الثمالة المتبقية في قعر الكأس،و التي يعافها الشارب،لكونها مظنة تجمّع الترسبات،التي قد تختلف مع سائر ما كان في الكأس،إما في حقيقتها، أو في طبيعة تشكلها،أو نحو ذلك..

فإذا كان جميع ما في الكأس له حالة واحدة،فإن هذا يعطي الإنسان المزيد من الطمأنينة و اللذة بما يشربه،حيث يشعر بصفائه و بخلوصه من كل ما يمكن أن تعافه النفس..

فلا فرق بين الثمالة و بين سواها،لا في الشكل و لا في المضمون.

فلا حاجة إلى«من»التبعيضية.بل لا معنى لإدراجها في الكلام،لأن ذلك قد يخل في المعنى المقصود..

و استعمال كلمة«من»و إن لم يكن فيه تصريح بوجود ثمالة في الكأس،و لكنه لا يلغي احتمالها..أما التعبير بشرب الكأس،فهو يلغي حتى هذا الاحتمال..حيث يدل على أن جميع ما في الكأس لا شائبة فيه،و سيشربه أولئك الأبرار..

بين«يسقون»،و«يشربون»:

إنه تعالى قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها.. و لم يقل يشربون..و ذلك لتحاشي

ص: 75

الإيحاء بأن الأبرار هم الذين يتولون خدمة أنفسهم في هذا الأمر..

و للتأكيد على أن هناك من يتولى خدمتهم،و تكريمهم بتقديم الشراب لهم.

«كان»:

و تأتي كلمة«كان»في قوله تعالى: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. لتشير إلى أن هذا المزاج له أصالة،و كينونة و ثبات من بدء التكوين.و له رسوخ،و بقاء،و استدامة على هذه الحالة؛في الحال،و في المستقبل.

فليس هذا المزاج حادثا و عارضا على شيئين كانا على حالة الانفصال..و لا مجال لإطلاق أوهام الإنسان و مخاوفه حول درجة هذا الانضمام و الامتزاج،و عمقه و مداه..

«مزاجها»:

و يلاحظ أولا:أنه تعالى قد عبر أيضا بكلمة«مزاجها»،فلم يقل:

«ممزوجة»،و لا«مزجت»،حتى لا يكون في ذلك أية إشارة إلى فاعل بعينه؛قد تولى هذا المزج.لكي لا يثور شعور بأن هذا المزج مرهون بإرادة مازجه،و لعل هذه الإرادة تغيب لسبب أو لآخر..

كما أن التعبير بالفعل الماضي،كأن يقول:مزجت،غير صحيح،لأنه يفيد حدوث هذا الأمر،بعد أن لم يكن..أما كلمة كانَ مِزاجُها.. فهي تفيد أن هذا المزاج ثابت و مستمر منذ نشأة ذلك الشراب.فلا مجال لتوهم عروض المزج على ذينك الشيئين..

و يلاحظ ثانيا:أنه تعالى لم يقل:«كانت ممزوجة بالزنجبيل».

و ربما كان سبب ذلك هو أنه تعالى لا يريد أن يجعل لأي من العناصر أية درجة من الأصالة،أو المحورية..فإن ذلك قد يؤثر على

ص: 76

النظرة إلى سائر العناصر،فإذا قيل:الشيء الفلاني ممزوج بالزنجبيل، فسوف يفهم أن لذلك الشيء أصالة و محورية،و الزنجبيل طارئ عليه..

حتى و لو كان المزاج في أصل التكوين.

و قيام هذا التوهم معناه:أن يفهم أن لذلك العنصر دور الأصالة، و الأرجحية،و يكون العنصر الآخر أقل اعتبارا،و أضعف تأثيرا..

و يلاحظ ثالثا:أن الضمير في قوله:«مزاجها»يرجع للكأس،و كأنه يريد الإلماح إلى أن الظاهر من الكأس هو الشراب،و ليس للفضة و القواريرية وجود ظاهر و متميز تناله الباصرة،فكأنه يشرب الكأس،لأن الكأس يحس بها،باللامسة،و لكنه يشرب محسوسه بالباصرة،و هو الشراب في داخلها،و يذوق الكأس بالذائقة،فالكأس المحسوسة بالباصرة و المذوقة بالذائقة كان الزنجبيل مزاجها،أما الكأس الملموسة، فإنه تجاهلها إلى درجة أنه لم يبق منها إلا الاسم.

«زنجبيلا»:

هذا..و قد ذكر الزنجبيل بتنوين التنكير،-ربما-ليشير إلى أنه زنجبيل لا نظير له،و لا يخطر حسن لونه و طيب و ذكاء رائحته على بال، و لا يمر في خيال،و لو أنه عرّفه ب«أل»فقال:«الزنجبيل»،فلربما يتوهم أنه كهذا الزنجبيل الذي عرفناه،و ألفناه في دار الدنيا،مع أن زنجبيل الدنيا لا يقاس بزنجبيل الآخرة،و لعلهما لا يتشاركان بصورة حقيقية بغير الاسم..

مواصفات الزنجبيل:

هذا و للزنجبيل في هذه الدنيا خصوصيات،قد يكون في الآخرة ما يشبهها،و لكن لا شك في أنه بدرجات و مواصفات عالية جدا تزول معها

ص: 77

كل السلبيات التي قد تكون في زنجبيل الدنيا،بل ربما تصل إلى حد المباينة لمواصفاته..

خصوصيات في الزنجبيل:

ففي الزنجبيل:

1 و 2-حرارة،و لذع..و لهما حين يمازج الطعام أو الشراب،دور في إثارة الشهية إليه،و إقبال النفس عليه.لما يثيره في النفس من حالات لا توصف من البهجة و الالتذاذ.

3-طيب رائحته،و طبيعة نكهته..

4-ثم هناك لونه الذي يوجب استقرار النظر عليه،و التلذذ به..

و ثمة خصوصيات أخرى في الزنجبيل،من حيث إنه يثير حالة من الانبساط،و يضاعف مستوى رهافة المشاعر،و يزيدها حيوية و نشاطا.

لكي تستفيد-من موقع الطهر-من مختلف أنواع النعيم الذي هيأه اللّه تعالى للأبرار في الجنة..

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة:

و بعد..فقد أظهرت الآية الكريمة نفسها،أنه ليس فقط لا توجد أية سلبيات في الزنجبيل،بل هو في أعلى درجات الملائمة.فقد ظهر:أن لذع و حرارة الزنجبيل لا يمثل عائقا عن التلذذ به،و لا من إساغة الشارب له بيسر و سهولة.

مع العلم بأن لنفس السهولة لذتها أيضا..فإن اللّه سبحانه قد بيّن أن ذلك الشراب الممازج لهذا الزنجبيل عبارة عن عين في الجنة تسمى سلسبيلا،و ذلك ليبعد عن مخيلة الإنسان أي احتمال يوجب شيئا من التردد في الإقدام على ذلك الشراب،أو أي تخيل لأية صعوبة في شربه،

ص: 78

بل هو سيكون أدعى للتشوق إليه،و للإحساس بالهناء و الطمأنينة له.

و التذاذهم به و بغيره من نعيم الجنة الذي يوعدون به..

فإذا كان ذلك الشراب من عين في الجنة،فالجنة أعدت للنعيم، و التلذذ.

و إذا كان ذلك الشراب سلسبيلا،فالسلسبيل صفة يراد بها المبالغة في وصف السهولة،و السلاسة،و الإساغة،بيسر و راحة..

كما أن مجرد كونه كذلك،يجعله أمرا مميزا،و خارجا عن المألوف و المعروف،و هو خرق العادة،حيث جمع بين ما يمنع من الاستساغة و السهولة،-و هو الحرارة و اللذع-و بين كونه في منتهى السهولة و الاستساغة..و هذه الفرادة من شأنها أن ترفع درجة الرغبة به،و الالتذاذ بالحصول عليه أيضا..

أسئلة تحتاج إلى أجوبة:

و تبقى هنا أسئلة كثيرة،تحتاج إلى إجابات،و منها السؤال:

-عن السبب في اختيار الزنجبيل هنا،و الكافور هناك؟!

-و عن السبب في وصف الكأس،بأنها عين؟!

-و عن إعراب كلمة عينا،فهل هي بدل من قوله:«زنجبيلا»،أو بدل من كلمة:«كأسا»؟!

-و لما ذا لم يقل:كان مزاجها زنجبيلا،كالسلسبيل؟!

-و لما ذا جاء بكلمة:«فيها»من جديد؟!

و فيما يلي بعض ما يفيد في الإجابة على هذه الأسئلة و سواها..

ص: 79

زنجبيل الدنيا..و الآخرة:

علينا أن نعترف بأن من الممكن أن نعجز عن معرفة السبب الحقيقي في اختيار الزنجبيل هنا،ليكون هو المزيج للشراب،دون سواه كالعسل،أو اللبن مثلا..

و لكن لا شك في أن للزنجبيل خصوصية بارزة فيه أكثر من سائر الخصوصيات،و ينتقل الذهن إليها بمجرد سماع هذه الكلمة..كما أن في العسل خصوصية أخرى تكون هي الأبرز،و يتوجه إليها الذهن بمجرد سماع كلمة عسل..

و هكذا الحال بالنسبة للبن،و غيره.

كما أن الحال في أنواع الفاكهة هو ذلك،و كذا سائر ما يذكر من مفردات النعيم،و حالات التكريم في الجنة.

و الخلاصة:أن ذكر الزنجبيل هنا،و الكافور في ما سبق،يشير إلى أن تلك الخصوصية التي يريد اللّه سبحانه أن يفهمنا أنها قد روعيت،في هذا النوع من النعيم،و أنه يمكن الاستعانة في إدراكها-و لو بصورة مجملة-بما يتشارك معه في الاسم في هذه الدنيا..و ليذهب بعد خيالنا إلى أبعد مدى يستطيعه في تصور حقيقة الفرق بين ما هو في الدنيا،و ما هو في الآخرة،فيما يرتبط بهذه الأمور،و حالاتها.

و قد تقدمت الإشارة إلى خصوصيات الكافور و أشرنا آنفا إلى بعض خصوصيات الزنجبيل في الدنيا،و التي ربما يراد الإشارة إليها في زنجبيل الآخرة،فلا نعيد..

بين«الكافور»و«الزنجبيل»:

و يبقى أمامنا سؤال عن السبب في اختيار الكافور في قوله تعالى:

ص: 80

إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً* عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً..

و اختيار الزنجبيل هنا،حيث قال: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً..

و سؤال آخر و هو:أنه لما ذا قال هناك:«يشربون».أما هنا فقال:

«يسقون»؟!..

و سؤال ثالث:و هو أنه قال هناك:«يشربون من كأس»..أما هنا فقال:

«يسقون فيها كأسا»..فلما ذا يا ترى؟!

و للإجابة على هذه الأسئلة نقول:

بالنسبة للسؤال الأول:نشير إلى ما قدمناه في شرح تلك الآية المباركة من أن سياقها يعطي أن الحديث فيها عن أن جهد الأبرار في الحياة الدنيا،يفجر لهم عيون الخير و الفلاح في الآخرة،و يثمر لهم المزيد من البركات،و الألطاف و العنايات الإلهية.

و ذلك يفرض وجود اختلاف بيّن في خصوصيات الكأس التي يشرب منها الأبرار في الدنيا،و تلك التي يشربونها في الآخرة،فإن هناك حاجات و نقائص و سلبيات لا بد من تلافيها في الحياة الدنيا،و حالات غير مرغوب فيها يطلب السيطرة عليها،أو التخلص منها،بوسيلة تناسب حالها..كالكافور الذي يطرد الرائحة الكريهة،و يدفع ببرودته الحر الذي يسعى الإنسان للتخلص منه،ثم هو يعطي أيضا بصفائه و نقائه صورة مشرقة،تشيع البهجة في النفس،و غير ذلك..

أما في الجنة،فلا يوجد شيء من ذلك كله ليحتاج إلى معالجة، فليس فيها عطش،و لا حر،و لا برد،و لا تعب،و لا حاجة،و لا..الخ..بل

ص: 81

يراد فقط العيش في ظل الكرامة الإلهية،و التقلب في نعيم الجنة، و الحصول على السعادة،و اللذة فيها..و بذلك تنتفي الحاجة إلى الخصوصيات الموجودة في الكافور..

و بهذا تتضح الإجابة على السؤال الثالث عن السبب في أن الأبرار في الآية الأولى يشربون من كأس،أما في هذه الآية فهم يسقون..

فإن الأبرار هم الذين يفعلون،و يبذلون الجهد في الحياة الدنيا،أما في الآخرة فإنهم يكرمون و يعظمون،و تأتيهم الألطاف الإلهية،من دون حاجة إلى بذل جهد..

كما أن بذلك يظهر الجواب عن السؤال الثاني،فإن الأبرار هم الذين يصنعون الخير،و يكسبونه بجهدهم،فما قدروا عليه إنما هو بعض من عين الخير التي لا نفاد لما فيها..

أما في الآخرة،فإنما يشربون من كأس ملئوها هم بجهدهم و عملهم،فما عملوه من خير يوفى إليهم،و لا يظلمون فتيلا..

و إذ قد اتضح:أن الزنجبيل في الآخرة هو من مفردات زيادة النعيم، فإنه يتضح أيضا:

أن لا مجال لقبول التفسير القائل بأن الزنجبيل يحتاج إليه في الآخرة لإطفاء عطش يوم القيامة،حيث ينال المؤمن البرد اللذيذ بعد التعب و طول الوقوف في عرصات ذلك اليوم.

و كذا لا يصح قولهم:إن للزنجبيل بعض الأثر في إثارة الرغبة و الميل إلى ثمار الجنة..

***

ص: 82

الفصل الثامن عشر: عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً

اشارة

ص: 83

ص: 84

قوله تعالى:

عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.

اشارة

و في بيان المراد من هذه الآية،نقول:

«عَيْناً»:

1-قد اختلفوا في إعراب قوله:«عينا»..فهل هي:

بدل من قوله:«زنجبيلا».

أو بدل من قوله:«كأسا».

أو منصوبة بفعل محذوف،مثل ترون،أو تنظرون عينا،أو نحو ذلك..

أو منصوبة بنزع الخافض بتقدير:يسقون عينا،أي من عين على طريقة التجوز في الإسناد..

و قد ذهب إلى كل وجه من هذه الوجوه الاعرابية فريق..

و لكل إعراب خصوصية في المعنى،يرتكز عليها،و لا حاجة إلى تفصيل ذلك،غير أنه سيظهر من مسار الكلام:أننا نرجح الوجه الثاني..

2-لعل السبب في عدم الاكتفاء بذكر الكأس،بل أضاف قوله:

عَيْناً فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلاً.. هو إرادة التحرز عن أي شعور بأن الكأس قد تفرغ من محتواها،بعد شرب ما فيها،حيث يستبعد الناس بقاءها على صفة الامتلاء بملاحظة صغر حجمها،و محدوديتها من حيث السعة، مما قد يثير شعورا بالفقدان لهذه النعمة،و تخوفا من عدم وجدانها بعد

ص: 85

ذلك..و ذلك يقلل من درجة الالتذاذ بها..و يزيل أو يقلل من مستوى الثقة و الطمأنينة لديه..

3-و العين هي البئر النابعة،التي لا تنضب،و عطاؤها ذاتي فيها،فهي لا تحتاج إلى استقدام شيء من خارجها.

و هذا يعطي شعورا بالغنى عن الأغيار..و يزيد من مستوى الطمأنينة و السكينة..فإن الكأس لا تنضب بل هي بمثابة عين،بل هي عين بالفعل يبقى تفجرها،و عطاؤها مستمر،و هو ذاتي فيها.

و كونها عينا فيه إشارة أيضا إلى الغزارة،و إلى الكثرة،فضلا عن الاستمرار،و هذا مما يزيد في الطمأنينة و الراحة أيضا..

ثم إن نفس كونها عينا،يشير إلى أنه لا مشقة في الحصول على المراد، من حيث إنها تتفجر،و يطفح،و يفيض،و يجري محتواها إلى ما حولها..

«فيها»:

ثم أشار بكلمة«فيها»إلى أن هذه العين؛في الجنة،ليثير ذلك المزيد من البهجة،و السرور.فبالإضافة إلى خلوه من جميع أنواع الكدورات و المنغّصات،التي لا يخلو منها شراب الدنيا،نعم إنه بالإضافة إلى ذلك،هو نظير من يشرب شرابه على ضفة نهر،أو على قمة جبل مشرف على منظر خلاب،فإن لذته بطعامه و شرابه تتضاعف بالقياس إلى لذته لو شربه في داخل غرفة عادية،مبعثرة الأثاث،سيئة المظهر و المنظر..مع أن نفس تناول الطعام،و إحساس الذائقة به لا يختلف في الحالتين..

«تُسَمّى سَلْسَبِيلاً»:

1-و يلاحظ:أنه تعالى لم يقل:عينا سلسبيلا،بل قال: «تُسَمّى سَلْسَبِيلاً»، و لم يذكر من الذي يسميها بهذا الاسم..

ص: 86

فكلمة«تسمى»قد أشارت:إلى أن هذا هو أحد أسماء تلك العين، التي عرضت لها بسبب ملاحظة خصوصياتها،الداخلة في حقيقة وجودها،حتى لقد أطلقت عليها هذه التسمية بصورة عفوية و واقعية،فلا حاجة،بل لا مجال،لتعيين من الذي سماها..

و ذلك يشير إلى أن صفة السلسبيل ليست عارضة على تلك العين، و لا يوجد أي ادعاء أو مبالغة غير واقعية فيها،فمعرفة الفاعل للتسمية لا تزيد في الثقة،و لكن مجهوليته هي التي تزيدها..

2-أما كلمة«سلسبيل»:فقد ادعي أنها لم توجد في كلام العرب، و أن القرآن هو الذي استعمل هذه الكلمة فقط..

و يبقى هذا مجرد ادعاء،فإن القرآن لم يكن ليأتي بكلام غير مفهوم، و لا معلوم لدى الناس،و هو القائل عن نفسه: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (1)..

و السلسبيل أصلها سلسل،ثم زيدت الباء و الياء فيها للإشارة إلى أن هذه الصفة ثابتة فيها بعمق و قوة،و بدرجة عالية،و ربما يكون سبب الزيادة غير ذلك.

كما أن من الجائز أن تكون نفس هذه الكلمة قد وضعت لإفادة هذا المعنى من دون أن يزاد فيها شيء.

و السلسبيل هي البالغة اللطافة،و السلاسة،و الليونة،و السهولة..

و إذا لاحظنا صفة الحرارة و اللذع في الزنجبيل،فكون هذه العين بهذه الدرجة من اللطافة و السهولة يعطينا أنه زنجبيل يختلف عما عرفناه في الدنيا،بل هو يكاد يكون مضادا له في صفته هذه..

********

(1) سورة الشعراء الآية 195.

ص: 87

لما ذا هذه التفاصيل و الدقائق؟:

و نحن إذا نظرنا إلى هذه الآيات القليلة،من بداية السورة،و إلى هنا،نجد أنها قد تناولت الإنسان موضوعا،و تحدثت عنه و عن نشأته و حياته،بشمولية و دقة،لا حدود لهما،و بينت إلى أي مدى تصل حساسية هذا الموضوع،و أن أهميته هي بحجم الإنسان نفسه،الذي انطوى فيه العالم الأكبر..

فبدأت السورة بالحديث عن التكوين المادي،و المعنوي،و العقلي، و المشاعري،و غير ذلك.في بضع آيات استهلها اللّه تعالى بإثارة السؤال الكبير: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً..

و هو استفهام يراد به الإنكار،ليتوصل من خلاله إلى التأكيد على أن الإنسان لم يزل موضع الاهتمام و الرعاية الإلهية..مستدلا على ذلك،بما ظهر من بديع خلقة الإنسان،الذي أودعت فيه قوى ينشأ عن احتكاكها بالواقع من حولها ابتلاء،ثم بلورة و نمو ظاهر في أسباب العلم و وسائله، حيث أصبح بسبب ذلك شديد السمع،حديد البصر،و هذه الوسائل هي التي تمكنه من إدراك الحقائق،ليصبح السبيل-الذي يفترض فيه أن يسلكه لنيل الأهداف الكبيرة-ظاهرا و واضحا له..

و هذه الوسائل هي تلك الهدايات الإلهامية،و الفطرية،و الحسية،الظاهرية منها،و الباطنية،و العقلية،و التشريعية التي أشرنا إليها أكثر من مرة..

ثم هو قد أعطاه الاختيار..حتى إذا اختار طريق الخير،فكان من أهله،فإنه يستطيع أن يشرب ما أمكنه من كأس؛مزاجها الكافور الذي يفيد في إصلاح و إبعاد الشوائب،التي قد تعلق بعمل الخير ذاك،و يسهم في تنقيته و تصفيته،و إعداده بالصورة الصالحة..

و تلك الكأس هي مصدر للخير لا ينضب،و هو كفيل بصناعة

ص: 88

الشخصية الإيمانية للأبرار،و صياغتها بالصورة التي يريدها اللّه سبحانه، و لها،حيث تتكون قناعاتهم،و مفاهيمهم،و مشاعرهم،و تنطبع ممارساتهم بطابعها الإلهي،ليكون لهم التفرد و التميز الظاهر،و ليكونوا أهلا لنيل نعيم الجنة الذي وصفه اللّه تعالى لهم..

وصف نعيم الجنة:

و من الواضح:أنه لا شك في أن الأبرار هم في مستوى يؤهلهم للاستفادة من هذا النوع من النعيم،فإنه تعالى قد أسهب في وصف مفرداته بصورة لافتة،حتى ليظهر من هذه السورة المباركة على صغرها:

أن وصف مفردات دقائق و تفاصيل هذا النعيم،هو المحور الأساس، و الأهم،و كأنها قد أنزلها اللّه تعالى لهذا الغرض بالذات،ربما لأن لذلك الأثر الكبير من الناحية التربوية،و في إيجاد الحوافز لدى الناس للسعي لنيل ذلك،كلّ بحسب ما يقدمه من عمل،و ما يبذله من جهد..

كما أن ذلك يسهم في رفع مستوى وعي الناس و إدراكهم و تطوير مفاهيمهم البسيطة،إلى مفاهيم أرقى تؤثر إيجابا على حالتهم الإيمانية و العقائدية.

فضلا عن تأثيره في التكوين النفسي و الحالة الشعورية فيهم..

و إن التأمل في آيات هذه السورة كفيل بإظهار صعوبة جمع،و ضبط ما يدركه عقلنا القاصر فيها من إشارات،و رصد ما تختزنه من دلالات، و نظمها في قالب بياني واضح.و ذلك لكثرتها،و اختلاف تشعباتها..

فكيف لو وقفنا على حجم و آفاق معانيها الواقعية،التي لا ينالها إلا الراسخون في العلم من المعصومين،و الأئمة الطاهرين صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين؟!..

ص: 89

خصوصية البيان القرآني:

و إن وصف و رسم و تصوير القرآن لهذه الدقائق و الحقائق التي تتميز بها مفردات نعيم الجنة،الذي استحقه أولئك الأبرار،يظهر لنا حقيقة، و خصوصية يمتاز بها البيان القرآني..

و هي أن القرآن لم يعتمد في بيان الحقائق العقائدية،و القضايا الإيمانية،على مصطلحات تختص بعلم بعينه،من بين سائر العلوم، كمصطلحات علم الكلام،أو علم الفلسفة،الذي لا شك في ارتباطه الوثيق في الشأن العقائدي،إلى حد أن من يمارس المسائل العقائدية لن تفاجئه تلك المصطلحات،و هي تتناثر عليه من كل حدب و صوب..بل المفاجأة هي أن لا يجد ذلك..

نعم،إن القرآن حين يعالج قضايا العقيدة،و يتصدى للتربية الفكرية و الروحية في مجالاتها،لا يهتم لتلك المصطلحات،و لا لغيرها من مصطلحات سائر العلوم التي يهتم بها فريق من الناس،بل هو حين يعالجها يتكلم:

أولا:باللغة العامة،المشتركة بين البشر جميعا.

ثانيا:إنه حين يعرض قضايا العقيدة،و غيرها من القضايا التجريدية، فإنه يخرجها عن حالتها تلك،و يحولها أولا إلى شأن حياتي،و يجسدها كواقع عملي،يهم الإنسان بما هو إنسان،و يعنيه بصورة مباشرة،ثم يقدمها إليه ليتلمّس فيها الخصوصية التي تعنيه..

فتدخل إلى قلوبهم،و إلى عقولهم،و إلى نفوسهم بصورة طبيعية و عفوية،و من الأبواب التي تناسب القلب،و العقل،و النفس،من دون أن يكون هناك أي حرج،أو صعوبة،بل هو يذلل كل الصعوبات،و يزيل

ص: 90

جميع الموانع..

فمثلا،حين يريد أن يتحدث عن التوحيد،و رفض الشرك،فإنه يثيره بطريقة تستبطن الدليل الفلسفي،و لكن دون أن يستخدم مصطلحات علم الفلسفة،فيشير إلى موضوع تضادّ الإرادات،أو بطلان تأثير ما عدا الإله الواحد،و بطلان تعدد الآلهة،و لكن من خلال التأكيد على أنه يوجب فساد الحياة،و فساد السماوات و الأرض،و يتناقض مع هدف الإله الحكيم من الخلق،لأنه إنما يريد الصلاح..

و واضح:أن الفساد لا يمكن للإنسان أن يرضى به،لأنه يهدد حياته، و ترفضه فطرته،و عقله،لأنه يخلّ بسعادته و راحته،و بخططه، و بمستقبله..

و الحاصل:أن القرآن ليس كتابا فلسفيا،و لا تاريخيا،و لا فقهيا،و لا غير ذلك،و إنما هو كتاب اللّه تعالى،يظهر للمعاني الدينية،و للأحكام الشرعية،و قضايا التاريخ،وجهها العملي،حين يحولها إلى شأن حياتي، ليستفيد الناس منه،و ليتفاعلوا معه بصورة عفوية،و لا يتحدث للناس بمصطلحات تختص بفريق دون فريق،و لا بعلوم لا يعرفها إلا قلة من الناس،في كل زمان و مكان..

و حتى حين ذكر بعض الأمور الكونية،فإنه ذكرها أيضا بلغة عامة، و لم يستعمل مصطلحات أهل الفلك،أو غيرهم..

و حين يتحدث عن نعيم الجنة،فإنه لا يبالغ فيه بهدف إغراء الناس بأمور خيالية..لأن الإنسان غير قادر على استيعاب الحقيقة مجردة، فكيف إذا أريد الزيادة عليها بأسلوب المبالغة.

إن القرآن يقرر الحقائق على ما هي عليه،و بصورة عملية تفصيلية،

ص: 91

تجعل الإنسان يعيش ذلك النعيم بكل وجوده،و تجعل جميع جوارحه تتشارك فيه.

لكن ذلك لا يعني أن علم الفلسفة مثلا ساقط عن الاعتبار..إذ لا ريب في أننا نحتاج إلى علم الفلسفة لمواجهة الشبهات التي يلقيها المتحذلقون من شياطين الإنس.

و لا شك في أن هذا العلم بضوابطه الصحيحة،و قواعده السليمة، يسهم في صيانة العقيدة،و يفيد في إثراء الفكر و في بلورته..

و لكننا نقول:إن الفلسفة هي لغة فريق من الناس،و ليست لغة جميعهم..و القرآن هو كتاب اللّه أنزله للبشر جميعا،فلا بد أن يخاطبهم سبحانه باللغة البشرية،لتثبيت قضايا الدين و شرائعه في وجدانهم، و عقلهم،و فكرهم.

و لكن ذلك لا يعني:أن لا يشير بطريقته الخاصة أيضا،إلى حقائق علمية..

و على كل حال،فإن الأدلة العقلية و غيرها مما يساق لإثبات الحقائق الاعتقادية،إنما تأتي لتأكيد مقتضيات الفطرة،و تقويتها،و صيانتها عن أن تتعرض لأي تشويه،أو تلوث..

فنحن نقول:إن القرآن قد جاء بنهج استدلالي جديد و فريد،حبذا لو اهتم علماؤنا بالاستفادة منه في تأسيس فلسفة جديدة،سيكون لها أثرها العظيم في بلورة الحقائق و توضيحها بصورة أتم للبشرية جمعاء، لأنها هي اللغة الجامعة و المفهومة لدى الجميع..

ص: 92

فمثلا قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (1)..دليل عقلي يفهمه البشر جميعا،و يتضمن الإعجاز الذي يؤكد وجود اللّه سبحانه للناس كلهم..فإن الخصوصية التي يريد اللّه أن يفهمها للناس، ثابتة في كل عصر و زمان،حتى لو لم يعد للإبل دور يذكر في حياة البشر-و هي خصوصية باقية يعرفها البشر جميعا،أو يمكنهم الاطلاع عليها على مر الزمان،و ليست مرهونة بالحاجة إلى الإبل و عدمها..

كما أنه حين بيّن في هذه السورة أن الأبرار يطعمون الطعام على حبه مسكينا،و يتيما،و أسيرا..قد بدأ ببيان تفاصيل الجزاء لهم،و الذي جاء نتيجة ممارسة،و جهد،و حركة،و عمل حياتي،و عطاء منهم..

و الممارسة و الجهد مرتكز إلى حوافز عقيدية،و منطلق من نظرة معينة للحياة،و من قناعات و مشاعر،و من تكوين نفسي،و فكري،له خصوصيته و فرادته..و ليس ناشئا عن حالة عفوية،و لا مرتكزا إلى أمور خارجة عن حياة الإنسان..بل هو تضحية متعمّدة،يحمل معه قرارا بالتنازل عن علاقة في مقابل علاقة أخرى..

و هذا بالذات يفسر لنا سبب بدء السورة بإعطاء تصور عن واقع و نشأة الإنسان،و عن سيره التكاملي،و عن إعطائه الاختيار في أن يفعل، و أن لا يفعل،و عن أن اختياره،و جهده هو الذي يوصله إلى هذه النتائج في الآخرة..

***

********

(1) سورة الغاشية الآية 17.

ص: 93

ص: 94

الفصل التاسع عشر: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً

اشارة

ص: 95

ص: 96

قال تعالى:

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً.

«وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ »:

إنّ هذه الآية قد تحدثت عن وجود فريق في الجنة،يهتم بشئون هؤلاء الأبرار،و يقوم بخدمتهم،و هذا من شأنه أن يعطيهم سكينة نفسية، و فراغ بال،فلا مبرر للتخوف من مواجهة مشقة الخدمة،و تكليفهم بالوصول إلى حاجاتهم،و الحصول عليها بأنفسهم.

كما أن ذلك يشعرهم بكرامتهم عند اللّه،و برعايته لهم،و برضاه عنهم،و ذلك مما يسعدهم،بل هو غاية أمنياتهم و منتهى آمالهم..

و لعل السبب في اختيار التعبير بالتطواف..فقال: «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ».

و لم يقل:«يخدمهم ولدان»الخ..هو أن مهمة هؤلاء الولدان لا تنحصر بقضاء حاجات الأبرار،بل إنّ نفس وجودهم يعطي الأبرار أنسا.و بهجة و سرورا،بالإضافة إلى ما فيه من إعزاز و تكريم.

و لو كان الموضوع ينحصر بالتكريم،و بقضاء حاجات الأبرار، و تقريب البعيد لهم،لكان من الممكن أن تحضر حاجاتهم إليهم بوسائل غيبية و إعجازية..يهيئ اللّه لهم مبادئ تحريكها،و لو بمجرد خطورها في بالهم..

على أن خدمة الولدان لا تنحصر بما يدخل في سياق السعي

ص: 97

للحصول على الكمالات الناشئة عن الإحساس بالنقص و الحاجة،بسبب القصور في الوصول لمراداتهم و حاجتهم إلى تقريب البعيد لهم.حين يشعرون بضرورة ذلك..لأن الجنة لا يصح أن يشعر المتنعمون فيها بالنقص،أو الحاجة إلى تقريب البعيد،لأن حاجاتهم تحضر لهم قبل أن يتكون لديهم ذلك الشعور الذي قد ينقص من درجة نعيمهم..

أضف إلى ذلك:أن هناك خدمات تهدف إلى رفع مستوى النعيم لأهل الجنة،بفعل اقتراحي يبتدئهم اللّه سبحانه به..

لما ذا لم يقل:يخدمهم؟:

و أما لما ذا لم يشر إلى موضوع الخدمة؟..فلعله قد ظهر ذلك من البيان السابق،حيث قلنا إن الأمر لا يقتصر على الحاجات.بل لا توجد حاجات لهم في الجنة أساسا،فإن النعيم فيها إنما هو في نيلهم درجات تبدأ من مرحلة ما بعد قضاء الحاجات لهم،و رفع النقائص عنهم.

و اللافت هنا:أن اللّه سبحانه لم يشر أبدا في القرآن الكريم إلى هذه الكلمة،أعني كلمة:الخدمة،و لا إلى أي شيء من اشتقاقاتها،و ربما يكون ذلك لأجل تحاشي ما لها من إيحاء مكروه،و غير مناسب و لا منسجم مع الفطرة الصافية،و لا تألفه و لا تستسيغه الطبيعة البشرية،لبعده عن معنى الكرامة،و العزة،و خصوصا في الجنة،حيث يصبح استبعاد هذه المفردات أكثر إلحاحا.

فإنه تعالى لا يمكن أن يختار التعبير الذي يؤذي الروح،و لو بهذا المستوى من الإيحاء،لأنه يريد للجنة أن تكون نقية من الشوائب صافية صفاء أرواحهم،و قلوبهم،و وجدانهم،من كل الكدورات.

ص: 98

«ولدان»لا غلمان:

و كلمة ولدان تختزن في داخلها معان رائعة و خلابة،تحرك المشاعر النبيلة بصورة عفوية،و هي و إن كانت مبهمة،و لكنها تتحرك لتتجسد بصورة عملية و واقعية،و تتبلور،و يصير لها حجم،و أثر و دور أصيل، و قوي و فاعل.

و قد ذكر سبحانه أنّ الطائفين على الأبرار هم«ولدان»و لم يقل غلمان..ربما ليستبعد إيحاءات كلمة غلام،التي تستعمل في الخادم و تطلق أيضا على الشاب في بدايات شبابه،كما تطلق على الشيخ الكبير أحيانا..فهي من الأضداد..أو أنها موضوعة لمعنى لا يأبى عن الانطباق على الشاب و على الشيخ على حد سواء.

«ولدان»أو أشخاص؟:

و كذا لم يقل سبحانه:«يطوف عليهم أشخاص»،أو نحو ذلك،ربما من أجل أن يؤنس الأبرار حين يشير لهم بكلمة«ولدان»إلى أن الذين يطوفون عليهم،فيهم نشاط و حيوية،و فتوة،و هم في مقتبل العمر.

ثم هو يشير أيضا إلى الطراوة،و النضرة،و إلى البراءة..و هي معان يأنس بها الأبرار،و يرتاحون لالتماعاتها الهادئة.

«ولدان»جمع وليد:

اشارة

و في التعبير بكلمة«ولدان»إشارة إلى أمر آخر مهم و جليل أيضا،و هو:

أن هذه الكلمة هي جمع«وليد»و هو الصبي حين يولد،و هذا يعني:

أولا:إن ثمة ولادة لهؤلاء الذين يكرم اللّه تعالى الأبرار بهم،و أنهم لم يرد الخلق عليهم بصورة إبداعية و ابتدائية،فليس خلقهم مثل خلق آدم و حواء،و خلق الأرض و الجبال،و ما إلى ذلك،بل خلقهم هو بطريقة

ص: 99

الحمل و الولادة،كسائر أبناء آدم[عليه السّلام]..

ثانيا:إن تطوافهم على الأبرار لا تعني عبوديتهم و ذلهم،بل ذلك من موجبات نعيم و رضا و أنس أولئك الولدان..كما أنه إكرام و نعيم لآبائهم و لذلك لم يقل:يخدمون.

و من الواضح:أن رضا آبائهم يزيد أيضا في بهجتهم و لذتهم.

خصوصا إذا كانوا على هذه الحالة الرائعة،من حيث إنهم ولدان يتمتعون بإشراق،و بنشاط و حيوية،و نضرة الشباب.

أما تطوافهم على الأبرار فهي ليست فقط لا تغيظ آباءهم،بل هي تفرحهم و تسرّهم،لأنهم يرضون لرضا اللّه سبحانه،و يختارون ما يختاره..و لم تعد علاقتهم بأبنائهم علاقة أرضية محدودة،بل هي علاقة سامية إلهية،حتى إن من يكون ولده ضالا.كنوح مثلا،يكون نعيمه و لذته بانتقام اللّه سبحانه من ولده الكافر،و بتعذيبه بسبب ما جناه من هتك لحرمة المولى سبحانه.

ثالثا:إن درجات النعيم تختلف و تتفاوت،بحسب تأثير الأعمال في إعطاء القدرة على الاستفادة من نعيم الجنة،فقد يكون الإنسان في محضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في عليين،و لكن درجة إحساسه بالنعيم تختلف عن درجة إحساس الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله به.

و هكذا الحال بالنسبة للولدان،و الأبرار،فإن لذة الأبرار هي في الاتكاء على الأرائك،و في دنوّ القطوف لهم،و أن يروا الرسول و..و..أما لذة الولدان فهي كونهم في خدمة أولئك الأبرار..

و كذلك تجد بعض الحسنات توجب إعطاء قصر في الجنة، و بعضها يوجب غرس شجرة،و بعضها تكون مثوبته الحور العين،أو

ص: 100

بستان،أو ما إلى ذلك..

