عنوان و نام پديدآور: الفرج بعد الشده/محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
مشخصات نشر: بیروت- لبنان: دارصادر
مشخصات ظاهری: 5ج.
کد کنگره: PJA 3910 / ف 4
موضوع: تربیت اخلاقی-- جنبه های مذهبی -- اسلام
موضوع: تربیت اخلاقی -- جنبه های قرآنی
موضوع: نثر عربی - قرن 4ق.
موضوع: داستانهای عربی - قرن 4ق.
در كتاب به داستان هایى پرداخته شده كه موضوعش فرج بعد از شدت است و دعاهایى نيز در اين باب ذكر شده است.
ص :1
ص:2
الفرج بعد الشده
محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
ص:3
ص:4
ابن جامع المغنّي يأخذ صوتا بثلاثة دراهم
فيفيد منه ثلاثة آلاف دينار
حدّث محمّد بن صلصال،عن اسماعيل بن جامع (1)،أنّه قال:
ضامني الدّهر ضيما شديدا بمكّة،فأقبلت منها بعيالي إلى المدينة،فأصبحت يوما،و ما معي إلاّ ثلاثة دراهم،لا أملك غيرها،و إذا يجارية على رقبتها جرّة،تريد الركيّ (2)،و هي تتغنّى بهذا الصوت:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا فقالوا لنا ما أقصر اللّيل عندنا
و ذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم سريعا و لا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا اللّيل المضرّ بذي الهوى قلقنا و هم يستبشرون إذا دنا
فلو أنّهم كانوا يلاقون مثلما نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال:فأخذ الغناء بقلبي،و لم يدر لي منه حرف.
فقلت:يا جارية ما أدري[151 ظ]أوجهك أحسن،أم غناؤك[124 ر]، فلو شئت،لأعدت.
فقالت:حبّا و كرامة،ثمّ أسندت ظهرها إلى جدار قريب منها،و رفعت إحدى رجليها،فوضعتها على الأخرى،و وضعت الجرّة على ساقها،ثمّ انبعثت، فغنّته،فو اللّه ما دار لي منه حرف.
فقلت:قد أحسنت،فلو تفضّلت،و أعدته مرّة اخرى.
ص:5
ففطنت،و كلحت (1).
و قالت:ما أعجب أمركم،لا يزال أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة (2)،فيحبسها.
فضربت يدي إلى الثلاثة دراهم،فدفعتها إليها،و قلت:أقيمي بهذه وجهك اليوم،إلى أن نلتقي.
فأخذتها كالكارهة،و قالت:أنت الآن تريد أن تأخذ منّي صوتا،أحسبك ستأخذ به ألف دينار،و ألف دينار،و ألف دينار،و انبعثت تغنّي.
فأعملت فكري في غنائها،حتّى دار لي الصوت،و فهمته،فانصرفت مسرورا إلى منزلي،و أنا أردّده،حتّى خفّ على لساني.
ثمّ إنّي خرجت إلى بغداد،فدخلتها،فطرحني المكاري بباب محوّل (3)، لا أدري أين أتوجّه،فلم أزل أمشي مع النّاس،حتّى أتيت الجسر (4)،فعبرته، ثمّ انتهيت إلى شارع الميدان (5)،فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن
ص:6
الرّبيع (1)مرتفعا،فقلت:هذا مسجد قوم سراة،فدخلته،و حضرت صلاة المغرب،فصلّيت،و أقمت بمكاني إلى أن صلّيت العشاء،و بي من الجوع و التعب أمر عظيم.
فانصرف أهل المسجد،و بقي رجل يصلّي،و خلفه جماعة خدم و فحول (2)، ينتظرون فراغه،فصلّى مليّا،ثمّ انصرف إليّ بوجهه،و قال:أحسبك غريبا.
قلت:أجل.
قال:فمتى كنت في هذه المدينة؟
قلت:دخلتها آنفا،و ليس لي بها منزل و لا معرفة،و ليست صناعتي من الصنائع الّتي يمتّ بها إلى أهل الخير.
فقال:و ما صناعتك؟
قلت:أغنّي.
فقام،و ركب مبادرا،و وكّل بي بعض من كان معه،فسألت الموكّل بي عنه،فقال لي:هذا سلام الأبرش (3)،ثمّ عاد،فأخذ بيدي،فانتهى بي إلى قصر من قصور الخليفة،فأدخلني مقصورة (4)في آخر الدهليز،و دعا بطعام من طعام الملوك على مائدة،فأكلت،فإنّي لكذلك،إذ سمعت ركضا في الدهليز،و قائلا يقول:أين الرّجل؟
فقيل:هو ذا.
ص:7
فدعي لي بغسول (1)،و طيب،و خلعة،فلبست،و تطيّبت،و حملت إلى دار الخليفة على دابّة،فعرفتها بالحرس،و التكبير،و النيران (2)،فجاوزت مقاصير عدّة،حتّى صرت إلى دار قوراء (3)،وسطها أسرّة،قد أضيف بعضها إلى بعض،فأمرت بالصعود،فصعدت،فإذا رجل جالس،و عن يمينه ثلاث جواري،و إذا حياله مجالس خالية،قد كان فيها قوم قاموا عنها.
فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر،فقال للرّجل:تغنّ،فغنّى صوتا لي و هو:
لم تمش ميلا،و لم تركب على جمل (4) و لم تر الشمس إلاّ دونها الكلل
تمشي الهوينا (5)كأنّ الشمس بهجتها مشي اليعافير (6)في جيآتها الوهل (7)
فغنّى بغير إصابة،و أوتار مختلفة الدساتين (8)،و عاد الخادم إلى الجارية الّتي تليه،فقال لها:غنّي،فغنّت أيضا،صوتا لي،كانت فيه أحسن حالا، و هو:
ص:8
يا دار أمست (1)خلاء لا أنيس بها إلاّ الظباء و إلاّ الناشط الفرد (2)
أين الّذين إذا ما زرتهم جذلوا و طار عن قلبي التشواق و الكمد[125 ر]
قال:ثمّ عاد إلى الثانية،فغنّت صوتا لحكم الوادي (3)،و هو:
فو اللّه ما أدري أ يغلبني الهوى إذا جدّ جدّ البين (4)أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب،و إن يغلب الهوى فمثل الّذي لاقيت يغلب صاحبه
ثمّ عاد إلى الثالثة،فقال لها غنّي،فغنّت بصوت لحنين (5)،و هو:
مررنا على قيسيّة عامريّة لها بشر صافي الأديم هجان (6)
فقالت و ألقت جانب الستر دونها لأيّة أرض أو لأيّ مكان (7)[152 ظ]
فقلت لها إمّا تميم فأسرتي هديت،و إمّا صاحبي فيماني
رفيقان ضمّ السفر بيني و بينه و قد يلتقي الشتّى فيأتلفان
ص:9
ثمّ عاد إلى الرّجل،فغنّى صوتا لي،فشبّه فيه (1)،من شعر عمر بن أبي ربيعة (2):
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كأنّ أحور من غزلان ذي رشأ (3) أعارها سنة العينين و الجيدا
و مشرقا كشعاع الشمس بهجته و مسبطرّا (4)على لبّاته سودا
ثمّ عاد إلى الجارية الأولى،فغنّت صوتا لحكم الوادي،و هو:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا فقلت لها إنّ الكرام قليل
و ما ضرّنا أنّا قليل و جارنا عزيز و جار الأكثرين ذليل
و إنّا أناس لا نرى القتل سبّة إذا ما رأته عامر و سلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا و تكرهه آجالهم فتطول
ثمّ عاد إلى الثانية،فغنّت صوتا،تقول فيه:
وددتك لمّا كان ودّك خالصا و أعرضت لما صار نهبا مقسّما
و لا يلبث الحوض الجديد بناؤه إذا كثر الوّراد أن يتهدّما
ثمّ عاد إلى الجارية الثالثة،فغنّت بشعر الخنساء (5)و هو:
ص:10
و ما كرّ إلاّ كان أوّل طاعن و ما أبصرته العين إلاّ اقشعرّت (1)
فيدرك ثارا و هو لم يخطه الغنى فمثل أخي يوما به العين قرّت
فلست أرزّى بعده برزيّة فأذكره إلاّ سلت و تجلّت
و غنّى الرّجل في الدور الثالث،بهذه الأبيات:
لحى اللّه صعلوكا مناه و همّه من الدّهر أن يلقى لبوسا و مطعما
ينام الضحى حتّى إذا لبله بدا (2) تنبّه مسلوب الفؤاد متيّما (3)
و لكنّ صعلوكا يساور همّه و يمضي إلى الهيجاء ليثا مصمّما (4)
فذلك إن يلق المنيّة (5)يلقها حميدا (6)و إن يستغن يوما فربّما
[قال:و تغنّت الجارية:
إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه (7)فإن حملتكما
فذاك و إن كان العقاب (8)فعاقب] (9)
قال:و غنّت الجارية،بشعر عمرو بن معدي كرب،و هو:
ألم ترني إذ ضمّني البلد القفر سمعت نداء يصدع القلب يا عمرو
ص:11
أغثنا فإنّا عصبة مذ حجيّة
نراد على وفر و ليس لنا وفر (1)[126 ر]
و أظنّه أغفل الثانية،فغنّت الثالثة،بهذه الأبيات:
فلمّا وقفنا للحديث و أسفرت (2) وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني و قلن امرؤ باغ أضلّ و أوضعا (3)
فلمّا تواضعن الأحاديث قلن لي أخفت علينا أن نغرّ و نخدعا
قال:فتوقّعت مجيء الخادم،فقلت للرّجل:بأبي أنت،خذ العود، و شدّ و تركذا،و ارفع الطبقة،و حطّ دساتن كذا،ففعل ما أمرته.
و خرج الخادم،فقال لي:تغنّ عافاك اللّه.
فغنّيت بصوت الرجل الأوّل،على غير ما غنّى،فإذا جماعة من الخدم يحضرون (4)حتّى استندوا إلى الأسرّة،فقالوا:ويحك لمن هذا الغناء؟
فقلت:لي.
فانصرفوا و عاد إليّ خادم،فقال:كذبت،هذا لابن جامع،فسكتّ.
و دار الدور الثاني،فلمّا انتهى إليّ،قلت للجارية الّتي تلي الرّجل، خذي العود،فعلمت ما أريد،فأصلحته على غنائها،فغنّيت به،فخرج الخدم،و قالوا:ويحك،لمن هذا الغناء؟
فقلت:لي.
فرجعوا،ثمّ عاد ذلك الخادم من بينهم،فقال:كذبت،هذا لابن جامع.
ص:12
و دار الدور،فلمّا انتهى إليّ الغناء،قلت للجارية الأخرى،سوّي العود على كذا،فعلمت ما أريد،و خرج الخادم فقال لي تغنّ،فغنّيت هذا الصوت، و هو لا يعرف إلاّ بي،و هو:[153 ظ]
عوجي عليّ فسلّمي جبر فيم الوقوف و أنتم سفر
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى (1) حتّى يفرّق بيننا النّفر (2)
فتزلزلت عليهم الدار،و خرج الخادم،فقال:ويحك،لمن هذا الغناء؟
فقلت:لي.
فمضى،ثمّ عاد،فقال:كذبت،هذا لابن جامع.
قلت:فأنا ابن جامع.
فما شعرت إلاّ و أمير المؤمنين،و جعفر بن يحيى،قد أقبلا من وراء الستر الّذي كان يخرج منه الخادم (3).
فقال لي الفضل بن الرّبيع:هذا أمير المؤمنين،قد أقبل إليك،فلمّا صعد السرير،و ثبت قائما.
فقال:ابن جامع؟
فقلت:ابن جامع،جعلت فداك،يا أمير المؤمنين.
فقال:متى كنت في هذه المدينة؟
فقلت:دخلتها في الوقت الّذي علم بي فيه أمير المؤمنين.
ص:13
فقال:اجلس،و مضى هو و جعفر،فجلسا في تلك المجالس.
فقال:ابشر،و ابسط أملك،فدعوت له.
فقال:غنّ يا ابن جامع،فخطر ببالي صوت الجارية السوداء،فأمرت الرّجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة،فعرف ما أريد،فوزنه وزنا.
فلمّا أخذت الأوتار و الدساتين مواضعها،و تعاهدها،ابتدأت أغنّي بصوت الجارية،فنظر الرّشيد إلى جعفر،فقال:هل سمعت كذا قط؟
قال:لا و اللّه،و لا خرق مسامعي مثله قط.
فرفع الرّشيد رأسه إلى خادم كان بالقرب منه،فأتى بكيس فيه ألف دينار، فرمى به إليّ،فصيّرته تحت فخذي،و دعوت له.
فقال:يا ابن جامع،ردّ عليّ هذا الصوت،فردّدته عليه،و تزيّدت في غنائي.
فقال له جعفر:أما ترى كيف تزيّد في الغناء،و هذا خلاف الأوّل، و إن كان اللّحن واحدا.
فرفع الرّشيد رأسه إلى الخادم،فأتى بكيس فيه ألف دينار،فرمى به إليّ،فجعلته تحت فخذي الآخر.
ثمّ قال:تغنّ يا إسماعيل بما حضرك.
فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت،بما كان يبلغني أنّه يشتري عليه الجواري،فأغنّيه،فلم أزل كذلك،إلى أن عسعس الليل.
فقال:أتعبناك يا إسماعيل هذه اللّيلة،فأعد عليّ الصوت،يعني صوت الجارية،فغنّيته به،فرفع رأسه إلى الخادم،فوافى بكيس ثالث فيه ألف دينار.
فذكرت[127 ر]قول الجارية،فتبسّمت،فلحظني،و قال:يا ابن الفاعلة،فيم تبسّمت؟
فجثيت على ركبتي،و قلت:يا أمير المؤمنين،الصدق منجاة.
قال:قل.
ص:14
فقصصت عليه خبر الجارية،فلمّا استوفيته،قال:صدقت،قد يكون مثل هذا،و قام.
و نزلت من وراء الستر،لا أدري أين أمضي،فابتدرني فرّاشان،فصارا بي إلى دار قد أمر لي أمير المؤمنين بها،فيها من الفرش،و الآلة،و الخدم، جميع ما أريد،فدخلت فقيرا،و أصبحت من المياسير.
ذكر الاصبهاني:أنّ صوت إسماعيل الّذي غنّاه،لا يعرف إلاّ به،و هو:
فلو كان لي قلبان عشت بواحد و خلّفت قلبا في هواك يعذّب
و لكنّني أحيا بقلب معذّب (1) فلا العيش يصفو لي و لا الموت يقرب
تعلّمت أسباب الرّضا خوف سخطها
و علّمها حبّي لها كيف تغضب
و لي ألف وجه قد عرفت مكانه و لكن بلا قلب إلى أين أذهب (2)
ص:15
ابن هرمة يتحدّث عن أفضال
عبد الواحد بن سليمان عليه
قال:قال رجل لابن هرمة (1):بما استحقّ منك عبد الواحد بن سليمان (2)أن تقول فيه؟:
أعبد الواحد المأمول إنّي أغصّ حذار سخطك بالقراح
وجدنا غالبا كانت جناحا و كان أبوك قادمة الجناح
فقال:إن ذهبت أعدّد صنائعه الّتي استحقّ بها منّي هذا القول،طالت، و لكن أخبرك بأصغر صنيعة له عندي.
كنت منقطعا إليه بالمدينة[154 ظ]أيّام كان يتولاّها،فأغناني عن سواه،ثمّ عزل،فظننت أنّ الوالي سيحسن اليّ،فلم يبرّني بشيء،فأنفقت ما كان معي،حتّى لم يبق لي شيء.
فقلت لأختي:ويحك،أما ترين ما أنا فيه من الشدّة،و تعذّر القوت؟ قالت:بسوء اختيارك.
قلت:فبمن تشيرين؟
ص:16
فقالت:ما أعرف لك غير عبد الواحد بن سليمان.
فقلت:و من لي به،و هو بدمشق،و أنا بالمدينة؟
فقالت:أنا أعينك على قصدك إليه.
فقلت:افعلي.
فباعت حليا كان لها،و اشترت لي راحلة،و زوّدتني،فوافيت دمشق بعد اثنتى عشرة ليلة،فأنخت عشاء على باب عبد الواحد،و عقلت راحلتي، و دخلت المسجد،فحططت فيه رحلي.
فلمّا صلّى عبد الواحد،و جلس يسبّح،حوّل وجهه إلى جلسائه،فنظر إلى رحلي،فقال:لمن هذا؟
فوثبت،و قبّلت يده،و قلت:أنا يا سيّدي،عبدك ابن هرمة.
فقال:ما خبرك يا أبا اسحاق؟
فقلت:شرّ خبر،بعدك-أيّها الأمير-تلاعبت بي المحن،و جفاني الصديق،و نبا بي الوطن،فلم أجد معوّلا إلاّ عليك.
فو اللّه،ما أجابني إلاّ بدموعه،ثمّ قال:ويحك،أبلغ بك الجهد إلى ما ذكرت؟
فقلت:إي و اللّه،و ما أخفيه عنك أكثر.
فقال:اسكن،و لا ترع.
ثمّ إنّه نظر إلى فتية بين يديه،كأنّهم الصقور،فوثبوا،فاستدعى أحدهم، و همس إليه بشيء،فمضى مسرعا،ثمّ أومأ إلى الثاني،فهمس إليه بشيء،و كذلك الثالث،فمضى.
ثمّ أقبل الأوّل،و معه خادم على رأسه كيس،فصبّه في حجري،فقال له أبوه:كم هذا؟
فقال:ألف دينار و سبعمائة دينار،و و اللّه ما في خزانتك غيرها.
ص:17
ثمّ أقبل الثاني،و بين يديه عبد على كتفه كارة،فصبّها بين يديه،فإذا فيها حلي مخلّع من بناته و نسائه.
فقال:و اللّه،ما تركت لهنّ شيئا،إلاّ أخذته.
و أقبل الثالث[128 ر]،و معه غلامان،معهما كارتان عظيمتان من فاخر ثيابه،فوضع ذلك بين يديّ.
ثمّ قال:يا ابن هرمه،أنا أعتذر إليك من قلّة ما حبوتك به،مع بعد العهد،و طول الشقّة،وسعة الأمل،و لكنّك جئتنا في آخر السنة،و قد تقسّمت أموالنا الحقوق،و نهبتنا أيدي المؤمّلين،فلم يبق عندنا غير هذه الصبابة (1)، آثرناك بها على أنفسنا،و سللناها لك من أفواهنا،و لو قدمت قبل هذا الإعسار، لأعطيناك ما يكفيك،و لو علمنا بك،لأتاك عفوا،و لم تتجشّم المشقّة،و لم نحوجك إلى سوانا،و ذلك منّا لك أبدا،ما بقيت،فأقسم عليك،لما أصبحت إلاّ على ظهر راحلتك،و تداركت أهلك،فخلّصتهم من هذه المحنة،فقمت إلى ناقتي،فإذا هي قد ضعفت.
فقال:ما أرى في ناقتك خيرا،يا غلام،أعطه ناقتي الفلانيّة،فجئ بها برحلها،فكانت-و اللّه-أحب إليّ من جميع ما أعطاني،ثقة ببلوغها، ثمّ دعا بناقتين أخريين،و أوقرهما من المال،و الثّياب،و زادا يكفيني لطريقي، و وهب لي عبدين.
و قال:هذان يخدمانك في السقي و الرعي،فإن شئت بعتهما،و إن شئت أبقيتهما،أ فتلومني أنّي أغصّ حذار سخطه بريقي؟
قال:لا و اللّه (2).
ص:18
القائد هرثمة بن أعين
يتحدّث عمّا أمره به الهادي في ليلة موته
حدّثني علي بن هشام،عن محمّد بن الفضل:أنّ هرثمة بن أعين (1)،قال:
كنت اختصصت بموسى الهادي،و كنت-مع ذلك-شديد الحذر منه، لإقدامه على سفك الدماء (2).
فاستدعاني نصف نهار،في يوم شديد الحرّ،قبل أكلي،فتداخلني منه رعب،و بادرت فدخلت عليه،و هو في حجرة من دور حرمه،فصرف جميع من كان بحضرته،و قال لي:اخرج و أغلق الباب،وعد إليّ،فازداد جزعي، ففعلت،و عدت إليه.
فقال لي:قد تأذّيت بهذا الكلب الملحد،يحيى بن خالد،ليس له فكر غير تضريب الجيش (3)،و اجتذابهم إلى صاحبه هارون،يريد أن يقتلني، و يسوق[155 ظ]إليه الخلافة،و أريد أن تمضي اللّيلة إلى هارون،و تقبض عليه،و تذبحه،و تجيني برأسه،إمّا في داره،و إمّا أن تخرجه برسالتي تستدعيه إلى حضرتي،ثمّ تعدل به إلى دارك،فتقتله،و تجيني برأسه.
فورد عليّ أعظم وارد،فقلت:تأذن يا أمير المؤمنين في الكلام؟
فقال:قل.
ص:19
فقلت:أخوك،و ابن أبيك،و له بعدك العهد،فكيف تكون صورتنا، أوّلا عند اللّه،ثمّ عند الجيش؟
فقال:إنّك إن فعلت هذا،و إلاّ ضربت عنقك الساعة.
فقلت:السمع و الطاعة.
فقال:و أريد إذا فرغت منه هذه اللّيلة،أن تخرج من في الحبس من الطالبيّين،فتضرب رقاب أكثرهم،و تغرق الباقين.
فقلت:السمع و الطاعة.
قال:ثمّ ترحل إلى الكوفة،فتجمع من تقدر عليه من الجيش،فتخرج من بها من العبّاسيّين،و شيعتهم،و عمّالنا،و المتصرّفين،ثمّ تضرمها بالنار، حتّى لا يبقى فيها جدار.
فقلت:يا أمير المؤمنين،هذا أمر عظيم.
فقال:هؤلاء أعداؤنا،و شيعة آل أبي طالب،و كلّ آفة ترد علينا، فهي من جهتهم،و لا بدّ من هذا.
فقلت:السمع و الطاعة.
فقال:لا تبرح من مكانك إلى نصف اللّيل،لتمضي إلى هارون.
فقلت:السمع و الطاعة.
و نهض عن موضعه،و دخل إلى دور النّساء،و جلست مكاني،لا أشكّ أنّه قد قبض عليّ ليقتلني،و يدبّر هذه الأمور على يد غيري،لما أظهرت له من الجزع عند كلّ باب منها،و التخطئة لرأيه،و الامتناع عليه،ثمّ الإجابة، و قد علم اللّه تعالى،أنّي ما أجبته إلاّ على أن أخرج من حضرته،فأركب فرسي من بابه،و ألحق بطرف من الأرض،و أفارق جميع نعمتي،فأكون بحيث لا يصل إليّ،حتّى أموت،أو يموت.
فلمّا اعتقلني،و دخل دار الحرم،لم أشكّ في أنّه قد فطن لغرضي، و أنّه سيقتلني،لئلا يفشو السرّ،فوردت عليّ شدّة شديدة،و غلبت عليّ،
ص:20
فطرحت نفسي في الحرّ مغموما،جائعا[129 ر]،على عتبة المجلس،و نمت.
فما انتبهت إلاّ بخادم قد أيقظني،و قال:أجب أمير المؤمنين،فنظرت الوقت،فإذا هو نصف اللّيل.
فقلت:إنّا للّه،عزم و اللّه على قتلي،فمشيت معه،و أنا أتشاهد،إلى ممرّات سمعت منها كلام النساء.
فقلت:عزم على قتلي بحجّة،يقول:من أذن لك في الدخول إلى حرمي، و يعتلّ عليّ بذلك،فوقفت.
فقال لي الخادم:ادخل.
فقلت:لا أدخل.
فقال لي:ادخل،ويحك.
فقلت:هو ذا أسمع صوت الحرم،و لا يجوز لي أن أدخل.
فجذبني،فصحت:و اللّه،لا دخلت،و لو ضربت عنقي،أو أسمع كلام أمير المؤمنين،بالإذن لي.
و إذا امرأة تصيح:ويلك يا هرثمة،أنا الخيزران (1)،و قد حدث أمر عظيم،استدعيتك له،فادخل.
فتحيّرت،و دخلت،و إذا ستارة ممدودة،فقيل لي من ورائها:إنّ موسى قد مات،و أراحك اللّه منه،و جميع المسلمين،فانظر إليه،فأتيته،فإذا هو
ص:21
مسجّى على فراشه،فمسست قلبه،و مجسّه،و مناخره،فإذا هو ميت بلا شكّ.
فقلت:ما كان خبره؟
فقالت لي الخيزران:كنت بحيث أسمع خطابه لك في أمر ابني هارون، و أمر الطالبيّين،و أهل الكوفة،فلمّا دخل عليّ،استعطفته،و سألته أن لا يفعل شيئا من ذلك،فصاح عليّ،فلم أزل أرفق به،إلى أن كشفت له ثديي، و شعري،و بكيت،و تمرّغت بين يديه،و ناشدته اللّه أن لا يفعل،فانتهرني، و قال:و اللّه،لئن لم تمسكي،لأضربنّ عنقك الساعة،فخفته،و قمت، فصففت قدميّ في المحراب،أصلّي،و أبكي،و أدعو عليه.
فلمّا كان منذ ساعة،طرح نفسه على فرشه لينام،فشرق (1)،فتداركناه بكوز ماء،فازداد شرقه،إلى أن تلف،فامض إلى يحيى بن خالد،و عرّفه [156 ظ]ما جرى،و امضيا إلى هارون،و جيئا به قبل انتشار الخبر، و جدّدا له البيعة على النّاس.
فخرجت و جئت بالرّشيد،فما أصبحنا إلاّ و قد فرغنا من بيعته،و استقام أمره،و توطّأت الخلافة له،و كفاني اللّه تعالى،و النّاس،ما كان أظلّنا من مكروه موسى،و كان ذلك سبب اختصاصي العظيم بالرّشيد،و تضاعف نعمتي و محلّي عنده (2).
ص:22
دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد
حدّثني عليّ بن هشام قال (1):
كان في يد صاعد بن مخلد (2)ضمانات كثيرة،و كانت معاملته مع أبي نوح عيسى بن إبراهيم (3)،و كان صاعد من وجوه النّاس.
فحضر صاعد بين يدي أبي نوح،يحاسبه في أموال وجبت عليه،فجرت بينهما مناظرات،فشتم فيها أبو نوح صاعدا (4)،فردّ عليه صاعد،مثل ما قاله له.
فاستعظم الحاضرون ذلك،و استخفّوا بصاعد،و قالوا له:يا مجنون، ما هذا الفعل؟قتلت نفسك،ثمّ أقاموه،و خلّصوه من أبي نوح،و قالوا:
هذا مجنون،لم يدر ما خرج من رأسه.
فانصرف إلى منزله،متحيّرا،لا يدري ما يصنع فيما نزل به،فحدّث أخاه عبدون (5)بما جرى.
ص:23
فقال له:إن لم تطعني،قبض عليك في غد،و طالبك من المصادرة بما لا يفي به حالك،و لا حال جميع أهلك،و قتلك-بلا شكّ-تشفّيا.
قال له صاعد:فما الرأي؟
قال:كم عندك من المال (1)،و اصدقني؟.
قال:خمسون ألف دينار.
قال:أتطيب نفسك أن تتعرّى عنها،و تحرس دمك،و ما يبقى من حالك و ضياعك؟أم لا تسمح بذلك،فتؤخذ منك تحت المقارع،و تذهب النّفس و النّعمة كلّها؟
فقال له:قد تعرّيت عنها،كي تبقى نفسي.
قال:فادفع إليّ منها ثلاثين ألف درهم،ففعل.
فحملها عبدون،و أتى[130 ر]حاجب موسى بن بغا (2)،فقال له:
خذ هذه العشرة آلاف درهم،و أوصلني إلى فلان الخادم،و كان هذا خادمه
ص:24
الّذي يتعشّقه موسى،و يطيعه في كلّ أموره،و موسى إذ ذاك هو الخليفة (1)، و كتبته كالوزارة،و الأمور في يده،و الخليفة في حجره.
قال:فأخذ الحاجب ذلك،و أوصله إلى الخادم،فأحضره العشرين ألف درهم،و قال:خذ هذه،و أوصلني إلى الأمير السّاعة،و أعنّي عليه في حاجة أريد أن أسأله إيّاها،و مشورة أشير بها عليه،فأوصله الخادم إليه.
فلمّا مثل بين يديه،سعى إليه بكتّابه،و قال له:قد نهبوك،و أخذوا مالك،و أخربوا ضياعك،و أخي يجعل كتابتك أجلّ من الوزارة،و يغلب لك على الأمور،و يوفّر عليك كذا،و يحمل إليك اللّيلة،من قبل أن ينتصف اللّيل،خمسين ألف دينار عينا،هديّة لك،لا يريد عنها مكافأة،و لا يرتجعها من مالك،و تستكتبه،و تخلع عليه.
فقال موسى:أفكّر في هذا؟.
فقال:ليس في هذا فكر،و ألحّ عليه.
فقال الخادم:في الدنيا أحد جاءه مثل هذا المال،فردّه؟و كاتب بكاتب، فأجابه موسى،و أنعم له.
فقال له عبدون:فتستدعي أخي السّاعة،و تشافهه بذلك،فأنفذ إليه، فأحضره،و قرّر عليه ذلك،و بات عبدون في الدّار لتصحيح المال،فوفّاه.
و بكر صاعد،فخلع عليه لكتابته،و أركب الجيش كلّه في خدمته، و انقلبت سامراء،بظهور الخبر.
ص:25
فبكر بعض المتصرّفين إلى الحسن بن مخلد (1).و كان صديقا لأبي نوح، فقال له:قد خلع على صاعد.
فقال:لأيّ شيء؟
فقال:تقلّد كتابة موسى بن بغا،فاستعظم ذلك.
و ركب في الحال،إلى أبي نوح،و قال له:عرفت خبر صاعد؟.
فقال:نعم،الكلب،قد بلغك ما عاملني به،و اللّه لأفعلنّ به،و لأصنعنّ.
فقال له:أنت نائم؟ليس هذا أردت،قد ولي الرّجل كتابة[157 ظ] الأمير موسى بن بغا،و خلع عليه،و ركب معه الجيش بأسرهم إلى داره.
فقال أبو نوح:ليس هذا ما ظننته،بات خائفا منّا،فأصبحنا خائفين منه،فما الرّأي عندك؟
قال:أن أصلح بينكما السّاعة.
فركب الحسن بن مخلد إلى صاعد،فهنّأه،و أشار عليه أن يصالح أبا نوح، و قال له:أنت بلا زوجة،و أنا أجعلك صهره،و تعتضد به،و إن كنت قد نصرت عليه،فهو من تعلم موضعه،و محلّه،و محلّ مصاهرته و مودّته،و لم يدعه،حتّى أجاب إلى الصلح و المصاهرة.
فقال له:فتركب معي إليه،فإنّه أبو البنت،و الزّوج يقصد المرأة، و لو لا ذاك لجاءك.
فحمله من يومه إلى أبي نوح،و اصطلحا،و وقع العقد في الحال بينهما في ذلك المجلس،و زوّج أبو نوح ابنته الأخرى بالعبّاس بن الحسن بن مخلد، فولدت له أبا عيسى المعروف بابن بنت أبي نوح (2)،صاحب بيت مال الإعطاء (3)،
ص:26
ثمّ تقلّد زمام ديوان الجيش (1)لعمّه سليمان بن الحسن (2)،فكانت كتابة صاعد لموسى،و مصاهرته لأبي نوح،أوّل مرتبة عظيمة بلغها،و تقلّبت به الأحوال، حتّى بلغ الوزارة (3).
ص:27
زوّر مناما فجاء مطابقا للحقيقة
قال رجل من شيوخ الكتّاب،يقال له عباد بن الحريش:
صحبت عليّ بن المرزبان (1)،و هو يتقلّد شيراز (2)،من قبل عمرو بن اللّيث الصفّار (3)،فصادر المتصرّفين على أموال ألزمهم إيّاها،فكنت ممّن أخذ خطّه عن العمل الّذي تولّيته،بثمانين ألف درهم،فأدّيت منها أربعين ألفا، و درجت حالي (4)،حتّى لم يبق لي شيء في الدنيا غير داري الّتي أسكنها،و لا قدر لثمنها فيما بقي عليّ،فلم أدر ما أصنع.
و فكّرت،فوجدت عليّ بن المرزبان،رجلا حرّا سليم الصّدر[131 ر]، فروّيت له رؤيا،أجمعت على أن ألقاه بها،و أجعلها سببا لشكوى حالي إليه، و التوصّل إلى الخلاص،و كنت قد حفظت الرؤيا.
فاحتلت خمسين درهما،و بكرت إليه قبل طلوع الفجر،فدققت بابه.
فقال حاجبه،من خلف الباب:من أنت؟.
ص:28
فقلت:عباد بن الحريش.
فقال:في هذا الوقت؟
قلت:مهمّ (1)،ففتح الباب.
فشكوت إليه حالي،و قلت:هذه خمسون درهما،لا أملك غيرها، خذها،و أدخلني عليه،قبل أن يتكاثر النّاس عليه.
فدخل،فاستأذن لي،و تلطّف،إلى أن أوصلني إليه،و هو يستاك (2).
فقال:ما جاء بك في هذا الوقت؟
فدعوت له،و قلت:بشارة رأيتها البارحة.
فقال:ما هي؟
فقلت:رأيتك في النوم،كأنّك تجيء إلى شيراز،من حضرة الأمير، و تحتك فرس أشهب عال،لم تر عيني قط أحسن منه،و عليك السواد،و قلنسوة الأمير،و في يدك خاتمه،و حولك مائة ألف إنسان،ما بين فارس و راجل، و قد تلقّوك،و أنا فيهم،إلى العقبة الفلانية،و قد لقيك أمير البلد،فترجّل لك و أنت تجوز،و طريقك كلّه أخضر،مزهر بالنور،و النّاس يقولون:إنّ الأمير، قد استخلفك على جميع أمره.
فقال:خيرا رأيت،و خيرا يكون،فما تريد؟
فشكوت إليه حالي،و ذكرت له أمري.
فقال:أنظر لك بعشرين ألف،و تؤدّي عشرين ألف درهم.
فحلفت له بأيمان البيعة (3)،أنّه لم يبق لي إلاّ مسكني،و ثمنه شيء يسير، و بكيت،و قبّلت يده،و اضطربت بحضرته،فرحمني،و كتب إلى الديوان
ص:29
بإسقاط ما عليّ،و انصرفت.
فلم تمض إلاّ شهور،حتّى كتب عمرو بن الليث،إلى عليّ بن المرزبان، يستدعيه،و يأمره بحمل ما اجتمع له من المال صحبته.
و كان قد جمع من الأموال،ما لم يسمع أنّه اجتمع قط لأحد من مال فارس،مبلغه ستون ألف ألف،فحملها معه إلى نيسابور (1)،و خرج عمرو، فتلقّاه،و جميع قوّاده.
فأعظم الأموال،و استخلفه على فارس و أعمالها،حربا،و خراجا (2)،و خلع عليه سوادا،و حمله على فرس أشهب عال،و دفع إليه خاتمه،و ردّه إلى فارس [158 ظ].
فوافى في وقت الرّبيع،و لم يحل الحول على رؤياي،و خرج أمير البلد، يستقبله على ثلاثين فرسخا،و خرجت فلقيته على العقبة الّتي ذكرتها في المنام الموضوع،و الدنيا على الحقيقة خضراء بأنوار الرّبيع،و حوله أكثر من مائة ألف فارس و راجل،و عليه قلنسوة عمرو بن الليث،و في يده خاتمه،و عليه السواد (3)، فدعوت له.
فلمّا رآني تبسّم،و أخذ بيدي،و أحفى بي السؤال،ثمّ فرّق الجيش بيننا، فلحقته إلى داره،فلم أستطع القرب منه لكثرة الدواب،فانصرفت،و باكرته في السحر.
فقال لي الحاجب:من أنت؟.
ص:30
فقلت:عباد بن الحريش،فأدخلني عليه،و هو يستاك.
فضحك إليّ،و قال:قد صحّت رؤياك.
فقلت:الحمد للّه.
فقال:لا تبرح من الدّار حتّى أنظر في أمرك.
و كان بارّا بأهله،و رسمه إذا ولي عملا،أن لا ينظر في شيء من أمر نفسه، حتّى ينظر في أمر أهله،فيصرّف من صلح منهم للتصرّف،فإذا فرغ،عدل إلى الأخصّ،فالأخصّ من حاشيته،فإذا فرغ من ذلك،نظر في أمر نفسه.
فجلست في الدّار إلى العصر،و هو ينظر في أمر أهله،و التوقيعات تخرج بالصلات و الأرزاق،و كتب التقليدات،إلى أن صاح الحاجب:عباد بن الحريش،فقمت إليه،فأدخلني عليه.
فقال:إنّي ما نظرت في أمر أحد غير أهلي،فلمّا فرغت منهم،بدأت [132 ر]بك قبل النّاس كلّهم،فاحتكم ما تريد؟.
فقلت:ترد عليّ ما أخذت منّي،و تولّيني العمل الّذي كان بيدي.
فوقّع لي بذلك،و قال:امض،فقد أوغرت لك العمل،فخذ ارتفاعه كلّه (1).
فكان يستدعيني كلّ مدة،و لا يأخذ منّي شيئا،و إنّما يكتب لي روزات (2)من مال العمل،و يصلح لي حسبانات يخلّدها الديوان،فأرجع إلى العمل.
فكنت على ذلك إلى أن زالت أيّامه،فرجعت إلى شيراز و قد اجتمع لي مال عظيم،صودرت على بعضه،و جلست في بيتي،و عقدت نعمة ضخمة، و لم أتصرّف (3)إلى الآن (4).
ص:31
إلى أن أخلى لنا مجلسه يوم خميس،و ناظرنا مناظرة طويلة،و شدّد علينا، حتّى كدنا أن نجيبه،و كان علينا في ذلك ضرر كبير،و خسران ظاهر، لو أجبناه.
فقلت لأبي يحيى:اجتهد أن تدفع المجلس اليوم،لنفكّر إذا انصرفنا، كيف نعمل.
و كان أبو يوسف محدّثا طيّب الحديث،فجرّه أبو يحيى إلى المحادثة، و سكت له يستمع.
و كانت عادة أبي يوسف في كلامه،أن يقول في كلّ قطعة من حديثه:
أ فهمت؟فكان كلّما قال ذلك لأبي يحيى،قال له:لا،فأعاد أبو يوسف الحديث،و يخرج منه إلى حديث آخر.
فلم يزل كذلك إلى أن حميت الشمس،و قربت من موضعنا،فرجع أبو يوسف إلى ذكر الضمان،و طالبنا بالعقد.
فقلت:إنّه قد حمي الوقت،و هذا لا يتقرّر في ساعة،و لكن نعود غدا، و رفقنا به،فقال:انصرفا،فانصرفنا.
و استدعانا من غد،فكتبنا إليه:هذا يوم جمعة،يوم ضيق،و يحتاج فيه إلى دخول الحمّام،و الصلاة،و قلّ أمر يتمّ قبل الصلاة،و لكنّا نبكّر يوم السبت.
فلمّا كان يوم السبت،صرنا إليه،و قد وضعنا في أنفسنا الإجابة،فحين دخلنا عليه،ورد عليه كتاب فقرأه،و شغل قلبه،فقال:انصرفا اليوم.
فانصرفنا،و رحل من الغد عن الأهواز،لأنّ الكتاب،كان يتضمّن صرفه،فبادر قبل ورود الصارف،و كفينا أمره (1).
ص:33
كيفيّة إغراء العمّال بأخذ المرافق
و قال (1):ورد علينا في وقت من الأوقات،بعض العمّال[159 ظ] متقلّدا للأهواز،من قبل السلطان،فتتّبع رسومنا (2)،و رام نقض شيء منها.
فكنت أنا و جماعة من التنّاء في المطالبة،و كان فيها ذهاب غلاّتنا في تلك السنة،لو تمّ علينا،و ذهاب أكثر قيمة ضياعنا.
فقال لي الجماعة:ليس لنا غيرك،تخلو به،و تبذل له مرفقا،و تكفيناه.
فجئته،و خلوت به،و بذلت له مرفقا جليلا،فلم يقبله،و دخلت عليه بالكلام من غير وجه،فما لان،و لا أجاب.
فلمّا يئست منه،و كدت أن أقوم،قلت له:يا هذا الرّجل،أنت مقيم من هذا الأمر،على خطأ شديد،لأنّك تظلمنا،و تزيل رسومنا،من حيث لا يحمدك السلطان،و لا تنتفع أنت أيضا بذاك.
و مع هذا فأخبرني،هل تأمن أن تكون قد صرفت،و كتاب صرفك في الطّريق،يرد عليك بعد يومين أو ثلاثة،فتكون قد أهلكتنا،و أثمت في أمورنا،وفاتك هذا المرفق الجليل،و لعلنا نحن نكفى،و يجيء غيرك،فلا يطالبنا،أو يطالبنا فنبذل له نحن هذا المرفق،فيقبله،و يكون الضرر يدخل عليك.
فحين سمع هذا وافق،كأنّه قد علم من أمره ضعفا ببغداد،و تلوّنا،
ص:34
و أنّي قد أحسست بانحلال أمره،و أنّ لي ببغداد من يكاتبني بالأخبار.
فأخذ يخاطبني مخاطبة من[أين]وقع إليّ هذا،فقوّيته في نفسه، فأجاب إلى أخذ المرفق،و إزالة المطالبة.
فسلّمت إليه رقاعا إلى الصيارف بالمال،و أخذت منه حجّة بزوال المطالبة، فانصرفت و قد بلغت ما أردت.
فلمّا كان بعد خمسة أيّام،ورد عليه كتاب الصرف،فدخلت إليه، فأخذ يشكرني و يخبرني بما ورد عليه،فأوهمته أنّي كنت قلت له ذلك عن أصل،و كفيناه (1).
ص:35
الصوفي المتوكّل و جام فالوذج حار
حدّثني ابن سيّار (1)،عن شيخ من الصوفية،قال:
صحبت شيخا من الصوفيّة،و جماعة منهم،في سفر،فجرى ذكر التوكّل،و الأرزاق،و ضعف النفس.
فقال ذلك الشيخ:عليّ،و عليّ،و حلف بأيمان مغلّظة،لا ذقت شيئا، أو يبعث اللّه عزّ و جلّ،إليّ،جام فالوذج (2)حار،و لا آكله إلاّ بعد أن يحلف عليّ،أو يجرى عليّ مكروه،و كنّا نمشي في الصحراء.
فقالت الجماعة:أنت جاهل،و نحن نمشي،حتّى انتهينا إلى القرية، و قد مضى عليه يومان و ليلتان،و لم يطعم شيئا،ففارقته الجماعة،غيري.
فطرح نفسه في مسجد في القرية،و قد ضعفت قوّته،و أشرف على الموت، فأقمت عنده.
فلمّا كان في ليلة اليوم الثالث،و قد انتصف اللّيل،و كاد يتلف،دقّ علينا باب المسجد،ففتحته،فإذا بجارية سوداء و معها طبق مغطّى،فلمّا رأتنا، قالت:أنتم من أهل القرية،أم غرباء؟.
ص:36
فقلنا:غرباء.
فكشفت عن جام (1)فالوذج حار.
فقالت:كلوا.
فقلت له:كل.
فقال:لا أفعل.
فقلت:و اللّه،لا أكلت أو تأكل،و و اللّه لتأكلنّ،لأبرّ قسمه.
فقال:لا أفعل.
فشالت الجارية يدها،فصفعته صفعة عظيمة،و قالت:و اللّه،لئن لم تأكل،لأصفعنّك هكذا،إلى[133 ر]أن تأكل.
فقال:كل معي،فأكلت معه،فنظّفنا الجام.
فلمّا أخذته لتمضي،قلت لها:باللّه،حدّثينا بخبر هذا الجام.
قالت:نعم،أنا جارية رئيس هذه القرية،و هو رجل حديد،طلب منّا منذ ساعة،فالوذج حار،فقمنا لنصلحه،و هو شتاء و برد،فإلى أن نخرج الحوائج،و نعقد الفالوذج،تأخّر عليه،فطلبه،فقلنا:نعم،فحلف بالطلاق، أنّه لا يأكله،و لا أحد من أهل داره،و لا أحد من أهل القرية،إلاّ غريب.
فأخذته،و جعلت أدور في المساجد،إلى أن وجدتكما،و لو لم يأكل هذا الشيخ،لقتلته صفعا،و لا تطلّق ستّي.
فقال لي الشيخ:كيف ترى،إذا أراد أن يفرّج (2)؟.
ص:37
سخاء الأمير سيف الدولة
و حدّثني عبد اللّه بن معروف (1)،قال:[160 ظ]
دخلت حلب إلى أبي محمّد الصلحي (2)،و أبي الحسن المغربي (3)،أسلّم عليهما،و كانا في صحبة سيف الدولة (4)،[و هما في دار واحدة نازلان لضيق الدّور] (5).
و كان وكيل كلّ واحد منهما يبكّر فيقيم لهما جميع ما يحتاجان إليه من المائدة (6)و الوظائف (7)،فإذا كان من الغد،بكّر وكيل الآخر،فأقام لهما، و لغلمانهما،من المائدة و الوظائف ما يحتاجون إليه على هذا.
فلمّا دخلت إليهما،و جلست،دخل شيخ ضرير،فسلّم،و جلس، ثمّ قال:إنّ لي بالأمير سيف الدولة،حرمة و اختصاص،أيّام مقامه بالموصل، و قد لحقتني محن و شدائد،أمّلته لكشفها،و قد قصدته،و هذه رقعتي إليه،
ص:38
فإن رأيتما أن تتفضّلا بإيصالها إليه،فعلتما،و أخرج رقعة طويلة جدّا.
فلمّا رأياها،قالا له:هذه عظيمة،و لا ينشط الأمير لقراءتها،فغيّرها، و اختصرها،وعد في وقت آخر،فإنّا نعرضها عليه.
فقال:الّذي أحبّ،أن تتفضّلا بعرض هذه الرّقعة.
فدافعاه عن ذلك،فقام يجرّ رجليه،منكسر القلب،فتداخلتني رحمة له، و ركبت،و دخلت على سيف الدولة،و هو جالس.
و كان رسمه أن لا يصل إليه أحد،إلاّ برقعة يكتبها الحاجب،باسم من حضر،فإذا قرأ الرّقعة،إن شاء أذن له،و إن شاء صرفه.
فلمّا استقررت عرض الحاجب عليه رقعة فيها:فلان بن فلان،الموصلّي الضرير.
فقال له:هذا في الدنيا؟أين هو؟.
فقيل:بالباب.
فقال:يدخل،فما أظنّه-مع ما أعرفه من زهده في الطلب،و قصد الملوك-قصدنا إلاّ من شدّة،فدخل الشيخ الّذي رأيته عند الصلحي و المغربي.
فلمّا رآه استدناه،و بشّ له،و قال له:يا هذا،أما سمعت بأنّا في الدنيا؟ أما علمت مكاننا على وجه الأرض؟أما حان لك أن تزورنا إلى الآن،مع ما لك بنا من الحرمة و السبب الوكيد؟لقد أسأت إلى نفسك،و أسأت الظنّ بنا.
فجعل يدعو له،و يشكره،و يعتذر،فقرّبه،و جلس ساعة،ثمّ سلّم إليه تلك الرقعة بعينها،فأخذها من يده،و قرأها.
ثمّ استدعي يونس بن بابا،و كان خازنه،فحضر،فأسرّ إليه شيئا.
ثمّ استدعى رئيس الفراشين،فخاطبه سرّا.
و استدعى خادما له،فخاطبه بشيء.
ص:39
و استدعى صاحب الإصطبل،فأمره بشيء،فانصرفت الجماعة.
و عاد ابن بابا،فوضع بين يديه صرّتين فيهما خمسمائة دينار،و ثيابا كثيرة صحاحا،من ثياب الشتاء و الصّيف،و طيبا كثيرا.
ثمّ جاء عريف الفرّاشين ببسط و آلة و فرش تساوي ألوف دراهم،فصار ذلك كالتلّ بين يديه.
و كان يعجبه إذا أمر لإنسان بشيء أن يكون بحضرته مجتمعا،فيراه بين يديه، ثمّ يهبه له.
فاجتمع ذلك،و الضرير لا يعلم،و عنده أنّه قد تغافل عنه،فهو في الرّيب.
ثمّ حضر[134 ر]صاحب الكراع،و معه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم،و مركب ثقيل.
و جاء غلام أسود عليه ثياب جدد،فسلّمت إليه البغلة،فأمسكها في الميدان أسفل الدكة الّتي عليها الأمير.
فقال للغلام:كم جرايتك في السنة؟.
قال:عشرون دينارا.
فقال:قد جعلتها ثلاثين،و خدمة هذا الشيخ خدمة لنا،فلا تقصّر فيها، و لا ينكسر قلبك بخروجك عنّا من دارنا،و أعطوه سلفا لسنة،فدفع إليه ذلك في الحال.
ثمّ قال:فرّغوا الدّار الفلانية،له،و يحدر زورق من تل فافان (1)إلى الموصل،فيه كرّان حنطة،و كرّ شعير،و فواكه الشام و مآكلها،فاعملوا بهذا ثبتا (2)،ففعل ذلك.
ص:40
ثمّ استدعى أبا إسحاق بن شهرام (1)،كاتبه،[المعروف بابن ظلوم المغنّية،و كان يكتب له،و يترسّل إلى ملك الرّوم،و يبعثه في صغير أموره و كبيرها] (2)فسارّه بشيء،و كان صاحب سرّه.
فابتدأ ابن شهرام يعتذر إلى الضرير،عن سيف الدّولة،باعتذار طويل، و أنّك قصدتنا في آخر[161 ظ]وقت،و قد نفدت غلاّتنا[و تقسّمت أموالنا الحقوق،و الزوّار،و الجيوش،و ببابنا خلق من الرؤساء،و نحتاج أن نواسيهم] 11، و لو لا ذلك لأوفينا على أملك،و قد أمرنا لك بكذا و كذا،و جعل ابن شهرام يقرأ عليه ما في الثبت،و سيف الدولة يسمع.
فقلت له:لا تورد على الشيخ هذه الجائزة جملة،عقيب اليأس الّذي لحقه، فتنشقّ مرارته.
فلمّا استوفى،بكى الشيخ بكاء شديدا،و قال:أيّها الأمير،لقد زدت-و اللّه-على أملي بطبقات،و أوفيت على غناي بدرجات،و قضيت حقّي،و ما هو أعظم من حقّي،و ما أحسن أن أشكرك،و لكنّ اللّه تعالى، يتولّى مكافأتك،فمنّ عليّ بتقبيل يدك،فأذن له،فقبّلها.
فجذبه سيف الدولة،و سارّه بشيء،فضحك،و قال:إي و اللّه،أيّها الامير.
فاستدعى خادما للحرم،و سارّه بشيء،و قام الشيخ إلى داره الّتي أخلاها له، و قال له:أقم فيها إلى أن أنظر في أمرك،و تخرج إلى عيالك.
فسألت الخادم عمّا سارّه به،فقال:أمرني أن أخرج إليه جارية،من وصائف أخته،في نهاية الحسن،في ثياب و آلة قيمتها عشرة آلاف درهم، قال:فحملتها إليه.
ص:41
قال ابن معروف:فقمت قائما،و قلت:أيّها الأمير،ما سمع بهذا الفعل عن أحد من أهل الأرض قديما،و لا حديثا.
فقال:دعني من هذا،ما معنى قولك لابن شهرام،لا تورد عليه هذا كلّه مع اليأس،فتنشقّ مرارته؟.
فقلت:نعم،كنت منذ ساعة عند أبي محمّد الصلحي و أبي الحسن المغربي،فجرى كذا و كذا،و قصصت عليه قصّة الضرير معهما،و أنّه انصرف أخزى منصرف،ثمّ جاء بعد اليأس،فعاملته بهذا الفعل العظيم.
فقال:أحضروا الصلحي و المغربي،فأحضرا.
فقال لهما:و يحكما،ألم أحسن إليكما؟و أنّوه باسمكما؟،و أرفع منكما؟،و أصطنعكما؟و عدّد أياديه عليهما.
فقالا:بلى،و أخذا يشكرانه.
فقال:ما أريد هذا،أ فمن حقّي عليكما،أن تقطعا عنّي رجاء مؤمليّ و قاصديّ،و تنسباني عندهم إلى الضجر برقاعهم؟ما كان عليكما لو أخذتما رقعة الضرير،فأوصلتماها اليّ؟فإن جرى على يدي شيء،كنتما شريكاي فيه، و إن ضجرت،كان الضجر منسوبا إليّ دونكما،و كنتما بريئين منه،و قد قضيتما حقّ قصده،فلا حقّه قضيتما،و لا حقّ اللّه فيما أخذه على ذوي الجاه، و أسرف في توبيخهما،كأنّهما قد أذنبا ذنبا.
فجعلا يعتذران إليه،و يقولان:ما أردنا إلاّ التخفيف عنه من قراءة شيء طويل،لينقلها إلى أخفّ منها،و لو علمنا أنّه أيس،لأخذنا رقعته و عرضناها.
فدعت الجماعة له،و حلفت أنّ هذا التأنيب في الجود،أحسن من الجود، و رفقوا به حتّى انبسط في الحديث (1).
ص:42
ألمعيّة المأمون و ذكاؤه
قال:دعا المأمون يوما بأبي عبّاد (1)،فدفع إليه كتابا مختوما،و أمره أن يأتي عمرو بن مسعدة (2)،فيناظره على ما فيه بابا،بابا،و يأخذ تحت كلّ باب خطّه فيه،و يختمه بخاتمه،و خاتم عمرو،و يحتفظ به إلى أن يسأله عنه، و لا يذكره ابتداء،و أكّد على ذلك.
قال:فعلمت أنّها وقيعة (3)،و قد كنت شاركت عمرا في أشياء،فصارت إلينا منها أموال،فخفت أن تكون مذكورة في الكتاب.
فقصدت عمرا،فوجدته في بستان أحمد بن يوسف (4)،يلعب بالشطرنج (5)مع بعض أصحابه،فعرّفته أنّي محتاج إلى الخلوة معه.
فقال:دعني الساعة،فقد استوى لي هذا الدست.
ص:43
فضاق صدري،و قلبت الشطرنج،و قلت:قد سال السّيل،و هلكنا و أنت غافل،[إقرأ]هذا الكتاب،فقرأه،فطالبته أن يكتب خطّه،تحت كلّ فصل منه،بحجّته.
فضحك،و قال:ويحك،أما تستحي،تخدم رجلا طول هذه المدّة، و لا تعرف أخلاقه،و لا مذهبه؟.
فقلت:يا هذا،أخبرني عنك،إن أقدمت على جحد ما في هذا الكتاب، لتعذّر حجّة ما شاركتك فيه،أمّا أنا فو اللّه ما[162 ظ]أجحد،و لكن أصبر لأمر اللّه تعالى.
قال:فتحبّ أن اطلعك على ما هو أشدّ عليك من هذا؟.
قلت:و ما هو؟.
فقال:كتاب دفعه إليّ أمير المؤمنين منذ سنة،و أمرني فيه بمثل ما أمرك في هذا،فعرفت ضيق صدرك،فلم أذكره لك.
فكدت أموت إلى أن فرغ من كلامه،فقلت له:أرني ايّاه،فأحضره، و قرأته،و أنا أنتفض،و عمرو يضحك.
فلمّا فرغت منه،قلت:عند اللّه أحتسب نفسي و نعمتي.
فقال:أنت و اللّه مجنون.
فقلت:دعنا من هذا،و وقّع تحت كلّ فصل.
فنظر إلى جملة ما نسب إليه في الكتاب،فوجده أربعين ألف ألف درهم، فوقّع في آخره:لو قصرت همّتنا في هذا القدر و أضعافه،لوسعتنا منازلنا، و ما يفي هذا،بدلجة في برد،أو روحة في حرّ،و أرجو أن يطيل اللّه بقاء أمير المؤمنين،و يبلغنا فيه ما نؤمّله به،و على يده.
و كان جملة ما رفع عليّ،سبعة و عشرون ألف ألف درهم.
فقال:يا هذا،إنّ صاحبنا ليس ببخيل،و لكنّه رجل يكره أن يطوى
ص:44
معروفه،و إنّما أراد أن يعلمنا أنّه قد علم بما صار إلينا،فأمسك عنه على علم.
ثمّ ختم الكتاب بخاتمه،و خاتمي،و انصرفت و أنا في الموت،فلم ألبث أن كتبت وصيّتي،و أحكمت أمري،و كنت سنة مغموما،و ذاب جسمي.
فقال لي المأمون يوما:يا أبا عبّاد،قد أنكرت حالك،أ تشكو علّة؟
فقلت:لا،يا أمير المؤمنين،و لكنّي منذ سنة،حيّ كميت،لأجل الكتاب الّذي دفعه إليّ أمير المؤمنين،لأناظر عليه عمرو بن مسعدة.
فقال:أمسك عنّي،حتّى أعيد عليك جميع ما جرى بينكما،فحدّثني بجميع ما دار بيننا،كأنّه كان ثالثنا.
فقلت:لقد استقصى لك الّذي وكّلته بخبرنا،و اللّه،ما خرم منه حرفا (1).
فقال:و اللّه،ما وكّلت بكما أحدا،و لكن ظنّا ظننته،و علمت أنّه لا يدور بينكما غيره،و لقد عجبت من غير عجب،لأنّ عقول الرجال يدرك بعضها بعضا،و هذا عمرو بن مسعدة،أعرف بنا منك،و أوسع صدرا،و أبعد همّة، و ما أردت بما فعلت،إلاّ أن تعلما أنّي قد عرفت ما صار إليكما،و تستكثرانه، فأحببت أن أزيل عنكما غمّ المساترة،و ثقل المراقبة،و أنّي لمتذمّم لكما،خجل من ضعف أثري عليكما.
فسررت،و صرت كأنّي أطلقت من عقال،فشكرته و دعوت له.
ثمّ قلت:ما أصنع بذلك الكتاب؟.
قال:خرّقه إلى لعنة اللّه،و امض مصاحبا،آمنا،في ستر اللّه عزّ و جلّ (2).
ص:45
الشطرنج:لعبة مشهورة،تشحذ اللبّ،و تدرّب على الفكر،و تعلّم شدّة البصيرة، و هي معرّب:شطرنك،بالفارسيّة،أي ستّة ألوان،لأنّ القطع في اللعب هي ستّ، و هي:الشاه،و الفرزان(و يسمى في بغداد الوزير أو الفرز)،و الفيل،و الفرس، و الرخّ،و البيدق.
و قد اختلف المؤرّخون فيمن وضع الشطرنج،فاليونان ينسبونه إلى يوناني،و الهنود ينسبونه إلى هندي،و الفرس إلى فارسي،و يروى أنّ ملوك الهند كانوا إذا تنازعوا على كورة أو مملكة،لعبوا الشطرنج،فيأخذها الغالب من دون قتال.
و كانت لعبة الشطرنج في العصور الوسطى،لعبة الأشراف،في الشرق و الغرب،و قد جاء في التاريخ،أنّ هارون الرشيد أهدى إلى شارلمان رقعة شطرنج،و كان المأمون يحبّ لعب الشطرنج حبّا شديدا،و يقول إنّه يشحذ الذهن(تاريخ الخلفاء 324).
و من الذين اشتهروا بإتقان لعب الشطرنج أبو بكر الصولي،و قد أعجب به من الخلفاء المكتفي،و الراضي،و أصبح مضرب المثل في الشطرنج،و كان لفرط إتقانه،يلاعب بالشطرنج،و هو مستدبر الرقعة،راجع ما قاله فيه ابن الروميّ في الغيث المسجم 50/2 و 51.و كذلك كان سعيد بن جبير،أحد أعلام التابعين،يلعب الشطرنج إستدبارا (وفيات الأعيان 374/2).
و للعبة الشطرنج اليوم ببغداد سوق رائجة،و لها هواة كثيرون،و أحذق من شاهدت من البغداديين فيها،القاضي محمود خالص،الذي كان رئيسا لمحكمة التمييز في العراق، و هو شخص نادر المثال في الفضل و الخلق الكريم،جامع لجميع الصفات الحسنة،و قد تعدّت شهرته في لعب الشطرنج حدود العراق،فكان زوّار العراق،من علية القوم،يجتمعون به،و يلعبون معه الشطرنج.
و من لطيف الإشارات إلى لعب الشطرنج قول الخبّاز البلدي،في فتية أسكرتهم الخمر [الديارات 184،185]:
مشوا إلى الراح مشي الرخ و انصرفوا و الراح تمشي بهم مشي الفرازين
و سئل أبو الطيّب الصعلوكي(ت 404)عن الشطرنج،فقال:إذا سلم المال من
ص:46
الخسران،و الصلاة من النسيان،فذاك أنس بين الإخوان(شذرات الذهب 173/3) و خالفه في ذلك ابن تيميّة(ت 728)فقال:اللعب بالنرد خير من اللعب بالشطرنج، لأنّ لاعب النرد يعترف بالقضاء و القدر،و الشطرنج لاعبه ينفي ذلك(الغيث المسجم 52/2).
و حكي أنّ بعضهم كان إذا لعب الشطرنج،تضارب مع خصمه،فوصف أمره لبعض الظرفاء،فقال:أنا التزم ألعب معه،و ما تحصل بيننا مضاربة،و لعبا،فقال له أثناء اللعب:شاه أستر،فقال له:أنت قوّاد،فتعجّب منه،و قال:يا أخي،ما الذي قلت لك حتى تغضب؟فقال:قلت:أستر،و تصحيفها:أشتر،و هي بالفارسية،تعني الجمل،و تصحيف الجمل،حمل،و الحمل نجم في السماء،يقارنه الجدي،و الجدي الكبش،و الكبش له قرون،و ذو القرون هو القوّاد،فقال له:يا أخي،ما رأيت أحدا قبلك يخاصم و يضارب بتصحيف و تفسير(تحفة المجالس 345).
و جاء في مطالع البدور 77/1:سأل بعض الأكابر إنسانا:هل تعرف اللعب بالشطرنج؟،فقال:لا و اللّه يا مولانا،و لكن لي أخ اسمه عزّ الدولة،و هو أخي لأمّي، أكبر مني بسنتين،أو أكثر بشيء يسير،و كان قد حصل بيني و بينه خصومة غاظته،فسافر من مدّة عشرة أعوام،و سكن مدينة قوص،و بلغني أنّه فتح دكان عطارة،و إلى الآن ما ورد على المملوك منه كتاب،و هو أيضا مثلي ما يعرف يلعب بالشطرنج.
للتفصيل راجع دائرة المعارف الإسلامية 294/13-296 و مطالع البدور 75/1-81 و وفيات الأعيان 356/4-361 و نشوار المحاضرة القصّة 136/2 و مروج الذهب 562/2-564 و الغيث المسجم للصفدي 51/2 و محاضرات الأدباء 725/2-728.
ص:47
الحسين بن الضحّاك يعيش ببقايا هبات الأمين
أخبرني الصولي،قال:حدّثني أبو أحمد (1)،قال:
كان أبي صديقا للحسين بن الضحّاك (2)،و كان يعاشره،فحملني معه يوما،و جعل يحادثه،إلى أن قال:يا أبا علي[135 ر]،قد تأخّرت أرزاقك، و انقطعت موادّك،و نفقتك كبيرة،فكيف تمشي أمورك؟.
فقال له:و اللّه يا أخي،ما قوام أمري،إلاّ ببقايا هبات الأمين (3)، و هبات جاريته،فإنّي حظيت منهما،بأمر طريف،على غير تعمّد.
و ذلك أنّ الامين دعاني يوما،فقال لي:يا حسين،إنّ جليس الرّجل،
ص:48
عشيره،و ثقته،و موضع سرّه و أنسه،و إنّ جاريتي فلانة،أحسن النّاس وجها و غناء،و هي منّي بمحلّ نفسي،و قد كدّرت عليّ صفو الحياة،و نغّصتها عليّ، بعجبها بنفسها،و بتجنّيها عليّ و إدلالها،لما تعلمه من حبّي لها،و إنّي محضرها، و محضر صاحبة لها ليست منها في شيء،لتغنّي معها،فإذا غنّت،أومأت إليك،على أنّ أمرها أبين من أن يخفى عليك،فلا تستحسن غناءها،و لا تشرب عليه،و إذا غنّت الأخرى،فاشرب،و اطرب،و استحسن،و شقّ ثيابك،و عليّ،بكلّ ثوب،مائة ثوب.
فقلت:السّمع و الطاعة،لأمير المؤمنين.
فجلس في حجرة خلوته،و أحضرني،و سقاني أرطالا،فغنّت المحسنة [163 ظ]،و قد أخذ منّي الشراب،فما ملكت نفسي أن استحسنت، و طربت،فأومأ اليّ،و قطّب في وجهي.
ثمّ غنّت الاخري،فجعلت أتكلّف القول،و أفعله.
ثمّ غنّت المحسنة ثانية،فأتت بما لم أسمع مثله حسنا قط،فما ملكت نفسي أن صحت،و طربت،و شربت،و هو ينظر إليّ،و يعضّ شفتيه غيظا عليّ،و قد زال عقلي،فما أفكّر فيه،حتّى فعلت ذلك مرارا،و كلّما زاد شربي، ذهب عقلي.
فأمر بجرّ رجلي،و صرفي،و أمر أن لا أدخل عليه،فجاءني النّاس يتوجّعون لي،و يسألون عن قصّتي،فقلت:حمل عليّ النّبيذ،فأسأت أدبي،فمنعني من الدخول إليه.
و مضى لما أنا فيه شهر،و قد استمرّت عليّ المحنة.
فبينما أنا كذلك،إذ جاءتني البشارة،بأنّه قد رضي عنّي،و أمر باحضاري، فحضرت،و أنا خائف،فلمّا وصلت إليه،أعطاني يده فقبّلتها،فضحك إليّ،ثمّ قام و قال:اتبعني.
ص:49
فتبعته،فدخل تلك الحجرة بعينها،و لم يحضر غيري،و غيره،و غير المحسنة الّتي نالني من أجلها ما نالني،و أحضر الشراب،فغنّت،فسكتّ.
فقال:قل ما شئت،و لا تخف،فلقد خار اللّه لك في خلافي،و جرى القدر بما تحبّ.
إعلم أنّ هذه الجارية،عادت إلى الحال الّتي أحبّها منها،و أرضتني في أفعالها،و اصطلحنا،فأذكرتني بك،و سألتني الرّضا عنك،و الإحسان إليك، و قد فعلت،و أمرت لك بعشرة آلاف دينار،و وصلتك هي بدون ذلك،و لو كنت فعلت ما أمرتك،حتّى تعود إلى مثل هذه الحال،ثمّ تحقد عليك، فتسألني أن لا تصل إليّ قط،لأجبتها.
فدعوت له،و شكرته،و حمدت اللّه على توفيقه إيّاي،و زدت في الاستحسان و السرور إلى أن انصرفت،و حمل معي المال.
فما كان يمضي أسبوع إلاّ أتتني ألطافها،و صلاتها،من الجوهر و الثياب، بغير علم الأمين.و ما جالسته يوما،إلاّ سألته أن يصلني بشيء.
فجميع ما أنفقه إلى السّاعة،من فضل ما وصلني منها (1).
ص:50
من مكارم البرامكة
ذكر سعيد بن سليمان الباهلي،قال:أضقت إضاقة شديدة،و كثر عليّ الغرماء،فاستترت مدّة،ثمّ صرت إلى عبد اللّه بن مالك (1)،فشكوت إليه حالي، و شاورته في أمري.
فقال:لست أعرف لك غير قصد البرامكة،و مسألتهم في إصلاح ما اختلّ من أمرك.
فقلت:و من يحتمل تيههم و صلفهم (2)؟.
قال:تحتمله،في جنب ما تقدّر من صلاح حالك.
قال:فصرت إلى جعفر و الفضل ابني يحيى،فشكوت إليهما أمري.
فقالا:نكفيك،إن شاء اللّه.
فانصرفت إلى عبد اللّه بن مالك،فعرّفته ما جرى[136 ر].
فقال:أقم عندي،و لا ترجع إلى منزلك،و تقاسى غرماءك،فأقمت عنده.
فصار إليّ غلام لي،فقال:يا مولاي،رحبتنا (3)مملوءة بالجمال عليها المال،و رجل مع الجمال،معه رقعة يزعم أنّها من الفضل و جعفر،و أنّه رسولهما.
فقال لي عبد اللّه:أرجو أن يكون قد فرّج اللّه عنك.
فصرت إلى منزلي،و إذا رسول جعفر و الفضل،و معه رقعة يذكران فيها:
ص:51
أنّهما عرّفا أمير المؤمنين خبري،و أنّ عليّ ثمانمائة ألف درهم،دينا،فأمر بحملها إليّ.
ثمّ قالا له:فإذا قضى دينه،يرجع إلى الدين؟-فأمر لي بثمانمائة ألف درهم أخرى،لنفقتي.
و أنّهما أضافا إليها من أموالهما،ألفي ألف درهم،فحملاها مع ذلك.
فاستوفيت من رسولهما،ثلاثة آلاف ألف،و ستمائة ألف درهم.
و قد ذكر أبو الحسين القاضي،هذا الخبر في كتابه،على قريب من هذا اللّفظ و المعنى،بغير إسناد،و لم يذكر فيه مبلغ المال،و لا حال الاستتار (1).
ص:52
المأمون يهب أحد كتّابه اثني عشر ألف ألف درهم
[وجدت في كتاب عتيق[164 ظ]فيه أخبار جمعها يعقوب بن بيان الكاتب:حدّثني أبو القاسم علي بن داود بن الجعد،قال:حدّثني يزيد بن دينار بن عبد اللّه (1)،قال:حدّثني أبي،عن يحيى بن خاقان] (2)،قال:
كنت كاتب الحسن بن سهل،فقدم المأمون مدينة السّلام،فقال لي:
يا يحيى،خلوت بالسواد (3)،و لعبت بالأموال الّتي لي،و احتجنتها،و اقتطعتها.
فقلت:يا أمير المؤمنين،إنّما أنا كاتب الرّجل،و المناظرة في الأموال، و الأعمال،مع صاحبي،لا معي.
فقال:ما أطالب غيرك،و لا أعرف سواك،فصالحني على مائة ألف ألف درهم.
قال:فضحكت.
ص:53
فقال:يا يحيى،أجدّ و تهزل؟.
فقلت:لا،يا أمير المؤمنين،إنّما ضحكت تعجّبا،و باللّه،ما أملك إلاّ سبعمائة ألف درهم.
فقال:دع هذا عنك،و اعطني خمسين ألف ألف درهم.
قال:فما زلت أجاذبه،و يجاذبني،إلى أن بلغ اثنا عشر ألف ألف درهم، فلمّا بلغ إليها،قال:نفيت من الرّشيد،إن نقصتك شيئا منها.
فقلت:السمع و الطاعة.
قال:أقم لي ضمينا،إن لم تف لي بها،طالبته.
قلت:صاحبي يا أمير المؤمنين يضمنني.
فقال:أ تراني إن دافعت الاداء،أطالب الحسن بن سهل عنك؟هذا ما لا يكون.
فقلت:عبد اللّه بن طاهر.
فقال:عبد اللّه بن طاهر،سبيله سبيل صاحبك.
قلت:فحميد.
قال:و هذه سبيله.
قلت:ففرج مولاك يا أمير المؤمنين.
قال:مليء-و اللّه-و ثقة،ثمّ التفت إلى فرج،فقال:أ تضمنه يا فرج؟.
قال:نعم،يا أمير المؤمنين،قد ضمنته.
فقال:أنا و اللّه محرجه بالإلحاح في المطالبة،حتّى يهرب،أو يستتر،ثمّ آخذك بالمال،فتؤدّيه،فإنّك مليّ به.
فقال فرج:صاحبي ثقة،و هو لا يخفرني،إن شاء اللّه.
قال يحيى:فكتبت إلى الحسن بن سهل،و عبد اللّه بن طاهر،و حميد (1)،
ص:54
و دينار بن عبد اللّه،و غسّان (1)،و رجال المأمون،أسألهم إعانتي في المال.
قال:فحملوا لي ذلك عن آخره،حمل كلّ إنسان منهم،على قدره، قال يحيى:فكتبت رقعة إلى المأمون،أعرّفه أنّ المال قد حضر،و أسأله أن يأمر من يقبضه.
قال:فأحضرني،فلمّا وقعت عينه عليّ،قال لي:يا خائن،الحمد للّه الّذي بيّن لي خيانتك،و أظهر لي كذبك،ألم تذكر أنّك لا تملك إلاّ سبعمائة ألف درهم؟فكيف تهيّأ لك أن حملت في عشرة أيّام إثني عشر ألف ألف درهم؟
قال:فقلت:حملت،يا أمير المؤمنين من هذه الجريدة،و دفعت إليه جريدة بأسماء من حمل إليّ المال،و مبلغ ما حمل كلّ واحد منهم.
قال:فقرأ الجريدة،ثمّ أطرق مليّا،و رفع رأسه،فقال:لا يكون أصحابنا،أجود منّا،هذا المال قد وهبناه لك،و أبرأنا ضمينك.
قال يحيى:فانصرفت،فرددت المال إلى اصحابه،فأبوا أن يقبلوه، و قالوا:قد وهبناه لك،فاصنع[137 ر]به ما أحببت.
قال:فحلفت،أن لا أقبل منه درهما،و قلت لهم:أخذته في وقت حاجتي،و رددته عند استغنائي عنه،و قبولي إيّاه في هذا الوقت ضرب من التغنّم.
فرددته عليهم (2).
