عنوان و نام پديدآور: الفرج بعد الشده/محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
مشخصات نشر: بیروت- لبنان: دارصادر
مشخصات ظاهری: 5ج.
کد کنگره: PJA 3910 / ف 4
موضوع: تربیت اخلاقی-- جنبه های مذهبی -- اسلام
موضوع: تربیت اخلاقی -- جنبه های قرآنی
موضوع: نثر عربی - قرن 4ق.
موضوع: داستانهای عربی - قرن 4ق.
در كتاب به داستان هایى پرداخته شده كه موضوعش فرج بعد از شدت است و دعاهایى نيز در اين باب ذكر شده است.
ص :1
ص:2
الفرج بعد الشده
محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
ص:3
ص:4
إسحاق المصعبيّ
تحرّكه رقاع أصحاب الأرباع ببغداد
[حدّثني عبد اللّه بن محمّد بن داسه البصري رحمه اللّه،قال:حدّثني أبو يحيى بن مكرم،القاضي البغدادي،قال:حدّثني أبي،قال:] (1).
كان في جواري،رجل يعرف بأبي عبيدة،حسن الأدب،كثير الرواية للأخبار،و كان قديما ينادم إسحاق بن إبراهيم المصعبي،فحدّثني:أنّ إسحاق استدعاه ذات ليلة،في نصف الليل.
قال:فهالني ذلك،و أفزعني،لما كنت أعرفه منه،من زعارة الأخلاق (2)، و شدّة الإسراع إلى القتل،و خفت أن يكون قد نقم عليّ شيئا في العشرة،أو بلّغ عنّي باطلا،فأحفظه (3)،فيسرع إلى قتلي،قبل كشف حالي.
فخرجت طائر العقل،حتى أتيت داره،فأدخلت إلى بعض دور الحرم، فاشتدّ جزعي،و ذهب عليّ أمري.
فانتهي بي إليه،و هو في حجرة لطيفة[216 غ]،فسمعت في دهليزها بكاء امرأة و نحيبها،و دخلت،فإذا هو جالس على كرسي،و بيده سيف مسلول، و هو مطرق،فأيقنت بالقتل.
فسلّمت،و وقفت،فرفع رأسه و قال:اجلس أبا عبيدة،فسكن روعي، و جلست.
فرمى إليّ رقاعا كانت بين يديه،و قال:اقرأ هذه
ص:5
فقرأت جميعها،فإذا رقاع أصحاب الشرط في الأرباع (1)،يخبره كلّ واحد منهم بخبر يومه،و ما جرى في عمله[36 ن]،و في[207 ر]جميعها ذكر كبسات وقعت على نساء وجدن على فساد،من بنات الوزراء،و الأمراء،و الأجلاّء، الذين بادوا،أو ذهبت مراتبهم،و يستأذنون في أمرهنّ.
فقلت:قد وقفت على هذه الرقاع،فما يأمرني به الأمير أعزّه اللّه؟
فقال:ويحك يا أبا عبيدة،هؤلاء الناس الذين ورد ذكر حال بناتهم، كلّهم كانوا أجلّ منّي،أو مثلي،و قد أفضى بهم الدهر في حرمهم إلى ما قد سمعت،و قد وقع لي أنّ بناتي بعدي،سيبلغن هذا المبلغ،و قد جمعتهنّ-و هنّ خمس-في هذه الحجرة،لأقتلهنّ الساعة،و أستريح،ثم أدركتني رقّة البشريّة،و الخوف من اللّه تعالى،فأردت أن أشاورك في[214 م]إمضاء الرأي،أو شيء تشير به عليّ فيهنّ.
فقلت:أصلح اللّه الأمير،إنّ آباء هؤلاء النساء اللواتي قرأت رقاع أصحاب الأخبار بما جرى عليهنّ،أخطأوا في تدبيرهنّ،لأنّهم خلّفوا عليهنّ النعم،و لم يحفظوهنّ بالأزواج،فخلون بأنفسهنّ،و نعمهنّ،ففسدن،و لو كانوا جعلوهنّ في أعناق الأكفاء،ما جرى منهنّ هذا.
و الذي أرى أن تستدعي فلانا القائد،فله خمسة بنين،كلّهم جميل
ص:6
الوجه،حسن اللبس و النشوة (1)،فتزوّج كلّ واحدة من بناتك،واحدا منهم، فتكفى العار و النار،و تكون قد أخذت بأمر اللّه عزّ و جلّ،و الحزم،و يراك اللّه تعالى قد أردت طاعته في حفظهنّ،فيحفظك فيهنّ.
فقال:امض الساعة إليه،[فقرر معه ما يكون لنا فيه المصلحة] (2)،و افرغ لي معه من هذا الأمر.
قال:فمضيت إلى الرجل،و قررت الأمر معه،و أخذت الفتيان،و أباهم، و جئت إلى دار إسحاق بن إبراهيم،[و عقدت النكاح لهم،على بنات إسحاق، في خطبة واحدة] (3)،و جعل إسحاق بين يدي كلّ واحد منهم،خمسة آلاف دينار عينا،و شيئا كثيرا من الطيب،و الثياب،و حمل كلا منهم على فرس بمركب ذهب،و أعطاني كلّ واحد من الأزواج مالا مما دفع إليه،و أمر لي إسحاق بخمسمائة دينار،و خلعة،و طيب.
و أنفذ إليّ أمّهات البنات هدايا و أموالا جليلة،و شكرنني على تخليص بناتهنّ من القتل،و انقلبت تلك الغمّة فرحا.
فعدت إلى داري،و معي ما قيمته ثلاثة آلاف دينار و أكثر.
ص:7
ما خاب من استشار
[و حكى محمّد بن عبدوس الجهشياري،في كتاب الوزراء] (1):أنّ المنصور لمّا حجّ (2)،بعد تقليد المهدي العهد،و تقديمه فيه على عيسى بن موسى (3)،دفع عمّه عبد اللّه بن علي،إلى عيسى بن موسى (4)،ليعتقله،و أمره سرّا بقتله،و كان يونس بن أبي فروة يكتب لعيسى بن موسى.
فعزم عيسى على قتل عبد اللّه بن علي،ثم تعقّب الرأي،فدعا بيونس، فخبّره بالخبر،و شاوره.
فقال له يونس:نشدتك اللّه أن لا تفعل،فإنّه يريد أن[217 غ]يقتله بك،و يقتلك به،لأنّه أمرك بقتله سرّا،و يجحدك ذلك في العلانية،و لكن استره حيث لا يطلع عليه أحد،فإن طلبه منك علانية،دفعته إليه،و إيّاك أن تردّه إليه سرّا أبدا،بعد أن قد ظهر حصوله في يدك علانية،ففعل عيسى ذلك
و انصرف المنصور من حجّه،و عنده أنّ عيسى قد قتل عبد اللّه،فدسّ إلى عمومته،من يشير عليهم بمسألته في أخيهم عبد اللّه،فجاءوه يسألونه ذلك،فدعا بعيسى بن موسى،و سأله عنه بحضرتهم.
فدنا منه عيسى بن موسى،و قال له،فيما بينه و بينه:ألم تأمرني بقتله؟
ص:8
قال:معاذ اللّه،ما أمرتك بذلك،كذبت.
ثم أقبل على عمومته،فقال:هذا قد أقرّ بقتل عبد اللّه،و ادّعى عليّ أنّي أمرته بذلك،و قد كذب،فشأنكم به.
قال:فوثبوا عليه ليقتلوه،فلمّا رأى صورة أمره،صدق أبا جعفر،و أحضر عبد اللّه،فسلّمه إليه بمحضر من الجماعة.
فكان عيسى يشكر ليونس بن أبي فروة ذلك،مدّة عمره (1)
ص:9
منصور بن زياد يجحد نعمة يحيى البرمكي
[و ذكر في هذا الكتاب] (1):دعا الرشيد صالحا صاحب المصلّى (2)،حين تنكّر للبرامكة،فقال له:اخرج إلى منصور بن زياد (3)،فقل له:قد صحّت عليك عشرة آلاف ألف درهم،فاحملها إلينا في هذا اليوم،و انطلق معه،فإذا دفعها إليك كاملة[215 م]قبل مغيب الشمس،و إلاّ فاحمل رأسه إليّ،و إيّاك و مراجعتي في شيء من أمره.
قال صالح:فخرجت إلى منصور بن زياد،و عرّفته الخبر.
فقال:إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،ذهبت-و اللّه-نفسي،ثم حلف أنّه لا يعرف موضع ثلثمائة ألف درهم،فكيف عشرة آلاف ألف درهم.
فقال له صالح:فخذ في عملك.
فقال له:امض بي إلى منزلي،حتى أوصي،فمضى معه،فما هو إلاّ أن دخل منزله،حتى ارتفع الصياح من منازله و حجر نسائه،فأوصى،و خرج و ما فيه دم.
فقال لصالح:امض بنا إلى أبي علي يحيى بن خالد،لعلّ اللّه أن يأتينا بفرج من عنده،فمضى معه إلى يحيى و هو يبكي.
فقال له:ما وراءك؟
فقصّ عليه القصّة،فقلق يحيى لأمره،و أطرق مفكّرا،ثم دعا بخازنه،
ص:10
فقال له:كم عندك من المال؟
قال:خمسة آلاف ألف درهم.
فقال له:أحضرنيها،فأحضرها.
ثم وجّه إلى الفضل ابنه،يقول له:إنّك أعلمتني-فداك أبوك-أنّ عندك ألفي ألف درهم،تريد أن تشتري بها ضيعة،و قد وجدت لك ضيعة يبقى لك ذكرها،و تحمد ثمرتها،فوجه إليّ بالمال،فوجّه به.
ثم قال للرسول:امض إلى جعفر،و قل له:ابعث-فداك أبوك-إليّ ألف ألف درهم،لحقّ لزمني،فوجّه بها.
ثم قال لصالح:هذه ثمانية آلاف درهم،ثم أطرق إطراقة،لأنه لم يكن عنده شيء.
ثم رفع رأسه إلى خادم له،فقال:امض إلى دنانير (1)،فقل لها:وجّهي إليّ بالعقد الذي كان أمير المؤمنين وهبه لك.
قال:فجاء به فإذا بعقد في عظم الذراع،فقال لصالح:اشتريت هذا لأمير المؤمنين بمائة و عشرين ألف دينار،فوهبه لدنانير،و قد حسبته بألفي ألف درهم،و هذا تمام حقّك،فانصرف،و خلّ عن صاحبنا،فلا سبيل لك عليه.
قال صالح:فأخذت ذلك،و رددت منصورا معي،فلمّا صرت بالباب، أنشأ منصور يقول متمثّلا:
و ما بقيا عليّ تركتماني و لكن خفتما صرد (2)النبال
فقال صالح:ما على وجه الأرض أنبل من هذا الذي خرجنا من عنده،
ص:11
و لا سمعت بمثله فيما مضى من الدهر،و لا على وجه الأرض أخبث سريرة،و لا أكفر لنعمة،و لا أدنأ طبعا من هذا النبطيّ الذي لا يشكر من أعطاه،و وزن عنه هذا المال العظيم.
قال:و صرت إلى الرشيد،و قصصت عليه القصّة[37 ن]،و طويت عنه ما تمثّل به منصور،خوفا أن يقتله إذا سمع ذلك.
فقال الرشيد:قد علمت أنّه إن نجا فإنّما ينجو بأهل هذا البيت،أطلق الرجل،و اقبض المال،و اردد العقد،فإنّي لم أكن أهب هبة،و ترجع إلى مالي.
قال صالح:فلم أطب نفسا إلاّ بتعريف يحيى ما قاله منصور،فرجعت إليه و أطنبت في شكره،و وصف ما كان منه.
و قلت له:و لكنّك أنعمت على غير شاكر،قابل أكرم فعل،بألأم قول.
قال:فأخبرته بما كان،فجعل-و اللّه-يطلب له المعاذير،و يقول:يا أبا عليّ إنّ المنخوب القلب،ربما سبقه لسانه،بما ليس في ضميره.و قد كان الرجل في حال عظيمة.
فقلت:و اللّه،ما أدري من أيّ أمريك أعجب،من أوّله،أو من آخره، و لكنني أعلم أنّ الدهر لا يخلف مثلك أبدا (1).
ص:12
درس في المروءة و الكرم
قال محمّد بن عبدوس في كتابه الوزراء:حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن الوليد،قال:حدّثني (1)عليّ بن[216 م]عيسى القمّي (2)،و كان ضامنا لأعمال الخراج و الضياع ببلده (3)،فبقيت عليه أربعون ألف دينار.
و ألحّ المأمون في مطالبته،حتى قال لعليّ بن صالح،حاجبه (4):طالبه بالمال، و أنظره ثلاثة أيّام،فإن أحضر المال قبل انقضائها،و إلاّ فاضربه بالسياط، حتى يؤدّيها أو يتلف.
و كانت بين عليّ بن عيسى و غسّان بن عبّاد عداوة،فانصرف علي بن عيسى من دار المأمون آيسا من نفسه،لا يقدر على شيء من المال.
فقال له كاتبه:لو عرّجت على غسّان (5)،و أخبرته بخبرك،لرجوت أن
ص:13
يعينك على أمرك[208 ر].
[فقال:على ما بيني و بينه؟
قال:نعم،فإنّ الرجل أريحيّ كريم] (1).
قال:فحملته حاله على قبول ذلك،فدخل إلى غسّان،فقام إليه،و تلقّاه بجميل،و وفّاه حقّه.
[فقال له:إنّ الحال الذي بيني و بينك،لا يوجب ما أبديته من تكرمتي.
فقال:ذاك حيث تقع المنافسة عليه و المضايقة فيه،و الذي بيني و بينك بحاله،و لدخول داري حرمة توجب لك عليّ بلوغ ما ترجوه،فإن كانت لك حاجة فاذكرها] 6،فقصّ كاتبه عليه قصّته.
فقال غسّان:أرجو أن يكفيه اللّه تعالى[و لم يزد على هذا شيئا] (2).
فمضى علي بن عيسى،آيسا من نفسه،كاسف البال،نادما على قصده، و قال لكاتبه لمّا انصرف:ما أفدتني بقصد غسّان إلاّ تعجّل المهانة و الذلّ.
و تشاغل في طريقه بلقاء بعض إخوانه،و عاد إلى داره،فوجد على بابه بغالا عليها أربعون ألف دينار،مع رسول غسّان بن عبّاد،فأبلغه سلامه،و عرّفه غمّه بما دفع إليه،و سلّم إليه المال،و تقدّم إليه بحضور دار المأمون من غد ذلك اليوم.
فبكّر علي بن عيسى،[فوجد غسّان بن عبّاد قد سبقه إليها] 7،فلمّا وصل الناس إلى المأمون،مثل غسان بن عبّاد بين الصفّين،و قال:يا أمير المؤمنين إنّ لعليّ بن عيسى حرمة و خدمة،و سالف أصل،و لأمير المؤمنين عليه سالف إحسان، و قد لحقه من الخسران في ضمانه ما قد تعارفه الناس،و قد جرى عليه من حدّة المطالبة،و شدّتها،و الوعيد بضرب السياط إلى أن يتلف،ما حيّره،و قطعه
ص:14
[218 غ]عن الاحتيال فيما عليه من المال،فإن رأى أمير المؤمنين،أن يجريني على حسن عادته في كرمه،و يشفّعني في بعض ما عليه،و يضعه عنه،فعل.
قال:فلم يزل به بهذا و نحوه،حتى حطّه النصف،و اقتصر منه على عشرين ألف دينار.
قال غسّان:إن رأى أمير المؤمنين أن يجدّد عليه الضمان،و يشرّفه بخلع.
فأجابه المأمون إلى ذلك.
قال:فيأذن أمير المؤمنين،أن أحمل الدواة إليه،ليوقّع بذلك،و يبقى شرف حملها عليّ و على عقبي.
قال:افعل.
ففعل،و خرج علي بن عيسى،و التوقيع معه بذلك،و عليه الخلع.
فلمّا وصل إلى منزله،ردّ العشرين ألف دينار،إلى غسّان،و شكره.
فردّها غسّان،و قال:إنّي لم أستحطّها لنفسي،و إنّما أحببت توفيرها عليك، و استحططتها لك،و ليس-و اللّه-يعود شيء من المال إلى ملكي[أبدا.
و عرف عليّ بن عيسى،ما فعله معه غسّان،فلم يزل يخدمه إلى آخر العمر.] (1)
ص:15
القدرة تذهب الحفيظة
[وجدت في بعض كتبي بغير إسناد] (1).
حضر الشعبي (2)،عند مصعب بن الزبير (3)،و هو أمير الكوفة،و قد أتي بقوم،فأمر بضرب أعناقهم،فأخذوا ليقتلوا.
فقال له الشعبي:أيّها الأمير،إنّ أوّل من اتّخذ السجن كان حكيما، و أنت على العقوبة،اقدر منك على نزعها (4).
فأمر مصعب بحبس القوم،ثم نظر في أمرهم بعد،فوجدهم براء (5)، فأطلقهم (6).
ص:16
ما صحب السلطان أخبث
من عمر بن فرج الرخّجي
[قال محمّد بن عبدوس في كتاب الوزراء] (1)،حكي عن أبي عبد اللّه أحمد ابن أبي دؤاد،أنّه قال:
ما صحب السلطان أرجل (2)،و لا أخبث (3)من عمر بن فرج الرخّجي (4)، غضب عليه المعتصم يوما[217 م]و همّ بقتله،و أمر بإحضاره،فجاءوا به و قد نزف دمه.
فقال المعتصم:السيف،يا غلام،فجعلت ركبتا عمر تصطكّان.
فقلت:إن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن ذنبه،فلعلّه أن يخرج منه بعذر.
فقال له:يا ابن الفاعلة،أمرتك في ولد أبي طالب أن تتعرّف خبر منازلهم؟ قال:لا.
قال:فلم فعلت ذلك؟
قال عمر:إنّما فعلت ذلك لأنّه بلغني عن واحد منهم أنّ أهل قم (5)يكاتبونه،
ص:17
فأردت أن أعلم ما في الكتب الواردة عليه.
و جعل عمر في خلال ذلك يلمس البساط الذي كان تحت المعتصم،فزاد ذلك في غضبه.
و قال:يا ابن الفاعلة،ما شغلك ما أنت فيه عن لمس البساط،كانّك غير مكترث بما أريده بك؟
فقال:لا و اللّه-يا أمير المؤمنين-و لكنّ العبد يعنى من أمر سيّده،بكلّ شيء،على جميع الأحوال،فإنّي استخشنت هذا البساط،و ليس هو من بسط الخلافة.
فقال له:ويلك،هذا البساط ذكر محمّد بن عبد الملك أنّه قام علينا بخمسين ألف درهم.
فقال:يا سيّدي عندي خير منه قيمته سبعمائة دينار.
قال:فذهب عن المعتصم-و اللّه-ذلك الفور الذي كان به،و سكن غضبه.
و قال:[209 ر]وجّه الساعة من يحضره.
فجاء ببساط قد قام عليه-فيما أظنّ-بأكثر من خمسة آلاف دينار (1)، و استحسنه المعتصم،و استلانه.
و قال:هذا-و اللّه-أحسن من بساطنا،و أرخص،و قد أخذناه منك بما قام عليك.
و و اللّه ما برح ذلك اليوم،حتى نادمه،و خلع عليه.
ص:18
عمر بن فرج بن زياد الرخّجي:ذكرنا أصله و نسبته في ترجمة أبيه،في حاشية القصّة 129 من هذا الكتاب.
و كان عمر،و أبوه فرج،من شرار الخلق،تقلّد عمر الأهواز للمأمون،فسرق، و خان(القصّة 341 من هذا الكتاب)ثم تقلّد الديوان في أيّام المعتصم،و عزل(القصّة 379 من هذا الكتاب،و البصائر و الذخائر م 1 ص 54)ثم تقلّد الأهواز للمتوكّل (القصّة 2/2 من النشوار)و كان من أهل الرشا(القصّة 3/2 من النشوار)فاعتقله المتوكّل، و قبض ضياعه،و أمواله،و جواريه و كنّ مائة،ثم صولح على أن يؤدّي عشرة آلاف ألف درهم،على أن يردّ عليه ما حيز عنه من ضياع الأهواز فقط(الطبري 161/9 و الكامل لابن الأثير 39/7)ثم غضب عليه ثانية،فأمر بأن يصفع في كلّ يوم،فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة،و ألبس جبّة صوف،ثم سخط عليه آخر مرّة فأحدره إلى بغداد، فأقام بها إلى أن مات(مروج الذهب 403/2).
و كان عمر من المعروفين ببغض الإمام علي و أهل بيته(ابن الأثير 56/7)،و كان يتبرّع بالتجسّس على العلويّين(البصائر و الذخائر م 3 ق 1 ص 319 و هذه القصّة)، و عرف المتوكّل فيه ذلك،فولاّه أمر الطالبيّين،فعسفهم،و أخذ يحيى بن عمر،فضربه ثماني عشرة مقرعة،و حبسه في المطبق،فاضطرّه بذلك إلى الخروج،فخرج بالكوفة، و قتل بعد معارك عنيفة(الطبري 182/9 و 266-271 و الكامل لابن الأثير 126/7-130).
ثم استعمله المتوكّل على مكّة و المدينة،فمنع آل أبي طالب أرزاقهم و عطاءهم،و منعهم من التعرّض لمسألة الناس،و منع الناس من البرّ بهم،و كان لا يبلغه أنّ أحدا،برّ أحدا منهم بشيء إلاّ أنهكه عقوبة،و أثقله غرما،حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويّات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة،ثم يرفعنه،و يجلسن على مغازلهنّ،عواري، حواسر،إلى أن قتل المتوكّل،فعطف المنتصر عليهم،و أحسن إليهم(مقاتل الطالبيّين 599).
و وصفت للمتوكّل عائشة بنت عمر بن فرج الرخّجي،فوجّه في جوف الليل،و السماء تهطل،إلى عمر،أن احمل إليّ عائشة،فسأله أن يصفح عنها فإنّها القيّمة بأمره،فأبى، فانصرف عمر،و هو يقول:اللهمّ قني شرّ عبدك جعفر،ثم حملها بالليل،فوطئها، ثم ردّها إلى منزل أبيها(المحاسن و الأضداد للجاحظ 118)،و كذلك نولّي بعض الظالمين بعضا،بما كانوا يكسبون(129 ك الأنعام 6).
ص:19
مصعب بن الزبير يعفو عن أحد أسراه
و يجعله من ندمائه
و قرأت في بعض الكتب:
أنّ مصعب بن الزبير،أخذ رجلا من أصحاب المختار بن أبي عبيد (1)، فأمر بضرب عنقه.
فقال:أيّها الأمير،ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة،و وجهك هذا الجميل الذي يستضاء به،فأتعلّق بك،ثم أقول:
يا ربّ،سل مصعبا فيم قتلني؟
فقال له مصعب:قد عفوت عنك.
فقال:أيّها الأمير اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض عيش،فإنّه لا عيش لفقير.
فقال:ردّوا عليه عطاءه،و أعطوه مائة ألف درهم.
ص:20
قال:أشهد اللّه،أنّي قد جعلت نصفها لابن قيس الرقيّات.
قال:لم؟
قال لقوله:
إنّما مصعب شهاب من الل ه تجلّت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه جبروت منه و لا كبرياء
يتّقي اللّه في الأمور و قد أف لح من كان همّه الاتّقاء
فضحك مصعب،و قال:أرى فيك للصنيعة موضعا،و جعله من ندمائه، و أحسن صلته (1).
ص:21
عمارة بن حمزة في كرمه و كبريائه
و حكي أنّه قيل للفضل بن يحيى بن خالد البرمكي،قد أفسدت جودك بكبرك،فقال[219 غ]:
و اللّه ما لي حيلة في النزوع عنه،و ما كان سبب حصوله فيّ إلاّ أنّني حملت نفسي عليه،لما رأيت من عمارة بن حمزة (1)،فتشبّهت به،فصار طبعا،و لا أقدر على الإقلاع عنه.
و ذلك إنّ أبي كان يضمن فارس من المهدي،فحلّت عليه ألف ألف درهم.
و كان المهدي قد ساء رأيه فيه،فحرّك ذلك ما كان في نفسه،و أمر أبا عون [عبد الملك بن يزيد] (2)،أن يأخذ أبي،فيطالبه بالمال،فإن غربت الشمس في يومه ذاك،و لم يصحّح جميعه،أو بقي درهم منه،أتاه برأسه من غير [218 م]أن يستأذنه أو يراجعه.
قال:فأخذه أبو عون،فاستدعاني،و قال:يا بنيّ،قد ترى ما نحن فيه، فلا تدعوا في منازلكم شيئا إلاّ أحضرتموه.
ص:22
قال:فجمعنا كلّ ما في منازلنا،من صامت و غيره،فلم يبلغ عشر المال.
فقال:يا بنيّ،إن كانت لنا حيلة في الحياة،فمن قبل عمارة بن حمزة، و إلاّ فأنا مقتول العشيّة،فالقه،و اذكر له الصورة.
فمضيت إلى بابه،فاستؤذن لي عليه.
فدخلت،و هو مضطجع قد غاص في فرش له،ما يكاد يبين إلاّ وجهه، فو اللّه ما تحرّك،و سلّمت،فأومأ إليّ بالجلوس،فجلست بعيدا منه،فلم يعرني الطرف.
فانكسرت نفسي،و قلت:أيّ خير عند من هذا لقاؤه،و هذا عنوان أمره، فأمسكت لا أتكلّم،مفكّرا في الكلام،أو القيام،فقال:اذكر حاجة إن كنت أتيت لها.
فقصصت عليه القصّة،فو اللّه ما أجابني بحرف،أكثر من قوله:إمض، فإنّ اللّه يكفيك.
فقمت متحيّرا،أجرّ رجلي،لا أشكّ في أنّه قد آيسني،و قلت:إن عدت إلى أبي بهذا الجواب مات غمّا قبل ضرب العنق.
فتوقّفت ساعة،لا أدري ما أصنع،ثم قلت:على كلّ حال،أمضي إليه فأونّسه،فإن كانت له حيلة أخرى شرعنا فيها قبل انصرام النهار.
فجئت،فوجدت على الباب بغالا كثيرة محمّلة.
فقلت لمن معها:من أنتم؟
قالوا:أنفذنا عمارة إليكم بمال على هذه البغال.
فدخلت،فعرّفت أبي بما جرى لي،و أخذنا المال فصحّحناه،و ما صلّيت العصر حتى عرف المهدي الصورة،و أفرج عن أبي[210 ر]و كان ذلك سبب رضاه عنه،و صلاح نيّته له.
فلمّا كان بعد شهرين،ورد لنا من فارس مال عظيم كثير،فقال لي أبي:
ص:23
خذ هذا المال،و امض به إلى عمارة،و اشكره،و ردّه عليه.
فحملت المال على بغال،و مضيت به إلى بابه.
فوقفت،حتى استؤذن لي،فدخلت،و هو على فرشه،فما زادني على ما عاملني به أوّلا،و لا نقصني.
فشكرته عن أبي،و دعوت له،و عرّفته إحضاري المال،و سألته الأمر بقبضه.
فقال لي:أ كنت قسطارا (1)لأبيك،أقرضه،و أرتجع منه؟
فقلت:لا،و لكن أحييته،و حقنت دمه،و مننت عليه،و ما أحبّ أن يتغنّمك،فلمّا حصل له المال،أنفذه.
فقال:أمّا إذ ردّه أبوك،فقد وهبته لك،خذه و انصرف.
فقمت،و قد أعطاني ما لم يعط أحد أحدا.
فجئت إلى أبي فعرّفته ما جرى،فقال:لا و اللّه-يا بنيّ-ما تطيب لك به نفسي كلّه و لكن خذ منه مائتي ألف درهم،فأعطانيها،و هي أوّل مال جاءني كثيرا مجتمعا،و هي أصل نعمتي.
فتعلّمت من عمارة الجود و الكبر معا،فصارا لي طبعا.[220 غ]
ص:24
الهائم الراوية يقتل أسودا مصابا بداء الكلب
و حدّثني الهائم الراوية (1)،قال:
كنت أسير من الشام،أريد العراق،فلمّا انتهيت إلى قرية في بعض الطريق،لقيني خراسانيّ معه مخلاة.
فقال:أين تريد؟
فقلت:بغداد.
فقال:أنا رفيقك،فاصطحبنا و سرنا إلى قرية خراب على شاطىء الفرات في بريّة الشام.
فرأينا على باب القرية رجلا أسود،منكر الخلقة،عريانا،لا يواريه شيء البتّة[219 م]،فعدا مجفلا عنّا.
فدخلنا القرية،و جلسنا في دار خراب على شاطىء الفرات،و أخرجنا زادا [39 ن]كان معنا،و أقبلنا نأكل.
فرأينا الحجارة تجيئنا متداركة (2)،حتى خفنا أن نهلك بها،و ما تمالكنا أن نقوم إلاّ بجهد.
ص:25
و تأمّلنا أمرنا،فرأينا الأسود يرجمنا،فطلبناه،و طلبنا.
فلمّا تداخلنا،رام الأسود أن يقبض عليّ،فزغت منه،فقبض على الخراساني،و كان الخراساني أيّدا،فما زالا يتعاركان ساعة طويلة،ثم انكبّ الأسود على كتف الخراسانيّ فعضّه.
فصاح الخراسانيّ:يا بغداديّ أدركني،فقد قتلني.
فدنوت من خلف الأسود فقبضت على خصيتيه،و لكمتها لكمات شديدة فخرّ مغشيا عليه،و قام الخراساني،فجلس على صدره،و خنقه بيده حتى تلف.
و سرنا،و الخراساني يصيح من ألم العضّة،حتى انتهينا إلى حيال قرية عامرة.
فصحنا بملاّح،فقدّم (1)زورقه لنعبر إلى القرية،فطرح الخراساني نفسه على الشطّ كالتالف.
فشجّعته،و قلت له:مالك؟و أيّ شيء قدر عضّة؟
فقال: ويحك أنظر إليها،فنظرت إليها،فإذا هي قد أخذت كتفه كلّها، و اسودّت،و احمرّ بدنه كلّه.
فحملته أنا و الملاّح،حتى حصّلناه في الزورق،و عبرنا،فلمّا صرنا بقرب الشطّ،تلف،فأخرجناه ميتا.
فاجتمع أهل القرية و سألوا عن شأنه،فحدّثتهم الحديث.
ص:26
فقالوا:قد فتحتم فتحا،[و قد سلّمك اللّه أنت،و أراحنا من ذلك العبد] (1)هذا عبد آل فلان،أصابه داء الكلب و تغرّب في تلك الخرابات،و قد قتل خلقا بالعضّ.
قال:و تبادر قوم منهم يريدون الموضع للنظر للأسود،و سرت أنا في طريقي، و حمدت اللّه تعالى على سلامتي من الأسود.
ص:27
بمائتي ألف دينار (1)،فأدّيت أكثرها من غير أن أبيع شيئا من أملاكي الظاهرة.
فلمّا قاربت وفاءها (2)،استحضرني أحمد بن عليّ الكوفي (3)كاتبه[و كانت له مروءة] (4)،و أخذ[77 ن]يخاطبني بكلام طويل،هو تقدمة و اعتذار لشيء يريد أن يخاطبني به.
فقلت له:يا سيّدي ما تريد؟و ما بك حاجة إلى التسبّب،فإنّي بمودّتك واثق.
فقال:إنّ هذا الرجل-يعني بجكم-قد رجع عليك في صلحك،و طمع فيك،و طالبني أن آخذ منك مائتي ألف دينار أخرى،و و اللّه،ما هذا عن رأيي، و لا لي فيه مدخل،[و لا هو من فعلي] (5)و لو قدرت على إزالته عنك لفعلت.
قال:فأخذت أحلف له أنّي لا أهتدي إليها،و لا إلى عشرها،و أنّ[273 غ] النكبة قد استنفدت مالي،و لم يبق لي شيء،إلاّ داري،وضيعتي،و أنا أسمّيهما، و لا أكتم شيئا منهما،و أخرج له عنهما،ليهب لي روحي.
قال:فطال الخطاب بيننا،فلمّا قام في نفسه صدقي،فكّر طويلا.
ثم قال:يا سيّدي،هذا رجل أعجميّ،و عنده أنّ وراءك أضعاف هذا المال،و أنّ فيك من الفضل ما يصلح لقلب دولته عليه،و أنت-و اللّه-معه في طريق القتل،إلاّ أن يكفيك اللّه عزّ و جلّ،و و اللّه،ما أحبّ أن يجري مثل هذا
ص:29
على يدي،و لا في أيّامي،فيلزمني عاره إلى الأبد،و أجسّره على قتل كتّابه، فدبّر خلاصك.
فتحيّرت،ثم سكنت،و قلت له (1):تعطيني ميثاقك،و تحلف لي أنّ سرّك في محبّة خلاصي كعلانيتك،حتى أقول لك ما عندي؟ففعل.
فحلفت له أنّي قد صدقته،و أنّني لا أمتنع مما يجريه عليّ[من بعد هذا اليمين، و لو شاء منّي أن أفتح دواتي،و أكتب بين يديه.
و قلت له:أنت وقتك مقبل،و وقتي مدبر،و أنت فارغ القلب،و أنا ذاهل بالمحنة،فدبّر أمري الآن كيف شئت،فإنّه ينفتح لك بهاتين الخلّتين،ما قد استبهم عليّ] (2).
قال:ففكّر،ثم قال:أنا إن آيست هذا الرجل من مالك،لم آمنه على دمك،و إن أطمعته في مالك،و ليس لك ما تعلّله به،أدّت بك المطالبة إلى التلف،و لكنّ الصواب عندي أن أطمعه في ضيعتك،[و أصف له جلالتها] (3)فأشتريها له منك،و أقول له:[إنّ ضياع السواد الخراجيّة،قد أجمع شيوخ الكتّاب بالحضرة،قديما و حديثا،على أنّ كلّ ما كان منه غلّته درهم،فقيمته أربعة دراهم،و أبو جعفر يقول:] (4)إنّ غلّة الضيعة-بعد الخراج-خمسة و عشرون ألف دينار،و إنّه يضمنها بذلك،حاصلا،خالصا،بعد الخراج و المؤن،و يقيم بذلك كفلاء،فاشترها منه بمائتي ألف دينار كملا،و يحصل لعقبك ملك جليل،و هو مع هذا يؤدّي باقي المصادرة الأولى،و تصير ضامنا للضيعة،فأدفعها إليك،و من ساعة إلى ساعة فرج،و أنا أحتال بحيلة في أن
ص:30
يكون الكتاب عندي،فلا أسلمه إليه،فلعلّ حادثة تحدث،و ترجع إليك ضيعتك،و تكون بالعاجل قد تخلّصت،و سلم دمك أربع سنين.
قال:فعلمت أنّه قد نصحني،و آثر خلاصي،و أجبت.
فدخل إلى بجكم،و لم يزل معه في محادثات،إلى أن تقرّر الأمر على ما قاولني عليه،و أحضر الشهود،و كتب عليّ الكتاب بالابتياع،و الكتاب بالإجازة.
و قال لي:ألوجه أن تقيم كفلاء ببقيّة المصادرة الأولى،فقد استأذنته في صرفك إلى منزلك،و إذا انصرفت،فانضمّ،و لا يراك أحد،و كن متحذّرا، و لا تظهر أنّك مستتر،فتغريه بك.
قال:فشكرته،و أقمت الكفلاء بالمال،إلى أيّام معلومة،فصرفني.
فعدت إلى داري،و كنت متحذّرا،أجلس في كلّ يوم،فيدخل إليّ بعض الناس،بمقدار ما يعلم أنّي بداري،فإذا كان نصف النهار،خرجت إلى منازل إخواني،و أقمت يوما عند هذا،[256 ر]و يوما عند الآخر،و راعيت أخبار داري،أتوقّع أن يجيئها من يكبسها،فأكون بحيث لا يعرف خبري، فأنجو.
فطال ذلك،و السلامة مستمرّة،و انحدر بجكم إلى واسط،فأنست بالجلوس و الاستقرار في داري.
فلمّا كان[274 غ]في بعض الأيّام،ضاق صدري ضيقا لا أعرف سببه، و استوحشت،و فكّرت في أمري،و قلت:إن كبست على غفلة،فما ذا أصنع؟
قال:و كان لداري أربعة عشر بابا،إلى أربعة عشر سكّة،و شارعا، و زقاقا نافذا،و منها عدّة أبواب لا يعرف جيرانها أنّها تفضي إلى داري،و أكثرها عليه الأبواب الحديد (1).
ص:31
قال:فتراءى لي،أن أرسلت إلى غلماني المقاتلة،و كانوا متفرّقين عنّي، قد صرفتهم لئلاّ يصير لي حديث،فجاءوني،و اجتمع منهم،و من أولادهم، نحو ثلثمائة غلام.
فقلت لهم:إذا كان الليلة فاحضروا جميعا بسلاحكم،و بيتوا عندي ليلا، و أقيموا نهارا،إلى أن أدبّر أمري.
قال:ففعلوا ذلك،و فرّقتهم في الحجر المقاربة للمجلس الذي كنت أجلس فيه،و قلت:إن كبست،فشاغلوا عنّي من يطلبني،لأنجو.
قال:و كنت أدبّر كيف أعمل في قلب الدولة،أو استصلاح بجكم،فلم يقع لي الرأي،و لا أجد إلى ذلك طريقا.
و كنت أوصيت بوّابي،أن يغلق بابي المعلوم للناس،و لا يفتحه لأحد من خلق اللّه،إلاّ بأمري.
و أجلست غلاما كان يحجبني في أيّام الدولة،و معه عشرون غلاما بسلاح خلف الباب،و أمرته أن لا يفتح لأحد.
فما مضى لهذا إلاّ يومان أو ثلاثة،حتى جاءني حاجبي،و قال:قد دقّ الباب.
فقلت:من الطارق؟
فقال:أنا غلام محمّد بن ينال الترجمان،و هو و أبو بكر النقيب (1)بالباب، يستأذنان على سيّدنا بالدخول.
ص:32
فقلت في نفسي:بليّة و اللّه.
و أمرت الغلمان،فاجتمعوا بأسرهم،متسلّحين،في بيت له قبّة كبيرة، كنت جالسا في أحد أروقته،و أمرتهم أن لا ينبسوا بكلمة.
و قلت للحاجب:اصعد إلى السطح،فانظر ما ترى،و أخبرني به،ففعل.
و عاد،فقال:رأيت الشارع مملوءا بالخيل و الرجال،و قد أحاطوا بالدار من جنبات كثيرة،و لمّا رأوني أراقبهم تنحّيت.
فصاح بي الترجمان،قائلا:كلّمني،و ما عليك بأس.
فأخرجت رأسي،فقال:ويحك،ما جئنا لمكروه،و ما جئنا إلاّ لبشارة، فعرّف سيّدنا بذلك.
فقلت:ليس هو في الدار،و لكن أراسله،ثم أخبر الأمير أيّده اللّه، في غد،برسول إلى داره.
فقال:أنا ها هنا واقف ساعة،إلى أن يرى[78 ن]رأيه.
ففكّرت،و قلت:هذه حيلة للقبض عليّ،لا شكّ في ذلك.
ثم رجعت،فقلت:يجوز أن يكون بجكم،قد تغيّر على الكوفي،و لا يجد لخدمته غيري،و اعترضني الطمع،و كاد أن يفسد رأيي.
ثم قلت للغلمان:إن قلت لكم اخرجوا،فضعوا على أبي بكر النقيب، و الترجمان (1)أيديكم،فاخرجوا و خذوا رأسيهما،و لا تستأذنوا البتّة،فأجابوا.
فقلت:احذروا أن تخالفوا فأهلك.
فقالوا:نعم.
ثم قلت للحاجب:اطلع السطح،و قل له:إنّي على حال من إختلال الفرش و الكسوة،لا أحبّ معه دخول أحد إليّ،فإن رضيت أن تدخل أنت و أبو بكر النقيب فقط،و إلاّ فأنا أصلح أمري و أجيء إلى دارك الليلة.
ص:33
قال:فعاد الغلام،و قال:كلّمته،فقال:رضينا بذلك.
فقلت:يا فلان،أخرج،و احذر أن يفتح الباب كلّه فتدخل الجماعة، و أرى أن تقول له،أن يتباعد عن الباب إلى الشارع قليلا،[و ينزل،و يقصده هو و أبو بكر النقيب فقط،و اجعل في الدهليز نفسين يمسكان الباب من نقاوة الغلمان.
فقال:نعم.
ثم قمت بنفسي،فأغلقت باب حديد كان بين[275 غ]صحن الدار و الدهليز،و جعلت خلفه جماعة غلمان بالسلاح.
و قلت:قل لهما أن يدخلا،و افتح من الباب الذي على الشارع قليلا] (1)
فإن ازدحم الناس،و تكاثروا،فهي حيلة،فدعهم يدخلون،و صح:ما هذا؟فأعلم أنّها حيلة،فأخرج من بعض الأبواب،أمّا هم فيفضون إلى هذا الباب،و هو مقفل،و وراءه الغلمان.
و إن حضرا وحيدين،فقل لهما:الشرط أن أقفل الباب[من وراء ظهر يكما] 16بينكما و بين أصحابكما،ثم افتح الباب الذي يلي الشارع،حتى يدخلان، ثم اقفله،و ارم مفاتيحه من تحت الباب الثاني إلينا إلى الصحن،و دقّ هذا الباب،فإنّي واقف وراءه،لأتقدّم بفتحه،فيدخلان.
ففعل الحاجب ذلك،و حصل أبو بكر[257 ر]النقيب و الترجمان في الدهليز وحيدين.
فلمّا سمعت صوت قفل الباب الخارجيّ،و أنا عند الباب الداخليّ،و دقّ الحاجب الباب الثاني،و رمى بالمفتاح،عدت إلى مجلسي،فجلست فيه، و نحّيت من كنت أقمته وراء الباب الثاني بالسلاح،و أعدت عليهم الوصيّة بقتلهما إن صحت:يا غلمان اخرجوا.
ص:34
ثم تقدّمت إلى غلام لي كان واقفا بلا سلاح (1)،أن يفتح الباب،و يدخلهما، ففعل ذلك.
و ألقيت نفسي على الفراش كأنّي عليل،و دخلا،فلم أوفّهما الحقّ، و أخفيت كلامي،كما يفعل العليل.
فقالا:أيش خبرك؟
فقلت:أنا منذ أيّام عليل،و ارتعت بحضور كما.
فأخذ الترجمان يحلف أنّه ما حضر إلاّ ليردّني إلى منزلتي،و استكتابي لبجكم، فشكرته على ذلك.
و قلت:أنا تائب من التصرّف،و لا أصلح له.
فقال:قد أمرني الأمير بمخاطبتك في الخروج إليه،إلى واسط،لتقرير هذا الأمر،و لا يجوز أن أكتب إليه بمثل هذا عنك،و لكن إذا كنت زاهدا في الحقيقة،فاخرج إليه،و أحدث بخدمته عهدا،و استعفه،فإنّه لا يجبرك.
فقلت:هل كاتبني بشيء توصله إليّ.
فقال:لا،و لكنّه اقتصر على ما كتب به إليّ،لعلمه بمودّتي لك،و لئلا يفشو الخبر.
فقلت:تقفني على كتابه إليك.
فقال:لم أحمله معي.
فعلمت أنّه قد كوتب بالقبض عليّ،و أنّه يتوصّل بالحيلة لتحصيلي.
فقلت:أنا عليل كما ترى،و لا فضل فيّ للسفر،و لكن تجيب الأمير أطال اللّه بقاءه بالسمع و الطاعة،و أنّي أخرج بعد أسبوع،إذا استقللت قليلا.
فقال:يقبح هذا،و الوجه أن تخرج.
فقلت:لا أقدر.
ص:35
فراجعني،و راجعته،إلى أن قال:لا بدّ من خروجك.
فقلت:إنّي لا أخرج.
فقال:تخرج طائعا أو كارها.
فجلست،و ظهر[220 م]فيّ أثر الاحتداد مع القدرة،و قلت:إنّي لا أخرج،و لا كرامة لك،فاجهد جهدك،و ذهبت لأصيح بالغلمان.
و كان أبو بكر النقيب خبيثا،فقال:أسأل سيّدنا باللّه العظيم أن لا يتكلّم بحرف،و يدعني و هذا الأمر.
ثم أخذ بيد الترجمان و قاما إلى ناحية في المجلس بعيدة،لا أسمع ما يجري بينهما،فأطالا السرار،ثم جاءا إليّ.
فأخذ أبو بكر يعتذر إليّ مما جرى،و يخاطبني باللين،و يقول:فبعد كم يخرج سيّدنا؟حتى نقتنع بوعده،و ننصرف.
فقلت:بعد عشرة أيّام.
فقال:قد رضينا.
فأخذ الترجمان[ينزق (1)عليّ في الكلام،و أبو بكر يغمزه،و يرفق به.
فلمّا بلغا إلى قريب من الدهليز،رجع أبو بكر،و جرّ الترجمان،معه] (2)، و قال:هذا ليس يعرفك حقّ معرفتك،و عنده أنّه يقدر يستوفي عليك الحجّة، فباللّه إلاّ ما عرّفته[276 غ]ما كان في نفسك أن تعمله بنا،لو استوفينا عليك المطالبة،لئلاّ أقع في مكروه معه و مع الأمير.
فقلت في نفسي:أنا أريد الهرب الساعة،فما معنى مساترتي لهما ما أردت أن أفعله،و لم لا أظهره ليكون أهيب في نفوسهما؟
فقلت للغلام الذي كان واقفا على رأسي بلا سلاح:إمض إلى أصحابنا،
ص:36
و قل لهم أن يخرجوا،و لا يعملوا ما كنت قلت لهم.
فمضى الغلام،و فتح الباب عليهم،و قال:أخرجوا،و لا تحدثوا على القوم حادثة،فخرج القوم بالسلاح.
فقلت:هؤلاء أعددتهم لدفعكما عن نفسي،إن رمتما قسري على ما لا أوثره.
قال:فمات الترجمان في جلده،و اصفرّ و تحيّر (1).
فقال له أبو بكر:أنت تظنّ أنّك بالجبل (2)،و ليس تعلم بين يدي من أنت الآن؟عرفت أنّ الرأي كان في يدي،لا في يدك؟و اللّه،لو زدت في المعنى،لخرج هؤلاء فأخذوا رأسك و رأسي.
فقلت:معاذ اللّه،و لكن كانوا يمنعوكما من أذاي.
ثم قلت للغلمان:كونوا معهما،إلى أن يخرجا،و تغلقوا الأبواب خلفهما، ففعلوا.
و قمت في الحال فلبست خفّا و إزارا على صورة النساء،و استصحبت جماعة من عجائز داري،و خرجت معهنّ من باب من تلك الأبواب الخفيّة،متحيّرا، لا أدري أين أقصد.
فقصدت عدّة مواضع،كلّما قصدت موضعا،علمت أنّه لا يحملني، فأتجاوزه،إلى أن كدّني المشي،[258 ر]و قربت من الرصافة،فعنّ لي أن أقصد خالة المقتدر (3)،و أطرح نفسي عليها.
فصرفت جميع من كان معي،إلاّ واحدة،و قصدت دار الخالة،و دخلت دهليزها.
ص:37
فقام إليّ الخادم،و قال:من أقول؟
فقالت العجوز:امرأة لا تحبّ أن تسمّي نفسها،فدخل و إذا بالخالة قد خرجت إلى الدهليز.
فقالت لها الامرأة:يا ستّي،تأمرين الخادم بالانصراف،فأمرته،فانصرف.
فكشفت وجهي،و قلت:يا ستّي (1)[79 ن]،اللّه،اللّه في دمي،اشتريني، فقالت:يا أبا جعفر،ما الخبر؟
فقلت:أدخليني،أحدّثك.
فقالت:كن مكانك،فإنّي قد علمت أنّك ما جئتني إلاّ مستترا.
ثم دخلت،فأبطأت،حتى قلت:قد كرهت دخولي،و ستخرج إليّ من يصرفني،و تعتذر،و هممت بالانصراف.
و إذا بها قد خرجت،ثم قالت:أرعبتك بالانتظار،و ما كان ذلك إلاّ عن احتياط لك،فادخل.
فدخلت فإذا دارها الأولى-على عظمها-فارغة،ما فيها أحد.
فسلكت بي،و بالمرأة العجوز،إلى موضع من الدار،فدخلت إلى حجرة، فأقفلتها بيدها،و مشت بين أيدينا،حتى انتهت بنا إلى سرداب،فأنزلتنا فيه، و مشينا فيه طويلا،و هي بين أيدينا،حتى صعدت منه إلى درجة طويلة،أفضت بنا إلى دار في نهاية الحسن و السرو،و فيها من[221 م]الفرش،و الآلات، كلّ شيء حسن.
و قالت:إنّما احتبست عنك،حتى أصلحت لك هذه الدار،و أخليت الأولى،حتى لا يراك الذين كانوا فيها،فيعرف خبرك،[فعرّفني قصتك.
فذكرتها لها،من أوّلها إلى آخرها.
فقالت:] (2)اجلس ها هنا ما شئت،فو اللّه،إنّك تسرّني بذلك،فاحفظ
ص:38
نفسك من أن ينتشر خبرك من جهتك،فليس معي من جهتي من يدخل عليك [277 غ]أو يخرج منك،فتهلك نفسك،و تهلكني،فإنّك تعلم أنّ هذا الرجل ظالم جاهل،لا يعرف حقّ مثلي.
فقلت:ما معي غير هذه العجوز،و لست أدعها تخرج.
فقالت:هذا هو الصواب.
فأقمت عندها مدّة،فكانت تجيئني كلّ يوم،و تعرّفني أخبار الدنيا، و تحادثني ساعة،و تنصرف،و تحمل إليّ كل شيء فاخر،من المأكول،و المشروب، و البخور،و أخدم بما لم أخدم بمثله في أيّام دولتي.
فلمّا كان في غداة يوم بعد حصولي عندها،قالت:يا أبا جعفر،أنت وحدك،و ليس يصلح أن يخدمك كلّ أحد،و قد حملت إليك هذه الجارية -و أومأت إلى وصيفة كانت معها،في نهاية الحسن و الجمال-فاستخدمها، و إنّها تقوم مقام فرّاشة،و قد أهديتها لك،و إن احتجت إلى ما يحتاج إليه الرجال،صلحت لذلك أيضا.
فقبلت ذلك،و شكرتها،[و دعوت لها](24).
و تأمّلت (1)الجارية،فإذا هي تغنّي أحسن غناء و أطيبه،فكان عيشي معها أطيب من عيشي أيّام الدولة.
و مضى على استتاري نحو شهرين،لا يخرج من عندي أحد،و لا يدخل إليّ غير الجارية.
فقلت لها يوما:قد تطلّعت نفسي إلى معرفة الأخبار،و إنفاذ هذه العجوز إلى من تتعرّف ذلك منه.
فقالت:افعل،و احتفظ جهدك.
فكتبت مع العجوز كتابا إلى وكيل لي أثق به،آمره أن يتعرّف لي الأخبار،
ص:39
و يكتب إليّ بها مع العجوز.
و رسمت له أن ينفذ طيورا مع غلام أسميته له و كنت به واثقا من دون سائر غلماني،و يأمره بالمقام بواسط،و المكاتبة على الطيور في كلّ يوم بالأخبار (1)، و أن يكتب عنّي إلى جماعة بواسط-كنت أثق بهم-بأن يمدّوا الغلام بالأخبار.
و رسمت للعجوز أن لا تعرّف الوكيل موضعي،لئلاّ يظهر شيء من الأمر، و يقع الوكيل،و يطالب بي،فيدلّ عليّ.
فعاد الجواب إليّ،بما عنده[259 ر]من الأخبار،و أنّه لا ينقضي يومه، حتى ينفذ الغلام و الطيور.
فأمهلته عشرة أيّام،ثم رددت العجوز،فأنفذ لي على يدها،كتبا وردت على الطيور،فقرأتها،و مضى على ذلك مدّة.
فأصبحت يوما و أنا على نهاية النشاط،و السرور،و الانبساط،من غير سبب أعرفه،فقلت للعجوز:امضي إلى فلان،و اعرفي هل ورد عليه كتاب من واسط؟
فمضت العجوز إلى الوكيل،فهي عنده،إذ سقط عليه طائر بكتاب، فحلّه،و سلّمه إليها،من غير أن يقف عليه.
فجاءتني به،فإذا هو من الغلام المرتّب بواسط،بتاريخ يومه،[و أكثره رطب،كتب في الحال] (2)يذكر فيه ورود الأخبار إلى واسط،بقتل الأكراد لبجكم (3)،و أنّ الناس قد اختلطوا و ماجوا.
ص:40
فقّبلت الأرض شكرا للّه عزّ و جلّ،و كتبت في الحال إلى الكوفي رقعة أشكره فيها على[278 غ]جميله،و أعرّفه أنّي ما طويت خبري عنه إلى الآن، إلاّ إشفاقا عليه من أن يسأل عنّي،فيكون متى حلف أنّه لا يعرف خبري،صادقا، و أنّ أقلّ حقوق ما عاملني به،أن أعرّفه ما يجب أن يتحرّز منه،و ذكرت له ما ورد من الخبر،و أشرت عليه بالاستتار.
و أنفذت رقعتي إليه بذلك،طيّ رقعتي إلى الوكيل،و أمرته أن يمضي بها في الوقت إليه.
و قلت للعجوز:إذا مضى الوكيل فارجعي أنت،و لا تقعدي في دار الوكيل.
فعادت،و عرّفتني أنّ الوكيل توجّه إلى الكوفي.
فلمّا كان بين العشاءين من[222 م]ذلك اليوم رددتها إلى الوكيل،و قلت لها:اطرقي بابه،فإن كان في بيته،على حال سلامة فادخلي،و إن بان لك أنّه معتقل،أو أنّ داره موكّل بها،فانصرفي و لا تدخلي.
فعادت إليّ برقعة الوكيل،و طيّها رقعة من أبي عبد اللّه الكوفي.
و في رقعة الوكيل:إنّه حين أوصل الرقعة إلى الكوفي،بان له في وجهه الاضطراب،و إنّه ما صلّى العصر في ذلك اليوم،حتى امتلأ البلد بأنّ الكوفي قد استتر،و أنّ بجكم قد حدثت به حادثة لا ندري ما هي،و قد عدت بعد العصر إلى دار الكوفي،فوجدتها مغلقة،و ليس عليها أحد،و إنّي قد أنفذت جواب الكوفيّ طيّ رقعتي.
و قرأت رقعة الكوفي،فإذا هو يشكرني،و يقول:[قد علمت أنّ مثلك يا سيّدي لا يفتعل مثل هذا الخبر،و لا يضيع مروءته،و أنّ مثله يجوز أن يكون صحيحا،و قد تشاغل الذين مع الأمير بالهرب،عن أن يكتبوا لي بالحادث، و كتب به من رتّبته أنت،كما ذكرت في رقعتك،فأوجب الرأي أن أستظهر لنفسي،فإن كان الخبر صحيحا،و هو عندي صحيح،فالرأي معي،و إن
ص:41
كان باطلا،فلا يضرّني ذلك عند صاحبي إن كان حيّا،لأنّه يتصورني جبانا لا غير،فيكون أسلم في العاجل] (1).
و قد أنفذت إليك-يا سيّدي-طيّ رقعتي هذه،الكتابين اللذين كتبتهما عليك في ضيعتك بالابتياع و الإجارة،ابتغاء إتمام مودّتك،و لتعلم صدقي فيما كنت توسّطته،و نصحي فيما عاملتك به،فإن كان موت الرجل صحيحا، فقد رجعت إليك ضيعتك،و إن كان باطلا فإنّه لا يسألني عنهما،و لا يذكرهما، و إن ذكرهما جحدت أنّي تسلّمتهما،و قضيت[80 ن]حقّك بذلك،و أعدت نعمتك عليك.
قال:و إذا بالكتابين في طيّ الرقعة،فمزّقتهما في الحال.
و لبست من عند الخالة،خفّا،و إزارا،بعد أن عرّفتها الصورة،و خرجت مع العجوز،و جئت إلى داري فدخلتها من بعض أبوابها الخفيّة.
فلمّا كان من الغد،قوي الخبر بقتل بجكم،ففتحت بابي،و فرّج اللّه عنّي المحنة.
فلمّا كان العشاء،أتاني رسول الخالة،و معه الجارية،و قال:سيّدتي تقرئك السلام،و تقول لك:لم تدع جاريتك عندنا؟
قال:و إذا هي قد حملت معها،كلّ ما كانت قد أخدمتنيه من فرش، و آلة،و غير ذلك،من أشياء كثيرة جليلة المقدار.
و قالت:هذا جهاز الجارية،و أحبّ أن تقبله منّي[260 ر].
فقبلته،و رددت الرسول شاكرا،و قد منّ اللّه عليّ بالعود إلى أحسن حال (2).
ص:42
تعذيب العمّال المطالبين بضربهم بالمقارع
و وضع الحجارة على أكتافهم
و ذكر محمّد بن عبدوس،في كتابه«كتاب الوزراء»،قال:حدّثني أحمد بن عليّ بن بيان،قرابة ابن بسطام،قال:قال لي سليمان بن سهل البرقي، و كان أستاذ أبي العبّاس ابن بسطام.
انصرفت من بعض الأعمال (1)،فألفيت عمر بن فرج (2)يتقلّد الديوان، و كان في نفسه عليّ شيء،فأخفيت نفسي،و سترت أصحابي.
فطلبني،و أذكى العيون عليّ،فلم يصلوا إليّ،فأمر أن يعمل لي مؤامرة تشتمل على ثلثمائة ألف (3).
و كانت بيني و بين نجاح بن سلمة (4)مودّة،فأنا في عشيّة من العشايا،في استتاري،إذ وردت عليّ رقعة نجاح يأمرني بالمصير إليه.
فلمّا صرت إليه،قال لي:صر إلى عمر بن فرج،و سلّم عليه،و عرّفه أنّي قد بعثت بك إليه.
قال:فقلت له:يا سيّدي،انظر ما تقول،فإنّه قد نذر دمي،فكيف أمضي إليه هكذا؟
ص:43
فقال:نعم،اعلم أنّه قال لي اليوم،إنّ فلسطين (1)قد انغلقت علينا، و فسدت،مع جلالتها،و قد أكلها العمّال،و إنّه في طلب من يكفيه أمرها، و يحفظ مالها،و ليس يعرف من يرضي كفايته.
فقلت له:إن أردت الكفاية،فهذا سليمان بن سهل،و فيه من الكفاية و الإخلاص[223 م]و الجدّ،ما لا يشكّ فيه،فلم عطّلته،و أخفته؟
فقال:كيف لي به؟
فقلت:تؤمّنه،و تزيل ما عليه من المطالبة،و تقلّده فلسطين،فإنّه يكفيك، و يوفّر عليك،و يحمّلك فيما يتصرّف لك فيه،و أنا أبعث به إليك.
فقال:ابعث به إليّ،و هو آمن.
فصر إليه،فإنّه لا يعرض لك إلاّ بما تحبّ.
فبكّرت إليه،و هو في ديوانه،فلمّا دخلت صحن الدار،رأيت العمّال على أكتافهم الحجارة،و المقارع (2)تأخذهم،فهالني ما رأيت.
ص:44
فلمّا وصلت إليه،سلّمت عليه،و قلت:إنّي كنت خادم أبي الفضل، أعني فرج الرخّجي (1)،و أحد صنائعه.
فقال:لو لا ما تمّت به من هذه الخدمة،لكنت أحد هؤلاء الذين تراهم.
ثم رفع مصلاه،و أخرج الكتب بولايتي فلسطين،و سلّمها إليّ،و أمرني بكتمان أمري عن الناس،و الاستعداد للمسير.
فأخذت الكتب،و شخصت إلى هناك،فأرضيته،و قضيت حقّ نفسي (2).
ص:45
اللّه يجزي سعيد الخير نائلة
حدّثني أبو الفرج،المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني أبو دلف هشام (1)بن محمّد بن هارون بن عبد اللّه بن مالك الخزاعي،و محمّد بن الحسن (2)الكندي، قالا:حدّثنا الخليل بن أسد،قال:أخبرني العمري،عن الهيثم بن عدّي، عن الحسن (3)بن عمارة،عن الحكم بن عيينة:
أنّ حارثة بن بدر الغداني (4)،كان قد سعى في الأرض فسادا،فنذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام اللّه عليه دمه،فاستجار بأشراف الناس، فلم يجره أحد.
فقيل له:عليك بسعيد بن قيس الهمداني (5)،فلعلّه أن يجيرك.
ص:46
فطلب سعيدا،فلم يجده،فجلس في طلبه،حتى جاء،فأخذ بلجام دابّته،و قال:أجرني،أجارك اللّه.
قال:مالك ويحك؟
قال:قد نذر أمير المؤمنين دمي.
فقال:أقم مكانك،و انصرف إلى أمير المؤمنين،فوجده قائما يخطب على المنبر.
فقال:يا أمير المؤمنين،ما جزاء الذين يحاربون اللّه و رسوله،و يسعون في الأرض فسادا؟
قال:أن يقتلوا،أو يصلبوا،أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض.
قال:يا أمير المؤمنين،إلاّ من تاب.
قال:إلاّ من تاب.
قال:فهذا حارثة بن بدر قد جاءنا تائبا،و قد أجرته.
قال:أنت رجل من المسلمين،و قد أجرنا من أجرته.
ثم قال و هو على المنبر:أيّها الناس،إنّي كنت قد نذرت دم حارثة بن بدر، فمن لقيه فلا يعرض له.
فانصرف إليه سعيد،فأعلمه،و كساه،و حمله،و أجازه،فقال فيه حارثة شعرا:
اللّه يجزي سعيد الخير نائلة أعني سعيد بن قيس قرم همدان
أنقذني من شفا غبراء مظلمة لو لا شفاعته ألبست أكفاني
قالت تميم بن مرّ لا تخاطبه و قد أبت ذلكم قيس بن عيلان
قال الحسن بن الهيثم:لم يكن يروي الحسن بن عمارة،من هذا الشعر، غير هذه الأبيات،فأخذت الشعر كلّه من حمّاد الراوية،و قلت له:ممّن أخذته؟
ص:47
فقال:من سماك بن حرب،و هو:
أساغ في الحلق ريقا كنت أجرضه و أظهر اللّه سرّي بعد كتمان
إنّي تداركني عفّ شمائله آباؤه حين ينمي خير قحطان
و ذكر بقيّة الشعر و الحديث،و لم يكن مما يدخل في كتابي هذا،فلم أسقه (1).
ص:48
فإن نلتني حجّاج فاشتف جاهدا
و أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني عمّي الحسن بن محمّد،قال:قال لي الكراني (1)،عن الخليل بن أسد،عن العمري،عن عطاء عن عاصم بن الحدثان،قال:
كان ابن نمير الثقفي (2)،يشبّب بزينب بنت يوسف بن الحكم (3)،و كان الحجّاج أخوها يتهدّده،و يقول:لو لا أن يقول قائل،لقطعت لسانه[224 م].
فهرب إلى اليمن،ثم ركب بحر عدن،و قال في هربه:
أتتني عن الحجّاج و البحر بيننا عقارب تسري و العيون هواجع
فضقت بها ذرعا و أجهشت خيفة و لم آمن الحجّاج و الأمر قاطع
و حلّ بي الخطب الذي جاءني به سميع فليست تستقرّ الأضالع[81 ن]
فبتّ أدير الأمر و الرأي ليلتي و قد أخضلت خدّي الدموع الهوامع
ص:49
فلم أر لي خيرا من الصبر إنّه أعفّ و أحرى إذ عرتني الفواجع
و ما أمنت نفسي الذي خفت شرّه و لا طاب لي ما حبّبته (1)المضاجع
إلى أن بدا لي رأس إسبيل (2)طالعا و إسبيل حصن لم تنله الأصابع
فلي عن ثقيف إن هممت بنجوة مهامه تعفى بينهنّ الهجارع (3)
و في الأرض ذات العرض عنك ابن يوسف إذا شئت منأى لا أبالك واسع
فإن نلتني حجّاج فاشتف جاهدا فإنّ الذي لا يحفظ اللّه ضائع (4)
قال:فطلبه الحجّاج،فلم يقدر عليه،ثم طال على النميري مقامه هاربا، و اشتاق إلى وطنه فجاء حتى وقف على رأس الحجّاج.
فقال له الحجّاج:يا نميري،أنت القائل:
فإن نلتني حجّاج فاشتف جاهدا
فقال:بل أنا أقول:
أخاف من الحجّاج ما لست خائفا من الأسد العرباض (5)لم يثنه ذعر
أخاف يديه أن تنال مفاصلي بأبيض عضب ليس من دونه ستر
و أنا الذي أقول:
فها أنا قد طوّفت شرقا و مغربا و أبت و قد دوّخت كلّ مكان
فلو كانت العنقاء عنك تطير بي لختلك-إلاّ أن تصدّ-تراني
قال:فتبسّم الحجّاج،و أمّنه،و قال:لا تعاود إلى ما تعلم،و خلّى سبيله (6)
ص:50
أسود راجل رزقه عشرون درهما
بزّ في كرمه معن بن زائدة الشيباني
أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين القرشي،قال:أخبرني حبيب بن نصر المهلّبي (1)،قال:[حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد،قال:أخبرنا محمّد بن نعيم البلخي،أبو يونس،قال:] (2)،حدّثني مروان بن أبي حفصة،و كان لي صديقا، قال:
كان المنصور قد طلب معن بن زائدة الشيباني طلبا شديدا،و جعل فيه مالا.
فحدّثني معن باليمن،أنّه اضطرّ لشدّة الطلب أن قام في الشمس،حتى لوّحت وجهه،و خفّف من[279 غ]عارضيه و لحيته،و لبس جبّة صوف غليظة، و ركب جملا[من جمال النقّالة] (3)،و خرج عليه ليمضي إلى البادية،[و قد كان أبلى في الحرب بين يدي ابن هبيرة (4)بلاء حسنا،فغاظ المنصور (5)،و جدّ في طلبه] 3.
ص:51
قال معن:فلمّا خرجت من باب حرب (1)،تبعني أسود،متقلّدا سيفا، حتى إذا غبت عن الحرس،قبض على خطام الجمل،فأناخه،و قبض عليّ.
فقلت:ما لك؟
فقال:أنت طلبة أمير المؤمنين.
فقلت:و من أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين.
قال:أنت معن بن زائدة.
فقلت:يا هذا اتّق اللّه،و أين أنا من معن بن زائدة.
فقال:دع عنك هذا،فأنا و اللّه أعرف بك منك.
فقلت له:فإن كانت القصّة كما تقول،فهذا جوهر حملته معي بأضعاف ما بذل المنصور لمن جاء بي،فخذه،و لا تسفك دمي.
فقال:هاته،فأخرجته إليه.
فنظر إليه ساعة،و قال:صدقت في قيمته،و لست قابله حتى أسألك عن شيء،فإن صدقتني أطلقتك.
فقلت:قل.
قال:إنّ الناس قد وصفوك بالجود،فأخبرني هل وهبت قطّ مالك كلّه؟
قلت:لا.
قال:فنصفه؟
قلت:لا.
قال:فثلثه؟
ص:52
قلت:لا،حتى بلغ العشر.
فاستحييت،فقلت:أظنّ أنّي قد فعلت ذلك.
قال:ما أراك فعلته،و أنا و اللّه راجل (1)،و رزقي مع أبي جعفر عشرون درهما، و هذا الجوهر قيمته آلاف دنانير،و قد وهبته لك،و وهبتك لنفسك،و لجودك المأثور بين الناس،و لتعلم أنّ في الدنيا أجود منك[225 م]فلا تعجبك نفسك، و لتحقر بعدها كل شيء تعمله،و لا تتوقّف عن مكرمة،ثم رمى العقد في حجري، و خلّى خطام البعير،و انصرف.
فقلت له:يا هذا،قد و اللّه فضحتني،و لسفك دمي أهون عليّ مما فعلته، فخذ ما دفعته إليك،فإنّي عنه غنّي.
فضحك،و قال:أردت أن تكذّبني في مقالي هذا،و اللّه لا أخذته،و لا آخذ لمعروف ثمنا أبدا،و تركني و مضى.
فو اللّه لقد طلبته بعد أن أمنت،و ضمنت لمن جاءني به ما شاء،فما عرفت له خبرا،و كأنّ الأرض ابتلعته (2).
ص:53
سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة
قال:و كان سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة،أنّه لم يزل مستترا، حتى يوم الهاشميّة (1)،و وثب القوم على المنصور (2)و كادوا يقتلونه،فوثب معن و هو متلثّم،و انتضى سيفه،فقاتل،و أبلى بلاء حسنا،و ذبّ القوم عنه،و المنصور راكب على بغلة و لجامها بيد الربيع.
فقال له:تنحّ،فإنّي أحقّ بلجامها في هذا الوقت.
فقال له المنصور:صدق،ادفعه إليه،فأخذه،و لم يزل يقاتل،حتى انكشفت تلك الحال.
فقال له المنصور:من أنت للّه أبوك؟
فقال:أنا طلبتك يا أمير المؤمنين،معن بن زائدة.
فقال:قد أمّنك اللّه على نفسك و مالك،و مثلك يصطنع،ثم أخذه معه، و خلع عليه،و حباه،و قرّ به.
ثم دعا به يوما،فقال:إنّي قد أهّلتك لأمر،فانظر كيف تكون فيه؟
فقال:كما تحبّ يا أمير المؤمنين،فولاّه اليمن،و توجّه إليها،فبسط فيهم السيف،حتى استووا.
ص:54
قال مروان:و قدم معن بن زائدة بعقب ذلك على المنصور،فقال له، بعد كلام طويل:قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء،لو لا مكانك عنده،و رأيه [280 غ]فيك،لغضب عليك.
فقال:و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟فو اللّه ما تعرّضت لسخطك،فقال:
عطاءك مروان بن حفصة،لقوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به شرفا إلى شرف بنو شيبان
إن عدّ أيّام الفعال فإنّما يوماه يوم ندى و يوم طعان
فقال:و اللّه،يا أمير المؤمنين،ما أعطيته ما بلغك،لهذا الشعر،و لكن لقوله:[82 ن]
ما زلت يوم الهاشميّة معلنا بالسيف دون خليفة الرحمن[261 ر]
فمنعت حوزته و كنت وقاءه من وقع كلّ مهنّد و سنان
قال:فاستحيا المنصور،و قال:إنّما أعطيت لمثل هذا القول؟
فقال:نعم،يا أمير المؤمنين،و لو لا مخافة الشنعة،لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال،و أبحته إيّاها.
فقال المنصور:للّه درّك من أعرابيّ،ما أهون عليك ما يعزّ على الناس و أهل الحزم (1).
ص:55
قطن بن معاوية الغلابي يستسلم للمنصور
أخبرني عليّ بن أبي الطيّب،قال:حدّثنا ابن الجرّاح،قال:حدّثنا ابن أبي الدنيا،قال:حدّثنا عمر بن شبّة،قال:أخبرني أيوب بن عمر بن أبي عثمان (1)،عن أبي سلمة الغفاري،قال:حدّثنا قطن بن معاوية الكلابي (2)، قال:
كنت ممن سارع إلى إبراهيم،فاجتهدت معه،فلمّا قتل،طلبني المنصور، فاستخفيت منه،فقبض على أموالي و دوري.
و لحقت بالبادية،فجاورت في بني نضر بن معاوية،و بني كلاب،من بني فزارة،ثم بني سليم،ثم تنقّلت في بوادي قيس،أجاورهم.
حتى ضقت ذرعا بالاستخفاء،فأزمعت القدوم على أبي جعفر،و الاعتراف له،فقدمت البصرة،و نزلت في طرف منها.
ثم أرسلت إلى أبي عمرو بن العلاء (3)،و كان لي ودّا،فشاورته في الأمر الذي أزمعت عليه،فلم يقبل رأيي.
و قال:إذا يقتلك،و أنت[226 م]المعين على نفسك.
فلم ألتفت إليه،و شخصت إلى بغداد،و قد بنى أبو جعفر مدينته،و نزلها،
ص:56
و ليس من الناس أحد يركب فيها،ما خلا المهدي (1).
فنزلت خانا (2)،ثم قلت لغلماني:إنّي ذاهب إلى أمير المؤمنين،فأمهلوا ثلاثا،فإن جئتكم،و إلاّ فانصرفوا.
و مضيت حتى دخلت المدينة،فجئت إلى دار الربيع،و الناس ينتظرونه، و هو حينئذ ينزل داخل المدينة،في الدار الشارعة على قصر الذهب.
فلم يلبث أن خرج يمشي،و قام إليه الناس،و قمت معهم،فسلّمت عليه، فرد عليّ السلام.
و قال:من أنت؟
قلت:قطن بن معاوية.
فقال:انظر ما تقول؟
فقلت:أنا هو.
قال:فأقبل على مسوّدة (3)كانوا معه،و قال:احتفظوا به.
قال:فلمّا حرست،لحقتني الندامة،و ذكرت رأي أبي عمرو.
