عنوان و نام پديدآور: الفرج بعد الشده/محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
مشخصات نشر: بیروت- لبنان: دارصادر
مشخصات ظاهری: 5ج.
کد کنگره: PJA 3910 / ف 4
موضوع: تربیت اخلاقی-- جنبه های مذهبی -- اسلام
موضوع: تربیت اخلاقی -- جنبه های قرآنی
موضوع: نثر عربی - قرن 4ق.
موضوع: داستانهای عربی - قرن 4ق.
در كتاب به داستان هایى پرداخته شده كه موضوعش فرج بعد از شدت است و دعاهایى نيز در اين باب ذكر شده است.
ص :1
ص:2
الفرج بعد الشده
محسن بن علی التنوخی ؛ مصحح- شالجی، عبود
ص:3
ص:4
من قوّاد فلسطين (1)،قال:حدّثنا أبو عمر زياد بن طارق،قال:قال لي ابن الرماحي،و كانت قد أتت عليه عشرون و مائة سنة (2)،و هو يصعد يلقط التين، قال:سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي (3)،يقول:
أسرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم[يوم حنين و] (4)يوم هوازن (5)،و ذهب يفرّق السبي،فقمت،فأنشدته:[52 ر]
امنن علينا رسول اللّه في كرم فإنّك المرء نرجوه و ننتظر
امنن على بيضة،قد عاقها قدر مفرّق شملها،في دارها غير
أبقت لنا الحرب هيّافا (6)على حزن على قلوبهم الغمّاء و الغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها يا أرجح النّاس حلما حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها [إذ فوك يملؤه من محضها الدرر] (7)
[إذا أنت طفل صغير كنت ترضعها] 10 و إذ يريبك (8)ما تأتي و ما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته (9) و استبق منّا فإنّا معشر زهر
ص:6
إنّا لنشكر للنعماء إذ كفرت (1) و عندنا بعد هذا اليوم مدّخر
يا خير من مرحت كمت الجياد به عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه من امّهاتك إنّ العفو مشتهر
إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه هذي البريّة إذ تعفو و تنتصر
عفوا عفا اللّه عمّا أنت راهبه يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
قال:فلمّا سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذا الشعر،قال:ما كان لي و لبني عبد المطلب،فهو لكم.
فقالت قريش:ما كان لنا فهو للّه و لرسوله.
و قالت الأنصار:ما كان لنا فهو للّه و لرسوله.
فأطلقهم جميعا (2).
و حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن أحمد المعروف بالأثرم،المقرئ الخيّاط البغدادي،بالبصرة،قال:حدّثنا أبو عمر أحمد بن عبد الجبّار العطاردي (3)، قال:حدّثنا يونس بن بكير الشيباني (4)،عن محمّد بن إسحاق (5)،قال:
ص:7
حدّثني عمرو بن شعيب (1)،عن أبيه (2)،عن جدّه (3)،قال:
كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحنين،فلمّا أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم و سباياهم،أدركته هوازن بالجعرانة،و قد أسلموا.
فقالوا:يا رسول اللّه،لنا أهل و عشيرة،و قد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك،فامنن علينا منّ اللّه عليك.
و قام خطيبهم زهير بن صرد فقال:يا رسول اللّه،إنّ ما في الحظائر من النّساء،خالاتك،و عماتك،و حواضنك اللاّتي تكفّلنّك،و لو أنّا ما لحنا (4)ابن أبي شمر (5)،أو النّعمان بن المنذر (6)،ثمّ أصابنا مثل الّذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما،و عطفهما.و أنشد أبياتا قالها.
و ذكر من الأبيات ثمانية،فقال في الأوّل:و ندّخر (7)،و قال في الثّاني:
ممزّق،و قال في الثّالث:نهّافا (8)،و قال في السّادس:نعامتهم،و قال في السّابع:إنّا لنشكر آلاء و إن كفرت.
ص:8
و عبد اللّه بن المعتز (1)،فيحبسهم في دار 6،و يوكّل بهم،ففعل ذلك،و كانوا محبوسين خائفين،إلى أن قدم المكتفي 7بغداد فعرف خبرهم،فأمر بإطلاقهم، و وصل كلّ واحد منهم بألف دينار.
قال:فحدّثني عبد اللّه بن المعتز،قال:سهرت في الليلة الّتي في صبيحتها دخل المكتفي إلى بغداد 8،فلم أنم،خوفا على نفسي،و قلقا لوروده،فمرّت بي في السّحر طير،فصاحت،فتمنّيت أن أكون مخلّى مثلها،لما جرى عليّ من النّكبات 9.
ثمّ فكّرت في نعم اللّه تعالى عليّ،و ما خاره لي من الإسلام و القرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما أؤمّله من البقاء الدّائم في الآخرة[66 م] فقلت:
يا نفس صبرا لعلّ الخير عقباك خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرّت بنا سحرا طير فقلت لها: طوباك يا ليتني إيّاك طوباك
لكن هو الدّهر فالقيه على حذر فربّ مثلك ينزو تحت أشراك
ص:10
البحتري و أبو معشر يؤصّلان عند المعتزّ أصلا
حدّثني عليّ بن هشام بن عبد اللّه الكاتب (1)،قال:حدّثني أبو القاسم سليمان ابن الحسن بن مخلد (2)،قال:
لما أنفذ (3)أبي إلى مصر،اجتذبت أبا عبادة البحتري (4)،و أبا معشر المنجّم (5)،و كنت[93 غ]آنس بهما في وحدتي،و ملازمتي البيت،فكانا أكثر الأوقات عندي،يحادثاني و يعاشراني.
فحدّثاني يوما:إنّهما أضاقا إضاقة شديدة،و كانا مصطحبين،فعنّ (6)لهما أن يلقيا المعتزّ باللّه (7)،و هو محبوس،فيتودّدان إليه[66 ظ]و يؤصّلان
ص:11
عنده أصلا،فتوصّلا إليه،حتّى لقياه في حبسه.
قال البحتريّ:فأنشدته أبياتي الّتي كنت قلتها في محمّد بن يوسف الثغري (1)، [لما حبس] (2)،و خاطبت بها المعتزّ،كأنّي عملتها له في الحال،و هي:
جعلت فداك الدّهر ليس بمنفكّ من الحادث المشكو و النّازل المشكي (3)
و ما هذه الأيّام إلاّ منازل فمن منزل رحب و من منزل ضنّك
و قد هذّبتك الحادثات و إنّما
صفا الذّهب الإبريز قبلك بالسّبك (4)[53 ر]
أمّا في رسول اللّه يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم و الإفك
أقام جميل الصبر في السّجن برهة فآل به الصّبر الجميل إلى الملك
على أنّه قد ضيم في حبسك العلى و أصبح عزّ الدّين في قبضة الشرك (5)
ص:12
قال:فأخذ الرّقعة الّتي فيها الأبيات،فدفعها إلى خادم كان واقفا على رأسه،و قال له:احتفظ بهذه الرّقعة،فإن فرّج اللّه عنّي،فأذكرني بها، لأقضي حقّ هذا الرّجل الحرّ.
و قال لي أبو معشر:و قد كنت أنا أخذت مولده،و وقت عقد له العهد، و وقت عقدت البيعة للمستعين (1)بالخلافة،فنظرت في ذلك،و صحّحت الحكم للمعتزّ بالخلافة بعد فتنة تجري و حروب،و حكمت على المستعين بالقتل، فسلّمت ذلك إلى المعتز،و انصرفنا.
و ضرب الزّمان ضربه (2)،و صحّ الحكم بأسره.
قال أبو معشر:فدخلت أنا و البحتري جميعا إلى المعتزّ،و هو خليفة، بعد خلع المستعين (3)[و تغريقه] (4)،فقال لي:لم أنسك،و قد صحّ حكمك، و قد أجريت لك في كلّ شهر مائة دينار،و ثلاثين دينارا نزلا،و جعلتك رئيس المنجّمين في دار الخلافة،و أمرت لك عاجلا بإطلاق ألف دينار صلة، فقبضت ذلك كلّه في يومي.
ص:13
و قال لي البحتري:و تقدّمت أنا،فأنشدت المعتزّ قصيدة مدحته بها، و هنّأته بالخلافة،و هجوت المستعين،أوّلها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبه و يبعد عنّا في الهوى من نقاربه (1)
فلمّا بلغت فيها إلى قولي،[و المعتزّ يستمع] (2):
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره و كيف رأيت الظلم آلت عواقبه
و لم يكن المغترّ باللّه إذ سرى ليعجز و المعتزّ باللّه طالبه
رمى بالقضيب عنوة و هو صاغر و عرّي من برد النّبي مناكبه
و قد سرّني أن قيل وجّه غاديّا (3) إلى الشّرق تحدّى سفنه و ركائبه
إلى واسط حيث الدجاج و لم تكن لتنشب إلاّ في الدجاج مخالبه (4)
فاستعادني هذه الأبيات مرارا،فأعدتها عليه،فدعا الخادم الّذي كان معه في[94 غ]الحبس،و طلب منه الرّقعة الّتي كنت أنشدته الشّعر الّذي كان فيها،في حبسه،فأحضره إيّاها بعينها.
فقال:قد أمرت لك بكلّ بيت منها بألف دينار،و كانت ستّة أبيات، فأخذت ستّة آلاف دينار.
ثمّ قال لي:كأنّي بك،و قد بادرت،فاشتريت منها جارية،و غلاما، و فرسا،و أتلفت المال،لا تفعل،فإنّ لك فيما تستأنفه معنا من أيّامك،و مع
ص:14
وزرائنا و أسبابنا،إذا عرفوا موضعك عندنا،غناء عن ذلك،و لكن افعل بهذا المال كما فعل ابن قيس الرقيّات (1)بالمال الّذي أعطاه عبد اللّه بن جعفر،و اشترى به ضيعة،فاشتر أنت أيضا به ضيعة تنتفع[67 م]بغلّتها،و يبقى عليك و على ولدك أصلها.
فقلت:السّمع و الطّاعة،و خرجت فاشتريت بالمال ضيعة جليلة بمنبج (2)، ثم ارتفعت حالي معه و زادت (3).
ص:15
أبو سعيد الثغري يعتقل و يعذّب
قال مؤلّف هذا الكتاب:و للبحتري في هذه الأبيات الكافيّة،خبر آخر حسن،نذكره لأنّه أيضا يدخل في هذا الباب،أخبرني أبو بكر الصولي [إجازة،و نقلته من خطّه،قال:حدّثني أحمد بن إبراهيم القنوي،] (1)قال:
طولب أبو سعيد الثغري،بمال،بعد غزواته المشهورة،و سلّم إلى أبي الحسين النصراني الجهبذ[54 ر]ليستخرج منه المال،فجعل يعذّبه[67 ظ] فشقّ ذلك على المسلمين،و قالوا:يأخذ بثأر النصرانية.
فقال البحتري:
يا ضيعة الدنيا و ضيعة أهلها و المسلمين و ضيعة الإسلام
طلبت ذحول الشرك في دار الهدى بين المداد و ألسن الأقلام
هذا ابن يوسف في يدي أعدائه يجزى على الأيّام بالأيّام (2)
نامت بنو العبّاس عنه و لم تكن عنه أميّة-لو رعت-بنيام
فقرئ هذا الشّعر على المتوكّل،فأمر بإطلاق أبي سعيد،و توليته،[و أمر بإحضار قائل الأبيات،فأحضر] (3)البحتري،و اتّصل به،فكان أوّل شعر أنشده،قوله في أبي سعيد:
جعلت فداك الدّهر ليس بمنفكّ
[و ذكر الأبيات،إلاّ أنّه قال في البيت الثّالث،بدل الحادثات:النائبات،
ص:16
و قال في البيت الّذي أوّله:
على أنّه قد ضيم في حبسك العلى و أضحى بك الإسلام في قبضة الشّرك] (1)
ص:17
البحتري يهنّئ إبراهيم بن المدبّر
و من محاسن شعر البحتري الّذي يتعلّق بهذا الباب،و إن كان تعلّقا ضعيفا، [إلاّ أنّ الشيء بالشيء يذكر،و لا سيّما إذا قاربه] (1)،ما أخبرنيه الصولي، إجازة،قال:
ذكر إبراهيم بن المدبّر (2)،يوما،البحتري،فقال:ما رأيت أتمّ طبعا منه، و لا أحضر خاطرا،فقد مدحني حين تخلّصت من الأسر (3)،[يعني أسر صاحب الزنج بالبصرة] (4)و ذكر الضربة الّتي في وجهي (5)،و تخلّصي،و مدح المأسور شيء ما راعاه قبله أحد.
قال الصولي:و الأبيات من قصيدة أوّلها:
قد كان طيفك مرّة يغرى بي (6)
ص:18
قال فيها:
لو أنّه استام النّجاة لنفسه وجد النّجاة (1)رخيصة الأسباب
و مبينة شهد المنازل رسمها و الخيل تكبو في العجاج الكابي
كانت بوجهك دون عرضك درأة إنّ الوجوه تصان بالأحساب[95 غ]
و لئن أسرت فما الإسار على امرئ لم يأل صدقا في اللقاء بعاب (2)
نام المضلّل عن سراك و لم يخف حرس الرّقيب و قسوة البوّاب (3)
و رأى بأنّ الباب مذهبك الّذي يخشى و همّك كان غير الباب
[قال ذلك لأنّه نقب نقبا،و خرج منه.] (4)
فركبتها هولا متى تخبر بها يقل الجبان أنيت غير صواب
ما راعهم إلاّ امتراقك مصلتا عن مثل برد الأرقم المنساب
تحمي أغيلمة و طائشة الخطى تصل التلفّت خشية الطلاّب
[قال ذلك لأنّه أخرج معه من الحبس امرأة،و أخرج ابن أخيه] 10
ما زال يوم ندى بطولك زاهرا حتّى أضفت إليه يوم ضراب (5)
[ذكر من البأس استعدت إلى الّذي أعطيت في الأخلاق و الآداب
و روى غير الصولي،في البيت الّذي قبل هذا الآخر:
لم ترض يوم ندى بطولك...] 10
ص:19
يمنع ابن أبي سبرة علنا و يجيزه سرّا
[حدّثنا أحمد بن عبد اللّه الورّاق،من كتاب نسب قريش للزبير بن بكّار،قال:حدّثنا أحمد بن سليمان الطوسي،قال:حدّثنا الزّبير بن بكّار، قال:أخبرني عمّي مصعب بن عبد اللّه،و حدّثني سعيد بن عمرو،جاء بهما الزّبير خبرين مفردين فيهما تكرير و زيادة في أحدهما على الآخر،و أنا هنا أجمع بينهما،و أجعلهما سياقة واحدة،و أسقط التكرير،قال:] (1)
كان أبو بكر محمّد بن أبي سبرة[بن أبي ريم بن عبد العزّى بن أبي قيس ابن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن نصر بن مالك بن النضر بن كنانة] 1عاملا لرياح بن عثمان (2)،على مسعاة (3)أسد و طيّئ.
فلمّا خرج محمّد بن عبد اللّه بن الحسن[بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام] (4)جاء بما صدّق من المال إليه،و مبلغه أربعة و عشرون ألف دينار (5)،
ص:20
فدفع ذلك إليه،فكانت قوّة لمحمّد.
فلمّا قتل عيسى بن موسى (1)محمّدا بالمدينة،قيل لأبي بكر:اهرب،قال:
ليس مثلي يهرب،فأخذ أسيرا،فطرح في حبس المدينة،و لم يحدث عيسى بن موسى في أمره شيئا غير حبسه،فأمر المنصور بتقييده،فقيّد (2).
فقدم المدينة بعد ما شخص عيسى بن موسى،عبد اللّه بن الرّبيع المدني (3)و معه جند،فعاثوا في المدينة و أفسدوا (4)،فوثب عليه سودان المدينة و الرعاع، فقتلوا جنده،و طردوهم،و انتهبوهم،و انتهبوا عبد اللّه بن الرّبيع،فخرج حتّى نزل ببئر المطلب،يريد العراق،على خمسة أميال من المدينة (5).
و كبس السودان السجن،فأخرجوا أبا بكر.
و قال سعيد:فأخرج القرشيون أبا بكر،فحملوه على منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،فنهى عن معصية أمير المؤمنين،و حثّ على طاعته.
و قيل له:صلّ بالنّاس.
فقال:إنّ الأسير لا يؤمّ،و رجع إلى محبسه.
ص:21
فلمّا ولّى المنصور،جعفر بن[68 م]سليمان (1)،على المدينة،قال له:
بيننا و بين أبي بكر رحم،و قد أساء و أحسن،فإذا قدمت المدينة،فأطلقه، و أحسن جواره.
[و قال سعيد:فأمره بإطلاق ابن أبي سبرة[96 غ]،و أوصاه به، و قال:إن كان قد أساء فقد أحسن.] (2)
فأطلقه جعفر.
فسأل جعفر أن يكتب له بوصاة إلى معن بن زائدة[55 ر]،و هو إذ ذاك على اليمن،فكتب له بوصاة إليه.
فلقي الرابحي،فقال:هل لك في الخروج معي إلى العمرة؟
فقال:أما و اللّه،ما أخرجني من منزلي إلاّ طلب شيء لأهلي،فما تركت عندهم شيئا،فأمر له ابن أبي سبرة بنفقة[69 ظ]أنفذها إلى عياله (3)، و خرج معه.
فلمّا قضيا عمرتهما،قال للرابحي:هل لك أن نأتي معن بن زائدة؟
قال:نعم.
فأمر له بنفقة أنفذها إلى عياله،و أخرجه معه،حتى قدما على معن بن زائدة.
فدخل عليه ابن أبي سبرة وحده،فدفع إليه كتاب جعفر بالرّضا عنه، فلمّا قرأه،قال:كان جعفر أقدر على صلتك منّي،انصرف،فليس لك عندي شيء،فانصرف مغموما.
ص:22
فلمّا انتصف النهار،أرسل إليه،فجاءه،فقال له:يا ابن أبي سبرة ما حملك على أن قدمت عليّ،و أمير المؤمنين عليك واجد؟
ثم سأله:كم دينك؟
قال:أربعة آلاف دينار.
فأعطاه أربعة آلاف دينار،و أعطاه ألفي دينار أخرى،و قال:أصلح بهذه أمرك.