ص:55
ما بقي له غير درهمين ثمّ جاءه الفرج
و وجدت في هذا الكتاب،عن يعقوب بن بيان:حدّثني بعض أصحابنا، و هو عندي ثقة،و قد تجارينا لزوم المتعطّلين،أبواب المتشاغلين،و تعذّر الشغل عليهم،بعد أن قلنا جميعا:إنّ الارزاق مقسومة،و إنّ اللّه تعالى إذا أذن فيها سهّلها،قال:فحدّثني عمرو بن حفص،عن أبيه،قال:
كان أبي حفص،قد صحب بعض عمّال فارس،إلى فارس،فأقام على بابه ستّة أشهر،يلقاه كلّ يوم فيها،فلا يكلّمه العامل فيها بشيء،و ينصرف أبي إلى منزله.
قال:فنفدت نفقته،و باع كلّ ما كان معه،حتّى قال له غلامه يوما:
ما بقي إلاّ الدابّة،[165 ظ]و البغل،و درهمان.
قال:فقال له:اشتر لنا بالدرهمين خوخا،فإنّه أرخص من الخبز، لنتقوّته،إلى أن يفرج اللّه-عزّ و جلّ-عنّا.
قال:ففعل الغلام ذلك،و أكل حفص من الخوخ شيئا و نام،فما استيقظ إلاّ بدقّ الباب،و إذا رسول العامل يأمره بالحضور،فركب،فوجد العامل قاعدا في داره على كرسي ينتظره.
فلمّا دخل،قال العامل:لا جزّاك اللّه خيرا عنّي،و لا عن نفسك.
قال:و لم ذاك،أصلحك اللّه؟.
قال:أ تستقيم على بابي ستّة أشهر،لم تر على نفسك أن تريني وجهك يوما واحدا؟.
فقال:أعزّك اللّه،أنا في مجلسك كلّ يوم.
قال:و اللّه،ما وقعت لي عليك عين،و لا خطرت ببالي إلاّ السّاعة،
ص:56
فإنّي ذكرتك،فعلمت طول مقامك في العطلة و الغربة.
و دعا بكاتبه،فكتب كتبي على فسا (1)و درابجرد (2)،و خرجت من يومي إلى العمل،فحصلت منه،في مديدة قريبة،سوى نفقتي،ستمائة ألف درهم (3).
ص:57
سبب توبته عن النبيذ
حدّثني علي بن محمّد الأنصاري،و عبيد اللّه بن محمّد العبقسي،و اللّفظ له،قالا:حدّثنا أبو الفتح القطّان:أنّ رجلا من أولاد التجّار،زالت نعمته، و صار بوّابا لأبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي،نقيب الطالبيين، أيّده اللّه (1)،ببغداد،قال:حدّثني خالي،و كان صيرفيّا،قال:
كنت و جماعة من إخواني،عند بعضنا مجتمعين نشرب،و عندنا غلام أمرد،و نحن نأكل بطّيخا (2)،و في يد كلّ واحد منّا سكّينا.
ص:58
فأخذ الغلام يمزح مع واحد منّا في يده سكّين ليأخذها منه،فرمى بالسكّين، كالضجر من مجاذبته إيّاها،فوقعت في قلب الغلام،فتلف في الحال،فقمنا لنهرب.
فقال صاحب البيت:ما هذه فتوّة (1)،إمّا أن نبتلى كلّنا،أو نتخلّص كلّنا.
فأغلقنا باب الدار،و شققنا بطن الغلام،فألقينا ما فيه في المستراح، و فصّلنا أعضاءه،فأخذ كلّ منا عضوا،و خرجنا متفرّقين،لنلقي ذلك بحيث يخفى خبره.
فوقع معي الرأس،فلففته في فوطة (2)،و جعلته في كمّي (3).
ص:59
فلمّا مشيت،استقبلني رجّالة المحتسب (1)،فقبضوا على كمّي،و قالوا:
قد أمرنا المحتسب بختم كلّ كيس نجده،حتّى يفتح بحضرته،و يخرج ما فيه، و تؤخذ منه الزائفة (2).
فرفقت بهم،و بذلت لهم دراهم كثيرة،فلم يجيبوا،و مشوا بي معهم، و أمسكوني يريدون المحتسب.
فنظرت،فإذا أنا هالك،و فكّرت في الحيلة و الخلاص،فلم تتّجه، حتّى رأيت دربا (3)ضيّقا لطيف الباب (4)،كأنّه باب دار،و أنا أعرفه منفذا 7.
فقلت لهم:أنتم تريدون ختم كيسي،فما معنى تشبّثكم بيدي و كمّي كأنّني لصّ؟أنا معكم إلى المحتسب،فخلّوا عن يدي،ففعلوا،و أطافوا بي.
فلمّا صرت على باب الدرب،سعيت،فدخلته،و أغلقت بابه،و استوثقت منه،و سعيت إلى آخره،فإذا بئر كنيف قد فتحت لتنقّى،و تركت مفتوحة، فألقيت الفوطة بما فيها في البئر،و خرجت أسعى من طرف الدرب الآخر، حتّى بلغت منزلي،و حمدت اللّه تعالى على الخلاص من الهلكة.
و تبت عن النّبيذ (5).
ص:60
حلف بالطلاق
لا يحضر دعوة،و لا يشيّع جنازة
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد (1)،قال:حدّثنا أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي النّقيب،قال:
حدّثني شيخ كان يخدمني،و قد تجارينا أحاديث النّاس،فقال:إنّه حلف بالطلاق،ألاّ يحضر دعوة،و لا يشيّع جنازة،[و لا يودع وديعة] (2)،فسألته عن ذلك (3).
فقال:كنت انحدرت إلى البصرة من بغداد،فصعدت إلى بعض مشارع البصرة عشاء،فاستقبلني رجل،فكناني بغير كنيتي،و بشّ في وجهي، و أحفى،و جعل يسألني عن قوم لا أعرفهم،و يحلف[166 ظ]عليّ في النّزول عنده.
و كنت غريبا،لا أعرف مكانا،فقلت:أبيت عنده اللّيلة إلى غد، فأطلب موضعا.
فموّهت عليه في القول،فجذبني إلى منزله،و كان معي رحل صالح (4)، و في كمّي دراهم كثيرة.
فدخلت إليه،فإذا عنده دعوة،و القوم على نبيذ،و قد خرج لحاجة،
ص:61
فشبّهني بصديق له،و تموّه عليه أمري لسكره.
و كان فيمن عنده،رجل له غلام أمرد،فلمّا أخذوا مضاجعهم للنّوم، أرقت من بينهم.
فلمّا كان بعد ساعة،رأيت واحدا من الجماعة،قد قام إلى الغلام الأمرد، ففسق به،و رجع إلى موضعه،و كان قريبا من صاحب الغلام.
و استيقظ في الحال صاحب الغلام،فتقدّم إلى غلامه ليفسق به.
فقال له:ما تريد؟ألم تكن الساعة[138 ر]عندي،و فعلت بي كذا و كذا؟
فقال:لا.
فقال:قد جاءني السّاعة من فعل بي،و ظننته إيّاك،فلم أتحرّك،و لم أظنّ أنّ أحدا يجسر عليك.
فنخر الرّجل،و جرّد سكينا من وسطه،و قام،و أنا أرعد،فلو كان دنا منّي،حتّى يجدني أرعد،لقتلني،و ظنّ أنّي صاحب القصّة.
فلما أراد اللّه عزّ و جلّ،من بقاء حياتي ما أراد،بدأ بصاحبه،فوضع يده على قلبه،فوجده يخفق،و قد تناوم عليه،يرجو بذلك السلامة،فوضع السكّين في قلبه،و أمسك فاه،فاضطرب الرّجل،و تلف.
فأخذ الرّجل بيد غلامه،و فتح الباب،و انصرف.
فورد عليّ أمر عظيم.
و قلت:أنا غريب،و ينتبه صاحب البيت،فلا يعرفني،و لا يشكّ في انّي صاحب الجناية،فأقتل.
فتركت رحلي،و أخذت ردائي،و نعلي،و طلبت الباب،فلم أزل أمشي،لا أدري أين أقصد،و الليل منتصف،و خفت العسس (1)،فرأيت
ص:62
أتّون حمّام (1)لم يوقد بعد.
فقلت:أختبيء فيه،إلى أن يفتح الحمّام،فأدخله،فجلست في كسر الأتّون.
فما لبثت حينا،حتّى سمعت وقع حافر،و إذا برجل يقول:قد رأيتك يا ابن الفاعلة،و دخل الاتّون،و أنا كالميت من الفزع،لا أتحرّك،فلمّا لم يجد حسّا،أدخل رأسه،و يده،يومئ بسيف معه في الأتّون،و أنا بعيد عن أن ينالني السّيف،صابر،مستسلم.
فلمّا لم يحسّ أحدا،خرج إلى بابه،و إذا معه جارية،فأدخلها الأتّون، فذبحها،و تركها و مضى.
فرأيت بريق خلخالين (2)في رجليها،فانتزعتهما منها،و خرجت،و ما زلت أمشي في الطريق متحيّرا،إلى أن صرت إلى باب حمّام قد فتح،فدخلته، و خبّأت ما معي في ثيابي[130 م]،عند الحمّامي.
و خرجت و قد أصبحت،فضممت[الخلخالين إلى] (3)ما معي،و طلبت الطريق،فعرفت أنّي بالقرب من دار صديق لي،فطلبتها،فدققت بابه، ففتح لي،و سرّ بمقدمي،و أدخلني.
فدفعت إليه منديلي الّذي كان فيه دراهمي و الخلخالين،ليخبّئهما،فلمّا نظر إليهما تغيّر وجهه.
فقلت:مالك؟.
ص:63
فقال:من أين لك هذان الخلخالان؟
فأخبرته بخبري كلّه في ليلتي،فدخل مسرعا إلى دار حرمه،و خرج إليّ.
فقال:أ تعرف الرّجل الّذي رأيته قتل الجارية؟.
قلت:أمّا بوجهه فلا،لأنّ اللّيل و الظلمة كانت حائلة بيننا،و لكن إن سمعت كلامه عرفته.
فأعدّ طعاما،و غدا في أمره،و عاد بعد ساعة،و معه رجل شابّ من الجند، فكلّمه،و غمزني عليه.
فقلت:نعم،هذا هو الرّجل.
ثمّ أكلنا،و حضر الشراب،فحمل عليه بالنّبيذ (1)،فسكر،و نام موضعه، فأغلق باب الدار،و ذبح الرّجل.
و قال لي:إنّ المقتولة أختي،و كان هذا قد أفسدها،و نمى الخبر إليّ منذ أيّام فلم أصدّق،إلاّ أنّي طردت أختي،و أبعدتها عنّي،فمضت إليه،و لست أدري ما كان بينهما،حتّى قتلها،و إنّما عرفت الخلخالين[167 ظ]و دخلت فسألت عنها.
فقيل لي:هي عند فلان.
فقلت:قد رضيت عنها،فوجّهوا،فردّوها،فلجلجوا في القول، فعلمت أنّ الرّجل قد قتلها كما ذكرت،فقتلته،فقم حتّى ندفنه.
فخرجنا ليلا،أنا و الرّجل،حتّى دفنّاه،و عدت إلى المشرعة،هاربا من البصرة،حتّى دخلت بغداد.
و حلفت ألاّ أحضر دعوة أبدا،[و لا أودع وديعة أبدا](8).
و أمّا الجنازة،فإنّي خرجت ببغداد،نصف النّهار،في يوم حار،[لحاجة](8) فاستقبلتني جنازة يحملها نفسان.
ص:64
فقلت:غريب،فقير،أحملها معهما فأثاب،فدخلت تحتها،بدلا من أحد الحمّالين.
فحين استقرّت على كتفي،افتقدت الحمّال،فلم أجده،فصحت:
يا حمّال،يا حمّال.
فقال الآخر:إمش،و اسكت،قد انصرف الحمّال.
فقلت[139 ر]:السّاعة،و اللّه،أرمي بها.
فقال الحمّال:و اللّه،لئن فعلت لأصيحنّ.
فاستحييت،و قلت:ثواب،فحملناها إلى مسجد الجنائز (1)،فلمّا حططنا الجنازة في مسجد الجنائز،هرب الحمّال الآخر.
فقلت:ما لهؤلاء الملاعين،و اللّه،لأتمّنّ الثواب،فأخرجت من كمّي دراهم،و صحت:يا حفّار،أين قبر هذه الجنازة؟.
فقال:لا أدري.
فقلت:أحفر،فأخذ منّي درهمين،و حفر قبرا.
فلمّا صوّبت عليه الجنازة،ليأخذ الميت فيدفنه،وثب الحفّار من القبر فلطمني،و جعل عمّامتي في رقبتي،و صاح:يا قوم قتيل،فاجتمع الناس، فسألوه.
فقال:هذا الرّجل،جاء بهذا الميت،بلا رأس،لأدفنه،و حلّ الكفن، فوجدوا الأمر على ما قاله الحفّار.
فدهشت،و تحيّرت،و جرى عليّ من مكروه العامّة،ما كادت نفسي تتلف معه.
ثمّ حملت إلى صاحب الشرطة،و أخبر الخبر،فلم يرد شاهدا عليّ، فجرّدت للسياط،و أنا ساكت باهت.
ص:65
و كان له كاتب عاقل،فحين رآني،و رأى حيرتي،قال له:أنظرني (1)، حتّى أكشف حال هذا الرّجل،فإنّي أحسبه مظلوما،فأمهله.
فقام،و خلا بي،و ساءلني،فأخبرته خبري،و لم أزد فيه و لم أنقص.
فنحّى الميت عن الجنازة،و فتّشها،فوجد عليها مكتوبا:أنّها للمسجد الفلاني،في النّاحية الفلانية.
فأخذ معه رجاله و مضى،فدخل المسجد متنكّرا،فوجد فيه خيّاطا، فسأله عن جنازة هناك،كأنّه يريد أن يحمل عليها ميتا له.
فقال الخيّاط:للمسجد جنازة،إلاّ أنّها قد أخذت منه الغداة،لحمل ميت،و لم تردّ.
قال:من أخذها؟.
قال:أهل تلك الدار،و أومأ إليها.
فكبسها الكاتب برجّالة الشرطة،فوجد[131 م]رجالا عزّابا (2)، فقبض عليهم،و حملهم إلى الشرطة،و أخبر صاحب الشرطة بالخبر.
و قرّر القوم،فأقرّوا أنّهم تغايروا على غلام أمرد كان معهم،فقتلوه، و طرحوا رأسه في بئر حفروها في الدّار،و حملوه على تلك الصورة،و أنّ الحمّالين كانا من جملة القوم،و على أصل (3)هربا.
فضربت أعناق القوم،و خلّي سبيلي.
فهذا سبب يميني في ألاّ أحضر جنازة (4).
ص:66
ابن قمير الموصلي
وقع في ورطة و تخلّص منها
و حدّثني عبيد اللّه بن محمّد الصرويّ،قال:حدّثني ابن قمير (1)،مجلّد الكتب-كان-بالموصل،قال:
أعطاني أبو عبد اللّه بن أبي العلاء بن حمدان (2)،دفترا،أجلّده،و أكّد عليّ الوصيّة في حفظه،فأخذته منه،و مضيت إلى دكاني.
و كان طريقي على دجلة،فنزلت إلى مشرعة أتوضّأ،فسقط الدفتر من كمّي في الماء،فتناولته عجلا قبل أن يغرق (3)،و قد ابتلّ،فقامت قيامتي، و لم أشكّ أنّه سيجري عليّ مكروه شديد من أبي عبد اللّه،من ضرب،و حبس، و أخذ مال،فعملت على الهرب من الموصل.
ثمّ قلت:أجفّفه،و أجلّده،و أجتهد في أن أسلّمه إلى غلام له،و هو لا يعلم،و استتر،فإن ظهر الحديث،هربت،و إن كفى اللّه تعالى ذلك، و تمّت عليه الحيلة[168 ظ]ظهرت.
ص:67
فحللته،و جفّفته،و ثقّلته،حتّى رجع و استوى،أكثر ما يمكن من مثله، و جلّدته،و تأنّقت في التجليد.
فلمّا فرغت منه،جئت إلى الحاجب لأسلّمه إليه من باب الدّار و أمضي، فصادفت الحاجب جالسا في الدهليز،فسلّمت إليه الدفتر.
فقال:ادخل إليه،و ادفعه من يدك إلى يده،فلعلّه يتوقّعك،و لعلّه يأمر لك بشيء.
فقلت:لا أريد،فإنّي مستعجل.
فقال:لا يجوز،و لم يدعني حتّى دخلت إليه،فلم أشكّ أنّ ذلك من سوء الاتّفاق عليّ،المؤدّي إلى المكروه،و مشيت في الصّحن و أنا في صورة عظيمة من الهمّ.
فوجدت أبا عبد اللّه جالسا على بركة ماء في صحن[140 ر]داره، و الغلمان قيام على رأسه،فأخرجت الدفتر من كمّي.
فقال لأحد غلمانه:خذه من يده،و هاته.
فجاء الغلام من جانب البركة،و أنا من الجانب الآخر،و مدّ يده ليأخذه، فأعطيته إيّاه،فلم يتمكّن في يده،حتّى سقط الدفتر في البركة،و غاص إلى قعرها.
فجنّ أبو عبد اللّه،[و شتم الغلام] (1)،و قال:مقارع،مقارع.
فحمدت اللّه عزّ و جلّ،على استتار أمري (2)من حيث لا أحتسب،و كفايتي ما كنت أخافه.
و خرجت،و الغلام يضرب (3).
ص:68
واسطيّ أتلف ماله و افتقر
ثم صلح حاله بعد أهوال
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد الصروي،قال:حدّثني أبي،قال:
كان في جوارنا بواسط،شاب أتلف ماله في اللّعب (1)،فافتقر فقرا شديدا، ثمّ رأيته بعد ذلك بمدة،و قد أثرى،و صلحت حاله،و أقبل على شأنه.
فقلت له:ما سبب هذا؟،فدافعني.
ثمّ قال:أحدّثك،و تكتم عليّ؟.
فقلت:نعم.
فقال:إنّ الفقر بلغ بي إلى حال تمنّيت معها الموت،و ولدت امرأتي ذات ليلة،و كانت ليلة العيد،فلم يكن معي ما أشتري لها ما يمسك رمقها،فخرجت على وجهي،أطلب من أتصدّق منه شيئا أعود به إلى امرأتي.
فافضيت إلى زقاق طويل لا أعرفه،فدخلت،فإذا هو لا ينفذ،و إذا فيه باب دار مفتوح،و مستراح.
فدخلت الدار بغير إذن،فإذا برجل يطبخ قدرا،فصاح عليّ،و قال:
من أنت،ويلك؟،فقصصت عليه خبري.
فقال:إمض إلى ذلك البيت،و اجلس إلى أن أفرغ من القدر،فأعطيك منها مع الخبز شيئا تحمله إلى امرأتك،و نفقة تكفيك أيّاما.
فدخلت البيت،فرمى إليّ كساء (2)،و قال:تغطّ به،و نم ساعة.
ص:69
و كانت ليلة باردة،و كنت بقميص واحد،فتغطّيت بالكساء،و انضجعت (1)، و لم يدخل عيني النّوم،لما بي من الجوع و الغمّ.
فما لبثت أن جاء رجل عريان،فدخل و على رأسه شيء ثقيل،فقام[132 م] الّذي يطبخ،فأغلق الباب،و أنزل ما كان على رأسه.
و قال له:ويلك،غبت،حتّى أيست منك.
فقال:كنت يومي و ليلتي،مختبئا خلف حطب لهم،حتّى تمكّنت من أخذ هذه البدرة (2)،و ما أدري أدنانير هي أم دراهم؟،و أنا ميت جوعا، فأطمعني شيئا.
قال:فأخذ الرّجل يغرف من القدر،و مضى العريان فلبس شيئا،و جاء إلى الآخر،و قد غرف،فجعلا يأكلان،و قد خرجت[142 ر]نفسي فزعا.
فلمّا أكلا،أخرجا شرابا،و جعلا يشربان،و أنا متحيّر لا أدري ما أصنع،و لست أجتريء أطلب من الرّجل شيئا.
و أقبل العريان يشرب أكثر من الآخر الّذي كان يطبخ،و جعل الّذي كان يطبخ،يقول له:استكثر من الشرب لتدفأ،إلى أن سكر العريان، و نام.
فقام الأوّل،فطاف في الدّار،ثمّ جاءني،فكلّمني،فسكتّ،خوفا من أن يعلم أنّي قد علمت بقصّتهما،فيقتلني،فظنّ أنّني قد نمت.
فمضى إلى النّائم،فذبحه،ثمّ أمسكه حتّى مات،ثمّ لفّه في كساء، و حمله على عاتقه،و خرج من الدار.
فقلت لنفسي:لأيّ[169 ظ]شيء قعودي؟.
ص:70
فقمت،فجئت إلى البدرة،فجعلتها في الكساء الّذي كان عليّ،و خرجت أسعى سعيا شديدا.
فلم أزل كذلك،حتّى رأيت مسجدا قد فتحه إنسان،و خرج منه،و جلس يبول،فدخلته،و جاء الرّجل الّذي كان يبول،فدخله،و أغلق بابه.
و قال لي:أيّ شيء أنت؟.
فقلت:غريب،جئت الساعة من السواد (1)،و لم أجسر أن أتجاوز هذا الموضع،فأجرني،أجارك اللّه.
فقال:نم مكانك،فتركت البدرة تحت جنبي (2)و اتّكأت عليها.
فلم ألبث حتّى سمعت في الطريق صوت رجل يسعى سعيا شديدا،و إذا كلام صاحبي بعينه،و هو يقول:عملها ابن الزانية،و يلي على دمه.
فأبصرته من شبّاك المسجد،و إذا في يده خنجر مجرّد،و هو يتردّد ذاهبا و جائيا،و أعماه اللّه عن دخول المسجد،إلى أن مضى.
و لم أزل ساهرا لا يحملني النوم (3)،خوفا منه،و إشفاقا على ما معي،إلى أن أضاء الصّبح،و أذّن في المسجد.
و خرجت كأنّي أتوضّأ،و حملت ما معي،و مشيت،و النّاس قد كثروا في الطّريق،حتّى انتهيت إلى بيتي،فأخفيت ما جئت به،و أصلحت حالي، و حال زوجتي.
ثمّ خرجت إلى ضيعة-كانت لأبي-خراب،فأقمت بها مدّة،حتّى عمّرتها بأكثر ذلك المال،و علمت أنّه لا يتّفق مثل هذا الاتّفاق أبدا،و لزمت شأني، و صلحت حالي.
ص:71
قال:فقال أبي:ما حدّثت بهذا الحديث حتّى مات الرّجل،و لا أسمّيه أبدا (1).
ص:72
اللّجاج شؤم
حدّثني أبو الحسن محمّد بن محمّد بن جعفر الأنباري الشّاهد ببغداد، أحد كتّاب قضاتها،و خلفائهم،و يعرف أيضا بصهر القاضي ابن سيّار (1)، الّذي كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخي،رحمه اللّه،على أعمال نواحي واسط،و كور الأهواز،و خلف بعده عدّة قضاة رؤساء،و كان من شيوخ غلمان أبي الحسن الكرخي،[و قد رأيت أنا أبا الحسن هذا كثيرا عند أبي رضي اللّه عنه،و لم اسمع هذا الحديث منه] (2)،قال:
حدّثني شيخ من البصريّين،أثق به،قال:عادلت (3)فلانا القاضي-ذكره ابن مرغول رحمه اللّه،و أنسيه محمّد بن محمّد-إلى الحجّ (4).
قال:و تشاجر رجلان،في الرفقة الّتي كنّا فيها من القافلة.
قال:و جذبهما ذلك القاضي إليه،و لم يزل يتوسّط بينهما و يترفّق بهما،و قد استعمل كلّ واحد منهما اللّجاج و المشاحنة،و أقاما عليها،و هو يصبر عليهما، و يقول:اللّجاج شؤم،فلا تستعملانه و يكرّر هذه اللّفظة،إلى أن فصل بينهما.
فقال لي:أذكرني حديثا في اللّجاج،جرى على يدي،لك فيه،و لكلّ من سمعه،أدب (5).
قال:فأذكرته بعد وقت.
ص:73
فقال:كنت أتولّى القضاء،في البلد الفلاني،فتقدّم إليّ[133 م] رجلان،فادّعى أحدهما على الآخر عشرين دينارا.
فقلت للمدّعى عليه:ما تقول؟
فقال:له عليّ ذلك،إلاّ أنّي عبد لآل فلان،مكاتب (1)،مأذون لي في التّصرف،و اتّجرت،فخسرت،و ليس معى ما أعطيه،و قد عاملني هذا الرّجل سنين كثيرة،و ربح عليّ أضعاف هذه الدنانير مرارا،فإن رأى القاضى أن يسأله الرّفق بي،فإنّى عبد،و ضعيف،و لا حيلة لي.
فسألته أن يرفق به،و يؤخّره،فامتنع.
فقلت:قد سمعت.
فقال:ما لي حيلة.
فقال الرّجل:احبسه لي.
فعاد العبد يسألني،فسألته[143 ر]أن لا يفعل،و بكى العبد،فرققت له،و سألت خصمه أن لا يحبسه،و أن ينظره.
فقال:لا أفعل.
فقال العبد:إن حبسني أهلكني،و و اللّه ما أرجع إلى شيء،و إنّه ليضايقني، و يلجّ في أمري،و قد انتفع منّي بأضعاف هذه الدنانير،و ورث منذ أيّام من أخي ألوف دنانير،فأشير عليّ بمنازعته إلى القاضي في الميراث،فلم أفعل.
قال:فحين قال ذلك،توجّه لي وجه طمع في خلاصه من لجاج ذلك الغريم،و قد كان غاظني بلجاجه و محكه (2).
فقلت:[170 ظ]كيف ورث أخاك،و أردت منازعته؟
ص:74
فقال:إنّ أخي كان عبد له،مأذونه في التّصرف،و كان يتّجر و يتصرّف، و يؤدّي إليه ضريبته،و جمع مالا و أمتعة،بأكثر من ثلاثة آلاف دينار،ثمّ مات،و لم يخلّف أحدا غيري،و أنا رجل ضعيف،مملوك،و لي ابنان طفلان من أمرأة حرّة،و هما حرّان،فأنا أعولهما،و أعول نفسي،و زوجتي،و أؤدّي إلى مولاي ضريبته (1)فطمعت في أن أنازعه في الميراث،و آخذ شيئا أعود به على نفسى،و أولادي،و عيالي،فقيل لي:إنّك لا ترث،فلم أحبّ منازعته، صيانة له،و هو الآن يضايقني.
قال:فقلت للرّجل:هو كما قال،إنّ أخاه كان عبدك،و مات،و خلّف عليك تركة قيمتها ثلاثة آلاف دينار؟
قال:نعم.
فقلت له:و لهذا العبد طفلان حرّان؟
قال:نعم.
فقلت:قم،فأخّره بالدنانير و لا تطالبه بها.
فقال:ما أبرح إلاّ بالدّنانير،أو بحبسه.
فقلت:اقبل رأيي،و لا تلجّ.
فقال:لا أفعل.
فقلت:إنّك متى لم تفعل،خرج من يدك مال جليل.
فقال:لا أفعل.
قال:فقلت للعبد:قد أذنت لك أن تتكلّم عن ابنيك الطفلين،و هما-على مذهب عبد اللّه بن مسعود،و هو مذهبي-أحقّ بالميراث من مولاه،و إن كنت أنت حيّا،فإنّك بمنزلة الميت للعبوديّة،فطالبه عن ابنيك الحرّين الطفلين بالتركة.
ص:75
قال:فطالبه بها.
فأحضرت الشهود،فأعاد الخصومة،و الدعوى،و لم أزل بالمولى،حتّى أسمعت الشهود إقراره بما كان أقرّ به عندي،ثمّ حكمت للإبنين الطفلين بالتركة، و انتزعت جميعها من يده،و سلّمت إليه منها عشرين دينارا،لما أقرّ له العبد به، و جعلت ذلك دينا عليه لابنيه.
و سلّمت مقدار ثمن العبد،من مال الطفلين،إلى أمين من أمنائي،و قلت:
اشتر أباهما من مولاه بهذه الدنانير،و اعتقه عليهما،ففعل.
و جعلت باقي مال الطفلين في يد أبيهما،و أمين جعلته عليه مشرفا،و أمرت الأب أن يتّجر لهما بالمال،و يأخذ ثلث الرّبح،بحقّ قيامه،و حكمت بالجميع، و أشهدت على إنفاذي الحكم له الشهود.
فقام العبد،و هو فرحان،و قد فرّج اللّه عنه،و آمنه أن يحبس،و عتقت رقبته،و صار موسرا.
و قام اللّجوج خاسرا حائرا،و قد أخذ عشرين دينارا،و أعطى ثلاثة آلاف دينار (1).
ص:76
ابن الجصّاص الجوهري
يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد منها شيئا
حدّثني أبو علي بن أبي عبد اللّه بن الجصّاص،قال:سمعت أبي يقول:
إتّفق أنّي كنت يوم قبض عليّ المقتدر جالسا في داري،و أنا ضيّق الصّدر، ضيقا شديدا،لا أعرف سببه.
و كان من عادتي إذا لحقني مثل ذلك،أن أخرج جواهر عندي في درج معزولة لهذا،من ياقوت أحمر،و أزرق،و أصفر،و حبّا كبارا و درّا فاخرا، يكون[134 م]قيمة الجميع خمسين ألف دينار (1)،و أكثر،و أستدعي صينيّة (2)ذهب لطيفة،فأجعله فيها،و ألعب به،و أقلّبه،فيزول ضيق صدري.
فاستدعيت ذلك الدرج،فجاءوني به بلا صينّية،فأنكرت ذلك،و أمرت بإحضارها،و فتحت الدرج،و فرّغت ما فيه في حجري،و رددته على الخادم، و أنفذته يجيئني بالصينيّة،[144 ر]،و أنا جالس في بستان،في صحن داري،في يوم بارد،طيّب الشّمس،و هو مزهر بصنوف الشقائق (3)،و المناثير (4)، و أنا ألعب بتلك الجواهر،إذ دخل النّاس إليّ بالصيّاح،و المكروه،و الكبس، فقربوا منّي.
ص:77
فدهشت،و لم أحبّ أن يظهروا على ما في حجري،فنفضت جميعه في ذلك الزّهر في البستان،و لم ينتبهوا له.
فأخذت،فحملت،و جرى عليّ ما جرى من المصادرة،و بقيت في الحبس المدّة الطويلة،و تقلّبت الفصول على البستان،فجفّ ما فيه،و لم يفكّر أحد في قلعه،أو زراعته،و إثارته،و أغلقت الدّار،فما قربها أحد[171 ظ] من أصحابي،و لا أعدائي،بعد الّذي أخذ منها،و فرغت،و وقع اليأس من وجود شيء فيها.
ثمّ سهّل اللّه إطلاقي،فأطلقت،فحين جئت إلى داري،و رأيت الموضع الّذي كنت جالسا فيه ذلك اليوم،ذكرت حديث الجوهر الّذي كان في حجري، و نفضي إيّاه في البستان.
فقلت:ترى بقي منه شيء؟.
ثمّ قلت:هيهات،هيهات،و أمسكت.
فلمّا كان في الغد،أخليت الدّار،و قمت بنفسي و معي غلام يثير البستان بين يدي،و أنا أفتّش شيئا،شيئا،ممّا يثيره،و أجد الواحدة بعد الواحدة، من ذلك الجوهر،و كلّما وجدت شيئا،حرصت على الإثارة،و طلب الباقي، إلى أن أثرت جميع البستان،فوجدت جميع ذلك الجوهر،ما ضاع لي منه واحدة.
فأخذته،و حمدت اللّه،و علمت أنّه قد بقيت لي بقيّة من الإقبال صالحة (1).
ص:78
الوزير ابن مقلة ينكب رجلا ثمّ يحسن إليه
حدّثني أبو محمّد يحيى بن سليمان بن فهد رحمه اللّه،قال:حدّثنا أبو علي إسماعيل بن محمّد بن الخبّاز،قال:
كان أبو علي بن مقلة (1)،نكبني،و صادرني،لشيء كان في نفسه عليّ، فأفقرني،حتّى لم يدع لي شيئا على وجه الأرض.
و أطلقني من الحبس،فلزمت بيتي حزينا،فقيرا،يتعذّر عليّ القوت.
ثمّ لم أجد بدّا من الاضطراب في معاشي،فأشير عليّ أن ألزم ابن مقلة، و أستعطفه،و قيل لي إنّه إذا نكب إنسانا فخدمه،رقّ عليه.
قال:فلزمته مديدة،لا أراه يرفع إليّ رأسا،و لا يذكرني (2).
قال:و كان يعرفني بحسن الثياب و نظافتها،و التفقّد في أمر نفسي (3)، أيّام يساري.
و اتّفق أنّي حضرت داره في يوم جمعة،غدوة،و لم أكن دخلت الحمام قبل ذلك بأسبوع،و لا حلقت شعري،و لا غيّرت ثيابي،و أنا وسخ الجسد و الثّياب،طويل الشعر،و إنّما أخّرت ذلك لإضاقتي عن مقدار ما أحتاج إليه،و لشغل قلبي أيضا،و غمّي بالفقر المدقع الّذي دفعت إليه،و هوان نفسي عليّ.
فخرج ابن مقلة ليركب،فقمت إليه في جملة النّاس،فدعوت له.
ص:79
فحين رآني،تأمّلني طويلا،ثمّ أومأ إلى خادم له بكلام لا أفهمه، و ركب.
فجاءني الخادم،فقال:الوزير يأمرك أن لا تبرح من الدار،إلى أن يعود، و أخذني إلى حجرة،فأجلسني فيها.
فقامت قيامتي،و خفت أن يكون قدّر أن تكون لي بقيّة حال،و يريد الرّجوع عليّ بالمطالبة،و ليس ورائي شيء،فأتلف.
فتداخلني من الجزع أمر عظيم،و حصلت في شدّة كانت أشدّ عليّ ممّا مرّ بي،فلم يكن بأسرع من أن عاد.
فجاءني الخادم،فقال:قم إلى الوزير،فقد طلبك.
فجئت،حتّى دخلت عليه،و هو خال وحده،و ليس بين[135 م] يديه غير أبي الحسين،ابنه (1)،فرحّب بي،و أكرمني،و رأيت من برّه ما زال عنّي معه الخوف.
ثمّ قال:يا أبا علي،أعرفك نظيف الثوب،حسن القيام على نفسك، فلم أنت بهذه الصورة؟.
قال:ففطنت أنّه لما رآني على صورتي تلك،رقّ لي.
فقلت:أيّها الوزير،لم يبق لي-و اللّه-حال،و إنّه ليتعذّر عليّ ما أغيّر به هذا المقدار من أمري،و فتحت أبواب الشكاية،إلى أن بكيت.
فقال:إنّا للّه،إنّا للّه (2)،ما ظننت أنّ حالك بلغت إلى هذا،و لقد أسأنا إليك.
ص:80
قال:ثمّ مدّ يده إلى الدواة،فكتب لي على الجهبذ،بألف دينار صلة، و وقّع توقيعا آخر،بأن أبايع ضيعة من المبيع بألفي دينار،بحيث أختار ذلك، ثمّ قال:خذ هذه الدنانير فاتّجر بها،و أصلح منها[145 ر]حالك، و ابتع بهذه الألفي دينار ضيعة من المبيع،تغلّ لك ألف دينار في السنة، و اخترها،و شاور فيها،فإذا وقع اختيارك عليها،فأسمها لي،لأكتب بمبايعتك إيّاها،لتستكفي بغلّتها سنتك،إلى أن[172 ظ]أنظر لك بعد هذا،فأردّ جاهك،فشكرته و دعوت له،و نهضت.
فقال:قف،فوقفت.
فقال لابنه أبي الحسين:بحياتي عليك،عاون أبا عليّ حتّى يحصل له هذا كلّه في أسبوع،و في دفعة واحدة،و لا ينمحق عليه.
قال:فوعدني أبو الحسين بذلك،و أمرني بالمصير إليه،فانصرفت.
و رحت إلى أبي الحسين،فأعانني،فحصل ذلك كلّه لي في أيّام قليلة، و حصلت لي الضيعة،فاستغللتها في تلك السنة ألف دينار.
و لزمت أبا عليّ،فعوّضني بمكاسب جليلة،عاد إليّ منها أكثر ممّا خرج عن يدي بنكبته (1).
ص:81
إبن عبدون الأنباري الكاتب
يكسب في ليلة واحدة مائة ألف دينار
قال محمّد بن عبدوس في كتاب الوزراء:حكي عن محمّد بن خلف، المعروف بابن عبدون الأنباري الكاتب،إنّه قال:
بينما أنا يوما أدرج في بعض سكك المدينة (1)،و كانت حينئذ لا يدخلها راكبا إلاّ من له نباهة،إذ سمعت خلفي وقع حوافر،فنظرت فإذا يوسف (2)بن الوليد الأنباري،و كانت بيني و بينه مودّة و قرابة،فلم أسلّم عليه.
فقال لي:من أين يا أبا عبد اللّه؟.
فقلت:إنّي كسرت (3)هذه السنة ثلاثة آلاف فرسخ،و انصرفت و أنا سبروت (4).
ص:82
فقال لي:ثلاثة آلاف فرسخ؟.
قلت:نعم،مضيت إلى مصر (1)،فأخفقت،ثمّ مضيت إلى فارس (2)، ثمّ إلى كرمان 7،ثمّ إلى خراسان 8،و انقلبت إلى أذربيجان 9،و انصرفت بغير شيء،و أنا أتمنّى أن يهب اللّه تعالى قوتا،فأتموّنه في بلدي.
فقال لي:كم يكفيك من الرزق؟.
ص:83
فقلت:إن كان في بلدي،فخمسة عشر دينارا في كلّ شهر،أتقوّت بها أنا و عيالي،و هو ما لا فضل فيه لشهوة و لا نائبة.
فقال:كن معي.
فاتّبعته،فصار بي إلى ديوان فيه كتّاب،و حجرة لطيفة،فدخلتها، فإذا في صدرها الفضل بن مروان (1)،و هو يكتب حينئذ للمعتصم (2)،و هو أمير،فوصفني للفضل،و رغّبه في استخدامي،فرمى إليّ الفضل بكتاب.
و قال:أجب عنه بما يجب.
فاستعلمت منه الدعاء (3)،و أجبت الرّجل عن الكتاب،و عرضته عليه، فرضي خطّي،و لفظي.
و قال لي:كم يكفيك في كلّ شهر من الرزق؟.
فقال له يوسف:الّذي ذكر إنّه يقنعه خمسة عشر دينارا في كلّ شهر.
فقال:هذا قوت،و لا بدّ من استظهار لنائبة،و لكن قد جعلتها ثلاثين دينارا في كلّ شهر،فقبّلت يده.
فقال:الزمني ليلك و نهارك،طلبتك أم لم أطلبك،فإنّ الملازمة رأس مال الكاتب.
قال:فلزمته كما رسم.
ص:84
و كان صالح بن شيرزاد (1)،يخلفه في دار المعتصم،و قد استولى على المعتصم[136 م]بحيلته،و تلطّفه،على حماريّة كانت فيه (2)،و كره ذلك الفضل بن مروان،و اجتهد في قلعه،فلم يتمكّن.
فقال لي يوما،ما في نفسه من ذلك،و قال:أنا أحبّ أن أجعلك مكانه، إلاّ أنّي أتخوّف أن تسلك مسلكه (3)،فهل فيك خير؟.
فقلت:قد عرفت أخلاقي و طبعي،فإن كنت عندك ممّن يصلح للخير، و إلاّ فلا تثق إليّ.
فكان في هذا التدبير،حتّى حدث أمر القبط بمصر،فندب المأمون أخاه أبا إسحاق،لمحاربتهم،في سنة اثنتي عشرة و مائتين (4).
فخرج أبو إسحاق إلى مصر،و معه الفضل بن مروان،و استخلف صالح بن شيرزاد بحضرة المأمون،فيما لا يضرّه أن يغلب عليه،و سلّه عن المعتصم، و جعلني مكانه،و شخصنا.
فكسبت مع المعتصم،في ليلة واحدة،مائة ألف دينار حلالا طيّبا، و ذلك إنّ القتل كثر في أهل مصر،و جلا الباقون،و أشرف البلد على الخراب.
ص:85
و شقّ ذلك على المأمون،و أنكره[على أبي إسحاق] (1)،إنكارا شديدا، فكان[146 ر]فيما رآه،تسكين النّاس،و ردّهم إلى مصر.
فوردت عليّ في يوم واحد،كتب جماعة[173 ظ]من رؤساء البلد، يسألون الأمان لهم.
فقلت للفضل في ذلك.
فقال:أجبهم إلى ما التمسوا،و أجب كلّ من سأل مثل ذلك.
فكتبت في ليلة،لمائة رجل،أمانا،فظهروا،و بعث إليّ كلّ واحد منهم، من ثلاثة آلاف دينار،إلى ألف دينار،إلى خمسمائة دينار،و بعضهم لم يبعث إليّ شيئا.
فحصّلت ما اجتمع لي،فكان مائة ألف دينار،و أحييت مائة إنسان، و فرّجت عنهم،[و عن أتباعهم،و من يلوذ بهم،و كشفت كربة عظيمة عن أبي إسحاق] (2).
ص:86
الفضل بن سهل و مسلم بن الوليد الأنصاري
أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني حبيب ابن نصر المهلّبي،قال:حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد،قال:حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن سليمان (1)،عن أبي الخطاب الأزدي،قال:
كان مسلم بن الوليد (2)،و الفضل بن سهل،متجاورين في قنطرة البردان (3)، و كانا صديقين.
قال مسلم:فأعسرت إعسارا شديدا،و لحقتني محنة،و ولي الفضل بن سهل الوزارة بمرو (4)،فتحمّلت إليه على مشقّة.
فلمّا رآني رحّب بي و أدناني،و قال:أ لست القائل؟
فاجر مع الدّهر إلى غاية ترفع فيها حالك الحال
فقلت:نعم.
قال:صرنا إلى هذه الحال،و صرت بنا إليها،و أمر لي بثلاثين ألف درهم،
ص:87
و ولاّني عملا اخترته (1).
فانصرفت عنّي المحنة الّتي كنت أعانيها،و حصلت لي نعمة طائلة.
قرئ على أبي بكر الصولي و أنا أسمع،في كتابه،كتاب الوزراء،بالبصرة، في سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة،حدّثكم أحمد بن يزيد المهلّبي،قال:
حدّثنا عبد اللّه بن أبي سعد،فذكر بإسناده نحوه،إلاّ أنّه ذكر في الشّعر زيادة أربعة أبيات،لا تتعلّق بكتابي هذا فأذكرها،و ذكر أنّ الفضل ولّى مسلما بريد جرجان.
ص:88
كيف طهّر عثمان بن حيّان المريّ المدينة من الغناء
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني،قال:أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال:حدّثنا الزبير بن بكّار،قال:حدّثني عمّي مصعب،عن عبد الرّحمن بن المغيرة الحرامي (1)الأكبر،قال:
لما قدم عثمان بن حيّان المرّي (2)المدينة (3)واليا عليها،قال له قوم من وجوه النّاس:قد وليت المدينة على كثرة من الفساد،فإن كنت تريد أن تصلح، فطهّرها من الغناء و الزناء.
ص:89
فصاح في ذلك (1)،و أجّل أهله ثلاثا،يخرجون فيها من المدينة.
و كان ابن أبي عتيق (2)غائبا،و كان من أهل الفضل و العفاف و الصلاح، فلمّا كان في آخر ليلة من الأجل،قدم[137 م].
فقال:لا أدخل منزلي حتّى أدخل على سلاّمة القس (3).
فقال لها،و قد دخل عليها:ما دخلت منزلي،حتّى جئتكم أسلّم عليكم.
قالوا:ما أغفلك عن أمورنا،فأخبروه الخبر.
فقال:اصبروا لي اللّيلة.
فقالوا:نخاف أن لا يمكنك شيء،و نؤذي (4).
فقال:إن خفتم شيئا،فاخرجوا في السّحر.
ثمّ خرج،و استأذن على عثمان بن حيّان،فأذن له،فسلّم عليه،و ذكر غيبته،و أنّه جاء ليقضي حقّه،ثمّ جزاه خيرا على ما فعل من إخراج أهل الغناء و الزناء.
و قال:أرجو أن لا تكون عملت عملا،هو خير لك من ذلك.
ص:90
قال عثمان:قد فعلت ما بلغك،و أشار عليّ به أصحابك.
قال:قد وفّقت،و لكن ما تقول يرحمك اللّه في امرأة كانت هذه صناعتها،ثمّ تركتها،و أقبلت على الصيام و الصدقة و الخير،و إنّي رسولها إليك تقول:
أتوجّه إليك،و أعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلّم، و من مسجده.
فقال:إنّي أدعها لك و لكلامك.
فقال ابن أبي عتيق:لا يدعك النّاس،و لكن تأتيك،و تسمع كلامها، و تنظر إليها،فإن رأيت أنّ مثلها يسع أن تترك،تركتها.
قال:نعم.
فجاءه بها،و قال لها:احملي معك سبحة (1)،و تخشّعي،ففعلت.
فلمّا دخلت على عثمان،حدّثته،فإذا هي من أعلم النّاس بأمور النّاس، فأعجب بها،و حدّثته عن آبائه و أمورهم[174 ظ]ففكه لذلك.
فقال لها ابن أبي عتيق:اقرئي للأمير (2)،فقرأت.
ص:91
فقال لها:احدي له (1)،ففعلت،فكثر عجبه بها.
فقال:كيف لو سمعتها في صناعتها،فلم يزل ينزله شيئا شيئا،حتّى أمرها بالغناء،فقال لها ابن أبي عتيق،غنّي:
سددن خصاص البيت (2)لما دخلنه بكلّ لبان (3)واضح 13و جبين
فغنّته،فقام عثمان بن حيّان،فقعد بين يديها،ثمّ قال:لا و اللّه، ما مثل هذه تخرج.
فقال ابن أبي عتيق:لا يدعك النّاس،يقولون أقرّ سلاّمة،و أخرج غيرها.
فقال:دعوهم جميعا،فتركوهم.
و أصبح النّاس يتحدّثون بذلك،يقولون:كلّم ابن أبي عتيق الأمير في سلاّمة القس،فتركوا جميعا 14.
ص:92
أضاع كيسه و استعاده بعد سنة
أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر،الكاتب اللّغوي،المعروف بالحاتمي (1)، قال:أخبرنا أبو عمر محمّد بن عبد الواحد،قال:أخبرنا ثعلب،قال:
أخبرنا عمر بن شبّه،قال:حدّثني سعيد بن عامر،قال:حدّثنا هشام بن خالد الربعي،قال:
دخلت المسجد،و معي كيس فيه ألف درهم،لا أملك غيره،فوضعته على ركن سارية (2)،و صلّيت،ثمّ ذهبت و نسيته.
فكربني أمره،و فدحت حالي لفقده،فما حدّثت بذلك أحدا سنة،و جهدني الضرّ.
قال:فصلّيت من بعد ذلك،إلى تلك السارية،و دعوت اللّه،و سألته ردّه عليّ،و عجوز إلى جانبي تسمع قولي.
فقالت:يا عبد اللّه ما الّذي أسمعك تذكر؟.
قلت:كيسا أنسيته على هذه السارية عام أوّل.
قالت:هو ذا عندي،و أنا منذ سنة أراقبك،فجاءت به بخاتمه.
ص:93
عبد اللّه بن الزبير
يطالب بني هاشم بالبيعة أو يضرب أعناقهم
أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفر،المعروف بالحاتمي،قال:أخبرني عيسى بن عبد العزيز الطاهري (1)،قال:أخبرني الدمشقي،عن الزبير بن بكار،قال:
جمع[عبد اللّه بن]الزبير بني هاشم بمكة،و قال:لا تمضي الجمعة حتّى تبايعوا،أو آمر بضرب أعناقكم.
فنهض إليهم قبل الجمعة يريد قتلهم،فناشده المسوّر بن مخرمة الزهري (2)أن يدعهم إلى الوقت الّذي وقّت لهم،و هو يوم الجمعة،ففعل.
فلمّا كان يوم الجمعة،دعا محمّد بن الحنفيّة رضي اللّه عنه خادما له بغسل (3)و ثياب،و هو لا يشكّ في القتل.
و قد كان المختار بن أبي عبيد بعث أبا عبد اللّه (4)و أصحابه إليهم،فجاءهم الخبر بحال محمّد بن الحنفيّة،و ما دفع إليه من ابن الزّبير،و قد نزلوا ذات
ص:94
عرق (1)،فتخلّل منهم سبعون رجلا حتّى وافوا مكّة صبيحة يوم الجمعة،فشهروا السلاح،و نادوا يا محمّد (2).
فبلغ الخبر ابن الزّبير،فراعه،و تخلّص محمّد رضي اللّه عنه،و من كان معه،و أرسل محمّد،عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فنادى في القوم الّذين أنفذهم المختار:من كان يرى للّه تعالى عليه حقّا، فليستأمر نفسه،فإنّه لا حاجة لي بأمر النّاس له كارهون،و أنا إن أعطيتها عفوا قبلتها،و إن كرهوا ذلك لم أختره.
فبعث ابن الزّبير إلى محمّد:إنّي أصالحك على أن تتنحّى عنّي،فتلحق بأيلة (3)،فأجابه إلى ذلك،و لحق بأيلة.
و كفّ اللّه تعالى ابن الزّبير،و قبض يده عمّا حاوله من قتله،و قتل أهل بيته (4).
ص:95
عاقبة الظلم
وجدت في بعض الكتب:حدّث علي بن المعلّى،عن الزهري البصري، قال:
كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد عليه السّلام،و ذكر حديثا فيه:
أنّ أبا عبد اللّه[147 ر]قال:إنّ قوم سدوم،هلكوا بمجوسيّ.
قيل:ما سبب ذلك؟.
قال:أما تعرفون بالبصرة عندكم جسرا،يقال له:جسر الخشب؟.
قلنا:بلى.
قال:ذاك جسر سدوم،جاءه رجل مجوسي،و معه زوجته حاملا،راكبة حمارا،تريد العبور،فمنعوها إلاّ أن يأخذوا خمسة دراهم،فأبيا أن يعطيا ذلك،فطلبوا منهما عشرة دراهم،فأبيا أن يعطيا ذلك،فشمصوا الحمار (1)، و قطعوا ذنبه،فاضطربت المرأة،فأسقطت جنينها،فاشتدّت بالمجوسي محنته.
و قال:إلى من نتظلّم فيما فعل بنا؟.
فقيل:إلى صاحب هذا القصر.
فدخل إليه،و قال:فعل بي كيت و كيت.
قال:لا بأس،ادفع إليهم حمارك،يعملوا عليه إلى أن ينبت ذنبه، و ادفع إليهم زوجتك،حتّى يطؤوها إلى أن تحمل.
فرفع المجوسي رأسه الى السماء،و قال:اللّهم،إن كان هذا حكم من عندك،و أنت به راض،فأنا به أرضى،و أرضى.
ص:96
فبعث اللّه إليه ملكا من الملائكة،فأخذ بعضده،و عضد زوجته،فعبر بهما الجسر.
فقال له:يا عبد اللّه من أنت؟فلقد مننت عليّ.
قال:أنا ملك من الملائكة،لما أن قلت:أللّهم إن كان هذا حكم من عندك،و أنت به راض،فأنا أرضى و أرضى،بعثني اللّه لأخلّصك،فالتفت إلى القوم،و انظر ما أصابهم.
فالتفت المجوسي،فإذا القوم قد خسف بهم (1).
ص:97
دواء عجيب وضعه الطبيب للكاتب زنجي
أخبرني علي بن نصر بن فنن (1)،الكاتب النصراني:أنّ أبا عبد اللّه زنجي الكاتب (2)،سرق منه مال جليل،و كان شديد البخل،فناله غمّ شديد،حتّى أنحل جسمه،و اجتهد في صرف الهمّ و الغمّ عنه،فلم يجد إلى ذلك سبيلا.
فشاور الأطبّاء في ذلك،و عملوا له أشياء وصفوها له،فما نجعت،إلى أن استشار علي[139 م]بن نصر،الطبيب النصراني (3)،جدّه،و كان يطبّ زنجي و يلزمه،فأشار عليه أن يصوغ إهليلجة من ذهب (4)،و يمسكها في فيه.
ففعل ذلك،فلم تمض إلاّ أيّام،حتّى زال غمّه،و عاد إلى صحّة جسمه (5).
ص:98
يا غياث المستغيثين أغثني
وجدت في بعض الكتب:
حكي أنّ رجلا خرج في وجه شتاء،فابتاع بأربعمائة درهم،كان لا يملك غيرها،فراخ الزرياب (1)للتجارة.
فلمّا ورد دكّانه ببغداد،هبّت ريح باردة،فأماتتها كلّها إلاّ فرخا واحدا، كان أضعفها و أصغرها،فأيقن بالفقر.
فلم يزل يبتهل إلى اللّه تعالى ليلته أجمع بالدّعاء و الاستغاثة،و يسأله الفرج ممّا لحقه،و كان قوله:يا غياث المستغيثين،أغثني.
فلمّا انجلى الصبح،زال البرد،و جعل ذلك الفرخ الباقي ينفش ريشه، و يقول:يا غياث المستغيثين،أغثني.
فاجتمع النّاس على دكّان الرّجل،يرون الفرخ،و يسمعون الصوت.
فاجتازت جارية راكبة،من جواري أمّ المقتدر،فسمعت صوت الطائر، و رأته،و استامته،و تقاعد الرّجل،فاشترته بألفي درهم،و أعطته الدراهم، و أخذت الطّائر (2).
ص:99
قصّة سلمة الأنباري النصراني
وجدت في بعض الكتب:
كان بسرّ من رأى،ثلاثة إخوة نصارى أنباريون،أحدهم موسر، و لم يسمّ،و الثاني متجمّل،يقال له عون،و الثالث،يقال له سلمة،فقير، فآل أمر سلمة فيما يكابده من شدّة الفقر،إلى أن تعذّر عليه قوت يومه.
فمضى إلى أخيه عون،و سأله أن يتلطّف إلى أخيه الموسر،في أن يشغّله فيما يعود عليه نفعه،و يخدمه فيه،بدلا من الغريب.
فامتنع[176 ظ]الأخ الموسر من ذلك،و عاوده دفعات،و استعطفه، و ضرّه يتزايد.
فقال الموسر،على سبيل الولع (1):إن شاء أن أصيّره مكان الشاكريّ، و صبر على العدو،فعلت.
فعرض عون على سلمة ذلك،فقال سلمة:ما عرض أخونا عليّ هذا إلاّ لأمتنع،و يجعله حجّة،و أنا أستجيب إليه و أصبر،و أرجع إلى اللّه تعالى، في كشف الحال الّتي أكون فيها معه،و أرجو الفرج ببغيه عليّ،و لا أضع نفسي بمسألة النّاس،ففعل ذلك[148 ر].
فكان أخوه يركب،و هو يمشي في أثره بطليسان و نعل،حتّى لا يظهر أنّه غلامه،و إذا نزل في موضع،لحقه،و أخذ ركابه،و تسلّم المركوب، و حفظه إلى أن يخرج.
ص:100
فلم يزل على هذا،إلى أن طلب وصيف الكبير (1)،رفيق بغا (2)،من يجلسه بباب داره،فيكتب ما يدخل إلى المطبخ،من الحيوان،و الحوائج،ليقايس به ما يحتسب عليه.
فوصف عون،أخاه سلمة،لذلك،و وجّه إليه فأحضره،فامتنع،و ذكر أنّه لا دربة له به،و لا فيه آلة له.
فضمن له عون معاونته،و إجمال الحساب في كلّ عشيّة،و أجري عليه رزق يسير.
و جلس بالباب،و صار يدعو بالحمّالين،فيثبت ما يحضرونه،و يرفع في كلّ يوم مدرجا (3)بتفصيل ذلك.
فلمّا انقضى الشّهر جمع وصيف المدارج،و أحضر كاتبا غريبا،و تقدّم إليه أن يؤرّجها (4)على أصنافها.
و عمل كاتب ديوانه عملا بما رفعه الوكلاء في ذلك الشّهر،فظهرت فيه زيادة عظيمة،فحطّت و توفّر مالها.
و حسن موقع ذلك من وصيف،و أحضر سلمة،و ما كان رآه قبل ذلك، و صرف المتصرّفين في المطبخ به،و أسنى جائزته.
فتوفّر على يده في الشّهر الثاني،ممّا كان حطّ من الأسعار،ما حسن موقعه.
ص:101
فردّ إليه قهرمة (1)داره،فتتابعت التوفيرات،و اتّصلت جوائزه إيّاه، و زيادته في جاريه (2).
و طالت مدّة خدمته لوصيف،و غلب على حاله،و اتّفق له خلوة المتوكّل، و حضور وصيف.
فقال لوصيف:قد كثر ولدي،و أريد لهم شيخا،عفيفا،ثقة،ليس فيه بأو (3)،و لا مخرقة (4)،لأفرد لهم على يده إقطاعات أجعلها[140 م] لهم،فلست أحبّ أن أوسّط كتّابي أمره.
فوقع في نفس وصيف،أن يصف سلمة،و بخل به،فلم يزل يتردّد ذلك في قلبه.
ثمّ قال:إعلم يا مولاي،إنّ اللّه قد رزقني هذه الصفة الّتي تريدها منّي، و الرّجل عندي،فإذا فكّرت في حقوقك،و أنّ نعمتي منك،لم أستحسن أن أكتمك،و إذا فكّرت فيما أفقده منه،توقّفت،و الآن،فقد أنطقني إقبالك بذكره،و هو سلمة بن سعيد النصراني.
فقال:أحضرنيه السّاعة.
فأحضره في الوقت،فحين عاينه المتوكّل وقع في نفسه صحّة ما وصفه، فوقّع لكل ابن بإقطاع ثلثمائة ألف درهم،و لكل ابنة بمائة و خمسين ألف درهم، و قيل أنّ المتوكّل مات عن خمسين إبنا،و خمس و خمسين إبنة،و دفع إليه التوقيع.
ص:102
و قال له:نجزّ هذا،و اختر من الضّياع ما ترى،و انصب لها ديوانا، و وصله،و جعل له منزلة كبيرة،بكتابة الولد.
فلمّا فرغ من ذلك،و قام به،جرى أمر آخر،أوجب أن ردّ إليه أيضا أمر سائر الحرم،و جعل له قبض جراياتهنّ،و أرزاقهنّ،و إنفاق ذلك عليهنّ، و صرف وكلاءهنّ،و أسبابهنّ عنهنّ،و زادت منزلته بذلك لكثرة الحرم (1).
فبينما سلمة يتردّد في دار المتوكّل،إلى مقاصير الولد و الحرم،وقعت عين المتوكّل عليه،فاستدعاه.
و قال له:يا سلمة،ما أكثر ما يذهب على الملوك،حفظت بك ولدي، و حرمي،و أضعت نفسي،و ليس لي منك عوض،قد رددت إليك بيت المال، و خزائن الفرش،و الكسوة،و الطيب،و سائر أمر الدار،فتسلّم ذلك،و استخلف عليه من تثق به.
و كان قد أنكر عليه،في بعض خدمته،شيئا[177 ظ]فأمر باعتقاله، ففرشت له حجرة،و ترك خلفاؤه يعملون.
ثمّ ذكره في اللّيل،و هو يشرب،فقال لخادم:امض إلى الحجرة الّتي فيها سلمة،فاطّلع عليه،و عرفني الصورة الّتي تجده عليها.
فعاد و ذكر أنّه وجده يسوّد (2)،ثمّ أعاده بعد وقت آخر،فوجده على ذلك،و أعاده الثالثة،فكانت الصورة واحدة.
فاستحضره،و قال:أنت شيخ كبير،تسوّد ليجود خطّك في الآخرة، أو لتصل به في الدنيا إلى أكثر ممّا وصلت إليه؟.
قال:لا هذا و لا هذا،و لكنّك لما اعتقلتني[149 ر]،و أقررت أصحابي،
ص:103
وثقت بحسن رأيك،فلم أقطع التأهّب لخدمتك،لأنّي أكاتبك كثيرا، فيما أستأمرك به،فأنا أحبّ أن لا تقع عينك على ما تستقبحه من الخطّ.
فحسن موقع هذا القول من المتوكّل،و أمر بإحضار حقّة (1)،فيها خاتم الخاصّة،فدفعه إليه.
و قال:هذا خاتمي،و قد رددت إليك ختم ما كنت أختمه بيدي، من غير أن تستأمرني فيه،ليعلم الخاصّ و العامّ،أنّي رفعت منك،و زدت في محلّك،و لا يخلقك عندهم الاعتقال،
ثمّ رآه المتوكّل بعد ذلك،في وقت من الأوقات،ماشيا في الدّار، فقال:سلمة شيخ كبير،هو ذا يهرم و يتلف بهذا المشي،لأنّه يريد أن يطوف في كلّ يوم،على الحرم و الولد،و قد رأيت أن أجريه مجرى نفسي،في إطلاق الركوب له في داري.
و كان المتوكّل يركب حمارا (2)يتخطّى به في الممرّات،و يركب سلمة حمارا أيضا،و لم يكن في الدّار من يركب غيرهما (3).
ص:104
الحرم:النساء لرجل واحد،و حريم الرجل:ما يدافع عنه و يحميه،و لذلك سميت نساء الرجل:الحريم.
و كان حريم المتوكّل يشتمل على أربعة آلاف سريّة(تاريخ الخلفاء 350)منهنّ خمسمائة لفراشه(شذرات الذهب 114/2)و قد أهدى إليه عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر، أربعمائة جارية،مرّة واحدة،(المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 63).
أما المعتصم،والد المتوكّل،فإنّه لما توفّي سنة 227 كان من جملة ما ترك ثمانية آلاف جارية(شذرات الذهب 63/2).
و أمّا المأمون،حكيم بني العبّاس،فقد كان حريمه يشتمل على مائتي جارية فقط (المستطرف من أخبار الجواري 69).
أمّا الرشيد،فقد كان حريمه يشتمل على أكثر من ألفي جارية،سوى ما كان لزوجه زبيدة من الجواري و يزيد عددهن عن ألفي جارية أيضا(الأغاني 172/10 و نهاية الأرب 214/4 و 215 و نشوار المحاضرة رقم القصّة 64/5).
و كان في دار المقتدر،أربعة آلاف امرأة،بين حرّة و مملوكة(رسوم دار الخلافة 8).
و لم يكن الإكثار من الجواري مقصورا على الخلفاء وحدهم،و إنّما تعدّى ذلك إلى أتباعهم،و المترفين من الأمراء،و الرعيّة.
و على سبيل المثال،لا الحصر،نورد أنّ عتّابة،أم جعفر البرمكي،كانت تخدمها أربعمائة وصيفة(وفيات الأعيان 341/1).
و أنّ عمر بن فرج الرخجي،أحد العمال الأشرار،كانت لديه مائة جارية(الطبري 161/9).
و أنّ زوجة يعقوب بن اللّيث الصفّار،كانت لديها ألف و سبعمائة جارية(وفيات الأعيان 429/6).
و أنّ بلكّين الصنهاجي،خليفة المعزّ الفاطمي على أفريقية(ت 373)كانت لديه أربعمائة حظية(وفيات الأعيان 287/1).
و أنّ العزيز الفاطمي توفي سنة 386 عن عشرة آلاف جارية(إتّعاظ الحنفا 295).
ص:105
و أنّ ستّ النصر،أخت الحاكم الفاطميّ(ت 415)،تركت أربعة آلاف جارية بين بيضاء و سوداء و مولّدة(بدائع الزهور 58/1).
و أنّ نصر الدولة الحميدي،صاحب ميافارقين(ت 453)،كانت لديه ثلثمائة و ستّون جارية،بعدد أيّام السنة(وفيات الأعيان 177/1 و الوافي بالوفيات 176/8).
و كان للمعتمد بن عباد اللّخمي،صاحب أشبيلية(ت 488)ثمانمائة سريّة(شذرات الذهب 386/3 و مرآة الجنان 147/3).
و كان لأبي زنبور،الوزير بمصر(ت 314)سبعمائة جارية(شذرات الذهب 173/6).
و كان عند الوزير يعقوب بن كلس،وزير العزيز الفاطمي(ت 380)ثمانمائة حظية، سوى جواري الخدمة(خطط المقريزي 8/2).
و كان في دار ابن نجيّة الواعظ(ت 599)عشرون جارية للفراش،تساوي كل جارية ألف دينار(الذيل على الروضتين 35)فأعجب لواعظ يرتبط لفراشه عشرين جارية.
و مات السلطان الناصر محمّد بن قلاوون(ت 741)،عن ألف و مائتي وصيفة مولّدة، سوى من عداهنّ من بقيّة الأجناس(خطط المقريزي 212/2)و ماتت زوجته الخونده طغاي سنة 749 عن ألف جارية(خطط المقريزي 426/2)،أما الخونده أردوتكين،زوجة الملك الأشرف خليل،و زوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون من بعده،(ت 724)،فقد كان لها من المماليك أكثر من ألف،ما بين جارية و خادم(خطط المقريزي 63/2).
و كان مقبول خان وزير فيروز شاه ملك الهند(752-790)يملك ألفي جارية، من بينهنّ الروميّة،و الصينيّة،و الفارسيّة(الاسلام و الدول الاسلامية في الهند ص 22).
و في مقابل من ذكرنا،نورد أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز لما استخلف، خيّر جواريه،و أعتق من رغبت في العتق،و اقتصر على زوجته ابنة عمّه،فاطمة بنت عبد الملك(تاريخ الخلفاء 235).
أما أبو العبّاس السفّاح،أوّل الخلفاء العباسيين،فانه تزوّج أمّ سلمة المخزوميّة،قبل الخلافة،فلم يتزوّج عليها،و لم يتسرّ،و لما استخلف ظلّ على وفائه لها،فلم يدن إلى امرأة غيرها،حرّة و لا أمّة،إلى أن مات(راجع التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 206/2-208).
و كذلك كان المتّقي،ابراهيم بن المقتدر(ت 357)،فانه لما استخلف لم يتسرّ على جاريته التي كانت له(تاريخ الخلفاء 394).
ص:106
و تابعهم في ذلك ملك العرب سيف الدولة،صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي (ت 501)،فإنّه اكتفى بزوجة واحدة،لم يتزوّج عليها،و لم يتسرّ(المنتظم 159/9).
و كذلك كان المستعصم،آخر الخلفاء العبّاسيين ببغداد(ت 656)فقد كانت له -و هو أمير-جاريتان،فلما استخلف لم يتغيّر عليهما(خلاصة الذهب المسبوك 291).
قسم صاحب معجم الحيوان،الحمير،إلى أربعة أنواع،حمار البيت،و حمار قبّان، و حمار الزرد،و الحمار العتّابي(معجم الحيوان 21،98،175،265،270)و في دائرة المعارف الاسلامية 65/8 قسم الحمار إلى أهليّ و وحشيّ،و الأهليّ إلى دابة ركوب، و دابّة حمل،و وصف حمار الركوب،بأنّه سريع العدو،يهتدي إلى الطريق،و لو سلكه مرّة واحدة،و أنّه حادّ السمع،قليل المرض،و ذكر أنّ العرب لا يركبون الحمير استنكافا.
أقول:إنّ العرب في صدر الاسلام،لم يكونوا يستنكفون من ركوب الحمار،فإنّ النبيّ صلوات اللّه عليه كان يركب الحمار(المخلاة للبهائي 292)و الخليفة عمر بن الخطاب، و هو قدوة،ركب حمارا أرسنه بحبل أسود(العقد الفريد 271/4)و لما قدم الشام،قدمها على حمار(العقد الفريد 365/4 و 14/1 و البصائر و الذخائر 30/4).
ثم تغيّر الحال،فأصبحت الخيل مركب الخلفاء،و الأمراء،و الأميرات،و الوزراء، و القوّاد،و قد روى ياقوت في معجم الأدباء 485/5 و 486 قصّة عن جمال الدين بن القفطي ذكر فيها أنّ والده قدم مصر،لم تكن دوابّه معه،فأبى أن يركب حمارا.
و استمرّ على ركوب الحمار،التجّار البغداديّون(القصّة 54/2 و 56/3 من نشوار المحاضرة)و الشعراء و متوسّطو الحال(نهاية الأرب 71/4 و 99/10 و 100 و فوات الوفيات 140/3)و الفقهاء و القضاة(القصّة 40/3 من نشوار المحاضرة،و شذرات الذهب 220/2) و كذلك عقيلات النساء(القصّة 317 من هذا الكتاب).
و ممّن عرف بركوب الحمار خالد بن صفوان(البصائر و الذخائر م 2 ق 2 ص 588 و 589)،و أبو عبيدة معمر بن المثنّى(مرآة الجنان 45/2)،و ابن جامع القرشي المغنّي (الأغاني 291/6 و نهاية الأرب 306/4)،و عيسى بن مسكين فقيه المغرب و قاضي القيروان (مرآة الجنان 224/2)،و أبو يزيد النكاريّ،الخارج بالمغرب على الفاطميّين(اتعاظ الحنفا
ص:107
ص 70).و أبو العيناء محمد بن القاسم بن خلاّد(الملح و النوادر للحصري ص 230).
و من الطريف أن نذكر أن أبا القاسم الضحّاك بن مزاحم البلخي المفسّر(ت 105)كان مؤدّبا،و كان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي،و كان يطوف عليهم على حمار(ميزان الاعتدال 325/2).
و كان الخلفاء،يركبون الحمير،في أوقات التخفّف،و في بيوتهم،و في بساتينهم، و خرج الوليد بن يزيد مرّة على المغنّين،و هو راكب على حمار(الأغاني 278/13)، و كان الهادي يركب حمارا فارها(تاريخ الخلفاء 279)،و خرج مرّة ليعزّي أحد أفراد حاشيته و هو على حمار أشهب(الطبري 291/8)،و زار عبد اللّه بن مالك،و هو على حمار(الطبري 216/8)،و كان الرشيد يركب حمارا مصريا أسود اللون،قريبا من الأرض،يطوف به على جواريه(المحاسن و الأضداد 174 و مطالع البدور 238/1)و يخرج به لعيادة من يريد عيادته(الأغاني 253/5 و نهاية الأرب 341/4)و زيارة من يزوره(الأغاني 175/10)،و انتبه مرّة في نصف الليل،فقال:هاتوا حماري،و ركبه،و خرج(الأغاني 176/10)،و عاد المعتصم ولده الواثق،ثم رجع راكبا حمارا(الأغاني 251/8 و 252 و نهاية الأرب 232/4)و كان يركب الحمار عند خروجه من داره متخففا(القصّة 125/7 من نشوار المحاضرة)،و كان العزيز الفاطمي يركب الحمار(إتعاظ الحنفا 294)، و كان الحاكم الفاطمي،يركب الحمار،و يدور في الأسواق(شذرات الذهب 193/3 و خطط المقريزي 288/2)و مات الحطيئة الشاعر،و هو على حمار(فوات الوفيات 279/1).
و مما يجدر ذكره أنّ الرشيد،لما أمر بقتل جعفر البرمكي،دخل عليه مسرور،و أخرجه إخراجا عنيفا،و قيّده بقيد حمار،ثم ضرب عنقه(الطبري 295/8).
و كان الحمار مركب المتحابّين إذا خرجوا لموعد(الأغاني 395/1)و مركب القهرمانات إذا بارحن القصور من أجل أشغال السادة(القصّة 478 من هذا الكتاب)،و مركب المغنّين و المغنّيات و الجواري(القصّة 479 من هذا الكتاب،و نهاية الأرب 31/5 و 110)و مركب رجال الدولة إذا خرجوا متنكّرين(القصّة 471 من هذا الكتاب،و القصّة 2/2 من نشوار المحاضرة).
و كان المتوكّل يركب الحمار في داره(كما في هذه القصّة)،و كان يصعد إلى أعلى منارة سامراء،و هو على حمار مريسي(لطائف المعارف 161)،أقول:هذه المنارة، ما زالت شامخة في الجوّ،يسميها الناس:الملويّة،و الطريق إلى أعلاها،يتلوّى حولها، من خارجها.
ص:108
و لما بنى المكتفي قصر التاج،بنى قبّة على أساطين رخام،عرفت بقيّة الحمار،لأنّه كان يصعد إليها،في مدرج حولها،كمنارة جامع سامراء،على حمار صغير الجرم، و كانت عالية مثل نصف دائرة(كتاب دليل خارطة بغداد ص 126).
أقول:لما زرت بلاد الأندلس في السنة 1960،أبصرت في أشبيلية،من آثار المسلمين الباقية،مأذنة،يسمّونها:الجيرالدا،ذات علوّ شاهق،يصعد إليها من باطنها،في طريق يتّسع لستّة أشخاص،يسيرون جنبا إلى جنب،و ذكروا لنا أنّ المؤذن كان يصعد إلى أعلى هذه المأذنة،راكبا حمارا،و وجدت أهالي أشبيلية،يفتخرون بهذه المأذنة،و يقولون:
إنّ من صعد إلى أعلى برج إيفل بباريس،أبصر باريس كلّها،أمّا من صعد إلى أعلى الجيرالدا،فإنّه يرى الدنيا كلّها.
و كان الناس يغالون في حمير مصر،و هي موصوفة بحسن المنظر،و كرم المخبر (لطائف المعارف 161 و نهاية الأرب 93/10)،و أهل مصر يعنون بتربية الحمير،و القيام عليها،لما يجدونه فيها من الفراهة،و سرعة الحضر،و النجابة،و يبالغون في أثمانها،حتى بيع في بعض السنين،حمار،بمائة دينار و عشرة دنانير،و كان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة،فيركب،و يسوقه،فيلحقها بمصر،و بينهما ثلاثة أميال(مطالع البدور 182/2).