رابعا:بما أن الولادة و التناسل إنما تكون في الدنيا..فذلك يقرّب لنا صحة الرواية التي رواها الكراجكي رحمه اللّه في تفسير هذه الآية،قال رحمه اللّه:

«قوله تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ، عن أمير المؤمنين عليه السّلام،أنه قال:الولدان هم أولاد أهل الدنيا،لم يكن لهم حسنات فيثابون عليها،و لا سيئات فيعاقبون عليها،فأنزلوا هذه المنزلة» (1).

و لكن هل مراده عليه السّلام هو أطفال المشركين؟أو المراد أطفال المؤمنين؟أو هما معا؟!هناك عدة طوائف من الروايات.

و سنرى أنّ الراجح هو أنهم أطفال و أسقاط المؤمنين،حيث تربيهم السيدة الزهراء[عليها السّلام]،و النبي إبراهيم[عليه السّلام]و زوجته، ليكونوا في خدمة الأبرار،و تكون هذه الخدمة من مظاهر إكرام آبائهم، و من أسباب نعيمهم و أنسهم،و تقر بذلك أعينهم..

و على كل حال،فإن هذه الروايات على طوائف،هي التالية:

الطائفة الأولى:

ما صرح من تلك الروايات بأن أطفال المشركين في الجنة:

فقد روي عن النبي[صلّى اللّه عليه و آله]:أنه سئل عن أطفال المشركين،فقال:خدم أهل الجنة على صورة الولدان،خلقوا لخدمة أهل الجنة (2).

********

(1) البحار ج 5 ص 291 عن كنز الفوائد للكراجكي.

(2) البحار ج 5 ص 291 عن كنز الفوائد للكراجكي.

ص: 101

الطائفة الثانية:

الروايات التي دلت على أن أطفال المؤمنين في الجنة،و لم تشر إلى

أطفال المشركين،

مثل:

1-ما روي عن الإمام الكاظم[عليه السّلام]،عن آبائه[عليهم السّلام]،قال:قال رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]:

«لا تزوجوا الحسناء الجميلة العاقرة،فإني أباهي فيكم الأمم يوم القيامة،أو ما علمت أن الولدان تحت عرش الرحمن يستغفرون لآبائهم، يحضنهم إبراهيم،و تربيهم سارة،في جبل من مسك،و عنبر، و زعفران؟!» (1).

2-و قال الصدوق رحمه اللّه:في الصحيح،عن الحسن بن محبوب،عن علي بن رئاب،عن الحلبي،عن أبي عبد اللّه[عليه السّلام]قال:

«إن اللّه تبارك و تعالى يدفع إلى إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين، يغذوانهم بشجرة في الجنة،لها أخلاف كأخلاف البقر،في قصر من الدر،فإذا كان يوم القيامة ألبسوا،و طيّبوا،و أهدوا إلى آبائهم،فهم ملوك في الجنة مع آبائهم،و هو قول اللّه تبارك و تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ..» (2).

3-و روى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المختصر من بصائر الدرجات،لسعد بن عبد اللّه،عن كتاب المعراج للشيخ الصالح أبي محمد الحسن:بإسناده عن الصدوق،عن أبيه،عن محمد بن أبي

********

(1) البحار ج 5 ص 293 عن نوادر الراوندي.

(2) البحار ج 5 ص 293 و 294 عن من لا يحضره الفقيه ص 239.

ص: 102

القاسم،عن محمد بن علي الكوفي،عن محمد بن علي بن مهران،عن صالح بن عقبة،عن يزيد بن عبد الملك،عن الباقر عليه السّلام قال:لما صعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى السماء،و انته إلى السماء السابعة،و لقي الأنبياء عليهم السّلام.

«قال:أين إبراهيم عليه السّلام؟

قالوا له:هو مع أطفال شيعة علي.

فدخل الجنة،فإذا هو تحت شجرة لها ضروع كضروع البقر،فإذا انفلت الضرع من فم الصبي قام إبراهيم فردّ عليه..الخ» (1).

4-عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن سليمان الديلمي،عن أبي بصير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،قال:

«إن أطفال شيعتنا من المؤمنين تربيهم فاطمة[عليها السّلام]،قوله:

أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (2) ،قال:يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (3).

5-و قال الصدوق أيضا:في الصحيح،روى أبو زكريا،عن أبي بصير،قال:قال أبو عبد اللّه[عليه السّلام]:

«إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى منادي في ملكوت السماوات و الأرض:ألا إنّ فلان بن فلان قد مات،فإن كان مات والداه، أو أحدهما،أو بعض أهل بيته من المؤمنين،دفع إليه يغذوه،و إلا دفع إلى فاطمة[عليها السّلام]تغذوه حتى يقدم أبواه،أو أحدهما،أو بعض

********

(1) البحار ج 5 ص 294.

(2) سورة الطور الآية 21.

(3) البحار ج 5 ص 289 عن تفسير القمي.

ص: 103

أهل بيته،فتدفعه إليه» (1).

قال المجلسي:«يمكن الجمع بين الخبرين،بأن بعضهم تربّيه فاطمة [عليها السّلام]،و بعضهم إبراهيم و سارة[عليهما السّلام]على اختلاف مراتب آبائهم،أو تدفعه فاطمة إليهما» (2).

6-و قال الطبرسي:روى زاذان عن علي عليه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إن المؤمنين و أولادهم في الجنة،ثم قرأ هذه الآية» (3).

7-و روي عن الإمام الصادق[عليه السّلام]قال:

«أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة» (4).

8-و روى الكليني عن العدة،عن سهل،عن علي بن الحكم،عن سيف بن عميرة،عن ابن بكير،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جل: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (5)قال:فقال:«قصرت الأبناء عن عمل الآباء،فالحقوا الأبناء بالآباء،لتقر بذلك أعينهم».

و روى الصدوق عن أبي بكر الحضرمي مثله (6).

********

(1) البحار ج 5 ص 293،عن من لا يحضره الفقيه ص 439.

(2) البحار ج 5 ص 294.

(3) البحار ج 5 ص 289 عن مجمع البيان.

(4) البحار ج 5 ص 289 عن مجمع البيان.

(5) سورة الطور الآية 21.

(6) البحار ج 5 ص 292 عن الكافي ج 1 ص 68،و عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 104

الطائفة الثالثة:

الروايات التي صرحت بأن أطفال المشركين مع آبائهم في النار،

فقد:

1-قال المجلسي:في حديث آخر:

«أما أطفال المؤمنين،فإنهم يلحقون بآبائهم،و أولاد المشركين يلحقون بآبائهم،و هو قول اللّه عزّ و جل: بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » (1).

2-قال الصدوق:روى وهب بن وهب،عن جعفر بن محمد،عن محمد،عن أبيه عليهما السّلام،قال:قال علي عليه السّلام:

«أولاد المشركين مع آبائهم في النار،و أولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة» (2).

3-و قال الصدوق أيضا:في الصحيح،روى جعفر بن بشير،عن عبد اللّه بن سنان،قال:سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أولاد المشركين،يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟.

«قال:كفار،و اللّه أعلم بما كانوا عاملين،يدخلون مداخل آبائهم» (3).

الطائفة الرابعة:

الروايات التي دلت على أنهم تؤجّج لهم نار،و يؤمرون بدخولها،فمن

دخلها كان في الجنة،و من أبى كان مصيره إلى النار،

و من هذه الروايات:

********

(1) البحار ج 5 ص 292 عن الكافي ج 1 ص 68.

(2) البحار ج 5 ص 294 عن من لا يحضره الفقيه.

(3) البحار ج 5 ص 295 عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 105

1-ما رواه الصدوق عن علي عليه السّلام قال:

«يؤجج لهم نارا،فيقال لهم:ادخلوها.فإن دخلوها كانت عليهم بردا و سلاما،و إن أبوا قال لهم اللّه عزّ و جل:هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني.فيأمر اللّه عزّ و جل بهم إلى النار» (1).

2-و روى الصدوق أيضا،عن الحسين بن يحيى بن الضريس،عن أبيه،عن محمد بن عمارة السكري،عن إبراهيم بن عاصم،عن عبد اللّه بن هارون الكرخي،عن أحمد بن عبد اللّه بن يزيد،عن أبيه يزيد بن سلام،عن أبيه سلام بن عبيد اللّه،عن أخيه عبد اللّه بن سلام مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،أنه قال:

«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت:أخبرني أ يعذب اللّه عزّ و جل خلقا بلا حجة؟قال:معاذ اللّه.

فقلت:فأولاد المشركين في الجنة،أم في النار؟!

فقال:اللّه تبارك و تعالى أولى بهم.إنه إذا كان يوم القيامة-و ساق الحديث إلى أن قال-:فيأمر اللّه عزّ و جل نارا يقال له:الفلق،أشد شيء في نار جهنم عذابا..

(ثم ذكر في الحديث صفة تلك النار،و أنه تعالى يأمرها فتنفخ في وجه الخلائق،و ما يصيب الخلائق من هذه النفخة،ثم يقول):

فيأمر اللّه تعالى أطفال المشركين أن يلقوا بأنفسهم في تلك النار، فمن سبق له في علم اللّه عزّ و جل أن يكون سعيدا ألقى نفسه فيها، فكانت عليه بردا و سلاما،كما كانت على إبراهيم عليه السّلام،و من سبق

********

(1) البحار ج 5 ص 295 عن من لا يحضره الفقيه.

ص: 106

له في علم اللّه تعالى أن يكون شقيا امتنع فلم يلق نفسه في النار،فيأمر اللّه تعالى النار فتلتقطه؛لتركه أمر اللّه،و امتناعه من الدخول فيها،فيكون تبعا لآبائه في جهنم» (1).

الطائفة الخامسة:

و هناك روايات تحدثت عن مصير مطلق الأطفال،

و عن الأصم و الأبكم و الأبله،و لم تحدد كونهم أطفال مسلمين أو غير مسلمين.

و ذكرت أن هؤلاء تؤجّج لهم نار و يؤمرون بالدخول فيها..

و نذكر من هذه الروايات ما يلي:

1-الصدوق:عن أبيه،عن محمد العطار،عن الأشعري،عن علي بن إسماعيل عن حماد،عن حريز،عن زرارة،عن أبي جعفر عليه السّلام،قال:

«إذا كان يوم القيامة احتج اللّه عزّ و جل على خمسة:على الطفل، و الذي مات بين النبيّين،و الذي أدرك النبي و هو لا يعقل،و الأبله، و المجنون الذي لا يعقل و الأصم و الأبكم.

فكل واحد منهم يحتج على اللّه عزّ و جل،قال:فيبعث إليهم رسولا، فيؤجج لهم نارا،فيقول لهم:ربكم يأمركم أن تثبوا فيها.

فمن وثب فيها،كانت عليه بردا و سلاما،و من عصى سيق إلى النار» (2).

و روى ما يقرب منه في معاني الأخبار،عن أبيه،عن سعد،عن

********

(1) البحار ج 5 ص 291 عن كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه اللّه.

(2) البحار ج 5 ص 289 و 290 عن كتاب الخصال ص 136.

ص: 107

أحمد بن محمد،عن حماد،عن حريز،عن زرارة.

و في الكافي:عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن حماد.

2-و روى الكليني في العدة،عن سهل،عن غير واحد،رفعه:أنه سئل عن الأطفال،فقال:

«إذا كان يوم القيامة جمعهم،و أجج نارا،و أمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها..إلى أن قال:فيقولون(أي الذين يؤمر بهم إلى النار):يا ربنا تأمر بنا إلى النار،و لم يجر علينا القلم؟

فيقول الجبار.قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني،فكيف لو أرسلت رسلي بالغيب إليكم» (1).

3-و روى الكليني،عن علي بن إبراهيم،عن أبيه،عن ابن أبي عمير،عن هشام،عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:أنه سئل عمّن مات في الفترة،و عمن لم يدرك الحنث و المعتوه،فقال:

«يحتج اللّه عليهم،يرفع لهم نارا،فيقول لهم:ادخلوها،فمن دخلها كانت عليه بردا و سلاما،و من أبى قال:ها أنا قد أمرتكم فعصيتموني» (2).

و بهذا الإسناد قال:

«ثلاثة يحتج عليهم:الأبكم،و الطفل،و من مات في الفترة،فيرفع لهم نارا..إلخ..» (3).

********

(1) البحار ج 5 ص 292/291 عن الكافي ج 1 ص 68.

(2) البحار ج 5 ص 293 عن الكافي ج 1 ص 68.

(3) المصدر السابق عنه.

ص: 108

التكليف في دار الجزاء:

بقي الكلام في أنه هل يكون في دار الجزاء تكليف أم لا؟..

فقد قال المجلسي:

«قال الصدوق رضي اللّه عنه:إن قوما من أصحاب الكلام ينكرون ذلك،و يقولون:إنه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء،تكليف.و دار الجزاء للمؤمنين إنما هي الجنة.و دار الجزاء للكافرين إنما هي النار.

و إنما يكون هذا التكليف من اللّه عزّ و جل في غير الجنة و النار،فلا يكون كلفهم في دار الجزاء،ثم يصيّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم،فلا وجه لإنكار ذلك» (1).

فيلاحظ:

أن الصدوق رحمه اللّه قد جمع بين الأخبار التي تقول تارة:إن أطفال المشركين،مع آبائهم في النار،و أخرى بأنهم يؤمرون بدخول نار تضرم لهم.بأن المراد بكونهم مع آبائهم في النار،هو نار البرزخ،و لكنها لا تصيبهم من حرها،لتكون الحجة عليهم أوكد،فإذا جاء يوم القيامة.

فإن النار التي يؤمرون بدخولها تؤجج لهم..فتكون نار البرزخ حجة عليهم،و دليلا لهم (2).

غير أننا نقول:

إن من الواضح:أن طريق الجمع ليس منحصرا فيما ذكره الشيخ الصدوق رحمه اللّه.

********

(1) البحار ج 5 ص 290.

(2) البحار ج 5 ص 295.

ص: 109

فإن من الممكن أن يكون ذلك جاريا وفق علم اللّه سبحانه بما يكون منهم..بأن يكون تعالى قد علم أن جميع أولاد الكفار سوف يرفضون دخول النار التي تؤجّج لهم،و بذلك يستحقون دخول جهنم.

فأخبرت طائفة من الروايات عن علم اللّه تعالى بما سيكون عليه حالهم.

و قد ذكر المجلسي رحمه اللّه جمعا آخر غير ما ذكرناه و ذكره الصدوق رحمه اللّه.و هو أنه عليه السّلام حين أجاب بأنهم كفار،أو نحو ذلك، فإنما قصد أنهم محكومون بالكفر في الدنيا تبعا لآبائهم،و لذلك يحكم بنجاستهم،و عدم التغسيل و التكفين،و الصلاة،و التوارث و غير ذلك.

و أما دخولهم في النار مع آبائهم،فإنما يكون بعد رفضهم الدخول في النار التي تضرم لهم.

ثم ذكر أيضا:أن الظاهر هو أن هذه الروايات قد وردت مورد التقية فراجع (1).

و نحن،لا نوافق على هذا القول الأخير،إذ إن الروايات و الآراء في هذه المسألة عند أهل السنة مختلفة أيضا.فلا معنى لحمل الأخبار على التقية في أمر مختلف فيه عندهم،في الرأي أم في الرواية معا.

و قد ذكر المجلسي نفسه اختلافاتهم في ذلك؛في نفس الموضع من الجزء و الصفحة المشار إليها آنفا..فراجع.

إلا أن يقال:إن الاختلاف بين أهل السنة قد تأخر عن زمان صدور الرواية،فلا بد من إثبات ذلك..كما أنه لا بد من إثبات:أن أهل السنة و من يخشى منه فيهم،لا بد أن يكون لديهم تعصب و حساسية،تجاه كل

********

(1) راجع:البحار ج 5 ص 295 و 296.

ص: 110

من خالفهم في خصوص هذا الرأي،إذ كل مورد خالفهم فيه يكون لديهم اندفاع نحو البطش به،ليكون مضطرا إلى التقية..

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟!:

«هذا..و قد ذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار،فهم إما يدخلون الجنة،أو يسكنون الأعراف.

و ذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه الأخبار الصحيحة،من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم» (1).

و استدل المتكلمون منا على ما ذهبوا إليه؛بقبح تعذيب غير المكلف (2).

و نقول:

أولا:إن المشكلة التي وقف عندها المتكلمون يمكن أن تحلّ..فإن الأخبار قد دلّت على أنهم يكلفون بدخول نار تضرم لهم..فإذا امتنعوا و عوقبوا فلا يكون ذلك تعذيبا لغير المكلف،بل هو تعذيب لمكلف قد عصى..و ليس تعذيب العاصي قبيحا.

و في جميع الأحوال،فإن أخبار تكليفهم تدل على أن إدراكهم في تلك النشأة يختلف عنه في الحياة الدنيا..و ربما يكون اللّه تعالى قد زادهم من عنده ما يؤهلهم للخطاب و التكليف رحمة منه بهم..

ثانيا:و أمّا قول المتكلمين:إنّه لا تكليف في يوم القيامة،فهو مردود:

ألف-بأن هذه الروايات قد دلت على وجود تكليف في الآخرة أيضا..و الأمر في ذلك بيد اللّه سبحانه،و طريق معرفته هو السمع..و هذه

********

(1) البحار ج 5 ص 296و 297.

(2) راجع:البحار ج 5 ص 297.

ص: 111

الروايات هي ذلك السمع المثبت لذلك..

و أمّا ما دل على عدم وجود تكليف في الآخرة،فيحمل على أن المقصود به خصوص من كلّفوا في دار الدنيا،دون من عداهم.

ب-لو سلمنا أنه لا تكليف في الآخرة مطلقا،فإننا نقول:

إننا إذا راجعنا الآيات القرآنية الشريفة،و كذلك الروايات،فسنجد فيها الكثير مما يشير إلى التصرف الإلهي في المكان و الزمان على حد سواء..

فلعل اللّه سبحانه يتصرف في الآخرة في الزمان و المكان،فيجعل لحظة من لحظات الآخرة،التي لا تعد من عمر الآخرة-يجعلها-مليارات من الأحقاب،و يتصرف أيضا في ذرة لا تدخل في عداد الأمكنة،فيجعل منها سماوات،و أرضين،و أفلاكا،يعيش فيها هؤلاء،و يكون لهم التبشير و الإنذار، و يكون منهم الهدى و الضلال،و الخير و الشر.

ثم يبعثون،فيدخل المطيع الجنة،و يدخل العاصي منهم النار،قبل أن يحصل في المحشر أي جديد..

و التصرف الإلهي في الزمان و المكان،قد دلت عليه النصوص أيضا.

و نذكر فيما يلي طائفة من الآيات و الروايات التي دلت على ذلك..

[التصرف في المكان]

فنقول:

التصرف في المكان:

إن مما أشار إلى التصرف في المكان قوله تعالى:

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ * وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ * وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (1) .

********

(1) سورة الانشقاق،الآيات 3/1.

ص: 112

و قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ (1).

و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها (2).

و قال تعالى: وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ (3).و لعل المراد رجوعها إلى خزائن الغيب.

و قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (4).

و قال سبحانه: وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ (5).

و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ (6).

و قال تعالى: وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ (7).

و قال عزّ و جل: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (8).

و قال تعالى: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (9).

********

(1) سورة إبراهيم الآية 48.

(2) سورة الرعد الآية 41،و نظيرها في سورة الأنبياء الآية 44.

(3) سورة الزمر الآية 67.

(4) سورة الأنبياء الآية 104.

(5) سورة الأعراف الآية 171.

(6) سورة الرعد الآية 32.

(7) سورة الكهف الآية 47.

(8) سورة النبأ الآية 20.

(9) سورة القارعة الآية 5.

ص: 113

و نذكر من الروايات،ما يلي:

1-عن أبي الحسن الأول في تفسير آية وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ (1).قال عليه السّلام:

«و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال،و تقطع به البلدان،و يحيى به الموتى» (2).

2-روى الكليني بسنده عن جابر،عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«إن اسم اللّه الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا،و إنما كان عند آصف منها حرف واحد،فتكلم به،فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس، حتى تناول السرير بيده،ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين» (3).

و بهذا المعنى روي أيضا عن أبي الحسن الهادي عليه السّلام فراجع.و فيه:فانخرقت له الأرض (4).

و في نص آخر:عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام:

«فانخسفت الأرض ما بينه و بين السرير،و التقت القطعتان،و جعل من هذه على هذه» (5).

********

(1) سورة الرعد الآية 31.

(2) تفسير الميزان ج 11 ص 370 عن الكافي.

(3) تفسير البرهان ج 3 ص 203 عن الكليني،و عن بصائر الدرجات،و نور الثقلين ج 4 ص 88 و 89 و 90.

(4) تفسير البرهان ج 3 ص 203 و 204،و نور الثقلين ج 4 ص 90.

(5) تفسير البرهان ج 3 ص 204 عن بصائر الدرجات،و نور الثقلين ج 4 ص 88.

ص: 114

و قريب منه ما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،و فيه:

«ثم تناول السرير بيده» (1).

و راجع:ما رواه السيد الرضي في الخصائص من أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال:ما يقرب من ذلك أيضا (2).

3-و جاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السّلام:دعا آصف، فغار العرش من مكانه بمأرب،ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة اللّه (3).

4-و عن علي بن إبراهيم:

«دعا اللّه عزّ و جل باسمه الأعظم،فخرج السرير من تحت كرسي سليمان» (4).

5-و عن علي بن مهزيار،عن أحمد بن محمد،عن حماد بن عثمان،عن زرارة قال:سمعت أبا عبد اللّه يقول:

ما زاد صاحب سليمان..[إلى أن قال:]بإصبعه هكذا،فإذا هو قد جاء بعرش صاحبة سبأ.

فقال له حمران:كيف هذا أصلحك اللّه؟!

فقال:إن أبي كان يقول:إن الأرض طويت له.إذا أراد طواها».

********

(1) البرهان ج 3 ص 204 و نور الثقلين ج 4 ص 88.

(2) تفسير البرهان ج 3 ص 305.

(3) تفسير نور الثقلين ج 4 ص 87.

(4) تفسير البرهان ج 3 ص 206 و راجع تفسير نور الثقلين ج 4 ص 91 عن تفسير مجمع البيان.

ص: 115

6-حديث دفن الإمام السجاد لأبيه في كربلاء،حيث إنه عليه السّلام كان في الكوفة،فطويت له الأرض في مجيئه إلى كربلاء،فدفن أجساد الشهداء،و عاونه بنو أسد،ثم عاد إلى سجنه في الكوفة بطي الأرض أيضا.

7-حديث مجيء الإمام علي عليه السّلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى المدائن قرب بغداد،حيث غسل و كفن و صلى على سلمان المحمدي(الفارسي)و دفنه،ثم رجع إلى المدينة و إنما قطع تلك المسافات ذهابا و إيابا بطي الأرض أيضا.

8-حديث مجيء الإمام الجواد عليه السّلام من المدينة المنورة في الحجاز إلى خراسان ليغسل،و يكفّن،و يصلي على أبيه الإمام الرضا عليه السّلام و يدفنه..ثم رجع،و كان ذلك بطي الأرض كما هو معلوم.

9-و هناك الحديث الذي يقول:إن الإمام الكاظم عليه السّلام خرج من سجنه ببغداد إلى المدينة المنورة ليعهد إلى ولده الإمام الرضا عليه السّلام؛و قد جاء فيه:

«ثم قال:إني أدعو اللّه عزّ و جل باسمه العظيم،الذي دعا به آصف حتى جاء بعرش بلقيس،و وضعه بين يدي سليمان عليه السّلام،قبل ارتداد طرفه إليه،حتى يجمع بيني و بين ابني علي بالمدينة.

قال المسيب فسمعته يدعو،ففقدته عن مصلاه،فلم أزل قائما على قدميّ حتى رأيته قد عاد إلى مكانه،و أعاد الحديد إلى رجله إلخ..» (1).

10-و حول طي الأرض للأئمة عليهم السّلام عقد في بصائر

********

(1) راجع:تفسير نور الثقلين ج 4 ص 89 عن عيون الأخبار.

ص: 116

الدرجات بابا فيه خمسة عشر حديثا..

و حول طي الأرض لمن شاء من أصحابه عقد بابا فيه أحاديث كثيرة،بالإضافة إلى أبواب أخرى ذكر فيها أحاديث كثيرة،تفيد أن اللّه قد أعطاهم عليه السّلام قدرات عظيمة في هذا المجال و في غيره فراجع (1).

التصرف في الزمان:

و بعد ما قدمناه عن التصرف في المكان،نجد أننا في غنى عن السعي لجمع الشواهد الدالة على وقوع التصرف في الزمان أيضا..بل يكفينا اعتقادنا المستند إلى الدليل بإطلاق قدرة اللّه سبحانه.

و مع ذلك،نقول:قد روى أبو سعيد الخدري في تفسير قوله تعالى:

تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (2) قال:

قيل:يا رسول اللّه،ما أطول هذا اليوم!!

فقال:و الذي نفس محمد بيده،إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا (3).

و عن الإمام الرضا عليه السّلام في حديث:الأئمة اثنا عشر،جاء قوله:

«و ليس بعزيز أن يجمع هذه الأمة يوما أو نصف يوم،و إن يوما عند

********

(1) راجع:بصائر الدرجات ص 397-410 و الكافي.

(2) سورة المعارج الآية 4.

(3) مجمع البيان ج 10 ص 120 و تفسير البرهان ج 4 تفسير سورة المعارج.

ص: 117

ربك كألف سنة مما تعدون».. (1).

بل قد يستفاد التصرف بالزمان من نفس قضية دفن الإمام السجاد عليه السّلام للأجساد الطاهرة في كربلاء،و من الإتيان بعرش بلقيس حسبما تقدم..

خلاصة لأجل التوطئة:

و بناء على ذلك نقول:قد تقدم أن الرواية ذكرت:أن الولدان المخلدين هم أطفال المؤمنين،يهدون لآبائهم ليسرّهم اللّه بهم.و أن فاطمة عليها السّلام هي التي تربيهم،أو تدفعهم إلى سارة و إبراهيم عليهما السّلام..

و ورد أيضا:أن السقط من المؤمنين يقف محبنطئا على باب الجنة، و يقول:لا أدخل حتى يدخل أبواي،أو نحو ذلك (2).

و أما أطفال المشركين و الكفار،فتضرم لهم نار،و يؤمرون بالدخول فيها،فمن أطاع دخل الجنة،و من عصى دخل النار..

و ذكرنا أيضا:أنه لو كان لا بد من الإصرار على عدم وجود تكليف في الآخرة حتى لهؤلاء الأطفال و الأسقاط،فإنه لا شيء يمنع من حصول تصرف إلهي في الزمان و المكان،على النحو الذي ذكرناه،ليصبح من الممكن تكليفهم بالطاعة و بالمعصية.فإنكار ذلك يصبح غير ظاهر الوجه..

********

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 51.

(2) الكافي ج 5 ص 334 و من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 383 و التوحيد للصدوق ص 395.

ص: 118

سؤال تقف وراءه أسئلة:

و هنا سؤال،تقف وراءه أسئلة..هو التالي:

إنه إذا كان هذا هو حال الطفل،و الأبله،و المجنون،و الأصم، و الأبكم،و أمثال هؤلاء..فكيف تكون حال المكلفين الجاهلين؟

و يتبع هذا السؤال أسئلة كثيرة،نذكر منها على سبيل المثال:

السؤال عن حكم:

1-الجاهل القاصر،أو الغافل من المشركين و الملحدين،الذي لو علم لعمل.

2-الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الكتاب الذي يحب أن ينال رضا اللّه تعالى،و يحب أن يصل إليه،و لا عناد لديه.

3-الجاهل القاصر أو الغافل من أهل الخلاف،الذي يعتقد أن ما هو عليه يوصله إلى اللّه،و لو علم أن غير ذلك هو الذي يوصله،لأخذه، و عمل به.

4-الجاهل المقصر من الصنف الأول..

5-ثم من الصنف الثاني..

6-ثم من الصنف الثالث..

7-و إذا كان هذا الجاهل القاصر،أو المقصر من أهل الخلاف، و استشهد في سبيل الدفاع عن الدين بحسب اعتقاده،فهل يدخل الجنة؟!

8-و كيف يدخل الجنة،مع وجود أحاديث تدل على أن من لا يوالي عليا عليه السّلام فليس له في الجنة من نصيب،حتى لو صام

ص: 119

نهاره،و قام ليله،و حج دهره..

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تدخل في هذا السياق..

و نجيب على هذه الأسئلة باختصار شديد،بما يلي:

الناس أصناف مختلفة،فمنهم:

ألف-كتابي،أو مخالف،أو مشرك،و لكنه عالم مطلع،و ملتفت، و مصر على ما هو عليه،كعلماء أهل الأديان الباطلة،و علماء الفرق المختلفة..أو كالذين رأوا الآيات الباهرة بأم أعينهم كأبي جهل،و عتبة، و شيبة،و أضرابهم..

ب-و هناك كتابي أو مخالف،أو مشرك،راض بما هو عليه،لا يقبل بأن يفكر،و أن يناقش،بحجة أنه لا يريد أن يشغل باله بمثل هذه الأمور،التي لا يرى لها ذات أهمية،فهو يقدم راحة باله،و تفرغه لشئونه على أي شيء آخر..

ج-و هناك مشرك،أو كتابي،أو مخالف يريد أن ينجو بنفسه من كل خطر،و هو مستعد لقبول الحق،و الالتزام به،و العمل بمقتضاه.

و لكنه غافل عن وجود شيء سوى ما هو عليه..

كما لو كان يعيش في صحراء،أو في غابة،و لا يعرف ما وراءها..

د-و هناك من هو مستعد لقبول الحق،و عارف بوجود اختلافات بين الناس فيه،و لكنه عاجز عن الوصول إلى هذا الحق.إما لموانع قسرية انتهت بحجز حريته ضمن نطاق بعينه،أو لعدم قدرته الفكرية- في نفسه-على التمييز بين الحق و الباطل،أو لوجود شبهات أو خدع أثّرت على فهمه للأمور،و لو أنه اكتشف الزيف لرفضه،و التزم بالحق.

ص: 120

و بعد ما تقدم نقول:

إن من يكون عارفا بالحق،لكنه يتعامى عنه،و يجحده،و يصر على الباطل،و هو القسم الأول،فلا ريب في أنه غير معذور،بل هو من الهالكين..و هذا هو ما يحكم به العقل،و يقتضيه الحق و العدل.

و لو فرض أنه قد فعل ذرة من خير،فلا بد أن يكافئه اللّه عليها في الدنيا،و ما له في الآخرة من خلاق.

و إن كان جاهلا بالحق،و قد رضي بجهله،و لا يرضى بالنظر في الأمور رغم الطلب إليه،و الإصرار عليه،كما هو الحال في الصنف الثاني، فإن كان هذا الشخص في دائرة الكفر و الشرك،فلا مجال للبحث في أمر نجاته..و أما إن كان في دائرة الإسلام،و لكنه لا يعتقد بولاية الإمام علي عليه السّلام من دون أن يصل إلى درجة الجحود،فلا بد أن ينظر في عمل هذا الشخص،فإن كان فاسدا،لا يرضى اللّه تعالى به،و لا يقره عليه الشرع،بل هو عبارة عن جرائم و موبقات،فهو كسابقه..

و إن كان ذنب سابقه أعظم بسبب جحوده و طغيانه..

و أما إن كان عمله موافقا للشرع الذي يدين اللّه به،فيمكن أن يتداركه اللّه سبحانه برحمته،لأجل شفاعة ولد صحيح الإيمان،أو لأي سبب آخر.بحيث تفيده هذه الشفاعة في إفساح المجال له لتصحيح تلك الأعمال بعرض ولاية الإمام علي عليه السّلام كما سيأتي في القسم التالي..

و أما من يكون غافلا،أو عاجزا عن الوصول إلى الحق،أو مخدوعا، واقعا تحت تأثير شبهة فيه،غير أن كل همه و سعيه هو الحصول على رضا اللّه و الوصول إليه..فإن حكم هذا القسم يعلم بملاحظة القاعدة التي

ص: 121

تضمنتها الآية المباركة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (1)..

و قوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (2)..

ثم بملاحظة ما هو ثابت من أنه لا يدخل الجنة إلا من أقر بالولاية لأمير المؤمنين عليه الصلاة و السّلام.

أي أن عدل اللّه تعالى و لطفه يقتضيان أمرين قد يبدوان متخالفين:

أحدهما:أن لا يضيع عمل هذا الشخص.

و الآخر:أن لا يدخل الجنة بدون إقرار منه بولاية الإمام علي و أهل بيته عليهم السّلام.

و لكن الحقيقة هي أن هذا التخالف و الاختلاف صوري،و ليس بحقيقي،و ذلك بملاحظة وجود أحاديث ذكرت أن ولاية الإمام علي عليه السّلام سوف تعرض على نوع من الناس يوم القيامة.فمن قبلها، أصبحت أعماله السابقة التي هي خير و صلاح،صالحة و قادرة على التأثير في إدخال صاحبها إلى الجنة،فولاية الإمام علي عليه السّلام تكون بمثابة الروح التي تدب في الجسد فتعطيه الحياة و القوة و الحركة..

و لعل إلى هذا يشير قوله تعالى عن تبليغ ولاية الإمام علي عليه السّلام: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (3)..فإن الرسالة في حقائقها، و أحكامها،و كل مضامينها بدون ولاية الإمام علي عليه السّلام،تكون كالجسد بلا روح،فإذا جاءت الولاية تحركت اليد و صارت تبطش،

********

(1) سورة الزلزلة الآية 7.

(2) سورة آل عمران الآية 195.

(3) سورة المائدة الآية 67.

ص: 122

و تدفع،و تقرب و تبعد،و صارت العين ترى،و الأذن تسمع،و اللسان يتكلم،الخ..

و نقرب الفكرة أيضا،بالتمثيل بالإجازة في العقد الفضولي..فإن الإيجاب و القبول،و جميع عناصر العقد متوفرة،فإذا أجاز المالك البيع لاحقا،فإن تلك العناصر تؤثر أثرها،و يحصل النقل و الانتقال،و تتحقق الملكية للثمن و للمثمن..

و على هذا الأساس نقول:إن الذين يقتلون في ساحات الجهاد، و كان حالهم في القصور و الغفلة،حال هؤلاء،فإنهم إذا كانوا يقاتلون في سبيل اللّه،لا لأجل الدنيا،و ليس لإرضاء شخص،أو فئة،و لا تأييدا لخط انحرافي،أو طاعة لقوى الشر و الضلال..فإن عملهم يكون جاهزا يوم القيامة،و لا يحتاج إلا إلى ولاية الإمام علي عليه السّلام،لتكون هي الروح التي تدب فيه،و تحمل صاحبه إلى الجنة،و ينال بذلك السعادة، فلا غرو أن يلطف اللّه سبحانه و تعالى به،و يتيح له هذه الفرصة،بعرض ولاية الإمام علي عليه السّلام،فإن قبلها نال الجنان،و إن رفضها،فقد تمت عليه الحجة،و لا بد أن ينال جزاء جحوده لأمر اللّه سبحانه..

للغة تأثيرها القوي:

و بعد،فقد أشرنا غير مرة إلى أن اللغة العربية تختزن في داخلها طاقة تعبيرية كبيرة،و كما كبيرا من الإشارات و الإيحاءات،و هذا من شأنه أن يترك آثارا متنوعة على نفسيات،و مشاعر،و انفعالات،و وجدان الناس،و على مفاهيمهم،و تربية ذهنياتهم،و إحداث ارتكازات لا شعورية لهم،و ترويض و تدجين السمع و القلب على أمور ذات طابع معين..

هذا بالإضافة إلى دورها الإيجابي في رفع مستوى الإنسان،و الترقي

ص: 123

بفكره،و بمفاهيمه،و بمشاعره إلى مستويات عالية و مرموقة،و نبيلة،ثم شحن روحه و وجدانه بقيم و مثل عليا،ما أشد حاجته إليها في حياته و في مواقفه..

فلا محل للتعجب إذا فهمنا من كلمة«ولدان»ذلك المعنى الذي ساقنا إلى مثل هذه القضايا..

«مخلّدون»:

و حين نصل إلى قوله تعالى:«مخلّدون»..فإننا:

1-سنشعر بأن هؤلاء الولدان سيكونون مع الأبرار دائما..فليس وجودهم معهم عارضا،و لن يكون هذا الاهتمام بشأن الأبرار محدودا بالأيام الأولى لدخولهم تلك الجنة..

2-و سنشعر أيضا أن وصف الولدان بالمخلدين..يشعرنا ببقاء صفة الفتوة و النّضرة فيهم..فلا خوف إذن من أن يصبحوا بتقادم الزمن شيوخا،و لا سبيل لظهور سمات الهرم فيهم..

3-إن إعلام الأبرار بأن ثمة خلودا في الجنة،و أن الوعد بالخلود، لا بد أن يتحقق إذ هو مما تثبت الوقائع نظائر له،و تؤكد أنه حقيقة واقعة..إن هذا لمما يزيد في طمأنينة الأبرار إلى هذا الوعد،على قاعدة:

قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1) .

و مما يزيد في سعادة الأبرار بهذا الخلود:أنه خلود لا يؤثر في المحيط من حولهم،تغيرا،و ذبولا،أو تشوها،أو حاجة،أو نقصا،أو ما إلى ذلك.بل يبقى كل هذا النعيم في غاية التمام و الكمال..فلا يجدون

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

ص: 124

إلا الصحة،و القوة،و الشباب،و الفتوة،و الري،و الشبع،و الواجدية لكل ما تشتهي الأنفس،و تلذ الأعين.فهو إذن خلود لذيذ،و محبوب،لأنه خال من المتاعب،و ليست فيه أية شوائب..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ »:

1-و قد أشرنا أكثر من مرة إلى أن كلمة«إذا»إنما تستعمل في مقام الجزم و اليقين،و قد جاءت هنا لتأكيد الحقيقة التي يراد للأبرار أن يعوها، و أن يلتذوا بتصورها..