فانصرف إلى منزله،فأخبر الرابحي،بما صنع معن معه،فراح الرابحي إلى معن،فأنشده:
الرابحيّ يقول في مدح لأبي الوليد أخي النّدى الغمر
ملك بصنعاء الملوك له ما بين بيت اللّه و الشحر (1)
لو جاودته الرّيح مرسلة لجرى بجود فوق ما تجري
حملت به أمّ مباركة و كأنّها بالحمل لا تدري
فقال له معن:فكان ما ذا ويحك؟
فقال:
حتّى اذا ما تمّ تاسعها ولدته مولد ليلة القدر
[فقال له معن:ثمّ ما ذا ويحك؟] (2)
فقال:
فأتت به بيضا أسرّته يرجى لحمل نوائب الدّهر
ص:23
مسح القوابل وجهه فبدا كالبدر بل أبهى من البدر
فنذرن حين رأين غرّته إن عاش أن يوفين بالنّذر
للّه صوما شكر أنعمه و اللّه أهل الحمد و الشّكر
فقال له معن:ثمّ ما ذا؟
فقال:
فنشا بحمد اللّه حين نشا حسن المروءة نابه الذّكر
[فقال معن:ثمّ ما ذا؟] (1)
فقال:
حتّى إذا ما طرّ شاربه خضع الملوك لسيّد بهر (2)
فإذا و هى ثغر يقال له: يا معن أنت سداد ذا الثغر
فقال معن:أنا أبو الوليد،أعطوه ألف دينار.
فأخذها و رجع إلى ابن أبي سبرة،فخرجا جميعا إلى مكّة.
فقال ابن أبي سبرة:أمّا الأربعة آلاف دينار،فلقضاء ديني،و أمّا الألفان الفاضلة،فلك منها ألف.
قال الرّابحي:قد أعطاني ألف دينار،و هي تجزيني،فلا تضيّق على نفسك، في الألفي الدينار[97 غ].
فقال له:أقسمت عليك لتأخذنّها،فأخذها،و أنفق عليه،حتّى أتى المدينة.
و نمى الخبر إلى المنصور،فكتب إلى معن:ما حملك على أن أعطيت
ص:24
ابن أبي سبرة ما أعطيته،و قد علمت ما صنع؟
فكتب إليه معن:إنّ جعفر بن سليمان كتب إليّ يوصيني به،و لم أظنّ أنّ جعفرا يكتب في رجل لم يرض عنه أمير المؤمنين.
فكتب المنصور إلى جعفر،يبكّته بذلك.
فكتب إليه جعفر:أنت،يا أمير المؤمنين أوصيتني به،و لم يكن في استيصائي به شيء أيسر من كتاب وصاة إلى معن (1).
ص:25
الضياع،فأنفذ إليّ[69 م]من قيّدني،و أدخلت عليه في داره بسرّ من رأى، على تلك الحال،فإذا هو يطوف على صنّاع فيها.
فلمّا نظر إليّ شتمني،و قال:أخربت الضّياع،و نهبت الارتفاع،و اللّه لأقتلنّك،هاتوا السياط.
فأحضرت،و شلّحت للضرب (1).
فلمّا رأيت ذلك،ذهب عليّ أمري،و بلت على ساقي.
فرآني كاتبه،فقال لعجيف:أعزّ اللّه الأمير،أنت مشغول القلب بهذا البناء،و ضرب هذا و قتله في أيدينا،ليس يفوت،فتأمر بحبسه،و انظر في أمره،فإن كانت الرّفيعة (2)[69 ظ]صحيحة،فليس يفوتك عقابه،و إن كانت باطلة،لم تتعجّل الإثم،و تنقطع عمّا أنت مهتمّ[56 ر]به (3).
فأمر بي إلى الحبس،فمكثت فيه أيّاما.
ص:27
و غزا أمير المؤمنين المعتصم،عموريّة (1)،و كان من أمر عجيف ما كان (2)، فقتله،و اتّصل الخبر بكاتبه،فأطلقني.
فخرجت من الحبس،و ما أهتدي إلى حبّة فضة،فما فوقها.
فقصدت صاحب الدّيوان بسرّ من رأى،و كان صديقي،فلمّا رآني سرّ بإطلاقي و توجّع لي من سوء حالي،و عرض عليّ مالا.
فقلت:بل تتفضّل بتصريفي (3)في شيء أستتر بجاريه (4).
فقلّدني عملا بنواحي ديار ربيعة (5)،فاقترضت من التّجار لما سمعوا بخبر ولايتي،ما تحمّلت به إلى العمل،و خرجت.
و كان في ضياع عملي،ضيعة تعرف بكراثا (6)،فنزلت بها في بعض طوافي بالعمل،و حصلت في دار منها،فلمّا كان السّحر،وجدت المستحمّ (7)ضيّقا غير نظيف،فخرجت من الدّار إلى تلّ في الصّحراء،فجلست أبول عليه.
فخرج إليّ صاحب الدّار،فقال لي:أ تدري على أيّ شيء تبول؟
قلت:على تلّ تراب.
فضحك،و قال:هذا قبر رجل يعرف بعجيف،قائد من قوّاد السلطان، كان قد سخط عليه،و حمله معه مقيّدا،فلمّا بلغ إلى هاهنا قتل،فطرح في هذا المكان تحت حائط،فلمّا انصرف العسكر،طرحنا عليه الحائط،لنواريه من الكلاب،فهو-و اللّه-تحت هذا التلّ التّراب.
فعجبت من بولي خوفا منه،و من بولي على قبره.
ص:28
لقاء بين الجدّ الرّومي النصراني و الحفيد العربيّ المسلم
[و روى ابن دريد] (1)عن أبي حاتم،عن أبي معمّر،عن رجل من أهل الكوفة،قال:
كنّا مع مسلمة بن عبد الملك (2)،ببلاد الرّوم،فسبا سبايا كثيرة،و أقام ببعض المنازل،فعرض السبي على السيف،فقتل خلقا،حتّى عرض عليه شيخ كبير ضعيف،فأمر بقتله.
فقال له:ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي؟إن تركتني حيّا،جئتك بأسيرين من المسلمين شابّين.
قال له:و من لي بذلك؟
قال:إنّي إذا وعدت وفيت.
قال:لست أثق بك.
فقال له:دعني حتّى أطوف في عسكرك،لعلّي أعرف من يتكفّل[98 غ] بي إلى أن أمضي و أعود أجيء بالأسيرين.
فوكّل به من يطوف به،و أمره بالاحتفاظ به،فما زال الشّيخ يطوف، و يتصفّح الوجوه،حتّى مرّ بفتى من بني كلاب،قائما يحسّ فرسه (3).
ص:29
فقال له:يا فتى،اضمنّي للأمير،و قصّ عليه قصّته.
فقال له:أفعل،و جاء الفتى إلى مسلمة،فضمنه،فأطلقه مسلمة.
فلمّا مضى،قال للفتى:أتعرفه؟
قال:لا،و اللّه.
قال:فلم ضمنته؟
قال:رأيته يتصفّح الوجوه،فاختارني من بينهم،فكرهت أن أخلف ظنّه فيّ.
فلمّا كان من الغد،عاد الشيخ،و معه أسيران شابّان من المسلمين،فسلّمهما إلى مسلمة،و قال:إن رأى الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله.
فقال مسلمة للفتى الكلابي:إن شئت فامض معه.
فلمّا صار إلى حصنه،قال له:يا فتى،تعلم-و اللّه-أنّك ابني؟
قال له:و كيف أكون ابنك،و أنا رجل من العرب مسلم،و أنت رجل من الرّوم نصراني.
فقال له:أخبرني عن أمّك،ما هي؟
قال:روميّة.
قال:فإنّي أصفها لك،فباللّه إن صدقت،إلاّ صدقتني.
قال:أفعل.
فأقبل الرّومي،يصف أمّ الفتى،ما خرم من صفتها شيئا.
فقال له الفتى:هي كذلك،فكيف عرفت أنّي ابنها؟
قال:بالشبه،و تعارف الأرواح (1)،و صدق الفراسة.
ص:30
ثمّ أخرج إليه امرأة،فلمّا رآها الفتى لم يشكّ فيها أنّها[70 م]أمّه، لتقارب الشّبه،و خرجت معها عجوز كأنّها هي،فأقبلتا تقبّلان رأس الفتى، و يديه،و تترشّفانه.
فقال له:هذه جدّتك،و هذه خالتك.
ثمّ اطّلع من حصنه،فدعا بشباب في الصّحراء،فأقبلوا،فكلّمهم بالرّوميّة، فأقبلوا يقبّلون رأس الفتى و يديه،فقال:هؤلاء[70 ظ]أخوالك،و بنو خالاتك،و بنو عمّ والدتك.
ثمّ أخرج إليه حليا كثيرا،و ثيابا فاخرة،و قال:هذا لوالدتك عندنا منذ سبيت،فخذه معك،و ادفعه إليها،فإنّها ستعرفه،ثمّ أعطاه لنفسه مالا كثيرا،و ثيابا،و حليا،و حمله على عدّة دواب،و ألحقه بعسكر مسلمة، و انصرف.
و أقبل الفتى قافلا حتّى دخل إلى منزله[57 ر]فأقبل يخرج الشيء بعد الشيء ممّا عرّفه الشّيخ أنّه لأمّه،و تراه أمّه،فتبكي،فيقول لها:قد وهبته لك.
فلمّا كثّر عليها،قالت له:يا بنيّ،أسألك باللّه،من أي بلد صارت إليكم هذه الثّياب،و هل تصف لي أهل هذا الحصن الّذي كان فيه هذا؟
فوصف لها الفتى صفة البلد و الحصن،و وصف لها أمّها و أختها،و الرّجال الّذين رآهم،و هي تبكي و تقلق.
فقال لها:ما يبكيك؟
فقالت:الشّيخ و اللّه والدي،و العجوز أمّي.و تلك أختي.
فقصّ عليها الخبر،و أخرج بقيّة ما كان أنفذه معه أبوها إليها،فدفعه إليها.
ص:31
فحبسه،فاستغاث الرّجل بإسماعيل،فكلّم غير واحد من رؤساء البلد،أن يكلّم نزارا فيه،فتجنّبوا ذلك بسبب المذهب،فبات إسماعيل قلقا.
ثمّ بكر من غد،فطاف على كلّ معتزليّ بالبصرة،و قال[99 غ]لهم:
إن تمّ هذا عليكم هلكتم متفرّقين،و حبستم،و أتي على أموالكم و نفوسكم، فاقبلوا منّي،و اجتمعوا،و تدبّروا برأيي،فإنّ الرّجل يتخلّص و تعزّون.
فقالوا:لا نخالف عليك.
فوعدهم ليوم بعينه،و وعد معهم كلّ من يعرفه من العوام،و أصحاب المذاهب (1)ممّن يتّبع قصّاص المعتزلة،و من يميل إليهم.
فلمّا كان ذلك اليوم،اجتمع له منهم أكثر من ألف رجل،فصار بهم إلى نزار،و استأذن عليه،فأذن له و لهم.
فقال:أعزّ اللّه الأمير،بلغنا أنّك حبست فلانا،لأنّه قال:إنّ القرآن مخلوق (2)،و قد جئناك،و كلّنا نقول:إنّ القرآن مخلوق،و خلفنا ألوف يقولون كما نقول،فإمّا حبستنا جميعا،و إمّا أطلقت صاحبنا،و إذا كان السلطان-أطال اللّه بقاءه-قد ترك المحنة،و قد أقرّ النّاس على مذاهبهم،فلم نؤاخذ نحن بمذهبنا، من بين سائر المقالات؟
فنظر نزار فإذا فتنة تثور،لم يؤذن له فيها،و لم يدر ما تجرّ،فأطلق الرّجل، و سلّمه إليهم.
فشكره إسماعيل،و انصرف و الجماعة (3).
ص:33
شاميّ عظيم الجاه من بقايا بني أميّة
[وجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطبي،عن أبي أميّة الهشامي، عن أبي سليمان داود بن الفضل العبدي،قال:أخبرني أبي،عن محمّد بن الحسن بن بشر الأدمي،قال:حدّثني] (1)منارة،خادم الخلفاء (2)،قال:
رفع إلى هارون الرّشيد،أنّ رجلا بدمشق،من بقايا بني أميّة،عظيم الجاه واسع الدّنيا،كثير المال و الأملاك،مطاعا في البلد،له جماعة أولاد و مماليك و موالي،يركبون الخيل،و يحملون السّلاح،و يغزون الرّوم،و أنّه سمح جواد، كثير البذل و الضيافة،و أنّه لا يؤمن منه فتق لا يمكن رتقه،فعظم ذلك على الرّشيد.
قال منارة:و كان وقوف الرّشيد على هذا و هو بالكوفة،في بعض خرجاته إلى الحجّ سنة ست و ثمانين و مائة (3)،و قد عاد من الموسم،و قد بايع للأمين ثمّ المأمون ثمّ المؤتمن (4).
ص:34
فدعاني و هو خال،فقال لي:دعوتك لأمر أهمّني و قد منعني النوم، فانظر كيف تكون؟ثمّ قصّ عليّ خبر الأموي.
و قال:اخرج السّاعة،فقد أعددت لك الجمّازات (1)،و أزحت علّتك في الزاد و النّفقة و الآلات،و ضممت إليك مائة غلام،فاسلك البريّة،و هذا كتابي إلى أمير دمشق،و هذه قيود،فادخل،و ابدأ بالرجل[71 م]،فإن سمع و أطاع،فقيّده،و جئني به[71 ظ]و إلاّ فتوكّل به أنت و من معك
ص:35
حتّى لا يهرب،و أنفذ الكتاب إلى أمير دمشق،ليركب في جيشه فيقبض عليه، و تجيئني به،و قد أجّلتك لذهابك ستّا،و لعودك ستّا،و يوما لمقامك،و هذا محمل،تجعله-إذا قيّدته-في شقّه،و تجلس أنت في الشقّ الآخر،و لا تكل حفظه إلى غيرك،حتّى تأتيني به في اليوم الثّالث عشر من خروجك،و إذا دخلت داره فتفقّدها،و جميع ما فيها،و أهله،و ولده،و حاشيته،و غلمانه، و قدر النعمة،و الحال،و المحل،و احفظ[58 ر]ما يقوله الرّجل حرفا بحرف، بجميع ألفاظه،منذ وقوع طرفك عليه،إلى أن تأتيني به،و إيّاك أن يشذّ عليك شيء من أمره،انطلق مصاحبا.
قال منارة:فودّعته و خرجت،فركبنا الإبل،و طوينا المنازل،أسير اللّيل و النّهار،و لا أنزل إلاّ للجمع بين الصلاتين،و البول،و تنفيس النّاس قليلا.
إلى أن دخلت دمشق في أوّل اللّيلة السّابعة،و أبواب البلد مغلقة،فكرهت طرقها،فنمت بظاهر البلد،إلى أن فتح بابه في[100 غ]الغد،فدخلت على هيأتي،حتّى أتيت باب دار الرّجل،و عليه صفف (1)عظيمة،و حاشية كثيرة،فلم أستأذن،و دخلت بغير إذن.
فلمّا رأى القوم ذلك،سألوا بعض أصحابي عنّي،فقالوا لهم:هذا منارة، رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم،فأمسكوا.
فلمّا صرت في صحن الدّار،نزلت،و دخلت مجلسا،رأيت فيه قوما جلوسا،فظننت أنّ الرّجل فيهم،فقاموا إليّ،و رحّبوا بي،و أكرموني.
فقلت:أ فيكم فلان؟
قالوا:لا،نحن أولاده،و هو في الحمّام،
ص:36
فقلت:استعجلوه.
فمضى بعضهم يستعجله،و أنا أتفقّد الدّار،و الأحوال،و الحاشية، فوجدت الدّار قد ماجت بأهلها موجا شديدا.
فلم أزل كذلك،حتّى خرج الرّجل،بعد أن أطال،و استربت به، و اشتدّ قلقي و خوفي من أن يتوارى.
إلى أن رأيت شيخا قد أقبل بزيّ الحمّام،يمشي في الصّحن،و حوله جماعة كهول،و أحداث،و صبيان،هم أولاده،و غلمان كثيرة،فعلمت أنّه الرّجل.
فجاء حتّى جلس،و سلّم عليّ سلاما خفيفا،و سألني عن أمير المؤمنين، و استقامة أمر حضرته،فأخبرته بما وجب.
فما انقضى كلامه حتّى جاءوه بأطباق الفاكهة،فقال لي:تقدّم يا منارة فكل معنا.
فقلت:ما بي إلى ذلك حاجة.
فلم يعاودني،و أقبل يأكل هو و الحاضرون معه،ثمّ غسل يديه،و دعا بالطعام،فجاءوه بمائدة حسنة جميلة (1)،[لم أر مثلها إلاّ للخليفة] (2)،فقال:
تقدّم يا منارة فساعدنا على الأكل،لا يزيد على أن يدعوني باسمي،كما يدعوني الخليفة.
فامتنعت،فلم يعاودني،و أكل هو و أولاده،[و كانوا تسعة،عددتهم، و جماعة كثيرة من أصحابه،و حاشيته،و جماعة من أولاده و أولاد أولاده]2.
فتأمّلت أكله في نفسه،فرأيته أكل الملوك،و وجدت جأشه رابطا، و ذلك الاضطراب الّذي كان في داره قد سكن،و وجدته لا يرفع من بين يديه
ص:37
شيء،كان على المائدة،إلاّ وهب (1).
و قد كان غلمانه،لما نزلت الدّار،أخذوا جمالي،و جميع غلماني، فعدلوا بهم إلى دار له،فما أطاقوا ممانعتهم،و بقيت وحدي،ليس بين يديّ إلاّ خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي.
فقلت في نفسي:هذا جبّار عنيد،فإن امتنع عليّ من الشّخوص،لم أطق إشخاصه بنفسي،و لا بمن معي،و لا حفظه إلى أن يلحقني أمير البلد،و جزعت جزعا شديدا،و رابني منه استخفافه بي،و تهاونه بأمري،و أن يدعوني باسمي، و قلّة اكتراثه بامتناعي من الأكل و الشرب،و لا يسألني عمّا جئت له،و يأكل مطمئنّا.
و أنا أفكّر في ذلك،إذ فرغ من طعامه،و غسل يديه،و استدعى بالبخور، فتبخّر،و قام إلى الصّلاة،فصلّى الظهر صلاة حسنة،و أكثر من الدّعاء و الابتهال.
فلمّا انفتل من محرابه،أقبل عليّ،و قال:ما أقدمك يا منارة؟
فقلت:أمر لك من أمير المؤمنين،و أخرجت الكتاب،فدفعته إليه، ففضّه،و قرأه[72 ظ]،فلمّا استتمّ قراءته،دعا أولاده،و حاشيته،فاجتمعوا، فلم[72 م]أشكّ أنّه يريد أن يوقع بي.
فلمّا تكاملوا،ابتدأ فحلف أيمانا غليظة،فيها الطّلاق،و العتاق، [و الحجّ،و الصّدقة،و الوقف،و الحبس] (2)،إن اجتمع اثنان منهم في موضع، و أن يتفرّقوا،و يدخلوا منازلهم،و لا يظهر منهم أحد[101 غ]،إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه.
ص:38
ثمّ قال:هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه،و لست أقيم بعد نظري فيه لحظة واحدة:
و قال لغلمانه،و أولاده:[59 ر]استوصوا بمن ورائي من الحرم خيرا، و ما بي حاجة أن يصحبني غلام،هات أقيادك يا منارة.