و ذكر ابن سعيد:أنّ المغاربة كانوا يأنفون من ركوب الحمار،خلافا لأهالي مصر، فإنّ أعيان مصر،و الفقهاء،و السادة،يركبون الحمير(خطط المقريزي 341/1 و نفح الطيب 339/2)حتى إنّ ابنة الإخشيد محمّد بن طغج،كانت تقطع الأزقّة في القاهرة و هي على ظهر حمار(خطط المقريزي 353/1).
أقول:لم تقتصر الأنفة من ركوب الحمار على المغاربة المسلمين،و إنما تعدّتهم إلى إفرنج أسبانيا،فإنّ الملك الفونس،لما انكسر في السنة 591 في المعركة بينه و بين السلطان أبي يوسف الموحّدي،حلق ألفونس رأسه،و ركب حمارا،و أقسم لا يركب فرسا حتى ينتصر(ابن الأثير 115/12)،و كذلك صنع علاء الدين الغوري،في السنة 602، فإنّ أهالي غزنة نهبوا جميع ما كان لديه،فلما وصل إلى باميان،لبس ثياب سواديّ، و ركب حمارا،و قال:أريد أن يراني الناس و ما صنع بي أهل غزنة،حتى إذا عدت إليها و أخربتها لا يلومني أحد(ابن الأثير 220/12).
و ذكر القزويني،في آثار البلاد 262:أنّ الحمر المريسيّة،نسبة إلى المريسة في ناحية
ص:109
الصعيد بمصر،من أجود حمر مصر،و أمشاها،و أحسنها صورة،و أكبرها،تحمل إلى سائر البلاد للتحف،و ليس في شيء من البلاد مثلها،و البلاد الباردة لا توافقها،فتموت فيها سريعا.
و خرج توقيع عبد اللّه بن طاهر:إذا وجدتم البرذون الطخاري،و البغل البرذعي، و الحمار المصري،و الرقيق السمرقندي،فاشتروها،و لا تستطلعوا رأينا فيها،(لطائف المعارف 219).
و روى صاحب مطالع البدور 183/2 طريفتين عن الحمار،الأولى:ذكر إنّه ركب حمارا،من مصر إلى القاهرة،فلما كان في أثناء الطريق،حاد به عن السكّة،و جهد أن يردّه،فلم يطق،حتى انتهى إلى جدار بستان،فوقف،و بال،و عاد إلى الطريق، و كذلك جرى له مع حمارين آخرين،و الطريفة الثانية:إنّ حمارا كان بمصر،يجتمع عليه الناس،و يجمعون له مناديل،تلقى على ظهره،ثم يأمره صاحبه بإعادة كلّ منديل إلى صاحبه،فيدور في الحلقة،و لا يقف إلاّ على من له في ظهره منديل،فإن أخذه، ذهب عنه،و إن أخذ غيره،لا يذهب،و لو ضرب مائة ضربة،و يأخذ الخاتم من إصبع الرجل،و يسأله عن وزنه،فيقول:كم وزن الخاتم؟فان كان وزنه درهما،مشى خطوة واحدة،و إن كان درهما و نصفا،مشى خطوة و نصفا،و هكذا،و بينما هو واقف،يقول له شخص:الوالي يسخّر الحمير،فما يتمّ كلامه،إلاّ و يلقي الحمار نفسه على الأرض، و ينفخ بطنه،و يقطع نفسه،كأنّه ميت من زمان،فإذا قيل له،بعد ذلك،ما بقيت سخرة،ينهض قائما.
و كان القاضي،أو الوالي،إذا أمر بإشهار شخص،داروا به على حمار(المنتظم 294/8 و 237/10 و مهذّب رحلة ابن بطوطة 147/2)،و من طريف ما يذكر أنّ شخصا حجره القاضي للسفه،و أمر بإشهاره في البلد،ليمتنع الناس من التعامل معه،فحمل على على حمار،و داروا به في الأسواق،فلما انتهى النهار،طالبه المكاري بالأجر،فالتفت إليه،و قال له:في أيّ شيء كنّا منذ الصباح؟.
و كان الشماخ الشاعر،أوصف الناس للحمير،أنشد الوليد بن عبد الملك،شيئا من شعره في وصف الحمير،فقال:ما أوصفه لها،إنّي لأحسب أنّ أحد أبويه كان حمارا (الأغاني 161/9).
راجع في الملح للحصري ص 283 قصّة العاشق الذي حلّ محلّ الحمار في الطاحون.
ص:110
و قيل لمزبّد،و قد اشترى حمارا:ما في حمارك عيب،إلاّ أنّه ناقص الجسم،يحتاج إلى عصا،فقال:إنّي كنت أغتمّ،لو كان يحتاج إلى بزماورد،فأمّا العصا،فأمرها هيّن(البصائر و الذخائر م 2 ق 2 ص 689).
و قيل لمخنّث عليل،كان يشرب لبن الأتان:كيف أصبحت؟قال:لا تسل عمّن أصبح أخا الحمار(البصائر و الذخائر م 2 ق 1 ص 29).
و من مشهوري الحمير:يعفور،حمار النبي صلوات اللّه عليه،أهداه له المقوقس، صاحب مصر،و نفق منصرف النبي صلوات اللّه عليه من حجّة الوداع(الطبري 174/3).
و من مشهوري الحمير:حمار بشّار بن برد،و قد زعم بشّار أنّ حماره هنا كان شاعرا غزلا،و روى أبياتا من شعره،راجع القصة في الأغاني 231/3 و 232.
و من مشهوري الحمير،الحمار الذي كان يركبه الحاكم الفاطمي،و كان يسميه:
القمر(النجوم الزاهرة 549).
و من مشهوري الحمير:حمار الحكيم توما،الذي قال فيه الشاعر:
قال حمار الحكيم توما لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط و صاحبي جاهل مركّب
و من مشهوري الحمير،حمار أبي الحسين الجزار،جمال الدين يحيى بن عبد العظيم، و هو من عائلة جزّارين،تكسّب بالشعر مدّة،ثم عاد إلى الجزارة،و احتج لعدوله عن الشعر إلى الجزارة،بقوله:
لا تلمني يا سيّدي شرف الدي ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عش ت حفاظا و أترك الآدابا
و بها صارت الكلاب ترجّي ني و بالشعر كنت أرجو الكلابا
و كان الجزّار،كثير الشكوى من حماره،قال فيه:
هذا حماري في الحمير حمار في كلّ خطو كبوة و عثار
قنطار تبن في حشاه شعيرة و شعيرة في ظهره قنطار
و لما مات حمار هذا الشاعر،داعبه شعراء عصره،بمراث و هزليّات،فقال بعضهم:
قولوا ليحيى لا تكن جازعا لا يرجع الذاهب بالليت
ص:111
طامن أحشاءك فقدانه و كنت فيه عالي الصوت
و كنت لا تنزل عن ظهره و لو من الحشّ إلى البيت
ما مات من داء و لكنّه مات من الشوق إلى الموت
و قال آخر:
مات حمار الأديب،قلت قضى وفات من أمره الذي فاتا
مات و قد خلّف الأديب و من خلّف مثل الأديب ما ماتا
فأجابه أبو الحسين قائلا:
كم من جهول رآني أمشي لأطلب رزقا
و قال لي:صرت تمشي و كلّ ماش ملقّى
فقلت:مات حماري تعيش أنت و تبقى
و مات لابن عنين الدمشقي(549-630)حمار،بالموصل،فرثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه(140-142)،منها؛
لا تبعدن تربة ضمّت شمائله و لا عدا جانبيها العارض الهطل
قد كان إن سابقته الريح غادرها كأنّ أخمصها بالشوك ينتعل
لا عاجزا عند حمل المثقلات و لا يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
و إنّ لي بنظام الدين تعزية عنه و في النجب من أبنائه بدل
و قرأت في كتاب من تأليف أديب مغربي،أنّ مغربيا باع حماره من آخر،و شرط عليه المشتري،أن يسلّمه الحمار في حلّته،و خرجا إليها معا،و لما دخلا بين البيوت، أبصر البائع حمارا أدبر،قد أهمله أصحابه،فالتفت إلى صاحبه،و قال:أ هكذا يعامل الحيوان الأعجم؟أنتم قوم سوء،و أعاد إلى المشتري ماله،و كرّ عائدا بالحمار.
و عرض محمّد بن واسع الأزدي،بسوق مرو،حمارا،فقال له رجل:يا عبد اللّه، أ ترضاه لي؟فقال:لو رضيته لما بعته(نشوار المحاضرة،القصّة 61/4).
و لزيادة التفصيل في هذا الموضوع راجع نهاية الأرب 93/10-102 و الغيث المسجم في شرح لاميّة العجم 137/2 و 138)،و كتاب الحيوان للجاحظ.
أقول:أدركت الناس ببغداد،قبل انتشار استعمال السيارات،يركب الوجهاء منهم،
ص:112
الحمير،و يختارونها بيضاء،عالية،و يسمّونها:الحساويّة،لأنّها تجلب من الأحساء، و كانوا يتأنّقون في اختيار الجلّ،و يسمّونه:المعرقة(تلفظ القاف كافا فارسية).
و قد وصف حمير بغداد البيض،سائح أمريكي اسمه بيري فوك،مرّ ببغداد في السنة 1872،في عهد الوالي محمد رديف باشا،الذي خلف مدحت باشا،فقال:
إنّ الحمير البيض في بغداد مشهورة في أنحاء الشرق،و أثمانها عالية،و قسم منها كبير الحجم،و تزيّن بصبغها بالحنّاء،فتبدو آذانها و أذنابها حمراء اللون،و أبدانها منقّطة بالحنّاء،و هي ما زالت-كما كانت في قديم الزمان-مركب رجال الدين و كبار الحكّام، كما أنّ السيدات يفضّلنها على بقيّة الدواب،و هم يشرحون منخر الحمار،و يشقّونه شقّا مستطيلا،و يقولون إنّ هذا الشقّ يجعل الحمار أطول نفسا،و لكنّي كلّما سمعت حمارا ينهق،أيقنت أنّه لا ضرورة لهذا التصرّف،و لا محلّ له(كتاب عربستان أو بلاد ألف ليلة و ليلة).
و البغداديون يسمّون الحمار:زمال،من الزمل(بكسر الزاي و ميم ساكنة)أي الحمل، و يقال:زمل(بفتح)،أي حمل،و الزاملة،مؤنث الزامل:الدابّة من الإبل و غيرها يحمل عليها(المنجد)،قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر:كانت زمالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و زمالة أبي بكر،واحدة،أي مركوبهما(لسان العرب)،راجع ما كتبه الدكتور سليم النعيمي في مجلّة المجمع العلمي العراقي م 25 ص 25 و 26.
و كانت«زمالة الزهاوي»الشاعر جميل صدقي الزهاوي(ت 1936)مضرب المثل في جمال الهيئة و النظافة،و كانت بيضاء،عالية الظهر،حساوية،و كان الزهاوي يعنى عناية فائقة،بعلفها،و نظافتها،و كان-رحمه اللّه-مصابا بارتخاء في عضلات ساقيه لا يمكّنه من المشي إلاّ بمعونة،فكان يركبها في روحاته و غدواته.
و للبغداديين أمثال تتعلّق بالحمار،أذكر منها ثلاثة:
أوّلها:مثل يضرب لمن يكدّ ليله و نهاره،من دون راحة،فيقولون:مثل زمال الطمّة، يروح محمّلا،و يعود محمّلا،و الطمّة:فصيحة،ما طمّ من الجمر في الرماد،و يطلق البغداديّون هذه الكلمة على موقد الحمّام،و كان يوقد فيه النفايات و القمامة،و كلّ ما يحترق،فكان«زمال الطمّة»يروح إليها حاملا الوقود،و يعود منها حاملا الرماد المتخلّف.
و ثانيها:مثل يضرب لمن ورّط نفسه في ورطة يصعب التخلّص منها،فيقولون:تعال طلّع هذا الزمال من هذي الوحلة.
ص:113
و ثالثها:مثل يضرب لمن يتحايل بحيلة مكشوفة،فيقولون:إحنا دافنيه سوا،و أصل المثل:إنّ بغدادييّن تعطّلا،و حاولا أن يجدا عملا،فلم يوفّقا،ثم وجدا حمارا نافقا، فأخذاه،و دفناه،و وضعا على قبره شاهدا،و أدّعيا إنّه قبر ولي من أولياء اللّه،و أصبح أحدهما سادنا للقبر،و الثاني واعظا و إماما للجماعة فيه،و ظلاّ على ذلك حينا،ثم أحسّ أحدهما أنّ صاحبه يغتال قسما من الواردات،و يستأثر بها،فخاصمه،فبادر صاحبه و ضرب بيده على القبر،يحلف على براءته من التهمة،فصاح به صاحبه:ويحك، إحنا دافنيه سوا.
و للبغداديّين نوادر،فيها ذكر للحمار،يتندّرون بها،أذكر منها نادرتين:
الأولى:نادرة يتندّر بها البغداديون على أهل الموصل،و المعروف عن أهل الموصل تعصّبهم لبعضهم،بحيث لا يتسنّى للغريب أن يجد فيها رزقا،و خلاصتها:أنّ سقّاء بغداديّا هاجر إلى الموصل،و استقرّ فيها،و أراد أن يمارس فيها مهته،فاشترى حمارا و قربة، و باشر بحمل الماء من النهر إلى المدينة،و في اليوم الأول لم يتعامل معه أحد،و كذلك في اليوم الثاني،و جاع السقّاء،و جاع حماره،فأخذه في اليوم الثالث،و ذهب إلى سوق المدينة، و قال:يا جماعة،إنّ حرمانكم إيّاي من الرزق أمر مفهوم،لأنّي بغداديّ،و لكنّ هذا الحمار موصلي،و هو يكاد يموت جوعا،فإن لم ترفقوا بي،فارفقوا به.
و الثانية:نادرة يتندّر بها البغداديّون على أحد القضاة،و خلاصتها:أنّ اثنين اختصما على حمار،كلّ واحد منهما يدّعي ملكيته،و تداعيا عند القاضي،و قدّم المدعي للقاضي عشرة مجيديّات رشوة،و بلغ المدعى عليه ما صنعه خصمه،فذهب إلى القاضي و أعطاه عشرة مجيديّات أيضا،و نظر القاضي في الدعوى،و أراد أن يرضي الطرفين،فحكم بأن يباع الحمار و يقسم ثمنه بين المتداعيين،و بيع الحمار بعشرين مجيديّا،و تسلّم كل واحد من المتداعيين عشرة مجيديّات،فتوجّها إلى القاضي،و قالا له:يا أفندينا،تبيّن أنّ الحمار لا يعود لواحد منّا،و إنّما يعود لك،لأنّك استوفيت ثمنه كاملا.
و دخل أحمد بن محمّد القزويني إلى سوق النخّاسين في الكوفة،و طلب حمارا،لا بالصغير المحتقر،و لا بالكبير المشتهر،إن أقللت علفه صبر،و إن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري،و لا يزاحم براكبه السواري،إذا خلا الطريق تدفّق،و إذا كثر الزحام ترفّق،فقال النخّاس:أصبر حتى يمسخ القاضي حمارا،و أشتريه لك،(أخبار الحمقى و المغفّلين ص 126).
ص:114
و نهيق الحمير،يسمّى:الزرّ(البصائر و الذخائر 297/4،راجع أخلاق الوزيرين 149)و في بغداد،يلفظونها:زعرّ،و إذا صيح بها أمام الحمار،نهق.
و ذكر الجبرتي في تاريخه 539/2 و 155/3 أنّ العسكر العثماني،بالقاهرة،باشروا في السنة 1217 بخطف حمير الناس من أولاد البلد،فأخفى الناس حميرهم،فكان الجماعة من العسكر ينصتون بآذانهم على أبواب الدور،و يقف بعضهم على الدار،و يقول(زرّ)، و يكرّرها،فينهق الحمار،فيؤخذ.
و كان إبراهيم بن الخصيب المديني،أحمق،و كان له حمار أعجف،و كان إذا علّق الناس المخالي بالعشيّ،أخذ مخلاة حماره،و قرأ عليها «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» ،و علّقها عليه فارغة،و قال:لعن اللّه من يرى كيلجة شعير،أنفع من «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» ،فما زال هكذا حتى نفق الحمار،فقال:إنّ قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ ،تقتل الحمير،فهي للناس أقتل، لا قرأتها ما عشت(البصائر و الذخائر م 118/4 و 119،و راجع كتاب أدب الغرباء للاصبهاني 46).
و مما يروى عن السيد عبد الحسين الغريفي،من علماء البحرين،و كان فقيها من العلماء الأتقياء،أنّه هجم عليه يوما،و هو في حلقة درسه،معيديّ،أوسعه إزعاجا،و ألحّ عليه أن يستخير له،فإنّه بصدد عمل يريد أن يقوم به،فعمد السيد إلى كتاب اللّه، و فتحه،ثم التفت إليه و قال:أنت تريد أن تشتري حمارا،فقال له:إي و اللّه يا سيّدنا، فقال له:امض فاشتره،و لما بارح المعيديّ المكان،سأله تلامذته:كيف عرف مراد المعيديّ؟فقال له:استفتحت له،فظهرت الآية:سنشدّ عضدك بأخيك.
أقول:أنا في شكّ من صحّة هذه الحكاية،لأنّ السيد عبد الحسين،و هو من الفقهاء الزهّاد،أتقى للّه من أن يتّخذ من آيات القرآن موردا للتملّح.
و قال عبد القاهر الجرجاني(ت 471)[شذرات الذهب 341/3]:
تكبّر على العقل لا ترضه و مل إلى الجهل ميل هائم
و عش حمارا تعش سعيدا فالسعد في طالع البهائم
و صديقنا المصوّر أرشاك ببغداد،يخالف الناس في وصف الحمار بالبلادة،و هو يقول:إنّ الحمار عاقل حكيم،و إنّ النظرة التي نراها في عينه و نحسب أنها نظرة بلادة، إنّما هي نظرة استهانة بنا و لا مبالاة،و كأنّه يقول لنا:أنتم تقولون عنّي أنّي حمار،و في الحقيقة،إنكم أنتم الحمير.
ص:115
للتوسّع في البحث،راجع الطبري 522/5 و 40/6-42 و 52/7 و 240 و 555 و 122/8 و 194 و 300/8-302 و 8/10،و الولاة للكندي 469 و 471،و الأغاني 157/12 و 303/18 و 347 و 69/20 و 182/22،و العقد الفريد 442/6،و الأغاني ط بولاق 31/20.
ص:116
ابن الطبري الكاتب النصراني
تجلب له التوفيق رفسة حصان
وجدت في بعض الكتب:أنّ عبد اللّه المعروف بابن الطبري النصراني الكاتب،قدم سرّ من رأى يلتمس التصرّف،فلزم الدواوين مدّة،إلى أن نفدت نفقته،و انقطعت حيلته،و لم يبق إلاّ ما عليه من كسوته،[فعدم القوت ثلاثة أيّام بلياليها،و هو صابر خوفا من أن يبيع ما عليه،فيتعطّل عن الحركة،فلمّا كان في اليوم الرّابع] (1)عمل على بيع ما عليه ليأكل[141 م] ببعضه،و ليشتري بالبعض الآخر تاسومة (2)،و مرقّعة (3)،و ركوة (4)،و يخرج في زيّ فيج (5)إلى بلد آخر،لأنّه بقي ثلاثة أيّام لم يأكل شيئا.
ثمّ شرهت نفسه إلى الرّجوع إلى الدّيوان،مؤمّلا فرجا يستغني به عن هذا، من تصرّف أو غيره.
فمشى يريد الديوان،و هو مغموم مفكّر،إذ سمع صوت حافر من ورائه، و قوم يصيحون:الطّريق،الطّريق.
فلشدّة ما به،غفل عن التنحّي عن الطّريق،فكبسه شهريّ (6)كان راكبه
ص:117
المؤيّد باللّه (1)بن المتوكّل على اللّه،و هو إذ ذاك أحد أولياء العهود (2)،فداسه، و سقط على وجهه.
فصعب ذلك على المؤيّد،و لم يكن يعرفه،فاغتمّ أن يجرى منه على إنسان مثل ذلك،فأمر أن يحمل إلى داره،ففعل ذلك،و أفردت له حجرة، و من يخدمه،و عولج بالدواء،و الطعام،و الشراب،و الطّيب،و الفرش، حتّى برئ بعد أيّام،فأنفذ إليه ألفي درهم،و سأله إحلاله ممّا جرى عليه.
فقال:لا أقبلها،أو تقع عيني على المؤيّد،فأشافهه بالدّعاء.
فأوصل إليه،فشكره،و دعا له،و قصّ عليه قصّته،و سأله استخدامه.
فخفّ على قلب المؤيّد،و استكتبه،و أمر أن يصرّف في داره،و في دار والدته إسحاق،جارية المتوكّل،فتصرّف فيها مدّة،و صلحت حاله.
و كان الموفّق،أخو المؤيّد من أمّه (3)،قد رأى ابن الطبري،فاجتذبه إلى خدمته،و نفق عليه،و انتهى أمره معه إلى أن جعل إليه تربية المعتضد (4)، و أكسبه الأموال الجليلة (5).
ص:118
أبو بكر محمّد بن طغج
ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصر
وجدت في بعض الكتب:حدّث أبو الطّيب بن الجنيد،الّذي كان صاحبا لأبي جعفر محمّد بن يحيى بن زكريا بن شيرزاد (1)،و كان قبل ذلك جارا لأبيه أبي القاسم،قال:
كان أبو بكر محمّد بن طغج بن جف (2)ينزل قديما بالقرب من منازلنا ببغداد،بقصر فرج (3)،و كان رقيق الحال،ضعيفا جدّا.
و كان له على باب دويرته (4)دكّان (5)يجلس عليها دائما،و دابّته مشدودة
ص:119
إلى جانبها،و هو يراعيها[178 ظ]بالعلف و الماء بنفسه (1).
و كان له رزق سلطانيّ يسير،يتأخّر عنه أبدا،فلا يقبضه إلاّ في الأحايين.
و كان شديد الاختلال،ظاهر الفقر،و كان له عدّة بنات لا ذكر فيهنّ.
و كان يجتاز به أبو القاسم يحيى بن زكريا بن شيرزاد،أو أحد ابنيه، أبو الحسن،و أبو جعفر،فيقوم قائما،و يظهر التعبّد لهما،و لا يزال واقفا إلى أن يبعدا عنه.
و كنت ربّما جلست إليه،فيأنس بي و يحدّثني،و يشكو بثّه،و ما يقاسيه من كثرة العائلة،و ضيق الحال.
و يقول:ليت كان لي فيما رزقته من الولد،ذكر واحد،فكنت أتعزّى به قليلا[150 ر]،و يخفّ بالرّجاء له،و السّرور به،بعض كربي و همّي بهؤلاء البنات.
قال أبو الطّيب:و ضرب الدّهر من ضربه،و تقلّب من تقلّبه،و طال العهد بابن طغج،و خرج في جملة تجريد (2)جرّد إلى الشّام،و أنسيناه،و ترجّمت به الظنون،و ترامت به الأحوال،حتّى بلغ أن يقلّد مصر و أعمالها (3)،و كان من علوّ شأنه،و ارتفاع ملكه،و حصول الأمر له،و لولده من بعده،ما كان، ممّا هو مشهور.
و كان قد طرأ إلى تلك النّاحية أحد التجّار الواسعي الأحوال،من جوارنا، ممّن كان يعرف ابن طغج على تلك الأحوال الأول،فلمّا كان بعد سنين،
ص:120
عاد الرّجل إلى الحضرة،فحدّثنا بعظم أمر ابن طغج،و اتّساع ملكه.
و قال:رأيته غير الرّجل الّذي كنّا نعرفه،مكانة،و رجاحة،و حين رآني، قرّبني،و أكرمني،و ما زال مستبشرا بي،يحادثني،و أحادثه،و يسألني عن واحد واحد،من بني شيرزاد،و غيرهم من الجيران،و أنا أخبره.
حتّى قال في بعض قوله:الحمد للّه الّذي بيده الأمور،ما شاء فعل، يا فلان،أ لست ذاكرا ما كنت فيه ببغداد،من تلك الأحوال الخسيسة[142 م] و ما كنت ألاقي من الشدّة،و الفقر،و الفاقة،و الغرض بالعيش (1)،و الهمّ باولئك البنات؟.
قلت:نعم يا سيّدي.
قال:و اللّه لقد كنت أتمنّى و أسأل اللّه أن يرزقني ابنا،فكلّما اجتهدت في ذلك جاءتني ابنة،حتّى تكاملن في بيتي عشرا.
و كنت أتمنّى منذ سنّ الحداثة أن أرزق دابّة أبلق (2)،و استشعر أنّي اذا ركبت ذلك،فقد حصلت لي كلّ فائدة و نعمة،لشدّة شهوتي لها،فما سهّل اللّه لي ما طلبته من هذا الباب أيضا شيئا.
و تكهّلت،و علت سنّي،و أنا على تلك الأحوال.
و ضرب الدّهر ضربه،و خرجت من بغداد،فابتدأ الإقبال يأتي،و الإدبار ينصرف.
و كان اللّه تعالى يرزقني في كلّ سنة ابنا،و يقبض عنّي ابنة،حتّى مات البنات كلّهنّ،و نشأ لي هؤلاء البنون،و أومأ إلى أحداث بين يديه كأنّهم الطواويس حسنا و جمالا.
ص:121
ثمّ قال:و ملكت من الخيل العتاق (1)،و البراذين (2)،و البغال (3)،و الحمير البلق (4)،ما لم يملك أحد مثله،و لا اجتمع لأحد ما يقاربه،و أكثر من أن يحصى،و صار لغلمان غلماني،الكراع الكثير،فقم بنا حتّى ندخل الاصطبلات، فتشاهدها،و تعجب.
فأخذ بيدي،و مشينا حتّى دخلنا إلى إصطبل البلق،فما أشكّ،أنّا عددنا من صنوف الدواب البلق أكثر من خمسمائة رأس،ثمّ ضجرنا،و ما زلنا نجتاز في الاصطبل،سنة،سنة.
فيقول:هذا اصطبل الفلانيّات،و هو يسأل صاحب كراعه،كم في هذا؟.
فيقول:في هذا خمسمائة،و في هذا أربعمائة،و نحو ذلك.
ص:122
ثمّ عدنا إلى المجلس،و قد أبهجني ما رأيت،و هو يحمد اللّه على تفضّله و إحسانه،و لازمته،و ما فارقت داره حتّى قضيت حوائجي،و نفعني،و أحسن اليّ،و ما قصّر،و عدت إلى الشام مكرّما (1).
ص:123
غريب الدار ليس له صديق
ذكر عن رجل كان بالبصرة،أنّه كان ذا يسار،و تغيّرت حاله،فخرج عن البصرة،ثمّ عاد إليها و قد أثرى،فجعل[179 ظ]يحدّث بألوان لقيها إلى أن قال:
تغيّرت حالي،إلى أن دخلت بغداد،غريبا،سليبا (1)،لا أهتدي إلى مذهب و لا حيلة.
قال:فجعلت أسأل:أين السوق،أين الطريق،إلى أن ضجرت، فقلت و أنا مكروب:
غريب الدّار ليس له صديق جميع سؤاله أين الطريق
تعلّق بالسؤال بكلّ صقع كما يتعلّق الرّجل الغريق
و جعلت أردّد ذلك و أمشي،و إذا برجل مشرف من منظر (2)،فقال لي:
[151 ر] ترفّق يا غريب فكلّ عبد تطيف بحاله سعة و ضيق
و كلّ مصيبة تأتي ستمضي و إنّ الصّبر مسلكه وثيق
فخفّ ما بي،و رفعت رأسي إليه،و سألته عن خبره.
فقال:اصعد إليّ أحدّثك،فصعدت إليه.
فقال:وردت هذا البلد،و أنا غريب،فتحيّرت-و اللّه-كتحيّرك،
ص:124
إلى أن مررت بهذه الغرفة (1)،فأشرف عليّ رجل كان فيها،لا أعرفه،فقال لي:اصعد.
فصعدت،فأسكننيها،ثمّ تقلّبت بي الأحوال،فابتعت الدّار،و أثريت، و أنا أتبرّك بها،و أجلس فيها كثيرا،فلعلّها أن تكون مباركة عليك أيضا، فإنّ لي فيما سواها من الدّور،مساكن تجذبني.
ففعلت،و أقبلت احوالي،و احتجت إلى الاتّساع،فانتقلت عنها (2)،
ص:125
عبد اللّه بن مالك الخزاعي
يتسلّم كتابا من الرّشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي
وجدت في بعض الكتب:
أنّ البرامكة (1)،قصدت عبد اللّه بن مالك الخزاعي (2)،بالعداوة،و كان الرّشيد[143 م]حسن الرأي فيه،فكانوا يغرونه به،حتّى قالوا له:لا بدّ من نكبته.
فقال:ما كنت لأفعل هذا،و لكن أبعده عنكم.
فقالوا:ينفى.
فقال:لا،و لكن أوّليه ولاية دون قدره،و أخرجه إليها.
فرضوا بذلك،فكتبوا له على حرّان (3)و الرّها (4)فقط،و أمروه بالخروج، عن الخليفة.
قال عبد اللّه:فودّعتهم واحدا،واحدا،حتّى صرت إلى جعفر لأودّعه.
فقال لي:ما على الأرض عربيّ أنبل منك يا أبا العبّاس،يغضب عليك الخليفة،فيولّيك حران و الرّها؟.
ص:126
فقلت:فما ذنبي حتّى غضب عليّ،و أيّ شيء جرى منّي حتّى أوجب الّذي أن يفعل بي هذا؟.
قال[جزاؤك أن]:يضرب وسطك،و تصلب نصفا في جانب،و نصفا في جانب.
فقلت:العجب منّي حيث صرت إليك،و نهضت،و خرجت.
و قصعت طريقي بالهمّ،و الغمّ،ممّا دفعت إليه،و أنّي لا آمنهم،مع غيبتي،على السعاية (1)عليّ.
فبينما أنا في عشيّة يوم،على باب الدّار الّتي نزلتها،جالسا على كرسي، إذ أقبل إليّ مولى لي،فقال لي سرّا:قد قتل جعفر بن يحيى البرمكي.
فتوهّمت أنّه هو أمره بذلك ليجد عليّ حجّة ينكبني بها،فبطحته،و ضربته ثلثمائة مقرعة،و حبسته،و بتّ بليلة طويلة على السّطح في داري.
فلمّا كان في السّحر،إذا صوت حلق البريد (2)،فارتعت،و نزلت عن السّطح.
و قلت في نفسي:إن هجم عليّ صاحب البريد فهي بليّة،و إن ترجّل لي ففرج.
فلمّا بصر بي صاحب البريد ترجّل لي،فطابت نفسي،و دفع إليّ كتابا من الرّشيد،يخبرني فيه بقتله جعفر،و قبضه على البرامكة،و يأمرني بالشخوص إلى حضرته.
فشخصت،فلمّا وصلت إليه،عاملنى من الإكرام و الإنعام بما زاد على أمنيتي.
ص:127
و خرجت،فأتيت الجسر،فوجدت جعفرا،قد ضرب وسطه،و صلب نصفه في جانب،و نصفه في الجانب الآخر (1).
ص:128
نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب
برغم ما بينهما من عداوة
حكي أنّ الواثق سخط على سليمان بن وهب (1)،فردّه إلى محمّد بن أبي اسحاق (2)،و أمره أن يأخذ خطّه بثلاثة آلاف ألف درهم،يؤدّيها بعد خمسة عشر يوما،فإن أذعن لذلك،و إلاّ ضربه خمسمائة سوط.
فطالبه محمّد بكتب الخطّ،فامتنع،فدعا له بالسياط،و جرّد لضربه.
و دخل[180 ظ]نجاح بن سلمة (3)،فلمّا رآه سليمان أيقن بالموت، و استغاث به سليمان.
فقال نجاح لمحمّد:خلّه،و أخلني و إيّاه،ففعل.
فقال نجاح لسليمان:أتعلم أنّ في الدنيا أحدا أعدى لك منّي؟.
قال:لا.
قال:فهوذا أحامي عنك اليوم لأجل الصناعة،أيّما أحبّ إليك و آثر
ص:129
في نفسك،أن تموت الساعة بلا شكّ،أو يكون ذلك إلى خمسة عشر يوما، قد يفرّج اللّه فيها عنك؟[152 ر]
قال:بل أكون إلى خمسة عشر يوما بين الأمرين.
قال:فاكتب خطّك بما طولبت به،فكتب خطّه (1).
قال سليمان:فما مضت ستّة أيّام،حتّى مات الخليفة،و بطل ذلك المال.
[و صار نجاح بن سلمة بمشورته تلك على سليمان،أحبّ إليه من أخيه و ولده، و زالت العداوة من بينهما] (2).
قال مؤلّف الكتاب:هذا الخبر عندي أنّه مضطرب،لأشياء كثيرة، و لكنّي كتبته،كما وجدته،و قد مضى فيما تقدّم من هذا الكتاب خبر نكبة الواثق لسليمان بن وهب،بما هو أصحّ من هذه الحكاية (3).
ص:130
المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه ثمّ يعفو عنه
بلغني أنّ أبا محمّد بن حمدون (1)،قال:
إشتهى المعتمد (2)أن يتّخذ له فرش ديباج،بستوره،و جميع آلاته (3)، على صورة صوّرها،و ألوان اقترحها.
فعمل ذلك بتنّيس (4)،و حمل إليه،فسرّ به غاية السرور،و تقدّم،فنجّد، و نضّد،و نصب،و أحضرني و الندماء،و هو يأكل فيه،فما منّا إلاّ من وصفه و استحسنه،ثمّ قام لينام و ينتبه،فيشرب فيه،و صرفنا (5).
فما شعرنا إلاّ و قد امتلأت الدّار ضجّة و صياحا،و دعا بنا،فوجدناه يزأر كالأسد.
و إذا نصف ستر[144 م]من تلك الستور قد قطع،و هو يقول:ليس بي قطعه،و لا قيمته،لأنّه يمكنني أن أستعمل مكانه،و إنّما بي أنّه نغّص عليّ السّرور به أوّل يوم،و اجترأ عليّ بمثل هذا الفعل،و أصعب من هذا أنّه
ص:131
قطعه و أنا أراه،و غاص الّذي قطعه عن عيني فلم أثبته.
ثمّ دعا بنحرير الخادم و حلف له بأيمان مغلّظة،أنّه إن لم يبحث إلى أن يحضر الجاني،ليضربنّ عنقه،و جلس على حاله مغضبا.
و مضى نحرير،فما أبعد حتّى أحضر صبيّا من الفرّاشين،كأنّه البدر حسنا،و القطعة الديباج معه،و قد أقرّ بقطعها،و اعتذر،و بذل التوبة، و هو يبكي،و يسأل الإقالة.
فلم يسمع المعتمد منه ذلك،و أمر نحرير أن يخرجه،فيقطع يده، فأخرج،و ما منّا إلاّ من آلمه قلبه عليه،لملاحة وجهه،و صغر سنّه،و ليس منّا من يجسر على مسألة المعتمد فيه و نحن قيام سكوت.
حتّى صرخ المعتمد على اللّه من يده صراخا عظيما،و تأوّه،و قال:قد دخل شيء في أصبعي الساعة،و زاد الألم عليه،و جيء بمن رآها،فأحضر منقاشا، فأخرجت من إصبعه شظّية من قصب كالشعرة،فما ندري ممّ يتعجّب، من صغرها؟أو من دخولها في لحمه مع ضعفها؟،أو من شدّة إيلامها إيّاه؟ و من كونها فوق الديباج ساعة طرح و نفض.
فلمّا استراح،قال:يا قوم،إن كان هذا القدر اليسير قد آلمني هذا الالم الكثير،فما حال هذا الصبيّ الّذي أمرنا بقطع يده؟.
قلنا:أسوأ حال و أشدّها،فيجب أن تجعل العفو عنه شكرا لما كفيته.
فقال:ابعثوا إلى نحرير من يلحقه،فإن كان لم يقطعه،منع من قطعه.
فتسابق الغلمان،فلحقوه،و الزّيت يغلي (1)،و قد مدّت يده لتقطع، فخلّوه،و سلم (2).
ص:132
مروءة عديّ بن الرقاع العاملي
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني،قال:أخبرني محمّد بن خلف بن المرزبان (1)، قال:حدّثنا أحمد بن جرير (2)،عن محمّد بن سلام (3)،قال:
عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد اللّه بن عبد الرحمن (4)عن الأردن، و ضربه،و حلقه (5)،و أقامه للناس.
و قال للموكّلين به:من أتاه متوجّعا،و أثنى عليه،فأتوني به.
فأتاه عديّ بن الرقاع العاملي (6)،و كان عبيدة محسنا إليه،فوقف عليه، و أنشأ يقول:[181 ظ].
و ما عزلوك مسبوقا و لكن إلى الغايات سبّاقا جوادا
و كنت أخي و ما ولدتك أمّي وصولا باذلا لا مستزادا
ص:133
فقد هيضت بنكبتك القدامى كذاك اللّه يفعل ما أرادا
فوثب الموكّلون به،فأدخلوه إلى الوليد،و أخبروه بما جرى.
فتغيّظ عليه الوليد،و قال له:أ تمدح رجلا قد فعلت به ما فعلت؟.
قال:يا أمير المؤمنين،إنّه كان إليّ محسنا،ولي مؤثرا،ففي أيّ وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم؟.
قال:صدقت،و كرمت،و قد عفوت عنك،و عنه لك،فخذه و انصرف.
فانصرف به إلى منزله (1).
ص:134
غدّة كغدّة البعير و موت في بيت سلوليّة؟
أخبرني محمّد بن الحسن (1)،قال:حدّثنا ابن أبي غسّان البصري (2)،قال:
حدّثنا أبو خليفة (3)،قال:أخبرنا محمّد بن سلاّم (4).
قال محمّد بن الحسن،و أخبرني علي بن الحسين الأصبهاني،قال:
أخبرني عبد العزيز بن أحمد،عمّ أبي (5)،قال:حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال:[153 ر]حدّثتني كلما بنت عبد العزيز بن موله،قالت:
كان عامر بن الطفيل (6)،فارس قيس،و كان عقيما،و كان أعور.
و كان النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم،قد رمي منه،و من أربد،أخي لبيد بن ربيعة،بما أهمّه[145 م]عليه السّلام.
ص:135
[و ذلك إنّهما أتياه] (1)،فلقيهما،فوسّد عامرا و سادة،و قال:اسلم يا عامر.
قال:على أن تجعل لي الوبر،و لك المدر،فأبى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال:فعلى أن تجعلني الخليفة بعدك،إن أنا أسلمت.
قال:لا.
قال:فما الّذي تجعل لي؟
قال:أعنّة الخيل،تقاتل عليها في سبيل اللّه.
قال:أو ليست أعنّة الخيل بيدي اليوم؟،و ولّى عامر مغضبا و هو يقول:
لأملأنّها عليك خيلا جردا،و رجالا مردا،و لأربطنّ على كلّ نخلة فرسا.
و قال عامر لأربد:إمّا أن تقتله،و أكفيكه،و إمّا أن أقتله،و أكفينه.
قال أربد:اكفنيه،و أنا أقتله.
فانصرفا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فقال عامر:إنّ لي إليك حاجة.
قال:اقترب.
فاقترب،حتّى حنى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و سلّ أربد سيفه، و أبصر رسول اللّه بريقه،فتعوّذ منه بآية من كتاب اللّه تعالى،فأعاذه اللّه منه، و يبست يده على السّيف،فلم يقدر على شيء.
فلمّا رأى عامر أربد لا يصنع شيئا،انصرف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قال لأربد:ما منعك منه؟.
قال:إنّي لما سللت بعض سيفي،يبست يدي،فو اللّه ما قدرت على سلّه.
ص:136
قال ابن سلاّم:و ذكر بعضهم أنّه قال:لما أردت سلّ سيفي،نظرت فإذا فحل من الإبل،قطم (1)،فاغر فاه،بين يديه،يهوي إليّ،فو اللّه،لو سللته، لخفت أن يبتلع رأسي.
ثمّ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و قال:اللّهم أرحني منهما، و اكفنيهما.
فأمّا أربد،فأرسل اللّه تعالى عليه صاعقة،فأحرقته.
و أمّا عامر فطعن في عنقه،فأخذته غدّة كغدّة الجمل،فلجأ إلى بيت امرأة من سلول.
فلمّا غشيه الموت،جعل يقول:غدّة كغدّة البعير،و موت في بيت سلولية؟ثم مات (2).
و في أربد،نزل قوله تعالى:و يرسل الصواعق،فيصيب بها من يشاء، و هم يجادلون في اللّه،و هو شديد المحال.
و في أربد يقول لبيد أخوه:
ص:137
أخشى على أربد الحتوف و لا أرهب نوء السماء و الأسل
أفجعني الرّعد و الصواعق بال فارس يوم الكريهة النجل (1)
ص:138
خرج ليغير فوقع على زيد الخيل
أخبرني محمّد بن الحسن،قال:أخبرني عبد اللّه بن أحمد،قال:
حدّثنا ابن دريد،بإسناد ذكره عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ،قال:
أخبرني شيخ من بني شيبان،قال:
أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال[182 ظ]فخرج رجل منهم بعياله حتّى أنزلهم الحيرة.
و قال لهم:كونوا قريبا من الملك يصيبكم من خيره،إلى أن أرجع إليكم.
و خرج على وجهه لما قد حلّ به،يؤمّل أن يكسب ما يعود به على عياله، و قد جهده الفقر،و بلغ به الطوى.
فحدّث،قال:مشيت يوما و ليلة،بحيث لا أدري إلى أين أتوجّه، غير أنّي أجوب في البلاد.
فلمّا كان من الغد عشاء،إذا بمهر مقيّد حول خباء،فقلت:هذا أوّل الغنيمة.
فحللته،فلم أذهب إلاّ قليلا،حتّى نوديت:خلّ عن المهر،و إلاّ اختلجت مهجتك.
قال:فنزلت عنه،و تركته،و مضيت و قد تحيّرت في أمري،و اغتممت غمّا شديدا.
فسرت سبعة أيّام،حتّى انتهيت إلى موضع عطن (1)أباعر،مع تطفيل (2)الشمس،فإذا خباء عظيم،و قبّة من أدم.
ص:139
فقلت:ما لهذا الخباء بدّ من أهل،و ما لهذه القبّة بدّ من ربّ،و ما لهذا العطن بدّ من إبل[154 ر].
فنظرت في الخباء فإذا شيخ قد اختلفت ترقوتاه،و كأنّه نسر (1).
قال:فجلست خلفه،فلمّا وجبت الشمس،إذا أنا بفارس قد أقبل، لم أر قطّ فارسا[146 م]أجمل منه،و لا أجسم،على فرس عظيم،و معه أسودان يمشيان إلى جنبيه،و إذا مائة من الإبل مع فحلها،فبرك الفحل، و بركن حوله.
و نزل الفارس،و قال لأحد عبديه:احلب فلانة،ثمّ اسق الشيخ.
قال:فحلب في عسّ (2)حتّى ملأه،ثمّ جاء به فوضعه بين يدي الشيخ، و تنحّى.
فكرع منه مرّة،أو مرّتين،ثمّ نزع (3)،فثرت،فشربته.
فرجع العبد،فأخذ العسّ،فقال:يا مولاي،قد أتى على آخره.
قال:ففرح بذلك،و قال:احلب فلانة،فحلبها،ثمّ جاء بالعسّ، فوضعه بين يدي الشّيخ.
فكرع منه كرعة واحدة،ثمّ نزع فثرت إليه،فشربت نصفه،و كرهت أن أتّهم،إن أتيت على آخره.
ثمّ جاء العبد،و أخذ العسّ،و قال:يا مولاي،قد شرب.
قال:دعه،ثمّ أمر بشاة،فذبحت،و شوى للشّيخ منها،و أكل هو و عبداه.
فأمهلت حتّى ناموا،و سمعت الغطيط،فثرت إلى الفحل،فحللت عقاله،
ص:140
ثمّ ركبته،فاندفع بي،و اتّبعته الابل،فسللتها ليلتي كلّها حتّى أصبحت.
فلمّا أسفر الصّبح،نظرت فلم أر أحدا،فسللتها سلاّ عنيفا (1)،حتّى تعالى النّهار،فالتفتّ التفاتة،فإذا بشيء كأنّه طائر،فما زال يدنو حتّى تبيّنته، فإذا هو فارس على فرس،و إذا هو صاحبي البارحة.
فعقلت الفحل،و نثلت كنانتي (2)،و وقفت بينه و بين الإبل.
فدنا منّي،و قال:حلّ عقاله.
فقلت:كلاّ-و اللّه-لقد أضرّ بي الجهد،و خلّفت نسيّات،و صبية بالحيرة،و آليت أن لا أرجع إليهنّ إلاّ بعد أن أ فيدهنّ خيرا،أو أموت.
قال:فإنّك ميت،حلّ عقاله.
قلت:هو ذاك.
قال:إنّك لمغرور،أنصب لي خطامه (3)،و في خطامه خمس عجر (4)، فنصبته.
قال:أين تريد أن أضع سهمي؟.
قلت:في هذا الموضع.
قال:فكأنّما وضعه بيده،حتّى والى بين خمسة أسهم.
قال:فرددت نبلي،و دنا هو،فأخذ القوس و السّيف.
و قال:ارتدف خلفي،ففعلت.
فقال لي،و قد عرف أنّي أنا الّذي شربت اللّبن عند الشّيخ:ما ظنّك بي؟ قلت:أحسن الظنّ،مع ما لقيت منّي من تعب ليلتك،و قد أظفرك اللّه بي.
ص:141
فقال:أ ترى كنّا يلحقك منّا سوء،و قد بتّ تنادم مهلهلا (1)ليلتك.
قلت:زيد الخيل أنت؟.
قال:نعم،أنا زيد الخيل (2).
قلت:كن خير آخذ.
قال:ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الّذي كان به،ثمّ قال:أما لو كانت هذه الإبل لي لسلّمتها إليك،و لكنّها لابنة مهلهل،فأقم عندي،فإنّي على شرف غارة.
فأقمت أيّاما،ثمّ أغار على بني نمير بالملح 12،فأصاب مائة بعير.
فقال:هذه أحبّ إليك،أم تلك؟
فقلت:هذه،فأعطانيها.
قال:فقلت:ابعث[183 ظ]معي خفراء،ففعل.
و عدت إلى وطني،و فرّج اللّه بكرمه عنّي،و أصلح حالي 13.
ص:142
منع اللّه سوّارا من الطعام و الشراب
و جاء به حتّى أقعده بين يديك
ذكر محمّد بن إسحاق بن أبي العشير،عن إسحاق بن يحيى بن معاذ (1)، و قال:حدّثني سوّار،صاحب رحبة سوّار (2)،قال:
انصرفت من دار المهدي،فلمّا دخلت منزلي،دعوت بالغداء،فحاشت نفسي (3)،فأمرت به فردّ.
ثمّ دعوت بالنرد (4)،و دعوت جارية لي ألاعبها،فلم تطب نفسي بذلك، و دخلت القائلة،فلم يأخذني النّوم.
فنهضت،و أمرت ببغلة لي شهباء،فأسرجت،فركبتها،فلمّا خرجت استقبلني وكيل لي و معه ألفا درهم.
فقلت له:ما هذا؟.
فقال:ألفا درهم،جبيتها من مستغلّك الجديد.
قال:قلت:أمسكها معك،و اتبعني.
قال:و مضيت،و خلّيت رأس البغلة،حتّى عبرت الجسر،ثمّ مضت بي في شارع دار الرّقيق 5،حتّى انتهيت إلى الصحراء،ثمّ رجعت إلى[155 ر]
ص:143
[باب الأنبار 6،فطوّفت،فلمّا صرت في شارع باب الأنبار 7،انتهيت إلى] 8باب دار لطيف،عنده شجرة،و على الباب خادم،فوقفت،و قد عطشت.
فقلت للخادم:أعندك ما تسقينيه؟.
قال:نعم فأخرج قلّة 9نظيفة[147 م]طيّبة الرّيح،عليها منديل، فناولنيها،فشربت.
و حضر وقت العصر،فدخلت مسجدا،فصلّيت فيه،فلمّا قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يتلمّس.
قلت:ما تريد يا هذا؟.
قال:إيّاك أريد.
قلت:و ما حاجتك؟.
فجاء،حتّى قعد إليّ،فقال:شممت منك رائحة الطيب فتخيّلت أنّك من أهل النّعمة،فأردت أن ألقي إليك شيئا.
ص:144
فقلت:قل.
قال:أ ترى هذا القصر؟.
قلت:نعم.
قال:هذا قصر كان لأبي،فباعه،و خرج إلى خراسان،و خرجت معه، فزالت عنّا النّعمة الّتي كنّا فيها،فأتيت صاحب الدّار،لأسأله شيئا يصلني به فإنّي في ضنك شديد،و ضغطة عظيمة،[و رزوح حال قبيح](8)،و أصير إلى سوّار،فإنّه كان صديقا لأبي.
قلت:و من أبوك؟.
قال:فلان بن فلان،فإذا أصدق النّاس-كان-لي.
فقلت:يا هذا،إنّ اللّه قد أتاك بسوّار،منعه الطعام و الشراب و النّوم، حتّى جاء به فأقعده بين يديك.
ثمّ دعوت الوكيل،و أخذت منه الألفي درهم،فدفعتها إليه،و قلت له:
إذا كان غدا،فصر إليّ،إلى المنزل.
ثمّ مضيت،فقلت:ما أحدّث المهدي،بشيء أطرف من هذا،فأتيته، فاستأذنت عليه،فأذن لي،فحدّثته بالحديث،فأعجب به،و أمر لي بألفي دينار،فأحضرت.
فقال لي:ادفعها إليه.
[قال:فنهضت،فقال لي:اجلس،أ عليك دين؟.
قلت:نعم.
قال:كم مبلغه؟.
قلت:خمسون ألف دينار.
فقال:تحمل إليك،فاقض بها دينك،فقبضتها.
فلمّا كان من الغد،أبطأ عليّ المكفوف،و أتاني رسول المهدي،يدعوني، فجئته.
ص:145
فقال:فكّرت في أمرك،فقلت:يقضي دينه،ثمّ يحتاج إلى الحيلة و القرض،و قد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
قال:فقبضتها،و انصرفت،](8)
فجاءني المكفوف،[فدفعت إليه الألفي دينار](8)،و قلت له:قد رزق اللّه خيرا كثيرا،[و أعطيته من مالي ألفي دينار أخرى،فقبض أربعة آلاف دينار،و دعا لي](8)،و قال:و اللّه،ما ظننت أنّي أصل منك،و لا من أحد من أهل هذه البلاد،إلى عشر هذا المال،فجزاك اللّه خيرا (1).
ص:146
عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني،قال:حدّثنا محمّد بن جرير الطبري،عن يحيى بن عروة بن أذينة،قال:
أضاق أبي (1)،إضاقة شديدة،و تعذّرت عليه الأمور،فعمل شعرا امتدح به هشام بن عبد الملك.
و دخل عليه في جملة الشعراء،[فلمّا دخلوا عليه،نسبهم،فعرفهم جميعا] (2)و قال لأبي:أنشدني قولك:لقد علمت...،فأنشده:
ص:147
لقد علمت و ما الإشراف (1)من خلقي
أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه (2) و لو جلست أتاني لا يعنّيني
و أيّ حظّ امرىء لا بدّ يبلغه يوما و لا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبع (3) و علقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه و لا يعاب به عرضي و لا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي و أكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنّي النّفس تعرفه و من غنيّ فقير النّفس مسكين
و كم عدوّ رماني لو قصدت له
لم يأخذ البعض منّي (4)حين يرميني[148 م]
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي و لا ألين لمن لا يبتغي (5)ليني
فقال هشام:أ لا جلست في بيتك،حتّى يأتيك رزقك؟.
قال:و غفل عنه هشام،فخرج من وقته،و ركب راحلته،و مضى منصرفا.
فافتقده هشام،فسأل عنه،فعرف خبره،فأتبعه بجائزة.
ص:148
فمضى الرّسول،فلحقه على ثلاثة[156 ر]فراسخ،و قد نزل على ماء يتغدّى عليه.
فقال له:يقول لك أمير المؤمنين:أردت أن تكذّبنا،و تصدّق نفسك؟ هذه جائزتك.
فقال:قل له:قد صدّقني اللّه،و أتاني برزقي بحمده.
قال يحيى:و فرض له فريضتين (1)،كنت في إحداهما (2).
ص:149
أبو أيّوب المورياني
يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهم
قرئ على أبي بكر الصولي،و أنا أسمع،في المسجد الجامع بالبصرة، حدّثكم الغلابيّ،قال:حدّثنا عمر بن شبّة،قال:حدّثنا علي بن ميثم، و قد كان جاز المائة سنة،قال:سمعت ابن شبرمة (1)،يقول:
زوّجت ابني على ألفي درهم،و ما هي عندي،فطولبت بها،فصرت إلى أبي أيّوب المورياني (2)،فقلت له:إنّي اخترتك لحاجتي،و عرّفته خبري، فأمر لي بألفي درهم،فشكرته و قمت.
فقال:اجلس،أ لا تريد خادما؟.
قال:فقلت:إن رزق اللّه.
قال:و هذه ألفان لخادمك،أ لا تريد نفقة؟أ لا تريد كذا؟،و جعل يعدّد و يعطيني.
حتّى قمت على خمسين ألف درهم،وصلني بها (3).
ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،هذا الخبر،بلا إسناد،على قريب من هذا.
ص:150
الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته
ثمّ يعفو عنه
حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحّاك الكاتب، و كان يعرف بالديناريّ (1)،لما بين أبيه الحسن بن رجاء (2)،و بين دينار بن عبد اللّه (3)، من القرابة،فإنّهما كانا ابني خالة،على ما أخبرني،قال:حدّثني أبو عيسى محمّد بن سعيد الديناريّ الكاتب،جدّ أبي الحسن علي بن محمّد بن علي بن مقلة لأمّه (4)،قال:
لما تخلّص أبو أيّوب سليمان بن وهب (5)،من نكبة المعتمد،و كنت أكتب له،و جلس في منزله،أمرني أن أكتب إلى العمّال الّذين ضياعه في أعمالهم، كتبا أعرّفهم فيها رجوع الخليفة له،و تبيّنه باطل ما أنهي إليه،و حمل به عليه،
ص:151
و أخاطبهم عنه في أمر ضياعه و أسبابه.
فكتبت نسخة،قلت فيها:إنّ أمير المؤمنين-أعزّه اللّه-لما وقف على تمويه من موّه عليه في أمرنا،فعل و صنع.
فلمّا وقف على هذا الفصل،خطّ على هذا الحرف،و أبدله بغيره،و لم يغيّر في النّسخة سواه.
و قال لي:إذا فرغت من تحرير الكتب،فأذكرني بالتمويه،أحدّثك بما كرهته له.
قال:فحرّرت الكتب،فلمّا خلا،سألته:لم ضرب على التمويه؟،فقال:
نعم لما غضب عليّ الواثق،و على أحمد بن الخصيب (1)،بسبب إيتاخ (2)، و أشناس (3)،كانت موجدته علينا بسبب واحد،و حبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس و القيد،إلى أن كلّم فينا،فأمر بإحضارنا.
فقلت لأحمد بن الخصيب:قد دعانا،و أظنّ أنّه سيوبّخنا،و يعدّد علينا ما قرفنا به عنده،ليخرج ما في نفسه،فيعظّم منّته علينا،بما يأتيه من إطلاقنا،و أعرف عجلتك،و تسرّعك إلى ما يضرّك،و كأنّي بك حين يبتدئ
ص:152
بتقريعنا،قد قطعت كلامه،و أنحيت عليه بلسانك و يديك،فأنشأت لنا استئناف غضب و موجدة،و أكسبتنا شرّا ممّا قد أمّلنا الخلاص منه.
فقال لي:فما أعمل؟.
قلت:لست أحسبك تتّهمني على نفسي و لا عليك،و لا تشكّ أنّنا حبسنا لقضية واحدة،فولّني جوابه،و أعرني سكوتك (1)،و دعني أرفق به،و أخدعه بما تخدع به الملوك،فلعلّنا نتخلّص من المكروه الّذي نحن فيه.
قال:أفعل.
فاستحلفته على ذلك،فحلف لي.
فلمّا دخلنا الصّحن،وجدنا الخليفة يستاك (2)،و بين يديه طست ذهب، و إبريق ذهب،بيد فراش قائم،[149 م]،و بيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.
فلمّا رآنا،قال:أحسنت اليكما،و اصطنعتكما،فخنتماني،و كفرتما نعمتي،و فعلتما،و صنعتما.
فكأنّي-و اللّه-إنّما أوصيت أحمد بن الخصيب،ألاّ يدعه ينطق.
فقال له،و قد رفع يديه في وجهه:لا و اللّه يا أمير المؤمنين،ما بلغك عنّا الحقّ،و لا فعلنا شيئا ممّا سعي بنا،و لقد موّه عليك في أمرنا.
فقال:إنّما يموّه على غبيّ مثلك،فأومأت إليه بعيني،فأمسك[185 ظ] بعض الإمساك.
و عاد الواثق يتمّم كلامه،و يعدّد علينا نعمه و مننه،فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده،و قال:و اللّه يا أمير المؤمنين،ما كفرنا نعمتك،و لا فعلنا، و لا صنعنا،إنّما موّه على أمير المؤمنين في أمرنا.
ص:153
فقال:يا جاهل،قد عدت لها،إنّما يجوز التمويه على أحمق مثلك، و أومأت إليه بعيني،فأمسك.
و عاد الواثق في كلامه،فما انضبط أحمد أن ردّ قوله،و جاء بالتمويه.
فحين سمعها الواثق،انقلبت عيناه في أمّ رأسه،و استشاط غضبا، و أغلظ له في الشتم،و حذفه بالمسواك،فلولا أنّه زاغ عنه،لهشم وجهه، و أعمى عينه.
ثمّ قال:يا غلمان،أخرجوه إلى لعنة اللّه،فأخرج أخزى خلق اللّه.
و نالني من الجزع،و الغمّ،و الحيرة في أمره،أمر عظيم،و لم أدر،أقف، أم أمضي،و خفت إن وقفت،أن يقول:ما وقوفك بين يديّ،و قضيّتكما واحدة،و إن مضيت أن نردّ جميعا إلى الحبس،فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلا،كأنّي أريد الخروج.
فقال لي:مكانك أنت يا سليمان،هب هذا على ما هو عليه،أنت أيضا، تنكر أنّك فعلت كذا،و صنعت كذا؟.
فوجدت السبيل إلى ما أردت،فلم أزل أعترف،و ألزم نفسي الجناية، و أديم الخضوع و الاستعطاف[157 ر]،و أسأل الصفح و الإقالة،إلى أن قال:قد عفوت عنك،فقبّلت الارض،و بكيت.
فقال:إخلعوا عليه،و أصرفوه إلى منزله،و ليلزم الدّار على عادته و رسمه.
فلمّا ولّيت،قال:و ذلك الكلب،قد كنت أردت العفو عنه،فأخرجني عن حلمي سوء أدبه،فاخلعوا عليه أيضا.
فخرجت،و إذا بأحمد في بعض الممرّات،فعرّفته الخبر،ثمّ قلت له:
يا هذا كدت أن تأتي علينا،أ رأيت أحدا يكرّر على الخليفة لفظة قد كرهها، و أنكرها،ثلاث مرّات؟أو ما علمت أنّ التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية؟ قال:فلم يخرج من قلبي فزع التمويه،من ذلك الوقت،إلى الآن (1).
ص:154
غضب الرّشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه
معن بن زائدة و ضربه مائة سوط
حدّثني عبد اللّه بن عمر بن الحارث الواسطي[السرّاج،المكفوف] (1)المعروف بأبي أحمد الحارثي (2)،قال:حدّثنا ابن دريد،قال:حدّثنا عبد الرّحمن بن أخي الاصمعي،عن عمّه،قال:
بعث إليّ الرّشيد في وقت لم تكن عادته أن يستدعيني في مثله،و جاءني الرّسول بوجه منكر،فأحضرني إحضارا عنيفا منكرا مستعجلا،فوجلت وجلا شديدا،و خفت،و جزعت.
فدخلت،فإذا الرّشيد على بساط عظيم،و إلى جانبه كرسي خيزران، عليه جويرية خماسيّة (3)،فسلّمت،فلم يردّ عليّ،و لا رفع رأسه إليّ،و جعل ينكت الأرض بإصبعه.
فقلت:سعي بي عنده بباطل،يهلكني قبل كشفه،و أيست من الحياة.
فرفع رأسه،و قال:يا أصمعيّ،أ لا ترى الدعيّ بن الدعيّ،اليهودي، عبد بني حنيفة،مروان بن أبي حفصة،يقول لمعن بن زائدة،و إنّما هو عبد من عبيدنا:
ص:155
أقمنا باليمامة بعد معن مقاما لا نريد به زيالا (1)
و قلنا أين نذهب بعد معن و قد ذهب النوال فلا نوالا
و كان النّاس كلّهم لمعن إلى أن زار حفرته عيالا
فقال:إنّ النوال قد ذهب،مع بقائنا،فما يصنع بنا إذن؟،و لم يرض [150 م]حتّى جعلني و خاصّتي،عيالا لمعن،و اللّه،لأفعلنّ به و لأصنعنّ.
فقلت:يا أمير المؤمنين،عبد من عبيدك،أنت أولى بأدبه،أو العفو عنه.
فقال:عليّ بمروان،فدخل عليه.
فقال:السياط،فأخذ الخدم يضربونه بها،و هو يصيح:يا أمير المؤمنين، ما ذنبي؟يا أمير المؤمنين،استبقني،إلى أن ضرب أكثر من مائة سوط (2).
فقال:يا أمير المؤمنين،اعف عنّي،و اذكر قولي فيك،و في آبائك.
فقال:يا غلام،كفّ عنه،ثمّ قال:ما قلت،يا كلب؟.
فأنشده قصيدته الّتي يقول فيها:[186 ظ]
هل تطمسون من السماء نجومها بأكفّكم أم تسترون هلالها
ص:156
أم تدفعون مقالة عن ربّه جبريل بلّغها النّبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادرا في غيلها لا تولغنّ دماءكم أشبالها
قال:فأمر بإطلاقه،و أن يدفع إليه ثلاثون ألف درهم.
فلمّا خرج،قال:يا أصمعي تدري من هذه الصبيّة؟.
قلت:لا أدري.
قال:هذه مؤنسة بنت أمير المؤمنين،فدعوت له و لها،و تأمّلته،فإذا هو شارب ثمل.
قال:قم فقبّل رأسها.
فقلت:أفلتّ من واحدة،و دفعت إلى أخرى أشدّ منها،إن أطعته أدركته الغيرة فقتلني،و إن عصيته قتلني بمعصيتي له،فلما أحبّ اللّه عزّ و جلّ من تأخير أجلي،ألهمني أن وضعت كمّي على رأسها،و قبّلت كمّي.
فقال:و اللّه يا أصمعي،لو أخطأتها لقتلتك،أعطوه عشرة آلاف درهم، و الحق بدارك.
[فخرجت و أنا ما أصدّق بالسّلامة،فكيف بالحباء و الكرامة.] (1)
ص:157
أمدح بيت قالته العرب
قال المفضل بن محمّد الضبّي (1):
أصبحت يوما ببغداد،في خلافة المهدي،[158 ر]و أنا من أشدّ النّاس إضاقة و ضرّا،لا أدري ما أعمل،حيرة و فكرا.
فخرجت،فجلست على باب منزلي بالصراة (2)،أفكّر فيما أصنع،فإذا أنا برسول المهدي،قد وقف عليّ.
فقال:أجب أمير المؤمنين،فراعني،و ساء ظنّي.
فقلت:أدخل،فألبس ثيابي.
فقال:ما إلى ذلك سبيل.
فاشتدّ جزعي،و خشيت أن يأخذني بما كان بيني و بين إبراهيم بن عبد اللّه ابن حسن بن حسن رضي اللّه عنهم.
فاستدعيت ثيابي،و جدّدت وضوءا على الباب،و لم أخبر أهلي بقصّتي،
ص:158
و لا بما هجم من الغمّ عليّ.
و قلت:إن كان خيرا أو شرّا،فسيبلغهم،فما معنى تعجيل الهمّ لهم.
و مضيت مع الرّسول،حتّى دخلت على المهدي،و أنا في نهاية الجزع، فسلّمت،فردّ عليّ السلام.
فقلت في نفسي:ليس إلاّ خيرا.
فقال:اجلس يا مفضّل،فجلست.
فقال:أخبرني عن أمدح بيت قالته العرب.
فتبلّدت (1)ساعة،لا أذكر شيئا،ثمّ أجرى اللّه على لساني،أن قلت:
قول الخنساء (2).
فأشرق وجهه،و قال:حيث تقول ما ذا؟.
فقلت:حيث تقول:
و إنّ صخرا (3)لوالينا و سيّدنا و إنّ صخرا إذا نشتو لنحّار
و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به كأنّه علم في رأسه نار
فاستبشر به،و قال:قد أخبرت هؤلاء بهذا،و أومأ إلى جماعة بين يديه، فلم يقبلوا منّي.
قلت:كان أمير المؤمنين،أحقّ بالصواب منهم.
قال:يا مفضّل،حدّثني الآن.
قلت:أيّ الأحاديث؟.
ص:159
قال:أحاديث الأعراب.
فلم أزل أحدّثه،بأحسن ما احفظ منها،إلى أن كاد المنادي بالظهر أن ينادي.
ثمّ قال لي:كيف حالك يا مفضّل؟.
قلت:ما يكون حال رجل عليه عشرون ألف درهم دينا حالاّ،و ليس في رزقه فضل لقضائها،و قصصت عليه قصّة حالي و يومي في الإضافة.
فقال:يا عمر بن بزيع،ادفع إليه السّاعة،عشرين ألف درهم يقضي بها دينه،[151 م]،و عشرين ألف درهم يصلح بها حاله،و عشرين ألف درهم يجهّز بها بناته،و يوسّع بها على عياله.
ثمّ قال:يا مفضّل،ما أحس ما قال ابن مطير،في مثل حالك:
و قد تغدر الدنيا فيضحي غنّيها فقيرا و يغنى بعد بؤس فقيرها
و كم قد رأينا من تكدّر عيشة و أخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فأخذت المال،و انصرفت إلى بيتي بستّين ألف درهم،بعد الإياس، و توطين النفس على ضرب الرّقبة (1)
ص:160
بين الأصمعي و البقال الّذي على باب الزقاق
وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي،قال:
كنت بالبصرة،أطلب العلم،و أنا مقلّ،و كان على باب زقاقنا (1)بقّال، إذا خرجت باكرا[187 ظ]يقول لي:إلى أين؟فأقول:إلى فلان المحدّث، و إذا عدت مساء،يقول لي:من أين؟فأقول:من عند فلان الأخباريّ، أو اللّغوي.
فيقول:يا هذا،اقبل وصيّتي،أنت شابّ،فلا تضيّع نفسك،و اطلب معاشا يعود عليك نفعه،و أعطني جميع ما عندك من الكتب،حتّى أطرحها في الدنّ،و أصبّ عليها من الماء للعشرة أربعة،و أنبّذه،و أنظر ما يكون منه، و اللّه،لو طلبت منّي،بجميع كتبك،جرزة بقل (2)،ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام،حتّى كنت أخرج من بيتي ليلا، و أدخله ليلا،و حالي-في خلال ذلك-تزداد ضيقا،حتّى أفضيت إلى بيع آجرّ أساسات داري،و بقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي،و طال شعري،و أخلق ثوبي،و اتّسخ بدني.
فأنا كذلك،متحيّرا في أمري،إذ جاءني[159 ر]خادم للأمير محمّد بن سليمان الهاشمي (3)،فقال:أجب الأمير.
ص:161
فقلت:ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى؟.
فلمّا رأى سوء حالي،و قبح منظري،رجع فأخبر محمّد بن سليمان بخبري،و عاد إليّ،و معه تخوت ثياب (1)،و درج فيه بخور (2)،و كيس فيه ألف دينار.
و قال:قد أمرني الأمير،أن أدخلك الحمّام،و ألبسك من هذه الثياب، و أدع باقيها عندك،و أطعمك من هذا الطعام،و إذا بخوان كبير فيه صنوف الاطعمة،و أبخّرك،لترجع إليك نفسك،ثمّ أحملك إليه.
فسررت سرورا شديدا،و دعوت له،و عملت ما قال،و مضيت معه، حتّى دخلت على محمّد بن سليمان،فسلّمت عليه،فقرّبني،و رفعني.
ثمّ قال:يا عبد الملك،قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين،فاعمل على الخروج إلى بابه،و انظر كيف تكون؟.
فشكرته،و دعوت له،و قلت:سمعا و طاعة،سأخرج شيئا من كتبي و أتوجّه.
فقال:ودّعني،و كن على الطريق غدا.
فقبّلت يده،و قمت،فأخذت ما احتجت إليه من كتبي،و جعلت باقيها
ص:162
في بيت،و سددت بابه،و أقعدت في الدّار عجوزا من أهلنا،تحفظها.
و باكرني رسول الأمير محمّد بن سليمان،و أخذني،و جاء بي إلى زلاّل قد اتّخذ لي،و فيه جميع ما أحتاج إليه،و جلس معي،ينفق عليّ،حتّى وصلت إلى بغداد.
و دخلت على أمير المؤمنين الرّشيد،فسلّمت عليه،فردّ عليّ السلام.
و قال:أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت:نعم،أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الاصمعي.
قال:إعلم،أنّ ولد الرجل مهجة قلبه،و ثمرة فؤاده،و هو ذا أسلم إليك ابني محمّدا بأمانة اللّه،فلا تعلّمه ما يفسد عليه دينه،فلعلّه أن يكون للمسلمين إماما.
قلت:السمع و الطاعة.
فأخرجه إليّ،و حوّلت معه الى دار،قد أخليت لتأديبه،و أخذم فيها من أصناف الخدم،و الفرش (1)،و أجرى عليّ (2)في كلّ شهر عشرة آلاف درهم، و أمر أن تخرج إليّ في كلّ يوم مائدة،فلزمته.
و كنت مع ذلك،أقضي[152 م]حوائج النّاس،و آخذ عليها الرغائب، و أنفذ جميع ما يجتمع لي،أوّلا،فأوّلا،إلى البصرة،فأبني داري،و أشتري عقارا،و ضياعا.
فأقمت معه،حتّى قرأ القرآن،و تفقّه في الدّين،و روى الشعر و اللّغة، و علم أيّام النّاس و أخبارهم.
ص:163
و استعرضه الرّشيد،فأعجب به،و قال:يا عبد الملك،أريد أن يصلّي بالنّاس،في يوم الجمعة،فاختر له خطبة،فحفّظه إيّاها.
فحفّظته عشرا،و خرج،فصلّى بالنّاس،و أنا معه،فأعجب الرّشيد به، و أخذه نثار الدنانير و الدراهم من الخاصّة و العامّة،و أتتني الجوائز و الصلات من كلّ ناحية،فجمعت مالا عظيما.
ثمّ استدعاني الرّشيد،فقال:يا عبد الملك،قد أحسنت[188 ظ] الخدمة،فتمنّ.
قلت:ما عسى أن أتمنّى،و قد حزت أمانيّ.
فأمر لي بمال عظيم،و كسوة كثيرة،و طيب فاخر،و عبيد،و إماء، و ظهر،و فرش،و آلة.
فقلت:إن رأى أمير المؤمنين،أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة،و الكتاب إلى عامله بها،أن يطالب الخاصّة و العامّة،بالسّلام عليّ ثلاثة أيّام،و إكرامي بعد ذلك (1).
فكتب إليه بما أردت،و انحدرت إلى البصرة،و داري قد عمرت،و ضياعي قد كثرت،و نعمتي قد فشت،فما تأخّر عنّي أحد.
فلمّا كان في اليوم الثالث،تأمّلت أصاغر من جاءني،فإذا البقّال، و عليه عمامة و سخة،و رداء لطيف،و جبّة قصيرة،و قميص طويل،و في رجله جرموقان (2)،و هو بلا سراويل.
فقال:كيف أنت يا عبد الملك؟.
فاستضحكت من حماقته،و خطابه لي بما كان يخاطبني به الرّشيد.
و قلت:بخير،و قد قبلت وصيّتك،و جمعت ما عندي من الكتب،
ص:164
و طرحتها في الدنّ،كما أمرت،و صببت عليها من الماء للعشرة[160 ر] أربعة،فخرج ما ترى.
ثمّ أحسنت إليه بعد ذلك،و جعلته وكيلي (1).
ص:165
المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة
قال مسرور الكبير (1):استدعاني المأمون،فقال لي:قد أكثر عليّ أصحاب أخبار السرّ (2)،أنّ شيخا يأتي خرائب البرامكة،فيبكي و ينتحب طويلا، ثمّ ينشد شعرا يرثيهم به،و ينصرف،فاركب أنت[و أيّوب الخادم، و الأصمعي،] (3)و دينار بن عبد اللّه،و استترا بالجدران،فإذا جاء الشيخ، فأمهلاه،حتّى تشاهدان ما يفعل،و تسمعان ما يقول،فإذا أراد الانصراف، فاقبضا عليه،و أتياني به.