بالإضافة إلى أن هذا الجزم يستبطن الإغراء للآخرين بالعمل بهذا الاتجاه،ما دام أن الإقدام عليه لم يعتمد على مجرد احتمالات،أو ظنون.

بل النتائج فيه يقينية،و اليقين فيها مطابق للواقع جزما،لأنه مستند إلى الإخبار الإلهي..

2-و هناك إشارة أخرى،ربما يقال:إنها تستفاد من كلمة«إذا»، و هي:أن هذه الكلمة تشير إلى أن ثمة يقينا بحتمية الوصول إلى هذه النتائج إذا سار الإنسان بحسب ما تقتضيه فطرته،و يفرضه عليه التوازن الذي يعيشه في داخل شخصيته و في كل حياته.

أي أن الإنسان إذا كان طبيعيا،و منسجما مع نفسه،و لا يعاني من أي خلل في شخصيته الإنسانية،فإنه لا بد أن يسير بحسب مقتضيات فطرته،و يخضع لأحكام عقله،و هي بدورها لا بد أن توصله إلى هذه النتيجة،و إلى هذا المقام،فكلمة«إذا»تشير إلى هذه اللابدية و الحتمية، فإن من لا يصل إلى هذا المقام،يكون قد أخل بالمسار الطبيعي و لم يستجب لنداء فطرته و عقله.بل تأثر بعوامل الهوى،و غيرها مما أضعفه، و أخل بالمسار الطبيعي لشخصيته الإنسانية..

ص: 125

فعدم الوصول إلى مقام الأبرار هو الاستثناء،و هو دليل خلل و ضعف،و انحراف عن المسار العام،و الوصول إليه هو الأمر المتوقع و الطبيعي..

«إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ »:

و قد اختار هنا الحديث عن الحالة،و الشكل،و المنظر الظاهري للولدان..

و لكنه حديث قد جاء بطريقة تختزن في داخلها وعي المضمون الذي يحتضنه ذلك الشكل العام..و سنوضح ذلك إن شاء اللّه تعالى..

و لكن قوله:«حسبتهم»يشير إلى وجود خطأ في إدراك أهل الجنة لحالات و حقيقة ما يحيط بهم..فكيف يمكن تصور ذلك؟!

و الجواب:

أولا:إنه تعالى لم ينسب الحسبان لأهل الجنة،بل هو يقول:إن من يشرف عليهم و يراهم،هو الذي يقع في هذا الخطأ،خصوصا إذا كان الخطاب في هذه الآية الكريمة لأهل الدنيا،الذين لا يملكون القدرات التي تمكنهم من إدراك الواقع الأخروي الذي هو أرقى بكثير مما عرفوه و ألفوه،و وسائل الإدراك التي تمتلكونها تبقى قاصرة عنه.

ثانيا:لو سلمنا أن الخطاب هو للمؤمن الذي هو من أهل الجنة، و الذي تكون لديه وسائل إدراك تتناسب مع الواقع الذي يتعاطى معه، فإننا نقول:

إن الخطأ على نحوين:

أحدهما:ما يكون بحيث ينشأ عنه فقدان أو فقل:تفويت حالة الكمال،أو الإضرار بها.و فقد الوصول إلى الخير و النفع،الذي يفيد في

ص: 126

الترميم،و في التقليم و التطعيم.و ليس هذا هو المقصود هنا..و لا تحصل هذه الحالة في الجنة أبدا..

ثانيهما:الخطأ الذي ينتج عنه كمال في المعرفة،و صحة فيها،و زيادة في إدراك الحقائق،و يوجب تكامل الفهم و الوعي..

و هذا هو المقصود هنا،فإن خطأ الباصرة هنا: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لا يوجب نقصا في المعرفة،و لا تفويت شيء من المعاني، و الحالات التي يجب الاحتفاظ بها.

و لا هو إدراك لنقص موجود في الولدان،بل هو خطأ يوجب المزيد من إدراك درجات و تلمس حالات الحسن في الولدان،و مراتب الصفاء في ألوانهم،و إشراق،و نضرة وجوههم..

و هذا معناه:أن هذا النوع من الحسبان قد جاء في صراط التكامل، و هو خطأ تنتج عنه صوابية في الإدراك،و دقة فيه،و هو من طرق التعبير عن الحقائق بوضوح،و من وسائل الإيصال إليها..فهو نظير الطريقة الحسابية،المعروفة بحساب الخطأين،الذي لا يوصل إلى النتيجة الصحيحة إلا بعد ذكر فرضيتين خاطئتين،و قد ذكر هذه الطريقة المرحوم الشيخ البهائي قدس سره،في كتابه:خلاصة الحساب.

«لؤلؤا»:

و أما اختيار تشبيه الولدان المخلدين باللؤلؤ المنثور فلعله من أجل الإلماح إلى عدة أمور تكون فيه،هي:

1-صفاء اللؤلؤ..

2-إشراقه و رونقه..

3-شفافيته..

ص: 127

4-تلألؤ و تشعشع غير عادي..

5-البريق،و انعكاس النور..

6-الجمال..

7-الظهور..

8-الانتشار..

9-التوهج الذي يعني أن يكون في الولدان حيوية،و شباب، و فتوة،و طراوة،و توهج..

«منثورا»:

و بعد ما تقدم نقول:إن قوله«منثورا»يفرض علينا الالتفات إلى الأمور التالية:

أولا:إذا تعددت حبات اللؤلؤ المجتمعة،في مجال واحد، و تحركت في اتجاهات مختلفة،فإن تشعشعها،و لمعانها،و انعكاسات نورها،سوف تزداد ظهورا،و تتداخل بصورة رائعة..و هذا هو حال الولدان المخلدين في الجنة،الذين يكونون في حركة دائمة،و هم يطوفون على الأبرار..

ثانيا:إن اللؤلؤ قد يكون منثورا،و قد يكون منظوما في خيط يجمع بعضه إلى بعض..و لا يمكن نظم اللؤلؤ إلا بعد ثقبه.و المنظوم من اللؤلؤ أقل صفاء،و إشراقا،و لمعانا،و تلألؤا من غير المنظوم..

بالإضافة إلى أنه حين ينظم،فسوف يوجب ذلك حصر جانب من أشعته،و توجيه تلألؤه في جهات معينة و محدودة باتجاهات معينة، بحسب ما يوجبه اتجاه الخيط الذي نظمت فيه..

ص: 128

بخلاف اللؤلؤ المنثور،فإنه يمكن أن يتحرك في كل اتجاه،كما أنه لم يعرض عليه ما يوجب التقليل من إشراقه،و تلألؤه،و لمعانه،و صفائه..

على أن انتشار اللؤلؤ نفسه،يزيد من درجة تشعشعه،لا سيما حين تكون الحركة في مختلف الاتجاهات،لأن النور إذا جاء من زوايا مختلفة،و وقع بعضه على بعض،فإن انعكاساته سوف تختلف بحسب اختلاف تلك الزوايا..

اللؤلؤ المكنون..أم المنثور؟!

و علينا أن لا ننسى:أن اللّه سبحانه حين وصف الحور العين باللؤلؤ، قال: وَ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (1)..و لكنه هنا قد وصف الولدان باللؤلؤ المنثور..

و لعل السبب في ذلك:أن المطلوب في الحور العين هو الستر، و الخدر،و الاختصاص،و الحرص،و الكمون،و الحفظ..

أما بالنسبة للولدان،فالمطلوب هو الحضور،و الظهور،و الانتشار، و الحركة،و الانتقال،و الكثرة،و التفرق..

***

********

(1) سورة الواقعة الآية 23.

ص: 129

ص: 130

الفصل العشرون: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً

اشارة

ص: 131

ص: 132

قال تعالى:

وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً.

«وَ إِذا رَأَيْتَ »:

و قد قال تعالى:«إذا رأيت»..و لم يقل:لو رأيت،أو إن رأيت..لأن كلمة«لو»تفيد الامتناع،و عدم الحصول،و كلمة«إن»تستعمل في مورد الشك في الحصول..مع أن المطلوب هو التأكيد على الحصول،و إظهار اليقين به،و هذا هو مورد كلمة«إذا»و هو المناسب هنا،لأن الهدف هو الترغيب و التشويق،و الحث على التزام سبيل الأبرار،و اتباع نهجهم.

«رأيت»،من جديد:

اشارة

ثم إنه سبحانه قد عبر بكلمة«رأيت»و لم يقل:سمعت،أو علمت، أو عرفت ما أعد اللّه للأبرار من الملك و النعيم.

كما أنه سبحانه قد اختار الخطاب المباشر،فلم يقل لو يعلم الناس ما ذا أعد اللّه للأبرار،الخ..

و اختار أيضا الخطاب للفرد،لا للجماعة،فقال:«رأيت»،و لم يقل:

«رأيتم».

كما أنه لا بد من تحديد المفعول لكلمة رأيت الأولى..و أن يسأل أيضا عن المفعول الثاني لكلمة«رأيت»الثانية..

فما هو السبب في ذلك كله،يا ترى؟!..

ص: 133

و نقول:

إننا قبل أن نجيب على هذه الأسئلة،نلفت النظر إلى:أن الدقة في معاني المفردات مطلوبة،ليحصل الأمن من أي خلل أو تشويه أو نقص، أو غموض في التصور العام الذي تسهم تلك المفردات في إنشائه..

و أما جواب الأسئلة فهو كالتالي:

1-الخطاب للمفرد:

إن قوله:«و إذا رأيت»،لا يعني أنه يخاطب فردا بعينه،بل هو يخاطب فردا على سبيل البدل،أي أنه يخاطب كل من يصلح للخطاب، و يمكنه أن يدرك فحواه،فهو من قبيل: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1)؟!و من قبيل: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (2)؟!..

و هذا معناه:أن الخطاب يشمل الكافر و المؤمن،لأن الجميع سيرون هذا النعيم للأبرار،فيكون به سرور أهل الإيمان،و حسرة أهل الكفر و الطغيان..

و من فوائد جعل الخطاب للمفرد على سبيل البدل،هو أن كل واحد من الناس يشعر أنه معني به،فيكون أشد انتباها لمعناه،و ترصدا لإشاراته،و إدراكا لمراميه..ثم هو يشعر بالمسئولية تجاهه،و يجد نفسه مطالبا بالتزام الاستجابة له..

2-الرؤية و المعاينة:

و حول لزوم التعبير بالرؤية دون سواها،مما يدخل في نطاق التعبير

********

(1) سورة الفيل الآية 1.

(2) سورة الماعون الآية 1.

ص: 134

عن المعرفة،نقول:

إن الرؤية تعني الحضور في المكان المناسب،و الزمان المناسب لصحة الرؤية..كما أنه لا بد أن يكون حضورا مع وعي و التفات..

و الرؤية البصرية تعني المشاهدة المباشرة،و هي أقوى و أشد إقناعا، و أوضح و أيسر إدراكا مما لو استندت المعرفة بالأمر إلى سماع الخبرية مثلا..

فإن الإدراك إنما هو لصورة اخترعتها المخيلة،من خلال مفاهيم الألفاظ التي ألقيت إليها.و ليس بالضرورة أن تكون دقيقة الانطباق على الواقع الذي يراد له أن يتصوره..

و قد تضمن هذا الخطاب-باختيار كلمة«رأيت»-دلالة واضحة على مدى الثقة بالمضمون،و أن القضية ليست مجرد وعد بأمر قد يتبدل الرأي بالوفاء به..

كما أن الحديث ليس عن أمر مستقبلي،قد يطرأ خلل في مقتضيات وجوده،أو يبرز مانع عن ذلك الوجود،بل هو حديث عن أمر فعلي ناجز و ظاهر للعيان،يمكن تلمسه بحاسة البصر..

و سيأتي:أن الرؤية قد تعلقت بالنعيم،مع أنه ليس بمحسوس.و هذا أسلوب آخر لإظهار شدة الحضور أيضا..

3-إطلاق الرؤية:«رأيت ثمّ»:

و يبقى أن نذكر هنا:أن كلمة«رأيت»الأولى لم يذكر فيها ما تقع عليه الرؤية بالتحديد،بل اكتفى تعالى بالرؤية مجردة عن أي تقييد هناك،ربما للإشارة إلى أن المقصود هو ذكر من يملك القدرة على الرؤية،و القابلية لها،فكأنه قال:يكفي أن يكون عندك إمكانية أن ترى

ص: 135

و لو في الحد الأدنى،و لأي شيء كان..لكي ترى النعيم و الملك الكبير بيسر و سهولة،من دون حاجة إلى أي عنصر مساعد،أو رافع للموانع،إذ إن الرؤيا ستكون ميسورة و سهلة لك،كما أنه لا يوجد أي شيء يمنع و يصد..

فلا حاجة إلى قوة بصر..

كما لا حاجة إلى تقريب الأشياء..

و لا إلى إيجاد مناخات تساعد على الرؤية..

و لا إلى جهد لإزالة الموانع..

«ثمّ»:

ثم هو قد عبر بظرف المكان بدلا عن المفعول،فقال:«رأيت ثمّ»، أي إذا حصلت لك قابلية الرؤية و لو بأدنى مراتبها،هناك..

فسوف ترى نعيما و ملكا كبيرا..

فهو لم يذكر سوى كلمة«ثمّ»ليفيد عموم الرؤية لكل النواحي،في تلك الجنة..

و التعبير بكلمة«ثمّ»التي هي للبعيد،يشير إلى أن الوصول إلى ذلك المكان البعيد عن التصور و التخيل،و البعيد أيضا من حيث المكان..

يحتاج إلى بذل جهد،و سعي للحصول و للوصول في كلا الناحيتين..

لما ذا«رأيت»من جديد؟!:

و قد كان بالإمكان التعبير بأن يقول:«فستجد»،و لكنه أعاد كلمة «رأيت»ليفيد التأكيد على شدة ظهور ذلك الأمر و حضوره،إلى حد أنه قابل للرؤية البصرية..

ص: 136

«نعيما»:

و النعيم ليس من الأمور المحسوسة،بل هو حالة من النشوة و الرضا، و اللذة،تنشأ من ممارسة أمور محسوسة،غير أو محسوسة.

و قد تعلقت الرؤية البصرية بهذا النعيم بالذات،ليشير إلى شدة حضوره،و ليؤكد ظهوره إلى درجة أنه أصبح قابلا للمشاهدة،فهو تعالى يحوّل لك المعقول إلى محسوس،و قد علق الرؤية به مباشرة،لا بآثاره، أو دلائله،أو مناشئه،فلم يتحدث عن الأنهار،و الأشجار،و القصور، و الجنان،و الحور..و ذلك مبالغة في التأكيد على واقعية هذا النعيم،و أنه قد تجاوز مرحلته إلى مرحلة التجسد و الحضور الحسي..

«نعيما و ملكا»:

و قد اختار ذكر أمرين هنا:النعيم،و الملك..مقدما النعيم على الملك.

و السؤال هنا هو:

أ ليس الملك من مفردات النعيم؟!

فهل هذا من قبيل عطف الخاص على العام،لإظهار مزيد من الاهتمام بالخاص؟!

و نقول في بيان وجه ذلك:

إن مفردات النعيم جميعها،ترجع إلى أمرين:

أحدهما:ما هو حسي،كلذة الإنسان بالطعام و الشراب،و لذته بأمور العلاقة بالجنس الآخر،و لبسه للإستبرق،و بشرب الزنجبيل،و ما إلى ذلك..

الثاني:لذة إدراكية،شعورية،روحية،معنوية،يدركها الإنسان بحسه الباطني و هي أنواع كثيرة،ترجع كلها إلى لذة الإحساس بالواجدية،لما

ص: 137

يوجد تارة،و يفقد أخرى..

و من أمثلة ذلك،شعور الإنسان بالرضا و اللذة من خلال شعوره بواجديته لكمالاته الحقيقية،أو لما يراه كمالا له،مثل كونه غنيا،أو ذا مقام و موقع،أو ذا سلطة و حاكمية.أو عالما،أو معافى غير سقيم،و ما إلى ذلك..

فخصوصية الجمال مثلا،تعطي من يتصف بها لذة معنوية شعورية هي لذة الشعور بالرضا و الواجدية على سبيل الملك،و هي تعطيه تأكيدا و ثباتا لشخصيته المالكة لمزاياها..

و هو بالنسبة إلى الغير إدراك لحالة التناسق القائم بين العناصر،بعد انضمام بعضها إلى بعض،وفق نظام معين.الأمر الذي ينشأ عنه حالة من الارتياح،بل و الانشراح..

و قد أشار اللّه سبحانه في سورة«هل أتى»إلى كلا هذين النوعين، فذكر الملك الكبير،و الاتكاء على الأرائك،و طواف الولدان،و الجنة،و ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اللذة الإدراكية الشعورية،و في دائرة الملك،و الإحساس بالكرامة،و الحاكمية،و الواجدية،و أشار إلى اللذة الحسية عرضا في نفس تلك الآيات السابقة،حيث أشار إلى الزنجبيل، و الحرير..ثم تحدث هنا عن ثياب السندس،و الحرير،و الإستبرق، و التحلية بالأساور،و غير ذلك مما يدخل في دائرة النعيم الحسي..

و بعد ما تقدم نقول:

صحيح أن النعيم عام و خاص،و لكن الظاهر هو أن المقصود بالنعيم في قوله تعالى«نعيما»:النعيم الحسي..و المقصود بالملك:النعيم الإدراكي..

ص: 138

أو أنه أراد بالنعيم أولا المعنى العام،ثم ذكر النعيم الإدراكي،بقوله:

وَ مُلْكاً كَبِيراً ثم عاد فذكر النعيم الحسي في قوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ كما سنرى..

«كبيرا»:

ثم إنه تعالى قد وصف ملك الأبرار بأنه كبير،و لم يصفه بالعظيم، و لا بالواسع،أو نحوه..

و لعل ذلك يعود إلى أن كلمة«كبيرا»تختزن معنى العظمة،و معنى السعة أيضا،و لا يريد اللّه سبحانه بالملك خصوص معنى السلطة و الحاكمية،بل هو يقصد الواجدية لكل ما لو فقده الأبرار لأحسّوا بالحاجة إليه،أو لظهر لديهم حنين إليه،إنه يتحدث عن الواجدية بمختلف معانيها،و مفرداتها التي تناسب حال الأبرار،و منها ملك المال، و المقام،و السلطة،و غير ذلك من مزايا..

و معنى ذلك:أن كلمة عظيم،لا تفيد معنى السعة و الشمول.

و كلمة واسع قد تنصرف،إلى مساحة رقعة السلطان.فلا تشمل حتى معنى العظمة أيضا،فكان التعبير الأدق و الأصح،و المناسب و الجامع لسائر المعاني التي يراد التعبير عنها،هو قوله: وَ مُلْكاً كَبِيراً..

تنوين التنكير:

و قد جاء قوله:«نعيما»و«و ملكا كبيرا»منونا بتنوين التنكير،ليفيد التعظيم،و التكثير،و الاستمرار إلى أبعد مدى ممكن،مفسحا بذلك المجال أمام وهم و خيال الإنسان ليذهب في كل اتجاه،و إلى أبعد مدى..

و ليفهمنا أن ما ذكرته الآيات،لا يعدو كونه مجرد إعطاء مبدأ للتصور، و لا يراد به بيان الحقيقة بكل تفاصيلها..و يكون الإتيان بتنوين التنكير

ص: 139

بمثابة الإعلان عن هذه الحقيقة،من خلال إطلاق خيال الإنسان عن كل قيد،حيث سيبقى برغم ذلك غير قادر على إدراك الحقيقة،كل الحقيقة دفعة واحدة..

و يبقى لنا كلام حول أنحاء الاعتبار و أنه على نحوين،سوف يأتي في أوائل الفصل التالي..

***

ص: 140

الفصل الحادي و العشرون: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً

اشارة

ص: 141

ص: 142

قوله تعالى:

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً.

«عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ »:

و بعد أن أشارت الآية السابقة إلى حقائق اللذة و أنواعها،مما لا يرتبط بالممارسة الفعلية و التفصيلية..و أشير في آيات أخرى سبقت أيضا،إلى لذائذ معنوية إدراكية،ترتبط بأنواع الكرامة و التكريم،و ما للأبرار من مقام كريم،و ظهر أن إكرامهم هذا إنما هو بأسلوب التعامل معهم،حسبما ألمحنا إليه حين تحدثنا عن السبب في اختيار التعبير ب دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها، و ذُلِّلَتْ قُطُوفُها، و يُسْقَوْنَ ، و يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ ، و يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الخ..حيث قلنا:إنه تعالى لم يذكر تلذذهم بالشراب،بل تحدث عن أنهم يسقون،و ذكر تذليل القطوف،و لم يذكر الأكل من تلك القطوف..

ثم أشار سبحانه هنا إلى النعيم الحسي من خلال الممارسة الفعلية و التفصيلية،فقال:

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ الخ..فهذه العبارة تصف حالة الأبرار،في وقت نعيمهم،و حين يكون لهم الملك الكبير،فقالت:إنك أيها الناظر، ترى لهم نعيما و ملكا كبيرا في نفس الوقت الذي تكون ثياب السندس تعلوهم..

ص: 143

و نحن من أجل بيان أوفى و أتم لما تضمنته هذه الآية،نشير إلى أمر له ارتباط أكيد في المعنى المقصود هنا،فنقول:

القيمة الواقعية،و القيمة الاعتبارية:

إن هناك أشياء لها قيمة حقيقية،كالذهب،و الفضة،و الطعام،و نحو ذلك..و إن اختلفت مناشئ هذه القيمة،و مكوناتها..فالذهب مثلا إذا كان مجرد سبائك تكون له قيمة،و الذهب المصاغ،له قيمة أعلى،و كلاهما قيمة حقيقية،لكن الأولى تكون بإزاء نفس معدن الذهب،و في الثانية يكون ارتفاع القيمة بإزاء صياغتها،من حيث إنها تختزن حالة جمالية واقعية،استنفدت طاقة،و استغرقت وقتا و جهدا،و هذه الحالة الجمالية الجديدة،هي التي مكنت من الاستفادة منها في مجالات لم تكن لتفيد فيها لولاها..

و كذلك الحال في كثير من الأشياء التي لها قيمة في نفسها،و تضاف إليها قيمة الجهد المبذول في إعدادها..

و تكون الحاجة إلى ذلك الذهب الخالص،و الغرض الداعي للحصول عليه و كذلك الحاجة إلى المصاغ منه لأجل الزينة مثلا،هي الداعي،و المرغب ببذل هذه القيمة و تلك.و هذا معناه:أن الداعي للبذل موجود في ذات السلعة..

و قيمة الثوب أيضا قد نشأت من كونه يقي من الحر و البرد،و يسد الحاجة للستر،و يلبي رغبة في التجمل..

و قيمة الطعام من جهة أنه يفيد في استمرار الحياة و النشاط،و كونه من وسائل التلذذ.

و قيمة القلم و الورق،و..و..الخ..إنما تكون في واقع الحاجة التي

ص: 144

تقتضيها..

و قد كانوا و لا يزالون-أحيانا-يتبادلون السلع،فيأخذون عنبا أو تينا مثلا،مقابل العدس،أو القمح،و ذلك لما ذكرناه من أن القيمة موجودة في ذات هذا و ذاك،بسبب خصوصية واقعية يطلب الحصول عليها،من هذا الطرف أو ذاك..

و الضابط في القيم هو تلك الخصوصية و قدرتها على تلبية حاجة عامة أو خاصة يراد تلبيتها..

و هناك قيمة اعتبارية ليس لها منشأ سوى اعتبار عقلاء البشر،الذين يقبل و يصح منهم الاعتبار،كقيمة الأوراق النقدية،فيما تعارف عليه الناس في هذه الأيام..فإن قيمتها مرهونة ببقاء اعتبار العقلاء لها..فإذا زال الاعتبار كما في موارد تغيير النقد،فقدت قيمتها،و أصبحت كسائر الورق المهمل..

فالرغبة بأخذ الورقة المجعولة نقدا لم تنشأ من حاجة في داخل ذاتها،أو من حاجة لحالة تلبست بها نتجت عن جهد إضافي،بل نشأت الرغبة من اعتبار العقلاء لها بقيمة معينة من قبلهم..

الاعتبار على نحوين:

و إذا نظرنا إلى الأمور الاعتبارية،فسنجد أنها على نحوين:

أحدهما:ما يكون له خصوصية و منشأ،و مبرر كامن في نفس مورده..ثم يأتي الاعتبار ليؤكد تلك الخصوصية،و ليستفيد منها في مقام العمل..و ذلك مثل اعتبار الملكية،و الزوجية،و الحرية..و ما إلى ذلك، فإن هناك خصوصية في نفس المملوك دعت إلى اعتبار الملكية فيما بينه و بين مالكه،فصار هذا مالكا،و ذاك مملوكا،و كذلك الحال بالنسبة

ص: 145

للزوجية و غيرها..مع العلم:أن الملكية أو الزوجية لا تزيد في حجم ذلك الشيء و لا في وزنه،و لا في لونه،و لا في طراوته،و لا في شفافيته، و لا..و لا..و كذلك الحرية و الرقّية،و ما إلى ذلك.

و كذلك الحال في صورة ما لو رفع ذلك الاعتبار،بأن خرج عن عنوان الملكية،أو الزوجية،أو الحرية،أو..الخ..فإنه لا يتغير شيء،لا بالزيادة و لا بالنقيصة فيه،و لا في غير ذلك من حالاته..

فلو جلسنا مع مالك،أو زوج،أو حر،أو ملك،أو وزير،ثم فقد هذه الصفات..وعدنا إلى الجلوس معه..فإنه سوف لا يتغير فيه شيء في الحالتين..

فوجود هذه الصفات،و الاستفادة منها،و ترتيب الآثار عليها، و التصرف فيها،يستند إلى نفس الجعل و الاعتبار..

كما أن التلذذ بها أيضا كذلك،فلذة الملك،و الحرية،و الوزارة،و..

الخ..أيضا تكون بنفس قيام هذا العنوان الاعتباري،و زوال اللذة يكون بزواله..

و يمكن نقل الاعتبار بنواقل معينة،كالهبة،و البيع،و يمكن إزالته أيضا،كالطلاق المزيل للزوجية..و ما إلى ذلك.

ثانيهما:هناك أمور يتم جعلها،و اعتبارها بصورة اقتراحية،و من دون أن يكون في موردها خصوصية تدعو إلى ذلك،بل الخصوصية تكون في غيرها..و ذلك كما في اعتبار الأوراق النقدية ذات قيمة معينة، و أوراق أخرى ذات قيمة أخرى،مع أن الاختلاف إنما يكون بنقش الرقم أو الرسم عليها فقط،كما سنلمح إليه..

و لكن العناوين التي وردت في هذه الآية،كعنوان الملك الكبير،

ص: 146

و عنوان الزوجية في قوله: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (1)..و نحو ذلك،إنما تعبر عن خصوصيات اقتضتها أعمال العباد في الدنيا،فهي بعد جعل التسبيب لها من قبل اللّه سبحانه،و صيرورتها شبيهة بالأعمال التوليدية الواقعية،يصبح حالها حال العناوين الواقعية الانتزاعية،كعنوان الفوقية، الذي هو عنوان واقعي،على الإنسان أن يدركه،من خلال ملاحظة منشأ انتزاعه في الواقع الخارجي..

و لا توجد في الجنة قيمة ناشئة من اعتبار العقلاء،بحيث تزول بمجرد زوال الاعتبار المذكور..و لكن القيمة فيها ناشئة من خصوصية في ذات الأشياء،لا من جهة مستوى الإحساس بالحاجة إليها،بحيث تكون هي سبب الرغبة في الحصول عليها،و بذل ما يوازيها..

بل قيمتها تنشأ من مستوى ما تحققه من لذة و نعيم لأهل الجنة.فإن العمل و الجهد،و التضحيات في الدنيا التي دفع إليها إدراك وجود خصوصية في الأمور الأخروية،هو الذي أهّل ذلك العامل لذلك النعيم، و للتفضل عليه بمنازل الكرامة و الزلفى..

فالقيمة واقعية و حقيقية تكمن في تلك الخصوصية المشار إليها..

و ليست ناشئة من اعتبار العقلاء..

و لكن ثمة نقطة لا بد من لفت النظر إليها..و هي أن الطاعة و العبادة و البذل،و جهاد النفس،و مخالفة الهوى في الدنيا ليس معناه أنك تعطيه للّه،و يأخذه اللّه منك لحاجة به إليه..بل أنت تبذله لتكون أهلا للاستفادة من الخصوصية الكامنة في مفردات نعيم الجنة،و لتوجد أنت تلك

********

(1) سورة الطور الآية 20.

ص: 147

الخصوصية بنفس عملك هذا..

و قد ورد في الحديث الشريف قوله عليه السّلام:«إنما هي أعمالكم ترد إليكم» (1).

و قال تعالى على لسان نبيه صلّى اللّه عليه و آله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (2)..

فإطاعتك للّه سبحانه،تشبه إطاعتك للطبيب،فإن الطبيب لا يحتاج إلى طاعتك،و لا ينتفع بها،و إنما تطيعه لكي تنتفع أنت،فلا توجد لدى الطبيب رغبة في خصوصية عندك،و ليس لديك أنت رغبة في خصوصية عند الطبيب،ثم تتبادلان تينك الخصوصيتين،كما لا يوجد عند اللّه حاجة يسدها له عملك و جهدك،فيعوضك عنه بثواب أو بأجر..بل إن نفس الأجر الذي يسألك إياه،هو الذي يكون لك.أي أن الخصوصية الواقعية اقتضاها نفس عملك،و لا يراد المعاوضة عليها مع طرف آخر،بحيث يستفيد هو من خصوصية،و يتخلى لك عن خصوصية في مقابلها..

و بعد ما تقدم نقول:

لقد تحدث اللّه تعالى في هذه الآيات عن الفضة،و عن الإستبرق، و عن السندس،و عن..و عن..و هي أمور لا تتحدد في الآخرة من خلال الرغبة فيها بملاحظة مقدار الحاجة إليها،بل تتحدد بمقدار ما تؤهل الأعمال في الدنيا للاستفادة منها..ثم يأتي التفضل الإلهي ليضاعف ذلك

********

(1) التوحيد للمفضل بن عمران الجعفي ص 50 و الحكايات للمفيد ص 85 و البحار ج 3 ص 90 و ج 10 ص 454.

(2) سورة سبأ الآية 47.

ص: 148

أضعافا كثيرة،بجعل الحسنة بعشرة أمثالها،بل بسبعمائة،و اللّه يضاعف لمن يشاء..

فلا يصح قياس القيم في الدنيا التي تخضع لبعض الاعتبارات الخاصة،كندرة المعدن،أو نحو ذلك،بالقيم التي في الآخرة،فلا يقال:

الذهب أغلى من الفضة أو العكس من أجل ذلك،فقوله: حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ .. معناه أن القيمة الواقعية-فيما يرتبط بما يناسب عمل الأبرار،و موقع الكرامة لهم-إنما هي للفضة،و لعل الذهب يأتي في مراتب أدنى،لا تليق بمقام أولئك الصفوة الأطهار،كما ألمحنا إليه في مورد سابق..

و ذلك لأن الأعمال حينما تؤهلك للتنعم بالفضة،فإن الفضة تصبح هي الخصوصية التي تحتاجها،و لا يصح الاستعاضة عنها بالذهب..بل تكون الاستعاضة حينئذ،مجرد غلط فاضح،و جهل واضح.

و يحسن تشبيه ما نحن فيه بإنسان في صحراء قاحلة،يواجه الموت عطشا،فلا شك في أنه سوف يشتري شربة الماء بكل ذهب و بكل فضة يقدر عليها في الدنيا..و يصبح الذهب عنده غير ذي قيمة،لأن خصوصيته لا تفيد في رفع عطشه،و لا في دفع الموت عنه..

أضف إلى ذلك:أن الفضة،أو الزجاج،أو غير ذلك،قد يعطي-حتى في الدنيا-جمالا في موقع لا يستطيع الذهب أو الألماس أو غيرهما،أن يعطيه،بل يكون وضعه في ذلك الموقع مسيئا للحالة الجمالية،و يمجه ذوق الإنسان،و قد يؤذي روحه..

و هذا معناه:أنه ليس للذهب قيمة في ذاته،بل هو تابع لاقتضاء الأعمال له..و ليس الذهب أغلى من الفضة،و لا الفضة أغلى من

ص: 149

الزنجبيل،و النخل،و الرمان،و الفاكهة،لأن القضية ليست قضية الحصول على الخصوصية المطلوبة،حسبما أوضحناه..

لما ذا قال:«عاليهم»؟!:

و قد بقيت هنا أسئلة عديدة تحتاج إلى أجوبة،نذكرها مع ما يفيد في الإجابة عنها فيما يلي:

1-و قد قال تعالى هنا: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ.. و لكنه قال في مورد آخر: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ.. فما هو السبب في اختلاف التعبير في الموردين؟!

و يمكن أن يجاب بأنه تعالى يريد بقوله: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ..

الإعلام بحقيقة لباسهم،و بيان نوعه..

أما هنا فالمقصود بقوله: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ.. بيان خصوصية الزينة،و لذلك ذكر ثياب السندس و لونها،فقال: سُندُسٍ خُضْرٌ.. ثم ذكر الأسورة،و جنسها..و ذلك بعد أن تحدث عن كيفيات تكريمهم،و عن النعيم المعنوي،و الحسي لهم..

2-و قد يسأل عن السبب في أنه تعالى قال:«عاليهم»،و لم يقل:

تعلوهم؟!.

و يقال في الجواب:

إن كلمة«عاليهم»اسم فاعل.و اسم الفاعل يناسب الفعل المضارع في معناه،من حيث دلالته على الثبوت فعلا..لكن الفرق،هو أنه في المضارع إشارة إلى أن الحدث لم يكن ثم كان،و يدل على الاستمرار في الحال،و لكنه ساكت عن أمر الاستقبال،فلو قال:«تعلوهم»لأفاد:أن هذا الأمر سيحدث لهم،و قد يستمر أو لا يستمر في بعض آنات

ص: 150

المستقبل،ففيه دلالة على التصرم و على التجدد..

فكلمة«عاليهم»تفيد الثبوت-و لا تفيد الحدوث-و تفيد أيضا الدوام..و ليس فيها إشارة إلى حالة فقدان أصلا،قد يرتجف لها القلب، و لو في مستوى التوهم،بسبب التعبير بصيغة المضارع..

3-و أما السبب في أنه تعالى لم يقل:يلبسون،أو لابسون ثياب سندس،بل اختار كلمة«عاليهم»،فلعله ليفيد ظهور هذا الأمر فيهم.

و هذه الكلمة هي أنسب التعابير عن ذلك،لأن العالي ظاهر للقريب و البعيد..إذ مجرد أن يلبس الإنسان شيئا لا يكفي لظهور الملبوس للغير..

فقد يلبسه تحت الثياب الظاهرة،و يقال:إن سفيان الثوري رأى على الإمام الصادق عليه السّلام في المسجد الحرام،ثيابا كثيرة حسانا،فقال:

و اللّه لآتينّه و لأوبخنّه!..

فدنا منه،فقال:يا ابن رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]ما لبس رسول اللّه[صلّى اللّه عليه و آله]مثل هذا اللباس،و لا علي،و لا أحد من آبائك!

فقال عليه السّلام:كان النبي[صلّى اللّه عليه و آله]،في زمن قتر مقتر، و كان يأخذ لقتره و إقتاره،و إن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها،فأحق أهلها بها أبرارها،ثم تلا: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (1)..فنحن أحق من أخذ منها ما أعطاه اللّه،غير أني يا ثوري!ما ترى علي من ثوب إنما لبسته للناس،ثم اجتذب بيد سفيان فجرها إليه،ثم رفع الثوب الأعلى،و أخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظ..

فقال:هذا لبسته لنفسي غليظا.و ما رأيته للناس.

********

(1) سورة الأعراف الآية 32.

ص: 151

ثم جذب ثوبا على سفيان،أعلاه غليظ خشن،و داخل ذلك ثوب ليّن!

فقال:لبست هذا الأعلى للناس،و لبست هذا لنفسك تسترها (1)..

4-و في الإجابة على سؤال عن السبب في إرادة إظهار الزينة نقول:

لعل سبب ذلك هو أن تظهر للناس جميعا كرامة اللّه تعالى للأبرار، و عنايته بهم،ففي ذلك إعزاز أهل الإيمان،و سرورهم،و كبت،و حسرة أهل الطغيان و عذابهم الأليم.

و ليس الهدف من هذا اللباس هو التبجح به،و الافتخار على المؤمنين،و إذلالهم به،من خلال إشعارهم بالحرمان و الفقدان..

و ليس المقصود أيضا هو الانتفاخ الفارغ،من أي هدف إيماني و إنساني..و ما ذلك إلا لأن الأبرار في الجنة قد صفت نفوسهم من مثل هذه الأدران..

أضف إلى ذلك:أن هذا الفعل الإلهي بهم إنما هو تجلّة منه لهم، و إظهار لنعمته عليهم..

و إذا كان هذا الإظهار التربوي الذي يستبطن تلك المعاني كلها مطلوبا في الدنيا،وفقا لقوله تعالى: وَ أَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (2)..

فكيف بالدار الآخرة.

فالمطلوب هو التحديث بنعمة اللّه،حثا للناس على طلب هذه النعمة، من مالكها الحقيقي،لا من العاجزين و أن يطلبوها على أساس أنها عطاء إلهي في مورد الاستحقاق على الجهد المبذول.و أنها عطاء من رب يريد

********

(1) قاموس الرجال ج 5 ص 143 و 144 و الكافي ج 6 ص 442.