فدعوت بها،و كانت في سفط،فأحضر حدّادا،و مدّ ساقيه،فقيّدته، و أمرت غلماني بحمله حتّى حصل في المحمل،و ركبت في الشقّ الآخر، و سرت من وقتي،و لم ألق أمير البلد،و لا غيره.
و سرت بالرّجل،ليس معه أحد،إلى أن صرنا بظاهر دمشق،فابتدأ يحدّثني بانبساط،حتّى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة،فقال:ترى هذا؟
فقلت:نعم.
قال:هو لي،و فيه من غرائب الأشجار كيت و كيت،ثمّ انتهى إلى آخر،فقال مثل ذلك،ثمّ انتهى إلى مزارع حسان،و قرى سريّة،فأقبل يقول:هذا لي،و يصف كلّ شيء فيها.
فاشتدّ غيظي منه،فقلت له:هل علمت أنّي شديد التعجّب منك؟
قال:و لم؟
قلت:أ لست تعلم أنّ أمير المؤمنين قد أهمّه أمرك،حتّى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك،و ولدك،و مالك،و أخرجك عن جميع حالك، وحيدا،فريدا،مقيّدا،لا تدري ما يصير إليه أمرك،و لا كيف تكون، و أنت مع هذا،فارغ القلب،تصف بساتينك و ضياعك،[هذا و قد رأيتك، و قد جئت،و أنت لا تعلم فيم جئت،و أنت]10 ساكن القلب،قليل الفكر، و قد كنت عندي شيخا عاقلا.
فقال مجيبا لي:إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،أخطأت فراستي فيك يا منارة، قدّرتك رجلا كامل العقل،و أنّك ما حللت من الخلفاء هذا المحلّ،إلاّ بعد أن
ص:39
عرفوك بذلك،فإذا عقلك و كلامك يشبه كلام العوام و عقلهم،فاللّه المستعان.
أمّا قولك في أمير المؤمنين،و إزعاجه لي من داري،و إخراجه إيّاي إلى بابه على هذه الصّورة،فأنا على ثقة باللّه عزّ و جلّ،الّذي بيده ناصية أمير المؤمنين، فلا يملك معه لنفسه،و لا لغيره،ضرّا و لا نفعا،إلاّ بإذن اللّه و مشيئته،و لا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه،و بعد،فإذا عرف أمير المؤمنين أمري،و علم سلامة جانبي،و صلاح ناحيتي،و أنّ الأعداء و الحسدة،رموني عنده بما لست في طريقه،و تقوّلوا عليّ الأباطيل الكاذبة،لم يستحلّ دمي،و تحرّج من أذاي و إزعاجي،فردّني مكرّما،أو أقامني ببابه معظّما،و إن كان سبق في قضاء اللّه تعالى،أنّه يبدر إليّ ببادرة سوء،و قد حضر أجلي،و حان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة و الأنبياء و أهل السماوات و الأرض،على صرف ذلك عنّي،ما استطاعوا،فلم أ تعجّل الهمّ،و أتسلّف الفكرة و الغمّ،فيما قد فرغ اللّه منه،و أنا حسن الظنّ باللّه الّذي خلق و رزق،و أحيا و أمات[و فطر و جبل، و أحسن و أجمل،و أين الصّبر و الرّضا،و التفويض و التّسليم إلى من يملك الدّنيا و الآخرة]10 و كنت أحسب أنّك تعرف هذا،فإذ قد عرفت مبلغ فهمك،فإنّي لا أكلّمك بكلمة،حتّى تفرّق بيننا حضرة أمير المؤمنين.
ثمّ أعرض عنّي،فما سمعت له لفظة بغير القرآن و التسبيح،أو طلب ماء أو حاجة تجري مجراه،حتّى شارفنا الكوفة في اليوم الثّالث عشر بعد الظّهر، فإذا النّجب (1)قد استقبلتنا على فراسخ (2)من الكوفة،يتجسّسون خبري.
ص:40
فلمّا رأوني رجعوا بخبري إلى أمير المؤمنين،فانتهيت إلى الباب آخر النّهار، فدخلت على الرّشيد،فقبّلت[102 غ]الأرض،و وقفت بين يديه.
فقال:هات ما عندك،و إيّاك أن تغفل منه لفظة واحدة.
فسقت[73 ظ]إليه الحديث من أوّله،حتّى انتهيت إلى ذكر الفاكهة و الطّعام و الغسل و الطهور و البخور[73 م]،و ما حدّثت به نفسي من امتناعه منّي،و الغضب يظهر في وجهه و يتزايد،حتّى انتهيت إلى فراغ الأمويّ من الصّلاة،و انفتاله،و سؤاله عن سبب مقدمي،و دفعي الكتاب إليه،و مبادرته إلى إحضار ولده و أسبابه،و يمينه أن لا يتبعه أحد منهم،و صرفه إيّاهم،و مدّ رجليه حتّى قيّدته،فما زال[60 ر]وجه الرّشيد يسفر.
فلمّا انتهيت إلى ما خاطبني به في المحمل،عند توبيخي إيّاه،قال:
صدق و اللّه،ما هذا إلاّ رجل محسود على النّعمة،مكذوب عليه،و لقد آذيناه، و لعمري لقد أزعجناه،و روّعناه،و روّعنا أهله،فبادر بنزع قيوده عنه،و ائتني به.
فخرجت،فنزعت قيوده،و أدخلته على الرّشيد،فما هو إلاّ أن رآه،حتّى رأيت ماء الحياء يدور في وجه الرّشيد،و دنا الأمويّ،فسلّم بالخلافة،و وقف، فردّ عليه الرّشيد ردّا جميلا،و أمره بالجلوس،فجلس.
و أقبل عليه الرّشيد،ثم قال له:إنّه بلغنا عنك فضل همّة،و أمور،أحببنا معها أن نراك،و نسمع كلامك،و نحسن إليك،فاذكر حوائجك.
فأجاب الأموي جوابا جميلا،و شكر،و دعا ثمّ قال:أمّا حاجتي، [فما لي إلاّ حاجة]10 واحدة.
فقال:مقضيّة،فما هي؟
قال:يا أمير المؤمنين،تردّني إلى بلدي،و أهلي،و ولدي.
فقال:نحن نفعل ذلك،و لكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك و معاشك،فإنّ مثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا.
ص:41
فقال:عمّال أمير المؤمنين منصفون،و قد استغنيت بعدله عن مسألته، و أموري منتظمة،و أحوالي مستقيمة،و كذلك أمور أهل بلدي[بالعدل الشّامل في دولة أمير المؤمنين]10.
فقال له الرّشيد:انصرف محفوظا إلى بلدك،و اكتب إلينا بأمر إن عرض لك،فودّعه الأموي.
فلمّا ولّى خارجا،قال لي الرّشيد:يا منارة،احمله من وقتك،و سر به راجعا كما أتيت به،حتّى إذا أوصلته إلى المجلس الّذي أخذته منه،فارجع و خلّه.
ففعلت ذلك (1).
ص:42
ابن الفرات يتحدّث عن اعتقاله و تعذيبه
حدّثني عليّ بن هشام بن عبد اللّه الكاتب،و يعرف هشام بأبي قيراط،قال:
كنت حاضرا مع أبي رحمه اللّه،في مجلس أبي الحسن بن الفرات،في شهر ربيع الأوّل سنة خمس و ثلاثمائة،في وزارته الثانية (1)،فسمعته يتحدّث،قال:
دخل عليّ أبو الهيثم العبّاس بن محمّد بن ثوابة الأنباري (2)،في محبسي بدار المقتدر (3)،فطالبني بكتب خطّي بثلاثة عشر ألف ألف دينار.
فقلت:و اللّه،ما جرى قدر هذا المال،على يدي للسلطان،في طول وزارتي،فكيف أصادر على مثله؟
فقال:قد حلفت بالطّلاق أنّه لا بدّ من أنّك تكتب خطّك بذلك، فكتبت ثلاثة عشر ألف ألف،من غير ما أذكر ما هي،أو ضمانا فيها.
ص:43
قال:فاكتب دينارا،لتبريني من يميني.
فكتبت دينارا،ثمّ ضربت عليه،و أكلت الرّقعة،و قلت له:قد برئت من يمينك،و لا سبيل لك إلى غير هذا منّي.
فاجتهد بي،فلم أجبه إلى شيء،فحبسني.
فلمّا كان من[103 غ]الغد،دخل إلى الحبس،و معه أمّ موسى (1)، فطالبني بذلك،و أسرف في سبّي و شتمي،و رماني بالزّنا.
فحلفت بالطّلاق،و العتاق،و الأيمان المغلظة،أنّي ما دخلت في محظور من هذا الجنس،من نيّف و ثلاثين سنة،و سمته أن يحلف بمثل تلك اليمين أنّ غلامه القائم على رأسه،لم يأته في ليلته تلك (2)،فأنكرت أمّ موسى هذا الحال، و غطّت وجهها حياء منه.
ص:44
فقال ابن ثوابة (1):إنّ هذا إنّما تبطره الأموال الّتي وراءه،و مثله في ذلك، كمثل المزيّن (2)مع كسرى،و الحجّام مع الحجّاج،فتستأمرين السّادة،في إنزال المكروه به،حتّى يذعن بالأموال.
قال أبو الحسين:و يعني بالسّادة:المقتدر،و والدته (3)،و خالته (4)[74 م]
ص:45
خاطف،و دستنبويه (1)أمّ ولد المعتضد،لأنّهم كانوا-إذ ذاك-يدبّرون الأمور، لحداثة سنّ المقتدر (2).
قال ابن الفرات:فمضت أمّ موسى،ثمّ عادت،فقالت لابن ثوابة:
السّادة يقولون لك:صدقت فيما ذكرت،و يدك مطلقة فيه.
و كنت في دار ضيّقة،في حرّ شديد[74 ظ]فأمر بكشف البواري (3)حتّى صرت في الشّمس،و نحّي الحصير من تحتي،و أغلق أبواب البيوت، حتّى حصلت في الصّحن (4)،ثمّ قيّدني بقيد ثقيل،و ألبسني جبّة صوف قد نقعت في ماء الأكارع (5)،و غلّني بغلّ (6)،و أقفل باب الحجرة و انصرف،فأشرفت على التّلف.
و عدّدت على نفسي ذنوبي،فوجدتني قد عوملت بما عاملت به النّاس، من المصادرة،و نهب المنازل،و قبض الضياع،و تسليم النّاس إلى أعدائهم، و حبسهم،و تقييدهم،و إلباسهم جباب الصّوف،و هتك حريمهم،و إقامتهم في الشّموس،و إفرادهم في الحبوس.
ثمّ قلت:ما غللت أحدا،فكيف غللت؟
ثمّ تذكّرت أنّ النرسي (7)،كاتب الطائي (8)،كان سلّمه إليّ عبيد اللّه بن
ص:46
سليمان (1)،لمال عليه،فسلّمته إلى الحسن،المعروف بالمعلوف،المستخرج، و كان عسوفا،و أمرته بتقييده،و تعذيبه،و مطالبته بمال ذكرته له،فألطّ به، فأمرت به أن يغلّ،ثم تحوّبت بعد أن غلّ مقدار ساعتين من النّهار،فأمرت بأخذ الغلّ عنه.
فلمّا جازت السّاعتان،تذكّرت شيئا آخر،و هو أنّه لما قرب سبكرى (2)من الجبل (3)،مع رسول صاحب خراسان (4)،مأسورا،[61 ر]كتبت إلى بعض عمّال المشرق (5)،بمطالبته بأمواله و ودائعه،فكتب إليّ بإلطاطه،فكتبت
ص:47
بأن يغلّ،و كنت أتغدّى،فلمّا غسلت يدي،تندّمت،و تحوّبت،فكتبت بأن يحلّ الغلّ عنه إن كان قد غلّ،فوصّل الكتاب الأوّل فغلّ،و وصل الكتاب الثّاني بعد ساعتين،فحلّ عنه،على ما كتبت به.
فلمّا مضت أربع ساعات،إذا بصوت غلمان مجتازين في الممرّ الّذي فيه الحجرة الّتي أنا محبوس فيها،فقال لي الخدم الموكّلون بي:هذا بدر الحرمي (1)و هو لك صنيعة.
فاستغثت به،و صحت:يا أبا الخير،اللّه،اللّه،فيّ،لي عليك حقوق، و قد ترى حالي،و الموت أسهل ممّا أنا فيه،فتخاطب السّادة في أمري،و تذكّرهم حرمتي،و خدمتي في تثبيت دولتهم،إذ خذلهم النّاس (2)،و افتتاحي البلدان المنغلقة (3)و إثارتي الأموال المنكسرة،فإن كان ذنبي يوجب القتل،فالسّيف أروح لي،فرجع،فدخل إليهم،فخاطبهم و رقّقهم،و لم يبرح حتّى أمروا بأخذ حديدي،و إدخالي الحمّام،و أخذ شعري (4)،و تغيير لباسي،و تسليمي إلى زيدان (5)،و ترفيهي.
ص:48
فجاءني بذلك،و قال[104 غ]:يقولون لك،لن ترى بعدها بأسا، و أقمت عند زيدان،إلى أن رددت إلى هذا المجلس (1).
ص:49
الكراع،في الدوابّ ما دون الكعب،و في الإنسان،ما دون الركبة من مقدّم الساق، و يطلق الكراع كذلك،على مستدقّ الساق من ذوات الظلف،و في بغداد،يكنّون عن النساء،بقولهم:أمّهات كراع،و ربما كان ذلك،لدقّة ساق المرأة و رقّته،و ماء الكراع:
الماء الذي يطبخ به الكراع،و هو طعام يستطيبه العرب قديما و حديثا،و قد روي عن النبيّ صلوات اللّه عليه،أنّه قال:لو دعيت إلى كراع لأجبت،و الكراع يؤكل في جميع البلاد العربية،و يسمّى في مصر:كوارع،و في الشام:مقادم،و في لبنان:غمّي،محرّف:
غنمة،بالإمالة،و أمّا في بغداد،فيسمّى:پاچه،بالباء و الجيم الفارسيتين،و الكلمة فارسية،بمعنى كراع الماشية(المعجم الذهبي)،و البغداديون يتأنّقون في صنع الپاچه، و هي عندهم تشتمل على الكراع،و الرأس،و اللسان،و الكرش،و هم يقطّعون الكرش قطعا،و يحشون كلّ قطعة بمخلوط من الأرز و اللحم و اللوز و التوابل،ثم يخيطونها، و يسمّونها:كيبايات،مفردها:كيباية،و في بغداد دكاكين عديدة،عمل أصحابها مقصور على صنع الپاچه،و يسمّى صاحبها:پاچه چي،و چي،فارسيّة تفيد النسبة، و يقصد الناس هذه الدكاكين،و يأكلون الپاچه في داخل الدكان،و قد استعدّ صاحبه لذلك،بمناضد،و صواني،و صحون،و كراسي،و مغاسل،و مناديل،و المتعارف أن يكون بجانب كلّ پاچه چي،طرشچي،أي بائع الطرشي،و الطرشي،هو الكبيس، أصل الكلمة فارسيّة،ترش بمعنى الحامض،أو ما فيه خل،و إذا طلب القاصد الپاچه، أحضر له الطرشچي المجاور،كأسا من الطرشي،يشتمل على أنواع الكبيس،كالشلغم (اللفت)،و الباذنجان،و الخيار،و ثوم العجم،و أنواع أخرى يطول ذكرها،و أهل الكرخ من بغداد،أكثر رغبة في الباچة،و إقبالا عليها،و كان في الكرخ عدد كبير من الپاچچية،أشهرهم:ابن طوبان،و بجواره طرشچي،يعرف بحنانش،و كان الناس يقصدونهما من أطراف بغداد،و في السنة 1929-1930،عند ما كنت كاتبا في مجلس النّواب العراقي،و كان المجلس في جانب الكرخ،في البناء الذي شاده مدحت باشا رحمه اللّه،على شاطئ دجلة،و اتّخذه مستشفى،كنت أنا و أصحابي من الكتّاب، مولعين بپاچة ابن طوبان،و طرشي حنانش،أمّا في أيّامنا هذه فقد انتقل سوق الپاچة، إلى جانب الرصافة،فاتّخذ لها أصحابها دكاكين في منطقة الشيخ عمر،و ضعفت شهرة ابن طوبان،و حنانش،و جميع پاچچية الكرخ.
ص:50
كتاب ابن ثوابة باستيزار ابن الفرات
[و حدّثني أبو محمّد القاسم بن هشام بن أبي قيراط،أنّ أباه حدّثه،أنّه سمع أبا الحسن بن الفرات.....فذكر نحو هذا الحديث،إلاّ أنّه زاد] (1):
أنّ ابن الفرات لما خرج من هذه الشّدائد الهائلة،إلى الوزارة الثّانية،أمر أبا الحسن محمّد بن جعفر بن ثوابة،صاحب ديوان الرّسائل (2)،أن يكتب عن المقتدر باللّه،إلى أصحاب الأطراف،بردّه إيّاه إلى الوزارة،فكتب إلى جميعهم كتابا[بنسخة واحدة،سمعت أبي و غيره من مشايخ الكتاب-إذ ذاك- يقولون:إنّهم] (3)ما سمعوا في معناه أحسن منه،فأعطانيه أبي،و أمرني بحفظه، و تلاه عليّ القاسم،فحفظت منه فصلا،و هو:
لما لم يجد أمير المؤمنين بدّا منه،و لم يكن بالملك غنى عنه،انتضاه أمير المؤمنين من غمده،فعاود ما عرف من حدّه،و دبّر الأمور كأن لم يخل منها، و أمضاها كأن لم يزل عنها،إذ كان الحوّل القلّب،المحنّك المدرّب،العالم بدرّة المال كيف تحلب،و وجوهه من أين[75 م]تطلب،و كان الكتّاب على اختلاف طبقاتهم،و تباين مرتباتهم،يقفون عنده إذا استبقوا،و ينتهون إليه إذا احتكموا،و كان هذا الاسم حقّا من حقوقه،استعير منه،ثمّ ردّ إليه.
ص:51
و أجلسوا القاهر،و حصّلوا المقتدر في دار مؤنس (1)،كسرت الحبوس،و نهب بعض دار المقتدر،فأفلت عليّ بن عيسى من الموضع الّذي كان فيه محبوسا، فخرج،فاستتر تلك الأيّام الثّلاثة الّتي كان فيها المقتدر محبوسا عند مؤنس (2)، و القاهر متّسم (3)بالخلافة.