و دخل الربيع،فلم يطل حتى خرج خصيّ،فأخذ بيدي،فأدخلني قصر الذهب،ثم أتى بي إلى بيت،فأدخلني إليه،و أغلق الباب عليّ،و انطلق.
فاشتدّت ندامتي،و أيقنت بالبلاء،و أقبلت على نفسي ألومها.
فلمّا كان وقت الظهر،أتاني الخصيّ بماء،فتوضّأت،و صلّيت،و أتاني بطعام،فأخبرته بأنّي صائم.
ص:57
فلمّا كان وقت المغرب،أتاني بماء،فتوضّأت،و صلّيت،و أرخى عليّ الليل سدوله،فأيست من الحياة،و سمعت أبواب المدينة تغلق،فامتنع عنّي النوم.
فلمّا ذهب صدر من الليل،أتاني الخصيّ،ففتح عنّي،و مضى بي، فأدخلني صحن دار،ثم أدناني من ستور مسدولة.
فخرج علينا خادم،و أدخلنا،فإذا أبو جعفر وحده،و الربيع قائم ناحية.
فأكبّ أبو جعفر هنيهة،مطرقا،ثم رفع رأسه،فقال:هيه.
فقلت:يا أمير المؤمنين،أنا قطن بن معاوية.
فقال:و اللّه لقد جهدت عليك جهدي،حتى منّ اللّه عليّ بك.
فقلت:يا أمير المؤمنين،قد و اللّه جهدت عليك جهدي،و عصيت أمرك، و واليت عدوّك،و حرصت على أن أسلبك ملكك،فإن عفوت فأهل ذلك أنت، و إن عاقبت فبأصغر ذنوبي تقتلني.
قال:فسكت هنيهة،ثم قال:أعد،فأعدت مقالتي.
قال:فإنّ أمير المؤمنين قد عفا عنك.
قال:فقلت:يا أمير المؤمنين إنّي أصير وراء بابك فلا أصل إليك،و ضياعي و دوري مقبوضة،فإن رأى أمير المؤمنين أن يردّها عليّ،فعل.
قال:فدعا بدواة،ثم أمر خادما له أن يكتب بإملائه،إلى عبد الملك بن أيّوب النميري (1)،و هو يومئذ على البصرة:أنّ أمير المؤمنين قد رضي عن قطن بن معاوية،و قد ردّ عليه ضياعه و دوره و جميع ما قبض عليه،فاعلم ذلك و أنفذه إن شاء اللّه تعالى.
قال:ثم ختم الكتاب،و دفعه إليّ،فخرجت من ساعتي،لا أدري أين
ص:58
أذهب،فإذا الحرس بالباب،فجلست إلى جانب أحدهم.
فلم ألبث أن خرج الربيع،فقال:أين الرجل الذي خرج آنفا؟فقمت إليه.
فقال:انطلق أيّها الرجل،فقد-و اللّه-سلمت،ثم انطلق بي إلى منزله، فعشّاني،و فرش لي.
فلمّا أصبحت،ودّعته،و أتيت غلماني فأرسلتهم يكترون لي.
فوجدت صديقا لي من الدهاقين (1)،من أهل ميسان (2)،قد اكترى سميرية (3)لنفسه،فحملني معه.
فقدمت على عبد الملك بن أيّوب بكتاب أبي جعفر،فأقعدني عنده،فلم أقم حتى ردّ عليّ جميع ما اصطفي لي (4).
و أخبرني بهذا الخبر أبو القاسم إسماعيل بن محمّد الأنباري (5)،المعروف بابن
ص:59
زنجي،قال:حدّثني أبو عليّ الحسين بن القاسم الكوكبي (1)،قال:حدّثني ابن أبي سعيد (2)،قال:حدّثنا ابن دريد،و ذكر بإسناده مثله.
ص:60
المأمون يغضب على إبراهيم الصولى
ثم يرضى عنه
[أخبرني أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي،فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته من حديثه،قال:] (1)أخبرني أبو بكر محمّد بن سعيد الصوفيّ (2)، قال:حدّثني محمّد بن صالح بن النطّاح (3)،قال:
لمّا عزم[227 م]المأمون على الفتك بالفضل بن سهل،و ندب إليه عبد العزيز بن عمران الطائيّ (4)،و مؤنسا البصريّ (5)،و خلف المصريّ (6)،و عليّ بن أبي سعيد السلميتي (7)،و سراج الخادم (8)،أنهي الخبر إلى الفضل،فعاتبه عليه.
ص:61
فلمّا قتل الفضل (1)،قيل للمأمون:إنّه عرفه من جهة إبراهيم بن العبّاس الصولي،فطلبه،فاستتر.
و كان إبراهيم عرف هذا الخبر من جهة عبد العزيز بن عمران،و كان الفضل قد استكتب إبراهيم لعبد العزيز،فعلمه منه،فأخبر الفضل.
و تحمّل إبراهيم بالناس على المأمون،و جرّد في أمره هشام الخطيب،المعروف بالعبّاسي،لأنّه كان جريئا على المأمون،و لأنّه ربّاه،و شخص إلى خراسان،في فتنة إبراهيم بن المهدي،فلم يجبه إلى ما سأل.
فلقيه إبراهيم بن العبّاس،مستترا،و سأله عمّا عمل في حاجته؟فقال له هشام:قد وعدني في أمرك بما تحبّ.
فقال له إبراهيم:أظنّ الأمر على خلاف هذا.
قال:لم؟
قال:لأنّ محلّك عند أمير المؤمنين أجلّ من أن يعد[83 ن]مثلك شيئا و يؤخّره،و لكنّك سمعت فيّ ما لا تحبّ،فكرهت أن تغمّني به،فقلت لي هذا القول،فأحسن اللّه-على كلّ الأحوال-جزاءك.
فمضى هشام إلى المأمون،فعرّفه خبر إبراهيم فعجب من فطنته،و عفا عنه (2).
ص:62
الأمير سيف الدولة
يصفح عن أحد أتباعه و يعيد إليه نعمته
حدّثني عبد اللّه بن أحمد بن معروف،أبو القاسم (1)،قال:
كنت بمصر،و كان بها رجل يعرف بالناضريّ،من تنّاء حلب (2)،قد قبض سيف الدولة على ضيعته،و صادره.
فهرب منه إلى كافور الإخشيديّ (3)،فأجرى عليه جراية سابغة في كلّ شهر.
و كان يجري على جميع من كان يقصده،من الجرايات التي تسمّى الراتب، و كان مالا عظيما قدره في السنة خمسمائة ألف دينار (4)،لأرباب النعم،و أجناس الناس،ليس لأحد من الجيش،و لا من الحاشية،و لا من المتصرّفين في الأعمال، شيء منها.
قال:فجرى يوما ذكر هذا الناضريّ بحضرة كافور،و قيل له بأنّه بغّاء، و كثرت عليه الأقاويل في ذلك،فأمر بقطع جرايته.
فرفع إليه قصّة (5)يشكو فيها انقطاع مادّته،و يسأل التوقيع بإجرائه على رسمه.
ص:63
فأمر فوقّع على ظهرها:قد صحّ عندنا أنّك رجل تصرف ما نجريه عليك فيما يكره اللّه عزّ و جلّ،من فساد نفسك،و ما نرى أن نعينك على ذلك،فالحق بحيث شئت،فلا خير لك عندنا بعدها.
قال:فخرج التوقيع إلى الرجل،فغمّه ذلك،و عمل محضرا أدخل فيه خطّ خلق كثير ممن يعرفه،أنّه مستور،و ما قرف قط ببغاء.
و كتب رقعة إلى كافور،يحلف فيها بالطلاق و العتاق و الأيمان الغليظة، أنّه ليس ببغّاء،و احتجّ بالمحضر،و جعل الرقعة طيّ المحضر.
و قال فيها:إنّه لم يكن يدفع إليه ما يدفع لأجل حفظه فرجه أو هتكه، و إنّما كان ذلك لأنّه منقطع،و غريب،و هارب،و مفارق نعمة،و إنّ اللّه عزّ و جلّ أقدر على قطع أرزاق مرتكبي المعاصي،و ما فعل ذلك بهم-بل رزقهم-و أمهلهم،و أمرهم بالتوبة،و إنّه إن كان ما قذف به صحيحا،فهو تائب إلى اللّه عزّ و جلّ منه،و سأله ردّ رسمه إليه،و رفع القصّة إلى كافور.
قال:فما أدري إلى أيّ شيء انتهى أمره،إلاّ أنّه صار فضيحة[281 غ] و تحدّث الناس بحديثه.
و اتّفق خروجي من مصر،عقيب ذلك،إلى حضرة سيف الدولة،فلقيته بحلب،و جرت أحاديث المصريّين،و كان يتشوّق أن يسمع حديث صغيرهم و كبيرهم،و يعجبه أن يذكر له.
ص:64
قال:فقلت:من عجيب ما جرى بها آنفا،أنّه كان بها رجل يقال له الناضريّ،و قصصت القصّة عليه.
فضحك من ذلك ضحكا عظيما،و قال:هذا المشؤوم بلغ إلى مصر؟
فقلت:نعم.
فقال لي محمّد الأسمر النديم:إعلم أنّ هذا[228 م]الرجل صديقي جدا، و قد هلك،و افتقر،و فارق نعمته،فأحبّ أن تخاطب الأمير في أمره،عقيب ما جرى آنفا،لأعاونك،فلعلّ اللّه عزّ و جلّ أن يفرّج عنه.
فقلت:أفعل.
و أخذ سيف الدولة يسألني عن الأمر،فأعدت شرحه،و عاد،فضحك.
فقلت:أطال اللّه بقاء مولاي الأمير،قد سررت بهذا الحديث،و يجب أن يكون له ثمرة،إمّا لي،و إمّا للرجل الذي تركته فضيحة بحلب،بما أخبرت من قصّته،زيادة على فضيحته بمصر.
فقال:إمّا لك،فنعم،و إمّا له،فلا يستحقّ،فإنّه فعل و صنع،و جعل يطلق القول فيه.
قال:فقلت له:فوائدي من مولانا متّصلة،و لست أحتاج مع إنعامه، و ترادف إحسانه،إلى التسبّب في الفوائد،و لكن إن رأى أن يجعلها لهذا المفتضح المشؤوم.
فقال:تنفذ إليه سفتجة بثلاثة آلاف درهم.
قال:فشكرته الجماعة،و خاطبته في أن يأذن له بالعودة[إلى وطنه،و يؤمّنه.
قال:فكتب أمانا له مؤكّدا،و أذن له في العود] (1).
قال:فغمزني الأسمر في الإستزادة.
فقلت:أطال اللّه بقاء مولانا الأمير،إنّ الثلاثة آلاف درهم لو أنفذت إلى
ص:65
مصر،إلى أن يؤذن له في العود،ما كفته لمن يحمله على نفسه،لأنّ أكثر [262 ر]أهل مصر بغّاؤون،و قد ضايقوه في الناكة،و غلبوه باليسار،فلا يصل هو إلى شيء إلاّ بالغرم الثقيل.
قال:فأعجبه ذكر أهل مصر بذلك،فقال:كيف قلت هذا يا أخ؟
فقلت:إنّ المياسير من أهل مصر،لهم العبيد العلوج،يأتونهم،لكلّ واحد منهم عدّة غلمان،و المتوسّطون،يدعون العلوج،و الزنوج،المشهورين بكبر الأيور،و ينفقون عليهم أموالهم،و لا يصل الفقير المتجمّل إليهم.
و لقد بلغني أيضا،و أنا بمصر،أنّ رجلا من البغّائين بها اشتدّ عليه حكاكه، فطلب من يأتيه،فلم يقدر عليه،فخرج إلى قرية،ذكر أنّها قريبة من مصر، فأقام بها.
فكان إذا اجتاز به المجتازون،استغوى منهم من يختاره لهذا الحال،فحمله على نفسه.
فكان يعيش بالمجتاز بعد المجتاز،و يتمكّن من إرضائه بما لا يمكنه في مصر.
فعاش بذلك برهة،حتى جاء يوما بغّاء آخر،فسكن معه في الموضع، فكان إذا جاء الغلام الذي يصلح لهذا الشأن،تنافسا عليه،ففسد على الأوّل أمره.
فجاء إلى الثاني،فقال:يا هذا،قد أفسدت أمري،و أبطلت عملي، و إنّما خرجت من مصر،لأجل المنافسة في الناكة،و ليس لك أن تقيم معي ها هنا.
[فقال له الثاني:سواء العاكف فيه و الباد (1)،و ما أبرح من ها هنا] (2).
فقال له الأوّل:بيني و بينك شيخنا ابن الأعجمي الكاتب (3)،رئيس البغّائين
ص:66
بمصر،و جذبه إلى حضرته،فتحاكما إليه.
[فقال:إنّي لمّا كنت اشتدّ بي أمري الذي تعرفه،و منعني فقري من اتّخاذ الناكة بمصر،عدلت إلى الموضع الفلاني،فعملت كذا،و قصّ عليه القصّة، فجاء هذا،و صنع،و قصّ عليه القصّة،و شرح له أمره،فإن رأيت أن تحكم بيني و بينه،فاحكم] (1).
فحكم ابن العجمي للأوّل،و منع الثاني من المقام،و قال له:ليس لك أن تفسد عليه عمله و ناحيته،فاطلب لنفسك موضعا آخر.
فكيف يمكن للناضريّ[283 غ]-أيّد اللّه مولانا الأمير-أن يستغني بثلاثة آلاف درهم أمرت له بها في بلد هذه عزّة الناكة فيه،و كثرة البغّائين؟ هذا لو كان مقيما،فكيف و قد أنعمت عليه بالإذن في المسير،و يحتاج إلى بغال يركبها في الطريق بأجرة،و نفقة،و ديون عليه يقضيها،و مؤن.
قال:فضحك ضحكا شديدا من حكاية البغّائين،و حكم ابن العجمي بينهما،[و كان هذا من مشهوري كتّاب مصر] (2).
قال:فاجعلوها خمسة آلاف درهم.
قال:فقلت أنا و الأسمر:فيعود الرجل-أطال اللّه بقاء مولانا الأمير-و قد أنفقها في الطريق،إلى سوء المنقلب؟
و كان يعجبه أن يماكس في الجود،فيجود مع المسألة،بأكثر مما يؤمّل منه، و لكن مع السؤال،و الدخول عليه مدخل المزاح في ذلك،و الطيبة،و اقتضاء الغرماء بعضهم لبعض في ذلك،و ما شابهه (3).
فقال:قد طوّلتم عليّ في أمر هذا الفاعل الصانع،أطلقوا له عن[229 م]
ص:67
ضيعته بأسرها،و وقّعوا له بذلك إلى الديوان،و عن مستغلّه،و مروا[84 ن]من في داره،بالخروج عنها،و تقدّموا له بأن تفرش أحسن من الفرش الذي نهب له منها لمّا سخط عليه.
قال:فأكبّت الجماعة،يقبّلون يديه و رجليه،و يحلفون أنّهم ما رأوا،و لا سمعوا،بمثل هذا الكرم قط،و يقولون:هذا مع سوء رأيك في الرجل،و سوء حديثه،فما على وجه الأرض بغاء أقبل على صاحبه بسعد،مثل هذا.
قال:فضحك،و نفذت الكتب و التوقيعات بما ذكره و رسمه.
فلمّا كان بعد مدّة-و أنا بحلب-جاء الرجل،و عاد إلى نعمته (1).
ص:68
ربّما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحلّ العقال
أخبرني أبو بكر أحمد بن كامل القاضي (1)،قال:حدّثنا أبو شبيل عبيد اللّه ابن عبد الرحمن بن واقد (2)،قال:حدّثنا الأصمعيّ،قال:حدّثنا أبو عمرو بن العلاء (3)،قال:
خرجت هاربا من الحجّاج إلى مكّة،فبينا أنا أطوف بالبيت،إذا أعرابيّ ينشد:
يا قليل العزاء في الأحوال و كثير الهموم و الأوجال
لا تضيقنّ في الأمور فقد يك شف غماؤها بغير احتيال
صبّر النفس عند كلّ ملمّ إنّ في الصبر راحة المحتال
ربّما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة كحلّ العقال
ص:69
فقلت:مه؟
فقال:مات الحجّاج (1).
[قال:فلا أدري بأيّ القولين كنت أسرّ،بقوله:فرجة،بفتح الفاء،أو بموت الحجّاج] (2).
و وجدت هذا الخبر بغير إسناد في بعض الكتب،و فيه:أنّ أبا عمرو بن العلاء سمع أعرابيّا ينشد هذه الأبيات:
يا قليل العزاء في الأهوال و كثير الهموم و الأوجال
لا تضيقنّ في الأمور فقد تك شف غمّاؤها بغير احتيال
صبّر النفس عند كلّ مهمّ إنّ في الصبر حيلة المحتال (3)
ربّما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة كحلّ العقال
[قيل:و الفرجة:من الفرج،و الفرجة:فرجة الحائط] (4).
و وجدت بخطّ أبي عبد اللّه بن مقلة (5)،في كتاب الأبيات السائرة:قال
ص:70
أميّة بن أبي الصلت:
ربّما تكره النفوس من الش يء لها فرجة كحلّ العقال
و قال القاضي أبو الحسين في كتابه:روى المدائني،عن الأصمعي،عن أبي عمرو بن العلاء،قال:
كنت مستخفيا من الحجّاج بن يوسف الثقفي،فسمعت قائلا يقول:
مات الحجّاج
ربّما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة كحلّ العقال
و قال القاضي:و وجدت أنا في كتاب المدائني،كتاب الفرج بعد الشدّة و الضيقة،هكذا:
حدّثني عليّ بن أبي الطيّب،قال:حدّثنا ابن الجرّاح،قال:حدّثنا ابن أبي الدنيا،قال:حدّثنا أبو عدنان،قال:حدّثنا أبو عبيدة معمر بن المثنّى،عن يونس بن حبيب،قال:قال أبو عمرو بن العلاء (1):
كنت هاربا من الحجّاج بن يوسف،فصرت إلى اليمن،فسمعت منشدا ينشد:
ربّما تجزع النفوس من الأم ر له فرجة كحلّ العقال
فاستطرفت قوله:فرجة،فأنا كذلك،إذ سمعت قائلا يقول:مات الحجّاج، فلم أدر بأيّ الأمرين كنت أشدّ فرحا،بموت الحجّاج،أو بذلك البيت (2).
و أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر بن الحسن (3)،قال:حدّثنا أبو عمر
ص:71
محمّد بن عبد الواحد الزاهد،المعروف بغلام ثعلب،قال:أخبرنا أبو العبّاس أحمد بن يحيى،ثعلب،عن أبي منصور (1)ابن أخي الأصمعي،عن أبي عمرو ابن العلاء،قال:
كنت مستخفيا من الحجّاج،و ذلك أنّ عمّي كان عاملا له،فهرب، فهمّ بأخذي.
فبينا أنا على حال خوفي منه،إذ سمعت منشدا ينشد:
ربّما تجزع النفوس من الأم ر لها فرجة كحل العقال
و ذكر الحديث،و زاد فيه:أنّ ثعلبا قال:إنّ أبا عمرو كان يقرأ:إلاّ من اغترف غرفة،و فرجة-بفتح الفاء-شاهد في هذه القراءة (2).
ص:72
الوليد بن عبد الملك يعفو عن القمير التغلبيّ
و ذكر أبو الحسن المدائني،في كتابه،بغير إسناد،أنّ القمير التغلبيّ (1)، قال في الوليد بن عبد الملك[230 م]
أ تنسى يا وليد بلاء قومي بمسكن و الزبيريّون صيد[283 غ]
أتنسانا إذا استغنيت عنّا و تذكرنا إذا صلّ الحديد
فطلبه الوليد،فهرب منه.
فلمّا ضاقت به البلاد،و اشتدّ به الخوف،أتى دمشق مستخفيا،حتى حضر عشاء الوليد،فدخل مع الناس.
فلمّا أكل الناس بعض الأكل،عرف القمير رجل إلى جانبه،فأخبر الوليد.
فدعا بالقمير،و قال له:يا عدوّ اللّه،الحمد للّه الذي أمكنني منك بلا عقد و لا ذمّة،أنشدني ما قلت.
فتلكّأ،ثم أنشده،فقال له الوليد:ما ظنّك بي؟
فقال:إنّي قلت في نفسي،إن أمهلت حتى أطأ بساطه،و آكل طعامه، فقد أمنت،و إن عوجلت قبل ذلك فقد هلكت،و قد أمهلت حتى وطئت بساطك، يا أمير المؤمنين،و أكلت طعامك،فقد أمنت.
ص:73
فقال له الوليد:فقد أمنت،فانصرف راشدا.
فلمّا ولّى،تمثّل الوليد قائلا:
شمس (1)العداوة حتى يستقاد لهم (2) و أعظم الناس أحلاما (3)إذا قدروا
ص:74
مزنة امرأة مروان الجعديّ
تلجأ إلى الخيزران جارية المهدي
حدّثني طلحة بن محمّد بن جعفر،المقرىء،الشاهد،قال (1):حدّثني أبو عبد اللّه الحرمي بن أبي العلاء،كاتب القاضي أبي عمر،قال:حدّثنا أبو علي الحسن بن محمّد بن طالب الديناري،قال:حدّثني الفضل بن العبّاس ابن يعقوب بن سعيد بن الوليد بن سنان بن نافع،مولى العبّاس بن عبد المطلّب، قال:[حدّثني أبي] (2)،قال:
ما أتيت زينب بنت سليمان بن علي الهاشمي (3)،قط،فانصرفت من عندها إلاّ بشيء و إن قلّ.
و كان لها وصيفة يقال لها:كتاب،فعلقتها.
فقلت لأبي:أنا-و اللّه-مشغول القلب بكتاب،جارية زينب.
فقال لي:يا بنيّ اطلبها منها،فإنّها لا تمنعك إيّاها.
فقلت:قد كنت أحبّ أن تكون حاضرا لتعينني عليها.
ص:75
فقال:ليس بك إليّ،و لا إلى غيري من حاجة.
فغدوت إليها،فلمّا انقضى السلام،قلت:جعلني اللّه فداك،فكّرت في حاجة،فسألت أبي أن يحضر كلامي إيّاك فيها،لأستعين به،فأسلمني،فقالت:
يا بنيّ،إنّ حاجة لا تقضى لك حتى تحضر أباك فيها،لحاجة عظيمة القدر.
ثم قالت:ما هي؟
فقلت:كتاب،و صيفتك،أحبّ أن تهبيها لي.
فقالت:أنت صبيّ أحمق،اقعد،حتى أحدّثك حديثا،أحسن من كلّ كتاب على وجه الأرض،و أنت من كتاب على وعد.
فقلت:هاتي،جعلني اللّه فداك.
فقالت:كنت-من أوّل أمس-عند الخيزران[85 ن]،و مجلسي و مجلسها-إذا اجتمعنا-في عتبة باب الرواق،و بالقرب منّا في صدر المكان، برذعة (1)،و وسادتان،و مسانيد،عليها سبنيّة (2)،لأمير المؤمنين.
و هو كثير الدخول إليها و الجلوس عندها،فإذا جاء جلس في ذلك الموضع، و إذا انصرف،طرحت عليه السبنية إلى وقت رجوعه،فإنّا لجلوس،إذ دخلت عليها إحدى جواريها،فقالت:يا ستّي،بالباب امرأة ما رأيت أحسن منها وجها،و لا أسوأ حالا،عليها قميص ما يستر بعضه موضعا من بدنها،إلاّ انكشف منها موضع آخر غيره،تستأذن عليك.
ص:76
فالتفتت إليّ،و قالت:ما ترين؟
فقلت:تسألين عن اسمها،و حالها،ثم تأذنين لها على علم،فقالت الجارية:
قد و اللّه جهدت[284 غ]بها كلّ الجهد،أن تفعل،فما فعلت،و أرادت الانصراف،فمنعتها.
فقلت للخيزران:و ما عليك أن تأذني لها،فأنت منها بين ثواب و مكرمة، فأذنت لها.
فدخلت امرأة على أكثر مما وصفت الجارية،و هي مستخفية،حتى صارت إلى عضادة الباب (1)،مما يليني،و كنت متّكئة.
فقالت:السلام عليكم،فرددنا عليها السلام.
ثم قالت للخيزران:أنا[مزنة] (2)امرأة[231 م]مروان بن محمّد.
قالت:فلمّا وقع اسمها في أذني،استويت جالسة (3)،ثم قلت:مزنة؟
قالت:نعم.
قلت:لا حيّاك اللّه،و لا قرّبك،الحمد للّه الذي أزال نعمتك،و أدال عزّك،و صيّرك نكالا و عبرة،أ تذكرين يا عدوّة اللّه،حين أتاك عجائز أهل بيتي يسألنك أن تكلّمي صاحبك في إنزال إبراهيم بن محمّد من خشبته (4)، فلقيتيهنّ ذلك اللقاء،و أخرجتيهنّ ذلك الإخراج،الحمد للّه الذي أزال نعمتك.
ص:77
فضحكت-و اللّه-المرأة،حتى كادت تقهقه،و بدا لها ثغر،ما رأيت أحسن منه قط.
و قالت:أي بنت عمّ،أيّ شيء أعجبك من حسن صنع اللّه بي على ذلك الفعل،حتى أردت أن تتأسّي (1)بي،[و اللّه،لقد فعلت بنساء أهل بيتك،ما فعلت،فأسلمني اللّه إليك جائعة،ذليلة،عريانة،فكان هذا مقدار شكرك للّه تعالى على ما أولاك فيّ،ثم قالت:] (2)السلام عليكم.
ثم ولّت خارجة تمشي خلاف المشية التي دخلت بها.
فقلت للخيزران:إنّها مخبأة من اللّه عزّ و جلّ،و هدية منه إلينا،و و اللّه -يا خيزران-لا يتولّى إخراجها مما هي فيه أحد غيري.
ثم نهضت على أثرها،فلمّا أحسّت بي أسرعت،و أسرعت خلفها،حتى وافيتها عند الستر،و لحقتني الخيزران،فتعلّقت بها.
و قلت:يا أخت،المعذرة إلى اللّه-عزّ و جلّ-و إليك،فإنّي ذكرت، بمكانك،ما نالنا من المصيبة بصاحبنا،فكان منّي ما وددت أنّي غفلت عنه، و لم أملك نفسي.
و أردت معانقتها،فوضعت يدها في صدري،و قالت:لا تفعلي،يا أخت، فإنّي على حال،أصونك من الدنوّ منها.
فرددناها،و قلت للجواري:أدخلن معها الحمّام.
و قلت للمواشط:اذهبن معها،حتى تصلحن حفافها (3)،و ما تحتاج إلى
ص:78
إصلاحه من وجهها.
فمضت،و مضين معها،و دعونا بكرسي،و جلسنا أنا و الخيزران عليه،في صحن الدار،ننتظر خروجها.
فخرجت إلينا إحدى المواشط (1)و هي تضحك.
فقلت لها:ما يضحكك؟
فقالت:يا ستّي،إنّا لنرى من هذه المرأة عجبا.
فقلت:و ما هو؟
فقالت:نحن معها في انتهار،و زجر،و خصومة،ما تفعلين أنت،و لا ستّنا،مثله إذا خدمنا كما.
فقلت للخيزران:حتى تعلمين-و اللّه-يا أختي أنّها حرّة رئيسة،و الحرّة لا تحتشم من الأحرار.
و خرجت إلينا جارية أعلمتنا أنّها قد خرجت من الحمّام،فوجّهت إليها الخيزران أصناف الخلع،فتخيّرت منها ما لبسته،و بعثنا إليها بطيب كثير، فتطيّبت،ثم خرجت إلينا.
فقمنا جميعا،فعانقناها،فقالت:الآن،نعم.
ثم جئنا إلى الموضع الذي يجلس فيه أمير المؤمنين المهدي،فأقعدناها فيه.
ثم قالت الخيزران:إنّ غداءنا قد تأخر،فهل لك في الطعام؟
فقالت:و اللّه ما فيكنّ من هي أحوج إليه منّي.
فدعونا بالطعام،فجعلت تأكل،و تضع بين أيدينا،حتى كأنّها في منزلها.
فلمّا فرغنا من الأكل،قالت لها الخيزران:من لك ممن تعنين به؟
قالت؛ما لي وراء هذا الحائط أحد من[285 غ]خلق اللّه تعالى.
ص:79
فقالت لها الخيزران:فهل لك في المقام عندنا،علي أن نخلي لك مقصورة من المقاصير،و يحوّل إليها جميع ما تحتاجين إليه،و يستمتع بعضنا ببعض؟
فقالت:ما درت إلاّ على أقلّ من هذا الحال،و إذ قد تفضّل اللّه-عزّ و جلّ-عليّ بكما،و بهذه النعمة،فلا أقلّ من الشكر لأمير المؤمنين المهدي، لكلّ نعمة،و لكما،فافعلي ما بدا لك،و ما أحببت.
فقامت الخيزران،و قمت معها،و أقمناها معنا،و دخلنا نطوف بالمقاصير، فاختارت-و اللّه-أوسعها،و أحسنها.
فملأتها الخيزران،بالجواري،و الوصائف،و الخدم،و الفرش،و الآلات، ثم قالت:ننصرف عنك،و عليك بمنزلك،حتى تصلحيه،فخلّفناها في المقصورة،و انصرفنا إلى موضعنا[232 م].
فقالت الخيزران:إنّ هذه امرأة رئيسة،و قد عضّها الفقر،و ليس يملأ عينها إلاّ المال،ثم بعثت إليها بخمسة آلاف دينار،و مائة ألف درهم (1).
و أرسلت إليها:تكون هذه في خزانتك،و وظيفتك،و وظيفة حشمك،قائمة في كلّ يوم،مع وظيفتنا.
ثم لم نلبث أن دخل علينا المهدي،فقلت له:يا سيّدي،لك-و اللّه-عندي حديث طريف.
فقال:ما هو؟فحدّثته بالخبر.
فلمّا قلت له ما كان منّي،من الوثوب عليها،و إسماعها،اقشعرّ،و اصفرّ.
ثم قال:يا زينب،هذا مقدار شكرك لربّك عزّ و جلّ،و قد أمكنك من عدوّك،و أظفرك به،على هذا الحال الذي تصفين؟و اللّه،لو لا مكانك منّي، لحلفت أن لا أكلّمك أبدا،أين المرأة؟
قالت:فوفّيته خبرها،فالتفت إلى الخيزران،يصوّب فعلها،و جزاها خيرا.
ص:80
ثم قال لخادم بين يديه:احمل إليها عشرة آلاف دينار،و مائتي ألف درهم (1)، و بلّغها سلامي،و اعلمها أنّه لو لا خوفي من احتشامها لسرت إليها مسلّما عليها، و مخبرا لها بسروري بها،فقل لها:أنا أخوك،و جميع ما ينفذ فيه أمري،فأمرك فيه نافد مقبول.
قالت زينب:فإذا هي قد وردت إلينا مع الخادم،و على رأسها دواج ملحم (2)،حتى جلست.
فلقيها المهدي أحسن لقاء،فأقعدها عنده ساعة،[86 ن]تحادثه،ثم انصرفت إلى مقصورتها.
فهذا الحديث يا بنيّ،خير لك من كتاب.
قال:فأمسكت.
فقالت لي:قد اغتممت؟
فقلت لها:ما أغتمّ،ما أبقاك اللّه عزّ و جلّ لي.
فقالت:الليلة توافيك كتاب.
فلمّا كان الليل،أنفذت بها إليّ،و معها ما يساوي أضعاف ثمنها من كلّ صنف من الحليّ،و الرقيق،و غير ذلك (3).
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،هذا الخبر،فقال:روى أبو موسى محمّد بن الفضل عن أبيه،قال:
كنت ألفت زينب بنت سليمان بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس،أكتب عنها
ص:81
أخبار أهلها،و كانت لها وصيفة يقال لها:كتاب.
فذكر الحديث بطوله،على خلاف في الألفاظ يسير،و المعنى واحد،ليس فيه زيادة،إلاّ في ذكر المال،فإنّه ذكر أنّ الذي حملته الخيزران خمسمائة ألف درهم،و أنّ الذي حمله المهدي،ألف ألف درهم.
و أنّه لمّا أتاها رسول المهدي،جاءت،فقالت:ما عليّ من أمير المؤمنين حشمة،و ما أنا إلاّ من خدمه.
و أنّ زينب قالت في أوّل الخبر:أ تذكرين يا عدوّة اللّه حين جاءك عجائز أهلي يسألنك مسألة صاحبك[286 غ]بالإذن لنا في دفن صاحبنا إبراهيم الإمام،فوثبت عليهنّ.
و وجدت في كتاب آخر،هذا الخبر،بمثل هذا المعنى،على خلاف في الألفاظ،منها ما وجدته في كتاب القاضي أبي جعفر بن البهلول التنوخي الأنباري (1)، حكاه عن الفضل بن العبّاس بمثل هذا المعنى،بغير إسناد متّصل.
ص:82
فرّ من إسحاق المصعبيّ فوجد كنزا
و ذكر أبو الحسين القاضي في كتابه،قال:حدّثني أبي،عن أبي الحسين عبد اللّه بن محمّد الباقطائي،قال:
كنّا نتعلّم-و نحن أحداث-في ديوان إسحاق بن إبراهيم الطاهري، و معنا فتى من الكتّاب،له خلق جميل،يعرف بأبي غالب.
فزوّر جماعة من الكتّاب تزويرا بمال أخذوه،فوقف إسحاق على الخبر، فطلبهم،فظفر ببعضهم،فقطع[263 ر]أيديهم،و هرب الباقون.
و كان فيمن هرب،الفتى الذي كنت ألزم مجلسه،فغاب سنين كثيرة، حتى مات إسحاق.
فبينا أنا ذات يوم في بعض شوارع بغداد،فإذا به.
فقلت:أبو غالب؟
فقال:نعم،و إذا تحته دابّة فاره،بسرج محلّى،و ثياب حسنة.
فقلت:عرّفني حالك؟
قال:في المنزل.
فسرت معه،فاحتبسني ذلك[233 م]اليوم عنده،و رأيت له مروءة حسنة،فسألته عن خبره.
فقال:لمّا طلبنا إسحاق،استترت،فلمّا بلغني ما عامل به من كان معي في الجناية،ضاقت عليّ بغداد،فخرجت على وجهي،خوفا من عقوبة إسحاق، إن ظفر بي.
و لم أزل مستخفيا،إلى أن أتيت ديار مصر،أطلب التصرّف،فتعذّر عليّ، و تفرّق من كان معي،إلاّ غلام واحد.
ص:83
فرّقت حالي جدا،حتى بعت ما في البيت عن آخره،على قلّته.
فأصبحت يوما،فقال لي غلامي:أيّ شيء نعمل اليوم؟ما معنا حاجة.
فقلت:خذ مبطّنتي بعها،و اشتر لنا ما نحتاج إليه.
فخرج الغلام،و بقيت في الدار وحدي،أفكّر فيما دفعت إليه من الغربة و الوحدة،و العطلة،و الضيقة،و الشدّة،و تعذّر المعيشة و التصرّف،و كيف أصنع، و ممن أقترض،فكاد عقلى أن يزول.
فبنا أنا كذلك،و إذا بجرذ قد خرج من كوّة (1)في البيت،و في فمه دينار، فوضعه ثم عاد،فما زال كذلك،حتى أخرج ثمانين دينارا،فصفّها،ثم جعل يتقلّب عليها،و يتمرّغ،و يلعب.
ثم أخذ دينارا و دخل إلى الكوّة،فخشيت إن تركته أن يردّها جميعها إلى الموضع الذي أخرجها منه،فقمت،و أخذت الدنانير،و شددتها.
و جاء الغلام،[و معه ما قد ابتاعه،فتغدّينا،و قلت له:خذ هذا الدينار،فابتع لنا فأسا.
فقال:ما نصنع به؟] (2)
فحدّثته الحديث،و أريته الدنانير،و قلت له:قد عزمت على أن أقلع الكوّة.
ففعل ما أمرته به،و أفضى بنا الحفر إلى برنيّة (3)فيها سبعة آلاف دينار.
فأخذتها و أصلحت الموضع كما كان،و خرجت إلى بغداد،بعد أن أخذت بالمال سفاتج،و تركت بعضه معي.
ص:84
و أنفذت الغلام بالسفاتج إلى بغداد،و أقمت،حتى ورد عليّ كتاب الغلام بصحّة السفاتج،و تحصيل المال في بيتي،و كان إسحاق قد مات.
فانحدرت إلى بغداد،و ابتعت بالمال كلّه ضيعة،و لزمتها،فأثمرت،و نمت، و تركت التصرّف (1).
ص:85
أبو أميّة الفرائضي يخلّص رجلا من القتل
و حكى أبو أميّة الفرائضي (1)،قال:
كنت في الوفد الذي وفد على أبي جعفر من أهل البصرة،فلمّا مثلنا بين يديه،دعا برجل،فكلّمه،ثم أمر بضرب عنقه،فجذب ليقتل.
فقلت في نفسي:يقتل رجل من المسلمين،و أنا حاضر فلا أتكلّم؟
فقمت،فقلت:يا أمير المؤمنين،إن رأيت أن تأمر بالكفّ عن قتل هذا، حتى أخبرك بشيء سمعت الحسن يقوله.
فأمر بالكفّ عنه،و قال:قل.
قلت:سمعت الحسن يقول:قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذا كان يوم القيامة،جمع اللّه الأوّلين و الآخرين،في صعيد واحد،[211 ر] ينفذهم البصر،و يسمعهم المنادي،ثم يقوم مناد من قبل اللّه تعالى،فيقول:
ألا من كان له على اللّه حقّ فليقم،فلا يقوم إلاّ من عفا.
فقال أبو جعفر:اللّه الشاهد عليك،أنّك سمعت الحسن يقول ذلك؟
قلت:نعم،سمعته يقوله[222 غ]
فعفا عن الرجل،و أطلقه،فانصرف الرجل و هو يحمد اللّه على السلامة (2).
ص:86
المهدي يحتجّ على شريك برؤيا رآها في المنام
و حكى الحسن بن قحطبة (1)،قال:
استؤذن لشريك بن عبد اللّه القاضي (2)،على المهدي،و أنا حاضر،فقال:
عليّ بالسيف،فأحضر.
قال الحسن:فاستقبلتني رعدة لم أملكها،و دخل شريك،فسلّم،فانتضى المهدي السيف،و قال:لا سلّم اللّه عليك يا فاسق.
فقال شريك:يا أمير المؤمنين،إنّ للفاسق علامات يعرف بها،شرب الخمور،و سماع المعازف،و ارتكاب المحظورات،فعلى أيّ ذلك وجدتني؟
قال:قتلني اللّه إن لم أقتلك.
قال:و لم ذلك يا أمير المؤمنين،و دمي حرام عليك؟
قال:لأنّي رأيت في المنام،كأنّي مقبل عليك أكلّمك،و أنت تكلّمني من قفاك،فأرسلت إلى المعبّر،فسألته عنها،فقال:هذا رجل يطأ بساطك، و هو يسرّ خلافك.
فقال شريك:يا أمير المؤمنين،إنّ رؤياك ليست رؤيا يوسف بن يعقوب عليهما السلام،و إنّ دماء المسلمين لا تسفك بالأحلام (3).
ص:87
فنكّس المهدي رأسه،و أشار إليه بيده:أن أخرج،فانصرف.
قال الحسن:فقمت فلحقته،فقال:أما رأيت صاحبك،و ما أراد أن يصنع؟
فقلت:اسكت-للّه أبوك-ما ظننت أنّي أعيش حتى أرى مثلك (1).
ص:88
إنّ من البيان لسحرا
و حكى الحسن بن محمّد،قال:قال أحمد بن أبي دؤاد:
ما رأيت رجلا قط نزل به الموت،و عاينه،فما أدهشه،و لا أذهله،و لا أشغله عمّا كان أراده،و أحبّ أن يفعله،حتى بلغه،و خلّصه اللّه تعالى من القتل، إلاّ تميم بن جميل الخارجيّ (1)،فإنّه كان تغلّب على شاطىء الفرات،فأخذ، و أتي به إلى المعتصم باللّه.
فرأيته بين يديه،و قد بسط له النطع و السيف (2)،فجعل تميم ينظر إليهما، و جعل المعتصم يصعّد النظر فيه،و يصوّبه.
و كان تميم رجلا جميلا،و سيما،جسيما،فأراد المعتصم أن يستنطقه، لينظر أين جنانه (3)و لسانه،من منظره و مخبره.
فقال له المعتصم:يا تميم،تكلّم،إن كان لك حجّة أو عذر فابده.
فقال:أمّا إذ أذن أمير المؤمنين بالكلام،فأقول:الحمد للّه الذي أحسن كلّ شيء خلقه،و قد خلق الإنسان من طين،ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين،يا أمير المؤمنين،جبر اللّه بك صدع الدين،و لمّ شعث المسلمين،و أخمد بك شهاب الباطل،و أوضح نهج الحق،إنّ الذنوب تخرس الألسنة،و تعمي الأفئدة،و أيم اللّه،لقد عظمت الجريرة (4)،و انقطعت الحجّة،و كبر الجرم،
ص:89
و ساء الظنّ،و لم يبق إلاّ عفوك،أو انتقامك،و أرجو أن يكون أقربهما منّي و أسرعهما إليّ،أولاهما بإمامتك،و أشبههما بخلافتك،و أنت إلى العفو أقرب، و هو بك أشبه و أليق،ثم تمثّل بهذه الأبيات:
أرى الموت بين السيف و النطع كامنا يلاحظني من حيثما أتلفّت
و أكبر ظنّي أنّك اليوم قاتلي و أيّ امرىء مما قضى اللّه يفلت[43 ن]
و من ذا الذي يدلي بعذر و حجّة و سيف المنايا بين عينيه مصلت
يعزّ على الأوس بن تغلب موقف يهزّ عليّ السيف فيه و أسكت (1)
و ما جزعي من أن أموت و إنّني لأعلم أنّ الموت شيء موقّت
و لكنّ خلفي صبية قد تركتهم و أكبادهم من حسرة تتفتّت[212 ر]
كأنّي أراهم حين أنعى إليهم و قد خمشوا حرّ الوجوه و صوّتوا (2)
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الأذى عنهم و إن متّ موّتوا (3)
فكم قائل لا يبعد اللّه داره و آخر جذلان يسرّ و يشمت
قال:فتبسّم المعتصم (4)،ثم قال:أقول كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:إنّ من البيان لسحرا.
ثم قال:يا تميم كاد و اللّه أن يسبق السيف العذل،إذهب،فقد غفرت لك الهفوة،و تركتك للصبية،و وهبتك للّه و لصبيتك.
ثم أمر بفكّ قيوده،و خلع عليه،و عقد له على ولاية على شاطىء الفرات (5)، [و أعطاه خمسين ألف دينار] (6).
ص:90
سقى معن بن زائدة أسراه ماء
فأطلقهم لأنّهم أصبحوا أضيافه
و حكي أنّ معن بن زائدة،جيء إليه بثلثمائة أسير،فأمر بضرب أعناقهم، و أحضر السيّاف،و النطع.
فقدّم واحد منهم،فقتل،ثم قدّم غلام منهم،و كان له فهم و بلاغة.
فقال:يا معن،لا تقتل أسراك و هم عطاش.
فقال:أسقوهم ماء،فشربوا.
فقال:أيّها الأمير،أ تقتل أضيافك؟
فقال:خلّوا عنهم،فأطلقوا كلّهم (1).
ص:91
فتى بغدادي قدّم للقتل
و سئل ما يشتهي فطلب رأسا حارّا و رقاقا
و حكى محمّد بن الحسن بن المظفّر،قال:
حضرت العرض في مجلس الجانب الشرقي ببغداد (1)،أيّام نازوك،فأخرج خليفة نازوك (2)على المجلس جماعة،فقتل بعضهم.
ثم أخرج غلاما حدث السن،مليح المنظر،فرأيته لمّا وقف بين يدي خليفة نازوك،تبسّم.
فقلت:يا هذا،أحسبك رابط الجأش،لأنّي أراك تضحك في مقام يوجب البكاء،فهل في نفسك شيء تشتهيه؟
فقال:نعم،أريد رأسا حارا (3)و رقاقا (4).
فسألت صاحب المجلس أن يؤخّر قتله إلى أن أطعمه ذلك،و لم أزل ألطف
ص:92
به،إلى أن أجاب،و هو يضحك منّي،و يقول:أيّ شيء ينفع هذا،و هو يقتل؟
قال:و أنفذت من أحضر الجميع بسرعة،و استدعيت الفتى،فجلس يأكل غير مكترث بالحال،و السيّاف قائم،و القوم يقدّمون،فتضرب أعناقهم.
فقلت:يا فتى،أراك تأكل بسكون،و قلّة فكر.
فأخذ قشّة (1)من الأرض،فرمى بها،رافعا يده،و قال و هو يضحك:
يا هذا،إلى أن تسقط هذه إلى الأرض مائة فرج.
قال:فو اللّه،ما استتمّ كلامه،حتى وقعت صيحة عظيمة،و قيل:قد قتل نازوك.
و أغارت العامّة على الموضع،فوثبوا بصاحب المجلس،و كسروا باب الحبس، و خرج جميع من كان فيه.
فاشتغلت أنا عن الفتى،و جميع الأشياء،بنفسي،حتى ركبت دابّتي مهرولا،و صرت إلى الجسر،أريد منزلي.
فو اللّه،ما توسّطت الطريق،حتى أحسست بإنسان قد قبض على إصبعي برفق،و قال:يا هذا،ظنّنا باللّه-عزّ و جلّ-أجمل من ظنّك،فكيف رأيت لطيف صنعه.
فالتفتّ،فإذا الفتى بعينه،فهنأته بالسلامة،فأخذ يشكرني على ما فعلته، و حال الناس و الزحام بيننا،و كان آخر عهدي به (2).
ص:93
أشرف يحيى البرمكي على القتل
فخلّصه إبراهيم الحرّاني وزير الهادي
و حكي:أنّ موسى الهادي كان قد طالب أخاه هارون أن يخلع نفسه من العهد،ليصيّره لابنه من بعده (1)،و يخرج هارون من الأمر،فلم يجب إلى ذلك.
و أحضر يحيى بن خالد البرمكي،و لطف به،و داراه،و وعده و منّاه،و سأله أن يشير على هارون بالخلع،فلم يجب يحيى إلى ذلك،و دافعه مدّة.
فتهدّده و توعّده،و جرت بينهما في ذلك خطوب طويلة،و أشفى يحيى معه على الهلاك،و هو مقيم على مدافعته عن صاحبه.
إلى أن اعتلّ الهادي،علّته التي مات منها،و اشتدّت به،فدعا يحيى، و قال له:ليس ينفعني معك شيء،و قد[222 غ]أفسدت أخي عليّ، و قوّيت نفسه،حتى امتنع مما أريده،و و اللّه لأقتلنّك،ثم دعا بالسيف و النطع، و أبرك يحيى،ليضرب عنقه.
فقال إبراهيم بن ذكوان (2)الحرّاني[213 ر]يا أمير المؤمنين:إنّ ليحيى
ص:94
عندي يدا،أريد أن أكافئه عليها،فأحبّ أن تهبه لي الليلة،و أنت في غد تفعل به ما تحبّ.
فقال له:ما فائدة ليلة؟
فقال:إمّا أن يقود صاحبه إلى إرادتك يا أمير المؤمنين،أو يعهد في أمر نفسه و ولده،فأجابه.
قال يحيى:فأقمت من النطع،و قد أيقنت بالموت،و أيقنت أنّه لم يبق من أجلي إلاّ بقيّة الليلة،فما اكتحلت عيناي بغمض إلى السحر.
ثم سمعت صوت القفل يفتح عليّ،فلم أشكّ أنّ الهادي قد استدعاني للقتل،لمّا انصرف كاتبه.
و انقضت الليلة،و إذا بخادم قد دخل إليّ،و قال:أجب السيّدة.
فقلت:ما لي و للسيّدة؟
فقال:قم،فقمت،و جئت إلى الخيزران.
فقالت:إنّ موسى قد مات،و نحن نساء،فادخل،فأصلح شأنه،و أنفذ إلى هارون،فجئ به.
فأدخلت،فإذا به ميتا،فحمدت اللّه تعالى على لطيف صنعه،و تفريج ما كنت فيه،و بادرت إلى هارون،فوجدته نائما،فأيقظته.
فلمّا رآني،عجب،و قال:ويحك ما الخبر؟
قلت:قم يا أمير المؤمنين إلى دار الخلافة.
فقال:أو قد مات موسى؟
قلت:نعم.
فقال:الحمد للّه،هاتوا ثيابي،فإلى أن لبسها،جاءني من عرّفني أنّه
ص:95
ولد له ولد من مراجل،و لم يكن عرف الخبر،فسمّاه عبد اللّه،و هو المأمون (1)و ركب،و أنا معه،إلى دار الخلافة.
و من العجب أنّ تلك الليلة،مات فيها خليفة،و جلس خليفة،و ولد خليفة (2).
ص:96
رمي من أعلى القلعة أوّلا و ثانيا فنجا و سلم
و حكى الشريف أبو الحسن محمّد بن عمر العلوي الزيدي (1)،قال:
لمّا حصلت محبوسا بقلعة خست (2)بنواحي نيسابور،من فارس،حين حبسني عضد الدولة بها،كان صاحب القلعة الذي أسلمت إليه يؤنسني بالحديث.
فحدّثني يوما:أنّ هذه القلعة كانت في يد رجل كان راعيا بهذه البلاد،ثم صار قائدا،و احتوى عليها،فصارت له معقلا،و انضمّ إليه اللصوص،فصار يغير بهم على النواحي،فيخرجون،و يقطعون الطريق،و ينهبون[44 ن]القرى، و يفسدون،و يعودون إلى القلعة،فلا تمكن فيهم حيلة،إلى أن قصدهم أبو الفضل ابن العميد (3)،و حاصرهم مدّة،و افتتحها،و سلّمها إلى عضد الدولة.
قال:فكان في محاصرة أبي الفضل لهم،ربما نزلوا و حاربوه،فظفر منهم
ص:97
في وقعة كانت بينه و بينهم بنحو خمسين رجلا،فأراد قتلهم قتلة يرهب بها من في القلعة.
قال:و هي على جبل عظيم،حياله بالقرب منه جبل آخر أعظم منه،و عليه نزل أبو الفضل.
فأمر بالأسارى،فرمي بهم من رأس الجبل الذي عليه القلعة،فيصل الواحد منهم إلى القرار قطعا،قد قطّعته الأضراس الخارجة في الجبل و الحجارة.
ففعل ذلك[223 غ]بجميعهم،حتى بقي غلام حين بقل وجهه (1)،فلمّا طرح وصل إلى الأرض سالما،فما لحقه مكروه،و قد تقطّع حبل كتافه،فقام الغلام يمشي في قيده طالبا الخلاص.
فكبّر الديلم،و أهل عسكر أبي الفضل استعظاما للصورة،و كبّر أهل القلعة.
فاغتاظ أبو الفضل،و أمر بردّ الغلام،فنزل من جاء به،فأمر أن يكتّف و يرمى ثانية.
فسأله من حضر أن يعفو عن الغلام،فلم يفعل،و ألحّوا عليه،فحلف أنّه لا بدّ أن يطرحه ثانية،فأمسكوا.
و طرح الغلام،فلمّا بلغ القرار قام يمشي سالما،و ارتفع من التكبير و التهليل أضعاف ما ارتفع أوّلا.
فقال الحاضرون:هل بعد هذا شيء؟و سألوه العفو عنه،و بكى بعضهم.
فاستحى أبو الفضل و عجب،و قال:ردّوه آمنا،فردّوه.
فأمر بقيوده ففكّت،و بثياب فطرحت عليه،و قال له:[214 ر]أصدقني عن سريرتك مع اللّه-عزّ و جلّ-التي نجّاك بها هذه النجاة.
ص:98
فقال:ما أعلم لي حالا توجب هذا،إلاّ أنّي كنت غلاما أمردا،مع أستاذي فلان،الذي هو أحد من قتل الساعة،و كان يأتي منّي الفاحشة، و يخرجني معه،فنقطع الطريق،و نخيف السبيل،و نقتل الأنفس،و ننهب الأموال،و نهتك الحرم،و نفجر بهنّ،و نأخذ كل ما نجد،لا أعرف غير هذا.
فقال له أبو الفضل:كنت تصوم و تصلّي؟
قال:ما كنت أعرف الصلاة،و لا صمت قط،و لا فينا من يصوم.
فقال له:ويلك،فما هذا الأمر الذي نجّاك اللّه به،فهل كنت تتصدّق؟
قال:و من كان يجئنا حتى نتصدّق عليه؟
قال:ففكّر،و اذكر شيئا،إن كنت فعلته للّه عزّ و جلّ،و إن قلّ.
ففكّر الغلام ساعة،ثم قال:نعم،سلّم إليّ استاذي منذ سنين،رجلا كان أسره في بعض الطرقات،بعد أن أخذ جميع ما معه،و صعد به إلى القلعة.
و قال له اشتر نفسك بمال تستدعيه من بلادك و أهلك،و إلاّ قتلتك.
فقال الرجل:ما أملك من الدنيا كلّها غير ما أخذته منّي.
فعذّبه أيّاما و هو لا يذعن بشيء.
ثم جدّ به يوما في العذاب جدّا شديدا،فحلف الرجل باللّه تعالى،و بالطلاق، و بأيمان غليظة،أنّه لا يملك من الدنيا إلاّ ما أخذه منه،و أنّه ليس له في بلده إلاّ نفقة جعلها لعياله،قدرها نفقة شهر،إلى أن يعود إليهم،و أنّ الصدقة الآن تحلّ له و لهم،و استسلم الرجل للموت.
فلمّا وقع في نفس أستاذي أنّه صادق،قال:إنزل به،و أمض إلى الموقع الفلاني،فاذبحه،و جئني برأسه.
فأخذت الرجل،و حدرته من القلعة،فلمّا رآني أعسفه،قال لي:إلى أين تمضي بي؟و أيّ شيء تريد منّي؟فعرّفته ما أمرني به أستاذي،فجعل يبكي، و يلطم،و يتضرّع،و يسألني أن لا أفعل،و يناشدني اللّه عزّ و جلّ،و ذكر لي
ص:99
أنّ له بنات أطفالا،لا كادّ لهم و لا كاسب سواه،و خوّفني باللّه عزّ و جلّ، و سألني أن أطلقه.
فأوقع اللّه تعالى رحمة له في قلبي،فقلت له:إن لم أرجع إليه برأسك قتلني، و لحقك فقتلك.
فقال:يا هذا أطلقني أنت،و لا تعد[224 غ]إلى صاحبك إلاّ بعد ساعة، و أعدو أنا فلا يلحقني،و إن لحقني،كنت أنت قد برأت من دمي،و صاحبك لا يقتلك مع محبّته لك،فتكون قد أجرت فيّ.
فازدادت رحمتي له،فقلت له:خذ حجرا،فأضرب به رأسي،حتى يسيل دمي،و أجلس ها هنا،حتى أعلم أنّك قد صرت على فراسخ،ثم أعود أنا إلى القلعة.
فقال:لا أستحسن أن أكافئك على خلاصي بأن أشجّك.
فقلت:لا طريق إلى خلاصك،و خلاص نفسي،إلاّ هكذا.
ففعل،و تركني،و طار عدوا،و جلست في موضعي،حتى وقع لي أنّه صار على فراسخ كثيرة،و جئت إلى أستاذي غريقا بدمائي.
فقال:ما بالك،و أين الرأس؟
فقلت:سلّمت إليّ شيطانا،لا رجلا،ما هو إلاّ أن حصل معي في الصحراء حتى صارعني،فطرحني إلى الأرض،و شدخني بالحجارة،كما ترى،و طار يعدو،فغشي عليّ،فمكثت في موضعي إلى الآن،فلمّا رقأ دمي (1)،و رجعت قوّتي،جئتك.
فأنزل خلقا وراءه،فعادوا من غد،و فتّشوا عليه،فما وقفوا له على أثر، فإن يكن اللّه تعالى،قد خلّصني لشيء فعلته،فلهذا.
ص:100
قال:فجعله أبو الفضل راجلا (1)على بابه برزق له قدر،و اصطنعه.
[قال لي الشريف:و حدّثني بهذا الخبر جماعة ممن كانوا في القلعة،و غيرهم ممن شاهدوا القصّة،و منهم من أخبر عمّن شاهدها،و وجدت الخبر بعده شائعا بفارس] (2).
ص:101
سقط من علوّ ألف ذراع و نهض سالما
و قريب من هذا ما حدّثني به الشريف أبو الحسن-أيّده اللّه-قال:
كان رجل بالكوفة،سمّاه،و أنسيت أنا اسمه،مشهور بها،يجيء إلى إصبع خفّان (1)،و هو بناء قديم مشهور بنواحي الكوفة،كالقائم (2)،يقال إنّه كان مرقبا للأكاسرة على العرب،و هو مجوّف،و في داخله درجة،فيصعدها إلى أن يسمو فيه على تسعين ذراعا،ثم لا يبقى موضع صعود لأحد،و هناك سطيح حرّاس المنارة،و يقف الإنسان فيه،و له منافذ يرى منها البرّ،و تكون المنافذ إلى أسفل صدر القائم فيه،و على باقي البناء قبّة كالبيضة،لا يصل (3)إليها من يكون هناك،كما تكون رؤوس المنائر.
ص:102
و كان هذا الرجل يخرج نفسه[45 ن]من بعض المنافذ،و يقلب فيصير فوق البيضة بحذق و لطف قد تعوّدهما،و كان قد جعل قديما فوق البيضة حجر مدوّر كالرحى،له سفّود حديد (1)،لا يعرف الغرض من تصييره هناك لطول الزمان،فيقلب الرجل نفسه من النافذة فيقعد فوق تلك الرحى،و كان القائم مبنيّا على حرف النجف،و طوله إلى بطن النجف أكثر من ألف ذراع أو نحوه، فيصير الرجل عاليا علوّا عظيما،و يعجب الناس من ذلك،و يأخذ عليه منهم البرّ.
و إنّ رجلا أتاه و هو متنبّذ (2)،فأعطاه شيئا ليصعد للقائم،ففعل ذلك جاريا على عادته،فلغلبة النبيذ عليه لم يتحرّز التحرّز التامّ لمّا أخرج نفسه من أحد المنافذ لينقلب على الرحى،فاضطرب جسمه و علق بالرحى،و جاء ليركبه، فانقلع الرحى معه،و هويا جميعا من ذلك العلوّ المفرط إلى بطن النجف، و لثقل الحجر،و أنّ الرجل لم يكن تحته،ما سبق الحجر إلى الأرض،فتقطّع قطعا،و دخلت الريح في ثياب الرجل،و رآه الناس فصاحوا،و كبّروا عجبا، و الريح تحمل الرجل على مهل،حتى طرحته في قرار النجف،فقام يمشي، ما أصابه شيء البتة،حتى صعد من موضع سهل أمكنه الصعود منه إلى إصبع خفّان.
و حدّثني أنّ هذا شائع ذائع بالكوفة،لم يكن في عمره،و لكن أخبر به جماعة كبيرة من شيوخ الكوفة (3).
ص:103
بين المهدي و يعقوب بن داود
و قرىء على أبي بكر الصولي،و أنا حاضر أسمع،حدّثكم الحسن العنبري، قال:
أمر المهدي بيعقوب بن داود الكاتب،بعد أن نكبه،أن يؤتى به إليه، فجاء،و قد انتضى له السيف.
فقال:يا يعقوب.
قال:لبّيك يا أمير المؤمنين،تلبية مكروب[215 ر]لموجدتك،شرق بغضبك.
فقال:ألم أرفع قدرك و أنت خامل،و أسيّر ذكرك و أنت غافل،و ألبسك من نعم اللّه و نعمي،ما لم أجد عندك طاقة لحمله،و لا قياما بشكره،فكيف رأيت اللّه أظهر عليك،و ردّ كيدك إليك؟
قال:يا أمير المؤمنين،إن كنت قلت هذا بعلم و يقين،فأنا معترف، و إن كان بسعاية الساعين،فأنت بما في أكثرها عالم،و أنا عائذ بكرمك، و عميم شرفك.
فقال:لو لا ما سبق لك من رعايتي لاستحقاقك،لألبستك من الموت قميصا، اذهبوا به إلى المطبق.
فذهبوا به و هو يقول:الاختلاط رحم،و الوفاء كرم،و ما على العفو يذمّ، و أنت بالمحاسن جدير،و أنا بالعفو خليق.
فلم يزل محبوسا،حتى أطلقه الرشيد (1).
ص:104
قال الصولي:و لمّا أوقع المهدي بيعقوب بن داود،أحضر إسحاق بن الفضل ابن عبد الرحمن الربعي الهاشمي.
فقال له:أ تزعم أنّكم الكبراء من ولد عبد المطّلب،لأنّ الحارث أباكم أكبر ولده،و لذلك صرت أحقّ بالخلافة منّي؟
فقال إسحاق:على من قال هذا،أو نواه،لعنة اللّه،و إذا صح عليّ هذا، فاقتلني.
فقال:يعقوب بن داود قال لي هذا عنك.
فقلت في نفسي:يعقوب قد قتل،و لم أشكّ في ذلك،فقد أمنت من أن يبهتني.
فقلت:يا أمير المؤمنين،إن واجهني يعقوب بهذا فقد اعترفت به.
فأحضر يعقوب مقيّدا،فقال له:أما أخبرتني عن[225 غ]إسحاق بكذا؟
قال إسحاق:فأحسست-و اللّه-بالموت،إلى أن قال يعقوب:و اللّه،ما قلت لك هذا قط.
قال:بلى و اللّه.
قال:لا و اللّه،فاغتاظ المهدي.
فقال له يعقوب:إن أذكرتك القول في هذا،تزيل التهمة عنّي؟
قال:نعم.
قال:أتذكر يوم شاورتني في أمر مصر،فأشرت عليك بإسحاق.
فقلت:ذاك يزعم أنّه أولى بالخلافة منّي،و قد كان مبارك التركي حاضرا ذلك،فاسأله،فذكر المهدي ذلك.
ثم أقبل المهدي يوبّخ يعقوب على أفعاله،و يعقوب يقوم بالحجّة.
إلى أن قال له يعقوب:يا أمير المؤمنين،أتذكر حيث أعطيتني عهد اللّه و ميثاقه،و ذمّة رسوله،و ذمّة آبائك،أن لا تقتلني،و لا تحبسني،و لا تضربني
ص:105
أبدا،و لو قتلت موسى و هارون (1).
قال:فوثب المهدي من مجلسه،و ردّ يعقوب إلى حبسه،و خرجت أنا (2).
ص:106
جزاء الخيانة
و حكى أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق التنوخي:
أنّ رجلا أمسى في بعض محالّ الجانب الغربي من مدينة السلام،و معه دراهم لها قدر.
فخاف على نفسه من الطائف (1)،أو من بليّة تقع عليه،فصار إلى رجل من أهل الموضع،و سأله أن يبيّته عنده،فأدخله.
فلمّا تيقّن أنّ معه مالا،حدّث نفسه بقتله،و أخذ المال.
و كان له ابن شاب،فنوّمه بحذاء الرجل،في بيت واحد،و لم يعلم ابنه ما في نفسه،و خرج من عندهما،و قد عرف مكانهما،و طفئ السراج.
فقدّر أنّ الابن انتقل من موضعه إلى موضع الضيف،و انتقل الضيف إلى موضع الابن،و جاء أبوه يطلب الضيف،فصادف الابن فيه،و هو لا يشكّ أنّه الضيف،فخنقه،فاضطرب،و مات.
و انتبه الضيف باضطرابه،و عرف ما أريد به،فخرج هاربا،و صاح في الطريق،و وقف الجيران على خبره،و أغاثوه،و خرجوا إليه.
و أخذ الرجل،فقرّر،فأقرّ بقتل ولده،فحبس،و أخذ المال من داره، فردّ على الضيف،و سلم (2).
ص:107
الخائن لا يؤتمن
قال مؤلّف هذا الكتاب:و قد جرى[46 ن]في عصرنا مثل هذا،فحدّثني مبشر الرومي (1)،قال:
لمّا خرج معزّ الدولة في سنة سبع و ثلاثين و ثلثمائة،و انهزم ناصر الدولة من بين يديه،أنفذني مولاي،لأكون بحضرته،و حضرة أبي جعفر الصيمري كاتبه، و أوصل كتبه إليهما.
فسمعت حاشية الصيمري،يتحدّثون:أنّه جاء إليه ركابيّ من ركابيّته، و قال له:أيّها الأمير،إن قتلت لك ناصر الدولة،أيّ شيء تعطيني؟
قال له:ألف دينار.
قال:فأذن لي أن أمضي و أحتال في اغتياله،فأذن له.
فمضى إلى أن دخل عسكره،و عرف موضع مبيته من خيمته،فرصد الغفلة حتى دخلها ليلا،و ناصر الدولة نائم،و بالقرب من مرقده شمعة مشتعلة، و في الخيمة غلام نائم.
فعرف موضع رأسه من المرقد،ثم أطفأ الشمعة،و استلّ سكينا طويلا ماضيا كان في وسطه،و أقبل يمشي في الخيمة،و يتوقّى أن يعثر بالغلام،و هو يريد موضع ناصر الدولة.
فإلى أن وصل إليه انقلب ناصر الدولة من الجانب الذي كان نائما عليه، إلى الجانب الآخر،و زحف في الفراش،فصار رأسه على الجانب الآخر من
ص:108
المخادّ و الفراش،و بينه و بين الموضع الذي كان فيه مسافة يسيرة.
و بلغ الركابي إلى الفراش،و هو لا يظنّ إلاّ أنّه فيه و أنّه في مكانه.
فوجأ الموضع بالسكين بجميع قوّته،و عنده أنّه قد أثبتها في صدر ناصر الدولة،و تركها في موضعها،و خرج من تحت أطناب الخيمة.
و صار في الوقت إلى عسكر معزّ الدولة،فوصل إليه،فأخبره أنّه قتل ناصر الدولة،و طالب بالجعالة،فاستشرحه كيف صنع،فشرحه.
فقال له:اصبر حتى يرد جواسيسي بصحّة الخبر.
فلمّا كان بعد يومين ورد الجواسيس بأخبار عسكر[216 ر]ناصر الدولة، و ما يدلّ على سلامته[و أنّ إنسانا أراد أن يغتاله،فكان كيت و كيت] (1)،و ذكر له خبر السكّين.
فأحضر معزّ الدولة الركابي،و سلّمه إلى أبي جعفر محمّد بن أحمد الصيمري -الهلالي،فيما سمعت إذ ذاك-و قال له:إكفني أمر هذا الركابيّ،فإنّ من تجاسر على الملوك لم يجز أن آمنه على نفسي.
فغرّقه الصميري سرّا (2).
ص:109
أراد ابن المعتزّ قتل يحيى بن علي المنجّم
فلم يمهله القدر
قال مؤلّف هذا الكتاب:كان يحيى بن علي المنجم (1)قد ناقض أبا العبّاس عبد اللّه بن المعتزّ،في أشعار جرت بينهما،في تفضيل ما بين العرب و العجم، و الطالبيين و العبّاسيين،و اشتدّت الحال بينهما،إلى أن بادأه يحيى بالعداء و الهجاء،و ذلك طويل مشهور،و ليس هذا موضع ذكره.
فلمّا بويع ابن المعتزّ،و أطاعه الجيش،و جلس للنظر في الأمور،و أشار أهل يحيى عليه بالهرب،و همّ هو به خوفا من القتل،أتته رسل ابن المعتزّ يطلبونه للبيعة،فدخل إليه و هو آيس من الحياة،فبايعه،و ثار الشرّ في وجهه حتى خاف أن يبادره،ثم انصرف لاشتغال ابن المعتزّ عنه بإحكام البيعة، و عمل يحيى على التواري و إسلام النعمة.
فلمّا كان من الغد،انتقض أمر ابن المعتزّ،و كفي يحيى أمره (2).
و حكى الصولي في كتابه«كتاب الوزراء» (3)[قال:حدّثني الحسن بن إسماعيل الجليس] (4)،قال:دخل يحيى بن علي المنجّم،إلى عبد اللّه بن المعتزّ،
ص:110
متقلّدا سيفا،و معه ابناه،فسلّم عليه[226 غ]بالخلافة.
فقال له،قليلا قليلا،و من حوله يسمع:لا سلّم اللّه عليك،يا كلب، أ لست الهاجي سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و الفاخر[بعجمك](4)على أهله؟و اللّه،لأطعمنّ الطير لحمك.
قال:و خفت أن يعجل فيأمر به،فجعلت أومىء إلى الانتظار به،فسلم، و لا أحسب ذلك إلاّ لأنّه كان يعدّ له ما القتل معه راحة.
ثم قال:كلاب غذتهم نعمتنا،و أشادت بذكرهم خدمتنا،سعوا بالباطل علينا،و جحدوا إحساننا،و هجوا نبيّنا عليه السلام،حتى إذا أظلّهم العذاب، و أسلمتهم الحراب (1)،تحصّنوا بالرفض،و مدحوا أهلنا،و أخصّ الناس بنا، لتنصرهم علينا طائفة منّا،و ليتألّفوا قلوبا نفرت عنهم و لم يعلم الجاهل الكافر، أنّنا و بني عمّنا من آل أبي طالب،لو افترقنا في كلّ شيء تجتمع الناس عليه، ما افترقنا في أنّ الثالب لسيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم كافر،و الفاخر عليه فاجر،و أنّا جميعا نرى قتله،و نستحلّ دمه.
فما زلنا نسكّن منه و نحتال للعذر عنه وجها،و هو لا يقبل،و يعنّفنا،و يقول:
ليس بمسلم من خالف قولي هذا (2).
و أنشدني يحيى بن علي،لنفسه،بعد أن قتل ابن المعتزّ:
نفخت في غير فحم يا قاطعا كلّ رحم
لمّا تألّيت بغيا أن تطعم الطير لحمي
حميت منك فصار ال مباح ما كنت تحمي
فاذهب إلى النار فازحم سكّانها أيّ زحم (3)
ص:111
قال الصولي:و لمّا ولي أبو الحسن بن الفرات الوزارة الأولى،دخل عليه يحيى بن عليّ فأنشده قصيدة،يهنّيه بها،و ذكرها الصولي،فمنها مما يدخل في هذا المعنى،قوله:
و ليس وزارة الخلفاء نهبا و ليس خلافة الرحمن عاره
تجلّت غبرة كنّا أصبنا بها و المسلمون على إباره (1)
فأعقبنا الزمان رضى بسخط و أبدلنا الحلاوة بالمراره (2)
ص:112
الحجّاج بن خيثمة ينصح الحسن بن سهل
حدّثنا أبو محمّد عبد الرحمن الورّاق المعروف بالصيرفي (1)،ابن أبي العبّاس محمّد بن أحمد الأثرم المقرىء البغدادي بالبصرة في المحرم سنة خمس و أربعين و ثلثمائة بكتاب«المبيّضة»لأبي العبّاس أحمد بن عبيد اللّه[47 ن]بن عمّار (2)، في خبر أبي السرايا الخارج بالطالبيّين بعد مقتل الأمين،و شرح غلبة الطالبيّين و أصحاب أبي السرايا على الكوفة،و البصرة،و أكثر السواد،و الحرمين،و اليمن، و الأهواز،و غير ذلك،قال:حدّثنا أبو الحسن عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي (3)،قال:
لمّا انصرف الطالبيّون عن البصرة،تفرّقوا،فتوارى بعضهم ببغداد و بعضهم بالكوفة،و كان فيمن توارى زيد بن موسى بن جعفر بن محمّد،فطلبه الحسن (4)طلبا شديدا حتى دلّ على موضعه،فأرسل إليه من هجم عليه فأتى به،ثم جلس مجلسا عامّا من أجله،و دعا به،فأنّبه،و وبّخه،و قال:قتلت الناس،و سفكت دماء المسلمين،و فعلت،و فعلت.
ثم أقبل على من حضره من الناس و الهاشميّين و غيرهم،و قال:ما ترون فيه؟ فأمسكوا جميعا.
ص:113
و انبرى له قثم بن جعفر بن سليمان،فقال:أرى أيّها الأمير أن تضرب عنقه،و دمه في عنقي.
فأمر به الحسن،فشدّ رأسه بالحبل،و انتضي له السّيف،و لم يبق إلاّ أن بومئ بالضرب،فيضرب.
إذ صاح الحجّاج بن خيثمة-و هي أمّه-و قد حضر المجلس ذلك اليوم، قال:و هو رجل من أهل البصرة له قدر،و أمّه أخت عبيد اللّه بن سالم مولى بلقين،و كان الرشيد جعل إليه أمر الصواري و البارجات (1)،و كانت له في نفسه هيأة و حال و سرو،فاحتمل أن يولّى هذا،و كانت حاله،بعد،حالا حسنة، و قدره غير وضيع.
فقال:أيّها الأمير،إن رأيت أن لا تعجل،و أن تدعوني إليك،فإنّ لك عندي نصيحة.
ففعل الحسن،و أمسك الذي بيده السيف،و استدناه.