(2) سورة الضحى الآية 11.

ص: 152

الخير لمربوبيه،و هو يرعاهم،و يهتم بهم،و لم يزل يفيض عليهم البركات، و الألطاف،و النعم..إنها عطاء ممن يملك خزائن كل شيء..

إن المطلوب هو التحدث بالنعم لا على سبيل الافتخار،بل لأجل الترغيب بها،و الاعتراف بالفضل الإلهي،و الكون في مواقع الشكر و الحمد..

و بذلك يعرف الفرق بين هذه النظرة،و بين النظرة القارونية،فقد أهلك قارون ماله،و لم يصغ إلى نصيحة قومه في أن يبتغي بما آتاه اللّه الدار الآخرة،و أن يحسن كما أحسن اللّه إليه،و أن لا يبغي الفساد في الأرض.و لا يفرح..

فأجابهم بقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ (1)..

و كانت عاقبته أن خسف اللّه به و بداره الأرض..

5-و قد بين تعالى خصوصية هامة هنا،حين أتبع ذلك بقوله في الآية التالية: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. حيث بيّن أنهم قد حصلوا على هذه الزينة الظاهرة من موقع الاستحقاق،و هي أيضا من جملة النعم التي اختصهم اللّه بها،ثم هي عطاء كرامة و إعزاز، و ليس عطاء عشوائيا و بلا ضابطة.

كما أنه لا يراد بها إشعار الآخرين بالفاقدية و الحرمان.و لكنها لا بد أن تكون حسرة على أعداء اللّه،تزيد في مكروههم،و تضاعف في آلامهم التي كسبتها لهم أيديهم..

********

(1) سورة القصص الآيتان 79/78.

ص: 153

6-إن النعيم هنا،و إن كان يتجلى بلباس السندس،الذي هو أمر حسي،و لكن ذلك ليس هو المقصود الأساس هنا،بل النعيم المعنوي بهذا اللباس الذي هو زينة،هو الأهم..لأن إظهار كرامتهم يمثل لذة روحية معنوية إدراكية لهم،و ليس مجرد لذة جسدية..

كما أن نفس الإحساس بإدراك الآخرين لكرامة اللّه سبحانه للأبرار، هو من أسباب نعيمهم و أنسهم،و من موجبات اعتزازهم..

هذا عدا عن أن شعورهم ببهجة الآخرين و سرورهم بما يرونه من سندس خضر و إستبرق و غير ذلك،يعطيهم المزيد من الرضا و الراحة و السرور..

فظهر أن قوله:«عاليهم»لا يراد به مجرد إظهار الزينة للآخرين،بل المراد به أن يكون سببا في سرورهم،و كبت أعدائهم أيضا كما تقدم..

«ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ »:

و غير خفي أن اللّه سبحانه يريد أن يفهمنا معنى الكرامة للأبرار بالأسلوب،و بالمفردات التي نعرفها و نألفها،و نتفاعل معها..

و مع أنه تعالى قد عبر بكلمة«ثياب»و بكلمة«سندس»،و لكنه حذف هذه الكلمة مع كلمة«الإستبرق»،و جاء بها مرفوعة لتكون عطفا على كلمة«ثياب»السابقة،مما يعني أنه تعالى يريد أن يقول:إن الإستبرق هو العالي على الأبرار،فهو زينتهم الظاهرة..و لم يحصر زينتهم به بخصوص جعله لباسا لهم،فلعلهم يتزينون به بحيث يكون فوق فرشهم،و ستائرهم،و في كل المواضع الظاهرة للآخرين،و التي هي من مفردات نعيم الأبرار،بما تعطيه من بهجة للناظر،و أنس للمستفيد الحاضر..

ص: 154

فلوحظ في السندس خصوصية كونه ثوبا يعلو الأبرار،ظاهرا لكل أحد،لكن لوحظ في الإستبرق خصوصية كونه من أدوات الزينة في جميع مظاهرها..و ذلك معناه أن الأنسب في السندس هو كونه ثوبا، و الأنسب في الإستبرق أن يكون في غير اللباس..

و ذلك لأن السندس،هو ما رقّ نسجه من ثياب الحرير،و الرقة تناسب اللباس الذي يطلب فيه الخفة و نعومة الملمس..

أما الإستبرق،فهو ما غلظ نسجه من ثياب الحرير،ففيه الثقل و فيه درجة من خشونة الملمس،فيناسب أن يستعمل في ما سوى اللباس من الزينة الظاهرة..

النعيم الجسدي..من خلال الرضا الإلهي:

و واضح:أن الإنسان قد يلبس الحرير،و أساور الفضة و غيرها،و ذلك كما يكون في ساعات الهناء،كذلك قد يكون في ساعات المصائب و البلايا،فلبسه للحرير و للأساور،و غيرها،لا يوجب له لذة،و لا يخفف عنه ألما..

كما أن من يمارس لذة جسدية محرمة،و هو ملتفت إلى العقاب الذي سيواجهه من جراء ذلك،فإنه لا يلتذ بها بنفس مستوى لذة من يمارسها هي بعينها،و هو يشعر أنها حلال له،فكيف إذا صاحب ذلك شعوره بأنها من مظاهر التكريم و الرضا الإلهي،و المحبة،و اللطف الرباني؟!..

«خضر»:

بالرفع،وصفا لكلمة ثياب،لا لكلمة«سندس»..

و المعروف،الذي دلت عليه أحاديث أهل البيت[عليهم السّلام]:أن النظر في الخضرة من أسباب بعث البهجة و الارتياح في النفوس،و قد

ص: 155

جعل اللّه الثياب التي تعلو أولئك الأبرار خضرا،لأنه يريد أن يبعث البهجة في نفوس الناظرين إلى الأبرار،و يسرهم بذلك..كما أن الخضرة هي لون الربيع في شبابه،فهي تشير إلى الرواء،و إلى الانتعاش،و إلى الطراوة،و إلى تدفق الحيوية..

و لكنه لم يصف الإستبرق بالخضرة،لأن المطلوب هو تنويع الألوان و اختلافها في المحيط الذي يكون فيه الأبرار،لكي تتنوع تأثيراتها على المشاعر،و تتنوع الانفعالات،الأمر الذي يثير جوا من الحيوية و النشاط، و الأنس بجديد ما يقع عليه النظر في كل آن..

«وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ »:

1-و يأتي بعد ذلك كله الحديث عن التزين بالأساور،فقال:

«و حلّوا»..بصيغة الفعل الماضي،ليفيد تأكد الحصول و الوقوع،إلى درجة أنه أصبح يصح الإخبار عن حصوله خارجا..

كما أن نفس التعبير بصيغة الفعل،فيه إشارة إلى أن هذا الأمر لم يكن ثم كان،من خلال نشوء إرادة إكرامهم به،و لو أنه كان موجودا، فإن ذلك لا يشير إلى إرادة الإكرام هذه..

2-و قد يسأل سائل عن السبب في اختيار التعبير ب«حلّوا».حيث لم يقل:ألبسوا،أو زيّنوا؟!

و الجواب:

أن الحديث إنما هو عن النواحي الجمالية التي تحتاج إلى فعل يظهرها.و لو من خلال الهيئة التركيبية لعناصر ليس لها في ذاتها أية حالة جمالية،و لكنها إذا جمعت بطريقة معينة،فإنها تعطي الإيحاء بالمعاني، أو تصنع من خلال ذلك مزايا تثير الرغبة في تلمسها..

ص: 156

فليس الحديث إذن عن خصوص ما يكون بذاته-و من دون أي تدخل من خارج-مختزنا للحالة الجمالية الواقعية،إذ قد تختزن نفس العينين،أو الفم،أو غيرها حالة جمالية رائعة..

و كما أن حالة الضم و الجمع،قد تعطي إيحاء بالجمال،كذلك هي قد تعطي الإيحاء بالقبح،و تنشئ حالة ينفر منها الطبع..حتى لو كانت نفس المفردات المنضمة من أجمل ما خلق اللّه..

فإنه قد يقع نظرك على عين بمفردها،فترى أنها غاية في الجمال، و العين الأخرى أيضا إذا نظرت إليها بمفردها تجد أنها كذلك،و لكنك حين تضمهما إلى بعضهما البعض تنشأ حالة أو معنى غير محبب،كما إذا ظهرت حالة الحول و عدم التناسق في حركة سواديهما.أو كما لو كانت إحداهما أصغر من الأخرى،أو كانت هناك درجة غير مستساغة من التباعد أو الاقتراب.

فللعين إذن جمال ذاتي،واقعي..و لها أيضا تأثير و مشاركة في إنشاء حالة جمالية،أو قباحة في الهيكل العام للوجه،و ربما يؤثر ذلك على الناحية الإيحائية تجاه الجسد كله..

و في جسد الإنسان مواقع ليس لها خصوصية جمالية لافتة،إلا من حيث انسجامها مع مواقع و أحجام سائر الأجزاء الداخلة في التكوين العام للجسد..فليس لليد مثلا جمال خاص بها-كما هو الحال بالنسبة للفم،أو العين على سبيل المثال..و لكن لو تغير موقعها قليلا أو كثيرا،أو لو أنها صغرت،أو كبرت،فإن ذلك يعطي الإيحاء الخاص المتناسب مع هذه التحولات.

ص: 157

و بعد أن اتضح ذلك نقول:

بما أن الإنسان ليس له حالة جمالية تلفت الأنظار،فقد كان من إعطائها صورة جمالية أرقى تعطيها درجة من التميز تتبلور من خلال ذلك لذة تدفع إلى الطلب و السعي،للحصول على هذا.و كان لا بد لليد من كسب ذلك من خارج ذاتها.بأن تكون جزءا من هيئة لها صفة جمالية رائعة،أو أن تكون الأساور هي التي تعطيها هذا الأمر..تماما كما هو حال القرطين في الأذنين،و أحمر الشفاه،و صباغ الأظافر،و الخلخال، و ما إلى ذلك.

فالأساور هي التي تحلي،و تعطي الرونق،و تزيد في الانجذاب إلى تلك المواضع لإدراك خصوصيات الجمال فيها..و لذلك قال:«حلّوا»و لم يقل:ألبسوا الأساور،فإن ذلك يبين أن اللبس للأساور قد حصل،و أن حصوله كان بفعل الآخرين لأجل تكريمهم..ثم هو يبين الداعي لهذا الإلباس،و هو زيادة الرونق،و إيجاد حالة جمالية جديدة..

«من فضّة»:

و قد وقع الاختيار هنا أيضا على الفضة لتكون الأساور منها..

و قد ألمحنا في السابق إلى أن منشأ القيمة في الآخرة،و في الجنة بالذات ليس هو الاعتبار،لأن الاعتبارات تزول في الآخرة،بزوال مناشئها..

و تصبح قيمة الأشياء هناك بما تؤديه من خدمة و دور في إسعاد الأبرار،و أهل الإيمان..و الفضة هي المطلوبة في هذا المورد،خصوصا إذا لاحظنا ما يلي:

1-إنها على درجة عالية من الشفافية بحيث يرى ما خلفها..

ص: 158

2-إنها مع ذلك تحتفظ بلمعانها الأخّاذ..

3-إنها تفضّ النظر الذي ينصب عليها،و تفرقه و تجزؤه (1)و تنشره..

و ينعكس عنها،و يتسع ليقع على غيرها..

فإن اللون الأبيض،يعكس النور و يرده،و يفرق البصر و ينشره..أما اللون الأسود فهو يجمع البصر إليه،و لا يتفرق عنه،و لا ينتشر..

و لكن الفضة هنا تفترق عن اللون الأبيض في أنها لا ترد النور،بل هي تستوعبه في نفس حال نشرها له،كما أنها في حين هي تفرق البصر و تنشره،فإن البصر يخترقها و يتجاوزها إلى ما بعدها..

و هكذا يتضح كيف أن النظر إلى فضة الجنة يؤدي أكثر من مهمة معجزة،و خارقة للعادة..

4-ثم إن ثمة حالة فريدة،و رائعة،و هامة،تصل إلى حد الإعجاز، فإن من ينظر في المرآة لا يرى المرآة نفسها،بل يرى الصورة فيها، و الذي يرى ما بعد الزجاج الشفاف فإنه لا يرى الزجاج نفسه،و لكن الأمر في الجنة ليس كذلك؛إذ إنه في حين هو يرى الفضة،فهو يرى ما بعدها أيضا.و يرى أيضا أمورا أخرى حولها..فهل يكون هذا إلا الإعجاز بعينه..

و هذا يعطي قدرا زائدا من البهجة،و السرور،و يلامس الأحاسيس و المشاعر،و يثير فيها المعاني و الخواطر اللذيذة المختلفة..

و لأجل ذلك،كانت للفضة هذه القيمة العالية جدا،التي تظهر ما

********

(1) فقوله:انفضوا،معناه تفرقوا من حوله.و قوله:لا فض فوك.دعاء بعدم فقده لأسنانه و عدم تفرقها بالقلع..

ص: 159

تؤديه من دور في تحقيق درجات عالية من النعيم لخصوص هؤلاء الأبرار،حتى لقد جعل اللّه تراب الجنة منها..

لما ذا خصوص الأساور؟!:

و أظن أن ما ذكرناه فيما سبق يكفي للإجابة على سؤال:لما ذا تحدث اللّه سبحانه عن تحلية الأبرار بالأساور دون سواها،من مفردات تدخل في هذا السياق؟..

فإن الأيدي قد تكون من أكثر أعضاء الجسد الإنساني حركة ظاهرة و مرئية للآخرين،فهو يحركها،و هو يمشي،و حين يتكلم،و يستفيد منها في الوصول إلى أكثر حاجاته،و في أكثر حالاته و تصرفاته..و البصر يتابع الحركة،و ينشدّ إليها،و للأساور دورها المميز في متابعة البصر،و انشداده.

فهي تزين اليدين بما للونها من خصوصيات،و بما لمادتها من ميزات ذكرناها سابقا،و هي تختطف النظر إليها بما تكون لها من حركة،مع اليد أولا،و بالحركة التي تكون ناشئة عن إطلاقها،و عدم تقييدها،فهي من جهة حركة إرادية،في تبعيتها لحركة اليد،و من جهة أخرى غير إرادية في نفسها بسبب إطلاق الأساور في طبيعة وضعها العام..

و هي تشد البصر أيضا من حيث إن لحركتها صوت و رنين يثير الانتباه،و تتداعى بسببه معان و مشاعر مختلفة و متنوعة..

أضف إلى ذلك كله..أن حركة اليد تكون في مختلف الاتجاهات..

هل الزينة خاصة بالنساء؟:

و لا مكان للوهم الذي يقول:إن الزينة إنما تناسب النساء.فما معنى جعل الأساور للرجال؟..

إذ إن الزينة أمر مطلوب و محبوب في كل مواقع الرضا و الصلاح..

ص: 160

و قد قال الإمام الصادق عليه السّلام:«كونوا لنا زينا» (1)..

و قد زين اللّه السماء الدنيا بزينة الكواكب..

و الأرض تتزين أيضا بإخراج زخرفها..

و قال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ (2)..

من الذي يحلّيهم بالأساور؟:

و قد جاء التعبير بصيغة الماضي المبني للمجهول..ربما لأنه يريد بيان النواحي الجمالية،التي يكرم اللّه تعالى بها الأبرار،و لا يقصد بيان من هو واهب هذه النعم،أو منشأ هذه الكرامات..

و على كل حال،فإن تحليتهم بالأساور،من شأنها أن تثير جوا من البهجة و السرور للأبرار أنفسهم،ببعضهم بعضا.و سرور غيرهم من أهل الإيمان بهم..كما ألمحت إليه أيضا كلمة:«خضر»،فإن الخضرة تكون مصدر أنس لمن يراهم من أهل الإيمان،و سببا في الحسرة و الألم لأهل الطغيان..

«وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ »:

ثم انتقل سبحانه إلى إظهار أمر يلتذ به الأبرار أنفسهم،دون سواهم، فذكر اللّه سبحانه أنه هو الذي يسقي الأبرار،حيث لم يقل:«يسقون»، فإنه تعالى،و إن كان قد قال في آية سابقة: وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً.. و ليس ثمة ما يمنع من أن يكون الذي يسقيهم هو

********

(1) شرح الأخبار ج 3 ص 585 و 590 و الاعتقادات للمفيد ص 109 و الأمالي للطوسي ص 440 و البحار ج 65 ص 151 و ج 68 ص 276 و 310.

(2) سورة الأعراف الآية 31.

ص: 161

ربهم أيضا..و لكن لم يكن المقام هناك مقام بيان من هو الساقي،بل كان في مقام بيان إكرامهم،بطريقة حصولهم على الشراب،و أنهم لا يحتاجون إلى المبادرة بأنفسهم إليه،بل سوف يكون ذلك من غيرهم..

أما هاهنا ،فقد أراد اللّه سبحانه أن يقرر لهم لذة الشرف بالساقي أيضا،و هو ربهم تبارك و تعالى..لأنه تعالى يريد أن يعلن بأن لهم عنده أعلى درجات التكريم،و أسمى حالات العناية بهم و الرعاية لهم،حتى أنه سبحانه هو الذي يشرفهم فيسقيهم هو الشارب الطهور..

ثم إنه تعالى لم يقل:«أنا أسقيهم»،بل قال:«سقاهم ربّهم»و لم يقل:

سقاهم اللّه،أو سقاهم إلههم،أو الرب.ربما ليلمح إلى أن هذه النعم، إنما تعطى إليهم بأعيانهم من موقع الربوبية التي تعني العمل من أجل المربوب،و إظهارا للاهتمام به،و دفعا له في صراط التكامل و التنامي،من موقع الحكمة و المحبة له،و بهدف ترشيده،و نقله من حسن إلى أحسن، و من كمال إلى كمال أتم.

كما أن هناك عناية بإظهار أن هذه الربوبية ليست مقاما إلهيا منفصلا عنهم،و لا هي عنوان عام لا ربط له بهم،بل هي ربوبية لهم بصورة مباشرة،تتجلى لهم في جميع الحالات و بصور مختلفة و حالات متعددة، و هي تعنيهم فردا فردا..

و هذا الشعور لذيذ للأبرار،محبب لهم،و هو منشأ لمشاعر مختلفة في اتجاهاتها،و لكنها مجتمعة في ما تهيئوه من أنس و رضا..

الشراب الطهور:

و«الطهور»من صيغ المبالغة،و التكثير في الطاهر،و المعنى:أنه طاهر بنفسه،مطهر لغيره.

ص: 162

و هو شراب يتناولونه لمرة واحدة،و لا يحتاج إلى تكرار..و لعله لأجل ذلك جاء بصيغة الفعل الماضي:«سقاهم»،و لم يقل:«يسقيهم».

فما يسقيهم ربهم إياه هو شراب يطهرهم من كل عناء الدنيا،و من جميع شوائبها،فكما أن الماء الطهور يطهر الثوب،كذلك الشراب الطهور الذي يسقيهم اللّه إياه مطهر لنفوسهم و أرواحهم من كل ما نالها من تعب و عناء،و ما تعرضت له من أذى في الدنيا و بلاء..و مذهب لكل ما ينغص عليهم عيشهم،و يكدر نعيمهم و ملكهم..

و بهذا السقي الربوبي،الذي تطهر به نفوسهم و أرواحهم،تتهيأ و تستعد لاستقبال أنواع النعيم،بصافي الفطرة،و بكامل القدرة..

و من المعلوم أن المبالغة تارة تكون لتأكيد الكثرة أو القلة في الأفراد،و أخرى تكون لتأكيد حالة الشدة أو الضعف،أو الصغر أو الكبر..

فالمبالغة في كلمة صبور ناظرة إلى بيان شدة الصبر.و المبالغة في ملول،ناظرة إلى كثرة الملل الذي يحصل منه في مرات كثيرة..

و كذلك حين نقول:صدوق أو كذوب.فإنها ناظرة إلى كثرة أفراد الصدق و الكذب التي تصدر منه..

و فيما نحن فيه نقول:إن الطهورية مبالغة في الطاهر،من جهة إنه طاهر في نفسه،و لا ينجسه غيره.كماء البحر،و قد تكون من حيث أنه طاهر بنفسه مطهر لغيره،مهما تكثرت أفراد ذلك الغير،فإن البحر يبقى مطهرا له.و تبقى طهوريته في نفسه،مهما كثر عروض النجاسات عليه، فإنها لا تؤثر فيه..

***

ص: 163

ص: 164

الفصل الثاني و العشرون: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً

اشارة

ص: 165

ص: 166

قال تعالى:

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.

«إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً»:

اشارة

إن الإنسان قد يبذل جهدا و تعبا في سبيل الوصول إلى أمر ما،فإذا نال ذلك الأمر فإنه سيلتذ به،بصورة أعظم و أتم مما لو حصل عليه بدون تعب و جهد..

و ستتكون فيما بينه و بين ذلك الشيء الذي تعب من أجله علاقة تختلف عن علاقته بالأشياء التي لم يبذل في سبيلها جهدا،فإن الآتي بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

و يصبح التخلي عن هذا الأمر،أيسر عليه من تخليه عن ذاك،بسبب ضعف تعلقه به.و لأجل ذلك فإن من يتعب بتحصيل المال لا يكون عادة مبذرا له،و لا مفرطا فيه.بخلاف من أخذه بلا تعب.

و إن كن هذا لا ينطبق على الأبرار،و لكن المقصود هو التأكيد على أن العمل في سبيل الحصول على الشيء،يعطي الإنسان شعورا بالكرامة، و العزة و الشمم..و هو شعور محبب و لذيذ في حد ذاته..

و هذا ما يفسر لنا السبب في أنه تعالى يقول هنا للأبرار،بعد أن ذكر ما أعد لهم من نعيم: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً..

و يلاحظ هنا:أن هذه الآية:

ص: 167

1-قد أوردت الكلام مؤكدا بكلمة«إنّ»..

2-إنها قد زادت الكلام تأكيدا بالاستفادة من كلمة«كان»الدالة على كينونة الشيء،و تحققه،و جاءت بصيغة الفعل الماضي لتفيد اليقين بهذا التحقق إلى حد أنه قد أصبح بمثابة الحاصل،أو أنه حاصل بالفعل، حتى صح أن يخبر عن كينونته..

3-و مما يزيد الأمر تأكيدا؛الإشارة إليه إشارة حسية..و هي إشارة إلى الحاضر القريب،حيث قال تعالى:«إنّ هذا»..

«لكم جزاء»:

يضاف إلى ما تقدم:أنه تعالى قد صرح بملكيتهم لذلك المشار إليه بكلمة«هذا»،و أنه لهم،قبل أن يصرح بوصفه ب«الجزاء»،فقدم كلمة «لكم»على كلمة«جزاء»..

لأنه لو عكس ذلك،بأن قدّم كلمة«جزاء»،فإن ذلك قد يوحي،و لو لغيرهم،للحظة عابرة بوجود جزاء قد يكون حسنا،و قد لا يكون..

و لا يريد اللّه سبحانه أن يمر في وهم الإنسان،و لو للحظة واحدة شيء من ذلك،بل هو يريد لهم أن يلتذوا بالمبادرة إلى التصريح بأن الجزاء في غاية الحسن،ليعيشوا الطمأنينة و السكينة في جميع الآنات، حتى في طريقة الأداء اللفظي و البياني..

كما أنه يريد أن يطمئنهم إلى أنهم مالكون لهذا الجزاء،و لا يريد أن يفصلهم عن هذا النعيم،و لو على مستوى التخيل العابر،بأن يمر و لو في و هم الآخرين أن هذا الجزاء قد يكون لهم،و قد يكون لغيرهم..

و هذا يشير إلى مزيد الرضا،و إلى درجة الاهتمام الإلهي بهم،و هو يعطيهم بالتالي لذة جديدة من خلال هذا الشعور بالحب،و الرعاية،

ص: 168

و الرضا،و الكرامة الربانية لهم.

الخطاب للأبرار:

و قد جرى الكلام هاهنا بصورة الخطاب مع الأبرار،فيقول: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. بعد أن كان يتحدث عنهم بصيغة الغائب،حيث كان يقول: يُطافُ عَلَيْهِمْ .. .. وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ .. الخ..

«جزاء»:

و قد اعتبر اللّه تعالى عطاءه هذا للأبرار جزاء لهم،و لعله بهدف توجيه الناس و تحريضهم على أن يعملوا بعمل الأبرار لينالوا ما نالوه.

و هذا يشير إلى أن هذا العطاء،الذي هو على سبيل الجزاء،قد لوحظ فيه حجم العمل و مزاياه و غاياته،و ليس عطاء تفضليا محضا..فإن كان ثمة تفضل،فإنما هو في تقدير الجزاء قبل تقريره..

كما أن عدّ ذلك من قبيل الجزاء يثير لدى الأبرار شعورا بالكرامة و الاعتزاز،من حيث قبول اللّه سبحانه لأعمالهم،و يعطي عملهم قيمة واقعية و حقيقية،لأن اللّه هو المصدر الحقيقي لكل قيمة،و جعل الجزاء بإزائه يستبطن ذلك..

ثم إن للنعيم المصاحب للشعور بالاستحقاق،لذته أيضا و أهميته..

فإن من يحصل على محبة الآخرين مثلا،من دون استحقاق،سوف ينتابه شعور بالضعف،و الضعة،و الذلة،و الاستكانة..بخلاف ما لو نال ذلك الحب عن جدارة،فإن ذلك سيثير فيه عزة،و قوة،و ثبات شخصية، و بهجة بهذه العزة،و بذلك الثبات..

كما أن الاستحقاق يعطي للحب أصالة،و عمقا،و بقاء،و شعورا بالثبات،بخلاف ما لو جاء على سبيل التحنن و التكرم،فإنه لا يكون ثمة

ص: 169

أي أساس أو مستند،أو مبرر للشعور ببقائه،و أصالته،و استمراره..

فيصبح هذا الحب مشوبا بالشعور بإمكانية فقده لأي طارئ،أو صارف عنه..و قد يضعف الحافز الذاتي له،و لا يجد منشأ آخر يمكن أن يعتمد عليه فيه..

«وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً»:

و رغم أن الإنسان مملوك للّه سبحانه،فإن اللّه تعالى قد تفضل عليه بأن جعل لسعيه قيمة..

ثم اعتبره ملكا للإنسان نفسه..على قاعدة: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ (1)..

غير أن اللافت هنا:أنه سبحانه حتى حين تفضل على الإنسان بهذا و ذاك،فإنه قد اعتبر الإنسان العامل أهلا لأن يشكر على عمله هذا،رغم أن فائدة العمل و عائدته إنما تعود عليه دون سواه..

و قد أخبر تعالى عن حصول هذا الشكر،و عن بقائه،و عن كينونته بقوله: وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً.. فلم يقل:و سنشكر لكم ذلك..بل قال:

«كان»،ليشير إلى أن الشكورية الثابتة و الدائمة و الباقية لسعيكم؛قد تحققت و انته الأمر.

«سعيكم»:

ثم إن اللّه تعالى قد ذكر هنا مجرد السعي،و لم يذكر نوعه،و مستواه، و نتائجه،و آثاره و حجمها،و هذا معناه:أن مجرد السعي يجعل الأبرار مستحقين لهذا الجزاء و لذلك الشكر..

********

(1) سورة سبأ الآية 47.

ص: 170

«مشكورا»:

و قد ألمحنا آنفا إلى أن اللّه سبحانه قد اعتبر نفس سعي الإنسان في سبيل الخير مهما كان مستوى نتائجه و حجمها-اعتبره-ذا قيمة على كل حال..بل هو قد رفع من مستواه إلى حد أنه اعتبره بمثابة هدية له تعالى،و بلغ الأمر حدا بحيث انفصلت عوائد و فوائد ذلك العمل عن العامل،و لحقت به تبارك و تعالى،فاستحق ذلك العامل الشكر بإزاء هذا الذي تخلى عنه ليصبح لغيره،و هذا الغير هو اللّه سبحانه،الغني، و الخالق،و المالك..

و هذا غاية التكريم من اللّه سبحانه لعبده المؤمن،فإنه-و هو المالك،و المعطي له كل القدرات،و كل الهدايات-قد ملكه عمله، و جعل نفعه يعود عليه،ثم أعطاه عليه جزاء،ثم زاده أن اعتبر نفع ذلك العمل يعود عليه هو سبحانه،و وعده عليه بالشكر،بل و شكره عليه بالفعل،بل كان له منه الشكر الدائم و المستمر..

و إثبات المشكورية لسعي الأبرار،يؤكد أن إثبات الجزاء عليه كان بسبب الاستحقاق،لأن الشكر يتضمن اعتبار سعي الأبرار الذي يفترض كونه لهم-اعتباره-لغيرهم،و أنهم قد استحقوا الشكر عليه،لتخلّيهم عنه لصالح ذلك الغير،حسبما بيّناه..

و لكن ذلك كله إنما هو في مقام التصوير،الذي يسهم في إدراك المقاصد العالية،و ليس على نحو الحقيقة..و لكن الجزاء و الكرامة التي يتجسد معنى الشكر فيها،هي تلك الحقيقة التي يراد الإرشاد إليها..

و لا بد أن يدرك الأبرار هذه المعاني،و أن تكون من أسباب نعيمهم و بهجتهم بهذا الكرم الإلهي الغامر،و هذا الفضل العميم..

ص: 171

و لذلك قال هنا: يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً. أي يتركونه غير مكترثين به،و لا مهتمين له،و لم يكونوا قد أمسكوا به،أو حصلوا عليه.

رغم أنه ثقيل،و مهم جدا..

***

ص: 172

الفصل الثالث و العشرون: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً

اشارة

ص: 173

ص: 174

قوله تعالى:

إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً.

وسائل الهداية الإلهية:

و بعد بيان هذا الجزاء العظيم للأبرار،بما يمثله من إثارة الطموح و التطلع لدى الناس إلى تلك المقامات السامية،و التشوق لبلوغها،أو لسلوك الطريق إليها:فإن الحاجة تصبح ماسة إلى بيان وسائل الهداية إلى ذلك كله،فجاء البيان لهذه الهداية من قبل مصدر العطاء،و الحكمة، و الهيمنة،و الخالقية،و العلم،و..و..

و قد أورد اللّه تعالى ذلك مصحوبا بالتأكيدات المختلفة للمضمون الذي يريد لفت الأنظار إليه،و هو أن القرآن نازل من عند اللّه سبحانه، فأكد ذلك بكلمة«إنّ»و بكلمة«نا»المعبرة عن مقام العزة الإلهية،و بكلمة «نحن»المؤكدة للضمير المتصل،مع أنّه قد كان يمكن الاكتفاء بالقول:

«أنا نزلت عليك القرآن»..

و أكّد ذلك أيضا بالجملة الاسمية،و بكلمة تنزيلا،التي هي مفعول مطلق.

فهذه التأكيدات كلها،لعلها لإزالة آثار تشكيكات أهل الزيغ، و الشرك،الذين كانوا يقولون عن القرآن:إنه قول شاعر،أو كاهن،أو هو من أساطير الأولين،أو ما أشبه ذلك.

فبعد أن بيّن سبحانه الهدف من الخلقة،و بيّن سبيل الأشرار،

ص: 175

و الأبرار،و بيّن أيضا جزاء هؤلاء و أولئك..بعد ذلك كله أراد سبحانه أن يبيّن أن القرآن هو سبيل النجاة،و أنّه نازل من عنده تعالى،لتكون النتيجة من ثم هي:

أن الوصول إلى الهدف الذي رسمه اللّه لخلق الإنسان منحصر بما بيّنه اللّه سبحانه.و كل ما عداه،فإنّه لن يوصل إلى شيء سوى الدمار و البوار.

«إنّا نحن»:

و قد بدأت هذه الآية المباركة بكلمة«إنّا»المفيدة للتأكيد القولي،يضاف إلى تأكيد آخر،يقرره لهم مشاهدتهم صحة ما يخبرهم به سبحانه.

ثم أشار إلى نفسه تبارك و تعالى بكلمة:«نا»و بكلمة:«نحن»،و هما تعبران عن المتكلم،و معه غيره،ليشير بذلك-من جهة-إلى مقام عظمته،و جلاله،و كبريائه،و قدرته،و عزته..و ليفيد-من جهة أخرى- أنّ تنزّل القرآن من مقام إلى مقام،قد أوكله سبحانه إلى الملائكة،ثم إلى جبرئيل..و ذلك ليعرفنا:أنه يدبر الكون بوسائل معينة،و وفق نظام، و عبر وسائط تدبير فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (1)..

و مما يؤكد ذلك:

أنه تعالى ينزل القرآن من مقام إلى مقام،بواسطة الملائكة،كما قلنا..

أنه يوحي إلى النبي أحيانا بواسطة جبرئيل..

و أنه يميت الأحياء من البشر بواسطة الملائكة..

و أنه يجعل التناسل البشري عبر صلة الذكر بالأنثى.و ما إلى ذلك.

********

(1) سورة النازعات الآية 5.

ص: 176

و إن معرفة الإنسان بأنّ كل المخلوقات مسخرة للّه تعالى،و تعمل بإرادته سبحانه،يزيد في معرفة الإنسان باللّه،و يؤكد خضوعه و استسلامه له.و هو يثبّت الإنسان في مواقع الاهتزاز،فاللّه مهيمن على كل شيء حتى حين يكون الملك هو الذي يباشر التصرف..

و لكنه عاد في الآية التالية ليتكلم عن نفسه تبارك و تعالى بصيغة المتكلم بضمير المفرد،فقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ .. كما سيأتي.

و الخلاصة:أنّه في مثل هذا المقام لا بد أن يأتي التعبير بصيغة:

«إنّا»،«نحن»،ليزيد ذلك من طمأنينة الإنسان،من خلال زيادة يقينه بأنّ اللّه هو الممسك بكل شيء،و المهيمن على كل شيء،حتى حينما يبدو أنّ ثمة من يتصرف في الأمور و يدبرها..

«عليك»:

و كلمة«عليك»في قوله: نَزَّلْنا عَلَيْكَ تريد أن تجعل الإنسان يتلمس الوحي الإلهي من حيث هو يصل الرسول باللّه مباشرة،و في هذا أيضا من الفوائد و العوائد المرتبطة بالإيمان بالكتاب،و بالرسول..ما لا يحتاج إلى مزيد بيان..

«نزّلنا»:

و قال سبحانه: نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ .. و لم يقل:«أنزلنا»..

و قد قالوا في الفرق بينهما:إن التنزيل يكون نجوما،و متفرقا،على سبيل التدريج،أمّا الإنزال فيكون دفعة واحدة..

و قد ناقشنا هذا القول في كتابنا الصحيح من سيرة النبي صلّى اللّه عليه و آله ج 2 و ذلك حين الحديث عن البعثة..غير أننا نجمل الكلام حول ذلك هنا على النحو التالي:

ص: 177

قد يقال:إن هناك ما يدل على عدم الفرق بين الإنزال و التنزيل،فقد قال تعالى: أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ (1).

و قال تعالى: نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (2).

و قال: نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً (3).

و قال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً (4).

و الجواب:أن اختلاف التعبير،لا بدّ أن يوجب اختلاف الخصوصية الملحوظة،و لعلّ الخصوصية هي لحاظ التدرّج في نزول الماء،أو الآيات تارة،و لحاظ مجموع الآيات النازلة،أو مجموع الماء النازل أخرى.كما أن تنزّل الكتاب على سبيل الإجلال و الإكرام له،قد كان كذلك أيضا،فنزل إلى اللوح المحفوظ،ثم إلى السماء الرابعة،حيث البيت المعمور،ثم إلى السماء الدنيا،ثم صار ينزل سورة سورة،ثم صارت تنزل آياته نجوما.

فحين يلاحظ هذا النزول التدريجي التكريمي،يكون التعبير بنزّل.

و حين يلاحظ نزوله بلحاظ وصوله تاما بمجموعه إلى أهله أخرى..من دون لحاظ ذلك التدرج التكريمي،فيكون التعبير بأنزل.

و قد يقال:إن قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً (5).

يشير إلى عدم الفرق بين الإنزال و التنزيل،حيث استعمل التنزيل في

********

(1) سورة العنكبوت الآية 51.

(2) سورة البقرة الآية 176.

(3) سورة البقرة الآية 63.

(4) سورة البقرة الآية 22.

(5) سورة الفرقان الآية 32.

ص: 178

مورد النزول جملة واحدة..

و يمكن أن يجاب عن هذا أيضا:بأن التنزيل هنا قد لوحظ فيه إنزال مجموع القرآن،من سماء إلى سماء،و من مقام إلى مقام،حتى يصل إلى البشر..فهو على حدّ قوله: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ (1)..

فإذا تأكّد وجود فرق بين نزّل و أنزل،فلا بدّ من الإجابة على سؤال:

أنه تعالى يقول: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (2).

ثم هو سبحانه،يقول: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (3).

فهذه الآيات تدل على نزول القرآن نجوما،و مفرّقا..

و قال: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (4).

و قال أيضا: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (5).

و قال أيضا: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (6).

فهذه الآيات تدلّ بالتصريح،أو بالتلميح،على النزول الدفعي..

********

(1) سورة الإسراء الآية 93.

(2) سورة الإسراء الآية 106.

(3) سورة الفرقان الآية 32.

(4) سورة الزمر الآية 2.

(5) سورة القدر الآية 1.

(6) سورة البقرة الآية 185.

ص: 179

فكيف يوفق بين هاتين الطائفتين من الآيات؟!..

سؤال آخر هنا أيضا و هو:أنه إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان فكيف تكون البعثة النبوية في شهر رجب؟

و يمكن أن يجاب عن هذا و ذاك بما يلي:

أولا:إنه قد سبق أن هناك ما يدل على نزول القرآن إلى اللوح المحفوظ..ثم هناك ما يدل على نزوله إلى السماء الدنيا،ثم سورة سورة،ثم صارت تنزل الآيات تدريجا..