فلمّا جاءت الرّجالة،بغير مراسلة من المقتدر لهم،و لا حيلة منه في أمر نفسه،و إنّما كان بصنع طريف،و سوء تدبير نازوك في خطابهم بما كرهوا، فثاروا،و قتلوا أبا الهيجاء،و نازوك،و كبسوا دار[75 ظ]مؤنس،و أخذوا المقتدر من يده،و أعادوه للخلافة،و ردّوا القاهر إلى دار ابن طاهر (4)،و ظهر ابن مقلة،و كان وزير المقتدر،و كان قد استتر.
ص:53
[قال:فحدّثني أبو عبد اللّه محمّد بن عبدوس الجهشياري،و أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل زنجي الكاتب،و أبو الحسين محمّد بن عبد الرّحمن الروذباري، صاحب الفضل بن جعفر،قالوا:كنّا] (1)في دار مؤنس،و النّاس يهنّونه،و عليّ ابن عيسى مستتر،فلم يشعر إلاّ و قد جاء عليّ بن عيسى بطيلسان (2)،و أحفى المسألة (3)أن يردّ إلى الحبس،خوفا من عواقب الاستتار،و أن يولّد عليه أكثر من الحبس.
فتلقّاه مؤنس أحسن لقاء و أجمله،و استصوب رأيه في الظّهور،و راسل
ص:54
المقتدر في الحال،فعاد الجواب من المقتدر،بأجمل قول و أحسنه،و أنّه قد ردّ إلى عليّ بن عيسى الإشراف على ابن مقلة،و الاجتماع معه على سائر أمور المملكة،و أمر أن يصل بوصوله (1)،و أن لا ينفرد ابن مقلة بتدبير أمر دونه، و أفرد عليّ بن عيسى بالمظالم،من غير أن يكون لابن مقلة فيها نظر.
فقال له مؤنس:ليس يجوز مع هذا أن تلبس الطيلسان،و عليك أن تتلقّى هذا[105 غ]الإنعام بالشّكر.
فانصرف عليّ بن عيسى،و عاد عشيّا و عليه درّاعة (2)،و جلس في دار مؤنس،منتظرا مجيء الوزير ابن مقلة،إلى أن جاء،فاجتمعا يتفاوضان في أمور الأموال و الأعمال.
فقال له ابن مقلة:إنّ أبا بكر محمّد بن عليّ المادرائيّ (3)يطيعك،و هو من أكبر صنائعك،فاكتب إليه،بحمل مال.
فقال عليّ بن عيسى:إنّ مصر مع الاضطراب الواقع،ستفور نارا، لكثرة الجيش بها،و عظم مال صلة البيعة،و الوجه أن يكتب الوزير أعزّه اللّه.
فقال مؤنس لابن مقلة:افعل ما أشار به أبو الحسن.
ص:55
فقال:لا يحسن أن أكتب في شيء من هذا،و هذا الشّيخ حاضر.
فقال أبو الحسن:فأنا أكتب بخطّي عنك،إلى محمّد بن عليّ،فإنّك أنت الوزير،و كلّنا أعوانك و أتباعك،فسرّ بذلك ابن مقلة جدّا،و صارت له عند النّاس جميعا منزلة.
و دعا عليّ بن عيسى بثلث قرطاس،و كتب فيه،في الحال،بغير نسخة، كتابا نسخته:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،أعزّك اللّه،و أطال بقاك،و أكرمك،و أتمّ نعمته عليك،و زاد في إحسانه إليك،قد عوّد اللّه أمير المؤمنين-أطال اللّه بقاءه-في تصاريف أحواله،و معقبات أعماله،و عند الخطوب إذا ألمّت، و الحوادث إذا أظلّت،أن لا يخليه من نظر يتيحه له،و نعم يجدّدها عنده، و منح يضاعفها لديه،لما يعرفه[76 م]من صفاء نيّته،و خلوص طويّته، و حسن سريرته،لسائر رعيّته،عادة في الصّلاح و الإصلاح،هو-عزّ و جلّ- متمّمها،و موزع الشّكر عليها،و كان جماعة من الأولياء،و جمهور الرّجال و الأصفياء،عدلوا عن طريق السّلامة،و زالوا عن مذهب الاستقامة،و حادّوا (1)ما توالى عليهم من النّعمة،و وصل إليهم من الإحسان في طول المدّة،و حملهم الحين المتاح لأمثالهم،و ما قرّب اللّه من آجالهم،[على الخروج عن مدينة السّلام،بغير تدبير و لا نظام]9،و المطالبة بما لا يستحقّون من الأرزاق،على سبيل السطوة و الاقتدار،غير مفكّرين في ذميم المذاهب،و وخيم العواقب، متردّدين في بغيهم،متسكّعين في جهلهم و غيّهم،و أمير المؤمنين-أدام اللّه عزّه-يعدهم بنظره الّذي لا يخلفه،و العطاء الّذي لا يؤخّره،و يتوخّاهم بالموعظة الحسنة،و ينهاهم عن الأفعال القبيحة المنكرة،و هم يأبون ما يدعوهم
ص:56
إليه،و يسرفون في التحكّم و البغي عليه،إلى أن أدّاهم الجهل و الطغيان، و التمرّد و العصيان،إلى إحضارهم دار المملكة من لقّبوه بالخلافة يوما واحدا، ثمّ صرف عنها،و أمير المؤمنين-أيّده اللّه تعالى-يعمل فكره و رويّته في حلّ نظامهم،و حسم موادّ اجتماعهم،و تشتيت كلمتهم،و تفريق جماعتهم، حتّى يتمكّن منهم تمكنّا يفتّ في أعضادهم،و يوهن من عنادهم،ثمّ يعفو عمّن يرى العفو عنه،و يوقع القصّاص على من يوجب الحقّ القصّاص منه، فلم تكن إلاّ وقعة من الوقعات،و ساعة من السّاعات،حتّى أخلف اللّه آمالهم، و أكذب أطماعهم[76 ظ]و بدّد شملهم،و خيّب سعيهم،و أكبى زندهم، و انفضّوا بعد أن استلحم (1)من كان مضرما للفتنة،و ملهبا للنائرة (2)،و عاد أمير المؤمنين-أيّده اللّه-على الباقين بالصّفح الشّامل،و الإنعام الكامل، و تغمّد هفوتهم،و أقال عثرتهم،و أحسن صلتهم،و استأنف أفضل[106 غ] الأحوال بهم،و عادت الأمور كما كانت،و تكشّفت الخطوب و زالت، و خلصت النيّات و صلحت،و هدأت الرعيّة و سكنت،و قد تكفّل اللّه-عزّ و جلّ-بنصر أمير المؤمنين،و تشييد أركان عزّه،و اللّه يحقّ الحقّ،و يبطل الباطل،و لو كره المجرمون،فأجر أعمالك-أعزّك اللّه-على أجمل ما تجريها عليه،و أحسن سيرتك فيها،مستعملا فيها أجدّ الجدّ،و أبلغ التشمير،حتّى تسهل صعابها،و تدرّ أحلابها،و تجري على أحسن مجاريها،و أجمل تأتّيها، و احذر أن ترخّص لنفسك في تأخير الحمل،فتخرج إلى التأنيب و العذل، و بادر الجواب عن هذا الكتاب،لأعرضه على أمير المؤمنين-أطال اللّه بقاءه-
ص:57
فإنّه يتوكّفه (1)،و يراعيه،و يتشوّفه (2)،و الدعاء له (3)،و كتب يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم سنة سبع عشرة و ثلاثمائة.
كانت دار مؤنس على شاطئ دجلة،مجاورة لدار الخلافة(رسوم دار الخلافة 136) و كان الجسر بحضرتها(المنتظم 171/7)و كانت بسوق الثلاثاء(المنتظم 206/6 و التكملة 110)و هو سوق البزّازين(معجم البلدان 193/3)و من دار مؤنس اقتطعت المدرسة النظامية(التكملة 148)و كانت في آخر سوق الثلاثاء(ابن بطوطة 175)و اقتطعت كذلك المدرسة المستنصرية،و كانت في آخر سوق الثلاثاء(ابن بطوطة 175)،و يبدو من هذه الدلالات أنّ دار مؤنس كانت واقعة على دجلة شمالي دار الخلافة،يفصلها عنها السوق الذي ينزل من دجلة من قهوة الشطّ مارّا بخان دلّة و الممتد إلى الشورجة،أمّا طرفها الثاني فقد كان مطلاّ على الجسر،و قد كان في موضعه الذي هو فيه الآن،و لا يستغرب أن تكون دار مؤنس بهذه السعة،فقد كان القائد العام للجيش،و كانت سلطته تزيد على سلطة الخليفة،و كانت داره تشتمل على كتّابه و عمّاله و حرسه و غلمانه مع دوابهم و ما يقتضي إعداده لإيوائهم و إطعامهم،و أصبحت هذه الدار من بعد مقتل مؤنس،مقرا للحكّام المتسلّطين على بغداد،فنزلها ابن رائق لمّا أصبح أميرا للأمراء في السنة 324،و نزلها من بعده بحكم في السنة 326(التكملة 110)و نزلها من بعدهما أبو الحسين البريدي لمّا استولى على بغداد في السنة 330 في عهد المتّقي(التكملة 127)كما نزلها توزون لمّا نصب أميرا للأمراء في السنة 331(التكملة 134)و أقام بها من بعده سيف الدّولة الحمداني في السنة 331(التكملة 134)و أقام بها كذلك معزّ الدّولة البويهي لمّا استولى على بغداد في السنة 334
ص:58
(التكملة 148)إلى أن بنى داره بالشمّاسية فانتقل إليها في السنة 350 قبل أن يتمّ بناءها (تجارب الأمم 183/2 و التكملة 179)،و بعد أن تركها معزّ الدّولة،أصبحت مقرا للأمراء من أولاده(التكملة 214)،إنّ المدرسة المستنصرية ما تزال ماثلة تحدّد لنا الجانب الشمالي من دار مؤنس،أمّا المدرسة النظامية و سوقها الملاصق لها،فيبدو أنّها كانت على قطعة الأرض المستطيلة المنتظمة التي يحدّها من الشرق سوق الجوخجية(باعة الجوخ)و من الغرب سوق المصبغة،و من الشمال:سوق اليمنجيّة،و هم صنّاع الأحذية الحمراء الصرّارة المسمّاة باليمنيّات،مفردها:يمني،و من الجنوب:السوق النازل من دجلة،من قهوة الشطّ،مارا بخان دلّة،و الممتد إلى سوق العطّارين،و على هذا فإنّ المدرسة النظامية التي كانت الأمثال تضرب بحسنها(ابن بطوطة 175)لم يبق منها الآن إلاّ قطعة صغيرة من الأرض،بين الدكاكين،لعلّها لا تزيد في المساحة على حجرة واحدة من حجراتها الماضية، اتّخذت كتّابا للصبيان،كان فيه مؤدّب يعلّمهم الكتابة و قراءة القرآن اسمه الملاّ أحمد، لم أدركه،و أدركت ولده الملاّ إبراهيم،توفّي،و خلفه أخوه الملاّ مسلم،و لمّا مات أغلق بابها،و ظلّت سنين مهجورة،ثم أقدم بعض البزّازين من أصحاب الدكاكين المحيطة بهذه القطعة،ففتحوا بابها،و رمّوا شعثها،و فرشوها بالحصر و البواري،و جهّزوها بالماء و النور، و اتّخذوها مصلّى لأهل سوقهم.
أقول:ورد في البحث ذكر سوق اليمنجية:نسبة إلى اليمني،و هو حذاء أحمر صرّار، ينسب إلى اليمن،معروف من القديم بهذا الاسم،و قد أدركت هذا السوق،و جميع دكاكينه عامرة ببائعي هذا الصنف من الأحذية،أمّا الآن فقد انقرض هذا الصنف، و لم يبق من بائعيه أحد،و حلّ محلهم في السوق الخيّاطون و السقطيون،و لمحمّد بن دانيال الموصلي في وصف اليمني(فوات الوفيات 384/2):
من اليمنيّات التي حرّ وجهها يفوق صقالا صفحة الصارم الهندي
و من عجبي أنّي إذا ما وطئتها تئنّ أنينا دونه أنّه الوجد
و لم أر وجها قبلها كلّ ساعة على الترب ألقاها معفّرة الخدّ
ص:59
من مكارم القاضي أحمد بن أبي دؤاد
أخبرني محمّد بن الحسن،قال:أخبرني أبو بكر الصولي،قال:حدّثنا محمّد بن القاسم بن خلاد (1)،قال:
رفع بعض العمّال إلى المعتصم،و كان يلي الخراج بموضع يلي فيه خالد بن يزيد (2)الحرب،أنّ خالد بن يزيد اقتطع الأموال و احتجن بعضها.
فغضب المعتصم،و حلف ليأخذنّ أموال خالد،و يعاقبه.
ص:60
فلجأ خالد إلى أحمد بن أبي دؤاد القاضي (1)[138 م]،فاحتال حتّى جمع بينه و بين خصمه،فلم تقم على خالد حجّة.
فعرّف ابن أبي دؤاد المعتصم ذلك،و شفع إليه في خالد،فلم يشفّعه.
و أحضر خالدا،و أحضر آلات العقوبة،و قد كان قبل ذلك،قبض أمواله،و ضياعه،و صرفه عن العمل.
و حضر ابن أبي دؤاد المجلس،فجلس دون النّاس.
فقال له المعتصم:ارتفع إلى مكانك.
فقال:يا أمير المؤمنين،ما أستحقّ إلاّ دون هذا المجلس.
قال:و كيف؟
قال:النّاس يزعمون أنّ ليس محلّي محلّ من شفع في رجل قرف بما لم يصحّ عليه فلم يشفّع.
قال:ارتفع إلى موضعك.
قال:مشفّعا أو غير مشفّع؟
ص:61
قال:مشفّعا،قد وهبت لك خالدا،و رضيت عنه.
قال:النّاس لا يعلمون بهذا.
قال:و قد رددت عليه العمالة،و الضياع،و الأموال الّتي له.
قال:و يشرّفه أمير المؤمنين بخلع تظهر للعامّة.
فأمر أن تفكّ قيوده و يخلع عليه،ففعل به ذلك،و ردّ إلى حضرته.
فقال ابن أبي دؤاد:قد استحقّ هو و أصحابه رزق ستّة أشهر،فإن رأى أمير المؤمنين،أن يجعلها صلة له.
قال:لتحمل معه.
فخرج خالد،و النّاس منتظرون الإيقاع به،فلمّا رأوه على تلك الحال، سرّوا،و صاح به رجل:الحمد للّه على خلاصك يا سيّد العرب.
فقال:مه،سيّد العرب-و اللّه-ابن أبي دؤاد،[الّذي طوّقني هذه المكرمة الّتي لا تنفكّ من عنقي أبدا] (1)لا أنا.
و في هذه القضيّة،يقول أبو تمّام الطائي:
يا سائلي عن خالد و فعاله ردّ فاغترف علما بغير رشاء
قد كان خطب عاثر فأقاله رأي الخليفة كوكب الخلفاء
فخرجت منه كالشّهاب و لم تزل مذ كنت خرّاجا من الغمّاء[175 ظ]
ما سرّني بخروجه من حجّة ما بين أندلس إلى صنعاء (2)
ص:62
حدّثني عليّ بن هشام،قال:سمعت أبا الحسن عليّ بن عيسى،يتحدّث، قال:سمعت عبيد اللّه بن سليمان بن وهب،يقول:حدّثني أبي،قال:
كنت و أبو العبّاس أحمد بن الخصيب،مع خلق من العمّال و الكتّاب.
معتقلين في يدي محمّد بن عبد الملك الزيّات،في آخر وزارته للواثق،نطالب ببقايا مصادراتنا (1)،و نحن آيس ما كنّا من الفرج،إذ اشتدّت علّة الواثق، و حجب ستّة أيّام عن النّاس،فدخل عليه أبو عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد القاضي.
فقال له الواثق:يا أبا عبد اللّه-و كان يكنّيه-ذهبت منّي الدنيا و الآخرة.
قال:كلاّ يا أمير المؤمنين.
قال:بلى،أمّا الدّنيا،فقد ذهبت منّي بما ترى من حضور الموت[77 م] و ذهبت منّي الآخرة،بما اسلفت من عمل القبيح،فهل عندك من دواء؟.
قال:نعم يا أمير المؤمنين،قد غرّك محمّد بن عبد الملك الزيّات في الكتّاب و العمّال،و ملأ بهم الحبوس،و لم يحصل من جهتهم على كبير شيء،و هم عدد كثير،و وراءهم ألف يد ترفع إلى اللّه تعالى بالدّعاء عليك،فتأمر بإطلاقهم، لترتفع تلك الأيدي بالدعاء لك،فلعلّ اللّه أن يهبّ لك العافية،و على كلّ حال،فأنت محتاج الى أن تقلّ خصومك.
فقال:نعم ما أشرت به،وقّع عنّي إليه بإطلاقهم.
فقال:إن رأى خطّي،عاند و لجّ،و لكن يغتنم أمير المؤمنين الثواب، و يتساند،و يحمل على نفسه،و يوقّع بخطّه.
ص:63
فوقّع الواثق،بخطّ مضطرب إلى ابن الزيّات بإطلاقهم،و إطلاق كلّ من في الحبوس،من غير استئمار و لا مراجعة.
فقال ابن أبي دؤاد:يتقدّم أمير المؤمنين إلى إيتاخ (1)أن يمضي بالتوقيع، و لا يدعه يعمل شيئا،أو يطلقهم،و أن يحول بينه و بين الوصول إليك،أو كتب رقعة،أو اشتغاله بشيء البتّة،إلاّ بعد إطلاقهم،و إن لقيه في الطّريق أنزله عن دابّته،و أجلسه على غاشيته (2)في الطّريق،حتّى يفرغ من ذلك.
فتوجّه إيتاخ،فلقي ابن الزيّات راكبا يريد دار الخليفة.
فقال له:تنزل عن دابّتك،و تجلس على غاشيتك.
فارتاع و ظنّ أنّه قد وقع به الحال،فنزل،و جلس على غاشيته،فأوصل إليه التوقيع،فامتنع،و قال:إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال،و أقيم الأنزال (3)؟
فقال له:لا بدّ من ذلك.
فقال:أركب إليه و أستأذنه.
فقال:ما إلى ذلك سبيل.
قال:فدعني أكاتبه.
قال:و لا هذا.
قال:فما تركه يبرح من موضعه،حتّى وقّع بإطلاق النّاس.
فصار إيتاخ إلينا،و نحن في الحبس،آيس ما كنّا من الفرج،و قد بلغنا شدّة علّة الواثق،و أن قد أرجف لابنه بالخلافة،و كان صبيّا،فخفنا أن يتمّ
ص:64
[107 غ]ذلك،فيجعل ابن الزيّات الصبيّ[77 ظ]شبحا،و يتولّى التدبير فيتلفنا،و قد امتنعنا لفرط الغمّ من الأكل.