قال مسرور:فركبت أنا و دينار[و أيّوب الخادم] 3مغلّسين،فأتينا الموضع،فاختفينا فيه،و أبعدنا الدوابّ.
فلمّا كان آخر اللّيل،إذا بخادم أسود قد أقبل،و معه كرسي حديد، فطرحه،و جاء على أثره كهل،فجلس على الكرسي،و تلفّت يمينا و شمالا، فلم ير أحدا،فبكى و انتحب،حتّى قلت:قد فارق الدنيا،و أنشأ يقول:
[أما و اللّه لو لا خوف واش و عين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك و استلمنا كما للنّاس بالحجر استلام (4)
ثمّ بكى طويلا،و أنشأ يقول:] 3
ص:166
و لما رأيت السيف جلّل جعفرا و نادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا و زاد تأسّفي عليها و قلت الآن لا تنفع الدنيا (1)
و ذكر أبياتا طويلة،لا تدخل في كتابي هذا،فأرويها.
قال:فلمّا فرغ من إنشاده و قام،قبضنا عليه،فقال:ما تريدون؟.
قلت:هذا دينار بن عبد اللّه،[و هذا أيّوب الخادم بالحرم،و هذا عبد الملك بن قريب الاصمعي] (2)،و أنا مسرور خادم أمير المؤمنين،و هو يستدعيك.
فأبلس (3)،ثمّ قال:إنّي لا آمنه على نفسي[153 م]فامهلاني حتّى أوصي (4).
فقلت:شأنك و ما تريد،فقام،و سار،و نحن معه،حتّى أتى بعض دكاكين العلاّفين (5)،بفرضة الفيل (6).
ص:167
فاستدعى دواة و بياضا،و كتب فيها وصيّته،و دفعها إلى الخادم الّذي كان معه،و أنفذه إلى منزله،و سرنا به،حتّى أدخلناه على المأمون،فلمّا مثل بين يديه،زبره،و انتهره.
ثمّ قال له:من أنت؟و بم استحقّ منك البرامكة ما تصنع[في دورهم و خراباتهم؟](6).
فقال:غير هائب،و لا محتشم:يا أمير المؤمنين،إنّ للبرامكة عندي أياد،فإن أمر أمير المؤمنين حدّثته بإحداها.
فقال:هات.
قال:أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي،من ذوي الحسب،نشأت في ظلّ نعم قديمة،فزالت عنّي،كما تزول النّعم عن النّاس،حتّى أفضيت إلى بيع مسقط رأسي و روس آبائي،و أملقت حتّى لا غاية،فأشير عليّ بقصد البرامكة.
فخرجت من الشّام إلى بغداد،و معي نيف و عشرون امرأة و صبيّا و صبيّة، فدخلت بهم مدينة السّلام،فأنزلتهم في مسجد.
ثمّ عمدت إلى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء النّاس،و التذرّع بها للبرامكة، فلبستها،و سلكت الطّريق،لا أدري أين أقصد،[و كنت كما قيل:
و أصبح لا يدري و إن كان حازما أقدّامه خير له أم وراءه
فلمّا قال ذلك،بكى المأمون،فقال له مسرور:أقصر يا رجل،فقد أتعبت أمير المؤمنين بوصفك.
فقال له المأمون:دعه يتحدّث بما يريد.
ص:168
قال:نعم](6)،و تركت عيالي جياعا لا نفقة لهم،و لا معهم ما يباع، فأفضيت إلى مسجد مزخرف،فيه جمع شيوخ،بأحسن زيّ،و أجمل هيأة، فطمعت في مخاطبتهم،فصعدت إلى المسجد،فجلست معهم،لم أزد على السّلام،و جعلت أردّد في صدري كلاما أخاطبهم به،فيحصرني التشوّر (1)، و يخجلني ذلّ المسألة،و يحبسني عن الكلام،[و أتصبّب عرقا،حياء و خوفا من أن يقال لي:من أنت،و ما تريد؟و ما يمكنني الجواب،و لا أدري ما أخاطبهم به](6)،إذ لم تكن لي عادة بالخوض في مثله.
فأنا كذلك،إذ جاء خادم فاستدعى القوم،فقاموا،و قمت معهم، و مضينا،فأدخلوا[189 ظ]دارا ذات دهليز طويل،فدخلت معهم، و أفضينا إلى صحن واسع،و إذا شيخ بهيّ،فإذا هو يحيى بن خالد،على دكّة [أبنوس في صحن الدّار](6)،في وسط البستان،و له ميدان عنده بركة،و قد نصب عليها كراسي أبنوس.
و أقبل القوم،فجلسوا،و جلست معهم،و تأمّل الخدم القوم و عددهم، فإذا نحن مائة رجل و رجل،فدخل الخدم و غابوا،ثمّ خرج مائة خادم و خادم، في يد كلّ واحد منهم مجمرة من ذهب،فيها قطعة كالفهر (2)من عنبر، و الخدم بأفخر الثياب،عليهم مناطق الذّهب المرصّعة بالجوهر،و هم يطيفون بغلام،حين اخضرّ شاربه،حسن الوجه،فسجروا العنبر.
و أقبل يحيى على الزريقي القاضي (3)،و قال:زوّج ابن أخي هذا،بابنتي عائشة على صداق قدره مائة ألف درهم.
فخطب،و عقد النكاح،و أخذنا النثار من فتات المسك،و بنادق العنبر،
ص:169
و تماثيل الندّ الصغار،و التقط النّاس،و التقطت.
ثمّ جاء مائة خادم و خادم،[161 ر]في يد كلّ واحد منهم صينيّة فضّة فيها ألف دينار،مخلوطة بالمسك،فوضع بين يدي كلّ رجل منّا صينيّة.
فأقبلت الجماعة تكوّر الدنانير في أكمامها،و تأخذ الصواني تحت آباطها، و تنصرف،ألأوّل،فالأوّل،حتّى بقيت وحدي،لا أجسر على أخذ الصينيّة و ما فيها،و الأسف،و الحاجة،يمنعاني أن أقوم و أدعها،و أنا مطرق،مفكّر.
حتّى ضاق صدري[154 م]،فرفعت رأسي،فغمزني بعض الخدم على أخذها و القيام،فأخذتها و قمت،و أنا لا أصدّق،و جعلت أمشي و أتلفّت، خوفا من أن يتبعني من يأخذها،و يحيى يلاحظني من حيث لا أعلم.
فلمّا قاربت الستر،رددت،فأيست من الصينيّة،فجئت-و هي معي- حتّى قربت منه،فأمرني بالجلوس،فجلست.
فسألني عن حالي،و قصّتي،و من أنا،فصدقته،حتّى إذا بلغت إلى تركي عيالي في المسجد،بكى.
ثمّ قال:عليّ بموسى،فجاء.
فقال:يا بنيّ،هذا رجل من أبناء النعم،قد رمته الأيّام بصروفها، و النوائب بحتوفها،فخذه،و اخلطه بنفسك،و اصطنعه.
فأخذني موسى إلى داره،فخلع عليّ من أفخر ثيابه،و أمر بحفظ الصينيّة لي،و قضيت على ذلك يومي و ليلتي.
ثمّ استدعى أخاه العبّاس من الغد،و قال له:إنّ الوزير سلّم إليّ هذا الفتى،و أمرني فيه بكذا و كذا،و أريد أن أركب اليوم إلى دار أمير المؤمنين، فليكن عندك اليوم حتّى أرتجعه غدا،فكان يومي عنده مثل أمسي.
و أقبلوا يتداولوني كلّ يوم،واحدا بعد واحد،و أنا قلق بأمر عيالي،إلاّ أنّني لا أذكرهم إجلالا لهم.
ص:170
فلمّا كان في اليوم العاشر،أدخلت إلى الفضل بن يحيى،فأقمت في داره يومي و ليلتي.
فلمّا أصبحت،جاءني خادم من خدمه،فقال:يا هذا قم إلى عيالك و صبيانك.
فقلت:إنّا للّه،لم أحصل لهؤلاء الصبيان على الأكل و الشرب،و الصينيّة و ما فيها،و ما حصّلته من النثار،ذهب (1)،فليت هذا كان من أوّل يوم، و كيف أتوصّل الآن إلى يحيى،و أيّ طريق لي إليه.
و تلاعبت بي الأفكار مخافة اليأس،و أظلمت الدنيا في عيني،و قمت أجرّ رجلي،و الخادم يمشي بين يديّ،[حتّى أخرجني من الدار،فازداد إياسي،و ما زال يمشي بين يديّ](6)حتّى أدخلني الى دار كأنّ الشّمس تطلع من جوانبها،و فيها من صنوف الفرش و الأثاث و الآلات،ما يكون في مثلها.
فلمّا توسّطتها،رأيت عيالي أجمعين فيها،يرتعون في الديباج و الشفوف (2)، و قد حمل إليهم مائة ألف درهم،و عشرة آلاف دينار،و الصينيّة و النثار،و سلّم إليّ الخادم،صكّ ضيعتين جليلتين.
و قال:هذه الدار،و ما فيها،و الضياع بغلاّتها،لك.
فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش،و أجلّ حال،حتّى نزلت بهم النازلة.
ثمّ قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين،فألزمني في خراجهما،ما لا يفي به دخلهما.
ص:171
فلحقتني شدّة عظيمة،فكلّما لحقتني نائبة[190 ظ]و اشتدّت بي بليّة،قصدت دورهم و منازلهم،فبكيتهم،و رثيتهم،و شكرتهم،و دعوت لهم،على ما كان منهم إليّ،و شكوت ما حلّ بي بعدهم،فأجد لذلك راحة.
قال:فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة،فلمّا أتي به،قال له:أ تعرف هذا الرّجل؟.
قال:يا أمير المؤمنين،هو بعض صنائع البرامكة.
فأمره أن يردّ على الرّجل،كلّما استخرج منه،و أن يقرّر خراجه على ما كان عليه أيّام البرامكة[و أن يجعل له ضيعة أخرى من جملة الإيغارات يكون دخلها له و يتّخذ به سجلاّ](6)و أن يقضي حقّه و يكرمه،فبكى الشيخ بكاء شديدا.
فقال له المأمون:ألم أستأنف إليك جميلا فما بكاؤك؟.
فقال:بلى و اللّه يا أمير المؤمنين،و زدت على كلّ فضل و إحسان،و لكن هذا من بركة اللّه،و بركة البرامكة (1)عليّ،و بقيّة إحسانهم إليّ،فلو لم [155 م]آت خراباتهم،فأبكيهم،و أندبهم،حتّى اتّصل خبري بأمير المؤمنين،ففعل بي ما فعل،من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين.
فقال له المأمون:إمض مصاحبا،فإنّ الوفاء مبارك،و حسن العهد من الايمان (2).
ص:172
جاء في الفخري 197:إنّ دولة آل برمك،كانت غرة في جبهة الدهر،و تاجا على مفرق العصر،فانّ يحيى و بنوه،كالنجوم زاهرة،و البحار زاخرة،و السيول دافقة، و الغيوث ماطرة،أسواق الأدب عندهم نافقة،و مراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، و الدنيا في أيّامهم عامرة،و أبّهة المملكة ظاهرة،و هم ملجأ الضعيف،و معتصم الطريد، و فيهم يقول أبو نؤاس:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم بني برمك من رائحين و غاد
و قال الجاحظ:البرامكة محض الأنام،و لباب الكرام،و ملح الأيّام،عتق منظر، و جودة مخبر،و جزالة منطق،و سهولة لفظ،و نزاهة نفس،و اكتمال خصال،(العقد الفريد 28/5)،و قال عنهم أيضا:إنّ أيّامهم كانت رياض الأزمنة(وفيات الأعيان 474/3).
و قال محمد بن جميل الكاتب:كان البرامكة شفاء سقام دهرهم،و غياث جدب عصرهم،و ما زالوا كهفا للاجئين،و مفزعا للملهوفين(قطب السرور 63).
و قال القاضي التنوخي،في امتداح مجلس من مجالس الوزير المهلّبي:كأنّه من مجالس البرامكة(نشوار المحاضرة القصّة رقم 28/1).
و قال سليمان بن وهب،لشخص أحسن إليه:إنّك قد فعلت ما لم تفعله البرامكة (القصّة 165 من هذا الكتاب).
و قال صالح،صاحب المصلّى:إنّ الدهر لا يخلف مثل يحيى أبدا(القصّة 371 من هذا الكتاب).
و قال إسحاق الموصليّ،في الفضل بن يحيى البرمكي:سبحان الذي خلق هذا الرجل، و جبله على كرم بذّ به من مضى و من غبر(المحاسن و المساوىء 22/2).
و حلف إسحاق الموصلي،باللّه الذي لا إله إلاّ هو:ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط،و لا أفطن،و لا أعلم بكلّ شيء،و لا أفصح لسانا،و لا أبلغ في المكاتبة (الأغاني 325/4).
ص:173
و قال ثمامة بن أشرس:ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي و المأمون(تاريخ الخلفاء 326).
و قال إبراهيم بن المهدي:ما رأيت أكمل من جعفر قط(الأوراق للصولي،أشعار أولاد الخلفاء 34).
و أبو حيّان التوحيدي،الذي كان كثير الغرام،بثلب الكرام(معجم الأدباء 282/2) إذ لم يترك أحدا من رؤساء زمانه،إلاّ و شتمه،أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أنّ معروفهم كان يسع الصغير و الكبير،و يعمّ الغني و الفقير(أخلاق الوزيرين 489)، و نقل في كتابه كذلك ما أورده محمّد بن داود الجرّاح،في كتابه أخبار الوزراء،في الثناء عليهم،فقال:كان آل برمك أندى من السحاب(أخلاق الوزيرين 380).
و في محاضرات الأدباء 198/3:إنّ امرأة مرّت بجعفر بن يحيى،و قد صلب، فقالت:لئن صرت اليوم راية،لقد كنت بالأمس غاية.
و في تحفة المجالس 179:إنّ البرامكة كانوا يقصدون من آفاق الأرض،و قال أعرابيّ قصدهم من اليمن:قصدت هؤلاء الأمجاد،الذين انتشر صيتهم في البلاد.
و كان للبرامكة من السخاء و الكرم،ما لم يكن لأحد من الناس،و كانوا يخرجون بالليل سرّا،و معهم الأموال يتصدّقون بها،و ربما دقّوا على الناس أبوابهم،فيدفعون إليهم الصرّة،بين الثلاثة آلاف إلى الخمسة آلاف،أو الأكثر من ذلك،و الأقل،و ربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب،فكان الناس-لاعتيادهم ذلك-يعدون إلى العتب،إذا أصبحوا،يطلبون ما القي فيها(المحاسن و المساوىء 150/1).
و قال فيهم الشاعر:[وفيات الأعيان 35/4] عند الملوك مضرّة و منافع و أرى البرامك لا تضرّ و تنفع
إن كان شرّ كان غيرهم له و الخير منسوب إليهم أجمع
و قال أبو نؤاس:[وفيات الأعيان 59/5] إنّ البرامكة الكرام تعلّموا فعل الجميل فعلّموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا و إذا بنوا لم يهدموا مما بنوه أساسا
و إذا هم صنعوا الصنائع في الورى جعلوا لها طول البقاء لباسا
و قال أشجع السلميّ،يذكر أيّامهم:[وفيات الأعيان 336/1]
ص:174
كأنّ أيّامهم من حسن بهجتها مواسم الحجّ و الأعياد و الجمع
و أصبح جود البرامكة،على تمادي الأيّام،مضرب المثل،قال الجمّاز:جاءنا فلان، بمائدة،كأنّها زمن البرامكة على العفاة(زهر الأداب 3/2 و الملح و النوادر 236).
و البغداديون،إلى وقتنا هذا،يذكرون البرامكة،و يصفون الرجل الكريم النفس، السخيّ اليد،بأنّه:برمكي.
و عمّت شهرة البرامكة بالجود،جميع أنحاء الدنيا،بحيث أنّ المقري في نفح الطيب 109/3 امتدح أحد أمراء الموحّدين بالأندلس،فوصفه بأنّ«له حكايات في الجود برمكيّة».
و قد أنكر صاعد،وزير الموفّق،ما يذكر عن البرامكة،و قال:هذه أقاصيص من صنع الورّاقين،فقال له أبو العيناء:لم لا يكذب على الوزير-أعزّه اللّه-مثل هذا الكذب،و هو حيّ،يرجى و يخاف،و أولئك موتى،مأيوس من خيرهم و شرهم،(القصّة 1/1 من نشوار المحاضرة).
و بالنظر لعدم وجود سبب واضح عن نكبتهم،فقد خبط المؤرخون خبطا في الاستنتاج، و ذكر كلّ واحد منهم سببا،أو أكثر من سبب،فادّعى بعضهم أنّ السبب سياسي، و أنّهم أرادوا قلب الدولة،و قال بعضهم:أنّ ثمة سببا يتعلّق بزواج جعفر،زواجا لم يرضه الخليفة،و هذا كلّه لا أصل له،فإنّ البرامكة،لو أرادوا قلب الدولة،لحاولوا ذلك عند ما كانت خراسان في قبضتهم،و أمّا قضية الزواج،فهي أقصوصة لا تعلق بقبول، و لا تدخل في معقول،و الذي يظهر للمتأمّل،أنّ استئثار البرامكة بالحكم،و انقياد الناس لهم،و لهجتهم بالثناء عليهم،و التعلّق بهم،أثار غيرة الرشيد،و أشعل نار هواجسه، و صادف وجود دسّاسين،من رجال الحاشية،ممن يرغب في انتقال السلطة من البرامكة إليهم،مثل الفضل بن الربيع،و علي بن عيسى بن ماهان،و أحمد بن صبيح،فتظافروا، و أغروا الرشيد بهم،فوجدوا منه أذنا سامعة،و كانت الخيزران،أمّ الرشيد،حامية البرامكة،قد توفيت في السنة 173،فلم يكد الرشيد يودعها قبرها،حتى دعى الفضل ابن الربيع،و أمره بأخذ الخاتم من جعفر،و حلف له إنّه كان يهمّ بأن يولّيه،فتمنعه أمّه، فيطيع أمرها(الطبري 238/8).
و لعلّ أصحّ ما ورد في هذا الباب،ما ذكره ابن خلّكان في كتاب وفيات الأعيان 335/1،قال:سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد،فقال:
و اللّه،ما كان منهم ما يوجب بعض ما عمل الرشيد بهم،و لكن طالت أيّامهم،و كلّ
ص:175
طويل مملول،و و اللّه،لقد استطال الناس،الذين هم خير الناس،أيّام عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه،و ما رأوا مثلها عدلا،و أمنا،وسعة أموال،و فتوح،و أيّام عثمان رضي اللّه عنه،حتى قتلوهما،و رأى الرشيد-مع ذلك-أنس النعمة بهم،و كثرة حمد الناس لهم، و رميهم بآمالهم دونه،و الملوك تتنافس بأقلّ من هذا،فتعنّت عليهم،و تجنّى،و طلب مساويهم، و وقع منهم بعض الإدلال،خاصّة جعفر و الفضل،دون يحيى،فإنّه كان أحكم خبرة، و أكثر ممارسة للأمور،و لاذ من إعدائهم قوم بالرشيد،كالفضل بن الربيع،و غيره، فستروا المحاسن،و أظهروا القبائح،حتى كان ما كان.
و يؤيّد هذا الرأي،ما روي عن هرون الرشيد أنّه قال:إنّ الدالّة تفسد الحرمة،و تنقص الذمّة،و منها أتي البرامكة(كتاب الآداب لمجد الملك جعفر بن شمس الخلافة ص 20).
و قد ذهب المؤرخ ابن خلدون،إلى هذا الرأي،قال:إنّما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة،و احتجانهم أموال الجباية،حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه،فغلبوه على أمره،و شاركوه في سلطانه،و لم يكن له معهم تصرّف في أمور ملكه،فعظمت آثارهم،و بعد صيتهم،و عمروا مراتب الدولة و خططها،بالرؤساء من ولدهم و صنائعهم،و احتازوها عمّن سواهم،من وزارة،و كتابة،و قيادة،و حجابة، و سيف،و قلم،و يقال إنّه كان بدار الرشيد،من ولد يحيى بن خالد،خمسة و عشرون رئيسا،من بين صاحب سيف و صاحب قلم،زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب،و دفعوهم عنها بالراح،لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون،وليّ عهد،و خليفة،حتى شبّ في حجره،و درج من عشّه،و غلب على أمره،و كان يدعوه:يا أبت،فتوجّه الإيثار من السلطان إليهم،و عظمت الدالّة منهم،و انبسط الجاه عندهم،و انصرفت نحوهم الوجوه، و خضعت لهم الرقاب،و تخطت إليهم من أقصى التخوم،هدايا الملوك،و تحف الأمراء، و سيّرت إلى خزائنهم،في سبيل التزلّف و الإستمالة،أموال الجباية،و أفاضوا في رجال الشيعة (يريد شيعة بني العبّاس)و عظماء القرابة،العطاء،و طوّقوهم المنن،و كسبوا من بيوتات الأشراف،المعدم،و فكّوا العاني،و مدحوا بما لم يمدح به خليفتهم،و أسنوا لعفاتهم الجوائز و الصلات،و استولوا على القرى و الضياع،حتى آسفوا البطانة،و أحقدوا الخاصة،و أغصّوا أهل الولاية(تاريخ ابن خلدون 13/1 و 14).
و ذكر صاحب الأغاني 303/18:أنّ الرشيد ندم على قتله البرامكة،و ربما بكى عليهم في بعض المجالس.
ص:176
و ذكر ابن خلّكان في وفيات الأعيان 228/6 و 229 نقلا عن الجهشياري:أنّ الرشيد ندم على ما كان منه في أمر البرامكة،و تحسّر على ما فرط منه في أمرهم،و خاطب جماعة من إخوانه،بأنّه لو وثق منهم بصفاء النيّة،لأعادهم إلى حالهم،و كان الرشيد كثيرا ما يقول:حملونا على نصحائنا و كفاتنا،و أوهمونا أنّهم يقومون مقامهم،فلما صرنا إلى ما أرادوا،لم يغنوا عنّا،و أنشد:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
راجع بعض أخبار البرامكة في المحاسن و المساوىء 140/1 و 141 و 151-162 و راجع في العقد الفريد 62/5-65 الحوار الذي جرى بين هارون الرشيد و بين فاطمة بنت محمّد بن الحسن بن قحطبة،أمّ جعفر البرمكي.و هي أمّ الرشيد بالرضاعة،و راجع بشأن الثناء على البرامكة،القصّة 2/1 و 3/1 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي،و راجع كذلك في كتاب الأوراق للصولي أشعار أولاد الخلفاء ص 47 الحوار الذي جرى بين الرشيد و بين أخته عليّة حول مقتل جعفر البرمكي،و راجع في كتاب جواهر الأدب من خزائن العرب ص 418 قصّة عن الفضل و جعفر،رواها محمّد بن عبد الرحمن الهاشمي،صاحب صلاة الكوفة،و راجع الطبري 300/8-302 و الأغاني(ط بولاق)31/20.
ص:177
هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان
بلغني أنّه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب و الظرف،يعاشر النّاس، و تأتيه ألطافهم،فيعيش بها.
ثمّ انقلب الدّهر عليه،فأمسك النّاس عنه،و جفوه حتّى قعد في بيته، و التجأ إلى عياله،فشاركهنّ في فضل مغازلهنّ،و استمرّ ذلك عليه،حتّى نسيه النّاس،و لزمه الفقر.
قال:فبينما أنا ذات ليلة في منزلي،على أسوء حال،إذا وقع حافر دابّة، و رجل يدقّ بابي،فكلّمته من وراء الباب.
فقلت:ما حاجتك؟.
فقال:إنّ أخا لك لا أسمّيه،يقرأ عليك السلام،و يقول لك:إنّي رجل مستتر،و لست آنس بكلّ أحد،فإن رأيت أن تصير إليّ،لنتحدّث ليلتنا.
فقلت في نفسي:لعلّ جدّي أن يكون قد تحرّك؟ثمّ لم أجد لي ما ألبسه، فاشتملت بأزار امرأتي (1)،و خرجت،فقدّم إليّ فرسا مجنوبا كان معه،فركبته.
إلى أن أدخلني إلى فتى من أجلّ النّاس و أجملهم وجها،فقام إليّ،و عانقني، و دعا بطعام فأكلنا،و بشراب فشربنا،و أخذنا في الحديث،فما خضت في شيء إلاّ سبقني إليه.
حتّى إذا صار وقت السحر،قال:إن رأيت أن لا تسألني عن شيء من أمري،و تجعل هذه الزيارة بيني و بينك،إذا أرسلت إليك فعلت،و ها هنا
ص:178
دراهم تقبلها،و لا تردّها،و لا يضيق بعدها عنك شيء،فنهضت،فأخرج إليّ جرابا مملوءا دراهم.
فدخلتني أريحيّة الشراب،فقلت:اخترتني على النّاس للمنادمة،و لسرّك، و آخذ على ذلك أجرا؟لا حاجة لي في المال.
فجهد بي،فلم آخذه،و قدّم إليّ الفرس،فركبته،و عدت إلى منزلي، و عيالي متطلّعون لما أجيء به،فأخبرتهم بخبري.
و أصبحت نادما على فعلي،و قد ورد عليّ و على عيالي،ما لم يكن في حسابنا.
فمكثت حينا،لا يأتي إليّ رسول الرّجل،إلى أن جاءني بعد مدّة،فصرت إليه،فعاودني بمثل ذلك الفعل،فعاودته بالامتناع،و انصرفت مخفقا، فأقبلت امرأتي عليّ باللوم و التوبيخ.
فقلت لها:أنت طالق ثلاثا إن عاودني و لم آخذ ما يعطيني.
فمكثت مدّة أطول من الاوّلة (1)،ثمّ جاءني رسوله،فلمّا أردت الركوب، قالت لي امرأتي:يا ميشوم اذكر يمينك،و بكاء بناتك،و سوء حالك.
فصرت إلى الرّجل،فلمّا أفضينا إلى الشراب،قلت له:إنّي أجد علّة تمنعني منه،و إنّما أردت أن يكون رأيي معي.
فأقبل الرّجل يشرب،و أنا أحادثه،إلى أن انبلج الفجر،فأخرج الجراب، و عاودني،فأخذته،فقبّل رأسي،و شكرني على قبول برّه،و قدّم إليّ الفرس، فانصرفت عليه،حتّى انتهيت إلى منزلي،فألقيت الجراب.
فلمّا رآه عيالي،سجدن للّه شكرا،و فتحناه،فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي،و اشتريت مركوبا،و ثيابا حسنة،و أثاثا،و ضيعة قدّرت أنّ غلّتها تفي بي،و بعيالي بعدي،و استظهرت على زماني ببقيّة الدنانير.
و انثال النّاس عليّ،يظهرون السرور بما تجدّد لي،و ظنّوا أنّي كنت غائبا
ص:179
في انتجاع ملك (1)،فقدمت[191 ظ]مثريا،و انقطع رسل الرّجل عنّي.
فبينما أنا أسير يوما بالقرب من منزلي،فإذا ضوضاء عظيمة (2)،و جماعة مجتمعة.
فقلت:ما هذا؟.
قالوا:رجل من بني فلان،كان يقطع الطريق[141 ر]،فطلبه السلطان،إلى أن عرف خبره هاهنا،فهجم عليه،[156 م]و قد خرج على النّاس بالسّيف،يمنع نفسه.
فقربت من الجمع،و تأمّلت الرّجل،فإذا هو صاحبي بعينه،و هو يقاتل العامّة،و الشرط،و يكشف النّاس،فيبعدون عنه،ثمّ يتكاثرون عليه و يضايقونه.
فنزلت عن فرسي،و أقبلت أقوده،حتّى دنوت منه،و قد انكشف النّاس عنه.
فقلت:بأبي أنت و أمّي،شأنك و الفرس،و النجاة،فاستوى على ظهره، فلم يلحق.
فقبض عليّ الشرط،و أقبلوا عليّ،يلهزوني (3)،و يشتموني،حتّى جاءوا بي إلى عيسى بن موسى،و هو والي الكوفة،و كان بي عارفا.
فقالوا:أيّها الأمير،كدنا أن نأخذ الرّجل،فجاء هذا،فأعطاه فرسا نجا عليه.
فاشتدّ غضب عيسى بن موسى،و كاد أن يوقع بي،و أنا منكر لذلك.
ص:180
فلمّا رأيت المصدوقة،قلت:أيّها الأمير،أدنني إليك،أصدقك.
فاستدناني،فشرحت له ما كان أفضت بي الحال إليه،و ما عاملني به الرّجل،و أنّي كافأته بجميل فعله.
فقال لي سرّا:أحسنت،لا بأس عليك.
ثمّ التفت إلى النّاس فقال:يا حمقى،هذا يتّهم؟إنّما لفظ حافر فرسه حصاة،فقاده ليريحه،فغشيه رجل مستقتل،بسيف ماض،قد نكلتم عنه بأجمعكم،فكيف كان هو يدفعه عن فرسه؟انصرفوا،ثمّ خلّى سبيلي.
فانصرفت إلى منزلي،و قد قضيت ذمام الفتى،و حصلت النعمة بعد الشدّة، و أمنت عواقب الحال،و كان آخر عهدي به (1).
ص:181
جعفر بن سليمان أمير البصرة
يصفح عمّن سرق منه جوهرا
سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي (1)جوهر فاخر بالبصرة،و هو أميرها، فجهد أن يعرف له خبرا،فخفي عليه،فأقلقه ذلك،و غاظه،و جدّ بالشرط [162 ر]و ضربهم،و ألزمهم إظهاره،فجدّوا في الطلب.
فلمّا كان بعد شهور،أتاه بعضهم برجل وجده في ساباط اللؤلؤ،يبيع درّة فاخرة من ذلك الجوهر،قد قبض عليه،و ضربه ضربا عظيما إلى أن أقرّ،فأخبر جعفر بخبره،فأذن بدخوله.
فلمّا رأى الرّجل جعفرا،استغاث به،و بكى،و رقّقه،فرحمه جعفر، و قال:ألم تكن طلبت منّي هذه الدرّة في وقت كذا،فوهبتها لك؟.
فقال:بلى.
فقال للشرط:خلّوا عنه،و اطلبوا اللصّ (2).
ص:182
أخذ الصينية من لا يردّها و رآه من لا ينمّ عليه
و روت الفرس قريبا من هذا،فذكروا أنّ بعض ملوكهم،سخط على حاجب له سخطا شديدا،و ألزمه بيته،و كان فيه كالمحبوس،و قطع عنه أرزاقه و جراياته،فأقام على ذلك سنين،حتّى تهتكّ،و لم تبق له حال.
ثمّ بلغه أنّ الملك قد أتّخذ سماطا عظيما،يحضره النّاس في غد يومه ذلك،فراسل أصدقاءه،و أعلمهم أنّ له حقا (1)يحضره لبعض ولده،و استعار منهم دابّة بسرجه و لجامه،و غلاما يسعى بين يديه،و خلعة يلبسها،و سيفا، و منطقة،فأعير ذلك،فلبسه،و ركب الدابّة،و خرج من منزله،إلى أن جاء إلى دار الملك.
فلمّا رآه البوّابون لم يشكّوا في أنّه ما أقدم على ذلك إلاّ بأمر الملك،و تذمّموا لقديم رئاسته عليهم،فأشفقوا من عودها أن يحجبوه إلى أن يستثبتوا.
و دخل هو مظهرا القوّة بأمر نفسه،و لم تزل تلك حاله،مع طائفة،حتّى وصل إلى الملك،و قد أكل،و هو جالس يشرف.
فلمّا رآه الملك قطّب،و أنكر حضوره،و همّ بأن يأمر به،و بالحجّاب، و البوّابين،فكره أن ينغصّ يوما قد أفرده بالسرور على نفسه.
و أقبل الرّجل يخدم،فيما كان يخدم فيه قديما،فازدادت الحال تمويها على الحجّاب و الحاشية،إلى أن كاد المجلس ينصرم،و غفل أكثر من كان [192 ظ]حاضرا عنه.
فتقدّم إلى صينيّة ذهب زنتها ألف مثقال،مملؤة مسكا،فأخذها بخفّة،
ص:183
و جعل المسك في كمّه،و الصينيّة[157 م]في خفّه،و الملك يراه.
و خرج،و عاد إلى منزله،و ردّ العواري إلى أهلها،و باع المسك،و كسر الصينية،و جعلها دنانير،و اتّسع بها حاله.
و أفاق الملك-من غد-من سكره،و سمع من يخدم في الشراب يطلب الصينيّة،و قهرمان الدار يضرب قوما في طلبها،فذكر حديث الحاجب، و علم أنّه ما حمل نفسه على الغرر الشديد في ذلك،إلاّ من وراء شدّة و ضرّ.
فقال لقهرمانه:لا تطلب الصينيّة،فما لأحد في ضياعها ذنب،فقد أخذها من لا يردّها،و رآه من لا ينمّ عليه.
فلمّا كان بعد سنة،عاد ذلك الحاجب،إلى شدّة الإضاقة،بنفاد الدنانير، و بلغه خبر سماط يكون عند الملك،في غد يومه،فاحتال بحيلة أخرى، حتى دخل إلى حضرة الملك،و هو يشرب.
فلمّا رآه الملك،قال:يا فلان،نفذت تلك الدنانير؟.
فقبّل الارض بين يديه،و بكى،و مرّغ خدّيه،و قال:أيّها الملك، قد احتلت مرّتين،على أن تقتلني فأستريح ممّا أنا فيه،من عظم الضرّ الّذي أعانيه،أو تعفو عنّي كما يليق بك،و تذكر خدمتي (1)،فأعيش في ظلّك، و ليست لي بعد هذا اليوم حيلة.
فرقّ له الملك،و عفا عنه،و أمر برد أرزاقه عليه و نعمته،و ردّه إلى حالته الأولى في خدمته (2).
ص:184
سفتجة بثلاث صفعات
يفتديها المحال عليه بخمسمائة و خمسين دينارا
بلغني عن رجل من أهل ديار ربيعة،كانت له حال صالحة (1)،فزالت، قال:فلزمتني المحنة و الإضافة،مدّة طويلة،فتحيّرت،و لم أدر ما أعمل.
و كان أمير الناحية إذ ذاك،العبّاس بن عمرو الغنوي (2)،و كانت بيني و بين كاتبه معرفة قديمة،فأشير عليّ بأن ألقاه،و آخذ كتابا عن العبّاس إلى بعض[163 ر]أصدقائه من أمراء النواحي و أخرج إليه،فلعلّى أتصرّف معه، و أعود من جهته بفائدة أجعلها أصل معيشة.
فلقيت الكاتب،فقال لي:صر في غد إلى دار الأمير،حتّى أكتب لك.
فمضيت إليه،فكتب لي عنه كتابا مؤكّدا إلى بعض أمراء الأطراف من أصدقاء العبّاس،فخرجت أريد منزلي.
ص:185
فلمّا صرت في بعض الممرّات و أنا رجل طويل مبدّن (1)،و كنت قد حلقت رأسي،و عليه منديل خفيف،قد أطارته الرّيح،فانكشف،و لعلّة انشغال قلبي بأمري لم أردّ المنديل.
و إذا بصفعة قد جاءت،كادت تكبّني على وجهي،و توالت بعدها اثنتان.
فالتفتّ،فإذا العبّاس بن عمرو،و قد خرج إلى موضع من مواضع الدّار، و كان مشتهرا بالمصافعة (2)،مكاشفا بها،هو،و جماعة من قوّاد المعتضد، أصدقاء،أخلاّء،يستعملون ذلك،و يكاشفون به.
فقبضت على يده،و قلت:ما هذا أيّها الامير؟ما أفارقك،أو تعطيني شيئا أنتفع به عوضا عن هذا الفعل.
فدافعني،و أنا متشبّث به،و سقط الكتاب من كمّي،فقال:ما هذا الكتاب.
قلت:كتاب،كتب لي عنك إلى فلان،لأخرج إليه،فلعلّي أتصرّف معه،أو يبرّني بشيء.
فقال:هو ذا،أكتب لك عليه سفتجة بالصفع،فإنّه يفتديها منك بما تنتفع به.
و استدعى دواة،و كتب لي إلى الرجل سفتجة (3)،كما يكتب التّجار، بثلاث مكتوبات،كناية عن ثلاث صفعات.
فأخذت الكتاب،و انصرفت متعجّبا ممّا جرى عليّ،و من حرفتي في
ص:186
أنّ العبّاس لم يسمح لي بشيء،مع جوده،و تحمّلت،و خرجت إلى ذلك البلد، فأوصلت الكتاب الّذي كتبه لي الكاتب عنه.
فردّني ذلك الأمير أقبح ردّ،و آيسني،و قال:قد بلينا بهؤلاء الشحّاذين، يجيئونا في كلّ يوم بكتب لا تساوي مدادها،و يقطعونا عن أشغالنا،انصرف، فمالك عندي تصرّف،و لا برّ.
فورد عليّ ما لم أر مثله،و ما هالني و قطع بي،و كنت قد سافرت إليه، و قطعت[193 ظ]شقّة بعيدة،فانصرفت أسوء النّاس حالا.
و فكّرت ليلتي،فقلت:ليس إلاّ[158 م]العود إليه،و مداراته، فلعلّ أن يعطيني قدر نفقة الطريق،فأتحمّل بها.
فعدت إليه،و خاطبته بكلّ رفق و خضوع و سؤال و هو يخشن عليّ،و يؤيسني، إلى أن قال لحاجبه:أخرجه عنّي،و لا تدعه بعدها يدخل إليّ.
فورد عليّ أعظم من الأوّل،و خرجت أخزى خروج،و أقمت ايّاما لا أعود إليه،و لا أدري ما أصنع،إلاّ أنّ بقّالا في المحلّة الّتي نزلتها يعطيني خبزا و إداما بنسيئة.
فجلست إليه يوما و أنا متحيّر،و الغمّ بيّن عليّ،فسمعت قائلا يقول:
إنّ الامير قد جلس للمظالم،جلوسا ارتفع عنه الحجاب فيه،ففكّرت كيف أعمل؟.
و ذكرت الكتاب بالسفتجة،فقلت:أمشي و أجعلها نادرة كالظلامة، فإن أعطاني شيئا،و إلاّ فضحته بين رعيّته،و انصرفت.
فأخذت السفتجة،و جئت،فلم أصادف بالباب من يمنعني،فدخلت إليه.
فحين رآني اغتاظ عليّ،و قال لحاجبه:ألم آمرك أن لا تدخل هذا اليّ.
فقال:كان الإذن عاما،و لم يميّز.
فأقبل الأمير عليّ،فقال:ألم أقل لك،و أؤيسك منّي؟فما هذه الملازمة،
ص:187
كأنّ لك عليّ دينا أو سفتجة؟.
فقلت:نعم،لي على الأمير-أعزّه اللّه-سفتجة.
فازداد غيظه،و قال كالمتعجّب:سفتجة،سفتجة؟.
فأخرجتها،فدفعتها إليه،فلمّا قرأها عرف الخطّ و الخطاب،فنكس رأسه ساعة،خجلا،ثمّ قال لكاتب كان بين يديه،شيئا لا أعلمه.
فجذبني الكاتب،و قال:إنّ الأمير قد تذمّم ممّا عاملك به،و أمرني بدفع مائة دينار إليك،فقم معي لتأخذها.
فقلت:ما قصدت الأمير ليبرّني،أنا رجل أوصلت إليه سفتجة بمال، فإمّا قبلها[164 ر]فأعطانيه،فما أريد غيره،و لا أستزيد عليه،و لا أنقص منه شيئا،و إمّا كتب لي على السفتجة:راجعة (1)،فأخذتها،و انصرفت.
فسارّه الكاتب بما قلت،و قوي طمعي في الصنع،فالتفت إليّ الكاتب، و قال:قد جعلها لك الأمير مائتي دينار،فانهض لتأخذها.
فقلت،لمن يقول هذا:ما عندي غير ما سمعت،و لان الأمير،و تشدّدت، و لم يزل الكاتب يتوسّط بيننا،إلى أن بذل خمسمائة دينار.
فقلت:على شرط أنّي لا أبرح من هذا المجلس حتّى أقبضها و أسلّمها إلى يد تاجر،و آخذ منه سفتجة بها،و يدفع إليّ نفقة تكفيني إلى أن أعرف صحّة السفتجة،ثمّ أتحمّل بباقي ذلك.
فأجبت إلى ذلك،و أحضر التاجر،و المال،و أخذت منه سفتجة، و دفعوا لي خمسين دينارا للنفقة،و أقمت مدّة،إلى أن عرفت خبر صحّة السفتجة،و تحمّلت ببقيّة النفقة إلى بلدي.
و حصل لي المال،فجعلته بضاعة في متجر،صلحت به حالي،إلى الآن (2).
ص:188
الصفع:ضرب القفا بالكفّ مبسوطة،و المصافعة:تبادل الصفعات،و الصفعان:
الذي يصفع كثيرا.
و الأصل في الصفع أن يكون للعقوبة و التأديب.كأن يأمر القاضي بصفع من أخلّ بالحرمة الواجبة نحو مجلس الحكم(القصص 10/2 و 178/6 من نشوار المحاضرة للتنوخي).
و قد يصفع المتشدّق المتقعّر في كلامه(الامتاع و المؤانسة 52/2).
و قد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع رجل ادّعى النبوة(صلة الطبري 26).
و صفع بعض العامّة في البصرة،القاضي أبا خليفة و صحبه،لما حسبوهم يقرأون القرآن بلغة الدجاج(مروج الذهب 501/2).
و صفع أبو محمّد المافروخي الفأفاء،عامل البصرة،ابن أحد خلفائه،لما فأفأ له، حاسبا أنّه يحاكيه(نشوار المحاضرة،رقم القصّة 14/4).
و قد يجري الصفع لإجبار المكلّف على أداء الضريبة المتحقّقة عليه(القصّة 184 من هذا الكتاب)أو لإجبار العامل المصروف على سداد ما بذمّته من الأموال الأميريّة(القصّة 21/8 من كتاب نشوار المحاضرة)أو لإجبار من صودر على أداء ما صودر عليه(القصّة 35/1 و 122/3 من كتاب نشوار المحاضرة،و الكامل لابن الأثير 142/8،و تجارب الأمم 110/1 و صلة الطبري 39)،أو لاستخراج الودائع(تجارب الأمم 65/1)أو لتقرير مبلغ المصادرة(تجارب الأمم 65/1)أو لإجبار المصفوع على ترك عناده(القصّة 261 من هذا الكتاب،و القصّة 54/3 من نشوار المحاضرة).
و قد يرد الصفع عقابا للمدعي الذي عجز عن القيام بما ادّعى،كما حصل لابن المغازلي الذي شرط على نفسه إن لم يضحك المعتضد،أن يصفع عشر صفعات،و عجز عن إضحاكه (مروج الذهب 510/2 و 511).
و لما أراد المكتفي الخروج لقتال القرامطة،منعه المنجّم أبو الحسن العاصمي،بحجّة أنّ طالعه يدلّ على أنّ خروجه هذا،يؤدّي إلى زوال دولته،و خرج المكتفي،و استأصل القرامطة،و عاد مظفّرا سالما،فأمر بالعاصمي فأحضر،و صفع صفعا عظيما(الفلاكة و المفلوكون 37).
ص:189
و قد يحصل الصفع للإهانة و الايذاء،فقد ذكر أنّ المتوكّل غضب على عمر بن فرج الرخجي،أحد كبار العمّال في الدولة،فأمر بأن يصفع في كلّ يوم،فأحصي ما صفع، فكان ستة آلاف صفعة(مروج الذهب 403/2)،و غضب المتوكّل على ولده المنتصر، ولي عهده،فأمر بأن يصفع في مجلسه(تجارب الأمم 555/6 و الكامل لابن الأثير 97/7)، و لزيادة التفصيل راجع تاريخ الطبري 175/9،و صلة تاريخ الطبري ص 52 و 58 و 86 و التكملة 37 و 41،و تجارب الأمم 103/1 و 371 و القصّة 119/1 و 7/4 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي،و القصّة 250 و 304 من هذا الكتاب،و المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 29 و الوزراء للصابي 46 و 264 و وفيات الأعيان 159/4 و 58/6 و حكاية أبي القاسم البغدادي 138 و مرآة الجنان لليافعى 18/4).
و قد يقع الصفع على المقامر إذا قمر،كما وقع لأمير البصرة إسحاق بن العبّاس بن محمّد العباسي،لما قمر،فتحقّق عليه حسب الشرط أن يصفع عشر صفعات،فأحالها هذا على صاحب شرطته،و طلب هذا أن يكون الصفع،صفع المداعبة و الإخوان،لا صفع العقوبة و السلطان(الهفوات النادرة 231).
و أغرب ما أثر عن الصفع،وروده لإيقاع الحجة على الخصم في المناظرة(معجم الأدباء 237/5).
و الذي يتضّح من هذه القصّة،و من غيرها من القصص،أنّ المصافعة،كان لها من يستحسنها،و يستطيبها،و يتملّح بذكر فوائدها(البصائر و الذخائر 180/4)،و كان لها سوق رائجة.
و كان العبّاس بن عمرو الغنوي،و هو أحد كبار القوّاد و الولاة العباسيين،من المستهترين بالمصافعة،المكاشفين بها،هو و جماعة من قوّاد المعتضد،أصدقاء،أخلاّء،يستعملون ذلك،و يكاشفون به،و أنّ المصافعة تجري بينهم للمطايبة،(القصّة 116 من هذا الكتاب، و القصّة 119/8 من نشوار المحاضرة)و أنّها تقع على سبيل المباسطة(القصّة 51/1 و 166 من نشوار المحاضرة،و معجم دوزي لأسماء الألبسة 271).
و كان زيادة اللّه بن الأغلب،أمير أفريقية(172-223)قد اتّخذ ندامى يتصافعون في حضوره(فوات الوفيات 34/2 و 35).
و كان القاضي محمّد بن الخصيب،قاضي مصر(ت 348)،و هو ممدوح المتنّبي، ممن يمازح في المصافعة(أخبار القضاة للكندي 579 و 580).
ص:190
و كان للصفاعنة أرزاق في الدولة،و لما وزر أبو الحسن علي بن عيسى في السنة 314 كان من جملة ما صنعه أن أسقط أرزاق الصفاعنة(الكامل لابن الأثير 165/8).
و سئل القاضي ابن قريعة،عن حدّ القفا،فقال للسائل:هو ما اشتمل عليه جرّبانك، و شرطك فيه حجّامك،و داعبك فيه إخوانك،و باسطك فيه غلمانك،و أدّبك فيه سلطانك (اليتيمة 238/2 و تاريخ بغداد للخطيب 320/2).
و داعب ابن المرزبان،أبا العيناء،فقال له:لم لبست جبّاعة؟فقال:و ما الجبّاعة؟ قال:التي بين الجبّة و الدرّاعة،فقال:و لم أنت صفديم؟قال:و ما صفديم؟قال:
الذي هو بين الصفعان و النديم(الملح للحصري 183).
و كان حذّاء ماجن بباب الطاق(اسمها الآن الصرافيّة)يسمّي النعال،بأسماء من جنس الصفعة،فنعل راسكية،و نعل صعلكية،و نعل قفوية(القصّة 98/2 من نشوار المحاضرة).
و أفرد ابن النديم في الفهرست ص 157 بحثا في أخبار الصفادمة و الصفاعنة،كما ذكر أنّ الكتنجي ألّف كتابا سماه:كتاب الصفاعنة(الفهرست 170).
و الأصل في الصفع أن يحصل،بالكفّ على القفا،و ربما حصل بجراب فارغ أو محشوّ(مروج الذهب 509/2-511)،و قد يحصل بالنعال(وفيات الأعيان 455/4)، أو بقشور القرع(اليتيمة 340/2)،أو بقشور البطيخ الأحمر المسمّى في بغداد بالرقّي، نسبة إلى الرّقة(راجع سبب هذه التسمية في حاشية القصّة 268 من هذا الكتاب)،و لا يوجد الآن ببغداد من يمارس هذا اللون من المباسطة السمجة،و قد أدركت بعض باعة الرقّي الأحداث كانوا يتصافعون بقشور الرقّي المقّ(فصيحة،و البغداديون يلفظون قافها كافا فارسيّة).
و ممن أحسن في الإشارة إلى المصافعة،ابن الحلاوي الموصلي(ت 656)قال:[الوافي بالوفيات 108/8].
فطبّ طرطبّ فوق راسي و طاق طرطاق في قذالي
و قال الشاعر الأندلسي،أبو عبد اللّه بن الأزرق:[نفح الطيب 229/3] أفدي صديقا كان لي بنفسه يسعدني
فربّما أصفعه و ربّما يصفعني
طقطق طق طقطق طق أصخ بسمع الأذن
ص:191
و لأبن الحجّاج شعر كثير في المصافعة،أورد بعضه صاحب اليتيمة 86/3-88، و للأحنف العكبري في المصافعة(اليتيمة 704/3)؛
لقد بتّ بماخور على دفّ و طنبور
و صوت الطبل كردم طع و صوت الناي طلّير
فصرنا من حمى البيت كأنّا وسط تنّور
و صرنا من أذى الصفع كمثل العمي و العور
و ممّن أحسن في وصف الصفع،جمال الدين بن شيث،المتوفي سنة 625 و قد أورد له صاحب فوات الوفيات 313/2 أبياتا،اخترت منها هذين البيتين:
و تخالفت بيض الأكفّ كأنّها ال تصفيق عند مجامع الأعراس
و تطابقت سود الخفاف كأنّها وقع المطارق في يد النحّاس
و لأبي الرقعمق،أبي حامد أحمد بن محمّد الانطاكي،مقطوعات في المصافعة، راجعها في يتيمة الدهر للثعالبي 334/1-340.
و لزيادة التفصيل،راجع كتاب الغيث المسجم للصفدي 203/1-205 و كتاب محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 699/2 و 700.
ص:192
السبب في خلع المقتدر
الخلع الثاني،و عودته إلى الحكم
ذكر أصحاب التواريخ،و مصنّفو الكتب،و أبو الحسن علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوّق (1)،على ما أخبرني به[أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي عنه] (2)في كتابه«مناقب الوزراء و محاسن أخبارهم»،و ما شاهده أحمد بن يوسف (3)من ذلك،و جماعة حدّثوني به،ممّن شاهد الحال،منهم أيّوب بن العبّاس بن الحسن (4)،و عليّ (5)،و القاسم،ابنا هشام بن عبد اللّه الكاتب (6)، و أبو الحسين بن عياش الخرزي (7)،خليفة أبي رحمه اللّه على الحكم بسوق الأهواز،و من لا أحصي من شيوخنا كثرة،بالسبب في خلع المقتدر عن الخلافة،الخلع الثاني،بعبارات مختلفة،معنى جميعها أنّ الجيش كلّه، الفرسان،و الرّجالة،شغبوا يطلبون الزيادات،و يتبسّطون في التماس المحالات، و ملّوا أيّام المقتدر و بغوا عليه بأشياء (8).
ص:193
و اتّفق أنّ سائسا لهارون بن غريب الخال (1)،علق بغلام[159 م]في الطريق،للفساد،فرفع إلى أبي الجود (2)،خليفة عجيب (3)،غلام نازوك (4)، على مجلس الجسر بالجانب الغربي (5)،فجاء غلمان هارون يخلّصونه و مانعوهم، إلى أن لحقه بعض أصحاب نازوك[194 ظ]فصارت بينهم حرب،و انتهت
ص:194
الحال إلى قصص يطول شرحها.
إلى أن أطبق الجيش بأسرهم على خلع المقتدر،فزحفوا إلى داره،بمواطأة من مؤنس المظفّر (1)،فقبضوا عليه،و حملوه إلى دار مؤنس (2)،في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة سبع عشرة و ثلاثمائة،فحبس فيها، و خلع نفسه،و أشهد عليه بالخلع.
و كان رأس الفتنة،و القائم بها،عبد اللّه بن حمدان،أبو الهيجاء (3)، و نازوك المعتضدي،على مساعدة لهما من مؤنس،و إطباق من الجيش كلّهم، و جاءوا بأبي منصور محمّد بن المعتضد باللّه (4)،فأجلسوه في دار الخلافة، و سلّموا عليه بها،و لقّبوه القاهر باللّه،فقلّد نازوك الحجبة،مضافا إلى ما كان إليه من الشرطة،و جعله صاحب داره.
فلمّا كان في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت منه،بكّر النّاس إلى دار الخليفة للبيعة،و جاءت إلى فناء الدار،ممّا يلي دجلة،جماعة من الرّجالة، يطالبون بمال البيعة و الزيادة.
فجاء نازوك و أشرف عليهم من الرواق،و معه خادم من رؤوس غلمانه يقال له عجيب،فقال لهم:ما تريدون؟نعطيكم ثلاث نوائب.فقالوا:
لا،إلاّ أرزاق سنة،و زيادة دينار،و زادوا في القول.
فقال لهم:يصعد إليّ منكم جماعة،أفهم عنهم،و أكلّمهم،فصعد إليه جماعة منهم،من باب الخاصّة،و تسلّق إلى الرواق جماعة منهم كبيرة، و ثاروا على غير مواطأة،و لا رأي متقرّر.
ص:195
فقال لهم نازوك:اخرجوا إلى مجلس الإعطاء،حتّى نخرج المال إلى الكتّاب،فيقبضونكم.
فقالوا:لا نقبض إلاّ هاهنا،و هجموا على التسعيني (1)،يبوّقون (2)، و يشتمون نازوك.
فمضى نازوك من بين أيديهم،يريد الممرّ في الطريق الّذي ينفذ إلى دجلة، و كان قد سدّ آخره[165 ر]بالأمس،إحتياطا لحفظ من في الدار،و تحرّزا من هربهم،فلمّا رآه مسدودا رجع،فاستقبله جماعة من الرجّالة يطلبونه.
فوثب عليه رجل أصفر منهم،فضربه بكلاّب(20)،و ثنّاه آخر يكون في مطبخ أمّ المقتدر،و له رزق في الرجّالة،يقال له:سعيد،و يلقّب:ضفدعا، فقتلوه،و قتلوا عجيبا،و قالوا:لا نريد إلاّ خليفتنا جعفر المقتدر،و قتل الخدم في الدّار أبا الهيجاء،و اختبأ القاهر في بعض الحجر،عند بعض الخدم.
و أقبلوا برأس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرأس،إلى دار مؤنس،و هم يقولون:مقتدر،يا منصور.
فطالبوا مؤنسا بالمقتدر،فخافهم على نفسه،فأخرجه إليهم،و المقتدر يستعفي من الخروج،و يظهر الزهد في الخلافة،و يظنّ أنّ ما سمعه حيلة على قتله.
إلى أن سمع صياح النّاس:مقتدر،يا منصور،و أعلم بقتل نازوك و أبي الهيجاء،فسكن.
و قعد في طيّاره،و انحدر إلى داره،و الرجّالة يعدون على الشط بأزائه، إلى أن خرج من الطيّار،فالتحقوا به يقبّلون يديه و رجليه،حتّى دخل داره.
و أحضر جماعة من الهاشميين و غيرهم،فبايعوه بيعة ثانية،و ظهر ابن
ص:196
مقلة وزيره،و كان مستترا تلك الأيّام،فأقرّه على الوزارة (1)،و دبّر أمره،و زال عنه ما كان فيه من المحنة و النكبة،و لم ير خليفة أزيل عن سريره،و أخرج من دار ملكه،و أجلس آخر في موضعه،و لقّب لقبا من ألقاب الخلفاء[166 ر]، و تسمّى بأمير المؤمنين،و أجمع على بيعته أهل المملكة و الجيش كلّه،و على خلع الأوّل و حبسه[160 م]،ثمّ رجع إلى أمره،و نهيه،و ملكه،و داره، في مدّة خمسة أيّام،بلا سبب ممهّد،و لا مواطأة لأحد،و لا مشاورة، و لا مراسلة،إلاّ ما اتّفق في أمر المقتدر،و أخيه القاهر (2).
ص:197
خلع الأمين و عودته إلى الحكم
قال مؤلّف هذا الكتاب:و على أنّه قد كان جرى على[195 ظ]محمّد الأمين (1)قريب من هذا،لما قبض عليه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان (2)، و خلعه،و حبسه (3)،و عزم على أن ينفذه إلى المأمون،ثمّ أنّ الجيش طالبوه بأرزاقهم،فلم يكن معه،ما يعجّله لهم،فوعدهم،فشغبوا،و لم يرضوا بالوعد،و استخرجوا الأمين من حبسه،فبايعوه ثانيا،و ردّوه،و هرب الحسين بن علي،و زالت عن الأمين تلك الشدّة،و القصّة في ذلك مشهورة،رواها أصحاب التواريخ،بما يطول اقتصاصه هنا،إلاّ أنّه لم يجلس على سريره خليفة آخر (4).
ص:198
كيف خلع المقتدر الخلع الأول
قال القاضي أبو علي المحسّن بن القاضي أبي القاسم علي بن محمّد التنوخي رحمه اللّه تعالى:
و قد جرت على المقتدر باللّه شدّة أخرى،و فرّج اللّه عنه،[في قصّة]تشبه قصّة الأمين،سواء بسواء،لما أجمع جميع القوّاد و الحاشية،على أن قتلوا العبّاس بن الحسن،الوزير،و خلعوا[2 ن]المقتدر من الخلافة،الخلع الأوّل،و بايعوا ابن المعتزّ،و أحضروه من داره (1)إلى دار سليمان بن وهب، المرسومة-إذ ذاك-بالوزراء (2)،و جلس يأخذ البيعة على القضاة،و الأشراف، و الكافّة،و يدبّر الأمور،و وزيره محمّد بن داود،ابن الجرّاح (3)،يكاتب أهل الأطراف،و العمّال،و الأكناف،بخبر تقلّدهما،و قد تلقّب بالمنتصر باللّه (4)، و خوطب بالخلافة،و أمره في نهاية القوّة،و هو على أن يسير إلى دار الخلافة، فيجلس بها،و يقبض على المقتدر،إلاّ أنّه أخّر ذلك،لتتكامل البيعة،و تنفذ الكتب،و يسير من غد.
و كان سوسن حاجب المقتدر (5)،و المتولّي لأمور داره،و الغلمان المرسومين بحمايتها،ممّن وافق ابن المعتز،و دخل مع القوّاد فيما دخلوا فيه،و شرط
ص:199
عليه،أن يقرّ على ما إليه،و يزاد شرطة بغداد.
فلمّا جلس ابن المعتزّ في اليوم الأوّل،كان المتولّي لإيصال النّاس إليه، و الخادم بحضرته فيما يخدم فيه الحاجب،أحد الخدم غيره.
فبلغ ذلك سوسنا،فشقّ عليه،و توهّم أنّ ذلك غدر به،و رجوع عمّا شرط،و و وقف عليه،فدعا الخدم،و غلمان الدار،إلى نصرة المقتدر، فأجابوه،فأغلق الأبواب،و أخذ أهبة الحرب.
و أصبح ابن المعتز،في اليوم الثاني من بيعته،و هو يوم الأحد لسبع (1)بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ و تسعين و مائتين،عامدا على المسير إلى الدار، فثبّطه محمّد بن داود،و عرّفه رجوع رأي سوسن،عمّا كان وافق عليه.
و صغّر القوّاد ذلك في نفسه،فلم يتشاغل بتلافيه،و أشاروا عليه بالركوب إلى دار الخلافة،و هم لا يشكّون في تمام الأمر،فركب و هم معه.
و انقلبت العامّة مع المقتدر،و رموا ابن المعتز بالستر (2)،و حاربوه مع شرذمة أنفذهم سوسن لحربه ممّن أطاعه على نصرة المقتدر.
و لمّا شاهد ابن المعتز الصورة،انهزم،و هرب،و انحلّ ذلك الأمر العظيم كلّه،و تفرّق القوّاد،و سار بعضهم خارجا عن بغداد،و روسل باقيهم عن المقتدر،بالتلافي،فسكنوا،و عادوا إلى طاعته[161 م].
و طلب ابن المعتزّ،فوجد (3)،و جيء به إلى دار الخلافة،فحبس فيها، ثمّ قتل،و كانت مدّته منذ ظهر يوم السبت،إلى قريب من الظهر من يوم الأحد.
ص:200
و عاد الأمر مستقيما للمقتدر باللّه،و انفرجت له تلك الشدّة،عن ثبات الملك له.
و قد شرح هذا أصحاب التواريخ،بما لا وجه لإعادته هاهنا (1).
ص:201
بعث الفضل بن سهل
خدا بود لقتال خارجي فجاء برأسه
و ذكر عبد اللّه بن بشر،قرابة الفضل بن سهل (1)،قال:
كان الفضل إذا دخل مدينة السلام،من السيب-موضع قرية (2)-لحوائجه، و هو-إذ ذاك-صغير الحال،نزل على فاميّ بها (3)،يقال له:خدا بود (4)، فيخدمه هو و أهل بيته،و يقضي حوائجه إلى أن يعود.
و تقضّت الأيّام،و بلغ الفضل مع المأمون ما بلغ،بخراسان،و قضي أنّ الفاميّ ألحّ عليه الزمان[161 غ]بنكبات متّصلة،حتّى افتقر،فنهض إلى الفضل[بن سهل.
و قدم مرو،فبدأ بي،فسررت به،و أكرمته،و أصلحت من شأنه ما يجب أن يصلح لدخوله على الفضل،و قمت فدخلت إلى الفضل] (5)و قد جلس على مائدته.
فقلت له:أتذكر الشيخ الفاميّ،الّذي كنّا ننزل عليه ببغداد؟.
فقال لي:سبحان اللّه،تقول لي تذكره،و له علينا من الحقوق ما قد
ص:202
علمت؟فكيف ذكرته؟أظنّ إنسانا أخبرك بموته.
فقلت:هو ذا في منزلي.
فاستطير فرحا،و قال:هاته السّاعة،ثمّ رفع يده،و قال:لا آكل أو يجيء.
فقمت،و جئت به،فحين قرب منه،تطاول له (1)،و أجلسه بين يديه، فيما بيني و بينه،و أقبل عليه،و قال:يا هذا،ما حبسك عنّا طول هذه المدّة؟.
فقال:محن عاقتني،و نكبات أصابتني.
فاقبل يسائله عن واحدة واحدة من بناته و أهله.
فقال له:لم يبق لي بعدك ولد،و لا أهل،و لا مال إلاّ تلف،و ما تحمّلت إليك،إلاّ من قرض و مسألة،فكاد الفضل يبكي.
فلمّا استتمّ غداءه،أمر له بثياب فاخرة،و مركوب،و مال لنفقته، و أن يدفع إليه منزل،و أثاث،و اعتذر إليه،و وعده النظر في أمره.
فلمّا كان من غد،حضر عنده و كلاء تجّار بغداد،و كانوا قد قدموا عليه،يبتغون بيع غلاّت السواد منه،و أعطوه عطايا لم يجب إليها.
فأحضرني،و قال:قد علمت ما دار بيني و بين هؤلاء،فاخرج إليهم، و أعلمهم أنّي قد أنفذت البيع لهم،بما التمسوا،على أن يجعلوا لخدابود معهم الربع.
ففعلت ذلك،و أجاب التجّار،و فرحوا بما تسهّل لهم.
ثمّ قال لخدابود:إنّهم سيهوّلون عليك بكثرة المؤن،و يبذلون لك مائة ألف درهم على أن تخرج من الشركة،فاحذر أن تفعل،و لا تخرج باقلّ من خمسين ألف دينار.
ثمّ قال:اخرج معه،و توسّط فيما بينهم و بينه[167 ر]،ففعلت ذلك،
ص:203
و لم أقنع حتّى قدّم التجّار لخدابود خمسين ألف دينار،و دخل،فعرّف الفضل ما جرى،و شكره،و أقام معنا مدّة.
ثمّ دخل إليه يوما،و الفضل مغموم مفكّر،فقال له:أيّها الأمير ما الّذي قد بلغ بك إلى ما أرى من الفكر و الغمّ؟
قال:أمر لا أحسب لك فيه عملا يا خدا بود.
قال:فأخبرني به،فإن كان عندي فيه ما يفرّجه عنك،و إلاّ ففي الشكوى راحة.
فقال له الفضل:إنّ خارجيّا قد خرج علينا ببعض كور خراسان،و نحن على إضاقة من المال،و أكثر عساكرنا قد جرّدوا إلى بغداد،و الخارجيّ يقوى في كلّ يوم[162 م]و أنا مرتبك في هذا الأمر.
فقال:أيّها الأمير،ما ظننت الأمر،إلاّ أصعب من هذا،و ما هذا حتّى تفكّر فيه؟أنت قد فتحت العراق،و قتلت المخلوع،و أزلت مثل تلك الدولة،و تهتمّ بهذا اللصّ الّذي لا مادّة له؟أنفذني إليه أيّها الأمير،فإن أتيتك به،أو برأسه،بإقبالك،فهو الذي تريد،و إن قتلت،لم تنثلم الدولة بفقدي،على أنّي أعلم أنّ بختك (1)لا يخطئ في هذا المقدار اليسير.
قال:ففكّر[162 غ]الفضل ساعة،ثمّ التفت إليّ،فقال:لعلّ اللّه يريد أن يعرّفنا قدرته بخدابود.
ثمّ لفقّ رجالا،و احتال مالا،ففرّقه عليهم،و خلع على خدا بود،و قلّده حرب الخارجيّ،و البلد الّذي هو فيه.
فسار خدا بود بالعسكر،[3 ن]فلمّا شارف عسكر الخارجيّ،جمع وجوه عسكره و قال لهم:إنّي لست من أهل الحرب،و أعوّل على نصرة اللّه تعالى لخليفته على العباد،و على إقبال الأمير،و ليس هذا الخارجيّ من أهل
ص:204
المدد،و إنّما هو لصّ لا شوكة له،فاعملوا عمل واثق بالظفر،و لا تقنعوا بدون الوصول إليه،و لكم إن جئتم به،أو برأسه،كذا و كذا.
قال:فحملوا،و حقّقوا،فانجلت الحرب عن الخارجيّ قتيلا،فاحتزّ رأسه.
و كتب خدا بود إلى الفضل:لست ممّن يحسن كتب الفتوح،و لا غيرها، و لكنّ اللّه جلّت عظمته قد أظفرنا بالخارجيّ،و حصل رأسه معي،و تفرّق أصحابه،و أنا أستخلف على الناحية،و أسير برأسه.
قال:و تلا الكتاب مجيء خدا بود بالرأس،فعجبنا ممّا تمّ له،و علت حاله مع الفضل (1).
ص:205
موت زياد يفرّج عن ابن أبي ليلى
و ذكر أبو الحسن المدائني،في كتابه«كتاب الفرج بعد الشدّة و الضيقة» [عن محمّد بن الحجاج] (1)،عن عبد الملك بن عمير (2)،قال:
كتب معاوية (3)،إلى زياد (4):إنّه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر ابن عديّ (5)،فابعث لي رجلا من أهل المصر (6)،له فضل،و دين،و علم، فدعا عبد الرّحمن بن أبي ليلى (7)،فقال له:إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ يأمرني أن أوجّه إليه رجلا من أهل المصر،له دين و فضل و علم،ليسأله عن حجر بن عديّ،فكنت عندي ذلك الرّجل،فإيّاك أن تقبّح له رأيه في حجر،فأقتلك،
ص:206
و أمر له بألفي درهم،و كساه حلّتين،و حمله على راحلتين.
قال عبد الرّحمن:فسرت،و ما في الأرض خطوة،أشدّ عليّ،من خطوة تدنيني إلى معاوية.
فقدمت بابه،فاستأذنت،فأذن لي،فدخلت،فسألني عن سفري، و من خلّفت من أهل المصر،و عن خبر العامّة و الخاصّة.
ثمّ قال لي:انطلق فضع ثياب سفرك،و البس الثياب الّتي لحضرك،و عد.
فانصرفت إلى منزلي،ثمّ رجعت إليه،فذكر حجرا،ثمّ قال:أما و اللّه، لقد تلجلج في صدري منه شيء،و وددت أنّي لم أكن قتلته.
قلت:و أنا و اللّه يا معاوية،وددت أنّك لم تقتله،فبكى.
فقلت:و اللّه،لوددت أنّك حبسته.
فقال لي:وددت أنّي كنت فرّقتهم في كور الشام،فتكفينيهم الطواعين.
قلت:وددت ذلك.
فقال لي:كم أعطاك زياد؟
قلت:ألفين،و كساني حلّتين،و حملني على راحلتين.
قال:فلك مثل ما أعطاك،أخرج إلى بلدك.
فخرجت و ما في[163 م 168 ر]الأرض شيء أشدّ عليّ من أمر يدنيني من زياد،مخافة منه.
فقلت:آتي اليمن،ثمّ فكّرت،فقلت:لا أخفى بها.
فأجمعت على أن آتي بعض عجائز الحيّ،فأتوارى عندها،إلى أن يأتي اللّه بالفرج من عنده.
قال:و قدمت الكوفة،فأمرّ بجهينة الظاهرة (1)،حين طلع الفجر،و مؤذّنهم يؤذّن.
ص:207
فقلت:لو صلّيت،فنزلت،فصرت في المسجد،حتّى[163 غ] أقام المؤذّن.
فلمّا قضينا الصلاة،إذا رجل في مؤخّر الصف،يقول:هل علمتم ما حدث البارحة؟
قالوا:و ما حدث؟
قال:مات الأمير زياد.
قال:فما سررت بشيء،كسروري بذلك (1).
ص:208
أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أميّة(20 ق-60):
مؤسس الدولة الأمويّة بالشام،و أحد دهاة العرب المتميّزين الكبار،حكم الشام حكما مستمرا،دام ما يزيد على الأربعين سنة،قضى بعضها(18-35)أميرا،و قضى الباقي متغلّبا،ولاّه على الشام الخليفة عمر،و لما ولي عثمان جمع له الديار الشامية كلّها،و لما ولي علي عزله،فخرج على عليّ بحجّة المطالبة بدم عثمان(الأعلام 172/8)حتى إذا قتل عليّ،و تمكن من السيطرة ترك المطالبة بدم عثمان(البصائر و الذخائر 586/2).
و هو أوّل من لعن المسلمين على المنابر(العقد الفريد 366/4 و 91/5)و أوّل من حبس النساء بجرائر الرجال،إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي،لموالاته عليا،و حبس امرأته بدمشق،حتى إذا قطع عنقه،بعث بالرأس إلى امرأته و هي في السجن،و أمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها(بلاغات النساء 64 و اليعقوبي 232/2 و الديارات 179 و 180).
و كان يفرض على الناس لعن عليّ و البراءة منه،و من أبى،قتله،أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حيّا(العقد الفريد 234/3 و 34/4 و الأغاني 150/18 و ابن الأثير 485/3 و الأغاني 153/17).
و هو أوّل من سخّر الناس،و استصفى أموالهم،و أخذها لنفسه(اليعقوبي 232/2) و هو أوّل من حبس على معارضيه أعطياتهم(أدب الكتاب للصولي 224/2)محتجّا بأنّ العطاء ينزل من خزائن اللّه،فقال له الأحنف:إنّا لا نلومك على ما في خزائن اللّه،و لكن على ما أنزله اللّه من خزائنه،فجعلته في خزائنك،و حلت بيننا و بينه(البصائر و الذخائر م 2 ق 2 ص 689).
و قيل لشريك بن عبد اللّه،إنّ معاوية كان حليما،فقال:كلا،لو كان حليما ما سفّه الحق و لا قاتل عليا(كتاب الآداب لجعفر 22 و 23).
و روى ابن الجوزي،عن الحسن البصري،انّه قال:أربع خصال كنّ في معاوية، لو لم تكن فيه إلاّ واحدة،لكانت موبقة،و هي:أخذه الخلافة بالسيف،من غير مشاورة،و في الناس بقايا الصحابة،و ذوو الفضيلة،و استخلافه ابنه يزيد،و كان سكّيرا خمّيرا،يلبس الحرير،و يضرب بالطنابير،و ادّعاؤه زياد أخا،و قد قال رسول اللّه صلى
ص:209
اللّه عليه و سلّم:الولد للفراش،و للعاهر الحجر،و قتله حجر بن عديّ و أصحابه،فيا ويلا له من حجر،و أصحاب حجر(خزانة الأدب للبغدادي 518/2 و 519).
و قال نيكلسون:اعتبر المسلمون انتصار بني أميّة،و على رأسهم معاوية،انتصارا للأرستقراطية الوثنية،التي ناصبت الرسول و أصحابه العداء،و التي جاهدها رسول اللّه حتى قضى عليها،و صبر معه المسلمون على جهادها و مقاومتها حتى نصرهم اللّه،فقضوا عليها.
و أقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام،لذلك،لا ندهش إذا كره المسلمون بني أميّة، و غطرستهم،لا سيّما أنّ جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين،لم يعتنقوا الإسلام إلاّ سعيا وراء مصالحهم الشخصيّة،و لا غرو،فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكا كسرويّا،و ليس أدلّ على ذلك من قوله:أنا أوّل الملوك(تاريخ الإسلام 278/1 و 279).
و كان مصروف الهمّة إلى تدبير أمر الدنيا،يهون عليه كلّ شيء إذا انتظم أمر الملك (الفخري 107)و لما استولى على الملك،استبدّ على جميع المسلمين،و قلب الخلافة ملكا (رسائل الجاحظ 14-16)و كان يقول:إنّا لا نحول بين الناس و ألسنتهم،ما لم يحولوا بيننا و بين السلطان(محاضرات الأدباء 226/1).