و قد ذكرنا ذلك في بحث لنا حول السبب في تقديم آية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (1)على آية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2)فراجع (3)..

و على هذا فيمكن القول بأن النزول الدفعي للقرآن قد كان في شهر رمضان،و في ليلة مباركة،هي ليلة القدر.ثم بدأ في السابع و العشرين من شهر رجب ينزل سورة سورة،و تدريجا..

ثانيا:بالنسبة إلى البعثة في شهر رجب نقول:

إنه لا يجب أن تكون البعثة مقترنة بنزول القرآن،فيمكن أن يبعثه اللّه في شهر رجب،ثم يبدأ نزول القرآن بعد شهر،أو شهور،أو أكثر،أو أقل،لأن البعثة هي مجرّد أن يخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه بأنه نبيّ،و قد يخبره بذلك منذ صغره،كما كان الحال بالنسبة

********

(1) سورة المائدة الآية 3.

(2) سورة المائدة الآية 67.

(3) راجع كتاب«مختصر مفيد»ج 4.

ص: 180

للنبي عيسى عليه السّلام،حيث قال فور ولادته: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (1)..و كل فضيلة ثبتت لنبي من الأنبياء،فهي ثابتة لنبينا صلّى اللّه عليه و آله،كما دلت عليه الروايات..

و قد يكون المراد من البعثة،هو بعثته كرسول و هي تتحقق بإخباره و لو في آخر حياته..بأنه مبعوث إلى قومه،أو إلى البشرية كلها..و لا يحتاج ذلك إلى نزول قرآن..و في هذه الحال قد يكون القرآن قد نزل عليه قبل ذلك بسنوات..

كما أن من الممكن أن ينزل القرآن على النبي صلّى اللّه عليه و آله مذ كان نبيا أي منذ صغره،أو بعد ذلك بسنة أو بسنوات كما سيأتي..

و ثالثا:إن الأوضح و الأقرب في موضوع النزول الدفعي و التدريجي للقرآن هو:

أن القرآن قد نزل دفعة واحدة على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و لكنّه لم يؤمر بتبليغه،ثم صارت السورة،ثم الآيات تنزل تدريجا بحسب المناسبات..

و ربّما يستأنس لهذا الرأي ببعض الشواهد مثل ما ورد في رواية المفضّل،عن الإمام الصادق عليه السّلام،قال:«أعطاه اللّه القرآن في شهر رمضان،و كان لا يبلّغه إلا في وقت استحقاق الخطاب،و لا يؤدّيه إلا في وقت أمر و نهي الخ..» (2).

رابعا:إن النبيّ كان نبيا منذ صغره،أو قبل ذلك،فقد روي عنه أنه

********

(1) سورة مريم الآية 30.

(2) البحار ج 89 ص 38.

ص: 181

قال:«كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد» (1).

فلا مانع من أن يكون القرآن قد نزل عليه منذ بدء نبوّته،ثم صار ينزل عليه صلّى اللّه عليه و آله نجوما بعد أن بلغ الأربعين،لكي يبلّغه للناس..

و لا بأس بمراجعة ما كتبناه حول هذا الموضوع،في بحثنا حول السبب في تقديم آية: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (2)على آية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (3)، (4)..

لم يقل:أنزلنا:

و جوابا عن السؤال عن السبب في أنه قال هنا:«نزّلنا».و لم يقل:

أنزلنا..ثم قال:«تنزيلا»،و لم يقل:إنزالا..

نقول:

لعلّ اختيار كلمة«نزلناه تنزيلا»هنا بالذات قد جاء لسببين..

السبب الأول:أن للقرآن جهة و مرتبة إلهية،تجعله خارج دائرة قدرات البشر.فكان أن احتاج إلى التنزيل ليصبح في حدود البشرية..

فإن مقام الرسول مهما كان عاليا،و ساميا و عظيما عند اللّه،و مهما أعطاه اللّه تعالى من قدرات و ألطاف،فإنه يبقى في مقام و درجة المخلوقين و المألوهين..و يبقى للّه سبحانه مقام الخالقية و الإلهية..و ما أعظمها من

********

(1) كتاب التاج ج 3 ص 229.

(2) سورة المائدة الآية 3.

(3) سورة المائدة الآية 67.

(4) راجع:الجزء الرابع من كتاب«مختصر مفيد».

ص: 182

درجة و أسماه من مقام!!فلا بدّ من تنزيل ما هو إلهي ليصبح في حدود البشرية..فكان النزول أولا إلى اللوح،و أمّ الكتاب،ليمكن لنفس الرسول أن تناله..ثم لكي يناله البشر الآخرون،و كانت له تنزّلات أخرى إلى البيت المعمور في السماء الرابعة،ثم إلى السماء الدنيا.ثم نزول جبرئيل به سورة سورة،ثم نزول الآيات نجوما..

و كان نزول القرآن بواسطة جبرئيل إيذانا بعظمة القرآن،و بكرامة و منزلة جبرئيل أيضا،ثم هو تشريف و تكريم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..الذي استحق ذلك من خلال عمله و جهده و جهاده في سبيل رضا اللّه،و نيل مراتب القرب،و مقامات الزلفى منه تعالى..حتى لقد استحقّ أن يكون نبيّا و آدم بين الروح و الجسد،و أن يكون نورا محدقا بعرش العظمة و الجبروت،و القدرة الإلهية..

و كان من مفردات تكريم اللّه تعالى له،أن جعل جبرئيل و هو أعظم الملائكة قدرا،هو المبلّغ عنه إليه.

أمّا النبي موسى عليه السّلام،فرغم ما له من عظيم المنزلة،و جليل المقام،قد خلق اللّه له الكلام في شجرة،في البداية..

و يشبه ما ذكرناه هنا في بعض جهاته،ما ذكرناه حول سبب وقوع المتشابه في القرآن،فإنّ معاني القرآن كبيرة و سامية،لا تستطيع ألفاظ وضعها العرب لأمور حسية أو قريبة من الحس أن تستوعبها،فكان لا بدّ من إخضاعها لدرجات من التنزيل و التلطيف.ليمكن وضعها في قوالب لفظية هذا حالها..فمست الحاجة إلى الاستفادة من المجاز و الكناية، و سائر أنواع الدلالات،لتكون هي المفاتيح التي تفتح للراسخين في العلم الأبواب التي يشرفون منها على عالم من المعاني الكبيرة و السامية، و يعلّمون منها الناس كل على حسب قدره و قدرته..

ص: 183

السبب الثاني:أنّ هذا التنزيل قد جاء وفق المعطيات التي أوجدتها البيانات التي وردت في السورة،من أوّلها إلى هذا الموضع،حيث إنها تحدثت عن نشأة الإنسان في الحياة،و عن المستوى العظيم للرعاية و الهداية الإلهية له في مسيرته في الحياة الدنيا،و المصير الذي سينتهي إليه الأبرار و الفجّار،مع تقديم وصف دقيق لحالات الأبرار في الجنة..

و إذا كان تصور الحقائق و الدقائق التي وردت في هذه السورة، يحتاج إلى أرقى درجات الإدراك و المعرفة و اليقين،فإن حاجة الإنسان إلى تحصيل هذا اليقين و ترسيخه،و تعميقه إنما تنبثق من حاجته إلى نيل تلك الأهداف الكبرى التي يريد اللّه أن ينيله إياها،و التي يعجز عقله عن تصورها،و يقصر خياله و وهمه عن اقتحام آفاقها..الأمر الذي يجعل منه يقينا له تأثيره المباشر على مستوى السعي،و الجهد و الإخلاص، و الخلوص في العمل في سبيل الوصول إلى تلك الغايات،و الحصول على هاتيك المرادات،و تحقيق تلكم الأمنيات.

و ذلك معناه:أن مجرد القبول و الرضا،و إظهار القناعة بما أخبرت به هذه السورة المباركة،و بصدق الوعد الإلهي لا يفي بالمطلوب،بل الحاجة تبقى ماسّة إلى ما هو أسمى من ذلك و أبعد..

و لعلّ ظهور المعجزات و حدوث الخوارق للعادات،يأتي في سلسلة الأسباب و العلل لإيجاد مستويات أعلى من اليقين و الاقتناع لدى الناس.

و سيكون لهذه المعجزات و الخوارق أثر إيجابي في الربط على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،و مضاعفة صبره،و زيادة قدراته على المواجهة،و مكابدة المشاق،و تحمل الأذايا في المجالات المختلفة،و هو الذي يقول:

ص: 184

«ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت» (1)..

أو«ما أوذي أحد ما أوذيت» (2)..

و ذلك لأن هذا النبي العظيم سيواجه كل جبابرة العالم،و طغاة الأمم، و حتى طغيان النفوس الأمّارة بالسوء..و التي إن أمكن قهرها اليوم،فإنها ستعاود الوثبة غدا..

و ما ذلك إلا لأن مهمة الأنبياء ليست مجرد تبليغ رسالة،أو تعليم و تربية جيل من الناس،أو إقامة دولة،و فرض قانون و نظام سياسي،أو اجتماعي،أو ما إلى ذلك مما يدخل في دائرة اهتمام السياسيين،أو المصلحين الاجتماعيين..

بل إن مهمة الأنبياء،هي صناعة إنسانية الإنسان،و صياغة شخصيته، و مفاهيمه و تنشئة مشاعره و عواطفه،و الإمساك و التحكم بأحاسيسه..

كما أن مهماتهم لا تنحصر بالإنسان الذي يعيش في عصرهم،بل هم مسئولون عن هداية و رعاية كل مسيرة الحياة الإنسانية،ما دام هناك بشر على وجه الأرض.

و لأجل ذلك:تعرض أعمال الأمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

********

(1) راجع:مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 42 و البحار ج 39 ص 56 و مستدرك سفينة البحار ج 1 ص 102 و كشف الغمة ج 3 ص 346 و الجامع الصغير ج 2 ص 488 و شرح منهاج الكرامة ص 265 و راجع جواهر المطالب ج 2 ص 320.

(2) راجع:الجامع الصغير ج 2 ص 488 و كنز العمال ط حلب ج 3 ص 120 و فيض القدير شرح الجامع الصغير ج 5 ص 55 و كشف الخفاء ج 2 ص 180 و تهذيب الكمال ج 25 ص 314.

ص: 185

و آله حتى في النشأة الأخرى،كما أن الإمام عليه السّلام يرى أعمال الخلائق،و يلاحقها،و يتعاطى معها،من موقع البصير الخبير،و العارف بالداء و الدواء.

و قد كان تنزيل القرآن سورة سورة،ثم نزوله على سبيل التدريج حين تحقّق ما تنطبق عليه الآيات،يؤكّد للناس أن هذا القرآن هو من عند عالم الغيب و الشهادة،فيكون ذلك قاهرا لعقولهم،و موجبا لخضوعهم،و بخوعهم و استسلامهم له.

و ذلك من أسباب تقوية الرسول،و معونته و إحكام أمره،و زيادة درجة الصبر و التحمّل لديه صلّى اللّه عليه و آله..على طريقة: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (1)..فإن تجسّد هذا الغيب على صفحة الواقع حركة و سلوكا،و مفردات حيّة ناطقة،تلزم بالحجة،و تقطع العذر،و تؤكّد يقين الناس،و تقوّي موقف الرسول،إن هذا من شأنه أن يثلج صدره صلّى اللّه عليه و آله..و يفرح قلبه،و يزيد من تصميمه،و يشدّ من عزيمته.

و لعلّ هذا يفسّر لنا قوله تعالى: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (2)..

نعم إن هذا القرآن الذي حدّث الناس في هذه السورة المباركة، -سورة:«هل أتى»-عن هذه الحقائق و الدقائق،قد أنزله اللّه تعالى بصورة تدريجية،لكي يظهر بما لا يقبل الشك أنه من عند عالم الغيب

********

(1) سورة البقرة الآية 260.

(2) سورة الفرقان الآية 32.

ص: 186

و الشهادة،و لذلك كانت تنزل الآيات في السورة قبل حدوث أي شيء، و يقرؤها النبي على الناس،ثم تأتي الأحداث،و يرى الناس كيف أن الآيات السابقة تنطبق على هذا الحدث اللاحق.

فكيف يجوز لمن يرى ذلك أن يتردد في اختيار الإيمان؟أو كيف لا يكون صبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،في هذه الحالة أعظم و أجلّ من أن تدركه العقول،و تناله الأفهام؟!.

خصوصا مع إدراكنا:أن صبره صلّى اللّه عليه و آله نابع-بالدرجة الأولى-من أعماق ذاته،و من حقيقة طهره،و كونه إنسانا إلهيا كاملا، متصلا باللّه،و متكل عليه في كل أموره.

و كيف لا يتضاعف هذا الصبر يوما بعد يوم،و حتى لحظة بلحظة؟!.

و بعد هذا فإننا نستطيع أن نعرف بعض السر في عطف الكلام عن مجراه السابق،إلى الكلام عن تنزيل القرآن.

«نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً»:

و من أهم فوائد هذا البيان الإلهي لكيفية نزول القرآن،و مطابقة الآيات لما يحدث في المستقبل:أنه يهيئ للقناعة الوجدانية،و طمأنينة القلب،و السّلام و الرضا في النفس من خلال إعطاء الدليل الملموس على صدق و حقّانية البيان الذي قدّمه..و القضايا إذا استندت إلى الدليل، فإنها تصبح أشد رسوخا،و أعظم أثرا في نشوء و ترسيخ حالة الصبر و التحمل للمصاعب و المتاعب.

و قد قلنا:إنه تعالى قد أشار إلى هذا الربط بين النزول التدريجي للقرآن، و بين أثر ذلك في تحقيق الصبر النبوي صلّى اللّه عليه و آله،حين فرّع الأمر بالصبر؛بالفاء،فقال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً..

ص: 187

ص: 188

الفصل الرابع و العشرون: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً

اشارة

ص: 189

ص: 190

قوله تعالى:

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ »:

و السؤال الذي يحتاج إلى إجابة،هو:ان اللّه تعالى قد أمر رسوله بالصبر لحكم الرب،لا على حكمه،فما هو السبب في ذلك،و الجواب:

أنه إذا قيل:اصبر على الأمر الفلاني،فالمعنى أن عليك أن تتحمل مشقته،و متاعبه،و مسئوليته،و قسوته،و شدائده.و لا يصح أن يكون هذا هو المراد في الآية هنا؛إذ لا يمكن أن يكون في حكم اللّه سبحانه قسوة،أو أن يوقع في مشكلات.

فالصحيح أن يقال:اصبر لحكم ربّك..أي:لأجل و لمصلحة هذا الحكم الربّاني..لأن الصبر مفيد في إنجازه،و تحقيقه،و إقامة شرائعه، و الالتزام بها،و إنفاذها.

أما المتاعب فلم تنشأ من حكم اللّه،بل هي من صنع المعتدين، و الآثمين،أو من نتاج الهوى و العصبيات،و حبّ الدنيا،و الميل إلى السلامة و الراحة.مع أن الخير كل الخير،و السعادة و الصلاح هو في الالتزام بأحكام اللّه،و في إجرائها،لا في التخلّي عنها،لأجل دواعي الهوى،أو ما شاكل.

هذا إذا كان المراد بحكم الرب هو الالتزام بشرائعه و أحكامه.

ص: 191

و لكن الظاهر هو أن المراد ب«حكم ربّك»هو تكليفه لك أيّها الرسول بمهمات كبيرة و صعبة،اقتضاها تبليغك لأحكام اللّه..حيث إنك ستواجه المتاعب و النوائب،و أعظم الأذى و المصائب،في سبيل إبلاغ الدعوة و نشرها..و قد فرض اللّه عليك القيام بهذا الواجب،و عليك أن تصبر،لأن هذه الدعوة تحمل معها مواجهات صعبة في كلّ اتّجاه،إذ لا بدّ من مواجهة الطواغيت،و مواجهة أهواء الناس و طموحاتهم الباطلة، و الوقوف في وجه انحرافاتهم،و مواجهة النفس الأمّارة،و..و..

و هذا العناء العظيم،و ذلك الجهد الهائل،و تلك المصاعب و المصائب،تحتاج إلى التثبيت الإلهي،و إلى أن يشعر هذا العامل بلطف اللّه،و رعايته،و محبته،و حنانه،و لأجل ذلك جاء التعبير بكلمة:

«ربّك»:

فإن هذا الحكم عليك قد جاء من مقام الربوبية،ما وافق الحكمة، و من موقع التدبير،و المحبة لك،و اللطف بك،و الرضا عنك،و الحنو عليك،و التي تريد لك التكامل في مقامات الرضا،و الانتقال من مقام إلى مقام بنفس هذا الجهد الذي تبذله،و تلك الصعوبات التي تواجهها..

و لذلك كلّمه تعالى بكاف الخطاب للمفرد،من أجل المزيد من التحديد لشخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله،و بما له من حدود و ميّزات فردية،ليعرفه بعنايته المباشرة به.

و هذا الخطاب لا شك أنه لذيذ و محبوب لنفس الرسول،و هو يعطيها رضا،و بهجة،و سكونا،و طمأنينة،و ثباتا،و قوة،لشعوره بأن عين اللّه الرءوف به،و العطوف عليه ترعاه،و تلاحق كل حركاته،و ترصد جميع حالاته.

ص: 192

«وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً»:

و حين يكون هذا العامل في سبيل اللّه يواجه أشدّ حالات الحرج، و يبذل أعظم الجهد لتحقيق ما يتوخّاه،و يمتثل أمر مولاه..فإنه يواجه حالات أشد أذى لروحه،و إيلاما لقلبه،و حرجا على نفسه،و هي نصائح أولئك الأعداء له بالتخلّي عن مسئولياته الإلهية و الإنسانية،و السعي إلى بعث اليأس في قلبه،و إضعاف عزيمته،و إصابته بالفشل و بالإحباط من جرّاء ذلك،و إقناعه بأنه لن يجني سوى المشاكل،و المصائب،و البلايا..

و ربّما يواجه أساليب متنوعة في هذا الاتجاه،فيها الترغيب و الإغراء تارة،و الترهيب و الوعيد أخرى.

فلذلك جاء الأمر الحازم و الحاسم،ليقول له: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.

و قد يلاحظ:أن لحن الخطاب الإلهي مع أنبيائه و أوليائه يمتاز بالقوّة و بالحسم أحيانا،بل هو قد يوحي أو يوهم أنه يتهدّدهم بصورة قوية و قاسية:حتى ليقول اللّه تعالى لنبيّه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1)..

و يقول: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (2).

و يقول: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (3)..

كما أنه يخاطبهم في أحيان كثيرة بمنتهى اللطف و الرأفة..

********

(1) سورة الزمر الآية 65.

(2) سورة الحاقة الآيات 46/44.

(3) سورة الإسراء الآية 86.

ص: 193

و لكنه حين يخاطب عباده الخطّائين فإنه يتألّفهم،و يداريهم،و يهوّن عليهم الأمور،و يخاطبهم بلين و لطف،فيقول: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ (1)..

ثم هو يرغبهم بالتوبة،و يعدهم المغفرة وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ (2)..

تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً (3) ..و غير ذلك..

و ما ذلك إلا لأنه تعالى يخاطب أنبياءه و أولياءه من موقع الألوهية، لأنهم في معرفتهم باللّه،و في حصانتهم ضد نزعات الهوى،قد وصلوا إلى مراتب سامية من الصفاء،و النقاء،و الوعي،تؤهلهم لنيل الحقائق، و التفاعل معها..و هذا ما جعل الخطاب معهم خطابا بالحقائق ذاتها على ما هي عليه،لأنهم أصبحوا فوق مستوى البشر العاديين الذين يحتاجون إلى الخطاب بلغة تستعير مفرداتها من مألوفاتهم في هذه الدنيا، و مفرداتها،و حالاتها..لأنهم منغمسون فيها،فيحتاجون إلى مزيد من الرعاية لهم،و تولي تدبير أمورهم،و الإشفاق عليهم،بسبب شدة بعدهم عن الحقائق،و عدم قدرتهم على إدراكها..

على أنه تعالى لا يريد أن يشير إلى أي احتمال لصدور ذلك منهم، بل هو مبالغة في زجر غيرهم،فهو تعالى يريد أن يطلق القاعدة،و يعلن شمولها و سريانها الذي لا يقبل التخصيص،و صدق الشرطية لا يتوقف على صدق طرفيها،فهو على حد قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ

********

(1) سورة الزمر الآية 53.

(2) سورة طه الآية 82.

(3) سورة التحريم الآية 8.

ص: 194

فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (1) ..فإنه يستحيل أن يكون للّه ولد،و لكن المقصود هو التأكيد الشديد جدا على صحة الشرطية..

و كذلك الحال في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2)..

فإنه لا يمكن أن يصدر الشرك منه صلّى اللّه عليه و آله،و لكن المقصود هو التأكيد على القاعدة و الضابطة،و سريانها،و عمومها بأوضح بيان، و أجلى برهان..

ثم قال تعالى:

«وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً»:

فالآثم هو ذلك الذي يمارس الإثم،و ينغمس فيه مباشرة.و ربما تكون دواعيه و دوافعه له شهوانية،أو بسبب فهم خاطئ قد قصر في مناشئه و مكوناته.أو لخدعة وقع فيها،أو قلة مبالاة بالرقابة الإلهية..أو لأجل كفوريته،و تنكّره لمقام الألوهية،و طغيانه على اللّه،و غير ذلك..

ثم لا يقتصر على ذلك بل هو يدعو غيره ليشاركه في مآثمه..و ربما بهدف تخفيف الملامة عن نفسه،أو لأجل أن يجد العضد و المعين،أو لأجل الإمعان في الطغيان على اللّه،أو لغير ذلك من أسباب.

غير أن مما لا شك فيه:أن المآثم حينما تصبح واقعا متجسدا،فإن داعويتها للآخرين إلى ممارستها تصبح آكد و أشد،من حيث إن درجة من التخوف و الرهبة تزول عنهم،و لأن ما يتخيلونه من لذائذ لهم فيها، قد أصبح ماثلا أمامهم بالفعل،يثير شهيتهم،و يسيل له لعابهم..فتصير

********

(1) سورة الزخرف الآية 81.

(2) سورة الزمر الآية 65.

ص: 195

الدعوة إلى ارتكاب تلك المآثم،و التشجيع عليها أكثر فعالية،و أعظم أثرا.

و قد نهى تعالى عن إطاعة الكفور،و هو المكثر من الكفر،أو الشديد فيه،من حيث إنه يبذل جهدا قويا لتجاهل و طمس معالم نعم اللّه الظاهرة عليه،كما أنه يقاوم بشدة دواعي الهداية الفطرية،و العقلية، و الشرعية من أن تؤثر في ضبط حركته،و التخفيف من غلوائه و طغيانه.

فهو كفور بلحاظ درجات المقاومة و مراتبها،فكأنّ هذه المراتب تتضاعف:حتى ليصحّ أن يقال لفاعلها:إنه كفور.

كما أنه يكثر من هذا الكفران،بسبب كثرة تلك النعم،و كثرة تلك الدواعي التي هيأها اللّه له،رحمة به،و حدبا عليه.فهو كفور من حيث كثرة صدور مظاهر التجاهل لألطاف و نعم اللّه منه،و ظهورها على جوارحه.

و لكنه..يسعى دائما للتمرد على ربّه،و الخروج عن زيّ العبودية، و يبذل جهدا،و يكرر المحاولة في هذا السبيل.

فإذا اقترنت هذه الشدّة،و تلك الكثرة،بصيرورة هذا الكفور داعية إلى التمرد و إلى الطغيان،و إلى ستر و تجاهل نعم اللّه،و التنكر لألطافه، و رفض كل هداياته..فإنه يصبح أشدّ كفورية،و يكون عمله هذا أعظم درجة في القبح و السوء،لأنّه يجعل نفسه في موقع المواجهة مع فطرته، و عقله،و وجدانه..الذي لا يرضى منه إلا أن يكون شاكرا للمنعم عليه، مؤديا فروض العبودية لسيده،و خالقه،و مالك رقّه.

و مهما يكن من أمر،فإن قوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.. يدل على أن حامل همّ الدعوة إلى اللّه،الذي يعيش حالة الانضباط التام،و الانسجام مع الفطرة،و مع نواميس الحياة،و يلتزم بهدى

ص: 196

العقل و الشرع..يواجه دعوات قوية إلى أن يتخلى عن ذلك كله، و ليستبدل الممارسة السليمة،بارتكاب الآثام.و لينقض بذلك ضوابط الفطرة،و الشرع،و العقل،و الوجدان،و الفكر.

و من الواضح:

أن هذا الخطاب الإلهي للنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله،لا يعني:أن ثمة أية إمكانية لأن يطيع هذا النبيّ الكريم،الآثم أو الكفور..

و ذلك لأن الخطابات القرآنية للأنبياء تأتي قوية و حاسمة،لأنها من موقع ألوهيته تعالى،و بما هو خالق بارئ مصور،عزيز،جبار،متكبر،الخ..

فلا غرو أن نجده سبحانه يدفع بالأمور مع أنبيائه إلى أقصى الحالات،و من دون أيّ هوادة أو تخفيف..

كما أن اللّه سبحانه يريد أن يعرّفنا حقيقة المعاناة و الآلام التي يتعرض لها هؤلاء الدعاة إليه تعالى،و لعل أشدها عليهم محاولات الآثم و الكفور،جرّ أتباعهم،و لا سيما المستضعفين منهم،إلى الإثم و إلى الكفر..

ثم إن في هذا الخطاب الإلهي إشارة عملية إلى أن المعاملة الإلهية للبشر،لا تمييز فيها،فهو لا يغضّ الطرف عن رسله و أنبيائه،لمجرد أنّ لهم منزلة عنده،فإنّ منزلتهم إنّما نالوها عن جدارة و استحقاق،تجلّيا في التزامهم بأوامره و نواهيه التي قد تزيد صعوبتها بالنسبة إليهم عنها بالنسبة لغيرهم..

و هذا يخالف تماما ما عليه البشر في تعاملهم مع القريبين منهم،فإنه يختلف عن تعاملهم مع غيرهم.

يضاف إلى ذلك كله:أن اللّه سبحانه إنّما يخاطب الرسول بما أنه قادر على فعل الشيء،لا بما أنه معصوم.

ص: 197

و هذا نظير قوله تعالى: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (1)،فإنه يستحيل صدور الظلم من اللّه سبحانه؛لمنافاته مقام ألوهيته..و لكن ذلك لا يعني محدودية قدرته سبحانه،و صيرورته عاجزا على الحقيقة.بل إن اللّه سبحانه قادر على كل شيء في جميع الأحوال..

و هذا نظير قولنا:إن الأم يستحيل أن تقتل ولدها تشهّيا منها،ما دامت تملك العقل،و التوازن،و عاطفة الأمومة،كما أن الإنسان لا يقدم على شرب السم،و المؤمن الواعي لا يقدم على أكل الميتة،و لحم الخنزير.و لكن ذلك لا يعني العجز التكويني لهؤلاء عن ذلك كلّه..

و هذا بالذات هو حال الأنبياء أيضا،فإنهم لا يعصون اللّه،و لا يطيعون الآثم و الكفور،لوجود المنافرة الحقيقية،و البغض الحقيقي في نفوسهم لمثل هذه الأمور..دون أن يكون ثمّة عجز تكويني عن ذلك.

فقول اللّه سبحانه لنبيّه: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً، قد جاء خطابا إلهيا متوافقا مع مقتضيات الأحكام الظاهرية للبشر،لأنهم مخاطبون بما يخاطب اللّه به غيرهم..

و مكلفون به ما دام أنه يقع في دائرة ما تقتضيه قدراتهم البشرية،بغض النظر عن عصمتهم،و مع ملاحظة أن عصمتهم إنما هي اختيارية لهم.

و الخلاصة:أن الأنبياء مكلفون-كغيرهم-بالاجتناب عن جميع المعاصي،و امتثال جميع الأوامر،و لكن ذلك لا يعني:أن يكون الأنبياء- بملاحظة ملكة العصمة فيهم-مظنة صدور ذلك منهم..بل هو يعني:أن هذه الأمور تقع في دائرة اختيارهم،في نطاق قدراتهم البشريّة.

********

(1) سورة الكهف الآية 49.

ص: 198

صبر الرسول..و نعيم الأبرار في الجنة:

و لعلّك تقول:ما المناسبة بين حالات الأبرار في الجنة،و بين تنزيل القرآن تدريجا،لتحقيق التثبيت لفؤاد الرسول صلّى اللّه عليه و آله؟..مع أننا قد نتوهم أن الأنسب هو ربط ذلك بيقين الناس،ليكون ذلك مدخلا لطلب المزيد من الصبر منهم،و الثبات و السعي لنيل درجات الأبرار في الجنة.

و نقول في الجواب:إن القرآن أراد أن يفهمنا أن المسئولية التي يتحملها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في تهيئة النفوس،و صناعة الشخصية الإنسانية،وفق المواصفات،و بالمستوى الذي يفيد في نيل تلك المراتب السامية-إن هذه المسئولية-هي الأصعب،و الأشد خطورة،و الأعظم أهمية..

و توجيه الخطاب الإلهي للنبيّ لا يعني أنه خاص به،بل هو يتوجّه للناس أيضا،على طريقة:إيّاك أعني،و اسمعي يا جارة.

كلمة:«منهم»لما ذا؟!:

و أما لما ذا قال سبحانه: لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً، و قد كان يكفي أن يقول:«لا تطع آثما»..

فربما يكون ذلك لأجل أن مسار الكلام قد جاء على سبيل التعميم للناس كلهم،من أجل الإلماح إلى أن النبي صلّى اللّه عليه و آله،لا يمكن أن يتوهم في حقه أن يلبي المطالب إذا كانت تدخل في دائرة الباطل،و يكون فيها الإثم، و العدوان،و الفساد،من أي جهة جاءته هذه المطالب،و في أي ظرف..

و لكن بما أن من الناس من يطلب منه أمورا تدخل في دائرة الصلاح و الخير،و ليست من الباطل في شيء،فإن كونها كذلك،لا يوجب المبادرة أيضا إلى تلبيتها،إذا كان المطالبون بها من أهل الإثم،

ص: 199

و من المتشددين في كفرانهم،و المكثرين منه،إذ لا شك في أنهم يريدون الحصول عليها ليؤكدوا بها كفرانهم،و في نطاق مساعيهم لارتكاب الآثام..

فإن كان لا بد من القيام بتلك الأعمال،فلا بد من مراعاة أوامر اللّه سبحانه فيها،لا طاعة أولئك الأرجاس..

و مع غض النظر عن هذا و ذاك،فإنه قد يقال:إن ما يطلبه الآثم، و الكفور،لا يمكن أن يدخل في دائرة الحق،و العدل،و الصلاح،لأن ما يكون له صفة الحق،و العدل،و الصلاح،فلا بدّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله، من أن يبادر إليه،و لا ينتظرهم حتى يطلبوا ذلك منه..و ما لم يكن له هذه الصفة،فإنهم سوف يطلبونه منه،و لا يصح أن يطيعهم فيه..

فيكون هذا إعلانا إلهيا بحقيقة هؤلاء الناس،و تأكيدا لهذه الحقيقة في وعي أهل الإيمان،و من يملك ذرة من ضمير،أو وجدان..

هل هذا استطراد؟:

و قد يروق للبعض:أن يعتبر هذه الآية بمثابة استطراد في الكلام، و انتقال من سياق المدح و الثناء على الأبرار و ما أعده اللّه لهم..إلى ذم فئة بخصوصها..

غير أننا نقول:إن الكلام من أول السورة إلى هنا،إنما هو لرد دعوة هؤلاء المنكرين لهذه الحقائق الدامغة-لشدة كفرانهم،و لإمعانهم في الإثم-و الذين يسعون لإنكار أن يكون هذا الإنسان موردا للرعاية و العناية الربانية،و ذلك من أجل حرفه عن مساره الصحيح،إلى حد أنهم يتجرءون على مقام النبوة الأعظم،و يقدّمون له العروض،و يطلبون منه ما يتلاءم مع انحرافهم،و إثمهم،و كفرانهم لنعم اللّه و تفضلاته..

ص: 200

الفصل الخامس و العشرون: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً

اشارة

ص: 201

ص: 202

قوله تعالى:

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً.

«وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ »:

قلنا فيما تقدم:إن اللّه تعالى قدّم ما يفيد في إعطاء الوضوح، و اليقين،و الثبات،الذي هيّأ له التذكير بأن هذا القرآن الذي يتنزّل تدريجا،يحمل معه ما يدلّ على صدقه،و ظهور حقائقه في الوقائع المتتالية،بسبب انطباق الآيات عليها،مع أنها قد نزلت قبلها بزمان.

و قد جعل سبحانه هذا دليلا على لزوم الصبر لحكمه تعالى،و ها هو الآن بعد هذا و ذاك،قد عقب ذلك بالطلب من نبيّه الكريم:أن يذكر اسم ربّه بكرة و أصيلا..

و لتوضيح أجواء هذا الأمر الإلهي نقول:

قد تحدّثت هذه السورة المباركة عن الإنسان حتى قبل نشوئه،ثم تابعته في مسيره إلى مصيره،و بينت حاجته إلى الهداية،و الرعاية الإلهية، فأصبح واضحا:أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يتحمّل مسئولية هدايته و رعايته و إعداده،و إزالة الموانع من طريقه في كلّ هذا المسير الطويل،و لذلك خلق اللّه سبحانه نبيه الكريم صلّى اللّه عليه و آله قبل خلق الخلق،لكي يرافق هذا الخلق بروحه الطاهرة،ثمّ في نشأته البشرية إلى أن قبض اللّه روحه،و لكنه أيضا لم ينقطع بالموت عن مواصلة رعاية البشرية،بل هو لا يزال مرافقا لها،و سيبقى معها،حتى حينما

ص: 203

تنتهي إلى مصيرها النهائي في الآخرة..

إن مهمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا تنتهي بموته في الدنيا..بل هو الشاهد على هذه الأمّة،و المراقب لأعمالها،و الراعي لها حتى في النشأة الأخرى،و هو الذي يتّخذه المؤمنون وسيلة لهم إلى اللّه تعالى،ليقضي حاجاتهم في الدنيا،و ليشفع لهم في الآخرة،و هو الذي ينجدهم في الشدائد،بل و يحضرهم عند الموت،و هو صاحب الحوض في الآخرة، يسقيهم وصيّه منه،أو يمنعهم عنه.

فإذا كانت للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هذه المهمة الخطيرة، فهو يحتاج إلى التثبيت،و إلى الصبر الذي لا ينتهي عند حدّ،-إذ إن القضيّة ليست مجرّد حدث صعب يمرّ في تاريخ حياته و ينتهي..بل هو حدث مستمر،دائم التحدّي،لحظة فلحظة،و إلى أن تقوم الساعة-لأنه يتصدى للطواغيت،و للأهواء،و للغرائز.و العدوّ الذي يقاومه و يريد تحصين نفسه منه،دائم الحضور معهم،بالغ التأثير عليهم،و هو عدو لا يكلّ و لا يملّ،له حالات و محاولات،و قوّة و ضعف،مما يعني أنه سيبقى دائما في موقع التمرّد،و الطغيان،و الإغراء.

فلا بدّ من التدرّع بالصبر،و لبس لبوسه،دون كلل أو ملل..و لا بدّ من وسيلة تنتج هذا الصبر،و تحافظ على قوته،و تضاعفها باستمرار.

و إذا كانت مهمة الرسول و مسئوليته لا تنحصر بزمان،فكيف يمكن إنتاج هذا الصبر الدائم و المستمر،ليمكن القيام بأعباء هذه المسئولية، و مواجهة المغريات و التحديات؟!..

إن هذا هو ما تكفلت هذه الآية المباركة ببيانه..فهي تقول:إن على هذا الرسول-كما هو على كل البشر-واجبات لا بدّ لهم من القيام بها.

ص: 204

و إن صبره صلّى اللّه عليه و آله،و صبرهم إنما هو باللّه سبحانه.و قوته صلّى اللّه عليه و آله،و قوتهم إنما هي به و منه تعالى.و لذلك قال عزّ و جل سبحانه لنبيّه هنا:

«وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ »:

إن الملاحظ هو أنه سبحانه قال: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ .

و لم يقل:«اذكر ربّك»،ربما لأن كلمة«اذكر»قد يراد بها التذكّر في مقابل النسيان،كما قال سبحانه: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ (1)،فيكون المطلوب هو إعادة التوجّه إليه بعد الغفلة عنه..و هذا المعنى غير مراد هنا،فإن الغفلة عن اللّه تعالى مما لا يتوهّم في حق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..إلا إذا كان اللّه سبحانه يريد بخطابه هذا،تعليم الآخرين، و تنبيههم من غفلتهم..

و أما القول بأنه تعالى:يريد بذلك مواجهة نبيه الأكرم صلّى اللّه عليه و آله بالوقائع بطريقة حاسمة،و من موقع ألوهيته تعالى،تماما كقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2)و قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (3).

فهو غير مقبول،لأن المراد هنا-كما يشير إليه سياق الآيات-هو إظهار التحنّن على الرسول،و اللطف و الرفق به..و طمأنته إلى المعونة الإلهية و الرعاية الربانية..

********

(1) سورة الكهف الآية 24.

(2) سورة الزمر الآية 65.

(3) سورة الحاقة الآيات 46/44.