فلمّا دخل علينا إيتاخ،لم نشكّ أنّه قد حضر لبلّية،فأطلقنا،و عرّفنا الصّورة،فدعونا للخليفة،و لأحمد بن أبي دؤاد،و انصرفنا إلى منازلنا لحظة، ثمّ خرجنا فوقفنا لأبي عبد اللّه بن أبي دؤاد على الطريق،ننتظر عوده من دار الخليفة عشيّا.
فحين رأيناه ترجّلنا له،فقال:لا تفعلوا،و أكبر ذلك،و منعنا من الترجّل، فلم نمتنع،و دعونا له و شكرناه.
فوقف حتّى ركبنا و سايرناه،و أخذ يخبرنا بالخبر،و نحن نشكره،و هو يستصغر ما فعل،و يقول:هذا أقلّ حقوقكم،و كان الّذي لقيه أنا و أحمد بن الخصيب.
و قال لنا:ستعلمان ما أفعله مستأنفا.
ثمّ رجع ابن أبي دؤاد إلى دار الخليفة عشيّا،فقال له الواثق:قد تبرّكت برأيك يا أبا عبد اللّه،و وجدت خفّة من العلّة،و نشطت للأكل،فأكلت وزن خمسة دراهم (1)خبزا بصدر درّاج (2).
فقال له أبو عبد اللّه:يا أمير المؤمنين،تلك الأيدي الّتي كانت تدعو عليك غدوة،صارت تدعو لك عشيّة،و يدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيّتك،
ص:65
إلاّ أنّهم قد صاروا إلى دور خراب،و أحوال قبيحة،بلا فرش،و لا كسوة، و لا دواب،و لا ضياع،موتى جوعا و هزالا.
قال:فما ترى؟
قال:في الخزائن و الاصطبلات بقايا ما أخذ منهم،فلو أمرت أن ينظر في ذلك،فكلّ من وجد له شيء باق من هذا ردّ عليه،و أطلقت لهم ضياعهم، لعاشوا،و خفّ الألم (1)،و تضاعف الدّعاء،و قويت العافية.
قال:فوقّع عنّي بذلك،فوقّع عنه أحمد بن أبي دؤاد.
فما شعرنا من الغد،إلاّ و قد[78 م]رجعت علينا نعمتنا،و مات الواثق بعد ثلاثة أيّام.
و فرّج اللّه عنّا بابن أبي دؤاد،و بقيت له هذه المكرمة العظيمة في اعناقنا (2).
[و قد ذكر محمّد بن عبدوس،هذا الخبر،في كتاب الوزراء،عن محمّد بن داود بن الجرّاح،عن عبيد اللّه بن سليمان،بما يقرب من هذه الالفاظ،و المعنى واحد،إلاّ أنّه لم يذكر أنّه كان معهم في الحبس أحمد بن الخصيب.] (3)
حدّثني أبي رضي اللّه عنه،في المذاكرة،بإسناد لست أقوم عليه،لأنّي لم أكتبه في الحال،قال:
كان ابتداء العداوة بين أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد،و بين الأفشين،
ص:66
أنّ الأفشين (1)كان أغرى المعتصم بأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي (2)،لعداوة كانت بينهما (3)،فسلّمه إليه المعتصم،فأجمع على قتله من يومه ذاك.
و بلغ الخبر أبا دلف،فارتحل إلى ابن أبي دؤاد،فاستجار به،و عرّفه ما قد أشرف عليه.
فجاء ابن أبي دؤاد إلى المعتصم ليسأله عن أمره،فوجده نائما،فكره أن
ص:67
يقيمه و ينبّهه،و خاف أن يشرع الأفشين في قتل أبي دلف،فجاء إلى الأفشين فقال له:يقول لك أمير المؤمنين،بلّغني أنّك تريد أن تحدث على القاسم بن عيسى حادثة،و و اللّه لئن فعلت لأقتلنّك،و لم يكن المعتصم أرسله،و لا قال له شيئا [40 ن].
فرهب الأفشين أن يقتل أبا دلف.
و عاد ابن أبي دؤاد إلى المعتصم،فقال له:يا أمير المؤمنين،قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:ليس الكذّاب من أصلح بين النّاس،فقال خيرا، و منّى خيرا،و قد أدّيت عنك رسالة أحييت بها أهل بيت من المسلمين،و كففت بها أسياف خلق من العرب،بلغني أنّ الأفشين عزم على قتل القاسم بن عيسى العجلي،فأدّيت إليه عنك رسالة هي كذا و كذا،فحقنت دم الرّجل،و نعشت عياله،و كففت عنك عصيان عجل و من يتبعها ممّن يتعصّب له فيتّفق عليك من ذلك ما تغتمّ به،و الرّجل في يده مشف على القتل.
فقال له المعتصم:قد أحسنت.
و وجّه الأفشين إلى ابن أبي دؤاد:لا تأتينّي،و لا تقربنّي.
فقال للرّسول:أ تؤدّي عنّي كما أدّيت إليّ؟
قال:قل.
قال:قل له:ما آتيك تعزّزا من ذلّة،و لا تكثّرا من قلّة،و إنّما أنت رجل ساعدك زمان،و رفعك سلطان،فإن جئتك فله،و إن تأخّرت عنك فلنفسك.
أخبرني القاضي أبو طالب محمّد بن إسحاق بن البهلول التنّوخي،فيما أجاز لي روايته عنه،بعد ما سمعته منه،قال:حدّثنا محمّد بن خلف، وكيع القاضي،قال:أخبرنا موسى بن جعفر،أخو يعس (1)الكاتب،قال:
ص:68
كان أحمد بن أبي دؤاد حين ولي المعتصم الخلافة،عادى الأفشين و حرّض عليه المعتصم،و ذكر حديثا طويلا،ليس هذا موضعه.
ثمّ قال فيه:و كان سبب العداوة بين أحمد بن أبي دؤاد،و بين الأفشين، أنّ الأفشين أراد قتل أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي،فاستجار بابن أبي دؤاد، ثمّ ذكر نحوا مما ذكرته عن أبي رضي اللّه عنه،إلاّ أنّه لم يقل في خبره أنّ ابن أبي دؤاد جاء إلى المعتصم فوجده نائما،ثمّ عاد فوجده قد انتبه،و قال في آخر حديثه:و إنّما أنت رجل رفعتك دولة،فإن جئت فلها،و إن قعدت فعنك.
و أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،قال:قال أحمد بن أبي طاهر:
كان أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي،في جملة من كان مع الأفشين خيذر بن كاوس لما خرج لمحاربة بابك،ثمّ تنكّر له،فوجّه من جاءه به ليقتله.
و بلغ المعتصم الخبر،فبعث إليه بأحمد بن أبي دؤاد،و قال له:أدركه،و ما أراك تدركه،و احتل في خلاصه منه كيف شئت.
قال أحمد:فمضيت ركضا،حتّى وافيته،فإذا أبو دلف واقف بين يديه،و قد أخذ بيده غلامان له تركيان،فرميت بنفسي على البساط،و كنت إذا جئته دعا لي بمصلّى.
فقال:سبحان اللّه،ما حملك على هذا؟
قلت:أنت أجلستني هذا المجلس،ثمّ كلّمته في القاسم بن عيسى، و سألته فيه،و خضعت له،فجعل لا يزداد إلاّ غلظة.
فلمّا رأيت ذلك منه،قلت،هذا عبد،و قد أغرقت في الرقّة معه فلم تنفع،و ليس إلاّ أخذه بالرهبة.
فقمت،و قلت:كم تراك قدّرت في نفسك تقتل أولياء أمير المؤمنين واحدا بعد واحد،و تخالف أمره في قائد بعد قائد؟قد حملت إليك هذه الرّسالة عن
ص:69
أمير المؤمنين،فما تقول؟
فقلّ،و ذلّ،حتّى لصق بالأرض،و بان لي الاضطراب فيه.
فلمّا رأيت ذلك،نهضت إلى أبي دلف،فأخذت بيده،و قلت:قد أخذته بأمر أمير المؤمنين.
فقال:لا تفعل،يا أبا عبد اللّه.
فقلت:قد فعلت،و أخرجت القاسم،و حملته على دابّة،و وافيت المعتصم.
فلمّا بصر بي،قال:بك يا أبا عبد اللّه وريت زنادي،ثمّ سرد عليّ خبري مع الأفشين،حديثا ما أخطأ فيه حرفا.
ثمّ سألني:هل هو كما قال؟فاخبرته أنّه لم يخطئ حرفا واحدا.
و أخبرني أبو علي محمّد بن الحسن بن المظفّر،المعروف بالحاتميّ،قال:
حدّثني أبي،قال:حدّثني جدّك المظفّر بن الحسن،قال:حدّثني أبو العباس ابن الفرات قال:حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن ثوابة،قال:
كان الأفشين نقم على أبي دلف العجلي،و هو مضموم إليه في حرب بابك،أشياء،فلمّا ظفر ببابك،و قدم سرّ من رأى،شكاه إلى المعتصم، و سأله ليأمره به (1)،ففعل،ثم سأله أن يطلق يده عليه،فلم يفعل (2)،و كان أحمد بن أبي دؤاد متعصّبا لأبي دلف،يقول للمعتصم:إنّ الأفشين ظالم له، و إنّما نقم عليه نصيحته في محاربة بابك،و جدّه فيها،و دفعه ما كان الأفشين يذهب إليه من مطاولة الأيّام،و إنفاق الأموال،و انبساط اليد في الأعمال، و تركه متابعته على ذلك،
فألحّ الأفشين على المعتصم باللّه في إطلاق يده عليه،و كان للأفشين قدر جليل عند المعتصم،يدخل عليه بغير إذن.
ص:70
قال أبو إسحاق،و أنبأنا أبو عبد اللّه بن أبي دؤاد،قال:دخلت على المعتصم يوما،فقال:يا أبا عبد اللّه،لم يدعني اليوم أبو الحسن الأفشين حتّى أطلقت يده على القاسم بن عيسى.
فقمت من بين يديه،و ما أبصر شيئا خوفا على أبي دلف،و دخلني أمر عظيم،و خرجت فركبت دابّتي،و سرت أشدّ سير من الجوسق إلى دار الأفشين بقرب المطيرة،أؤمّل أن أدرك أبا دلف قبل أن يحدث الأفشين عليه حادثة.
فلمّا وقفت ببابه،كرهت أن أستأذن فيعلم أنّي قد حضرت بسبب أبي دلف،فيعجّل عليه،فدخلت على دابتي إلى الموضع الّذي كنت أنزل فيه، و أوهمت حاجبه أنّي قد جئت برسالة المعتصم،ثمّ نزلت،فرفع الستر،فدخلت، فوجدت الأفشين في موضعه،و أبو دلف مقيّد بالحديد بين يديه في نطع، و هو يقرّعه،و يخاطبه بأشدّ غضب و أعظم مخاطبة.
فحين قربت منه أمسك،فسلّمت،و أخذت مجلسي،ثمّ قلت للأفشين:
قد عرفت حرمتي بأمير المؤمنين،و خدمتي إيّاه،و موضعي عنده،و موقعي من رأيه، و تفرّده بالصنيعة عندي و الإحسان،و علمت مع ذلك ميلي إليك،و محبّتي لك،و قد رغبت إليك فيما يرغب فيه مثلي إلى مثلك،ممّن رفع اللّه قدره، و أجلّ خطره،و أعلى همّته.
فقال:كلّ ما قلت كما قلت،و كلّ ما أردت فهو مبذول لك،خلا هذا الجالس،فإنّي لا أشفّعك فيه.
فقلت:ما جئتك[41 ن]إلاّ في أمره،و لا ألتمس منك غيره،و لو لا شدّة غضبك،و ما تتوعّده به من القتل،لكان في جميل عفوك ما يغني عن كلامك،و لكنّي لما عرفت غيظك،و ما تنقمه عليه،احتجت-مع موقعه منّي-إلى كلمة في أمره،و استيهاب عظيم جرمه،إذ كان مثلك في جلالتك إنّما يسأل جلائل الامور.
ص:71
فقال:يا أبا عبد اللّه،هذا رجل طلب دمي،و لم تقنعه إزالة نعمتي، و لا سبيل إلى تشفيعك فيه،و لكن هذا بيت مالي،و هذه ضياعي،و كلّ ما أملك بين يديك،فخذ من ذلك كلّه ما أردت.
فقلت:بارك اللّه لك في أموالك و ثمّرها،لم آتك في هذا،و إنّما أتيتك في مكرمة يبقى لك فضلها،و حسن أحدوثتها،و تعتقد بها منّة في عنقي، و لا أزال مرتهنا في شكرها.
فقال:ما عندي في هذا شيء البتّة.
فقلت له:القاسم بن عيسى فارس العرب و شريفها،فاستبقه،و أنعم عليه، فإن لم تره لهذا أهلا،فهبه للعرب كلّها،و أنت تعلم أنّ ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك العرب،و من ذلك ما كان من كسرى إلى النّعمان حتّى ملّكه، و أنت الآن بقيّة العجم و شريفها،و القاسم شريف العرب،فكن اليوم شريفا من العجم أنعم على شريف من العرب،و عفا عنه.
فقال:ما عندي في هذا جواب إلاّ ما سمعت،و تنكّر،و تبيّنت الشرّ في وجهه.
فقلت في نفسي:أنصرف،و أدع هذا يقتل أبا دلف؟لا و اللّه،و لكن أمثل بين يديه قائما،و أكلّمه،فلعله أن يستحي،فقمت،و توهّمني أريد الانصراف،فتحفّز لي.
فقلت:لست أريد الانصراف،و إنّما مثلت بين يديك قائما،صابرا، راغبا،ضارعا،سائلا،مستوهبا هذا الرّجل منك.
فكان جوابه أغلظ.
فتحيّرت،و قلت في نفسي:أنكبّ على رأسه،فأقبّله.فدخلني من
ص:72
ذلك أنف شديد (1)،و قلت في نفسي:أقبّل رأس هذا الأقلف (2)؟لا يكون هذا أبدا.
ثمّ راجعتني الشّفقة على أبي دلف،فقبّلت رأسه،و ضرعت إليه،فلم يجبني،فأخذني ما قدم و ما حدث.
فجلست،و قلت له:يا أبا الحسن،قد طلبت منك،و ضرعت إليك، و وضعت خدّي لك،و مثلت بين يديك،و قبّلت رأسك،فشفّعني،و اصرفني شاكرا،فهو أجمل بك.
فقال:لا و اللّه،ما عندي غير الّذي قلته لك.
فقلت له:أنا رسول أمير المؤمنين إليك،و هو يقول لك:لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثا،فإنّك إن قتلته قتلت به.
قال:أمير المؤمنين يقول هذا بعد أن أطلق يدي عليه؟
قلت:نعم،أنا رسوله إليك بما قلته لك،فإن كنت في الطّاعة فاسمع و أطع،و إن كنت قد خلعت،فقل:لا طاعة،و نفضت في وجهه يدي، و نهضت.
فاضطرب حتّى لم يقدر أن يدعو لي بدابّتي.
و ركبت،فأغذذت السير إلى المعتصم،لأخبره الخبر،و بما اضطررت إليه من تأدية رسالته،لأنّي علمت أنّه لم يقل لي ما قاله،إلاّ و هو يحبّ استبقاء أبي دلف.
فانتهيت إلى الجوسق في وقت حار،و الحجّاب جميعا نيام،و الدّار خالية، فدخلت حتّى انتهيت إلى ستر الدّار الّتي فيها المعتصم،فجلست،و قلت:
ص:73
إن جاء الأفشين دخلت معه و تكلّمت،و إن سأل الوصول،أخبرت أمير المؤمنين الخبر كلّه.
فبينا أنا كذلك،إذ خرج خادم من وراء الستر،فعرّفته،ثمّ دخل و خرج فقال:ادخل.
فدخلت،و قلت:يا أمير المؤمنين،أ ما لي حرمة؟أ ما لي ذمام؟أ ما لي حقّ؟أ ما في فضل أمير المؤمنين عليّ،و نعمته عندي،ما تجب رعايته؟
فقال:ما لك يا أبا عبد اللّه؟ما قصّتك؟اجلس،فجلست.
ثمّ قلت:يا أمير المؤمنين،قلت لي اليوم في القاسم بن عيسى قولا علمت معه أنّك أردت استبقاءه و حقن دمه،فمضيت من فوري إلى أبي الحسن الأفشين، ثمّ قصصت عليه القصّة إلى موضع الرّسالة الّتي أدّيتها عنه إليه،و هو في كلّ ذلك يتغيّظ،و يفتل سباله (1)،حتّى إذا أردت أن اعرّفه الرّسالة الّتي أدّيتها عنه، قطع،و قال:يمضي قاضيّ،و صنيعتي أحمد بن أبي دؤاد إلى خيذر،فيخضع له،و يقف بين يديه،و يقبّل رأسه،فلا يشفّعه؟قتلني اللّه إن لم أقتله،يكرّرها.
فما استوفى كلامه،حتّى رفع السّتر و دخل الأفشين،فلقيه بأكبر البرّ و الإكرام،و أجلسه بقربه،و قال:في هذا الوقت الحارّ يا أبا الحسن؟
فقال:يا أمير المؤمنين،رجل قد عرفت ما نالني منه،و أنّه طلب دمي، و قد اطلقت يدي عليه،يجيئني هذا،و يقول لي إنّك بعثت إليّ تأمرني أن لا أحدث فيه حدثا،و أنّي إن قتلته قتلت به.؟
قال:فغضب،و قال:أنا أرسلته إليك،فلا تحدث على القاسم بن عيسى حدثا.
فنهض الأفشين مغضبا يدمدم،و اتّبعته لأتلافاه،فصاح بي المعتصم:
ص:74
ارجع يا أبا عبد اللّه،فرجعت،و قلت:يا أمير المؤمنين،إنّه كان بقي شيء مما جرى منّي قطعتني بكلامك عن ذكره لك.
قال:تعني الرّسالة؟
قلت:نعم.
قال:قد فهمتها،و القاسم يوافيك العشيّة،فاحذر أن تفوه بشيء ممّا جرى.
و مضى الأفشين،فأطلق القاسم،و خلع عليه،و حمله،فجاءني القاسم من العشيّة.
و ما أخبرت بالحديث حتّى قتل الأفشين و مات المعتصم (1).
ص:75
الصريفيني الكاتب يعلّم العمّال حسن الصرف
[حدّثني أبو الحسين علي بن هشام،قال:سمعت أبا الحسن عليّ بن عيسى،و أبا الحسن الإيادي الكاتب،يقولان:إنّهما سمعا] (1)عبيد اللّه بن سليمان (2)،يقول:
كنت بحضرة أبي (3)،في ديوان الخراج بسرّ من رأى،و هو يتولاّه-إذ ذاك- إذ دخل علينا أحمد بن خالد الصريفيني الكاتب (4)،فقام له أبي قائما في مجلسه، و أقعده في صدره،و تشاغل به،و لم ينظر في عمل حتّى نهض،ثمّ قام معه، و أمر غلمانه بالخروج بين يديه.