و ختم معاوية أعماله،بإرادته أن يظهر العهد ليزيد،فقال لأهل الشام:إنّ أمير المؤمنين قد كبرت سنّه،و رقّ جلده،و دقّ عظمه،و اقترب أجله و يريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون؟فقالوا:عبد الرحمن بن خالد بن الوليد،فسكت و أضمرها،و دسّ ابن أثال الطبيب إلى عبد الرحمن،فسقاه سما،فمات(الأغاني 197/16).
ثم فرض ولده يزيد على الناس فرضا،و حملهم على بيعته قسرا،و أوعز إلى رجل من الأزد،اسمه يزيد بن المقفّع،فقام خطيبا و قال:أمير المؤمنين هذا(و أشار إلى معاوية)، فإذا مات فهذا(و أشار إلى يزيد)،و من أبى فهذا(و أشار إلى السيف)،فقال له معاوية:
أقعد،فأنت سيّد الخطباء(العقد الفريد 370/4 و مروج الذهب 21/2).
إقرأ بعض أخبار معاوية في تاريخ اليعقوبي 217/2 و في الامتاع و المؤانسة 75/2 و 178/3 و في محاضرات الأدباء 353/1 و في كتاب التاج للجاحظ 205 و في المحاسن و المساوئ 148/2 و في البيان و التبيين للجاحظ 87/2 و 110 و 133/4 و في الأغاني 189/4 و 266/6 و 168/15،197 و 198،و 144/17 و في وفيات الأعيان 169/2 و في الفخري 106-110 و في البصائر و الذخائر م 2 ق 2 ص 671 و 702 و في نفح الطيب 542/2 و في خزانة الأدب للبغدادي 518/2 و 519.
ص:210
خرج يريد خالدا القسري
فأعطاه الحكم فأغناه
و قد أخبرني علي بن دبيس،عن الخزاعي المدائني،[عن أبي عمر الزاهد] و قد لقيت أبا عمر،و حملت منه شيئا من علومه و رواياته،و أجاز لي كل ما صحّ منها،فدخل هذا في إجازته (1).
و حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن أحمد الورّاق،في كتاب نسب قريش، قال:حدّثنا أحمد بن سليمان الطوسي،قال:حدّثنا الزبير بن بكّار،قال:
أخبرني عمّي مصعب،عن نوفل بن عمارة:
أنّ رجلا من قريش،من بني أميّة،له قدر و خطر،لحقه دين،و كان له مال من نخل و زرع،فخاف أن يباع عليه،فشخص من المدينة يريد الكوفة، يقصد خالد بن عبد اللّه القسري (2)،و كان واليا لهشام بن عبد الملك على العراق (3)، و كان يبرّ من قدم عليه من قريش.
فخرج الرجل يريده،و أعدّ له من طرف المدينة (4)،حتّى قدم فيد (5)، فأصبح بها.
فرأى فسطاطا،عنده جماعة،فسأل عنه،فقيل:للحكم بن عبد المطلب،
ص:211
يعني أبا عبد اللّه بن عبد المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم،و كان يلي المشاعر (1)،فلبس نعليه،و خرج حتّى دخل عليه.
فلمّا رآه،قام إليه فتلقّاه،و سلّم عليه و أجلسه في صدر فراشه،ثمّ سأله عن مخرجه،فأخبره بدينه،و ما أراد من إتيان خالد بن عبد اللّه.
فقال الحكم:انطلق بنا إلى منزلك،فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك،فمضى معه،حتّى أتى منزله،فرأى الهدايا الّتي أعدّها لخالد،فتحدّث ساعة معه.
ثمّ قال:إنّ منزلنا أحضر عدّة،و أنتم مسافرون،و نحن مقيمون، فأقسمت عليك إلاّ قمت معي إلى المنزل،و جعلت لنا من هذه الهدايا نصيبا.
فقام الرّجل معه،و قال:خذ منها ما أحببت،فأمر بها،فحملت كلّها إلى منزله،و جعل الرّجل يستحي أن يمنعه شيئا،حتّى صار إلى المنزل.
فدعا بالغداء،و أمر بالهدايا،ففتحت،فأكل منها،و من حضره، ثمّ أمر ببقيّتها فرفعت إلى خزانته،و قام النّاس.
ثمّ أقبل على الرّجل،و قال له:أنا أولى بك من خالد،و أقرب منه رحما و منزلا،و ها هنا مال للغارمين (2)،أنت أولى النّاس به،و أقرب،و ليس لأحد عليك فيه منّة،الاّ اللّه تعالى،تقضي به دينك،ثمّ دعا له بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار،فدفعت إليه.
ثمّ قال:قد قرّب اللّه-جلّت عظمته-عليك الخطوة،فانصرف إلى أهلك مصاحبا،محفوظا.
فقام الرّجل من عنده،يدعو له و يشكره،و لم يكن له همّة إلاّ الرجوع إلى أهله،و انطلق الحكم يشيّعه.
ص:212
ثمّ قال:كأنّي بزوجتك،قد قالت:أين طرائف العراق (1)،خزّها (2)، و بزّها (3)،و عروضها (4)،أما كان لنا منها نصيب؟
ثمّ أخرج صرّة[164 م]قد كان حملها معه،فيها خمسمائة دينار، فقال له:أقسمت عليك،إلاّ جعلت هذه عوضا عن هدايا العراق،و انصرف.
و ذكر أبو الحسين[4 ن]القاضي،هذا الخبر،في كتابه،كتاب الفرج بعد الشدّة،بغير إسناد،على قريب من هذه العبارة (5).
ص:213
لا بارك اللّه في مال بعد عثمان
و ذكر أيضا في كتابه،بغير إسناد:أنّ عثمان بن طلحة،ركبه دين فادح،مبلغه ألفا دينار،فأراد الخروج إلى العراق،لمسألة السلطان قضاءه عنه.
فلمّا عزم على السفر،اتّصل خبره بأخيه جعفر بن طلحة،فقال:لا بارك اللّه في مال بعد عثمان.
فدخل على نسائه،فجعل يخلع حليهنّ،حتّى جمع له أكثر من ألفي دينار،فدفعها إليه.
فقضى دينه،و أقام (1).
ص:214
رفع صوته بالتلبية
فحملت إليه أربعة آلاف دينار
و حدّثنا أحمد بن عبد اللّه،في هذا الكتاب،كتاب نسب قريش،قال:
حدّثنا أحمد بن سليمان،قال:حدّثنا الزّبير،قال:حدّثني مفضّل بن غسّان، عن أبيه،عن رجل من قريش،قال:
حجّ محمّد بن المنكدر (1)،من بني تيم بن مرّة،قال:و كان معطاء، فأعطى حتّى بقي في إزار واحد،و حجّ معه أصحابه.
فلمّا نزل الروحاء (2)،أتاه وكيله،فقال:ما معنا نفقة،و ما بقي معنا درهم.
فرفع محمّد صوته بالتلبية،فلبّى،و لبّى أصحابه،و لبّى النّاس،و بالماء محمّد بن هشام (3).
فقال:و اللّه،إنّي لأظنّ أنّ محمّد بن المنكدر بالماء،فانظروا.
فنظروا،و أتوه فقالوا:هو بالماء.
فقال:ما أظنّ معه درهما،احملوا إليه أربعة آلاف درهم (4).
ص:215
يزيد بن عبد الملك بن مروان
يصف عمر بن هبيرة بالرجلة و يولّيه العراق
قال:و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،قال:
نالت عمر بن هبيرة (1)،إضاقة شديدة،فاصبح ذات يوم،في نهاية الكسل،و ضيق الصدر،و الضجر ممّا هو فيه.
فقال له أهله و مواليه:لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين،فلعلّه-إذا رآك- أن يجري لك شيئا فيه محبّة،أو يسألك عن حالك،فتخبره.
فركب،فدخل على[يزيد بن]عبد الملك،فوقف بين يديه ساعة، و خاطبه.
ثمّ نظر[يزيد بن]عبد الملك إلى وجه عمر،و قد تغيّر تغيّرا شديدا، أنكره،فقال:أ تريد الخلاء؟
قال:لا.
قال:إنّ لك لشأنا.
قال:يا أمير المؤمنين،أجد بين كتفيّ أذى لا أدري ما هو.
قال[يزيد بن]عبد الملك:انظروا ما هو.
فنظروا،فإذا بين كتفيه عقرب،قد ضربته عدّة ضربات.
فلم يبرح حتّى كتب عهده على العراق،و جعل[يزيد بن]عبد الملك يصفه بالرجلة،و شدّة القلب (2).
ص:216
كان خالد القسري لا يملك إلاّ ثوبه
فجاءه الفرج بولاية العراق
و ذكر أبو الحسين في كتابه:
أنّ خالد بن عبد اللّه القسري،أصابته إضاقة شديدة،فبينما هو ذات يوم في منزله،إذ أتاه رسول هشام بن عبد الملك يدعوه لولاية العراق،فتلوّم (1)، فاستحثّه الرّسول.
فقال له خالد:رويدا حتّى يجفّ قميصي،و قد كان غسله قبل موافاة الرّسول،و لم يكن بقي له غيره.
فقال له الرّسول:يا هذا،أسرع في الإجابة،فإنّك تدعى إلى قمصان (2)كثيرة.
فجاء إلى هشام،فولاّه العراق (3).
ص:217
يهلك ملوكا و يستخلف آخرين
قال:و من الأعجوبات،ما ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،عن علي بن الهيثم (1)،قال:
رأيت شيئا قلّما رئي مثله،رأيت ثقل (2)الفضل بن الرّبيع،على ألف بعير، [165 م]ثمّ رأيت ثقله في زنبيل،و نحن مستترون،و فيه أدوية لعلّته، و هو ينقله من موضع إلى موضع.
و رأيت الحسن بن سهل،و كان مع طريف خادمي في بيت الدهليز، و ثقله في زنبيل،فيه نعلان،و قميصان،و إزار،و إسطرلاب (3)،و ما أشبه ذلك، ثمّ رأيت ثقله على ألف بعير (4).
ص:218
باع من إضاقته لجام دابته في الصباح
و حصلت له عشرون ألف دينار وقت الظهر
قال:و ذكر أبو الحسين القاضي في كتابه،[قال:حدّثنا أبو القاسم ميمون بن موسى] (1)قال:
خرج رجل من الكتّاب (2)في عسكر المعتصم إلى مصر،يريد التصرّف، فلم يحظ بشيء ممّا أمّل،و دخل المعتصم باللّه مصر.
قال:فحدّثني بعض المتصرّفين عنه،قال:نزلت في دار بالقرب منه، فحدّثني الرّجل بما كنت وقفت على بعضه.
قال:أصبحت ذات[164 غ]يوم،و قد نفدت نفقتي،و تقطّعت ثيابي،و أنا من الهمّ،و الغمّ،على ما لا يوصف عظما.
فقال لي غلامي:يا مولاي،أيّ شيء نعمل اليوم؟
فقلت له:خذ لجام الدابّة،فبعه،فإنّه محلّى،و ابتع مكانه لجاما حديدا، و اشتر لنا خبزا سميذا (3)،و جديا سمينا،فقد قرمت إلى أكلهما،و عجّل، و لا تدع أن تبتاع فيما تبتاعه كوز نبيذ شيرويّ.
فمضى الغلام،و جلست أفكّر في أمري،و من ألاقي،و كيف أعمل، و إذا بباب الدار قد دقّ دقا عنيفا،حتّى كاد أن يكسر،و إذا رهج شديد.
ص:219
فقلت لغلام كان واقفا بين يدي:بادر،فانظر ما هذا.
فإلى أن يفتح الباب،كسر،و امتلأت الدار بالغلمان الأتراك و غيرهم، و إذا بأشناس (1)،و هو حاجب المعتصم،و محمّد بن عبد الملك الزيّات (2)، و هو الوزير،قد دخلا.
فطرحت لهم زلّية (3)،فجلسا عليها،و إذا معهما حفّارون.
قال:فلمّا رأيت ذلك،بادرت فقبّلت أيديهما،فسألاني عن خبري، فخبرتهما إيّاه،و أنّني قد خرجت في جملة أهل العسكر،طلبا للتصرّف، و ذكرت حالي[169 ر]و ما قد آلت إليه،فوعداني جميلا،و الحفّارون يحفرون في وسط الدار،حتّى ترجّل النهار (4)،و أنا واقف بين أيديهما، و ربّما حدّثتهما.
فالتفت أشناس إلى محمّد بن عبد الملك فقال:أنا و اللّه جائع.
فقال له محمّد:و انا-و اللّه-كذلك.
فقلت عند ذلك:يا سيديّ،عند خادمكما شيء قد اتّخذ له،فإن أذنتما في إحضاره أحضره.
فقالا:هات.
فقدّمت الجدي،و ما كان ابتيع لنا،فأكلا،و استوفيا،و غسلا أيديهما.
ثمّ قال لي أشناس:عندك شيء من ذلك الفنّ؟
قلت:نعم،فسقيتهما ثلاثة أقداح.
ص:220
و جعل أحدهما يقول للآخر:ظريف،و ما ينبغي لنا أن نضيعه البائس.
فبينما الحال على ذلك،إذ ارتفع تكبير الحفّارين،و إذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلا (1)دنانير،فوجّهوا بالبشارة إلى المعتصم،و أخرجت المراجل.
فلمّا نهضا،قال أحدهما للآخر:فهذا الشقيّ الّذي أكلنا[5 ن]طعامه، و شربنا شرابه،ندعه هكذا؟
فقال له الآخر:فنعمل ما ذا؟
قال:نحفن له من كلّ مرجل حفنة،لا تؤثّر فيه،فنكون قد أغنيناه، و نصدق أمير المؤمنين عن الحديث.
ثمّ قالا:افتح حجرك،و جعل كلّ واحد،يحفن لي حفنة،من كلّ مرجل،و أخذا المال،و انصرفا.
فنظرت،فإذا قد حصل لي عشرون ألف دينار،فانصرفت بها إلى العراق، و ابتعت بها ضياعا[166 م]و لزمت منزلي،و تركت التصرّف.
ص:221
سبحان خالقك يا أبا قلابة
فقد تنوّق في قبح وجهك
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،قال:حدّثني أبي،عن أبي قلابة المحدّث (1)،قال:
ضقت ضيقة شديدة،فأصبحت ذات يوم،و المطر يجيء كأفواه القرب، و الصبيان يتضوّرون جوعا،و ما معي حبّة واحدة (2)فما فوقها،فبقيت متحيّرا في أمري.
فخرجت،و جلست في دهليزي،و فتحت بابي،و جعلت أفكّر في أمري، و نفسي تكاد تخرج غمّا لما ألاقيه،و ليس يسلك[165 غ]الطريق أحد من شدّة المطر.
فإذا بامرأة نبيلة،على حمار فاره،و خادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل،فلمّا صار بإزاء داري،سلّم،و قال:أين منزل أبي قلابة؟ فقلت له:هذا منزله،و أنا هو.
فسألتني عن مسألة،فأفتيتها فيها،فصادف ذلك ما أحبّت،فأخرجت
ص:222
من خفّها (1)خريطة (2)،فدفعت إليّ منها ثلاثين دينارا.
ثمّ قالت:يا أبا قلابة،سبحان خالقك،فقد تنوّق في قبح وجهك (3)، و انصرفت (4).
ص:223
المنصور العباسي يتذكر
ما ارتكب من العظائم فيبكي و ينتحب
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،قال:
دخل عمرو بن عبيد،على أبي جعفر المنصور قبل دولة بني العبّاس، و كان صديقه،و بين يديه طبق عليه رغيف،و غضارة فيها فضلة سكباج، و هو يتغدّى،و قد كاد يفرغ،فلمّا بصر بعمرو،قال:يا جارية،زيدينا من هذا السكباج،و هاتي خبزا.
قالت:ليس عندنا خبز،و ما بقى من السكباج شيء.
قال:فارفعي الطبق،ثمّ قال: عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ،فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ .
فلمّا أفضى الأمر إلى أبي جعفر،و ارتكب العظائم (1)،دخل عليه عمرو بن عبيد،فوعظه،ثمّ قال:أتذكر يوما دخلت عليك...و أعاد الحديث، و قد استخلفك،فما ذا عملت؟
فجعل المنصور يبكي و ينتحب،و فيه حديث طويل (2).
ص:224
ارتكب المنصور فظائع من قتل،و تعذيب،و دفن الناس أحياء،و دقّ الأوتاد في الأعين،و بناء الحيطان على الأحياء،و كان يشهد تعذيب من يأمر بتعذيبه،حتّى أنّه كان يشهد تعذيب النساء أيضا.
راجع في الفخري 165 سبب حبس آل الحسن،و قتلهم،و قد حبسهم المنصور في سرداب تحت الأرض،لا يفرّقون فيه بين ضياء النهار،و سواد اللّيل،و هدم الحبس على قسم منهم،و كانوا يتوضّؤون(أي يقضون حاجاتهم)في مواضعهم،فاشتدّت عليهم الرائحة،و كان الورم يبدو في أقدامهم فلا يزال يرتفع حتّى يبلغ القلب،فيموت صاحبه، و مات إسماعيل بن الحسن،فترك عندهم حتّى جيف،فصعق داود بن الحسن،و مات (مروج الذهب 236/2).
و بلغ المنصور أنّ عبد اللّه بن محمد النفس الزكيّة،فرّ منه إلى السند،فبعث وراءه من قتله(مقاتل الطالبيين 310-313)،و أمر المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، فبنيت عليه أسطوانة،و هو حيّ(الفخري 164،و مقاتل الطالبيين 200،و الطبري 546/7 و ابن الأثير 526/5)و أمر بعبد اللّه بن الحسن بن الحسن فطرح عليه بيت فقتله(مقاتل الطالبيين 228)أمّا الباقون فما زالوا في الحبس حتّى ماتوا،و قيل إنّهم وجدوا مسمّرين في الحيطان(اليعقوبي 370/2).
و أمر المنصور بإبراهيم بن الحسن بن الحسن،فدفن حيا(مقاتل الطالبيين 228) و جرّد محمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفّان،و أمه فاطمة بنت الحسين،فضرب ألف سوط(مروج الذهب 236/2)و أمر بأن يدقّ وجهه بالجرز،و هو العمود من الحديد (الطبري 543/7)و بلغ من شدّة الضرب أن أخرج و كأنّه زنجي(مقاتل الطالبيين 220 و ابن الأثير 525/5)و جاءت إحدى الضربات على عينه،فسالت(مقاتل الطالبيين 220 و الطبري 542/7)ثم قتله،و قطع عنقه(مقاتل الطالبيين 226).
و لما حمل رأس محمّد بن عبد اللّه إلى المنصور،قال لمطير بن عبد اللّه:أما تشهد أنّ محمّدا بايعني؟فقال:أشهد باللّه لقد أخبرتني بانّ محمّدا خير بني هاشم،و أنّك بايعت له، فشتمه،و أمر به،فوتّد في عينيه(المحاسن و المساوئ 138/2).
ص:225
و لما قتل إبراهيم بن عبد اللّه في باخمرى،بعث المنصور برأسه إلى أبيه عبد اللّه فوضعه بين يديه(مروج الذهب 236/2 و 237)و أمر بسديف بن ميمون الشاعر،فدفن حيّا (العقد الفريد 87/5-89).
و من بعد وفاة المنصور عثر المهدي،و زوجته ريطة،على أزج في قصر المنصور، فيه جماعة من قتلى الطالبيين،و في آذانهم رقاع فيها أنسابهم،و إذا فيهم أطفال،و رجال، شباب و مشايخ،عدّة كثيرة،فلما رأى المهدي ذلك،ارتاع لما رأى،و أمر فحفرت لهم حفيرة دفنوا فيها(الطبري 105/8).
و لما طال حبس عبد اللّه بن الحسن،و أهل بيته،جلست إحدى بناته للمنصور، فتوسّلت إليه بالقرابة،و طلبت منه الرحمة،فقال لها:أذكرتنيه،و أمر به فحدر إلى المطبق و كان آخر العهد به(تاريخ بغداد للخطيب 432/9).
و ممّا يبعث على العجب أنّ المنصور،الذي ضرب أسوء الأمثال في القسوة،أوصى ولده المهدي،فقال:أحفظ محمّدا في أمّته،و إيّاك و الدم الحرام،فإنّه حوب عند اللّه عظيم، و عار في الدنيا لازم مقيم،و افتتح عملك بصلة الرحم،و برّ القرابة(الطبري 105/8 و 106).
ص:226
إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
و ذكر القاضي أبو الحسين،قال:روي لنا عن خالد بن أحمد البطحاوي (1)، مولى آل جعفر بن أبي طالب،قال:
تزوّجت امرأة،فبينا أنا ذات ليلة من ليالي العرس،و ليس عندنا قليل و لا كثير،و أنا أهمّ النّاس بذلك،إذ جاءتني امرأتان،فطرقتا باب منزلي، فخرجت إليهما،فإذا بجارية شابّة،و أخرى نصف (2).
فقالت:أنت خالد البطحاوي 1؟.
قلت:نعم.
قالت:أحبّ أن تنشدنا قولك:خلّفوني ببطن حام،فأنشدتهما:
خلّفوني ببطن حام صريعا ثمّ ولّوا و غادروني صبحا
جمع اللّه بين كلّ محبّ ذبحوه بشفرة الحبّ ذبحا
غادر الحبّ في فؤادي قرحا إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
قال:فرمت إليّ الشابة بدملج (3)ذهب،و انصرفتا،فبعته بجملة دراهم، و اتّسعت بها (4).
ص:227
أبو عمر القاضي يصبح و ليس عنده درهم واحد
فيجيئه الفرج في وقت قريب
و ذكر القاضي أبو الحسين (1)في كتابه،قال:حدّثني أبي (2)،قال:
أضقت إضاقة شديدة،في نكبتي (3)،و أصبحت يوما،و ما عندي درهم واحد فما فوقه،و كان الوقت شتاء،و المطر يجيء.
فجلست ضيّق الصدر،مفكّرا في أمري،إذ جاءني صديق لي،فقال:
قد جئت لأقيم عندك اليوم،فازداد ضيق صدري،و قلت له:بالرّحب و السعة، و أظهرت له السرور بمجيئه.
و دخلت إلى النساء،فقلت لهنّ:احتلن فيما ننفق في هذا[166 غ] اليوم،على رهن أو بيع شيء[167 م]من البيت،فقد طرقنا ضيف.
و خرجت،فجلست مع الرّجل،و أنا على نهاية من شغل القلب،خوفا أن لا يتّفق قرض،و لا بيع،لأجل المطر.
فأنا كذلك،إذ دخل الغلام،فقال:خليفة أبي الأغرّ السلمي بالباب.
فقلت:أيّ وقت هذا لخليفة أبي الأغرّ؟و أمرته أن يخرج فيصرفه، ثمّ تذمّمت من صرفه،و قد قصدني في مثل هذا اليوم.
فقلت:قل له يدخل.
فدخل،و حادثني قليلا،ثمّ قرب منّي،و أخرج صرّة فيها مائة دينار.
ص:228
و قال:يقول لك أخوك:وجّهت إليك بهذه الصرّة،فتأمر بصرفها في مثل هذا اليوم،في بعض ما يصلح حالك.
فامتنعت من قبولها،فلم يزل خليفته يلطف بي،حتّى قبلتها (1).
ص:229
بين أحمد بن أبي خالد و صالح الأضجم
حدّثني أبي،أبو القاسم التنوخي،في المذاكرة،بإسناد ذهب عن حفظي، قال:
كان أحمد بن أبي خالد،بغيضا (1)،قبيح اللهجة،و كان مع ذلك حرّا، و كان يلزمه رجل متعطّل من طلاّب التصرّف يقال له:صالح بن عليّ الأضجم (2)، من وجوه الكتّاب،فحدّث،قال:
طالت بي العطلة في أيّام المأمون،و الوزير-إذ ذاك-أحمد بن أبي خالد، و ضاقت حالي،حتّى خشيت التكشّف.
ص:230
فبكّرت يوما إلى أحمد بن أبي خالد مغلّسا،لأكلّمه في أمري،فرأيت بابه قد فتح،و خرج و بين يديه شمعة،يريد دار المأمون.
فلمّا نظر إليّ،أنكر عليّ بكوري،و عبس في وجهي،و قال:في الدنيا أحد بكّر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا.
فلم تصبر نفسي أن قلت:ليس العجب منك-أصلحك اللّه-فيما استقبلتني به،و إنّما العجب منّي،و قد سهرت ليلتي،و أسهرت من في داري تأميلا لك،و توقّعا للصبح،لأصير إليك،فأبثّك أمري،و أستعين بك على صلاح حالي،و إلاّ فعليّ،و عليّ،و حلفت يمينا غليظة،لا وقفت ببابك، و لا سألتك حاجة،حتّى تصير إليّ معتذرا ممّا كلّمتني به.
و انصرفت مغموما،مكروبا بما لقيني به،متندّما على ما فرط منّي،غير شاكّ في العطب،إذ كنت لا أقدر على الحنث،و كان ابن أبي خالد،لا يلتفت إلى إبرار قسمي.
فإنّي لكذلك،و قد طلعت[6 ن]الشمس،إذ طلع بعض غلماني، فقال:أحمد بن أبي خالد،مقبل في الشّارع،ثمّ دخل آخر،فقال:قد دخل دربنا،ثمّ دخل آخر،فقال:قد وقف على الباب،ثمّ تبادر الغلمان بدخوله الدهليز،فخرجت مستقبلا له.
فلمّا استقرّ به مجلسه في داري،ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فقال:إنّ أمير المؤمنين،كان أمرني بالبكور إليه في بعض مهمّاته،فدخلت إليه،و قد غلبني الفكر (1)،لما فرط منّي إليك،حتّى أنكر ذلك،فقصصت عليه قصّتي معك.
فقال:قد أسأت بالرجل،قم،فامض إليه،فاعتذر ممّا قلت له.
قلت:فأمضي إليه فارغ اليد؟
ص:231
قال:فتريد ما ذا؟
قلت:يقضي دينه.
قال:كم هو؟.
قلت:ثلثمائة ألف درهم.
قال:وقّع له بذلك.
قلت:فيرجع بعد إلى الدين؟
قال:وقّع له[170 ر]بثلثمائة ألف درهم أخرى.
قلت:فولاية يشرّف بها.
قال:ولّه مصر[167 غ]،أو غيرها،ممّا يشبهها.
قلت:و معونة على سفره؟
قال:وقّع له بثلثمائة ألف درهم ثالثة.
قال:و أخرج التوقيع من خفّه،بالولاية،و بتسعمائة ألف درهم، فدفع ذلك إليّ،و انصرف (1).
[و قد ذكر محمّد بن عبدوس،في كتاب الوزراء،[الخبر]على قريب من هذا (2).]
ص:232
جندي تركي تشتدّ إضاقته ثمّ يأتيه الفرج
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه[168 م]،[قال:حدّثنا إبراهيم بن القاسم (1)]،قال:
كان في جيراني،بالجانب الشرقي،من مدينة السلام،رجل من الأتراك، له رزق في الجند،فتأخّر رزقه في أيّام المكتفي،و وزارة العبّاس بن الحسن، فساءت حاله،و رثّت هيأته،حتّى أدمن الجلوس عند خبّاز كان بالقرب منّا، و كان يستسعفه،فيعطيه في كلّ يوم خمسة أرطال خبزا،يتقوّت بها هو و عياله.
فاجتمع عليه للخبّاز شيء،ضاق به صدر الخبّاز معه أن يعطيه سواه، فمنعه،فخرج ذات يوم،فجلس،و هو عظيم الهمّ،ثمّ كشف لي حديثه.
و قال:قد عملت على مسألة كلّ من يشتري من الخبّاز شيئا،أن يتصدّق عليّ،فقد حملني الجوع على هذا،و كلّما أردت فعله،منعتني نفسي منه.
فبينما هو معي في هذا،إذ جاء رجل بزيّ نقيب،يسأل عنه،فدلّ عليه،فوجده جالسا عند الخباز.
فقال له:قم.
فقال:إلى أين؟
قال:إلى الديوان،حتّى تقبض رزقك،فقد خرج لك و لأصحابك رزق شهرين،فمضى معه.
فلمّا كان بعد ساعة،جاءني،و قد قبض مائتين و أربعين دينارا.
فرمّ منزله،و أصلح حاله،و حال عياله،و أبتاع دابّة و سرجا و سلاحا، و قضى دينه،و خرج مع قائد كان برسمه،و حسنت حالته.
ص:233
أحمد بن مسروق عامل الأهواز
يتحدّث عن الفرج الّذي وجده في قانصة البطّة
[و ذكر أبو الحسين في كتابه] (1)عن الحسين بن موسى،أخي ابراهيم بن موسى،قال:
خرجت إلى فارس،في أيّام المعتمد على اللّه،فمررت بالأهواز،و المتقلّد لخراجها أحمد بن مسروق،فاجتمعنا،و تذاكرنا حديث العمّ و الفرج (2)، و ما ينال النّاس منهما،و من المرض و الصحّة.
فحدّثني:أنّه كان في ناحية إسحاق بن إبراهيم (3)،فلمّا توفّي،و قدم محمّد بن عبد اللّه بن طاهر (4)،تعطّل،و افتقر،حتّى لم يبق له شيء،و حالفته أمراض كثيرة،فكان لا يصحّ له بدن يوما واحدا.
قال:و كان له رفيق،فخرج الى سرّ من رأى،فتعلّق بالفتح بن خاقان (5)، فحسنت حاله.
قال:فكان يكتب إليّ في الخروج إليه،فيمنعني من ذلك عوز النفقة.
فإنّي لمغموم،مفكّر في الحال الّتي أنا عليها،إذ دخل بعض نسائنا، فلا متني على طول الهمّ و الغمّ،و قالت:كن اليوم عندي،حتّى أذبح لك
ص:234
مخلفة بطّة (1)سمّنت لنا،و تجتمع مع جواريك،فيغنّين لك و تتفرّج (2).
فقلت:نعم،و جئت إلى منزلها،و ذبحت البطّة،فإذا قد خرجت إليّ، و معها حجر أحمر،لم تدر ما هو.
فقالت:خرج هذا من قانصة البطّة،فما هو؟
قلت:لا أدري،و لكن هبيه لي حتّى أريه لمن يعرفه.
فقال:خذه،فرأيت شيئا لم أعرفه،إلاّ أني بعثت به إلى صديق لي بباب الطاق (3)،و سألته أن يبيعه لي.
فقال:نعم،ثمّ إنّه غسله بماء حار،و باعه بمائة و ثلاثين دينارا (4).
فأخذت الدنانير،و اشتريت مركوبا،و تجهّزت الى سرّ من رأى، فلزمت أبا نوح (5)،و باب الفتح بن خاقان،فنفدت[168 غ]نفقتي،و جعل رفيقي ينفق عليّ،و يقرضني.
فدعاني الفتح بن خاقان يوما،و قد يئست منه،و إذا بين يديه أبو نوح، فقال:هذا أحمد بن مسروق؟
قال:نعم.
قال:كيف أنت إن أنفذتك في أمر،و اصطنعتك؟
قلت:إنّي كنت مع الخراسانيّة كاتبا[171 ر]أعرف جميع الأعمال.
ص:235
فأدخلني إلى المتوكّل،فلمّا وقفت بين يديه،قال:إنّا ننفذك في أمر هو محنتك،و به ارتفاعك أو سقوطك،فانظر كيف تكون؟
قال:فقبّلت الأرض،و وعدت الكفاية به من نفسي.
و خرج[169 م]الفتح،و معه عبيد اللّه بن يحيى (1)،فوقّع لي عبيد اللّه بأجر ثلاثة آلاف درهم،مع الشاكرية الّذين يقبضون عشرة أشهر من السنة، و الإستقبال في أوّل شهر يوضع لهم،و وقّع إلى خازن بيت المال بأن يدفع إليّ ثلاثين ألف درهم معونة.
و كتب كتبي بالنظر في مصالح الأهواز،و أشياء هناك بالستر و الأمانة، احتيج إلى كشفها،فسرت اليها،و بلغت في الأمور ما أحمد.
فصار رسمي أن أقلّد أعمالها،فمرّة المعونة،و مرّة الخراج،و مرّة يجمعان لي جميعا.
فزالت تلك العلل و الأمراض الّتي كانت قد حالفتني،و لا أعرف لذلك سببا غير الفرج.
فقال الحسين بن موسى،لأحمد بن مسروق:على ذكر وجود الحجر في قانصة البطّة:أخبرك أنّي لما سرت في سفرتي هذه،إلى الموضع المعروف باصطربند (2)،رأيت بستانا حسنا،فيه باقلّى و خضرة،بعقب مطرة،فاستحسنته، فعدلت إليه.
فقال:عساه البستان الّذي فيه الصخرة الّتي كأنّها نابتة.
قلت:هو.
قال:هيه.
ص:236
قلت:فتغدّينا فيه،و شربنا أقداحا،و كنت مستندا إلى الصخرة،فلمّا نهضنا،رأيت في وسط الصخرة نقرة،قد اجتمع فيها ماء المطر،فهو في غاية الصفاء.
فوضعت[7 ن]فمي لأشرب منه،فتحرّك فيه شيء،فنحيّت فمي عنه، و تأمّلته،فبدت لي خرقة،فجذبتها،فإذا صرّة.
فقال أحمد بن مسروق:صرّتي،و اللّه،كان فيها ثلثمائة دينار.
قلت:نعم،فمن أين صارت لك؟.
قال:مررت بهذا الموضع،آخر خرجة خرجتها إلى الأهواز،فملت إلى الموضع،كما ملت،و كانت هذه الصرّة في يدي،فوضعتها (1)في الحجر، و أنسيتها و ركبت،ثمّ طلبتها،فلم أجدها،و لا علمت أين وضعتها،إلاّ السّاعة، فذكرتها بحديثك.
قلت:فالدنانير مع غلامي.
قال:خذها،بارك اللّه لك فيها،و أبرأت ذمّتك منها.
ص:237
أصلح بين متخاصمين بدرهم
فوهب اللّه له درّة بمائة و عشرين ألفا
قال:و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،بإسناد،قال:حدّث محمّد بن إبراهيم بن عمر البرقي،قال:حدّثنا العبّاس بن محمّد البرقي، ل:حدّثنا أبو زيد،عن الفضيل بن عياض (1)،قال:حدّثني رجل:
أنّ رجلا خرج بغزل،فباعه بدرهم ليشتري به دقيقا،فمرّ على رجلين، كلّ واحد منهما آخذ برأس صاحبه.
فقال:ما هذا؟
فقيل:يقتتلان في درهم،فأعطاهما ذلك الدرهم،و ليس له شيء غيره.
فأتى إلى امرأته،فأخبرها بما جرى له،فجمعت له أشياء من البيت، فذهب ليبيعها،فكسدت عليه،فمرّ على رجل و معه سمكة قد أروحت (2).
فقال له:إنّ معك شيئا قد كسد،و معي شيء قد كسد،فهل لك أن تبيعني هذا بهذا؟فباعه.
و جاء الرّجل بالسمكة إلى البيت،و قال لزوجته:قومي فأصلحي أمر هذه السمكة،فقد هلكنا من الجوع.
فقامت المرأة تصلحها،فشقّت جوف السمكة،فإذا هي بلؤلؤة،قد خرجت من جوفها.
ص:238
فقالت المرأة:يا سيّدي،قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج،و هو يقارب بيض الحمام.
فقال:أريني،فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله،فطار عقله،و حار لبّه.
فقال لزوجته:هذه أظنّها لؤلؤة.
فقالت:أ تعرف قدر اللؤلؤة.
قال:لا،و لكنّي أعرف من يعرف ذلك،ثمّ أخذها،و انطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ،[172 ر]إلى صديق له جوهريّ،فسلّم عليه،فردّ عليه السلام،و جلس إلى جانبه يتحدّث،و أخرج تلك البيضة.
و قال:أنظر كم قيمة هذه؟
قال:فنظر زمانا طويلا،ثمّ قال:لك بها عليّ أربعون ألفا،فإن شئت أقبضتك المال الساعة،و إن طلبت الزيادة،فاذهب بها إلى فلان،فإنّه أثمن بها لك منّي.
فذهب بها إليه،فنظر إليها و استحسنها،و قال:لك بها عليّ ثمانون ألفا،و إن شئت الزيادة،فاذهب بها إلى فلان،فإنّي أراه أثمن بها لك منّي.
فذهب بها إليه،فقال:لك بها عليّ مائة و عشرون ألفا،و لا أرى أحدا يزيدك فوق ذلك شيئا.
فقال:نعم،فوزن له المال،فحمل الرّجل في ذلك اليوم أثنتي عشرة بدرة،في كلّ بدرة عشرة آلاف درهم،فذهب بها إلى منزله،ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب،يسأل...
فقال:هذه قصّتي الّتي كنت عليها،أدخل،فدخل الرّجل.
فقال:خذ نصف هذا المال،فأخذ الرّجل الفقير،ستّ بدر،فحملها، ثمّ تباعد غير بعيد،و رجع إليه.
و قال:ما أنا بمسكين،و لا فقير،و إنّما أرسلني إليك ربّك عزّ و جلّ،
ص:239
الّذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطا (1)،فهذا الّذي أعطاك،قيراط منه، و ذخر لك تسعة عشر قيراطا (2).
ص:240
يحيى البرمكي يتحدّث
عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود
و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،قال:
روي أنّ خالد بن برمك (1)،قال[170 م]لابنه يحيى،في إضاقة نالته:
قد ترى ما نحن فيه،فلو لقيت يعقوب بن داود،و شكوت إليه ما نحن فيه.
فأتى يعقوب بن داود (2)،فذكر له ذلك،فسكت عنه،فانصرف يحيى، و هو مكروب،آيس من خيره،فأخبر أباه.
فقال:افتضحنا،فيا ليت أنا لم نكن كشفنا له خبرنا.
قال:فركب يحيى بن خالد من غد،فلقيه بعض إخوانه،فقال:
ما زال يعقوب بن داود يطلبك طلبا شديدا،فمضى إليه.
فقال له يعقوب:أين كنت؟و اللّه،إنّك أوردت على قلبي ما شغله بالفكر في إصلاحه،و قد عنّ لي أمر رجوت به صلاح حالك،إمض بنا إلى الديوان، فسار معه إليه.
فقال يعقوب:عليّ بتجّار السواد،فأحضروا.
فقال:أشركوا أبا علي معكم بالثلث فيما تبتاعونه من غلّة السلطان (3)، ففعلوا.
ص:241
فقال:لعلّ ذلك يشقّ عليكم؟
فقالوا:أجل.
فقال:أخرجوه،بربح تجعلونه له.
فأخرجوه بربح ستّين ألف دينار،فصلحت حاله،و حال أبيه،و مضى إليه بالمال (1).
ص:242
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
و ذكر محمّد بن عبدوس،في كتاب الوزراء،هذا الخبر بخلاف هذا، فقال:حكى يحيى بن خاقان،قال (1):
كنت يوما عند يحيى بن خالد،و بحضرته ابنه الفضل،إذ دخل عليه أحمد بن يزيد،المعروف[بابن]أبي خالد (2)،فسلّم و خرج.
فقال يحيى للفضل:في أمر هذا الرّجل،خبر،فإذا فرغنا من شغلنا فأذكرني به،حتّى أعرّفك،فلمّا فرغ من عمله،أذكره.
فقال:نعم،كانت العطلة،قد بلغت منّي،و من أبي،و توالت المحن علينا،حتّى لم نهتد إلى ما ننفقه.
فلبست ثيابي يوما،لأركب،فقال لي أهلي:إنّ هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوء حال،و أنا ما زلت أعلّلهم بما لا علالة فيه،و أصبحت،و ما لهم شيء،و ما لدابّتك علف.
فقرعت قلبي،و قطعتني عن الحركة،و رميت بفكري،فلم يقع إلاّ على منديل طبريّ،كان بعض البزّازين أهداه إليّ.
فقلت:ما فعل المنديل الطبريّ (3)؟
فقالت:ها هو.
فأخرجته إلى الغلام و قلت له:اخرج إلى الشارع،فبع هذا المنديل،
ص:243
فمضى،و عاد من ساعته،فقال:خرجت إلى البقال الّذي يعاملنا،و عنده رجل،فأعطاني بالمنديل إثني عشر درهما صحاحا،و قد بعته بشرط،فإن أمضيت البيع،و إلاّ أخرجت المنديل إلى سوق قنطرة البردان،و استقصيت فيه، كما تحبّ.
فأمرته بإمضاء البيع للحال الّتي خبّرتني بها المرأة،و أن يشتري ما يحتاج إليه الصبيان،و علفا للدابة،و ركبت،لا أدري إلى أين أقصد.
فأنا في الشارع،و إذا أنا بأبي خالد،والد هذا،و معه موكب عظيم ضخم،و هو يومئذ يكتب لأبي عبيد اللّه،كاتب المهدي،فملت إليه، و رميت نفسي عليه.
و قلت له:قد تناهت العطلة بأخيك،و بي،إلى ما لا نهاية وراءه، و عليّ،و عليّ،إن لم تكن قصّتي في يومي هذا،كيت و كيت،و قصصت عليه الخبر،و هو مستمع لذلك،ماض في سيره،فلمّا بلغ مقصده[173 ر]، انصرفت عنه،و لم يقل لي حرفا.
فانصرفت منكسف البال،منكرا على نفسي إسرافي في الشكوى،و إطلاعي إيّاه على ما أطلعته عليه.
و قلت:ما زدت على أن فضحت نفسي،و قلّلتها في عينه من غير نفع.
و وافيت منزلي على حال أنكرتها أهلي،فسألتني[171 م].
فقلت:جنيت اليوم على نفسي جناية كنت عنها غنيّا،و قصصت عليها قصّتي مع يزيد.
فأقبلت توبّخني،و قالت:ما حملك على أن أظهرت للرّجل حالك؟ فإنّ أقلّ ما في ذلك،أن لا يأتمنك على أمر،فإنّ من تناهت به الحال إلى ما ذكرت،كان غير مؤتمن،فنالني من توبيخها،أضعاف ما نالني أوّلا.
و أصبحنا في اليوم الثاني،فوجّهت بأحد ثوبيّ[8 ن]،فبيع،و تبلّغنا بثمنه يومنا.
ص:244
و أصبحنا في اليوم الثالث،و نحن في غاية الضيقة،فطوينا يومنا و ليلتنا.
فلمّا كان اليوم الرابع،ضاقت نفسي،و قلّ صبري،و ضعفت قوّتي، و اخترت الموت على الحالة الّتي أنا فيها.
فقالت لي أهلي:أنا خائفة عليك من الوسواس،فيكون ما نحتاج لعلاجك، أضعاف ما نحتاج لمؤونتنا،فسهّل الأمر عليك،و لا تضجر،و لا تقنط من رحمة اللّه،فإنّ اللّه عزّ و جلّ،الصانع،المدبّر،الحكيم.
قال:فركبت،لا أدري أين أقصد،فلمّا صرت إلى قنطرة البردان، لقيني رسول أبي خالد يطلبني،فدخلت داره.
فقال لي حاجبه:اجلس،فأقمت،و خرج مع الزوال،فدنوت منه.
فقال:يا ابن أخي،شكوت إليّ بالأمس،شكوى،لم يكن في جوابها إلاّ الفعل،و أمر بإحضار حميد،و داهر،تاجرين كانا يبيعان الطعام.
فقال لهما:قد علمتما أنّي إنّما بعتكما البارحة،ثلاثين ألف كرّ،على أنّ ابن أخي هذا شريككما فيها[بالسعر] (1).
ثمّ قال:لك في هذه عشرة آلاف كر[بالسعر] 4،فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار (2)ربحك،و آثرت أن تخرج إليهما من حصّتك،فعلت، و إن آثرت أن تقيم على ابتياعك،فعلت.
قال:فتنحّينا ناحية،و قالا:إنّك رجل شريف،و ابن شريف،و ليست التجارة من شأنك،و متى أقمت على الابتياع،احتجت إلى كفاة و أعوان، و لكن خذ منّا ثلاثين ألف دينار 5،و خلّنا و الطعام.
فقلت:قد فعلت،و قمت إلى أبي خالد،فقلت:قد أجبتهما إلى أخذ المال،و تركهما و الطعام.
ص:245
فقال:هذا أروح لك،فخذ المال،و تبلّغ به،و الزمنا،فإنّا لا نقصّر في أمرك بكلّ ما يمكننا.
فأخذت من الرّجلين ثلاثين ألف دينار(5)،و ما كان بين ذلك،و بين بيع المنديل و الثّوب،إلاّ أربعة أيّام.
فسرت إلى أبي،و خبّرته الخبر،و قلت له:جعلت فداك تأمر في المال بأمرك؟
فقال:نعم،أحكم عليك فيه،بمثل ما حكم أبو خالد به على التاجرين، أي أنّ الثلث لي.
فحملت إليه عشرة آلاف دينار،و اشتريت بعشرة آلاف دينار ضيعة (1)، و لم أزل أنفق الباقي،إلى أن أدّاني ذلك إلى هذه الحال،و إنّما حدّثتك بهذا، لتعرف-يا بنيّ-للرّجل حقّه.
فقلت ليحيي بن خاقان:فما الّذي كان من يحيى بن خالد إلى أحمد بن أبي خالد؟
قال:ما زال هو و ولده،على نهاية البرّ به،حتّى نال ما نال من الوزارة، بذلك الأساس الّذي أسّساه (2).
و قرئ على أبي بكر الصولي،بالبصرة،سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة، بإسناد،و أنا حاضر،في كتابه«كتاب الوزراء»حدّثكم عون بن محمّد الكندي،عن إبراهيم بن الحسن بن سهل،قال:سمعت أهلي يتحدّثون:
أنّ يحيى بن خالد البرمكي،قال:نالتني خلّة في أيّام المهدي،فجئت إلى يزيد الأحول،أبي خالد،و كان يكتب لأبي عبيد اللّه،فأبثثته حالي، فما أجابني،و لا أقبل عليّ،فتأخّرت نادما،ثمّ جاءني[174 ر]رسوله من
ص:246
الغد،فصرت إليه.
فقال لي:إنّك شكوت إليّ شكوى لم يكن جوابها الكلام و التوجّع، و قد بعت جماعة من التجّار،ثلاثين ألف كرّ،من غلاّت السواد،و اشترطت لك ربع[172 م]الرّبح،فخذ كتابي هذا إليهم،فإن أحببت أن تصبر إلى أن تباع الغلّة،توفّر ربحك،و إن ناظرت التجّار،و خرجت من حصّتك بربح عاجل،فأقلّ ما يبذلونه لك ثلاثون ألف دينار،فدعوت له.
و لقيت القوم،فقالوا:أنت رجل سلطان،و لا يتهيّأ لك ما نفعل نحن من الصبر على الغلّة،و انتظار الأسعار،فهل لك أن تخرج منها بربح ثلاثين ألف دينار معجّلة؟
فقلت:نعم،فقبضتها في يوم واحد،و انصرفت (1).
و ذكر أبو الحسين في كتابه،قال:حدّث محمّد بن أحمد بن الخصيب، قال:حدّثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول،يحدّث،قال:
كان السلطان قد جفا خالد بن برمك،و اطّرحه،حتّى نالته إضاقة شديدة، و كاد أن ينكشف.
فحدّثت أن يحيى بن خالد أصبح يوما،فخرجت إليه امرأته،أمّ الفضل ابنه،فقالت له:ما أصبح اليوم في منزلك دقيق،و لا علف للدابّة،و لا نفقة لشيء.
فقال لها:بيعوا شيئا من البيت.
قالت:ما بقي في البيت ما له قدر،و لا ما يمكن بيعه.
فقال:قد كان فلان،أهدى إلينا منديلا فيه ثياب،فبعنا الثياب،فما فعل المنديل؟
قالت:باق.
ص:247
قال:فبيعوه.
فبعثت به إلى سوق قنطرة البردان،فبيع بنيف و عشرين درهما،فأنفقوها أيّاما.
ثمّ خرجت إليه،فقالت:ما قعودك؟ما عندنا نفقة،و لا دقيق،و لا علف للدابّة.
فركب يحيى،فكان أوّل من لقيه أبو خالد الأحوال،فشكا إليه ما هو فيه، فأمسك،ثمّ أجابه بجواب ضعيف.
و انصرف يحيى إلى منزله،و قد كاد يتلف غمّا و ندما،و لام زوجته، و أقام أيّاما لا يركب،و زوجته تحتال فيما تنفق.
ثمّ حرّكته على الركوب،و شكت إليه انقطاع الحيلة،و تعذّر القوت، فركب،فلمّا صار في بعض الطريق،لقيه أبو خالد.
فقال له:صرت إليّ،و سألتني أمرا،حتّى إذا أحكمته لك،تركت تنجّزه.
فقال:كرهت التثقيل عليك.
فقال:إنّك شكوت إليّ أمرك،فغمّني،و ذكرته لأبي عبيد اللّه،فتقدّم إليّ فيه بأمر،ثمّ لم تصر إليّ،فتعال معي الآن إلى الديوان.
قال يحيى:فمضيت معه إلى الديوان،فأحضر التجّار المبتاعين لغلاّت الأهواز،فقال لهم:هذا الرّجل الّذي جعل له الوزير سهما معكم فيما ابتعتموه فحاسبوه على ما بينكم و بينه.
قال يحيى:فأخذ التجّار بيدي إلى ناحية،فواقفوني،على ربح خمسين ألف دينار،و أن أدعهم و الغلّة،فما برحت،حتّى راج لي المال،و حملته إلى منزلي.
و عرّفت أبي الحال،فأخذ من المال عشرين ألفا،و قال:هذه تكفيني
ص:248
لنفقتي،إلى أن يفرّج اللّه تعالى عنّي،و الباقي لك،فإنّ عيالك كثير.
قال أحمد بن أبي خالد:فرعى لي القوم ذلك،يعني البرامكة،فلمّا صار الأمر إليهم،أشركوني في نعمتهم،و كان آخر ما وليت لهم جند الأردن.
و انصرفت إلى مدينة السلام،و قد سخط الرّشيد على يحيى،و معي من المال ستّة آلاف دينار،فتوصّلت إلى أن[175 ر]دخلت إليه في الحبس، فتوجّعت له،و عرضت عليه المال.
فقال:لست أجحف بك،احمل إلينا منه ثلاثة آلاف دينار،و كتب رقعة،بخطّ لا أعرفه،ثمّ أتربها،ثمّ قطعها نصفين،فجعل أحدهما تحت [10 ن]مصلاّه،و دفع إليّ الآخر.
و قال:أمرنا قد ولّى،و دولتنا قد انقضت،و هذا الخليفة سيموت، و ستقع فتنة يطول فيها الأمر بين خليفتين،يكون الظاهر منهما صاحب المشرق، و سيكون[173 م]لغلام،يقال له الفضل بن سهل،معه حال،فإذا بلغك ذلك، فادفع إليه هذا النصف من الرقعة،فإنّك ستبلغ بها ما تحبّ عنده.
قال أحمد بن أبي خالد:فخرجت من عنده،و أنا أندم النّاس على إخراجي من يدي ثلاثة آلاف دينار،إلى رجل قد نعى نفسه إليّ،فاحتفظت بنصف الرقعة.
و مضت الأيّام،و ولي محمّد المخلوع،و وقعت الفتن،و لزمتني عطلة، و دامت،حتّى رقّت حالي،و اشتدّ إختلالي.
و دخل طاهر مدينة السلام،فإنّي ذات يوم متفكّر في أمري،متحيّر فيما أعمله،سمعت قرع الباب عليّ.
فقلت لزوجتي:أخرجي إلى الدهليز،و أعرفي الخبر،و لا تتكلّمي، و لا تفتحي،فمضت،و جاءت مذعورة.
ص:249
و قالت:ما أدري،على الباب جماعة من الشرط و المسوّدة (1)و نفّاطات.
فخرجت،و وقفت خلف الباب،و قلت:من هذا؟
فقالوا:هذا منزل أحمد بن أبي خالد الأحول؟
فقلت:نعم.
فقالوا:نحن رسل الأمير طاهر بن الحسين إليه.
فقلت:لعلّكم غلطتم،ما يريد الأمير من مثله؟
فقال بعضهم:يا هذا،إنّا جئنا في أمر يسرّه،فأعلمه إيّاه،و أنّه لا بأس عليه.
قال:و ظنّني غلاما في الدار،فسكنت إلى هذا القول،و رجعت إلى مجلسي من الدار،و أنفذت جارية سوداء كانت لي،حتّى تفتح الباب.
فدخل قائد جليل،و برك بين يدي،و قال:أنت-أعزّك اللّه تعالى أحمد بن أبي خالد؟
قلت:نعم.
قال:الأمير يسألك أن تصير إليه الساعة.
قال:فأردت أن أسبر الأمر الّذي دعيت إليه،أخير هو أم شرّ.
فقلت:أدخل،و ألبس ثيابي.
قال:افعل.
قال:فدخلت،و أوصيت زوجتي فيما أحتاج إليه،و علمت أنّه لا بأس عليّ،و لبست مبطّنتي،و طيلساني (2)،و شاشيتي (3)،و خفّي،ثمّ خرجت.
ص:250
فقلت:ليس لي مركوب.
قال:فاركب من جنائبي (1)،فركبت دابّة قدّمها إليّ،و صرت إلى طاهر،فسلّمت عليه،فساعة رآني،قال:أنت أحمد بن أبي خالد الأحول؟
قلت:نعم.
فألقى إليّ كتابا في نصف قرطاس،بخطّ الفضل بن سهل،و كان أوّل كتاب رأيته،لأبي فلان،من فلان،فإذا عنوانه:لأبي الطيّب أعزّه اللّه تعالى، من ذي الرياستين،الفضل بن سهل،و صدره:أعزّك اللّه،و أطال بقاءك، أمر أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه،بأن تتقدّم ساعة وصول كتابي هذا،بطلب أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب،حيثما كان من أقطار الأرض (2)، فتحضره مجلسك،و تصله بخمسين ألف درهم،و تحمله على عشرين دابة من دوابّ البريد،إلى باب أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه،مصونا،و لا ترخّص له في التأخّر،[فرأيك-أعزّك اللّه-في العمل بذلك،موفّقا،إن شاء اللّه تعالى،و كتب في يوم كذا من شهر كذا] (3).
قال:فلمّا قرأت الكتاب،اشتدّ سروري،و قلت:آخذ فيما أحتاج إليه،و أنهض.
فقال:ما إلى تأخّرك سبيل،هذا المال،و هذه الدوابّ،و تخرج الساعة.
فقلت:أكتب إلى منزلي بما أحتاج إليه،و أخذت المال،و حملت أكثره [176 ر]إليهم،و كاتبتهم بما أحتاج إليه.
و ذكرت الرقعة الّتي من يحيى بن خالد،فأمرتهم بإنفاذها إليّ،و طلبت قماشا قليلا ممّا لا بدّ منه.
ص:251
فعاد الجواب بوصول المال،و أنفذوا النصف من الرقعة،و ما طلبت من القماش،و شخصت من دار طاهر،سحر تلك الليلة.
فما مررت بمدينة إلاّ خدمت فيها أتمّ خدمة،إلى أن وافيت الريّ،فلقيني رجل ذكر لي أنّ ذا الرياستين أنفذه لتلقّي،و القيام[174 م]بمصالحي إلى أن أوافي حضرته،فلم يزل قائما بما أحتاج إليه،و يحضّ كلّ من أجتاز به على تفقّدي و خدمتي إلى أن وافيت باب الفضل بمرو،و معي صاحبه،و صاحب طاهر.
فوقفت بباب الفضل طويلا إلى أن تفرّغ،و دعاني،فدخلت،و هو في قبة أدم،و عليه سواد،و حوله السلاح كلّه،و بين يديه جحفة فيها كتب.
فلمّا مثلت بين يديه،قال لي:أنت أحمد بن أبي خالد الكاتب؟
فقلت:نعم.
قال:انصرف إلى منزلك،و ارجع إلينا بعد ثلاثة أيّام في سواد،لأدخلك على أمير المؤمنين.
فولّيت من بين يديه،و أنا لا أدري إلى أين أمضي،و إذا خادم قد لحقني، و أخذ بيدي،و خرج معي،حتّى سار إلى دار قد أعدّت لي،و فيها كلّ ما أحتاج إليه من فرش،و آلة،و كسوة،و غلمان،و دوابّ،و قماش،و غير ذلك من الأطعمة و الأشربة،فجعل يعرّفني ما تحت يد كلّ غلام،ثمّ قال:
هذا كلّه لك،و انصرف،فأقمت في كلّ نعمة و سرور،ثلاثة أيّام.
ثمّ غدوت في اليوم الرّابع في سواد (1)،فألفيت ذا الرياستين خارجا من داره،فترجّلت،و دنوت،فأعطاني طرف كمّه فقبّلته،ثمّ أمرني بالركوب، فركبت،و سرت في موكبه،حتّى وافى دار المأمون،فثنى رجله،و نزل في محفّة معدّة له،فجلس فيها،و حمله القوّاد على أعناقهم،حتّى أجلسوه مع
ص:252
المأمون على السرير،فمكثت غير بعيد.
فجاء خادم فدعاني،فدخلت،و الفضل و المأمون على السرير،و كلّ واحد منهما مقبل على صاحبه.
فقال الفضل:يا أمير المؤمنين،هذا أحمد بن أبي خالد،كانت كتبه ترد علينا من مدينة السلام بأخبار المخلوع،في وقت كذا،و في وقت كذا، و قد وفد على أمير المؤمنين و هو من اليسار،و حسن الحال،على أمر يقصر عنه الوصف،و هو يعرض نفسه،و ماله،على أمير المؤمنين،يريد أنّه متى خلا بي،فسألني عن شيء،كنت قد عرفته.
قال أحمد:فشيّعت كلامه بما حضرني[11 ن].
فقال المأمون:بل،قد وفّر اللّه تعالى عليه ماله،و نضيف إليه أمثاله.
فقال:يا أمير المؤمنين،و يشرك بينه و بين خدم أمير المؤمنين،في تقلّد الأعمال.
قال:نعم.
قال:و يولّى ديوان التوقيع،و ديوان الفضّ و الخاتم.
قال:افعل.
قال:و يخلع عليه خلعة هذه الأعمال.
قال:نعم.
قال:وصلة يعرف بها موقعه من أمير المؤمنين.
قال:نعم.
قال أحمد:فما برحت،حتّى أنجز لي كلّ ذلك،و انصرفت.
فلمّا كان بعد عشرين يوما بعث إليّ في اللّيل،فعلمت أنّه لم يحضرني في هذا الوقت،إلاّ ليسألني عن الرقعة،فجعلتها في خفيّ،و صرت اليه،و إذا هو جالس،و الحسن أخوه إلى جانبه.
ص:253
فقال لي:يا أبا العبّاس،كانت بينك و بين شيخنا أبي علي رضي اللّه عنه حرمة؟
قلت:نعم،و أيّ حرمة.
فقال:ما هي؟
فقصصت عليه كيف كانت قصّة أبي معه،ثمّ وصلت ذلك بخبري، إلى أن أنتهيت إلى حديث الدنانير و نصف الرّقعة.
فقال:أين هي؟
فأخرجتها من خفّي،فدفعتها إليه،فرفع مصلاّه،فإذا النصف الّذي كان يحيى بن خالد رحمه اللّه،جعله تحت مصلاّه،فقرن بينهما،و التفت إلى أخيه و قد دمعت عيناه.
فقال:هذا خطّ[177 ر]أبي علي رضي اللّه عنه،ثمّ قال:أقرأت ما فيها؟.
قلت:لا.
قال:فيها«أمتعني اللّه بك-يا بنيّ-طويلا،و أحسن الخلافة عليك، قد وجب عليّ من حقّ أبي العبّاس أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب،في الحال الّتي أنا عليها،ما قد[175 م]أثقلني،و أعجزني عن مكافأته،إلى غير ذلك ممّا أعتدّ به لسلفه،و نجمنا قد أفل،و أمرنا قد انقضى،و دولتك قد حضرت،و جدّك قد علا،فأحبّ أن تقضي عنّي حقّ هذا الفتى،إن شاء اللّه تعالى.
قال أحمد بن أبي خالد:فلم أزل مع الفضل،تترقّى حالي،و اختصّ بخدمة المأمون،إلى أن دارت الأيّام،و استكتبني المأمون،و زادت النعمة،و نمت، و الحمد للّه على ذلك (1).
ص:254
و ذكر محمّد بن عبدوس في كتابه«كتاب الوزراء»في أخبار أحمد بن أبي خالد،قال:
كان سبب اتّصاله بالمأمون،أنّ الرّشيد لما سخط على البرامكة،و اتّصل خبرهم،و ما هم فيه من الضيق،بأحمد بن أبي خالد،شخص نحو الرقّة، فوافاها و قد أمر الرّشيد بمنع حاشيتهم من الدخول إليهم.
فلم يزل يحتال حتّى وصل إلى يحيى،فانتسب له،و عرّفه أنّه قصده لخدمته.
فرحّب به يحيى و أعلمه أنّه كان يحبّ أن يقصده في وقت إمكان الأمور، ليبلغ من مكافأته و تحقيق ظنّه حسب رغبته.
فشكره أحمد،و سأله قبول شيء حمله معه،و إن كان يسيرا،و ضرع إليه.
فدفعه يحيى عنه،و قال:نحن في كفاية.
فألحّ أحمد عليه،و أعلمه أنّه لا يثق بقبول انقطاعه إليه إلاّ بإجابته إلى ما سأل.
فسأله يحيى عن مقدار ذلك،فقال:عشرة آلاف درهم.
فقال:ادفعها إلى السجّان.
و قال لأحمد:إنّ حالنا حال لا نرجو معها بلوغ مكافأتك،و لكنّي سأكتب لك كتابا إلى رجل سيقوم بأمر الخليفة الّذي يملك خراسان،فأوصل إليه كتابي،فسيقوم بقضاء حقّك.
ثمّ كتب له في قريطيس كتابا،و طواه،و وضع عليه خاتمه،فانصرف أحمد إلى منزله.
فلمّا قلّد الفضل بن سهل أمر المأمون،قصده أحمد بن أبي خالد،فوصل إليه في دار المأمون.
فلمّا فرغ من أعماله،أوصل إليه الكتاب،فأنكر وجهه،و سأله عن صاحب الكتاب،فقال:يقرأه الأمير-أطال اللّه بقاءه-فإنّه سيعرفه.
فلمّا فضّه،و نظر إلى الخطّ استبشر،ثمّ استدنى أحمد بن أبي خالد،
ص:255
و أعلمه إنّه من أعظم خلق اللّه منّة عليه،و أوجبهم حقّا،و أمره بالمصير إلى منزله.
فصار أحمد بن أبي خالد إلى دار الفضل،فلمّا وصل إليه فيها،عانقه، و قبّله،و قال:أوجبت-و اللّه-عليّ حقّا.
و سأله عن خبر الكتاب،فذكره له،فوعده ببلوغ المحبّة،و أمر بإنزاله منزلا يتّخذ له،و يفرش بما يحتاج إليه،و وجّه بحاجبه،و بعض خدمه، و معهم تخوت ثياب،و خمسون ألف درهم،و اعتذر إليه،و أمره بالاستعداد للوصول إلى المأمون،ثمّ أوصله إليه،و وصفه له،و قرّظه.
و لم يزل يقوم بحاله عنده،حتّى أمر المأمون بتصريف أحمد بن أبي خالد، و أجرى له الأرزاق و الأنزال،و أجراه في الوصول إليه مجرى الخاصّة،و قلّده من أعمال خراسان،و ما وراء النهر،أعمالا جليلة،و تمكّنت حاله عنده (1).
قال محمّد بن عبدوس:و حدّثني علي بن أبي عون،قال:حدّثني أبو العبّاس بن الفرات،قال:حدّثني علي بن الحسن،قال:حدّثني محمّد بن عمر الجرجاني الكاتب (2):و ذكر من خبر أحمد بن أبي خالد و يحيى بن خالد مثل الّذي ذكره يحيى بن خاقان،و زاد فيه:
إنّ أحمد بن أبي خالد لم يحظ من أيّام يحيى بن خالد بشيء،و إنّه لزمه عند حبسه،فلمّا حضرته الوفاة زوّده كتابا إلى الفضل بن سهل[9 ن] يعتذر إليه فيه من ولاية ما أولاه،و يسأله مكافأته عنه،و أنّه احتفظ بالكتاب مدّة أيّام الرّشيد،و صدرا من أيّام محمّد،و ساءت حال أحمد بن أبي خالد،و عظم فقره جدّا،و اشتدّت عليه العطلة و الخلّة،فلمّا أنفذ محمّد الأمين علي بن عيسى بن ماهان،لمحاربة طاهر،عمل أحمد على اتّباع عسكره.
ص:256
قال محمّد بن عمر الجرجاني:فجاءني يذكر ما عزم عليه،و يصف إفراط خلّته،و قصور حيلته،و سألني أن أسأل سلاما الأبرش،لمودّة كانت بينه و بين أبيه،أن يعينه بمركوب و بألفي درهم.
فقصدت سلاما،و سألته في ذلك،فقال:و اللّه،لو كان لي بعدد الذباب دوابّ،ما أعطيته شعرة من ذنب واحد منها،و لو كان عندي بقدر رمل عالج عين و ورق،ما أعطيته منها حبّة.
فانصرفت إليه-و قد كان أقام في منزلي،ينتظر ما يجري-فأخبرته بما قال،و حلفت له أنّي ما أملك إلاّ دابّة،و بغلة،و أربعمائة درهم،فليأخذ منها ما شاء.
فقال:أنت إلى الدابّة في الحضر أحوج،و أنا إلى البغلة في السفر أحوج، فأعطنيها،و أنت مقيم،و أنا مسافر،و تقدر-أنت-أن تحتال لنفسك نفقة،و أنا لا أقدر،فأعطني أربعمائة الدرهم كلّها.
فدفعتها إليه مع البغلة،و صحب عسكر علي بن عيسى.
فلمّا حدث على عليّ ما حدث،صار إلى الفضل،فأوصل إليه الكتاب، فقرأه،و سرّ نهاية السرور،و أكرمه غاية الإكرام،و أنكر عليه تأخّره إلى ذلك الوقت.
و قال:ما أعرف شيئا أقضي به حقّك،إلاّ أن أشركك في أمري،و أقلّدك العرض على أمير المؤمنين خلافة لي.
فقلّده ذلك،و كبر أمره.
و لم يزل أحمد بن أبي خالد،يضرّب على سلام الأبرش،و يغري به المأمون،إلى أن قال له:قد وهبت لك دمه،و جميع ما يملكه.
فقبض عليه،و قبض منه ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم،و دعا بالسيف و النطع،و أمر بضرب عنقه،بعد أن قرّعه بما كان منه عند مسألة محمّد بن عمر الجرجاني في أمره.
ص:257
ثمّ أعرض عن قتله،و أمر بحبسه،و قال للمأمون:إنّي كرهت أن أتجاوز مذهب أمير المؤمنين في العفو،فاستصوب رأيه.
و ترقّت أحوال أحمد بن أبي خالد،إلى أن تقلّد وزارة المأمون.
قال محمّد بن عمر الجرجاني:و حدثت الفتن بعد ذلك ببغداد،و تشرّد أهلها عنها،فهربت إلى إخوان كانوا لي بالكوفة،فأقمت عندهم،و استطبت البلد،فسكنته،و أبتعت بجميع ما أملكه ضيعة هناك،و ولينا عامل أحسن إلينا،فشكرناه،و انعقدت بيننا و بينه مودّة وكيدة.
ثمّ صرف بعامل آخر،فحقد علينا المودّة الّتي كانت بيننا و بين المصروف، فأساء معاشرتنا،و اضطرّنا إلى قصد أحمد بن أبي خالد للتظلّم،فدخلت بغداد، فلمّا رآني أكرمني،و استبطأني،و ذكر تطلّعه إلى لقائي،و طلبه إيّاي،و غموض خبري عليه،و سألني عن أموري،فشرحتها له،فكتب بخطّه بصرف العامل، و تقليد المصروف الّذي كان صديقي.
و أعلمني بما جرى عليه أمر سلام الأبرش،و قال:قد كنت جعلت لك فيما قبضت منه الربع،و هو معزول لك،فتسلّمه،و كان قيمته ألف ألف درهم (1).
ص:258
قصّة أبي عبيد اللّه وزير المهدي
و كيف ارتقت به الحال حتّى نال الوزارة
و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،قال:حدّثني محمّد بن أحمد بن الخصيب،قال:حدّثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول،يقول:
كان أبي صديقا لأبي عبيد اللّه وزير المهدي،و هو إذ ذاك معلّم،و أبي متخلّي (1)،فكانا يتعاشران،و يألفهما أحمد بن أيّوب.
قال أبو خالد:و كنّا نتبيّن في أبي عبيد اللّه شمائل الرئاسة،و نصدّره إذا اجتمعنا،و نرجع إلى رأيه فيما يعرض لنا.
فقلت له ليلة،و نحن نشرب:نحسبك سترأس،و تبلغ مبلغا عظيما، فإن كان ذلك،فما أنت صانع بنا؟
فقال:أمّا أنت يا أبا خالد،فأصيّرك خليفتي على أمري،و أمّا أنت يا ابن أيّوب،فقل ما أردت.
فقال:أريد أن تولّيني أعمال مصر سبع سنين متوالية،و لا تسألني بعد الصرف عن حساب.
قال:ذلك لك.
قال أبو خالد:فلم يمض لهذا الأمر إلاّ مديدة،حتّى أمسكت السماء، و خرج النّاس يستسقون،و كان عليهم-إذ ذاك-ثعلبة بن قيس،عاملا من قبل صالح بن عليّ،فما انصرف النّاس،حتّى أتت السماء بمطر غزير.
فقال ثعلبة لكاتبه:اكتب إلى الأمير بما كان من القحط،و ما حدث بعده
ص:259
من الاستسقاء،و ما تفضّل اللّه به من الغيث.
فكتب كتابا،لم يرضه ثعلبة،فقال لمن حوله:أ لا يصاب لي رجل، يخاطب السلطان عنّي،بخطاب حسن.
فقال له بعضهم:ها هنا رجل مؤدّب،معه بلاغة،و أدب كثير، و فيه-مع ذلك-عقل.
فقال:أحضره.
فأحضر أبا عبيد اللّه،و أمره بأن يكتب عنه إلى صالح بن علي (1)،في ذلك المعنى،فكتب كتابا استحسنه ثعلبة،و أنفذه إلى صالح بن علي.
فلمّا قرأه أعجبه،و كتب إلى ثعلبة:أن أحمل إليّ كاتبك على البريد، فحمله إليه،فلمّا وافاه،امتحنه،فوجده كافيا في كلّ ما أراده،فاستكتبه.
فلمّا تتابعت كتبه عن صالح بن علي،إلى المنصور،قال المنصور:كنت أرى كتب صالح بن علي ترد ملحونة،و أراها الآن ترد بغير ذلك الخطّ، و هي محكمة،سديدة،حسنة.
فخبّر بخبر أبي عبيد اللّه،فأحضره،فلمّا فاتشه،وجده كما أراد،فاستكتبه لابنه المهدي.
قال أبو خالد:و طعن الرّبيع على أبي عبيد اللّه،عند المنصور،مرارا (2).
فقال:ويلك،أ تلومني في اصطناع معاوية،و قد كنت أجتهد بأبي عبد اللّه -يعني المهدي-أن ينزع عنه لباس العجم،فلا يفعل،فلمّا صحبه معاوية،
ص:260
لبس لباس الفقهاء.
قال أبو خالد:ثمّ أشخصني أبو عبيد اللّه إليه،لما كتب للمهدي، فقلّدني خلافته على الديوان،فلمّا مات المنصور،و ولي المهدي الخلافة، أنفذت الكتب إلى أحمد بن أيّوب بولاية مصر،فلم يزل بمصر،واليا عليها، إلى أن توفي بها (1).
ص:261
القاضي التنوخي يتحدّث
عن قصّته مع أبي علي أحمد بن محمّد الصولي
قال مؤلّف هذا الكتاب:كنت بالبصرة[178 ر]في المكتب سنة خمس و ثلاثين،و أنا مترعرع،أفهم،و أحفظ ما أسمع،و أضبط ما يجري.
و كان أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي،قد مات بها في شهر رمضان من هذه السنة،و أوصى إلى أبي في تركته،و ذكر في وصيته أنّه لا وارث له.
فحضر إلى أبي ثلاثة إخوة شباب،فقراء،بأسوء حال،يقال لأكبرهم:
أبو علي أحمد (1)،و الأوسط:أبو الحسن محمّد،و الأصغر أبو القاسم، بنو محمّد التمّار.
و ذكروا لأبي،أنّ أمّهم تقرب إلى أبي بكر الصولي،و أنّهم يرثونه برحمها منه،و ذكروا الرحم و اتّصالها.
فسامهم أبي،أن يبينوا ذلك عنده بشهادة شاهدين من العدول،ليعطيهم ما يفضل-بعد الدين من التركة-عن الثلث،فاضطربوا في ذلك،و كانوا يتعكّسون (2)في إقامة الشهادة شهورا،و يلازمون باب أبي.
و كان مكتبي في بيت قد أخرجه من داره إلى سكّة الإثنين الّتي ينزلها، و جعل بينه،و بين باب داره،دكّانا (3)ممتدّا.
ص:262
فكنت،و معلّمي،و الصبيان،نجلس طرفي النهار على الدكان،و في انتصافه في البيت.
فكان هؤلاء الإخوة يجلسون عندي في المكتب كثيرا،و يؤانسون معلّمي،و يلاعبوني،و يتقربون إليّ،و يسألوني أن أعرض لهم على أبي، الرقعة،بعد الرّقعة،يعطوني إيّاها.