فلمّا دنا،قال:أيّها الأمير،أتاك بما تريد فعله أمر أمير المؤمنين؟
قال:لا.
قال:فكان قد عهد إليك،إذا ظفرت بهذا الرجل أن تقتله،و استأمرت به بعد ظفرك به،فأمرك بذلك؟
قال:لا ذا و لا ذا.
قال:أ تقتل ابن عمّ أمير المؤمنين عن غير أمره،و لا استطلاع رأيه فيه؟
قال:ثمّ حدّثه بحديث عبد اللّه بن الأفطس،و أنّ الرشيد حبسه عند جعفر بن يحيى،فأقدم عليه،فقتله من غير أمره،و بعث برأسه إليه،مع هدايا النيروز،و أنّ الرشيد لمّا أمر مسرورا الكبير بقتل جعفر،قال له:إذا سألك
ص:114
عن ذنبه الذي أقتله من أجله،فقل له:إنّما أقتلك بابن عمّي ابن الأفطس الذي قتلته من غير أمري.
ثم قال الحجّاج للحسن:أ فتأمن أيّها الأمير حادثة تحدث بينك و بين أمير المؤمنين فيحتجّ عليك بمثل ما احتجّ به الرشيد على جعفر؟
فجزاه خيرا،و أمر أن يرفع عن زيد السيف،و أن يردّ إلى محبسه فلم يزل محبوسا حتى ظهر أمر إبراهيم بن المهدي،فجدّ أهل بغداد بالحسن بن سهل فأخرجوه منها.
قال:و كان حبسه عند الطيّب بن يحيى،و كان صاحب حرسه،قال:
و حبس معه أحمد بن محمّد بن عيسى الجعفري،أخا العبّاس بن محمّد صاحب البصرة،فضيّق عليهما محبسهما حتى جعلهما في سفينة،و أطبق عليها ألواحا، و جعل لها فتحا يدخل منه الطعام و الشراب،و عندهما دنّ مقطوع الرأس يحدثان فيه،فإذا كاد يمتلىء،أخرج فرمي ما فيه،ثم ردّ.
فلم يزل ذلك حالهما،حتى بايع المأمون لعليّ بن موسى الرضا،فكتب إلى الحسن في إطلاقهما،ففعل الحسن ذلك. (1)
ص:115
يحيى البرمكي يغري الرشيد بجعفر بن الاشعث
و حدّثنا أبو محمّد عبد الرحمن بن الأثرم،في هذا الكتاب، (1)في خبر موسى بن جعفر بن محمّد،قال:حدّثنا أبو العبّاس بن عمّار،قال:حدّثني أبو الحسن النوفلي،و هو علي بن محمّد بن سليمان بن عبد الملك بن الحارث بن نوفل،قال:
حدّثني أبي،أنّ بدء سعي يحيى بن خالد البرمكي،على موسى بن جعفر، كان سببه وضع الرشيد ابنه محمّدا في حجر جعفر بن محمّد بن الأشعث (2)،فساء ذلك يحيى،و قال:إذا مات الرشيد،و أفضى الأمر إلى ولده محمّد (3)انقضت دولتي،و دولة ولدي،و تحوّل الأمر إلى جعفر و ولده،و قد كان عرف مذهب جعفر في التشيّع،فأظهر له إنّه على مذهبه،فلمّا أنس به جعفر،أفضى إليه بجميع أمره،و ذكر له ما هو عليه في موسى بن جعفر.
و كان الرشيد يرعى له موضعه،و موضع أبيه من الخلفاء (4)،فكان يقدّم في
ص:116
أمره و يؤخّر،و يحيى لا يألو أن يحطب عليه،إلى أن دخل يوما على الرشيد، و جرى بينهما حديث،فمتّ جعفر بخدمته و خدمة أبيه،فأمر له بعشرين ألف دينار،فأمسك يحيى أيّاما،ثم قال للرشيد:قد كنت أخبرك عن جعفر و مذهبه،فأكذّب عنه،و ها هنا أمر فيه الفصل،إنّه لا يصير إليه مال إلاّ أخرج خمسه فوجّه به إلى موسى بن جعفر،و لست أشكّ أنّه فعل ذلك في العشرين ألف دينار التي أمرت له بها.
فأرسل الرشيد إلى جعفر ليلا يستدعيه،و قد كان جعفر عرف سعاية يحيى عليه،مساسا (1)للعداوة،فلمّا طرق جعفرا رسول الرشيد لم يشكّ أنّه سمع من يحيى فيه،فأفاض عليه ماء،و دعا بمسك و كافور،و تحنّط بهما، (2)و لبس بردة (3)، و أقبل إلى الرشيد،فلمّا دنا منه ليخاطبه،شمّ منه رائحة الكافور،و رأى البردة، فقال:ما هذا يا جعفر؟
قال:يا أمير المؤمنين،قد علمت أنّه يسعى عليّ عندك،فلمّا جاءني رسولك في هذه الساعة،علمت أنّك أرسلت إليّ لتقتلني.
قال:كلاّ،و لكن أخبرت أنّك تبعث إلى موسى بن جعفر من كلّ ما يصير إليك بخمسه (4)،و أنّك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار،و أحببت أن أعلم ذلك.
ص:117
فقال جعفر:اللّه أكبر،يا أمير المؤمنين،مر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخاتمها.
فقال الرشيد لبعض الخدم:خذ خاتم جعفر و انطلق حتى تأتي بهذا المال، و أسمى له جاريته التي ماله عندها،فدفعت إليه البدر بخواتمها،فأتى بها إلى الرشيد.
فقال له جعفر:يا أمير المؤمنين،هذا أوّل ما تعرف به كذب من سعى بي إليك.
فقال:صدقت،انصرف آمنا،فإنّي لا أقبل فيك،بعد هذا قول أحد (1).
ص:118
هب مجرم قوم لوافدهم
[حدّثنا علي بن الحسن،قال:حدّثنا ابن الجرّاح،قال:حدّثنا ابن أبي الدنيا،قال:بلغني عن العريان بن الهيثم (1)،عن أبيه] (2).
أنّ عبيد اللّه بن زياد،وجّهه إلى يزيد بن معاوية،رسولا في حاجته،فدخل، فإذا خارجيّ بين يدي يزيد يخاطبه.
فقال له الخارجي في بعض ما خاطبه:يا شقيّ.
فقال:و اللّه لأقتلنّك،فرآه يحرّك شفتيه.
فقال:ما ذا الذي تقول؟
قال:أقول:[48 ن]
عسى فرج يأتي به اللّه إنّه له كلّ يوم في خليقته أمر
إذا اشتدّ عسر فارج يسرا فإنّه قضى اللّه أنّ العسر يتبعه اليسر
فقال:أخرجاه،فاضربا عنقه.
و دخل الهيثم بن الأسود، (3)فقال:ما هذا؟فأخبر بالأمر.
فقال:كفّا عنه قليلا،حتى أدخل،فدخل.
ص:119
فقال:يا أمير المؤمنين،هب مجرم قوم لوافدهم[227 غ].
فقال:هو لك.
فأخذ الهيثم بيده،فأخرجه،و الخارجيّ يقول:الحمد للّه،تعالى على اللّه، فأكذبه،و غالب اللّه،فغلبه (1).
ص:120
ضراوة الحجّاج على القتل
و ذكر المدائني في كتابه،قال:حدّثنا رجل كان من أسارى الحجّاج،من أصحاب ابن الأشعث يوم الزاوية (1)،قال:
جعل الحجّاج،يقتل عامّة الأسرى،و بقيت منّا جماعة قليلة،و أتي برجل ليضرب عنقه،فقال:يا حجّاج،و اللّه لئن كنّا أسأنا في الفعل،فما أحسنت في العقوبة،و إن كنّا لؤمنا في الجناية (2)،فما كرمت في العفو.
فقال:ردّوه،فردّ.
فقال:أخبرني كيف قلت؟فأعاد الكلام.
فقال الحجّاج:صدقت،و اللّه،أفّ لهذه الجيف،أما كان فيها أحد ينبّهنا كما نبّهنا هذا؟أطلقوا عنه،و عن باقي الأسرى.
فأطلقوا (3).
و ذكر المدائني في كتابه،قال:أتي الحجّاج بقوم ممن خرجوا عليه،فأمر بهم فقتلوا،و أقيمت الصلاة،و قد بقي منهم رجل واحد.
فقال الحجّاج لعنبسة:انصرف بهذا معك،و اغد به عليّ.
ص:121
قال عنبسة:فخرجت به،فلمّا كان في بعض الطريق،قال لي:هل فيك خير يا فتى؟
قلت:و ما ذاك؟
قال:إنّي-و اللّه العظيم-ما خرجت على المسلمين قط و لا استحللت قتالهم، و عندي ودائع و أموال،فتخلّى عنّي،حتى آتي أهلي فأردّ على كلّ ذي حقّ حقّه، و أجعل لك عهد اللّه عزّ و جل،أنّي أرجع إليك من غد.
فتعجّبت منه،و تضاحكت به.
فمضينا ساعة،فأعاد القول عليّ،فقلت له:إذهب،فذهب.
فلمّا توارى عنّي شخصه،أسقط في يدي،فأتيت أهلي و أخبرتهم الخبر، فقالوا:لقد اجترأت على الحجّاج.
و بتّ بأطول ليلة،فلمّا طلع الفجر،إذا أنا به قد جاء.
فقلت:أرجعت؟
فقال:سبحان اللّه،جعلت اللّه عزّ و جلّ،لك كفيلا،ثم لا أرجع؟قال:
فانطلقت به إلى الحجّاج.
فقال:أين أسيرك؟
فقلت:بالباب،أصلح اللّه الأمير،و قد كانت لي و له قصّة.
قال:ما هي؟فأخبرته الخبر،و أدخلته عليه.
فقال لي:أ تحبّ أن أهبه لك؟
قلت:نعم.
قال:هو لك.
فأخرجته معي،و قلت له:خذ أيّ طريق شئت،فرفع طرفه إلى السماء، و قال:الحمد للّه،و انصرف،و ما كلّمني بكلمة.
فقلت في نفسي:هذا مجنون.
ص:122
فلمّا كان من غد،أتاني،فقال:يا هذا،جزاك اللّه خيرا،و اللّه ما جهلت ما صنعت،و لكنّي كرهت أن أشرك في حمد اللّه تعالى أحدا (1).
أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر،قال:أخبرني أبو بكر أحمد بن محمّد السرخسي المؤدّب،قال:أنبأنا أبو العبّاس ثعلب،عن أبي نصر ابن أخت الأصمعي،عن خاله الأصمعي،قال:
جلس الحجّاج يوما ياكل،و معه على المائدة محمّد بن عمير بن عطارد ابن حاجب بن زرارة التميمي 1،و حجّار بن أبجر العجلي (2)،فأقبل في وسط الطعام على محمّد بن عمير،فقال:يا محمّد،يدعوك قتيبة بن مسلم (3)إلى نصرتي يوم رستقباذ (4)،فتقول:هذا أمر لا ناقة لي فيه و لا جمل (5)!!يا حرسيّ (6)
ص:123
خذ بيده،فاضرب عنقه.
فجذب سيفه،و أخذ بيد محمّد بن عمير فأقامه.
و حانت من الحجّاج التفاتة،فنظر إلى حجّار بن أبجر يتبسّم،فدخلته العصبيّة،و كان مكان حجّار من ربيعة،كمكان محمّد بن عمير من مضر.
فقال الحجّاج:يا حرسيّ،شم سيفك (1).
[و جيء بفرنيّة] (2)،فقال للخبّاز (3):إجعلها مما يلي محمّدا،فإنّ اللبن يعجبه (4).
ص:124
أمر الخليفة بضرب عنقه ثم لم يلبث أن عفا عنه
قال محمّد بن عبدوس في كتاب الوزراء:حدّثني الباقطائي،قال:
انصرف إلينا يوما أحمد بن إسرائيل،و هو في نهاية القلق و الاغتمام[38 ن] و كأنّه ميت.
فسألته عن خبره،فذكر أنّ رجلا يعرف بالقاسم بن شعبان الحائك صار إلى باب المستعين ببغداد،و عليه جبّة صوف،و عمامة صوف،و خفّان أحمران، و في يده عكّاز معقّد،فصاح:[معتزّ]يا منصور (1)،و أنّ من على باب العامّة تعلّقوا به،و أدخل الدار،فسئل عن خبره،فادّعى عليّ أنّي أمرته بهذا،و أن يدعو الناس إليه،فأمر أمير المؤمنين بضرب عنقي،فاستوهبت منه،و عرّف أمر الحائك،فعرف أنّه علّم،و حمل عليّ بما قاله،فأمر أمير المؤمنين بإخراجه (2)إلى أنطاكية.
ثم عاد معنا،و استقام أمره (3).
ص:125
حسن ظنّه باللّه
أنجاه من القتل،و أطلقه من السجن
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،قال:
حبس رجل قد وجب عليه حدّ (1)،فلمّا رفع خبره،أمر بضرب عنقه.
قال المخبر:فدخلت إلى الحبس إلى رجل بيني و بينه صحبة،لأعرف خبره،فرأيت الذي أمر بضرب[217 ر]عنقه يلعب بالنرد (2).
فقلت للذي دخلت عليه،و أنا لا أعلم أنّ قد أمر بضرب عنق ذلك الرجل:
ما أفرغ قلب هذا،يلعب بالنرد و هو محبوس.
فقال:إنّ أطرف من هذا أنّه قد أمر بضرب عنقه،و قد عرف بذلك، فهوذا ترى حاله.
قال:فازددت تعجّبا،و فطن الرجل لما نحن فيه،فأخذ بيده فصّا من فصوص[228 غ]النرد فرفعه،و قال:إلى أن يسقط هذا إلى الأرض،مائة ألف فرج،و رمى بالفصّ من يده.
قال:فخرجت،و أنا متعجّب منه،مفكّر في قوله.
فما أمسينا ذلك اليوم،حتى شغب الجند،و فتحت السجون،و خرج من كان فيها،و الرجل فيهم،و سلّمه اللّه تعالى من القتل (3).
ص:126
النرد:لعبة أصلها فارسيّ،تعرف الآن في بغداد،و ما جاورها،بلعبة الطاولي، و في لبنان و الشام و مصر،بلعبة طاولة الزهر.
و تشتمل على رقعة،و فصيّن اثنين مكعّبين،لكلّ فصّ أوجه ستّة،و على ثلاثين حجرا، نصفها أبيض،و النصف أسر و الرقعة مرتّبة على اثني عشر بيتا،بعدد شهور السنة، و الأحجار،و هي ثلاثون،بعدد أيّام الشهر،و الفصوص مثل الأفلاك،و رميها و تقلّبها، مثل تقلّبها و دورانها،و النقط في الفصوص،بعدد أيّام الأسبوع،كلّ وجهين سبعة، فالشش(6)و يقابله اليك(1)،و البنج(5)،و يقابله الدو(2)،و الجهار(4)،و يقابله السي(3)و جعل ما يأتي به اللاعب من الأرقام،كالقضاء و القدر،و هو ينقل الأحجار على ما جاءت به النقوش،لكنّه إذا كان عنده حسن نظر،عرف كيف يتأتّى،و كيف يتحيّل على الغلبة(مروج الذهب 564/2 و 565،و مطالع البدور 75/1 و 76).
و البغداديّون يسمون الفص:زار،و في بقيّة الأقطار العربيّة،يسمّى:زهر،أمّا الحجر،فيسمّيه البغداديّون:پول،بالباء المثلّثة المضمومة.
و يلعب النرد اثنان متقابلان،يأخذ أحدهما الأحجار البيض و عددها 15،و يأخذ الآخر السود،و هي بنفس العدد،ثم يرميان الفصوص،و ينقلان الأحجار تبعا للأرقام الناتجة عن رمي الفصّين،و يحاول كلّ من اللاعبين أن يسبق رسيله في نقل كافّة أحجاره إلى جهته،فإذا جمعها،أخذ يرفع منها وفقا لما يجيء به رمي الفصّين،و كلّ من سبق رفيقه في رفع أحجاره كان رابحا،و تسمّى اللعبة الواحدة:أويون،تركيّة،بمعنى:لعبة، فإذا أتمّ اللاعب رفع جميع أحجاره،و رسيله بعد لم يجمع أحجاره في مكان واحد،فإنّ غلبته تكون مضاعفة،و تسمّى:مارس،تركية،بمعنى:مضاعف،و البغداديّون يلفظونها:ملص،و إذا رمى اللاعب الفصّين،فجاء رقم كان رسيله قد سدّه بوضع أحجاره فيه،قيل عنه:إنّه رمى(كله)بالكاف الفارسية فتضيع منه لعبة،و عليه أن يترك الدور في رمي الفصّ لرسيله.
و الگله في لعب النرد،من أبغض الأمور،و البغداديّون يتندّرون كثيرا على من يصاب
ص:127
بالگله،و من جملة ذلك:أنّ بغدادا لازمه الگله ملازمة عنيفة،فاشتدّ غيظه،و عمد إلى فصوص النرد فابتلعها،و عند ما ذهب إلى المستراح،و نزلت الفصوص من بطنه،وجد أنّها نزلت(گله)أيضا.
و قال الشاعر البغداديّ:
لنا صاحب مولع بالفخار كثير التظاهر بالمرجله
يجيد الحديث و لكنّه إذا لعب النرد ما أجهله
فلا ينقل الپول إلاّ خطا و لا يطرح الزار إلاّ گله
أقول:شعر بارد،و لكنّي أوردته لأنّ فيه اصطلاحات بغداديّة عن لعب النرد،و هي:
پول،زار،كله.
و مما يلفت النظر أنّ لعبة النرد منتشرة في جميع البلدان العربيّة،و ما جاورها من البلدان، و قد وجدت الأسماء التي تسمّى بها أرقام الفصوص،واحدة في جميع البلدان،و هي خليط من الفارسيّة و التركيّة،مثلا:إذا كانت أرقام الفصّين 1 و 1،قيل:هپّي يك،فارسيّة، و إذا كانت 1 و 2 قيل:إيكي بير،تركيّة،و إذا كانت 5 و 6 قيل شيش بيش، اللفظة الأولى فارسيّة،و الثانية تركيّة،و أعجب من ذلك أنّ هذه التسميات ما زالت كما انتقلت إلينا منذ أكثر من ألف سنة،و لم تتغيّر،فقد قال أبو الحسن بن غسّان الطبيب البصريّ،من رجال القرن الرابع الهجري(تاريخ الحكماء 402).
فيا عضد الدولة أنهض لها فقد ضيّعت بين شيش و يك
و قال حفني ناصف،من رجال القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الهجري(1273- 1338):[تاريخ أدب الشعب ص 146]
منّي لسيّد الزجّاله ألفين سلام فوقهم بوسه
مالوش شبه في الرجّاله يخلق من الهبّيك دوسه
راجع محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 727/2 و 728.
ص:128
من شارف الموت بحيوان مهلك رآه فكفّ اللّه ذلك بلطفه و نجّاه
آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبدا
حدّثني أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد بن محمد الشاهد المعروف بابن الطبري (1)، قال:حدّثنا جعفر بن محمد الخلدي الصوفي (2)،[قال حدّثنا إبراهيم الخوّاص الصوفي (3)،رحمه اللّه تعالى] (4)قال:
ركبت البحر مع جماعة من الصّوفيّة،فكسر بنا المركب،فنجا منّا قوم على لوح من خشب المركب.
فوقفنا على ساحل لا ندري في أيّ مكان هو،فأقمنا فيه أيّاما لا نجد ما نقتاته،
ص:129
فأحسسنا بالموت،و أيقنّا بتلفنا من الجوع لا محالة.
فقال بعضنا لبعض:تعالوا نجعل للّه تعالى على أنفسنا أن ندع له شيئا،فلعلّه أن يرحمنا فيخلّصنا من هذه الشدّة.
فقال بعضنا:أصوم الدهر كلّه.
و قال الآخر:أصلّي كلّ يوم كذا و كذا ركعة.
و قال بعضنا:أدع لذّات الدنيا،إلى أن قال كلّ واحد منهم شيئا،و أنا ساكت.
فقالوا:قل أنت الآخر شيئا.
فلم يجر على لساني إلاّ أن قلت:أنا لا آكل لحم فيل أبدا.
فقالوا:ما هذا القول في مثل هذا الحال؟
فقلت:و اللّه،لم أتعمّد هذا،[49 ن]و لكنّي منذ بدأتم فعاهدتم اللّه تعالى عليه،و أنا أعرض على نفسي أشياء كثيرة فلا تطاوعني بتركها،و لا خطر ببالي شيء أدعه للّه تعالى،و لا مرّ على قلبي غير الذي لفظت به،و ما أجري هذا على لساني إلاّ لأمر.
فلما كان بعد ساعة،قال أحدنا:لم لا نطوف هذه الأرض متفرّقين فنطلب قوتا،فمن وجد شيئا أنذر به الباقين،و الموعد هذه الشجرة.
قال:فتفرّقنا في الطواف،فوقع بعضنا على ولد فيل صغير،فلوّح بعضنا لبعض فاجتمعنا،فأخذه أصحابنا،و احتالوا فيه حتى شووه و قعدوا يأكلون.
فقالوا لي:تقدّم و كل معنا.
فقلت:أنتم تعلمون أنّي منذ ساعة تركته للّه عزّ و جلّ،و ما كنت لأرجع فيه، و لعلّ ذلك قد جرى على لساني من ذكري له،هو سبب موتي من بينكم،لأنّي ما أكلت شيئا منذ أيّام،و لا أطمع في شيء آخر،و لا يراني اللّه عزّ و جلّ أنقض عهده،و لو متّ جوعا،فاعتزلتهم و أكل أصحابي.
و أقبل الليل،فأويت إلى أصل شجرة كنت أبيت عندها،و تفرّق أصحابي للنوم.
ص:130
فلم يكن إلاّ لحظة،و إذا بفيل عظيم قد أقبل و هو ينعر،و الصحراء تتدكدك بنعيره و شدّة سعيه،و هو يطلبنا.
فقال بعضنا لبعض:قد حضر الأجل،فتشهّدوا،فأخذنا في الاستغفار و التسبيح،و طرح القوم نفوسهم على وجوههم.
فجعل الفيل يقصد واحدا واحدا منهم،فيتشمّمه من أوّل جسده إلى آخره، فإذا لم يبق منه موضعا إلا شمّه،شال إحدى قوائمه فوضعها عليه ففسخه.
فإذا علم أنّه قد تلف،قصد إلى آخر[229 غ]ففعل به مثل فعله بالأوّل.
إلى أن لم يبق غيري،و أنا جالس منتصب أشاهد ما جرى و أستغفر اللّه عزّ و جلّ و أسبّح.
فقصدني الفيل،فحين قرب منّي،رميت بنفسي[218 ر]على ظهري ففعل بي من الشمّ كما فعل بأصحابي،ثم عاد فشمّني دفعتين أو ثلاثا،و لم يكن فعل ذلك بأحد منهم غيري،و روحي في خلال ذلك تكاد تخرج فزعا.
ثم لفّ خرطومه عليّ،و شالني في الهواء،فظننته يريد قتلي،فجهرت بالاستغفار.
ثم لفّني بخرطومه فجعلني فوق ظهره،فانتصبت جالسا،و اجتهدت في حفظ نفسي بموضعي.
و انطلق الفيل،يهرول تارة،و يسعى تارة،و أنا تارة أحمد اللّه تعالى على تأخير الأجل و أطمع في الحياة،و تارة أتوقّع أن يثور بي فيقتلني،فأعاود الاستغفار، و أنا أقاسي في خلال ذلك من الألم و الجزع لشدّة سرعة سعي الفيل أمرا عظيما.
فلم أزل على ذلك،إلى أن طلع الفجر و انتشر ضوءه (1)،فإذا به قد لفّ خرطومه عليّ.
فقلت:قد دنا الأجل و حضر الموت،و أكثرت من الاستغفار.
فإذا به قد أنزلني عن ظهره برفق،و تركني على الأرض،و رجع إلى الطريق
ص:131
التي جاء منها،و أنا لا أصدّق.
فلما غاب عنّي،حتى لا أسمع له حسّا،خررت ساجدا للّه تعالى (1)،فما رفعت رأسي حتى أحسست بالشمس.
فإذا أنا على محجّة عظيمة،فمشيت نحو فرسخين،فانتهيت إلى بلد كبير، فدخلته.
فعجب أهله منّي،و سألوني عن قصّتي،فأخبرتهم بها،فزعموا أنّ الفيل قد سار بي في تلك الليلة مسيرة أيّام،و استطرفوا سلامتي.
فأقمت عندهم حتى صلحت من تلك الشدّة التي قاسيتها،و تندّى بدني،ثم سرت عنهم مع التجار،فركبت في مركب،و رزقني اللّه السلامة،إلى أن عدت إلى بلدي (2).
ص:132
لقمة بلقمة
حدّثني أبو بكر[محمد بن بكر الخزاعي] (1)البسطامي،صاحب ابن دريد (2)، و كان زوج ابنته[الغرانقة] 1و كان شيخا من أهل الأدب و الحديث،قد استوطن الأهواز سنين،و كان ملازما لأبي رحمه اللّه،يتفقّده و يبرّه،قال:
كان لامرأة ابن،فغاب عنها غيبة طويلة،و أيست منه.
فجلست يوما تأكل،فحين كسرت اللّقمة و أهوت بها إلى فيها وقف بالباب سائل يستطعم،فامتنعت من أكل اللّقمة،و حملتها مع تمام الرغيف فتصدّقت بها، و بقيت جائعة يومها و ليلتها.
فما مضت إلاّ أيّام يسيرة حتى قدم ابنها،فأخبرها بشدائد عظيمة مرّت به.
و قال:أعظم ما جرى عليّ أنّي كنت منذ أيّام أسلك في أجمة في الموضع الفلانيّ،إذ خرج عليّ أسد،فقبض عليّ من على ظهر حمار كنت راكبه،و غار الحمار (3)،و نشبت مخالب الأسد في مرقّعة كانت عليّ،و ثياب تحتها و جبّة،فما وصل إلى بدني كبير شيء من مخالبه،إلاّ أنّي تحيّرت و دهشت و ذهب أكثر عقلي،و هو يحملني حتى أدخلني أجمة كانت هناك،و برك عليّ يفترسني.
فرأيت رجلا عظيم الخلق،أبيض الوجه و الثياب،قد جاء حتى قبض على الأسد من غير سلاح،و شاله و خبط به الأرض.
ص:133
و قال:قم يا كلب،لقمة بلقمة،فقام[230 غ]الأسد يهرول،و ثاب إليّ عقلي.
فطلبت الرجل،فلم أجده،و جلست بمكاني ساعات،إلى أن رجعت إليّ قوّتي،ثم نظرت إلى نفسي،فلم أجد بها بأسا،فمشيت حتى لحقت بالقافلة التي كنت فيها،فتعجّبوا لما رأوني،فحدّثتهم حديثي،و لم أدر ما معنى قول الرجل:
لقمة بلقمة.
فنظرت المرأة،فإذا هو وقت أخرجت اللقمة من فيها،فتصدّقت بها (1).
ص:134
كفى بالأجل حارسا
[وجدت في دفتر عتيق،أعطانيه أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق رحمه اللّه (1)،و أخبرني أنّه بخط عمّه أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري رحمه اللّه،أحاديث من النوادر عن ابن زنبور،ممّا صار إلينا،و لم أسمعه منه،و كان فيها حديث يعقوب بن إبراهيم الدورقيّ،قال:حدّثنا الحارث بن مرّة، قال:حدّثنا يزيد الرقاشي،قال:حدّثنا إبراهيم بن الخضر،و كان أحد أمناء القاضي ببغداد،و يخلف القضاة الغيّب بحضرة قاضي القضاة و غيرهم،قال:] (2)حدّثني صديق لي أثق به،قال:
خرجت إلى الحائر (3)في أيّام الحنبليّة،أنا و جماعة متخفّين،فلما صرنا في أجمة بانقيا (4)،قال لي رفيق فيهم:يا فلان،إنّ نفسي تحدّثني أنّ السبع يخرج فيفترسني من دون الجماعة،فإن كان ذلك فخذ حماري و ما عليه فأدّه إلى عيالي.
فقلت[50 ن]:هذا استشعار رديء،يجب أن تتعوّذ باللّه منه،و تضرب عن الفكر فيه.
فما مضى على هذا إلاّ شيء يسير حتى خرج[219 ر]الأسد،فحين رآه الرجل سقط عن حماره،فأخذه و دخل به الأجمة.
ص:135
و سقت أنا الحمار،و أسرعت مع القافلة،و بلغت الحائر،و زرنا،و رجعنا إلى بغداد.
فاسترحت في بيتي أيّاما،ثم أخذت الحمار و جئت به إلى منزله،لأسلّمه إلى عياله،فدققت الباب،فخرج إليّ الرجل بعينه.
فحين رأيته طار عقلي و شككت فيه،فعانقني،و بكى و بكيت.
فقلت:حدّثني حديثك.
فقال:إنّ السبع ساعة أخذني جرّني إلى الأجمة (1)،ثم سمعت صوت شيء، و رأيت الأسد قد خلاّني و مضى،ففتحت عيني،فإذا الذي سمعت صوت خنزير، و إذا السبع لما رآه عنّ له أن يتركني،و مضى فصاده و برك عليه يفترسه و أنا أشاهده، إلى أن فرغ منه،ثم خرج من الأجمة و غاب عنّي.
فسكنت،و تأمّلت حالني،فوجدت مخاليبه قد وصلت إلى فخذي وصولا قليلا،و قوّتي قد عادت.
فقلت:لأيّ شيء جلوسي ها هنا؟فقمت أمشي في الأجمة،أطلب الطريق، فإذا بجيف ناس،و بقر،و غنم،و عظام باليات،و آثار من قد[فرسهم الأسد.
فما زلت أتخطّاهم،حتى انتهيت إلى رجل قد] (2)أكل الأسد بعض جسده، و بقي أكثره،و هو طريّ،و في وسطه هميان قد تخرّق بعضه و ظهرت منه دنانير.
فتقدّمت،فجمعتها،و قطعت الهميان،و أخذت جميع ما فيه،و تتبّعتها، حتى لم يبق منها شيء.
و قويت نفسي،و أسرعت في المشي،و طلبت الجادّة فوقعت عليها،و استأجرت حمارا،و عدت إلى بغداد،و لم أمض إلى الزيارة،لأني خشيت أن تسبقوني، فتذكروا خبري لأهلي،فيصير[231 غ]عندهم مأتم،فسبقتكم،و أنا أعالج
ص:136
فخذي،و إذا منّ اللّه عليّ بالعافية عدت إلى الزيارة (1).
[و قد حدّثني بهذا الحديث،غير واحد من أهل بغداد،بقريب من هذه العبارة.
و بلغني عن أبي الحسن علي بن محمد بن مقلة (2)،أنّه كان قال:كنت بالموصل مع المتّقي للّه (3)و أنا وزيره إذ ذاك فأتاني سلامة (4)،أخو نجح الطولوني (5)، بفيج معه كتب،فقال:اسمع ما يقول هذا،فإنّه طريف.
فدعوته،و قلت:قل.
فقال:خرجت من بغداد أريدكم،و معي رفيق لي،فيج من أهل بلد (6)،
ص:137
فأعطاني لمّا صرنا بين تكريت (1)و السنّ (2)دراهم كانت معه،و قال لي:إنّ نفسه تحدّثه أنّ الأسد يخرج فيفترسه.
و ذكر قريبا من هذا الحديث] (3).
ص:138
ألجأته الضرورات إلى ركوب الأسد
حدّثني أبو جعفر أصبغ بن أحمد (1)،و كان يحجب أبا محمد المهلّبي رحمه اللّه، قبل وزارته،فلما ولي الوزارة كان يصرّفه في الاستحثاث على العمال (2)،و في الأعمال التي يتصرّف فيها العمّال الصغار،قال:
كنت بشيراز مع أبي الحسن علي بن خلف بن طناب (3)،و هو يتولّى عمالتها يومئذ (4).
فجاء مستحثّ من الوزير،يطالبه بحمل الأموال،و كان أحد العمّال الأكابر،و قد كوتب بإكرامه.
فأحضره أوّل يوم طعامه و شرابه،فامتنع من مؤاكلته،و ذكر أنّ له عذرا.
فقال:لا بدّ أن تأكل.
ص:139
فأكل بأطراف أصابعه،و لم يخرج يده من كمّه.
فلمّا كان في غد،قال عليّ بن خلف لحاشيته:[ليدعه كلّ يوم واحد منكم، فكانوا يدعونه،و يدعون بعضهم بعضا،فكانت صورته في الأكل واحدة.
فقالوا] (1):لعلّ به برصا أو جذاما.
إلى أن بلغت النوبة إليّ،فدعوته،و دعوت الحاشية،و جلسنا نأكل،و هو يأكل معنا على هذه الصورة،فسألته إخراج يده و الانبساط في الأكل،فامتنع عن إخراج يده.
فقلت له:يلحقك تنغيص بالأكل هكذا،فأخرجها على أيّ شيء كان بها،فإنّا نرضى به.
قال:فكشفها،فإذا فيها و في ذراعه أكثر من خمسين ضربة،بعضها مندمل، و بعضها فيه بقيّة،و عليها أدوية،و هي على أقبح منظر.
فأكل معنا غير محتشم،و قدّم الشراب فشربنا،فلما أخذ منه الشراب، سألناه عن سبب تلك الضربات.
فقال:هو أمر طريف أخاف أن لا أصدّق فيه.
فقلت:لا بدّ أن تتفضّل بذلك.
فقال:كنت عام أوّل قائما بحضرة الوزير،فسلّم إليّ كتابا إلى عامل دمشق، و منشورا،و أمرني بالشخوص إليه،و إرهاقه بالمطالبة بحمل الأموال،و رسم لي أن أخرج على طريق السّماوة (2)لأتعجّل،و كتب إلى عامل هيت (3)بإنفاذي مع خفارة.
فلما حصلت بهيت،استدعى العامل جماعة من عدّة من أحياء العرب،
ص:140
و سلّمني إليهم،و أعطاهم مالا على ذلك،و أشهد عليهم بتسلّمي،و احتاط في أمري.
و كانت هناك قافلة تريد الخروج منذ مدّة،و تتوقّى البريّة،فأنسوا بي،و سألوني أن آخذ منهم لنفسي مالا،و للخفراء الأعراب مالا،و أدخلهم في الخفارة،و يسيرون معي،ففعلت ذلك،فصرنا قافلة عظيمة.
و كان معي من غلماني ممّن يحمل السلاح نحو عشرين غلاما،و في حمّالي القافلة و التجار جماعة يحملون السلاح أيضا.
فرحلنا عن هيت،و سرنا في البريّة ثلاثة أيّام بليالها،فبينا نحن نسير إذ لاحت لنا خيل.
فقلت للأعراب:[232 غ][220 ر]ما هذه الخيل؟فمضى منهم قوم إليهم ثم عادوا كالمنهزمين.
فقالوا:هؤلاء قوم من بني فلان بيننا و بينهم شرّ و قتال،و نحن طلبتهم،و لا ثبات لنا معهم،و لا يمكننا خفارتكم معهم،و ركضوا منصرفين،و بقينا متحيّرين، فلم أشكّ أنّهم كانوا من أهلهم،و أنهم فعلوا ذلك بمواطأة علينا.
فجمعت القافلة،و شجّعت أهلها و غلماني،و ضممت بعضها إلى بعض، و أمرتهم بحمل السلاح،و لأمة الحرب،فصرنا حول القافلة من خارجها متساندين إليها كالدائرة.
و قلت لمن معي:لو كان هؤلاء يأخذون أموالنا و يدعون جمالنا لننجو عليها كان هذا أسهل،و لكنّ الجمال و الدواب أوّل ما تؤخذ،و نتلف نحن في البريّة ضيعة و عطشا،فاعملوا على أن نقاتل،فإن هزمناهم سلمنا،و إن قتلنا كان أسهل من الموت بالعطش.
فقالوا:نفعل.
و غشينا القوم،فقاتلناهم من انتصاف النهار إلى أن حجز الليل بيننا،و لم يقدروا علينا،و قتلنا عدّة خيل،و جرحنا منهم جماعة،و ما ظفروا منّا بعورة، و باتوا بالقرب منّا حنقين علينا.
ص:141
و تفرّق الناس للأكل و الصلاة،و اجتهدت بهم[51 ن]أن يجتمعوا،و يبيتوا تحت السلاح،فخالفوني،و كانوا قد كلّوا و تعبوا،و نام أكثرهم.
فغشيتنا الخيل،فلم يكن عندنا امتناع،فوضعوا فينا السيوف،و كنت أنا المطلوب خاصّة،لما شاهدوه من تدبيري القوم برأيي،و علموا أنّي رئيس القافلة، فقطّعوني بالسيوف،و لحقتني هذه الجراحات كلّها،و في بدني أضعافها.
قال:و قد كشف لنا عن أكثر جسده،فإذا به أمر عظيم هالنا،و لم نره في بشر قط.
قال:و كان في أجلي تأخير،فرميت نفسي بين القتلى،لا أشكّ في تلفي، و ساقوا الجمال و الأمتعة و الأساري.
فلما كان بعد ساعة،أفقت،فوجدت في نفسي قوّة،و العطش قد اشتدّ بي، فلم أزل أتحامل،حتى قمت أطلب في القافلة سطيحة (1)قد أفلتت،أشرب منها، فلم أجد شيئا.
و رأيت القتلى و المجروحين الذين هم في آخر رمق،و سمعت من أنينهم ما أضعف نفسي،و أيقنت بالتلف.
و قلت:غاية ما أعيش إلى أن تطلع الشمس.
فتحاملت أطلب شجرة أو محملا قد أفلت،لأجعله ظلاّ لي من الشمس إذا طلعت.
فإذا أنا قد عثرت بشيء لا أدري ما هو،في الظلمة،فإذا أنا منبطح عليه بطولي و طوله.
فثار من تحتي،و عانقته،و قدّرته رجلا من الأعراب،فإذا هو أسد.
فحين علمت ذلك طار عقلي،و قلت:إن استرخيت افترسني،فعانقت
ص:142
رقبته بيدي،و نمت على ظهره،و ألصقت بطني بظهره،و جعلت رجلي تحت مخصاه
و كانت دمائي تجري،فحين داخلني ذلك الفزع العظيم رقأ الدم،و علق شعر الأسد بأفواه أكثر الجراحات،فصار سدادا لها،و عونا على انقطاع الدم[233 غ]، لأنّي حصلت كالملتصق عليه.
و ورد على الأسد منّي،أطرف ممّا ورد عليّ منه و أعظم،و أقبل يجري تحتي كما تجري الفرس تحت الراكب القويّ،و أنا أحسّ بروحي تخرج،و أعضائي تتقصّف من شدّة جريه،و لم أشكّ أنّه يقصد أجمة بالقرب فيلقيني إلى لبوته فتفترسني.
فجعلت أضبط نفسي مع ذلك و أؤمّل الفرج،و أدافع الموت عاجلا،و كلّما همّ أن يربض ركضت خصاه برجلي فيطير،و أنا أعجب من نفسي و مطيّتي، و أدعو اللّه عزّ و جلّ،و أرجو الحياة مرّة،و مرّة آيس من نفسي.
إلى أن ضربني نسيم السحر،فقويت نفسي،و أقبل الفجر يضيء،فتذكّرت طلوع الشمس فجزعت،و دعوت اللّه تعالى،و تضرعت إليه.
فما كان بأسرع من أن سمعت صوتا ضعيفا لا ادري ما هو،ثم قوي،فشبّهته بصوت ناعورة،و الأسد يجري،و قوي الصوت،فلم أشكّ في أنّه ناعورة.
ثم صعد الأسد إلى تلّ،فرأيت منه بياض ماء الفرات[221 ر]و هو جار، و ناعورة تدور،و الأسد يمشي على شاطئ الفرات برفق،إلى أن وجد مشرعة (1)، فنزل منها إلى الماء،و أقبل يسبح ليبعد.
ص:143
فقلت لنفسي:ما قعودي،لئن لم أتخلّص هنا،لا تخلّصت أبدا.
فما زلت أرفق به،حتى تخلّصت،و سقطت عنه،و سبحت منحدرا،و أقبل هو يشقّ الماء عرضا.
فما سبحت إلاّ قليلا،حتى وقعت عيني على جزيرة،فقصدتها،و حصلت فيها،و قد بطلت قوّتي،و ذهب عقلي،فطرحت نفسي عليها كالتالف.
فلم أحسّ إلاّ بحرّ الشمس قد أنبهني،فرجعت أطلب شجرة رأيتها في الجزيرة، لأستظلّ بها من الشمس،فرأيت الأسد مقعيا على شاطئ الفرات حيال الجزيرة، فقلّ فزعي منه.
و أقمت مستظلاّ بالشجرة،أشرب من ذلك الماء،إلى العصر،فإذا أنا بزورق منحدر،فصحت بهم،فوقفوا في وسط الماء.
فقلت:يا قوم،احملوني معكم،و ارحموني.
فقالوا:أنت دسيس اللصوص.
فأريتهم جراحاتي،و حلفت لهم أنّه ما في الجزيرة بعلمي أحد سواي،و أومأت لهم إلى الأسد،و قلت لهم:قصّتي طريفة،و إن تجاوزتمونى كنتم أنتم قد قتلتموني، فاللّه،اللّه،في أمري،فوقفوا،فأتوا،فحملوني.
فلمّا حصلت في الزورق،ذهب عقلي،فما أفقت إلاّ في اليوم الثاني،فإذا عليّ ثياب نظاف،و قد غسلت جراحاتي،و جعل فيها الزيت و الأدوية،و أنا بصورة الأحياء.
فسألني أهل الزورق عن حالي،فحدّثتهم.
و بلغنا إلى هيت،فأنفذت إلى العامل من عرّفه خبري،فجاءني من حملني إليه.
و قال:ما ظننت أنّك أفلت،فالحمد للّه على السلامة.
و قال لي:كيف هذا الذي جرى لك؟
فحدّثته الحديث من أوّله إلى آخره،فتعجّب عجبا شديدا،و قال:بين الموضع الذي قطع عليكم فيه الطريق،و بين الموضع الذي حملك أهل الزورق منه
ص:144
مسافة أربعين فرسخا على غير محجّة.
فأقمت عنده أيّاما،ثم أعطاني نفقة،و ثيابا،و زورقا،فجئت إلى بغداد، فمكثت أعالج جراحاتي عشرة أشهر حتى صرت هكذا.
ثم خرجت و قد افتقرت،و أنفقت جميع ما كان في بيتي،فلمّا قمت بين يدي الوزير،رقّ لي،و أطلق[234 غ]لي مالا،و أخرجني إليكم. (1)
ص:145
القرد و امرأة القرّاد
[حدّثني عليّ بن نظيف المتكلّم،المعروف بشهدانجة] (1)و سعيد بن عبد اللّه السمرقندي الفقيه الحنفي،عمّن حدّثهما:
إنّه بات في سطح خان،في بعض الأسفار،و معهم قرّاد،و معه قرد، و امرأته،فباتا في خان.
قال:فلما نام الناس،رأيت القرد قد قلع المسمار الذي في السلسلة،و مشى نحو المرأة،فلم أعلم ما يريد.
فقمت،فرآني القرد،فرجع إلى مكانه،فجلست،ففعل ذلك دفعات، و فعلته.
فلما طال عليه الأمر،جاء إلى خرج القرّاد،ففتحه،و أخرج منه صرّة دراهم، خمّنت أنّ فيها أكثر من مائة درهم،فرمى بها إليّ.
فعجبت من أمره،و قلت:أمسك،لأنظر ما يفعل،فأمسكت.
فجاء إلى المرأة،فمكّنته من نفسها،فوطأها.
فاغتممت بتمكيني إيّاه من ذلك،و حفظت الصرّة.
فلما كان من غد،صاح القرّاد،يطلب ما ذهب منه.
و قال لصاحب الخان:قردي يعرف من أخذ الصرة،فاضبط باب الخان، و أقعد أنا و أنت و القرد،و يخرج الناس،فمن علق به القرد فهو خصمي،ففعل ذلك.
و أقبل الناس يخرجون و القرد ساكت لا يتكلّم،و خرجت فما عرض لي،فوقفت
ص:146
خارج الخان أنظر ما يجري،فلمّا لم يبق إلاّ يهودي،فخرج،فعلق به القرد.
فقال القرّاد:هذا خصمي،و جذبه ليحمله إلى صاحب الشرطة،فلم أستحلّ السكوت[52 ن].
فقلت:يا قوم ليس اليهوديّ صاحبكم،و الصرّة معي،و لي قصّة عجيبة في أخذها،و أخرجتها،و قصصت عليهم القصة.
فحملنا إلى صاحب الشرطة،و حضرت الرفقة،فعرّفوا صاحب الشرطة محلّي، و منزلتي،و يساري،و أقبل القرّاد يحيد عن قرده.
فما برحت حتى أمر صاحب الشرطة[222 ر]بقتل القرد،و طلبت المرأة، فهربت،و سلم اليهوديّ (1).
ص:147
تمكّن منه السبع ثم تخلّص منه بأهون سبيل
حدّثني الحسن بن صافي،مولى محمد بن المتوكّل (1)القاضي،قال:حدّثني غلام لي أثق به،قال:
أصعدت من واسط-ماشيا-أريد بغداد،فلما صرت بين دير العاقول (2)و السيب (3)،و أنا وحدي،في يوم صائف له ريح شديدة،رأيت بالبعد منّي غيضة (4)عظيمة،قد خرج منها سبع.
فحين رآني وحدي أقبل يهرول نحوي،فذهب عليّ أمري و أيقنت بالهلاك، و خدر بدني كلّه،و ربا لساني في فمي،و تحيّرت.
إلا أنّي أخذت منديلا،فجعلته في رأس قصبة كانت معي،و ظننت أنّي أفزعه بذلك.
فأنا في تلك الحالة من الإياس،و قد بقي بيني و بينه مقدار مائة ذراع،إذ قلعت الريح أصل حشيش يقال له:بارق عينه،و صار يلتفّ بالشوك حتى بقي كالكارة العظيمة،و الريح تدحرجه نحو السبع،و قد تمكّنت منه،و صار لها هفيف شديد (5).
فحين رأى السبع ذلك و سمع الصوت رجع منصرفا و قد فزع فزعا شديدا.
ص:148
و بقي يحوّل وجهه في كلّ عشر خطوات أو أكثر،فإذا رأى ذلك الأصل في أثره يتدحرج زاد في الجري.
و لم يزل كذلك إلى أن بعد عنّي بعدا كثيرا،و دخل الغيضة.
و عادت إليّ نفسي[235 غ]و مضيت في طريقي،و سلمت (1).
ص:149
قتل فيلا بالقبض على خرطومه
حدّثني القاضي أبو بكر أحمد بن سيّار (1)،قال:حدّثني شيخ من أهل التيز (2)و مكران (3)رأيته بعمان،و وجدتهم يذكرون ثقته،و معرفته بالبحر،و أنّه دخل الهند و الصين،قال:
كنت ببعض بلاد الهند،و قد خرج على ملكها خارجيّ،فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان فأمّنه.
فسار ليدخل إلى بلد الملك،فلما قرب،أخرج الملك جيشا لتلقّيه،و خرجت العامّة تنظر دخوله،فخرجت معهم.
فلما بعدنا في الصحراء،وقف الناس ينتظرون طلوع الرجل،و هو راجل،في عدّة من رجاله،و عليه ثوب حرير و مئزر،و في وسطه مدية معوجّة الرأس،و هي من سلاح الهند،و تسمى عندهم:حزى.
فتلقّوه بالإكرام و مشوا معه،حتى انتهى إلى فيلة عظيمة قد اخرجت للزينة و عليها الفيّالون،و فيها فيل عظيم يختصّه الملك لنفسه،و يركبه في بعض الأوقات.
فقال له الفيّال،لما قرب منه:تنّح عن طريق فيل الملك،[فسكت عنه، فأعاد الفيّال عليه القول،فسكت.
فقال:يا هذا،احذر على نفسك،و تنحّ عن طريق فيل الملك] (4).
ص:150
فقال له الخارجيّ:قل لفيل الملك يتنحّى عن طريقي.
فغضب الفيّال،و أغرى الفيل بكلام كلّمه به،فغضب الفيل،و عمد إلى الخارجيّ فلفّ خرطومه عليه،فقبض الخارجيّ بيده على الخرطوم.
و شاله الفيل إشالة عظيمة و الناس يرون،و أنا فيهم،و خبط به الأرض، فإذا به قد انتصب قائما على قدميه فوق الأرض و لم ينحّ يده عن الخرطوم.
فزاد غضب الفيل،فأشاله أعظم من تلك وعدا ثم رمى به الأرض،فإذا هو قد حصل عليها مستويا على قدميه منتصبا قابضا على الخرطوم.
و سقط الفيل كالجبل العظيم ميتا،لأنّ قبضه على الخرطوم تلك المدة منعه من التنفّس فقتله.
قال:فوكّل به،و حمل إلى الملك،و حدّث بالصورة،فأمر بقتله.
فاجتمع القحاب (1)،و هنّ النساء الفواجر،يفعلن ذلك بالهند ظاهرا عند البدّ (2)،تقربا إلى اللّه بذلك عندهم.
قال:و هنّ العدول هناك،يشهدن في الحقوق،و يقمن الشهادة،فيقطع بها حاكمهم في سائر الأمور،و عندهم إنهنّ لما كنّ يبذلن أنفسهنّ عند البدّ بغير أجر،صرن في حكم الزهّاد و العبّاد.
فقال القحاب للملك:يجب أن تستبقي مثل هذا الرجل فلا يقتل،فإنّ فيه جمالا للملك،و يقال:إنّ للملك خادما قتل الفيل العظيم بقوّته و حيلته،من غير سلاح.
فعفا عنه الملك،و خلع عليه،و استخدمه (3).
ص:151
قتلوا شبلا فاجتمع عليهم بضعة عشر سبعا
و حدّث سعيد[بن يوسف] (1)بن عبد اللّه السمرقندي الحنفي،[و عبد الرحمن ابن جعفر] (2)الوكيل على أبواب القضاة بالأهواز،قالا:حدّثنا أبو بكر محمد بن سهل الشاهد الواسطي القاضي،قال:
اخبرني وكيلان كانا في ضيعتي بنواحي الجامدة (3)،و نهر جعفر (4)،قالا:
خرجنا مع صنّاع عندنا،إلى أجمة نقطع قصبا،فرأينا شبلا كالسنّور، فقتله أحد قطّاع القصب.
فقال الباقون:قتلنا،الساعة يجيء السبع و اللبوة،فإذا لم يرياه طلبانا،و نحن نبيت في الصحراء بين القصب،فيفرسانا.
قال:فما كان بأسرع من أن سمعنا صوت السبع،فطرنا على وجوهنا،و اجتمعنا في دار خراب خارج[223 ر]الأجمة،و علونا سطحها،و كان فيها غرفة عليها باب كنّا نأوي إليها ليلا.
فلمّا رأى السبع ولده قتيلا قصدنا فصار في صحن الدار الخراب[236 غ]، و كان بين يدي الغرفة صحنين،فأخذ السبع يطفر ليصير معنا،فما قدر على ذلك.
فولّى،و علا أكمة (5)في الصحراء،و صاح،فجاءته اللبوة،فطفرت تريدنا، فما قدرت.
ص:152
فاجتمعا،فصاحا،فجاءهما عدّة من السباع،و طفروا،فما قدروا علينا،
فلم يزالوا كذلك حتى اجتمع بضعة عشر سبعا،و كلّما جاء واحد حاول أن يطفر إلينا فلا يبلغنا،و نحن كالموتى خوفا أن يصل إلينا واحد منهم.
فينما نحن كذلك إذ اجتمعت السبّاع كلّها كالحلقة،و جعلت أفواهها في الأرض،و صاحت صيحة واحدة،فرأينا حفرة قد احتفرت في التراب من أنفاسها.
فما كان إلاّ ساعة حتى جاء سبع أسود هزيل،منجرد الشعر،لطيف.
فلقيته السّباع كلّها،و بصبصت بين يديه،و حوله،و جاء يقدمها و هي خلفه حتى رآنا في الغرفة،و رأى الموضع،ثم جمع نفسه،فإذا هو في الصحن،بين يدي الغرفة.
و كنّا قد أغلقنا الباب،فاجتمعنا كلّنا خلفه لندافعه عن الدخول.
فلم يزل يدفع الباب بمؤخّره حتى كسر بعض ألواحه و أدخل عجزه إلينا.
فعمد أحدنا إلى ذنبه فقطعه بمنجل كان معنا[53 ن].
فصاح صيحة منكرة و هرب،و رمى بنفسه إلى الأرض،فلم يزل يخمش السباع و ينهشها و يقطعها بمخالبه،حتى قتل منها غير واحد.
و تهاربت السباع الباقية من بين يديه،و هام في الصحراء يتبع أثرها،و نزلنا نحن لمّا لم يبق منها شيء،فلحقنا بالقرية،و خبّرناهم خبرنا.
فقال لنا شيخ منهم:هذا السبع مثل الجرذ العتيق،إذا قطع ذنبه أكل الفار (1).
ص:153
افترس السبع صاحب الدين و سلم الغريم
و حدّث قاضي القضاة أبو السائب عتبة بن عبيد اللّه الهمذاني (1)،قال:
كان رجل من أهل أذربيجان له على رجل دين،فهرب منه و طالت غيبته.
فلقي صاحب الدين المدين،بعد مدّة في الصحراء منفردا،فقبض عليه و طالبه.
فحلف له باللّه تعالى أنّه معسر،و سأله الانتظار،و قال له:لو أنّي أيسر الناس ما تمكّنت هنا من من دفع شيء إليك.
فأبى عليه،و أخرج قيدا كان معه ليقيّده حتى لا يهرب.
فتضرع إليه،و سأله أن لا يفعل،و بكى،فلم ينفعه ذلك.
فقيّده بالقيد،و مشى إلى قرية بقرب الموضع الذي التقيا فيه،فجاءاها مساء و قد أغلق أهلها باب سورها،و اجتهدا في فتحه لهما،فأبى أهل القرية ذلك عليهما.
فباتا في مسجد خراب على باب القرية،و أدخل صاحب الدين رجله في حلقة من حلقتي القيد،لينتبه إذا أراد الهرب.
فجاء السبع،و هما نائمان،فقبض على صاحب الدين فافترسه،و جرّه فانجرّ
ص:154
الغريم معه،لمكان الحلقة في إحدى رجليه.
فلم يزل ذلك حاله إلى أن فرغ السبع من أكل صاحب الدين،و شبع، و انصرف،و ترك المدين و قد تجرّح بدنه،و بقيت ركبة الغريم في القيد.
فحملها الرجل مع قيده إلى أهل القرية،و أخبرهم الخبر،فحلّوا قيده و سار لحال سبيله (1).
ص:155
الأفعى التي أخربت الضيعة
و حدّثني أبو جعفر مسعود بن عبد اللّه الضبّيّ،شيخ من التنّاء البصريّين، كان قد انتقل عنها (1)إلى قرية له،و ضيعة،بقرب نهر الدير (2)،فاستوطنها،قال:
كان في هذا البستان،[237 غ]و أشار إلى بستان بجانب داره كثيرة الاشجار، أفعى تسمّى الجراب،لأنّها كانت بقدر الجراب الكبير،طولا،وسعة،و انتفاخا.
فكثرت جناياتها،حتى أخربت عليّ الضيعة،فانتقلت عنها إلى الجانب الآخر من النهر،و بطلت ضيعتي،و صار هذا البستان كالأجمة،لا يقدر أحد على دخوله.
و طلبت حوّاء (3)من البصرة ليصيده،و بذلت على ذلك[224 ر]مالا جزيلا.
فجاء الحوّاء فتبخّر بدخنة (4)معه،فظهرت الأفعى،فحين رآها هاله أمرها،و قصدته الأفعى فنهشته،فتلف في الحال.
فصار لي حديث بذلك،و شاع الخبر،فامتنع الحوّاؤون من المجيء،و تغرّبت أنا عن الضيعة و القرية،و بطلت معيشتي منهما.
فكنت يوما جالسا في الجانب الآخر من النهر،إذ جاءني رجل فسلّم عليّ.
و قال:بلغني خبر أفعى عندك،قد قتل فلانا الحوّاء،و أخترب عليك ضيعتك، فجئتك لتدلّني عليه حتى آخذه.
ص:156
فقلت:ما أحبّ تعريضك لهذا،و قد صار لي بتلف ذلك الحوّاء حديث.
فقال:إنّ ذلك الحوّاء كان أخي،و أنا أريد أن آخذ بثأره،و أريح الناس من هذا الملعون،أو اللّحاق بأخي.
قلت:فتشهد على نفسك أهل الأنهار المجاورة،أنّ هذا باختيارك،لا بمسألة منّي،ففعل،و أريته البستان.
فقال:أريد شيئا آكله،فجئناه بطعام فأكل،ثم أخرج دهنا كان معه، فطلى به جميع بدنه.
و قال لغلام كان معه:انظر هل بقي موضع من غير ما أطليه؟
فقال له الغلام:لا.
فجلست أنا فوق السطح الذي في داري،أنظر ما يفعل،فأخرج دخنة فبخّر بها،فما كان بأسرع من أن ظهر الأفعى كأنّه دنّ أسود.
فحين قرب من الحوّاء هرب،فتبعه الحوّاء،فلحقه و قبض عليه.
فالتفت الأفعى فعضّ يده،فتركه الحوّاء فأفلت،و ذهب عليه أمره،فجئناه و حملناه،فمات في الليل.
و انقلبت الناحية بحديث الأفعى.
و مضى على هذا مدّة،فجاء رجل يشبه الرّجلين،و سألني عمّا سألني عنه الأخوان،فأخبرته بالخبر.
فقال:الرّجلان أخواي،و لا بدّ لي من الأخذ بثأرهما،أو اللحاق بهما.
قال:فأشهدت عليه،و أريته الموضع،و صعدت به السطح،فأكل و شرب أقداحا كثيرة،و أخرج دهنا كان معه،و طلى به دفعات كثيرة كلّ بدنه،و كلّ مرة يسأل غلامه.
فيقول:هل بقي موضع لا دهن فيه؟
فيقول له الغلام:لا.
ص:157
فيقول للغلام:أعد الطّلاء عليّ،فيعيده الغلام.
حتى لم يبق في جسده موضع إلاّ و قد طلاه،و أعاد الطّلاء ثلاث مرات، و صار الدهن ينقط من بدنه.
و بخّر بدخنة،فخرج الأفعى،فطلبه الحوّاء و أخذ يحاربه،و تمكّنت يد الحوّاء من قفاه،فانثنى عليه فعضّ إبهامه.
و بادر الحوّاء فخرم فاه،و جعله في سلّة،و أخرج سكينا معه فقطع إبهام نفسه، و أغلى زيتا و كواها به،و خرّ كالتالف.
فحملناه إلى القرية،فإذا بصبيّ من غلماني قد جاء و معه ليمونة،و كان الليمون إذ ذاك قليلا بالبصرة جدّا،و عندي منه شجرة واحدة.
فحين رأى الحوّاء الليمون[238 غ]،قال:هذا يا سيدي عندكم موجود؟
قلت:نعم.
قال:أغثني بكلّ ما تقدر عليه منه،فإنّا نعرفه في بلدنا يقوم مقام الدرياق.
فقلت:أين بلدك؟
قال:عمان.
فأتيته بكلّ ما كان عندي منه،فأقبل يعضّه و يسرع في أكله،و عمد إلى بعضه فاستخرج ماءه،و أقبل يتحسّى منه،و يطلي به الموضع،و أصبح من غد و هو صالح.
فسألته عن خبره،فقال:ما خلّصني بعد اللّه عزّ و جلّ،إلاّ ماء الليمون، و أظنّ أنّ أخويّ لو اتّفق لهما تناوله ما تلفا.
قلت:فذلك الدهن الذي انطليت منه،ما هو؟
قال:الطلق،الذي إذا طرح معه النار على الجسم حين لا يكون فيه خلل، ما ضرّت النار الجسم،و أمّا تلف إخواني،فلأنّ بعض أبدانهم خلا من الطلاء، أو جفّ عنه.
ص:158
فقلت:و كيف تمكّن الأفعى منك؟
قال:لطول الوقت،و إلى أن قيّدته،جفّ بعض الدهن،فتمكّن منّي، و لو لا الليمون لتلفت.
فقال:فتعلّمت منه استخراج ماء الليمون،و كنت أوّل من استخرجه بالبصرة، و نبّه الناس على منافعه،و جرّبته في الطبيخ[225 ر]فوجدته طيّبا،و تداوله الناس.
قال:ثم أخرج الأفعى،و قطع رأسه،و ذنبه،و أغلاه في طنجير (1)،و استخرج [54 ن]دهنه في قوارير،و انصرف (2).
ص:159
مفلوج لسعته عقرب جرّارة فعوفي
حدّثني عبد الوهاب بن محمد بن مهدي،المعروف بأبي أحمد بن أبي سلمة، الشاهد،الفقيه،المتكلّم[العسكري،في سنة خمس و خمسين و ثلثمائة بعسكر مكرم] (1):إنّه شاهد رجلا مفلوجا،حمل من أصبهان (2)،إلى عسكر مكرم (3)ليعالج،فطرح على باب خان في جواره،في الجانب الشرقي منها،و قد هجر، و فرّغ،لكثرة العقارب الجرّارات (4)فيه.
و طلب له موضع آخر يسكنه،فلم يوجد إلاّ في هذا الخان،فأنزله غلمانه
ص:160
فيه،و هم لا يعلمون حاله،و أنّه أخلي لكثرة الجرّارات فيه.
و صعد أصحاب الرجل إلى السطح ليلا،و تركوه،لما وصف لهم أنّ المفلوج لا يجوز أن يبيت في السطح.
فلما كان من الغد وجدوه جالسا،و كان طريحا ملقى لا يمكنه أن ينقلب من جنب إلى جنب،و وجدوا لسانه فصيحا و كان متكسّرا بالعلّة،حتى إنّ الرجل مشى في يومه ذلك.
فأحضر بعض أهل الطبّ و سأله عن خبره،ففتّشه،فوجد أثر لسع الجرّارة في إبهام رجله اليسرى.
فقال له:انتقل الساعة من هذا الخان،فإنّه مشهور بكثرة الجرّارات،و قد لسعتك واحدة منهن فأبرأتك،و عشت بشيء ما عاش أحد به قطّ،و قامت حرارتها ببرد الفالج فأزالته،و لم تتجاوزه فتقتلك،و سيعقب ذلك حدّة شديدة و حرارة، فاصبر لها حتى أعالجك باليسير من الرطوبة فلا ترجع إليك برودة الفالج،و انتقل لئلاّ تلسعك أخرى فتتلف.
و انتقل الرجل،و تعاهده الطبيب،فحّم المفلوج من غد،و تلطّف في علاجه حتى برأ (1).
ص:161
قضى ليلة في الجبّ بجوار أفعى
و حدّثني عبيد اللّه بن محمد الصّرويّ،قال:
كنت أتصرّف مع المختار بن الغيث بن حمدان أحد قوّاد بني عقيل،فسار و أنا في جملته،مع تكين[239 غ]الشيرزادي (1)،لما تغلّب على الموصل،يطلب ناصر الدولة،و سار العسكر سيرا عجلا،فتقطّع الناس.
و كانت تحتي حجرة (2)،فصرت في أخريات الناس،ثم انقطعت عن العسكر حتى صرت وحدي.
ثم أوردت الدّابّة ماء كان في الطريق،فحمّ،و لم يمكنه أن يسير خطوة واحدة.
فخفت أن يدركني من يسلبني نعمتي و يأسرني،فنزلت عن الدابّة أمشي، و في عنقي سيف بحمائل،و المقرعة في يدي.
فسرت عدّة فراسخ،حتى صعدت جبل سنجار،و كنت أحتاج أن أمشي فيه نحو الفرسخ،ثم أنزل إلى سنجار (3)،
ص:162
فجنّني الليل،و استنفذ المشي جلدي،و استوحشت،و خفت الوحوش في الجبل،فطلبت موضعا أسكن فيه ليلتي،فلم أجد.
و رأيت جبابا كثيرة منقورة في أرض الجبل،فطلبت أقربها قعرا،و رميت فيه حجرا،فظننت أنّ قعره قامة أو نحوها،فرميت بنفسي فيه.
و كان البرد شديدا،فنمت ليلتي و أنا لا أعقل من التعب و الجوع.
فلمّا كان من الغد،انتبهت،و عندي أنّ الجب محفور كالآبار،و أنّي أضع رجليّ في جوانبه،فأتسلّق و أطلع،فتأمّلته،فإذا[هو محفور كالتّنور،رأسه ضيّق،و أسفله واسع شديد السعة،و جوانبه منقوشة،فقمت في الجبّ] (1)فإذا هو أعلى من قامتي.
فتحيّرت في أمري،فلم أدر كيف أعمل،و كيف السبيل إلى الصعود.
و طلعت الشمس،و أضاء الجبّ،فإذا فيه أفعى مدوّر كالطبق و قد سدر (2)من البرد،فليس ينتشر،و لم يتحرّك من مكانه،فتجنّبت مكانه.
و هممت أن أجرّد السيف و أقطع الأفعى،ثم قلت:أتعجّل شرّا لا أدري عاقبته،و لا منفعة لي في قتله،لأنّي سأتلف في هذه البئر،و هي قبري،فما معنى قتل الأفعى؟أدعه،فلعلّه أن يبتدىء بالنهش،فأتعجّل التلف،و لا أرى نفسي تخرج بالجوع و العطش.
فأقمت يومي كلّه على ذلك،و الأفعى لم تتحرّك[226 ر]و أنا أبكي و أنوح على نفسي،و قد يئست من الحياة.
فلمّا كان من الغد،أصبحت،و قد ضعفت،فحملني حبّ الحياة على الفكر في الخلاص،فقمت،و جمعت من حجارة رقيقة كانت في الجبّ شيئا كثيرا،
ص:163
و عبّيتها في وسط الجبّ،و علوتها لتنال يدي طرف الجبّ و أحمل نفسي إلى رأسه.
فحين جعلت رجلي على الحجارة،تدكدكت و انهارت،لرقّتها و ملاستها.
فلم أزل أعيد تعبيتها و ركوبها،و تنزلق من تحت رجلي،و أنا متشاغل بذلك يومي كلّه،و جاء الليل فلم يمكنني أن أقوم من الجوع و الضعف،و انكسرت نفسي، ثم حملني النوم.
فلمّا كان من الغد فكّرت في حيلة أخرى،و وقع لي أن شددت المقرعة بعلائقها في حمائل السيف (1)،و دلّيت المقرعة إلى داخل الجبّ،و رميت السيف إلى رأس الجبّ،و أمسكت المقرعة بإحدى يديّ،فحصل جفن السيف فوق الجبّ معترضا لرأسه،و حمائله في المقرعة،و هي مدلاّة اليّ.
ثم أمسكت السيف،و سللته،و لم أزل أقلع من أرض الجبّ ما يمكن قلعه و نحته من تراب قليل،ثم عبّيت ذلك بالرّضراض (2)[و الحجارة الرقاق و جعلت بين كلّ سافين منها ترابا،ثم رددت السيف إلى جفنه،و علوت الرّضراض] (3)،و تعلّقت [240 غ]على السيف المعترض،و طفرت،فصار السيف معترضا تحت صدري، و ظهرت يداي من الجبّ،فحصلت جوانبه تحت إبطي،و أشلت نفسي،فإذا أنا قد خرجت من الجبّ،بعد أن اعوجّ السيف،و كاد يندقّ و يدخل في بطني لثقلي عليه.
فوقعت خارج الجبّ،مغشيّا عليّ من هول ما نالني،و وجدت أسناني قد
ص:164
اصطكّت،و قوّتي قد بطلت عن المشي،فما زلت أحبو و أطلب المحجّة حتى وقفت عليها.
و رآني قوم مجتازون،فأخذوا بيدي،و قوي قلبي فمشيت حتى دخلت سنجار آخر النهار،و قد بلغت روحي إلى حدّ التلف.
فدخلت مسجدا فطرحت نفسي فيه و أنا لا أشكّ في الموت،و حضرت صلاة المغرب،و اجتمع أهل المسجد فيه،و سألوني عن خبري،فلم يكن فيّ فضل للكلام.
فحملوني إلى بيت أحدهم،و لم يزالوا يصبّون في حلقي الماء،ثم المرق و الثريد، إلى أن فتحت عيني بعد العتمة،فتكلّمت،و بتّ ليلتي و أنا بحال عظيمة من الألم.
فلمّا كان من الغد دخلت الحمام،و أقمت عندهم أيّاما حتى قويت.
ثم أخرجت نفقة كانت معي،فاستأجرت منها مركوبا،و لحقت بصاحبي، و سلّم اللّه عزّ و جلّ (1).
ص:165
سقط طفل من القنطرة
فالتقطه العقاب ثم نجا سالما
و حكى أبو محمد يحيى بن فهد الأزدي[الموصلي[55 ن]رحمه اللّه،قال:
حدّثني أبي،قال:حدّثني] (1)ديسم بن إبراهيم بن شاذلويه (2)،المتغلّب-كان- بأذربيجان،لما ورد حضرة سيف الدولة يستنجده على المرزبان بن محمد بن مسافر (3)السلار لمّا هزمه عنها،قال:
رأيت بناحية أذربيجان نهرا يقال له:الرسّ (4)،شديد جرية الماء جدّا،و في أرضه حجارة كثيرة،بعضها ظاهر على الماء،و بعضها يغطّيه الماء،و ليس للسفن فيه مسلك،و له أجراف هائلة (5)لا مشاريع فيها،و عليه قنطرة يجتاز عليها السابلة.
ص:166
قال:و كنت مجتازا عليها بعسكري،فلمّا صرت في وسط القنطرة،رأيت امرأة تمشي و قد حملت ولدا طفلا في القماط،فزحمها بغل فطرحت نفسها على القنطرة، و سقط الطفل من يدها إلى النهر،فوصل إلى الماء بعد ساعة،لبعد ما بين القنطرة و صفحة الماء،ثم غاص،و ارتفعت الضجّة في العسكر،ثم رأينا الصبيّ قد طفا على وجه الماء،و سلم من تلك الحجارة.
و كان الموضع كثير العقبان (1)،و لها أوكار في أجراف ذلك النهر،و منه يصاد فراخها.
فحين ظهر الطفل في قماطه،صادف ذلك عقابا طائرا،فرآه،فظنّه طعمة (2)، فانقضّ عليه،و شبك مخالبه في القماط،و طار به،و خرج إلى الصحراء.
فطمعت في تخليص الطفل،فأمرت جماعة أن يركضوا وراء العقاب،فركضوا، و تتبّعت نفسي مشاهدة الحال،فركضت.
و إذا العقاب قد نزل إلى الأرض،و ابتدأ يمزّق قماط الصبيّ ليفترسه،فحين رأوه،صاحوا بأجمعهم،و قصدوه،فأدهشوه عن استلاب الصبيّ،فطار و تركه على الأرض.
فلحقنا الصبيّ،و إذا[227 ر]هو سالم،ما وصل إليه جرح،و هو يبكي.
فكببناه،حتى خرج الماء من جوفه،و حملناه إلى أمّه حيّا،سالما (3).
ص:167
قصّة ابن التمساح
و حكى أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب[241 غ]المعروف بالحاتمي،قال:
رأيت بمصر رجلا يعرف بابن التمساح،فسألت جماعة من أهل مصر،من العامّة،عن ذلك.
فقالوا:هذا وطىء التمساح أمّه،فولدته.
فكذّبت ذلك،و بحثت عن الخبر،فأخبرني جماعة من عقلاء مصر، أنّ التمساح بها يأخذ النّاس من الماء فيفترسهم.
و ربما أخذهم و هو شبعان،فيحمل المأخوذ بيده على صدره،حتى يجيء به إلى أجراف أسفل مصر بمسافة،و هي جبال حجارة فيها مغارات إلى النيل،لا يصل إليها الماشي و لا سالك الماء لبعدها عن الجهتين.
فيتسلّق التمساح إلى بعض المغارات،فيودع بها الإنسان الذي أخذه،حيّا أو ميتا بحسب الاتّفاق و يمضي.
فإذا جاع و لم يظفر بشيء،عاد إلى الموضع فيفترس الإنسان الذي خبأه هناك.
قال:فكان قد قبض على امرأة في بعض الأوقات،فجعلها في المغارة، فذكرت المرأة:أنّها حينما استقرّت في المغارة،و انصرف التمساح،رأت هناك رجلا حيّا،و آثار جماعة قد افترسهم التمساح.
و أنّها سألت الرجل عن أمره،فذكر أنّ التمساح تركه هناك منذ يومين.
قالت:و أخذ الرجل يؤانسني بالحديث،إلى أن طالبني بنفسي.
فقلت:يا هذا اتّق اللّه.
فقال:التمساح قد مضى،و من ساعة إلى ساعة فرج،و لعلّ أن تجتاز بنا
ص:168
سفينة قبل عودته فنطرح أنفسنا إليها.
فوعظته،فلم يلتفت إلى كلامي،و اغتصبني نفسي،فواقعني.