ص: 205

لما ذا اسم اللّه؟!:

و أما السبب في أنه تعالى،قد أجرى الكلام عن ذكر اسم اللّه،فهو أن المقام مقام الذكر المستبطن لمعنى المعرفة،و من البديهي:أنه لا يمكن معرفة كنه اللّه،و حقيقة ذاته تعالى.بل هو جلّ و علا يعرف بأسمائه و تجلياتها،و منها صفات فعله التي هي بالنسبة لنا أدلّ شيء عليه،إذ إننا نشعر بالحاجة إلى الرزق فيرزقنا اللّه،فنسمّيه بالرزّاق، و نحتاج إلى الشفاء،فيشفينا،فنسمّيه بالشافي،و نحتاج إلى الرحمة فيرحمنا فنسمّيه بالرحمن،و بالرحيم..و كذا الحال بالنسبة للخالق، و الودود،و المعزّ،و المذلّ،و المنتقم،و الكريم،و غير ذلك..

إذن،فنحن نستحضر مفهوم هذه الصفة أو تلك له تعالى في أذهاننا لتكون هي المشيرة إليه،و الدالة عليه سبحانه.

و لكن معرفة الأنبياء و الأوصياء له تعالى،أعمق و أدق من معرفتنا هذه،فإنهم يعرفونه سبحانه باسمه الألوهي،و بما يريهم إيّاه من أسرار خلقه،و ملكه،و ملكوته،و عجائب صنعه،و آياته.فإن اللّه سبحانه قد أرى نبينا الأعظم صلى اللّه عليه و آله من آياته حين الإسراء و المعراج،إلى البيت المعمور حيث المسجد الأقصى،و أراه من آياته الكبرى في معراج آخر إلى سدرة المنتهى،كما في سورة النجم..و أرى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض.

و قد يعرف اللّه سبحانه باسمه العظيم،و باسمه الأعظم..و لعلّ هذا هو ما تريد الآية أن تلمح إليه،حيث قالت: وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ . و لم تقل:أسماء ربّك..لكي لا يقال:إن المراد هو الأسماء الحسنى..كما أنها لم تقل اذكر اللّه..

ص: 206

و على كل حال،فإن ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لاسم ربّه،ليس لأنه يغفل عنه،بل لأنه يريد تعميق معرفته في أعماق وجوده.

«ربّك»:

و لا حاجة بنا إلى معاودة التذكير بأن التعبير بكلمة«رب»دون كلمة الإله،أو اللّه،قد جاء ليشير إلى التربية و الرعاية الإلهية،من موقع الحكمة،و المحبة،و أنه يبقى موضع العناية و الاهتمام الربوبي.

و قد أضاف كلمة«الربّ»إلى كاف الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و آله، ليشير إلى أنه صلّى اللّه عليه و آله،هو نفسه-و بما هو شخص له خصوصياته التي تميّزه عن الآخرين-مورد العناية،و محل اللطف الربوبي، و ليس اللطف عامّا،و يكون هو من الأفراد الذين يشملهم ذلك العام.

«بُكْرَةً وَ أَصِيلاً»:

اشارة

ثم إن ثمة أكثر من نقطة ترتبط بالبكرة و الأصيل،اللذين ذكرا في الآية المباركة،و فيما يلي تذكير بما تيسر منها:

1-الوقت ليس مجرّد وعاء:

قد دلّت الآيات الشريفة،و التشريعات المختلفة،على أن للوقت و للمكان قيمة واقعية،و نصيبا حقيقيا،في تحقيق الغايات من التشريع، فللصلاة أوقاتها،كما للحج،و للصوم،و غير ذلك،بحيث لو أن الصائم أفطر قبل الغروب بدقيقة واحدة بطل صومه،و كذا لو صلّى قبل الظهر بدقيقة واحدة،بل لا بدّ من إعادة هذه و ذاك.مع أن الأفعال المشترطة بالوقت لا تتفاوت فيما بينها.

فدعوى أن الوقت كالمكان مجرّد ظرف لوقوع الفعل،و ليس له أي تأثير في الأمر العبادي،غير صحيحة..

ص: 207

و كما أن للمكان و الزمان تأثيرهما في الغايات من التشريع،فإن لهما قد استهما أيضا،فالكعبة مقدّسة و مباركة،و الحجر الأسود مقدّس و مبارك،و للمسجد حرمته.

و قد جعل للصلاة في المسجد قيمة،و للصلاة في المسجد الحرام، عند الكعبة قيمة،و حدد للطواف مكانا لا يصحّ في غيره،و حدد أيضا للسعي و الرجم،و الوقوف أماكن خاصة بهم،بل هو قد تدخّل في عدد الحصيّات التي ترمى بها الجمار،و طلب أيضا..أن تؤخذ من مكان بعينه.

2-ما المراد بالبكرة و الأصيل؟:

قد يقال:إن الهدف من ذكر البكرة و الأصيل في هذه الآية المباركة هو الحثّ على الصلاة في الأوقات الخمس،لوقوعها جميعا في وقتي:

البكرة و الأصيل..

و نقول:

أولا:إنهم يقولون:إن المقصود بالأصيل العصر،أو ما بعد العصر، و بالبكور الصباح..

و هذا معناه:أن أوقات الصلوات الخمس لا يصحّ إرادتها هنا،لأن الظهر ليس من الصباح،و لا من العصر،كما أن العشاء الآخرة ليست منهما،بل و كذلك صلاة المغرب،لأن الأصيل هو حيث تميل الشمس ميلا ظاهرا إلى جهة الغرب،فلا بدّ فيه من وجود الشمس ظاهرة في الأفق،و صلاة المغرب إنما تكون بعد غيابها.

إلا أن يقال:إن المغرب و العشاء قد أشير إليهما في الآية التالية، و هي قوله تعالى: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ .

فلو سلمنا ذلك،و لم نقل:إن المراد هو صلاة الليل،فإننا نقول:يبقى

ص: 208

الإشكال في صلاة الظهر،فإنها ليست بكرة،و ليست أصيلا،كما هو ظاهر..

ثانيا:إن الآية لم تذكر الصلاة أصلا..فلما ذا الإصرار على إضافة هذه الخصوصيّة إلى مضمونها؟!

3-التّنصيص على البكرة و الأصيل:

و يبقى سؤال هو:لما ذا اختار اللّه سبحانه التّنصيص على هذين الوقتين:البكرة و الأصيل،دون سواهما؟

و يمكن أن يجاب:

أولا:إن لكلّ وقت إغراءاته،و صوارفه،و شياطينه الخاصة به،التي تزيّن للناس المعاصي المناسبة لتلك الأوقات،ففي النهار مثلا يواجه الإنسان الناس،و يتعامل معهم،و يبيع و يشتري،و..و..فيأتي الشيطان، و يقول للإنسان:انظر للأجنبية بشهوة،اكذب على الناس،تعامل مع الناس بالرّبا،غشّ الناس،استهزئ بهم،أخسر المكيال و الميزان،الخ..

و في الليل أيضا هناك شياطين تغري بالمعاصي التي تناسب الليل، فتقول للإنسان:تجسس،و اسرق،انظر إلى داخل البيوت،اذهب إلى سهرات الغيبة،ازن..الخ..

فجاء الأمر بذكر اللّه في هذين الوقتين،لإبعاد جميع أنواع الوسوسات الشيطانية عن الذاكر لربه..ليستقبل يومه و ليله بروح صافية، و بعزيمة قوية،و راسخة،و قادرة على مقاومة كل الإغراءات.

و في هذا من التعليم و الإرشاد للناس،ما لا يحتاج إلى مزيد بيان.

ثانيا:هناك أوقات يرغب الإنسان بأن يبعد فيها عن نفسه همومه و أفكاره،و يخلد للراحة،إمّا بالنوم،أو بالانشغال بما يروّح به عن نفسه، أي أنه يطلب الاستغراق في الغفلة عن واقعه،أو الخروج منه.

ص: 209

و من هذه الأوقات وقت صلاة الصبح،و وقت العودة من العمل المرهق طيلة النهار.

فذكر اللّه سبحانه في خصوص هذين الوقتين يخرج الإنسان عن حالة الغفلة التامّة،و يحصرها في خصوص الغفلة عن أمر الدنيا،و يجعله واعيا متيقّظا لأمر الآخرة.

ثالثا:إن هذين الوقتين،و إن كانا من أوقات الغفلة عادة،و لكنهما في الحقيقة هما الوقتان اللذان تكون النفس فيهما في أشد حالات الاسترخاء،و الصّفاء و الاستعداد لتقبّل أيّ وافد جديد عليها.

فإن الإنسان بدءا من وقت الأصيل يتهيّأ للاختلاء بنفسه،و للعودة بأفكاره الشوارد إلى دائرته و محيطه الحقيقي.و يكون مستعدّا للتأمّل، و اللقاء مع اللّه سبحانه،و الاتّصال به مباشرة بصورة أعمق،و بسهولة و يسر،و وضوح و صراحة،لا تقاس بالصراحة و الوضوح فيما لو حاول اللقاء باللّه،و هو في متجره،أو في دائرته،أو نحو ذلك.فثمّة صوارف و معوقات في مواضع العمل،و قد زالت الآن،و لأجل هذه الميزات بالذات كانت صلاة الليل من أهم الأعمال العبادية.

إن اللّه يريد أن يكون الوقت الذي تطلع فيه الشمس بين قرني شيطان،و الوقت الذي تغرب فيه بين قرني شيطان،وقت خلوة باللّه، و انقطاع إليه،و تهجّد و عبادة له،ليرغم بذلك كل مردة الشياطين من الجن و الإنس أجمعين..

و الخلاصة:أن الاتصال مع اللّه ليس جوارحيا بل هو قلبي جوانحي، و في العمل الجوانحي تطلب الأوقات التي تناسب هذا الاتصال،و تزيد من القدرة على تحقيق غاياته.و ذلك إنما هو حيث لا يكون القلب

ص: 210

منشغلا بأعباء الجوارح،و منهمكا في ترتيب،و برمجة،و مراقبة نشاطاتها..

و إنّ الليل بل و ابتداء من الأصيل و إلى حين البكور،يكون هو الوقت المناسب للقاء القلوب باللّه سبحانه،و التفاعل معه،و الانجذاب إليه.حيث تكون الجوارح قد سكنت أو كادت،و لقاء القلوب مع اللّه سبحانه لقاء واقعي،و هو لقاء رضي و حميم.

استغراق الوقت في العبادة:

و لا حاجة إلى التذكير بأنّ اللّه سبحانه لا يريد لهذا الإنسان أن يعيش الغفلة عن اللّه سبحانه،بل يريد له أن يكون معه في كل لحظات حياته،حتى في أكله و شربه،و عمله،و فراغه،و نومه و يقظته،و لذلك جعل له النوم في شهر رمضان عبادة،و الأنفاس فيه تسبيح،فالنوم إذا كان في طاعة اللّه،فإن اللّه لا يعده من موارد الغفلة.

و قد نام علي عليه السّلام على فراش رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ليلة الهجرة،و كان ينام في أيام الحصار في شعب أبي طالب في فراش الرسول،حتى إذا كان هناك تدبير يستهدف حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله من قبل المشركين،فإنه سوف يصيب الإمام عليا عليه السّلام، و يسلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله..

فنوم علي عليه السّلام هذا..ليس نوم الغافلين،بل هو ذكر،و عبادة، و فداء،و جهاد،و حضور حقيقيّ بين يدي اللّه جل و علا.

فاللّه سبحانه من خلال هذا التوجيه الذي وجهه لرسوله يريد منا و من كل مؤمن أن لا تكون في حياته غفلة و لو للحظة واحدة..

و بذلك يكون ما ورد في هذه الآية و التي بعدها كناية عن لزوم ذكر اسم اللّه مستغرقا لجميع الأوقات في النهار،ثم يكون السجود و التسبيح

ص: 211

مستغرقا أيضا لليل الإنسان كله،و بذلك يكون دائم الحضور بين يدي اللّه،في ساعات العمل،و في ساعات الفراغ،و حين ينام،و حين يستيقظ، و في كل حالاته و شئونه..

فلا معنى للتعبير الدارج بين الناس:«ساعة لك،و ساعة لربّك».و التي تعني أنّ الإنسان في الساعة التي له،يمكنه أن يلهو،و أن يفعل ما يشاء..

نعم لا معنى لهذا التعبير،بل على الإنسان أن يجعل كلّ حياته للّه سبحانه،ذاكرا له،و حاضرا بين يديه..

و أما التأكيد على الناس الوارد عن الأئمة عليهم السلام بأن يذكروا اللّه تعالى،في ثلاثة أوقات،هي:الوقت ما بين طلوع الفجر و طلوع الشمس،و ساعة ما قبل الغروب،و الثلث الأخير من الليل..فإن المراد هو التنصيص على خصوص هذه الأوقات،لأنها من ساعات الغفلة عند الناس عادة..فكأنه يقول:اذكروا اللّه في جميع أوقاتكم و خصوصا في هذه الأوقات الثلاثة..أما الأبرار فلهم شأن و حديث آخر،إذ إنهم دائما في حالة ذكر للّه،و حضور مستمر بين يديه تبارك و تعالى..

و لعلّ مما يؤيّد:أنّ المراد هو استغراق الوقت كله في ذكر اسم اللّه تعالى..أنه تعالى قد وصل ذلك بقوله: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً..

***

ص: 212

الفصل السادس و العشرون: وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً

اشارة

ص: 213

ص: 214

قوله تعالى:

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً.

«وَ مِنَ اللَّيْلِ »:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى قد استهل كلامه بكلمة«من»المفيدة للتبعيض،أي:خذ وقتا أو قطعة من الليل،و خصصها للسجود للّه تعالى..

ثم ذكر أن التسبيح يجب أن يكون في الليل كله،مهما كان طويلا،فقال:

وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً.

و بذلك تكون حصّة التسبيح هي التي تأخذ الوقت الأطول..

ثم يلاحظ هنا أيضا،هذا التّدرج و الانتقال.حيث بدأ بذكر اسم اللّه في الحصة النهارية،ثم انتقل إلى السجود في بعض آنات الليل.ثم انتقل إلى التسبيح في الليل بطوله..و لهذا التدرج معناه،و مغزاه،كما ربما تأتي الإشارة إليه.

و ثمة ملاحظة ثالثة هنا،هي:أن ذكر اسم اللّه تعالى قد ورد في النهار فقط،و لم ترد إشارة إليه في الليل،كما أنه لم يضف إليه شيء آخر من تسبيح و غيره.

و لكنه بالنسبة لليل ذكر أمرين،أحدهما السجود للّه،و الآخر التسبيح.

فلما ذا التخصيص في النهار بما ذكر،و لما ذا التنويع في الليل على النحو الذي أشرنا إليه،فإننا لا نشك في أن هذا التنويع مقصود و متعمد.

ص: 215

و يدل على هذا التعمد:أن هناك أحكاما تختص بعبادات الليل،و لا تشمل عبادات النهار،كالجهر بالقراءة،فإنه واجب في الصلاة الليلية، لكن الإخفات هو الواجب في النهارية.

و ربما يحاول البعض:تعليل ذلك بأن ظهور الإنسان للآخرين،إنما يكون في النهار غالبا،فيصبح أكثر تعرّضا لخطر الرياء في الصلاة من خلال تحسين الصوت في القراءة،و التأني فيها،و مراعاة قواعد التجويد، و ما إلى ذلك..

و كذلك الحال بالنسبة لإظهار حالات الخشوع،و الخضوع،و إجراء الدموع..

غير أننا نقول:

إن هذا قد يكون من فوائد الأمر بالإخفات نهارا،و الجهر ليلا..لكنه لا يكفي ليكون هو العلّة التامّة لهذا التشريع.

غير أن مما لا شك فيه:أن للوقت و للمكان خصوصية في التشريع..

و لذلك حدد الشارع للكثير من التشريعات أوقاتا تناسبها.

كما أن هناك خصوصية أخرى،و هي كثرة المستحبات في الإسلام بحيث لا يمكن لأحد أن يأتي بها جميعا،فمثلا قراءة القرآن مستحبة دائما،و الصلاة و التسبيح كذلك.فكيف يمكن الجمع بينها؟

ثم إن للكثير من المستحبات درجات عظيمة من الثواب،و لعل بعضها أكثر ثوابا من بعض الواجبات..و لعل سبب ذلك:أن الرقيّ، و السموّ الروحيّ،و التكامل في الشخصية الإيمانيّة،إنما يكون للمستحبات الدور الأهم فيه.

و لربما لا يقدر البعض-بحكم طبيعة عمله،أو بحكم ما يملكه من

ص: 216

طاقة جسدية-على الاستفادة من بعض أنواعها..فصاحب الدكّان لا يمكنه أن يشغل نفسه بالصلاة مثلا..و لكنه يقدر على الصيام،أو على التسبيح..

و ربما يكون المستوى الثقافي،و المعرفي قد لا يسمح له بالاستفادة المطلوبة،أو يحجزه عن المبادرة إليها و اختيارها ضعف قدراته الاستيعابية.أو لعلّ نفسه تقبل الآن على هذا النوع من العبادة،ثم تقبل غدا على نوع آخر،فلا يحرمه اللّه تعالى من ذلك في كلتا الحالتين،فإن للنفس إقبالا و إدبارا.

بل إن من الناس من لا يعرف القراءة،أو ليست لديه ثقافة تمكنه من إدراك المعارف القرآنية،و لكنه يميل إلى خدمة الناس،و قضاء حوائجهم،أو يميل إلى الصيام المستحب،أو زيارة المشاهد المشرفة..

ثم إن لبعض المستحبات ارتباطا بعاطفة الإنسان،أو بخلقه الإنساني، مثل مجالس العزاء،و الاهتمام بالأيتام..

فكل هذا التنويع يعطينا:أنه سبحانه يريد أن يفتح للإنسان جميع أبواب الوصول إليه جلّ و علا من خلال تشريعه للوسائل المختلفة، فيختار كل إنسان منها ما يناسب واقعه،و حاله،و ظروفه،فيفتح قلبه، و يعمّق إيمانه بواسطة هذه الطرق إلى اللّه تعالى،و يدخل الهدى و الإيمان إلى قلبه،فإن الأبواب إلى القلب مختلفة فتارة تكون ذات سمة عاطفية، و أخرى فكرية تأملية،و ثالثة تكون ذات قيمة أخلاقية،أو وجدانية،أو حالة مشاعرية.

كما أن للحياة الاقتصادية،و للمواقع الاجتماعية مجالات متنوعة، يمكن أن تكون هي الأخرى أبواب هداية و سبل نجاة..و قد قرر الشارع

ص: 217

الكثير من العبادات المالية المختلفة و المتنوعة..و أشار أيضا إلى استخدام الجاه و الموقع لقضاء حاجات المؤمنين،أو الدفع عنهم،و ما إلى ذلك..

فكلّ خصوصية في التشريع قد حسب لها حسابها في تيسير الهداية للناس،حتى الركعتان اللتان هما تحية للمسجد،و تشريع كراهة الصلاة في معاطن الإبل،أو في الحمام،أو ما إلى ذلك..

و بذلك يتضح:أن اللّه سبحانه حين يشرّع ذكره-فقط-لأوقات الغفلة بكرة و أصيلا..ثم يشرع السجود في بعض الليل،و التسبيح في الليل الطويل،فإنه يلاحظ أمورا مهمة تأخذ بنظر الاعتبار حالات النفس، و ظروف الحياة،و غير ذلك من أمور.

«فَاسْجُدْ لَهُ »:

و قد انتقل سبحانه من ذكره في النهار،بكرة و أصيلا..ليترقّى إلى مرحلة أبعد منها،و هي التي تأتي بعد استحضار اللّه في القلب بواسطة اسمه،حيث لا بدّ من الخضوع له سبحانه حينها؛خضوعا عباديا،نابعا من واقع و درجة المعرفة التي حصل عليها بواسطة ذلك الاسم المشير إلى مقام العزة و العظمة الإلهية.

فطلب منه أن يسجد للّه..و لم يطلب منه الركوع،و لا القنوت،بل هو لم يطلب حتى الصلاة..

و لعلّ السبب في ذلك هو أنّ السجود يمثل أقصى درجات الخضوع..فإذا كان هناك قنوت،و قراءة،و ركوع،و لم يصل الأمر إلى السجود الذي هو غاية الخضوع العبادي و التسليم له تعالى،فإن هذه العبادات تبقى غير لائقة به تعالى..

إنّ السجود للشيء تعبير حقيقي عن التسليم و الانقياد العبادي

ص: 218

المطلق،و لا يحتاج في عباديّته إلى جعل إلهي.كما هو الحال في غيره، فإن الحج مثلا،لا يعد عبادة إلا إذا قرّر الشارع اعتباره كذلك.

و قلنا:«السجود العباديّ للشيء»،لكي لا يشتبه مرادنا بكلمة السجود إلى الشيء،بمعنى جعله قبلة،حيث يكون المعبود و المسجود له شيئا آخر،و تكون تلك القبلة مشيرة إليه،و رمزا دالا عليه.

فالسجود العباديّ يكون بنفسه و بدون جعل جاعل محبوبا غاية الحب،إذا كان سجودا و عبادة للّه تعالى،و يكون بنفسه مبغوضا غاية البغض،إذا كان سجودا عباديا لغيره سبحانه.

«وَ سَبِّحْهُ »:

و يلاحظ:أنه تعالى بعد أن طلب السجود،و العبادة،و الخضوع المطلق من الذاكر،عاد فطلب منه تسبيحه تعالى..و لم يطلب منه حمدا، و لا دعاء،و لا صلاة.

و التسبيح معناه:أنّ جميع صفات الفعل،و صفات الذات التي دلّت عليها الأسماء لا بد أن تنتهي إلى تنزيه اللّه سبحانه عن كل نقص، فإثبات صفة الكريم،تعني تنزّهه عن الصفة المناقضة لها،و إثبات صفة العزة تنزّهه عن الذل،و صفة القوي تنفي الضعف،و صفة القادر تنفي العجز،و صفة العدل تنفي عنه الظلم..و هكذا الحال في سائر الصفات و الأسماء.

فإثبات الصفات له سبحانه ملازم لمعرفته تعالى معرفة أتم، و بمستوى يليق به جل جلاله..و ذلك لأن التنزيه التام من شأنه أن يصون المعرفة الناشئة عن ذكر اسمه،و يصون عبادته،و الخضوع و التسليم التّام له..

ص: 219

«لَيْلاً طَوِيلاً»:

و مما تقدم يتضح لنا بعض السبب في أنه تعالى،قد قرّر أن يكون هذا التسبيح مستغرقا لجميع آنات الليل بما هو ممتد و طويل: لَيْلاً طَوِيلاً، ليصبح كل آن منه مفعما بتنزيهه تعالى..إذ بالليل يشعر الإنسان بضعفه،و يشعر بحاجته إلى النوم،و افتقاره إلى الحافظ و الحامي،و هو اللّه الذي: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ (1).

و ليس بالضرورة أن يكون هذا التسبيح عملا جوارحيا،بل هو بالدرجة الأولى عمل جوانحيّ،يتّصل بالمعرفة له تعالى معرفة صحيحة، و صافية،و خالية من أيّة شائبة..

و هذا الصفاء لا بدّ له من ظروف و أجواء مناسبة له،يعيش فيها الإنسان حالة التفكّر العميق،و التأمّل الواعي..و الإدراك و الشعور المتنامي به تعالى،و هو شعور لا بد أن يبقى و يستمر محتفظا بقوته و بحيويّته..

حيث يكون الوقت المناسب لذلك هو الليل،من حيث إنه هو الذي يهيّئ لاستقرار هذا التنزيه في النفس،و يطول مكثه في الضمير،و في القلب،و في المشاعر.

و هذه المعرفة هي الأساس لكل نعمة و تفضّل إلهي،لأنها هي التي تنتج التقوى،و التقوى تنتج السلوك و الطاعة و الالتزام.و هي التي تصنع الأحاسيس و المشاعر.

***

********

(1) سورة البقرة الآية 255.

ص: 220

الفصل السابع و العشرون: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً

اشارة

ص: 221

ص: 222

قوله تعالى:

إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.

«إِنَّ هؤُلاءِ»:

و يثور أمامنا سؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر الآثم و الكفور بصيغة المفرد..و لكنه قد تحدث هنا عنهما بصيغة الجمع،فقال:(إن هؤلاء يحبون ، يذرون ، خلقناهم )إلخ..

و يمكن أن يقال:إن الآثم و الكفور،و إن كان مفردا،لكنه أريد منه الاستغراق للأفراد على سبيل البدل،ليكون النهي شاملا لكل فرد منهم، فلا يتوهم متوهم:أن النهي إنما هو عن إطاعتهم فيما اجتمعت كلمتهم عليه،و ليس نهيا عن إطاعة بعض الأفراد في بعض الأمور،فهو إذن مفرد في قوة الجمع،فصح وصفه بصيغة الجمع على النحو الذي ذكرناه..

و يمكن أن يتضح ذلك:إذا لاحظنا أنه حين يريد الآثمون و الكافرون أن يطلبوا من النبي أمورا لا مبرر لها،فإن هذا الطلب إنما يكون بواسطة أفرادهم،فردا فردا،حين يتخذون لأنفسهم صفة الناصح،و الغيور،و المحذّر، و نحو ذلك..و هم أفراد كثيرون يصح الإخبار عنهم بصيغة الفرد تارة، و بصيغة الجمع تارة أخرى..

فاذا أريد الإلماح إلى كثرة أفرادهم جيء بصيغة الجمع فقيل:هؤلاء يحبون الخ..و إذا أريد الإلماح إلى نوع صفتهم الظاهرة و التعامل معهم كأفراد،جيء بصفة الفرد،فقيل:آثما أو كفورا،ليكون النهي عن الإطاعة

ص: 223

مستغرقا لجميع الأفراد،قطعا لمادة فسادهم،و إفسادهم..

أو يقال:إن من الممكن أن يكون تكرر نفس طلب الآثم و الكفور من قبل أفراد آخرين،قد صحح أن يخبر عن جماعتهم بصيغ الجمع هنا،و أن يقول لنبيه هناك:لا تطع هذا الذي يعرضه عليك الآثم و الكفور..

أو يقال:إنه يريد أن يشير إلى أن هؤلاء الأفراد إنما يطلبون منك ذلك،لا من عند أنفسهم بل هم متواطئون مع غيرهم على مواجهتك بمثل هذه المطالب.

«هؤلاء»:

و لعلك تسأل:لما ذا أتى بكلمة هؤلاء التي تستعمل للإشارة،و لم يقل:إنهم يحبون..

و قد يجاب عن ذلك:بأن المقام مقام التحقير،و الاستهانة بهؤلاء المنحرفين،و قد أريد أن يؤتى بكلمة تتوافق مع هذا الأمر،و تتناغم معه..

و كلمة هؤلاء إذا وردت في مقام المهانة و الاستهانة فإنها تستبطن تحقير المشار إليهم،و الاستخفاف بهم،و تصغير شأنهم.لأن القريب،يهمل أمره، و يحتقر،حيث إنه لا يعتنى به لابتذاله،و دنو مرتبته،و سفالة درجته،أما من يكون له قدر عال،فيحتاج الوصول إليه إلى وسائط أكثر،و إلى معاناة أشد، و منه قوله تعالى: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .. (1)(قبّح اللّه من قال هذا من المشركين و غيرهم).

و الأمر هاهنا أيضا كذلك،فإن وصفهم أيضا،بأنهم يحبون العاجلة، و يذرون وراءهم يوما ثقيلا،يشير إلى أنهم في موقع المهانة و الحقارة،

********

(1) سورة الأنبياء الآية 36.

ص: 224

لأن فعلهم هذا يتناقض مع ما تحكم به عقولهم،و ما تقتضيه فطرتهم.

فهم ينطلقون في موقفهم هذا من دواعي الشهوة،و الغريزة،و الهوى.لا من منطلق الفكر و التعقل،و حساب العواقب،كما أوضحه قوله تعالى:

«يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ »:

أي ما هو حاضر لهم من أمور تلائم الهوى و الغريزة و الشهوة، و يتركون اليوم الثقيل الذي يأتي من ورائهم..و هذا خلاف ما تقضي به عقول البشر..

و ذلك دليل واضح على عدم إمكان الأخذ بأقوالهم،أو الاستجابة إلى طلباتهم،فيكون هذا بمثابة التعليل لقوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.. فإنّ نفس كونه آثما أو كفورا يستبطن عدم جواز طاعته، بحكم العقل،و الشرع،و الوجدان،و يدخل قوله: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً في دائرة الأوامر الإرشادية،و القضايا التي تكون قياساتها معها.

و يمكن لكل الناس أن يتخذوا منها عبرة و توجيها،و نهجا.

لما ذا لم يأت بلام التعليل؟:

و بعد ما تقدم نقول:إنه لا حاجة إلى الإتيان بلام التعليل بأن يقال:

«لا تطع هؤلاء؛لأنهم يحبون العاجلة»إلخ..

و ذلك لأن الإتيان بها قد يوهم أنه تعليل للنهي عن الإطاعة،مع أن المقصود هو بيان حقيقتهم مطلقا.و جعل المورد مصداقا لذلك البيان المطلق..

و ذلك يفيد:أن هذا هو حالهم في كل أمورهم.و أنهم يتعاملون في مختلف الموارد بمنطق الهوى،و الشهوات،و لا يزنون الأمور بميزان صحيح.و لا يختص ذلك بمورد النهي في الآية،و لو أنه جاء بلام التعليل

ص: 225

فلربما توهم البعض هذا الاختصاص.

الاقتصار على العاجلة:

و قد يسأل سائل:عن السبب في الاقتصار على ذكر حبهم للعاجلة، حيث لم يصف العاجلة بأي وصف آخر،و لا جعلها وصفا لشيء محدد، فلم يقل:يحبون الفائدة،أو المصلحة أو المنفعة العاجلة،أو نحو ذلك.

و الجواب:أنه تعالى لا يريد أن يسجل أي اعتراف بوجود أي نفع، أو أي حسن،أو صلاحية في تلك الأمور التي يحبونها،فكان أن اقتصر على صفة العاجلة..التي قد تفيد أيضا:تسرّعهم،و عدم التفكير بالعواقب..و ذلك يحمل في طياته أخطارا حقيقية لهم،فلعل ما أحبوه من العاجلة كان سما قاتلا لهم.لما فيه من المفسدة العظيمة،فإن الربا مثلا فيه-بنظر هؤلاء-منفعة عاجلة،و استفادة أموال..و لكنه يسحت البركة،و الدين،و كل شيء،كما أن الشراب المحرم أيضا قد ينتهي بالإنسان إلى أوخم العواقب..

و ذلك كله يفيد:أنه تعالى حين اكتفى بكلمة العاجلة،فإنما أراد أن لا يفسح المجال لأي توهم لأية درجة من الصوابية في اختيارهم هذا..

بل هو تخطئة تامة و شاملة.

و بذلك يسد باب الترجيح،و لو من خلال التعبير الذي تميل إليه النفوس،بدوافع شهوية،أو غرائزية..و بذلك يكون قد تم التحاشي حتى عن الإيحاء بما يوافق الهوى..

كما أنه يستبطن درجة من التنفير عن هذا الحال المتناهي في السوء.و ذلك لما يتضمنه من الإيحاء بالخطورة الناشئة عن الاندفاع الغرائزي أو الشهوي،أو نحو ذلك،بسبب ما تحمله العاقبة من مفاجئات

ص: 226

صعبة،و ربما تكون كارثية..و هذه العاقبة ناشئة عن عدم التدبر و التأمل في العواقب،و عدم معرفة الصالح من غيره..

و الذي دلنا على ذلك بصورة أوضح و أصرح هو قوله تعالى:

«وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً»:

حيث لم يذكر اللّه سبحانه هنا:إلا حب هؤلاء للعاجلة،و لم يشر إلى حصولهم عليها،و وصولهم إليها و عدمه،و لعله من أجل أن لا يمر في و هم أحد أن ثمة لذة من وراء ذلك الحصول،تدعو إلى ترجيح اختيار العاجلة..بل المطلوب هو إفهام الناس أن هذه اللذة مشكوك فيها أيضا، بل يكون فيها البوار و الهلاك لنفس الطالب و الراغب،إذ أية لذة لهم في أن يترك هذا النبي-مثلا-دعوته إلى طاعة اللّه،و التزام أوامره تعالى و نواهيه؟!.إلا الضرر و البلاء،و البوار للناس جميعا،و منهم نفس هؤلاء الدعاة إلى ذلك..

و لعل ثمة وهما يراود مخيلتهم بوجود لذة مستقبلية فاندفعوا من أجله إلى هذا التصرف و لكنهم بعد أن ظهر لهم:عكس ما توهموه.فما معنى إصرارهم على ممارسة كل هذه الضغوط على هذا النبي الكريم و العظيم ليتخلى عن دعوته؟!.أ لا يعد تصرفهم هذا من أقبح الأمور؟! فكيف إذا استمروا مصرّين على ذلك،إلى حدّ إشعال الحروب،و إزهاق الأرواح.و ربما يكونون هم أول ضحاياها،و أول من يحترق بنارها، و يكونون أسوأ وقود لها.

فهل حب العاجلة المستند إلى مجرد خيالات و توهمات،يدعو إلى مثل هذه التصرفات غير المعقولة؟،حتى قبل أن يتحققوا من صدق هذا النبي،و صحة ما جاءهم به،و ما وعدهم أو توعدهم به.

ص: 227

و هل هناك سقوط و خذلان و إسفاف أعظم من هذا؟!..

و لأجل ذلك جاء التعبير باسم الإشارة الذي قد يفيد التحقير في مثل هذه الموارد..

«و يذرون»:

و يزيد وضوح هذا الأمر من خلال التعبير بكلمتي«يذرون»و «وراءهم»..دون كلمة«يتركون»،لأن كلمة ترك إنما يؤتى بها في مورد يكون للشيء خصوصية و أهمية،ثم يصرف النظر عنه،لسبب اقتضى ذلك،فيقال:ترك.

و أما إذا لم يكن للشيء أية أهمية أو دور-بنظر هؤلاء-فالتعبير الأنسب عنه هو أن يقال:يذره.و لأجل ذلك قال تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (1).أي لا تشغل بالك بهم،و لا تهتم لهم،لأنهم لا يستحقون الاهتمام.

و لذلك قال هنا:يذرون من ورائهم،أي يتركونه غير مكترثين به و لا مهتمين له،بل إنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه،أو حصلوا عليه..رغم أنه ثقيل،و مهم جدا،و هذا غاية في تصوير إسفاف هؤلاء الناس،و سقوط آرائهم،و خزيهم،بسبب إيثارهم شهواتهم على كل شيء..

«وراءهم»:

ثم تأتي كلمة«وراءهم»لتظهر المزيد من قباحة فعلهم هذا و شناعته،و لو لا أنه سبحانه قد أراد الإلماح إلى هذا السقوط لكان بالإمكان أن يقول:و يذرون يوما ثقيلا..و انته الأمر..

********

(1) سورة المدثر الآية 11.

ص: 228

أضف إلى ذلك:أن كلمة«وراءهم»تفيد:أنهم ليس فقط يذرون ذلك اليوم الثقيل،و إنما هم يجعلونه وراءهم أيضا،و الشيء الذي يكون وراء الإنسان لا يمكنه أن يراه ما دام كذلك.

و لعل هذا يشير إلى جهلهم به أيضا،إذ إنه إذا كان هذا اليوم ثقيلا، فكيف لا يلتفتون إليه،ليزيلوا ثقله عن أنفسهم،فهل يمكن أن يكونوا لا يشعرون بثقله هذا؟!..أ ليس ذلك دليلا آخر على درجة انحطاطهم، و مهانتهم،و أن تفكيرهم قد أصبح معطلا تماما،بل هو يسير باتجاه معاكس للاتجاه السليم؟!..

«وراءهم»لما ذا؟!

و لا ريب في أن اليوم الذي تركوه آت إليهم،و هو يستقبلهم و يواجههم، و لكنهم لا يشعرون به،رغم أنه يلقي بثقله عليهم كأفراد،فقد بطل إحساسهم بثقله أيضا،كما بطلت رؤيتهم له..و ليس ثمة من وسيلة إدراك أقوى من الإحساس و المشاهدة،فإذا تعطلتا،حتى أصبح الشيء أو الأمر الحاضر الذي يفترض فيهم أن يروه لأنه أمامهم-اصح-مستحيل الرؤية،فإن الإنسان يكون قد بلغ الغاية التي ما بعدها غاية في السوء و السقوط..

«يوما»:

ثم إنه تعالى أشار إلى زمان ثقيل،و لم يتحدث عن أحداث،أو عن مسئوليات..مما يعني أن مستوى ثقل تلك الأحوال،و الأحداث، و المسئوليات قد تناهى و سرى إلى نفس الزمان الذي تقع فيه،و أوجب ثقله أيضا..

و الزمان هو البوابة التي لا بد لهم من عبورها،و لا مناص لهم منها..

إن الإنسان قد يتمكن من الابتعاد عن موقع أو مكان،و أن ينأى بنفسه

ص: 229

عن حدث يعرض له..و لكنه لا يستطيع أن لا يمر في عمود الزمان..فالعمى المطبق عن هذا الأمر،يدلنا على عظيم البلاء الذي هم فيه..

«ثقيلا»:

و قد أشرنا إلى بعض الحديث عن كلمة«ثقيلا»و ظهر أنها تعبير عن عمق الإحساس بهذا الأمر،و أنه داخل في عمق وجود الإنسان..فهو ليس من قبيل ما يلمس،أو يذاق أو يشم،بل هو ثقل،و الثقل يشعر الإنسان به بكل وجوده،و بواقع كيانه،كما لا يخفى..

***

ص: 230

الفصل الثامن و العشرون: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً

اشارة

ص: 231

ص: 232

قوله تعالى:

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً.