فقال لي يوما،الأكبر منهم،و هو أبو علي أحمد بن محمّد:إن أعطاك اللّه تعالى،الحياة،حتّى تتقلّد القضاء،و تصير مثل القاضي أبيك في الجلالة و النعمة،و جئتك،أيّ شيء تعطيني؟
فقلت له،بالصبا،و كما جرى عليه لساني:خمسمائة دينار.
قال:فأعطني خطّك بها،فاستحييت،و سكتّ.
فقال لمعلّمي:قل له يكتب لي.
فقال لي:اكتب له،و أملى عليّ المعلم،و أبو علي،رقعة في هذا المعنى، و أخذها أبو علي[12 ن].
فما مضت إلاّ أيّاما حتّى استدّت (1)لهم الشهادة عند أبي،على صحّة ما ادّعوه من الرحم،و استحقاق الميراث بها.
و كان أبي قد باع التركة،و قضى الدين،و فرّق قدر الثلث،و ترك الباقي مالا عنده،فأمر بتسليمه إليهم،و أشهد بقبضه عليهم،و انصرفوا.
فما وقعت لي عين على أحد منهم،إلاّ في سنة ست و خمسين و ثلثمائة، فانّي كنت أتقلّد القضاء و الوقوف بسوق الأهواز،و نهر تيرى،و الأنهار، و الأسافل،و سوق رامهرمز،سهلها و جبلها،و أعمال ذلك،و أنا في داري بالأهواز،و أمري في ضيعتي مستقيم.
ص:263
فدخل إليّ بوّابي،فقال:بالباب رجل يقول:أنا من قرابة الصولي، قدمت من بغداد بكتب إليك،و ذكره لي،فلم أذكره.
و قلت:أدخله.
فدخل رجل شيخ لم أعرفه،فسلّم،و جلس،و قال:أنا خادم القاضي منذ كان في المكتب،أنا قرابة الصولي،فعرفته،و لم أذكر الخطّ،و لا القضية.
فأخرج إليّ كتبا من جماعة رؤساء ببغداد،يذكرون أنّه قد كان مقيما منذ سنين،ببغداد،ورّاقا بقصر وضّاح (1)بالشرقية (2)،بحالة حسنة،فلحقته محن أفقرته،و يسألوني تصريفه،و منفعته،فوعدته جميلا.
فقال:إنّما جعلت هذه الكتب،طريقا يعرفني القاضي بها،و ما أعوّل الآن عليها،إذ قد أحياني اللّه عزّ و جلّ،إلى أن رأيته قاضيا في بعض عمل أبيه رضي اللّه عنه،و جاهه و نعمته،كجاهه و نعمته،أو قريب من ذلك، و قد حلّ لي بذلك دين عليه،واجب في ذمته،و ما أقنع إلاّ به.
فقلت:ما معنى هذا الكلام[179 ر].
فقال:أ ينسى القاضي ديني؟ثمّ أخرج رقعتي الّتي كان أخذها منّي في المكتب.
فحين رأيتها،ذكرت الحديث،و حمدت اللّه كثيرا،و قلت:دين واجب حالّ،و حقّ مرعيّ و كيد،و لكن تعرف صعوبة الزمان،و اللّه،ما يحضرني اليوم مائة دينار منها،و لو حضرت،ما صلح أن أشتهر بصلتك بها،
ص:264
فيصير لي حديث يعود بضرر عليّ،و لكن ارض منّي،بأخذ دينك متفرّقا.
فقال (1):قد رضيت،و ما جئت إلاّ لأقيم في فنائك،إلى أن أموت.
و جاء لينهض،فقلت:إلى أين؟اجلس،فجلس،فوقّعت له في الحال، إلى بزّاز كان يعاملني،أن يعطيه ثيابا بثلثمائة درهم،و إلى جهبذ الوقوف، أن يعطيه من أبواب البرّ،عشرة دنانير،و استدعيت كيس نفقتي،و أعطيته منه مائتي درهم.
و قلت له:قم،فاستأجر دارا،و تأثّث بما قد حضر الآن،و اكتس، و عد إليّ،لأصرّفك فيما أرجو أن أوصله إليك،منه،و من مالي،الجملة الّتي في الرّقعة.
فقبّل يدي،و رجلي،و بكى،و قال:الحمد للّه الّذي أراني هذا الفضل منك،و حقّق فراستي فيك،و قام.
و جاءني بعد يومين،في ثياب جدد،فأمرت بوابي ألاّ يحجبه عليّ، و خلطته بنفسي،و أجريت عليه من أبواب[169 غ]البرّ بالوقوف،بالضعف و المسكنة (2)،دينارين في الشهر،و قلّدته الإشراف على المنفقين في ديوان الوقوف، و أجريت عليه لهذا ثلاثة دنانير أخرى في الشهر،و ولّيته (3)جباية عقار الأيتام، و ولّيته عليهم،و أذنت له في أخذ أعشار الارتفاع،و جعلته مشرفا على أوصياء في وصايا في أيديهم،إلى أن يخرجوها في وجوهها،[و جعلت له على ذلك أجرا،] (4).
و ركبت إلى عامل البلد،فسألته له،فأجرى عليه في كلّ سنة،من مال
ص:265
أثمان فرائض الصدقات،ستّين دينارا،[و كان رسم أهل ديوان الصدقات بكور الأهواز،في ذلك الحين،أن يسبّب لهم بنصف أرزاقهم،[و يرتفق العمّال من ذلك النصف بقطعة منه](10)،و يصل إليهم الباقي تحقّقا،أو يسبّب أخذه مستأنفا،لضيق المال،و قلّته عن أصول أرزاق المرتزقة،فكنت أتقدّم إلى من يقوم له في المطالبة،أن يلازم العمّال،حتّى يصل إليه كاملا] (1).
و كنت أعطيه،في كلّ شهر أو شهرين،شيئا من مالي،و شيئا من كسوتي، و ثيابا صحيحة من بزّازيّ،فو اللّه الّذي لا إله إلاّ هو،ما صرفت عن عملي- و كانت صحبته لي نحو ثلاثين شهرا-إلاّ و قد وصل إليه من هذا الوجه، و من غيره،أكثر من خمسمائة دينار،حتّى أنّه تزوّج فيها بوساطتي،و بجاه خدمتي،إلى امرأة موسرة،من أهل الأهواز،و صار الرجل من المتوسطين بالأهواز،و صار ينسب إلى الصولي،و شهر نفسه بأبي عليّ الصولي.
ثم صرفت عن تلك الولاية في سنة تسع و خمسين و ثلثمائة،لما ولي الوزارة محمد بن العباس،فقصدني،و صرفني،و قبض ضيعتي،و أشخصني إلى بغداد، بعد حقوق كانت لي عليه،و آمال لي فيه (2).
فتجرّد أبو علي هذا،المعروف بالصولي،لسبّي في المجالس،و شتمي في المحافل،و الطعن عليّ بالعظائم،و السعاية عليّ في مكارهي.
فكشف اللّه تعالى تلك المحن عنّي،و أجراني على تفضّله،بغير كثير سعى منّي،و لا حول و لا قوة إلاّ باللّه،وعدت بعد ثلاث سنين و شهور،إلى الأهواز، واليا بها،و للأعمال الّتي كنت عليها معها،و أضيف إليّ واسط و أعمالها،و قد استخلفت عليها،و رجعت[180 ر]إلى داري،فجاءني هذا الرّجل معتذرا.
فقلت له:أ تحبّ أن أقبل عذرك؟
ص:266
قال:نعم.
قلت:أخبرني ما السبب الّذي أحوجك إلى ما عملت بي من القبيح،بعد ما عملته معك من الجميل؟فجمجم في القول (1).
فقلت له:ما إلى الرضا سبيل.
فقال:أنا أصدقك،دخلت عليك يوما،و على رأسك قلنسوة باذان (2)جديدة من خرقة حسنة،فاستملحتها،فسألتك هبتها لي،فرددتني،فلمّا كان بعد أيّام،رأيتها على رأس ابن نظيف المتكلّم،المعروف بشهدانه (3).
فسألته:من أين لك هذه؟
فقال:وهبها لي القاضي.
فوقر ذلك في نفسي منك،و تزايد،فلمّا حدثت تلك النكبة،كان منّي بعض ما بلغك[170 غ]،و أكثره كذب،و أنت وليّ العفو،و جعل يقبّل يدي و رجلي،و يبكي.
فعجبت من لؤم طبعه،و من كثرة شرّه،و قبح كفره للنعم،و اختلاف أحكام الأزمنة و أهلها،و جعلت أكثر من قول:الحمد للّه على تفضّله،و لم أكافه بقبيح البتّة.
و اقتصرت به على الحال الّتي كنت ولّيته إيّاه،لأنّ القاضي الّذي[13 ن]ولي القضاء بعدي،أقرّه على ما كنت ولّيته،فكان قد استمرّ له أخذ الدنانير من الصدقات،و الجاري من الوقوف،و أبواب البرّ،و قبضت يدي عن نفعه بما فوق ذلك (4).
ص:267
فرّ هاربا من الضائقة
فوافاه الفرج في النهروان
و ذكر أبو الحسين القاضي في كتابه،قال:حدّثني أبو علي أحمد بن جعفر بن عبد ربّه البرقي (1)،قال:حدّثني أبو سعيد الحسين بن سعيد القطربّلي (2).
قال مؤلّف هذا الكتاب:و حدّثني صاحب لي من ولد إبراهيم بن إسحاق، أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري الخطمي،و هو علي بن محمّد بن إسحاق،أخي موسى بن إسحاق،قال:سمعت أبا الحسين بن أبي عمر القاضي،يحدّث أبا القاسم علي بن يعقوب كاتب بجكم،و كاتب الترجمان بهذا الحديث،و يقول:إنّني الّفت كتابا[178 م]و سمّيته«كتاب الفرج بعد الشدة»،و ذكرت فيه هذا الخبر،و عدّة أخبار تجري مجراه،قال:
و أخذ يقرّظ كتابه،و يشوّق عليّ بن يعقوب إليه،قال:
حدّثني أبو سعيد الحسين القطربّلي،قال:كان في جيراني رجل من أهل البيوتات،و كانت له نعمة،فزالت عنه،و ساءت حاله جدّا،و كانت له زوجة و أربع بنات،فحبلت زوجته،و أخذها المخاض في اللّيل.
قال:و لم تكن لي حيلة في الدنيا،فخرجت ليلا،هاربا على وجهي، أمشي،حتّى أتيت جسر النهروان (3)،و أمّلت أن ألقى عاملها،و كان يعرفني،
ص:268
و أسأله تصريفي في شيء،و تعجيل رزق شهر،لأنفذه إلى زوجتي.
فوصلت إلى الموضع،و قد ارتفع النهار،فقعدت أستريح بالقرب من بقّال.
فإذا فيج (1)-و هو الساعي-قد جاء،فوضع مخلاته (2)و عصاه،ثمّ قال للبقّال:أعطني كذا[172 غ]و كذا،من خبز،و تمر،و إدام (3)،فأعطاه، فأكل،و وزن له الثمن.
ثمّ فتح مخلاته،فميّز ما فيها من الكتب،فرأيت فيها كتابا إليّ،و عليه اسم منزلي،و اسمي،و كنيتي،و لا أعرف كاتبه.
فقلت للفيج:هذا الكتاب إليّ.
فقال:أ تدري ما تقول؟.
فقلت له:قد قلت الصحيح،فإن مضيت إلى بغداد،لم تجد صاحب الكتاب.
فقال:أ هاهنا إنسان يعرفك؟
قلت:نعم،العامل.
قال:قم بنا إليه.
ص:269
فجئت،فلمّا دخلت على العامل،قال:ما أقدمك علينا يا فلان؟
فقلت له:قبل كلّ شيء-أعزّك اللّه-،من أنا؟و أين منزلي ببغداد؟ فقال:أنت فلان بن فلان،و منزلك بمدينة السلام،في مدينة المنصور منها، في سكة كذا و كذا.
فقلت للفيج:عرفت صدقي؟
قال:نعم.
قال:فحدّثت العامل بحديثي،و أخذت الكتاب من الفيج،فإذا هو من بعض المستورين بالدينور (1)،يذكر أنّ ابن عمّ كان لي قد توفي،بعد أن أوصى إليه أنّي وارثه،و سمّاني له،و وصف منزلي ببغداد.
قال:و قد كتب الرّجل يذكر أنّ ابن عمّي أوصى بالثلث من ماله في وجوه من أبواب القرب (2)،و أن يسلّم باقي ثلثيه إليّ،و أنّه باع من أثاثه و منقوله،ما خاف فساده من تركته،و صرف الثلث منه في بعض ما كان أوصى به،و أنفذ إليّ سفتجة بالثلثين من ذلك،مبلغها سبعمائة دينارا و كذا و كذا دينارا،تحلّ بعد أربعين يوما،على تاجر في دار القطن بالكرخ (3).
و قال:الوجه أن تبادر إلى الدينور،و تبيع العقار و الضياع،أو أبيع الثلث منها ليصرف في وجوهه،و تتمسّك بالثلثين إذا شئت.
قال:فورد عليّ من السرور ما لا عهد لي بمثله،و حمدت اللّه عزّ و جلّ.
فقلت للفيج:قد وجب حقّك،و سأحسن إليك،و شرحت له قصتي،و أنّه لا حبّة معي فضّة فما فوقها.
ص:270
فجاء إلى البقال،فقال:زن لأستاذي بكذا و كذا خبزا،و بكذا و كذا إداما،و ما يريد غيرهما.
فتغدّيت،و وزن الفيج ثمن ذلك من عنده،و استأجر حمارين،فأركبني أحدهما،و ركب هو الآخر،و وزن الأجرة من عنده.
و جئنا في بقيّة يومنا إلى بغداد،و قصدنا دار القطن،و في النهار بقيّة صالحة، فأوصلت السفتجة[179 م]إلى التاجر،فنظرها،و قال:صحيحة،إذا حلّ الأجل،فاحضر للقبض.
فقلت له:خذ حديثي،و افعل بعد ذلك ما يوفّقك اللّه تعالى له،و قصصت عليه قصّتي.
فقال لي:و اللّه الّذي لا إله إلاّ هو،إنّك صادق؟،فحلفت.
فأخرج كيسا كان بقربه،فوزن لي منه مال السفتجة.
و صرت من وقتي إلى السوق،فاشتريت سويقا (1)،و سكرا،و عسلا، و شيرجا (2)،و خبزا عظيما،و خروفا مشويّا،و حلوى،مما يصلح للنساء في النفاس، و مهدا،و فرشا حسنا،و عطرا صالحا،و شيئا من ثياب.
و صرت إلى منزلي،و قد قرب العشاء الآخرة،فوجدت كلّ من فيه من النساء يلعنني،و يدعو عليّ.
فقدّمت الحمالين،و دخلت وراءهم،فانقلبت الدار بالدّعاء لي،و صار الغمّ سرورا،و وجدت زوجتي قد ولدت غلاما.
فعرّفت الصبيان خبر السفتجة[173 غ]،و الميراث،و الفيج،و أعطيت
ص:271
الزوجة،و القابلة،من الدنانير شيئا.
و أقمت الفيج عندي أيّاما،حتّى أصلحت من أمري،و أمر عيالي،ما وجب صلاحه،و خلّفت لهم نفقة،و أخذت من الدنانير نفقة،و أعطيت الفيج منها، فأجزلت له،و اكتريت حمارين،لي و له،و استصحبته إلى الدينور.
فوجدت فيها ما تحصّل لي ممّا خلفه ابن عمّي نحو عشرة آلاف دينار، فبعت ذلك كلّه،و أخذت بحصّتي سفاتج إلى بغداد.
و عدت و قد فرّج اللّه عنّي،و قد صلح حالي،و أنا أعيش في بقيّة تلك الحال إلى الآن.
ص:272
خرج مملقا و عاد قائدا
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،قال:
أملق بعض الكتّاب،و تعطّل،و افتقر،حتّى لم يبق له شيء،و كاد يسأل، و خرج على وجهه في الحالة الّتي كان عليها.
ثمّ إنّه ورد بعد قليل من سفرته،فدخلت عليه،و قلت:ما خبرك يا فلان؟
فقال:متمثّلا بهذين البيتين:
فإبنا سالمين كما ترانا و ما خابت غنيمة سالمينا
و ما تدرين أيّ الأمر خير أما تهوين أم ما تكرهينا
فطيّبت نفسه،و جعلت أسلّيه.
فأقام أيّاما،و تأتّت له نفقة،فخرج إلى خراسان،فما سمعنا له خبرا سنين، فإذا هو قد جاءنا بزيّ قائد عظيم،لكثرة الدواب،و البغال،و الجمال،و الغلمان، و المال العظيم،و القماش.
فدخلت إليه،و هنّأته،فقال:تضايقي تنفرجي،و ما تراني بعد هذا أطلب تصرّفا.
فباع تلك الأشياء،و ترك منها ما يصلح لذي المروءة،و اشترى من المال ضيعة بعشرين ألف دينار،و لزم منزله[182 ر]و ضيعته.
ص:273
عودة المرء سالما غنيمة حسنة
قال مؤلّف هذا الكتاب:
أرجف لبعض رؤساء دولة شاهدناها،بالوزارة،و احتدّ أمره،و برد،و أرجف لعدوّ له بالوزارة (1).
فلقيت بعض[14 ن]أصدقاء الأوّل،فسألته عن حقيقة الحال،فقال لي:
أمس لقيته،فسألته عن سبب وقوف أمره،و احتداد أمر عدوّه،فردّ عليّ جواب آيس من الأمر.
ثمّ قال لي:و قد جعلت في نفسي،أنّ انصراف هذا الأمر خير لي،فإنّ فيما ألي من أمور المملكة كفاية،ثمّ أنشدني كالمستريح إلى ذلك،يقول:
إذا نحن إبنا سالمين بأنفس كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنّها تؤوب و فيها ماؤها و حياؤها
فلمّا كان بعد بضعة عشر يوما،أمّر،و ولي الوزارة،و بطل أمر عدوّه.
و كان هذا الخبر،أجدر بأن يجعل في باب من بشّر بفرج من نطق أو فأل، و لكنّني جئت به هاهنا،لاشتباك معنى الشعر في الخبرين المتجاورين.
ص:274
قضى اللّه للهبيري رزقا
على يد الوزير ابن الزيات فاستوفاه على رغم أنفه
و ذكر أبو الحسين القاضي،بإسناد،قال:حدّثني أبو الحسن علي بن أحمد الكاتب،عن أحمد بن اسرائيل،قال:
كنت كاتبا لمحمّد بن عبد الملك الزيّات،فقدم عليه رجل من ولد عمر بن هبيرة،يقال[174 غ]له:إبراهيم بن عبد اللّه الهبيري،فلازمه يطلب تصرّفا.
و كان ابن الزيّات قليل الخير،لا يرعى ذماما،و لا يوجب حرمة،و لا يحبّ أن يصطنع أحدا،فأضجره الهبيري من طول تردّده عليه.
فدعاني ابن الزيّات يوما،و هو راكب،و قال:قد تبرّمت بملازمة هذا الرّجل،فقل له:إنّي لست أولّيه شيئا،و لا له عندي تصرّف،و مره بالانصراف عنّي.
قال:فقلت:أنا و اللّه أستحي أن ألقى مؤمّلا لك،عنك،بمثل هذا.
قال:لا بدّ أن تفعل.
قلت:نعم.
فلمّا صرت إلى منزلي،وجّهت إلى الهبيري،فجاءني،فقلت له:ما كنت تؤمّل أن تنال بصحبة أبي جعفر محمّد بن عبد الملك الزيّات،خذه من مالي، و لا تقربه،و هذه ثلاثة آلاف درهم.
فقال متعجّبا:من مالك؟[181 م].
قلت:نعم.
ص:275
قال:أنا أؤمّل أن أكسب معه أكثر من ذلك (1).
فقلت:إنّه قد حمّلني إليك رسالة،استحيت من أدائها،فعدلت عنها إلى هذا.
قال:فهات ما حمّلك.
قال:فأعدت عليه ما قال ابن الزيّات.
فقال:قد سمعت منك،فهل أنت مؤدّ عنّي ما أقول؟
قلت:نعم.
قال:قل له،قد كنت آتيك في صبيحة كلّ يوم مرّة،و و اللّه لآتينّك منذ الآن في كلّ غدوة و عشيّة،فإن قضى اللّه عزّ و جلّ على يدك رزقا،أخذته على رغمك.
فرجعت إلى ابن الزيّات،فأعلمته قوله.
فقال:دعه،فو اللّه،لا يرى منّي خيرا أبدا.
قال:و لازمه الرّجل،غدوة و عشيّة،فكان إذا رآه،التفت إليّ،و قال:
قد جاء البغيض،فمكث كذلك مدّة.
و ركب ابن الزيّات يوما إلى الواثق،و هو بالهاروني (2)،بسرّ من رأى (3)، و كنت معه.
ص:276
فدخل إلى الخليفة،و جلست في بعض الدور،أنتظر خروجه،فخرج، و هو يكثر التعجّب.
فسألته،فقال:أنت تعرف مذهبي،قال:و كان يرى رأي المعتزلة، و يقول:إنّ الارزاق،تأتي بالاكتساب.
فقلت له:و ما ذا تهيّأ عليك؟
فقال:دخلت إلى الخليفة،فقال:على الباب أحد نصطنعه (1)؟فلم يخطر ببالي غير الهبيري،فأمسكت.
فقال:ويلك أكلّمك فلا تجيبني،و أعجلني عن الفكر.
فقلت:على باب أمير المؤمنين،رجل من أعداء دولته،و أعداء سلفه، و من صنائع بني أميّة،من ولد عمر بن هبيرة.
قال:فنصطنعه فيشكرنا،كما اصطنع أباه بنو أمية فشكرهم.
قلت:إنّه معدم.
قال:نغنيه،[183 ر]فراودته.
فقال:كم تدفعني[16 ن]عنه؟أعطه الساعة ثلاثين ألف درهم.
ثمّ قال:من أهل الدراريع (2)هو،أم من أهل الأقبية (3)؟.
قلت:صاحب قباء.
قال:قلّدوه الساعة عملا يصلح له،و أثبت له من ولده،و غلمانه،و أهله، مائة رجل.
فلمّا فرغ من كلامه،قال:قل للهبيري ما عرّفتك،و ادفع إليه ما أمر له الخليفة به،و سله ألاّ يشكرني،فقد جهدت في دفع الواثق عنه،فما اندفع،
ص:277
قال أحمد بن إسرائيل:فلمّا خرجت إلى الشارع،إذا بالهبيري ينتظر خروج ابن الزيّات،[فعرّفته ما جرى،فقال:لا بدّ من شكره على كلّ حال،و جاء ابن الزيّات] (1)[175 غ]فترجّل له الهبيري،فشكره.
فقال له:ألم أقل لأحمد يقول لك:لا تشكرني.
فقال:لا بدّ من ذلك،لأنّ اللّه تعالى قد أجرى رزقي على يديك.
قال:أحمد بن إسرائيل:فو اللّه،ما مضى اليوم،حتّى قبض المال،و ولي بعض كور فارس.
[و ذكر هذا الخبر محمّد بن عبدوس الجهشياري،في كتابه«كتاب الوزراء»عمّن حدّثه به،عن أحمد بن إسرائيل،فذكر أنّ الرجل،يقال له:
أحمد بن عبد اللّه الهبيري،و ذكر قريبا من هذا،و ذكر أنّ الّذي خوطب في أمره من الخلفاء،كان المتوكّل،و أنّ الّذي أمر له به،كان خمسة آلاف درهم، و أن يضمّ إليه ثلثمائة رجل،و أنّ حاله بعد ذلك علت عند المتوكّل،و لم يقل أنّه قلّده بعض كور فارس] (2).
و حدّثني أبي رحمه اللّه تعالى،هذا الحديث،و ذكر أنّ تردّد الهبيري-و لم يسمّه-إلى ابن أبي خالد الأحول،و أنّ الّذي حمل الرسالة إلى الهبيري،قصده إلى منزله،و حمل معه ثلاثة آلاف درهم،و قال:إنّ الوزير يقول لك،ليس لك عندي تصرّف،فخذ هذه النفقة،و انصرف عنّي إلى حيث شئت.
فغضب الهبيري،و قال:جعلني شحّاذا،و اللّه لا أخذتها.
قال الرسول:فغاظني ذلك،فقلت له:و اللّه،ما المال إلاّ من عندي، لانّي استحيت أن أعيد عليك رسالته،فآثرت أن أغرم مالا في الوسط،أجمّل به صاحبي،و أؤجر فيك،و أرفع نفسي عن قبيح التوسّط الّذي ارتكبته.
ص:278
فقال:أمّا أنت،فأحسن اللّه جزاءك،و أمّا مالك،فأنا لا أقبله،و لو مصصت الثماد،و لكن تؤدّى إليّ الرسالة بعينها،فأدّيتها.
فقال:تتفضّل،و تحمل عنّي حرفين.
فقلت:هات.
قال:تقول له:و اللّه،ما لزومي لك في نفسك،و لو تعطّلت،ما مررت بك،و لكنّ اللّه تعالى،يقول:و أتوا البيوت من أبوابها،و أنت باب رزق مثلي، لأني لا أحسن إلاّ هذه الصناعة،و لا بدّ من أن آتيك طالبا رزقي من بابه،و ليس يمنعني ذلك استقبالك إيّاي بالرّد،فإن قسم اللّه تعالى لي على يديك شيئا،أخذته منك،و إلاّ،فلا أقلّ من أن أوذيك برؤيتي،كما تؤذيني بتعطيلي.
و قال فيه عن ابن أبي خالد:فصرت في الوقت إلى المأمون،فقال:هاتم شخصا أوّله مصرا.
قال:فأراد أن يذكر له رجلا يعتني به،يعرف بالزّبيريّ،لتولّي ذلك العمل، فلغيظه من الهبيري،و قرب عهده به و بحديثه،غلط،فقال:الهبيري.
فقال الخليفة:أو يعيش؟و عرفه،و ذكر له خدمة قديمة.
و أراد ابن أبي خالد أن يزهّده فيه،قال:فطعنت عليه بكلّ شيء،و هو يقول:
لا أريد غيره،أنا أعرفه بالجلادة.
الى أن قلت له:أنا غلطت،و إنّما أردت أن أقول فلان الزبيريّ.
قال:و إن غلطت،فالهبيري،أقوم بهذا من الزبيريّ،و أنا أعرفهما،فلمّا رآني قد أقمت على الدفع عنه،قال:له معك قصّة،فاصدقني عنها،فصدقته.
فقال:قد و اللّه،أجرى رزقه على يديك،و أنت راغم،أخرج فولّه مصر.
فقلت:إنّه ضعيف،و لا حالة له،و لا مروءة،فكيف يخرج في مثل هذه الحال إلى عمله؟
ص:279
قال:و هذا من رزقه الّذي يجرى على يديك و أنت راغم،أطلق له مائة ألف درهم فأخرجه.
فخرجت،و امتثلت أمره راغما (1).
ص:280
تضايقي تنفرجي
و ذكر القاضي أبو الحسين رحمه اللّه تعالى،[عن رجل] (1)،قال:حدّثتني أمّ أبي،قالت:كان زوجي[184 ر]قد نهض إلى مصر،و تصرّف بها، و عمل،و نكب،و تعطّل،فأقام هناك.
و أضقنا إضاقة شديدة،و عرضنا بيع ضيعة لنا[176 غ]،فلم نجد لها ثمنا، و تأخّر كتابه عنّا،و انقطع خبره،حتّى توهّمنا أنّ حادثا قد حدث عليه.
و كان أولادي أصاغر،فجعلت أحتال و أنفق عليهم،حتّى لم يبق في المنزل شيء.
و حضر وقت عمارة الضيعة،و احتجنا إلى بذار و نفقة،فتعذّر ذلك علينا، حتّى كادت تتعطّل،و يفوت وقت الزراعة.
فأصبحت يوما،و بي من الغمّ لاجتماع هذه الأحوال أمر عظيم،فوجّهت إلى بعض من كنت أثق به،و أتوهّم أنّني لو سألته إسعافنا بالكثير من ماله لا يخالفنا،لأقترض منه شيئا لذلك،فردّ رسولي،و اعتذر.
و عرّفني الرّسول الّذي بعثت به إليه،أنّه قال:إذا بعثت إليهم ما طلبوا، و الضيعة لم تعمر،و لم تحصل لهم غلّة،و زوجها لم يعرف له خبر[17 ن]، فمن أين يردون عليّ؟
فلمّا رجع الرّسول بذلك،كدت أموت غمّا،و امتنعت من الطعام يومي و ليلتي.
و أصبحت،فما انتصف النهار،حتّى ورد كتاب زوجي بسلامته،و ذكر
ص:281
السبب في تأخير كتابه،و أرسل إليّ في كتابه سفتجة بمائة دينار،و تخوت ثياب قد أنفذها مع تاجر من أهل مصر،قيمتها خمسون دينارا،فقبضت ذلك، و عمرنا الضيعة،و رزعت تلك السنة،و صلحت حالنا (1).
ص:282
من مكارم سعيد بن العاص أمير الكوفة
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه:
حكي أنّ سعيد بن العاص (1)،قدم الكوفة عاملا لعثمان بن عفّان (2)،رضي اللّه عنه،و كان ممّن يتعشّى عنده،رجل من الفقراء،قد ساءت حاله.
فقالت امرأته:ويحك،أنّه قد بلغنا عن أميرنا كرم،فاذكر له حالك، و حاجتك،لعلّه أن ينيلنا شيئا،فلم يبق[183 م]للصبر فينا بقيّة.
فقال:ويحك لا تخلقي وجهي.
قالت:فاذكر له ما نحن فيه على كلّ حال.
فلمّا كان بالعشيّ،أكل عنده،فلمّا انصرف النّاس،ثبت الرّجل.
فقال سعيد:[حاجتك؟،فسكت] (3).
فقال سعيد لغلمانه:تنحّوا،ثمّ قال:[إنّما نحن أنا و أنت،فاذكر حاجتك،فتعقّد،و تعصّر،فنفخ سعيد المصباح فأطفأه.
ثمّ قال له:] 3يرحمك اللّه،لست ترى وجهي،فاذكر حاجتك.
ص:283
فقال:أصلح اللّه الأمير،أصابتنا حاجة،فأحببت أن أذكرها لك.
فقال:إذا أصبحت فالق فلانا وكيلي.
فلمّا أصبح الرّجل،لقي الوكيل،فقال:إنّ الأمير قد أمر لك بشيء، فهات من يحمله معك،[قال:ما عندي من يحمل،فانصرف إلى امرأته، فجعل يلومها،و يقول:قال لي وكيله هات من يحمل معك](3)،و ما أظنّه أمر لي إلاّ بقوصرة تمر،أو قفيز برّ،و ذهب ماء وجهي،و لو كانت دراهم أو دنانير لأعطانيها في يدي.
فلمّا كان بعد أيّام،قالت له امرأته:يا هذا،قد بلغ بنا الأمر إلى ما ترى، و مهما أعطاك الأمير،يقوتنا أيّاما،فالق وكيله،فلقيه.
فقال:أين تكون؟إنّي قد أخبرت الأمير أنّه ليس لك من يحمل ما أمر به لك معك،فأمرني أن أوجّه من يحمل معك ما أمر به لك[177 غ].
ثمّ أخرج إليه ثلاثة من السودان،على راس كلّ واحد منهم بدرة دراهم، ثمّ قال:امضوا معه.
فلمّا بلغ الرّجل باب منزله،فتح بدرة،فأخرج منها دراهم،فدفعها إلى السودان،و قال:امضوا.
فقالوا:أين نمضي،نحن عبيدك،ما حمل مملوك للأمير هدية قط،فرجع إلى ملكه.
قال:فصلحت حاله،و استظهر على دنياه.
ص:284
ألجأته الحاجة إلى بيع مقنعة أمّه
ثمّ ملك مصر
و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،بإسناد ذكره،قال:حدّثني عمّي أبو الطّيب محمّد بن يوسف بن يعقوب،قال:حدّثني بعض إخواني،قال (1):
كنت أحضر طعام عبيد اللّه بن السريّ (2)،بمصر،فكان إذا وضع الخوان (3)، وضع رغيفا،و عزل بيده من كلّ شيء،فإذا فرغ تصدّق به.
فقدّمت إليه ذات يوم عناق (4)سمينة،في أوّل الطعام،فضرب بإصبعه في جنبها،فشخبت (5)حتّى ملأت الخوان دسما[185 ر]فأمسك يده،و قال:
الحمد للّه،ذكرت بهذا شيئا أحدّثكم به.
كنت ببغداد،نازلا بسوق الهيثم (6)،فأصابتني حاجة شديدة،و بقيت بلا
ص:285
حبّة فضّة فما فوقها،و لا في منزلي ما أبيعه.
فإنّي لكذلك،و ما عندي طعام،و لا ما أشتري به قوت يومي،إلاّ أنّ عندي نبيذ قد أدرك،و أنا جالس على باب داري ضيّق الصدر،أفكّر فيما أعمله.
إذ أجتاز بي صديق لي،فجلس اليّ،فتحدّثنا،فعرضت عليه المقام عندي، عرض معذّر (1)،كما جرى على لساني،فأجابني،و قعد.
فانقطع بي،و تمنّيت أنّي خرست،فلم أجد بدّا من إدخاله منزلي،فأدخلته.
و قمت إلى أمّي فعرّفتها الخبر،فأعطتني مقنعتها (2)،و قالت:بعها،و قم بأمرك اليوم،فبعتها بثلاثة دراهم،و اشتريت بها خبزا و سمكا و بقلا،و ريحانا، و جئت به.
فبينا نحن كذلك،إذ مرت بي سنّور لبعض الجيران،فمددت يدي إليها، فإذا هي ذلول،فقبضت عليها،و ذبحتها،و سلختها،و دفعتها إلى أمّي،فقلت:
اشويها،ففعلت،و قدّمتها الى صديقي،مع ما[184 م]اشتريته،فأكلنا.
فذكرت لما وقعت يدي على هذه العناق،حالي تلك،و حالنا اليوم من السعة و النعمة،و نفاذ الأمر،فالحمد للّه على ما أنعم.
و دعا بمال عظيم،و أمر أن يتصدّق بنصفه بمصر،و بعث نصفه إلى مكة و المدينة،يتصدّق به هناك.
و أمر بالخوان و ما عليه أن يطعم للمساكين،و دعا بخوان آخر.
ص:286
أبى أن يعطيه دينارا ثمّ أعطاه ألفي دينار
حدّثني أبو بكر محمّد بن عبيد اللّه بن محمّد الرازي،المعروف بابن حمدون، [عن الحسن بن محمّد الأنباري الكاتب،قال:كان لي أيّام مقامي بأرجان جار تاجر،يعرف بجعفر بن محمّد،و كنت آنس به،فحدّثني] (1)،قال:
كنت أحجّ دائما،و أنزل على رجل علويّ،حسيني فقير،مستور،فألطفه، و أتفقّده.
فتأخّرت عن الحجّ سنة،ثمّ عاودت،فوجدته مثريا،فسررت،و سألته عن سبب ذلك.
فقال:كان قد اجتمع معي دريهمات على وجه الدّهر،ففكّرت،عام أوّل، في أن اتزوّج،فإنّي كنت عزبا (2)،كما قد علمت.
ثمّ علمت أنّ فرض الحجّ قد تعيّن عليّ،فرأيت أن أقدّم أداء الفرض، و أتوكّل على اللّه عزّ و جلّ،في أن يسهّل لي-بعد ذلك-ما أتزوّج به.
فلمّا حججت،طفت طواف الدخول،و أودعت رحلي،و ما كان معي، في بيت من خان،و أقفلت بابه،و خرجت إلى منى (3).
ص:287
فلمّا عدت،وجدت البيت مفتوحا،فارغا،فتحيّرت،و نزلت بي شدّة ما مرّ بي قطّ مثلها.
فقلت:هذا أعظم للثواب،فما وجه الغمّ،فاستسلمت لأمر اللّه عزّ و جلّ.
فجلست في البيت،لا حيلة لي،و لا تسمح نفسي بالمسألة،فاتّصل مقامي ثلاثة أيّام،ما طعمت فيها شيئا.
فلمّا كان في اليوم الرابع،بدأ فيّ الضعف سحرا،و خفت على نفسي، و ذكرت قول جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:ماء زمزم لما شرب له،فخرجت أريدها حتّى شربت منها،و رجعت أريد باب إبراهيم الخليل (1)على نبيّنا و عليه أفضل الصلاة و السلام لأستريح فيه.
فبينا أنا أسير،إذ عثرت في الطريق بشيء أوجع إصبعي،فأكببت عليه لأمسكه،فوقعت يدي على هميان أدم (2)أحمر كبير،فأخذته.
فلمّا حصل في يدي،ندمت،و علمت أنّ اللقطة-ما لم تعرّف-حرام.
و قلت:إن تركته الآن،كنت أنا المضيّع له،و قد لزمني أن أعرّفه،و لعلّ صاحبه،إذا رجع إليه،أن يهب لي شيئا أقتاته حلالا.
فجئت إلى بيتي،و فتحت الهميان (3)،فإذا فيه دنانير صفر،تزيد على ألفي دينار.
فسددته،و رجعت إلى المسجد،فجلست عند الحجر (4)،و ناديت:من ضاع
ص:288
له شيء،فيأتيني بعلامته،و يأخذه.
فانقضى يومي،و أنا أنادي،و ما جاءني أحد،و أنا على حالي من الجوع.
و بتّ في بيتي،ليلتي كذلك،و عدت إلى الصفا و المروة (1)،فعرّفته عندهما يومي،حتّى كاد[188 غ]ينقضي،فلم يأتني أحد.
فضعفت ضعفا شديدا،و خشيت على نفسي،فرجعت متحاملا،ثقيلا، حتّى جلست على باب إبراهيم الخليل،على نبيّنا و عليه السلام،و قلت قبل انصرافي:إنّي قد ضعفت عن الصياح و أنا ماض أجلس على باب إبراهيم،فمن رأيتموه يطلب شيئا ضاع منه،فأرشدوه إليّ.
فلمّا قرب المغرب،و أنا في الموضع،إذا أنا بخراسانيّ ينشد ضالّة،فصحت به،و قلت له:صف لي ما ضاع منك[193 م]،فأعطاني صفة الهميان بعينه، و ذكر وزن الدنانير و عددها.
فقلت:إن أرشدتك إلى من يردّه عليك،تعطيني منه مائة دينار؟.
قال:لا.
قلت:فخمسين دينارا؟
قال:لا.
قلت:فعشرة دنانير؟
قال:لا.
فلم أزل أنزل معه،حتّى بلغت إلى دينار واحد.
فقال:لا،إن رأى من هو عنده،أن يردّه إيمانا و احتسابا،و إلاّ فهو أبصر، و ولّى لينصرف[189 ر].
فورد عليّ أعظم وارد،و هممت بالسكوت،ثمّ خفت اللّه سبحانه و تعالى،
ص:289
و أشفقت أن يفوتني الخراسانيّ.
فصحت به:إرجع،إرجع،و أخرجت الهميان،فدفعته إليه،فأخذه، و مضى،و جلست،ليس لي قوّة على المشي إلى بيتي.
فما غاب عنّي إلاّ قليلا،حتّى عاد،فقال لي:من أي البلاد أنت،و من أيّ النّاس؟.
قال:فاغتظت منه غيظا شديدا،و قلت:ما عليك،هل بقي لك عندي شيء؟
قال:لا،و لكنّي أسألك باللّه العظيم،من أي النّاس و البلاد أنت؟ فعرّفني،و لا تضجر.
فقلت:رجل من العرب،من أهل الكوفة.
فقال:من أيّهم أنت،و اختصر؟
فقلت:رجل من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب،رضي اللّه عنهم.
فقال:ما حالك و مالك؟
قلت:لا أملك في هذه الدنيا كلّها إلاّ ما تراه،و قصصت عليه حال محنتي و ما كنت طمعت فيه أن يعطينيه من الهميان،و ما قد انتهيت إليه من الضعف من الجوع.
فقال:أريد من يعرّفني صحّة نسبك و حالك،حتّى أقوم بجميع أمرك كلّه.
فقلت:ما أقدر على المشي للضعف،و لكن إئت الطواف،و صح بالكوفيّين، و قل:رجل من بلدكم،علويّ،بباب إبراهيم،يريد أن يجيئه منكم من ينشط لحال هو فيها،فمن جاء معك فهاته.
فغاب غير بعيد،ثمّ جاء و معه من الكوفيين جماعة اتّفق أنّهم كلّهم كانوا يعرفون باطن حالي.
فقالوا:ما تريد أيّها الشّريف (1)؟
ص:290
فقلت:هذا رجل يريد أن يعرف حالي،و نسبي،لشيء بيني و بينه،فعرّفوه ما تعرفون من ذلك.
قال:فعرّفوه صحّة نسبي،و وصفوا له طريقتي،و عدمي.
فمضى،و جاء فأخرج الهميان بعينه،كما سلّمته إليه،فقال:خذ هذا بأسره، بارك اللّه لك فيه.
فقلت:يا هذا،ما كفاك ما عاملتني به،حتّى تهزأ بي،و أنا في حال الموت.
قال:معاذ اللّه،هو لك،و اللّه.
فقلت:فلم بخلت عليّ بدينار منه[189 غ]،ثمّ وهبت لي الجميع؟
فقال:ليس الهميان لي،و ما كان يجوز لي أن أعطيك منه شيئا،قلّ أو كثر، و إنّما أعطانيه رجل من بلدي،و سألني أن أطلب في العراق،أو في الحجاز، رجلا علويا،حسينيا،فقيرا،مستورا،فإذا علمت هذا من حاله،أغنيته،بأن أسلّم إليه هذا المال كلّه،ليصير أصلا لنعمة تنعقد له،فلم تجتمع لي هذه الصفات قبلك في أحد،فلمّا اجتمعت فيك،بما شاهدته من أمانتك،و فقرك، و عفّتك،و صبرك،و صحّ عندي نسبك،أعطيتكه.
فقلت له:يرحمك اللّه،إن كنت تحبّ استكمال الأجر،فخذ منه دينارا،و ابتع لي به دراهم،و اشتر بها ما آكله،و صربه إليّ الساعة هاهنا.
فقال:لي إليك حاجة.
قلت:قل.
قال:أنا رجل موسر،و الّذي أعطيتك ليس لي فيه شيء،كما عرّفتك، و أنا أسألك أن تقوم معي إلى رحلي،فتكون في ضيافتي إلى الكوفة،و تتوفّر عليك دنانيرك.
فقلت:ما فيّ حركة،فاحتل في حملي،كيف شئت.
فغاب عنّي ساعة،و جاء بمركوب،و أركبنيه إلى رحله،و أطعمني في الحال
ص:291
ما كان عنده،و قطع لي من الغد[194 م]ثيابا و كان يخدمني بنفسه،و عادلني في عمّاريته (1)إلى الكوفة،فلمّا بلغتها،أعطاني من عنده دنانير أخر،و قال لي:
تزوّد بها بضاعة،و فارقته،و أنا أدعو له،و أشكره،و لم أمسّ الهميان.
و أخذت[23 ن]أنفق من الدنانير الّتي أعطانيها الرّجل،باقتصاد،إلى أن اتّفقت لي ضيعة رخيصة،فابتعتها بالهميان،فأغلّت،و أثمرت،و أنا،من اللّه عزّ و جلّ،في نعمة جزيلة،و خير كثير،و الحمد للّه على ذلك.
ص:292
سافر إلى الموصل ثمّ إلى نصيبين
في طلب التصرّف حتّى إذا أيس جاءه الفرج
و ذكر القاضي أبو الحسين،في كتابه،قال:قال بعضهم:
لحقتني نكبة في بعض الاوقات،و تطاولت عليّ الأيّام في العطلة،و ركبني دين فادح،و بعت آخر ما كان في ملكي.
فصار إليّ صديق لي،حاله مثل حالي في العطلة،فقال:هل لك أن نخرج إلى الموصل (1)،فإنّ عاملها فلان،ولي به حرمة،فنتطلّب منه تصرّفا.
فقلت:أفعل.
فاحتلت نفقة،و خرجنا،حتّى دخلنا الموصل،فوجدنا العامل يريد الرحيل إلى ديار ربيعة (2).
قال:فلقيه الرّجل،و لم يتهيّأ لي لقاءه،و خرجنا إلى ناحية،فلقيته أنا هناك، فوعد[176 م]جميلا،و سرت إلى نصيبين،و قد نفدت نفقتي.
و كشف لنا العامل هناك،أنّه قد قلّد مصر،مضافا الى أعماله،و أنّه يريد الخروج إليها.
ص:293
فقلت لصديقي:إنّه لم تبق معي نفقة،و لا فيّ فضل للخروج إلى مصر، فأعطاني من نفقته.
و قد كان صديقي تقلّد من قبل العامل عملا جليلا،و خرج إليه،و أقمت أنا بنصيبين،و أقام العامل بها،ليصلح أمره و يخرج إلى مصر،و عملت أنا على أن أتحمّل بما أعطانيه صديقي،و أرجع إلى بغداد (1).
فغلب عليّ ضيق الصدر،و الهمّ،و استدعيت المزيّن ليصلح شعري،فهو بين يديّ،إذ دخل عليّ غلام العامل،فقال:صاحبي يطلبك،و قد قلبنا عليك الدنيا منذ أمس،فلم نعرف منزلك إلاّ الساعة.
ففرغت من شغلي مع المزيّن،و توضّأت،و ركبت،و كان يوم الجمعة،فلمّا صرت في دار العامل،لقيني غلامه،و كان حاجبه،فقال:نحن في طلبك منذ أمس،فلم توجد،و قد قام الآن عن مجلسه،و أخذ في التشاغل بأمر الصلاة، و لكن بكّر في غد.
قال:فضعف في نفسي،و قلت:إنّه ما أرادني لخير،و عملت على أن أنحدر تلك العشيّة إلى بغداد.
فلم يدعني غلامي،و قال:أقلّ ما في الأمر،أن يكون الرّجل قد تذمّم من
ص:294
اتّباعك إيّاه إلى هاهنا،فيطلق لك نفقة،و نحن مضيقون.
فعلمت أنّ الصواب في لقائه،فأقمت،و بكرت من غد،فدخلت إليه، فعاتبني على انقطاعي عنه.
و قال:أنا مفكّر في أمرك،و قد غمّني طول تعطّلك،مع قصدك إيّاي من بغداد،و مسيرك معي إلى ها هنا،ثمّ التفت إلى كاتب بين يديه،فقال:أكتب له كتاب التقليد،للإشراف على الضياع بديار مضر (1)،و أحل النفقة على الثغور الجزريّة[171 غ]،و استقبل برزقه،و هو مائة و خمسون دينارا،في كلّ شهر، الوقت الّذي جاءنا فيه إلى الموصل (2).
قال:فشكرته،و اضطربت من قلّة الرّزق.
فقال:إقبل هذا،و لا تخالفني،إلى أن يسهّل اللّه-جلّت عظمته-غيره، فقمت مفكّرا،من أين أصلح أمري،و أتحمّل إلى العمل،و أنفق إلى أن أصل إليه.
قال:فما خرجت من الدّار حتّى ردّني،فقال:بالباب قوم يحتاج إلى إثباتهم،فاجلس،و أثبتهم،و اعمل لهم جرائد (3)بأسمائهم،و حلاهم (4)، و أرزاقهم،و استقبالاتهم،و جئني بها.
فتشاغلت بذلك يومين،و ثلاثة،و جئت بالجرائد،فلمّا وقف عليها أعجبته، و قال:أرى عملك،عمل فهم بالجيش.
فقلت:ما عملته قط إلاّ مرّة واحدة.
ص:295
فقال:لم أقل هذا لأنّك تقصر في نفسي عن غيره،و لكن ينبغي للكاتب، و العامل،أن يحسنا كلّ شيء يقع عليه اسم كتابة و عمالة.
ثمّ قال:خذ هذا الصكّ،و اقبض ما فيه من الجهبذ،و اجلس في المسجد المحاذي لداري،و أنفق في الصنف الفلاني من أهل هذه الجريدة.
قال:فأخذت الصكّ و كان بألوف دنانير،فأخذت ماله،و أنفقت في القوم، و تفرّقوا و هم شاكرون،و فضل مال من ذلك،و كتبت إليه بخبره،و استأمرته فيما أعمل به.
فقال:خذه من رزقك.
و أعطاني مالا ثانيا،و قال:أنفقه في الصنف الآخر،إلى أن انفقت في جميع أهل الجريدة،فحصل لي من ذلك،زيادة[177 م]على ألف دينار،فجعلتها في طريقي لنفقتي.
و شخصت قبله إلى ديار مضر،فنظرت في العمل،و سار هو مجتازا إلى مصر.
و استأذنته في المسير إليها معه،فقال:لا أحبّ أن أعجّل لك الصرف، و نحن نمضي إلى أعمال فيها قوم،و لعليّ أقف من حالهم على ما لا يجوز معه صرفهم، فتحصل أنت على الصرف المعجّل،و لكن أقم بمكانك و عملك،و أسير أنا،فإن احتجت إلى متصرّفين،كنت أوّل من استدعيته.
فشكرته،و أقمت في عملي سنتين،أثريت فيهما،و عظمت حالي، و لم يتّفق استدعاؤه إيّاي إلى مصر،إلى أن صرفت،و انسللت من الرقّة،و دخلت بغداد،موفّرا،و معي مال جليل،فابتعت به ضيعة،و لزمتها،و تركت التصرّف (1).
ص:296
للّذين أحسنوا الحسنى و زيادة
و ذكر أبو الحسين القاضي،قال:حدّثني أبي،عن بعض إخوانه،أحسبه أبا يوسف يعقوب بن بيان،أنّه قال:
أملق بعض الكتاب في أيّام الرّشيد حتّى أفضى إلى بيع أنقاض داره،و نقض ما فيها،فلم يبق فيها إلاّ بيتا واحدا،كان يأوي إليه و ولده،و انقطع عن النّاس، و انقطعوا عنه دهرا[15 ن].
و كان الرّشيد يولّي[على أذربيجان]في كلّ سنتين أو ثلاثة،رجلا من بني هاشم.
فولاّها سنة من السنين،رجلا منهم كان متعطّلا،فطلب كاتبا فارها يصطنعه، و شاور فيه صديقا له من الكتاب،فوصف له هذا الرّجل المتعطّل،و وعده بإحضاره،و صار إليه،و طرق الباب عليه،و دخل،فوجده من الفقر على حال لا يتهيّأ له معها لقاء أحد.
فبعث إليه من منزله بخلعة من ثيابه،و دابّة،و غلاما،و بخورا،و دراهم، فركب معه إلى الهاشمي،فلقيه.
و امتحنه الهاشمي،فوجده بارعا في صناعته،فاستكتبه،و قرّر جاريه، و أمر له بمال معجّل معونة له على سفره،و أمره بأن يتقدّمه إلى أذربيجان.
فعاد الرّجل إلى منزله،و أصلح من حاله،و خلّف نفقة لعياله،و شخص.
فلمّا بلغ المصروف الخبر،رحل عن البلد،و أخذ غير الطريق الّذي بلغه أنّ الكاتب قد سلكها،و خلّف كاتبه لرفع الحساب.
فلمّا شارف كاتب الوالي الناحية،خرج إليه كاتب المعزول و لقيه،فسأله عن صاحبه،فأعلمه شخوصه إلى مدينة السلام،فأنكر ذلك.
ص:297
فقال له كاتب المعزول:مل بنا إلى موضع نجلس فيه،و نتحدّث،و ترى رأيك،فمالا،و نزلا،و طرح[180 م]لهما ما جلسا عليه.
فقال:أعزّك اللّه لا تنكر انصراف صاحبي،فإنّه رجل كبير المقدار، و في مقامه إلى أن تصيروا إلى العمل،مهانة تلحقه،و قد خلّف قبلي،خمسين و مائة ألف درهم لصاحبك،و دوابا و رقيقا بقيمة ثلاثة آلاف درهم،فاقبض ذلك،و اكتب لنا كتابا بإزاحة علّتك،و انفصال ما بيننا و بينك،و نحن ننصب لك من يرفع الحساب،رفع من لا يستقصى عليه،و لا يعنت.
فقبل كاتب الوالي ذلك،و ركبا،و قد زال الخلاف فيما بينهما،و خرج الكاتب لاحقا بصاحبه،و خلّف من يسلّم الحساب.
و اتّصل ظاهر الخبر بالهاشمي الوالي،و كتب إليه كاتبه:إنّي قد بلغت من الأمر مبلغا مرضيّا،إذا وقفت عليه.
فلمّا ساروا إلى الناحية،عرف ما جرى،فحسن موقعه،و تبرّك بالكاتب، و غلب على قلبه،فكسب مالا عظيما.
فلمّا مضت ثلاث سنين،صرف الهاشمي بالرّجل الّذي كان واليا قبله، و بلغ الهاشمي الخبر.
فقال لكاتبه:ما الرأي؟
قال:نفعل به مثلما فعل بنا،و ترحل أنت،و أقيم أنا،و معي مثل ما أعطانا، فأعطيه إيّاه،و آخذ كتابه بانفصال ما بيننا و بينه،و ألحق بك،ففعل.
و وافى كاتب الصارف،الّذي كان معروفا،فتلقّاه الكاتب في الموضع الّذي لقيه فيه،لما كان معزولا مصروفا،فسلّم عليه،و عدلا فنزلا،و عرض عليه ما خلّفه صاحبه،له،و لصاحبه،و سأله قبول ذلك،و الكتاب بمثل ما كان كتب الى الرّشيد،فامتنع من قبول ذلك،و كتب له بانفصال ما بينهما،إلى الرّشيد، كتابا وكيدا.
و قال له:أراك فاضلا،فطنا،و أرى صاحبك عاقلا،و قبول ذلك،لا يكون
ص:298
منكما مكافأة،بل كأنّه بيع و شراء،و قد فكّرت في أمر،هو أنفع-لنا و لكم- من هذا.
قال:ما هو؟
فقال:أعقد بين صاحبك و صاحبي صهرا،و بيني و بينك صهرا،و نكون إخوة و أصدقاء.
فقال:فعل اللّه بك و صنع،ما في الدنيا أكرم ولاية،و لا صرفا منك.
فعقدا بينهما الصهرين،و سارا إلى مقصدهما،و دخل الكاتب بغداد، و قد حصّل الهاشميّ صاحبه،فأخبره الخبر،فأحمد رأيه،و أمضى عقده في المصاهرة.
فصار الكاتب من أرباب الأحوال،و عاد إلى أفضل ما كان عليه (1).
ص:299
هاك يا هذا الذي لا أعرفه
و ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه،قال:روي عن شيخ من أهل الكوفة، قال:
أملقت و بلغت بي الحال أن نقضت منزلي،فلما اشتدّ عليّ الأمر،و تجرّد عيالي من الكسوة،جاءتتي الخادمة،فقالت:ما لنا دقيق،و لا معنا ثمنه، فما نعمل؟[182 م].
فقلت:أسرجي حماري،و قد كان بقي لي حمار.
فقالت:ما أكل شعيرا منذ ثلاث،فكيف تركبه؟
فقلت:أسرجيه على كلّ حال،فأسرجته،فركبته،أدبّ عليه،هاربا ممّا أنا فيه،حتى انتهيت إلى البصرة.
فلما شارفتها إذا أنا بموكب مقبل،فلما انتهوا إليّ،دخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة،فسرت معهم حتى دخلتها،و انتهى صاحب الموكب إلى منزله،فنزل،و نزل الناس معه،و نزلت معهم.
و دخلنا،فإذا الدهليز مفروش،و الناس جلوس مع الرجل،فدعا بغداء، فجاءوا بأحسن غداء،فتغدّيت مع الناس،ثم وضّأنا،و دعا بالغالية،فغلّفنا بها (1).
ثم قال:يا غلمان،هاتوا سفطا (2)،فجاءوا بسفط أبيض مشدود،ففتح فإذا فيه أكياس،في كلّ كيس ألف درهم،فبدأ يعطي من على يمينه،فأمرّها
ص:300
عليهم،ثم انتهى إليّ و أعطاني كيسا،ثم ثنّى و أعطاني آخر،ثم ثلّث و أعطاني آخر،و أخذت الجماعة.
و بقي في السفط كيس واحد،فأخذه بيده،و قال:هاك يا هذا الذي لا أعرفه.
فأخذت أربعة أكياس،و خرجت،
فقلت لانسان:من هذا؟
قال:عبيد اللّه بن أبي بكرة (1).
ص:301
أوّل دخول الأصمعي إلى الرشيد
و ذكر أبو الحسين في كتابه أيضا،أنّ الأصمعيّ قال:
لزمت باب الرشيد،فكنت أقيم عليه طول نهاري،و أبيت باللّيل مع الحراس أسامرهم،و أتوقّع طالع سعد،حتّى كدت أموت ضرّا و هزالا،و أن أصير إلى ملالة،ثم أتذكّر ما في عاقبة الصبر من الفرج،فأؤمّل صلاح حالي باتّفاق محمود،فأصبر.
فبينا أنا ذات ليلة،و قد قاسيت فيها السهاد و الأرق،إذ خرج بعض الحجّاب، فقال[178 غ]:هل بالباب أحد يحسن الشعر؟
فقلت:اللّه أكبر،ربّ مضيق فكّه التيسير،أنا ذلك الرجل.
فأخذ بيدي،و قال:ادخل،فإن ختم لك بالسعادة،فلعلّها أن تكون ليلة تقرّ عينك فيها بالغنى.
فقلت:بشّرك اللّه بخير،و دخلت،فواجهت الرشيد في البهو جالسا، و الخدم قيام على رأسه،و جعفر بن يحيى البرمكي،جالس إلى جنبه.
فوقف بي الحاجب حيث يسمع تسليمي،فسلّمت،ثم قال:تنحّ قليلا حتى تسكن،إن كنت وجدت روعة.
فقلت في نفسي:فرصة تفوتني آخر الدهر،إن شغلت بعارض،فلا أعتاض منها إلاّ كمدا،حتى يصفق عليّ الضريح،فقلت:إضاءة كرم أمير المؤمنين،و بهاء جدّه،يجرّدان من نظر إليه من أذية النفس،يسألني-أيّده اللّه-فأجيب،أو أبتدئ فأصيب؟
فتبسّم إلى جعفر،و قال:ما أحسن ما استدعى الإحسان،و حريّ به أن يكون محسنا.
ص:302
ثم قال لي:أ شاعر أنت،أم راوية للشعر؟
قلت:راوية.
قال:لمن؟
قلت:لكلّ ذي جدّ و هزل،بعد أن يكون محسنا.
فقال:أنصف القارة من راماها.
ثم قال:ما معنى هذه الكلمة؟
قلت:لها وجهان،زعمت التبابعة،أنّه كان لها رماة لا تقع سهامها في غير الحدق،فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه[18 ن]الملك،فخرج فارس معلم بعذبات سمور في قلنسوته،فنادى:أين رماة الحدق؟
فقالت العرب:أنصف القارة من راماها.
و الوجه الآخر:الموضع المرتفع من الأرض،و الجبل الشاهق،فمن ضاهاه بفعاله فقد راماه،و ما أحسب هذا هو المعنى،لأنّ المراماة،كالمعاطاة،و كما أنّ المعاطاة للنديم،هي أن يأخذ كأسا،و يعطي كأسا،كذلك المراماة، أن يرميها و ترميه.
فقال:أصبت،فهل رويت للعجّاج بن رؤبة (1)شيئا؟
قلت:الأكثر.
قال:أنشدني قوله:
أرّقني طارق همّ طرقا
فمضيت فيها مضيّ الجواد،تهدر أشداقي،فلمّا بلغت مدحه لبني أميّة، ثنيت عنان اللسان،لامتداحه المنصور.
ص:303
فقال:أعن عمد،أو غير عمد؟
فقلت:عن عمد،تركت كذبه إلى صدقه،بما وصف فيه المنصور من مجده.
فقال جعفر:بارك اللّه عليك،مثلك يؤهّل لمثل هذا الموقف.
ثم التفت إليّ الرشيد،فقال:أرويت لعديّ بن الرقاع (1)،شيئا؟
قلت:الأكثر،قال:أنشدني قوله:
بانت سعاد و أخلفت ميعادها
فابتدأت تهدر أشداقي،فقال جعفر:يا هذا أنشد على[185 م]مهل، فلن تنصرف إلاّ غانما.
فقال الرشيد:أمّا إذ قطعت عليّ،فأقسم،لتشركني في الجائزة.
قال:فطابت نفسي،فقلت:أ فلا ألبس أردية التيه على العرب،و أنا أرى الخليفة و الوزير يتشاطران لي المواهب،فتبسّم،و مضيت فيها.
ثم قال:أرويت لذي الرمّة (2)شيئا؟قلت:الأكثر،قال[179 غ] أنشدني قوله:
أمن حذر الهجران قلبك يطمح
فقلت:عروس شعره.
قال:فأيّه الختن (3)؟قلت:قوله،يا أمير المؤمنين:
ما بال عينيك منها الماء ينسكب
.
ص:304
فقال:امض فيها،فمضيت فيها،حتى انتهيت إلى وصفه جمله.
فقال جعفر:ضيّق علينا ما اتّسع من مسامرة السهر،بجمل أجرب.
فقال الرشيد:أسكت،فهي التي سلبتك تاج ملكك،و أزعجتك عن قرارك،ثم جعلت جلودها سياطا،تضرب بها أنت و قومك عند الغضب.
فقال جعفر:الحمد للّه،عوقبت من غير ذنب.
فقال الرشيد:أخطأت في كلامك،لو قلت:أستعين باللّه،قلت صوابا، إنّما يحمد اللّه تعالى على النعم،و يستعان على الشدائد.
ثم قال لي:إنّي لأجد مللا،و هذا جعفر،ضيف عندنا،فسامره باقي ليلتك،فإذا أصبحت،فإنّ وضّاء الخادم،يلقاك بثلاثين ألف درهم.
قال:ثم قرّبت إليه النعل،فجعل الخادم يصلح عقب النعل في رجله، فقال:ارفق ويحك،أحسبك قد عقرتني.
فقال جعفر:قاتل اللّه العجم،لو كانت سنديّة،ما احتاج أمير المؤمنين إلى هذه الكلفة.
فقال:هذه نعلي و نعل آبائي،ما تدع نفسك و التعرّض لما تكره.
ثم قال لي جعفر:لو لا أنّ المجلس مجلس أمير المؤمنين،و لا يجوز لي فيه أن آمر بمثل ما أمر به،لأمرت لك بثلاثين ألف درهم،و لكنّي آمر لك بتسعة و عشرين ألف درهم،فاذا أصبحت فاقبضها و الزم الباب.
قال:فما صلّيت من غد الصبح،إلاّ و في منزلي ما أمر لي به،فأيسرت و لزمتهما،و زال ما كنت فيه من الضرّ،و أتى الإقبال،و النعمة و السلامة،و أفلحت، و للّه الحمد (1).
ص:305
قصّة حائك الكلام
و ذكر أبو الحسين القاضي،في كتابه،قال:بلغني عن عمرو بن مسعدة، أنّه قال:
كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم،حتى إذا نزل الرقّة،قال لي:
يا عمرو،أما ترى الرخّجي (1)،قد احتوى على الأهواز،و هي سلّة الخبز، و جميع الأموال قبله،و قد طمع فيها،و كتبي متّصلة في حملها،و هو يتعلّل، و يتربّص بنا الدوائر.
فقلت:أنا أكفي أمير المؤمنين هذا،و أنفذ من يضطرّه إلى حمل ما عليه.
فقال:ما يقنعني هذا.
قلت:فيأمر أمير المؤمنين بأمره.
قال:تخرج إليه بنفسك،حتى تصفّده بالحديد،و تحمله إليّ،بعد أن تقبض جميع ما في يده من أموالنا،و تنظر في ذلك،و ترتّب فيه عمالا.
فقلت:السمع و الطاعة،فلمّا كان من غد،دخلت إليه.
فقال:ما فعلت فيما أمرتك به؟
قلت:أنا على ذاك.
قال:أريد أن تجيئني في غد مودّعا.
قلت:السمع و الطاعة،فلمّا كان من غد،جئت مودّعا.
فقال:أريد أن تحلف لي،أنّك لا تقيم ببغداد إلاّ يوما واحدا،فاضطربت من ذلك،إلى أن حظر عليّ و استحلفني أن لا أقيم فيها أكثر[180 غ]من ثلاثة أيّام،فخرجت،و أنا مضطرب مغموم.
ص:306
و قلت في نفسي:أنا في موضع الوزارة،و قد[186 م]جعلني مستحثّا إلى عامل،و مستخرجا،و لكنّ أمر الخليفة لا بدّ من سماعه،و امتثال مرسومه.
و سرت حتى قدمت بغداد،و لم أقم بها إلاّ ثلاثة أيّام،و انحدرت منها في زلاّل (1)،أريد البصرة (2)،و جعل لي فيه خيش،و استكثرت من الثلج لشدّة الحرّ.
فلمّا صرت بين جرجرايا (3)،و جبّل (4)،سمعت صائحا من الشاطئ،يصيح:
يا ملاّح،فرفعت سجف الزلاّل،فاذا بشيخ كبير السنّ حاسر الرأس،حافي القدمين،خلق القميص.
فقلت للغلام:أجبه،فأجابه.
ص:307
فقال:أنا شيخ كبير السنّ،على هذه الصورة التي ترى،و قد أحرقتني الشّمس،و كادت تتلفني،و أنا أريد جبّل،فاحملوني معكم،فإنّ اللّه عزّ و جلّ يحسن أجر صاحبكم.
قال:فشتمه الملاّح،و انتهره.
فادركتني عليه رقّة،و قلت للغلام:خذه معنا،فقدّم إلى الشط (1)،و صحنا به،و حملناه.
فلمّا صار معنا في الزلاّل،و انحدرنا،تقدّمت،فدفع إليه قميص،و منديل، و غسل وجهه،و استراح،فكأنّه كان ميتا عاد إلى الدنيا.
و حضر وقت الغداء،فتذمّمت (2)و قلت للغلام:هاته يأكل معنا.
فجاء و قعد على الطعام،فأكل أكل أديب،نظيف،غير أنّ الجوع قد أثّر فيه.
فلمّا رفعت المائدة،أردت أن يقوم و يغسل يده ناحية،كما يفعل العامّة، في مجالس الخاصّة،فلم يفعل،فغسلت يدي.
و تذمّمت أن آمر بقيامه،فقلت:قدّموا له الطست،فغسل يده،و أردت بعدها أن يقوم لأنام،فلم يفعل.
فقلت:يا شيخ،أيش صناعتك؟
قال:حائك،أصلحك اللّه.
فقلت في نفسي:هذه الحياكة علّمته سوء الأدب،فتناومت عليه، و مددت رجليّ.
فقال:قد سألتني عن صناعتي،فأجبتك،فأنت-أعزّك اللّه-ما صناعتك؟
ص:308
فأكبرت ذلك،و قلت:أنا جنيت على نفسي هذه الجناية،و لا بدّ من احتماله،أ تراه-الأحمق-لا يرى زلاّلي،و غلماني،و نعمتي،و أنّ مثلي لا يقال له مثل هذا؟
ثم قلت:أنا كاتب.
فقال:كاتب كامل،أم كاتب ناقص؟فإنّ الكتّاب خمسة،فمن أيّهم أنت؟[19 ن]
فورد عليّ من قول الحائك،مورد عظيم،و سمعت كلاما أكبرته،و كنت متّكئا،فجلست.
ثم قلت له:فصّل الخمسة.
قال:نعم،كاتب خراج،يقتضي أن يكون عالما بالشروط،و الطسوق (1)، و الحساب،و المساحة،و البثوق (2)،و الفتوق،و الرتوق.
و كاتب أحكام،يحتاج أن يكون عالما بالحلال،و الحرام،و الاختلاف، و الاحتجاج،و الإجماع،و الأصول،و الفروع.
و كاتب معونة،يحتاج أن يكون عالما بالقصاص،و الحدود،و الجراحات، و المراتبات (3)،و السياسات.
و كاتب جيش،يحتاج أن يكون عالما بحلى الرجال،و شيات الدوابّ، و مداراة الأولياء،و شيء من العلم بالنسب و الحساب.
و كاتب رسائل،يحتاج إلى أن يكون عالما بالصدور،و الفصول،و الإطالة، و الإيجاز،و حسن البلاغة،و الخطّ.
ص:309
قال:فقلت:أنا كاتب رسائل[181 غ].
قال:فأسألك عن بعضها؟
قلت:سل.
قال:أصلحك اللّه،لو أنّ رجلا من إخوانك تزوّجت أمّه،فأردت أن تكاتبه مهنّئا،فما ذا كنت تكتب إليه؟
ففكّرت في الحال،فلم يخطر ببالي شيء،فقلت:اعفني.
قال:قد فعلت،و لكنّك،لست بكاتب رسائل.
قلت:أنا كاتب خراج.
قال:لا بأس،لو أنّ أمير المؤمنين ولاّك ناحية[187 م]و أمرك فيها بالعدل و الإنصاف،و تقصّي حقّ السلطان،فتظلّم إليك بعضهم من مسّاحك،و أحضرتهم للنظر بينهم و بين رعيتك،فحلف المسّاح باللّه العظيم،لقد أنصفوا،و ما ظلموا، و حلف الرعية باللّه العظيم،أنّهم قد جاروا و ظلموا،و قالوا لك:قف معنا على ما مسحوه،و أنظر من الصادق من الكاذب،فخرجت لتقف عليه،فوقفوا على قراح شكله:قاتل قثا،كيف كنت تمسحه؟
فقلت:كنت آخذ طوله على انعواجه (1)،و آخذ عرضه،ثم أضربه في مثله.
قال:إن شكل قاتل قثا،يكون رأساه محدّدان،و في تحديدة تقويس.
قلت:فآخذ الوسط فأضربه بالعمود.
قال:إذا ينثني عليك العمود،فأسكتني.
فقلت:أنا لست كاتب خراج.
قال:فإذا ما ذا؟
قلت:أنا كاتب قاض.
قال:لا تبال،أ فرأيت لو أنّ رجلا توفّي،و خلّف امرأتين حاملتين،إحداهما
ص:310
حرّة،و الأخرى سريّة،و ولدت السريّة غلاما،و الحرّة جارية،فعمدت الحرّة إلى ولد السريّة فأخذته،و تركت بدله الجارية،فاختصمتا في ذلك،كيف الحكم بينهما؟
قلت:لا أدري.
قال:فلست كاتب قاض.
قلت:أنا كاتب جيش.
قال:لا بأس،أ رأيت،لو أنّ رجلين جاءا إليك لتحلّيهما،و كلّ واحد منهما،اسمه،و اسم أبيه،كاسم الآخر،و اسم أبيه،إلاّ أنّ أحدهما مشقوق الشفّة العليا،و الآخر مشقوق الشفّة السفلى،كيف كنت تحلّيهما؟
قلت:أقول فلان الأعلم،و فلان الأعلم.
قال:إنّ رزقيهما مختلفان،و كلّ واحد منهما يجيء في دعوة الآخر.
قلت:لا أدري.
قال:فلست بكاتب جيش.
قلت:أنا كاتب معونة.
قال:لا تبال،لو أنّ رجلين[رفعا إليك] (1)شجّ أحدهما شجّة موضحة (2)، و شجّ الآخر صاحبه شجّة مأمومة (3)،كيف تفصل بينهما؟
قلت:لا أدري.
قال:إذن،لست كاتب معونة،فاطلب لنفسك-أيّها الرجل-شغلا غير هذا.
قال:فقصرت إلى نفسي،و غاظني،فقلت:قد سألت عن هذه الأمور،
ص:311
و يجوز أن لا يكون عندك جوابها،كما لم يكن عندي،فإن كنت عالما بالجواب، فقل.
فقال:نعم،أمّا الذي تزوّجت أمّه،فتكتب إليه:أمّا بعد،فإنّ الأمور، تجري من عند اللّه،بغير محبّة عباده،و لا اختيارهم[182 غ]،بل هو تعالى، يختار لهم ما أحبّ،و قد بلغني تزويج الوالدة،خار اللّه لك في قبضها،فإنّ القبر أكرم الأزواج،و أستر للعيوب،و السلام.
و أمّا قراح قاتل قثا،فيمسح العمود،حتى إذا صار عددا في يدك ضربته في مثله،و مثل ثلثه،فما خرج فهو مساحته.
و أمّا الجارية و الغلام،فيوزن اللبنان،فأيّهما أخفّ،فالجارية له.
و أمّا المرتزقان المتوافقان في الاسمين فإن كان الشقّ في الشفة العليا،كتبت فلان الأعلم،و إذا كان في الشفة السفلى،كتبت فلان الأفلح.
و أمّا أصحاب الشجّتين،فلصاحب الموضحة ثلث الديّة،و لصاحب المأمومة نصف الدية.
قال:فلمّا أجاب في هذه المسائل،تعجّبت منه،و امتحنته في أشياء غيرها كثيرة،فوجدته ماهرا في جميعها،حاذقا،بليغا.
فقلت:أ لست زعمت أنّك حائك؟
فقال:أنا-أصلحك اللّه-حائك كلام،و لست بحائك نساجة، ثم أنشأ يقول:
ما مرّ بؤس و لا نعيم إلاّ ولي فيهما نصيب[188 م]
نوائب الدهر أدّبتني و إنّما يوعظ الأديب (1)
قد ذقت حلوا و ذقت مرّا كذاك عيش الفتى ضروب
ص:312
قلت:فما سبب الذي بك من سوء الحال؟
قال:أنا راجل كاتب،دامت عطلتي،و كثرت عيلتي (1)و تواصلت محنتي، و قلّت حيلتي،فخرجت أطلب تصرّفا،فقطع عليّ الطريق،فتركت كما ترى، فمشيت على وجهي،فلمّا لاح لي الزلاّل،استغثت بك.