و ما نزل حتى جاء التمساح،فأخذه من فوقي،و مضى،فبقيت كالميتة فزعا.
فأنا كذلك،إذ سمعت وقع حوافر الخيل،و صوت أقدام كثيرين،فأخرجت رأسي من الغار،و صحت و استغثت،فاطّلع أحدهم.
و قال:ما أنت؟
فقلت:حديثي طريف (1)،أرموا لي حبلا أتخلّص به إليكم.
فرموا لي حبلا،فشددت نفسي،و استظهرت جهدي،و أطراف الحبل في أيديهم.
فقلت:اجذبوني.
فجذبوني،فصرت معهم على ظهر المغارة،بعد أن توهّنت،و تسلّخت يدي.
فسألوني عن خبري،فأخبرتهم،فأركبوني شيئا،و أدخلوني البلد،فلمّا كان وقت عادة حيضي،تأخّرت عنّي،ثم ظهر الحمل،فولدت ابني هذا بعد تسعة أشهر.
و كرهت أن أخبر كلّ أحد بهذا الحديث،فنسبت ذلك إلى التمساح،و أستتر أمري بذلك (2).
ص:169
أبو القاسم العلويّ يواجه الأسد
و حدّثني أبو القاسم بن الأعلم العلويّ الكوفي،الفيلسوف (1)،قال:
خرجت من بغداد،أريد الكوفة،فلمّا صرت فيما بينها و بين حمام أعين (2)قرية قريبة من الكوفة أفضيت إلى أجمة هناك.
و كنت قد تقدّمت الرفقة،و أنا راكب حمارا،و ورائي بمسافة قريبة غلام لي مملوك راكب بغلا،فسرنا حتى أبعدنا عن الرفقة.
فلمّا دخلت الأجمة،رأيت مسنّاة (3)دقيقة في وسط الأجمة،و عليها المسلك، يوصل إليها من هبوط.
فرمت النزول إليها،فوقف الحمار تحتي،فضربته ضربا شديدا،فلم أجده [242 غ]يبرح.
فالتفتّ إلى كفله (4)،لأتأمّل قوائمه،فرأيت أسدا قائما،و بينه و بين قوائم الحمار نحو ذراع أو أقلّ،و إذا الحمار قد شمّ رائحته فأصابته رعدة شديدة، و رسخت قوائمه في الأرض،و لم يتحرّك.
ص:170
فلم أشكّ في التّلف،و أنّ الأسد سيمدّ يده،فيجذبني من على الحمار، فغمّضت عيني لئلا أرى كيف أحصل في مخالبه،و أقبلت أ تشهّد،و أقرأ،و أنا مع ذلك أجد عقلي ثابتا،و متصوّرا لهيأة الأسد،و لم يفدني التّغميض شيئا.
ثم ذكرت في الحال حكاية كنت أسمعها،أنّ الأسد لا يفترس الإنسان و هو مواجه له،فاستدرت و فتحت عينيّ في عينيه،و أقبلت أ تشهّد خفيّا،و الأسد فاتح فاه،و أنا أتأمّل أسنانه،و تصل إلى أنفي من فمه روائح منتنة.
فإنّي[228 ر]لكذلك إذ لحقني الصبيّ المملوك على البغلة،و معه رجل راكب دابة،و وراءهما قوم مشاة.
فحين رأى المملوك تلك الحالة،جزع جزعا شديدا،و صاح بأعلى صوته:
يا معاشر المسلمين أدركونا،فقد افترس الأسد مولاي العلويّ.
فحين سمع الأسد الصياح من ورائه[56 ن]انزعج،و التفت،فرأى الصبيّ قريبا إليه،فتناوله من أعلى السرج،و عار البغل (1)و حصل الصبيّ في فم الأسد، كالفأرة في فم السنّور،و أنا كالميت إلاّ أني أحصّل ما أرى من ذلك.
و أقبل الأسد يحمل على راكب الدابّة،و المشاة،و الصبيّ في فمه،فهربوا منه، و دخل الأجمة.
فقلت في نفسي:قد فداني اللّه عزّ و جلّ بمملوكي،و خلّص نفسي بيسير من مالي،فما وقوفي؟
فرميت بنفسي عن الحمار،و فررت أعدو على المسنّاة،فتلقّاني قوم قد جاءوا من الكوفة،و رأوا حيرتي،و فزعي،فسألوني عن أمري،فأخبرتهم.
فتقدّموا يطلبون الأسد،و قويت نفسي،فزدت في العدو،إلى أن خرجت من الأجمة،و لحقني الرفقة التي كنت فيها،و قد عقلوا البغلة التي كانت تحت مملوكي،و ساقوا الحمار،فركبته،و دخلت الكوفة.
ص:171
و كان هذا الخبر يوم الثلاثاء غرّة شهر المحرّم سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة،فصمت يومي،و اعتقدت أن أصوم كلّ ثلاثاء،أبدا،و أنا أصومه إلى الآن.
و جاءني أبو علي عمر بن يحيى العلويّ،مهنّئا بالسلامة،و بقدومي،و كان خبري شاع.
و قال لي في جملة كلامه:كيف خفت الأسد؟أو ما علمت أنّ لحومنا معاشر بني فاطمة محرّمة على السّباع؟
فقلت له:مثل سيّدنا-أطال اللّه بقاءه-لا يقول مثل هذا،و ما الذي كان يؤمنني أن يكون هذا الحديث باطلا فأتلف،و كيف كانت نفسي-مع طبع البشريّة-تطمئنّ في مثل ذلك الوقت،إلى هذا الحديث؟
قال:كيف يكون هذا الحديث باطلا،مع ما رويناه من خبر زينب الكذّابة مع علي بن موسى الرضا عليهما السلام؟
قال:فقلت له:بلى،قد رويت ذلك،و لكن لم يخطر في فكري من هذا شيء في تلك الحال.
قال مؤلّف الكتاب:فقلت أنا لأبي القاسم بن الأعلم،و ما خبر زينب الكذّابة؟ فإني لم أسمعه.
قال:هذا خبر مشهور عند الشيعة،بإسناد[243 غ]لهم لا أحفظه، و ذلك:أنّ امرأة يقال لها زينب ادّعت أنّها علويّة،فجيء بها إلى عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام،فدفع نسبها.
فخاطبته بكلام دفعت فيه نسبه،و نسبته إلى مثل ما نسبها إليه من الادّعاء، و كان ذلك بحضرة السلطان.
فقال الرّضا:أخرج أنا و هذه المرأة إلى بركة السّباع،فإنّي رويت عن آبائي عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم:أنّ لحوم ولد فاطمة صلوات اللّه عليها محرّمة على السباع، فمن أكلته السّباع فهو دعيّ.
ص:172
فقالت المرأة:لا أرضى بهذا،و دفعت الخبر،فأجبرها السلطان على ذلك.
فقالت:فلينزل قبلي.
فنزل الرّضا بمحضر من خلق عظيم،فلمّا رأته السّباع،أقعت على أذنابها، فدنا منها،و لم يزل يمسح رأس كلّ واحد منها و يمرّ بيده إلى ذنبه،و السبع يبصبص له،حتى أتى على آخرها،ثم ولّى،فصعد من البركة.
و كرهت المرأة النزول،و أبته،فأجبرت على ذلك،فحين نزلت وثب عليها السباع فأفترسوها و مزّقوها،فعرفت بزينب الكذّابة (1).
ص:173
أعان الفيلة على قتل ثعبان فكافأوه بما أغناه
و حدّث عبد اللّه بن محمد بن خرسان السيرافيّ (1)،المقيم-كان-بالبصرة، قال:حدّثني[أبي،عن جدّي،قال] (2)ذكر جماعة من شيوخ البحرين الذين تردّدوا إلى بلاد الهند،أنّهم سمعوا هناك حكاية مستفيضة،أنّ رجلا كان معاشه صيد الفيلة قال:
استخفيت مرّة في شجرة كبيرة عالية كثيرة الورق في غيضة كانت تجتاز بها الفيلة،من شرائع الماء التي تردها إلى مراتعها.
فاجتاز بي قطيع منها،و كانت عادتي أن أدع القطعان تجوز حتى تبلغ آخر فيل منها،فأرميه بسهم مسموم في بعض مقاتله،فتجفل الفيلة،فإذا مات الفيل المجروح،نزلت فاقتلعت أنيابه و سلخت جلده،و أخذت ذلك فبعته في البلاد.
فلمّا اجتاز بي هذا[229 ر]القطيع،رميت آخر فيل كان فيه،فخّر، فاضطربت الفيلة،و أسرعت عنه.
فإذا أعظمها قد عاد فوقف عليه،و تأمّل السّهم و الجرح،و رجعت معه الفيلة، و وقفت بوقوفه،فما زال قائما و الفيل المجروح يضطرب إلى أن مات.
فضّج ذلك الفيل ضجيجا عظيما،و ضجّت الفيلة معه و انتشرت في الغيضة، ففتّشتها شجرة شجرة،فأيقنت بالهلاك.
و انتهى الفيل الأعظم إلى الشّجرة التي أنا فيها،فلمّا رآني احتكّ بالشجرة،
ص:174
فإذا هي قد انكسرت،على عظمها و ضخامتها،و سقطت أنا و الشجرة إلى الأرض، فلم أشكّ في أنّ الفيل يدومني.
و إذا به قد جاء حتى وقف يتأمّلني،و أحجمت الفيلة عنّي.
فلما رأى الفيل العظيم قوسي و سهامي،لفّ خرطومه عليّ برفق،و شالني من غير أذى،حتى وضعني على ظهره،و رجع يريد الطريق التي كان أقبل منها،و هرول، و هرولت الفيلة خلفه،حتى بلغ الماء،و الفيلة معه.
فإذا قد خرج عليها ثعبان عظيم ينفخ،فتأخّرت الفيلة،و أشال الفيل الأعظم خرطومه،فلفّه عليّ،و أنزلني،و تركني على الأرض،و أخذ[244 غ]يومىء بخرطومه إلى الثعبان برفق و تملّق.
فسددت سهما إلى الثعبان،و رميته،فأصبته،و تابعت رميه،فانصرف مثخنا.
فتقدّم إليه الفيل فداسه،ثم عاد إليّ،فأخذني بخرطومه،و جعلني على ظهره و أقبل يهرول،و الفيلة خلفه.
فجاء بي إلى غيضة لم أكن أعرفها،أعظم من التي أخذني منها،و أبعد بعدّة فراسخ،و فيها فيلة ميتة،لا يحصيها إلاّ اللّه تعالى،و أكثرها قد بلي جسده و بقيت عظامه (1).
ص:175
فما زال يتتّبع الأنياب و يجمعها،و يومىء إلى فيل فيل،حتى لم يدع هناك نابا إلاّ جمعه،و أوقر تلك الفيلة،ثم أركبني على ظهره،و أخذ بي في طريق العمارة، و اتّبعته الفيلة.
فلمّا شارف القرى وقف،و أومأ إلى الفيلة فطرحت أحمالها،حتى لم يبق منها شيء،ثم أنزلني بخرطومه برفق،و تركني عند الأنياب،و قد صارت تلاّ عظيما هائلا.
فجلست عندها متعجّبا من سلامتي،و رجع الفيل يريد الصحراء،و رجعت الفيلة برجوعه،و أنا لا أصدّق بسلامتي،و لا بما شاهدت من عظم فطنة الفيل.
فلمّا غابت الفيلة عنّي،مشيت،إلى أقرب القرى إليّ،و استأجرت خلقا كثيرا،حتى خرجوا معي،و حملوا تلك الأنياب،في أيّام،إلى القرية.
و ما زلت أبيعها في تلك المدن،حتى حصل لي مال عظيم،كان سبب يساري[57 ن]و غناي عن صيد الفيلة (1).
ص:176
حلف بالطلاق أن لا يبيت بمناذر
فكان ذلك سببا لإنقاذ شخص من براثن الأسد
و حكى سعد بن محمد[بن عليّ] (1)الأزديّ،الشاعر (2)،[المعروف بالوحيد] 1قال:حدّثني[مروان بن شعيب العدويّ،من عديّ ربيعة] (3)،قال:[و هو بنهر تلّ هوارا،و كان من أهلها،قال] 1:
كنت في حداثتي شديد القوّة و الأيد (4)-و كانت بنيته لما حدّثني،تدلّ على ذلك منه-و كنت عند زوجة لي من عبد القيس في مناذر (5)،و هي قريبة من تلّ هوارا (6)،على أربعة فراسخ،و عندي قوم من أهل هواره،و نحن نشرب.
فتفاخرنا إلى أن انتهينا إلى تجريد السيوف،فحجز بيننا مشايخ القرية،و بدر لساني،فحلفت بالطلاق أن لا أبيت بمناذر.
ص:177
فخرجت منها أريد منزلي بتلّ هوارا،و معي سيفي و جحفتي (1)،و كان ذلك في الليل.
فسرت في الطريق وحدي،و بلغت أجمة (2)لا بدّ من سلوكها،فلمّا سرت فيها قليلا،سمعت صياحا شديدا من ورائي،فجرّدت سيفي،و رجعت (3)أطلب الصوت.
فوجدت الأسد قد افترس رجلا،و هو الذي صاح،و رأيته في فم الأسد عرضا بثيابه.
فصحت بالأسد،فرمى بالرّجل،و رجع إليّ،فقاتلته ساعة،ثم وثب عليّ وثبة شديدة،فلطئت (4)بالأرض،و جمعت نفسي في جحفتي،فلشدّة و ثبته [230 ر]جاوزني،فصار ورائي،فأسرعت الوثوب نحوه،و بعجته بالسّيف في فمه،و كان سيفا ماضيا،فدخل في فمه و خرج من لبّته (5)،فخرّ صريعا يضطرب، فتداركته بضربات كثيرة حتى تلف.
و عدت إلى الرجل،فوجدته يتنفّس و لا يعقل،فحملته إلى الجادّة،و كانت ليلة مقمرة.
و تأمّلت الرجل،فإذا هو تاجر من تلّ هوارا (6)،أعرفه،فلم تطب نفسي بتركه أصلا،فجعلته عند الجادّة،و عدت فأخذت رأس السبع،و حملته و الرّجل،
ص:178
و حصّلتهما في صبيغة كانت عليّ.
و الصّبيغة إزار أحمر يتّشح به[245 غ]عرب تلك الناحية.
و كان الأسد في خلال قتالي إيّاه قد ضرب فخذي بكفّه،فأحسست به في الحال كغرزة الإبرة،لما كنت فيه من الهول.
فلمّا حصلت أمشي حاملا رأس الأسد و الرّجل،أحسست بالألم،و رأيت الدم يجري،و قوّتي تضعف،فصبّرت نفسي حتى بلغت تل هوارا(12)و قد أصبحت.
فأنكر أهل القرية حالي،و حال الجرح،فسألوني عن خبري،فالقيت الصّبيغة التي فيها الرّجل و الرأس،فاستهولوا الحال لمّا حدثتهم بها.
و فتشوا الرّجل،فوجدوا في بدنه خدوشا يسيرة،فأخذوه،و رمت أن أمشي إلى بيتي،فلم أقدر،حتى حملت،و مكثت في بيتي زمانا،و كنت أعالج نفسي من تلك الجراح مدّة.
و عولج الرّجل فبرأ قبلي بأيّام،و هو حيّ إلى الآن،يسمّيني مولاي،و معتقي، و جراحي-أنا-لصعوبتها تنتقض عليّ في أغلب الأوقات.
قال سعد بن محمد:و أراني الجرح،فكان عظيم الفتح،قال:فلم أعلم سببا لسكرنا و عربدتنا،إلاّ أنّه سبب النجاة لذلك الرّجل (1).
ص:179
حيلة ابن عرس في قتل الأفعى
و حكى سعد بن محمد الأزديّ،قال:حدّثني رجل[يعرف بعبد العزيز بن الحسن الأزديّ] (1)من تجار القصباء بالبصرة،قال:
كنت يوما في القصباء (2)،و قد أخرج من النهر قصب رطب،فعمل كالقباب، على العادة فيما يراد تجفيفه من القصب،و كان يوما صائفا.
و كدّني الحرّ،فدخلت إحدى تلك القباب القصب،و هي تكون باردة جدّا، و عادة التجّار أن يستكنّوا بها،فنمت في القبّة،فلبردها استثقلت في النوم.
فانتبهت بعد العصر،و قد انصرف الناس من القصباء،و هي في موضع بالبصرة، في أعلاها،معروف،به صحراء و بساتين.
فاستوحشت للوحدة،و عملت على القيام،فإذا بأفعى في غلظ السّاق أو الساعد،طويل،متدوّر على باب القبّة كالطبق.
فلم أجد سبيلا إلى الخروج،و يئست من نفسي،و تحيّرت،و جزعت جزعا شديدا،و أخذت في التشهّد،و التسبيح،و الفزع إلى اللّه تعالى.
فإنّي لكذلك،إذ جاء ابن عرس من بعيد،فلمّا رأى الأفعى،وقف يتأمّله ثم رجع من حيث جاء،و غاب قليلا،ثم جاء و معه ابن عرس آخر،فوقفا جميعا، الواحد عن يمين القبّة،و الآخر عن يسارها،و صار الواحد عند رأس الأفعى،و الآخر عند ذنبها،و الأفعى غافل عنهما،ثم وثبا في حال واحدة،و إذا رأسه و ذنبه في فم كلّ واحد منهما.
فاضطرب،فلم يفلت منهما،و جرّاه حتى بعدا عن عيني،فخرجت من القبّة سالما (3).
ص:180
ألقى نفسه على نبات البرديّ فوقع على أسد
و حدّث سعد بن محمد،الوحيد[أيضا،قال:حدّثنا الحسن بن عليّ الأنصاريّ المقرئ بالرملة] (1)،و كان فارسا[فاتكا] 1شجاعا جلدا،قال:
خرجت في قافلة من الرملة،صاحبها ابن الحدّاد،و أنا على مهر لي،و عليّ سلاحي.
فبلغنا في ليلة مظلمة إلى وادي غارا (2)،و هو واد عميق جدّا،عمقه نحو فرسخ،في بطنه ماء يجري،و عليه شجر كثير،و هو مشهور بالسّباع،و الطريق على جنبة من جنباته في مضيق.
فازدحمت القافلة،فسقط جمل عليه حمل بزّ،فرأيت صاحبه يلطم و يبكي، و كان موسرا.
فدعاه ابن الحداد،و قال له:أنت رجل موسر،فما هذا الجزع؟
فقال له:في الحمل البزّ الذي سقط،عشرة الآف دينار[246 غ]عينا.
فحطّ ابن الحدّاد القافلة،و نادى:من ينزل الوادي،و يتخلّص لنا الحمل أو المال الذي فيه،و له ألف دينار،فلم يجسر أحد على[231 ر]ذلك.
فلما كرّر النداء جئته،و قلت:تعجّل ليّ الدنانير.
فقال:لا،و لكن أكتب لك بها الساعة كتابا،و أشهد من في القافلة،
ص:181
فإذا صار الجمل و حمله مع ما فيه من المال عندي،فالمال لك.
فكتبنا كتابا بذلك،و أشهدنا عليه،و أعطيتهم دابّتي و رحلي،ثم أخذت سيفا، و جحفة،و شمعة مشتعلة،و رمت النزول إلى الوادي.
فرأيت منزلا غرّني،فاستعجلت سلوكه،فنزلت ساعة،حتى صرت على جانب من الوادي مشجّر،فإذا فيه أثر الرعاة و الغنم،ثم لم أجد طريقا إلى أسفل،و كان سبيلي أن أرجع،و أرتاد النزول من جهة أخرى.
فحملني ضيق الوقت،و الحرص على الدنانير،أن جعلت أتوغّل،و أنتقل من شجرة إلى شجرة،و من حجر إلى حجر،حتى حصلت في جنب الوادي على صخرة ملساء بارزة كالرفّ،ليس لها إلى أسفل طريق البتّة.
فاطّلعت بالشمعة،فإذا بيني و بين القرار عشرون ذراعا،و في أسفل الوادي برديّ (1)كثيف يجري بينه الماء،و له خرير شديد.
فأجمعت على أن ألقي نفسي،فأطفأت الشمعة،و شددتها بحمائل السيف مع الجحفة،و ألقيت ذلك في موضع علّمته عن يميني،ثم جمعت نفسي فوثبت [58 ن]في وسط البرديّ.
فوقعت على شيء ثار من تحتي و نفضني،و صاح صيحة عظيمة ملأ بها الوادي، و اذا هو أسد،فشقّ البرديّ و سعى هاربا،فوقف بإزائي من جانب الوادي الآخر.
فطلبت سيفي و جحفتي حتى أخذتهما،و وقفت أنتظر أن يمضي الأسد فأطلب الجمل،فأقبل يريدني.
فمشيت بين يديه في البرديّ،و هو في أثري يخوض الماء،و يشقّ البرديّ،و أنا أخاتله من موضع إلى موضع.
ص:182
و طلع القمر،فأبصرت بناء خفيّا،فقصدته،فإذا هو بيت رحى يديرها الماء،فدخلت فيه.
ثم فكّرت،فقلت:هنا مألف الأسد،و الساعة يجيئني،فجئت إلى شجرة كبيرة،فقطعتها بالسيف من نصف ساقها،و جررتها من ورائي،و جذبت ساقها، و دخلت إلى بيت الرّحى فامتلأ الباب بها،و فضلت عنه بشيء كثير،و جلست، و ساق الشجرة في يديّ.
فما كان إلاّ مقدار جلوسي،حتى أحسست بالأسد يزحم الشجرة يريد الدخول إليّ.
قال:فاستندت إلى الحائط،و أمسكت ساق الشجرة أدافعه بها،حتى ملّني و مللته،ثم ربض بأزاء الباب إلى أن أسفر الصبح،فلمّا كادت أن تطلع الشمس مضى.
فأقمت إلى أن انبسطت الشمس،حتى أمنته،ثم خرجت،فما زلت أطلب أثر الجمل حتى انتهيت إليه،فإذا هو قد تقطّع من أثر السقطة،و العدلان مطروحان، و كانوا أمروني بفتقهما،و استخراج المال،و حمله،إن لم أقدر على تخليص الجمل و حمل العدلين،ففعلت ذلك.
و حملت المال على ظهري،و طلبت المصعد،و قد علا الضحى،فصعدت فيه.
فلمّا حصلت برأس الوادي،إذا ببادية مجتازين،فقصدوني،فمانعتهم بالسيف عن نفسي،فلم[247 غ]أطقهم،و ضربوني بالسيوف.
فقلت لشيخ رأيته كالرئيس لهم:لي الذمام (1)على ما معي حتى أصدقك، و أنفعك نفعا كثيرا.
فقال:أصدقني،و لك الذمام.
ص:183
فحدّثته بالحديث،فأخذوا المال،و ساروا بي معهم،حتى وقفوا على العدلين، فاحتملوهما.
و ضرب الشيخ بيده في المال،فحثا منه ثلاث حثيات (1)فقلت:هذا لا ينفعني إن لم تبلغني مأمني.
فأناخ جملا فحملني عليه،و سار بي سيرا حثيثا،حتى أراني القافلة على بعد، ثم أنزلني،و قال:إلحق برفقتك،فما عليك من أحد بأس.
فمشيت حتى لحقت القافلة،و قد خبأت تلك الدنانير في سراويلي،فعرّفتهم أنّ المال أخذته البادية،و كتمت ما أعطوني،و أريتهم آثار الضّرب،فصدّقوني، و لم يفتّشوني.
فركبت دابّتي و سرت معهم،فدخلنا طبريّة (2)،فشكوا إلى أميرها أبي عثمان بن عقيل،فأسرى إلى الأعراب،فارتجع منهم أكثر المال،و ردّه إلى صاحبه.
و كنت أنا،لما دخلنا طبريّة،فارقتهم،و دخلت إلى دمشق،ثم لحقوني بها.
و بلغني ما ردّ عليهم،فقلت لصاحب المال:قد بذلت مهجتي،و أفلتّ من الأسد،و الموت،مرارا،و من الأعراب،حتى وصل إليك بعض مالك،فلا أقلّ من أن توصل إليّ بعض ما وعدتني،فأعطاني مائتي دينار.
فأضفتها إلى ما أعطانيه الأعراب،فإذا الجميع ستمائة دينار،مع السلامة من تلك الشدائد و الأهوال (3).
ص:184
كيف نجا من الأسد و الثعبان
و حكي أنّ رجلا وفد على هشام بن عبد الملك،فقال:يا أمير المؤمنين،لقد رأيت في طريقي عجبا.
قال:و ما هو؟
قال:بينما أنا أسير[232 ر]بين جبلي طيّ (1)،إذ نظرت فإذا عن يميني أسد كالبغل،و عن يساري ثعبان كالجراب،و هما مقبلان عليّ.قاصدان نحوي.
فرفعت رأسي إلى السماء،و قلت:
يا دافع المكروه قد تراهما فنجّني يا ربّ من أذاهما
و من أذى من كادني سواهما لا تجعلن شلوي من قراهما
قال:فقر با منّي،حتى وصلا إليّ،فتشمّماني،حتى لم أشكّ في الموت، ثم صدرا عنّي،و نجوت (2).
ص:185
قضى ليلة مع الأسد في حجرة مغلقة الباب
بلغني عن قاضي القضاة المعروف بأبي السائب،و لم أسمع ذلك منه،قال:
وافيت من همذان أريد العراق،و أنا فقير،وزرت قبر الحسين رضي اللّه عنه.
فلمّا انصرفت أريد قصر ابن هبيرة،قيل لي إنّ الأرض مسبعة،و أشير عليّ أن ألحق بقرية فيها حصن سمّيت لي،فآوى إليها قبل المساء.
و كنت ماشيا،فأسرعت في المشي،إلى أن وافيت القرية،فوجدت باب الحصن مغلقا.
فدققت الباب،فلم يفتح لي،و توسّلت للقائمين بحراسته،بمن انصرفت من زيارته.
فقالوا:قد أتانا منذ أيّام من ذكر مثل ما ذكرت،فأدخلناه،و آويناه، فدلّ علينا اللصوص،و فتح لهم باب الحصن ليلا،و أدخلهم،فسلبونا،و لكن الحق بذلك المسجد،و كن فيه،لئلاّ تمسي فيأتيك السّبع.
فصرت إلى المسجد،فدخلت بيتا كان فيه،و جلست.
فلم يكن بأسرع من أن جاء رجل على حمار،منصرفا[248 غ]من الحائر، فدخل المسجد،و شدّ حماره في غلق الباب،و دخل إليّ.
و كان معه كرّاز (1)فيه ماء،و خرج،فأخرج منه سراجا فأصلحه،ثم أخرج قدّاحة،فقدح،و أوقد،و أخرج خبزه،و أخرجت خبزي،و اجتمعنا على الأكل.
فما شعرنا إلاّ و السّبع قد حصل في المسجد فلمّا رآه الحمار،دخل إلى البيت الذي كنّا فيه،فدخل السّبع وراءه،فخرج الحمار و جذب باب البيت بالرسن،
ص:186
فأغلقه علينا و على السّبع،و صرنا محبوسين فيه،[فحصلنا في أخبث محصّل] (1).
و قدّرنا أنّ السّبع ليس يعرض لنا،بسبب السراج،و أنّه إذا طفىء،أكلنا، أو أخذنا.
و ما طال الأمر أن فني ما كان في السراج من الدهن،و طفىء،و حصلنا في الظلمة،و السّبع معنا،فما كان عندنا من حاله شيء إلاّ إذا تنفس،فإنّا[59 ن] كنا نسمع نفسه.
وراث الحمار من فزعه،فملأ المسجد روثا،و مضى الليل و نحن على حالنا، و قد كدنا نتلف فزعا.
ثم سمعنا صوت الأذان من داخل الحصن،و بدا ضوء الصبح،فرأيناه من شقوق الباب.
و جاء المؤذن من الحصن،فدخل المسجد،فلمّا رأى روث الحمار،لعن و شتم،و حلّ رسن الحمار من الغلق،فمرّ يطير-من الفزع-في الصحراء، لعلمه بما قد أفلت منه.
و فتح المؤذّن باب البيت ينظر من فيه،فوثب السّبع إليه،فدقّه،و حمله إلى الأجمة،و قمنا نحن،و انصرفنا سالمين (2).
ص:187
أخذه الأسد في المكان
الذي أخذ فيه أباه
بلغني عن أبي عليّ محمد بن عليّ بن مقلة الكاتب،قال:
كنت عند أبي عليّ العلويّ بالكوفة،إذ دخل عليه غلام له،فقال:يا مولاي، أخذ الأسد فلانا وكيلك.
فانزعج،و قال:أين أخذه؟
فقال:في موضع كذا و كذا،و أدخله الأجمة الفلانيّة.
فقال أبو عليّ:لا إله إلاّ اللّه،في هذا اليوم بعينه،أخذ الأسد أباه،و أدخله هذه الأجمة بعينها،منذ كذا و كذا سنة،و اغتمّ،فسلّيناه،فعاد إلى شأنه في المحادثة.
فأنا قاعد عنده أحدّثه،إذ دخل عليه غلمانه مبادرين،فقالوا:قد وافى فلان-يعنون ذلك الوكيل-فأذن له،فدخل.
فرحّب به أبو عليّ،و سأله عن خبره،فقال:
نعم،أخذني الأسد،كما شاهدوني،و كنت راكبا،فحملني بفيه،كما تحمل السنّور بعض أولادها،إلاّ أنّه ما كلمني (1)،و أدخلني الأجمة،و قد زال عقلي.
و لم أعلم من أمري شيئا،إلاّ أنّني أفقت فلم أره،و وجدت أعضائي سالمة، و وجدت حولي من الجماجم و العظام أمرا عظيما،فلم يزل عقلي و قوّتي يثوبان إليّ إلى أن قمت،و مشيت.
ص:188
فعثرت بشيء تأمّلته،فإذا هو هميان،فأخذته،و شددت به وسطي[333 ر]، و مشيت إلى أن بعدت عن الموضع،فوصلت إلى شبيه بوهدة،فجلست فيها، و غطّيت نفسي بما أمكنني من القصب بقيّة ليلتي.
فلما طلعت الشمس أحسست بكلام المجتازين،و حوافر بغالهم،فخرجت و عرّفتهم قصّتي،و ركبت بغل أحدهم.
فلمّا بعدت عن الأجمة،و أمنت على نفسي،فتحت الهميان،فإذا فيه رقعة بخطّ أبي،بأصل ما كان في الهميان من الدنانير،و بما أنفقه،فإذا هو هميان أبي الذي كان في وسطه لما افترسه السبع.
فحسبت المصروف،و وزنت[249 غ]الباقي،فإذا هي بأزاء ما بقي من الأصل،ما نقصت شيئا.
قال:و أخرج الهميان،و فتحه،و أخرج الرقعة،فقال أبو عليّ:نعم،هذا خطّ أبيك.
و عجبت الجماعة من ذلك (1).
ص:189
نجا من الأسد و افترس مملوكه
و بلغني عن رجل من أهل الأنبار،قال:
خرجت إلى ضيعة لي في ظاهر الأنبار (1)،راكبا دابّة لي،و معي مملوك لي أسود في نهاية الشجاعة.
فلمّا صرنا في بعض الطريق،بالقرب من الموضع الذي أنا طالبه،إذ نشأت سحابة،فأمطرت،و كان المساء قد أدركنا،فملنا إلى قباب كانت في الطريق للسابلة،فلجأنا إليها،فقوي المطر حتى منعنا من الحركة،فأشار الغلام عليّ بالمبيت.
فقلت له:نخاف اللصوص ويلك.
فقال لي:تخاف و أنا معك؟
قلت:فالسّبع؟
قال:نصيّر الدابّة داخل القبّة،و أنت تليها،و أنا عند الباب،و أشدّ وسطي بالحبل الذي معنا،و أشدّ طرفه برجلك،حتى لا يأخذني النوم،فإن جاء الأسد، أخذني دونك.
و ما زال يحسّن لي ذلك الرأي حتى أطعته،و ملنا إلى إحدى القباب،و دخلناها، و فعل ما قال.
فو اللّه ما مضت قطعة من الليل،حتى جاء الأسد،فأخذ الأسود فدقّه، و احتمله،و جر رجلي المشدودة معه في الحبل.
ص:190
فلم يزل يجرّني على الشوك و الحجارة،إلى أن صار بي إلى أجمته،و أنا لا أعقل شيئا من أمري،و لا أحسّ بأكثر ما يجري،و لا تمييز لي يؤدّي بي إلى الاجتهاد في حلّ الحبل من رجلي.
ثم رمى بالأسود،و ربض عليه،و ما زال يأكل منه،حتى شبع،و ترك ما فضل منه،و ليس فيّ من حسّ الحياة غير النظر فقط،ثم مضى،فنام بالقرب من مكاننا.
و بقيت زمانا على تلك الحال،ثم سكن روعي،و رجعت إليّ نفسي،لطول مكث الأسد في نومه،فحللت رجلي من الحبل،و قمت أدبّ،فعثرت بشيء لا أدري ما هو،فأخذته،فإذا هميان ثقيل،فشددته على وسطي،و خرجت من الأجمة،و قد قارب الصبح أن يسفر.
و صرت إلى القبّة التي فيها دابّتي،فإذا هي واقفة بحالها،فأخرجتها،و ركبتها، و انصرفت إلى منزلي،و فتحت الهميان،فوجدت فيه جملة دنانير.
فحمدت اللّه تعالى على السلامة و بقي الرعب في قلبي،و التألّم في بدني، مدّة (1).
ص:191
فيمن اشتدّ بلاؤه بمرض ناله فعافاه اللّه سبحانه بأيسر سبب و أقاله
دعاء يشفي من الوجع
[حدّثني علي بن عمر بن أحمد الحافظ،من حفظه،قال:حدّثنا أبو بكر النيسابوري (1)،قال:حدّثنا أبو بشر بن عبد الأعلى،قال:أخبرنا عبد اللّه بن وهب (2)أنّ مالكا،أخبره عن يزيد بن خصيفة (3)،عن عمرو بن عبد اللّه بن كعب السلميّ (4)عن نافع بن جبير بن مطعم (5)،] (6)عن عثمان بن أبي العاص الثقفيّ (7)،قال:
شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،وجعا بي،قد كاد يبطلني،فقال لي:يا
ص:192
عثمان،ضع يدك عليه،و قل:بسم اللّه،أعوذ بعزّة اللّه و قدرته،من شرّ هذا الوجع،و من شرّ ما أجد و أحاذر،سبع مرّات.
قال:فقلتها،فشفاني اللّه (1).[250 غ]
ص:193
وجأ نفسه بسكّين فعوفي من مرضه
[حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن أحمد الورّاق (1)،قال:حدّثنا أحمد بن سليمان الطّوسيّ،قال:حدّثنا الزّبير بن بكّار،قال:حدّثني محمّد بن الضحّاك،عن أبيه،و محمّد بن سلاّم] (2)عن أبي جعدة،قال:
برص (3)أبو عزّة الجمحيّ الشاعر (4)،فكانت قريش لا تؤاكله،و لا تجالسه، فقال:الموت خير من هذه الحياة.
فأخذ حديدة،و دخل بعض شعاب مكّة،فطعن بها في معدّه.و المعدّ:
موضع عقبي الرّاكب من الدابّة.
ص:194
قال أبو جعدة:فمرّت الحديدة بين الجلد و الصّفاق (1)،فسال منه ماء أصفر، و برىء لوقته،فقال:
ألّلهمّ ربّ وائل و نهد و المهمات و الجبال الجرد
[قال مؤلّف هذا الكتاب:و الذي في كتاب الطّوسيّ:لا همّ (2)،و هو الصواب عندي.] (3)
و ربّ من يرعى بياض نجد أصبحت عبدا لك و ابن عبد
أبرأتني من وضح في جلدي من بعد ما طعنت في معدّي (4)
ص:195
يا قديم الإحسان لك الحمد
حدّثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن البهلول التنوخيّ،قال:
كان ينزل بباب الشام (1)من الجانب الغربيّ من بغداد رجل[234 ر] مشهور بالزهد و العبادة،يقال له:لبيب العابد،لا يعرف إلاّ بهذا.
و كان الناس ينتابونه،و كان صديقا لأبي،فحدّثني لبيب،قال:
كنت مملوكا روميّا لبعض الجند،فربّاني،و علّمني العمل بالسلاح،حتى صرت رجلا،و مات مولاي بعد أن أعتقني.
فتوصّلت إلى أن حصلت رزقه لي،و تزوّجت بامرأته،و قد علم اللّه أنّني لم أرد بذلك إلاّ صيانتها،فأقمت معها مدّة.
ثم اتّفق أنّي رأيت يوما حيّة داخلة في جحرها،فأمسكت ذنبها،فانثنت عليّ،فنهشت يدي،فشلّت.
و مضى على ذلك زمان طويل،فشلّت يدي الأخرى،لغير سبب أعرفه، ثم جفّت رجلاي،ثم عميت،ثم خرست.
و كنت على ذلك الحال-ملقى-سنة كاملة،لم تبق لي جارحة صحيحة، إلاّ سمعي،أسمع به ما أكره،و أنا طريح على ظهري،لا أقدر على الكلام، و لا على الحركة،و كنت أسقى و أنا ريّان،و أترك و أنا عطشان،و أهمل و أنا جائع،و أطعم و أنا شبعان.
فلمّا كان بعد سنة،دخلت امرأة إلى زوجتي،فقالت:كيف أبو علي، لبيب؟
ص:196
فقالت لها زوجتي:لا حيّ فيرجى،و لا ميت فيسلى.
فأقلقني ذلك،و آلمني ألما شديدا،و بكيت،و رغبت إلى اللّه عزّ و جلّ في سرّي بالدعاء.
و كنت في جميع تلك العلل لا أجد ألما في جسمي،فلمّا كان في بقيّة ذلك اليوم،ضرب عليّ جسمي ضربانا عظيما كاد يتلفني،و لم أزل على ذلك الحال،إلى أن دخل الليل و انتصف،فسكن الألم قليلا،فنمت.
فما أحسست إلاّ و قد انتبهت وقت السحر،و إحدى يديّ على صدري، و قد كانت طول هذه السنة مطروحة على الفراش لا تنشال أو تشال.
ثم وقع في قلبي أن أتعاطى تحريكها،فحركتها،فتحرّكت،ففرحت بذلك فرحا شديدا،و قوي طمعي في تفضّل اللّه عزّ و جلّ عليّ بالعافية.
فحرّكت[251 غ]الأخرى فتحرّكت،فقبضت إحدى رجليّ فانقبضت، فرددتها فرجعت،ففعلت مثل ذلك مرارا.
ثم رمت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد،كما كان يفعل بي أوّلا، فانقلبت بنفسي،و جلست.
و رمت القيام فأمكنني،فقمت و نزلت عن السرير الذي كنت مطروحا عليه،و كان في بيت من الدار.
فمشيت ألتمس الحائط في الظلمة،لأنّه لم يكن هناك سراج،إلى أن وقعت على الباب،و أنا لا أطمع في بصري.
فخرجت من البيت إلى صحن الدار،فرأيت السماء و الكواكب تزهر، فكدت أموت فرحا.
و انطلق لساني بأن قلت:يا قديم الإحسان،لك الحمد.
ثم صحت بزوجتي،فقالت:أبو علي؟
فقلت:الساعة صرت أبو علي؟أسرجي،فأسرجت.
ص:197
فقلت:جيئيني بمقراض،فجاءت به،فقصصت شاربا لي كان بزيّ الجند.
فقالت زوجتي:ما تصنع؟الساعة يعيبك رفقاؤك.
فقلت:بعد هذا لا أخدم أحدا غير ربّي.
فانقطعت إلى اللّه عزّ و جلّ،و خرجت من الدار،و طلّقت الزوجة،و لزمت عبادة ربّي.
و قال أبو الحسن:و خبر هذا الرجل معروف مشهور،و كانت هذه الكلمة:
يا قديم الإحسان لك الحمد،صارت عادته،يقولها في حشو كلامه.
و كان يقال إنّه مجاب الدّعوة،فقلت له يوما:إنّ الناس يقولون إنّك رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في منامك،فمسح يده عليك،فبرئت.
فقال:ما كان لعافيتي سبب غير ما عرّفتك (1).
ص:198
أبرأ أبو بكر الرازي
غلاما ينفث الدم بإطعامه الطحلب
حدّثني أبو الحسن محمّد بن علي الخلاّل البصريّ،أحد أبناء القضاة، قال:حدّثني بعض أهل الطبّ الثقات:
أنّ غلاما من بغداد قدم الريّ و هو ينفث الدم،و كان لحقه ذلك في طريقه.
فاستدعى أبا بكر الرازيّ (1)الطبيب المشهور بالحذق،صاحب الكتب المصنّفة،فوصف له ما يجد.
فأخذ الرازي مجسّه (2)،و رأى قارورته (3)،و استوصف حاله،منذ ابتداء ذلك به،فلم يقم له دليل على سلّ و لا قرحة،و لم[235 ر]يعرف العلّة،فاستنظر الرجل ليفكّر في الأمر.
فقامت على العليل قيامته،و قال:هذا إياس لي من الحياة،لحذق الطبيب،و جهله بالعلّة،فازداد ما به.
و ولّد الفكر للرازيّ أن عاد إليه و سأله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبره أنّه شرب من مستنقعات و صهاريج.
فقام في نفس الرازيّ،لحدّة الخاطر و جودة الذكاء،أنّ علقة كانت في الماء و قد حصلت في معدته،و أنّ ذلك النفث من فعلها.
ص:199
فقال له:إذا كان غدا جئتك بعلاجك،و لا أنصرف من عندك حتى تبرأ بإذن اللّه تعالى،و لكن بشرط أن تأمر غلمانك يطيعونني فيما آمرهم به.
قال:نعم.
و انصرف الرازيّ،و جمع ملء مركنين (1)كبيرين من طحلب،و أحضرهما من غد معه،و أراه إيّاهما.
و قال له:ابلع جميع ما في هذين المركنين،فبلع الرجل شيئا يسيرا،ثم وقف.
فقال له:ابلع.
فقال:لا أستطيع.
فقال[252 غ]للغلمان:خذوه،فنيّموه (2)،ففعلوا به ذلك،و فتحوا فاه، و أقبل الرازيّ يدير (3)الطحلب في حلقه،و يكبسه كبسا شديدا و يطالبه ببلعه، شاء أو أبى،و يتهدّده بالضرب،إلى أن بلع كارها أحد المركنين،و هو يستغيث فلا ينفعه مع الرازيّ شيء.
إلى أن قال له العليل:الساعة أقذف ما في بطني،فزاد الرازيّ فيما يكبسه في حلقه.
فذرعه القيء،فقذف،فتأمّل الرازي قذفه،فإذا فيه علقة،و إذا بها لمّا وصل إليها الطحلب،دبّت إليه بالطبع،و تركت موضعها،فلمّا قذف العليل، خرجت مع الطحلب،و نهض العليل معافى (4).
ص:200
أصيب بوجع في المعدة
و شفاه لحم جرو سمين
و حكى الحسن بن محمّد السطويّ (1)،غلام كان يخدم أبي رحمه اللّه[61 ن]، قال:حدّثني أبو الحسن علي بن الحسن الصيدلاني[البناتاذريّ (2)،خليفة القاضي أبي القاسم علي بن محمّد التنوخي على القضاء ببناتاذر (3)] (4)،قال:
كان عندنا بسوق الأربعاء (5)،من بناتاذر،غلام حدث من أولاد التنّاء (6)،لحقه وجع في معدته شديد،بلا سبب يعرفه،و كانت تضرب عليه في أكثر الأوقات ضربانا عظيما،حتى كاد يتلف،و قلّ أكله،و نحل جسمه.
فحمل إلى الأهواز،فعولج بكلّ شيء،فما نجع فيه دواء،فردّ إلى بيته و قد يئس منه.
فاستدعى والده طبيبا حاذقا،و أراه ولده،فقال له الطبيب:أقعد و اشرح لي حالك،منذ حال الصحّة،فشرحها.
و طاوله في الحديث،إلى أن قال له العليل:إنّي دخلت بستانا لنا،و كان
ص:201
في بيت البقر منه،رمّان كثير،قد جمع للبيع،فأكلت منه رمّانات عدّة.
فقال له الطبيب:كيف كنت تأكل؟
قال:كنت أعضّ رأس الرمّانة بفمي،و أرمي به،و أكسرها،و آكلها، قطعا قطعا.
فقال له الطبيب:في غد أعالجك،و تبرأ بإذن اللّه تعالى،و خرج.
فلمّا كان من الغد،جاءه بقدر إسفيذباج (1)،قد طبخها بلحم جرو سمين،و قال للعليل:كل هذا.
فقال:ما هو؟
قال:إذا أكلت عرّفتك.
قال:فأكل العليل.
فقال له الطبيب:امتل من الطعام،ففعل،ثم أطعمه بطّيخا كثيرا، ثم تركه ساعة،و سقاه فقاعا قد خلط بماء حار و شبث (2).
ثم قال:أ تدري أيّ شيء أكلت؟
قال:لا أدري.
قال:أكلت لحم كلب،فحين سمع الغلام ذلك،اندفع فقذف جميع ما في بطنه.
فأمر الطبيب بعينيه و رأسه فأمسكا،و أقبل يتأمّل القذف،إلى أن طرح
ص:202
الغلام شيئا أسود،كالنواة الكبيرة (1)،يتحرّك.
فأخذه الطبيب،و قال له:ارفع رأسك،فقد برئت،و فرّج اللّه تعالى عنك.
فرفع الغلام رأسه،و انقطع القذف،و سقاه الطبيب شيئا يقطع الغثيان، و صبّ على رأسه ماء ورد،و سكن نفسه،ثم أخذ ذلك الشيء الذي يشبه النواة، فأراه إيّاه،فإذا هو قراد (2).
و قال له:إنّي قد زكنت أنّ الموضع الذي كان فيه الرمّان،كان فيه قردان من البقر،و أنّه قد دخلت واحدة منهنّ في رأس إحدى الرمّانات التي اقتلعت رؤوسها بفيك،فنزل القراد[253 غ]إلى حلقك،و علق بمعدتك يمتصّها.
و علمت أنّ القراد يهشّ إلى لحم الكلب،فأطعمتك إيّاه،و قلت:إن صحّ [237 ر]ظنّي،فسيتعلّق القراد بلحم الكلب،تعلّقا يخرج معه إن قذفت، فتبرأ،و إن لم يكن ما ظننت صحيحا،فما يضرّك من أكل لحم الكلب.
فلما أحبّ اللّه تعالى من عافيتك صحّ حدسي،فلا تعاود بعد هذا إدخال شيء في فيك لا ترى ما فيه.
و بريء الغلام،و صحّ جسمه (3).
ص:203
ذكاء طبيب أهوازيّ
و حدّثنا الحسن[غلامنا] (1)،عن ابن الصّيدلاني[هذا] (2)،قال:
كان لي أكّار حدث،فانتفخ ذكره انتفاخا عظيما و احمرّ،و ضرب عليه ضربانا شديدا،فلم يكن ينام الليل،و لا يهدأ النهار،و عولج فلم يكن إلى برئه سبيل.
قال:فجاء مطبّب من الأهواز،يريد البصرة،فسألته أن ينظر إليه.
فقال لي:قل له يصدقني عن خبره في أيّام صحته،و إلى الآن،قال:
فحدّثه.
فقال له:ما صدقتني،و مالي إلى علاجك سبيل،إلاّ أن تصدقني.
فقال لي الغلام:إن صدقتك يا أستاذ،فأنا آمن من جهتك على نفسي؟
قلت:نعم.
فقال:أنا غلام حدث،و عزب،فوطئت حمارا لي في الصحراء ذكرا.
فقال له الطبيب:الآن علمت أنّك قد صدقت،و الساعة تبرأ.
ثم أمر به فأمسك إمساكا شديدا،و أخذ ذكره بيده،فجسّه جسّا شديدا، و الغلام ساكت.
إلى أن جسّ منه موضعا،فصاح الغلام،فأخذ الطبيب خيط إبريسم، فشدّ الموضع شدّا شديدا،و لم يزل يمرخ إحليل الغلام بيده،و يسلته (3)،إلى أن
ص:204
ندّت منه حبّة (1)شعير من نقب ذكر الغلام،و قد كبرت و جرحت الموضع، فسال منه شيء يسير كماء اللحم.
فأعطاه مرهما،و قال له:استعمل هذا أيّاما فإنّك تبرأ،و تب إلى اللّه تعالى من مثل هذا الفعل.
فاستعمل الغلام ذلك المرهم،فبرىء (2).
ص:205
شجّ رأسه فمرض
ثم شجّ بعدها فصلح
و حدّثني أبو عبد اللّه الحسين بن محمّد بن عبيد اللّه الدقّاق،المعروف بابن العسكري (1)،[شيخ مجرّب ثقة،كان ينزل في درب الشاكريّة من نهر المعلّى، في الجانب الشرقي] (2)من بغداد،في المذاكرة،قال:
كان أبي (3)إذا جلس يفتّش في دفاتره،و أنا صبيّ،أجيء فآخذ منها الشيء بعد الشيء،استحسنه،فألعب به.
و كنت أرى في دفاتره دفترا فيه خطوط حمر،فأستحسنه و أطلبه فيمنعني منه، حتى بلغت مبلغ الرجال.
فجلس يوما يفتّش كتبه،فرأيت الدفتر،فأغفلت أبي و أخذته،ففتحته أقرؤه،فإذا هو مولدي،و قد عمله بعض المنجمّين.
فوجدت فيه،أنّني إذا بلغت أربعا و ثلاثين سنة،كان عليّ فيها قطع.
فالتفت أبي فرأى الدفتر معي،فصاح و أخذه منّي،و نظر إلى أيّ موضع
ص:206
بلغت،فتوقّف و أخذ يضعف ذلك في نفسي لئلاّ أغتمّ.
و مضت السنون،فلمّا بلغت السنة التي ذكرها المنجّم،ركبت مهرا لي، و خرجت من دار الضرب (1)،و أبي فيها،و كان إليه العيار (2)،فبلغت إلى ساباط (3)بدرب سيما،بدرب الديزج.
فنفر المهر من كلب كان في الطريق رابضا،فضرب رأسي حائطا كان في الساباط،فوقعت عن المهر مغشيّا عليّ.
ثم حملت إلى دار الضرب،و أحضر طبيب،و قد انتفخ موضع الضربة من رأسي إنتفاخا عظيما،فأشار بفصدي،ففصدت فلم يخرج لي دم.
فحملت إلى بيتنا،و لم أشكّ في أنّي ميّت لشدّة ما لحقني،فاعتللت، و ضعفت نفسي خوفا مما ذكرته من حكم المنجّم.
فكنت يوما جالسا مستندا إلى سرير،و قد أيست من الحياة،إذ حملتني عيناي،فخفق رأسي (4)،فضرب درابزين (5)السرير،فشجّ الموضع المنتفخ، فخرج منه أرطال دم،فخفّ ما بي في الحال،فصلحت،و برئت،و عشت إلى الآن.
و كان له يوم حدّثني بهذا الحديث أربعا و ثمانين سنة و شهور (6)،على ما أخبرني (7).
ص:207
القطيعي الطبيب و ذكاؤه و مكارم أخلاقه
و حدّثني أبو الحسن علي بن أبي محمّد الحسن بن محمّد الصلحيّ الكاتب، قال:
رأيت بمصر طبيبا[62 ن]مشهورا يعرف بالقطيعيّ،و كان يقال:إنّه يكسب في كلّ يوم ألف درهم (1)،من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر، و من السلطان،و ما يأخذه من العامّة.
قال:و كان له دار قد جعلها شبه البيمارستان (2)،من جملة داره،يأوي إليها ضعفاء الأعلّة،يعالجهم،و يقوم بأودهم[237 ر]و أدويتهم،و أغذيتهم، و خدمتهم،و ينفق أكثر كسبه في ذلك.
قال أبو الحسن:فأسكت (3)بعض فتيان الرؤساء بمصر-و أسماه لي،فذهب عنّي اسمه-و كنت هناك،فحمل إليه أهل الطبّ،و فيهم القطيعيّ،فأجمعوا على موته،إلاّ القطيعيّ،و عمل أهله على غسله و دفنه.
فقال القطيعي:دعوني أعالجه،فإن برىء،و إلاّ فليس يلحقه أكثر من الموت الذي أجمع هؤلاء عليه.
فخلاّه أهله معه،فقال؛هاتم غلاما جلدا (4)و مقارع،فأتي بذلك.
ص:208
فأمر به فمدّ،و ضرب عشر مقارع من أشدّ الضرب،ثم جسّ مجسّه، و ضربه عشرا أخرى شديدة أيضا،ثم جسّ مجسّه،و ضربه عشرا أخرى.
ثم جسّ مجسّه،و قال للطبّ:أ يكون للميت نبض يضرب؟
فقالوا:لا.
قال:فجسّوا نبض هذا.
فجسّوه،فإذا به يتحرّك،فضرب عشر مقارع أخرى،فصاح.
فقطع الضرب عنه،فجلس العليل يجسّ بدنه،و يتأوّه،و قد ثابت إليه قوّته.
فقال له الطبيب:ما تجد؟
قال:أنا جائع.
قال:أطعموه الساعة،فجاءوه بما أكله،و قمنا و قد رجعت قوّته،و برىء.
فقال له الطبّ:من أين لك هذا؟
قال:كنت مسافرا في قافلة فيهم أعراب يخفروننا،فسقط منهم فارس عن فرسه،فأسكت،فعمد شيخ منهم إليه،فضربه ضربا عظيما،فما رفع عنه الضرب حتى أفاق،فعلمت أنّ ذلك الضرب جلب عليه حرارة أزالت سكتته.
فقست عليه أمر هذا العليل (1).
ص:209
مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد
حدّثني بعض المتطبّبين بالبصرة،قال:[حدّثنا أبو منصور بن مارية (1)، كاتب أبي مقاتل صالح بن مرداس (2)الكلابي،أمير حلب (3)،و كان أبو منصور من رؤساء أهل الصّراة الذين يضربون المثل بنعمتهم و ترفّههم،و كان ثقة أديبا، و قد شاهدته أنا،و لم أسمع منه هذه الحكاية،قال:أخبرني أحد شيوخنا، قال:] (4).
كان بعض أهلنا قد استسقى،فأيس من حياته،و حمل إلى بغداد، فشوور أهل الطبّ فيه،فوصفوا له أدوية كثارا،فعرفوا أنّه قد تناولها بأسرها،
ص:210
فلم تنجع،فأيسوا منه،و قالوا:لا حيلة لنا في برئه.
فلمّا سمع العليل ذلك،قال لمن معه:دعوني الآن أتزوّد من الدنيا،و آكل ما أشتهي،و لا تقتلوني قبل أجلي بالحمية.
فقالوا:كل ما تريد.
فكان يجلس على دكّان بباب الدار،و مهما رأى ما يجتاز به على الطريق، شراه،و أكله.
فمرّ به رجل يبيع جرادا مطبوخا،فاشترى منه عشرة أرطال،و أكلها بأسرها.
فلمّا كان بعد ساعة،انحلّ طبعه (1)،و تواتر قيامه (2)،حتى قام في ثلاثة أيّام أكثر من ثلثمائة مجلس (3)،و ضعف،و كاد يتلف.
ثم انقطع القيام،و قد زال كلّ ما في جوفه،و عادت بطنه إلى حالها في الصحّة،و ثابت إليه قوّته،و برىء.
فخرج برجليه في اليوم الخامس،يتصرّف في حوائجه،فرآه أحد الطبّ، فعجب من أمره،و سأله عن الخبر،فعرّفه.
فقال:ليس من شأن الجراد أن يفعل هذا،و لا بدّ أن يكون في الجراد الذي فعل هذا خاصيّة،فأحبّ أن تدلّني على الذي باعك الجراد،فلم يزالوا في طلبه حتى وجدوه.
فقال له الطبيب:من أين لك هذا الجراد؟
فقال:أنا أصيده،و أجمع منه شيئا كثيرا،و أطبخه،و أبيعه.
فقال:من أين تصيده؟فذكر قرية بالقرب من بغداد.
ص:211
فقال له الطبيب:أعطيك دينارا،و تدع شغلك،و تجيء معي إلى الموضع.
قال:نعم،فخرجا و عاد الطبيب من غد،فذكر أنّه رأى الجراد يرعى في صحراء أكثر نباتها حشيشة يقال لها:مازريون (1)،و هي دواء الاستسقاء (2).
و إذا دفع إلى العليل منها وزن درهم،أسهله إسهالا يزيل الإستسقاء،و لكن لا يؤمن أن لا ينظبط،و لا يقف،فيقتله الذرب (3)،و العلاج بها خطر جدا، و هي مذكورة في الكتب الطبيّة،و لكنّها لفرط خطرها لا يصفها الأطبّاء،فلمّا وقع الجراد على هذه الحشيشة،و انطبخت في معدته،ثم طبخ الجراد،ضعف فعلها بطبخين اجتمعا عليها،و قضى أن تناولها هذا بالاتّفاق،و قد تعدّلت بمقدار ما يدفع طبعه دفعا لا ينقطع،فبرأ (4).
ص:212
مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى
[و حدّثنا أبو الحسن محمّد بن طرطى الواسطيّ،قال:سمعت] (1)أبا علي عمر بن يحيى العلويّ الكوفيّ،قال:
كنت في بعض حججي في طريق مكّة،فاستسقى رجل كان معنا من أهل الكوفة،و ثقل في علّته.
و سلّ (2)الأعراب قطارا (3)من القافلة كان هذا العليل على جمل منه،ففقد، و جزعنا عليه،و على القطار،و كنّا راجعين إلى[238 ر]الكوفة.
فلمّا كان بعد مدّة،جاء العليل إلى داري معافى،فسألته عن قصّته و سبب عافيته.
فقال:إنّ الأعراب لمّا سلّوا القطار،ساقوه إلى محلّهم،و كان على فراسخ يسيرة من المحجّة (4)،فأنزلوني،و رأوا صورتي،فطرحوني في أواخر بيوتهم.
و تقاسموا ما كان في القطار،فكنت أزحف و أتصدّق من البيوت ما آكله، و تمنّيت الموت،و كنت أدعو اللّه تعالى به أو بالعافية.
فرأيتهم يوما و قد عادوا من ركوبهم،و أخرجوا أفاعي قد اصطادوها،فقطعوا رؤوسها و أذنابها،و اشتووها،و أكلوها.
فقلت:هؤلاء يأكلون هذه فلا تضرّهم بالعادة التي قد مرنوا عليها،و لعلّي
ص:213
إذا أكلت منها شيئا أن أتلف فأستريح مما أنا فيه.
فقلت لبعضهم:أطعمني من هذه الحيّات،فرمى إليّ واحدة منها مشويّة، فيها أرطال،فأكلتها بأسرها،و أمعنت،طلبا للموت،فأخذني نوم عظيم، فانتبهت و قد عرقت عرقا عظيما،فاندفعت طبيعتي،فقمت في بقيّة يومي و ليلتي أكثر من مائة مجلس (1)،إلى أن سقطت طريحا و جوفي يجري.
فقلت:هذا طريق الموت،فأقبلت أ تشهّد،و أدعو اللّه تعالى[63 ن] بالرحمة و المغفرة.
فلمّا أضاء الصبح،تأمّلت بطني،فإذا هي قد ضمرت جدّا،و زال عنها ما كان بها،فقلت:أيّ شيء ينفعني هذا،و أنا ميّت؟
فلمّا أضحى النهار،انقطع القيام،و وجبت صلاة الظّهر،فلم أحسّ بقيام،وجعت،فجئت لأزحف على العادة،فوجدت بدني خفيفا،و قوّتي صالحة،فتحاملت و مشيت،و طلبت منهم مأكولا فأطعموني،و قويت،و بتّ في الليلة الثانية معافى لا أنكر شيئا من أمري.
فأقمت أيّاما،إلى أن وثقت من نفسي بأنّي إن مشيت نجوت،فأخذت الطريق مع بعضهم،إلى أن صرت على المحجّة،ثم سلكتها،منزلا،منزلا، إلى الكوفة مشيا (2).
ص:214
القاضي أبو الحسين بن أبي عمر
يحزن لموت يزيد المائي
حدّثني أبو الفضل محمّد بن عبد اللّه بن المرزبان الشيرازيّ الكاتب:[قال:
حدّثني أبو بكر الجعابي الحافظ (1)،قال:] (2)
دخلت يوما على القاضي أبي الحسين بن أبي عمر،و هو مغموم،فقلت:
لا يغمّ اللّه قاضي القضاة،ما هذا الحزن الذي أراه به؟
قال:مات يزيد المائي (3).
فقلت:يبقي اللّه قاضي القضاة،و من يزيد المائيّ،حتى إذا مات اغتمّ عليه قاضي القضاة،هذا الغمّ كلّه؟
فقال:ويحك،مثلك يقول هذا في رجل كان أوحد زمانه في صناعته، و قد مات و ما ترك أحدا يقاربه في حذقه،و هل فخر البلدان إلاّ بكثرة رؤساء الصنائع،و حذّاق أهل العلوم فيها؟فإذا مضى رجل لا مثيل له في صناعة لا
ص:215
بدّ للناس منها،فهل يدلّ هذا إلاّ على نقصان العالم و انحطاط البلدان.
ثم أقبل يعدّد فضائله،و الأشياء الطريفة التي عالج بها،و العلل الصعبة التي زالت بتدبيره،فذكر من ذلك أشياء كثيرة،منها:
قال:أخبرني منذ مدّة رجل من جلّة أهل البلد،أنّه كان حدث بابنة له علّة طريفة،فكتمت أمرها،ثم أطلع عليها أبوها،فكتمها هو مديدة،ثم انتهى أمر البنت إلى حدّ الموت.
قال:و كانت العلّة،أنّ فرج الصبيّة كان يضرب عليها ضربانا عظيما لا تنام معه الليل و لا النهار،و تصرخ أعظم صراخ،و يجري في خلال ذلك منه دم يسير كماء اللحم،و ليس هناك جرح يظهر،و لا ورم.
قال:فلمّا خفت المأثم،أحضرت يزيد،فشاورته.
فقال:أ تأذن لي في الكلام،و تبسط عذري فيه.
فقلت له:نعم.
قال:لا يمكنني أن أصف لك شيئا،دون أن أشاهد الموضع بعيني،و أفتّشه بيدي،و أسائل المرأة عن أسباب لعلّها كانت الجالبة للعلّة.
قال:فلعظم الصورة،و بلوغها حدّ التّلف،أمكنته من ذلك.
فأطال المسائلة،و حدّثها بما ليس من جنس العلّة،بعد أن جسّ الموضع من ظاهره،و عرف بقعة الألم،حتى كدت[239 ر]أن أثب به،ثم صبرت، و رجعت إلى ما أعرفه عن سيرته،فصبرت على مضض.
إلى أن قال:تأمر من يمسكها،ففعلت.
فأدخل يده في الموضع دخولا شديدا،فصاحت الجارية،و أغمي عليها، و انبعث الدم،و أخرج يده و فيها حيوان أقلّ من الخنفساء،فرمى به.
فجلست الجارية في الحال،و قالت:يا أبة،استرني،فقد عوفيت.
فأخذ يزيد الحيوان بيده،و خرج من الموضع،فلحقته،فأجلسته.
ص:216
و قلت:أخبرني ما هذا؟
فقال:إنّ تلك المسائلة التي لم أشكّ من أنّك أنكرتها،إنّما كانت لأطلب دليلا أستدلّ به على سبب العلّة.
إلى أن قالت لي الصبيّة:إنّها في يوم من الأيّام،جلست في بيت دولاب البقر،في بستان لكم،ثم حدثت العلّة بها،من غير سبب تعرفه،في غد ذلك اليوم.
فتخيّلت أنّه قد دبّ في فرجها من القراد (1)الذي يكون على البقر-و في بيوت البقر قراد-قد تمكّن من أوّل داخل الفرج،فكلّما امتصّ الدم من موضعه ولّد الضربان،و أنّه إذا شبع،خفّ الضربان،لانقطاع مصّه،و نقط من الجرح الذي يمتصّ منه إلى خارج الفرج.
فقلت:أدخل يدي،و أفتّش.
فأدخلت يدي،فوجدت القراد كما حدست،فأخرجته،و هذا هو الحيوان، و قد تغيّرت صورته لكثرة ما امتصّ من الدم،مع طول الأيّام.
قال:فتأمّلنا الحيوان،فإذا هو قراد،و برئت المرأة.
قال مؤلّف هذا الكتاب:و لم يذكر القاضي أبو الحسين في كتابه هذا الخبر،و لعلّه اعتقد أنّه مما لا يجب إدخاله فيه (2).
ص:217
زمنة مقعدة يشفيها الحنظل
[حدّثني المؤمّل بن يحيى بن هارون،شيخ نصرانيّ يكنّى بأبي نصر،كان ينزل بباب الشام،رأيته في سنة خمسين و ثلثمائة،قال:حدّثني قرّة بن السراج العقيليّ،] (1)و كان ينزل،إذا جاء من البادية،بشارع دار الرقيق (2)بالقرب من درب سليمان (3)،قال:
كان عندنا بالبادية،جارية بالغ،زمنة،مقعدة سنين،و من عادتنا أن نأخذ الحنظل (4)فنقوّر رؤوسه،و نملأه باللبن الحليب،و نردّ على كلّ واحدة رأسها،و ندفنها في الرماد الحارّ،حتى تغلي،فإذا غلت،حسا كلّ واحد منّا من الحنظلة ما في رأسها من اللّبن،فتسهله،و تصلح بدنه.
قال:و قد كنّا أخذنا في سنة من السنين،ثلاث حناظل،لثلاثة أنفس، يشربونها،و جعلنا اللبن فيها على الصفة المارّة،فرأتها الجارية الزمنة.
فلتبرّمها من الحياة،و ضجرها من الزمانة،خالفتنا إلى الحناظل الثلاث، فحستها كلّها،و علمنا بذلك بعد أن رأينا من قيامها ما جزعنا منه،و أيسنا من حياتها،و خشينا أن تعدينا،فأبعدناها عن البيوت.
فلمّا كان الليل،انقطع قيامها،فمشت برجلها إلى أن عادت إلى البيوت لا قلبة بها،و عاشت بعد ذلك سنين،و تزوّجت،و ولدت (5).
ص:218
اشترى الرشيد لطبيبه ضياعا غلّتها ألف ألف درهم
و حدّث جبريل بن بختيشوع،قال:
كنت مع الرشيد،بالرقّة،و معه المأمون و محمّد (1)،و كان الرشيد رجلا كثير الأكل و الشرب،فأكل في بعض الأيّام أشياء خلط فيها،و دخل المستراح، فغشي عليه فيه.
فأخرج و قد قوي عليه الغشي،حتى لم يشكّ[64 ن]غلمانه في موته، و حضر ابناه،و شاع عند الخاصّة و العامّة خبره.
و أرسل إليّ،فجئت،فجسست عرقه،فوجدت نبضا خفيفا،و أخذت عرقا في رجله فكان كذلك،و قد كان قبل ذلك بأيّام يشكو امتلاء و حركة الدمّ.
فقلت لهم:إنّه لم يمت،و الصّواب أن يحجم (2)الساعة.
فقال كوثر الخادم (3)،لما يعرف من أمر الخلافة و إفضائها إلى صاحبه محمّد:يا ابن الفاعلة،تقول أحجموا رجلا ميتا؟لا يقبل قولك و لا كرامة.
فقال المأمون:الأمر قد وقع،و ليس يضرّ أن نحجمه.
و أحضر الحجّام،فتقدّمت،و قلت له:ضع محاجمك،ففعل،فلمّا مصّها رأيت الموضع قد احمرّ،فطابت نفسي بذلك،و علمت أنّه حيّ.
فقلت للحجّام:اشرط،فشرط،فخرج الدم،فسجدت شكرا للّه تعالى، و جعل كلّما خرج الدّم،تحرّك رأسه،و أسفر لونه،إلى أن تكلّم.
ص:219
فقال:أين أنا؟
فطيّبت نفسه،و غدّيناه بصدر درّاج،و سقيناه نبيذا،و ما زلت أسعطه بالطيب في أنفه،حتى تراجعت إليه قوّته،و أدخل الخاصّة و القوّاد إليه،فسلّموا عليه من بعد،لما كان قد شاع من خبره،ثم تكاملت قوّته،و وهب اللّه له العافية.
فلمّا برأ من علّته،دعا صاحب حرسه،و حاجبه،و صاحب شرطته،فسأل [240 ر]صاحب الحرس عن غلّته في كلّ سنة،فعرّفه أنّها ألف ألف درهم، و سأل صاحب شرطته عن غلّته،فعرّفه أنّها خمسمائة ألف درهم.
ثم قال:يا جبريل:كم غلّتك؟
فقلت:خمسون ألف درهم.
فقال:ما أنصفناك،حيث غلاّت هؤلاء و هم يحرسوني،و يحجبوني عن الناس،على ما هي عليه،و تكون غلّتك ما ذكرت،و أمر بإقطاعي ما قيمته ألف ألف درهم.
فقلت:يا سيّدي مالي حاجة إلى الإقطاع،و لكن تهب لي ما أشتري به ضياعا غلّتها ألف ألف درهم،ففعل،و تقدّم بمعاونتي على ابتياعها.
فابتعت بهباته،و جعالاته،ضياعا غلّتها ألف ألف درهم،فجميع ما أمتلكه ضياع لا إقطاع فيها (1).
ص:220
الحجامة،استخراج الدم من قفا العنق،أسفل القذال،بالمحجم،بأن يشرط الحجّام القفا بموساه،ثم يضع المحجم،و هو أداة كالكأس،فيمتصّ الدم،و يجتذبه، و الحجامة من الطبّ القديم،و هي أحد ثلاثة أشياء كان الأطباء القدماء يوصون بها في كلّ سنة،و هي:الحجامة،و الفصد،و تناول المسهل،و كان الناس يعتبرون القيام بهذه الثلاثة من الواجبات،و يكون تحت إشراف الطبيب،و يحتلفون بذلك،و إذا احتجم الإنسان،أو افتصد،أو تناول مسهلا،جاءته الهدايا من أصحابه و معارفه،و قد أفرد الشيخ الرئيس،ابن سينا،في كتابه القانون،فصلا للحجامة،أثبت فيه شروطها، و كيفية إجرائها ح 212/1-213 و فصلا للفصد ح 204/1-212،و فصلا في المسهلات ح 196/1-200،و من الطريف أن نذكر أنّ جهل الأطبّاء في الماضي بأصول التعقيم، كان يؤدّي،في بعض الأحيان إلى إصابة من يفصدونه،إصابة قد تؤدّي إلى وفاته،فيتعرّض الطبيب للتهمة بأنّه قد سمّ المبضع الذي أجرى به الفصد،و يكون ذلك سببا لقتله،و للتخلّص من هذه التهمة،أصبح الطبيب ملزما بأن يضع المبضع في فمه،و يمتصّه،قبل إجراء الفصد،ثم يمسحه بلحيته،و يقوم بالفصد،فكانت النتيجة،أن زادت نسبة الإصابات، و تعرّض الطبيب للاتّهام بأنّه قد وضع السمّ في لحيته،و قد أودت هذه التهم بحياة كثير من الأطبّاء الأبرياء.
ص:221
لسعته عقرب فعوفي
و حدّثني أبو جعفر طلحة بن عبيد اللّه بن قناش الطائي،الجوهريّ،البغداديّ، قال:
كان في درب مهرويه،بالجانب الشرقي ببغداد،قديما،رجل من كبراء الحجريّة (1)،و كان متشبّبا بغلام من غلمانه،ربّاه صغيرا.
فاعتلّ الغلام علّة من بلسام،و هو الذي تسميه العامة:البرسام (2)،فبلغ إلى درجة قبيحة،و زال عقله.
فتفرّقوا عنه يوما،و هو في موضع فيه خيش،و وكلوا صبيّا بمراعاته،فسمعوا صياح الفتى الموكّل به،فبادروا إليه.
فقال:انظروا إلى ما قد أصابه.
فإذا عقرب قد نزل من المسند على رأس العليل،فلسعته في عدّة مواضع، فإذا به قد فتح عينيه و هو لا يشكو ألما.
فسألوه عن حاله،فطلب ما يأكل،فأطعموه،و برأ.
فلاموا طبيبه،فقال:علام تلومونني،لو أمرتكم أن تلسعوه بعقرب، أ كنتم تفعلون (3)؟
ص:222
ابرأته مضيرة لعقت فيها أفعى
[حدّثني أبو بكر محمّد بن عبد اللّه بن محمّد الرازي،المعروف بابن حمدون،قال:حدّثني أبو بكر أحمد بن علي الرّازيّ الفقيه رحمه اللّه،قال:
سمعت أبا بكر بن قارون الرّازيّ،و كان تلميذا لأبي بكر محمّد بن زكريا الرّازيّ الطبيب،قال أبو بكر بن حمدون:و قد رأيت هذا الرجل بالريّ، و كان يحسن علوما كثيرة،منها الحديث،و يرويه،و يكتبه الناس عنه، و يوثّقونه،و لم أسمع هذا منه،قال المؤلّف رحمه اللّه:و لم يتهيّأ لي مع كثرة ملاقاتي أبا بكر الرّازيّ الفقيه رحمه اللّه،أن أسمع هذا الخبر منه،قال ابن قارون] (1):
حدّثنا أبو بكر محمّد بن زكريّا الرّازيّ الطبيب،بعد رجوعه من عند أمير خراسان،لمّا استدعاه ليعالجه من علّة صعبة،قال:
اجتزت في طريقي إلى نيسابور،ببسطام (2)،و هي النصف من طريق نيسابور إلى الرّيّ.