«نَحْنُ خَلَقْناهُمْ »:

و بعد أن أشار اللّه سبحانه إلى أن الآثم و الكفور يحاولان تعطيل مسيرة الهداية الإلهية،و تحدث عن بعض حالاتهما،و عن شخصيتهما غير المتوازنة،و عن دواعيهما الشهوية و الغريزية،التي تؤثر عليهما في مختلف جهات السلوك.أعطى البرهان الصريح و الصحيح على صحة ما ذكره سبحانه عن هذين الصنفين..فقال: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

فخلق اللّه تعالى لهم دليل على معرفته بهم،و بحقيقة ذواتهم، و بدخائلهم،و بكل شيء يرتبط بهم،لأنه في موقع الهيمنة،و المالكية، و الخالقية،و الإشراف،و الإمساك بكل ذرات وجودهم.

فهو إذن لا يخبرنا عن ظنون و حدسيات استفادها من تقييم و دراسة حركاتهم الظاهرية،و مقارنتها مع بعضها البعض.كما نفعل نحن البشر، حين نحكم على إنسان بالشجاعة،أو بالكرم،أو بالعدالة و التقوى، استنادا إلى مجموعة تصرفات و حركات..جعلتنا نحدس بوجود تلك الصفات فيه،مع أنه لا شيء ينفي لنا احتمال أن يكون في الأمر خدعة أو رياء،و قد يتهم الولد أباه بالقسوة و الغلظة عليه،و البغض له،بسبب معاملة له تهدف إلى تربيته تربية صالحة..و لا يعرف أن قلبه يفيض

ص: 233

حنانا و حبا له،حتى و هو ينهال عليه بالضرب الموجع..

و الخلاصة:أن من بنى شخصيتك،و مارس تكوينك،و ركّبك و صوّرك،لهو الأعمق معرفة بك،و لذلك تحدث اللّه سبحانه هنا عن الخلق،لا عن الهيمنة،و لا عن المعرفة و العلم..

و قد عبر بكلمة«نحن»ليظهر مقام عزته،و كبريائه من جهة.

و ليفهمنا أيضا تسخير كل شيء و انقياده و خضوعه له..فإذا ما كان لغيره تعالى نصيب من التكوين،فإنما هو باللّه،و من اللّه،و بإذن منه تبارك و تعالى..

«وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ »:

و لم يكتف بالإخبار عن مجرد الخلق على سبيل الإجمال..بل هو تعالى قد أتبع ذلك بالإشارة إلى التدخل في رسم كل تفاصيل وجودهم من الداخل،و بين لنا مستوى ربط كل شيء بالآخر.و حدد مدى تماسك و انشداد كل إلى كل..فقال: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ : و المراد بالأسر:الربط بقيد،و قد يكون هذا الربط ضعيفا،و ربما يكون شديدا..

و قد بين اللّه تعالى لنا:أنه قد ربط كل جهات وجودهم بأمور تضبطها،و تخولها السير بالاتجاه الصحيح،لو أراد لها الإنسان أن تواصل سيرها في ذلك الاتجاه..

و من الواضح:أن ضابطة و رابطة كل شيء بحسبه،و بحسب ما يحتاج إليه،فمنها التكويني،و الروحي،و الأخلاقي،و الفكري، و المفاهيمي،و الاعتقادي..بل و منها ما هو اجتماعي،و عاطفي،و ما إلى ذلك،مما يكون له تأثير في جعل مسيرة الإنسان في الحياة بالاتجاه الصحيح..

ص: 234

فاللّه إذن..قد قوّى و أحكم تكوين هذا الإنسان،و رسم وجوده بصورة قويمة،و ربط كل جهات وجوده بضوابط و روابط صحيحة قادرة على إنشاء علاقات سليمة له بكل ما يحيط به،و ما يعنيه،و ما يطمح إليه..

و لم يقتصر تعالى على ذكر هذا الربط و الأسر و حسب،بل هو قد تجاوز ذلك ليؤكد على قوته و إحكامه،و في هذا دلالة ظاهرة على أن ثمة تعمدا للتوجيه نحو المعرفة الدقيقة،بكل تفاصيل وجود هذا الإنسان،و تعريفه بدرجة الهيمنة عليه،بهدف إقناعه بأن عليه أن لا يتنكّر لهذه العلاقة العميقة له مع اللّه سبحانه،و أن يستفيد من التوجيه الإلهي، الذي لا بد أن يكون أصدق توجيه؟!..

كما أن عليه أن يبقى في دائرة تلك الضوابط التي جعلها اللّه تعالى له،لكي تحفظه من السقوط،و تصونه من الزلل و الخطل..

إن التخلي عن تلك الضوابط،التي هي ضوابط وجوده كجسد،و روح، و شهوة،و غريزة،و عاطفة،و مجتمع..و..و..إن ذلك تدمير لمواقع القوة في داخل وجوده،و تمزيق لحقيقته،و تشويه لفطرته،و قطع للعلاقة مع تلك الضوابط..سيؤدي بلا ريب،إلى الوهن و الضعف،ثم إلى التمزق و التلاشي، بعد أن كان في غاية الإحكام و القوة،و الانشداد و الضبط..

إن سعي الإنسان للقفز فوق هذه الضوابط و النواميس-بدلا من الاعتراف بها،و الانقياد لها-لهو جريمة كبرى،ما بعدها جريمة،يرتكبها في حق نفسه..

«وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً»:

ثم أشار اللّه تعالى إلى استمرار و ثبات،هذا التفضل الإلهي على البشر جميعا،أفرادا و جماعات بالخلق،و بشد الأسر،حتى إذا أراد

ص: 235

الإنسان أن يتمرد،و أن يسعى في إتلاف هذه الطاقات و القدرات،أو إحداث الوهن و الضعف في ذلك الأسر المشدود،من خلال قطع علاقته بتلك الروابط ليصبح في مهب الريح..-إذا أراد الإنسان ذلك- فإنه سوف لن يغير شيئا في واقع السياسة الإلهية في الخلق،و لن يؤدي إلى الحرمان من شد الأسر.بل سوف يبقى ذلك رهنا بمشيئته سبحانه..

أضف إلى ذلك:أن شد الأسر معناه:أن مجرد إفاضة الخلق على العباد،ليس هو آخر صلة للّه بعباده..بل الصلة تبقى و تستمر من أجل شد الأسر الذي أشار اللّه تعالى إليه بقوله: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

ثم تمتد هذه العلاقة و تزداد تجذرا،و عمقا بامتداد الزمن،و بمقدار ما يتعرض له الإنسان من نجاحات و انتكاسات،فيما يرتبط بشد الأسر، أو بإضعافه..

و بذلك يكون سبحانه قد أفهم الكفور و الآثم،أنه بكفره و طغيانه لا يقدر على قطع علاقته باللّه،و لا يستطيع أن يضعف هيمنة اللّه عليه،و أن يبطل مالكيته له.فهو دائما في قبضته،و هو مقهور لإرادته.

و خروج العبد عن زي العبودية لا يعني أن ثمة تفوقا و غلبة لإرادة العبد على اللّه،بل هو يعني:أن اللّه سبحانه يعامله بما أخذه على نفسه، فيما يرتبط بمعاملة المسرفين و الجاحدين..

الأسر الإلهي:

و غني عن البيان:أن أسر اللّه للإنسان يختلف عن أسر الناس لبعضهم بعضا،فإن أسر الناس لبعضهم معناه أن الآسر يقهر إرادة المأسور فقط،بهدف منعه عن ممارسة حريته،و سلب اختياره..و لكن أسر اللّه للناس داخل في أصل تكوينهم،و في واقع خلقهم و خلقتهم،ثم

ص: 236

هو في نفس الوقت يعطيهم الخيار و الاختيار..

فمعصية الإنسان للّه لا تعني تحرره من السيطرة الإلهية،و لا إلغاء الهيمنة المرتكزة إلى مقتضيات الخالقية و التكوين.بل هو خروج من طرف واحد و هو العاصي نفسه،دون أن يسقط إرادته تعالى عن التأثير.

و إن عاملك اللّه باللطف و الرأفة..

أما عصيان الناس لبعضهم بعضا،و رفضهم للأسر،فهو يستبطن الخروج عن إرادة الآسر بكل المعاني المفروضة و المقترحة،و هذا هو الفرق بين عصيان المخلوق لخالقه،و عصيان الإنسان للحاكم و المتسلط عليه..

«و إذا»:

و كلمة«و إذا»الشرطية تستعمل في مقام الجزم و الحتم بحصول الشرط،و قد استخدمت هنا،للإلماح إلى أن هذا التبديل جزمي و حتمي، بمجرد حصول الإرادة التكوينية الإلهية..

«بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ »:

و قد دل على ذلك تأكيده بالمفعول المطلق،و هو قوله تعالى:

«تبديلا»..بالإضافة إلى أن نفس خالقيته تعالى لهم،و شده لأسرهم،تدل دلالة صريحة على قدرته على هذا التبديل،و على أنه يفعله حتما،إذا تعلقت مشيئته سبحانه به،خصوصا مع بيان أن التدخل الإلهي لا يقتصر على مجرد الخلق،بل هو تدخل مستمر في جميع التفاصيل و المكونات لحقيقة المخلوق و كنهه،كما دل عليه قوله تعالى: وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ ..

«بدّلنا»:

و أما لما ذا اختار تعالى خصوص تبديل أمثالهم،و لم يشر إلى مواجهتهم بالعقوبات،بسبب طغيانهم فلم يقل:نعاقبهم،نهلكهم،ننتقم

ص: 237

منهم،نقهرهم،نجبرهم؟فلعل السبب في ذلك:هو أن هذه السورة تريد أن تؤكد على أن اللّه تعالى قد رعى مسيرة هذا الإنسان في هذه الحياة، و لم يرض منه بالعبث في هذا الكون،بل أراد منه أن يعمره،و أن يصل به إلى الأهداف الإلهية السامية بالطرق الطبيعية و الصحيحة..

ثم أشار تعالى إلى أنه لن يتساهل مع أولئك الذين يريدون عرقلة هذه المسيرة،عن طريق الإثم و الإصرار على الكفران المتكرر،مهددا إياهم بأنه قادر على تبديلهم بأمثالهم،و ذلك لكي يفهمهم:

1-عموم قدرته تعالى،من حيث إنه قادر على التصرف بهم،كما أنه قادر على التصرف بمن هم أمثالهم:

2-إن التبديل العام يأتي من موقع البصيرة،و الحكمة،و الهيمنة..

و هذا يعطي:أن ثمة قدرة على الإهلاك،و الانتقام؛إذا اقتضت الحكمة و الرحمة ذلك..

3-إن ذلك يستبطن إعلامهم بأن مشروعهم التخريبي لن ينجح..

4-إن عدم نجاح مشروعهم يرجع إلى عجزهم،و إلى امتداد قدرة اللّه سبحانه..

5-إن هذا معناه الخيبة لآمالهم،و سقوط طموحاتهم،و بث اليأس في نفوسهم،الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يتحمسوا لطمس معالم هذا الدين،و عدم ممارسة الضغوط على الدعاة إلى اللّه سبحانه،و العاملين في سبيل بث الهدى في الناس..

6-و هو أيضا من موجبات عذابهم،و بعث الألم في نفوسهم، و مواجهتهم بعذاب الحرمان من اللطف و الهداية،و السّلام،و السكينة، و عذاب الخيبة و الفشل..و العيش في ظل شقاء الضلالة،و الكفران،

ص: 238

و الإثم،و عذاب الخزي في الدنيا و الآخرة..

ثم إن مجرد أن يحيق بهم ما كانوا به يستهزءون،و خسرانهم لأنفسهم،سيزيد في آلامهم،و سيضاعف من عذابهم أيضا..

و حين يرون نعم اللّه تعالى تظهر على من كانوا يحتقرونهم، و يذلونهم،و ينأون بأنفسهم عنهم،فإن ذلك سيشكل مرتبة أخرى من مراتب عذاب الحسرة و الندامة،و الحسد،و ما إلى ذلك..تماما كما وعد اللّه سبحانه: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (1).

«أمثالهم»:

و يبقى السؤال عن السبب في أنه تعالى قد ذكر تبديل الأمثال،و لم يذكر تبديلهم هم أنفسهم..

و لعل بالإمكان الإجابة عن ذلك بالقول:إنه تعالى أراد أن يعطي قاعدة تشمل الناس جميعا،من خلال كلامه عن تبديل الأمثال،فإن التبديل إذا كان ممكنا في النظير و المثيل،فإنه سوف يكون ممكنا في نظيره و مثيله الآخر..

و قد قرن هذا البيان بالدليل الحسي،و هو أن الخالق لهم من العدم، لا يمكن أن يعجز عن تبديل ما خلق،كما أن الذي أحكم و شد أسرهم، لا بد أنه عالم و متصرف في تفاصيل حقيقتهم،و واقف على كنه وجودهم.و من كان كذلك،فإنه قادر على تبديل أمثالهم..

و لو أنه تعالى اقتصر على ذكر تبديل خصوص الآثم و الكفور، فلربما يتخيل متخيل:أن ثمة ضعفا في هؤلاء الناس أقدره على هذا

********

(1) سورة محمد الآية 38.

ص: 239

التصرف فيهم،و ذلك لا يعني عموم قدرته إلى من عداهم..

فجاء هذا التعميم المستند إلى ذلك الاستدلال،ليشير إلى سهولة مثل هذا التبديل العام،فضلا عن سهولة تبديل الآثم و الكفور الذي قطع روابطه مع الضوابط و المعايير الشرعية،و التكوينية،و الفطرية..الخ..فأصبح على درجة من التراخي و الضعف،تجعل تبديله أيسر من تبديل من عداه..

«تبديلا»:

و قد جاء التأكيد بكلمة«تبديلا»التي هي مفعول مطلق،ليدل على أن هذا الكلام لا يجري على سبيل المبالغة،أو المجاز،أو الكناية عما هو أدنى من ذلك،بل هو مقصود بكل تفاصيله،و هو جار على سبيل الحقيقة.

فلا معنى لتوهم أن يكون المراد تبديل الأوضاع و الأحوال المعيشية مثلا،كتبديل الغنى بالفقر،و الصحة بالمرض،و تبديل العادات،أو السياسات..بل المراد التبديل الحقيقي،الذي يطال أصل الخلقة و الكيان الإنساني كله..

و هذا يستبطن التهديد لهؤلاء الناس:حتى لا يتمادوا في غيهم،و لا يستسهل الآخرون طريقتهم..

***

ص: 240

الفصل التاسع و العشرون: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً

اشارة

ص: 241

ص: 242

قوله تعالى:

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً.

«إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ »:

إننا نبين ما نرمي إليه ضمن النقاط التالية:

1-إن التأكيد هنا على أن هذه تذكرة،لا يخلو عن لحن تهديد للآثم و الكفور..و لا سيما بملاحظة قوله تعالى آنفا: وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً.. و كذلك قوله تعالى الآتي: وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً..

2-إنه تعالى إنما يريد أن يذكّرهم بذلك اليوم الثقيل،لكي لا ينساقوا وراء حبهم للعاجلة..

3-و كلمة«تذكرة»مثل:كلمة:«تمرة»،«ضربة».جاء بها مع تاء الوحدة،ليفيد أنها هي التذكرة الوحيدة المتبقية التي يمكن أن تكون نافعة لهم،فإن لم تؤثر فيهم،فلا مطمع بعدها بهدايتهم،و ما إلى ذلك.

فكأنه قال:إنه الإنذار الأخير،و الفرصة الأخيرة،فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا،و إلا فإن عليه أن يواجه عواقب ضياع هذه الفرصة..

أو أنه يريد أن يقول:إنها مجرد تذكرة خالصة،و ليس لها أية أهداف أخرى،سوى ما للتذكرة من أهداف.

و قد يستظهر أن الهدف هو إفادة هذا من المعنيين معا..

ص: 243

4-و قد أنث الضمير في كلمة«هذه»فيحتمل أن يكون بملاحظة كلمة تذكرة..

و يحتمل أن يكون هناك تقدير لكلمة يناسبها ضمير التأنيث،مثل كلمة«الحقائق»،أو كلمة«القضايا»..أو نحو ذلك.أي أن هذه الحقائق التي بيّناها إنما هي تذكرة..

التذكير،بما ذا؟!:

و هنا سؤال يقول:إن كلمة تذكرة،مأخوذة من الذكرى التي تعني أن ثمة أمرا قد مر على الذهن،فما هي الأمور التي يريد اللّه أن يذكرهم بها هنا؟!

و الجواب:

أن المناسب للاعتبار هنا هو أن يكون المراد:التذكير بالمعاني و الهدايات المركوزة في العقول،و في داخل الوجدان،و الفطرة،و نحو ذلك مما يمكن القول بأنه قد سبقت له به معرفة..

و السؤال هو:كيف أصبحت الحقائق المذكورة في هذه السورة،من معارف البشر،جميعا،بمن فيهم الآثم و الكفور؟!..

و يمكن أن يجاب:بأن ما تحدثت عنه الآيات إنما هو أمور يعرفها الإنسان و يدركها بعقله،أو تقضي بها فطرته،أو لمسها و مارسها في حياته..

و مراجعة الآيات من أول السورة إلى نهايتها،خير شاهد على ما نقول:

فإنها بدأت بالحديث عن خلق الإنسان،و عن رعايته،و استثارة فطرته،و عقله،ليلتفت إلى وجود اللّه،و إلى صفاته الألوهية،و خالقيته، و إلى دقة صنعه،و حكمته..

و ذلك يقتضي وجود هدف،فإن الحكيم لا يمارس العبث..

ص: 244

و الهدف يحتاج إلى هداية إليه،ثم إلى إلزام و تكليف بالوصول إليه.

كما قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً..

و ذلك يحتاج إلى أنبياء و رسل و أدلاء..

ثم يأتي دور اختيار الاستجابة،أو اختيار التمرد،الذي يستتبع حسابا،و ثوابا،و عقابا،و يفرض بعثا،و نشورا..إلى كثير من الأمور التي يدركها العقل،أو تقتضيها الفطرة،و الوجدان،و التدبير،و غير ذلك.

و من الواضح:أن أحكام العقل و الفطرة و الوجدان لا تحتاج إلى أكثر من التذكير بها و التوجيه نحوها.

و هذا ما حصل فعلا هنا..فإنه تعالى لم يورد ذلك كله كجزاء لا يعرف الإنسان عن حقيقته شيئا،و يجد نفسه في فسحة من أمر التصديق و الالتزام به..بل أورد له حقائق و نبهه إلى أمور يجدها حاضرة لديه، يحكم بها عقله،و قائمة في عمق وجدانه و فطرته..

و حين يكون هناك شيء يراد حفظه،و غاية يراد الوصول إليها،فإن الحكيم يتوسل بما يحفظ له تلك الغاية من الضياع،فتأتي التذكرة هنا لحفظ الهدف الإلهي من الضياع،بالدلالة على مناشئه،و حالاته، و المؤثرات فيه،و المؤشرات له،و الهدايات إليه بواسطة الأنبياء،و غير ذلك من أسباب حفظ الهدف الكبير و الأهم و الأعظم،الذي أشار إليه قوله تعالى هنا:

«فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً»:

فقد دل هذا التعبير على أن المقصود من كل هذه البيانات-من أول السورة إلى هنا-هو أن يتخذ الإنسان السبيل إلى اللّه سبحانه..

و لتوضيح بعض ما ألمحت إليه هذه الآية الشريفة،نقول:

ص: 245

«فمن»:

1-إنه أتى بفاء التفريع هنا ليفيد:أنه بعد أن أيقظ في الإنسان فطرته، و واجهه بما يحكم عقله،و ذكّره بما هو مركوز في ضميره،و مستقر في عمق نفسه،فإنه يكون بذلك قد جعله أمام مسئولياته،ليختار مصيره،و مسيره بنفسه،بوعي تام،و مع التفات و استحضار لعناصر القرار..

و هذا التفريع بالفاء إنما هو على التذكرة بما تقتضيه الفطرة،و العقل، و الوجدان،و يشاهد بالعيان،و ليس تفريعا على الإخبارات التي ذكرت في الآية.

2-إنه تعالى لم يذكر هنا سوى خيار واحد،و هو اتخاذ السبيل إلى اللّه سبحانه..و هو خيار من يريد أن ينسجم مع فطرته و عقله،و كل الواقع الذي عاشه،و لمس الحقائق فيه..

ذلك من جهة أن أي سبيل آخر،سوف لا يوصل إلى هدف مقبول، و معقول و مرضي لأي إنسان عاقل و حكيم،بل هو سوف ينتهي إلى ضد المراد،حيث يؤدي حتما إلى الدمار و البوار..

3-إنه بعد أن ذكّر الإنسان بما تقدمت الإشارة إليه أطلق له المشيئة لاتخاذ السبيل باختياره،فقال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً، إذ لا موضع للإكراه،لأنه يوجب تضييع الهدف و عدم الوصول..

و مشيئة اتخاذ السبيل هنا تتحقق بالانقياد لأحكام العقل،و الخضوع لمقتضى الفطرة،و التسليم لأحكام الشرع..

و في مقابل ذلك يكون الإخلاد إلى الأرض،و عدم الانقياد..

و مما يشير إلى أن اتخاذ السبيل إنما هو بالاختيار قوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ .. و يشير إليه أيضا نهيه تعالى عن إطاعة الآثم،و الكفور،

ص: 246

و غير ذلك مما أشار إلى الضلال و الهدى،و الوصول إلى اللّه.

و قد أشار إلى الاختيار في مرتبتين:إحداهما مرتبة المشيئة، و الأخرى مرتبة المباشرة و إنجاز الفعل،و ذلك يدل على الاختيار بصورة أصرح و أوضح..

و كما أن اتخاذ السبيل،يشير إلى الاختيار،كذلك هو يشير إلى حصول المبادرة من نفس الإنسان،و يشير أيضا إلى أنها بالإرادة،و العمد، و التكلف للفعل.

4-إنه تعالى،لم يذكر هنا الهداية إلى السبيل،بل ذكر اتخاذ السبيل،و ذلك لأن الهداية متحققة،و لا يحتاج إلى أكثر من التذكرة بها، و لو لمرة واحدة،فإن ذلك يكفي لأن تحضر الحقيقة كلها أمامه،كأشد ما يكون الحضور..

5-إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من المبادرة إلى السبيل،و الاتخاذ له.

و هذا يشير إلى حتمية الالتزام و البناء القلبي،الذي يعطي العمل رونقا، و يكون التعرض لإنجاز الفعل بدافع من المحبة،لتتناغم الحركة الجوارحية مع المتابعة الجوانحية الحنونة،فيعيشه في داخل روحه،و في صميم مشاعره و أحاسيسه..

فلا يكون العمل روتينيا،خاويا،و جافا فارغا،بل هو حركة مترافقة مع السبحات الروحية،و النبضات الإيمانية اللذيذة و الحية..ليصبح جزءا من الكيان الإنساني و ليسهم في صنع إنسانية الإنسان،فيكون ضميره، و وجدانه،و مشاعره،و عقله،و روحه،و سلوكه،بكل ما لهذه الكلمات من دلالات..و هذا يتناسب مع كون المقام مقام حث على الوصول إلى اللّه، و الاتصال به،حيث لا يكفي في ذلك مجرد الحركة الجوارحية،بل هو

ص: 247

يحتاج إلى حركة القلب و المشاعر أيضا..

و لأجل ذلك لم يقل:من شاء سلك سبيلا لأن المهم ليس هو مجرد السلوك..

6-و قد قال تعالى:«إلى ربّه»و لم يقل:«إلى اللّه»ربما ليثير في الإنسان شعورا بأنه يسير في ذلك السبيل،ليلتقي جهده و سعيه، بتوفيقات،و تسديدات،و رعاية مدبره الذي يعرف أنه القيوم،القادر، الرحيم،و العليم،الحكيم و..و..و أن هذه الصفات الربوبية لا بد أن تسهم في إيصاله إلى كماله،و إلى أهدافه السامية،من موقع المحبة و التدبير الحكيم،من القادر،العليم،الرحيم..لأن المقام مقام طلب و سعي و إعداد للنفس و تأهيلها لمواجهة كرامة اللّه،و لتصبح موضعا لرحمته،و ألطافه و عناياته،الأمر الذي يفرض إعادة بناء كل هذا الكيان الإنساني و صياغته وفق المواصفات المطلوبة لمن يريد تلك المقامات..

و من الواضح:أن الذي لا بد أن يتولى ذلك،فيعطينا كمالاتنا،و يرفع عجزنا،و يقوي ضعفنا،و يزيل نقصنا،هو القوي،الخالق،الحميد، المجيد،العليم،الحكيم،المدبر،الغني،الحليم،الكريم،الرحيم،المتصف بسائر صفات الربوبية..

و لا بد أن يتبلور الإحساس بمقام الربوبية،الذي له هذه الصفات، في مواقع التحدي و الذي نواجهه من داخل أنفسنا،بما تجنده ضد هذا المسار،من دوافع شهوية،و غرائزية،يشد من أزرها المغريات القوية التي تحيط بنا من كل جانب و مكان..

إن شعورنا بأننا نعيش في كنف مزايا الربوبية تلك،يشعرنا بالأمن، و يعطينا المزيد من القوة و الصمود في مواجهة التحديات..

ص: 248

فلو أنه قال:«يتخذ إلى اللّه سبيلا»..فإن لفظ الجلالة«اللّه»سوف لا يكون ظاهر الإيحاء بهذه المزايا..بل إن المعاني الظاهرة لهم فيه،-و هي جليلة و جميلة أيضا-تحتاج لكي توصلهم إلى مزايا الربوبية،إلى مزيد من التأمل و الوعي و التدقيق،الذي قد لا يتوفر لدى كثير من الناس..

فاقتضى اللطف و العطف الإلهي مخاطبة الناس على قدر عقولهم، و اختيرت كلمة الرب هنا من أجل تيسير وصولهم إليه تعالى،و وعي مقام ربوبيته من خلال نعمه،و ألطافه..

7-و يلاحظ:أن الحديث هنا عن السبيل قد جاء منونا بتنوين التنكير،الأمر الذي يفهم منه:أن هناك سبلا عديدة إلى اللّه تعالى..مع أن السبيل إلى اللّه تعالى واحد،فقد قال في موضع آخر: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ (1).

قال سبحانه: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (2).

غير أن التأمل في مجموع الآيات الشريفة يزيل هذه الشبهة،إذ إن اللّه سبحانه قد قال أيضا: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (3).

و ذلك معناه:أن اختلاف الإضافة قد أوجب اختلاف التعبير،أي أنه تارة يراد إظهار النسبة إلى السبيل المتصل باللّه،و الموصل إليه،و حصر النجاة بما كان متصلا به تعالى،فالمناسب هو الإتيان بصيغة المفرد

********

(1) سورة يوسف الآية 108.

(2) سورة الأنعام الآية 153.

(3) سورة العنكبوت الآية 69.

ص: 249

باعتبار أن الطريق الموجب للنجاة هو فقط ما ينته إلى اللّه،و يوصل إليه دون سواه،فيقول:«هذه سبيلي»..و يقول: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (1)..

و أخرى يراد الحديث عما يوصل إلى غير اللّه،فهو متكثر بتكثر الغايات و الأهداف..فيذكر ذلك بصيغة الجمع،فيقال:«سبل»..

و تارة ثالثة ينظر إلى نفس ما يوصل إلى اللّه سبحانه مما قررته الشريعة، فتلاحظ كل واحدة واحدة منها،مثل الصلاة،و الزكاة،و الصدقات،و تلاوة القرآن،و..و..فيعبر عن هذه المفردات بصيغة الجمع،فيقال:«سبلنا»، و«سبل السّلام»..

و لعله قد لوحظ في ذلك ما ألمحنا إليه فيما سبق،من أن تنوع المستحبات إنما هو من أجل تمكين كل إنسان من أن يختار ما يناسب حاله منها حيث بها يكون سمو روحه،و تصفية،و تزكية نفسه،فلذلك صح التعبير بصيغة الجمع،فإن الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق..

8-و أما لما ذا لم يقل:«يتخذ إلى الجنة سبيلا»،بل قال تعالى:«إلى ربّه»؟!،لأن تحديد الغاية باللّه سبحانه،من شأنه أن يحدد السبيل الذي يريد الساعي إلى اللّه أن يتخذه،حيث يجد نفسه ملزما بإبقاء هذا السبيل في الدائرة التي يرضاها اللّه سبحانه..الأمر الذي يحتم الرجوع إليه تعالى،لتحديد السبيل الذي يرضيه..

9-ثم إن في الآية انتقالا من ضمير المتكلم الحاضر،و ضمير

********

(1) سورة الأنعام الآية 153.

ص: 250

الجمع..إلى ضمير المفرد الغائب..

فقد قال تعالى أولا:«شئنا».«بدّلنا».«شددنا».ثم قال هنا:«إلى ربّه»..

و لم يقل:«إلينا»..

و لعل سر ذلك هو أنه حين كان يتكلم عن التصرف الإلهي،فإن المناسب هو الإشارة إلى مقام العزة و العظمة،و إلى التدبير من موقع الربوبية و وسائله و أدواته على قاعدة: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (1)،التي هي بيده،و طوع إرادته..

و أما حين أراد أن يتكلم عن العبد في مسيره إلى ربه،فقد كان لا بدّ من الإتيان بصيغة المفرد،ليكون التوجه إليه هو تعالى دون سواه..و لأن هذا المسير إنما يعني نفس العبد،و ذاته كشخص،و يريد له أن يستفيد من هذا المسير في صناعة خصائصه و شخصيته،و تأهيله لكرامة اللّه، و الحصول على السعادة في الدنيا،و النجاة في الآخرة..و هذا لا يناسب أن يتحدث عنه ضمن مجموعة أخرى..

و لأجل ذلك خاطبه كفرد و قال: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ .. و لم يقل:«فمن شاءوا اتخذوا إلى ربهم »..

أضف إلى ذلك:أن الفرد حين ينال ميزاته كإنسان،لا تبقى للميزات الفردية تلك القيمة الكبيرة،بل تتساقط الميزات و الحدود،و يتضاءل تأثيرها، و يضعف ظهورها..و يصبح الفرد بذلك أكثر اندماجا في الآخرين،و لهذا البحث مجال آخر..

10-و هناك نقطة أخرى تحسن الإشارة إليها،و هي أنه تعالى قد

********

(1) سورة النازعات الآية 5.

ص: 251

ذكر هنا الجزاء،و حذف الشرط،فإن التقدير: «مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» «اتخذه»،فحذف الجزاء هنا إنما هو لمعلوميته من جهة..

و ربما-من جهة ثانية-:لأنه يراد الإيحاء بلزوم التسريع، و المبادرة،حيث لا يراد الفصل بين المبادرتين،و بين الطلب حتى بمقدار أداء كلمة..بسبب أهمية هذا الأمر،فهو قد بادر إلى ذكر الجزاء،و اعتبر المبادرة إلى فعل الشرط،أمرا مفروغا عنه،لشدة ظهور ضروريته..

من جهة ثالثة،و هي الأهم،أنه تعالى:لا يريد لخيار الرفض أن يمر في وهم هذا الإنسان،الميال لجهة شهواته،و ملذاته..

***

ص: 252

الفصل الثلاثون: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً

اشارة

ص: 253

ص: 254

قوله تعالى:

وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.

«وَ ما تَشاؤُنَ »:

لقد ظهر أن التعابير في الآيات الأخيرة قد جاءت بطريقة متفاوتة، تتناسب مع طبيعة الخصوصيات التي يراد الإلماح إليها في كل مقام،فقد كان التعبير عن مقام العزة الإلهية،بضمير المتكلم،و بصيغة الجمع:

«أردنا»،«بدّلنا»،«شئنا».ثم جاء التعبير عنه بصيغة المفرد،و بعنوان الربوبية،فقال:«إلى ربّه»..ثم عاد هنا ليتحدث بصيغة ثالثة،و هي صفة الألوهية،فقال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ ..

و كان الحديث أيضا عن الناس بضمير الغائب:«خلقناهم»،«أسرهم»، «أمثالهم»ثم تحول للحديث عن المفرد:«من شاء»،«اتّخذ»،«ربّه»..

ثم عاد أخيرا ليتحدث عنهم بضمير الجمع مرة أخرى..و لكنه اعتبرهم حاضرين،و وجه إليهم الخطاب مباشرة،فقال: وَ ما تَشاؤُنَ ..

و قد عرفنا:بعض السبب في إجراء الحديث بصيغة الغائب المفرد هناك،و السبب في عودته هنا للخطاب لهم بضمير الجمع،مشيرا إلى نفسه تعالى بواسطة لفظ الجلالة.

و لعل السبب في الإتيان بلفظ الجلالة هنا،هو أن تأثير مشيئة اللّه سبحانه في مشيئة العبد،إنما هو من موقع الخالقية التي تعني القدرة.

و ذلك يتناسب مع مقام الألوهية بصورة أتم و أوضح..

ص: 255

جبرية المشيئة:

و ربما يثار سؤال هنا عن:أن الآية قد دلت على توقف مشيئتنا على مشيئة اللّه سبحانه،فهل معنى ذلك أن اللّه هو الذي يخلق فينا المشيئة بصورة جبرية،و لا يبقى لنا اختيار؟!أم أنه يخلق فينا المشيئة،و يبقي لنا الاختيار؟!

و إذا كان ذلك لا يضر بالاختيار،فهل الاختيار سابق على المشيئة، أم لا حق لها؟!

أي أن الجزء الأخير من العلة،هل هو الإرادة،أم الاختيار؟!

و بعبارة أخرى:

قد يقال:إن مشيئة اللّه هي التي توجد اقتضاء التأثير في مشيئة البشر،فليس في إرادة العبد قوة و نشاط و قابلية أبدا إلا بإرادة اللّه سبحانه،فتكون كالحديد إلى جنب النار،فإن الحديد ليس فيه قابلية الاشتعال أبدا..

و قد يقال:إن مشيئة اللّه شرط لحصول ذلك التأثير،مع توفر الاقتضاء الذاتي في المشيئة البشرية..و قد تتصور على نحو عدم المانع، أي أن تأثير إرادة البشر متوقف على عدم وجود مانع يمنعها،و المانع إنما هو مشيئة اللّه.

و الظاهر هو الأول،أي أن المشيئة الإلهية هي التي تعطي الاقتضاء لمشيئة الإنسان،و توجد الطاقة لدى العبد،و تنتج القابلية و توجدها في مشيئته،و تصبح هذه المشيئة و الإرادة مشحونة بالقوة،قابلة للتأثير في إنتاج الفعل الخارجي،و لكن بشرط أن يختار العبد أن تتعلق مشيئته،أو إرادته هو بذلك الفعل.ليكون هذا التعلق بمثابة إشارة البدء،و المباشرة، و الحركة المؤثرة..

ص: 256

فإرادة اللّه سبحانه لم تتعلق بالفعل،بل تعلقت بشحنك بالقوة المؤثرة في تحريك يديك،و حصول البصر لعينيك،و السمع لأذنيك،و..و..فلما حصلت على هذه القوة اخترت أنت تحريك يدك باتجاه اليسار مثلا..

فاللّه يفيض عليك،و أن تتصرف،كما يحلو لك.فاللّه أوجد المشيئة..و أنت اخترت تعليقها بهذا،أو ذاك.فلما علقتها بهذا أفاض اللّه عليه الوجود لأجل تعلقها به،و لو علقتها بسواه لكان قد وجد أيضا بالقوة المفاضة من قبل اللّه أيضا،و التي هي تابعة لمشيئتك أنت.

فكما يصح نسبة هذا الفعل إليك،لأنك أنت الذي اخترته..كذلك يصح نسبته إلى اللّه سبحانه،لأنه هو الذي أفاض عليه الوجود بعد أن اجتمعت مقتضياته و شرائطه التي منها اختيارك و إرادتك،التي أفاض اللّه عليها الوجود،فاخترت تعليقها بفعل ما،فوجد،و كان..

و هذا هو معنى الأمر بين الأمرين،الذي يقول به الإمامية تبعا لأئمتهم عليهم السّلام..

و يشبه ما نحن فيه سيارة لها محرك يعمل باستمرار،فيوجد قوة اندفاع.

فقوة الاندفاع في السيارة موجودة،بسبب وجود الطاقة التي أنتجها المحرك.و لكن السائق هو الذي يوجه هذا الاندفاع بهذا الاتجاه أو ذاك..

فالسائق لو لا المحرك لا يستطيع أن يفعل شيئا،و المحرك لو لا السائق،لا يوجه السيارة بهذا الاتجاه،الذي أوصلها إلى هذا البلد بعينه مثلا..

و كذا الحال في الطاقة الكهربائية التي نوظفها فيما نشاء من موارد،مع أن المشرف على المولد يتحكم بنا من حيث إنه يقطع التيار عنا في أي ساعة شاء،كما أننا نحن الذين نختار صرف الطاقة في هذا الاتجاه أو في ذاك..

ص: 257

و لو أن إرادة اللّه تعالى تعلقت بالفعل مباشرة،من دون توسيط اختيار الإنسان،لكان ذلك هو الجبر الباطل بعينه..

و أما لو كنت أنت الذي تشاء و تريد،و تختار،مستقلا في الإرادة و المشيئة،و في الاختيار،و إيجاد الفعل..فيكون هذا هو التفويض الباطل بعينه.

و بذلك يتضح:أن هذه الآية الشريفة هي من موارد القاعدة المشهورة التي قررها أئمتنا صلوات اللّه و سلامه عليهم،و التي تقول:لا جبر و لا تفويض،و لكن أمر بين أمرين.

و لأجل ذلك لم يأت التعبير في الآية المباركة: «ما تَفْعَلُونَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ »، فإنه لو قال ذلك،لكانت الآية دالة على الجبر،لأن تعليق إرادة اللّه بفعلنا مباشرة معناه:أنه تعالى يوجد تلك الأفعال بمحض مشيئته..