قلت:فإنّي قد خرجت إلى تصرّف جليل،أحتاج فيه إلى جماعة مثلك، و قد أمرت لك بخلعة حسنة،تصلح لمثلك،و خمسة آلاف درهم،تصلح بها أمرك،و تنفذ منها إلى عيالك،و تتقوّى نفسك بباقيها،و تصير معي إلى عملي، فأولّيك أجلّه،إن شاء اللّه تعالى.
[فقال:أحسن اللّه جزاءك،إذن تجدني بحيث يسرّك،و لا أقوم مقام معذّر إن شاء اللّه] (2).
فأمرت بتقبيضه ما رسمت له،فقبضه،و انحدر إلى الأهواز معي،فجعلته المناظر للرخّجي،و المحاسب له بحضرتي،و المستخرج لما عليه،فقام بذلك أحسن قيام و أوفاه.
و عظمت حاله معي،و عادت نعمته إلى أحسن ما كانت عليه. (3)
ص:313
أنا أبوك
قال مؤلّف هذا الكتاب:و قد بلغني حديث لعمرو بن مسعدة في زلاّله، بخلاف هذا،حدّثني به عبيد اللّه بن محمد بن الحسن بن الحفا العبقسي، و هو يذكر أنّ أهله أقرباء لبني مارية (1)الذين كانوا تنّاء الصراة،و أهل النعم بها، قال:حدّثني أبي،قال:سمعت شيوخنا بالصراة،و أهلنا،يتحدّثون:
أنّ عمرو بن مسعدة،كان مصعدا من واسط إلى بغداد،في حرّ شديد، و هو جالس في زلاّل،فناداه رجل:يا صاحب الزلاّل[بنعمة اللّه عليك إلا نظرت إليّ.
قال:فكشف سجف الزلاّل،فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس] (2).
فقال[20 ن]له:قد ترى ما أنا عليه[183 غ]،و لست أجد من يحملني، فابتغ الأجر فيّ،و تقدّم إلى ملاّحيك يطرحوني بين مجاديفهم (3)،إلى أن أصل بلدا يطرحوني فيه.
قال عمرو بن مسعدة:فرحمته،و قلت خذوه،فأخذوه،فغشي عليه، و كاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس.
فلمّا أفاق،قلت له:يا شيخ،ما حالك،و ما قصّتك؟
فقال:قصّة طويلة.
ص:314
فسكّنته و طرحت عليه قميصا و منديلا،و أمرت له بدراهم[و شمشك] (1)، فشكرني.
فقلت:لا بدّ أن تحدّثني بحديثك.
فقال:أنا رجل كانت للّه عزّ و جلّ عليّ نعمة جليلة،و كنت صيرفيّا، فابتعت جارية بخمسمائة دينار،فعشقتها عشقا عظيما،و كنت لا أقدر أن أفارقها ساعة واحدة،فاذا خرجت إلى الدكّان،أخذني كالجنون و الهيمان (2)، حتى أعود فأجلس معها يومي كلّه.
فدام ذلك حتى تعطّل دكّاني،و تعطّل كسبي،و أقبلت أنفق من رأس المال، حتى لم يبق منه قليل و لا كثير،و أنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها.
فحبلت الجارية،و أقبلت أنقض داري،و أبيع نقضها،حتى فرغت من ذلك،فلم تبق لي حيلة.
فضربها الطّلق،فقالت:يا هذا،هو ذا أموت،فاحتل فيما تبتاع به عسلا،و دقيقا،و شيرجا (3)،و لحما،و إلاّ متّ.
فبكيت،و حزنت،و خرجت على وجهي،و جئت لأغرق نفسي في دجلة، فذكرت حلاوة النفس،و خوف العقاب في الآخرة،فامتنعت.
ثم[189 م]خرجت هائما على وجهي إلى النهروان،و ما زلت أمشي من قرية إلى قرية،حتى بلغت خراسان،فصادفت بها من عرفني،و تصرّفت في ضياعه،و رزقني اللّه عزّ و جلّ مالا عظيما،فأثريت،و اتّسعت حالي،و مكثت
ص:315
سنين،لا أعرف خبر منزلي،فلم أشكّ أنّ الجارية قد ماتت.
و تراخت[186 ر]السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار.
فقلت:قد صارت لي نعمة،فلو رجعت إلى وطني.
فابتعت بالمال كلّه،متاعا من خراسان،و أقبلت أريد العراق،من طريق فارس و الأهواز.
فلما حصلت بينهما،خرج على القافلة لصوص،فأخذوا جميع ما فيها، و نجوت بثيابي،و عدت فقيرا.
و دخلت الأهواز،فبقيت بها متحيّرا،حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه،فأعطاني ما تحمّلت به إلى واسط.
و نفدت نفقتي،فمشيت إلى هذا الموضع،و قد كدت أتلف،فاستغثت بك،ولي منذ فارقت بغداد،ثمان و عشرون سنة.
فعجبت من ذلك،و قلت له:اذهب،فاعرف خبر أهلك،و صر إليّ، فإنّي أتقدّم بتصريفك فيما يصلح لمثلك،فشكر،و دعا،و دخلنا بغداد.
و مضت على ذلك مدّة طويلة،أنسيته فيها،فبينا أنا يوما،قد ركبت، أريد دار المأمون،و إذا بالشيخ على بابي،راكبا بغلا فارها،بمركب محلّى ثقيل، و غلام أسود بين يديه،و ثياب حسنة[184 غ]،
فلما رأيته رحّبت به،و قلت:ما الخبر؟
فقال:طويل،و ها أنا آتي إليك في غد،و أحدّثك بالخبر.
فلمّا كان من الغد،جاءني،فقلت له:عرّفني خبرك،فقد سررت بسلامتك، و بظاهر حالك.
فقال:إنّي صعدت من زلاّلك،فقصدت داري،فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلّفته،غير أنّ باب الدار كان مجلّوا،نظيفا،و عليه دكاكين، و بوّاب،و بغال مع شاكريّة.
ص:316
فقلت:إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،ماتت جاريتي،و ملك الدار بعض الجيران، فباعها من رجل من أصحاب السلطان.
ثم تقدّمت إلى بقّال كنت أعرفه في المحلّة،فوجدت في دكّانه غلاما حدثا.
فقلت له:من تكون من فلان البقّال؟
فقال:أنا ابنه.
فقلت:و متى مات؟
قال:منذ عشرين سنة.
قلت:لمن هذه الدار؟
قال:لابن داية أمير المؤمنين،و هو الآن صاحب بيت ماله.
قلت:بمن يعرف؟
قال:بابن فلان الصيرفيّ،فأسماني.
قلت:فهذه الدار من باعها إليه.
قال:هذه دار أبيه.
قلت:و أبوه يعيش؟
قال:لا.
قلت:أ تعرف من حديثهم شيئا؟
قال:نعم،حدّثني أبي،أنّ والد هذا الرجل كان صيرفيّا جليلا،فافتقر، و أنّ أمّ هذا الرجل ضربها الطلق،فخرج أبوه يطلب لها شيئا،ففقد،و هلك.
و قال أبي:جاءني رسول أمّ هذا،يطلب لها شيئا،و هي تستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة،و دفعت لها عشرة دراهم،فما أنفقتها،حتى قيل:
قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد،مولود ذكر،و قد عرض عليه جميع الدايات، فلم يقبل ثديهنّ،و قد طلب له الحرائر،فجاءوه بغير واحدة،فما أخذ ثدي واحدة منهنّ،و هم في طلب مرضع.
ص:317
فأرشدت الذي طلب الداية إلى أمّ هذا،فحملت إلى دار الرشيد[190 م]، فحين وضع فمّ الصبيّ على ثديها،قبله،فأرضعته،و كان الصبيّ المأمون،و صارت عندهم في حال جليلة،و وصل إليها منهم خير كثير.
ثم خرج المأمون إلى خراسان،و خرجت هذه المرأة و ابنها هذا معها،و لم نعرف أخبارهم إلاّ منذ قريب،لما عاد المأمون،و عادت حاشيته،رأينا هذا قد صار رجلا،و لم أكن رأيته قبل قط،و قد كان أبي مات.
فقالوا:هذا ابن فلان الصيرفي،و ابن داية الخليفة المأمون،فبنى هذه الدار و سوّاها.
فقلت:فعندك علم من أمّه أ هي حيّة أم ميتة؟
قال:هي حيّة،تمضي إلى دار الخليفة أيّاما،و تكون عند ابنها أيّاما هنا.
فحمدت اللّه تعالى على هذه الحال،و جئت،حتى دخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة و الحسن،و فيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة، و في صدره رجل شابّ بين يديه كتّاب و جهابذة (1)،[187 ر]و حساب يستوفيه عليهم،و في صفاف الدار و بعض مجالسها،جهابذة بين أيديهم الأموال و التخوت (2)و الشواهين (3)[185 غ]،يقبضون و يقبضون،
و بصرت بالفتى،فرأيت شبهي فيه،فعلمت أنّه ابني،فجلست في غمار الناس،إلى أن لم يبق في المجلس غيري،فأقبل عليّ.
فقال:يا شيخ،هل من حاجة تقولها؟
فقلت:نعم،و لكنّه أمر لا يجوز أن يسمعه غيرك.
ص:318
فأومأ إلى غلمان كانوا قياما حوله،فانصرفوا،و قال:قل،أعزّك اللّه.
قلت:أنا أبوك.
فلمّا سمع ذلك تغيّر وجهه[21 ن]،ثم وثب مسرعا،و تركني مكاني.
فلم أشعر إلاّ بخادم جاءني،فقال:قم يا سيّدي،فقمت أسير معه، حتى بلغت ستارة منصوبة،في دار لطيفة،و كرسيّ بين يديها،و الفتى جالس على كرسيّ آخر.
فقال:اجلس أيّها الشيخ.
فجلست على الكرسي،و دخل الخادم،فإذا بحركة خلف الستارة.
فقلت:أظنّك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة،و ذكرت اسم جاريتي،أمّه.
قال:فإذا بالستارة قد كشفت،و الجارية قد خرجت إليّ،فوقعت عليّ تقبّلني و تبكي،و تقول:مولاي و اللّه.
قال:فرأيت الفتى،قد تشوّش،و بهت،و تحيّر.
فقلت للجارية:ويحك ما خبرك؟
فقالت:دع خبري،ففي مشاهدتك،ممّا تفضل اللّه عزّ و جلّ بذلك، كفاية،إلى أن أخبرك،فقل ما كان من خبرك أنت؟
فقصصت عليها خبري،منذ يوم خروجي من عندها،إلى يومي ذاك، و قصّت هي،عليّ قصتها،مثل ما قال ابن البقّال،و أعجب،و أشرح،و كلّ ذلك بمرأى من الفتى و مسمع،فلما استوفى الحديث،خرج و تركني في مكاني.
قال:و إذا أنا بخادم،قال:يا مولاي،يسألك ولدك أن تخرج إليه.
قال:فخرجت إليه،فلما رآني من بعيد،قام قائما على رجليه،و قال:
معذرة إلى اللّه،و إليك يا أبة،من تقصيري في حقّك،فإنّه فجأني من أمرك، ما لم أظنّ أنّه يكون،و الآن،فهذه النعمة لك،و أنا ولدك،و أمير المؤمنين مجتهد بي
ص:319
منذ دهر،أن أدع هذه الجهبذة،و أتوفّر على خدمته في الدار،فلا أفعل،طلبا للتمسّك بصنعتي،و الآن،فأنا أسأله أن يردّ إليك عملي،و أخدمه أنا في غيرها، فقم عاجلا،و أصلح أمرك.
فأخذت إلى الحمّام و نظّفت،و جاءوني بخلعة،فألبستها،و خرجت إلى حجرة والدته،فجلست فيها[191 م].
ثم أدخلني على أمير المؤمنين،و حدّثته بحديثي،و خلع عليّ،و ردّ إليّ العمل الذي كان إلى ولدي،و أجرى عليّ من الرزق،في كلّ شهر كذا،و قلّد ابني أعمالا هي من أجلّ عمله،و أضعف له أرزاقه،و أمره بلزوم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاصّ أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل،و أعرّفك بتجدّد النعمة.
قال عمرو بن مسعدة:فلمّا أسمى الفتى،علمت أنّه ابن داية المأمون، كما قال.
ص:320
سقط عليه حائط و نهض سالما
حدّثني[عمر بن عبد الملك[186 غ]بن الحسن بن يوسف السقطي،و كان خليفتي على القضاء بحرّان و نواح من ديار مضر،ثم خلفني على قطعة من سقي الفرات،قال:حدّثني] (1)أبو الخطاب محمد بن أحمد بن زكريّا الأنصاري، الشاهد بالبصرة،قال:
غلّست (2)يوما أريد مسجد الزياديّين (3)،بشارع المربد (4)،لوعد كان عليّ فيه، و كانت الريح قويّة،و إذا بين يديّ بأذرع رجل يمشي.
فلما بلغنا دار رياح،قلعت الريح سترة (5)آجرّ و جصّ على رأس حائط، فرمت بها على ذلك الرجل،فلم أشكّ في هلاكه،و ارتفعت غبرة عظيمة أفزعتني، فرجعت.
فلما سكنت،عدت أسلك الطريق،حتى إذا دست بعض السترة،لم أجد الرجل،فعجبت.
و تمّمت طريقي،حتى دخلت مسجد الزياديّين،فرأيت أهل المسجد مجتمعين، فحدّثتهم بما رأيت في طريقي،متوجّعا للرجل،و شاكرا للّه عزّ و جلّ على سلامتي.
فقال رجل منهم:يا أبا الخطاب،أنا الذي وقعت عليه السترة،و ذلك أنّي قصدت هذا المسجد[188 ر]لمثل ما وعدت له،فلمّا سقطت السترة لم أحسّ
ص:321
بضرر لحقني،و وجدت نفسي قائما سالما،فحمدت اللّه تعالى،و تحيّرت، و وقفت حتى انجلت الغبرة،فتأمّلت الصورة،فاذا في السترة موضع باب كبير، و قد سقط باقي السترة حواليّ،و سائر جسدي في موضع ذلك الباب،فخرجت منه إلى هاهنا.
ص:322
نفاه الواثق و أعاده المتوكّل
و وجدت بخطّ جحظة:حدّثني عبيد اللّه بن عمر البازيار،نديم المتوكّل، قال:
لما نفاني الواثق،من سرّ من رأى،إلى البحر،من أجل خدمتي لجعفر (1)، لحقتني إضاقة شديدة،و غموم متّصلة،و استبعدت الفرج.
فكنت أبكرّ في كلّ يوم،بباشق (2)على يدي،إلى الصحراء،فأرجع بالدرّاجة و الدرّاجتين،فيكون ذلك قوتي،لإضاقتي.
فدخلت يوم جمعة،إلى الجامع،لأصلّي قريبا من المنبر،و ليس معي خبر، فإذا الخطيب،يخطب:اللّهم أصلح عبدك و خليفتك عبد اللّه جعفر،الإمام المتوكّل على اللّه،أمير المؤمنين.
فداخل قلبي من السرور،حال،لم أدر معه،في أيّ مكان أنا (3).
قال:و سقطت مغشيا عليّ،فظنّ الناس (4)أنّي قد صرعت،فأخرجوني، فمشيت إلى الموضع الذي أسكنه،فإذا البرد على بابي،يطلبونني.
فركبت معهم إلى المتوكّل،فكان من أمري معه ما كان،و زادني على الغنى درجات عظيمة،و عدت إلى حالي من اليسار (5).
ص:323
البحتري يهنّئ الفتح بنجاته من الغرق
و حدّثت:أنّ الفتح بن خاقان (1)،اجتاز على بعض القناطر،و هو يتصيّد، و قد انقطع من عسكره،فانخسفت القنطرة من تحته،فغرق.
فرآه أكّار (2)،و هو لا يعرفه،فطرح نفسه وراءه،و خلّصه،و قد كاد أن يتلف،و لحقه أصحابه،فأمر للأكّار بمال عظيم،و صدّق بمثله.
فدخل إليه البحتري،فأنشده قصيدته التي أوّلها:
متى لاح برق أو بدا طل قفر
جرى مستهلّ لا بكيّ (3)و لا نزر (4)[192 م]
و فيها يقول:
لقد كان يوم النهر يوم عظيمة أطلّت و نعماء جرى بهما النهر[187 غ]
أجزت عليه عابرا فتشاعبت (5) أواذيه (6)لما أن طما فوقه البحر
ص:324
و زالت أواخي الجسر و انهدمت به قواعده العظمى و ما ظلم الجسر
تحمّل حلما مثل قدس (1)و همّة كرضوى (2)و قدرا ليس يعدله قدر
فما كان ذاك الهول إلاّ غيابة بدا طالعا من تحت ظلمتها البدر
فإن ننس نعمى اللّه فيك فحظّنا أضعنا و إن نشكر فقد وجب الشكر
فقال له الفتح:الناس يهنّئونا بنثر،و أنت بنظم،و براحة،و أنت بتعب، و أجزل صلته (3)[22 ن].
ص:325
فيمن أشفى على أن يقتل فكان الخلاص من القتل إليه أعجل
بدأ الهادي خلافته بتنحية الربيع عن الوزارة
و استيزار إبراهيم الحرّاني
ذكر محمّد بن عبدوس في كتاب«الوزراء»:أنّ إبراهيم بن ذكوان الحرّاني الأعور الكاتب (1)،صاحب طاق الحرّاني ببغداد (2)،كان خاصّا بالمهدي.
قال:و انّ المهدي أنفذ موسى ابنه إلى جرجان (3)،و أنفذ معه إبراهيم الحرّاني، [فخصّ إبراهيم بموسى] (4)و لطف موضعه منه.
فاتّصل بالمهدي عنه أشياء تزيّد فيها عليه أعداؤه و كثّروا،فكتب المهدي إلى موسى في حمله إليه،فضنّ به،و دافع عنه.
ص:326
فكتب إليه المهدي:إن لم تحمله،خلعتك من العهد،و أسقطت منزلتك.
فلم يجد موسى من حمله بدّا،و حمله مع بعض خدمه،مرفّها،مكرّما، و قال للخادم:إذا دنوت من محلّ المهدي،فقيّد إبراهيم،و احمله في محمل، بغير وطاء و لا غطاء،و ألبسه جبّة صوف،و أدخله إليه بهذه الصورة،فامتثل الخادم ما أمر به في ذلك.
و اتّفق أنّه ورد إلى العسكر (1)،و المهدي يريد الركوب إلى الصيد،و هو -إذ ذاك-بالروذبار (2)،فبصر بالموكب،فسأل عنه فقيل خادم لموسى و معه إبراهيم الحرّاني.
فقال:و ما حاجتي إلى الصيد،و هل صيد أطيب من صيد إبراهيم الحرّاني؟
قال:فأدنيت منه،و هو علي ظهر فرسه.
فقال:إبراهيم؟
قلت:لبيك يا أمير المؤمنين.
فقال:لا لبّيك،و اللّه لأقتلنّك،ثم و اللّه لأقتلنّك،ثم و اللّه لأقتلنّك، إمض يا خادم به إلى المضرب (3).
فحملت،و قد يئست من الفرج،و من نفسي،ففزعت إلى اللّه تعالى بالدعاء و الإبتهال.
ص:327
و انصرف المهدي،فأكل اللوزينج المسموم المشهور خبره (1)،فمات من وقته، و تخلّصت.
[و ذكر محمّد بن عبدوس-بعد هذا-أنّ الهادي لمّا بلغه موت المهدي، نجا من جرجان إلى بغداد،على دوابّ البريد،و ما سمع بخليفة ركب دوابّ البريد غيره،فدخل بغداد و الربيع مولى المنصور على الوزارة،كما كان يتقلّدها للمهدي،فصرفه و قلّد إبراهيم بن ذكوان الحرّاني] (2).
ص:328
المأمون،إبراهيم بن المهدي،إلى أحمد بن أبي خالد ليحبسه عنده،دخل إبراهيم إلى أحمد.
فقال له إبراهيم:الحمد للّه الذي منّ عليّ بمصيري إليك و حصولي في دارك، و تحت يدك،و لم يبتلني بغيرك.
قال إبراهيم:فقطّب أحمد،و بسر في وجهي،و قال:يا إبراهيم،لقد حسن ظنّك بي،إذ تتوهّم أنّ أمير المؤمنين[191 غ]لو أمرني بضرب عنقك، أنّي أتعدّى ذلك إلى غير ما أمرني به فيك.
قال:فأدرت عيني في مجلسه،فتبيّنت فيمن حضر من أهل خراسان، إنكارا لقوله.
فقلت:صدقت يا ابن أبي خالد،إن قتلتني بأمر أمير المؤمنين،كنت غير ملوم،و كذلك لو أمرني بالشقّ عن قلبك و كبدك،فعلت ذلك،و كنت غير ملوم.
و لم أحمد ربّي-و إن كان حمده واجبا في كلّ حال-لحسن ظنّي بك، و لكنّني علمت،أنّ لأمير المؤمنين[195 م]خزنة سيوف،و خزنة أقلام،و أنّه متى أراد قتل إنسان،دفعه إلى خزنة السيوف،و متى أراد مناظرته،دفعه إلى خزنة الأقلام.
فحمدت اللّه تعالى،على ما منّ به عليّ،من إحلاله إيّايّ،محل من يساءل، لا محلّ من يعاجل.
قال:فرأيت وجوه كلّ من حوله قد أشرقت،و أسفرت،و أعجبوا بما كان منّي.
فقال أحمد بن أبي خالد:الناس يتكلّمون على قدر أنفسهم و آبائهم، و كلامك على قدر المهدي،و قدر نفسك،و كلامي على قدر خلقي،و قدر يزيد الأحول،و أنا أستقيلك مما سبق منّي،فأقلني،أقال اللّه عثرتك،و سهّل أمرك، و عجّل خلاصك.
ص:330
فقلت:قد أقال اللّه عثرتك.
قال:و ما مضت لي في داره،خمسون ليلة،حتى سار إليّ في نصف الليل، فأخرجني،و ألقى عليّ درعا،و ظاهر بدرّاعة (1)،و حملني على دابّة،و هو يركض إلى الجانب الغربي،فوقفني بين الجسر و الخلد (2).
فوقع في نفسي أنّ إلقاءه عليّ الدرع،إنّما هو لإيراده إيّاي على سكران، فأراد أن يقيني بادرته،و علمت أنّه أراد أنّه إذا ورد عليّ أمر،أن أتماوت.
فخلّفني مع أصحابه،و مصى يركض،ثم عاد إليّ.
ثم قال:يقول لك أمير المؤمنين:يا فاسق،ألم يكن لك في السابق القديم من فعلك،كفاية تحوّلك عمّا كان منك في هذه الليلة التي وثب فيها عليّ ابن عائشة و ابن الأفريقيّ،و من يتابعهما (3)،و أضرابهم،[24 ن]حتى اضطروني إلى أن ركبت إلى المطبق لمحاربتهم،حتى أظفرني اللّه جلّ و عزّ بهم،فقتلتهم، و أنا ملحقك بهم،فاحتجّ لنفسك،إن كانت لك حجّة،و إلاّ فإنّك لاحق بهم.
فعلمت أنّ الرسالة ممن غلب عليه النبيذ،و أنّي أحتاج إلى إغضابه،حتى يغلب غضبه السكر.
فقلت:يا أبا العبّاس،دمي في عنقك،فاتّق اللّه،و لا تقتلني.
ص:331
فقال لي:يا هذا،ما الذي يتهيّأ لي أن أعمل،و هل يمكنني دفع شيء يأمرني به؟
فقلت:لا،و إنّي أريد أن أحقن دمي،بأن تؤدّي عنّي ما تسمعه منّي، و إنّما تقتلني،إذا أجبته بجواب،فأدّيت عنّي غيره،تقديرا منك،أنّه أصلح و أدعى إلى ملامتي،فلا يتلقّى قولك بالقبول،فأدّ قولي كما أقول.
فقال أحمد بن أبي خالد:عليّ عهد اللّه،أن أؤدّي ما تقول.
قال:فقلت،تقول له:يا أمير المؤمنين إن كنت تعقل،فأنت تعلم أنّي أعقل،فما أشكّ[192 غ]أنّه سيستعيد منك هذا القول،فأعده.
و تقول له:يقول لك:يا أمير المؤمنين استترت منك،و أنت خارج عن البلد،و أنا نافذ الأمر فيه،و معي عالم من الناس،و أثب بك في مدينتك،و مدينة آبائك،و أنا أسير في سرب (1)ابن أبي خالد،مع نفر محبّسين،مثقلين بالحديد؟ هذا ما لا يقبله عاقل.
فأدّى أحمد رسالته إلى المأمون،فقال:صدق،فاردده إلى موضعه.
فركض أحمد إليّ،و هو ينادي:سلامة سلامة،و الحمد للّه رب العالمين، و انصرف إلى منزله.
قال ابن عبدوس:فأقام فيه،إلى أن انصرف المأمون،لنكاح بوران (2)، فأشخصه معه إلى فم الصلح،و سألته بوران بنت الحسن بن سهل،فرضي عنه (3).
ص:332
جيء بإبراهيم بن المهدي
و هو مذنب و خرج و هو مثاب
و حدّثني أبو العلاء الدلاّل البصريّ،بها (1)،قال:حدّثني أبو نصر بن أبي دؤاد، قال:حدّثني أبي،عن أبيه،قال:
كنت يوما عند المأمون،و قد[196 م]جاءوه بإبراهيم بن المهدي،و في عنقه ساجور (2)،و في رجله قيدان،فوقف بين يدي المأمون.
فقال له:هيه،يا إبراهيم،إنّي استشرت في أمرك،فأشير عليّ بقتلك، فرأيت ذنبك يقصر عن واجب حقّ عمومتك.
فقال:يا أمير المؤمنين،أبيت أن تأخذ حقك إلاّ من حيث عوّدك اللّه تعالى، و هو العفو عن قدرة.
فقال المأمون:مات-و اللّه-الحقد،عند هذا العذر،يا غلام،لا يتخلّف أحد من أهل المملكة عن الركوب بين يديه،و يحمل بين يديه عشر بدر،و عشرة تخوت ثياب.
قال:ما رأيت إنسانا جيء به و هو مذنب،فخرج و هو مثاب،و أهل المملكة بين يديه،إلاّ هو.
ص:333
قبض على إبراهيم بن المهدي و هو بزيّ امرأة
وجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطبي (1):
أنّ إبراهيم بن المهدي،لمّا طال استتاره من المأمون،ضاق صدره،فخرج ليلة من موضع كان فيه مستخفيا،يريد موضعا آخر،في زيّ امرأة،و كان عطرا.
فعرض له حارس،فلمّا شمّ منه رائحة الطيب،ارتاب به،فكلّمه،فلم يجب،فعلم أنّه رجل،فضبطه.
فقال له:خذ خاتمي،فثمنه ثلاثون ألف درهم (2)[191 ر]و خلّني،فأبى، و علق به،و حمله إلى صاحب الشرطة،فأتى به المأمون.
فلمّا أدخل داره،و عرف خبره،أمر بأن يدخل إليه،إذا دعي،على الحال التي أخذ عليها.
ثم جلس مجلسا عاما،و قام خطيب بحضرة المأمون،يخطب بفضله،و ما رزقه اللّه،جلّت عظمته،من الظفر بإبراهيم (3).
ص:334
و أدخل إبراهيم بزيّه،فسلّم على المأمون،و قال:يا أمير المؤمنين،إنّ وليّ الثأر محكّم في القصاص،و العفو أقرب للتقوى،و من تناولته يد الاغترار، بما مدّ له من أسباب الرجاء،لم يأمن عادية الدهر،[و لست أخلو عندك من [193 غ]أن أكون عاقلا أو جاهلا،فإن كنت جاهلا فقد سقط عنّي اللوم من اللّه تعالى،و إن كنت عاقلا،فيجب أن تعلم أن اللّه عزّ و جلّ] (1)،قد جعلك فوق كلّ ذي عفو،كما جعل كل ذي ذنب دوني (2)،فإن تؤاخذ،فبحقّك، و إن تعف،فبفضلك،ثم قال:
ذنبي إليك عظيم و أنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي من الكرام فكنه
و قال:
أذنبت ذنبا عظيما و أنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنّ و إن جزيت فعدل
قال:فرقّ له المأمون،و أقبل على أخيه أبي إسحاق و ابنه العبّاس (3)و القوّاد،
ص:335
و قال:ما ترون في أمره؟
فقال بعضهم:يضرب عنقه.
و قال البعض:تقطع أطرافه،و يترك إلى أن يموت،و كلّ أشار بقتله، و إن اختلفوا في القتلة.
فقال المأمون،لأحمد بن أبي خالد:ما تقول أنت يا أحمد؟
فقال:يا أمير المؤمنين،إن قتلته،وجدت مثلك قد قتل مثله،و إن عفوت عنه،لم تجد مثلك قد عفا عن مثله،فأيّ أحبّ إليك،أن تفعل فعلا تجد لك فيه شريكا،أو أن تنفرد بالفضل؟
فأطرق المأمون طويلا،ثم رفع رأسه،فقال:أعد عليّ ما قلت يا أحمد، فأعاد.
فقال المأمون:بل ننفرد بالفضل،و لا رأي لنا في الشركة.
فكشف إبراهيم المقنعة[197 م]عن رأسه،و كبّر تكبيرة عالية،و قال:
عفا-و اللّه-أمير المؤمنين عنّي،بصوت كاد الإيوان أن يتزعزع منه،و كان طويلا،آدم،جعد الشعر،جهوريّ الصوت.
فقال له المأمون:لا بأس عليك يا عمّ (1)،و أمر بحبسه في دار أحمد بن أبي خالد.
فلمّا كان بعد شهر،أحضره المأمون،و قال له:اعتذر عن ذنبك.
فقال:يا أمير المؤمنين،ذنبي أجلّ من أن أتفوّه معه بعذر،و عفو أمير المؤمنين،أعظم من أن أنطق معه بشكر،و لكنّي أقول:
ص:336
تفديك نفسي أن تضيق بصالح و العفو منك بفضل جود (1)واسع
إنّ الذي خلق المكارم حازها في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة و تظلّ تكلؤهم بقلب خاشع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله عفو و لم يشفع إليك بشافع
و رحمت أطفالا كأفراخ القطا و حنين والدة بقلب جازع[194 غ]
ردّ الحياة إليّ بعد ذهابها كرم المليك العادل المتواضع (2)
فقال له المأمون:لا تثريب[192 ر]عليك يا عمّ،قد عفوت عنك، فاستأنف الطاعة متحرّزا[25 ن]من الظنّة،يصف عيشك،و أمر بإطلاقه، و ردّ عليه ماله و ضياعه،فقال إبراهيم يشكره[في ذلك] (3):
رددت مالي و لم تبخل عليّ به و قبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فأبت عنك و قد خوّلتني نعما هما الحياتان من موت و من عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به و المال،حتى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
و قام علمك بي فاحتجّ عندك لي مقام شاهد عدل غير متّهم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم (4)
فقال المأمون:إنّ من الكلام،كلاما كالدرّ،و هذا منه،و أمر لإبراهيم بخلع و مال،قيل أنّه ألف ألف درهم.
و قال له:يا إبراهيم،إنّ أبا إسحاق،و أبا عيسى (5)،أشارا عليّ بقتلك.
ص:337
فقال إبراهيم:ما الذي قلت لهما يا أمير المؤمنين؟
قال:قلت لهما:إنّ قرابته قريبة،و رحمه ماسّة،و قد بدأنا بأمر،و ينبغي أن نستتمّه،فإن نكث فاللّه مغيّر ما به.
قال إبراهيم:قد نصحا لك،و لكنّك أبيت إلاّ ما أنت أهله يا أمير المؤمنين،و دفعت ما خفت،بما رجوت.
فقال المأمون:قد مات حقدي بحياة عذرك،و قد عفوت عنك،و أعظم من عفوي عنك أنّني لم أجرّعك مرارة امتنان الشافعين.
ص:338
إنّ من أعظم المحنة
أن تسبق أميّة هاشما إلى مكرمة
[و حدّثني أبو الفرج الأصبهاني،قال:حدّثني علي بن سليمان الأخفش، و محمّد بن خلف بن المرزبان قالا:حدّثنا محمّد بن يزيد النحوي،يعنيان أبا العبّاس المبرّد،قال:حدّثنا] (1)الفضل بن مروان،قال:
لمّا دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون و قد ظفر به،كلّمه بكلام كان سعيد بن العاص كلّم به معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه، [197 غ]و استعطفه به،و كان المأمون يحفظ الكلام.
فقال له المأمون:هيهات يا إبراهيم،هذا كلام قد سبقك به فحل بني العاص،و قارحهم (2)،سعيد بن العاص،خاطب به معاوية.
فقال له إبراهيم:و أنت إن عفوت عنّي،فقد سبقك فحل بني حرب، و قارحهم،إلى العفو،و لم تكن حالي في ذلك،أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنّك أشرف منه،و أنا أشرف من سعيد،و أنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، و إنّ من أعظم المحنة أن تسبق أميّة هاشما إلى مكرمة.
فقال له:صدقت يا عمّ،و قد عفوت عنك (3).
ص:339
لمّا قدّم للقتل تماسك فلمّا عفي عنه بكى
وجدت في بعض الكتب:
أنّه لمّا حصل إبراهيم بن المهدي في قبضة المأمون،لم يشكّ هو و غيره في أنّه مقتول،فأطال حبسه في مطمورة (1)،بأسوأ حال و أقبحها.
قال إبراهيم:فأيست من نفسي،و وطّنتها على القتل،و تعزّيت عن الحياة، حتى صرت أتمنّي القتل،للراحة من العذاب،و ما اؤمّله في الآخرة،من حصول [198 م]الثواب.
فبينا أنا كذلك،إذ دخل عليّ أحمد بن أبي خالد مبادرا،فقال:أعهد (2)، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك.
فقلت:أعطني دواة و قرطاسا،فكتبت وصيّة (3)ذكرت فيها كلّما احتجت إليه، و أسندتها إلى المأمون،و شكلة والدتي (4)،و توضّأت،فتطوّعت ركعات،و مضى أحمد.
و فرغت من الصلاة،و جلست أتوقّع القتل،فعاد إليّ أحمد بعد ساعتين،
ص:340
فقال:أمير المؤمنين،يقرؤك السلام،و يقول لك:أنا أحمد اللّه-جلّت عظمته-الذي وفّقني لصلة رحمك،و الصفح عنك،و قد أمّنك،و ردّ عليك نعمتك،و جميع ضياعك و أملاكك،فانصرف إلى دارك.
قال:فبدأت أدعو للمأمون،و غلب البكاء عليّ و الانتحاب،و هو يطالبني بالجواب،و أنا غير متمكّن منه.
فقال لي أحمد:لقد رأيت منك عجبا،أخبرتك أنّي أمرت بضرب عنقك، فلم تجزع،و لم تبك،ثم أخبرتك بتفضّل أمير المؤمنين عليك،و صفحه عنك، فلم تتمالك من البكاء.
فقلت له:أمّا السكوت عند الخبر الأوّل،فلأنّي لم أتوسّم-منذ ظفر بي- أن أسلم من القتل،فلمّا ورد عليّ ما لم أشكّ فيه،لم أجزع له،و لم أبك.
و أمّا بكائي عند الخبر الثاني،فو اللّه العظيم شأنه،ما هو عن سرور بالحياة، و لا لرجوع النعمة،و ما بكائي إلاّ لما كان منّي في قطيعة رحم من عنده-بعد استحقاقي منه القتل-مثل هذا الصفح الذي لم يسمع في جاهليّة و لا إسلام، بأنّ أحدا أتى بمثله،فقد حاز أمير المؤمنين الثواب من اللّه تعالى،في صلة رحمه، و بؤت أنا بالإثم،في قطيعة رحمي،و قد أظهر إحسانه إساءتي،و حلمه جهلي،و فضله نقصي،و جوابي هو ما شاهدت و سمعت[195 ر].
فرجع أحمد إلى المأمون فأخبره،ثم عاد إليّ بمال و خلع،و مركوب، فانصرفت إلى داري و نعمتي.
ص:341
قال المأمون:لقد حبّب إليّ العفو
حتى خفت أن لا أؤجر عليه
[و وجدت الخبر على خلاف هذه الرواية،فأخبرني أبو الفرج الأموي المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني علي بن سليمان الأخفش،قال:حدّثنا محمّد بن يزيد النحوي،عن الجاحظ،قال:
أرسل إليّ ثمامة،يوم حبس المأمون إبراهيم بن المهدي،و أمر بإحضار الناس على مراتبهم،فحضروا،و جيء بإبراهيم.
قال أبو الفرج،و أخبرني عمّي،قال:حدّثني الحسن بن عليل (1)،قال:
حدّثني] (2)محمّد بن عمرو الأنباري[من أنبار خراسان] (3)،قال:
لمّا ظفر المأمون بإبراهيم المهدي،أحبّ أن يوبّخه على رؤوس الأشهاد، فأمر بإحضار الناس على مراتبهم،و جيء بإبراهيم يرسف في قيوده (4)،فوقف على طرف البساط في طرف الإيوان،يحجل في قيوده.
فقال:السلام عليك يا أمير المؤمنين،و رحمة اللّه تعالى و بركاته.
فقال له المأمون:لا سلّم اللّه عليك،و لا كلأك،و لا حفظك،و لا رعاك.
فقال له إبراهيم:على رسلك يا أمير المؤمنين،فلقد أصبحت وليّ الثأر،
ص:342
و القدرة تذهب الحفيظة،و قد أصبح ذنبي فوق كلّ ذنب،كما أصبح عفوك فوق كلّ عفو،و لم يبق إلاّ عفوك أو انتقامك،فإن تعاقب فبحقّك[195 غ]، و إن تعف فبفضلك،و أنت للعفو أقرب.
فأطرق المأمون مليّا،ثم رفع رأسه،فقال:إنّ هذين أشارا عليّ بقتلك، يعني أخاه المعتصم،و ابنه العبّاس،و كانا يشيران عليه في معظم تدبير الخلافة و السياسة.
فقال إبراهيم:لقد نصحا لك يا أمير المؤمنين فيما أشارا عليك به،و ما غشّاك،إذ كان منّي ما كان،و لكنّ اللّه عزّ و جلّ،عوّدك في العفو عادة جريت عليها،دافعا ما تخاف بما ترجو،فكفاك اللّه كلّ مكروه،و دفع عنك كلّ محذور.
قال:فتبسّم المأمون،و أقبل على ثمامة،و قال:إنّ من الكلام ما يفوق الدرّ،و يغلب السحر،و كلام عمّي منه،أطلقوه،و فكّوا عن عمّي حديده، و ردّوه إليّ مكرّما.
فلمّا ردّ إليه،قال:يا عمّ،صر إلى المنادمة،و ارجع إلى الأنس،فلن ترى منّي أبدا إلاّ ما تحب،[فلقد حبّب إليّ العفو،حتى خفت أن لا أؤجر عليه،أمّا أنه لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة،لتقرّبوا إلينا بالذنوب، لا تثريب اليوم عليك يا عمّ،يغفر اللّه لنا و لك،و لو لم يكن في حقّ نسبك ما يبلغ الصفح عن إساءتك،و لو لم يكن في حقّ قرابتك،ما يستحقّ العفو عن جرمك،لبلغت ما أمّلت بحسن تنصّلك،و لطف توصّلك،ثم أمر بردّ ضياعه و أمواله إليه] (1).
فلمّا كان من الغد،بعث إليه إبراهيم درجا فيه هذه الأبيات:[193 ر]
ص:343
يا خير من ذملت (1)يمانية به بعد الرسول لآيس أو طامع
و اللّه يعلم ما أقول فإنّها جهد الأليّة من حنيف راكع
قسما و ما أدلي إليك بحجّة إلاّ التضرّع من مقرّ خاشع (2)
ما إن عصيتك و الغواة تمدّ لي أسبابها إلاّ بقلب طائع (3)
حتى إذا علقت حبائل شقوتي بردى على حفر المهالك هائع (4)
لم أدر أنّ لمثل ذنبي غافرا فأقمت أرقب أيّ حتف صارعي
ردّ الحياة عليّ بعد ذهابها عفو الإمام القادر المتواضع (5)
أحياك من ولاّك أطول مدّة و رمى عدوّك في الوتين بقاطع (6)
إنّ الذي قسم الفضائل حازها في صلب آدم للإمام السابع
كم من يد لك لا تحدّثني بها نفسي إذا آلت إليّ مطامعي
أسديتها عفوا إليّ هنيئة فشكرت مصطنعا لأكرم صانع
و رحمت أطفالا كأفراخ القطا و حنين و الهة كقوس النازع (7)
و عفوت عمّن لم يكن عن مثله عفو و لم يشفع إليك بشافع
إلاّ العلوّ عن العقوبة بعد ما ظفرت يداك بمستكين خاشع (8)
قال:فبكى المأمون،ثم قال:عليّ به،فأتي به،فخلع عليه،و أمر له بخمسة آلاف درهم،و كان ينادمه،لا ينكر منه شيئا.
ص:344
إذا رميت أصابني سهمي
قال أبو الفرج،و روى بعض هذا الخبر،محمّد بن الفضل الهاشمي، فقال فيه:
لمّا فرغ المأمون من خطابه،دفعه إلى أحمد بن أبي خالد الأحول،و قال له:
هو صديقك،فخذه إليك.
فقال:ما يغني هذا عنه،و أمير المؤمنين ساخط عليه،أمّا و إنّي و إن كنت صديقا له(196 غ]،لا أمتنع من قول الحقّ فيه.
فقال له:قل،فإنّك غير متّهم.
فقال:هو يريد التسلّق (1)إلى أن تعفو عنه[26 ن]،فإن قتلته،فقد قتلت الملوك قبلك من كان أقلّ جرما منه،و إن عفوت عنه،عفوت عمّن لم يعف قبلك أحد عن مثله.
فسكت المأمون ساعة،ثم تمثّل بهذه الأبيات:
فلئن عفوت لأعفون جللا و لئن سطوت لأوهنن عظمي
قومي هموا قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
قال مؤلّف هذا الكتاب:و روى أبو تمام الطائي،هذين البيتين في اختياراته التي سمّاها:الحماسة،و قدّم البيت الثاني على الأوّل.
رجع الحديث إلى أبي الفرج،قال:
فقال له المأمون:خذه إليك مكرّما،فانصرف به،ثم كتب إلى المأمون
ص:345
قصيدته العينية (1)،فلمّا قرأها رقّ له،و أمر بردّه إلى منزلته (2)،و ردّ ما قبض من أمواله و أملاكه.[194 ر].
ص:346
إبراهيم بن المهدي يحتجّ لنفسه أمام المأمون
و حدّثني علي بن هشام،المعروف بابن أبي قيراط[198 غ]الكاتب [البغدادي،قال:حدّثني أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل الأنباري الكاتب، المعروف بزنجي،قال:حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن ثوابة (1)،قال:
سمعت موسى بن عبد الملك] (2)،يحدّث عن أحمد بن يوسف الكاتب (3)،قال:
كنت أشرب مع المأمون،و أنادمه،و أنا أتقلّد له ديوان المشرق،و ديوان الرسائل،قبل وزارتي له،و كنت كثيرا ما أنادمه على الانفراد،و ربما جمع بيني و بين اليزيدي (4)،[و إسحاق بن إبراهيم الموصلي] 2.
فلمّا رضي عن إبراهيم بن المهدي،و نادمه،صار لا يكاد يشرب مع غيره و غيري،و يقتصر[27 ن]على استماع الغناء من وراء الستارة،و ربّما حضر إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
ص:347
فنحن ذات يوم على شرب،و معنا إسحاق،إذ غنّى إبراهيم بن المهدي (1)، فقال:
صونوا جيادكم و اجلوا سلاحكم و شمّروا إنّها أيّام من غلبا
فاستعاده المأمون مرارا،و بان لي في وجهه الغيظ و الغضب،و الهمّ،و زوال الطرب،و لم يفطن إبراهيم.
و ترك المأمون القدح الذى كان في يده،و نهض،فظننّاه يريد الوضوء، ثم غاب.
فما شعرنا إلاّ و قد استدعانا إلى مجلس آخر،فإذا هو جالس على سرير الخلافة،بقلنسوة،و ثياب الهيبة،و بين يديه إسحاق بن إبراهيم المصعبي، و جلّة القوّاد.
ص:348
فاستدعى إبراهيم بزيّه،فحضر بأخسّ صورة و أقبحها،و عليه ثياب المنادمة، يفضحه بذلك.
فلمّا وقف بين يديه،قال له:يا إبراهيم،ما حملك على الخروج[199 م] عليّ،و الخطبة لنفسك بالخلافة.
قال أحمد بن يوسف:و قد كنت لمّا أبطأ المأمون عن مجلس الشرب، تعرّفت الصورة،فلمّا استدعاني،جئت و قد لبست ثياب العمل،و نزعت ثياب المنادمة.
فلمّا سأل إبراهيم عن ذلك،في مثل ذلك المجلس،علمت أن الصوت قد ذكّره[ما كان من إبراهيم،و لم أشكّ في أنّه سيقتله] (1).
فأقبل عليه إبراهيم بوجه صفيق،و قلب ثابت،فقال:يا أمير المؤمنين لست أخلو من أن أكون عندك عاقلا،أو جاهلا،فإن كنت جاهلا،فقد سقط عنّي اللوم،من اللّه تعالى ثم منك،و إن كنت عاقلا،فيحسن أن تعلم أنّي قد علمت أن محمّدا أخاك مع أمواله و ذخائره،و أموال والدته،و كثرة ضياعها و صنائعها،و الأعمال التي كانت في يده و ارتفاعها،و محبّة بني هاشم له،لم يثبت لك،و هو الخليفة،و أنت أمير من أمرائه،فكيف أثبت أنا لك،و أنا في قوم أكثر رزق الرجل منهم ثلاثون درهما في الشهر،و قد غلبني على بغداد ابن أبي خالد العيّار،و أصحابه،يقطعون،و يضربون،و يحبسون،و يطلقون، و و اللّه جلّ شأنه،و حقّ رسول اللّه،و حقّ جدّي العبّاس[199 غ]،ما دخلت فيما دخلت فيه،إلاّ لأبقي هذا الأمر عليك،و على أهل بيتك،لمّا رأيت الفضل ابن سهل قد حمله البطر و الرفض على أن أخرج الخلافة عنك،فأردت ضبط الأمر،إلى أن تقدم فتتسلّمه.
قال:فرأيت المأمون و قد أسفر وجهه،و قال:عليّ بنافذ الخادم،فأحضر.
ص:349
فقال له:رقعة سلّمتها إليك بمرو،قبل رحيلي عنها،و أمرتك بحفظها، هاتها.
فمضى،و جاء بسفط،ففتحه،و أخرج منه الرقعة،فإذا مكتوب فيها بخطّ المأمون:لئن أظفرني اللّه عزّ و جلّ بإبراهيم بن المهدي،لأسألنّه بحضرة الأولياء، و الخاصّة من أهل بيتي و أجنادي،عن السبب الذي دعاه إلى الخروج عليّ، فإن ذكر أنّه إنّما أراد بذلك حفظ الأمر على أهل بيتي،لما جرى في أمر عليّ ابن موسى،لأخلينّ سبيله،و لأحسننّ إليه،و لئن ذكر غير ذلك من العذر -كائنا ما كان-لأضربنّ عنقه.
قال أحمد بن يوسف:و لم يكن بحضرته كاتب غيري،فدفعها إليّ،و قال:
يا أحمد،ادفعها إليه.
ثم قال:يا عمّ،خذ براءتك من أحمد،و عد إلى مجلسك الذي خلّفتك فيه.
قال:فسلّمت الرقعة إليه،وعدنا إلى مجلسنا و موضعنا،فطرح إبراهيم نفسه مغشيّا عليه.
فما شعرنا إلاّ و المأمون قد رجع بثياب بذلته،فقمنا و جلسنا مجلسنا،و قال:
ارجعوا إلى ما كنّا عليه،و أتممنا يومنا ذلك معه.
ص:350
المأمون ينصب صاحب خبر
على إبراهيم بن المهدي
قال أبو الفرج،و في خبر عمّي،عن الحسن بن عليل،قال:حدّثني محمّد بن إسحاق الأشعري،عن أبي داود،قال:
إنّ المأمون،تقدّم إلى محمّد بن داود،لمّا أطلق إبراهيم،و أمره أن يمنع إبراهيم من داري الخاصّة (1)،و العامّة (2)،و وكّل رجلا من قبله،يثق به،ليعرّفه أخباره،و ما يتكلّم به (3).
فكتب إليه الموكّل يوما:إنّ إبراهيم،لمّا بلغه منعه من داري الخاصّة و العامّة،تمثّل بهذين البيتين:
يا سرحة الماء قد سدّت موارده أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حيام به مشرّد عن طريق الماء مطرود
قال:فلمّا قرأها المأمون بكى،و أمر بإحضاره من وقته مكرّما،و إجلاسه في مرتبته،فصار إليه محمّد،فبشّره،و أمره بالركوب،فركب.
فلمّا دخل على المأمون،قبّل البساط،و أنشأ يقول:
البرّ بي منك وطّا العذر عندك لي فيما أتيت فلم تعذل و لم تلم
و قام علمك بي فاحتجّ عندك لي مقام شاهد عدل غير متّهم
ص:351
تعفو بعدل و تسطو إن سطوت به فلا عدمناك من عاف و منتقم (1)
فقال له:اجلس يا عمّ آمنا مطمئنا،فلست ترى منّي ما تكره،إلاّ أن تحدث حدثا،و أرجو أن لا يكون منك ذلك،إن شاء اللّه تعالى.
ص:352
صاحب الخبر:شخص ينيط به الحاكم أن يرفع إليه خبر جميع ما تقع عليه عينه، أو يصل إلى سمعه،و هو للحاكم بمنزلة العين الباصرة و الأذن السامعة(آثار الدول 83).
و يعنى الحاكم باختيار صاحب الخبر عناية عظيمة(تاريخ بغداد لابن طيفور 35).
و يختلف مقام صاحب الخبر،باختلاف عمله،من الشخص البسيط المكلّف بتلقّط الأخبار من ألسنة المجتازين،و أبناء السبيل،و الأطفال(تاريخ بغداد لابن طيفور 36) إلى صاحب البريد الذي ينصبه الخليفة رقيبا على أكابر عمّاله،و على أصحاب الأطراف في مختلف أرجاء المملكة(تاريخ بغداد لابن طيفور 71 و القصّة 52/8 و 53 من نشوار المحاضرة،و جهات الخلفاء 7 و 8).
و يقتضي أن لا تكون واسطة بين صاحب الخبر،و بين الحاكم الذي نصبه(آثار الدول 85)،و عليه أن يوصل الخبر بأسرع السبل و أعجلها،و هو ملزم بأن ينقل كلّ ما يرى و يسمع،خيرا كان أو شرّا(تاريخ بغداد لابن طيفور 35).
و ليس لصاحب الخبر أن يناقش أحدا من الناس،موظفين أو رعيّة،فيما قالوا و ما صنعوا،و إنما عليه أن يكتب ما يرى و يسمع(تاريخ بغداد لابن طيفور 37).
و كان الخليفة عمر،عظيم التدقيق في سلوك عمّاله،و كذلك كان معاوية،و زياد، و عبد الملك بن مروان،و الحجّاج(المحاسن و المساوىء 110/1 و 111).
أمّا المنصور العبّاسي،فقد فاق من سبقه في البحث عن الأخبار(العيون و الحدائق 234/3 و الطبري 106/8 و المحاسن و المساوىء 112/1-115).
و سار الرشيد على طريقة المنصور في البحث عن أسرار رعيّته(المحاسن و المساوىء 111/1،و الأغاني 107/19،و الطبري 289/8 و 297).
و كان المأمون له على كلّ شيء صاحب خبر(وفيات الأعيان 179/6)و كان يفحص عن عمّاله،و رعيّته(المحاسن و المساوىء 117/1)،و القصّة المثبتة في تاريخ بغداد لابن طيفور ص 99 توضح مقدار إطلاع المأمون على أسرار عمّاله و حاشيته،كما أنّ رسالته إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبي،بشأن الفقهاء و أصحاب الحديث،الذين امتحنهم بالقول بخلق القرآن،تدل على معرفته بأمور رعيّته،معرفة قد تخفى على غيره،و فيها دليل على عظيم
ص:353
إستقصائه،راجع في المحاسن و المساوىء 111/1-117 بعض القصص التي تدل على دقيق معرفته بما خفي من أمور رعيّته.و راجع كذلك،تاريخ الحكماء 329،و العيون و الحدائق 364/3،و الأغاني ط بولاق 82/20.
و كان الرشيد،و المعتصم،و المتوكّل،و المعتضد،يبحثون عن أحوال الناس غاية البحث،و يتلطّفون في الاطّلاع على الأمور(آثار الدول 86).
و كان لكل خليفة،أصحاب أخبار على وزرائه،و على الموظّفين في الدواوين،و على ما في داره،و ما يقع خارج بابه(القصّة 174/3 من النشوار،و القصّة 143 من هذا الكتاب،و رسوم دار الخلافة 72 و 76،و تاريخ بغداد لابن طيفور 35 و الوافي بالوفيات 231/7).
و كان الحاكم الفاطمي بمصر،كثير الطلب لأخبار الناس(شذرات الذهب 194/3).
و كان الأمراء من كبار العمّال،لهم أصحاب أخبار في دار الخليفة(الأغاني 234/15، و القصّة 2/2 من نشوار المحاضرة،و وفيات الأعيان 315/6).
و كان عضد الدولة،له أصحاب أخبار في كلّ مكان،حتى أنّه كان يقدّم لمؤدّبي الصبيان أرزاقا،لكي يسألوا من أولاد الجنود،عن أمور آبائهم(ذيل تجارب الأمم 58/3-64) و راجع المنتظم 155/7 و الإمتاع و المؤانسة 148/3).
و كان أحمد بن طولون يضع أصحاب أخبار على قوّاده(آثار الدول 87).
و كان الخليفة الناصر العبّاسي،عظيم العناية بتسقّط الأخبار(ابن الأثير 443/12 و تاريخ الخلفاء 449 و 451)و كذلك كان الأمير تغرى و رمش صاحب حلب(أعلام النبلاء 35/3).
و لزيادة التفصيل راجع كتابنا(الاستخبارات في العهدين الأموي و العبّاسي)و هو معدّ للطبع،و سأعنى بإخراجه،بعد إخراج هذا الكتاب.
ص:354
ما بقاء جلدة تنازعها ملكان
وجدت في بعض الكتب:أنّ كسرى أبرويز (1)،ركب يوما فرسه الشبديز (2)، فتلكّأ عليه،فجذب عنانه،فانقطع.
فاستحضر صاحب السروج،و قال:يكون عنان مثلي ضعيفا ينقطع؟ اضربوا عنقه.
فقال:أيّها الملك،اسمع،و انصف.
قال:قل.
قال:ما بقاء جلدة يتنازعها ملكان،ملك الناس،و ملك الدوابّ.
فقال كسرى:زه،زه،أطلقوا عنه،و أعطوه اثنى عشر ألف درهم.
ص:355
أنظر كيف كانت عاقبة الظالمين
[و ذكر محمّد بن عبدوس،في كتابه«الوزراء»،عن محمّد بن يزيد، قال] (1):
أمرني عمر بن عبد العزيز بإخراج قوم من السجن،فأخرجتهم،و تركت يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجّاج (2)،فحقد عليّ،و نذر دمي.
فإنّي بإفريقية،إذ قيل:قدم يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجّاج،صارفا لمحمّد بن يزيد مولى الأنصار (3)،من قبل يزيد بن عبد الملك،و كان ذلك بعد وفاة عمر بن عبد العزيز،فهربت منه،و علم بمكاني،فطلبني،فظفر بي.
فلمّا دخلت إليه،قال:لطالما سألت اللّه أن يمكّنني منك.
فقلت:و أنا-و اللّه-لطالما سألت اللّه عزّ و جلّ،أن يعيذني منك.
فقال يزيد:ما أعاذك اللّه منّي،و اللّه لأقتلنّك،و لو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك،لسبقته.
ثم دعا بالسيف و النطع،فأتي بهما،و أمر بي،فأقمت في النطع،و كتّفت، و شدّ رأسي،و قام ورائي رجل بسيف منتضى،يريد أن يضرب عنقي،و أقيمت الصلاة.
فقال:امهلوه،حتى أصلّي،و خرج إلى الصلاة.
ص:356
فلمّا سجد،أخذته السيوف،فقتل،و دخل إليّ من حلّ كتافي،و رأسي، و خلّى سبيلي،فانصرفت سالما (1).
ص:357
أمر الرشيد بأسيرين
فقطعا عضوا عضوا ثم مات
و ذكر محمّد بن عبدوس،في كتابه كتاب الوزراء،قال:
لمّا سار الرشيد إلى طوس (1)،و اشتدّت علته،اتّصل خبره بالأمين،فوجّه ببكر بن المعتمر (2)،و دفع إليه كتبا إلى الفضل بن الربيع،و إسماعيل بن صبيح (3)،و غيرهما[200 م]يأمرهم بالقفول (4)إلى بغداد،إن حدثت الحادثة بالرشيد،و الاحتياط على ما في الخزائن،و حمله.
و قد كان الرشيد جدّد الشهادة للمأمون بجميع ما في عسكره،من مال،
ص:358
و أثاث،و خرثيّ (1)،و كراع (2)،و غير ذلك.
فلمّا ورد بكر بن المعتمر على الرشيد،أوصل كتبا ظاهرة كانت معه، بعيادة الرشيد.
و كانت الكتب الباطنة،قد اتّصل خبرها بالرشيد،فأحضر بكرا و طالبه بالكتب الباطنة،فجحدها.
قال:فذكر عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر،قال:حدّثني أبي،قال:
كنت مع الرشيد،بطوس،لمّا ثقل في علّته،و قد ورد بكر بن المعتمر،و المأمون حينئذ بمرو،و قد ظفر الرشيد بأخي رافع بن الليث (3)،فأحضر في ذلك اليوم، و معه قرابة له.
فخلع الرشيد على بكر،و صرفه إلى منزله،ثم أمر[200 غ]بإحضاره، و مطالبته بالكتب الباطنة،فجحدها،فأمر بحبسه.
ثم جلس الرشيد جلوسا عامّا،في مضرب خزّ أسود،[استدارته أربعمائة ذراع،في أركانه أربع قباب،مغشّاة بخزّ أسود،و هو جالس في فازة (4)خزّ أسود، في وسط المضرب،و العمد كلّها سود،و قد جعل مكان الحديد فضّة،و الأوتاد،
ص:359
و الحبال،كلّها سود] (1)،و عليه جبّة خزّ سوداء،و تحتها فروة فنك (2)،قد استشعره (3)،لما هو فيه من شدّة البرد و العلّة،و فوقها درّاعة خزّ أسود،مبطّنة بفنك،و قلنسوة طويلة،و عمامة خزّ سوداء،و هو عليل لما به (4)،و خلف الرشيد خادم يمسكه لئلاّ يميل ببدنه (5)،و الفضل بن الربيع جالس بين يديه.
فقال للفضل:مر بكرا بإحضار ما معه من الكتب السرّية.
فأنكرها،و قال:ما كان معي إلاّ الكتب التي أوصلتها.
فقال للفضل:توعّده،و أعلمه أنّه إن لم يمتثل،قتلته،فأقام بكر على الإنكار.
فقال الرشيد،بصوت خفيّ:قنّبوه (6)،فجيء ببكر،و جيء بالقنّب، و قنّب من فرقه إلى قدمه.
قال يكر:فأيقنت بالقتل،و يئست من نفسي،و عملت على الإقرار.
فأنا على ذلك،و إذا قد أحضر هارون أخا رافع (7)،و قرابته الذي كان معه.
ص:360
فقال الرشيد:أ يتوهّم رافع أنّه يفلت منّي،و اللّه لو كان معه عدد نجوم السماء،لا لتقطتهم واحدا بعد واحد،حتى أقتلهم عن آخرهم.
فقال الرجل:اللّه،اللّه،يا أمير المؤمنين فيّ،فإنّ اللّه تعالى يعلم،و أهل خراسان،أنّي بريء من أخي منذ عشرين سنة،ملازم منزلي،و مسجدي، فاتّق اللّه فيّ،و في هذا الرجل.
فقال له قرابته:قطع اللّه لسانك،أنا-و اللّه-منذ كذا و كذا[28 ن]أدعو اللّه بالشهادة،فلمّا رزقتها على يدي شرّ خلقه،أخذت في الاعتذار.
قال:فاغتاظ الرشيد،و قال:عليّ بجزّارين.
فقال له قرابة رافع (1):افعل ما شئت،فإنّا نرجو من اللّه تعالى أن يرزقنا الشهادة،و نقف نحن و أنت،بين يدي اللّه عزّ و جلّ،في أقرب مدّة،فتعلم كيف يكون حالك.
فنحّيا،و أمر بهما،فقطّعا عضوا،عضوا (2)،فو اللّه،ما فرغ منهما، حتى توفّي الرشيد.
قال بكر:و أنا أتوقّع القتل بعدهما،حتى أتاني غلام لأبي[201 م] العتاهية،قد بعث به مولاه،و كتب في راحته شيئا أرانيه،فإذا هذه الأبيات:
[196 ر].
هي الأيّام و الغير و أمر اللّه منتظر
أتيأس أن ترى فرجا فأين اللّه و القدر
ص:361
قال:فوثقت باللّه،و قويت نفسي،ثم سمعت واعية (1)لا أفهم معناها، و إذا الفضل بن الربيع قد أقبل إليّ.
فقال:خلّوا أبا حامد.
فقلت:ليس هذا وقت تكنيتي،فحللت،و دعا لي بخلع،فخلعت عليّ.
ثم قال:أعظم اللّه أجرك في أمير المؤمنين،و أخذ بيدي،و أدخلني بيتا، فإذا الرشيد مسجّى فيه،فكشفت عن وجهه،فلمّا رأيته ميتا،سكنت.
فقال:هيه،هات الكتب الباطنة التي معك.
قال:فأحضرت صندوقا للمطبخ قد نقبت قوائمه،و جعلت الكتب فيها، و جعلت الجلد فوقها،فأمرت بشقّ الجلد،و كسر القوائم،و سلّمت[201 غ] الكتب إلى أصحابها،و أخذت الأجوبة،و انصرفت.
قال مؤلّف هذا الكتاب:و قد أتى أبو الحسين القاضي في كتابه بهذين البيتين،لأبي العتاهية،من غير أن يذكر القصّة،و زاد بين البيت الأوّل، و البيت الثاني،بيتا،و هو:
فلا تجزع و إن عظم ال بلاء و مسّك الضرر
و ذكر أبو بكر الصولي هذا الخبر،في كتابه المسمّى بكتاب الأوراق، الداخل فيما أجاز لي روايته،بعد ما سمعته منه،[فقال:حدّثني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن طاهر،قال:حدّثني بعض أصحابنا] (2)عن بكر بن المعتمر، و ذكر نحو ذلك،إلاّ شعر أبي العتاهية[فإنّه ما ذكره،و قال:إنّ مضرب الرشيد أسود كلّه،له شرف (3)،كأنّه جبل أسود] 19،و لم يقل أنّ الرشيد في قبّة خزّ، قال:و الرشيد في فازة خزّ سوداء،و على سريره دست خزّ أسود،و عليه جبّة
ص:362
سوداء،تحتها فنك،و قد لبسها بلا قميص،و هو مستند إلى مسند الدست.
قال:فخرج إليّ الفضل،فحلّني،و سلّم عليّ،و كان لي صديقا.
و قال لي:أين كتبك على الحقيقة؟
فقلت:ما معي كتب.
فقال:إنّه قد مات،و كأنّه رآني لم أصدّق ذلك،فأخذ بيدي،حتى وقفني عليه،و هو ميت.
فقلت:ما أعجب هذا؟
فقال:إنّه تحامل لك و للرجلين،فجلس و هو لا يطيق،و قد خرق في السرير خرق ينجو منه (1)،و تحت فراشه الأسود جاروسن (2)،و الخدم قعود خلف السرير،يسندون أطراف جنبه (3)،و لو لا مكانهم ما ثبت جالسا،فلمّا كلّم الرجلين،و رفع صوته و حرد،غشي عليه،فكأنّه ذبالة (4)أضاءت ثم طفئت (5).
ص:363
العذاب،في اللغة:النكال،و كلّ ما شقّ على الإنسان،و صعب عليه تحمّله، جثمانيّا كان أو نفسانيّا،و لم يكن العذاب معروفا في صدر الإسلام،فإنّ الإسلام جاء بالسلام و المودّة،و العطف و الرحمة،و شعاره:أن لا إكراه في الدين،و اختصر نبيّ الإسلام عليه السلام جميع ما قام به في كلمة واحدة،قال:بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق، و كانت وصيّته لكل سريّة يبعث بها إلى الحرب:لا تغلوا،و لا تغدروا،و لا تمثّلوا، و لا تقتلوا امرأة،و لا وليدا(العقد الفريد 128/1)،و خلفه أبو بكر الصدّيق،فكانت وصيّته:لا تخونوا،و لا تغلوا،و لا تغدروا،و لا تمثّلوا،و لا تقتلوا طفلا صغيرا،و لا شيخا كبيرا،و لا امرأة،و لا تعقروا نخلا،و لا تحرقوه،و لا تقطعوا شجرة مثمرة،و لا تذبحوا شاة، و لا بقرة،و لا بعيرا،إلاّ لمأكلة،و سوف تمرّون بقوم قد فرغوا أنفسهم في الصوامع(يريد الرهبان)،فدعوهم و ما فرغوا أنفسهم له(الطبري 227/3)،و جيء له مرّة،برأس أحد القتلى في إحدى المعارك،فغضب،و قال:هذا من أخلاق العجم،و منعهم من تكرار ذلك،إذ اعتبر أن قطع الرأس من جملة المثلة المنهي عنها،و لمّا اغتال عبد الرحمن بن ملجم، الإمام علي بن أبي طالب،أوصى ولده الحسن،و هو يودّع الحياة،و قال في آخر وصيّته، و أمّا عبد الرحمن،فإن عشت فسأرى فيه رأيي،و إن متّ،فضربة بضربة،و لا يمثلنّ بالرجل،فإنّي سمعت رسول اللّه يقول:إيّاكم و المثلة،و لو بالكلب العقور(الطبري 148/5 و ابن الأثير 391/3)،و لمّا قتل علي بن أبي طالب،و تغلّب معاوية بن أبي سفيان على السلطة،تغيّر الأمر عمّا كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين و أخذ معاوية يحاسب أصحاب علي،على تصرفاتهم السابقة،و يطالبهم بالبراءة من علي،فإن لم يبرأوا،جرّد لهم السيف، و أعدّ لهم أكفانهم،و حفر لهم قبورهم،و قتلهم أمام قبورهم المحفورة،و أكفانهم المنشورة (العقد الفريد 234/3)،و مما صنعه،أنّه بعد أن استتبّ له الأمر،تتّبع من كان من أنصار علي،ففرّ منه عمرو بن الحمق الخزاعي،فأذكى عليه العيون و الأرصاد،و اعتقل امرأته،و حبسها في سجن بدمشق،ثم أمسك بعمرو،فقتله،و قطع رأسه،و أمر أحد
ص:364
أعوانه بأن يدخل على المرأة في سجنها،و أن يضع رأس زوجها في حجرها(بلاغات النساء 64 و الديارات 179 و 180)و سار من بعده بهذه السيرة هشام بن عبد الملك،إذ أمر برأس الإمام زيد بن علي بن الحسين،فوضع في حجر زوجته ريطة بنت عبد اللّه بن محمّد ابن الحنفية،فقابل عامر بن إسماعيل،قائد الجيش العبّاسي،ذلك،بأن أمر بأن يوضع راس مروان الحمار،آخر الحكّام الأمويين،في حجر ابنته(بلاغات النساء 145)، و لمّا قتل المنصور محمّد بن عبد اللّه المعروف بالنفس الزكيّة،بعث برأسه،فوضع بين يدي أبيه،عبد اللّه بن الحسن بن الحسن(زهر الآداب 76/1)،و لمّا قتل المستعين، أمر المعتزّ،فوضع رأسه بين يدي جاريته التي كان يتحظّاها(الديارات 170)،و في السنة 311 لمّا اعتقل الوزير أبو الحسن بن الفرات،و ولده المحسّن،بعث نازوك بعجيب خادمه، فضرب عنق المحسّن،و جاء برأسه،فوضعه بين يدي أبيه(تجارب الأمم 138/1 و التكملة 46)،و في السنة 321 إعتقل القاهر كلا من علي بن يلبق،و أباه يلبق،و مؤنس المظفّر، و دخل القاهر إلى موضع اعتقالهم،فذبح علي بن يلبق بحضرته،و وجّه برأسه إلى أبيه، فلمّا رآه جزع و بكى بكاء عظيما،ثم ذبح يلبق،و وجّه بالرأسين إلى مؤنس،ثم أمر القاهر،فجرّ برجل مؤنس إلى البالوعة،و ذبح كما تذبح الشاة،و القاهر يراه(تجارب الأمم 267/1 و 268)و كانت الخصومة السياسيّة تزداد عنفا بمرور الأيّام،حتى أصبح العذاب أمرا متعارفا مألوفا،تمارسه الفئة الحاكمة،ضد خصومها السياسيّين،ثم امتدت ممارسته،فشملت الأمراء،و الوزراء،و العمّال المصروفين(حاشية القصّة 379 من هذا الكتاب) و ابتلي الناس بأمراء قساة،كانوا يتلذّذون بتعذيب الأسرى و المعتقلين،فقد كان زياد ابن أبيه يدفن الناس أحياء(المحاسن و الأضداد للجاحظ 27 و الأغاني 153/17)و تابعه في ذلك ولده عبيد اللّه(المحاسن و المساوىء 165/2)و زاد عليه بأنّه كان يرمي أسراه من شاهق (ابن الأثير 35/4 و 36)و كان يقتل الصبيّة،و يتلذّذ بمشاهدة مقتلها،و أتّهم عروة بن أديّة،بأنّه يرى رأي الخوارج،فقطع يديه و رجليه،ثم قطع رأسه،و بعث بالرأس إلى ابنة عروة،فجاءت الصبيّة لتأخذ جثّة أبيها،فأمر بقتلها،فقتلت،و هو يمتّع نفسه بالنظر إليها(أنساب الأشراف 89/5)،أمّا الحجّاج بن يوسف الثقفي،و قسوته،و تلذّذه بتعذيب الناس،فإنّ ذلك أشهر من أن يحتاج إلى تفصيل(راجع حاشية القصّة 67 و القصّة 149 من هذا الكتاب)،و ممن ضرب أسوأ الأمثال في القسوة،أبو جعفر المنصور (راجع حاشية القصّة 318 من هذا الكتاب،و العقد الفريد 87/5-89،و الفخري 164)،
ص:365
و المتوكّل(راجع ترجمته في حاشية القصّة 73 من هذا الكتاب،و راجع كذلك الطبري 199/9-201)و المعتضد(راجع القصص 73/1 و 76 و 77 و 78 و 172/2 من النشوار، و الطبري 86/10 و مروج الذهب 493/2)و القاهر(القصّة 33/2 و 34 من النشوار و تجارب الأمم 243/1 و 244 و 267 و 268 و 284 و 285 و المنتظم 250/6 و تاريخ الخلفاء 387).
و يمكن تقسيم العذاب باعتبار القصد منه،إلى قسمين:العذاب بقصد القتل، و العذاب بغير قصد القتل.
أمّا العذاب بغير قصد القتل،فأهونه الشتم،و أشدّه قطع أجزاء من البدن،و يتسلسل من الشتم إلى الحصب،فعرك الأذن،فالرمي بالمخصرة أو الدواة،فالبصق في الوجه، فالإلجام،فالصفع،و يكون باليد أو النعل أو الجراب أو السلق،فالركل،فاللطم، فوجء العنق،فالسحب على الأرض،فالضرب،و يحصل بالعصا،أو السوط،أو بالسلاسل،أو بالأعمدة،أو بالحجارة،فاستئصال الشعر،و يحصل بحلق اللحى، أو مسح الوجه(أي حلق اللحية و الشارب و الحاجبين)،أو نتف اللحى،أو نتف شعر الرأس،أو نتف شعر البدن،فالإشهار،و يحصل بإلباس المطلوب إشهاره لباسا مشهّرا ملوّنا،و حمله على دكّة عالية،أو حمار،أو جمل،أو فيل،و قد يسوّد وجهه بنقس من بوتقة السواد،و قد يكون معه من ينادي عليه،أو من يضربه بيده،أو بعصا،أو بنعل، و قد يقرن به حيوان،فالحبس،و يكون بحجز الإنسان في السجن،أو في المطمورة، أو في المطبق،أو في البئر،أو في الكنيف،فالغلّ و القيد،فحمل الأثقال،فالصلب، و يحصل بربط الإنسان أو شدّه حيّا إلى خشبة و عرضه للناس،فالتعليق:و يحصل بتعليق الإنسان من يديه،أو من يد واحدة،أو من الرجلين منكوسا،أو من رجل واحدة، أو من الثدي عند المرأة،فالتسمير:و يحصل بتسمير اليدين إلى لوح أو خشبة،فدقّ ليط القصب تحت الأظفار،فالمساهرة،فشدّ الخنافس على الرأس بعد حلق الشعر، فالنطح،فثقب الكعاب،فشقّ لحم البدن بالقصب الفارسيّ المشقوق،فالتعذيب بالدهق،فالتعذيب بالزمارة،فالتعذيب بالقنارة،فالتعذيب بالدوشاخة،فالتعذيب بالجوزتين،فالسمل،و يكون إمّا بالكحل بذرور يعمي البصر أو بفقأ العين بميل أو بسكّين أو وتد،أو بالاصبع،أو تقويرها بالسكّين،فالتعذيب بالعطش،أو بالتدخين، أو بإرسال الحشرات على المعذّب،فالتعذيب بالملح،و يحصل إمّا برشّ الملح على المعذّب، أو بإسعاطه بالملح،أو بسقيه الماء مخلوطا بالملح أو بالرماد،أو بهما معا،فتنعيل الناس
ص:366
بنعال الدوابّ،فقطع الأطراف،و يشتمل على قطع الأيدي و الأرجل،و قلع الأسنان، و قلع الأظفار،و خلع المفاصل،و قطع اللسان،و جدع الأنف،و قطع الأذن،و خزم الأنف،و قطع الشفاه،فالتعذيب بالكيّ بالنار،فالحقن بالماء المغليّ،فالتعذيب بالتعرّض للعورة،و يحصل يجبّ الذكر،أو استئصال الخصية،أو طعن القبل أو الدبر،أو قطع الأشفار أو الخوزقة،أو النفخ في الدبر بالكير،أو نفخ النمل في الدبر،أو دهن الدبر بالعسل و تسليط النمل عليه،أو حبس السنانير في السراويل،فقطع أجزاء من لحم البدن.