قال:فاستقبلني رئيسها،فأنزلني داره،و خدمني أتمّ حدمة و سألني أن أقف على ابن له به استسقاء.
فأدخلني إلى دار قد أفردها له،فشاهدت العليل،و لم أطمع في برئه،فسألني
ص:223
أبوه عن السرّ في حاله،فصدقته،و آيسته من حياة ابنه.
و قلت له:مكّنه من شهواته،فإنّه لا يعيش.
ثم خرجت إلى خراسان،فأقمت بها سنة كاملة،و عدت،فاستقبلني الرجل أبو الصبيّ فلم أشكّ في وفاته،و تركت مساءلته عن ابنه،فإنّي كنت نعيته إليه،و خشيت من تثقيلي عليه،فأنزلني داره،و لم أجد عنده ما يدلّ على ذلك،و كرهت مسائلته عن ابنه لئلاّ أجدّد عليه حزنا.
فقال لي بعد أيّام:تعرف هذا الفتى؟و أومأ إلى شاب حسن الوجه و السحنة، صحيح البدن،كثير الدم و القوّة،قائم مع الغلمان يخدمنا.
فقلت:لا.
فقال:هذا ابني الذي آيستني منه عند مضيّك إلى خراسان.
فتحيّرت،و قلت له:عرّفني سبب برئه.
فقال:إنّه كان بعد قيامك من عندي،فطن أنّك آيستني منه.
فقال لي:لست أشكّ أنّ هذا الرّجل-و هو أوحد زمانه في الطبّ-قد آيسك منّي،و الذي أسألك،أن تمنع هؤلاء،يعني غلماني الذين كنت قد أخدمته إيّاهم،فإنّهم أترابي،و إذا رأيتهم معافين،و قد علمت أنّي ميّت، تجدّد على قلبي الهمّ و المرض،حتى يعجّل لي الموت،فأرحني من هذا بأن لا أراهم،و أفرد لخدمتي دايتي.
ففعلت ما سأل،و كان يحمل إلى الداية في كلّ يوم ما تأكله،و كانت الدّاية تأتيه بما يطلب من غير حمية.
فلمّا كان بعد أيّام يسيرة،حمل إلى الدّاية مضيرة (1)لتأكل منها،فتركتها بحيث يقع عليها نظر ابني،و مضت في شغل لها.
ص:224
فذكرت بعد أن عادت،أنّ ابني قد نهاها عن أكل ما في الغضارة (1)، و وجدتها قد ذهب كثير مما كان فيها،و بقي بعضه متغيّر اللون.
قالت:فقلت له:ما السبب؟
فقال:رأيت أفعى عظيمة قد خرجت من موضع ردّبت إليها و أكلت منها ثم قذفت فيها،فصار لونها كما ترين،فقلت:أنا ميّت،و هو ذا يلحقني ألم شديد،و متى أظفر بمثل هذا؟و جئت،فأكلت من الغضارة ما استطعت، لأموت عاجلا و أستريح،فلمّا لم أستطع زيادة أكل رجعت حتى جئت إلى فراشي،و جئت أنت.
قالت:و رأيت أنا المضيرة على يده و فمه[65 ن]فصحت.
فقال:لا تعلمي أبي شيئا،و ادفني الغضارة بما فيها،لئلاّ يأكلها إنسان فيموت،أو حيوان فيلسع إنسانا فيقتله،ففعلت ما قال،و خرجت إليك.
قال:فلمّا عرّفتني ذلك،ذهب عليّ أمري،و دخلت إلى ابني،فوجدته نائما.
فقلت:لا توقظيه،حتى ننظر ما يكون من أمره.
فأتيته آخر النهار،و قد عرق عرقا شديدا،و هو يطلب المستحمّ (2)،فأنهضناه إليه،فاندفع بطنه،فقام من ليلته،و من غده،أكثر من مائة مجلس،فازداد يأسنا منه،و قلّ القيام،إلاّ أنّه استمرّ أيّاما،ثم انقطع القيام،و قد صار بطنه مثل بطون الأصحّاء،فطلب فراريج،فأكل،إلى أن صار كما ترى.
فعجبت من ذلك،و ذكرت أنّ الحكماء الأوائل قالت:إنّ المستسقي إذا أكل من لحم حيّة عتيقة مزمنة لها مئون سنين،برأ،و لو قلت لك،إنّ هذا
ص:225
علاجه،لظننت أنّي أدافعك،و من أين يعلم كم عمر الحيّة إذا وجدت، فسكتّ عنها (1).[241 ر].
ص:226
من امتحن من اللصوص بسرق أو قطع،فعوّض من الارتجاع و الخلف بأجمل صنع
قاطع طريق يردّ على القافلة ما أخذ منها
[حدّثني علي بن شيراز بن سهل القاضي بعسكر مكرم رحمه اللّه،قال:
حدّثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي ابن بنت ابن المدبّر،ببغداد، قال:حدّثني محمد بن عليّ،قال:حدّثني الحسن بن دعبل بن عليّ الشاعر الخزاعي،قال:حدّثني أبي] (1)قال:لما قلت:
مدارس آيات خلت من تلاوة قصدت بها أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا،و هو بخراسان،وليّ عهد المأمون (2)، فوصلت إليه،و أنشدته إيّاها،فاستحسنها،و قال:لا تنشدها أحدا حتى آمرك.
و اتّصل خبري بالمأمون،فأحضرني،و سألني عن خبري،ثم قال لي:يا دعبل،أنشدني:مدارس آيات خلت من تلاوة.
فقلت:لا أعرفها يا أمير المؤمنين.
فقال:يا غلام،أحضر أبا الحسن عليّ بن موسى،فلم يكن بأسرع من أن حضر.
ص:227
فقال له:يا أبا الحسن،سألت دعبلا عن«مدارس آيات»فذكر أنّه لا يعرفها.
فالتفت إليّ أبو الحسن،و قال:أنشده يا دعبل.
فأنشدت القصيدة،و لم ينكر المأمون ذلك،إلى أن بلغت إلى بيت فيها،و هو:
و آل رسول اللّه هلب رقابهم و آل زياد غلّظ القصرات
فقال:و اللّه لأهلبنّها (1).
ثم تمّمتها إلى آخرها،فاستحسنها،و أمر لي بخمسين ألف درهم،و أمر لي عليّ بن موسى بقريب منها.
فقلت:يا سيّدي،أريد أن تهب لي ثوبا يلي بدنك،أتبرّك به،و أجعله كفنا.
فوهب لي قميصا قد ابتذله،و منشفة،و أظنّه قال:و سراويل.
قال:و وصلني ذو الرئاستين،و حملني على برذون أصفر،و كنت أسايره في يوم مطير،و عليه ممطر خزّ (2)،فأمر لي به،و دعا بغيره فلبسه،و قال:إنّي آثرتك به،لأنّه خير الممطرين،قال:فأعطيت به ثمانين دينارا،فلم تطب نفسي ببيعه.
و قضيت حاجتي،و كررت راجعا إلى العراق.
فلما صرت ببعض الطريق،خرج علينا أكراد يعرفون بالماريخان (3)،فسلبوني، و سلبوا القافلة،و كان ذلك في يوم مطير.
فاعتزلت في قميص خلق قد بقي عليّ،و أنا متأسّف-من جميع ما كان عليّ- على القميص و المنشفة اللذين وهبهما لي عليّ بن موسى الرضا،إذ مرّ بي واحد من
ص:228
الأكراد،و تحته البرذون الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين،و عليه الممطر الخزّ،ثم وقف بالقرب منّي،و ابتدأ ينشد:مدارس آيات،و يبكي.
فلما رأيت ذلك،عجبت من لصّ كرديّ يتشيّع،ثم (1)طمعت في القميص و المنشفة.
فقلت:يا سيّدي لمن هذه القصيدة؟
فقال:ما أنت و ذاك،ويلك.
فقلت له:فيه سبب أخبرك به.
فقال:هي أشهر من أن يجهل صاحبها.
قلت:فمن هو؟
قال:دعبل بن عليّ الخزاعي،شاعر آل محمد،جزاه اللّه خيرا.
فقلت له:يا سيدي،أنا-و اللّه-دعبل،و هذه قصيدتي.
فقال:ويلك،ما تقول؟
فقلت:الأمر أشهر من ذلك،فسل أهل القافلة،[255 غ]تخبر بصحّة ما أخبرتك به.
فقال:لا جرم-و اللّه-لا يذهب لأحد من أهل القافلة خلالة (2)فما فوقها.
ثم نادى في الناس:من أخذ شيئا فليردّه على صاحبه،فردّ على الناس أمتعتهم، و عليّ جميع ما كان معي،ما فقد أحد عقالا (3).
ص:229
ثم رحلنا إلى مأمننا سالمين.
قال راوي هذا الخبر عن دعبل:فحدّثت بهذا الحديث عليّ بن بهزاد الكردي 9فقال لي:ذاك-و اللّه-أبي الذي فعل هذا 10.
ص:230
قاطع طريق يتفلسف
و حدّثني عبد اللّه بن عمر بن الحارث الواسطي السراج،المعروف بأبي أحمد الحارثيّ،قال:
كنت مسافرا في بعض الجبال،فخرج علينا ابن سباب (1)الكرديّ،فقطع علينا،و كان بزيّ الامراء،لا بزيّ القطّاع.
فقربت منه لأنظر إليه و أسمع كلامه،فوجدته يدلّ على فهم و أدب،فداخلته فإذا برجل فاضل،يروي الشعر،و يفهم النحو،فطمعت فيه،و عملت في الحال أبياتا مدحته بها.
فقال لي:لست أعلم إن كان هذا من شعرك،و لكن اعمل لي على قافية هذا البيت و وزنه شعرا الساعة،لأعلم أنّك قلته،و أنشدني بيتا.
قال:فعملت في الحال اجازة له ثلاثة أبيات.
فقال لي:أيّ شيء أخذ منك؟لأردّه إليك.
قال:فذكرت له ما أخذ منّي،و أضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.
فردّ جميع ذلك،ثم أخذ من أكياس التجّار التي نهبها،كيسا فيه ألف درهم،فوهبه لي.
قال:فجزيته خيرا،و رددته عليه.
فقال لي:لم لا تأخذه؟فورّيت (2)عن ذلك.
ص:231
فقال:أحبّ أن تصدقني.
فقلت:و أنا آمن؟
فقال:أنت آمن.
فقلت:لأنّك لا تملكه،و هو من أموال[242 ر]الناس الذين أخذتها منهم الساعة ظلما،فكيف يحلّ لي أن آخذه؟
فقال لي:أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص،عن بعضهم، قال:إنّ هؤلاء التجّار خانوا أماناتهم[66 ن]،و منعوا زكاة أموالهم،فصارت أموالهم مستهلكة بها،و اللصوص فقراء إليها،فإذا أخذوا أموالهم-و إن كرهوا أخذها-كان ذلك مباحا لهم،لأنّ عين المال مستهلكة بالزكاة،و هؤلاء يستحقّون أخذ الزكاة،بالفقر،شاء أرباب الأموال أم كرهوا.
قلت:بلى،قد ذكر الجاحظ هذا،و لكن من أين يعلم إنّ هؤلاء ممن استهلكت أموالهم الزكاة؟
فقال:لا عليك،أنا أحضر هؤلاء التجّار الساعة،و أريك بالدليل الصحيح أنّ أموالهم لنا حلال.
ثم قال لأصحابه:هاتوا التجّار،فجاءوا.
فقال لأحدهم:منذ كم أنت تتّجر في هذا المال الذي قطعنا عليه؟
قال:منذ كذا و كذا سنة.
قال:فكيف كنت تخرج زكاته؟فتلجلج،و تكلّم بكلام من لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلا عن أن يخرجها.
ثم دعا آخر،فقال[256 غ]له:إذا كان معك ثلثمائة درهم،و عشرة دنانير،و حالت عليك السنة،فكم تخرج منها للزكاة؟فما أحسن أن يجيب.
ثم قال لآخر:إذا كان معك متاع للتجارة،و لك دين على نفسين،أحدهما مليء،و الآخر معسر،و معك دراهم،و قد حال الحول على الجميع،كيف تخرج زكاة ذلك؟
ص:232
قال:فما فهم السؤال،فضلا عن أن يتعاطى الجواب.
فصرفهم،ثم قال لي:بان لك صدق حكاية أبي عثمان الجاحظ؟و أنّ هؤلاء التجار ما زكّوا قط؟خذ الآن الكيس.
قال:فأخذته،و ساق القافلة لينصرف بها.
فقلت:إن رأيت أيّها الأمير أن تنفذ معنا من يبلغنا المأمن،كان لك الفضل.
ففعل ذلك (1).
ص:233
القاضي التّنوخي والد المؤلّف
و الكرخي قاطع الطريق
و حدّثني أبي رضي اللّه عنه،قال:
لما كنت مقيما بالكرخ،أتقلّد القضاء بها،[و بالمرج و أعمالها] (1)،كان بوّابي رجل من أهل الكرخ،له ابن،هو ابن عشر سنين أو نحوها،و كان يدخل داري بلا إذن،و يمرح مع غلماني،و أهب له في الأوقات دراهم و ثيابا،و أحمله، و أرقّصه،كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم.
ثم صرفت عن الكرخ،و رحلت،و لم أعرف للرجل و لا لولده خبرا.
و مضت السنون،فأنفذني أبو عبد اللّه البريدي(2)من واسط،برسالة إلى أبي
ص:234
بكر بن رائق،فلقيته بحدود العاقول،و انحدرت أريد واسطا (1).
و قد كان قيل لي قبل إصعادي،أنّ في الطريق لصّا يعرف بالكرخيّ،مستفحل الأمر.
و كنت خرجت من واسط،بطالع اخترته،على موجب تحويل مولدي لتلك السنة،و قد استظهرت عند نفسي،و كفاني اللّه تعالى-في إصعادي-أمر اللصّ، فلم أر له أثرا.
فلمّا انحدرت إلى واسط،و كنّا في بعض الطريق،خرج علينا اللصوص في سفن عدّة،بقسيّ،و نشّاب،و سلاح شاك (2)،و هم نحو مائة نفس،كالعسكر العظيم.
و كان معي غلمان يرمون،فحلفت أنّ من رمى منهم بسهم،ضربته إذا صرت في البلد مائة مقرعة،و ذلك أنّي خفت أن يقصدنا اللصوص،ثم لا يرضون إلاّ بقتلي.
قال:و بادرت فأخذت ذلك السلاح الذي كان معهم،فرميت جميعه في الماء،و استسلمت للأمر طلبا للسلامة.
ص:235
و جلست أفكّر في الطالع الذي خرجت به،فإذا ليس ما يوجب-عندهم- القطع عليّ (1)،و الناس قد أديروا إلى الشاطىء،و أنا في جملتهم،حيث تفرغ سفنهم، و ينقل ما فيها إلى الشطّ،و هم يخبطون بالسيوف،و كنت في وسط الكار (2)،و ما انتهى الأمر إليّ.
فجعلت أعجب من حصول القطع،و أنّ الطالع لا يوجبه،و لست أتّهم علمي مع هذا.
فأنا كذلك،و إذا بسفينة فيها رئيسهم قد طرح على زبزبي (3)كما يطرح على سفن التجار (4)،ليشرف على ما يؤخذ منها.
فحين رآني،منع أصحابه من انتهاب شيء من زبزبي،و صعد إليّ وحده، فتأمّلني طويلا،ثم انكبّ و قبل يدي،و كان متلثّما (5)،فلم أعرفه.
قال:فارتعت،و قلت:يا هذا مالك؟
فسفر[257 غ]،و قال:أما تعرفني[243 ر]يا سيّدي؟فتأمّلته،و أنا جزع،فلم أعرفه.
فقلت:لا و اللّه.
فقال:بلى،أنا عبدك،ابن فلان الكرخيّ حاجبك،و أنا الصبيّ الذي ربّيتني في دارك،و كنت تحملني على عنقك،و تطعمني بيدك.
ص:236
فتامّلته،فإذا الخلقة خلقته،إلاّ أنّ اللحية غيّرته في عيني،فسكن خاطري (1)، و قلت:يا هذا،كيف بلغت إلى هذا الحال؟
قال:يا سيّدي،نشأت،فلم أتعلّم غير معالجة السلاح،و جئت إلى بغداد أطلب الديوان (2)،فما قبلني أحد،فانضاف إليّ هؤلاء الرجال،و طلبت قطع الطريق و لو كان السلطان أنصفني،و نزّلني بحيث أستحق من الشجاعة،و انتفع بخدمتي، ما كنت أفعل هذا بنفسي.
قال:فأقبلت عليه أعظه،و أخوّفه اللّه،ثم خشيت أن يشقّ ذلك عليه، فيفسد رعايته لي،فأقصرت.
ثم قال:يا سيّدي،لا يكون بعض هؤلاء قد أخذ منك شيئا؟
قلت:ما ذهب منّا إلاّ سلاح رميته أنا الى الماء،و شرحت له الصورة.
فضحك،و قال:قد و اللّه أصاب القاضي،فمن في الكار ممّن تعنى به حتى أطلقه؟
قلت:كلّهم عندي بمنزلة واحدة،فلو أفرجت عن الجميع كان أحسن بك.
فقال:و اللّه،لو لا أنّ أصحابي قد تفرّقوا بما أخذوا،لفعلت،و لكنّهم لا يطيعوني في ردّه،و لكنّي لا أدع ما بقي من السفن في الكار أن يؤخذ منها شيء، فجزيته خيرا.
فصعد إلى الشطّ،و أصعد جميع أصحابه،و منع أن يؤخذ شيء من باقي السفن، فما تعرّض لها أحد،و ردّ على قوم ضعفاء أشياء كثيرة كانت أخذت منهم،و أطلق الكار.
و سار معي في أصحابه،إلى أن صار بيني و بين المأمن شيء يسير ثم ودّعني،و انصرف في أصحابه (3).
ص:237
ابن حمدي اللصّ البغدادي
و فتوّته و ظرفه
و حدّثني عبد اللّه بن عمر الحارثي،قال:حدّثني بعض التّجار البغداديّين، قال:
خرجت بسلع لي،و متاع من بغداد أريد واسطا،و كان البريديّ بها،و الدنيا مفتتنة[جدّا] (1).
فقطع عليّ،و على الكار الذي كنت فيه،لصّ كان في الطريق،يقال له:
ابن حمدي (2)،يقطع قريبا من بغداد،فأفقرني،و كان معظم ما أملكه معي، فسهل عليّ الموت،و طرحت نفسي له.
و كنت أسمع ببغداد،أنّ ابن حمدي هذا،فيه فتوّة،و ظرف،و أنّه إذا قطع، لم يعرض لأرباب البضائع اليسيرة،التي تكون دون الألف درهم،و إذا أخذ ممن حاله ضعيفة شيئا،قاسمه عليه،و ترك شطر ماله في يديه،و أنّه لا يفتش امرأة،
ص:238
و لا يسلبها،و حكايات كثيرة مثل ذلك.
فأطمعني ذلك في أن يرقّ لي،فصعدت إلى الموضع الذي هو جالس فيه، و خاطبته في أمري،و بكيت،و رقّقته،[67 ن]و وعظته،و حلفت له أنّ جميع ما أملكه قد أخذه،و أنّي أحتاج إلى أن أتصدّق (1)من بعده.
فقال لي:يا هذا،اللّه بيننا و بين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا،فإنّه قد أسقط أرزاقنا،و أحوجنا إلى هذا الفعل،و لسنا[258 غ]فيما نفعله نرتكب أمرا أعظم مما يرتكبه السلطان.
و أنت تعلم أنّ ابن شيرزاد ببغداد يصادر الناس و يفقرهم،حتى أنّه يأخذ الموسر المكثر،فلا يخرج من حبسه،إلاّ و هو لا يهتدي إلى شيء غير الصدقة، و كذلك يفعل البريديّ بواسط و البصرة،و الديلم بالأهواز.
و قد علمت أنّهم يأخذون أصول الضياع،و الدور،و العقار،و يتجاوزون ذلك إلى الحرم و الأولاد،فاحسب أنّنا نحن مثل هؤلاء،و أنّ واحدا منهم صادرك.
فقلت:أعزّك اللّه،ظلم الظلمة،لا يكون حجّة،و القبيح لا يكون سنّة، و إذا وقفت أنا و أنت،بين يدي اللّه عزّ و جلّ،أ ترضى أن يكون هذا جوابك له؟
فأطرق مليّا،و لم أشكّ في أنّه يقتلني،ثم رفع رأسه،فقال:كم أخذ منك؟ فصدقته.
فقال:أحضروه،فأحضر،فكان كما ذكرت،فأعطاني نصفه.
فقلت له:الآن،قد وجب حقّي عليك،و صار لي بإحسانك إليّ حرمة.
فقال:أجل.
فقلت:إنّ الطريق فاسد،و ما هو إلاّ أن أتجاوزك حتى يؤخذ هذا منّي أيضا، فأنفذ معي من يوصلني إلى المأمن.
ص:239
قال:ففعل ذلك،و سلمت[244 ر]بما أفلت معي،فجعل اللّه فيه البركة، و أخلف (1).
ص:240
قطع عليه الطريق فتخلّص بخاتم عقيق
حدّثني الحسن بن صافي،مولى ابن المتوكل القاضي (1)،و كان أبوه يعرف بغلام ابن مقلة قال:
لما حصل المتّقي للّه بالرقّة (2)،و معه أبو الحسين علي بن محمد بن عليّ،ابن مقلة،وزيره،كاتبني بأن أخرج إليه،فخرجت،و معي جماعة من أسبابه، و أسباب الخليفة إلى هيت.
و ضمّ إلينا ابن فتيان خفراء،يؤدّونا إلى الرقّة،و رحلت من هيت،و معنا الخفراء و الغلمان،و من انحدر معنا من هيت،فصرنا نحوا من مائتي مقاتل.
فلما كان في اليوم الرابع من مسيرنا،و نحن في البرّ الأقفر،و قد نزلنا نستريح، إذا بسواد عظيم من بعيد،لا نعلم ما هو،فلم نزل نرقبه إلى أن بان لنا،و إذا هو نحوا من مائة مطيّة،[على كلّ مطيّة رجلان] (3).
فجمعنا أصحابنا و رجالنا،و قرب القوم منّا و أناخوا جمالهم و عقلوها (4)،و أخذوا جحفهم،و سلّوا سيوفهم،و تقدّمهم رئيس لهم،فقال لنا:يا معشر المسافرين، لا يسلّنّ أحد منكم سيفا،و لا يرمي بسهم،فمن فعل ذلك فهو مقتول.
ففشل كلّ من كان معنا،و قاتل قوم منّا قتالا ضعيفا،و خالطنا الاعراب، و أخذوا جماعة منّا،و أخذونا،و جميع ما كان معنا،فأقتسموه،و تركونا مطرّحين في الشمس.
ص:241
فإذا بي قد عريت،و بقي عليّ خلق لا أتوارى منه بشيء،و ليس معي ماء أشر به،و لا ظهر أركبه،و ليس بيني و بين الموت إلاّ ساعات يسيرة،فقامت عليّ القيامة،و اشتدّ جزعي،و لم يكن لي حيلة،فأيست من الحياة.
فأنا كذلك،إذ وجدت شستجة (1)،كان لي فيها خاتم عقيق،كبير الفصّ، كثير الماء،فأخذته،و وقع لي في الحال وجه الحيلة،فجعلته في قطن،و خبأته معي[259 غ]و قصدت رئيس القوم،و هو الذي تولّى أخذ مالي،و عرف موضعي و قدري.
فقلت له:قد رأيت عظيم ما أخذته منّي،و أنا خادم الخليفة أطال اللّه بقاءه، و قد خرجت لأمر كبير من خدمته،و قد فزت بما أخذته منّي،فما قولك في أمر آخر أعظم مما أخذته،أعاملك به،و أسديه إليك حلالا لا يجري مجرى الغصوب، على أنّ تؤمّنني على نفسي،و ترد عليّ من ثيابي ما يسترني،و تردّ عليّ من دوابّي دابّة، و تسقيني ماء،و تسيّرني حتى أحصل في مأمني؟
فقال:ما هو؟
قلت:تعطيني أمانك،و عهودك،و ذمامك،على الوفاء،ففعل.
فانفردت به،و جعلت يدي مقابلة للشمس،و أريته الخاتم،و أقمت فصّه في شعاع الشمس،فكاد يخطف بصره،و رأى ما لم ير مثله.
و قال:استره،و قل لي خبره.
فقلت:هذا خاتم الخلافة،و فصّه هذا ياقوت أحمر،و هو الذي يتداوله الخلفاء منذ العهد الطويل،و يعرف بالجبل،و لا يقوم أمر الخلفاء إلاّ به،و قد كان مخبوءا ببغداد،فأمرني الخليفة أن أحمله إليه في جملة ما حملته،و حيث حصل
ص:242
هذا الخاتم من بلاد اللّه،تشبّث الخلفاء إلى أخذه بكلّ ثمن،و إن حصل عندك حتى تمتنع من بيعه إلاّ بمائة ألف دينار-و لم يقدروا عليك-لأعطوك إيّاها،و الرأي أن تأخذه،و تنفذه إلى ناحية الشام،و تخفي حصول الخاتم في يدك،فإنّي إذا حضرت بحضرة الخليفة،و عرّفته خبره،جاءتك رسله بالرغائب،حتى يرتجع منك بأيّ ثمن احتكمت.
فقال:إذا خذ من ثيابك ما تريد.
فأخذت من ثيابي ما احتجت إليه،و أخذ الخاتم فخبأه في جيبه،و أركبني راحلة موطّأة،و أعطاني إداوتين (1)كبيرتين ماء،و سار معي،و الناس قد هلكوا من العطش.
و لم يزل يسير معي،إلى أن بلغنا إلى حصن في البرّيّة،يعرف بالزيتونة (2)، من بناء هشام بن عبد الملك،و فيه رجل من بني أميّة،يكنى بأبي مروان،معه في الحصن نحوا من مائتي رجل.
فلما حصلت عنده،انصرف الأعرابيّ،و عرّفت أبا مروان خبري في القطع [245 ر]و من أنا،فأعظم أمري،و أكرمني،و أنفذ معي من أصحابه من بلّغني الرقّة سالما (3).
ص:243
سرق ماله بالبصرة و استعاده بواسط
حدّثني محمد بن عمر بن شجاع[المتكلّم،و يلقّب بجنيد،قال:حدّثني] (1)رجل من الدقّاقين (2)،في دار الزبير (3)بالبصرة،قال:
أورد عليّ رجل غريب،سفتجة بأجل (4)،فكان يتردّد عليّ،إلى أن حلّ ميعاد السفتجة.
ثم قال لي:دعها عندك حتى آخذها متفرّقة،فكان يجيء في كلّ يوم فيأخذ بقدر نفقته إلى أن نفدت،و صار بيننا معرفة،و ألف الجلوس عندي،و كان يراني أخرج من كيسي من صندوق لي،فأعطيه منه.
فقال لي يوما:إنّ قفل الرجل،صاحبه في سفره،و أمينه في حضره،و خليفته على حفظ ماله،و الذي ينفي الظنّة عن[260 غ]أهله و عياله،فإن لم يكن وثيقا تطرّقت الحيل عليه،و أرى قفلك هذا وثيقا،فقل لي ممن ابتعته[68 ن]،لأبتاع مثله.
فقلت:من فلان بن فلان الأقفاليّ.في جوار باب الصفّارين (5).
ص:244
قال:فما شعرت يوما،و قد جئت إلى دكّاني،فطلبت صندوقي لأخرج منه شيئا من الدراهم،فحمله الغلام إليّ،ففتحته،فإذا ليس فيه شيء من الدراهم.
فقلت لغلامي،و كان غير متّهم عندي:هل أنكرت من الدرابات شيئا؟
قال:لا.
فقلت:فتّش،هل ترى في الدكان نقبا؟
قال:لا.
فقلت:فمن السقف حيلة؟
قال:لا.
قلت:فاعلم أنّ الدراهم قد ذهبت.
فقلق الغلام،فسكّنته،و قمت لا أدري ما أصنع،و تأخّر الرجل عنّي،فلمّا غاب اتّهمته،و ذكرت مسألته عن القفل.
فقلت للغلام:أخبرني كيف تفتح دكّاني و تغلقه؟
قال:رسمي أن ادرّب درابتين درابتين،و الدرابات (1)في المسجد،فأحملها في دفعات،اثنتين أو ثلاثا،فأشرجها،ثم أقفل،و كذلك عند ما أفتحها.
فقلت:البارحة،و اليوم،فعلت ذلك؟
قال:نعم.
فقلت:فإذا مضيت لترّد الدرابات،أو تحضرها،على من تدع الدكان؟
قال:خاليا.
قلت:فمن هنا دهيت (2).
ص:245
و مضيت إلى الصانع الذي ابتعت منه القفل،فقلت:جاءك إنسان منذ أيّام، و اشترى منك مثل هذا القفل؟
قال:نعم،رجل من صفته كيت و كيت،فأعطاني صفة صاحبي.
فعلمت أنّه احتال على الغلام وقت المساء،لما انصرفت أنا،و مضى الغلام يحمل الدرابات،فدخل هو إلى الدكان فاختبأ فيه،و معه مفتاح القفل الذي اشتراه، و الذي يقع على قفلي،و أنّه أخذ الدراهم،و جلس طول ليلته خلف الدرابات.فلما جاء الغلام،و فتح درابتين،و حملها ليرفعها،خرج،و أنّه ما فعل ذلك،إلاّ و قد خرج إلى بغداد.
فسلّمت دكاني إلى الغلام،و قلت له:من سأل عنّي فعرّفه أنّي خرجت إلى ضيعتي.
قال:فخرجت،و معي قفلي و مفتاحه،و قلت:أبتدئ بطلب الرجل بواسط.
فلمّا صعدت من السميريّة،طلبت خانا في الكتبيّين (1)بواسط،لأنزله، فأرشدت إليه،فصعدت،فإذا بقفل مثل قفلي سواء على بيت.
فقلت لقيّم الخان:هذا البيت من ينزله؟
فقال:رجل قدم من البصرة أمس.
فقلت:أيّ شيء صفته؟
فوصف لي صفة صاحبي،فلم أشكّ أنّه هو،و أنّ الدراهم في بيته.
فاكتريت بيتا إلى جانبه،و رصدت البيت،حتى انصرف قيّم الخان،و قمت ففتحت القفل بمفتاحي،فحين دخلت البيت،وجدت كيسي بعينه،فأخذته،
ص:246
و خرجت و أقفلت الباب،و نزلت في الوقت إلى السفينة التي جئت فيها،و أرغبت الملاّح،و أنحدرت إلى البصرة.
فما أقمت بواسط إلاّ ساعتين من نهار،و رجعت إلى منزلي بمالي بعينه (1).
ص:247
وضع السيف على عنقه ثم نجا سالما
و حدّثني عبيد اللّه بن محمد الصروي (1)،قال[261 غ]:حدّثني أكّار بنهر سابس[يقال له:سارخ] (2)،قال:
خرجت من نهر سابس (3)،إلى موضع في طرف البريّة،يقال له:كرخ راذويه (4)،أريد أعمال سقي الفرات.
فبلغني أنّ رجلا يقطع الطريق وحده،و حذّرت منه.
فلما خرجت من القرية،رأيت رجلا تدلّ فراسته على شدّته و نجدته،و في يده زقاية (5)،فجسّرني على الطريق.
قال:فترافقنا،حتى انتهينا إلى سقاية في البرّيّة،فخرج علينا اللصّ متحزّما، متسلّحا،فصاح بنا.
فطرح رفيقي كارة كانت على ظهره،و أخذ زقايته،و بادر إلى اللصّ.
فلمّا داخله اللصّ ليضربه،ضرب بعصاه يد اللصّ،فعطل اللصّ الضربة، و ضرب الزقاية فقطعها،ثم ضرب بسيفه رجل الرجل فأقعده،ثم وشّحه بالسيف (6)
ص:248
حتى قتله،و حمل عليّ ليقتلني.
فقلت له:ما حاربتك،و لا امتنعت عليك من أخذك ثيابي،فلأيّ شيء تقتلني؟
فقال:استكتف (1)فاستكتفت،فكتّفني بتكّتي (2)ثم حمل الثياب و انصرف.
فبقيت متحيّرا،مشفيا على التلف،بالعطش،و الشمس،و الوحوش،فما زلت أتمطّى في التكّة حتى قطعتها،و قمت أمشي إلى أن جنّني الليل.
فرأيت في الصحراء-على بعد-ضوء نار خفيّا،فقدّرته في قرية،فقصدته، فإذا هو يخرج من قبّة في الصحراء،فقربت منها،و اطّلعت،فإذا اللصّ جالس في القبّة،يشرب نبيذا،و معه امرأة.
فلمّا بصر بي صاح،و تناول سيفه و خرج إليّ،فما زلت أناشده اللّه،و أحلف له أنّني ما علمت أنّه هو،و لا قصدته عمدا،و إنّما رأيت النار فقصدتها،فلم يعبأ بقولي.
و حلّفته المرأة أن لا يقتلني بحضرتها،فجذبني إلى نهر جافّ قريب من القبّة، و طرحني تحته،و جرّد سيفه ليقتلني.
فسمع صوت الأسد قريبا منه،فارتعدت يده،و سكت،و أخذ يسكتني، فأنست بالسّبع (3)و زدت في الصياح.
فما شعرت إلاّ و السّبع قد تناوله من على صدري و هرول في الصحراء.
ص:249
فقمت،و أخذت السيف،و جئت إلى القبّة،فلم تشكّ المرأة أنّني هو،فقالت:
قتلته؟
فقلت:اللّه عزّ و جلّ قتله،لا أنا،و قصصت عليها القصّة،و سألتها عن شأنها.
فقالت:أنا امرأة من أهل القرية الفلانيّة،أسرني هذا الرجل،و خبأني في هذا الموضع،و هو يتردّد إليّ في كل ليلة.
فأرهبتها،فدلّتني على دفائن له في الصحراء،فأخذتها،و حملت المرأة،و بلغت القرية،و سلمتها إلى أهلها.
و فزت بمال عظيم أغناني عن مقصدي،و عدت إلى بلدي (1).
ص:250
كيف استعاد التاجر البصري ماله
و حدّثني أيضا،قال:حدّثني ابن الدنانيري التمّار الواسطيّ (1)،قال:حدّثني غلام لي قال:
كنت ناقدا (2)بالأبلّة (3)،لرجل تاجر،فاقتضيت (4)له في البصرة نحو خمسمائة دينار عينا (5)و ورقا (6)،و لففتها في فوطة،و أشفيت على المصير إلى الأبلّة.
فما زلت أطلب ملاّحا،حتى رأيت ملاّحا مجتازا في خيطيّة (7)خفيفة فارغة، فسألته أن يحملني،فسهّل عليّ الأجرة،و قال:أنا راجع إلى منزلي بالأبلّة،فانزل [262 غ]معي،فنزلت،و جعلت الفوطة بين يديّ.
و سرنا إلى أن تجاوزنا مسماران (8)،فإذا رجل ضرير (9)على الشطّ (10)،يقرأ أحسن قراءة تكون.
ص:251
فلمّا رآه الملاّح كبّر،فصاح هو بالملاّح:احملني،فقد جنّني الليل،و أخاف على نفسي،فشتمه الملاّح.
فقلت له:احمله،فدخل إلى الشطّ فحمله،فلمّا حصل معنا رجع إلى قراءته،فخلب عقلي بطيبها.
فلمّا قربنا من الأبلّة،قطع القراءة،و قام ليخرج في بعض المشارع[69 ن] في الأبلّة،فلم أر الفوطة،فقمت واقفا،و اضطربت،و صحت.
فاستغاث الملاّح،و قال:الساعة تقلب الخيطيّة،و خاطبني خطاب من لا يعلم حالي.
فقلت له:يا هذا،كانت بين يديّ فوطة[247 ر]فيها خمسمائة دينار.
فلما سمع الملاّح ذلك،بكى،و لطم،و تعرّى من ثيابه،و قال:أدخل الشطّ ففتّش،و لا لي موضع أخبئ فيه شيئا فتتّهمني بسرقته،و لي أطفال،و أنا ضعيف، فاللّه،اللّه في أمري،و فعل الضرير مثل ذلك.
و فتّشت الخيطيّة فلم أجد شيئا،فرحمتهما،و قلت:هذه محنة لا أدري كيف التخلّص منها،و خرجنا،فعملت على الهرب،و أخذ كلّ واحد منّا طريقا، و بتّ في بيتي،و لم أمض إلى صاحبي،و أنا بليلة عظيمة.
فلما أصبحت،عملت على الهرب إلى البصرة،لأستخفي فيها أيّاما،ثم أخرج إلى بلد شاسع (1).
فانحدرت،فخرجت في مشرعة بالبصرة،و أنا أمشي و أتعثّر و أبكي قلقا على فراق أهلي و ولدي،و ذهاب معيشتي و جاهي،إذ اعترضني رجل.
فقال:يا هذا،ما بك؟
فقلت:أنا في شغل عنك (2)،فاستحلفني،فأخبرته.
ص:252
فقال:امض إلى السجن ببني نمير (1)،و اشتر معك خبزا كثيرا،و شواء جيّدا، و حلوى،و سل السجّان أن يوصلك إلى رجل محبوس،يقال له:أبو بكر النقّاش.
و قل له:أنا زائره،فإنّك لا تمنع،و إن منعت،فهب للسجّان[شيئا يسيرا فإنّه يدخلك إليه،فإذا رأيته فسلّم عليه و لا تخاطبه حتى تجعل بين يديه] (2)ما معك، فإن أكل و غسل يديه،فإنه يسألك عن حاجتك،فأخبره خبرك،فإنّه سيدلّك على من أخذ مالك،و يرتجعه لك.
ففعلت ذلك،و وصلت إلى الرجل،فإذا هو شيخ مثقل بالحديد.
فسلّمت عليه،و طرحت ما معي بين يديه،فدعا رفقاء كانوا معه فأقبلوا يأكلون معه،فلمّا استوفى و غسل يديه.
قال:من أنت،و ما جاء بك؟فشرحت له قصّتي.
فقال:امض الساعة لوقتك-و لا تتأخّر-إلى بني هلال (3)،فاقصد الدرب الفلاني حتى تنتهي إلى آخره،فإنّك تشاهد بابا شعثا،فافتحه و ادخل بلا استئذان، فستجد دهليزا طويلا بؤدّي إلى بابين،فادخل الأيمن منهما،فسيدخلك إلى دار فيها بيت فيه أوتاد و بواري،و على كلّ وتد إزار و مئزر،فانزع ثيابك،و علّقها على الوتد،و اتّزر بالمئزر[و اتّشح بالإزار] (4)،و اجلس،فسيجيء قوم يفعلون كما فعلت،إلى أن يتكاملوا،ثم يؤتون بطعام فكل معهم،و تعمّد أن تفعل كما يفعلون في كلّ شيء.
فإذا أتوا بالنبيذ فاشرب معهم أقداحا يسيرة،ثم خذ قدحا كبيرا،فاملأه،
ص:253
و قم،و قل:هذا ساري (1)لخالي أبي بكر النقّاش،فسيضحكون[263 غ] و يفرحون،و يقولون:هو خالك؟فقل:نعم،فسيقومون و يشربون لي،فإذا تكامل شربهم لي،و جلسوا،فقل لهم:خالي يقرأ عليكم السلام،و يقول لكم:
بحياتي يا فتيان،ردّوا على ابن أختي المئزر الذي أخذتموه أمس من السفينة بنهر الأبلّة،فإنّهم يردّونه عليك.
فخرجت من عنده،ففعلت ما قال لي،و جرت الصورة،على ما ذكر، سواء بسواء،و ردّت الفوطة عليّ بعينها،و ما حلّ شدّها.
فلمّا حصلت لي،قلت لهم:يا فتيان،هذا الذي فعلتموه هو قضاء لحقّ خالي،و أنا لي حاجة تخصّني.
فقالوا:مقضيّة.
فقلت:عرّفوني كيف أخذتم الفوطة؟فامتنعوا،فأقسمت عليهم بحياة أبي بكر النقّاش.
فقال لي واحد منهم:تعرفني؟فتأمّلته،فإذا هو الضرير الذي كان يقرأ.
و إنّما كان يتعامى حيلة و مكرا.
و أومأ إلى آخر،و قال:أ تعرف هذا؟فتأمّلته،فإذا هو الملاّح بعينه.
فقلت:أخبراني كيف فعلكما؟
فقال الملاّح:أنا أدور في المشارع في أوّل أوقات المساء،و قد سبقت المتعامي فأجلسته حيث رأيت،فإذا رأيت من معه شيء له قدر،ناديته و أرخصت عليه الأجرة و حملته،فإذا بلغ إلى القارىء،و صاح بي،شتمته،حتى لا يشكّ الراكب في براءة الساحة،فإن حمله الراكب فذاك،و إن لم يحمله رقّقته حتى يحمله، فإذا حمله،و جلس هذا يقرأ[248 ر]قراءته الطيّبة،ذهل الرجل كما ذهلت أنت،فإذا بلغنا إلى موضع نكون قد خلّينا فيه رجلا متوقّعا لنا،يسبح حتى يلاصق
ص:254
السفينة،و على رأسه قوصرة (1)،فلا يفطن الراكب،فيستلب هذا الرجل المتعامى -بخفّة-الشيء الذي قد عينّا عليه،فيلقيه إلى الرجل الذي عليه القوصرة،فيأخذها و يسبح إلى الشطّ،فإذا أراد الراكب النزول (2)،و افتقد ما معه،عملنا كما رأيت، فلا يتّهمنا،و نتفرّق،فإذا كان الغد،اجتمعنا و اقتسمنا ما أخذناه،[و اليوم كان يوم القسمة] (3)،فلما جئت برسالة خالك أستاذنا،سلّمنا إليك الفوطة، قال:فأخذتها،و انصرفت (4)
ص:255
صادف درء السيل درءا يصدعه
حدّثني عبيد اللّه بن محمد الصروي،قال:حدّثني بعض إخواني:
أنّه كان ببغداد رجل يطلب التلصّص في حداثته،ثم تاب و صار بزّازا.
قال:فانصرف ليلة من دكانه،و قد أغلقه،فجاء لصّ متزيّ بزيّ صاحب الدكّان،في كمّه شمعة صغيرة،و مفتاح،فصاح بالحارس،و أعطاه الشمعة في الظلمة،و قال:اشعلها و جئني بها،فإنّ لي في هذه الليلة في دكاني شغلا.
فحضر الحارس و أشعل الشمعة،و ركّب اللصّ المفاتيح على الأقفال ففتحها، و دخل الدكّان.
فجاء الحارس بالشمعة مشعلة،فأخذها منه و هو لا يتبيّن وجهه،و جعلها بين يديه،و فتح سفط الحساب،و أخرج ما فيه،و جعل ينظر في الدفاتر،و يوري (1)بيده أنّه يحسب،و الحارس يطالعه في تردّده،و لا يشكّ في أنّه صاحب الدكّان.
إلى أن[264 غ]قارب السحر،فاستدعى اللصّ الحارس،و كلّمه من بعيد، و قال له:أطلب لي حمّالا.
فجاء بحمّال،فحمل عليه من متاع الدكّان أربع زرم مثمنة (2)،و أقفل الدكّان، و انصرف و معه الحمّال،و أعطى الحارس درهمين،فلمّا أصبح الناس،جاء صاحب الدكّان ليفتحه،فقام إليه الحارس يدعو له،و يقول:فعل اللّه بك و صنع كما أعطيتني البارحة الدرهمين.
فأنكر الرجل ما سمعه،و لم يردّ جوابا،و فتح دكّانه،فوجد سيلان الشمعة،
ص:256
و حسابه مطروحا،و فقد الرزم الأربع،فاستدعى الحارس،و قال له:من كان [70 ن]الذي حمل معي الرزم البارحة من دكّاني؟
فقال له الحارس:أ ليس استدعيت منّي حمّالا،فجئتك به،فحملها معك؟
قال:بلى،و لكنّي كنت ناعسا متنبّذا (1)،و أريد الحمّال،فجئني به،
فمضى الحارس فجاءه بالحمّال،فأغلق الرجل الدكّان،و أخذ الحمّال معه، و مشى،و قال:إلى أين حملت الرزم البارحة،فإني كنت متنبّذا.
قال:إلى المشرعة الفلانيّة،و استدعيت فلانا الملاّح،فركبت معه.
فصعد الرجل المشرعة،فسأل عن الملاّح فدلّ عليه و ركب معه.و قال:أين أوصلت اليوم أخي الذي كان معه الأربع رزم؟
قال:إلى المشرعة الفلانيّة.
قال:أطرحني إليها،فطرحه.
قال:و من حملها معه؟
قال:فلان الحمّال.
فدعا به،و لطّفه،و قال:أين حملت الرزم الأربع البارحة؟و استدلّه برفق و أعطاه شيئا،فجاء به إلى باب غرفة،في موضع بعيد عن البلد،قريب من الصحراء،فوجد الباب مقفلا.
و استوقف الحمّال إلى أن فشّ القفل (2)و فتح الباب،و دخل،فوجد الأربع رزم بحالها،و إذا في البيت بركان (3)معلّق على حبل،فلفّ الرزم فيه،و دعا الحمّال فحملها.
ص:257
[فحين خرج من الغرفة،استقبله اللصّ،و فهم الأمر،فاتّبعه إلى الشطّ، فجاء إلى المشرعة،و دعا الملاّح ليعبر] (1).
فدعا الحمّال من يحطّ عنه،فجاء اللصّ،فحطّ عنه،كأنّه مجتاز متطوّع، فأدخل الرّزم إلى السفينة مع صاحبها،ثم جعل البركان على كتفه،و قال للتاجر:
يا أخي أستودعك اللّه،فقد استرجعت رزمك،فدع كسائي.
فضحك منه و قال:أنزل و لا خوف عليك.
فنزل معه،فاستتابه،و وهب له شيئا،و صرفه (2).
ص:258
قصة الأخوين عاد و شدّاد
و حكى عبيد اللّه بن محمد بن الحسن العبقسي الشاعر،قال:حدّثني شاعر كان يعرف بغلام أبي الغوث،قال:
كنت من أهل قرية من نواحي الشام،أسكنها أنا و أسلافي،فكنّا نطحن أقواتنا في رحى ماء على فراسخ من البلد،يخرج إليها أهل البلد و أهل القرى المجاورة بغلاّتهم،فتكثر،فلا يتمكّن من الطحن إلاّ الأقوى فالأقوى.
فمضيت مرّة و معي غلّة،و حملت معي خبزا و لحما مطبوخا يكفيني لأيّام،و كان الزمان شاتيا،لأقيم على الرحى،حتى يخفّ الناس فأطحن فيها،على عادتي تلك.
فلما صرت عند الرحى،حططت أعدالي (1)،و جلست في موضع نزه،و فرشت سفرتي لآكل.
و اجتاز بي رجل عظيم الخلقة،فدعوته ليأكل،فجلس فأكل كلّما كان في سفرتي،حتى لم يدع فيها شيئا،و لا أوقيّة واحدة.
فعجبت من ذلك عجبا شديدا بان[265 غ]له فيّ،فأمسك،و غسلنا أيدينا.
فقال لي:على أي شيء مقامك هنا؟
فقلت:لأطحن هذه الغلّة.
فقال لي:فلم لا تطحنها اليوم،فأخبرته بسبب تعذّر ذلك عليّ.
قال:فثار كالجمل،حتى شقّ الناس و هم مزدحمون على الرحى،و هي
ص:259
تدور،فجعل رجله عليها فوقفت و لم تدر.
فعجب الناس،و قال:من فيكم يتقدّم؟
فجاء رجل أيّد شديد،فأخذ بيده،و رمى به كالكرة،و جعله تحت رجله الأخرى،فما قدر أن يتحرّك.
و قال:قدّموا غلّتي إلى الطحن و إلاّ كسرت الرحى،و كسرت عظام هذا.
فقالوا:يا هذا هات الغلّة،فجئت بها،فطحنت،و فرغت منها،و جعلتها في الأعدال.
و قال لي:قم.
قلت:إلى أين؟
قال:إلى منزلك.
قلت:لا أسلك الطريق وحدي،فإنّه مخوف،و لكن أصبر حتى يفرغ أهل قريتي،و أرجع معهم.
فقال:قم و أنا معك،و لسنا نخاف-بإذن اللّه عزّ و جلّ-شيئا.
فقلت في نفسي:من كانت تلك القوّة قوّته يجب أن آنس به،فقمت، و حملت الغلّة على الحمير،و سرنا إلى أن جئنا إلى قريتي،و لم نلق في طريقنا بأسا.
فلمّا دخلت إلى بيتي،خرج والدي و إخوتي،و عجبوا من سرعة ورودي بالغلّة، و رأوا الرجل،فسألوني عن القصّة،فأخبرتهم.
و سألنا الرجل أن يقيم في ضيافتنا،ففعل،فذبحنا له بقرة،و أصلحنا له سكباجا،و قدّم إليه،فأكل الجميع بنحو المائة رطل خبزا.
فقال له أبي:يا هذا،ما رأيت مثلك قطّ،فأيّ شيء أنت؟و من أين معاشك؟
قال:أنا رجل من الناحية الفلانيّة،و اسمي شدّاد،و كان لي أخ أشدّ بدنا و قلبا منّي،و اسمه عاد،و كنّا نبذرق (1)القوافل من قريتنا إلى مواضع كثيرة،و لا نستعين
ص:260
بأحد،و تخرج علينا الرجال الكثيرة،فألقاهم أنا و أخي فقط فنهزمهم،فاشتهر أمرنا،حتى كان إذا قيل قافلة عاد و شدّاد،لم يعرض لها أحد،فمكثنا كذلك سنين كثيرة.
فخرجنا مرة أنا و أخي،نسيّر قافلة قد خفرناها،فلمّا صرنا بالفلاة،رأينا سوادا مقبلا نحونا،فاستطرفنا أن يقدم علينا أحد،ثم بان لنا شخص رجل أسود، على ناقة حمراء،ثم خالطنا.
و قال:هذه قافلة عاد و شدّاد؟
قلنا:نعم.
فترجّل و دعانا للبراز،فانتضينا سيوفنا و انقضضنا عليه،فضرب ساق أخي بالسيف ضربة أقعدته،و عدا عليّ،فقبض على كتفي،فما أطقت الحركة.
فكتّفني،ثم كتّف أخي،و طرحنا على الناقة كالزاملتين (1)،ثمّ ركبها و سار بعد أن أخذ من القافلة ما كان فيها من عين،و ورق،و حليّ،و شيئا من الزاد،و أوقر الراحلة بذلك.
و سار بنا على غير محجّة،في طريق لا نعرفه،بقيّة يومنا و ليلتنا و بعض الثاني، حتى أتى جبلا لا نعرفه،فأوغل فيه،و بلغ إلى وجه منه فدخله،فانتهى إلى مغارات،فأناخ الراحلة،ثم رمى بنا عنها،و تركنا في الكتاف.
و جاء إلى مغارة على بابها صخرة عظيمة لا يقلعها إلاّ الجماعة،فنحّاها عن الباب[266 غ]و استخرج منها جارية حسناء،فسألها عن[250 ر]خبرها، و جلسا يأكلان ممّا جاء به من الزاد،ثم شربا،فقال لها:قومي،فقامت،و دخلت الغار.
ثم جاء إلى أخي،فذبحه و أنا أراه،و سلخه،و أكله وحده،حتى لم يدع منه إلاّ عظامه.
ص:261
ثم استدعى الجارية،فخرجت،و جعلا يشربان،فلما توسّط شربه،جرّني، فلم أشكّ أنّه يريد ذبحي،فإذا هو قد طرحني في غار من تلك المغارات،و حلّ كتافي،و أطبق الباب بصخرة عظيمة،فأيست من الحياة،و علمت أنّه قد أدّخرني لغد.
فلما كان في الليل،لم أحسّ إلاّ بامرأة تكلّمني،فقلت لها:ما بالك؟
فقالت:إنّ هذا العبد قد سكر و نام،و هو يذبحك في غد كما ذبح[71 ن] صاحبك،فإن كانت لك قوّة فاجهد في دفع الصخرة و اخرج فاقتله،و أنج بي و بنفسك.
فقلت:و من أنت؟
قالت:أنا امرأة من البلد الفلانيّ،ذات نعمة،خرجت أريد أهلا لي في البلد الفلانيّ،فخرج علينا هذا العدوّ للّه،فأهلك القافلة التي كنت فيها،و رآني فأخذني غصبا،و أنا منذ كذا و كذا شهرا،على هذه الصورة،يرتكب منّي الحرام، و أشاهد ذبحه للناس و أكله لهم،و لا يوصف له إنسان بشدّة بدن إلاّ قصده،حتى يقهره،ثم يجيء به فيأكله،و يعتقد أنّ شدّته تنتقل إليه،و إذا خرج حبسني في الغار،و خلّف عندي مأكولا و ماء لأيّام،و لو اتّفق أنّه يحتبس عنّي-فضل يوم- متّ جوعا و عطشا.
فقلت:إنّني ما أطيق قلع الصخرة.
قالت:ويلك،فجرّب نفسك.
قال:فجئت إلى الصخرة فاعتمدت عليها بقوّتي،فتحرّكت،فإذا قد وقع تحت الصخرة حصاة صغيرة،و قد صارت الصخرة مركّبة تركيبا صحيحا،و ذلك لما أراده اللّه تعالى من خلاصي.
فقلت:أبشري،و لم أزل أجتهد،حتى زحزحت الصخرة شيئا أمكنني الخروج منه،فخرجت.
ص:262
فأخذت سيف الأسود،و اعتمدت بكلتي يديّ فضربت ساقيه،فإذا قد أبنت (1)أحدهما و كسرت الأخرى،فانتبه،و رام الوثوب فلم يقدر،فضربته الأخرى على حبل عاتقه (2)فسقط،و ضربته أخرى فأبنت رأسه.
و عمدت إلى المغارات فأخذت كلّما وجدت فيها من عين،و ورق،و جوهر، و ثوب فاخر خفيف الحمل،و أخذت زادا لأيّام،و ركبت راحلته (3)،و أردفت المرأة،و لم أزل أسلك في طرق لا أعرفها،حتى وقعت على محجّة،فسلكتها، فأفضت بي إلى بعض القرى،فسلّمت الراحلة إلى المرأة،و أعطيتها نفقة تكفيها إلى بلدها،و سيّرتها مع خفراء،و عدت إلى بلدي بتلك الفوائد الجليلة.
و عاهدت اللّه تعالى،أن لا أتعرّض للطريق،و لا للخفارة أبدا.
و أنا الآن آكل من ضياع اشتريتها من ذلك المال،و أقوم بعمارتها،و أعيش من غلّتها،إلى الآن (4).
ص:263
قارع سبعين من قطّاع الطريق و انتصف منهم
و حكى سعد بن محمد بن عليّ الأزدي،الشاعر البصريّ المعروف بالوحيد، قال:حدّثني أبو عليّ الكرديّ،رجل رأيته بعسكر[267 غ]عمران بن شاهين (1)قصده من عند حسنويه بن الحسين الكرديّ (2)،فقبله،و أجرى عليه،و كان شجاعا نجدا،فحدّثني،قال:
خرجنا مرّة بالجبال (3)،في أيّام موسم الحجّ،عددنا سبعون رجلا،من فارس و راجل،فاعترضنا الحاجّ الخراسانية،و كمنّا لهم.
و كان لنا عين (4)في القافلة،فعاد و عرّفنا أنّ في القافلة رجلا من أهل شاش (5)و فرغانة (6)معه اثنى عشر حملا بزّا،و جارية في قبّة (7)عليها حلي ثقيل،فجعلنا أعيننا عليه،حتى وثبنا عليه،و هو و جاريته في عمّارية.
ص:264
قال:فقطعنا قطاره و كتّفناه،و أدخلناه و ما معه بين الجبال،و وقعنا على ما معه، و فرحنا بالغنيمة.
و كان للرجل برذون أصفر يساوي مائتي درهم،فلما رآنا نريد القفول،قال:
يا فتيان،هنّأكم اللّه بما أخذتم،و لكنّي رجل حاجّ،بعيد الدار،فلا تتعرّضوا لسخط اللّه بمنعي من الحجّ،و أمّا المال فيذهب و يجيء،و تعلمون[251 ر]، أنّه لا نجاة لي إلاّ على هذا البرذون،فاتركوه لي،فليس يبين ثمنه في الغنيمة التي أخذتموها،فتشاورنا على ذلك.
فقال شيخ فينا مجرّب:لا تردّوه عليه،و اتركوه مكتوفا هنا،فإن كان في أجله تأخير،فسيقيّض اللّه له من يحلّ كتافه،و كنت فيمن عزم على هذا.
و قال بعضنا:ما مقدار دابّة بمائتي درهم حتى نمنعها رجلا حاجّا،فلا حاجة لنا فيها،و جعلوا يرقّقون قلوب الباقين حتى سمحنا بذلك،فأطلقناه،و لم ندع عليه إلاّ ثوبا يستر عورته.
فقال:يا فتيان،قد مننتم عليّ،و أحسنتم إليّ،و رددتم دابّتي،و أخشى إذا أنا سرت أن يأخذها غيركم،فأعطوني قوس و نشّابي،أذبّ بها عن نفسي و عن فرسي.
فقلنا:إنّا لا نردّ سلاحا على أحد.
فقال بعضنا:و ما مقدار قوس قيمته درهمان،و ما نخشى من مثل هذا؟ فأعطيناه قوسه و نشّابه،و قلنا له:انصرف،فشكرنا،و دعا لنا،و مضى حتى غاب عن أعيننا.
فما كدنا نسير،و الجارية تبكي،و تقول:أنا حرّة،و لا يحلّ لكم أن تأخذوني.
فنحن في هذا،و إذا بالرجل قد كرّ راجعا،و قال:يا فتيان،أنا لكم ناصح، فإنّكم قد أحسنتم إليّ،و لا بدّ لي من مكافأتكم على إحسانكم،بنصيحتي لكم.
فقلنا:و ما نصيحتك؟
ص:265
فقال:دعوا ما في أيدكم،و انصرفوا سالمين بأنفسكم،و لكم الفضل،فإنّكم مننتم على رجل واحد،و أنّا أمنّ على سبعين رجلا،و إذا هو قد انقلبت عيناه في وجهه،و خرج الزبد من أشداقه،و صار كالجمل الهائج.
فهزأنا به،و ضحكنا عليه،و لم نلتفت إلى كلامه،فأعاد علينا النصيحة، و قال:يا قوم قد مننت عليكم،فلا تجعلوا لي إلى أرواحكم سبيلا.
فزاد غيظنا عليه،فقصدناه،و حملنا عليه،فانحاز منّا،و رمى بخمس نشّابات،كانت بيده،فقتل بها منّا خمسة،واحدا،واحدا.
و قال:إنّ جماعتكم تموت على هذا،إن لم تخلّوا عمّا في أيديكم.
فلم نزل ندافعه،و يقتل منّا،حتى قتل ثلاثين رجلا،و بقي معه نشّاب في جعبته.
فقلنا:أما ترون و يحكم أنّه لم يخط له سهم واحد؟و أحجمت الجماعة عنه، و أفرجنا عن[268 غ]الجمال و القبّة،فصار القطار في حوزته.
فتنكّس (1)و نحن نراه،ففتق عدلا بسيف أخرجه من رحله،و أخرج منه جعبة نشّاب،و أراناها،فلمّا رأينا ما صار إليه من النشّاب يئسنا منه و ولّينا عنه.
فقال:يا فتيان،سألتكم هذا فلم تجيبوني إليه فمن نزل عن دابته فهو آمن، و من أحبّ أنّ يكون فارسا،فهو بشأنه أبصر.
فشددنا عليه،فقتل منّا جماعة،فاضطررنا إلى أن ترجّلنا،فحاز دوابنا وحده، و ساقها قليلا.
ثم رجع،و قال:أطالبكم بحكمكم،من رمى سلاحه فهو آمن،و من تمسّك به فهو أبصر،فرمينا سلاحنا.
فقال:امضوا سالمين آمنين،فأخذ جميع السّلاح و الدوابّ،و إنّا لندعوها
ص:266
بأسمائها،فتشذّ عنه،فيرميها فيصرعها،حتى قتل منها جماعة،و فاتتنا الغنيمة، و السّلاح.
و كان ذلك سبب توبتي،أنفة لما لحقنا منه،و أنا على ذلك الحال إلى اليوم (1).
ص:267
فيمن ألجأه الخوف إلى هرب و استتار،فأبدل بأمن و مستجدّ نعم و مسارّ
يحيى بن طالب الحنفي
يبارح وطنه مدينا،و يعود إليه موسرا
[أخبرني أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي،فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته منه،قال:حدّثنا] (1)محمّد بن زكريا الغلابي،قال:
غنّي الرشيد يوما بهذا الشعر:
ألاهل إلى شمّ الخزامى (2)و نظرة إلى قرقرى (3)قبل الممات سبيل
فيا أثلاث القاع من بطن توضح (4) حنيني إلى أظلالكنّ طويل
أريد نهوضا نحوكم فيصدّني إذا رمته دين عليّ ثقيل
قال مؤلّف الكتاب:و وجدت الشعر في غير هذه الرواية:
ص:268
و يا أثلاث القاع قد ملّ صحبتي صحابي فهل في ظلّكنّ مقيل
أحدّث نفسي عنك أن لست راجعا إليك فحزني في الفؤاد دخيل (1)
(رجع للحديث).
فاستحسن الرشيد الشعر،و سأل عن قائله،فعرّف أنّه ليحيى بن طالب الحنفي اليمامي (2).
فقال:حيّ هو أم ميت؟
فقال بعض الحاضرين:هو حيّ كميت.
قال:و لم؟
قال:هرب من اليمامة،لدين عليه ثقيل،فصار إلى الريّ.
فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامله بالريّ،يعرّفه ذلك،و أن يدفع إليه عشرة آلاف درهم،و أن يحمل إلى اليمامة (3)على دوابّ البريد،و كتب إلى عامله باليمامة بقضاء دينه.
فلمّا كان بعد أيّام،قال الرشيد لمن حضره:إنّ الكتب وردت بامتثال ما أمرت به.
و عاد يحيى إلى وطنه موسرا،و قد قضي دينه عنه،من غير سعي منه في ذلك (4).
ص:269
العتابيّ يؤدّب الأمين و المأمون
ذكر محمّد بن عبدوس في كتابه«كتاب الوزراء» (1)،قال:حدّثني عبد الواحد بن محمّد،يعني الخصيبي،قال:حدّثني يموت بن المزرع،قال:
كان العتّابيّ (2)،يقول بالاعتزال (3)،فاتّصل ذلك بالرشيد،و كثّر عليه في أمره،فأمر فيه بأمر غليظ (4)،فهرب إلى اليمن،و كان مقيما فيها على خوف و توقّ.
فاحتال يحيى بن خالد،إلى أن أسمع الرشيد شيئا من خطبه و رسائله، فاستحسنها الرشيد،و سأل عن الكلام لمن هو؟
فقال يحيى:هو كلام العتّابيّ،و إن رأيت يا أمير المؤمنين،أن يحضر حتى يسمع الأمين و المأمون،و يضع لهما خطبا،لكان في ذلك صلاحا لهما.
ص:270
فأمّنه الرشيد،و أمر بإحضاره.
و لمّا اتّصل خبر ذلك بالعتّابيّ،قال يمدح يحيى بن خالد:
ما زلت في سكرات الموت مطّرحا قد غاب عنّي وجه الأرض من خبلي
فلم تزل دائبا تسعى لتنقذني حتى اختلست حياتي من يد الأجل (1)
ص:271
لماذا قتل أبو سلمة الخلال
و ذكر في بعض كتب الدولة:
أنّ أبا سلمة الخلاّل (1)،لمّا قوي الدعاة،و شارفوا العراق،و قد ملكوا خراسان و ما بينها و بين العراق،استدعى بني العبّاس،فصيّرهم في منزله بالكوفة، و كان له سرداب،فجعل فيه جميع من كان حيّا في ذلك الوقت من ولد عبد اللّه ابن العبّاس،و فيهم السفّاح،و المنصور،و عيسى بن موسى،و هو يراعي الأخبار.
و كان الدعاة يؤمرون بقصده إذا ظهروا و غلبوا على الكوفة،ليعرّفهم الإمام، فيسلّمون الأمر إليه.
فلمّا أوقع قحطبة (2)بابن هبيرة الوقعة العظيمة على الفرات (3)،و غرق قحطبة، و انهزم ابن هبيرة،و لحق بواسط،و تحصّن بها،و دخل ابنا قحطبة (4)الكوفة
ص:272
بالعسكر كلّه،قالوا لأبي سلمة:أخرج إلينا الإمام،فدافعهم،و قال:لم يحضر الوقت الذي يجوز فيه ظهور الإمام،و أخفى الخبر عن بني العبّاس، و عمل على نقل الأمر عنهم،إلى ولد فاطمة رضي اللّه عنهم،و كاتب جماعة منهم،فتأخّروا عنه.
و ساء ظنّ بني العبّاس به،فاحتالوا حتى أخرجوا مولى لهم أسود كان معهم في السرداب،و قالوا له:اعرف لنا الأخبار،فعاد إليهم،و عرّفهم أنّ قحطبة غرق،و أنّ ابن هبيرة انهزم،و أنّ ابني قحطبة قد دخلا الكوفة بالعسكر منذ كذا و كذا.
فقالوا:أخرج و تعرّض لابني قحطبة،و أعلمهما بمكاننا،و مرهما بأن يكبسا الدار علينا و يخرجانا.
فخرج المولى،و كان حميد بن قحطبة (1)عارفا به،فتعرّض له،فلمّا رآه أعظم رؤيته،و قال:ويلك ما فعل سادتنا،و أين هم؟فخبّره بخبرهم،و أدّى إليه رسالتهم.
فركب في قطعة من الجيش،و أبو سلمة غافل،فجاء حتى ولج الدار، و أراه الأسود السرداب،فدخل و معه نفر من الجيش،فقال:السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته.
فقالوا:و عليكم السلام.
فقال:أيّكم ابن الحارثيّة؟و كانت أمّ أبي العبّاس عبد اللّه بن محمّد بن
ص:273
علي بن عبد اللّه،و كان إبراهيم بن محمّد-الذي يقال له الإمام (1)-لمّا بثّ الدّعاة،قال لهم:إن حدث بعدي حدث،فالإمام ابن الحارثيّة الذي معه العلامة،و هي:(و نريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض،و نجعلهم أئمة،و نجعلهم الوارثين،و نمكّن لهم في الأرض،و نري فرعون و هامان و جنودهما منهم ما كانوا يحذرون (2)).
قال:فلمّا قال ابن قحطبة:أيّكم ابن الحارثيّة؟ابتدره أبو العبّاس، و أبو جعفر،كلاهما يقول:أنا ابن الحارثيّة (3).
فقال ابن قحطبة:فأيّكما معه العلامة؟فقال أبو جعفر:فعلمت أنّي قد أخرجت من الأمر،لأنّه لم يكن معي علامة.
فقال أبو العبّاس:و نريد أن نمنّ...و تلا الآية.
فقال له حميد بن قحطبة:السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته، مدّ يدك أبايعك،فبايعه.
ثم انتضى سيفه،و قال:بايعوا أمير المؤمنين،فبايعه أخوته،و بنوا عمّه، و عمومته،و الجماعة الذين كانوا معه في السرداب.
و أخرجه إلى المنبر بالكوفة،و أجلسه عليه،فحصر (4)أبو العبّاس عن الكلام، فتكلّم عنه عمّه داود بن علي (5)،فقام دونه على المنبر بمرقاة،و جاء أبو سلمة
ص:274
[73 ن]،و قد استوحش و خاف.
فقال حميد:يا أبا سلمة،زعمت أنّ الإمام لم يقدم بعد؟فقال أبو سلمة:
إنّما أردت أن أدافع بخروجهم إلى أن يهلك مروان،فإن كانت له كرّة لم يكونوا قد عرفوا فيهلكوا،و إن هلك مروان أظهرت أمرهم على ثقة.
فأظهر أبو العبّاس قبول هذا العذر منه،و أقعده إلى جانبه،ثم دبّر عليه بعد مدّة حتى قتله (1).
و قد روي هذا الخبر على غير هذا السياق،فقالوا:
قدم أبو العبّاس السفّاح و أهله على أبي سلمة سرّا،فستر أمرهم،و عزم على أن يجعلها شورى بين ولد عليّ و العبّاس،حتى يختاروا منهم من أرادوا.
ثم خاف أن لا يتّفق على الأمر فعزم على أن يعدل بالأمر إلى ولد الحسن و الحسين رضي اللّه عنهم،و هم ثلاثة:جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين، و عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي،و عمر بن علي بن الحسين.
و وجّه بكتب إليهم مع رجل من مواليهم من ساكني الكوفة.
فبدأ بجعفر بن محمّد،فلقيه ليلا،فأعلمه أنّه رسول أبي سلمة،و أنّ معه كتابا إليه.
فقال:ما أنا و أبو سلمة،و هو شيعة لغيري؟
فقال له الرسول:تقرأ الكتاب،و تجيب عنه بما رأيت.
فقال جعفر لخادمه،قرّب منّي السراج،فقرّبه،فوضع عليه كتاب أبي سلمة،فأحرقه.
فقال:أ لا تجيب عنه؟
ص:275
فقال:الجواب ما رأيت.
ثم أتى عبد اللّه بن الحسن،فقبل كتابه،و ركب إلى جعفر.
فقال جعفر:مرحبا بك أبا محمّد،لو أعلمتني لجئتك.
فقال:إنّه أمر يجلّ عن الوصف.
فقال:و ما هو؟
قال:هذا كتاب أبي سلمة يدعوني فيه إلى الأمر،و يراني أحقّ الناس به، و قد جاء به شيعتنا من خراسان.
فقال له جعفر:و متى صاروا شيعتك؟أنت وجّهت أبا مسلم إلى خراسان، و أمرته بلبس السواد؟أ تعرف أحدا منهم باسمه و نسبه؟
قال:لا.
قال:كيف يكونون شيعتك،و أنت لا تعرف أحدا منهم،و لا يعرفونك؟
فقال عبد اللّه:هذا الكلام كان منك لشيء.
فقال جعفر:قد علم اللّه تعالى أنّي أوجب النصح على نفسي لكلّ مسلم، فكيف أدّخره عنك،فلا تمنّينّ نفسك الأباطيل،فإنّ هذه الدولة ستتمّ لهؤلاء القوم،و ما هي لأحد من ولد أبي طالب،و قد جاءني مثل ما جاءك.
فانصرف غير راض بما قاله له.
و أمّا عمر بن علي بن الحسين،فردّ عليه الكتاب،و قال:لا أعرف من كتبه (1).
قال:و أبطأ أبو سلمة على أبي العبّاس و من معه،فخرج أصحابه يطوفون بالكوفة،فلقي حميد بن قحطبة،و محمّد بن صول (2)أحد مواليهم،فعرفاه،
ص:276
لأنّه كان يحمل إليهم كتب محمّد بن علي (1)و إبراهيم بن محمّد،فسألاه عن الخبر،فأعلمهما أنّ القوم قد قدموا،و أنّهم في سرداب يعرف ببني أود، فصارا إلى الموضع،فسلّما عليهم.
و قالا:أيّكما عبد اللّه؟
فقال المنصور و أبو العبّاس:كلانا عبد اللّه.
فقال:أيّكما ابن الحارثية؟
فقال أبو العبّاس:أنا.
فقالا:السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته،و دنوا فبايعوه.
و أحضروه إلى المسجد الجامع،فصعد على المنبر،فحصر،و تكلّم عنه عمّه داود بن علي،و قام دونه بمرقاة (2).
ص:277
أمير البصرة العبّاسيّ يحمي أمويّا
[أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين،المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني أحمد بن عبد العزيز،قال:حدّثنا عمر بن شبّة،قال:حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن عمرو،قال:أخبرني،] (1)طارق بن المبارك عن أبيه،قال:
جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة (2)،فقال لي:يقول لك عمرو:قد جاءت هذه الدولة و أنا حديث السنّ،كثير العيال،منتشر الأموال، فما أكون في قبيلة إلاّ و شهر أمري،و قد عزمت على أن أفدي حرمي بنفسي،و أنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي (3)،فصر إليّ.
فوافيته،فإذا عليه طيلسان مطبق أبيض (4)،و سراويل و شي مشدود (5).
ص:278
فقلت:سبحان اللّه،ما تصنع الحادثة بأهلها،أيّها الإنسان تلقى هؤلاء القوم الذين تريد لقاءهم و عليك مثل هذا؟
قال:و اللّه،ما ذهب عليّ ذلك،و لكن ليس عندي ثوب،إلاّ و هو أشهر من هذا.