فاستعظمت أنا،و كلّ من في الدّيوان ذلك،لأنّ رسم أصحاب الدواوين، صغارهم و كبارهم،أن لا يقوموا في الدّيوان لأحد من خلق اللّه عزّ و جلّ، ممّن يدخل إليهم.
ص:76
و تبيّن ذلك أبي في وجهي،فقال لي:يا بنيّ،إذا خلونا،فسلني عن السّبب فيما عملته مع هذا الرّجل.
قال:و كان أبي يأكل في الدّيوان،و ينام فيه،و يعمل عشيّا.
فلمّا جلسنا نأكل،لم أذكّره،إلى أن رأيت الطعام قد كاد ينقضي، فقال لي:يا بنيّ شغلك الطعام عن إذكاري بما قلت لك أن تذكّرني به؟.
فقلت:لا،و لكن أردت أن يكون ذلك على خلوة.
فقال:يا بنيّ،هذا وقت خلوة،ثمّ قال:أ ليس قد أنكرت،أنت و الحاضرون،قيامي لأحمد بن خالد،في دخوله و خروجه،و ما عاملته به؟.
فقلت:بلى.
قال:كان هذا يتقلّد مصر (1)،فصرفته عنها (2)،و قد كانت[108 غ] طالت مدّته فيها،فتتّبعته،فوطئت آثار رجل لم أجد أجمل منه آثارا،و لا أعفّ عن أموال السلطان و الرعيّة،و لا رأيت رعيّة لعامل أشكر من رعيّته له.
و كان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر (3)،من أصدق النّاس له،و كان مع هذا من أبغض النّاس،و أشدّهم اضطرابا في أخلاقه، فلم أتعلّق عليه بحجّة.
و وجدته قد أخّر رفع الحساب لسنة متقدّمة و لسنّته الّتي هو فيها،و لم يستتمّها لصرفي له عنها،و لم ينفذه إلى الدّيوان،فسمته أن يحطّ من الدّخل،و أن يزيد في النّفقات و الأرزاق،و يكسر من البقايا،في كلّ سنة مائة ألف دينار،
ص:77
لآخذها لنفسي،فامتنع من ذلك،فأغلظت له،و توعّدته[78 ظ]و نزلت معه إلى مائة ألف واحدة للسّنتين،و حلفت بأيمان مؤكّدة (1)،أنّي لا أقنع منه بأقلّ منها.
فأقام على امتناعه،و قال:أنا لا أخون لنفسي،فكيف أخون لغيري، و أزيل ما قام به جاهي من العفاف؟
فقيّدته و حبسته،فلم يجب،و أقام مقيّدا في الحبس شهورا.
و كتب عرق الموت،صاحب البريد،إلى المتوكّل يضرّب عليّ (2)و يحلف أنّ أموال مصر لا تفي بنفقتي و مئونتي،و يصف أحمد بن خالد،و يذكر ميل الرّعية إليه،و عفّته.
فبينا أنا ذات يوم على المائدة آكل،إذ وردت عليّ رقعة أحمد بن خالد، يسألني استدعاءه لمهمّ يلقيه إليّ،فلم أشكّ أنّه قد غرض (3)بالقيد و الحبس، و قد عزم على الاستجابة لمرادي.
فلمّا غسلت يدي دعوته،فاستخلاني،فأخليته،فقال:أمّا آن لك يا سيّدي أن ترقّ لي ممّا أنا فيه،من غير ذنب أذنبته إليك،و لا جرم،و لا قديم ذحل (4)،و لا عداوة.
ص:78
فقلت:أنت اخترت لنفسك هذا،و لو أجبتني إلى ما قد سمعت يميني عليه،لتخلّصت،فاستجب لما أريد منك.
فأخذ يستعطفني،فجاءني ضدّ ما قدّرته فيه،و غاظني،فشتمته،و قلت:
هذا الأمر المهمّ الّذي ذكرت في رقعتك أنّك تريد أن تلقيه إليّ هو أن تستعطفني، و تسخر منّي (1)،و تخدعني.
فقال:يا سيّدي،فليس عندك الآن غير هذا؟
فقلت:لا.
فقال:إذا كان ليس غير هذا،فاقرأ يا سيّدي هذا،
و أخرج إليّ كتابا لطيفا مختوما في ربع قرطاس،ففضضته[79 م]، فإذا هو بخطّ المتوكّل الّذي أعرفه،إليّ،بالانصراف،و تسليم ما أتولاّه إلى أحمد بن خالد،و الخروج إليه مما يلزمني،و رفع الحساب إليه،و الامتثال لأمره.
فورد عليّ ذلك أقبح مورد،لقرب عهد الرّجل بشتمي له،و أنّه في الحال تحت مكارهي و حديدي،فأمسكت مبهوتا.
و لم ألبث أن دخل أمير البلد في أصحابه و غلمانه،فوكّل بداري،و جميع ما أملكه،و بأصحابي،و غلماني،و جهابذتي،و كتّابي،و جعلت أزحف من الصّدر،حتّى صرت بين يدي أحمد بن خالد و هو في قيوده.
فدعا أمير البلد بحدّاد،ففكّ قيوده،[فمددت رجليّ،ليوضع فيهما القيد،فقال لي:يا أبا أيّوب،ضمّ أقدامك] (2)و وثب قائما،و قال لي:يا أبا أيّوب:أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد،و لا منزل لك فيه،و لا صديق، و معك حرم و حاشية كبيرة،و ليس تسعك إلاّ هذه الدّار-و كانت دار العمالة-
ص:79
و أنا أجد عدّة مواضع،و ليس لي كبير حاشية،و من نكبة خرجت،فأقم بمكانك.
و خرج،و صرف التوكيل (1)عنّي،و عن الدّار،و أخذ كتّابي و أسبابي إليه.
فلمّا انصرف،قلت لغلماني:هذا الّذي نراه في النوم،انظروا من وكّل بنا؟ فقالوا:ما وكّل بنا أحد.
فعجبت من ذلك عجبا شديدا،و ما صلّيت العصر حتّى عاد إليّ جميع من حمله معه من المتصرّفين و الكتّاب و الجهابذة،و قالوا:أخذ خطوطنا برفع الحساب، و أمرنا بالملازمة،و أطلقنا،فازداد عجبي.
فلمّا كان من الغد،باكرني مسلّما،و رحت إليه في عشيّة ذلك اليوم[109 غ] مسلّما عليه.
فأقمت على ذلك ثلاثين يوما،يغدو إليّ،و أروح إليه،و ربما غدوت أنا، و راح هو (2)،و هداياه و ألطافه تأتيني في كلّ يوم من الفاكهة،و الثلج،و الحيوان، و الحلوى.
فلمّا كان بعد ثلاثين يوما،جاءني،فقال لي:قد عشقت مصر يا أبا أيّوب،و اللّه ما هي طيّبة الهواء.و لا عذبة الماء،و إنّما تطيب بالولاية و الاكتساب، و لو دخلت إلى سرّ من رأى،لما أقمت إلاّ شهرا حتّى تتقلّد أجلّ الأعمال.
فقلت له:و اللّه،ما أقمت إلاّ توقّعا لأمرك في الخروج.
فقال:أعطني خطّ كاتبك،بأنّ عليه القيام بالحساب،و اخرج في حفظ اللّه، فأحضرت كاتبي،و أخذ خطّه كما أراد،و تسلّمه،و قال:اخرج في أيّ وقت شئت.
ص:80
فخرجت من غد،فخرج[79 ظ]هو و أمير البلد و خاصّته (1)،و وجوه أهله،فشيّعوني إلى ظاهر البلد،و قال لي:تقيم في أوّل منزل على خمسة فراسخ،إلى أن أزيح علّة (2)قائد يصحبك إلى الرّملة،فإنّ الطّريق فاسد.
فاستوحشت من ذلك،و قلت:هذا إنّما غرّني حتّى أخرج كلّ ما أملكه، فيتمكّن منه في ظاهر البلد،فيقبضه،ثمّ يردّني إلى الحبس و التوكيل و المطالبة، و يحتجّ عليّ بكتاب يذكر أنّه ورد عليه ثانيا.
فخرجت،و أقمت بالمرحلة الّتي أمر بها،مستسلما،متوقّعا للشرّ،إلى أن رأيت أوائل عسكر مقبل من مصر.
فقلت:لعلّه القائد الّذي يريد أن يصحبني،أو لعلّه الّذي يريد أن يقبض عليّ به،فأمرت غلماني بمعرفة الخبر.
فقالوا:قد جاء أحمد بن خالد العامل بنفسه.
فلم أشكّ إلاّ أنّ البلاء قد ورد بوروده،فخرجت من مضربي،فلقيته و سلّمت عليه،فلمّا جلس،قال:أخلونا،فلم أشكّ أنّه للقبض عليّ،فطار عقلي،فقام من كان عندي،و لم يبق غيري و غيره.
فقال:أعلم أنّ أيّامك لم تطل بمصر،و لا حظيت بكبير فائدة،و ذلك الباب الّذي سألتنيه في ولايتك فلم أستجب إليه،إنّما أخّرت الإذن لك في الانصراف من أوّل الأمر إلى الآن،لأنّي تشاغلت بالفراغ لك منه،و قد حططت من الارتفاع (3)،و زدت في النّفقات،في كلّ سنة خمسة عشر ألف دينار،تكون للسنتين ثلاثين ألف دينار،و هو يقرب و لا يظهر[80 م]،
ص:81
و يكون أيسر ممّا أردته منّي ذلك الوقت،و قد تشاغلت به حتّى جمعته لك، و هذا المال على البغال قد جئتك به،فتقدّم إلى من يتسلّمه.
فتقدّمت بقبضه،و قبّلت يده،و قلت:و اللّه،قد فعلت يا سيّدي ما لم تفعله البرامكة (1)،فأنكر ذلك،و تقبّض منه،و قبّل يدي.
و قال: هاهنا شيء آخر أريد أن تقبله.
فقلت:و ما هو؟
قال:خمسة آلاف دينار (2)قد استحققتها من أرزاقي،[فامتنعت من ذلك،و قلت:فيما تفضّلت به كفاية.
فحلف بالطلاق،أنّي أقبلها منه] (3)،فقبلتها.
ثمّ قال:و هاهنا ألطاف من هدايا مصر،أحببت أن أصحبك إيّاها، فإنّك تمضي إلى كتّاب الدواوين و رؤساء الحضرة،فيقولون لك:و ليت مصر، فأين نصيبنا من هداياها؟و لم تطل أيّامك،فتعدّ لهم ذلك،و قد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت.
و أخرج اليّ درجا فيه ثبت جامع لكلّ شيء في الدّنيا حسن طريف،جليل القدر،من ثياب دبيقيّ،و قصب،و خدم،و بغال،و دواب،و حمير، و فرش،و طيب،و جوهر،حتّى أقلام و مداد،ما يكون قيمته مالا كثيرا.
فأمرت بتسلّمه،و زدت في شكره.
فقال لي:يا سيّدي،أنا[110 غ]مغرى بحبّ الفرش (4)،و قد استعمل
ص:82
لي فرش بيت أرمنيّ (1)،و هو عشر مصلّيات بمخادّها،و مساندها،و مساورها، و مطارحها،و بسطها،و هو مذهب،بطرز مذهبة،قد قام عليّ بخمسة آلاف دينار،على شدّة احتياطي،و قد أهديته لك،فإن أهديته للوزير عبدك، و إن أهديته للخليفة ملكته به،و إن أبقيته لنفسك و تجمّلت به،كان أحبّ إليّ.
قال:و حمله،فما رأيت مثله قط،و لا سمحت نفسي بإهدائه إلى أحد،
ص:83
و لا استعماله،و ما ابتذلت منه شيئا غير هذا الصّدر و مسنده و مساوره،يوم إعذارك (1)،أ فتلومني على أن أقوم لهذا الرّجل،يا بنيّ؟
فقلت:لا و اللّه يا أبت،و لا على ما هو أكثر من القيام،لو كان مستطاعا.
فكان أبي بعد ذلك،إذا صرف رجلا،عامله بكلّ جميل،و يقول:
علّمنا أحمد بن خالد،حسن الصّرف،أحسن اللّه جزاءه (2).
ص:84
الخليفة المعتضد يتخبّر على وزيره
[حدّثنا أبو عليّ الحسن بن محمّد بن عليّ بن موسى الكاتب،الّذي كان زوج ابنة أبي محمّد المهلّبي،و خليفته على الوزارة،و كان جدّه محدّثا (1)،قال:] (2)
حدّثني شيوخ الكتّاب:
أنّ القاسم بن عبيد اللّه الوزير،لما انفرد بالوزارة بعد موت أبيه (3)،كان يحبّ الشرب،و اللّعب،و يخاف أن يتّصل ذلك بالمعتضد،فيستنقصه، و ينسبه إلى الصبيانيّة،و التهوّك (4)في اللّذات،و التشاغل عن الأعمال،و كان لا يشرب إلاّ في الأحايين،على أخفى و أستر ما يمكنه.
و أنّه خلا يوما مع جواريه،و لبس من ثيابهنّ المصبغات،و أحضر[80 ظ] فواكه كثيرة،و شرب،و لعب،من نصف النّهار إلى نصف اللّيل،و نام بقيّة ليلته،و بكر إلى المعتضد على رسمه للخدمة،[فما أنكر شيئا.
و بكر في اليوم الثاني] 2،فحين وقعت عين المعتضد عليه،قال له:
يا قاسم،ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك،و ألبستنا معك من ثيابك المصبّغات.
قال:فقبّل الأرض،و ورّى عن الصّدق،و أظهر الشكر على هذا البسط، و خرج و قد كاد أن يتلف غمّا لوقوف المعتضد على هذا السرّ،و كيف رقى إليه، و أنّه إذا لم يخف عليه هذا القدر من أمره،فكيف تخفى عليه مرافقه (5)،فجاء إلى داره كئيبا.
ص:85
و كان له في داره صاحب خبر (1)جلد يرفع إليه الأمور،فأحضره،و عرّفه ما جرى بينه و بين المعتضد،و قال له:ابحث لي عمّن أخرج هذا الخبر، فإن فعلت،زدت في رزقك و أجزتك بكذا و كذا[62 ر]،و إن لم تخرجه، نفيتك إلى عمان،و حلف له على الأمرين.
فخرج صاحب الخبر من حضرته متحيّرا كئيبا،لا يدري ما يعمل في يومه ذلك،مفكّرا كيف يجتهد و يحتال،فما وقع له رأي يعمل عليه.
قال صاحب الخبر:فلمّا كان من الغد،بكرت إلى دار القاسم،زيادة [81 م]بكور على ما جرى به رسمي،لفرط قلقي و سهري تلك اللّيلة،و محبّتي للبحث (2).
فجئت،و لم يفتح باب دار القاسم بعد،فجلست،فإذا برجل زمن يزحف، في ثياب المكدّين (3)،و معه مخلاة،كما تكون مع المكدّين.
فلمّا جاء إلى الباب،جلس إلى أن فتح،فسابقني إلى الدّخول،فولع به (4)البوّابون،و قالوا له:[أيّ شيء] (5)خبرك يا فلان؟،و صفعوه (6)،و مازحوه، و مازحهم،و طايبهم (7)،و شتموه،و شتمهم،و جلس في الدّهليز.
ص:86
فقال:[111 غ]الوزير يركب اليوم؟
قالوا:نعم،السّاعة يركب.
قال:و أيّ وقت نام البارحة؟
قالوا:وقت كذا و كذا.
فلمّا رأيته يسأل عن هذا،خمّنت عليه أنّه صاحب خبر،فأصغيت إليه،و لم أره أنّي حافل بأمره و هو يسأل،إلى أن لم يبق شيئا يجوز أن يعلمه البوّابون،عمّن وصل إلى الوزير،و من لم يصل،و متى خرجوا،إلاّ سألهم عنه،و حدّثوه هم،أحاديث أخر،على سبيل الفضول.
ثمّ زحف فدخل إلى حيث أصحاب الستور،فأخذ معهم في مثل ذلك، و أخذوا معه في مثله.
ثمّ زحف فدخل إلى دار العامّة.
فقلت لأصحاب الستور:من هذا؟
فقالوا:رجل زمن (1)فقير أبله طيّب،يدخل الدّار يتصدّق و يتطايب، فيهب له الغلمان و المتصرّفون.
فتبعته إلى أن دخل المطبخ،فسأل عمّا أكل الوزير،و من كان معه على المائدة،و كلّ واحد يخبره بشيء،ثمّ خرج يزحف،حتّى دخل حجرة الشّراب، فلم يزل يبحث عن كلّ شيء،فيحدّث به،ثمّ خرج إلى خزانة الكسوة، فكانت صورته كذلك،ثمّ جاء إلى مجلس الكتّاب في الدّيوان،فتصدّق، و أقبل يسمع ما يجري،و يسأل الصّبيّ بعد الصّبيّ،و الحدث بعد الحدث، عن الشيء بعد الشيء،و يستخبر الخبر،في كلّ موضع من تلك المواضع، و يستقيه،و يخلط الجدّ بالمزح و التطايب بكلامه،و الأخبار تنجرّ إليه،و تتساقط
ص:87
عليه،و القطع و الزلاّت (1)تجيئه،و هو يملأ المخلاة،فلمّا فرغ من هذا، أقبل راجعا يريد الباب.
[إلى هنا باتّفاق الروايتين،ثمّ قال أحدهما في حديثه] (2)
فلمّا بلغ الباب،قبضت عليه،و أدخلته بيتا،و أقفلت عليه،و جلست على بابه،فلمّا خلا الوزير أعلمته به،فقال:أحضرني الرّجل.
و قال الآخر:فلمّا بلغ الباب تبعته،فخرج حتّى جاء إلى موضع من الخلد (3)،فدخل إليه،فوقفت أنتظره،فإذا هو بعد ساعة،قد خرج شابا بثياب حسان،ماشيا،بغير قلبة (4)،فتبعته حتّى جاء إلى دار بقرب دار الخادم الموكّل بحفظ دار ابن طاهر،فدخلها.
فسألت عنها،فقالوا:هذه دار فلان الهاشمي،رجل متجمّل.
فرصدته إلى وقت المغرب،فجاء خادم من دار ابن طاهر،فدقّ الباب، فكلّمه من خوخة (5)له،ففتح له و رمي إليه برقعة لطيفة،فأخذها الخادم و انصرف.
فجئت،فطلبت من الوزير غلمانا،فسلّم إليّ ما طلبت،فبكرت في السّحر إلى[81 ظ]الدّار الّتي في الخلد،فإذا بالرّجل قد جاء بزيّه الّذي
ص:88
دخل به داره بقرب دار ابن طاهر،فكبسته في الموضع،فإذا هو قد نزع تلك الثياب،و لبس ثياب المكدّين الّتي رأيتها عليه أوّلا.