و أما العذاب بقصد القتل،فأوّله القتل بالضرب،أو بتحطيم الرأس بضربه بالأرض، أو بربط المعذّب إلى حصان يجري به مسحوبا على الأرض،مطلقا أو مقيّدا،فالقتل بالسيف، إمّا بقطع العنق،و إمّا توسيطا،و إمّا حمائل أي بقطع العنق مع جزء من الصدر و أحد الكتفين،فالطعن بالرمح أو الحربة،فالرمي بالزوبين،فالرشق بالسهام،فالشدخ بالحجارة،فالوطء بالأقدام،فعصر البدن،و يشتمل على عصر الأطراف،أو عصر الخصية،أو عصر الأذنين بالجوزتين،أو الدهق،فشقّ البطن،فتمزيق الأوصال، إمّا بالسكّين،و إمّا بربط الإنسان من طرفيه و شدّه حتى تتمزّق أوصاله،فقطع الأطراف بقطع الأيدي و الأرجل،أو خلع المفاصل،أو جدع الأنوف،أو قطع الآذان،فضرب الأوتاد في العين أو الأذن،أو دقّ المسامير في الأذن،فالقرض بالمقاريض،و الطرح من شاهق،فالطرح للسباع،فالحقن بالماء المغلي،فالقتل بالجوع أو العطش أو البرد.
فالقتل بكتم النفس،سواء كان خنقا بالحبل أو بوتر القوس،أو شنقا،أو تغريقا، أو بالدخان،أو بالدفن حيّا،أو بناء الحائط على الإنسان،أو هدم البناء عليه،أو كتم نفسه بمخدّة،أو وضع رأسه في جراب مملوء بالنورة،فالقتل بالسمّ،طعاما،أو شرابا،أو دواء،أو بالضرب أو الفصد بآلة مسمومة،كالسيف أو الرمح أو مبضع الفاصد، فالقتل بالنار،احتراقا،أو كيّا،أو سلقا،فالقتل بالسلخ،أي سلخ الجلد كاملا أو جزءا،فبسدّ منافذ البدن،إمّا بالقطن و إمّا بخياطة الدبر،فالقتل بالخازوق،إمّا بالإقعاد عليه،أو بشكّه في أضلاعه،أو بتركيزه في عنقه،أو يخرق بطنه به،و يلحق هذه الألوان من القتل،القتل بالتخويف،إمّا بالتهويل على المعذّب،أو بإحضاره تعذيب غيره من الناس،و يلحق به كذلك،الانتحار الذي يلتجأ إليه الإنسان تخلّصا مما ينتظره من عذاب،و يتبع هذا الباب المثلة التي حرّمها الإسلام،و هي ألوان الإهانة التي تجري على الميت من بعد موته.
ص:367
و كنت قد جمعت فقرات عن ألوان من العذاب كي أودعها هذا البحث،و لكنّي وجدتها على حال من الإتّساع و التشعّب،بحيث أصبحت كتابا قد يشتمل على ستّة مجلّدات، و قد سمّيته«موسوعة العذاب»و هو الآن معدّ للطبع،و سأعنى بإخراجه بعد انتهائي من هذا الكتاب،و لم أعثر على مرجع مفصّل في هذا الموضوع باللغة العربية،و من أراد الإطّلاع على تفاصيل أكثر،فعليه بمراجعة ثلاثة كتب باللغة الإنكليزية،و هي تاريخ العذاب history of torture ،و تاريخ قطع العنق history of decapitation و تاريخ الجلد history of corporalpunishment
ص:368
من سقوط الخاتم من اليد
إلى عودته إليها سبعون فرجا
حدّثني علي بن محمّد الأنصاري الخطمي،قال:كنت أصحب محمّد بن ينال الترجمان (1)،و كان بجكم بواسط،و مضى يريده،فانحدر بي معه إلى واسط،لمّا انحدر بجكم إليها.
فاستخلف بجكم الترجمان بواسط،و مضى يريد قتال البريديّين.
فلمّا صار بنهر جور (2)،كتب إلى الترجمان:إنّه قد صحّ عندي،أنّ رجلا من التجّار المقيمين في معسكرنا بواسط،يقال له:أبو أحمد بن غيلان الخزّاز السوسي،يكاتب البريديّين بخبرنا،و أمر بالقبض عليه و قتله.
فقبضه الترجمان،و قيّده،و حبسه،و عرّفه ما ورد في كتاب بجكم.
و كان للتاجر حرمة (3)مع ابن ينال وكيدة،فورد عليه غمّ شديد من أن يقتل رجلا له به عناية و حرمة.
فقال له:أنا أعرّض نفسي لبجكم،و أؤخّر قتلك،و أكاتبه أسأله أن يقتصر على أخذ مالك،و يعفو عن دمك،فلعلّه أن يفعل.
ص:369
قال:و دخلت على الرجل في حبسه،و أخذت[202 م]أطيّب قلبه، و أعرّفه أنّ الكتاب قد بعثته إلى بجكم في أمره.
فأخرج خاتما كان في يده،و قال:يا أبا الحسن،من سقوط هذا الخاتم من يدي،إلى عودته إليها،سبعون فرجا.
فما انقضى اليوم،حتى ورد الخبر بقتل بجكم،و أفرج الترجمان عن الرجل، و تخلّص سالما،و عاش بعد ذلك ثلاث سنين (1)،و أكثر (2).
ص:370
هاجه الحسد و قتله الطمع
حدّثني إبراهيم بن عليّ[بن سعيد بن علي زوبعة] (1)النصيبينيّ المتكلّم (2)،قال:
قال جماعة من أهل نصيبين،إنّه كان بها أخوان،ورثا عن أبيهما مالا عظيما،جليلا،فاقتسماه[202 غ]،فأسرع أحدهما في حصّته حتى لم يبق معه شيء،و احتاج إلى ما في أيدي الناس،و ثمّر الآخر حصّته،فزادت.
و عرض له سفر في تجارته،فجاءه أخوه الفقير،و قال:يا أخي إنّك تحتاج إلى أن تستأجر غلاما في سفرك،و أنا أحتاج إلى أن أخدم الناس،فاجعلني بدل غلام تستأجره،فيكون ذلك أصون لي و لك.
فلم يشكّ الأخ أنّ أخاه قد تأدّب،و أنّ هذا أوّل إقباله،و آثر أن يصون
ص:371
أخاه،و رقّ عليه،فأخذه معه.
و كان للأخ الغنيّ حمار فاره يركبه،و قد استأجر بغالا لأحماله،فأركب أخاه أحدها،و ركب هو أحدها،و أركب المكاريّ الحمار،و ساروا.
فلمّا استمرّ بهم السفر،حصلوا في جبل في الطريق،و فيه كهف فيه عين ماء،فقال الأخ الفقير للأخ الغني:لو نزلنا هاهنا،و أرحنا دوابنا،و سقيناها من هذا الماء،و أكلنا،ثم ركبنا،لكان أروح لنا.
فقال:إفعل.
فنزل التاجر على باب الكهف الذي في الجبل،و أدخل متاعه إليه،و بسط السفرة،و أخذ أخوه الفقير،و المكاري،الدوابّ،و مضيا ليسقياها.
و انتظر التاجر أخاه،فاحتبس طويلا،ثم جاء وحده،و شدّ الدوابّ.
فقال له أخوه:يا أخي ما قعادك،و أنا أنتظرك تأكل معي؟
فقال:حتى سقيت الدوابّ.
فقال:و أين المكاري؟
فقال:قد نام في الجبل.
فقال:تعال،حتّى نأكل.
فتركه و مضى،ثم عاد،و بيده حجارة يرمي بها أخاه،و يقول له:
أستكتف يا ابن الفاعلة.
فقال له:ويحك ما تريد؟
فقال:أريد قتلك يا ابن الفاعلة،أخذت مال أبي،فجعلته تجارة لك، و جعلتني غلامك.
قال:و رفسه،و ألقاه على ظهره،ثم أوثقه كتافا،و أثخنه (1)ضربا بالحجارة، و شجاجا،و صاح الرجل،فلم يجبه أحد.
ص:372
و برك أخوه الفقير على صدره،و كان في وسطه سكّين عظيمة،في قراب لها،فرام استخراجها من القراب ليذبحه بها،فتعسّرت عليه،فقام عن صدر أخيه،و أعلا يده اليسرى،و فيها السكّين في قرابها،و جذبها بيده اليمين،و قد صار القراب مع حلقه،فخرجت السكّين بحميّة الجذبة،فذبحته،فوقع يخور في دمه،و نزف إلى أن مات،و جفّت يده على السكّين بعد موته،و هي فيها.
و حصل على تلك الصورة،و أخوه الغني مشدود،لا يقدر على الحركة، و السفرة منشورة،و الطعام عليها،و الدوابّ مشدودة.
فأقام على تلك الصورة بقيّة يومه،و ليلته،و قطعة من غده.
فاجتازت قافلة على المحجّة،و كان بينها و بين الكهف بعد،فأحسّت البغال بالدوابّ المجتازة،فصهلت،[203 م،197 ر]و نهق الحمار،و جذب الرسن،و جذبت البغال أرسانها،فأفلتت،و غارت (1)تطلب الدوابّ.
فلمّا رأى أهل القافلة،دوابّا غائرة،ظنّوا أنّها لقوم قد أسرهم اللصوص، و كانوا في منعة،فتسارعوا إلى البغال.
فلمّا قصدوها،رجعت تطلب موضعها.
و تبعها قوم من أهل القافلة،حتى انتهوا إلى التاجر،و شاهدوه مكتوفا، و السفرة منشورة،و الأخ مذبوحا،و بيده السكّين[203 غ]،فشاهدوا عجبا.
و استنطقوا الرجل،فأومأ إليهم أنّ لا قدرة له على الكلام،فحلّوا كتافه، و سقوه ماء،و أقاموا عليه إلى أن أفاق،و قدر على الكلام،فأخبرهم الخبر.
فطلبوا المكاري (2)،فوجدوه غريقا في الماء،قد غرّقه الأخ الفقير.
فحملوا أثقال التاجر على بغاله،و أركبوه[29 ن]على حماره،و سيّروه معهم إلى المنزل الآخر.
ص:373
البغي مرتعه وخيم
و حدّثني إبراهيم بن علي النصيبي هذا،قال:حدّثني[أبو القاسم] (1)إبراهيم بن علي الصفّار،شيخ كان جارا لنا بنصيبين،قال:
خرجت من نصيبين بسيف نفيس،كنت ورثته من أبي،أقصد به العبّاس بن عمرو السلمي،أمير ديار ربيعة (2)،و هو برأس عين (3)لأهديه إليه،و أستجديه بذلك.
فصحبني في الطريق شيخ من الأعراب،فسألني عن أمري،فأنست به، و حدّثته الحديث،و كنّا قربنا من رأس عين،و دخلناها،و افترقنا.
و صار يجيئني،و يراعيني،و يظهر لي أنّه يسلّم عليّ،و أنّه يبرّني بالقصد، و يسألني عن حالي.
فأخبرته أنّ الأمير قبل هديتي،و أجازني بألف درهم،و ثياب،و أنّي أريد الخروج في يوم كذا و كذا.
فلمّا كان ذلك اليوم خرجت عن البلد،راكبا حمارا،فلمّا أصحرت (4)، إذا بالشيخ على دويبة له ضعيفة،متقلّدا سيفا.
فلمّا رأيته استربت به،و أنكرته،و رأيت الشرّ في عينيه.
فقلت:ما تصنع هاهنا؟
ص:374
فقال:قد قضيت حوائجي،و أريد الرجوع،و صحبتك عندي آثر من صحبة غيرك.
فقلت:على اسم اللّه.
و ما زلت متحرّزا منه،و هو يجتهد أن أدنو منه،و أوانسه،فلا أفعل،و كلّما دنا منّي،بعدت عنه،إلى أن سرنا شيئا كثيرا،و ليس معنا ثالث.
فقصّر عني،فحثثت الحمار،لأفوته،فما أحسست إلاّ بركضه،فالتفتّ، فإذا هو قد جرّد سيفه،و قصدني،فرميت بنفسي عن الحمار،و عدوت.
فلمّا خاف أن أفوته،صاح:يا أبا القاسم،إنّما مزحت معك،فقف، فلم ألتفت إليه،و زاد في التحريك.
و ظهر لي ناووس (1)فطلبته،و قد كاد الأعرابي يلحق بي،فدخلت الناووس، و وقفت وراء بابه.
قال:و من صفات تلك النواويس أنّها مبنيّة بالحجارة،و باب كلّ ناووس حجر واحد عظيم،قد نقر،و حفّف (2)،و ملّس،فلا تستمكن اليد منه،و له في وجهه حلقة،و ليس للباب من داخل شيء تتعلّق اليد به،و إنّما يدفع من خارجه،فيفتح،فيدخل إليه،و إذا خرج منه،و جذبت الحلقة،انغلق الباب، و تمكّن هذا من ورائه،فلم يمكن فتحه من داخل أصلا.
قال:فحين دخلت الناووس،وقفت خلف بابه،و جاء الأعرابي،فشدّ الدابّة في حلقة الباب،و دخل[204 م]يريدني،مخترطا سيفه،و الناووس مظلم،فلم يرني،و مشى إلى صدر الناووس،فخرجت أنا من خلف الباب، و جذبته،و نفرت الدابّة،فجذبته معي،حتى صار الباب مردوما محكما،
ص:375
و حصّلت الحلقة في رزّة (1)هناك،و حللت الدابّة،و ركبتها[204 غ].
فجاء الأعرابي،إلى باب الناووس،فرأى الموت عيانا،فقال:يا أبا القاسم،اتّق اللّه في أمري،فإنّني أتلف.
فقلت:تتلف أنت،أهون عليّ من أن أتلف أنا.
قال:فأخرجني،و أنا أعطيك أمانا،و استوثق منّي بالأيمان،أن لا أعرض لك بسوء أبدا،و اذكر الحرمة التي بيننا.
فقلت:لم ترعها أنت،و أيمانك فاجرة،[198 ر]لا أثق بها في تلف نفسي.
فأخذ يكرّر الكلام،فقلت له:لا تهذ[دع عنك هذا الكلام و اقعد مكانك](1)،هو ذا أنا أركب دابّتك،و أجنب حماري،و الوعد بعد أيّام بيننا هنا،فلا تبرح عليّ حتى أجيء[و إذا احتجت إلى طعام،فعليك بجيف العلوج، فنعم الطعام لك.
و أخذت ألهو به في مثل هذا القول] (2)،و أخذ يبكي،و يستغيث،و يقول:
قتلتني،و اللّه.
فقلت:إلى لعنة اللّه،و ركبت دابّته،و جنبت حماري.
و وجدت على دابّته خرجا فيه ثياب يسيرة،و جئت إلى نصيبين،فبعت الثياب،و كانت دابّته شهباء،فصبغتها دهماء،و بعتها،لئلا يعرف صاحبها فأطالب بالرجل،و اتّفق أنّه اشتراها رجل من المجتازين،و كفيت أمره،و انكتمت القصّة.
فلمّا كان بعد أكثر من سنة،عرض لي الخروج إلى رأس عين،فخرجت في
ص:376
تلك الطريق،فلمّا لاح لي الناووس،ذكرت الشيخ.
فقلت:أعدل إلى الناووس،و أنظر ما صار إليه أمره،فجئت إليه،فإذا بابه كما تركته.
ففتحته،و دخلت،فإذا بالأعرابي قد صار رمّة (1)،فحمدت اللّه تعالى على السلامة.
ثم حركته برجلي،و قلت له على سبيل العبث:ما خبرك يا فلان؟فإذا بصوت شيء يتخشخش،ففتّشته،فإذا هميان،فأخذته،و أخذت سيفه، و خرجت،و فتحت الهميان،فإذا فيه خمسمائة درهم (2)،و بعت السيف بعد ذلك بجملة دراهم.
ص:377
أبو المغيرة الشاعر يروي خبرا ملفّقا
حدّثني أبو المغيرة محمّد بن يعقوب بن يوسف،الشاعر البصري (1)،قال:
حدّثني أبو موسى عيسى بن عبد اللّه البغدادي (2)،قال:حدّثني صديق لي قال:
كنت قاصدا الرملة (3)و حدي،و ما كنت دخلتها قط.
فانتهيت إليها و قد نام الناس،و دخل الليل،فعدلت إلى الجبّانة،و دخلت بعض القباب التي على القبور،فطرحت درقة (4)كانت معي،و اتّكأت عليها، و عانقت سيفي،و اضطجعت أريد النوم،لأدخل البلد نهارا.
قال:فاستوحشت من الموضع،و أرقت،فلمّا طال أرقي،أحسست بحركة.
فقلت:لصوص يجتازون،و متى تصدّيت لهم،لم آمنهم،و لعلّهم أن يكونوا جماعة،فانخزلت بمكاني،و لم أتحرّك.
و أخرجت رأسي من بعض أبواب القبّة،على تخوّف شديد منّي،فرأيت دابّة كالذئب تمشي،فإذا به قد قصد قبّة بحيالي،و ما زال يتلفّت طويلا،
ص:378
و يدور حواليها،ثم دخلها.
فارتبت به،و أنكرت أمره،و تطلّعت نفسي إلى علم ما هو فيه.
فدخل القبّة،و خرج غير مطيل،ثم جعل يتبصّر (1)،ثم دخل و خرج بسرعة،ثم دخل و عيني إليه،فضرب بيده إلى قبر في القبّة،يبعثره.
فقلت:نبّاش لا شكّ فيه،و تأمّلته يحفر بيده،فعلمت أنّ فيها آلة حديد يحفر بها.
فتركته إلى أن اطمأنّ[205 غ]و أطال،و حفر شيئا كثيرا،ثم أخذت سيفي و درقتي (2)،و مشيت على أطراف أناملي،حتى دخلت القبّة،فأحسّ بي، فقام إليّ بقامة انسان،و أومأ إليّ ليلطمني بكفّه،فضربت يده (3)بالسيف، فأبنتها و طارت.
فقال:أوّه،قتلتني[205 م]لعنك اللّه.
وعدا من بين يديّ،و عدوت خلفه،و كانت ليلة مقمرة،حتى دخل البلد، و أنا وراءه،و لست ألحقه،إلاّ أنّه بحيث يقع بصري عليه.
إلى أن اجتاز بي طرقا كثيرة،و أنا في خلال ذلك أعلّم الطريق لئلا أضلّ، حتى جاء إلى باب،فدفعه و دخل و أغلقه،و أنا أسمع.
فعلّمت الباب[30 ن]،و رجعت أقفو الأثر و العلامات التي علّمتها في طريقي،حتى انتهيت إلى القبّة التي كان فيها النبّاش.
و طلبت الكفّ فوجدتها،فأخرجتها إلى القمر،فبعد جهد،انتزعت الكفّ المقطوعة من الآلة الحديد،و إذا هي كفّ كالكفّ،و قد أدخل أصابعه في الأصابع،و إذا هي كفّ فيها نقش حنّاء،و خاتمان من الذهب،فعلمت أنّها امرأة.
ص:379
فحين علمت أنّها امرأة،اغتممت،و تأمّلت الكفّ،فإذا هي أحسن كفّ في الدنيا،نعومة،و رطوبة،و سمنا،و ملاحة.
فمسحت الدم عنها،و نمت في القبّة التي كنت فيها[199 ر]،و دخلت البلد من الغد،أطلب العلامات التي علّمتها،حتى انتهيت إلى الباب.
فسألت:لمن الدار؟
فقالوا:لقاضي البلد.
و اجتمع عليها خلق كثير،و خرج منها شيخ بهيّ،فصلّى الغداة بالناس، و جلس في المحراب،فازداد عجبي من الأمر.
فقلت لبعض الحاضرين:بمن يعرف هذا القاضي؟
فقال:بفلان.
و أطلت الجلوس و الحديث في معناه،حتى عرفت أنّ له ابنة عاتقا (1)، و زوجة،فلم أشكّ في أنّ النّباشة ابنته.
فتقدّمت إليه،و قلت:بيني و بين القاضي أعزّه اللّه حديث لا يصلح إلاّ على خلوة.
فقام إلى داخل المسجد،و خلا بي،و قال:قل.
فأخرجت الكفّ و قلت:أ تعرف هذه؟.
فتأمّلها طويلا،و قال:أمّا الكفّ فلا،و أما الخاتمان،فمن خواتيم (2)ابنة لي عاتق،فما الخبر؟.
فقصصت عليه القصّة بأسرها،فقال:قم معي.
فأدخلني إلى داره،و أغلق الباب،و استدعى طبقا و طعاما،فأحضر.
ص:380
و استدعى امرأته،فقال لها الخادم:اخرجي.
فقالت:قل له كيف أخرج و معك رجل غريب،فخرج الخادم،و أعلمه بما قالت.
فقال:لا بدّ من خروجها تأكل معنا،فهنا من لا أحتشمه (1).
فتأبّت عليه،فحلف بالطلاق لتخرجنّ له،فخرجت باكية،و جلست معنا.
فقال لها:أخرجي ابنتك.
فقالت:يا هذا،أو قد جننت؟ما الذي حلّ بك،قد فضحتني و أنا امرأة كبيرة،فكيف تهتك صبيّة عاتقا؟فحلف بالطلاق لتخرجنّها،فخرجت.
فقال:كلي معنا،فرأيت صبية كالدينار،ما نظرت مقلتاي أحسن منها، إلاّ أنّ لونها قد اصفرّ جدا،و هي مريضة.
فعلمت أنّ ذلك لنزف الدم من يدها،فأقبلت تأكل بشمالها،و يمينها مخبوءة.
فقال لها أبوها:أخرجي يدك اليمنى.
فقالت أمّها:قد خرج بها خراج،و هي مشدودة،فحلف[206 غ] لتخرجنّها.
فقالت له امرأته:يا رجل استر على نفسك،و ابنتك،فو اللّه،و حلفت له بأيمان كثيرة،ما اطّلعت لهذه الصبيّة على سوء قط إلاّ البارحة،فإنّها جاءتني بعد نصف الليل،فأيقظتني،و قالت:يا أمّي،الحقيني،و إلاّ تلفت.
فقلت:ما لك؟
فقالت:إنّه قد قطعت يدي،و هو ذا أنزف الدم،و الساعة أموت،فعالجيني، و أخرجت يدها مقطوعة،فلطمت.
فقالت:يا أمّاه لا تفضحيني و نفسك بالصياح عند أبي و الجيران،و عالجيني.
فقلت:لا أدري بم أعالجك.
ص:381
فقالت:إغلي زيتا،و أكوي به يدي.
ففعلت ذلك،و كويتها،و شددتها،و قلت لها:الآن خبّريني ما دهاك، فامتنعت.
فقلت:و اللّه،إن لم تحدّثيني،لأكشفنّ أمرك لأبيك.
فقالت:إنّه وقع في نفسي،منذ سنين،أن أنبش القبور (1)،فتقدّمت إلى هذه الجارية،فاشترت لي جلد ماعز بشعره،[206 م]،و استعملت لي كفّا من حديد.
فكنت إذا أعتم الليل (2)،أفتح الباب،و آمرها أن تنام في الدهليز،و لا تغلق الباب،و ألبس الجلد،و الكفّ الحديد،و أمشي على أربع،فلا يشكّ الذي يراني من فوق سطح أو غيره،أنّني كلب.
ثم أخرج إلى المقبرة،و قد عرفت من النهار،خبر من يموت من رؤساء البلد (3)،و أين دفن،فأقصد قبره،فأنبشه،و آخذ الأكفان،و أدخلها معي في الجلد،و أمشي مشيتي،و أعود و الباب غير منغلق،فأدخل،و أغلقه،و أنزع تلك الآلة،[200 ر]فأدفعها إلى الجارية،مع ما قد أخذت من الأكفان، فتخبئه في بيت لا تعلمون به.
و قد اجتمع عندي نحو ثلثمائة كفن،أو ما يقارب هذا المقدار،لا أدري ما أصنع بها،إلاّ أنّي كنت أجد لهذا الخروج،و الفعل،لذّة لا سبب لها أكثر من إصابتي بهذه المحنة.
فلمّا كانت الليلة،سلّط عليّ رجل أحسّ بي،كأنّه كان حارسا لذلك القبر،فقمت لأضرب وجهه بالكفّ الحديد،ليشتغل عنّي،و أعدو،فداخلني
ص:382
بالسيف،ليضربني،فتوقّيت الضربة بيميني،فأبان كفّي.
فقلت لها:أظهري أن قد خرج في كفّك خراج،و تعاللي،فإنّ الذي بك من الصفار (1)،يصدّق قولك.
فإذا مضت أيّام،قلت لأبيك:إذا لم تقطع يدك،خبث جميع جسدك، و تلفت،فيأذن في قطعها،فنظهر أنّا قد قطعناها،و يشيع الخبر-حينئذ-بهذا، و يستتر أمرك.
فعملنا على هذا،بعد أن استتبتها،فتابت،و حلفت باللّه العظيم،لا عادت تفعل شيئا من ذلك.
و كنت قد خطر لي أن أبيع هذه الجارية،إلى سفّار يغرّبها عن هذه البلد التي نحن فيها،و أراعي مبيت الصبيّة،و أبيتها إلى جانبي،ففضحتنا و نفسك.
فقال القاضي للصبيّة:ما تقولين؟
فقالت:صدقت أمّي،و و اللّه،لا عدت أبدا،و أنا تائبة إلى اللّه تعالى.
فقال لها أبوها:هذا صاحبك الذي قطع يدك،فكادت تتلف جزعا.
ثم قال لي:يا فتى من أين أنت؟
قلت:من العراق.
قال[207 غ]:ففيم وردت؟
قلت:أطلب الرزق.
قال:قد جاءك حلالا طيبا،نحن قوم مياسير،و للّه علينا نعمة و ستر، فلا تنقص النعمة،و لا تهتك الستر،أنا أزوّجك بابنتي هذه،و أغنيك بمالي عن الناس،و تكون معنا في دارنا.
فقلت:نعم.
فرفع الطعام،ثم خرج إلى المسجد،و الناس مجتمعون ينتظرونه،فخطب،
ص:383
و زوّجني،و قام،فرجع،و أقعدني في الدار.
و وقعت الصبيّة في نفسي،حتى كدت أموت عشقا لها،فافترعتها،و أقامت معي شهورا،و هي نافرة منّي،و أنا أؤانسها،و أبكي حسرة على يدها،و أعتذر إليها،و هي تظهر قبول عذري،و أنّ الذي بها غمّا على يدها،و هي تزداد حنقا عليّ.
إلى أن نمت ليلة،و استثقلت في نومي،فأحسست بثقل على صدري، فانتبهت جزعا،فإذا زوجتي باركة على صدري،و ركبتاها على يديّ،مستوثقة منهما،و في يدها سكّين،و قد أهوت لتذبحني (1)،فاضطربت.
و رمت الخلاص،فتعذّر،و خشيت أن تبادرني،فسكّت،و قلت لها:
كلّميني،و اعملي ما شئت.
فقالت لي:قل.
فقلت:[31 ن]ما يدعوك إلى هذا؟
[قالت:أ ظننت أنّك قد قطعت يدي،و هتكتني،و تزوّجني مثلك، و تنجو سالما؟و اللّه لا كان هذا.
فقلت:أما الذبح،فقد فاتك،و لكنّك تتمكّنين من جراحات توقعينها بي، و لا تأمنين أن أفلت،فأذبحك،و أهرب،أو أكشف هذا عليك،ثم أسلمك إلى السلطان،فتنكشف جنايتك الأولى،و الثانية،و يتبرّأ منك[207 م]أبوك، و أهلك،و تقتلين.
فقالت:افعل ما شئت لا بدّ من ذبحك،و قد استوحش الآن كلّ منّا من صاحبه.
فنظرت،فإذا الخلاص منها بعيد،و لا بدّ من أن تجرح موضعا من بدني، فيكون فيه تلفي.
ص:384
فقلت:ليس إلاّ العمل في حيلة،فقلت لها:أو غير هذا؟ (1)].
قالت:قل.
قلت:أطلّقك الساعة،و تفرجين عنّي،و أخرج غدا عن البلد،فلا أراك، و لا تريني أبدا،و لا يكشف لك حديث في بلدك،و لا تفتضحي،و تتزوّجين بمن شئت،فقد شاع أنّ يدك قطعت بخراج خبّثها،و تربحين الستر.
قالت:لا أفعل،حتى تحلف لي أنّك لا تقيم في البلد،و لا تفضحني أبدا، و تعجّل لي الطلاق.
فطلّقتها،و حلفت لها بالأيمان المغلظة أنّي أخرج،و لا أفضحها،فقامت عن صدري تعدو،خوفا من أن أقبض عليها،حتى رمت الموسى من يدها، بحيث لا أدري أين هو،و عادت.
و أخذت تظهر أنّ الذي فعلته بي مزاحا،و أخذت تلاعبني،فقلت:إليك عنّي،فقد حرمت عليّ،و لا تحلّ لي ملامستك،و في غد أخرج عنك.
فقالت:الآن علمت صدقك،و و اللّه،لئن لم تفعل،لا نجوت من يدي، و قامت فجاءتني بصرّة،و قالت:هذه مائة دينار،خذها نفقة لك،و اكتب رقعة بطلاقي،و اخرج غدا.
فأخذت الدنانير،و خرجت من سحرة ذلك اليوم،بعد أن كتبت إلى أبيها،أنّني قد طلّقتها ثلاثا،و أنّني خرجت[201 ر]حياء منه.
و لم ألتق معهم إلى الآن (2).
ص:385
لا جزاك اللّه من طارق خيرا
حدّثنا أبو الحسن محمّد بن أحمد الكاتب،المعروف والده بأبي الليث الهمذاني (1)،قال:حدّثني محمّد بن بديع العقيلي (2)،قال:
رأيت فتى من بني عقيل،في ظهره كلّه شرط كشرط الحجّام،إلاّ أنّها أكبر،فسألته عن سبب ذلك.
فقال:إنّي كنت هويت ابنة عمّ لي،و خطبتها،فقالوا لي:إنّا لا نزوّجك إيّاها،إلاّ بعد أن تجعل الشبكة صداقها،و هي فرس سابقة كانت لبعض بني بكر بن كلاب.
فتزوّجتها على ذلك،و خرجت أحتال في أن أسلّ الفرس،لأتمكّن من الدخول بابنة عمّي.
قال:فأتيت الحيّ الذي فيه الفرس،بصورة مجتاز،فما زلت أداخلهم، و مرّة أجيء إلى الخباء الذي فيه الرجل صاحب الفرس،كأنّي سائل،إلى أن عرفت مربط الفرس من الخباء،و رأيت لها مهرة.
فاحتلت حتى دخلت البيت من كسره،و حصلت خلف[208 غ] النضد (3)تحت عهن (4)كانوا نفشوه ليغزل،فلمّا جنّ الليل،وافى صاحب البيت، و قد صنعت له المرأة عشاء،فجلسا يأكلان،و قد استحكمت الظلمة،و لا
ص:386
مصباح لهم،و كنت ساغبا (1)،فأخرجت يدي،و أهويت إلى القصعة،و أكلت معهما.
فأحسّ الرجل بيدي،فأنكرها،و قبض عليها،فقبضت على يد المرأة بيدي الأخرى.
فقالت له المرأة:مالك و يدي؟فظنّ أنّه قابض على يد المرأة،فخلّى يدي، فخلّيت يد المرأة.
و أكلنا،ثم أنكرت المرأة يدي،و قبضت عليها،فقبضت على يد الرجل، فقال لها:مالك و يدي؟فخلّت عن يدي،و خلّيت عن يده.
و انقضى الطعام،و استلقى الرجل،و نام،فلمّا استثقل،و أنا مراصدهم، و الفرس مقيّد،و مفتاح قيد الفرس تحت رأس المرأة.
فوافى عبد له أسود،فنبذ حصاة،فانتبهت المرأة،و قامت إليه،و تركت المفتاح في مكانه،و خرجت من الخباء إلى ظهر البيت[208 م]و رمقتها بعيني، فإذا العبد قد علاها.
فلمّا حصلا في شأنهما،دببت،فأخذت المفتاح،و فتحت القفل،و كان معي لجام مصنوع من شعر،فأوجرته الفرس،و ركبتها،و خرجت عليها من الخباء.
فقامت المرأة من تحت الأسود،و دخلت الخباء،ثم صاحت،و ذعر الحيّ،فصاحوا،و أحسّوا بي،و ركبوا في طلبي،و أنا أكدّ الفرس،و خلفي خلق منهم.
فأصبحت،و لست أرى إلاّ فارسا واحدا برمح،فلحقني و قد طلعت الشمس، فأخذ يطعنني،فلا تصل طعنته إلى أكثر مما رأيت من ظهري،لا فرسه تلحق بي فتتمكّن طعنته منّي،و لا فرسي تبعدني إلى حيث لا يمسّني الرمح.
حتى وافيت إلى نهر جار،فصحت بالفرس،فوثبته،و صاح الفارس
ص:387
بفرسه،فلم تثب.
فلمّا رأيت عجزها عن العبور،نزلت عن فرسي لأستريح،و أريحها، فصاح بي الرجل.
فقلت:ما لك؟
فقال:يا هذا،أنا صاحب الفرس التي تحتك،و هذه ابنتها،فإذ أخذتها، فلا تخدعنّ عنها،فإنّها تساوي عشر ديات،و عشر ديات،و عشر ديات، و ما طلبت عليها شيئا قط إلاّ لحقته،و لا طلبني أحد-و أنا عليها-إلاّ فتّه، و إنّما سمّيت الشبكة،لأنها لم ترد شيئا قط إلاّ أدركته،فكانت كالشبكة في التعلّق به.
فقلت له:أمّا إذ نصحتني،فو اللّه لأنصحنّك،و لا أكذبك،إنّه كان من أمري البارحة،كيت و كيت،حتى قصصت عليه قصّة امرأته،و العبد، و حيلتي في الفرس.
[فأطرق ساعة،ثم رفع رأسه إليّ] (1)،و قال:ما لك،لا جزاك اللّه من طارق خيرا،أخذت قعدتي،و قتلت عبدي،و طلّقت ابنة عمّي (2).
ص:388
من زرع الإثم حصد الدمار
[و حدّثني عبيد اللّه بن محمّد بن الحفا،قال:حدّثني] (1)رجل من أهل الجند (2)،قال:
خرجت من بعض بلدان الشام،و أنا على دابّة لي،و معي خرج لي،فيه ثياب و دراهم.
فلمّا سرت عدّة فراسخ،لحقني المساء،و إذا بدير عظيم (3)،فيه راهب في صومعة.
فنزل و استقبلني،و سألني المبيت عنده،و أن يضيفني،ففعلت.
فلمّا دخلت الدير،لم أجد فيه غيره،فأخذ دابّتي،و طرح لها[209 غ] شعيرا،و عزل رحلي في بيت،و جاءني بماء حار،و كان الزمان شديد البرد، و أوقد بين يديّ نارا،و جاءني بطعام[202 ر]طيّب من أطعمة الرهبان،فأكلت، و بنبيذ،فشربت.
و مضت قطعة من الليل،فأردت النوم،فقلت:أدخل المستراح (4)،قبل أن أنام،فسألته عنه،فدلّني على طريقه،و كنّا في غرفة.
فلمّا صرت على باب المستراح،إذا بارية مطروحة (5)،فلمّا صارت رجلاي
ص:389
عليها نزلت،فإذا أنا في الصحراء،و إذا البارية قد كانت مطروحة على[33 ن] غير تسقيف.
و كان الثلج يسقط في تلك الليلة سقوطا عظيما،فصحت،و قدّرت أنّ الذي استمرّ عليّ من غير علمه،فما كلّمني.
فقمت و قد تجرّح بدني،إلاّ أنّي سالم،فجئت،و استظللت بطاق باب الدير من الثلج.
فما وقفت حينا حتى رأيت فيه برابخ (1)من فوق رأسي،و قد جاءتني منها حجارة لو تمكّنت من دماغي لطحنته.
فخرجت أعدو،و صحت به،فشتمني،فعلمت أنّ ذلك من حيلته، طمعا في رحلي.
فلمّا خرجت،وقع الثلج عليّ فعلمت أنّي تالف إن دام ذلك عليّ،فولّد لي الفكر أن طلبت حجرا فيه ثلاثون رطلا و أكثر،فوضعته على عاتقى تارة، و على قفاي تارة،و أقبلت أعدو في الصحراء أشواطا،حتى إذا تعبت،و حميت و جرى عرقي،طرحت الحجر،و جلست أستريح خلف الدير،من حيث يقع لي أنّ[209 م]الراهب لا يراني.
فإذا أحسست بأنّ البرد قد بدأ يأخذني،تناولت الحجر و سعيت من الدير و لم أزل على هذا إلى الغداة (2).
فلمّا كان قبيل طلوع الشمس،و أنا خلف الدير إذ سمعت حركة بابه، فتخفّيت.
فإذا بالراهب قد خرج،و جاء إلى موضع سقوطي،فلمّا لم يرني دار حول الدير يطلبني،و يقول،و أنا أسمعه:ترى ما فعل الميشوم؟أظنّ أنّه قدّر أنّ
ص:390
بالقرب منه قرية،فقام يمشي إليها،كيف أعمل،فاتني سلبه،و أقبل يمشي يطلب أثري.
قال:فخالفته إلى باب الدير،و حصلت داخله،و قد مشى هو من ذلك المكان يطلبني حول الدير،فحصلت أنا خلف باب الدير،و قد كان في وسطي سكّين،فوقفت خلف الباب،فطاف الراهب،و لم يبعد.
فلمّا لم يقف لي على خبر،عاد و دخل،فحين بدأ ليرّد الباب،و خفت أن يراني،ثرت عليه،و وجأته بالسكّين،فصرعته،و ذبحته.
و أغلقت باب الدير،و صعدت إلى الغرفة،فاصطليت بنار موقودة هناك، و دفئت،و خلعت عنّي تلك الثياب،و فتحت خرجي،فلبست منه ثيابا جافّة، و أخذت كساء الراهب،فنمت فيه،فما أفقت إلى قريب من العصر.
ثم انتبهت و أنا سالم،غير منكر شيئا من نفسي،فطفت بالدير،حتى وقفت على طعام،فأكلت منه،و سكنت نفسي.
و وقعت مفاتيح بيوت الحصن في يدي،فأقبلت أفتح بيتا بيتا،فإذا بمال عظيم من عين،و ورق،و ثياب،و آلات،و رحال قوم،و أخراجهم (1).
و إذا تلك عادة الراهب كانت مع كلّ من يجتاز به وحيدا،و يتمكّن منه، فلم أدر كيف أعمل في نقل المال،و ما وجدته.
فلبست ثياب الراهب،و أقمت في موضعه أيّاما،أتراءى لمن يجتاز بالموضع من بعيد،فلا يشكّون أنّني هو،و إذا قربوا منّي لم أبرز لهم وجهي،إلى أن خفي خبري.
ثم نزعت تلك الثياب،و لبست من بعض ثيابي،و أخذت جواليق،فملأتها
ص:391
مالا،و حملتها على الدابّة،و مشيت،و سقتها إلى أقرب قرية،و اكتريت فيها منزلا،و لم أزل أنقل إليها كلّما وجدته،حتى[210 غ]لم أدع شيئا له قدر إلاّ حصّلته في القرية.
ثم أقمت بها إلى أن اتّفقت لي قافلة،فحملت على دوابّ اشتريتها،كلّ ما كنت قد حصّلت في المنزل.
و سرت في جملة الناس بقافلة عظيمة لنفسي،بغنيمة هائلة،حتى قدمت بلدي،و قد حصلت لي عشرات ألوف دراهم و دنانير،و سلمت من الموت.
ص:392
و من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره
حدّثني أبو القاسم عبيد اللّه بن محمّد بن الحسن العبقسي الشاعر (1)،قال:
كان لأبي مملوك يسمّى مقبل[203 ر]فأبق منه (2)،و لم يعرف له خبر سنين كثيرة،و مات أبي و تغرّبت عن بلدي،و وقعت إلى نصيبين،[و أنا حدث حين اتّصلت لحيتي،و أنا مجتاز يوما في سوق نصيبين،] (3)و عليّ لباس فاخر،و في كمّي منديل فيه دراهم كثيرة،حتى رأيت غلامنا مقبلا.
فحين رآني انكبّ على يدي يقبّلها،و أظهر سرورا شديدا بي،و أقبل يسألني عن أبي،و أهلنا،فأعرّفه موت من مات،و خبر من بقي.
ثم قال لي:يا سيّدي متى دخلت إلى هاهنا،و في أيّ شيء؟فعرّفته، فأخذ يعتذر من هربه منّا.
ثم قال:أنا مستوطن هاهنا،و أنت مجتاز،فلو أنعمت عليّ و جئت[210 م] في دعوتي،فأنا أحضر لك نبيذا طيّبا،و غناء حسنا.
فاغتررت به،بالصبا،و مضيت معه،حتى بلغ بي إلى آخر البلد،إلى دور خراب،ثم انتهى إلى دار[211 غ]عامرة،مغلقة الباب،فدقّ،ففتح له، فدخل و دخلته.
فحين حصلت في الدهليز،أغلق الباب بسرعة،و استوثق منه،فأنكرت
ص:393
ذلك،و دخلت الدار،فإذا بثلاثين رجلا بالسلاح،و هم جلوس على بارية، فلم أشكّ في أنهم لصوص،و أيقنت بالشرّ.
و بادرني أحدهم،فلطمني،و قال:انزع ثيابك،فطرحت كلّ ما كان عليّ، حتى بقيت بسراويل،فحلّوا الدراهم التي كانت في منديلي،و أعطوا مقبلا شيئا منها (1)،و قالوا:إمض فهات لنا بهذا ما نأكله و نشربه.
فتقدّم مقبل،و سارّ واحدا منهم،فقال له مجيبا:و أي شيء يفوتنا من قتله، إمض فجئنا بما نأكله،فإنّا جياع.
فلمّا سمعت ذلك كدت أموت جزعا،فقال لهم الغلام،مظهرا للكلام:
ما أمضي أو تقتلوه.
فقلت لهم:يا قوم،ما ذنبي حتى أقتل،قد أخذتم ما معي،و لستم ترثوني إذا قتلتموني،و لا لي حال غير ما أخذتموه،فاللّه اللّه فيّ.
ثم أقبلت أستعطف مقبلا،و هو لا يجيبني،و يقول لهم:إنّكم إن لم تقتلوه، حتى يفلت،دلّ السلطان عليكم،فتقتلون كلّكم.
قال:فوثب إليّ أحدهم بسيف مسلول،و سحبني من الموضع الذي كنت فيه إلى البالوعة (2)ليذبحني.
و كان بقربي غلام أمرد،فتعلّقت به،و قلت:يا فتى ارحمني،و أجرني، فإنّ سنّك قريب من سنّي،و استدفع البلاء من اللّه تعالى بخلاصي.
فوثب الغلام،و طرح نفسه عليّ،و قال:و اللّه لا يقتل و أنا حيّ،و جرّد سيفه.
و قام أستاذه بقيامه،و قال:لا يقتل من أجاره غلامي.
ص:394
و اختلفوا،و صار مع الغلام جماعة منهم،فانتزعوني،و جعلوني في زاوية من البيت الذي كانوا فيه،و وقفوا بيني و بين أصحابهم.
فقال لهم رئيسهم:كفّوا عن الرجل إلى أن ننظر في أمره،و شتم مقبلا، و قال:امض،فهات ما نأكله قبل كلّ شيء،فإنّا جياع،و ليس يفوته قتله، إن اتّفقنا عليه.
فمضى مقبل،و جاءهم بمأكول كثير (1)،و جلسوا يأكلون،و ترك جماعة منهم الأكل حراسة لي،لئلاّ يغتالني[34 ن]أحدهم إذا تشاغلوا بالأكل.
فلمّا أكلوا،انفرد بعض من كان يتعصّب لي بحراستي،و أكل من لم يكن أكل منهم.
ثم أفضوا إلى الشراب،فقال لهم مقبل:الآن قد أكلتم،و ترك هذا يؤدّي إلى قتلكم،فدعوا الخلاف في أمره،و اقتلوه.
فوثب من يريد قتلي،و وثب الغلام،و من معه،للدفع عنّي،و طال الكلام بينهم،و أنا في الزاوية،و قد اجتمع عليّ من يمنع من قتلي،فصرت بينهم و بين الحائط،إلى أن جرّد بعضهم السيوف على بعض.
فقال لهم رئيسهم:هذا الذي أنتم فيه يؤدّي إلى تلفكم،و قد رأيت رأيا فلا تخالفوه.
فقالوا:إنّا بأمرك.
فقال:أغمدوا السلاح،و اصطلحوا،و نشرب إلى وقت[204 ر]نريد أن نخرج من هذه الدار،ثم نكّتفه،و نسدّ فاه،و ندعه في الدار،و ننصرف،
ص:395
فإنّه لا يتمكّن من الخروج وراءنا،و لا الصياح علينا.
و إلى أن نصبح من غد،نكون قد قطعنا مفازة،و لا يجرح بعضكم بعضا، و لا تتفرّق[211 م]كلمتكم.
فقالوا:هذا هو الصواب،و جلسوا يشربون.
و جاء الغلام ليشرب معهم،فقلت له:اللّه،اللّه فيّ،تمّم ما عملت من الجميل،و لا تشرب معهم،و احرسني،لئلا يثب عليّ[212 غ]واحد منهم على غفلة،فيضربني ضربة يكون فيها تلف نفسي،ثم لا تتمكّن أنت من ردّها، و لا ينفعني أن تقتل قاتلي.
فرحمني،و قال:أفعل،ثم قال لاستاذه:أحبّ أن تترك شربك الليلة، فتفعل كما أفعل.
فجاءا جميعا فجلسا قدّامي،و أنا في الزاوية،أتوقّع الموت ساعة بساعة، إلى أن مضى من الليل قطعة.
و قام القوم فتحزّموا،و لبسوا ثيابهم (1)،و خرجوا،و بقي الغلام و أستاذه.
فقالا لي:يا فتى،قد علمت أنّنا قد خلّصنا دمك،فلا تكافئنا بقبيح، و هو ذا نخرج،و لا نستحسن أن نكتّفك،فاحذر أن تصيح.
فأخذت أقبّل أيديهما و أرجلهما،و أقول:أنتما أحييتماني بعد اللّه تعالى، فكيف أكافئكما بالقبيح؟
فقالا:قم معنا،فقمت،ففتّشنا الدار،حتى علمنا أنه لم يختبىء فيها أحد يريد قتلي.
ثم قالا لي:قد أمنت،فإذا خرجنا فاستوثق من الباب و نم وراءه،فليس يكون إلاّ خيرا،و خرجا.
فاستوثقت من غلق الباب،ثم جزعت جزعا عظيما،و لم أشكّ أنّه يخرج عليّ
ص:396
من تحت الأرض منهم من يقتلني،و زاد عليّ الفزع،فأقبلت أمشي في الدار، و أدعو،و أسبّح،إلى أن كدت أتلف إعياء.
و أنست باستمرار الوقت على السلامة،و حملتني عيني،فنمت،فلم أحسّ إلاّ بالشمس و حرارتها،على وجهي،من باب البيت.
فقمت،و خرجت أمشي و أنا عريان بسراويلي،إلى أن حصلت في الموضع الذي كنت أسكنه.
و ما حدّثت أحدا بهذا الحديث مدّة،لبقيّة الفزع الذي داخلني منهم في قلبي.
ثم بعد انقضاء سنة،أو قريب منها،كنت يوما عند صاحب الشرطة بنصيبين،لصداقة كانت بينه و بين أبي،فما لبث أن حضر من عرّفه عثور الطوف (1)على جماعة من اللصوص،بقرية سمّاها،من قرى نصيبين،و قبضه على سبعة نفر منهم،و فوت الباقين،فأمر بإحضارهم.
فوقع بصري منهم على ذلك الغلام الذي أجارني ذلك اليوم،و على أستاذه، ثم على مقبل.
فحين رأيتهم أخذتني رعدة تبيّنت فيّ،و أخذ مقبل-من بينهم-مثل ما أخذني.
فقال لي صاحب الشرطة:ما لك؟
فقلت:إنّ حديثي طويل،و لعلّ اللّه تعالى،أراد بحضوري هذا المجلس، سعادة نفر،و شقاوة نفر.
فقال:هات.
فأقتصصت عليه قصّتي مع القوم إلى آخرها،فتعجّب،و قال:هلاّ شرحتها لي فيما قبل،حتى كنت أطلبهم،و أنتصف لك منهم.
ص:397
فقلت:إنّ الفزع الذي كان في قلبي منهم،لم يبسط لساني به.
فقال:من الذي كان معك من هؤلاء؟
فقلت:هذا الغلام،و أستاذه،و واحد من الباقين،فأمر بحلّ كتافهم، و تمييزهم من بين أصحابهم.
و دعا بمقبل،فقال له:ما حملك على ما فعلت بابن مولاك؟
فقال:سوء الأصل،و خبث العرق.
فقال:لا جرم تقابل بفعلك،و أمر به فضرب عنقه،و أعناق أصحابه الباقين.
و دعا بالغلام،و أستاذه،و صاحبهما،و قال لهما:لقد أحسنتما في فعلكما [212 م]و دفعكما عن هذا الفتى،فاللّه يجزيكما عن فعلكما الخير،فتوبا إلى اللّه من فعلكما،و انصرفا في صحبة اللّه،مع صاحبكما،و لا تعود إلى ما أنتما عليه من التلصّص،فقد مننت عليكما لحسن صنيعكما بهذا الفتى،فإن ظفرت[213 غ]بكما ثانيا،ألحقتكما بأصحابكما.
فتابا و صاحبهما،و شكروا له،و دعوا،و انصرفوا.
و شكرته أنا أيضا على ما فعل،و حمدت اللّه على توفيقي لقضاء حقّ من أجارني، و الانتقام ممن ظلمني.
ثم صار ذلك الغلام و أستاذه من أصدقائي،و كانا يختلفان إليّ،و يقولان:
قد أقبلنا على حرفنا في السوق،و تركنا التلصّص (1).
ص:398
الجناذيّة و البانوانيّة في الهند
و حكى أبو الحسن محمّد بن[عمر بن] (1)شجاع،المتكلّم البغدادي،قال:
رأيت بالهند قوما يقال لهم:الجناذيّة (2)،يأكلون الميتة،يتقذّرهم جميع أهل الهند،و عندهم أنّهم إن لامسوهم تنجّسوا.
قال:فهم يمشون و في أعناقهم طبول يطبّلون بها،ليسمع أصواتها الناس، فيتنحّون عن طريقهم،فإن لم يتنحّ الرجل عند سماع الطبل،فلا شيء على الجناذيّ، و إن لم يضرب الجناذيّ الطبل،حتى يلاصق جسده جسد غيره،قتله الذي لصق جسده،فلا يعدى عليه،لأنّ هذا هو شرطهم و سنّتهم.
قال:و لا يشرب أحد ماء هؤلاء الجناذيّة،و لا يأكلون من طعامهم،و لا يخالطهم،فهم ينزلون في ظاهر البلد،منفردين ناحية،و هم أرمى الناس، و معاشهم من الصيد (3).
و هناك قوم يقال لهم:البانوانيّة (4)،يجرون مجرى المستقفين (5)هاهنا، و السلطان يطلبهم كما يطلب اللصوص و العيّارين (6)،فإذا عرفهم،و ظفر بهم، قتلهم.
ص:399
و هم يصطادون الناس،و لا يعرفون غير ذلك.
و الواحد منهم يتبع التجّار الذين يطرأون إليهم من المسلمين و الذمّة (1)،فإذا رأي الواحد منهم،الواحد من التجّار في طريق خال،قبض عليه،فلا يمكن لأحد من الناس أن يخلّصه،لعلمهم أنّه إذا استغاث أو نطق،قتله الهندي، و قتل نفسه في الحال،لا يبالي بذلك،لاعتقادهم المشهور في أمر القتل.و يراهم الناس قد أخذوا الرجل،فلا يتعرّضون لتخليصه،لئلاّ يقتله.
و يقول لهم الرجل المأخوذ:اللّه،اللّه،إن عارضتموه،فلا يمكن لسلطان، و لا غيره،انتزاعه منهم في تلك الحال،لئلاّ يعجّل بقتله.
قال:فأخبر رجل بالهند،أنّ رجلا[205 ر]من البانوانية قبض في طريق سفره،على رجل لقيه من التجّار.
فقال له:اشتر نفسك منّي،فتوافقا على أن يشتري نفسه منه بألف درهم.
فقال له التاجر:تعلم أنّي خرجت و لا شيء معي،و مالي في البلد،فتصير معي إلى داري فإنّها قريبة،لأؤدّي لك ذلك.
فأجابه،و قبض عليه بيده،فلم يزل يمشي معه،فاجتازا في طريقهما في سكّة منها،فسلكا فيها.
فحين حصلا فيها،فكّر التاجر في حيلة للخلاص،و كان قد عرف مذهب أهل الهند في الجناذيّة،فلم يزل يمشي معه حتى رأيا بابا مفتوحا من دور الجناذيّة، فجذب يده جذبة شديدة من البانواني،و سعى،فدخل دار الجناذي.
فقال له:ما لك؟
قال:أنا مستجير بك من يد بانواني قد صادني فهربت منه.
ص:400
فقال:لا بأس عليك فاجلس.
فصاح البانواني،يا جناذي،أخرج إليّ،و هم لا يدخلون بيوت الجناذيّة أصلا،لاستقذارهم إيّاهم.
قال:فخرج،فوقف،و بينهما عرض الطريق[214 غ]لا يجوز أن يدنو أحد من صاحبه.
فقال البانواني:أعطني صاحبي.
فقال له الجناذي:قد استجار بي،فتهبه لي.
قال:لا أفعل،هذا رزقي،و إن لم تعطنيه،لم ندع من الجناذيّة واحدا إلاّ قتلناه.
فطال بينهما الكلام،إلى أن قال له الجناذي:أسلمه إليك في الصحراء، فامض و اسبقني إلى الموضع الفلاني.
قال:فمضى البانواني،و دخل الجناذي إلى الرجل،فقال له:أخرج معي الساعة،و لا بأس عليك،و أخذ الجناذيّ قوسه و خمسة سهام (1)،قال:و سهامهم من قصب.
فعلق المسلم بكمّ الجناذيّ،و لصق به،علما منه بأنّ البانواني لا يدنو منه.
فلمّا صاروا في الصحراء،قال له الجناذيّ:تهبه لي،و أجتهد به،فلم يفعل.
قال:فإنّي لا أسلمه إليك،حتى لا يبقى معي شيء من السلاح[35 ن].
قال:فشأنك،ففوّق نحوه سهما،فحين أطلقه،تلقّاه البانواني بحربيّ كان معه،و الحربيّ آلة من السلاح عندهم معروفة،فاعترض السهم به، فقطعه نصفين،و سلم منه.
فتحيّر الجناذيّ،فلم يزل يرميه بنشّابة بعد أخرى،إلى أن ذهب النشّاب،
ص:401
و لم يبق معه إلاّ اثنتان.
فضعفت نفس التاجر،و أيقن بالهلاك،و قال للجناذيّ:اللّه،اللّه،في دمي.
فقال له الجناذيّ:لا تخف،سأريك من رميي ما يتحدّث به،أنظر إلى هذا الطائر الذي يطير في السماء،فإنّي أرميه،فأصرعه على رأسك،[ثم أرميك فلا أخطئك] (1).
قال:فرفع البانوانيّ رأسه،ينظر إلى الطائر،فرماه الجناذيّ،فأصاب فؤاده،فخرّ صريعا،و مات.
فقال للتاجر:ارجع الآن آمنا.
فرجع إلى داره،فأقام عنده إلى أن اجتازت بهم صحبة (2)،فمضى التاجر معها،فوصل إلى مأمنه (3).
ص:402
عصبت عيناه و مدّ عنقه
و رفع السيف على رأسه ثم نجا من القتل
حدّثني الحسن بن محمّد الح؟؟؟اى (1)،قال:حدّثني أبو القاسم نصر المعروف بالما؟؟؟لى (2)الذي كان يتقلّد السكر (3)ببغداد في أيّام عضد الدولة و تاج الملّة رضي اللّه عنه (4).
قال القاضي أبو علي:و أنا أعرف هذا الرجل،و هو باق إلى الآن،و ما اتّفق لي أن أسأله عن هذا الخبر.
قال:كان عضد الدولة رحمه اللّه،و هو صبيّ بالغ،صار من أصبهان إلى فارس،استدعاه عمّه عماد الدولة عليّ بن بويه لينقل إليه ولاية عهده،و يستخلفه عليها من بعده،فسرت معه،و أنا معه إذ ذاك أحجبه.
فلمّا صار بسمارم (5)-منزل من الطريق-أمرني أن أصير إلى كركير والي سمارم من قبل أبيه ركن الدولة رحمه اللّه،و أطالبه بأن ينفذ إلى حضرته اثني عشر رجلا من الأكراد كانوا[42 ن]محبسين في يد كركير،و كان خبرهم قد بلغ عضد الدولة،فأرادهم.
ص:403
فامتنع كركير من إنفاذهم،و قال:هؤلاء قطّاع الطريق،قد قطعوا و قتلوا،و لا أسلمهم إلاّ بأمر يرد عليّ من ركن الدولة،فجئت إليه و عرّفته.
فقال لي:عد إليه و قل له:إذا كانوا قد قتلوا فأنا أحقّ بقتلهم،فأنفذهم إليّ لأقتلهم.
فمضيت،فأقام الرجل على الامتناع من تسليمهم،فعدت إلى عضد الدولة فأخبرته.
فاغتاظ من ذلك و أمرني أن أكسر الحبس و أجيئه بالأكراد،فامتثلت[أمره]، و أحضرتهم المضرب،و أعلمته.
فأمرني أن أمضي أنا و حاجب آخر من حجّابه-سمّاه-لنقتلهم.
فحملناهم إلى موضع،و أمرنا،فقتل منهم ثلاثة.
و قدّم الرابع فرماه ذلك الحاجب بخشت (1)كان في يده،فنبا عنه،و لم يعمل فيه،فتقدّم بشدّ عينيه،و ضرب رقبته بالسيف،فشددت عينيه بمنديل خاز (2)حضرهم في الحال.
فلمّا رفع السيّاف يده ليحطّها على المضرب،استرخى المنديل فوقع على المضرب فغطّاه.
فقال السيّاف:ارفعوا المنديل.
فأومأت بطرف عصا كانت في يدي-على رسم الحجّاب-لأزيل المنديل فيتمكّن السيّاف من الضربة،فإذا رسول عضد الدولة يسعى و يقول:لا تقتلوا القوم.
فتوقّفنا،و مضيت إلى حضرته،و عرّفته صورة من قتل و من بقي،و ما اتّفق
ص:404
في أمر الرجل،فتعجّب من أمره.
و أمر به،فأحضرته إليه،و كشف عن موضع الخشت حتى رآه،و كان في كتفه،فإذا هو قد انتفخ و اخضرّ،و لم يدخل في لحمه،فازداد تعجّبه، و أمر بإطلاقه،و أن يخلع عليه و على الجماعة،ففعل ذلك بهم (1).
ص:405
عبّاد المؤنّث يربح الرهان و يحيي نفسا ميّتة
حدّثني عثمان بن محمّد السلمي (1)،المعروف بأبي القاسم الأصفر،غلام أبي الحسن بن عبد السلام الهاشمي البصري،قال:
كان عندنا بالمربد،رجل[من خول محمّد بن سليمان الهاشمي] (2)،يدعى بعبّاد،و كان مؤنّثا (3)،و كان يحمل السلاح.
فاجتمع يوما مع قوم من الخول (4)على شراب لهم،فتجاذبوا حديث الشجاعة، فعابوه بما فيه من التأنيث،فخاطرهم (5)في شيء يعمله،مما يفرضون عليه،يبيّن به عن شجاعته.
فقالوا له:تخرج الساعة،بغير سلاح،إلى صهاريج الحجّاج،فتدخل منها في الصهريج الفلاني،و تسمّر في أرضه هذا الوتد،و تعود.
قال القاضي أبو علي،مؤلّف هذا الكتاب:و هذه الصهاريج على أكثر من فرسخ من البصرة،في البريّة،و قد شاهدتها،و هي موحشة المكان،خالية، يجتمع فيها الماء،كان الحجّاج قد عملها مادة لشرب أهل الموسم و القوافل،و من يرد من المسافرين.
نرجع إلى الخبر.
قال:فأخبرني عبّاد،قال:خرجت،و ليس معي إلاّ وتد و مطرقة،حتى بلغت الصهريج[206 ر]الذي خاطرت عليه،و كان أعظمها،و أوحشها.
ص:406
فدخلته،و كان جافّا،و جلست فضربت الوتد بالمطرقة في أرضه،فطنّ الصهريج،و سمعت صلصلة شديدة،و صوت[215 غ]سلسلة.
فقطعت الدقّ،فانقطع الصوت،و أعدت الدقّ،فعاد الصوت،و ظهرت حركة معه،و أنا ثابت القلب،أتأمّل،[و لا أرى شيئا من الظلمة.
إلى أن أحسست بالحركة و الصوت قد قربا منّي،فتأمّلت،] (1)فإذا بشخص لطيف،لا يشبه قدر خلقة الإنسان،فاستوحشت.
و ثبّت نفسي،و أنا أدقّ،و الشخص يقرب منّي،حتى و ثبت،و ألقيت نفسي عليه،و استوثقت منه.
فإذا هو قرد في عنقه سلسلة،فظننت أنّه قد أفلت من قرّاد،أو من قافلة فسحبته (2)،فلان في يدي،و أنس بي،فأخذته على يدي و ساعدي،و جئت أريد باب الصهريج.
فلمّا بلغته سمعت كلاما،فخشيت أن يكون بعض من يطلبني في العصبيّة هناك،فوقفت أستمع.
فإذا كلام امرأة مع رجل،و هي تقول له:يا فلان،ويحك،[أ تقتلني؟ أ تذبحني؟أتبلغ بي الموت؟ 6]اتّق اللّه فيّ.
و هو يقول:الذنب كلّه لك،و أنت أذنت لهم في أن يزوّجوك،و لو أبيت،ما قدر أبوك أن يزوّجك،و إنّما فعلته مللا بي،و أنا تالف،و أنت تتنعّمين،و اللّه لأذبحنّك،أستكتفي يا ابنة الفاعلة الصانعة (3).
قال:فنظرت،فإذا ظهره إلى باب الصهريج،فصحت عليه صيحة عظيمة،
ص:407
و ضربت قفاه بالقرد،ففزع القرد على نفسه،فقبض[213 م]على عنق الرجل، و تمكّن من ظهره.
فورد على الرجل ما حيّره،و أفزعه،و ذهب بعقله،فخرّ مغشيا عليه، و وقع السيف من يده،فأخذته،و رأيت الجحفة مطروحة،فأخذتها.
و قصدت الرجل،فثاب إليه عقله،و رمى بالقرد عن ظهره،و سعى هاربا.
فقصدت المرأة،و حللت كتافها،و قلت لها:ما قصّتك؟
قالت:أنا بنت فلان،و ذكرت رجلا من أهل المربد،و هذا ابن عمّي، و كان يعشقني،فخطبني من أبي،فامتنع من تزويجه بي،و زوّجني من رجل غريب،و دخل بي من شهور.
فلمّا كان أمس،خرجت أنا و جماعة من نساء الجيران،ننظر إلى الصحراء، وقت العصر.
و بلغه خبرنا،فكبسنا بالصحراء،و معه عدّة رجال بالسلاح،فأخذ كلّ رجل امرأة،و انفرد بها،و حملني هذا،إلى هذا الصهريج،ففجر بي طول الليل،فلمّا كان الآن عزم على قتلي،فأغاثني اللّه بك،و ما أعرف للنسوة الباقيات خبرا.
فقلت:إمشي،لا بأس عليك.
فمشت بين يديّ إلى أن دخلت البصرة،فدققت باب والدها.
فقال:من بالباب؟
فكلّمته،ففتح لها،فدخلت الدار.
و عدت إلى أصحابي،فحدّثتهم بالحديث،[و أريتهم القرد،و خرجنا من الغد،فرأوا الوتد،و جئت بهم إلى باب دار المرأة،فأريتهم إيّاه] (1)،و أخذت خطري.
ص:408
5 254 ابن جامع المغنّي يأخذ صوتا بثلاثة دراهم فيفيد منه ثلاثة آلاف دينار.
16 255 ابن هرمة يتحدّث عن أفضال عبد الواحد بن سليمان عليه
19 256 القائد هرثمة بن أعين يتحدّث عمّا أمره به الهادى في ليلة موته
23 257 دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد
28 258 زوّر مناما فجاء مطابقا للحقيقة
32 259 شرّ السلطان يدفع بالساعات
34 260 كيفيّة إغراء العمّال بأخذ المرافق
36 261 الصوفيّ المتوكّل و جام فالوذج حار
38 262 سخاء الأمير سيف الدولة
43 263 ألمعيّة المأمون و ذكاؤه
48 264 الحسين بن الضحّاك يعيش ببقايا هبات الأمين
51 265 من مكارم البرمكة
53 266 المأمون يهب أحد كتّابه اثني عشر ألف ألف درهم
56 267 ما بقي له غير درهمين ثم جاءه الفرج
58 268 سبب توبته من النبيذ
61 269 حلف بالطلاق لا يحضر دعوة و لا يشيّع جنازة
ص:409
67 270 ابن قمير الموصلي وقع في ورطة و تخلّص منها.
69 271 واسطيّ أتلف ماله و افتقر ثم صح حاله بعد أهوال
73 272 اللّجاج شؤم
77 273 ابن الجصّاص الجوهريّ يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد منها شيئا
79 274 الوزير ابن مقلة ينكب رجلا ثم يحسن إليه
82 275 ابن عبدون الانباري الكاتب يكسب في ليلة واحدة مائة ألف دينار
87 276 الفضل بن سهل و مسلم بن الوليد الأنصاري
89 277 كيف طهّر عثمان بن حيّان المرّي المدينة من الغناء
93 278 أضاع كيسه و استعاده بعد سنة
94 279 عبد اللّه بن الزبير يطالب بني هاشم بالبيعة أو يضرب أعناقهم
96 280 عاقبة الظلم
98 281 دواء عجيب وصفه الطبيب للكاتب زنجي
99 282 يا غياث المستغيثين أغثني
100 283 قصّة سلمة الانباري النصراني
117 284 ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان.
119 285 أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصر
124 286 غريب الدار ليس له صديق
126 287 عبد اللّه بن مالك الخزاعي يتسلّم كتابا من الرشيد
ص:410
يخبره بمقتل جعفر البرمكي
129 288 نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة
131 289 المعتد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه ثم يعفو عنه
133 290 مروءة عديّ بن الرقاع العاملي
135 291 غدّة كغدّة البعير و موت في بيت سلوليّة
139 292 خرج ليغير فوقع على زيد الخيل
143 293 منع اللّه سوّارا من الطعام و الشراب و جاء به حتى أقعده بين يديك
147 294 عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك
150 295 أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهم
151 296 الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه.
155 297 غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن ابن زائدة و ضربه مائة سوط
158 298 أمدح بيت قالته العرب
161 299 بين الأصمعي و البقّال الذي على باب الزقّاق
166 300 المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة
178 301 هل جزاء الإحسان إلاّ الاحسان
182 302 جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا
183 303 أخذ الصينيّة من لا يردّها و رآه من لا ينمّ عليه
185 304 سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمسمائة و خمسين دينارا
ص:411
193 305 السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني و عودته إلى الحكم
198 306 خلع الأمين و عودته إلى الحكم
199 307 كيف خلع المقتدر الخلع الأوّل
202 308 بعث الفضل بن سهل خدا بود لقتال خارجيّ فجاء برأسه
206 309 موت زياد يفرّج عن ابن أبي ليلى
211 310 خرج يريد خالدا القسري فأعطاه الحكم فأغناه
213 311 لا بارك اللّه في مال بعد عثمان
214 312 رفع صوته بالتلبية،فحملت إليه أربعة آلاف درهم
215 313 يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة و يولّيه العراق
216 314 كان خالد القسريّ لا يملك إلاّ ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراق
217 315 يهلك ملوكا و يستخلف آخرين
218 316 باع من إضاقته لجام دابته في الصباح و حصلت له عشرون ألف دينار وقت الظهر
221 317 سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوّق في قبح وجهك 223 318 المنصور العبّاسيّ يتذكّر ما ارتكب من العظائم فيبكي و ينتحب
227 319 إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
228 320 أبو عمر القاضي يصبح و ليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريب
ص:412
230 321 بين أحمد بن أبي خالد و صالح الأضجم
233 322 جنديّ تركيّ تشتدّ إضاقته ثم يأتيه الفرج
234 323 أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطّة
238 324 أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب له اللّه درّة بمائة و عشرين ألفا.
241 325 يحيى البرمكي يتحدّث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود
243 326 من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
259 327 قصّة أبي عبيد اللّه وزير المهديّ و كيف ارتقت به الحال حتى نال الوزارة
262 328 القاضي التّنوخي يتحدّث عن قصّته مع أبي علي أحمد ابن محمد الصولي
268 329 فرّ هاربا من الضائقة فوافاه الفرج في النهروان
273 330 خرج مملقا و عاد قائدا
274 331 عودة المرء سالما غنيمة حسنة
275 332 قضى اللّه للهبيريّ رزقا على يد ابن الزيّات فاستوفاه على رغم أنفه
281 333 تضايقي تنفرجي
283 334 من مكارم سعيد بن العاص أمير الكوفة
285 335 ألجأته الحاجة إلى بيع مقنعة أمّه ثم ملك مصر
287 336 أبى أن يعطيه دينارا ثم أعطاه ألفي دينار
ص:413
293 337 سافر إلى الموصل ثم إلى نصيبين في طلب التصرّف حتى إذا أيس جاءه الفرج
297 338 للذين أحسنوا الحسنى و زيادة
300 339 هاك يا هذا الذي لا أعرفه
302 340 أوّل دخول الأصمعيّ على الرشيد
306 341 قصّة حائك الكلام
314 342 أنا أبوك
321 343 سقط عليه حائط و نهض سالما
323 344 نفاه الواثق و أعاده المتوكّل
324 345 البحتري يهنّيء الفتح بن خاقان بنجاته من الغرق
الباب الثامن:فيمن أشفى على أن يقتل،فكان الخلاص من القتل إليه أعجل.
326 346 بدأ الهادي خلافته بتنحية الربيع عن الوزارة،و استيزار ابراهيم الحرّاني.
329 347 لما اعتقل ابراهيم بن المهدي حبسه المأمون عند أحمد ابن أبي خالد الأحول.
333 348 جيء بابراهيم بن المهدي و هو مذنب،و خرج و هو مثاب
334 359 قبض على ابراهيم بن المهدي و هو بزيّ امرأة
339 350 إنّ من أعظم المحنة أن تسبق أميّة هاشما إلى مكرمة
340 351 لما قدّم للقتل تماسك،فلما عفي عنه بكى
342 352 قال المأمون:لقد حبّب إليّ العفو حتى خفت أن لا أؤجر عليه
ص:414
345 353 اذا رميت أصابني سهمي
347 354 ابراهيم بن المهديّ يحتجّ لنفسه أمام المأمون
351 355 المأمون ينصب صاحب خبر على ابراهيم بن المهدي
355 356 ما بقاء جلدة يتنازعها ملكان
356 357 انظر كيف كانت عاقبة الظالمين
358 358 أمر الرشيد بأسيرين فقطعا عضوا عضوا ثم مات
369 359 من سقوط الخاتم من اليد إلى عودته إليها سبعون فرجا
371 360 هاجه الحسد و قتله الطمع
374 361 البغي مرتعه وخيم
378 362 ابو المغيرة الشاعر يروي خبرا ملفّقا
386 363 لا جزاك اللّه من طارق خيرا
389 364 من زرع الإثم حصد الدمار
393 365 و من يعمل مثقال ذرّة خيرا يره
399 366 الجناذيّة و البانوانيّة في الهند
403 367 عصبت عيناه و مدّ عنقه و رفع السيف على رأسه ثم نجا من القتل
406 368 عبّاد المؤنّث يربح الرهان و يحيي نفسا ميّتة
ص:415