و ليس للعباد أي دخل في ذلك.

و لكنه لما قال: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ .. فإن مشيئته تعالى قد تعلقت بالمشيئة و الإرادة للناس التي هي محرك و طاقة و قوة فإذا وجدت هذه الطاقة و القوة و الإرادة،و المشيئة لدى الإنسان،فإنه هو الذي يختار أن يعلقها بهذا الأمر أو بغيره.كما قلنا.

و بصورة أكثر إيجازا نقول:

قد يقال:إن المراد بالآية هو:أن للهداية أصولها و نواميسها،و السير في طريقها إنما هو بقرار من الإنسان نفسه..و هذا القرار لا يأتي قسرا عن اللّه سبحانه،بل يبقى له تعالى درجة من التأثير في فعل الإنسان و في مشيئته،من حيث إنه قادر على شل حركته،و منعه من الاختيار،و من الفعل على حد سواء.تماما كما هو الحال بالنسبة للنهر الجاري باتجاه

ص: 258

معين،فإن الإنسان يقدر على سد مجراه،و منعه من مواصلة طريقه، و يقدر أيضا على تحويل مساره باتجاه آخر..

فكأن الآية تقول:إن مشيئتكم تجري على طبيعتها،إلا أن يشاء اللّه منعها،و تحويلها،أو مصادرتها..

و ربما يناقش في هذه الإجابة بأنها تنافي ظاهر قوله تعالى: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللّهُ .. الدال على أن مشيئة اللّه دخيلة في أصل إنتاج مشيئتكم،و أن مشيئتكم لا استقلال لها عن إرادة اللّه تعالى،بل هي مرتبطة و مرهونة بها،و واقعة تحت تأثيرها،في نشوئها على الأقل،إن لم نقل:نشوءا و استمرارا.

فالأولى أن يجاب بأن اللّه سبحانه يفيض الوجود على الإنسان،بكل ما فيه من قدرات،و طاقات،و ملكات و غير ذلك،آنا،فآنا،و لحظة، فلحظة..فيفيض الوجود،و القدرة و الحياة،و غير ذلك من مبادئ الفعل التي تجعل الإنسان قادرا على أن يحرك يده و رجله،و ينطق بلسانه، و يفكر،و..و..الخ..فيختار هو أن يستفيد من هذه الطاقة التي تقع تحت اختياره،أو لا يستفيد..

و هذا نظير ما لو كان هناك مصدر يمدك بالكهرباء،و لك أنت أن تختار الاستفادة منها في التدفئة،أو في الإنارة،أو في تحريك آلة، تمكنك من قتل إنسان،أو غير ذلك،فالمصدر الذي يمدك بالطاقة الكهربائية قادر على قطع المدد عنك في أية لحظة،فيصح أن يقال:لولاه لم يكن عندك نور،و لعجزت عن قتل ذلك الإنسان..و..و..الخ..

كما أنه يصح أن يقال:لو لا مشيئتك و مبادرتك أنت،لم تحصل الإنارة،و لا القتل،و لا غير ذلك..

ص: 259

و لكن من الواضح:أن تصرفك أنت ليس له أي تأثير على من أعطاك الكهرباء،فإنه محسن في جميع الأحوال،و لا يتوجه إليه أي لوم، حتى لو أسأت أنت الاستفادة من الطاقة التي يرسلها إليك..

و هو نظير ما لو أعطاك إنسان مالا،لتستفيد منه في إصلاح شأنك، أو في معالجة مرض ألمّ بك..فإنك قد تصرفه في ما أمرك بصرفه فيه، و قد تعصي أمره فتصرفه في ارتكاب جريمة،أو تحرقه،أو تضيعه..

و في جميع الأحوال،فإن الذي أعطاك؛محسن إليك و ممدوح..و أما أنت فالعقاب و الثواب متوجه إليك تبعا لما تختاره..

و مجرد علم المولى بما سوف يختاره العبد لا يحتم عليه التدخل لمنعه،و لو بقطع المدد عنه..فقد يكون للتدخل سلبياته الكبيرة و الخطيرة،من حيث إن المصلحة العليا تفرض أن يعطيه كامل الحرية في التصرف بألطافه الواصلة إليه..لأن الغاية الكبرى لا تتحقق إلا بذلك.

إن لم نقل:إن هذا التدخل يعد ظلما ينافي مقام الألوهية..

خلق الخير و الشر:

و إذا كان اللّه هو الذي يفيض الوجود على إرادة الفاعل،ثم يكون الفاعل هو الذي يختار أن يعلقها بهذه الحركة أو بتلك،و الفعل هو نتيجة هذه الحركة،فإرادة اللّه لم تتعلق بالفعل مباشرة،سواء أ كان الفعل خيرا، أم شرا،فلا معنى لادعاء أن اللّه يخلق فعل الخير،و لا يخلق الشر..بل الإنسان هو الذي يفعلهما باختياره،و لكن اللّه سبحانه يفيض عليه القوة و القدرة لحظة فلحظة،و هو يوظف هذه القوة و القدرة لإنتاج حركة هنا أو هناك،يطلق عليها:«الفعل».ثم يسمون هذا الفعل بأسماء تناسب حالاته،و ملازماته،مثل:شرب،أكل،تسبيح،صلاة،الخ..

ص: 260

و الخير هو الفعل الذي ينتج كمالات،يحتاج أو يسعى إليها الإنسان،أما الشر فهو الفعل الذي يهدم ما بناه الخير و يتلفه.و ذلك ظاهر لا يخفى.

«إنّ اللّه كان عليما حكيما»:

و يرد هنا سؤال،و هو:أنه تعالى قد عدل عن ضمير الغائب إلى التصريح بلفظ الجلالة،فقال: إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.. مع أن الإتيان بلفظ الجلالة يجعلنا نتوقع أن يأتي بضمير الغائب للإشارة إلى ذاته المقدسة..

و ربما يمكن الإجابة عن ذلك:بأنه أعاد لفظ الجلالة ليفيد أنه تعالى قد بدأ كلاما جديدا،يتضمن قاعدة عامة،يكون هذا المورد أحد منطبقاتها.أي أنه تعالى يريد أن يثبت العليمية و الحكيمية لذاته المقدسة على سبيل الإطلاق،و لا يريد أن يقيدها بمورد و فعل خاص،و هو مورد تأثير المشيئة الإلهية في مشيئة البشر..

فهو يريد أن يقول:إن هذا التأثير مستند إلى صفة العليمية و الحكيمية من حيث هي،و لا يريد أن يقول:إن سبب التأثير هو وجود سنخية خاصة بين هذا المورد و بين هذه الصفات،و ليس ثمة ما يثبت وجود هذه السنخية في سائر الموارد..

فإعادة لفظ الجلالة قد ألغى هذا الاحتمال الأخير،و لفت النظر إلى وجود اقتضاء عام في هذه الصفات،يجعلها قابلة للتأثير في مختلف الموارد.

و لو أنه أتى بالضمير،فقال:«إنه كان عليما حكيما»،فقد يوهم ذلك أن العليمية و الحكيمية معا قد اقتضتهما ربوبيته تعالى..مع أن الحقيقة هي أن العليمية من صفات ذاته،و من شئون ألوهيته تعالى..

أما الحكيمية فهي من شئون ربوبيته سبحانه..

ص: 261

و بذلك يكون قد أكد على التوافق و الانسجام في كلا هذين الأمرين،في مقام التأثير الفعلي في الأشياء،فلا بد من التوجه إليه تعالى على هذا الأساس..

«كان»:

و كلمة«كان»قد جاءت لتبين لنا أن صفتي العليمية،و الحكيمية، ليستا عارضتين على الذات،و قد اقتضاهما فعل بخصوصه.بل هما من الصفات التي لها ثبوت حقيقي للذات،و هي غير مرتبطة في نشوئها و ثبوتها بفعل بعينه،أو بأمر عارض..بل هي ثابتة له تعالى على الحقيقة، قبل ذلك و بعده،لأن ذلك من تجليات صفات ألوهيته تعالى.

و هذا كقوله تعالى: اَللّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (1)..فإن اللّه سبحانه نور على الإطلاق،قبل السماوات و الأرض،و بعدها..لا أن نوريته قد اقتضتها حاجة لها كامنة في السماوات و الأرض.

«عَلِيماً حَكِيماً»:

و قد جاءت كلمة«عليما»بصيغة المبالغة..و هي مبالغة من جهتين:

إحداهما:جهة الشمول،من حيث كثرة مفردات العلم الحاضرة لديه تعالى،و كثرة موارده.

و الثانية:من حيث إن علمه تعالى دقيق،و عميق،و هو علم حضوري،تكون الحقائق حاضرة لديه تعالى،حضورا حقيقيا فعليا..فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات و لا في الأرض..

و هذه الدقة و الإحاطة الحقيقية تقتضي التدبير الموافق للحكمة في

********

(1) سورة النور الآية 35.

ص: 262

كل شيء..لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه،و هذا يحتاج- بالإضافة إلى القدرة،و سواها-إلى العلم الدقيق،و العميق،و الشامل، و إلى الحضور التام،بحيث لا يكون أي وجه من وجوه الشيء غائبا عن الواضع و المتصرف.

فتحقّق صفة الحكيمية بتمام معناها،و هي من صفات الفعل،متوقف على صفة العليمية،التي هي من صفات الذات،فاقتضى ذلك تقديم هذه على تلك في هذه الآية الشريفة.حيث لم توجد خصوصية أخرى تقتضي تأخير صفة العليمية،

و في جميع الأحوال نقول:إن المناسبة هنا تقتضي هذا التقديم..فإن الحديث إنما هو عن اتخاذ السبيل إلى اللّه سبحانه،و عن خلق الإنسان، و عما تقتضيه خلقته و مسيرته في الحياة كلها.و عن حقيقة الوجود المتكامل في كل حناياه و خفاياه..و في بدايته و منتهاه.

يضاف إلى ذلك:أن المشيئة الإلهية،إنما تنبثق أولا من موقع الإحاطة،و العليمية،ليكون تأثيرها موافقا للحكيمية..و قد جاءت العليمية و الحكيمية هنا متوافقة مع مقتضيات هذه المشيئة،بصورة واقعية..

فاتضح من جميع ذلك،ضرورة تقدم كلمة عليم،على كلمة حكيم..

و اتضح أيضا:أن هاتين الصفتين هما اللتان يجب التنصيص عليهما، و التذكير بهما..

و أنه لا بد من إطلاقهما،لكي تشملا جميع أحوال النشأة الإنسانية، و مسيرة الخلق و الخليقة كلها.

***

ص: 263

ص: 264

الفصل الحادي و الثلاثون: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً

اشارة

ص: 265

قوله تعالى:

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.

«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ»:

و الآن،حان الوقت لإعطاء النتيجة النهائية الحاسمة لكل هذه المسيرة الإنسانية،من بدء الخلق إلى منتهاه.ألا و هي:دخول المحسن في رحمة اللّه،و دخول المسيء في نقمته سبحانه.

«من يشاء»:

و يرد هنا سؤال،يقول:إنه برغم أن اللّه قد وعد من يتخذ السبيل إلى ربه؛بالجنة و بالنعيم،فإنه تعالى قد علق نيله لهذا النعيم على مشيئته تبارك و تعالى..فكيف ذلك؟و لما ذا؟!..

و نجيب:بأن جميع المخلوقات ملك للّه تعالى،و لا يستحقون مثوبة من مالكهم على طاعاتهم له،و لكن اللّه عزّ و جل قد تفضل عليهم في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه..

مع أن له أن يلغي ذلك متى شاء،و يعاملهم بمقتضى مالكيته لهم،و إن كان لا يفعل ذلك،فإنما لا يفعله لأنه لا يخلف وعده،و لوجود مبررات استمراره و شرائطه،لا لأجل أنه لا يحق له ذلك.و إن كان لا يلغي قدرته عليه،و لا حقّه فيه،لعدم لزوم أي محذور من استعمال هذا الحق،و عدم وجود أي قبح في ذلك الإلغاء،و لا في ذلك الاستعمال للحق..

ص: 266

ص: 267

و لكنه ما دام هذا القرار قائما،فإن العبد يكون مستحقا لتلك المثوبة، تماما كما لو أن أبا وعد ولديه بجائزة للناجح منهما،فالناجح سيرى نفسه مستحقا للجائزة،فإذا حرم منها،فإنه سيرى نفسه مظلوما،فكيف لو أعطيت الجائزة لأخيه الراسب؟!

و لعل هذا هو السبب في أنه تعالى هنا قد علق إدخالهم في رحمته على مشيئته..فإن إعطاء المثوبة إنما هو في ظرف بقاء ذلك القرار الإلهي قائما،فمن اتخذ السبيل إلى ربه،فليس له أن يمن عليه سبحانه، بل اللّه هو المتفضل عليه،و له عليه المنة..

كما أن ذلك يشير:إلى استمرار فتح باب الرحمة لمن أراد الدخول فيه،فلا مجال لليأس من روح اللّه،فإن الطاعة وحدها لا تكفي لإدخال المطيع الجنة لو لا الرحمة الإلهية،و التفضل بجعل ذلك القرار،كما أن المعصية لا تمنع من الرحمة،إذا تاب الإنسان و أناب،فإن القرار يبقى إليه،قال في دعاء أبي حمزة:

«لا الذي أحسن استغنى عن عفوك و رحمتك،و لا الذي أساء و اجترأ عليك،و لم يرضك خرج عن قدرتك»..

و قد يجاب أيضا:بأن المقصود بقوله:«من يشاء»..هو الناس،أي أنهم إذا شاءوا الدخول في الرحمة،فإن اللّه لا يحرمهم من ذلك..

و لكن هذا و إن كان محتملا في نفسه،و لكنه خلاف الظاهر،فإن ضمير الفاعل في قوله تعالى: «أَعَدَّ لَهُمْ » يرجع إليه سبحانه،و هو نفسه ضمير الفاعل الذي استندت إليه كلمة«يشاء»،و لو كان الضمير يرجع للناس،لكان الأنسب أن يقول:«أعدّ»بضم الهمزة،و كسر العين،على صيغة المبني للمفعول..

ص: 268

«فِي رَحْمَتِهِ »:

1-و قد نسب اللّه إدخالهم في رحمته إلى نفسه،ليبين أن عملهم مهما بلغ،فإنه لا يجعل لهم استحقاقا واقعيا أصيلا،بسبب مملوكيتهم التي أشرنا إليها..فإذا تفضل اللّه عليهم،بجعل المثوبة لهم،فإنهم يكتسبون هذا الاستحقاق بذلك التفضل،فالاستحقاق مرتكز إلى ذلك الجعل،و القرار الناشئ عن الحكمة و التفضل الإلهي،و معتمد عليه..

2-و لم تذكر الآية الدخول إلى الجنة،بل ذكرت أنه تعالى يدخلهم في رحمته.

و لعل ذلك لإفهامنا:أن جميع ما ذكر في هذه السورة من خلق، و رزق،و تشريعات،و ذكر،و رعاية،و هدايات،و إفاضات متوالية،ما هو إلا تفضلات و نعم منه تعالى.و أن جعل الجزاء،و إن كان يستتبع استحقاقا بدرجة ما،و لكن تبقى مقادير هذا الجزاء،في دائرة التفضلات الإلهية أيضا،إذ لو أردنا أن نقيس عملنا إلى كل تلك النعم و الفيوضات، فإنه مهما بلغ من الصفاء و الصلاح لا يفي و لو بنفس واحد نتنفسه،فضلا عن أن يتوهم أحد أننا نستحق عليه أي جزاء،فكيف بجنات عدن،التي وعد اللّه بها المتقين.

و ذلك معناه:أن أي عطاء منه لنا إنما هو برحمة منه سبحانه،لا باستحقاق منا له،رغم أنه قد جعل الحسنة بعشر أمثالها،بل جعلها:

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ (1) ..

********

(1) سورة البقرة الآية 261.

ص: 269

الدخول في الرحمة الإلهية:

و لسنا بحاجة إلى التذكير:بأن الجنة رحمة إلهية للبشر،لأن الرغبة فيها،و الطلب لها،يدعو الناس إلى فعل الخيرات،و عمل الصالحات، و في ذلك سعادتهم و صلاحهم..

كما أن وجود جهنم أيضا،و الخوف منها يدعو الناس إلى التزام خط الطاعة و الانقياد.و هو سلامة و سعادة لهم أيضا..

و قد قلنا آنفا:إن الإنسان لا يستحق بعمله-من حيث هو-أي شيء،و لا تفي جميع أعماله مهما عظمت بجزء يسير من تفضلات و نعم اللّه و فيوضاته عليه..

بل إنما يستحق ذلك بالجعل الإلهي التفضلي،و لكن أمر هذا الجعل يبقى بيد اللّه تعالى،فيمكن له رفعه،كما أمكن له وضعه..و ذلك حين يوجب استمراره نقضا للغرض،و لا يكون إخلافا للوعد،بل يكون متوافقا مع مقتضيات الرحمة و الإحسان..

و بما أن اللّه هو العليم،و الواقف على حقيقة،و مدى،و عمق ضعف، و نقص،و عجز،و حاجة هذا الإنسان،فإنه بمقتضى رحيميته يبادره برفع نقائصه،و بسد حاجاته،و تقوية ضعفه،و يزيده من فضله،فيعطيه الجنة، فيقصر عن نيل نعيمها،فيزيده من فضله كمالا،و أهلية،و استعدادا لنيل ذلك النعيم..و كل ذلك على أساس الرحمة الغامرة،التي كانت سببا في الفيض،و الحكمة الظاهرة التي هيمنت على المشيئة..

و بما أن الحاجة إلى استمرار هذه المعونة قائمة،فإن الجنة تصبح بمثابة الرحمة له،و هي مستمرة و دائمة..فيدخلها،و يبقى فيها،تفضلا من اللّه تعالى عليه و كرما..

ص: 270

«و الظّالمين»:

قلنا:إن أصل جعل قانون المثوبة و العقوبة،رحمة بالبشر،و إحسان لهم..

و اللافت هنا:أنه تعالى حين أشار إلى العقوبة،أظهر أنه لا مجال لغض النظر عنها،و لا للتساهل فيها..لأنها عقوبة نشأت عن الظلم، و التمرد،و الطغيان،و التعدي على مقام الألوهية..

و السؤال هو:لما ذا جعل اللّه الطرف المقابل لمن يدخلهم في رحمته،هم الظالمون،و لم يجعلهم الكافرين؟!..

الجواب:لعل السبب هو:أن اللّه سبحانه بعد التذكرة لهم لم يترك أمرا،يمكن الاعتذار عن مخالفته و التعدي عليه بالجهل،أو الشبهة،إلا و كشفه،و بيّنه،من خلال الهدايات التي زودهم بها،و بذلك تصبح تعدياتهم ظاهرة في أنها تعديات على حدود الفطرة،و انتهاك لأحكام العقل،و اعتداء على حرمات اللّه،و فعل يسيء إلى مستقبلهم،و إلى أنفسهم،و يؤدي بها إلى المزالق و المهالك..

و بذلك..يكونون ظالمين أقبح الظلم،و أسوأ الطغيان..

و قد يحاول الإنسان أن يتجاهل مقتضيات فطرته،و أحكام عقله، و كل وسائل الهداية،و يحصرها في زاوية،ثم يسدل عليها ستار التناسي..

و لكن بعد إعادة إظهارها،و إزالة العوائق عن مشاهدتها..فإنه لا يعود الوقوع فيها كفرا و سترا،بل هو محض التعدي و الظلم،و البغي..

و التصريح بالظلم و الظالمية إنما هو لأجل التنفير من هذا الأمر، الذي تدرك قبحه كل العقول،و يرفضه كل البشر بفطرتهم،بسبب ما له من سلبيات واقعية..

أما الكفر فقد يرضاه الإنسان لنفسه،تحت ستار من الأقنعة التي

ص: 271

تنسجها له تأويلات و تسويلات شيطانية،تجعله لا يشعر بالقبح و الجريمة،بصورة قوية و ظاهرة..

و لكنه حين يدرك أن كفره و شركه إنما ينطلق من ظلمه،بل هو نفسه أعظم ظلم و أقبحه،فإن النفيرة منه سوف تتأكد لديه،و لدى كل من عداه..

«أَعَدَّ لَهُمْ »:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى بالنسبة للمؤمنين،قال:«يدخل».أما بالنسبة للظالمين،فقال: «أَعَدَّ لَهُمْ » ..

فما هو السبب في هذا التنويع في البيان؟!..

و يمكن أن يجاب بأنه:لعل من فوائد هذا التنويع في البيان أنه أراد أن يطلع من يريد أن يتخذ سبيل الغي و الظلم،على هول ما يقدم عليه، من حيث إنه يستحث خياله لتصور ما أعده سبحانه له من عذاب، فيرتجف له فؤاده،و يخشع قلبه،فإذا أعاد النظر في كلمة«أعد»،فسيجد فيها ما يشير إلى عدم تنجز الأمر،و إلى وجود فسحة يستطيع من خلالها أن يبحث عن المهرب،و المخرج..

تقديم الظالمين لما ذا؟!:

و يلاحظ هنا:أنه تعالى قدم كلمة:«الظّالمين»في الذكر،حيث قال:

«وَ الظّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ » و لم يقل:«أعد للظالمين»..

و لعل من فوائد هذا التقديم:أنه يكون بذلك قد نص على أن ظلمهم هو المؤدي بهم إلى هذا العذاب الذين لهم هذا العذاب مرتين، مرة بكلمة الظالمين،و مرة أخرى بالضمير العائد،و هو كلمة«هم»..

بالإضافة إلى أن هذا التقديم فيه إظهار للحرص على مواجهتهم

ص: 272

بذلك العذاب الأليم..و إفهامهم:أن هذا ليس كلاما عابرا،بل هناك مزيد التفات،و قصد أكيد،و اهتمام ظاهر بمواجهتهم به..

و حتى بالنسبة لكلمة«أعد»فإنها تشير إلى أن ثمة مزيد عناية في كيفيات،و وسائل ذلك العذاب،و ليس هو عذاب عشوائي يأتيهم كيفما اتفق..

بل هو عن إعداد،و تهيئة،و قد لوحظ فيه سد جميع الثغرات التي ربما تؤدي إلى بعض التخفيف في بعض الفترات،أو في بعض التقلبات..

«عَذاباً أَلِيماً»:

ثم إنه تعالى لم يقل:«أعد لهم جهنم»مثلا،فإن كلمة«عذاب»زائدا على الأمور الثلاثة التي قدمناها آنفا،تشتمل على إلماحة رابعة إليهم، و تستبطن الإشارة إلى أعيانهم،من حيث إشعارهم بالألم هم أنفسهم..

و كذلك كلمة«الأليم»،التي هي أيضا من صيغ المبالغة التي تفيد شدة ذلك الألم،و كثرة توارده على ذلك المعذب..

و لو أنه تعالى قال:«أعد لهم جهنم»مثلا،أو نارا،فقد لا يلتفت إلى ذلك العذاب و لا إلى شدة ذلك الألم،إلا بعد توسيط وسائط، و استحضار ملازمات ذهنية،قد لا تعطي الإيحاء،و لا تثير الإحساس المباشر و السريع لدى السامع،بأنه هو المستهدف بذلك العذاب،كما هو الحال في كلمتي «عَذاباً أَلِيماً» ..

كما أنه ليس فيها إلماحة رابعة إليه،و لا تشتمل على أي تنصيص جديد عليه.

و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على عباده الذين اصطفى محمد و آله الطاهرين..

***

ص: 273

ص: 274

كلمة أخيرة:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

و الحمد للّه،و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين..

و بعد..

فقد كانت تلك نبذة من الكلام حول ظواهر آيات سورة«هل أتى» المباركة..و التي هي سورة«أهل البيت»عليهم الصلاة و السّلام.

و لا بد لنا قبل أن نودع القارئ الكريم من الإعلان الصريح له بأنها محاولة لا تليق بأن تسمى تفسيرا،أو حتى مدخلا لتفسير هذه الآيات الشريفة..كيف!و القرآن بحر عميق لا تفنى عجائبه،و لا تنفذ غرائبه،و لا يشبع منه علماؤه.و ما علماؤه إلا أهل بيت العصمة،الذين اختصهم اللّه تعالى بمعرفة كوامنه و أسراره،و حباهم بالتقلب بسواطع أنواره..

و كل من عداهم لا يعدو أن يكون متطفلا،لا يدرك غاية،إلا بمقدار ما يدركه طفل ساذج،يقف على شاطئ البحر المحيط،ليلقي بنظرة بلهاء كليلة،على طرف ضئيل من مياهه العذبة..

فإنه مهما حاول ذلك الطفل العاجز أن يجهد نفسه،و يثير كوامن فكره،فلن يكون قادرا على إدراك ما لذلك البحر المحيط من مقدار،و لا على استكناه ما يحتضنه من خفايا و أسرار،أو على ما فيه من حقائق، و دقائق،و ما تشتمل عليه أعماقه من غرائب و عجائب..

ص: 275

غير أن الذي جرأني على هذا الأمر هو ثقتي برحمة اللّه سبحانه، و بلطفه و كرمه،و طمعي في أن لا يحرمني من بركات القرآن،فأفوز منه و لو بنسمة واحدة،يزجيها إليّ فواح أريجه،و أسعد بنظرة ساذجة ألقيها على رائع من روائع بهيج نسيجه.و أن ألمح و لو من البعيد البعيد، سبحات نوره الباهر..و أنال من بركات فيضه الغامر فعسى و لعل،أن يكون ذلك سببا في أن تشملني شفاعة أهل القرآن الأطيبين الأطهرين، و هم الزهراء و أبوها،و بعلها و بنوها..

فإنه ليس لي عمل صالح أتكل عليه،سوى حبي لهم،و رجاء شفاعتهم،صلوات اللّه و سلامه عليهم،و رحمة منه و بركات..

و بعد،فليس لي إلا أن أقول لسادتي و موالي-و هم خزان علم اللّه- كما قال إخوة يوسف: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ..

و أما ما آمله من إخواني الأكارم،فهو أن يغضوا طرفهم عما يرونه في هذه الإطالة من خطأ،و سهو،و نسيان،و أن يتحفوني بملاحظاتهم، و أن يصلحوا بآرائهم السديدة،و نظرتهم الرشيدة،ما أفسدته يد القصور أو التقصير..

و آخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين،و الصلاة و السّلام على محمد و آله الطاهرين..

عيثا الجبل(عيثا الزط سابقا)

جعفر مرتضى الحسيني العاملي

ص: 276

المحتويات

الفصل الثاني عشر

و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا

«و جزاهم »..أم جازاهم؟:8

جزى هي الأوفق بالمقاصد الإلهية:9

الثواب بالتفضل،أم بالاستحقاق؟:10

استحقاق ناشئ عن التفضل:12

«بما صبروا»:13

الجزاء مقابل الصبر،أم مقابل العمل؟:14

لذة الاستحقاق:15

استطراد..للتوضيح:17

مقارنة بين الجزاء..و بين العمل:22

لما ذا لم يذكر الحور العين؟:23

«جنة »:25

«جنة و حريرا»،لما ذا؟:26

الجنة و الحرير أولا:27

ص: 277

الجنة أولا:28

الفصل الثالث عشر متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا

«متكئين »:31

«فيها»:32

«الأرائك »:32

هل هي لذة الفراغ؟:33

نعيم الأبرار:34

«لا يرون فيها شمسا»:36

«و لا زمهريرا»:37

تعلق النفي بذات،و بصفة!!:38

«لا يرون »:38

«شمسا و لا زمهريرا»:39

اللف و النشر المرتب:39

الفصل الرابع عشر و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا

«و دانية عليهم ظلالها»:43

العطف بالواو:45

«و دانية »:47

«عليهم »:48

ص: 278

مفردات نعيم الجنة:48

تقديم كلمة«عليهم »:49

الضمير في«ظلالها»:50

«و ذللت قطوفها تذليلا»:50

«قطوفها»:51

«تذليلا»:52

الفصل الخامس عشر و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب كانت قواريرا

«و يطاف عليهم »:55

الكماليات،أم الضروريات؟:55

التنوع في النعيم:57

التسلسل الطبيعي:58

شرح الكلمات أولا:58

كلمة«من »نشوية،أم بيانية؟:59

كلمة«كانت »:60

«من فضة »:60

الفصل السادس عشر قواريرا من فضة قدروها تقديرا

«قواريرا من فضة »:65

توضيح و اختصار:67

ص: 279

«قدروها»:68

الضمير في«قدروها»:68

التقدير:69

تنوع الملذات:70

الفصل السابع عشر و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا

«و يسقون »:لما ذا الواو؟!73

«يسقون »:73

«فيها»:74

«كأسا»:74

لما ذا التعدية المباشرة:74

بين«يسقون »،و«يشربون »:75

«كان »:76

«مزاجها»:76

«زنجبيلا»:77

مواصفات الزنجبيل:77

خصوصيات في الزنجبيل:78

لا سلبيات للزنجبيل في الآخرة:78

أسئلة تحتاج إلى أجوبة:79

زنجبيل الدنيا..و الآخرة:80

ص: 280

بين«الكافور»و«الزنجبيل »:80

الفصل الثامن عشر عينا فيها تسمى سلسبيلا

«عينا»:85

«فيها»:86

«تسمى سلسبيلا»:86

لما ذا هذه التفاصيل و الدقائق؟:88

وصف نعيم الجنة:89

خصوصية البيان القرآني:90

الفصل التاسع عشر و يطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا

«و يطوف عليهم »:97

«ولدان »لا غلمان:99

«ولدان »أو أشخاص؟:99

«ولدان »جمع وليد:99

الطائفة الأولى:101

الطائفة الثانية:102

الطائفة الثالثة:105

الطائفة الرابعة:105

الطائفة الخامسة:107

ص: 281

التكليف في دار الجزاء:109

هل يقبح تعذيب غير المكلف؟!:111

التصرف في المكان:112

التصرف في الزمان:117

خلاصة لأجل التوطئة:118

سؤال تقف وراءه أسئلة:119

السؤال عن حكم:119

للغة تأثيرها القوي:123

«مخلدون »:124

«إذا رأيتهم »:125

«إذا رأيتهم حسبتهم »:126

«لؤلؤا»:127

«منثورا»:128

اللؤلؤ المكنون..أم المنثور؟!129

الفصل العشرون و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا

«و إذا رأيت »:133

«رأيت »،من جديد:133

1-الخطاب للمفرد:134

2-الرؤية و المعاينة:134

ص: 282

3-إطلاق الرؤية:«رأيت ثم »:135

«ثم »:136

لما ذا«رأيت »من جديد؟!:136

«نعيما»:137

«نعيما و ملكا»:137

«كبيرا»:139

تنوين التنكير:139

الفصل الحادي و العشرون عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق و حلوا أساور من فضة و سقاهم ربهم شرابا طهورا

«عاليهم ثياب سندس »:143

القيمة الواقعية،و القيمة الاعتبارية:144

الاعتبار على نحوين:145

لما ذا قال:«عاليهم »؟!:150

«ثياب سندس خضر و إستبرق »:154

النعيم الجسدي..من خلال الرضا الإلهي:155

«خضر»:155

«و حلوا أساور من فضة »:156

«من فضة »:158

لما ذا خصوص الأساور؟!:160

ص: 283

هل الزينة خاصة بالنساء؟:160

من الذي يحلّيهم بالأساور؟:161

«و سقاهم ربهم »:161

الشراب الطهور:162

الفصل الثاني و العشرون إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا «إن هذا كان لكم جزاء»:167

«لكم جزاء»:168

الخطاب للأبرار:169

«جزاء»:169

«و كان سعيكم مشكورا»:170

«سعيكم »:170

«مشكورا»:171

الفصل الثالث و العشرون إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا

وسائل الهداية الإلهية:175

«إنا نحن »:176

«عليك »:177

«نزلنا»:177

لم يقل:أنزلنا:182

ص: 284

«نزلنا عليك القرآن تنزيلا»:187

الفصل الرابع و العشرون فاصبر لحكم ربك و لا تطع منهم آثما أو كفورا

«فاصبر لحكم ربك »:191

«ربك »:192

«و لا تطع منهم آثما أو كفورا»:193

«و لا تطع منهم آثما أو كفورا»:195

صبر الرسول..و نعيم الأبرار في الجنة:199

كلمة:«منهم »لما ذا؟!:199

هل هذا استطراد؟:200

الفصل الخامس و العشرون

و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا201

«و اذكر اسم ربك »:203

«و اذكر اسم ربك »:205

لما ذا اسم اللّه؟!:206

«ربك »:207

«بكرة و أصيلا»:207

1-الوقت ليس مجرّد وعاء:207

2-ما المراد بالبكرة و الأصيل؟:208

3-التّنصيص على البكرة و الأصيل:209

ص: 285

استغراق الوقت في العبادة:211

الفصل السادس و العشرون و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا

«و من الليل »:215

«فاسجد له »:218

«و سبحه »:219

«ليلا طويلا»:220

الفصل السابع و العشرون إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا

«إن هؤلاء»:223

«هؤلاء»:224

«يحبون العاجلة »:225

لما ذا لم يأت بلام التعليل؟:225

الاقتصار على العاجلة:226

«و يذرون وراءهم يوما ثقيلا»:227

«و يذرون »:228

«وراءهم »:228

«وراءهم »لما ذا؟!229

«يوما»:229

«ثقيلا»:230

ص: 286

الفصل الثامن و العشرون نحن خلقناهم و شددنا أسرهم و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا

«نحن خلقناهم »:233

«و شددنا أسرهم »:234

«و إذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا»:235

الأسر الإلهي:236

«و إذا»:237

«بدلنا أمثالهم »:237

«بدلنا»:237

«أمثالهم »:239

«تبديلا»:240

الفصل التاسع و العشرون إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا

«إن هذه تذكرة »:243

التذكير،بما ذا؟!:244

«فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا»:245

«فمن »:246

الفصل الثلاثون و ما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما

«و ما تشاءون »:255

ص: 287

جبرية المشيئة:256

خلق الخير و الشر:260

«إن الله كان عليما حكيما»:261

«كان »:262

«عليما حكيما»:262

الفصل الحادي و الثلاثون يدخل من يشاء في رحمته و الظالمين أعد لهم عذابا أليما

«يدخل من يشاء»:267

«من يشاء»:267

«في رحمته »:269

الدخول في الرحمة الإلهية:270

«و الظالمين »:271

«أعد لهم »:272

تقديم الظالمين لما ذا؟!:272

«عذابا أليما»:273

كلمة أخيرة:275

المحتويات 277

ص: 288

كتب مطبوعة للمؤلف

1-الآداب الطبية في الإسلام

2-ابن عباس و أموال البصرة

3-ابن عربي سني متعصب

4-إدارة الحرمين الشريفين في القرآن الكريم

5-الإسلام و مبدأ المقابلة بالمثل

6-أكذوبتان حول الشريف الرضي

7-أ فلا تذكرون«حوارات في الدين و العقيدة»

8-أهل البيت عليهم السّلام في آية التطهير(الطبعة الثانية مزيدة و منقحة)

9-براءة آدم عليه السّلام حقيقة قرآنية

10-بنات النبي صلّى اللّه عليه و آله أم ربائبه

11-بيان الأئمة و خطبة البيان في الميزان

12-تفسير سورة الفاتحة

13-تفسير سورة الكوثر

14-تفسير سورة الماعون

15-تفسير سورة الناس

ص: 289

16-تفسير سورة«هل أتى»2/1

17-حديث الإفك

18-حقائق هامة حول القرآن الكريم

19-الحياة السياسية للإمام الجواد عليه السّلام

20-الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السّلام

21-الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السّلام

22-خلفيات كتاب مأساة الزهراء عليها السّلام 6/1

23-دراسات و بحوث في التاريخ و الإسلام 4/1

24-دراسة في علامات الظهور و الجزيرة الخضراء

25-دراسة في علامات الظهور

26-زواج المتعة(تحقيق و دراسة)3/1

27-الزواج المؤقت في الإسلام(المتعة)

28-سلمان الفارسي في مواجهة التحدي

29-سنابل المجد(قصيدة إلى روح الإمام الخميني رحمه اللّه)

30-السوق في ظل الدولة الإسلامية

31-الشهادة الثالثة في الأذان و الإقامة

32-الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله 12/1

33-صراع الحرية في عصر الشيخ المفيد رحمه اللّه

34-ظاهرة القارونية من أين و إلى أين؟

35-ظلامة أم كلثوم

ص: 290

36-علي عليه السّلام و الخوارج 2/1

37-الغدير و المعارضون

38-القول الصائب في إثبات الربائب

39-كربلاء فوق الشبهات

40-لست بفوق أن أخطئ من كلام علي عليه السّلام

41-لما ذا كتاب مأساة الزهراء عليها السّلام

42-مأساة الزهراء عليها السّلام شبهات و ردود 2/1

43-ما ذا عن الجزيرة الخضراء و مثلث برمودا؟!

44-مختصر مفيد..6/1

45-مراسم عاشوراء«شبهات و ردود»

46-المدخل لدراسة السيرة النبوية المباركة

47-المسجد الأقصى أين؟

48-مقالات و دراسات

49-منطلقات البحث العلمي في السيرة النبوية

50-المواسم و المراسم

51-موقع ولاية الفقيه من نظرية الحكم في الإسلام

52-موقف علي عليه السّلام في الحديبية

53-نقش الخواتيم لدى الأئمة عليهم السّلام

54-الولاية التشريعية

ص: 291

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
هَلْ یَسْتَوِی الَّذِینَ یَعْلَمُونَ وَالَّذِینَ لَا یَعْلَمُونَ
الزمر: 9

عنوان المکتب المرکزي
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.