فحملته،و غطّيت وجهه،و كتمت أمره،حتّى أدخلته دار القاسم، و دخلت إليه،فقصصت عليه الخبر.
[اتّفقت الآن الروايتان]15
فلمّا فرغ القاسم من شغله،استدعاه،فقال له:اصدقني عن أمرك، أو لا ترى ضوء الدّنيا،و لا تخرج من هذه الحجرة-و اللّه-أبدا.
قال:و تؤمّنني؟
قال:أنت آمن،فنهض لا قلبة به.
فتحيّر القاسم،و قال له:خبرك؟
فقال:أنا فلان الهاشمي،و أنا رجل متجمّل،و أنا أتخبّر عليك للمعتضد، منذ كذا و كذا،و أنزل في درب يعقوب (1)،بقرب دار ابن طاهر،و يجري عليّ المعتضد في كل شهر خمسين دينارا،فأخرج كلّ يوم من بيتي،بالزيّ الّذي لا ينكره جيراني[82 م 112 غ]فأدخل دارا في الخلد،بيدي منها بيت بأجره،فيظنّ أهلها أنّي منهم،و لا ينكرون تغيير الزيّ.
فأخرج[63 ر]من هناك بهذه الثّياب،و أتزامن من الموضع و ألبس لحية فوق لحيتي،مخالفة للون لحيتي،حتّى إذا لقيني في الطريق-بالاتّفاق- بعض من يعرفني،أنكرني.
فأمشي زحفا من الخلد إلى دارك،فأعمل جميع ما حكاه صاحب خبرك، و أستقي أخبارك من غلمانك،و هم لا يعرفون غرضي فيخرجون إليّ من الأسرار -بالاسترسال-ما لو بذل لهم فيه الأموال ما خرجوا به.
ثمّ أخرج فأجيء إلى موضعي من الخلد،فأغيّر ثيابي،و أعطي ذلك الّذي
ص:89
اجتمع لي في المخلاة للمكدّين،و ألبس ثيابي الّتي يعرفني بها جيراني،و أعود إلى منزلي،فآكل،و أشرب،و ألعب،بقيّة يومي.
فإذا كان المغرب جاءني خادم من خدم دار ابن طاهر،مندوب لهذا، فأرمي إليه من روزنة لي (1)،رقعة فيها خبر ذلك اليوم،و لا أفتح له بابي.
[فإذا كان بعد تسعة و عشرين يوما،جاءني الخادم،فأنزل إليه،فأعطيه رقعة ذلك اليوم،و يعطيني جاري ذلك الشّهر]2.
و لو لا أنّي لم أر صاحب خبرك،و لا فطنت له،لما تمّ عليّ هذا،و لو كنت لحظته لحظة واحدة،ما خفي عليّ أنّه صاحب خبر،و لكنت أرجع من الموضع الّذي أراه فيه،فلا يعرف خبري،و بعد ذلك،فإنّما تمّ عليّ هذا،لأنّ أجلي قد حضر،فاللّه،اللّه،في دمي.
فقال له:اصدقني عما رفعته إلى المعتضد عنّي،فحدّثه بأشياء رفعها، منها خبر الثّياب المصبّغة.
قال:فحبسه القاسم أيّاما،و أخفى أمره،و أنفذني إلى منزله،و قال:
راع أمرهم،و أنظر ما يجري.
فمضيت إلى داره الّتي وصفها بدرب يعقوب،فجلست إلى المغرب، فجاء الخادم،فصاح به.
فقالت له الجارية:ما رجع اليوم،و هذه لم تكن عادته قط،و قد-و اللّه- [أشفقنا أن يكون قد حدث عليه حادث لا نعرفه]15،و قامت قيامتنا،فانصرف الخادم،و انصرفت.
و عدت أيضا المغرب من الغد،و جاء الخادم،فقالوا له:قد-و اللّه- أيسنا منه،و لا نشكّ في أنّه قد هلك،و المأتم قد أقيم عليه في منزل أبيه و عمومته.
ص:90
فانصرف الخادم،و جئت إلى القاسم بالخبر.
فلمّا كان من الغد،ركب القاسم إلى المعتضد،فحين رآه استدناه، و سارّه،و قال له:يا قاسم،بحياتي،أطلق الهاشمي المتزامن،و أحسن إليه، و أنت آمن بعدها أن أنصب عليك صاحب خبر،و و اللّه لئن حدثت به حادثة، لا عرفت في دمه غيرك.
فقبّل الأرض،و تلجلج،و انصرف،فعاد إلى منزله،و حمد اللّه إذ لم يعجل عليه بسوء،و أخبرنا الخبر،و جاء بالهاشميّ،فخلع عليه،و وصله بمال له قدر،و صرفه.
و انقطعت أخباره عن المعتضد (1).
ص:91
الوزير عبيد اللّه بن سليمان
[حدّثني أبو القاسم علي بن شهران،المتكلّم،القاصّ،من أهالي عسكر مكرم،بها،قال:أخبرني أبو الحسين الخصيبي (1)،ابن بنت ابن المدبّر،ببغداد، قال:] (2)قال لي أبو عبد اللّه محمّد بن داود[82 ظ]بن الجرّاح:
جلس عبيد اللّه بن سليمان،يوما،للمظالم،في دار المعتضد،و هو وزير، فتقدّم إليه عمر بن محمّد بن عبد الملك الزيّات،يتظلّم من أحمد بن إسرائيل [113 غ]بسبب الضيعة المعروفة بتاصيت (3)،فنظر في أمره،و قال له:أنت عمر بن محمّد؟
قال:نعم.
قال:و أين كنت؟،فقصّ عليه أمره و خبره.
[فقال له:أنت ابن سكران (4)؟
فقال:نعم.] 2
قال:فلمّا كان عشيّة يومنا ذلك،خلا،و كنت أنا و ابناه بين يديه، فتحدّث،و قال:سبحان اللّه،ما أعجب ما كنت فيه اليوم،فلم نسأله عن ذلك إجلالا له.
ص:92
فقال:قال لي أبو أيّوب رحمه اللّه (1)إنّه كان في أيّام الواثق،في تلك الملازمة[و البلاء] (2)و الضرب[و لبس الصوف] 6و القيد،و إنّه حمل إلى محمّد ابن عبد الملك الزيّات ليناظره[83 م]و يردّه إلى محبسه.
فوضع بين يديه على تلك الحال،فجعل يناظره،و الحسن بن وهب (3)، كاتبه حينئذ،فربّما تكلّم بالكلمة يرقّقه بها عليه،و ربّما أمسك،و محمّد دائب في الغلظة على أبي أيّوب،و التشفّي منه،إذ مرّ بعض الخدم بصبيّ يحمله، مزيّن،مخضوب[و عليه لبوس مثله من أولاد الملوك 6].
فقال محمّد للخادم:هاته،فقرّ به إليه،فقبّله،و ترشّفه،و ضمّه إليه، و جعل يلاعبه،فحانت منه التفاتة إلى أبي أيّوب،فإذا دمعته قد سبقته،و هو يمسحها بالجبّة الصوف الّتي كانت عليه.
فقال له محمّد:ما الّذي أبكاك؟
فقال:خير،أصلحك اللّه.
فقال:و اللّه،لا تبرح،أو تخبرني بالأمر على حقيقته.
فلمّا رأى ذلك أبو علي الحسن بن وهب،قال له:أنا أصدقك،إنّه لما رأى عمر،متّعك اللّه به،و جعلنا جميعا فداه،ذكر ابنا له في مثل سنّه.
قال:و ما اسمه؟
قال:عبيد اللّه.
[قال:و كانا ولدا في شهر واحد] 6.
فالتفت إليه كالهازئ،فقال له:أ تراه يقدّر أن يكون ابنه هذا وزيرا.
ص:93
قال الحسن:فلمّا أمر بحمله إلى محبسه،التفت إليّ،و قال:لو لا أنّ هذا الأمر من أمور السلطان الّذي لا سبيل إلى التقصير في مثله،لما سؤتك فيه، و لو أعانني على نفسه لخلّصته.
فقال له الحسن:و اللّه،ما رأيته منذ حبس،فإن رأيت أن تأمر بالعدول به إلى بعض المجالس،و الإذن في القيام إليه،و الخلوة به،لأشير عليه بامتثال أمرك.
فقال:افعل.
فقمت إلى أبي أيّوب،و تعانقنا،و بكينا طويلا.
فقال لي:قبل كلّ شيء،رأيت أعجب من بغيه عليّ،و قوله بالتطانز (1)و الهزء:أ تراه يقدّر أنّ ابنه هذا يكون وزيرا،فكيف يأمن أن يكون هذا؟ و اللّه إنّي لأرجو أن يبلغ اللّه ابني الوزارة،و يتقدّم إليه عمر متظلّما.
فلمّا كان اليوم،تقدّم إليّ عمر متظلّما،و ما كنت رأيته قبل ذلك، و لا عرفت له خبرا.
[و وقع إليّ هذا الخبر،من وجه آخر،فحدّثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي،قال:أخبرنا أبو الحسن علي بن الفتح المعروف بالمطوّق،مناولة،من كتابة:كتاب مناقب الوزراء، و محاسن أخبارهم،قال:
حدّثني أبو عبد اللّه الحسين بن عبد اللّه بن عمر بن حفص الكاتب، عن أبيه،أبي القاسم عبد اللّه،أو عن أبي القاسم ميمون بن إبراهيم بن يزيد-الشكّ من المطوّق-قال:] (2)
كنّا في مجلس أبي القاسم عبيد اللّه بن سليمان،و هو وزير،في يوم من
ص:94
أيّام جلوسه للمظالم،فوقعت بيده قصّة،فقرأها،و توقّف ساعة كالمفكّر، ثمّ قال:عمر بن محمّد بن عبد الملك،فأدخل إليه.
فقال:أنت عمر؟
قال:نعم،أعزّ اللّه الوزير،أنا عمر بن محمّد بن عبد الملك.
فتوقّف[114 غ]أيضا ساعة،ثمّ قام إلى خلوته،و لم يطل،و عاد إلى موضعه،فوقّع له بجار،و نزل،وصلة،و لم يزل مفكّرا،إلى أن تقوّض النّاس، و خلا المجلس ممّن يحتشم.
فقال لنا:وقفتم على خبر هذا الرّجل؟
قلنا:وقفنا على ما كان من أمر الوزير ببرّه،و لم نقف على السّبب.
فقال:أخبركم بحديثه،حدّثني أبو أيّوب رحمه اللّه،قال:كنت في يد محمّد بن عبد الملك الزيّات،يطالبني،و أنا منكوب،و كان يحضرني في كلّ يوم،بغير سبب،و لا مطالبة،إلاّ ليكيدني،و أنا في قيودي،و عليّ جبّة صوف،و كان أخي الحسن يكتب بين يديه،و لم يكن يتهيّأ له شيء في أمري، إلاّ أنّه كان إذا رآني مقبلا استقبلني[64 ر]فإذا رجعت إلى موضعي،شيّعني، إذ أقبل في يوم من الأيّام خادم لمحمد،و معه ابن له صغير،فوثب كلّ من في المجلس،إلى الصبيّ،يقبلونه،و يدعون له سواي،فإنّي كنت مشغولا بنفسي،فلم أتحرّك،و أخذ الصبيّ،و ضمّه إليه[83 ظ]و قال لي:يا سليمان لم لم تفعل بهذا الصبيّ،ما فعله من في المجلس؟
فقلت:شغلني ما أنا فيه.
فقال:لا،و لكنّك[لم تطق ذلك] (1)عداوة لأبيه و له،و كأنّي بك، و قد ذكرت عبيد اللّه،و أمّلت فيه الآمال،و اللّه،لا رأيت شيئا مما تؤمّله فيه،
ص:95
و أسرف بعد ذلك في الإسماع،فعلمت أنّه قد بغى،و وثقت بجميل عادة اللّه تعالى،و أنّه سيبلغني[ما آمله فيك]10 عنادا لبغيه[84 م].
قال:و لم تمض إلاّ مدّة يسيرة،حتّى سخط المتوكّل على محمّد بن عبد الملك،و قلّدني مناظرته،و إحصاء متاعه،فوافيت داره،فرأيت ذلك الخادم بعينه،و معه ذلك الصبيّ يبكي.
[فقلت:ما خبر هذا الصبيّ يبكي؟]10.
فقيل:قد منع من كلّ ماله،و أدخل في الإحصاء.
فقلت:لا بأس عليه،و سلّمت إليه جميع ما كان باسمه.
فينبغي،يا بنيّ،إن تهيّأت لك حال،و رأيت الصبيّ عمر بن محمّد بن عبد الملك،أن تحسن إليه،و أن تقابل نعمة اللّه فيه و فيك،بما يجب لها.
فلمّا رأيته هذا الوقت،ذكرت ما قاله أبي،فامتثلت ما أشار به،و أنا أتقدّم بعد الّذي فعلت به،إلى أبي الحسين (1)بتصريفه.
و كانت لعمر حركة قويت بها حاله عند أبي الحسين،إلى أن استخلفه في دار أبي النجم بدر،و بين يديه.
[حدّثني أبو الحسين عليّ بن هشام بن عبد اللّه الكاتب،قال:حدّثني أبو عليّ بن مقلة،قال:حدّثني محمّد بن سعيد الديناري.
قال أبو الحسين،و حدّثني أبو عبد اللّه زنجي،قال:حدّثني أبو العبّاس ابن الفرات،قال:] (2).
و حدّثني أبو عبد اللّه الباقطائي،قالوا كلّهم:
كنّا بحضرة عبيد اللّه بن سليمان،أوّل وزارته للمعتضد،و قد حضر رجل رثّ الهيأة،بثياب غلاظ،فعرض عليه رقعة،و كان جالسا للمظالم،فقرأها
ص:96
قراءة متأمّل لها،مفكّرا،متعجّبا،ثمّ قال:نعم،و كرامة-ثلاث مرّات- أفعل ما قال أبي،لا ما قال أبوك،و كرّر هذا القول ثلاث مرّات.
ثمّ قال له:عد إليّ وقت العصر،لأنظر في أمرك[115 غ].
و قال لبدر العدامي حاجبه (1):إذا حضر،فأوصله إليّ.
[ثمّ قال:إذا خلونا،فذكّروني خبر هذا،لأحدّثكم بحديث عجيب، و أتمّ المجلس.
ثمّ قام،و استراح،و دعانا للطعام،فلمّا حضرنا،و أكلنا أكثر الأكل، قال:ما أراكم أذكرتموني[حديث]صاحب الرقعة؟
فقلنا:أنسينا.] (2)
قال:حدّثني أبي،قال:كنت في محبس محمّد بن عبد الملك،في أيّام الواثق،لمّا صادرني عن كتابة إيتاخ،على أربعمائة ألف دينار،و قد أدّيت منها[مائتي ألف و نيفا و أربعين ألفا] (3)فأحضرني يوما،و طالبني بالباقي، و جدّ بي،و أرهقني،و لم يرض منّي إلى أن أجبت إلى أن اؤدّي خمسين ألف دينار، قاطعة للمصادرة،على أن يطلق ضياعي.
قال:و نحن في ذلك،و لم يأخذ خطّي بعد،إذ خرج إليه خادم من دار الحرم برقعة،فقرأها،و نهض،و كان بحضرته أخي أبو عليّ الحسن بن وهب،و هو غالب على أمره،إلاّ أنّه يخافه أن يكلمه في أمري.
فلمّا قام الوزير،رمى إليّ أخي برقعة لطيفة،فوقعت في حجري،فإذا فيها:
جاءني الخبر الساعة من دارك،أن قد رزقت ابنا،خلقا سويا،و هو جسم بغير اسم،فما تحبّ أن يسمّى و يكنى؟
ص:97
فقلت:عبيد اللّه،أبو القاسم.
فكتب بذلك في الحال إلى منزلي.
قال:و تداخلني سرور بذلك،و قوّة نفس،و حدّثت نفسي،بأنّك تعيش، و تبلغ،و أنتفع بك.
قال:و عاد محمّد إلى مجلسه،و أعاد خطابي،فلم أستجب له،إلى ما كنت أجبت إليه،و أخذت أدافع.
فقال لي:يا أبا أيّوب،ما الّذي ورد عليك بعدي؟أرى عينيك و وجهك، بخلاف ما فارقتك عليه منذ ساعة.
فقلت:ما ورد عليّ شيء.
فقال:و اللّه،لئن لم تصدقني،لأفعلنّ بك،و لأصنعنّ.
[فقلت:ما عندي ما أصدق عنه.
فأقبل على أخي،فقال له:أخبرني ما شأنه؟فخافه أخي] (1)فصدقه عن الصورة،فسكن.
ثمّ قال:أ تعرف[65 ر]لأيّ شيء قمت أنا؟.
قلت:لا.
قال:كوتبت بأنّ ولدا ذكرا سويا قد ولد لي،فدخلت،و رأيته،و سمّيته باسم أبي،و كنيته بأبي مروان.
قال سليمان:فقمت إليه،فهنّأته،و قبّلت يديه،و رجليه،و قلت:
أيّها الوزير،هذا يوم مبارك،و قد رزقنا اللّه[85 م]جميعا،ولدين،فارحمني، و ارع لي حقّ سالف خدمتي لك،و اجعل ابني موسوما بخدمة ابنك،يسلم معه
ص:98
في المكتب،يتعلّم معه،و ينشوان في دولتك (1)،فيكون كاتبا له،فحملته الكزازة (2)،و القسوة التي فيه،على أن قال:يا أبا أيّوب،أ عليّ تجوز (3)و لي تستفزّ (4)و تخاتل؟قد حدّثتك نفسك،أنّ ابنك هذا سيبلغ المبالغ،و يؤهّل للوزارة (5)،و رجوت فيّ[84 ظ]نوائب الزمان،و قلت:أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني،حتّى يطلب منه الإحسان و الفضل،و أنا استحلفك باللّه،و أحرّج عليك،إن بلغ ابنك هذه المنزلة،إلاّ وصيّته،إن جاءه ابني لشيء من هذا، أن لا يحسن إليه.
ص:99
قال:فأعظمت هذا الخطاب،و تنصّلت،و اعتذرت،و وقع في قلبي، في الحال،أنّ هذا غاية البغي،و أنّ اللّه-سبحانه و تعالى-سيحوج ابنه إلى ابني،و يتحقّق ما قاله،فما مضت مديدة،حتّى فرّج اللّه عنّي.
ثمّ قال لي:يا بنيّ،إن رفعك الزمان،و وضع ابنه،حتّى يحتاج إليك.
فأحسن إليه.
قال:و ضرب الدهر ضربه،فما عرفت لأبي مروان خبرا،حتّى رأيته اليوم[فكان ما شاهدتم،ثمّ أمر بطلب أبي مروان،فأحضر،فوهب له مالا] (1)،و خلع عليه،و حمله،و قلّده ديوان البريد و الخرائط.