فأعطيته طيلساني،و أخذت طيلسانه،و لويت سراويله إلى ركبته،فدخل، ثم خرج مسرورا.
فقلت:حدّثني بما جرى بينك و بين الأمير.
قال:دخلت إليه،و لم يرني قط،فقلت:أيّها الأمير،لفظتني البلاد إليك،و دلّني فضلك عليك،فإمّا قبلتني غانما،و إمّا رددتني سالما.
فقال:من أنت؟فانتسبت إليه.
فقال:مرحبا،أقعد فتكلّم،غانما مسرورا،ثم اقبل عليّ،و قال:ما حاجتك يا ابن أخي؟
فقلت:إنّ الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهنّ،قد خفن بخوفنا،و من خاف خيف عليه.
فو اللّه ما أجابني إلاّ بدموعه تسيل على خدّيه،و قال:يا ابن أخي،يحقن اللّه دمك،و يحفظك في حرمك،و يوفّر عليك مالك،و اللّه،لو أمكنني ذلك في جميع أهلك لفعلت،و لكن كن متواريا كظاهر،و آمنا كخائف،و لتأتني رقاعك.
قال:و كان-و اللّه-يكتب إليه كما كان يكتب الرجل إلى ابن عمّه (1).
ص:279
قال:فلمّا فرغ من كلامه،رددت عليه طيلسانه،فقال:مهلا،إنّ ثيابنا إذا خرجت عنّا،لم تعد إلينا (1).
و وجدت هذا الخبر،بإسناد ليس هو لي،برواية عن العتبي (2)،قال:
حدّثنا طارق بن المبارك الذرّاع البصري-و لم يتجاوزه (3)-قال:
قدم جدّك عمرو بن معاوية البصرة،حين نكب بنو أميّة،قال:فجعل لا ينزل بحيّ،إلاّ أجهروه و اشتهر.
فقال لي:اذهب بنا أضع يدي في يد هذا الرجل،يعني سليمان بن علي، و ذكر نحوه.
و قال في آخره:فلمّا صار عمرو إلى منزله،دفعت إليه ثوبه،و طلبت ثوبي،فردّهما عليّ جميعا،و قال:إنّا لم نأخذ ثوبك لنحبسه،و لم نعطك ثوبنا لتردّه (4).
ص:280
عبد الملك بن مروان
يؤمّن ابن قيس الرقيّات و يحرمه العطاء
[أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين،المعروف بالأصبهاني،إجازة في كتابه:
الأغاني الكبير،قال:أخبرني أبو عبد اللّه محمّد بن العبّاس اليزيدي،و أبو عبد اللّه[74 ن]الحرمي بن أبي العلاء و غيرهما،قالوا:حدّثنا الزبير بن بكّار، قال:حدّثنا عبد اللّه بن البصير البربري،مولى قيس بن عبد اللّه بن الزبير، عن أبيه،قال:] (1)قال عبيد اللّه بن قيس الرقيّات (2):
خرجت مع مصعب بن الزبير،حين بلغه خروج عبد الملك بن مروان، فلمّا نزل مصعب مسكن (3)،و تبيّن الغدر ممن معه،دعاني،و دعا بمال،فملأ المناطق منه،و ألبسنيها.
و قال:امض حيث شئت،فإنّي مقتول.
فقلت:لا و اللّه،لا أروح حتى آتي سبيلك،فأقمت معه حتى قتل (4).
و مضيت إلى الكوفة،فأوّل بيت دخلته إذا فيه امرأة معها بنتان كأنّهما
ص:281
ظبيتان،فرقيت في درجة لها إلى مستشرف،فقعدت فيه.
قال:فأصعدت لي ما أحتاج إليه من الطعام،و الشراب،و الفرش،و الماء، و الوضوء.
فأقمت كذلك عندها أكثر من حول،تقوم بكلّ ما يصلحني،و تغدو عليّ في كلّ صباح،فتسألني عن حوائجي،فما سألتني من أنا،و لا أنا سألتها من هي؟و أنا في أثناء ذلك أسمع الصياح فيّ،و الجعل (1).
فلمّا طال بي المقام،و فقدت الصياح و الجعل،و غرضت (2)بمكاني،جاءت إليّ في الصباح تسألني الحاجة،فأعلمتها أني قد غرضت بموضعي،و أحببت الشخوص إلى أهلي.
فقالت لي:يأتيك ما تحتاج إليه إن شاء اللّه تعالى.
قال:فلمّا أمسيت،و ضرب الليل برواقه،رقت إليّ،و قالت:إن شئت
فنزلت،و قد أعدّت راحلتين،عليهما جميع ما أحتاج إليه،و معهما عبد، و أعطت العبد نفقة الطريق،و قالت:العبد و الراحلتان لك.
فركبت،و ركب معي العبد،حتى أتيت مكّة،فدققت باب منزلي،فقالوا:
من أنت يا هذا؟
فقلت:عبيد اللّه بن قيس الرقيّات،فولولوا،و بكوا،و قالوا:لم يرتفع طلبك إلاّ في هذا الوقت.
فتوقّفت عندهم حتى أسحرت،و نهضت،فقدمت المدينة،و معي العبد، فجئت إلى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب (3)رضي اللّه عنهم،و هو يعشّي
ص:282
أصحابه،فجلست معهم،و جعلت أتعاجم،و أقول:بناريناواي طيّار (1).
فلمّا خرج أصحابه،كشفت له عن وجهي،فقال:ابن قيس؟
فقلت:عائذا بك.
فقال:ويحك،ما أجدّهم في طلبك،و أحرصهم على الظفر بك، و لكنّي أكتب إلى أمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان-و هي زوجة الوليد بن عبد الملك-و عبد الملك أرقّ شيء عليها.
فكتب إليها يسألها التشفّع إلى عمّها عبد الملك.
فلمّا وصلها الكتاب،دخلت على عمّها،فسألها:هل من حاجة؟
قالت:نعم،لي حاجة.
فقال:قد قضيت كلّ حاجة لك،إلاّ ابن قيس الرقيّات.
فقالت:لا تستثنينّ عليّ.
فنفح بيده،فأصاب حرّ وجهها (2)،فوضعت يدها على خدّها.
فقال لها:أرفعي يدك،فقد قضيت كلّ حاجة لك و إن كانت ابن قيس الرقيّات.
فقالت:حاجتي أن تؤمّنه،فقد كتب إليّ يسألني أن أسألك ذلك.
قال:هو آمن،فمريه يحضر المجلس العشيّة.
فحضر،و حضر الناس-حين بلغهم-مجلس عبد الملك.
قال:فأخّر الإذن لابن قيس،و أذن للناس،فدخلوا،و أخذوا مجالسهم، ثم أذن له.
فلمّا دخل عليه،قال عبد الملك:يا أهل الشام أ تعرفون من هذا؟
قالوا:لا.
ص:283
قال:هذا ابن قيس الرقيّات،الذي يقول:
كيف نومي على الفراش و لمّا تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه و تبدي عن خدام (1)العقيلة العذراء
فقالوا:يا أمير المؤمنين،إسقنا دم هذا المنافق.
قال:الآن،و قد أمّنته،و صار في منزلي و على بساطي؟قد أخّرت الإذن له لتقتلوه،فلم تفعلوا.
فاستأذنه ابن قيس،أن ينشده مديحه،فأذن له،فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
عاد له من كثيرة الطرب فعينه بالدموع تنسكب
[كوفيّة نازح محلّتها لا أمم دارها و لا صعب] (2)
و اللّه ما إن صبت إليّ و لا يعرف بيني و بينها نسب
إلاّ الذي أورثت كثيرة في القل ب و للحبّ سورة عجب
حتى قال فيها:
إنّ الأغرّ الذي أبوه أبو ال عاص عليه الوقار و الحجب
يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنّه الذهب
فقال له عبد الملك:يا ابن قيس،تمدحني بالتاج،كأنّي من العجم، و تقول في مصعب ابن الزبير:
إنّما مصعب شهاب من اللّ ه تجلّت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رأفة ليس فيه جبروت منه و لا كبرياء
ص:284
أمّا الأمان فقد سبق لك،و لكن-و اللّه-لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا (1).
و أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،عن حمّاد بن إسحاق،عن أبيه:
أنّ عبيد اللّه بن قيس الرقيّات،منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال،و طلبه ليقتله،فاستجار بعبد اللّه بن جعفر،و قصده،فالتقاه نائما.
و كان ابن قيس صديقا لسائب خاثر (2)،فطلب الإذن على ابن جعفر، فتعذّر،فجاء بسائب خاثر ليستأذن له.
قال سائب خاثر:فجئت من قبل رجلي عبد اللّه بن جعفر،و نبحت نباح الجرو الصغير،فانتبه و لم يفتح عينيه،و رفسني برجله.
قال:فدرت إلى عند رأسه،و نبحت نباح الكلب الهرم،فانتبه و فتح عينيه.
فقال:مالك،ويلك؟
فقلت:عبيد اللّه بن قيس الرقيّات بالباب.
فقال:ائذن له،فأذنت له،و دخل،فرحّب به عبد اللّه و قرّبه،فعرّفه ابن قيس خبره.
فدعا بظبية (3)فيها دنانير،و قال لي:عدّ له ما فيها.
فجعلت أعدّ له،و أطرّب،و أحسّن صوتي بجهدي،حتى عددت له ثلثمائة دينار،و سكتّ.
فقال عبد اللّه:لماذا سكتّ،ويلك؟ما هذا وقت قطع الصوت الحسن.
ص:285
فجعلت أعدّ ما في الظبية،و فيها ثمانمائة دينار،فدفعها إليه.
فلمّا قبضها التفت إلى ابن جعفر،و قال له:تسأل أمير المؤمنين في أمري؟
قال:نعم،إذا دخلت عليه،ثم إنّه دعا له بطعام،فأكل أكلا فاحشا، و ركب ابن جعفر،فدخل معه إلى عبد الملك،فلمّا قدّم الطعام جعل يسيء الأكل.
فقال عبد الملك،لابن جعفر:من هذا؟
قال هذا رجل لا يجوز أن يكون كاذبا إن استبقي،و إن قتل كان أكذب الناس.
قال:كيف؟قال:لأنّه يقول:
ما نقموا سن بني أميّة إلاّ أنّهم يحلمون إن غضبوا
فإن قتلته بغضبك عليه أكذبكم فيما مدحكم به.
قال:فهو آمن،و لكن لا أعطيه عطاء من بيت المال.
قال:أحبّ أن تهب لي عطاءه،كما وهبت لي دمه.
قال:قد فعلت،و أمر له بذلك (1).
ص:286
هشام بن عبد الملك و حمّاد الراوية
عن حمّاد الراوية (1)،قال:
كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك (2)،جعل هشام (3)يجفوني دون سائر أهله من بني أميّة،في أيّام يزيد.
فلمّا مات يزيد،و أفضت الخلافة إلى هشام خفته،و مكثت في بيتي سنة، لا أخرج إلاّ إلى من أثق به من إخواني سرّا.
فلمّا لم أسمع أحدا يذكرني،أمنت،فخرجت فصلّيت الجمعة عند باب الفيل (4)،فإذا بشرطيّين قد وقفا عليّ.
و قالا:يا حمّاد أجب الأمير يوسف بن عمر (5).
فقلت في نفسي:من هذا كنت أحذر،ثم قلت للشرطيّين:هل لكما أن تدعاني آتي بيتي،فأودّع أهلي،وداع من لا يرجع إليهم أبدا،ثم أصير معكما؟
فقالا:ما إلى ذلك سبيل.
فاستسلمت في أيديهما،و صرت إلى الأمير و هو في الإيوان الأحمر، فسلّمت عليه،فرد عليّ السلام،و رمى إليّ كتابا فيه:بسم اللّه الرحمن الرحيم،
ص:287
من عبد اللّه هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر،أمّا بعد،فإذا قرأت كتابي هذا،فابعث إلى حمّاد الراوية من يأتيك به من غير أن يروّع و لا يتعتع (1)، و ادفع إليه خمسمائة دينار،و جملا مهريّا (2)،يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق،
فأخذت الخمسمائة دينار،و إذا جمل مرحول (3)،فجعلت رجلي في الغرز (4)، و سرت اثنتي عشرة ليلة،حتى دانيت دمشق.
و نزلت على باب هشام،و استأذنت عليه،فأذن لي،فدخلت عليه في دار قوراء،مفروشة بالرخام،و بين كلّ رخامتين قضيب ذهب،و حيطانه كذلك،و هشام جالس على طنفسة حمراء،و عليه ثياب خزّ حمر،و قد تضمّخ بالمسك و العنبر،و بين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب،يقلّبه بيده،فتفوح رائحته.
فسلّمت عليه،فردّ عليّ،و استدناني،فدنوت منه،حتى قبّلت رجله.
و إذا جاريتان لم أر مثلهما،في أذن كلّ واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتوقّدان.
قال:أ تدري فيم بعثت إليك؟
قلت:لا.
قال:بعثت إليك بسبب بيت خطر في بالي،لم أدر من قائله.
قلت:و ما هو؟
قال:
و دعوا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق
ص:288
فقلت:هذا يقوله عدّي بن زيد العبادي (1)،في قصيدة له.
قال:أنشدنيها،فأنشدته:
بكّر العاذلون في وضح الصب ح يقولون لي أما تستفيق
و يلومون فيك يا ابنة عبد الّ له و القلب عندكم موثوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها أ عدوّ يلومني أم صديق
و دعوا بالصبوح يوما فجاءت قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين ال ديك صفّى خلالها الراووق (2)
قال:فطرب،ثم قال:أحسنت يا حمّاد،و اللّه،يا جارية:اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي.
و قال:أعد.
فأعدته،فاستخفّه الطرب حتى نزل عن فراشه،ثم قال للجارية الأخرى:
اسقيه،فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي.
فقلت:إن سقيت الثالثة افتضحت.
ثم قال:سل حوائجك.
قلت:كائنة ما كانت؟
ص:289
قال:نعم.
قلت:إحدى الجاريتين.
قال:هما لك بما عليهما و مالهما.
ثم قال للأولى:اسقيه،فسقتني شربة سقطت منها و لم أعقل حتى أصبحت (1)، فإذا بالجاريتين عند رأسي،و إذا عشرة من الخدم مع كلّ واحد منهم بدرة.
و قال لي أحدهم:إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام،و يقول لك:خذ هذا فانتفع به في سفرك.
فأخذتها،و الجاريتين،و انصرفت (2).
ص:290
أكل على مائدته فأمضى له الأمان
عن عبد اللّه بن عمران أبي فروة،قال:كان عبد اللّه بن الحجّاج الثعلبي (1)من أشراف قيس،و كان مع ابن الزبير،فلمّا قتل،دخل عبد اللّه بصفة أعرابيّ على عبد الملك بن مروان ليلا و هو يتعشّى مع الناس (2)،فجلس و أكل معهم، ثم وثب فقال:
منع القرار (3)فجئت نحوك هاربا جيش يجرّ و مقنب يتلمّع
فقال:أيّ الأخابيث أنت؟،فقال:
إرحم أصيبية-هديت-كأنّهم حجل تدرّج بالسريّة جوّع
فقال:أجاع اللّه بطونهم،فأنت أجعتهم،فقال:
ص:291
مال لهم مما يضنّ جمعته يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال:كسب سوء خبيث،فقال:
و لقد وطئت بني سعيد وطأة و ابن الزبير فعرشه متضعضع
و أرى الذين رجوا تراث محمّد أفلت نجومهم و نجمك يسطع
فقال:الحمد للّه على ذلك،فقال:
أدنو لترحمني و تقبل توبتي و أراك تدفعني فأين المدفع؟
فقال:إلى النار،فقال:
ضاقت ثياب الملبسين فأولني عرفا و ألبسني فثوبك أوسع
قال:فرمى إليه بمطرف خزّ كان عليه.
فقال عبد اللّه:أمنت و اللّه.
فقال له عبد الملك:كن من شئت إلاّ عبد اللّه بن الحجّاج.
فقال:أنا-و اللّه-هو،و قد أمّنتني،أكلت طعامك،و لبست ثيابك، فأيّ خوف عليّ.
فقال:ما هداك إلاّ جدّك،و أمضى له الأمان (1).
ص:292
الفضل بن الربيع
يتحدّث عمّا لاقى أيّام استتاره من المأمون
[حدّثني علي بن هشام أبي قيراط الكاتب،بواسط،في سنة اثنتين و ستين و ثلثمائة،من لفظه،قال:حدّثني أبو علي بن مقلة،قبل وزارته الأولى،قال:
حدّثني أبو عيسى محمّد بن سعيد الديناري،عن أبي أيّوب سليمان بن وهب] (1)عن أبي طالوت كاتب ابن طاهر (2)،قال:سمعت الفضل بن الربيع،يقول:
لمّا استترت من المأمون،أخفيت نفسي حتى عن عيالي و ولدي،و كنت أنتقل وحدي.
فلمّا اقترب المأمون من بغداد،ازداد حذري،و خوفي على نفسي،فتشدّدت في الاحتياط و التواري،و أفضيت إلى منزل بزّاز كنت أعرفه في درب بباب الطاق (3)، و شدّد المأمون في طلبي[252 ر][فلم يعرف لي خبرا.
فتذكّرني يوما،فاغتاظ على إسحاق بن إبراهيم،و جدّ به في طلبي، فأغلظ له] (4)،فخرج إسحاق من حضرته،و جدّ بأصحاب الشرط،و أوقع ببعضهم المكاره،و نادى في الجانبين (5)،من جاء به فله عشرة آلاف درهم و إقطاع غلّته
ص:293
ثلاثة آلاف دينار في السنة،و إنّ من وجد عنده بعد النداء ضرب خمسمائة سوط و هدمت داره و أخذ ماله و حبس طول الدهر،فنودي بذلك عشيّا.
فما شعرت،إلاّ و صاحب الدار قد دخل عليّ و أخبرني الخبر،و قال:
و اللّه،ما أقدر بعد هذا على سترك،و لا آمن من زوجتي،و جاريتي،و غلامي، و أن تشره نفوسهم إلى المال،فيدلّون عليك،و أهلك بهلاكك،و إن صفح الخليفة عنك،لم آمن من أن تتّهمني بأنّي دللت عليك،فيكون ذلك أقبح و أشنع، و ليس الرأي لي و لك إلاّ أن تخرج عنّي.
فورد عليّ ذلك أعظم مورد،و قلت:إذا جاء الليل خرجت عنك.
قال:و من يطيق الصبر على هذا الضرر إلى الليل،فإنّك إن وجدت عندي قبل الليل أهلكتني و أهلكت نفسك،و هذا وقت حارّ،و قد طال عهد الناس بك،فقم و تنكّر[269 غ]و اخرج.
فقلت:كيف أتنكّر؟
فقال:تأخذ أكثر لحيتك،و تغطّي رأسك و بعض وجهك،و تلبس قميصا ضيّقا،و تخرج.
فقلت:أفعل.
فجاء بمقراض فأخذت أكثر لحيتي،و تنكّرت،و خرجت من عنده في أوّل أوقات العصر،و أنا ميّت خوفا.
فمشيت في الشارع،حتى بلغت الجسر،فوجدته قد رشّ،و هو خال من الناس،متزلّق.
ص:294
فلمّا توسّطته،إذا أنا بفارس من الجند الذين كانوا في داري في أيّام وزارتي (1)، قد قرب منّي،فعرفني،و قال:طلبة أمير المؤمنين،و عدل إليّ ليقبض عليّ.
فلحلاوة النفس دفعته و دابّته،فزلق،و وقع في بعض السفن التي في الجسر، و تعادى الناس لخلاصه،و ظنّوا أنّه زلق بنفسه.
و تشاغل عنّي بهم،و زدت أنا في المشي،و لم أعد لئلاّ ينكر حالي من يراني، إلى أن عبرت الجسر و دخلت درب سليمان (2).
فوجدت امرأة على باب دار مفتوح،فقلت لها:يا امرأة،أنا خائف من القتل،فأجيريني و احقني دمي.
فقالت:ادخل،و أومأت إلى غرفة،فصعدتها.
فلمّا كان بعد ساعة،إذا بالباب يدقّ،ففتحته،و إذا زوجها قد دخل، فتأمّلته،فإذا هو صاحبي على الجسر،و هو مشدود الرأس يتأوّه من شجّة [75 ن]لحقته،و ثيابه مغموسة بالدم.
و سألته المرأة عن خبره،فأخبرها بالقصّة،و قال لها:قد زمنت دابّتي و أنفذتها لتباع في سوق اللحم،و قد فاتني الغنى،و جعل يشتمني،و هو لا يعلم بوجودي معه في الدار،و أقبلت المرأة تترفّق به إلى أن هدأ.
فلمّا صلّيت المغرب،و أقبل الظلام،صعدت المرأة إليّ،و قالت:أظنّك صاحب القصّة مع هذا الرجل.
فقلت:نعم.
ص:295
فقالت:قد سمعت ما عنده،فاتّق اللّه في نفسك و اخرج،فدعوت لها.
فنزلت،ففتحت الباب فتحا رفيقا،و قالت:اخرج،و كانت الدرجة في الدهليز،فأفضيت إلى الباب،فلمّا انتهيت إلى آخر الدرب وجدت الحرّاس قد أغلقوه،فتحيّرت.
ثم رأيت رجلا يفتح بابا بمفتاح روميّ،فقلت:هذا روميّ،و هو ممن يقبل مثلي.
فدنوت منه و قلت:أسترني،سترك اللّه.
فقال:ادخل،فدخلت،فرأيته رجلا فقيرا وحيدا،فأقمت ليلتي عنده، و بكّر من غد،و عاد نصف النهار و معه حمّالان يحمل أحدهما حصيرا و مخدّة، و جرار،و كيزان،و غضائر جددا،و قدرا جديدا،و يحمل الآخر خبزا و فاكهة، و لحما،و ثلجا،فدخل،و ترك ذلك كلّه عندي،و أغلق الباب.
فنزلت،و عذلته (1)،و قلت له:لم كلّفت نفسك هذا؟
فقال:أنا رجل مزيّن (2)،و أخاف أن تستقذرني،و قد أفردت لك هذا، فاطبخ أنت و أطعمني[253 ر]في غضارة أجيء بها من عندي،فشكرته على ذلك،و أقمت عنده ثلاثة أيّام.
فلمّا كان آخر اليوم الثالث،ضاق صدري،فقلت له:يا أخي الضيافة ثلاثة أيّام،و قد أحسنت و أجملت،و أريد الخروج.
فقال:لا تفعل،فإنّي وحيد،و لست ممن يطرق،و خبرك لا يخرج من عندي أبدا،فأقم إلى أن يفرّج اللّه عنك[270 غ]،فلست أتثاقل بك.
فأبيت للحين (3)،و خرجت على وجهي أريد منزل عجوز[بباب التبن] (4)من
ص:296
موالينا،فدققت الباب عليها،فخرجت،فلمّا رأتني بكت،و حمدت اللّه على رؤيتي،و أدخلتني الدار.
فلمّا كان في السحر،و أنا نائم،بكرت العجوز فغمزت عليّ بعض أصحاب إسحاق بن إبراهيم،فما شعرت إلاّ بإسحاق نفسه،في خيله و رجله،قد أحاط بالدار،ثم كبسها و استخرجني منها،حتى أوقفني بين يدي المأمون حافيا حاسرا.
فلمّا رآني سجد طويلا ثم رفع رأسه،و قال:يا فضل،أتدي لم سجدت؟
فقلت:نعم،شكرا للّه تعالى الذي أظفرك بعدوّ دولتك،المغري بينك و بين أخيك.
قال:ما أردت هذا،و لكنّي سجدت شكرا للّه على ما ألهمنيه من العفو عنك،فحدّثني بخبرك؟فشرحته له من أوّله إلى آخره.
فأمر بإحضار العجوز مولاتنا،و كانت في الدار تنتظر الجائزة،فقال لها:
ما حملك على ما فعلت،مع إنعامه و إنعام أهله عليك؟
قالت:رغبة في المال.
قال:هل لك زوج أو ولد أو أخ؟
قالت:لا،فأمر بضربها مائة سوط،و تخليدها في السجن.
ثم قال لإسحاق:أحضر الساعة الجندي،و امرأته،و المزيّن،فحضروا في مجلس واحد،فاستثبتني فيهم،فعرّفته أنّهم القوم بأعيانهم.
فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على فعله،فقال:الرغبة في المال،
ص:297
و و اللّه،إنّه الذي أثبتني في الجيش،و لكنّي رغبت في المال العاجل.
فقال:أنت بأن تكون حجّاما أولى بأن تكون من أوليائنا،و أمر بأن يسلم للمزيّنين في الدار،و يوكّل به من يعسفه حتى يتعلّم الحجامة.
و أمر باستخدام زوجته قهرمانة في دور حرمه،و قال:هذه المرأة عاقلة أديبة.
و أمر بتسليم دار الجندي و قماشه إلى المزيّن،و أن يجعل رزقه له،و يجعل جنديّا مكان ذلك الجندي،و أطلقني إلى داري.
فرجعت إليها آخر النهار،آمنا،مطمئنّا (1).
و وجدت الخبر بخلاف هذا في كتاب الوزراء لابن عبدوس،فإنّه ذكر:
أنّ الفضل ابن الربيع استتر،فطال استتاره،و استعجمت عليه الأخبار، فغيّر زيّه،و خرج في السحر،و كان استتر بناحية الحربيّة من الجانب الغربي (2).
فمشى و هو لا يدري أين يقصد،لحيرته،و بعد عهده بالطرق،فأدّاه المشي إلى الجسر،و قد أسفر الصبح،فأيقن بالعطب،و قصد منزلا لرجل كانت بينه و بينه مودّة،بسويقة نصر (3).
فلمّا صار ببعض المشارع،سمع النداء عليه،ببذل عشرة آلاف درهم، فتخفّى حتى جاوزه الركبان و المنادي،و مشى.
فرآه رجل،فانتبه له،و قال:يا فضل،و كان في أحد جانبي الطريق الذي الفضل فيه،فأمّه إلى الجانب الذي كان فيه،ليقبض عليه،فاعترضته
ص:298
حمير و جمال عليها جصّ.
و نظر الفضل يمينا و شمالا،فلم يجد مذهبا،و بصر بدرب،فدخله،فوجده لا ينفذ،و وجد في صدره بابا مفتوحا،فهجم على المنزل،و فيه امرأة،فاستغاث بها،فأجارته،و بادرت إلى الباب فأغلقته،و ناشدها اللّه أن تستره إلى الليل، فأمرته بالصعود إلى غرفة لها،فلم يستقرّ به القعود حتى دقّ الباب،فلمّا فتح الباب،دخل الرجل الذي رآه،و عزم على القبض عليه،و إذا المنزل له.
فقال لزوجته:فاتني الساعة عشرة آلاف درهم.
قالت له:و كيف ذلك؟
قال لها:مرّ بي الفضل،فمددت يدي لأقبض عليه،فابتلعته الأرض.
فقالت له امرأته:الحمد للّه-عزّ و جلّ-الذي كفاك أمره و أبقى دينك عليك،و لم تكن سببا لسفك دمه،أو مكروه يلحقه.
فلمّا خرج،صعدت إليه،فقالت:قد سمعت،و ما هذا المكان لك بموضع،
فخرج إلى بعض منازل معامليه،فلمّا صار إليه،نبّه العامل عليه،و أسلمه إلى طالبيه،فحمل إلى المأمون،فلمّا رآه،و سأله عن خبره،شرح له قصّته، فأمر للمرأة بثلاثين ألف درهم و قال للرسول:قل لها،يقول لك الفضل:هذا جزاء لك على ما فعلته من الجميل،فردّتها،و أبت قبولها،و قالت:لست آخذ على شيء فعلته للّه عزّ و جلّ،جزاء،إلاّ منه (1).
ص:299
و ما قتل الأحرار كالعفو عنهم
حدّثنا أبو الحسن محمّد بن عمر بن شجاع،المتكلّم البغدادي،الملقّب بجنيد،قال:حدّثنا الفضل بن ماهان السيرافي،و كان مشهورا بسلوك أقاصي بلاد البحر،قال،قال لي رجل من بعض بياسرة الهند،و البيسر هو المولود على ملّة الإسلام هناك،قال:
كان في أحد بلاد الهند ملك حسن السيرة،و كان لا يأخذ و لا يعطي مواجهة، و إنّما كان يقلب يده إلى وراء ظهره.فيأخذ و يعطي بها،إعظاما للملك،و هي سنّة لهم هناك و لأولادهم.
و إنّه توفي،فوثب رجل من غير أهل المملكة،فاحتوى على ملكه[76 ن]، و هرب ابن له كان يصلح للملك خوفا على نفسه من المتغلّب.
و رسوم ملوك الهند،أنّ الملك إذا قام عن مجلسه،لأيّ حاجة عرضت له، كانت عليه صدرة (1)،قد جمع فيها كلّ نفيس و فاخر من اليواقيت و الجواهر، مضروب في الإبريسم في الصدرة،و يكون فيها من الجواهر ما إن[271 غ]لو أراد أن يقيم بها ملكا أقامه.
قال:و يقولون:ليس بملك من إذا قام عن مجلسه و ليست معه،حتى إذا حدثت عليه حادثة و هرب بها أمكنه إقامة ملك منها.
فلمّا حدثت على الملك تلك الحادثة،أخذ ابنه صدرته و هرب بها.
فحكى عن نفسه:أنّه مشى ثلاثة أيّام،قال:و لم أطعم طعاما،و لم تكن معي فضّة و لا ذهب،فأبتاع به مأكولا،و لم أقدر على إظهار ما معي،و أنفت أن أستطعم.
ص:300
قال:فجلست على قارعة الطريق،فإذا رجل هندي،مقبل و على كتفه كارة،فحطّها و جلس حذائي.
فقلت:أين تريد؟
قال:الرستاق (1)الفلاني.
قلت:و أنا الآخر كذلك.
قال؛فنصطحب؟
قلت:نعم.
فصحبته طمعا في أن يعرض عليّ شيئا من مأكوله،فلم يفعل،و لم تطب نفسي أن أبدأه بالسؤال.
فلمّا فرغ قام يمشي،فمشيت معه،و بتّ معه،طمعا في أن تحمله المؤانسة على العرض عليّ،فعمل بالليل كما عمل بالنهار.[254 ر].
قال:و أصبحنا في غد،فمشينا،فعاملني بمثل ذلك أربعة أيّام،فصار لي سبعة أيّام لم أذق فيها شيئا.
فأصبحت في الثامن ضعيفا مهووسا (2)لا قدرة لي على المشي،فعدلت عن الطريق،و فارقت الرجل،فرأيت قوما يبنون،و قيّما عليهم،فقلت للقيّم:
استعملني مثل هؤلاء بأجرة تعطينيها عشيّا.
فقال:نعم،ناولهم الطين.
فقلت:عجّل لي أجرة يوم،ففعل،فابتعت بها ما أكلته.
و قمت أناولهم الطين،فكنت-لعادة الملك-أقلب يدي إلى ظهري و أعطيهم الطين،فكما (3)أذكر أنّ ذلك خطأ ينبّه عليّ و يسفك دمي،أبادر بتلافي ذلك،
ص:301
فأردّ يدي بسرعة من قبل أن يفطنوا بي.
قال:فلمحتني امرأة قائمة،فأخبرت سيّدتها بخبري،و كانت صاحبة البناء،و قالت:لا بدّ أن يكون هذا من أولاد الملوك.
قال:فلمّا انقضى النهار،[و انصرف الصنّاع،فأردت الانصراف معهم] (1).
تقدّمت إلى القيّم أن يحبسني عن المضيّ مع الصنّاع،فاحتبسني.
فجاءتني بالدهن و العروق لأغتسل بهما،و هذا مقدّمة إكرامهم،و سنّة لعظمائهم،فتغسّلت بذلك،و جاءوني بالأرز و السمن و السكّر،فطعمت، و عرضت المرأة عليّ نفسها بالتزويج،فأجبت،و عقدت العقد،و دخلت بها من ليلتي،و أقمت معها أربع سنين،تعطيني من مالها،و تنفق عليّ،و كانت لها نعمة.
فأنا ذات يوم جالس على باب دارها،و إذا برجل من بلدي،فاستدعيته، فجاء،فقلت له:من أين أنت؟
فقال:من بلد كذا و كذا،فذكر بلدي.
فقلت:ما جئت تصنع ها هنا؟
قال:كان فينا ملك،حسن السيرة،فمات،فوثب على ملكه رجل ليس من أهل المملكة،و كان للملك الأوّل ابن يصلح للملك،فخاف على نفسه فهرب،و إنّ الملك المتغيّب أساء عشرة الرعيّة،فوثبنا عليه فقتلناه،و انتشرنا في البلاد نطلب ابن الملك المتوفي،لنجلسه مكان أبيه،فما عرفنا له خبرا.
فقلت:أ تعرفني؟
قال:لا.
قلت:أنا طلبتكم.
قال:و أعطيته العلامات،فعلم صحّة ما قلته له،فكفّر لي (2).
ص:302
فقلت:أكتم أمرنا إلى أن ندخل الناحية.
قال:أفعل.
فدخلت إلى المرأة فأعلمتها بالخبر،و حدّثتها[272 غ]بأمري كلّه، و أعطيتها الصدرة.
و قلت:هذه قيمتها كذا و كذا،و من حالها كذا و كذا،و أنا ماض مع الرجل،فإن كان ما ذكره صحيحا،فإنّ العلامة أن يجيئك رسولي فيذكر الصدرة،فانهضي إليّ،و إن كانت مكيدة كانت الصدرة لك.
قال:و مضى مع الرجل،فكان الأمر صحيحا،فأنفذ إلى زوجته من حملها إليه،فجاءت.
فحين اجتمع شمله،و استقام أمره،أمر البنّائين فبنوا له دار ضيافة عظيمة، و أمر أن لا يجوز في عمله مجتاز إلاّ حمل إليها،فيضاف فيها ثلاثة أيّام،و يزوّد لثلاثة أيّام أخر،فكان يفعل ذلك،و هو يراعي الرجل الذي صحبه في سفره، و يقدّر أن يقع في يده.
فلمّا كان بعد حول،استعرض الناس،و كان يستعرضهم في كلّ يوم (1)، فلا يرى الرجل،فيصرفهم،فلمّا كان في ذلك اليوم،رأى الرجل بينهم.
فحين وقعت عينه عليه،أعطاه ورقة تنبول (2)،و هذه علامة غاية الإكرام،
ص:303
و نهاية رتبة الإعظام،إذا فعله الملك بإنسان من رعيّته(9).
فحين فعل ذلك بالرجل،كفّر له،و قبّل الأرض،فأمر الملك بتغيير حاله،و إحسان ضيافته.
ثم استدعاه،فقال له:أ تعرفني؟
فقال:كيف لا أعرف الملك،و هو من عظم شأنه،و علوّ سلطانه،بحيث هو.
قال:لم أرد هذا،أ تعرفني قبل هذا الحال؟
قال:لا.
فذكّره الملك بالقصّة،و منعه إيّاه من الطعام في السفر.
قال:فبهت الرجل.
فقال الملك:ردّوه إلى الدار،و زيدوا في إكرامه،و حضر الطعام فأطعم.
فلمّا اراد النوم،قال الملك لزوجته:إذهبي إلى هذا الرجل فاغمزيه (1).
قال:فجاءت المرأة،فلم تزل تغمزه إلى أن نام،فجاءت إلى الملك،
ص:304
و قالت:إنّه قد نام.
قال:ليس هذا نوم،حرّكوه،فحرّكوه،فإذا هو ميت.
قال:فقالت له[255 ر]المرأة:أيّ شيء هذا؟
قال:فساق لها حديثه معه،و قال:وقع في يدي،فتناهيت في إكرامه، و الهند لهم أكباد عظيمة،و أفهام طريفة،فأدخلت عليه حسرة عظيمة إذ لم يحسن إليّ،فقتلته،و قد كنت أتوقّع موته قبل هذا بما توهّمه و استشعره من العلّة في نفسه،لفرط الحسرة (1).
ص:305
فيمن نالته شدّة في هواه،فكشفها اللّه عنه و ملّكه من يهواه
رأى القطع خيرا من فضيحة عاتق
حدّثنا أبو بكر محمّد بن بكر البسطامي،غلام[287 غ]ابن دريد و صهره،قال:حدّثنا أبو محمّد الحسن بن دريد،قال:حدّثنا أحمد بن عثمان العلى (1)عن أبي خالد عن الهيثم بن عديّ،قال:
كان لعمرو بن دويرة السحيمي (2)أخ قد كلف بابنة عمّ له كلفا شديدا، و كان أبوها يكره ذلك و يأباه.
فشكاه إلى خالد بن عبد اللّه القسري،أمير العراق،أنّه يسيء جواره، فحبسه،ثم سئل خالد في أمر الفتى،فأطلقه،فبقي الفتى كلفا بابنة عمّه، و هو ناء عنها مدّة.
ثم زاد ما في نفسه،فحمله الحبّ على أن تسوّر الجدار عليها،و حصل معها.
ص:306
فأحسّ به أبوها،فقبض عليه،و أتى به خالد بن عبد اللّه،و ادّعى عليه اللصوصيّة،و أتاه بجماعة شهدوا على أنّهم وجدوه في بيته ليلا،قد دخل للتلصّص.
فسأل خالد الفتى،فاعترف أنّه دخل[87 ن]ليسرق،و ما سرق شيئا، يدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمّه،فأراد خالد أن يقطعه.
فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها:
أخالد قد-و اللّه-أوطيت عشوة
و ما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقرّ بما لم يأته غير أنّه (1)
رأى القطع خيرا من فضيحة،عاتق (2)
و مثل الذي في قلبه حلّ قلبها
فمنّ لتجلو الهمّ عن قلب عاشق (3)[264 ر]
و لو لا الذي قد خفت من قطع كفّه
لألفيت في أمريهما غير ناطق
إذا مدّت الغايات للسبق في العلى
فأنت ابن عبد اللّه أوّل سابق[234 م]
قال:فأرسل خالد مولى له يسأل عن الخبر،و يفحص جليّة الأمر، فأتاه بصحيح ما قاله عمرو في شعره.
فأحضر أبا الجارية،و أمره بتزويجها من الفتى،فامتنع،و قال:ليس هو كفء لها.
ص:307
فقال له خالد:و اللّه،إنّه لكفء لها،إذ بذل يده عنها،و إن لم تزوّجه طائعا لأزوّجنّه و أنت كاره.
فزوّجه العم،و ساق خالد المهر من عنده،فكان يسمّى العاشق،إلى أن مات. (1)
وجدت في كتاب العمرين،لمحمد بن داود الجرّاح الكاتب، (2)و هو رسالة كتب بها إلى أبي أحمد يحيى بن علي بن المنجم (3)،فيمن يسمّى من الشعراء:
عمرا،فقال:
عمرو بن دويرة البجلي،سحيمي،كوفي،أخبرني أحمد بن أبي علقمة (4)، عن دعيل بن علي،و ذكر أبو طالب بن سوادة،عن محمّد بن الحسن الجعفري، عن الحسن بن يزيد القرشي (5)،عن أبي بكر الوالبي،قال:
كان لعمرو بن دويرة،أخ قد كلف بابنة عمّ له...و ذكر نحوه،إلاّ أنّه أتى في الشعر بزيادة بيت،و هو بعد البيت الذي أوّله:أقرّ بما لم يأته:
و مثل الذي في قلبه حلّ قلبها فكن أنت تجلو الهم عن قلب وامق
[و أخبرنيه محمّد بن الحسن بن المظفّر،قال:أخبرني محمّد بن الحسن القرشي (6)،قال:أخبرني الحرمي بن أبي العلاء،عن الزبير بن بكّار،فذكره مع البيت الزيادة.] (7)
ص:308
دخل أبو عبد اللّه البريدي بغداد،متقلّدا الوزارة الثانية للمتّقي،قبض عليه و أحدره للبصرة.
فلمّا وردها البريديّ منهزما،أطلقه،و أحسن إليه،و أمرني بإنزاله بالقرب منّي،و إيناسه بملازمتي،و افتقاده بالدعوات،ففعلت،فكنّا متلازمين لا نكاد نفترق.
و وجدته أحلى الناس حديثا،و أحسنهم أدبا،و أعمّهم فضلا،و لم أر قطّ أشدّ تغزّلا،و لا تهالكا في العشق منه.
فحدّثني يوما،قال:عشقت مغنّية في القيان عشقا شديدا،فراسلت مولاتها في بيعها،فاستامت فيها ثلاثة آلاف دينار.
و كنت أعرف من نفسي الملل،فخشيت أن أشتريها فأملّها،فدافعت بذلك، و مضت أيّام،[و كانت هي تأتي إلى عندي،و كان يمضي لي معها أطيب عيش]. (1)
فانصرفت من عندي يوما،و كان المقتدر باللّه أمر أن تشترى له مغنّيات، و أنا لا أعلم،و كانت الجارية حسنة الوجه جيّدة الغناء،فحملت إلى المقتدر في جملة جوار،فأمر بشرائهنّ كلّهنّ،فاشتريت في جملتهنّ.
و أنفذت من غد أستدعيها من سيّدتها،فأخبرت بالخبر،فقامت عليّ القيامة،و دخل إلى قلبي من الألم،و الاحتراق،و القلق،أمر ما دخل مثله قطّ في قلبي،فضلا عن عشق (2).
و زاد الأمر عليّ،حتى انتهى بي إلى حدّ الوسواس،فامتنعت عن النظر في أمر داري،و تشاغلت بالبكاء،و لم يكن لي سبيل إلى العزاء.
ص:310
و كنت أكتب-حينئذ-لأمّ المتّقي للّه،و هو حدث،فتأخّرت عنهم أيّاما،و أخللت بأمرهما،و أنا متوفّر تلك الأيّام على الطواف في الصحاري، لا آكل،و لا أشرب،و لا أتشاغل بأكثر من البكاء و الهيمان.
فأنكر المتّقي و أمّه تأخرّي،فاستدعاني المتّقي،و خاطبني في شيء من أمره، فوجدني لا أعقل و لا أحصّل ما يقوله،و لا أفهمه.
فسألني عن سبب اختلالي،فصدقته،و بكيت بين يديه،و سألته أن يسأل أباه بيع الجارية عليّ،أو هبتها لي.
فقال:ما أجسر على هذا.
قال:و زاد عليّ الأمر،و بطلت.
و بلغ أمّ المتّقي الخبر،فراسلتها أسألها مثلما سألت ابنها،فرثت لي،و حملت نفسها على أن خاطبت السيّدة أمّ المقتدر في أمري.
فقالت لها أمّ المقتدر:ما العجب من الرجل،فإنّ الذي في قلبه من العشق قد أعماه عن الرأي[235 م]بل العجب منك،كيف وقع لك أنّه يجوز أن يقول أحد للخليفة:إنزل عن جاريتك لرجل يعشقها.
فراسلتني أمّ المتّقي بما جرى،فزاد ما بي من القلق.
و كنت لا ألقى أحدا من الرؤساء في الدولة،كالوزير،و حاشية الخليفة، إلاّ و أقصدهم،و أبكي بين أيديهم،و أحدّثهم حديثي،و أسألهم مسألة الخليفة في تسليم الجارية إليّ،إمّا ببيع،أو هبة.
فمنهم من ينكر عليّ و يوبّخني،و منهم من يرثي لي و يعذرني،و منهم من يشير عليّ بالإمساك،و منهم من يقول:إذا علم الخليفة هذا،و أنّك تتعرّض لحرمه، كان في[289 غ]هذا إتلاف نفسك،و أنا ملازم أبوابهم،و تركت خدمة صاحبي.
إلى أن طال عليّ الأمر[و على المتّقي و أمّه،لعدم ملازمتي الباب](4)و وضعت
ص:311
من محلّي،و بطل أمر داري وضيعتي،و أمور صاحبي.
إلى أن طال هذا على المتّقي و أمّه،فطلبا كاتبا يصرفاني به.
و بلغني الخبر،و قد كنت أيست من الجارية،فعذلت نفسي،و قلت:
ليس بعد هذا الصرف إلاّ الفقر و النكبة،و ذهاب الخير و النفس،و لو كنت اشتريت هذه الجارية،لكنت الآن قد مللتها،فلم أفقر نفسي،و لم أقطع تصرفي؟
و أقبلت أعظ نفسي،و أسلّيها ليلتي كلّها،إلى أن طاوعتني على الصبر [265 ر].
و باكرت دار المتّقي،و بدأت في النظر في أموره،و رأوا منّي خلاف ما تقدّم،فسرّوا بذلك،و قالوا:أنت أحبّ إلينا من الغريب نستأنفه،فضمنت لهم الملازمة و تمشية الأمور.
فأقمت على ذلك مدّة،ثم اشتقت إلى الشرب،و قد كنت فقدته و هجرته منذ فقدت الجارية إلى ذلك اليوم.
فقلت للغلام:قم،امض،و أصلح لنا مجلسا للشرب،و ادع أصحابنا [أعني أصدقائي الذين يعاشرونني،للرواح إليّ،و لا تدع غناء،فلمّا انقضى شغلي عدت إلى داري،و اجتمع أصدقائي،فصوّبوا رأيي] (1)،و جلسنا نشرب، و نتحدّث،[88 ن]،و نلعب بالشطرنج (2).
فقالوا:لو دعوت لنا مغنّيا.
فقلت:أخاف أن أذكر به أمري مع الجارية.
فجلسوا عندي إلى أن صلّيت العشاء الآخرة،و انصرفوا،و جلست وحدي أشرب القدح بعد القدح إلى أن مضت قطعة من الليل،و إذا أنا ببابي يدقّ دقّا عنيفا.
ص:312
فقال بوّابي:من هذا؟
قالوا:خدم من دار الخليفة أمير المؤمنين.
فقمت،و لم أشكّ أنّ حديثي قد اتّصل به فأنكره،و قال:مثل هذا لا يصلح أن يكون كاتبا لحرمة (1)،و لا مدبّرا أمر غلام حدث،و قد أمر بالقبض عليّ.
فقمت أمشي لأخرج من باب آخر كان لي،و أستتر،فإذا الخدم قد دخلوا،و معهم بغلة عليها عمّارية،و شموع،و إذا قد أنزلوا من العمّارية جاريتين، إحداهما عشيقتي،فبهتّ.
فقال لي أحد الخدم،و هو كالرئيس عليهم:مولانا أمير المؤمنين يقرئك السلام،و يقول:عرفت خبرك مع الجارية في هذه الساعة،فرحمتك،و قد وهبتها لك مع جميع مالها،و تركها الخادم و مضى.
و دخلت معها عدّة أحمال عليها الأثقال من صنوف الثياب،و الفرش، و الآلات،و القماش،و عدّة جوار،و تركوا ذلك عندي،و انصرفوا.
فأخذت بيد معشوقتي،و أدخلتها المجلس،فلمّا رأت الشراب و المجلس معبّأ،قالت:سلوت عنّي،و شربت بعدي.
فحلفت لها أنّي ما شربت نبيذا منذ فارقتها إلاّ في هذا اليوم،و حدّثتها حديثي بطوله.
و قلت لها:ما السبب في مجيئك؟و ما جرى؟
فقالت:إعلم أنّ الخليفة لم يرني-منذ اعترضني و أمر بشرائي-إلاّ الليلة، و كان قد اتّصل مزح السيّدة معي،فأنّها كانت استدعتني منذ مدّة،و سألتني عن خبري معك،فأخبرتها.
ثم قالت:هل تحبّينه؟
ص:313
فقلت:نعم،حبّا شديدا.
فتعجّبت من ذلك،و قالت:ثقّلنا عليك و على[236 م]محبوبك،و لكن يكون الخير إن شاء اللّه تعالى،و وعدتني الجميل التام،و الوعد الحسن.
فلمّا كان هذه الليلة،قعد الخليفة[290 غ]يشرب مع الجواري و السيّدة حاضرة،فاستدعيت،و غنّيت.
فقال لي الخليفة:إن كنت تحسنين الصوت الفلاني،فغنّيه،و كان صوتك عليّ،فغنّيته،و تمثّلت لي صورتك،و ذكرت شربي معك،فلم أملك دموعي،حتى جرت.
فقال المقتدر:ما هذا؟فتحيّرت،و جزعت،و نظرت إلى السيّدة، فضحكت،و ضحك الجواري.
فقال المقتدر:ما القصّة؟فدافعته السيّدة.
فقال:بحياتي أصدقيني.
فقالت:على أن لا تؤذي الجارية،و لا غيرها.
فقال:نعم،و حياتك.
فحدّثته الحديث،فلمّا استوفاه،قال لي:يا جارية،الأمر هكذا؟ إنّما بكيت من عشق ابن ميمون؟فسكتّ.
فقال:إن صدقتني وهبتك له.
فقلت:نعم.
فأقبل على أمّه،فقال:ما هو بكثير إن وهبتها لخادم لنا.
فقالت:قد-و اللّه-أردت أن أسألك هذا،و لكن إن تفضلت به ابتداء منك،كان أحسن.
فقال لبعض الخدم:خذ هذه الجارية،و جميع ما كان سلّم إليها في حجرتها من جوار،و قماش،و احمله إلى دار ابن ميمون،كاتب ابني إبراهيم،
ص:314
[266 ر]و أقره سلامي،و عرّفه أنّي قد وهبت ذلك كلّه له.
فلمّا قمت،تصايحوا:قد جاء فرجك،و بلغت مناك،فقمت إلى حجرتي، و جمعت ما ترى،و حملته إليك.
قال:فشكرت اللّه عزّ و جلّ على ذلك،و جلست معها،و ما شيل (1)ما في مجلسي،حتى اجتمعنا،و جلست معها فيه،و غنّت.
و بكّرت من غد نشيطا،مسرورا،أشكر السيّدة،و أمّ المتّقي،و أدعو لهما، و أقامت الجارية عندي،إلى أن ماتت.
ص:315
فارق جاريته ثم اجتمع شملهما
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد بن الحسن (1)الصروي،قال:حدّثني أبي،قال:
كان ببغداد رجل من أولاد النعم،ورث من أبيه مالا جليلا،و كان يتعشّق جارية،و أنفق عليها شيئا كثيرا،ثم اشتراها،و كانت تحبّه و يحبّها،فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس.
فقالت له الجارية:يا هذا،قد بقينا كما ترى،فلو طلبت معاشا نقتات منه.
قال:فلم يجد له صناعة غير الغناء،إذ كان الفتى من محبّته للجارية، و إحضاره المغاني إليها،ليزيدوها في صنعتها،قد تعلّم الضرب و الغناء،و خرج صالحا في طبقة الغناء و الحذق فيه.
فشاور بعض معارفه،فقال:ما أعرف لك معاشا أصلح من أن تغنّي للناس، و تحمل جاريتك إليهم فتأخذ على هذا الكثير،و يطيب عيشك.
فأنف من ذلك،و عاد إليها،فأخبرها بما أشير عليه به،و أعلمها أنّ الموت أشهى عنده من هذا،فصبرت معه على الشدّة مدّة.
ثم قالت:قد رأيت لك رأيا.
فقال:قولي.
قالت:تبيعني،فإنّه يحصل لك من ثمني ما تعيش به عيشا صالحا، و تخلص من هذه الشدّة،و أحصل أنا في نعمة،فإنّ مثلي لا يشتريها إلاّ ذو نعمة.
فحملها إلى سوق النخّاسين،فكان أوّل من اعترضها فتى هاشميّ من أهل[291 غ]البصرة،ظريف،قد ورد بغداد للّعب و التمتّع،فاشتراها بألف
ص:316
و خمسمائة دينار عينا.
قال الرجل:فحين لفظت بالبيع،و قبضت الثمن،ندمت،و اندفعت في بكاء عظيم،و حصلت الجارية في أقبح من صورتي،و جهدت في الإقالة،فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فأخذت الدنانير في الكيس،و أنا لا أدري إلى أين أذهب،لأنّ بيتي موحش منها،و ورد عليّ من اللطم و البكاء ما هوّسني.
فدخلت مسجدا،و جلست فيه أبكي،و أفكّر فيما أعمل،فحملتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي كالمخدّة،و نمت.
فما شعرت إلاّ بإنسان قد جذبه من تحت رأسي[237 م]فانتبهت فزعا، فإذا بإنسان قد أخذ الكيس،و مرّ يعدو،فقمت لأعدو وراءه،فإذا رجلي مشدودة بخيط في وتد مضروب في آخر المسجد،فإلى أن تخلّصت من ذلك، غاب الرجل عن عيني.
فبكيت،و لطمت،و نالني أمر أشدّ من الأوّل،و قلت:قد فارقت من أحبّ،و بعته،لأستغني بثمنه عن الصدقة،فقد صرت الآن فقيرا،مفارقا لمن أحبّ.
فجئت إلى دجلة،و لففت وجهي برداء كان على راسي،و لم أكن أحسن أسبح،و رميت بنفسي في الماء[89 ن]لأغرق.
فظنّ الحاضرون أنّ ذلك لغلط وقع عليّ،فطرح قوم نفوسهم خلفي، فأخذوني،و سألوني عن أمري،فأخبرتهم،و بقيت منهم بين راحم و مستجهل.
إلى أن خلا بي شيخ منهم،فأخذ يعظني،و يقول:يا هذا،ذهب مالك، فكان ما ذا حتى تتلف نفسك،أو ما علمت أنّ فاعل هذا في نار جهنّم،و لست أوّل من افتقر بعد غنى،فلا تفعل،وثق باللّه تعالى.
ثم قال لي:أين منزلك؟
ص:317
فقلت:في الموضع الفلاني.
فقال:قم معي إليه،و ما فارقني حتى حملني إلى منزلي،و ما زال يؤنسني، و يعظني،إلى أن بان له السكون فيّ،فشكرته.
و انصرف،فكدت أن أقتل نفسي لوحشة منزلي عليّ،ثم ذكرت[267 ر] النار و الآخرة،فخرجت من بيتي هاربا،إلى بعض أصدقائي القدماء في حال سعادتي،فأخبرته خبري،فبكى رقّة لي،و أعطاني خمسين درهما.
و قال:اقبل رأيي،و اخرج الساعة من بغداد،و اجعل هذه نفقة لك إلى حيث وجدت قلبك يساعدك إلى قصده،و أنت من أولاد الكتّاب،و خطّك جيّد،و أدبك صالح،فاقصد بعض العمّال،و اطرح نفسك عليه،فأقلّ ما في الأمر أن تصير محرّرا بين يديه،و تعيش معه،و لعلّ اللّه أن يصنع لك صنعا.
فعملت على هذا،و جئت إلى الكتبيّين (1)،و قد قوي في نفسي أن أقصد واسط،و كان لي فيها أقارب،فأجعلهم ذريعة لي إلى التصرّف مع بعض عمّالها.
فحين جئت إلى الكتبيّين،إذا بزلاّل مقدّم،و خزانة كبيرة (2)،و قماش كثير ينقل إلى الزلاّل،و إلى الخزانة.
فسألت:من يحملني إلى واسط؟
فقال أحد ملاّحي الزلاّل:نحن نحملك بدرهمين إلى واسط،و لكن هذا
ص:318
الزلاّل لرجل هاشمي من أهل البصرة،و لا يمكّنا من حملك معه على هذه الصورة، و لكن تلبس ثياب الملاّحين،و تجلس معنا كأنّك[292 غ]واحد منّا.
فحين رأيت الزلاّل،و سمعت أنّه لرجل هاشمي،من أهل البصرة،طمعت أن يكون مشتري جاريتي،فأتفرّج بسماعها إلى واسط.
فدفعت الدرهمين إلى الملاّح،و عدت فاشتريت لي جبّة من جباب الملاّحين فلبستها،و بعت تلك الثياب التي كانت عليّ،و أضفتها إلى ما معي من النفقة، و اشتريت خبزا و إداما،و جلست في الزلاّل.
فما كان إلاّ ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها،و معها جاريتان تخدمانها، فحين رأيتها سهل عليّ ما كان بي،و ما أنا عليه.
و قلت:أسمع غناءها،و أراها،من ها هنا إلى البصرة،و اعتمدت على أن أجعل قصدي إلى البصرة،و طمعت في أن أداخل مولاها،فأصير أحد ندمائه.
و قلت:و لا تخليني هي من الموادّ،فإنّي واثق بها.
و لم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها راكبا،و معه عدّة ركبان، فنزلوا في الزّلال و انحدروا.
فلمّا صاروا بكلواذى،أخرج الطعام،فأكل هو و الجارية،و أكل الباقون على سطح الزلاّل[238 م]،و أطعموا الملاّحين.
ثم أقبل على الجارية،فقال لها:إلى كم هذه المدافعة عن الغناء،و هذا الحزن و البكاء،ما أنت أوّل من فارق مولاه،فعلمت ما عندها من أمري.
ثم ضربت ستارة في جانب الزلاّل،و استدعى الذين في سطحه،و جلس معهم خارج الستارة،فسألت عنهم،فإذا هم إخوته،و أخرجوا الصواني، ففرّقوها عليهم،و أحضروا النبيذ.
و ما زالوا يترفّقون بالجارية،إلى أن استدعت العود،فأصلحته،و جسّت
ص:319
أوتاره،ثم اندفعت تغنّي،[من الثقيل الأوّل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى] (1)بان الخليط بمن عرفت فأدلجوا عمدا لقتلك ثم لم يتحرّجوا
و غدت كأنّ على ترائب نحرها جمر الغضا في ساجة (2)يتأجّج
قال:ثم غلبها البكاء،و قطعت الغناء،و تنغّص على الفتية سرورهم.
و وقعت أنا مغشيّا عليّ،فظن القوم أنّي قد صرعت،فأذّن بعضهم في أذني (3)، وصب عليّ الماء،فأفقت بعد ساعة.
و ما زالوا يداورونها،و يرفقون بها،و يسألونها الغناء،إلى أن أصلحت العود، و اندفعت تغنّي[في الثقيل التاني] 4:
فوقفت أنسب بالذين تحمّلوا و كأنّ قلبي بالشفار يقطّع
فدخلت دارهم أسائل عنهم و الدار خالية المنازل بلقع
ص:320
ثم شهقت فكادت تتلف،و ارتفع لها بكاء عظيم،و صعقت أنا،فتبرّم بي الملاّحون،و قالوا:كيف حملنا هذا المجنون معنا.
فقال بعضهم:إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه و أريحونا منه.
فجاءني أمر عظيم،أعظم من كلّ شيء دفعت إليه،و وضعت في نفسي التصبّر،و الحيلة في أن أعلمها بمكاني من الزّلال،لتمنع من إخراجي.
و بلغنا إلى قرب المدائن،فقال صاحب الزلاّل:اصعدوا بنا إلى الشطّ [268 ر]،فطرحوا إلى الشطّ،و خرج الجماعة،و قد كان المساء قد قرب، و صعد أكثر الملاّحين يتغوّطون (1)،فخلا[293 غ]الزلاّل،و كان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهنّ.
فمضيت سارقا نفسي حتى صرت خلف الستارة،فغيّرت طريقة العود عمّا كانت عليه،إلى طريقة أخرى،و رجعت إلى موضعي من الزلاّل.
و فرغ القوم من حاجاتهم في الشطّ،و دفعوا (2)و القمر منبسط.
فقالوا لها:باللّه ياستّي غنّينا شيئا،و لا تنغّصي علينا عيشنا.
فأخذت العود فجسّته،فشهقت شهقة كادت تتلف،و قالت:و اللّه،قد أصلح هذا العود مولاي،على طريقة من الضرب كان بها معجبا،و كان يضربها معي،و و اللّه إنّه معنا في الزلاّل.
فقال لها صاحبها:و اللّه،لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته،فلعلّه أن يخفّ بعض ما بك،فننتفع بغنائك.
فقالت:ما أدري ما تقولون،هو-و اللّه-معنا.
ص:321
فقال الرجل للملاّحين:و يحكم،حملتم معنا إنسانا غريبا؟
فقالوا:لا.
فأشفقت أن ينقطع السؤال،فصحت:نعم،هو ذا أنا.
فقالت:كلام مولاي،و اللّه،و جاء بي الغلمان إلى الرجل.
فلمّا رآني عرفني،و قال:ويحك،ما هذا الذي أصابك؟و ما أدّاك إلى هذه الحال؟فصدقته عن أمري،و بكيت،و علا نحيب الجارية من خلف الستارة،و بكا هو و إخوته بكاء شديدا،رقّة لنا.
ثم قال:يا هذا،و اللّه،ما وطئت هذه الجارية،و لا سمعت منها غناء قبل هذا اليوم،و أنا رجل موسّع عليّ و الحمد للّه،و قدمت إلى بغداد لسماع الغناء، و طلب[90 ن]أرزاقي من الخليفة،و قد بلغت من الأمرين ما أردت.
فلمّا عوّلت على الرجوع إلى وطني،أحببت أن أستصحب معي مغنّية من بغداد،فاشتريت هذه الجارية،لأضمّها إلى عدّة مغنّيات عندي بالبصرة.
و إذ كنتما على هذه الحالة،فأنا-و اللّه-أغتنم[239 م]المكرمة و الثواب فيكما،و أشهد اللّه تعالى على أنّي إذا صرت إلى البصرة أعتقها و أزوّجك إيّاها، و أجري عليكما ما يكفيكما،على شريطة إن أجبتني إليها.
قلت:و ما هي؟
قال:أن تحضرها عندي متى أردنا الغناء،تغنّي بحضورك و تنصرف بانصرافك إلى دار أفرغها لكما،و قماش أعطيكما إيّاه.
قلت:يا سيّدي،و كيف أمنع من هو المعطي،و أبخل على من يردّ حياتي عليّ،بهذا المقدار،و أخذت أقبّل يده،فمنعني.
ثم أدخل رأسه إلى الجارية،و قال:يرضيك هذا؟فأخذت تدعو له، و تشكره.
فاستدعى غلاما له،و قال له:خذ بيد هذا الرجل،و غيّر ثيابه،و بخّره،
ص:322
و قدّم له ما يأكله،و جئنا به،فأخذني الغلام،و فعل بي ذلك،و عدت، فتركت بين يديّ صينيّة.
فاندفعت الجارية تغنّي بنشاط،و استدعت النبيذ،و شربت،و شربنا، و أخذت أقترح عليها الأصوات الجياد،فتضاعف سرور الرجل بها.
و ما زلنا على ذلك أيّاما،حتى وصلنا نهر معقل،و نحن سكارى،فشدّ الزلاّل في الشطّ.
و أخذتني بولة الماء في الليل،فصعدت على ضفة نهر معقل (1)لأبول،فحملني السكر على النوم.
و دفع الزلاّل و أنا لا أعلم،و أصبحوا فلم يجدوني،و دخلوا البصرة،و لم أنتبه أنا إلاّ بحمي الشمس (2)،فجئت إلى الشطّ،فلم أر لهم عينا و لا أثرا.
و كنت قد أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف؟و أين داره[294 غ]من البصرة؟و احتشمت غلمانه أن أسألهم،فبقيت على شاطئ نهر معقل،كأوّل يوم بدأت بي المحنة،و كأنّ ما كنت فيه منام.
فاجتازت بي سماريّة،فقعدت فيها،و دخلت إلى البصرة،و ما كنت دخلتها قط،فنزلت خانا،و بقيت متحيّرا،لا أدري ما أعمل،و لم يتوجّه لي معاش.
إلى أن اجتاز بي إنسان أعرفه،[269 ر]فتبعته لأكشف له حالي،ثم أنفت من ذلك،و دخل الرجل إلى منزله،فعرفته،و جئت إلى بقّال كان على باب الخان الذي نزلته،فأعطيته دانقا،و أخذت منه ورقة،و جلست أكتب رقعة إلى الرجل.
ص:323
فاستحسن البقّال خطّي،و رأى رثاثة زيّي (1)،فسألني عن أمري،فأخبرته أنّي رجل ممتحن (2)فقير،قد تعذّر عليّ التصرّف،و ما بقي معي شيء،و لم أشرح له أكثر من هذا.
فقال لي:تعمل معي كلّ يوم بنصف درهم،و طعامك و كسوتك عليّ، و تضبط حساب دكّاني؟
فقلت:نعم.
فقال:اصعد.
فخرقت الرقعة،و صعدت،فجلست معه،أدّبر أمره،و ضبطت دخله و خرجه،و كان غلمانه يسرقونه،فأدّيت له الأمانة.
فلمّا كان بعد شهر،رأى الرجل دخله زائدا،و خرجه ناقصا،فحمدني.
و بقيت معه كذلك شهرا آخر،ثم جعل رزقي في كلّ يوم درهما.
و لم يزل حالي معه يقوى،إلى أن حال الحول،و قد بان له الصلاح في أمره،فدعاني إلى أن أتزوّج بابنته،و يشاركني،ففعلت.
و دخلت بزوجتي،و لزمت الدكّان،و حالي يقوى،إلاّ أنّني في خلال ذلك، منكسر النفس (3)،ميّت النشاط،ظاهر الحزن.
و كان البقّال ربما شرب فيجرّني إلى مساعدته،فأمتنع،و أظهر له أنّ ذلك بسبب حزني على موتى لي.
و استمرّت بي الحال على هذا سنتين و أكثر.
فلمّا كان في بعض الأيّام،رأيت الناس يجتازون بفاكهة،و لحم،و نبيذ، اجتيازا متّصلا،فسألت عن ذلك؟
ص:324
فقيل لي:اليوم الشعانين (1)،يخرج فيه أهل الظرف و اللعب،بالطعام و الشراب،و القيان إلى الأبلّة،فيرون[240 م]النصارى،و يشربون،و يفرحون.
فدعتني نفسي إلى التفرّج،و قلت:لعلّي أصل إلى أصحابي،أو أقف لهم على خبر،فإنّ هذا من مظانّهم (2).
فقلت لحمّي (3):أريد أن أنظر إلى هذا المنظر.
فقال:شأنك و ما تريد،فأصلح لي طعاما،و شرابا،و سلّم إليّ غلاما و سفينة.
فخرجت و ركبت السفينة،و بدأت بالأكل،ثم قدّمت آنية الشراب، و جلست أشرب حتى وصلت الأبلّة،و أبصرت الناس و قد ابتدأوا ينصرفون.
فإذا بالزّلال بعينه،في أوساط الناس،سائرا في نهر الأبلّة،فتأمّلته، فإذا أصحابي على سطحه،و معهم عدّة مغنّيات.
فحين رأيتهم لم أتمالك فرحا،فطرحت إليهم،فحين رأوني عرفوني،فكبّروا، و أخذوني إليهم،و سلّموا عليّ.
و قالوا:ويحك،أنت حيّ؟و عانقوني،و فرحوا بي،و سألوني عن قصّتي، فأخبرتهم بها،من أوّلها إلى آخرها،على أتمّ شرح.
فقالوا:إنّا لمّا فقدناك[295 غ]في الحال،وقع لنا أنّك بالسكر وقعت في الماء فغرقت،و لم نشكّ في ذلك،فخرّقت الجارية ثيابها،و كسرت العود،و جزّت شعرها،و بكت،و لطمت،فما منعناها من شيء من هذا.
ص:325
و وردنا البصرة،فقلنا لها:ما تحبين أن نعمل معك؟فقد كنّا وعدنا مولاك وعدا،تمنعنا المروءة من استخدامك بعده في حال أو سماع.
فقالت:يا مولاي لا تمنعني من القوت اليسير،و لبس الثياب السواد، و أن أصنع قبرا في بيت من الدار،و أجلس عنده،و أتوب من الغناء،فمكنّاها من ذلك،فهي جالسة عنده إلى الآن.
و أخذوني معهم،فحين دخلت،و رأيتها بتلك الصورة،و رأتني،شهقت شهقة عظيمة،فما شككت في تلفها،و أعتنقتها،فما افترقنا ساعة طويلة.
ثم قال لي مولاها:خذها.
فقلت:بل تعتقها و تزوّجني بها،كما وعدتني.
ففعل ذلك،و دفع لنا ثيابا كثيرة،و فرشا،و قماشا،و حمل إليّ خمسمائة دينار.
و قال:هذا قدر ما أردت أن أجريه عليكم في كلّ شهر[270 ر]من أوّل شهر دخولي إلى البصرة،و قد اجتمع في طول هذه المدّة،و الجراية في كلّ شهر غير هذا،و شيء آخر لكسوتك،و كسوة الجارية،و الشرط في المنادمة و سماع الجارية من وراء الستارة باق،و قد وهبت لك الدار الفلانيّة،و هذه مفاتيحها.
فأخذت المفاتيح،و أتيت إلى الدار،فوجدتها مفروشة بأنواع الفرش،و إذا بذلك الفرش و القماش الذي أعطيته فيها،و الجارية.
فسررت بذلك سرورا عظيما،و جئت إلى البقّال،فحدّثته حديثي،و طلّقت ابنته،و وفّيتها[91 ن]صداقها.
و أقمت مع الجارية سنين (1)،و صرت ربّ ضيعة و نعمة،و صار حالي إلى
ص:326
أمير البصرة يجمع بين متحابّين
روى أبو روق الهزّاني،عن الرياشيّ (1):أنّ بعض أهل النعم بالبصرة،اشترى جارية،و أحسن تأديبها و تعليمها،و أحبّها حبّا شديدا،و أنفق عليها حتى أملق، و مسهما الضرّ الشديد،[و الفقر المبيد.
فقال لها يوما:قد ترين ما صرنا إليه من الفقر،و و اللّه،لموتي و أنت معي، أهون عليّ مما أذكره لك،و يسوءني أن أراك على غير الحالة التي تسرّني فيك، و نهاية الأمر بنا،أن تحلّ بأحدنا منيّته،فيقتل الآخر نفسه عليه،فإن رأيت أن أبيعك لمن يحسن إليك،فيغسل عنك ما أنت فيه،و أتفرّج أنا بما لعلّه يصير إليّ من الشيء من ثمنك،و لعلّك تحصلين عند من تتوصّلين إلى نفعي معه.
فقالت:و اللّه لموتي و أنا على تلك الحالة،أهون عليّ من انتقالي إلى غيرك، و لكن افعل ما بدا لك] (2).
و قالت له الجارية:إنّي لأرثي لك يا مولاي،مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني فانتفعت بثمني،فلعلّ اللّه أن يصنع لك صنعا جميلا،و أقع أنا بحيث يحسن حالي،فيكون ذلك أصلح لكلّ واحد منّا.
فخرج،و عرضها للبيع،فأشار عليه أحد أصدقائه،ممن له رأي،أن
ص:328
يحملها إلى عمر بن عبيد اللّه بن معمر التيميّ،و كان أمير البصرة (1)يومئذ، فأعجبته.
فقال لمولاها:كم شراؤها عليك؟
قال:بألف دينار (2)،و قد أنفقت عليها أكثر من[296 غ]مائة ألف درهم (3).
قال:أمّا ما أنفقت عليها،فغير محتسب لك،لأنّك أنفقته في لذّاتك، و أمّا ثمنها،فقد أمرنا لك بمائة ألف درهم،و عشرة سفاط ثياب،و عشرة رؤوس من الخيل،[و عشرة من الرقيق] (4)،أرضيت؟
قلت:نعم،رضيت،فأمر بالمال فأحضر.
فلمّا قبض المولى الثمن،و أراد الانصراف،استعبر كلّ واحد منهما إلى صاحبه باكيا،و أنشأت الجارية تقول:[241 م]
هنيئا لك المال الذي قد حويته و لم يبق في كفّي إلاّ التفكّر (5)
أقول لنفسي و هي في كرباتها أقلّي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للأمر عندي حيلة و لم تجدي شيئا سوى الصبر فاصبري
قال:فاشتدّ بكاء المولى،و علا نحيبه،ثم أنشأ يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن يفرّقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهمّ في الفؤاد مبرّح أناجي به قلبا طويل التفكّر (6)
ص:329
عليك سلام،لا زيارة بيننا و لا وصل إلاّ أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر:قد شئت يا هذا،خذ جاريتك،بارك اللّه لك فيها و فيما صار إليك من المال،و انصرفا راشدين،فو اللّه،لا كنت سببا في فرقة محبّين.
فأخذها و أخذ المال و الخيل و الرقيق و الثياب،و أثرى و حسنت حاله (1).
[و أخبرني الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي،خليفة أبي رحمه اللّه على القضاء بها،قال:حدّثنا أحمد بن سعيد،أنّ الزبير حدّثهم،قال:
حدّثني ابن أبي بكر المؤملي،قال:حدّثني عبد اللّه بن أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر،قال:كانت لفتى من لعرب جارية جميلة،و كان بها معجبا، يجد بها وجدا شديدا،فلم يزل ينفق عليها حتى أملق و احتاج،و جعل يسأل إخوانه،فقالت الجارية...و ذكر بقية الخبر على قريب مما رواه الرياشي، و الألحان في الشعر على ما رواه الزبير] (2).
[و وجدت هذا الخبر مذكورا بقريب من هذه الالفاظ،في كتاب أخبار المتّيمين للمدائني،و قد زاد فيه:أنّ الجارية كانت قينة،و لم يذكر الشعر الأوّل] (3).
ص:330
من مكارم جعفر بن يحيى البرمكي
و حدّثني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني،إملاء من حفظه (1)، قال:حدّثني الحسين بن يحيى المرداسي،قال:حدّثنا حمّاد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي،قال:حدّثني أبي،قال:
لمّا دخل الرشيد البصرة حاجّا (2)،كنت معه،فقال لي جعفر بن يحيى:
يا أبا محمّد،قد وصفت لي جارية مغنيّة حسناء محسنة،تباع،و ذكر أنّ مولاها ممتنع من عرضها إلاّ في داره،و قد عزمت على أن أركب[271 ر] مستخفيا،فأعترضها،أ فتساعدني؟
فقلت:السمع و الطاعة.
فلمّا كان في نصف النهار (3)حضر النخّاس (4)،فأعلم بحضوره،فخرج جعفر بعمامة و طيلسان و نعل عربية،و أمرني فلبست مثل ذلك،و ركبنا حمارين قد أسرجا بسروج التجّار،[و ركب النخّاس معنا،و طلبنا الطريق] (5).
فلم يزل النخّاس يسير بين أيدينا،حتى أتينا بابا شاهقا يدلّ على نعمة قديمة،فقرع النخّاس الباب،و إذا بشاب حسن الوجه،عليه أثر ضرّ باد، و قميص غليظ خشن،ففتح لنا الباب،و قال لنا:انزلوا يا سادة،فدخلنا.
فأخرج لنا الرجل قطعة حصير خلق،ففرشها لنا،فجلسنا عليها.
ص:331
فقال له النخّاس:أخرج الجارية،فقد حضر المشتري.
فدخل البيت،و إذا الجارية قد خرجت في القميص الغليظ الذي كان على الفتى بعينه،و هي فيه-مع خشونته-كأنّها في الحلي و الحلل،لحسن وجهها،و في يدها عود.
فأمرها جعفر بالغناء،فجلست،و ضربت ضربا حسنا،و اندفعت تغنّي:
[297 غ]
إن يمس حبلك بعد طول تواصل خلقا و يصبح بيتكم مهجورا
فلقد أراني و الجديد إلى بلى دهرا بوصلك (1)راضيا مسرورا
جذلا بمالي عندكم لا أبتغي بدلا بوصلك خلّة و عشيرا
كنت المنى و أعزّ من وطىء الحصى عندي و كنت بذاك منك جديرا
ثم غلبها البكاء حتى منعها من الغناء،و سمعنا من البيت نحيب الفتى، و قامت الجارية تتعثّر في أذيالها،حتى دخلت البيت،و ارتفعت لهما ضجّة بالبكاء و الشهيق،حتى ظنّنا أنّهما قد ماتا،و هممنا بالانصراف.
فإذا بالفتى قد خرج و عليه ذلك القميص بعينه،فقال:أيّها القوم،أعذروني فيما أفعله و أقوله.
فقال له جعفر:قل.
فقال:أشهد اللّه تعالى،و أشهدكم،أنّ هذه الجارية حرّة لوجه اللّه تعالى، و أسألكم أن تزوّجوني بها.
قال:فتحيّر جعفر أسفا على الجارية،ثم قال لها:أ تحبين أن أزوّجك من مولاك؟
قالت:نعم.
ص:332
فقرّر الصداق،و خطب،و زوّجها به،ثم أقبل على الفتى،و قال له:
ما حملك على[242 م]هذا؟
فقال:حديثي طويل،إن نشطت له حدّثتك به.
فقال:لا أقلّ من أن نسمعه،فلعلّنا أن نبسط عذرك.
فقال:أنا فلان ابن فلان،و كان أبي من وجوه أهل هذا البلد،و مياسيره، و هذا عارف بذلك،و أومأ إلى النخّاس.
و أسلمني أبي إلى الكتّاب (1)،و كانت لأمّي صبيّة قريب سنّي من سنّها، و هي جاريتي هذه،و كانت معي في المكتب،تتعلّم ما أتعلّم،و تنصرف معي.
فبلغت،ثم بطلت (2)من الكتّاب،و تعلّمت الغناء،فكنت لمحبّتي لها أتعلّمه معها،و تعلّق قلبي بها،و أحببتها حبّا شديدا.
و بلغت أنا أيضا،فخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهنّ،فخيّرني أبي،فأظهرت له الزهد في التزويج،و نشأت متوفّرا على الأدب،متقلّبا في نعم أبي،غير [92 ن]متعرّض لما يتعرّض له الأحداث (3)،لتعلّق قلبي بالصبيّة،و رغبة أهل البلد تزداد فيّ،و عندهم أنّ عفّتي لصلاح،و ما كانت إلاّ لتعلّق قلبي بالجارية، و أنّ شهوتي لا تتعدّاها لأحد.
و بلغ حذقها في الغناء إلى ما قد سمعتموه،فعزمت أمّي على بيعها،و هي لا تعلم ما في نفسي منها،فأحسست بالموت،و اضطررت إلى أن حدّثت أمي عن الصورة،فحدّثت أبي،فاجتمع رأيهما على أن وهبا لي الجارية،و جهّزاها
ص:333
كما يجهّز أهل البيوتات بناتهنّ،و جليت عليّ،و عمل لنا عرس حسن،و نعمت معها دهرا طويلا.
ثم مات أبي،و خلّف لي مالا كثيرا،فلم أحسن أن أربّ نعمته (1)،و أسأت التدبير فيها[272 ر]،و أسرعت في الأكل و الشرب و القيان،و أنا مع ذلك أجذر (2)في اليوم الواحد بخمسين دينارا أو أكثر.
فأوجب ذلك أن تلفت النعمة،و أفضت[298 غ]الحال إلى نقض الدار و بيع ما فيها،حتى صرت إلى ما ترى،و أنا على هذا منذ سنين.
فلمّا كان في هذا الوقت،و بلغني دخول الخليفة،و وزيره،و أهل مملكته، البصرة،قلت لها:يا ستّي،إعلمي أنّ شبابك قد بلي،و أنّ عمرك في الشقاء ينقضي،و باللّه،إنّ نفسي تالفة من فراقك،و لكنّي أؤثر تلفها مع وصولك إلى نعمة و رفاهية،فدعيني أعرضك،لعلّ أن يشتريك بعض هؤلاء الأكابر، فتحصلي معه في رغد عيش،فإن متّ بعدك فذاك الذي أوثر،و يكون كلّ واحد منّا قد تخلّص من الشقاء،و إن حكم اللّه تعالى عليّ بالبقاء،صبرت على قضائه.
فبكت من ذلك،و قلقت،ثم قالت:إفعل ما تحبّ.
فخرجت إلى هذا النخّاس،فأطلعته على أمري،و قد كان يسمع غناءها أيّام نعمتي،و عرف حالها و حالي،و أعلمته أنّي لا أعرضها إلاّ عندي،فإنّها -و اللّه-ما طرقت رجلها خارج باب الدار قط،و قصدت بذلك أن يراها المشتري،و لا تدخل بيوت الناس،و لا إلى السوق،و إنّها لم يكن لها ما تلبسه إلاّ قميصي هذا،و هو مشترك بيننا،ألبسه أنا إذا خرجت لأبتاع القوت،و تتّشح هي بأزارها،و إذا جئت إلى البيت،ألبستها إيّاه،و أتّشح أنا بالأزار.
ص:334
فلمّا حصل من يعترضها (1)،و خرجت فغنّتكم،لحقني من القلق و البكاء لفراقها أمر عظيم،فدخلت إليّ،و قالت:يا هذا،ما أعجب أمرك،أنت مللتني،و أردت بيعي و فراقي،و تبكي هذا البكاء؟
فقلت لها:يا هذه،إنّ فراق نفسي أسهل عليّ من فراقك،و إنّما أردت أن تتخلّصي من هذا الشقاء.
فقالت:و اللّه،لو ملكت منك ما ملكت منّي،ما بعتك أبدا،و أموت جوعا و عريا،فيكون الموت هو الذي يفرّق بيننا.
فقلت:أ تريدين أن تعلمي صدق قولي؟
قالت:نعم.
قلت:هل لك[243 م]أن أخرج الساعة إلى المشتري فأعتقك بين يديه و أتزوّجك،ثم أصبر معك على ما نحن فيه إلى أن يأذن اللّه تعالى بفرج أو موت؟
فقالت:إن كان قولك صادقا،فافعل ما بدا لك من هذا،فما أريد غيره.
فخرجت إليكم فكان منّي ما قد علمتم،فاعذروني.
فقال جعفر الوزير:أنت معذور،و نهض،و نهضت معه،و النخّاس معنا.
فلما قدّم حماره ليركب،دنوت منه،و قلت:يا سبحان اللّه،مثلك في جودك،يرى مثل هذه المكرمة،فلا ينتهز الفرصة فيها؟و اللّه،لقد تقطّع قلبي عليهما.
فقال:ويحك،و قلبي-و اللّه-كذلك،و لكنّ غيظي من فوت الجارية إيّاي يمنعني من التكرّم عليه.
فقلت:و أين الرغبة في الثواب؟
فقال:صدقت و اللّه.
ص:335
ثم التفت إلى النخّاس فقال:كم كان الخادم سلّم إليك عند ركوبنا، لتشتري به الجارية؟
فقال:ثلاثة آلاف دينار.
فقال:أين هي؟
فقال:مع غلامي.
فقال لي و للنخّاس:خذاها[299 غ]و ادفعاها إلى الفتى،و قولا له:
يكتسي و يركب و يجيئني،لأحسن إليه و أستخدمه.
فرجعنا إلى الفتى،فإذا هو يبكي،فقلت له:قد عجّل اللّه فرجك،إعلم أنّ الذي خرج من عندك هو الوزير جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي،و قد أمر لك بهذا،و هو يقول لك كذا و كذا.
قال:فصعق،حتى قلت قد تلف،ثم أفاق،فأقبل يدعو لجعفر، و يشكرني.
و كنت قد ركبت فلحقت بالوزير،و أعلمته،فحمد اللّه عزّ و جلّ على ما وهبه له،و عاد إلى داره و أنا معه.
فلمّا كان وقت العشاء،جئنا إلى الرشيد،فأقبل يسأل جعفر خبره في يومه،و هو يخبره،إلى أن قصّ عليه حديث الفتى[273 ر]و الجارية.
فقال له الرشيد:فما عملت معه؟فأخبره.
فاستصوب رأيه،و قال:وقّع له برزق[سلطانيّ] (1)في رسم أرباب النعم (2)، في كلّ شهر كذا و كذا،و اعمل به بعد ذلك ما شئت.
فلمّا كان من الغد،جاءنا الفتى راكبا بثياب حسنة،و هيأة جميلة،فإذا
ص:336
به من أحلى الناس كلاما،و أتمّهم أدبا.
فحملته إلى جعفر،و أوصلته إلى مجلسه،فأمر بتسهيل وصوله إليه،و خلطه بحاشيته،و وقّع له عن الخليفة بما رسم له،و عن نفسه بشيء آخر.
و شاع حديثه في البصرة،و في أهل العسكر،فلم يبق فيهم متغزّل،و لا متظرّف،إلاّ أهدى له شيئا جليلا،فما خرجنا من البصرة إلاّ و هو ربّ نعمة صالحة.
و وجدت هذا الخبر،على خلاف هذا،ما ذكره أبو علي محمّد بن الحسن ابن جمهور العمّي البصري الكاتب (1)،في كتاب«السمّار و الندامى» (2):
أنّ الرشيد لمّا حجّ و معه إبراهيم الموصلّي،...فأخبرنا بالخبر على قريب ما رويناه و ذكرناه،و أنّ الجارية بدأت و غنّت بصوت من صناعة إبراهيم،و هو:
نمّت عليّ الزفرة الصاعدة و ملّني العائد و العائدة
يا ربّ كم فرّجت من كربة عنّي فهذي المرّة الواحدة
و أنّ الذي حضر لتقليب الجارية (3)،الرشيد و جعفر بن يحيى متنكّرين (4)، و معهما إبراهيم الموصلي و النخّاس،و أنّهم انصرفوا،و قطعوا الثمن بمائة ألف درهم،
ص:337
ثم عادوا و المال معهم،فأمروا بإعادة التقليب،فخرجت الجارية،فغنّت بصوت، الغناء فيه لإبراهيم،و هو:
و من عادة الدنيا بأنّ صروفها (1) إذا سرّ منها جانب ساء جانب
و ما أعرف الأيّام إلاّ ذميمة و لا الدهر إلاّ و هو للثأر طالب
ثم ذكر بقيّة الحديث على قريب من هذا،و في الخبر الأوّل زيادات، ليست في خبر ابن جمهور (2).
ص:338
من مكارم يحيى بن خالد البرمكي
[و بلغني خبر لجعفر بن يحيى،مع جارية،يقارب هذا الخبر،أخبرني [93 ن]به أبو محمّد الحسن بن عبد الرحمن بن[244 م]خلاد الرامهرمزي (1)، خليفة[300 غ]أبي رضي اللّه عنه،على القضاء بها،قال:أخبرني أحمد بن الصلت الحمّاني (2)،قال:حدّثنا مفلح و سنبر النخّاسان] (3)،قالا:
أرسل إلينا جعفر بن يحيى البرمكي،يطلب جارية قوّالة (4)،ذات أدب و ظرف،على صفة ذكرها و حدّها،فما زلنا نحرص على طلبها،و نتواصف من يعرف عنها مثل ذلك.
و إلى جانبنا شيخ من أهل الكوفة يسمع كلامنا،فأقبل علينا،و قال:
عندي بغية الوزير،فانهضوا إن شئتم لتنظروا إليها.
قال:فنهضنا معه،حتى إذا وصلنا إلى داره،وجدناها ظاهرة الإختلال، و وجدنا فيها مسحا خلقا (5)،و ثلاث قصبات عليها مسرجة (6)،فارتبنا بقوله لنا،
ص:339
لما ظهر من سوء حاله.
ثم أخرج إلينا جارية كأنّها-و اللّه-فلقة قمر،تتثنّى كالقضيب، فاستقرأناها،فقرأت آيات من القرآن،حرّكت منّا ما كان ساكنا،و أتبعتها بقصيدة مليحة،شوّقتنا،و أطربتنا.
فقلنا لها:أصانعة؟و أشرنا إلى يدها.
فقالت:نعم،تعلّمت العمل بالعود و أنا صغيرة.
فقلنا:فغنّينا به.
فقالت:سبحان اللّه،هل يصلح أن أستجيب لذلك إلاّ لمولى مالك إن دعاني إليه أجبته.
قال:و راح الرسول إلى جعفر،فأخبره بما شاهده.
فلم يتمالك جعفر،لمّا سمع بصفة الجارية،حتى استنهض الرسول إلى مجلس الشيخ،و هو يتبعه،حتى عاينه،و سأله إخراجها إليه.
فلمّا رآها جعفر أعجب بها قبل أن يستنطقها،ثم إنّه استنطقها،فأخذت بمجامع قلبه.
فقال لمولاها:قل ما شئت؟
فقال الشيخ:لست أحدث أمرا حتى أستأذنها،و لو لا الضرّ الذي نحن فيه لما عرضتها،لكنّ حالي كما يشاهده الوزير من فقر،و ضرّ،و دين كثير قد فدحني (1)،و من أجله فارقت وطني،و عرضت على البيع ثمرة فؤادي.
فقال له جعفر:ما مقدارها في نفسك إن أردت بيعها؟
ص:340
فقال:ثلاثون ألف دينار (1).
فقال جعفر:فهل لك أن تأمرها بأن تغنّينا؟
فأقبل الشيخ عليها فاستدناها،و أمرها أن تغنّي،فأخذت العود،و أصلحته، ثم استعبرت،و غنّت بصوت،الغناء من صنعة إبراهيم:
و من عادة الأيّام أنّ صروفها إذا سرّ منها جانب ساء جانب
و ما أعرف الأيّام إلاّ ذميمة و لا الدهر إلاّ و هو بالثأر طالب
قال:ثم أنّها ألقت العود من يدها،و صرخت،و صرخ الشيخ،و جعلا ينتحبان.
ثم إنّ الشيخ أقبل على جعفر و من معه،و قال:أشهدكم أنّي قد أعتقتها، و جعلت عتقها صداقها،و اللّه،لا ملكها أحد أبدا.
فغضب جعفر،و أقبل من حضر على الشيخ يؤنّبونه و يستجهلونه،و يقولون له:ضيّعت هذا المال الجليل،و عجّلت،و جهلت.
فقال الشيخ:النفس أولى أن يبقى عليها من المال،و الرازق اللّه سبحانه و تعالى،و عاد جعفر إلى أبيه فأخبره بما كان من الرجل و الجارية.
فقال[301 غ]له أبوه:فما صنعت بهما؟
قال:تركتهما و انصرفت.
فقال له:ويحك،ما أنصفت يا ولدي،أو ما أنفت على نفسك أن تفرّق بين متحابّين مثلهما،مقترين[274 ر]،فقيرين،أو تنصرف عنهما،و لا تجبر حالهما؟أرضيت أن يكون الكوفيّ أسمح منك.
و دعا بغلام،فحمل معه إلى الشيخ ثلاثين ألف دينار (2)على بغال.
ص:341
فلمّا وصل المال إلى الشيخ قبله و أخذه،و حمد اللّه عزّ و جلّ،و دعا لجعفر و لوالده،و عاد بالمال و الجارية إلى منزله بالكوفة،[و هو فرح مسرور،و قد فرّج اللّه عنه] (1).
ص:342
أين نوال ابن جعفر من نوال ابن معمر
و وجدت في بعض كتبي:أنّ عمر بن شبّة،قال:حدّثني أبو غسّان (1)، قال:أخبرني بعض أصحابنا،قال:
إشترى عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنهما جارية من مولّدات أهل مكّة،كان يتعشّقها غلام من أهلها،و قدم في أمرها إلى المدينة،فنزل قريبا من منزل عبد اللّه بن جعفر،ثم جعل يلطف عبد اللّه بطرائف مكّة،حتى عرفت الجارية أنّه ورد.
و جعلت[245 م]الجارية تراسله،فأدخلته ليلة في إصطبل دواب عبد اللّه بن جعفر،فعثر عليه السائس،فأعلم عبد اللّه بن جعفر،و أتاه به.
فقال له:مالك،قبّحك اللّه،أبعد تحرّمك بنا تصنع مثل هذا؟
فقال له:إنّك ابتعت الجارية،و كنت لها محبّا،و كانت تجد بي مثل ذلك.
قال:فدعا بالجارية،و سألها،فجاءت بمثل قصّة الفتى.
فقال له:خذها،فهي لك.
فلمّا كان بعد ذلك بقريب،عشق عبد السلام بن أبي سليمان،مولى مسلم (2)،جارية لآل طلحة،يقال لها:رواح،و رجا أن يفعلوا به مثلما فعل ابن جعفر بالفتى المكّي،فلم يفعل الطلحيّون ذلك،فسأل في ثمنها،حتى اجتمع له،فاشتراها منهم.
فقال عبد السلام في ذلك:
ص:343
و أين-فلا تعدل-نوال ابن جعفر و أين لعمري،من نوال ابن معمر
يطير لدى الجنّات هذا لفضله و يرفضّ (1)هذا في الجحيم المسعّر (2)
ص:344
ابن أبي حامد صاحب بيت المال
يحسن إلى رجل من المتفقّهة
و قد كان فيما يقارب عصرنا مثل هذا،و هو ما حدّثني به أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ (1)،قال:حدّثني أبو أحمد محمّد بن أحمد الجرجاني الفقيه،قال:
كنّا ندرس على أبي إسحاق المروزي الشافعي (2)،و كان يدرس عليه معنا فتى من أهل خراسان،له والد هناك،و كان يوجّه إليه في كلّ سنة،مع الحاجّ، قدر نفقة السنة.
فاشترى جارية،فوقعت في نفسه،و ألفها،و ألفته،و كانت معه سنين.
و كان رسمه أن يستدين في كلّ سنة،دينا،بقدر ما يعجز من نفقته، فإذا جاء ما أنفذه أبوه إليه،قضى دينه،و أنفق الباقي مدّة ثم عاد إلى الاستدانة.
فلمّا كان سنة من السنين،جاء الحاجّ،و ليس معهم نفقة من أبيه.
فسألهم عن سبب ذلك،فقالوا له:إنّ أباك أعتلّ علّة عظيمة صعبة، و اشتغل بنفسه،فلم يتمكّن من إنفاذ شيء إليك.
ص:345
قال:فقلق الفتى قلقا شديدا،و جعل غرماؤه يطالبونه كالعادة،في قضاء الدين وقت الموسم،فاضطرّ،و أخرج الجارية[302 غ]إلى النخّاسين،فعرضها.
و كان الفتى ينزل بالقرب من منزلي،و كنّا نصطحب إلى منزل الفقيه، و لا نكاد نتفارق.
فباع الجارية بألف درهم و كسر (1)،و عزم على أن يفرّق منها على غرمائه قدر مالهم،و يتمّون بالباقي.
و كان قلقا،موجعا،متحيّرا،عند رجوعنا من النخّاسين.
فلمّا كان الليل إذا ببابي يدقّ،فقمت ففتحته،فإذا بالفتى.
فقلت:ما لك؟
فقال:قد امتنع عليّ النوم،و قد غلبتني وحشة الجارية،و الشوق إليها.
و وجدته من القلق على أمر عظيم،حتى أنكرت عقله،فقلت:ما تشاء؟
فقال:لا أدري،و قد سهل عليّ أن ترجع الجارية إلى ملكي،و أبكّر غدا فأقرّ لغرمائي بمالهم،و أحبس في حبس القاضي،إلى أن يفرّج اللّه تعالى عنّي، و يجيئني من خراسان ما أقضي به ديني في العام المقبل،و تكون الجارية في ملكي.
فقلت له:أنا أكفيك ذلك في غد إن شاء اللّه،و أعمل في رجوع الجارية إليك،إذا كنت قد وطّنت نفسك على هذا.
قال:فبكّرنا إلى السوق،فسألنا عمّن اشترى الجارية.
فقالوا:أمرأة من دار أبي بكر بن أبي حامد[94 ن]،صاحب بيت المال (2).
ص:346
فجئنا إلى مجلس الفقيه،فشرحت لأبي إسحاق المروزي بعض حديث الفتى، و سألته أن يكتب رقعة إلى أبي بكر بن أبي حامد،يسأله فيها فسخ البيع،و الإقالة، و أخذ الثمن،و ردّ الجارية،فكتب رقعة مؤكّدة في ذلك.
فقمت،و أخذت[246 م]بيد الخراساني صديقي،و جئنا إلى أبي بكر بن أبي حامد،فإذا هو في مجلس حافل،فأمهلنا حتى خفّ،ثم دنوت أنا و الفتى، فعرفني،و سألني عن[أبي إسحاق]المروزيّ،فقلت:هذه رقعته خاصّة في حاجة له.
فلمّا قرأها،قال لي:أنت صاحب الجارية؟
قلت:لا،و لكنّه صديقي هذا،و أومأت إلى الخراساني،و قصصت عليه القصّة،و سبب بيع الجارية.
فقال:و اللّه،ما أعلم أنّي ابتعت جارية في هذه الأيّام،و لا ابتيعت لي.
فقلت:إنّ امرأة جاءت و ابتاعتها،و ذكرت أنّها من دارك.
قال:يجوز.
ثم قال:يا فلان،فجاءه خادم،فقال له:امض إلى دور الحرم، فاسأل عن جارية اشتريت أمس،فلم يزل يدخل و يخرج من دار إلى دار،حتى وقع عليها،فرجع إليه.
فقال له:أعثرت عليها؟
فقال:نعم،فقال:أحضرها،فأحضرها.
فقال لها:من مولاك؟فأومأت إلى الخراساني.
فقال لها:أ فتحبّين أن أردّك عليه؟
فقالت:و اللّه،ليس مثلك يا مولاي من يختار عليه،و لكن لمولاي عليّ حقّ التربية[275 ر].
فقال:هي كيّسة عاقلة،خذها.
ص:347
قال:فأخرج الخراساني الكيس من كمّه،و تركه بحضرته.
فقال للخادم:إمض إلى الحرم،و قل لهنّ:ما كنتنّ وعدتنّ به هذه الجارية من إحسان،فعجلّنه الساعة.
قال:فجاء الخادم بأشياء لها قدر و قيمة،فدفعها إليها.
ثم قال للخراساني:خذ كيسك فاقض منه[303 غ]دينك،و وسّع بباقيه على نفسك و على جاريتك،و الزم العلم،فقد أجريت عليك في كلّ شهر قفيز دقيق،و دينارين،تستعين بها على أمرك.
قال:فو اللّه ما انقطعت عن الفتى،حتى مات أبو بكر بن أبي حامد (1).
ص:348
ابن أبي حامد صاحب بيت المال
يحسن إلى صيرفي
[قال مؤلّف هذا الكتاب:وجدت هذا الخبر مستفيضا ببغداد،و أخبرت به على جهات مختلفة،و هذا أبينها،و أصحّها إسنادا،إلاّ أنني أذكر بعض الطرق الأخرى التي بلغتني] (1):حدّثني أحمد بن عبد اللّه،قال:حدّثني شيخ من دار القطن ببغداد،قال:
كان لأبي بكر بن أبي حامد مكرمة طريفة،و هي أنّ رجلا يعرف بعبد الواحد ابن فلان الصيرفي،باع جاريته،و كان يهواها،على أبي بكر بن أبي حامد -يعني صاحب بيت المال-بثلثمائة دينار.
فلمّا جاء الليل،استوحش لها وحشة شديدة،و لحقه من الهيمان،و القلق، و الجنون،و الأسف على فراقها،ما منعه من النوم،و لحقه من البكاء و السهر، ما كادت تخرج نفسه معه.
فلمّا أصبح خرج إلى دكّانه يتشاغل بالنظر في أمره،فلم يكن له إلى ذلك سبيل.
و زاد عليه القلق و الشوق،فأخذ ثمن الجارية،و جاء إلى أبي بكر بن أبي حامد،فدخل عليه،و مجلسه حافل،فسلّم،و جلس في أخريات الناس،إلى أن تقوّضوا (2).
ص:349
فلمّا لم يبق غيره،أنكر ابن أبي حامد حاله،[فقال له:إن كانت لك حاجة فاذكرها.
فسكت،و جرت دموعه،و شهق.
فرفق به ابن أبي حامد،] (1)و قال له:قل،عافاك اللّه،و لا تستح.
فقال له:بعت أمس،جارية كانت لي،و كنت أحبّها،و اشتريت لك -أطال اللّه بقاءك-و قد أحسست بالموت أسفا على فراقها.
و أخرج الثمن فوضعه بحضرته،و قال له:أنا أسألك أن تردّ عليّ حياتي، بأخذ هذه الدنانير،و إقالتي من البيع.
قال:فتبسّم ابن أبي حامد،و قال له:لمّا كانت بهذا المحلّ من قلبك لم بعتها؟
فقال:أنا رجل صيرفي،و كان رأس مالي ألف دينار،فلمّا اشتريتها، تشاغلت بها عن لزوم الدكّان،فبطل كسبي،و كنت أنفق عليها من رأس المال نفقة لا يحتملها حالي،فلمّا مضت مدّة،خشيت الفقر،و نظرت،فإذا أنا لم يبق معي من رأس المال إلاّ الثلث أو أقلّ،و صارت تطالبني من النفقة،بما لو أطعتها فيه،ذهبت هذه البقيّة،و حصلت على الفقر.
فلمّا منعتها،ساءت أخلاقها[247 م]و نغّصت عيشي،فقلت أبيعها، و أدير ثمنها فيما أختلّ من حالي،و تستقيم عيشتي،و أستريح من أذاها،و أتصبّر على فراقها،و لم أعلم أنّه يلحقني هذا الأمر العظيم،و قد آثرت الآن الفقر،و أن تحصل الجارية عندي،أو أن أموت،فهو أسهل عليّ مما أنا فيه.
فقال ابن أبي حامد:يا فلان،فجاء خادم أسود.
فقال له:أخرج الجارية التي اشتريت لنا بالأمس.
قال:فأخرجت جاريتي.
ص:350
فقال:يا بنيّ،إنّ مثلي لا يطأ قبل الإستبراء،و و اللّه،ما وقعت عيني على الجارية-منذ اشتريت-إلاّ الساعة،و قد وهبتها لك[304 غ]فخذها،و خذ دنانيرك،بارك اللّه لك فيهما.
ثم قال للخادم:هات ألف درهم،فجاء بها.
فقال للجارية:قد كنت عوّلت على أن أكسوك،فجاء من أمر مولاك ما رأيت و لم أر من المروءة منعه منك،فخذي هذه الدراهم،و اتّسعي بها في نفقتك،و لا تحمّلي مولاك ما لا يطيق،فتحصلين عند من لا يعرف قدرك كمعرفته، و لك عليّ ألف درهم في كلّ سنة،يجيء مولاك فيأخذها لك،إذا شكرك، و رضي طريقتك.
قال:فقام الرجل،و قبّل يديه،و جعل يبكي،و يدعو له.
و لم يزل المال و اصلا إليه في كلّ سنة،حتى مات ابن أبي حامد.[276 ر]
ص:351
الحسن بن سهل
يحسن إلى الفسطاطي التاجر
و يشبه هذا الحديث،ما وجدته في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز ابن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان،و هو يومئذ كاتب الوزير المهلّبي على ديوان السواد (1)،و ذكر إنّه نسخه من كتاب أعطاه إيّاه أبو الحسين الخصيبي (2)، و كان فيه إصلاحات بخط ابن مابنداذ (3).
اشترى الحسن بن سهل،من الفسطاطي التاجر،جارية بألف دينار، فحملت إلى منزل الحسن،و كتب للفسطاطي بثمنها (4).
فأخذ الكتاب إلى من أحاله[95 ن]عليه بالمال،و انصرف إلى منزله، فوجده مفروشا نظيفا،و فيه ريحان قد عبّي تعبية حسنة،و نبيذ قد صفّي.
فقال:ما هذا؟
ص:352
فقيل له:جاريتك التي بعتها الساعة،قد أعدّت لك هذا لتنصرف إليها، فبعتها قبل انصرافك.
قال:فقام الفسطاطيّ،فرجع إلى الحسن.
[و أحضر الحسن الجارية،فرأى زيّا حسنا،و نظافة،و تزيّنت بزينة لم تر من مثلها،مع ما رأى فيها من الحسن و الجمال،و البهاء و الكمال،فهو يجيل الفكر و النظر فيها،إذ رجع الفسطاطيّ إليه،و هو كالمجنون المخبول] (1)،و قال:
أقلني بيع الجارية،أقالك اللّه في الدنيا و الآخرة.
فقال:ما إلى هذا سبيل،و ما دخلت قط دارنا جارية،فخرجت منها.
قال:أيّها الأمير،إنّه الموت الأحمر.
قال:و ما ذاك؟
فقصّ عليه قصّته،[و حبّه لها،و تلهّفه عليها،و أنّه لم يقدر على فراقها و أنّ الندم قد لحقه،و الشوق قد تمكّن من فؤاده،و أنّه إن دام ذلك عليه،كان فيه تلف نفسه] 5،و بكى،و لم يزل يتضرّع له.
فرقّ له الحسن،[و أحضر الجارية من ساعته،و قال لها:هل لك في مولاك رغبة؟
فقالت:أيّها الأمير،في مثله يرغب] 5،فردّ الجارية عليه.
و قال له:خذ هذه الألف دينار،لك هبة،لا يرجع إلى ملكي منها دينار واحد.
فأخذ الفسطاطي الجارية و الدنانير،[و قال:الجارية حرّة لوجه اللّه تعالى، و هذه الألف دينار صداقها،ثم كتب كتابها] 5.
و عاد إلى منزله،و جلس مع جاريته على ما أعدّته له (2).
ص:353
الأشتر و جيداء
أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني،قال:حدّثني جعفر بن قدامة (1)،قال:حدّثني أبو العيناء،قال:
كنت أجالس محمّد بن صالح بن عبد اللّه بن موسى بن عبد اللّه بن الحسين ابن علي بن أبي طالب سلام اللّه عليهم أجمعين (2)،و كان قد حمل إلى[305 غ] المتوكّل أسيرا،فحبسه مدّة،ثم أطلقه المتوكّل،و كان أعرابيّا فصيحا،فحدّثني يوما قال:[248 م][حدّثني نمير بن مخلف الهلالي (3)،و كان حسن الوجه جدّا] (4)،قال:
كان منّا فتى يقال له بشر بن عبد اللّه،و يعرف بالأشتر،و كان يهوى جارية من قومه،يقال لها:جيداء،و كانت ذات زوج.
و شاع خبره في حبّها،فمنع منها،و ضيّق عليه،حتى لم يقدر أن يلمّ بها.
فجاءني ذات يوم،و قال:يا أخي،قد بلغ منّي الوجد،و ضاق عليّ سبيل الصبر،فهل تساعدني على زيارتها؟
قلت:نعم فركبت،و سرنا،حتى نزلنا قريبا من حيّها،فكمن في موضع.
فقال لي:إذهب إلى القوم فكن ضيفا لهم،و لا تذكر شيئا من أمرنا،
ص:354
حتى ترى راعية لجيداء صفتها كذا و كذا،فأعلمها خبري،و واعدها بوعد.
فمضيت و فعلت ما أمرني به،و لقيت الراعية فخاطبتها،فمضت إلى جيداء، و عادت إليّ،فقالت:قل له:موعدك الليلة عند الشجيرات.
فلمّا كان الوقت الذي وعدتنا فيه،إذا بجيداء قد أقبلت،فوثب الأشتر إليها،فقبّل بين عينيها.
فقمت مولّيا عنهما،فقالا:نقسم عليك إلاّ ما رجعت،فو اللّه،ما بيننا ما نستره عنك،فرجعت،و جلسنا نتحدّث.
فقال لها:يا جيداء،أما فيك حيلة لنتعلّل الليلة؟
فقالت:لا و اللّه،إلاّ أن نعود إلى ما تعرف من البلاء و الشدّة.
فقال:ما من ذلك بدّ،و لو وقعت السماء على الأرض.
فقالت:هل في صاحبك هذا من خير؟
فقلت:إي و اللّه.
فخلعت ثيابها،و دفعتها إليّ،و قالت:البسها،و أعطني ثيابك،ففعلت.
فقالت:إذهب إلى بيتي،فإنّ زوجي سيأتيك بعد العتمة،و يطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل،فلا تدفعه إليه من يدك،فهذا فعلي به،ودعه بين يديه،فإنّه سيذهب و يحلب،ثم يأتيك به ملآن لبنا،و يقول:هاك غبوقك (1)، فلا تأخذه منه،حتى تطيل نكدك (2)عليه،ثم خذه،أودعه حتى يضعه هو، ثم لست تراه حتى تصبح.
قال:فذهبت،و فعلت ما أمرتني به،و جاءني بالقدح،فلم آخذه منه،
ص:355
و أطلت عليه النكد،ثم أهويت لآخذه،و أهوى ليضعه،فاختلفت أيدينا، فانكفأ القدح.
فقال:إنّ هذا لطماح (1)مفرط،و ضرب بيده إلى سوطه،ثم تناولني به، و ضرب ظهري،فجاءت أمّه،و أخته،فانتزعوني من يده،بعد أن زال عقلي، و هممت أن أجأه (2)بالسكّين.
فلمّا خرجوا من عندي،لم ألبث إلاّ يسيرا،حتى دخلت أمّ جيداء،تؤنّبني، و تكلّمني،فلزمت الصمت و البكاء.
فقالت:يا بنيّة،اتّقي اللّه،و أطيعي بعلك،و أما الأشتر فلا سبيل لك إليه، و ها أنا أبعث إليك بأختك لتؤنسك،و مضت.
ثم بعثت إليّ بالجارية،فجعلت تكلّمني (3)،و تدعو على من ضربني،و أنا ساكت،ثم اضطجعت إلى جانبي.
فشددت يدي على فمها،و قلت:يا جارية،إنّ أختك مع الأشتر،و قد [306 غ]قطع ظهري بسببها،و أنت أولى بسترها منّي،و إن تكلّمت بكلمة فضحتها،و أنا لست أبالي.
فاهتزّت مثل القضيب فزعا،فطمّنتها،و طيّبت قلبها،فضحكت،و بات معي منها أظرف الناس،و لم نزل نتحدّث حتى برق الصبح،فخرجت،و جئت إلى صاحبي.
فقالت جيداء:ما الخبر؟[277 ر]
فقلت:سلي أختك عن الخبر،فلعمري إنّها عالمة به،و دفعت إليها ثيابها،
ص:356
و أريتها ظهري،فجزعت،و بكت،و مضت مسرعة،و جعل الأشتر يبكي، و أنا أحدّثه بقصّتي،و ارتحلنا (1).
ص:357
أقسم أن يغسل يده أربعين مرّة
إذا أكل زير باجة
حدّثني أبو الفرج أحمد بن إبراهيم الفقيه الحنفي المعروف بابن النرسي [من أهل باب الشام ببغداد،و قد كان خلف أبا الحسن علي بن أبي طالب بن البهلول التنوخي (1)على القضاء بهيت،و ما علمته إلاّ ثقة،قال:سمعت فلان التاجر،يحدّث أبي-و أسمى التاجر،و أنسيته أنا] (2)،قال:
حضرت عند صديق لي من البزّازين،و كان مشهورا،في دعوة،فقدّم في جملة طعامه،زير باجة (3)،و لم يأكلها[249 م]،فامتنعنا من أكلها.
فقال:أحبّ أن تأكلوا منها،و تعفوني من أكلها،فلم ندعه حتى أكل.
فلمّا غسلنا أيدينا،انفرد يغسل يده،و وقف غلام يعدّ عليه الغسل،حتى قال له:قد غسلت يدك أربعين مرّة،فقطع الغسل.
ص:358
فقلنا له:ما سبب هذا؟فامتنع،فألححنا عليه.
فقال:مات أبي و سنّي نحوا من عشرين سنة،و خلّف عليّ حالا صغيرة (1)، و أوصاني قبل موته بقضاء ديون عليه،و ملازمة السوق،و أن أكون أوّل داخل إليه، و آخر خارج منه،و أن أحفظ مالي.
فلمّا مات،قضيت دينه،و حفظت ما خلّفه لي،و لزمت الدكّان،فرأيت في ذلك منافع كثيرة.
فبينا أنا جالس يوما و لم يتكامل السوق،و إذا بامرأة راكبة على حمار، و على كفله (2)منديل دبيقيّ (3)،و خادم يمسك بالعنان،فنزلت عندي.
فأكرمتها،و وثبت إليها،و سألتها عن حاجتها،فذكرت ثيابا.
فسمعت-و اللّه-نغمة،ما سمعت قط أحسن منها،و رأيت وجها لم أر مثله، فذهب عنّي عقلي،و عشقتها في الحال.
فقلت[97 ن]لها:تصبرين حتى يتكامل السوق،و آخذ لك ما تريدين، ففعلت،و أخذت تحادثني،و أنا في الموت عشقا لها.
و خرج الناس،فأخذت لها ما أرادت،فجمعته،و ركبت و لم تخاطبني في ثمنه بحرف واحد،و كان ما قيمته خمسة آلاف درهم.
فلمّا غابت عنّي أفقت،و أحسست بالفقر،فقلت:محتالة،خدعتني بحسن وجهها،و رأتني حدثا،فاستغرّتني (4)،و لم أكن سألتها عن منزلها،و لا طالبتها بالثمن،لدهشتي بها.
فكتمت خبري لئلا أفتضح،و أتعجّل المكروه،و عوّلت على غلق دكّاني،
ص:359
و بيع كلّ ما فيها،و أوفي الناس ثمن متاعهم،و أجلس في بيتي مقتصرا على غلّة يسيرة من عقار كان خلّفه لي أبي[307 غ].
فلمّا كان بعد أسبوع،إذا بها قد باكرتني،و نزلت عندي،فحين رأيتها أنسيت ما كنت فيه و قمت لها.
فقالت:يا فتى،تأخّرنا عنك،و ما شككنا أنّا قد روّعناك،و ظننت أنّا قد احتلنا عليك.
فقلت:قد رفع اللّه قدرك عن هذا.
فاستدعت الميزان،فوفّتني دنانير قدر ما قلت لها عن ثمن المتاع،و أخرجت تذكرة (1)بمتاع آخر.
فأجلستها أحادثها،و أتمتّع بالنظر إليها إلى أن تكامل السوق،و قمت،و دفعت إلى كلّ إنسان ما كان له،و طلبت منهم ما أرادت،فأعطوني،فجئتها به، فأخذته و انصرفت،و لم تخاطبني في ثمنه بحرف.
فلمّا غابت عنّي ندمت،و قلت:المحنة هذه،أعطتني خمسة آلاف درهم، و أخذت منّي متاعا بألف دينار،و الآن إن لم أقع لها على خبر،فليس إلاّ الفقر، و بيع متاع الدكّان،و ما قد ورثته من عقار.
و تطاولت غيبتها عنّي أكثر من شهر و أخذ التجّار يشدّدون عليّ في المطالبة، فعرضت عقاري،و أشرفت على الهلكة.
فأنا في ذلك،و إذا بها قد نزلت عندي،فحين رأيتها زال عنّي الفكر في المال،و نسيت ما كنت فيه،و أقبلت عليّ تحادثني،و قالت:هات الطيّار (2)، فوزنت لي بقيمة المتاع دنانير.
ص:360
فأخذت أطاولها (1)في الكلام،فبسطتني،فكدت أموت فرحا و سرورا، إلى أن قالت:هل لك زوجة؟
فقلت[278 ر]:لا و اللّه يا سيّدتي،و ما أعرف امرأة قط،و بكيت.
فقالت:ما لك؟
قلت:خير،وهبتها ثم قمت و أخذت بيد الخادم الذي كان معها، و أخرجت له دنانير كثيرة،و سألته أن يتوسّط الأمر[250 م]بيني و بين ستّه.
فضحك،و قال:إنّها هي-و اللّه-أعشق منك لها،و ما بها حاجة إلى ما اشترته منك،و إنّما تجيئك محبّة لمطاولتك،فخاطبها بما تريد،فإنّها تقبله، و تستغني عنّي.
فعدت،و كنت قلت لها:إنّي أمضي لأنقد الدنانير،فلمّا عدت،قالت:
نقدت الدنانير؟و ضحكت،و قد كانت رأتني مع الخادم.
فقلت لها:يا ستّي،اللّه،اللّه،في دمي،و خاطبتها بما في نفسي منها، فأعجبها ذلك،و قبلت الخطاب أحسن القبول.
و قالت:الخادم يجيئك برسالتي بما تعمل عليه،و قامت و لم تأخذ منّي شيئا،فوفيت الناس أموالهم،و حصلت ربحا واسعا،و اغتممت خوفا من انقطاع السبب بيني و بينها،و لم أنم ليلتي قلقا و خوفا.
فلمّا كان بعد أيّام جاءني الخادم (2)،فأكرمته،و وهبت له دنانير لها صورة، و سألته عنها.
فقال:هي-و اللّه-عليلة من شوقها إليك.
فقلت:فاشرح لي أمرها؟
ص:361
فقال:هذه صبيّة ربّتها السيّدة أمّ أمير المؤمنين المقتدر باللّه،و هي من أخصّ جواريها عندها،و أحضاهنّ،و أحبهنّ إليها.
و إنّها اشتهت رؤية الناس،و الدخول[308 غ]و الخروج،فتوصّلت حتى صارت القهرمانة (1)،و صارت تخرج في الحوائج،فترى الناس.
و قد-و اللّه-حدّثت السيّدة بحديثك،و سألتها أن تزوّجها منك،فقالت:
لا أفعل،أو أرى الرجل،فإن كان يستحقّك،و إلاّ لا أدعك و اختيارك.
و تحتاج إلى أن تتحيّل في إدخالك إلى الدار (2)بحيلة،إن تمّت وصلت إلى تزويجها،و إن انكشفت ضربت عنقك،فما تقول؟
فقلت:أصبر على هذا.
فقال:إذا كان الليلة،فاعبر إلى المخرّم (3)،و ادخل المسجد الذي بنته السيّدة على شاطىء دجلة،و على حائطه الأخير مما يلي دجلة،اسمها مكتوب بالآجر المقطوع،فبت فيه.
قال أبو الفرج بن النرسي:و هو المسجد الذي قد سدّ بابه الآن سبكتكين، الحاجب الكبير،مولى معزّ الدولة،المعروف بجاشنكير (4)،و أضافه إلى ميدان
ص:362
داره،و جعله مصلّى لغلمانه.
قال الرجل:فلمّا كان قبل المغرب مضيت إلى المخرّم،فصلّيت في المسجد العشاءين،و بتّ فيه.
فلمّا كان وقت السحر،إذا بطيّار لطيف قد قدّم،و خدم قد نزلوا و معهم صناديق فارغة،فجعلوها في المسجد،و انصرفوا،و بقي واحد منهم،فتأمّلته، فإذا هو الواسطة بيني و بينها.
ثم صعدت الجارية و استدعتني،فقمت،و عانقتها،و قبّلت يدها،و قبّلتني قبلات كثيرة،و ضمّتني،و بكيت،و بكت.
و تحدّثنا ساعة،ثم أجلستني في واحد من الصناديق،و كان كبيرا،و أقفلته.
و أقبل الخدم يتراجعون بثياب،و ماء ورد،و عطر،و أشياء قد أحضروها من مواضع،و هي تفرّق في باقي الصناديق،و تقفل،ثم حملت الصناديق في الطيّار،و انحدر.
فلحقني من الندم أمر عظيم،و قلت:قتلت نفسي لشهوة لعلّها لا تتمّ، و لو تمّت ما ساوت قتل نفسي،و أقبلت أبكي،و أدعو اللّه عزّ و جلّ،و أتوب، و أنذر النذور،إلى أن حملت الصناديق بما فيها،ليجاز بها في دار الخليفة، و حمل صندوقي[خادمان أحدهما الواسطة بيني و بينها] (1).
و هي كلّما اجتازت بطائفة من الخدم الموكّلين بأبواب الحرم،قالوا:نريد نفتّش الصناديق،فتصيح على بعضهم،و تشتم بعضهم،و تداري بعضهم.
إلى أن انتهت إلى خادم ظننته رئيس القوم،فخاطبته بخضوع و ذلّة،فقال لها:لا بدّ من فتح الصناديق[251 م]و بدأ بصندوقي فأنزله.
ص:363
فحين أحسست بذلك ذهب عقلي،و غاب[279 ر]عليّ أمري،و بلت في الصندوق فرقا،فجرى بولي حتى خرج من خلله (1).
فقالت:يا أستاذ (2)،أهلكتني،و أهلكت التجّار،و أفسدت علينا متاعا بعشرة آلاف دينار في الصندوق ما بين ثياب مصبّغات،و قارورة فيها أربعة أمنان من ماء زمزم،قد انقلبت و جرت على الثياب،و الساعة تستحيل ألوانها.
فقال:خذي صندوقك،أنت و هو،إلى لعنة اللّه،و مرّي.
فحمل الخادمان[98 ن]صندوقي،و أسرعا به،و تلاحقت الصناديق [309 غ].
فما بعدنا ساعة حتى سمعتها تقول:ويلاه،الخليفة،فعند ذلك متّ، و جاءني ما لم أحتسبه.
فقال لها الخليفة:والك (3)،يا فلانة،أيّ شيء في صناديقك؟
ص:364
فقالت:ثياب للسيّدة.
فقال:افتحيها حتّى أراها.
فقالت:يا مولاي،الساعة تفتحها ستّنا بين يديك.
فقال:مرّي،هو ذا أجي (1).
فقالت للخدم:أسرعوا،و دخلت حجرة،ففتحت صندوقي،و قالت:
اصعد تلك الدرجة (2)،ففعلت،و أخذت بعض ما في تلك الصناديق،فجعلته في صندوقي،و أقفلته.
و جاء المقتدر،فحملت الصناديق إلى بين يديه،ثم عادت إليّ،فطيّبت نفسي،و قدّمت لي طعاما و شرابا،و ما يحتاج إليه،و أقفلت الحجرة،و مضت.
فلمّا كان من غد جاءتني،فصعدت إليّ،و قالت:الساعة تجيء السيّدة لتراك،فانظر كيف تكون؟
فما كان بأسرع من أن جاءت السيّدة،فجلست على كرسي،و فرّقت جواريها، و لم يبق معها غير واحدة منهنّ،ثم أنزلتني الجارية.
فحين رأيت السيّدة قبّلت الأرض،و قمت فدعوت لها.
فقالت لجاريتها:نعم ما اخترت لنفسك هو-و اللّه-كيّس،عاقل، و نهضت.
[فقامت معها صاحبتي و تبعتها](16)،و أتت إليّ بعد ساعة،و قالت:
ص:365
أبشر (1)فقد-و اللّه-وعدتني أن تزوّجني بك،و ما بين أيدينا عقبة إلاّ الخروج.
فقلت:يسلّم اللّه تعالى.
فلمّا كان من غد حملتني في الصندوق،و خرجت كما دخلت،و كان الحرص على التفتيش أقلّ،و تركت في المسجد الذي حملت منه في الصندوق، و قمت بعد ساعة،و مضيت إلى منزلي،و تصدّقت،و وفيت بنذري.
فلمّا كان بعد أيّام،جاءني الخادم برقعتها،بخطّها الذي أعرفه،و كيس فيه ثلاثة آلاف دينار عينا،و هي تقول في رقعتها:أمرتني السيّدة بإنفاذ هذا الكيس من مالها إليك،و قالت:اشتر ثيابا،و مركوبا،و غلاما يسعى بين يديك،و أصلح به ظاهرك،و تجمّل بكل ما تقدر عليه،و تعال يوم الموكب (2)إلى باب العامّة (3)،وقف حتى تطلب،و تدخل على الخليفة،و تتزوّج بحضرته.
فأجبت على الرقعة،و أخذت الدنانير،و اشتريت منها ما قالوه،و احتفظت بالباقي.
و ركبت بغلتي يوم الموكب إلى باب العامّة،و وقفت،و جاءني من استدعاني، فأدخلني على المقتدر،و هو على السرير،و القضاة،و الهاشميون،و الحشم، قيام،فداخلتني هيبة عظيمة،فخطب بعض القضاة،و زوّجني،و خرجت.
فلمّا صرت في بعض الممرّات،عدل بي إلى دار عظيمة،مفروشة بأنواع الفرش الفاخر،و الآلات،و الخدم،فأجلست،و تركت وحدي،و انصرف من أجلسني.
ص:366
فجلست يومي لا أرى من أعرف،و خدم يدخلون و يخرجون،و طعام عظيم ينقل،و هم يقولون:الليلة تزفّ فلانة-اسم زوجتي-إلى زوجها،ها هنا.
فلمّا جاء الليل أثّر الجوع فيّ،و أقفلت الأبواب،و أيست من[252 م] الجارية،فبقيت أطوف[310 غ]في الدار،إلى أن وقعت على المطبخ،فإذا قوم طبّاخون جلوس،فاستطعمت منهم،فلم يعرفوني،و ظنّوا أنّي بعض الوكلاء، فقدّموا إليّ زير باجة،فأكلت منها،و غسلت يدي بأشنان (1)كان في المطبخ، و أنا مستعجل لئلاّ يفطن بي،و ظننت أنّي قد نقّيت من ريحها،و عدت إلى مكاني.
فلمّا انتصف الليل إذا بطبول،و زمور،و الأبواب[280 ر]تفتح،و صاحبتي قد أهديت إليّ (2)،و جاءوا بها فجلوها عليّ (3)،و أنا أقدّر أن ذلك في النوم، و لا أصدّق فرحا به،و قد كادت مرارتي تنشقّ فرحا و سرورا،ثم خلوت بها، و انصرف الناس.
فحين تقدّمت إليها و قبّلتها،رفستني فرمت بي عن المنصّة،و قالت:أنكرت أن تفلح يا عامّي،أو تصلح يا سفلة (4)،و قامت لتخرج.
فتعلّقت بها،و قبّلت يديها و رجليها،و قلت:عرّفيني ذنبي،و اعملي بعده ما شئت.
ص:367
فقالت:ويلك،تأكل،و لا تغسل يدك؟و أنت تريد أن تختلي بمثلي؟
فقلت:اسمعي قصّتي،و اعملي ما شئت بعد ذلك.
فقالت:قل.
فقصصت عليها القصّة،فلمّا بلغت أكثرها،قلت:و عليّ،و عليّ، و حلفت بأيمان مغلظة،لا أكلت بعد هذا زير باجة (1)،إلاّ غسلت يدي أربعين مرّة.
[فأشفقت (2)،و تبسّمت،و صاحت:يا جواري،فجاء مقدار عشر جواري و وصائف] (3)فقالت:هاتم (4)شيئا للأكل.
فقدّمت إلينا مائدة حسنة،و ألوان فاخرة،من موائد الخلفاء،فأكلنا جميعا،و استدعت شرابا،فشربنا،أنا و هي،و غنّى لنا بعض أولئك الوصائف.
و قمنا إلى الفراش،فدخلت بها،و إذا هي بكر،فافتضضتها،و بتّ بليلة من ليالي الجنّة،و لم نفترق أسبوعا،ليلا و نهارا،إلى أن انقضت وليمة الأسبوع (5).
فلمّا كان من غد،قالت لي:إنّ دار الخليفة لا تحتمل المقام فيها أكثر من هذا،و ما تمّ لأحد أن يدخل فيها بعروس غيرك،و ذلك لعناية السيّدة بي، و قد أعطتني خمسين ألف دينار،من عين و ورق،و جوهر،و قماش،و لي بخارج القصر أموال و ذخائر أضعافها،و كلّها لك،فاخرج،و خذ معك مالا،و اشتر لنا دارا حسنة،عظيمة الاتّساع،يكون فيها بستان حسن،و تكون كثيرة الحجر،
ص:368
و لا تضيّق على نفسك،كما تضيق نفوس التجّار،فإنّي ما تعودت أسكن إلاّ في القصور،و احذر من أن تبتاع شيئا ضيّقا،فلا أسكنه،و إذا ابتعت الدار، فعرّفني،لأنقل إليك مالي،و جواريّ،و أنتقل إليك.
فقلت:السمع و الطاعة.
فسلّمت إليّ عشرة آلاف دينار،فأخذتها،و أتيت إلى داري،و اعترضت الدور،حتى ابتعت ما وافق اختيارها،فكتبت إليها بالخبر،فنفلت إليّ تلك النعمة بأسرها،و معها ما لم أظنّ قط أنّي أراه،فضلا عن أنّي أملكه،و أقامت عندي كذا و كذا سنة،أعيش معها عيش الخلفاء،و أتّجر في خلال ذلك،لأنّ نفسي لم تسمح لي بترك تلك الصنعة،و إبطال المعيشة،فتزايد مالي و جاهي، و ولدت لي هؤلاء[311 غ]الشباب (1)،و أومأ إلى أولاده،و ماتت رحمها اللّه، و بقي عليّ مضرّة الزير باجة (2)،إذا أكلتها،غسلت يدي أربعين مرّة (3).
ص:369
القهرمان:و جمعه قهارمة:مدبّر البيت،أو أمين الدخل و الخرج،يونانية(تفسير الألفاظ الدخيلة في اللغة العربيّة 59)،و أصل عمل القهرمانة في بلاط الخليفة،أن تؤدّي الرسائل عن الخليفة،و لكنّ ضعف الخلفاء،و احتجابهم في قصورهم،و تسلّط النساء،أدّى إلى سيطرة القهرمانة.
و كانت خالصة جارية الخيزران،لها في البلاط العبّاسي مقام منذ أيّام المنصور، فكانت تدخل على المنصور،و هو في مخدعه(الطبري 72/8)و كانت تترسل بين سيّدتها الخيزران و الخلفاء(الطبري 205/8)و كانت الخيزران تستشيرها في ما يجد لها من أمور (الطبري 206/8)و كانت مدلّة على سيّدتها،جريئة عليها(الطبري 212/8)و كان مال الخيزران في حوزتها(الطبري 213/8)كما كان مال المهدي و هو ولي عهد في حوزتها أيضا(الطبري 72/8).
و كان للمكتفي،داية اسمها فارس،نصبها قهرمانة لمّا استخلف،و كانت تتدخّل في نصب الوزراء و عزلهم(القصّة 171/3 من نشوار المحاضرة)و في دولة المقتدر،و كانت دولة السيّدة أمّه(كتاب الوزراء للصابي 308)أصبح للقهرمانة سيطرة تامّة على أمور الدولة، بحكم صلتها بالخليفة و السيّدة،فكانت القهرمانة تتدخّل في ترشيح الوزراء و كبار العمّال (تجارب الأمم 21/1 و 24)و في عزلهم و اعتقالهم(تجارب الأمم 40/1)و قد تحضر القهرمانة عقوبة الوزير المعزول(90/1 تجارب)أو يعهد إليها الخليفة بتعذيب من يريد تعذيبه (84/1)أو يعتقل لديها من يريد اعتقاله(40/1 تجارب)و من شهيرات القهرمانات في الدولة العبّاسية،فاطمة القهرمانة،غرق بها طيّارها في يوم ريح عاصف،تحت جسر بغداد في السنة 299(20/1 تجارب)و أمّ موسى الهاشميّة،عيّنت قهرمانة في قصر الخليفة في السنة 299(20/1 تجارب)و سيطرت سيطرة عظيمة،بحيث أنّ صاحبتها فرج النصرانيّة كان تحمل خاتم الخليفة لمن يعده بتوليته الوزارة(الوزراء 293)و انتهى أمر أمّ موسى بالاعتقال و المصادرة(تجارب الأمم 83/1)،و زيدان القهرمانة،اعتقل عندها الوزير علي بن عيسى لمّا عزل عن الوزارة(40/1 تجارب)،و بلغ من سطوتها،أنّ الوزير ابن الفرات كان يعنون رسائله إليها:يا أختي(الوزراء 172)،و ثمل القهرمانة،و كانت موصوفة
ص:370
بالشر و الإسراف في العقوبة(تجارب الأمم 84/1)و كانت تجلس للمظالم،و تنظر في رقاع الناس،في كلّ جمعة،و تصدر عنها التوقيعات(المنتظم 148/6).
و كانت للقاهرة قهرمانة اسمها اختيار،كانت هي السبب في استيزار محمّد بن القاسم ابن عبيد اللّه(تجارب الأمم 260/1).
و علم،قهرمانة المستكفي،و كان اسمها حسن الشيرازية،أغرت أمير الأمراء توزون، فخلع المتّقي و سمله،و نصب المستكفي خليفة بدلا منه،و أصبحت علم،قهرمانة الخليفة الجديد،فسيطرت على جميع مرافق الدولة و أمورها(تجارب الأمم 75/2)،و عند ما اعتقل المستكفي اعتقلت علم معه(تجارب 86/2)و سملت عيناها،و قطع لسانها(تجارب 100/2).
و كان لعزّ الدولة،بختيار البويهي،قهرمانة اسمها تحفة،تعقد المحالفات مع كبار الموظفين،لتحميهم،ثم يرشوها خصومهم،فتتركهم إلى غيرهم(تجارب الأمم 321/2- 323).
و كانت للأخشيد بمصر،قهرمانة اسمها(سماية)،بلغ من تأثيرها أن خصومة حصلت بين خليفة قاضي مصر الذي نصبه المطيع،و بين أحد الشهود،فأسقط القاضي شهادته، و أسجل بذلك،فشكا إليها الشاهد ذلك،فأحضرت القاضي،و أمرته بإحضار السجلّ، فأحضره،فمزّقت الحكم الذي أسجل فيه إسقاط شهادة الشاهد،و أصلحت بينهما، راجع ذلك في أخبار القضاة في كتاب الولاة للكندي ص 568.
و كانت«وصال»قهرمانة الخليفة القائم،تشترك في اختيار الوزراء(المنتظم 211/8 و 252).
و من القهرمانات،نظم القهرمانة،التي ذكرها القاضي التنوخي،في القصّة 70/4 من نشوار المحاضرة.
و منهنّ الجارية،صاحبة هذه القصّة،و كانت مملوكة للسيّدة أم المقتدر،و اشتهت أن تتصرّف،و أن تخرج إلى خارج القصر،فقهرمتها السيّدة،مما يدلّ على أنّ مبارحة قصر الخلافة محرّم على الحريم،إلاّ على القهرمانة.
ص:371
إسحاق الموصلي يتطفل و يقترح
حدّثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني رحمه اللّه تعالى،إملاء من حفظه، و كتبته عنه في أصول سماعاتي منه،و لم يحضرني كتابي فأنقله منه،فأثبته من حفظي،و توخّيت ألفاظه بجهدي،قال:حدّثني محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال:حدّثنا حمّاد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي،قال:حدّثني أبي،قال:] (1)
غدوت يوما،و أنا ضجر من ملازمة دار الخلافة،و الخدمة فيها،فركبت بكرة،و عزمت على أن أطوف الصحراء،و أتفرّج بها.
فقلت لغلماني:إن جاء رسول الخليفة،فعرّفوه أنّي بكّرت في مهمّ لي، و أنّكم لا تعرفون أين توجّهت.
و مضيت،و طفت ما بدا لي،ثم عدت و قد حمي النهار،فوقفت في شارع المخرّم،في الظلّ،عند جناح رحب في الطريق،لأستريح.
فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها،عليه جارية راكبة،تحتها منديل دبيقيّ،و عليها من اللّباس الفاخر ما لا غاية وراءه،و رأيت لها قواما حسنا، و طرفا فاتنا،و شمائل ظريفة،فحدست أنّها مغنّية (2).
فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها،و علقها قلبي في الوقت علوقا شديدا، لم أستطع معه البراح.
فلم ألبث إلاّ يسيرا،حتى أقبل رجلان شابّان جميلان،لهما هيأة تدلّ على قدرهما،راكبان،فاستأذنا،فأذن لهما،فحملني حبّ الجارية على أن نزلت
ص:372
معهما،و دخلت بدخولهما،فظنّا أنّ صاحب الدار دعاني،و ظنّ صاحب الدار أنّي معهما.
فجلسنا،فأتي بالطعام فأكلنا،و بالشراب فوضع،و خرجت الجارية،و في يدها عود،فرأيتها حسناء،و تمكّن ما في قلبي منها،و غنّت غناء صالحا،و شربنا.
و قمت قومة للبول،فسأل صاحب المنزل من الفتيين عنّي،فأخبراه أنّهما لا يعرفاني،فقال:هذا طفيلي،و لكنّه ظريف،فأجملوا عشرته.
و جئت،فجلست،و غنّت الجارية في لحن لي:
ذكرتك إذ مرّت (1)بنا أمّ شادن (2) أمام المطايا تستريب و تطمح (3)
من المولعات (4)الرمل أدماء (5)حرّة شعاع الضحى في متنها يتوضّح (6)
فأدّته أداء صالحا،ثم غنّت أصواتا فيها من صنعتي:
الطلول الدوارس فارقتها الأوانس
أوحشت بعد أهلها فهي قفر بسابس
فكان أثرها فيه أصلح من الأوّل،ثم غنّت أصواتا من القديم و المحدث، و غنّت في أضعافها من صنعتي،في شعري:
قل لمن صدّ عاتبا و نأى عنك جانبا
ص:373
قد بلغت الذي أرد ت و إن كنت لاعبا
و اعترفنا بما ادّعي ت و إن كنت كاذبا (1)
فكان أصلح ما غنّته،فاستعدته منها لأصحّحه لها،فأقبل عليّ رجل منهم، فقال:ما رأيت طفيليّا أصفق منك وجها،لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت، و هذا تصديق للمثل:طفيليّ و يقترح،فأطرقت،و لم أجبه،و جعل صاحبه يكفّه عنّي،فلا يكفّ.
ثم قاموا إلى الصلاة،و تأخّرت،فأخذت العود و شددت طبقته،و أصلحته إصلاحا محكما،و عدت إلى موضعي،فصلّيت،و عادوا،و أخذ الرجل في عربدته عليّ،و أنا صامت.
و أخذت الجارية العود،و جسّته،فأنكرت حاله،و قالت:من مسّ عودي؟
فقالوا:ما مسّه أحد.
قالت:بلى،و اللّه،قد مسّه حاذق متقدّم،و شدّ طبقته،و أصلحه إصلاح متمكّن من صنعته.
فقلت لها:أنا أصلحته.
قالت:باللّه عليك،خذه،فاضرب به.
فأخذته،و ضربت به مبدأ عجيبا،فيه نقرات محرّكة،فما بقي في المجلس أحد إلاّ وثب فجلس بين يدي.
و قالوا:باللّه عليك يا سيّدنا،أ تغنّي؟
قلت:نعم،و أعرّفكم نفسي أيضا،أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، و إنّي-و اللّه-لأتيه على الخليفة،و أنتم تشتموني اليوم،لأنّي تملّحت معكم بسبب
ص:374
هذه الجارية،و و اللّه،لا نطقت بحرف،و لا جلست معكم،أو تخرجوا هذا المعاند (1).
و نهضت لأخرج،فتعلّقوا بي،فلم أرجع،فلحقتني الجارية،فتعلّقت بي، فلنت،و قلت:لا أجلس،حتى تخرجوا هذا البغيض.
فقال له صاحبه:من هذا كنت أخاف عليك،فأخذ يعتذر.
فقلت:أجلس،و لكنّي،و اللّه،لا أنطق بحرف و هو حاضر،فأخذوا بيده،فأخرجوه.
فبدأت أغنّي الأصوات التي غنّتها الجارية من صنعتي،فطرب صاحب البيت طربا شديدا،و قال:هل لك في أمر أعرضه عليك؟
فقلت:و ما هو؟
قال:تقيم عندي شهرا،و الجارية لك بما لها من كسوة.
فقلت:أفعل.
فأقمت عنده ثلاثين يوما،لا يعرف أحد أين أنا،و المأمون يطلبني في كلّ موضع،فلا يعرف لي خبرا.
فلمّا كان بعد ذلك،سلّم إليّ الجارية و الخادم،و جئت بها إلى منزلي، و كان أهل منزلي في أقبح صورة لتأخّري عنهم.
و ركبت إلى المأمون من وقتي،فلمّا رآني،قال لي:يا إسحاق،ويحك، أين كنت؟فأخبرته بخبري.
فقال:عليّ بالرجل الساعة،فدللتهم على بيته،فأحضر،فسأله المأمون عن القصّة،فأخبره بها.
فقال:أنت ذو مروءة،و سبيلك أن تعان عليها،فأمر له بمائة ألف درهم.
ص:375
و قال:لا تعاشر ذلك المعربد السفل.
فقال:معاذ اللّه يا أمير المؤمنين[96 ن].
و أمر لي بخمسين ألف درهم،و قال لي:أحضر الجارية،فأحضرته إيّاها، فغنّته.
فقال لي:قد جعلت لها نوبة كلّ يوم ثلاثاء،تغنّيني من وراء الستارة،مع الجواري،و أمر لها بخمسين ألف درهم.
فربحت-و اللّه-بتلك الركبة،و أربحت (1).
ص:376
أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر
و وجدت في بعض الكتب:
أنّ عيسى بن موسى (1)،كان يحبّ زوجته حبّا شديدا،فقال لها يوما:
أنت طالق،إن لم تكوني أحسن من القمر.
فنهضت،و احتجبت عنه،و قالت:قد طلّقتني،فبات بليلة عظيمة.
فلمّا أصبح غدا إلى المنصور،و أخبره الخبر،و قال:يا أمير المؤمنين،إن تمّ طلاقها،تلفت نفسي غمّا،و كان الموت أحبّ إليّ من الحياة.
و ظهر للمنصور منه جزع شديد،فأحضر[253 م]الفقهاء،و استفتاهم، فقال جميع من حضر،قد طلفت،إلاّ رجلا من أصحاب أبي حنيفة،فإنّه سكت.
فقال له المنصور:ما لك لا تتكلّم؟
فقال:(بسم اللّه الرحمن الرحيم،و التين و الزيتون،و طور سنين،و هذا البلد الأمين،لقد خلقنا[99 ن]الإنسان في أحسن تقويم) (2)،فلا شيء أحسن من الإنسان.
فقال المنصور لعيسى بن موسى:قد فرّج اللّه تعالى عنك،و الأمر كما قال، فأقم على زوجتك.
و راسلها أن[281 ر]أطيعي زوجك،فما طلّقت.
ص:377
ما ثمانية و أربعة و اثنان
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني،قال:أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم بن بشّار الأنباري (1)،قال:حدّثني أبي،قال:حدّثني أحمد بن عبيد (2)،عن الهيثم بن عديّ (3)،عن عبد الملك بن عمير (4)،قال:
قدم علينا عمر بن هبيرة (5)الكوفة،فأرسل إلى عشرة،أنا أحدهم،من وجوه أهل الكوفة،فسمرنا عنده.
ثم قال:يحدّثني كل رجل منكم أحدوثة،و ابدأ أنت يا أبا عمرو.
فقلت:أصلح اللّه الأمير،أ حديث الحق،أم حديث الباطل؟
فقال:بل حديث الحق.
فقلت:إنّ امرء القيس بن حجر الكندي،آلي أليّة (6)،أن لا يتزوّج بامرأة حتى يسألها عن ثمانية،و أربعة،و اثنين،فجعل يخطب النساء،فإذا سألهنّ عنها، قلن:أربعة عشر.
ص:378
فبينا هو يسير في الليل،و إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة،كأنّها القمر لتمّه،فأعجبته.
فقال لها:يا جارية،ما ثمانية،و أربعة،و اثنان؟
فقالت:أمّا الثمانية:فأطباء الكلبة (1)،و أمّا الأربعة:فأخلاف الناقة (2)، و أمّا الاثنان:فثديا المرأة.
فخطبها من أبيها،فزوّجه منها،و اشترطت هي عليه،أن تسأله ليلة يأتيها، عن ثلاث خصال،فجعل لها ذلك،على نفسه،و على أن يسوق لها مائة من الإبل،و عشرة أعبد،و عشر وصائف،و ثلاثة أفراس،ففعل ذلك.
ثم إنّه بعث عبدا له إلى المرأة،و أهدى إليها نحيا من سمن (3)،و نحيا من عسل، و حلّة من قصب (4).
فنزل العبد ببعض المياه،فنشر الحلّة،و لبسها،فتعلّقت بشجرة فانشقّت، و فتح النحيين،و أطعم أهل الماء منهما.
ثم قدم على حيّ المرأة و هم خلوف (5)،فسألها عن أبيها،و أمّها،و أخيها، و دفع[312 غ]إليها هديّتها.
فقالت:أعلم مولاك،أنّ أبي ذهب يقرّب بعيدا،و يبعد قريبا،و أنّ أمّي ذهبت تشقّ النفس نفسين،و أنّ أخي يراعي الشمس،و أنّ سماءكم
ص:379
انشقّت،و أنّ وعائيكما نضبا.
فقدم الغلام على مولاه،و أخبره بما قالت.
فقال:أمّا قولها:ذهب أبي يقرّب بعيدا،و يبعد قريبا،فإنّ أباها ذهب يحالف قوما على قومه.
و أمّا قولها:ذهبت أمّي تشقّ النفس نفسين،فإن أمّها ذهبت تقبّل امرأة.
و أمّا قولها:إنّ أخي يراعي الشمس،فإنّ أخاها في سرح (1)له يرعاها، فهو ينتظر وجوب الشمس (2)ليروح.
و أمّا قولها:إنّ سماءكم انشقّت،فإن الحلّة التي بعثت بها معك انشقّت.
و أمّا قولها:إنّ وعائيكما نضبا،فإن النحيّين الذين بعثت بهما نقصا، فأصدقني.
فقال:يا مولاي،إنّي نزلت بماء من مياه العرب،فسألوني عن نسبي، فأخبرتهم أنّي ابن عمّك،و نشرت الحلّة فلبستها،و تجمّلت بها،فعلقت بشجرة، فانشقّت،و فتحت النحيين،فأطعمت منهما أهل الماء.
فقال:أولى[101 ن]لك (3).
ثم ساق مائة من الإبل،و خرج نحوها،و معه الغلام،فنزلا منزلا.
فقام الغلام ليسقي،فعجز،فأعانه امرؤ القيس،فرمى به الغلام في البئر، و انصرف حتى أتى المرأة بالإبل،فأخبرهم أنّه زوجها.
فقيل لها:قد جاء[254 م]زوجك.
فقالت:و اللّه،لا أدري أ هو زوجي أم لا،و لكن انحروا له جزورا (4)،
ص:380
و أطعموه من درشها و ذنبها،ففعلوا،فأكل ما أطعموه.
فقالت:اسقوه لبنا حازرا (1)و هو الحامض،فشرب.
فقالت:أفرشوا له عند الفرث (2)و الدم،ففرشوا له،فنام.
فلمّا أصبحت،أرسلت إليه:إنّي أريد أن أسألك.
فقال:سلي عمّا بدا لك.
فقالت:ممّ تختلج شفتاك؟
فقال:لتقبيلي فاك.
فقالت:ممّ يختلج كشحاك؟
قال:لالتزامي إيّاك.
فقالت:ممّ يختلج فخذاك؟
فقال:لتورّكي إيّاك.
فقالت:عليكم بالعبد،فشدّوا أيديكم به،ففعلوا.
قال:و مرّ قوم،فاستخرجوا امرء القيس من البئر،فرجع إلى حيّه،و استاق مائة من الإبل،و أقبل إلى امرأته.
فقيل لها:قد جاء زوجك.
فقالت:و اللّه،ما أدري أ هو زوجي أم لا،و لكن انحروا له جزورا،و أطعموه من كرشها و ذنبها،ففعلوا،فلمّا أتوه بذلك،قال:أين الكبد و السنام (3)و الملحة،و أبى أن يأكل.
ص:381
فقالت:أسقوه لبنا حازرا،فأبى أن يشرب،و قال:أين الضرب (1)و الزبد؟
فقالت:افرشوا له عند الفرث و الدم،فأبى أن ينام،و قال:افرشوا لي فوق التلعة (2)الحمراء،و اضربوا لي عليها خباء.
ثم أرسلت إليه تقول:هات شرطي عليك في المسائل الثلاث،فأرسل إليها سلي عمّا شئت.
فقالت:ممّ تختلج شفتاك؟
قال:لشربي المشعشعات[313 غ].
قالت:ممّ يختلج كشحاك؟
قال:للبسي الحبرات.
قالت:فممّ يختلج فخذاك؟
قال:لركوبي السابقات.
فقالت:هذا هو زوجي،فعليكم به،و اقتلوا العبد،[282 ر]فقتلوه، و أقبل امرؤ القيس على الجارية.
فقال ابن هبيرة:لا خير في سائر الحديث الليلة،بعد حديثك يا أبا عمرو، و لن يأتينا أحد بأعجب منه،فقمنا،و انصرفنا،و أمر لي بجائزة (3).
ص:382
أخبار قيس و لبنى
وجدت في كتاب الأغاني الكبير،لأبي الفرج المعروف بالأصبهاني،الذي أجاز لي روايته،في جملة ما أجازه لي،أخبار قيس بن ذريح الليثي،فقال في صدرها:
أخبرني بخبر قيس بن ذريح و لبنى امرأته،جماعة من مشايخنا،في قصص متّصلة و متقطّعة،و أخبار منظومة و منثورة،فألّفت جميع ذلك ليتّسق حديثه، إلاّ ما جاء منفردا،و حسن إخراجه (1)عن جملة النظم،فذكرته على حدته.
فممن أخبرنا بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري،قال:حدّثنا عمر بن شبّة،و لم يتجاوزه إلى غيره،و إبراهيم بن محمّد بن أيّوب عن ابن قتيبة.
و الحسن بن علي عن محمّد بن أبي السريّ،عن هشام محمّد الكلبي، و على روايته أكثر المعوّل.
و نسخت أيضا من أخباره المنظومة،أشياء ذكرها القحذمي،عن رجاله، و خالد بن كلثوم عن نفسه،[و من روى عنه،و خالد بن جميل] (2).
و نتفا حكاها اليوسفي صاحب الرسائل،عن أبيه،عن أحمد بن حمّاد، عن جميل (3)،عن ابن أبي جناح الكعبيّ،و حكيت كلّ متّفق فيه متّصلا، و كلّ مختلف في معانيه منسوبا إلى راويه،قالوا جميعا:
ص:383
كان منزل في ظاهر المدينة لذريح،و هو أبو قيس،و كان هو و أبوه من حاضرة المدينة (1).
فمرّ قيس في بعض حوائجه،ذات يوم،بحيّ من بني كعب بن خزاعة، و الحيّ خلوف،فوقف على خباء لبنى بنت الحباب الكعبيّة،و استسقى ماء، فسقته،و خرجت إليه به،و كانت امرأة مديدة القامة،شهلاء (2)،حلوة المنظر و الكلام،فلمّا رآها وقعت في نفسه،و شرب من الماء.
فقالت له:أتنزل عندنا؟
قال:نعم،فنزل بهم،و جاء أبوها،فنحر له و أكرمه.
و انصرف قيس،و في قلبه من لبنى حرّ لا يطفأ،فجعل ينطق بالشعر فيها حتى شاع خبره،و روي شعره فيها.
و أتاها يوما آخر،و قد اشتدّ وجده بها،فسلّم،فظهرت له،و ردّت سلامه، و رحّبت به،فشكى إليها ما يجد بها،و ما يلقى من حبّها،فبكت و شكت إليه [255 م]مثل ذلك،فعرف كلّ واحد منهما،ما له عند صاحبه.
ثم انصرف إلى أبيه،فأعلمه بحاله،و سأله أن يزوّجه إيّاها،فأبى عليه، و قال له:يا بنيّ عليك بإحدى بنات عمّك،فهنّ أحقّ بك،و كان ذريح كثير المال،و أحبّ أن لا يخرج ماله إلى غريبة.
فانصرف قيس،و قد ساءه ما خاطبه به أبوه،فأتى أمّه و شكى ذلك إليها، و استعان بها على أبيه،فلم يجد عندها ما يحبّ.
ص:384
فأتى الحسين بن علي،سلام اللّه عليهما (1)،فشكى ما به (2)،فقال له الحسين:أنا أكفيك.
فمضى معه إلى أبي لبنى،فلمّا بصر به،وثب إليه،و أعظمه،و قال:يا ابن رسول اللّه،ما جاء بك إليّ؟أ لا بعثت إليّ فآتيك؟
قال:قد جئتك خاطبا ابنتك لبنى،لقيس بن ذريح،و قد عرفت مكانه منّي (3)[314 غ].
فقال:يا ابن بنت رسول اللّه،ما كنت لأعصى لك أمرا،و ما بنا عن الفتى رغبة،و لكنّ أحبّ الأمرين إلينا،أن يخطبها ذريح علينا،و أن يكون ذلك عن أمره،فإنّا نخاف أن يسمع أبوه بهذا (4)،فيكون عارا و مسبّة علينا.
فأتى الحسين سلام اللّه عليه ذريحا،و قومه مجتمعون،فقاموا إليه و قالوا له مثل قول الخزاعيّ.
فقال:يا ذريح،أقسمت عليك بحقّي،إلاّ خطبت لبنى لابنك قيس.
فقال:السمع و الطاعة لأمرك.
و خرج معه في وجوه قومه،حتى أتى حيّ لبنى،فخطبها ذريح من أبيها على ابنه قيس،فزوّجه بها،و زفّت إليه.
فأقام معها مدّة،لا ينكر أحدهما من صاحبه شيئا.
ص:385
و كان قيس أبرّ الناس بأمّه،فألهته لبنى و عكوفه عليها عن بعض ذلك، فوجدت أمّه في نفسها،و قالت:لقد شغلت هذه المرأة ابني عن برّي.
و لم تر للكلام موضعا حتى مرض قيس مرضا شديدا،فلمّا برئ،قالت أمّه لأبيه:لقد خشيت أن يموت قيس و لم يترك خلفا،و قد حرم الولد من هذه المرأة،و أنت ذو مال،فيصير مالك إلى الكلالة (1)،فزوّجه غيرها،لعلّ اللّه عزّ و جلّ يرزقه ولدا،و ألحّت عليه في ذلك.
فأمهل ذريح حتى اجتمع قومه،ثم قال له:يا قيس،إنّك اعتللت هذه العلّة و لا ولد لك،و لا لي سواك،و هذه المرأة ليست[102 ن]بولود،فتزوّج إحدى بنات عمّك لعلّ اللّه تعالى أن يهب لك ولدا تقرّ به عينك و أعيننا.
فقال قيس:لست متزوّجا غيرها أبدا.
فقال أبوه:يا بنيّ،فإنّ مالي كثير،فتسرّ بالإماء.
فقال:و لا أسوؤها بشيء أبدا.
قال أبوه:فإنّي أقسم عليك إلاّ طلّقتها.
فأبى،و قال:الموت-و اللّه-أسهل عليّ من ذلك،و لكنّي أخيّرك خصلة من خصال.
فقال:و ما هي؟
قال:تتزوّج أنت،فلعلّ اللّه عزّ و جلّ أن يرزقك ولدا غيري.
فقال:ما فيّ فضل لذلك.
قال:فدعني أرحل عنك بأهلي،و أصنع ما كنت صانعا،لو كنت متّ في علّتي هذه.
فقال:و لا هذا.
قال:فأدع لبنى عندك،و أرتحل عنك إلى أن أسلوها،فإنّي ما تحبّ
ص:386
نفسي أن أعيش،و تكون لبنى غائبة عنّي أبدا،و أن لا تكون في حبالي.
فقال:لا أرضى بذلك،أو تطلّقها،و حلف لا يكنّه سقف بيت أبدا، حتى يطلّق لبنى.
و كان يخرج فيقف في حرّ الشمس،و يجيء قيس فيقف[283 ر]إلى جانبه،فيظلّه بردائه،و يصلى هو بحرّ الشمس،حتى يفيء الفيء عنه،و ينصرف إلى لبنى،فيعانقها،و يبكي،و تبكي معه.
و تقول له:يا قيس،لا تطع أباك،فتهلك،و تهلكني معك.
فيقول لها:ما كنت لأطيع أحدا فيك أبدا.
فيقال:إنّه مكث كذلك سنة (1)،ثم طلّقها لأجل والده،[فلم يطق الصبر عنها.
قال ابن جريج:أخبرت أن عبد اللّه بن صفوان لقي ذريحا أبا قيس،فقال له:ما حملك على أن فرّقت بين قيس و لبنى،أما علمت أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه،قال:ما أبالي فرّقت بين الرجل و امرأته،أو مشيت إليهما بالسيف.
و روى هذا الحديث،إبراهيم بن يسار الرمادي،عن[315 غ]سفيان بن عيينة،عن عمرو بن دينار،قال:
قال الحسين بن عليّ عليهما السلام لذريح بن سنة،أبي قيس:أحلّ لك أن فرّقت بين قيس و لبنى،أمّا أنّي سمعت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه،يقول:
ما أبالي فرّقت بين الرجل و امرأته،أو مشيت إليهما بالسيف] (2).
[قال أبو الفرج:أخبرني محمّد بن خلف،وكيع،قال:حدّثني محمّد بن زهير،قال:حدّثنا يحيى بن معين،قال:حدّثنا عبد الرزاق،قال:حدّثنا
ص:387
ابن جريج،قال:أخبرنا عمر بن أبي نصر (1)،عن ليث بن عمرو،أنّه سمع قيس بن ذريح يقول ليزيد بن سليمان:هجرني أبواي،إثنتي عشرة سنة، أستأذن عليهما،فيردّاني،حتى طلّقتها] (2).
قالوا:فلمّا بانت لبنى منه،بطلاقه إيّاها،و فرغ من الكلام،لم يلبث حتى استطير عقله،و لحقه مثل الجنون،و جعل يبكي و ينشج أحرّ نشيج،و بلغها الخبر،فأرسلت إلى أبيها ليحملها،و قيل:أقامت حتى انقضت عدّتها،و قيس يدخل إليها،فأرسلت إلى أبيها ليحملها،فأقبل أبوها بهودج على ناقة،و معه إبل،ليحمل أثاثها.
فلمّا رأى قيس ذلك،أقبل على جاريتها،و قال:ويحك،ما دهاني فيكم؟
فقالت:لا تسألني،و سل لبنى.
فذهب ليلّم بخبائها،فمنعه قومها،و أقبلت عليه امرأة من قومها،و قالت:
ويحك تسأل،كأنّك جاهل أو متجاهل،هذه لبنى ترحل الليلة أو غدا.
فسقط مغشيّا عليه،ثم أفاق،و بكى بكاء كثيرا،ثم أنشأ يقول:
و إنّي لمفن دمع عيني بالبكا حذار الذي قد كان أو هو كائن
و قالوا غدا أو بعد ذاك بليلة فراق حبيب لم يبن و هو بائن
و ما كنت أخشى أن تكون منيّتي بكفيّك إلاّ أنّ ما حان حائن
قال أبو الفرج:في هذه الأبيات غناء،و لها أخبار قد ذكرت في أخبار المجنون قيس بن الملوّح،مجنون بني عامر،ثم ذكر أبو الفرج بعد هذا عدّة قطع من شعر قيس بن ذريح.
ثم قال:قالوا:فلمّا ارتحل بها أبوها إلى قومها،أتّبعها مليّا،ثم علم أنّ
ص:388
أباها يسوءه أن يسير معها،و يمنعه ذلك،فوقف ينظر إليها و يبكي،حتى غابوا عن عينيه،فكرّ راجعا،فنظر إلى أثر خفّ بعيرها،فأكبّ عليه يقبّله،و رجع يقبّل موضع مجلسها،و أثر قدميها،فليم على ذلك،و عنّفه قومه في تقبيل التراب، فقال:
و ما أحببت أرضكم و لكن أقبّل إثر من وطىء الترابا
لقد لاقيت من كلفي بلبنى بلاء ما أسيغ له شرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى عييت فما أطيق له جوابا (1)
ثم ذكر أبو الفرج قطعا من شعر قيس،و أخبارا من أخباره منشورة،بأسانيد مفردة على الإسناد الذي رويته عنه ههنا،ثم رجع إلى مواضع من الحديث الذي جمع فيه من أسانيده،و أتى بسياقة يطول عليّ أن أذكرها في كتابي هذا، جملتها عظيم ما لحق قيس من التململ،و السهر،و الحزن،و الأسفار،و البكاء العظيم،و الجزع المفرط،و إلصاق خدّه بالأرض على آثارها،و خروجه في أثرها، و شمّ رائحتها،و عتابه نفسه في طاعة أبيه على طلاقها.
ثم اعتلّ علّة أشرف منها على الموت،فجمع له أبوه فتيات الحيّ يعلّلنه، و يحدّثنه،طمعا في أن يسلو عن لبنى،و يعلق بواحدة منهنّ،فيزوّجه منها، فلم يفعل،و قصّة له مع طبيب أحضر له،و قطع شعر كثيرة لقيس في[316 غ] خلال ذلك[257 م].
ثم إنّ أبا لبنى شكا قيسا إلى معاوية بن أبي سفيان،و ذكر تعرّضه لها بعد الطلاق.
فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم بهدر دمه إن تعرّض لها،فكتب مروان بذلك إلى صاحب الماء.
ص:389
ثم إنّ أباها زوّجها،فبلغ ذلك قيسا،فاشتدّ جزعه،و جعل يبكي أشدّ بكاء،و أتى حلّة (1)قومها،فنزل عن راحلته،و جعل يتعمّد (2)في موضعها، و يمرّغ خدّه على ترابها،و يبكي أحرّ بكاء،ثم قال قصيدته التي رواها أبو الفرج،التي أوّلها:
إلى اللّه أشكو فقد لبنى كما شكا إلى اللّه فقد الوالدين يتيم
و ذكر بعد هذا أخبارا له معها،و اجتماعات عفيفة كانت بينهما،بحيل طريفة،و وجدها به،و بكاءها في طلاقها،و إنكار زوجها-الذي تزوّجها بعد قيس-ذلك عليها،و مكاشفتها له،و علّة أخرى لحقت قيسا،و اشتهارهما، و افتضاحهما،و ما لحق قيسا و لبنى من الخبل،و اختلال العقل،و قطع شعر كثيرة لقيس أيضا في خلال ذلك،و أنّ قيسا مضى إلى ابن أبي عتيق (3)،فمضى به إلى يزيد بن معاوية،و مدحه و شكى إليه ما جرى عليه،فرقّ له،و رحمه،و أخذ له كتاب أبيه بأن يقيم حيث أحبّ،و لا يعترض له أحد،و أزال ما كتب به إلى مروان،من هدر دمه،و قطع شعر كثيرة أخرى لقيس في خلال ذلك،و أخبار مفردة،و مفصّلة.
ثم قال:و قد اختلف في أكثر أمر قيس و لبنى و ذكر كلاما يسيرا في ذلك، و الجميع في نيّف و عشرين ورقة.
ص:390
و ذكر القحذمي (1):أنّ ابن أبي عتيق،صار إلى الحسين بن علي،و جماعة من قريش (2)[103 ن]و قال لهم:إنّ[284 ر]لي حاجة أحبّ أن تقضوها، و أنا أستعين بجاهكم و أموالكم عليها.
قالوا:ذلك مبذول لك منّا،فاجتمعوا بيوم وعدهم فيه،فمضى بهم إلى زوج لبنى،فلمّا رآهم،أعظم مسيرهم إليه،و أكبره.
فقالوا:قد جئناك بأجمعنا في حاجة لابن أبي عتيق.
فقال:هي مقضيّة كائنة ما كانت.
فقال له ابن أبي عتيق:قد قضيتها كائنة ما كانت؟
قال:نعم.
قال:تهب لي اليوم لبنى زوجتك،و تطلّقها ثلاثا.
قال:فإنّي أشهدكم أنّها طالق ثلاثا.
فاستحيا القوم،و اعتذروا،و قالوا:و اللّه،ما عرفنا حاجته،و لو علمنا أنّها هذه،ما سألناك إيّاها.
قال ابن أبي عائشة:فعوّضه الحسين بن علي عليهما السلام عن ذلك مائة ألف درهم.
و حمل ابن أبي عتيق،لبنى معه،فلم تزل عنده،حتى انقضت عدّتها، و سأل القوم أباها،فزوّجها قيسا،و لم تزل معه حتى مات.
فقال قيس يمدح ابن أبي عتيق:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي على الإحسان خيرا من صديق
فقد جرّبت إخواني جميعا فما ألفيت كابن أبي عتيق
ص:391
سعى في جمع شملي بعد صدع و رأي حدت فيه عن الطريق
و أطفأ لوعة كانت بقلبي أغصّتني حرارتها بريقي
قال:فقال له ابن أبي عتيق:يا حبيبي،أمسك عن هذا الحديث،فما سمعه أحد إلاّ ظنّني قوّادا (1).
ص:392
عشق جارية زوجته فوهبتها له
و وجدت في بعض كتبي:قال أبو عبد اللّه محمّد بن علي بن حمزة:
كانت لزوجتي جارية حسنة الوجه،فعلقتها،و علمت زوجتي بذلك، فحجبتها عنّي،فاشتدّ ما بي من الوجد عليها[318 غ]،و قاسيت شدّة شديدة.
فبينا أنا ذات ليلة نائم،و مولاتها زوجتي إلى جانبي،إذ رأيت في منامي كأنّ الجارية حيالي،و أنا أبكي،إذ لاح لي إنسان فأنشدني:
وقفت حيالك أذري الدموع و أخلط بالدمع منّي دما
و أشكو الذي بي إلى عاذلي و لا خير في الحبّ أن يكتما
رضيت بما ليس فيه رضا بتسليم طرفك إن سلّما[104 ن]
فتهت عليّ و أقصيتني و أعزز عليّ بأن أرغما
قال:فانتبهت فزعا مرعوبا،و دعوت بدواة و قرطاس،و جلست في فراشي، و كتبت الشعر.
فقالت لي زوجتي:ما ذا تصنع؟فقصصت عليها القصّة و الرؤيا.
فقالت:هذا كلّه من حبّ فلانة؟قد وهبتها لك.
ص:393
باللّه يا طرفي الجاني على كبدي
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني إجازة،قال:أخبرني عمّي الحسن بن محمّد، قال:حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد،قال:حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن مالك الخزاعي،قال:حدّثنا معبد الصغير المغنّي،مولى عليّ بن يقطين (1)،قال:
كنت منقطعا إلى البرامكة،فبينما أنا ذات يوم في منزلي،و إذا بابي يدقّ، فخرج غلامي ثم رجع إليّ.
فقال:على الباب فتى ظاهر المروءة،يستأذن عليك.
فأذنت له،فدخل عليّ شاب،ما رأيت أحسن منه وجها،و لا أنظف ثوبا، و لا أجمل زيّا،عليه أثر السقم ظاهر.
فقال لي:يا سيّدي أنا منذ مدّة أحاول لقاءك،و لا أجد إليه سبيلا،و لي إليك حاجة.
قلت:ما هي؟فأخرج إليّ ثلثمائة دينار،فوضعها بين يديّ.
ثم قال:أسألك أن تقبلها،و تصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنّيني به.
فقلت له:هاتهما،فأنشدني:
باللّه يا طرفي الجاني على كبدي (2) لتطفئنّ بدمعي لوعة الحزن[285 ر]
أولا تؤخّر (3)حتى يحجبوا سكني (4) فلا أراه و لو أدرجت في كفني
ص:394
قال:فصنعت فيهما لحنا،ثقيل أوّل،مطلق في مجرى الوسطى،ثمّ غنّيته إيّاه،فأغمي عليه،حتى ظننته قد مات.
ثم أفاق،فقال:أعد فديتك.
قلت:أخشى أن تموت.
فقال:هيهات،هيهات،أنا أشقى من ذلك،فأعد عليّ.
و ما زال يخضع و يتضرّع،حتى أعدته،فصعق صعقة أشدّ من الأولى، حتى ظننت نفسه قد فاظت،فلمّا أفاق،رددت عليه الدنانير.
و قلت له:خذ دنانيرك،و انصرف عنّي،فقد قضيت حاجتك،و بلغت و طرا مما أردته،و لست أحبّ أن أشارك في دمك.
فقال:لا حاجة لي في الدنانير،و هذه مثلها لك،و أخرج ثلثمائة دينار أخرى.
و قال:أعد عليّ الصوت مرّة أخرى،و حلال لك دمي.
فقلت:لا و اللّه،إلاّ على شرط.
قال:و ما هو؟
قلت:تقيم عندي،و تتحرّم بطعامي و تشرب أقداحا من النبيذ تشدّ قلبك، و تسكّن بعض ما بك،و تحدّثني بقصّتك.
فقال:أفعل.
فأخذت الدنانير،و دعوت بطعام،فأصاب منه،و بالنبيذ،فشرب أقداحا، و غنيّته بشعر غيره في معناه،و هو يشرب و يبكي.
ثم قال:الشرط،أعزّك اللّه،فغنّيته صوته،فجعل يبكي أحرّ بكاء، و ينتحب.
فلمّا رأيت ما به قد خفّ عمّا كان يلحقه،و النبيذ قد شدّ من قوّته،كررت عليه صوته مرارا،ثم[323 غ]قلت له:حدّثني حديثك.
ص:395
فقال:أنا رجل من أهل المدينة،خرجت يوما متنزّها في ظاهرها،و قد سال العقيق (1)،في فتية و أقران،فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا نحن له، فجلسن قريبا منّا.
و نظرت بينهنّ إلى فتاة كأنّها قضيب بان قد طلّه الندى،تنظر بعينين،ما ارتدّ طرفهما إلاّ بنفس من يلاحظهما،[فأطلنا و أطلن] (2)،حتى تفرّق الناس.
و انصرفنا،و قد أبقت بقلبي جرحا بطيئا اندماله،فسرت إلى منزلي و أنا وقيذ (3).
و خرجت من غد إلى العقيق،و ليس فيه أحد،فلم أر لها أثرا،ثم جعلت أتتّبعها في طرق المدينة و أسواقها،فكأنّ الأرض ابتلعتها،و سقمت،حتى يئس منّي أهلي.
فأعلمت زوجة أبي بذلك،فقالت:لا بأس عليك،هذه أيّام الربيع قد أقبلت،و هي سنة خصب،و الساعة يأتي المطر،فتخرج و أخرج معك،فإنّ النسوة سيجئن،فإذا رأيتها أتّبعتها،حتى أعرف موضعها،ثم أصل بينكما، و أسعى لك في تزويجها.
قال:فكأنّ نفسي اطمأنّت،و رجعت،و جاء المطر،و سال العقيق،و خرجت
ص:396
مع إخواني إليه،و زوجة أبي معنا،فجلسنا مجلسنا الأوّل،فما كنّا و النسوة إلاّ كفرسي رهان (1)،فأومأت إلى زوجة أبي،فجلست قريبا منها.
و أقبلت على إخواني،فقلت لهم:أحسن و اللّه القائل،إذ يقول:
رمتني بسهم أقصد القلب و انثنت و قد غادرت جرحا به و ندوبا
فأقبلت على صويحباتها،و قالت:أحسن و اللّه القائل،و أحسن من أجابه حيث يقول:
بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلّنا نرى فرجا يشفي السقام قريبا[263 م]
قال:فأمسكت عن الجواب،خوفا أن يظهر منّي ما يفضحني و إيّاها، و انصرفنا.
و تبعتها زوجة أبي،حتى عرفت بيتها،و صارت إليّ،و أخذت بيدي،و مضينا إليها،و تزاورنا،و تلاقينا على حال مراقبة و مخالسة.
حتى ظهر ما بيني و بينها،فحجبها أهلها،و تشدّد عليها أبوها،فلم أقدر عليها.
فشكوت إلى أبي شدّة ما نالني،و شدّة ما ألقى،و سألته خطبتها.
فمضيت أنا و أبي و مشيخة قومي إلى أبيها،فخطبوها،فقال:لو كان بدأ بهذا من قبل أن يشهرها،لأسعفناه بحاجته و بما التمس،لكنّه قد فضحها،فلم أكن لأحقّق[286 ر]قول الناس فيها بتزويجه إيّاها،فانصرفت على يأس منها و من نفسي،قال معبد:فسألته أن ينزل بقربي،فأجابني،و صارت بيننا عشرة.
ثم جلس جعفر بن يحيى يوما للشرب،فأتيته،فكان أوّل صوت غنيّته بشعر الفتى،فطرب عليه طربا شديدا،و قال:ويحك لمن هذا الصوت؟
ص:397
فحدّثته فأمر بإحضار الفتى،فأحضر في وقته،فاستعاده الحديث،فأعاده.
فقال له:هي في ذمّتي،حتّى أزوّجك بها[324 غ]فطابت نفسي و نفس الفتى،و أقام معنا ليلتنا حتّى أصبح.
و غدا جعفر إلى الرشيد،فحدّثه الحديث،فعجب منه،و أمر بإحضارنا جميعا،و أمر بأن أغنّيه الصوت،فغنّيته،و شرب عليه،و سمع حديث الفتى.
فأمر من وقته،بأن يكتب إلى عامل الحجاز،باشخاص الرجل و ابنته، و سائر أهله إلى حضرته.
فلم تمض إلاّ مسافة الطريق،حتى أحضر،فأمر الرشيد بإحضاره إليه، فأوصل،و خطب إليه الجارية للفتى،فأجابه،فزوّجه إيّاها،و حمل الرشيد إليه ألف دينار مهرها (1)،و ألف[195 ن]دينار لجهازها،و ألف دينار لنفقته،في طريقه،و أمر للفتى بألفي دينار.
و كان المدينيّ بعد ذلك من جملة ندمائه (2).
ص:398
به من غير دائه و هو صالح
أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،قال:حدّثني محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر،قال:حدّثنا حمّاد بن إسحاق،قال:حدّثني أبي،قال:
سرت إلى سرّ من رأى بعد قدومي من الحجّ،فدخلت إلى الواثق باللّه، فقال:بأيّ[258 م]شيء أطرفتني من الأحاديث التي[317 غ]استفدتها من الأعراب و أشعارهم؟
فقلت:يا أمير المؤمنين جلس إليّ فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحاورني،فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان،منظرا،و حديثا،و ظرفا،و أدبا.
فاستنشدته،فأنشدني:
سقى العلم الفرد الذي في ظلاله غزالان مكتنّان مؤتلفان
إذا أمنا التفا بجيد تواصل و طرفاهما للريب مسترقان
أردتهما ختلا فلم أستطعهما و رميا ففاتاني و قد قتلاني
ثم تنفّس تنفّسا،ظننت أنّه قد قطع حيازيمه (1).
فقلت له:ما لك بأبي أنت؟
فقال:وراء هذين الجبلين شجني،و قد حيل بيني و بين المرور بهذه البلاد، و نذروا دمي،فأنا أتمّتع بالنظر إلى هذين الجبلين،تعلّلا بهما،إذا قدم الحاجّ، ثم يحال بيني و بين ذلك.
فقلت له:زدني مما قلت،فأنشدني:
ص:399
إذا ما وردت الماء في بعض أهله حضور فعرّض بي كأنّك مازح
فإن سألت عنّي حضور فقل لها: به غير (1)من دائه و هو صالح
فأمرني الواثق،فكتبت الشعرين.
فلمّا كان بعد أيّام دعاني،فقال لي:قد صنع بعض عجائز دارنا في أحد الشعرين لحنا،فاسمعه،فإن ارتضيته أظهرناه،و إن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحناه.
ثم غنّي لنا به من وراء الستارة،فكان في غاية الجودة،و كذلك كان يصنع إذا وضع لحنا.
فقلت له:أحسن-و اللّه-صانعه،يا أمير المؤمنين.
فقال:بحياتي؟
فقلت:إي و حياتك،و حلفت له بما وثق به.
فأمر لي برطل،فشربته،ثم أخذ العود،فغنّاه ثلاث مرّات،و سقاني عليه ثلاثة أرطال،و أمر لي بثلاثين ألف درهم.
فلمّا كان بعد أيّام،دعاني فقال:قد صنع بعض عجائز دارنا في الشعر الآخر لحنا،و أمر فغنّي به،فكان حالي مثل الحال في الشعر الأوّل،و حلفت له على جودته،فغنّاه ثلاث مرّات،و سقاني ثلاثة أرطال،و أمر لي بثلاثين ألف درهم.
ثم قال:هل قضيت حقّ حديثك (2)؟
فقلت:نعم يا أمير المؤمنين،أطال اللّه بقاءك،و أتمّ نعمته عليك.
فقال:و لكنّك لم تقض حقّ الأعرابي،و لا سألتني معونته على أمره؟و قد سبقت مسألتك،و كتبت بخبره إلى صاحب الحجاز،و أمرته بتجهيزه،و خطبة
ص:400
المرأة له،و حمل صداقها إلى قومها عنه من مالنا،ففعل.
فقبّلت يده،و قلت:السبق إلى المكارم لك،و أنت أولي بها من غيرك من سائر الناس (1).
قال:أبو الفرج:و صنعة الواثق في الشعرين جميعا من الرمل.
ص:401
عمر بن أبي ربيعة
و الجعد بن مهجع العذري
و حدّثني أبو الفرج القرشي،المعروف بالأصبهاني،قال:نسخت من كتاب [259 م]محمّد بن موسى بن حمّاد،قال:ذكر الرياشي قال:قال حمّاد الراوية:
أتيت في مكّة،إلى حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة المخزومي،فتذاكرنا العذريّين،و قال عمر بن أبي ربيعة:
كان لي صديق من بني عذرة يقال له:الجعد بن مهجع،و كان أحد بني سلامان،و كان يلقى من الصبابة،مثل الذي[ألقاه]بالنساء،على أنّه كان لا عاهر الخلوة،و لا سريع السلوة.
و كان يوافي الموسم في كلّ سنة،فإذا غاب (1)عن وقته،ترجّحت (2)عنه الأخبار،و توكّفت (3)له الأسفار (4)،حتى يقدم.
فغمّني ذات سنة إبطاؤه،حتى قدم حاجّ عذرة،فأتيت القوم أنشد صاحبي، فإذا غلام قد تنفّس الصعداء،و قال:عن أبي المسهر تسأل؟
قلت:نعم،و إيّاه أردت.
ص:402
فقال:هيهات،هيهات،أصبح-و اللّه-أبو المسهر،لا ميؤوس منه فيهمل،و لا مرجو فيعلّل،أصبح-و اللّه-كما قال القائل:
لعمري ما حبّي لأسماء تاركي أعيش و لا أقضي به فأموت
فقلت:ما الذي به؟
فقال:مثل الذي بك،من تهتّككما (1)في الضلال،و جرّكما أذيال الخسار،كأنّكما لم تسمعا بجنّة و لا نار.
فقلت:و من أنت منه،يا ابن أخي؟
قال:أخوه.
فقلت له:يا ابن أخي،ما منعك أن تسلك مسلكه من الأدب،و أن تركب منه مركبه[إلاّ أنّك و إيّاه كالبجاد و البرد،لا ترقعه و لا يرقعك] (2).
ثم صرفت وجه ناقتي،و أنا أقول:
أرائحة حجّاج عذرة وجهة و لمّا يرح في القوم جعد بن مهجع
خليلان نشكو ما نلاقي من الهوى متى ما يقل أسمع و إن قلت يسمع
ألا ليت شعري أيّ شيء أصابه فلي زفرات هجن ما بين أضلعي
فلا يبعدنك اللّه خلاّ فإنّني سألقى كما لاقيت في الحبّ مصرعي
ثم انطلقت حتى وقفت موقفا من عرفات،فبينا أنا كذلك،و إذا بإنسان قد تغيّر[319 غ]لونه،و ساءت هيأته،فأدنى ناقته من ناقتي،ثم خالف بين أعناقهما،و عانقني و بكى،حتى اشتدّ بكاؤه.
فقلت:ما وراءك؟
فقال:برح العذل،و طول المطل،ثم أنشأ يقول:
ص:403
لئن كانت عديّة ذات لبّ لقد علمت بأن الحبّ داء
ألم تنظر إلى تغيير جسمي و أنّي لا يفارقني البكاء
و أنّي لو تكلّفني سواها لخفّ الكلم و انكشف الغطاء 7
و أنّ معاشري و رجال قومي حتوفهم الصبابة و اللّقاء
إذا العذريّ مات خلّي ذرع فذاك العبد يبكيه الرشاء
فقلت:يا أبا المسهر،إنّها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض و غربها،فلو دعوت اللّه تعالى،كنت مؤمّلا لك أن تظفر بحاجتك.
قال:فتركني،و أقبل على الدعاء،فلمّا تدلّت الشمس للغروب،و همّ الناس أن يفيضوا،سمعته يتكلّم بشيء،فأصغيت إليه،فإذا هو يقول:
يا ربّ كلّ غدوة و روحة من محرم يشكو الضنا 8و لوحه
أنت حسيب 9الخطب يوم الدوحة
فقلت:و ما يوم الدوحة؟
فقال:و اللّه لأخبرنّك و لو لم تسألني،ثم أقبل عليّ،و قال:أنا رجل ذو مال من نعم و شاء،و ذو المال لا يصدره القلّ،و لا يرويه الثماد.
و أنّي خشيت عام أوّل على مالي التلف،و قطر الغيث أرض كلب،فانتجعت أخوالا لي منهم،فأوسعوا لي عن صدر المجلس،و سقوني جمّة الماء 10،و كنت معهم في خير أخوال.
ص:404
ثم إنّي عزمت على مرافقة إبلي بماء لهم،فركبت فرسي،و سمطت خلفي شرابا كان أهداه إليّ بعضهم،ثم مضيت.
حتى إذا كنت قريبا من الحيّ و مرعى الغنم،رفعت لي[260 م]دوحة عظيمة،فنزلت عن فرسي،و شددته ببعض أغصانها،و جلست في ظلّها.
فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار في ناحية الحيّ،ثم رفعت لي شخوص ثلاثة، ثم نظرت فإذا بفارس يطرد مسحلا و أتانا (1)،فتأمّلته،فإذا عليه درع أصفر، و عمامة خزّ سوداء (2)،و إذا فروع شعره تضرب خصريه (3)،فقلت:غلام، حديث عهد بعرس،أعجلته لذّة الصيد،فترك ثوبه،و لبس ثوب امرأته.
فما كان إلاّ يسيرا،حتى طعن المسحل،و ثنى بطعنة للأتان،فصرعهما، و أقبل راجعا نحوي،و هو يقول:
نطعنهم سلكى (4)و مخلوجة (5) كرّك لأمين (6)على نابل
فقلت:إنّك تعبت،و أتعبت فرسك،فلو نزلت.
فثنى[320 غ]رجله،فنزل،و شدّ فرسه بغصن من أغصان الشجرة، و ألقى رمحه،و أقبل حتى جلس،فجعل يحدّثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب:
و إنّ حديثا منك لو تبذلينه جنى النحل في ألبان عوذ مطافل (7)
ص:405
و قمت إلى فرسي،فأصلحت من أمره،ثم رجعت و قد حسر العمامة عن رأسه،و إذا غلام كأنّ وجهه الدينار المنقوش.
فقلت:سبحانك اللهم،ما أعظم قدرتك،و ما أحسن صنعتك؟
فقال لي:ممّ ذلك؟
فقلت:لما راعني من جمالك،و ما بهرني من نورك.
فقال:و ما الذي يروعك من حبيس التراب،و أكيل الدوابّ؟و ما يدري أ ينعم بعد ذلك،أم يبتئس.
قلت:لا يصنع اللّه بك إلاّ خيرا.
ثم تحدّثنا ساعة،فأقبل عليّ،فقال:ما الذي سمطت في سرجك؟
قلت:شرابا،أهداه إليّ بعض أهلي،فهل لك فيه من أرب؟
فقال:أنت و ذاك.
فأتيت به،فشرب منه،و جعل-و اللّه-ينكت بالسوط أحيانا على ثناياه، فيتبيّن[106 ن]لي أثر السوط فيهنّ (1).
فقلت:مهلا،إنّني أخاف أن تكسرهنّ.
فقال:و لم؟
قلت:لأنّهنّ رقاق عذاب.
قال:ثم رفع صوته يغنّي:
إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ثناياه لم يأثم و كان له أجرا
فإن زاد زاد للّه في حسناته مثاقيل يمحو اللّه عنه بها الوزرا
قال:ثم قام إلى فرسه،فأصلح من أمره،ثم رجع،فبرقت له بارقة تحت
ص:406
الدرع،فإذا ثدي كأنّه حقّ عاج.
فقلت:ناشدتك اللّه:أمرأة أنت؟
فقالت:نعم و اللّه،إلاّ أنّها تكره العار (1)،و تحبّ الغزل،ثم جلست، فجعلت تشرب معي،و ما أفقد من أنسنا شيئا،حتى نظرت إلى عينيها،كأنّهما عينا مهاة مذعورة،فو اللّه،ما راعني إلاّ ميلها تحت الدوحة سكرى.
فزيّن الشيطان لي-و اللّه-الغدر،و حسّنه في عيني،ثم إنّ اللّه عزّ و جلّ عصمني منه،فجلست منها حجرة (2).
ثم انتبهت فزعة مذعورة،فلاثت عمامتها برأسها،و جالت في متن فرسها، و قالت:جزاك اللّه عن الصحبة خيرا.
فقلت:أ لا تزوّديني منك زادا؟
فناولتني يدها،فقبّلتها،فشممت-و اللّه-منها ريح الشباب المطلول (3)، فذكرت قول الشاعر:
كأنّها إذ تقضّى النوم و انتبهت سيّابة ما لها عين و لا أثر
فقلت:و أين الموعد؟
فقالت:إنّ لي أخوة شوسا (4)،و أبا غيورا،و و اللّه،لأن أسرّك،أحبّ إليّ من أن أضرّك،و انصرفت.
فجعلت أتبعها بصري حتى غابت،فهي-و اللّه-يا ابن أبي ربيعة، أحلّتني هذا المحل،و أبلغتني هذا المبلغ.
ص:407
فقال:يا أبا المسهر،إنّ الغدر بك مع ما تذكر لمليح،فبكى،و اشتدّ بكاؤه.
فقلت:لا تبك،فما[261 م]قلت لك[321 غ]ما قلت إلاّ مازحا، و لو لم أبلغ حاجتك إلاّ بمالي و روحي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه.
فقال لي:جزيت خيرا.
فلمّا انقضى الموسم،شددت على ناقتي،و شدّ على ناقته،و دعوت غلامي فشدّ على بعير له،و حملت عليه قبّة من أدم حمراء،كانت لأبي ربيعة المخزومي، و حملت معي ألف دينار،و مطرف خزّ،و انطلقنا،حتى أتينا بلاد كلب.
فسألنا عن أبي الجارية،فوجدناه في نادي قومه،و إذا هو سيّد القوم، و الناس حوله،فوقفت على القوم،و سلّمت،فردّ الشيخ السلام.
ثم قال:من الرجل؟
قلت:عمر بن أبي ربيعة المخزومي.
فقال:المعروف غير المنكر،فما الذي جاء بك؟
قلت:جئت خاطبا.
قال:الكفؤ و الرغبة.
قلت:إنّي لم آت لنفسي من غير زهادة فيك،و لا جهالة بشرفك،و لكنّي أتيت في حاجة ابن أختكم (1)هذا العذريّ.
فقال:و اللّه،إنّه لكفيّ الحسب،رفيع النسب،غير أنّ بناتي لم ينفقن إلاّ في هذا الحيّ من قريش،فوجمت لذلك.
و عرف التغيّر في وجهي،فقال:إنّي صانع بك ما لم أصنع بغيرك.
قلت:مثلي من شكر،فما ذاك؟
قال:أخيّرها،و هي و ما اختارت.
ص:408
قلت:ما انصفتني،إذ تختار لغيري،و تولي الخيار غيرك.
فأشار إليّ العذريّ،أن دعه يخيّرها،قال:فأرسل إليها:أنّ من الأمر كذا و كذا.
فأرسلت إليه:ما كنت أستبدّ برأي دون القرشيّ،و الخيار في قوله و حكمه.
فقال لي:إنّها قد ولّتك أمرها،فاقض ما أنت قاض.
فقلت:اشهدوا أنّي قد زوّجتها من الجعد بن مهجع،و أصدقتها هذه الألف دينار،و جعلت تكرمتها العبد،و البعير،و القبّة،و كسوت الشيخ هذا المطرف، و سألته أن يبني الرجل عليها من ليلته.
فأرسل إلى أمّها،فأبت،و قالت:أ تخرج ابنتي كما تخرج الأمة؟
قال الشيخ:فعجّلي في جهازها.
فما برحت،حتى ضربت القبّة في وسط الحريم،و أهديت إليه ليلا، و بتّ أنا عند الشيخ.
فلمّا أصبحت،أتيت القبّة،فصحت بصاحبي،فخرج إليّ،و قد أثرّ السرور فيه.
فقلت:إيه.
فقال:أبدت-و اللّه-كثيرا مما كانت تخفيه عنّي يوم لقيتها،فسألتها عن ذلك،فأنشأت تقول:
كتمت الهوى لمّا رأيتك جازعا و قلت فتى بعض السرور يريد
و أن تطّرحني أو تقول فتيّة يضرّ بها برح الهوى فتعود
فورّيت عمّا بي و في داخل الحشا من الوجد برح فاعلمنّ شديد
فقلت:أقم على أهلك،بارك اللّه لك فيهم،و انطلقت،و أنا أقول:
كفيت الفتى العذريّ ما كان نابه و إنّي لأعباء النوائب حمّال[322 غ]
ص:409
أما استحسنت منّي المكارم و العلى إذا طرحت أنّي لمالي بذّال (1)
فقال العذريّ:
إذا ما أبو الخطاب خلّى مكانه فأفّ لدينا ليس من أهلها عمر
فلا حيّ فتيان الحجازين بعده و لا سقيت أرض الحجازين بالمطر (2)
ص:410
من سائر العرب وردة:فمنهم شرحبيل بن مسعود التنوخي،و عائد الطائي،و هي التي كان داود بن سعد التميمي عاشقا لها،فاستقبل النعمان بن المنذر،في يوم بؤسه،و قد خرج يريدها،و هو لا يعلم بيوم النعمان.
فقال له:ما حملك على استقبالي في يوم بؤسي؟
فقال:شدّة الوجد،و قلّة الصبر.
فقال:أو لست القائل؟:
وددت و كاتب الحسنات أنّي أقارع نجم وردة بالقداح
على قتلي بأبيض مشرفيّ و كوني ليلة حتى الصباح[107 ن]
مع الحسناء وردة إنّ قلبي من الحبّ المبرّح غير صاح
فإن تكن القداح عليّ تلقى ذبحت على القداح بلا جناح
و إن كانت عليه بيمن جدّي لهوت بكاعب خود رباح
قال:نعم.
قال:فإنّي مخيّرك إحدى اثنتين،فاختر لنفسك.
قال:ما هما أبيت اللعن؟
قال:أخلي سبيلك،أو أمتّعك سبعة أيّام،ثم أقتلك.
قال:بما تمتّعني؟
قال:بوردة.
قال:قبلت الثاني.
فساق النعمان مهرها إلى عمّها،و جمع بينهما،فلمّا انقضت الأيّام،أقبل
ص:412
على النعمان،و هو يقول:
إليك ابن ماء المزن (1)أقبلت بعد ما مضت لي سبع من دخولي على أهلي
مجيء مقرّ لاصطناعك شاكر مننت عليه بالكريم من الفعل
لتقضي فيه ما أردت قضاءه من العفو،أهل العفو،أو عاجل القتل
فإن كان عفو كنت أفضل منعم و إن تكن الأخرى فمن حكم عدل
فأحسن جائزته،و خلّى سبيله،و أنشأ النعمان يقول:[264 م]
لم ينل ما نال داو د بن سعد بن أنيس
إذ حوى من كان يهوى و نجا من كلّ بوس[325 غ]
و كذاك الطير يجري بسعود و نحوس
قال مؤلّف هذا الكتاب:و وجدت كتابا لأحمد بن أبي طاهر،سمّاه:
كتاب فضائل الورد على النرجس،أكبر قدرا،و أغزر فائدة من كتاب ابن لنكك،فوجدته قد ذكر فيه هذا الخبر.
قال:و ممن سمّى ابنته وردة،شرحبيل بن مسعود التنوخي،و هو صاحب العين،على مسيرة يوم و ليلة من تيماء اليمن.
و سليمان بن صرد،أمير الجيش الذي يقال لهم:التوّابون،الذين تولّوا الطلب بدم الحسين عليه السلام،و قتل عبيد اللّه بن زياد.
و سمّى عائد الطائي بنته وردة،و هي التي كان داود بن سعد التميمي،عاشقا لها...و ساق الخبر كما ذكره (2).
ص:413
الورد:في اللغة،نور كلّ شجرة،و زهر كلّ نبتة،ثم اقتصر على الورد المعروف، و قد توصّل الإنسان بفضل عنايته إلى إنتاجه على أشكال و ألوان مختلفة،و بروائح عطرة متنوّعة(لسان العرب،المنجد).
و كانت عناية الإنسان بالورد،منذ أقدم الأزمان،و استعمله الأطبّاء دواء،و وصفوه لكثير من الشكاة(القانون في الطبّ لابن سينا 299/1 و الجامع لمفردات الأدوية 189/4 و 190).
و ذكر القاضي التنوخي،في نشوار المحاضرة 19/5 إنّه أبصر وردا أصفر،عدّ ورق الوردة منه،فكانت ألف ورقة،و إنّه رأى وردا أسود حالك اللون،و إنّه رأى بالبصرة، وردة نصفها أحمر قاني الحمرة،و نصفها الآخر ناصع البياض.
و كان المتوكّل يقول:أنا ملك السلاطين،و الورد ملك الرياحين،فكلّ منّا أولى بصاحبه،و حرّم الورد على جميع الناس،و استبدّ به،و قال:إنّه لا يصلح للعامّة،فكان لا يرى الورد إلاّ في مجلسه،و كان في أيّام الورد يلبس الثياب المورّدة،و يفرش الفرش المورّدة،و يورّد جميع الآلات(مطالع البدور 93/1)و أراد مرّة أن يشرب على الورد،و لم يكن الموسم موسم ورد،فأمر،فضربت له دراهم خفيفة،مقدارها خمسة آلاف ألف درهم، و لوّنت بألوان الورد،و نثرت في مجلسه كما ينثر الورد،و شرب عليها(الديارات 160).
و ذكر التنوخي في نشوار المحاضرة،في القصّة 163/1 إنّه شاهد الوزير المهلّبي اشترى في ثلاثة أيّام متتابعة وردا بألف دينار،فرشه في مجالسه،و طرحه في بركة أمامه،و شرب عليه، و ذكر في القصّة 164/1 أنّ أبا القاسم البريدي،شرب بالبصرة في يوم واحد على ورد بعشرين ألف درهم.
و أولم الوزير أبو الفضل الشيرازي،لمعزّ الدولة البويهي،وليمة في داره الكائنة على ملتقى نهري دجلة و الصراة،موضعها الآن في رأس الجعيفر بالكرخ،فشدّ حبالا مفتولة على وجه الماء بين الشاطئين،ثم نثر الورد بكميات غطّت وجه النهر،و منعته الحبال المعترضة من الانحدار،فاستقرّ في موضعه،راجع وصف الوليمة و ما صرف عليها في كتاب الملح و النوادر للحصري 276 و 277.
ص:414
و كان الورد يتّخذ للتحيّات في مجالس الشراب،بأن يقدّم الساقي للنديم وردة،أو غصن آس،أو تفّاحة،مما له منظر جميل،و رائحة عذبة،و قد أفرد صاحب الموشى بابا في الورد(204-206)،و ما قيل في تفضيله و مدحه من الأشعار،ثم قال:إنّ فضائل الورد أكثر من أن يحصى عددها،أو يبلغ أمدها،و أنّه أفرد لذلك كتابا،بوّبه أبوابا، و ترجمه بكتاب العقد،و شحنه بفضل الورد(الموشى 206)،كما ذكر أنّ بعض المتظرّفين، كان يفضّل الآس على الورد،لأنّ الورد موسميّ،و الآس دائم الخضرة،(الموشى 205)، قال ابن زيدون:
لا يكن عهدك وردا إنّ عهدي لك آس
و أشهر أنواع الورود،الجوري،نسبة إلى جور،مدينة بفارس(معجم البلدان 147/2) و منه يستخرج ماء الورد.
و في بغداد أغنية قديمة،ما زالت شائعة،تقول:
أحبّك،أحبّك و أحبّ كلّ من يحبّك
و أحبّ الورد جوري لأنّه بلون خدّك
لاحظ أنّ المتعارف أن يشبّه خدّ المحبوب بالورد،أمّا شاعرنا العامّي البغدادي،فقد عكس الوضع،و شبّه الورد بوجنة المحبوب،فجاء نهاية في حسن التعبير.
ص:415
إبراهيم بن سيّابة يشكو فلا يجاب
أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني حبيب بن نصر المهلبي،قال:حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد،قال:حدّثني عبد اللّه بن نصر المروزيّ،قال:حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الطلحي،قال:حدّثنا سليمان بن يحيى بن معاذ،قال:
قدم على نيسابور إبراهيم بن سيّابة،يعني الشاعر البصري (1)،الذي كان جدّه حجّاما،فأعتقه بعض بني هاشم،فصار مولى لهم،فأنزلته عليّ،فجاءني ليلة من الليالي و هو مكروب،و قد هام،فجعل يصيح بي،يا أبا أيّوب؟فخشيت أن يكون قد غشيته بليّة،فقلت له:ما تشاء؟فقال:
أعياني الشادن الربيب.
فقلت له:ما ذا يقول؟،فقال:
أشكو إليه فلا يجيب.
فقلت:داره،و داوه،فقال:
من أين أبغي شفاء دائي و إنّما دائي الطبيب
ص:416
فقلت:فلا،إذن،إلى أن يفرّج اللّه تعالى،فقال:
يا ربّ فرّج إذن و عجّل فإنّك السامع المجيب
ثم انصرف (1).
ص:417
عزل عن الرافقة،فولّي دمشق
[قال محمّد بن عبدوس،في كتاب أخبار الوزراء و الكتّاب،أخبرني جعفر ابن أحمد،قال:حدّثني أبو العبّاس بن الفرات،قال:حدّثني محمّد بن عليّ بن يونس] (1)،قال:
لمّا سلّمت عمل دمشق إلى أبي المغيث الرافقي (2)،سألني أن أكتب له عليه، ففعلت،فلمّا تآنست أنا و هو،حدّثني أوّل خبره في تقلّد الناحية.
فقال لي:كنت قصدت عيسى بن موسى (3)،[ابن عمّي،و هو] (4)يتقلّد حمص،فقلّدني ربع فامية (5)،فأقمت إلى أن قدم ابن عمّ له،و هو أقرب إليه منّي،فصرفني،فانصرفت عنه إلى الرافقة (6)،و معي شيء مما كسبته.
و كانت لابنة عمّ لي،جارية نفيسة،قد ربّتها،و علّمتها الغناء،و كنت
ص:418
أدعوها،فألفتها،و وقعت من قلبي موقعا عظيما،و اشتدّ حبّي لها،فعملت على أن أبيع منزلي و أبتاعها،و ناظرت مولاتها في ذلك،فحلفت أنّها لا تنقص ثمنها عن ثلاثة آلاف دينار.
فنظرت،فإذا أنا أفتقر،و لا تفي حالي بثمنها،فقامت قيامتي،و اشتدّ وجدي، و انحدرت إلى سرّ من رأى،أطلب تصرّفا،أو ما به شراؤها.
و كان محمّد بن إسحاق الطاهري (1)،و أبوه (2)،يرجّيان لي (3)،فقصدت محمّدا،و معي دواب،و بقيّة من حالي،فأقمت عليه مدّة لم يسنح لي فيها تصرّف،فاشتدّت بي رقّة الحال،فانحدرت إلى بغداد،أقصد إسحاق بن إبراهيم الطاهري،فوردت في زورق.
و فكّرت في أمري،و على من أنزل،فلم أثق بغير محمّد بن الفضل الجرجرائي (4)،لمودّة كانت بيني و بينه،فقصدته،و نزلت عليه،و وقع ذلك منه أجلّ موقع،و فاتشني عن أمري،و سألني عن حالي،فذكرت له قصّتي مع الجارية.
فقال:و اللّه،لا تبرح من مجلسك حتى تقبض ثمنها،و أمر خادمه،فأحضر كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار،و سلّمت إليّ،و تأبّيت عليه،فحلف أيمانا مؤكّدة أن أقبلها.
و قال:إن اتّسعت لقضائه،و احتجت إليه،لم أمتنع من أخذه منك،
ص:419
فأخذت الكيس و شكرته،و تشاغلنا بالشرب.
فلمّا كان من الغد،أتى رسول إسحاق بن إبراهيم الطاهري يطلبني،فصرت إليه،فاحتفى به،و أكرمني،و قال:ما ظننت أنّك توافي بلدا أحلّه،فتنزل غير داري.
فقلت:و اللّه،ما وافيت إلاّ قاصدا الأمير،و لكنّ دوابّي تأخّرت،فتوقّعت ورودها،لأصير إلى باب الأمير عليها.
فدعا بكتب وردت من محمّد بن عبد الملك (1)،و فيها كتاب من أمير المؤمنين المعتصم،بولايتي دمشق،و أراني كتابا يعلمه فيه،ما جنى عليّ بن إسحاق من قتل رجاء بن[أبي]الضحّاك (2)بدمشق،و أنّ أمير المؤمنين رأى تقليدك، و طلبت بسرّ من رأى،فذكر له أنّك انحدرت إلى إسحاق بن إبراهيم،فأمر بتسليم كتبك إليّ،و دفع مائة ألف دينار لك معونة على خروجك،و أحضر المال،و وكّل بي من يستحثّني على البدار.
فورد عليّ من السرور ما أدهشني،و ودّعته،و خرجت إلى محمّد بن الفضل، فعرّفته ما جرى،و ودّعته أيضا،و أخرجت دنانيره،فرددتها عليه،فحلف بأيمان غليظة عظيمة،لا عادت إلى ملكه أبدا.
و قال:إن جلست في عملك و اتّسعت،لم أمتنع أن أقبل منك غير هذا.
ص:420
فشخصت،و مررت بالرافقة و ابتعت الجارية،و بلغت مناي بملكها، و اجتزت[173/2 ه]بحمص،بابن عمّي،و أنا أجلّ منه عملا،و دخلت عملي،فصنع اللّه سبحانه،و وسّع (1).
ص:421
أين اختبأ الأسدي
و وجدت في كتاب المتّيمين (1)للمدائني:
أنّ رجلا من بني أسد،علق امرأة من همدان بالكوفة،و شاع أمرهما، فوضع قوم المرأة عليه عيونا،حتى أخبروا أنّه قد أتاها في منزلها،فأتوا دارها، و احتاطوا بها.
فلمّا رأت ذلك،و لم تجد للرجل مهربا،و كانت المرأة بادنة،فقالت له:
ما أرى لك موضعا أستر لك من أن أدخلك خلف ظهري،و تلزمني،فأدخلته بينها و بين القميص،و لزمها من خلفها.
و دخل القوم،فداروا في الدار،حتى لم يتركوا موضعا إلاّ فتّشوه،فلمّا لم يجدوا الرجل،استحيوا من فعلهم،و أغلظت المرأة عليهم،و عنّفتهم،فخرجوا.
و أنشأ الرجل يقول:
فحبّك أشهاني و حبّك قادني لهمدان حتى أمسكوا بالمخنّق
فجاشت إليّ النفس أوّل مرّة فقلت لها لا تفرقي حين مفرقي
رويدك حتى تنظري عمّ تنجلي عماية هذا العارض المتألّق (2)
ص:422
جميل و بثينة
ذكر الهيثم بن عدّي،أنّ جماعة من بني عذرة حدّثوه:
أنّ جميل بثينة (1)حضر ذات ليلة عند خباء بثينة (2)،حتى إذا صادف منها خلوة تنكّر،و دنا منها،و كانت الليلة ظلماء،ذات غيم و رعد و ريح.
فحذف بحصاة،فأصابت بعض أترابها،ففزعت،و قالت:ما حذفني في هذه الليلة إلاّ الجنّ.
ففطنت بثينة أنّ جميلا فعل ذلك،فقالت لتربها:ألا فانصرفي يا أخيّة إلى منزلك حتى تنامي،فانصرفت،و بقيت مع بثينة أمّ الحسين-و يروى أمّ الجسير- بنت منظور (3)،و كانت لا تكتمها.
فقامت إلى جميل،فأدخلته الخباء معها،و تحدّثوا جميعا،ثم اضطجعوا، و ذهب به النوم حتى أصبحوا.
و جاءهم غلام زوجها بصبوح من اللبن،بعث به إليها،فرآها نائمة،و نظر جميلا،فمضى لوجهه،حتى خبّر سيّده.
ص:423
و كانت ليلى (1)رأت الغلام و الصبوح معه،و قد عرفت خبر جميل و بثينة، فاستوقفته كأنّها تسأله عن حاله،و طاولته الحديث،و بعثت بجارية لها،و قالت:
حذّري جميلا و بثينة.
فجاءت الجارية و نبّهتها،فلمّا تبيّنت بثينة أنّ الصبح قد أضاء،و الناس قد انتشروا،ارتاعت لذلك.
و قالت:يا جميل نفسك،فقد جاء غلام بعلي بصبوح من اللبن،فرآنا نائمين.
فقال جميل،و هو غير مكترث:
لعمرك ما خوّفتني من مخافة عليّ و لا حذّرتني موضع الحذر
و أقسم ما تلفى لي اليوم غرّة و في الكفّ منّي صارم قاطع ذكر
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النّضد،و قالت:إنّما أسألك خوفا على نفسي من الفضيحة،لا خوفا عليك،ففعل ذلك،و نامت،و أضجعت أمّ الحسين (2)إلى جانبها[100 ن]،[و ذهبت خادم ليلى إليها،فأخبرتها الخبر، فتركت العبد يمضي إلى سيّده،فمضى و الصبوح معه،و قال له:إنّي رأيت بثينة مضطجعة،و جميل إلى جنبها] (3).
فجاء زوجها[174/2 ه]إلى أخيها و أبيها،فعرفهما الخبر،و جاءوا بأجمعهم إلى بثينة،و هي نائمة،فكشفوا عنها الثوب،فرأوا أمّ الحسين 5إلى جانبها نائمة.
فخجل زوجها،و سبّ عبده،و قالت ليلى لأبيها و أخيها:قبّحكما اللّه،
ص:424
في كلّ يوم تفضحان المرأة في فنائكما،ويلكما،هذا لا يجوز.
فقالا:إنّما فعل هذا زوجها.
فقالت:قبّحه اللّه و إيّاكما،فجعلا يسبّان زوجها،و انصرفوا.
و أقام جميل تحت النضد إلى الليل،ثم ودّعها و انصرف (1).
ص:425
العمر أقصر مدّة من أن يضيّع في الحساب
[حدّثني الحسن بن صافي[مولى]ابن المتوكّل القاضي،قال:حدّثنا] (1)أبو القاسم علي بن أحمد الليثي الكاتب المعروف بابن كردويه،قال:كان لي صديق من أهل راذان (2)،عظيم النعمة و الضيعة،فحدّثني،قال:
تزوّجت في شبابي امرأة من آل وهب،ضخمة النعمة،حسنة الخلقة و الأدب،كثيرة المروءة،ذات جوار مغنّيات،فعشقتها عشقا مبرّحا،و تمكّن لها من قلبي أمر عظيم،و مكث عيشي بها طيّبا مدّة طويلة.
ثم جرى بيني و بينها بعض ما يجري بين الناس،فغضبت عليّ،و هجرتني، و أغلقت باب حجرتها من الدار دوني،و منعتني الدخول إليها،و راسلتني بأن أطلّقها.
فترضيّتها بكلّ ما يمكنني،فلم ترض،و وسّطت بيننا أهلها من النساء، فلم ينجع.
فلحقني الكرب و الغمّ،و القلق و الجزع،حتى كاد يذهب بعقلي،و هي مقيمة على حالها.
فجئت إلى باب حجرتها،و جلست عنده مفترشا التراب،و وضعت خدّي على العتبة،أبكي و أنتحب،و أتلافاها،و أسألها الرضا،و أقول كلّما يجوز أن يقال في مثل هذا،و هي لا تكلّمني،و لا تفتح الباب،و لا تراسلني.
ثم جاء الليل،فتوسّدت العتبة إلى أن أصبحت،و أقمت على ذلك ثلاثة
ص:426
أيّام بلياليها،و هي مقيمة على الهجران.
فأيست منها،و عذلت نفسي،و وبّختها،و رضتها على الصبر،و قمت من باب حجرتها،عاملا على التشاغل عنها.
و مضيت إلى حمّام داري،فأمطت عن جسدي الوسخ الذي كان لحقه، و جلست لأغيّر ثيابي و أتبخّر.
فإذا بزوجتي قد خرجت إليّ،و جواريها المغنّيات حواليها،بآلاتهنّ يغنّين، و مع بعضهنّ طبق فيه أوساط،و سنبوسج (1)،و ماء ورد،و ما أشبه ذلك.
فحين رأيتها استطرت فرحا،و قمت إليها،و أكببت على يديها و رجليها.
و قلت:ما هذا يا ستّي؟
ص:427
فقالت:تعال،حتى نأكل و نشرب،و دع السؤال.
و جلست و قدّم الطبق،فأكلنا جميعا،ثم جيء بالشراب،و اندفع الجواري بالغناء،و أخذنا في الشراب،و قد كاد عقلي يزول سرورا.
فلمّا توسّطنا أمرنا،قلت لها:يا ستّي،أنت هجرتيني (1)بغير ذنب كبير أوجب ما بلغته من الهجران،و ترضّيتك بكل ما في المقدرة،فما رضيت،ثم تفضّلت إبتداء بالرجوع إلى وصالي بما لم تبلغه آمالي،فعرّفيني ما سبب هذا؟
قالت:كان الأمر في سبب الهجر ضعيفا كما قلت،و لكن تداخلني من التجنّي ما يتداخل المحبوب،ثم استمرّ بي اللجاج،و أراني الشيطان أنّ الصواب فيما فعلته،فأقمت على ما رأيت.
فلمّا كان الساعة،أخذت دفترا كان بين يديّ[175/2 ه]و تصفّحته، فوقعت عيني منه على قول الشاعر:
العمر (2)أقصر مدّة من أن يضيّع في الحساب
فتغنّمي ساعاته فمرورها مرّ السحاب
قالت:فعلمت أنّها عظة لي،و أنّ سبيلي أن لا أسخط اللّه عزّ و جلّ بإسخاط زوجي،و أن لا أستعمل اللجاج،فأسوءك،و أسوء نفسي،فجئتك لأترضّاك، و أرضيتك.
فانكببت على يديها و رجليها،وصفا ما كان بيننا (3).
ص:428
/369/5اسحاق المصعبي تحرّكه رقاع أصحاب الأرباع ببغداد
/370/8ما خاب من استشار
/371/10منصور بن زياد يجحد نعمة يحيى البرمكي
/372/13درس في المروءة و الكرم
/373/16القدرة تذهب الحفيظة
/374/17ما صحب السلطان أخبث من عمر بن فرج الرخجي
/375/20مصعب بن الزبير يعفو عن أحد أسراه و يجعله من ندمائه
/376/22عمارة بن حمزة في كرمه و كبريائه
/377/25الهائم الراوية يقتل أسودا مصابا بداء الكلب
/378/28ابو جعفر بن شيرزاد كان لداره أربعة عشر بابا
/379/43تعذيب العمال المطالبين بضربهم بالمقارع و وضع الحجارة على أكتافهم
/380/46اللّه يجزي سعيد الخير نائلة
/381/49فان نلتني حجاج فاشتف جاهدا
/382/51أسود راجل رزقه عشرون درهما يبزّ في كرمه معن بن زائدة الشيباني
/383/54سبب رضا المنصور عن معن بن زائدة
/384/56قطن بن معاوية الغلابي يستسلم للمنصور
/385/61المأمون يغضب على ابراهيم الصولي ثم يرضى عنه
ص:429
/386/63الأمير سيف الدولة يصفح عن أحد أتباعه و يعيد إليه نعمته
/387/69ربما تجزع النفوس من الامر له فرجة كحلّ العقال
/388/73الوليد بن عبد الملك يعفو عن القمير التغلبي
/389/75مزنة امرأة مروان الجعدي تلجأ إلى الخيزران جارية المهدي
/390/83فرّ من اسحاق المصعبيّ فوجد كنزا
/391/86أبو أميّة الفرائضي يخلّص رجلا من القتل
/392/87المهدي يحتجّ على شريك برؤيا رآها في المنام
/393/89إنّ من البيان لسحرا
/394/91سقى معن بن زائدة أسراه ماءا فأطلقهم لأنّهم أصبحوا أضيافه
/395/92فتى بغداديّ قدّم للقتل و سئل ما يشتهي،فطلب رأسا حارّا و رقاقا
/396/94أشرف يحيى البرمكي على القتل فخلّصه إبراهيم الحرّاني وزير الهادي
/397/97رمي من أعلى القلعة أوّلا و ثانيا فنجا و سلم
/398/102سقط من علوّ ألف ذراع و نهض سالما
/399/104بين المهدي و يعقوب بن داود
/400/107جزاء الخيانة
/401/108الخائن لا يؤتمن
/402/110أراد ابن المعتز قتل يحيى بن المنجم فلم يمهله القدر
ص:430
/403/113الحجّاج بن خيثمة ينصح الحسن بن سهل
/404/116يحيى البرمكي يغري الرشيد بجعفر بن الأشعث
/405/119هب مجرم قوم لوافدهم
/406/121ضراوة الحجّاج على القتل
أ-قتل الحجّاج عامّة يومه الأسرى من أصحاب ابن الأشعث
ب-قتل جميع أسراه إلاّ واحدا
ج-احتجّ لقتله بأتفه حجّة فخلّصه اللّه منه بأهون سبيل
/407/125أمر الخليفة بضرب عنقه ثم لم يلبث أن عفا عنه
/408/126حسن ظنّه باللّه أنجاه من القتل و أطلقه من السجن
الباب التاسع:من شارف الموت بحيوان مهلك رآه،فكفّ اللّه ذلك بلطفه و نجّاه
/409/129آلى على نفسه أن لا يأكل لحم فيل أبدا
/410/133لقمة بلقمة
/411/135كفى بالأجل حارسا
/412/139ألجأته الضرورات إلى ركوب الأسد
/413/146القرد و امرأة القرّاد
/414/148تمكّن منه السبع ثم تخلّص منه بأهون سبيل
/415/150قتل فيلا بالقبض على خرطومه
/416/152قتلوا شبلا فاجتمع عليهم بضعة عشر سبعا
/417/154افترس السبع صاحب الدين و سلم الغريم
ص:431
/418/156الأفعى التي أخربت الضيعة
/419/160مفلوج لسعته عقرب جرّارة فعوفي
/420/162قضى ليلة في الجب بجوار أفعى
/421/166سقط طفل من القنطرة فالتقطه العقاب ثم نجا سالما
/422/168قصّة ابن التمساح
/423/170أبو القاسم العلوي يواجه الأسد
/424/174أعان الفيلة على قتل ثعبان فكافأوه بما أغناه
/425/177حلف بالطلاق أن لا يبيت بمناذر فكان ذلك سببا لإنقاذ شخص من براثن الأسد
/426/179حيلة ابن عرس في قتل الأفعى
/427/181ألقى نفسه على نبات البرديّ فوقع على أسد
/428/185كيف نجا من الأسد و الثعبان
/429/186قضى ليلة مع الأسد في حجرة مغلقة الباب
/430/188أخذه الأسد في المكان الذي أخذ فيه أباه
/431/190نجا من الأسد و افترس مملوكه
الباب العاشر:فيمن اشتدّ بلاؤه بمرض ناله فعافاه اللّه سبحانه بأيسر سبب و أقاله
/432/192دعاء يشفي من الوجع
/433/194وجأ نفسه بسكّين فعوفي من مرضه
/434/196يا قديم الإحسان لك الحمد
/435/199أبرأ أبو بكر الرازي غلاما ينفث الدم بإطعامه الطحلب
/436/201أصيب بوجع في المعدة و شفاه لحم جرو سمين
ص:432
/437/204ذكاء طبيب أهوازي
/438/206شجّ رأسه فمرض ثم شجّ بعدها فصلح
/439/208القطيعي الطبيب و ذكاؤه و مكارم أخلاقه
440/210 مريض بالاستسقاء تشفيه أكلة جراد
/441/213مريض بالاستسقاء يبرأ بعد أن طعم لحم أفعى
/442/215القاضي أبو الحسين بن أبي عمر يحزن لموت يزيد المائي
/442/218زمنة مقعدة يشفيها الحنظل
/444/219اشترى الرشيد لطبيبه ضياعا غلّتها ألف ألف درهم
/445/222لسعته عقرب فعوفي
/446/223أبرأته مضيرة لعقت فيها أفعى
الباب الحادي عشر:من امتحن من اللصوص بسرق أو قطع فعوّض من الارتجاع و الخلف بأجمل صنع
/447/227قاطع طريق يردّ على القافلة ما أخذ منها
/448/231قاطع طريق يتفلسف
/449/234القاضي التّنوخي والد المؤلّف و الكرخي قاطع الطريق
/450/238ابن حمدي اللصّ البغدادي و فتوّته و ظرفه
/451/241قطع عليه الطريق فتخلّص بخاتم عقيق
/452/244سرق ماله بالبصرة و استعاده بواسط
/453/248وضع السيف على عنقه ثم نجا سالما
/454/251كيف استعاد التاجر البصري ماله
/455/256صادف درء السيل درءا يصدعه
/456/259قصّة الأخوين عاد و شدّاد
ص:433
/457/264قارع سبعين من قطّاع الطريق و انتصف منهم
الباب الثاني عشر:فيمن ألجأه الخوف إلى هرب و استتار فأبدل بأمن و مستجدّ نعمة و مسارّ
/458/268يحيى بن طالب الحنفي يبارح وطنه مدينا و يعود إليه موسرا
/459/270العتّابي يؤدّب الأمين و المأمون
/460/272لماذا قتل أبو سلمة الخلاّل
/461/278أمير البصرة العبّاسي يحمي أمويّا
/462/281عبد الملك بن مروان يؤمّن ابن قيس الرقيّات و يحرمه العطاء
/463/287هشام بن عبد الملك و حمّاد الراوية
/464/291أكل على مائدته فأمضى له الأمان
/465/293الفضل بن الربيع يتحدّث عما لاقى أيّام استتاره من المأمون
/466/300و ما قتل الأحرار كالعفو عنهم
الباب الثالث عشر:فيمن نالته شدّة في هواه فكشفها اللّه عنه و ملّكه من يهواه
/467/306رأى القطع خيرا من قضيحة عاتق
/468/309من مكارم المقتدر
/469/316فارق جاريته ثم اجتمع شملهما
/470/328أمير البصرة يجمع بين متحابّين
/471/331من مكارم جعفر بن يحيى البرمكي
ص:434
/472/339من مكارم يحيى بن خالد البرمكي
/473/343ابن نوال ابن جعفر من نوال ابن معمر
/474/345ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى رجل من المتفقّهة
/475/349ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى صيرفي
/476/352الحسن بن سهل يحسن إلى الفسطاطي التاجر
/477/354الأشتر و جيداء
/478/358أقسم أن يغسل يده أربعين مرّة إذا أكل زير باجة
/479/372اسحاق الموصلي يتطفّل و يقترح
/480/377أنت طالق إن لم تكوني أحسن من القمر
/481/378ما ثمانية و أربعة و اثنان
/482/383أخبار قيس و لبنى
/483/393عشق جارية زوجته فوهبتها له
/484/394باللّه يا طرفي الجاني على كبدي
/485/399به غير من دائه و هو صالح
/486/402عمر بن أبي ربيعة و الجعد بن مهجع العذري
/487/411رضي أن يموت بعد أن يتمتّع بحبيبته أسبوعا واحدا
/488/416ابراهيم بن سيّابة يشكو فلا يجاب
/489/418عزل عن الرافقة فولي دمشق
/490/422اين اختبأ الأسديّ
/491/423جميل و بثينة
/492/426العمر أقصر مدّة من أن يضيّع في الحساب
ص:435