قال أبو الحسن:فما زال يتقلّده منذ ذلك الوقت،إلى آخر وزارة ابن الفرات الثالثة،فإنّه مات فيها،و قد تقلّده ثلاثين سنة أو أكثر.
و كان يكتب إلى[116 غ]عبيد اللّه،أوّل ما كاتبه،بعد تقليده الديوان، عبد الوزير و خادمه،عبد الملك بن محمد،فأراد عبيد اللّه ان يتكرّم عليه، فقال له:أنت ابن وزير،و ما أحبّ أن تتعبّد لي،فاكتب اسمك فقط على الكتب.
فقال:لا تسمح نفسي بذلك،و لكن أكتب:عبد الملك بن محمّد، عبد الوزير و خادمه (2).
فقال:افعل،فكتب ذلك،فصارت عادة له يكتب بها إلى جميع الوزراء من بعده،إلى أن مات في وزارة ابن الفرات الثالثة،فصار كالمترتّب عليهم بما عامله به من ذلك عبيد اللّه،و غلب عليه أن عرف بأبي مروان الخرائطي، و نسي نسبه إلى ابن الزيّات،إلاّ من كان يعرفه من الكتّاب و غيرهم،[أخبرني بذلك جماعة من الشيوخ] (3).
ص:100
أسد كالح و كبش ناطح و كلب نابح
وجدت في بعض الكتب،بغير أسانيد:أنّ عبيد اللّه بن زياد (1)،لما بنى داره البيضاء بالبصرة،بعد قتل الحسين عليه السلام (2)،صوّر على بابها رءوسا مقطّعة،و صوّر في دهليزها،أسدا،و كبشا،و كلبا،و قال:أسد كالح، و كبش ناطح،و كلب نابح.
فمرّ بالباب أعرابيّ،فرأى ذلك،فقال:أما إنّ صاحبها لا يسكنها إلاّ ليلة واحدة لا تتمّ.
فرفع الخبر إلى ابن زياد،فأمر بالأعرابي،فضرب،و حبس.
فما أمسى حتّى قدم رسول ابن الزبير،إلى قيس بن السكون (3)،و وجوه أهل البصرة،في أخذ البيعة له،و دعا النّاس إلى طاعته،فأجابوه،و راسل بعضهم بعضا في الوثوب عليه من ليلتهم،فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم،فهرب من داره في ليلته تلك،و استجار بالأزد،فأجاروه،و وقعت الحرب المشهورة بينهم
ص:101
و بين بني تميم بسببه،حتّى أخرجوه،فألحقوه بالشام (1)،و كسر الحبس، فخرج الأعرابيّ.
و لم يعد ابن زياد إلى داره،و قتل في وقعة الخازر (2).
عبيد اللّه بن زياد(28-67):والي العراقين لمعاوية بن أبي سفيان،و لولده يزيد من بعده،و كانت أمّه مرجانة جارية ولدته على فراش زياد،ثمّ تركها لمولى له أعجميّ، اسمه شيرويه الأسواري،فنشأ عبيد اللّه في بيت الأسواري،فشبّ يرتضخ لكنة فارسيّة (البيان و التبيين 53/1 و 54 و 167/2)و كان الحسن البصري يسمّيه:الشاب المترف الفاسق،و قال فيه:ما رأينا شرّا من ابن زياد(أنساب الأشراف 83/5 و 86)،و قال الأعمش فيه:كان مملوءا شرّا و نغلا(أنساب الأشراف 83/5)،و كان شديد القسوة في معاملة النّاس،يتلذّذ بتعذيب ضحاياه بيده،جيء إليه بسيّد من سادات العراق،فأدناه منه،ثمّ ضرب وجهه بقضيب كان في يده،حتى كسر أنفه،و شقّ حاجبيه،و نثر لحم و جنته،و كسر القضيب على وجهه و رأسه(مروج الذهب 44/2)و غضب على رجل، تمثّل بآية من القرآن،فأمر أن يبنى عليه ركن من أركان قصره(المحاسن و المساوئ 165/2)،و كان يقتل النساء في مجلسه،و يتشفّى بمشاهدتهن يعذّبن،و تقطع أطرافهنّ (بلاغات النساء 134 و أنساب الأشراف 89/5)،فعاش مكروها عند أهل العراق (الإمامة و السياسة 16/2 سطر 13،و مروج الذهب 43/2)مهينا عند أهل الحجاز
ص:102
(الأغاني 272/18 و 282)،و شرّ ما صنع قتله الإمام الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالب، في كربلاء،و لمّا مات يزيد بن معاوية،أغرى بعض البصريين أن يبايعوه،ثم جبن عن مواجهة الناس،فاستتر،ثمّ هرب إلى الشام،و عاد إلى العراق صحبة جيش،فحاربه إبراهيم بن مالك الأشتر،قائد جيش المختار بن أبي عبيد الثقفي،رأس المطالبين بثأر الحسين،فسقط قتيلا في المعركة،فقال فيه الشاعر:(معجم البلدان 903/2)
إنّ الذي عاش ختّارا بذمته و مات عبدا،قتيل اللّه بالزاب
أقول لما أتاني ثمّ مصرعه لابن الخبيثة و ابن الكودن الكابي
العبد للعبد لا أصل و لا ورق ألوت به ذات أظفار و أنياب
ما شقّ جيب و لا ناحتك نائحة و لا بكتك جياد عند أسلاب
إنّ المنايا إذا حاولن طاغية و لجن من دون أستار و أبواب
و كان عبيد اللّه بن زياد من الأكلة،كان يأكل جديا،أو عناقا يتخيّر له في كلّ يوم،فيأتي عليه،و أكل مرّة عشر بطّات و زبيلا من عنب،ثمّ عاد فأكل عشر بطّات،و زبيلا من عنب،و جديا(أنساب الأشراف 86/5)و كان يأكل بعد الشبع أربع جرادق أصبهانية،و جبنة،و رطلا عسلا(معجم الأدباء 95/6)، قال عبيد اللّه،لقيس بن عبّاد:ما تقول فيّ،و في الحسين؟قال:اعفني،عافاك اللّه، قال:لا بدّ أن تقول،قال:يجيء أبوه يوم القيامة،فيشفع له،و يجيء أبوك،فيشفع لك،فقال عبيد اللّه:قد علمت غشّك،و خبثك،لأضعنّ يوما أكثرك شعرا بالأرض (العقد الفريد 175/2)،راجع ترجمة عبيد اللّه المفصّلة في أنساب الأشراف 77/3 -123،و راجع كذلك صبح الأعشى 414/1 و 425 و 455 و الأغاني 204/18، 277،286،287 و معجم الأدباء 903/2 و رسائل الجاحظ ص 18.
ص:103
القرمطي يبعث رسولا إلى المعتضد
[حدّثني القاضي أبو الحسن محمّد بن عبد الواحد الهاشمي،قال:سمعت] (1)العبّاس بن عمرو الغنوي (2)،يقول:
لما أسرني أبو سعيد الجنّابي القرمطي (3)،و كسر العسكر الّذي كان أنفذه المعتضد معي لقتاله (4)،و حصلت في يده أسيرا،أيست من الحياة.
فإنّي يوما على تلك الصورة،إذ جاءني رسوله،فأخذ قيودي،و غيّر
ص:104
ثيابي،و أدخلني إليه،فسلّمت،و جلست.
فقال لي:أ تدري لم استدعيتك؟
قلت:لا.
قال:أنت رجل عربيّ،و من المحال أن أستودعك أمانة فتخفرها[86 م]، و لا سيّما مع منّي عليك بنفسك.
فقلت:هو ذاك.
فقال:إنّي فكّرت،فإذا لا طائل في قتلك،و أنا في نفسي رسالة إلى المعتضد،لا يجوز أن يؤدّيها غيرك،فرأيت إطلاقك،و تحميلك إيّاها،فإن حلفت لي أنّك تؤدّيها،سيّرتك إليه.
فحلفت له.
فقال:تقول له:يا هذا لم تخرق هيبتك،و تقتل رجالك،و تطمع أعداءك في نفسك،و تتعبها في طلبي،و إنفاذ الجيوش إليّ،و إنّما أنا رجل مقيم في فلاة، لا زرع فيها و لا ضرع،و لا غلّة،و لا بلد،و قد رضيت لنفسي بخشونة العيش، و الأمن على المهجة،و العزّ بأطراف الرماح،و ما اغتصبتك بلدا كان في يدك، و لا أزلت سلطانك عن عمل جليل،و مع هذا،فو اللّه لو أنفذت إليّ جيشك [85 ظ]كلّه،ما جاز أن تظفر بي،و لا تنالني،لأنّي رجل نشأت في هذا القشف (1)و اعتدته أنا و رجالي،و لا مشقّة علينا فيه،و نحن في أوطاننا مستريحون، و أنت تنفذ جيشك من الخيوش و الثلج (2)،و الريحان و الندّ،فيجيئون من المسافة [117 غ]البعيدة،و الطريق الشاسع (3)،و قد قتلهم السفر قبل قتالنا،و إنّما غرضهم أن يبلوا عذرا في مواقفتنا ساعة،ثمّ يهربون،و إن ثبتوا فإنّ ما يلحقهم
ص:105
من وعثاء السفر و شدّة الجهد،أكبر أعواننا عليهم،[فما هو إلاّ أن أحقق عليهم (1)] (2)حتّى ينهزمون،و إن استراحوا،فأقاموا،و كانوا عددا لا قبل لنا به، فيهزمونا،لا يقدر جيشك على أكثر من هذا،فانهزم عنهم مقدار عشرين فرسخا،و أجول في الصحراء شهرا،ثمّ أكبسهم على غرّة،فأقتلهم،و إن لم يستو لي هذا،و كانوا متحرّزين،فما يمكنهم الطواف خلفي في البراري و الصحاري،ثم لا يحملهم البلد في المقام،و لا الزاد،إن كانوا كثيرين، فإن انصرف الجمهور منهم،و بقي الأقلّ،فهم قتلى سيوفي،في أوّل يوم ينصرف الجيش،و يبقى من يتخلّف،هذا إن سلموا من وباء هذا البلد، و رداءة مائه و هوائه الّذي لا طاقة لهم به،لأنّهم نشئوا في ضدّه،و ربوا في غيره، و لا عادة لأجسامهم بالصبر عليه،ففكّر في هذا،و انظر،هل يفي تعبك، و تغريرك بجيشك و عسكرك،و إنفاقك الأموال،و تجهيزك الرجال،و تكلّفك هذه الأخطار،و تحمّلك هذه المشاقّ،بطلبي،و أنا مع هذا خالي الذرع منها، سليم النفس و الأصحاب من جميعها،و هيبتك تنخرق في الأطراف عند ملوكها، كلّما جرى عليك من هذا شيء،ثمّ لا تظفر من بلدي بطائل،و لا تصل منه إلى مال و لا حال،فإن اخترت بعد هذا محاربتي،فاستخر اللّه عزّ و جلّ و أنفذ من شئت،و إن أمسكت،فذاك إليك.
قال:ثمّ جهّزني،و أنفذني مع عشرة من أصحابه إلى الكوفة،فسرت منها إلى الحضرة.
و دخلت على المعتضد،فتعجّب من سلامتي،و قال:ما خبرك؟
فقلت:شيء أذكره سرّا لأمير المؤمنين.
ص:106
فتشوّف إليه،و خلا بي،فقصصت عليه القصّة بأسرها،فرأيته يتمعّط (1)في جلده غيظا،حتّى ظننت أنّه سيسير إليه بنفسه.
و خرجت من بين يديه،فما رأيته ذكره بعد ذلك بحرف (2).
ص:107
كفى بالأجل حارسا
حدّثني أبو محمّد يحيى بن محمّد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي، قال:حدّثني بعض المواصلة (1)،من ثقات أهل الموصل:
أنّ فاطمة بنت أحمد بن عليّ الهزار مرديّ الكرديّ (2)،زوجة ناصر الدولة (3)، أمّ أبي تغلب ابنه (4)،اتّهمت عاملا (5)كان لها،يقال له ابن أبي قبيصة،من أهل الموصل،بخيانة في مالها،فقبضت عليه،و حبسته في[66 ر]قلعتها.
ثمّ رأت أن تقتله،[فكتبت إلى المتوكّل بالقلعة،بقتله] (6)،فورد عليه الكتاب،و كان لا يحسن أن يقرأ و لا أن يكتب،و ليس عنده من يقرأ و يكتب، إلاّ ابن أبي قبيصة،فدفع الموكّل به الكتاب إليه[87 م]و قال له:اقرأه عليّ.
ص:108
فلمّا رأى فيه الأمر بقتله.قرأ الكتاب بأسره،إلاّ حديث القتل،و ردّ الكتاب عليه.
قال ابن أبي قبيصة:ففكّرت،و قلت أنا مقتول،و لا آمن أن يرد كتاب آخر في هذا المعنى،و يتّفق حضور من يقرأ و يكتب غيري فينفذ فيّ الأمر، و سبيلي أن أحتال بحيلة،فإن تمّت سلمت،و إن لم تتمّ،فليس يلحقني أكثر من القتل الّذي أنا حاصل فيه.
قال:فتأمّلت القلعة،فإذا فيها موضع يمكنني أن أطرح نفسي منه إلى أسفلها،إلاّ أنّ بينه و بين الأرض أكثر من ثلاثة آلاف ذراع،و فيه صخر لا يجوز أن يسلم معه من يقع عليه.
قال:فلم أجسر،ثمّ ولّد لي الفكر أن تأمّلت الثّلج قد سقط عدّة ليال، و قد غطّى[118 غ]تلك الصخور،و صار فوقها منه أمر عظيم،يجوز إن سقطت عليه و كان في[86 ظ]أجلي تأخير،أن تنكسر يدي أو رجلي و أسلم.
قال:و كنت مقيّدا،فقمت لمّا نام النّاس،و طرحت نفسي من الموضع، قائما على رجلي،فحين حصلت في الهواء،ندمت و أقبلت أستغفر اللّه،و أ تشهّد، و أغمضت عيني حتّى لا أرى كيف أموت،و جمعت رجلي بعض الجمع لأنّي كنت سمعت قديما أنّ من اتّفق له أن يسقط قائما من مكان عال،إذا جمع رجليه،ثمّ أرسلهما إذا بقي بينه و بين الأرض ذراع أو أكثر قليلا،فإنّه يسلم، و تنكسر حدّة السقطة،و يصير كأنّه بمنزلة من سقط من ذراعين.
قال:ففعلت ذلك،فلمّا سقطت إلى الأرض،ذهب عنّي أمري، و زال عقلي،ثمّ ثاب إليّ عقلي،فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني من ألم السقطة من ذلك المكان،فأقبلت أجسّ أعضائي شيئا شيئا،فأجدها سالمة، و قمت و قعدت،و حرّكت يدي و رجلي،فوجدت ذلك سليما كلّه،فحمدت اللّه تعالى على هذه الحال.
ص:109
و أخذت صخرة،و كان الحديد الّذي في رجلي قد صار كالزّجاج لشدّة البرد،قال:فضربته ضربا شديدا،فانكسر،و طنّ الجبل حتّى ظننت أن سيسمعه من في القلعة لعظمه،فيتنبّهون على صوته،فسلّم اللّه عزّ و جلّ من هذا أيضا،و قطعت تكّتي،فشددت ببعضها القيد على ساقي،و قمت أمشي في الثّلج.
فمشيت طويلا،ثمّ خفت أن يرى أثري من غد في الثلج على المحجّة (1)، فيطلبوني،و يتبعوني،فلا أفوتهم،فعدلت عن المحجّة،إلى نهر يقال له:
الخابور (2)،فلمّا صرت على شاطئه،نزلت في الماء إلى ركبتي،و أقبلت أمشي [كذلك فرسخا،حتّى انقطع أثري،و خفي مكان رجلي،ثمّ خرجت لما]6 كادت أطرافي تسقط من البرد،فمشيت على شاطئه،ثمّ عدت أمشي فيه، و ربّما حصلت في موضع لا أقدر على المشي فيه،لأنّه يكون جرفا،فأسبح.
فأمشي على ذلك أربع فراسخ،حتّى حصلت في خيم فيها قوم،فأنكروني، و همّوا بي،فإذا هم أكراد،فقصصت عليهم قصّتي،و استجرت بهم، فرحموني[و غطّوني،و أوقدوا بين يديّ نارا،و أطعموني،و ستروني]6، و انتهى الطلب من غد إليهم،فما أعطوا خبري أحدا.
ص:110
فلمّا انقطع الطلب،سيّروني (1)،فدخلت الموصل مستترا.
و كان ناصر الدولة ببغداد-إذ ذاك-فانحدرت إليه،فأخبرته بخبري كلّه،فعصمني من زوجته،و أحسن إليّ،و صرّفني.
ص:111
يرتجع من مال مصادرته مائة ألف دينار
حدّثني أبو عليّ بن أبي عبد اللّه الحسين بن عبد اللّه المعروف بابن الجصّاص الجوهري (1)،قال:سمعت أبي (2)يحدّث،قال:
لما نكبني المقتدر،و أخذ منّي تلك الأموال العظيمة (3)،أصبحت يوما في الحبس آيس ما كنت من الفرج.
فأتاني خادم،فقال:البشري.
فقلت:ما الخبر؟
قال:قم،فقد أطلقت.
فقمت معه،فاجتاز بي في بعض الطرق[67 ر]في دار الخلافة،يريد إخراجي إلى دار السيّدة،لتكون هي الّتي تطلقني،[88 م]لأنّها هي الّتي
ص:112
شفعت فيّ،فوقعت عيني في جوازي على أعدال خيش (1)لي أعرفها،و كان مبلغها مائة عدل.
فقلت للخادم:أ ليس هذا من الخيش الّذي حمل من داري؟
قال:بلى.
فتأمّلته،فإذا هو بشدّه و علاماته،و كانت هذه الأعدال قد حملت إليّ من مصر،و في كلّ عدل منها ألف دينار،من مال كان لي بمصر،كتبت بحمله،فخافوا عليه من الطريق،فجعلوه في أعدال الخيش،لأنّها مما لا يكاد يحمله[119 غ]اللصوص،لو وقعوا عليه،فلا يفطنون لما فيه،فوصلت سالمة،و لاستغنائي عن المال،لم أخرجه من الأعدال،و تركته بحاله في بيت من داري،و اقفلت عليه،و توخّيت أيضا بذلك ستر حديثه،فتركته شهورا على حاله لأنقله في وقت آخر كما أريد.
و كبست،فأخذ الخيش في جملة ما أخذ من داري،و لخسّته عندهم تهاونوا به،و لم يعرف أحد ما فيه،فطرح في تلك الدار.
فلمّا رأيته بشدّه،طمعت في خلاصه،و الحيلة في ارتجاعه[87 ظ]فسكتّ.
فلمّا كان بعد أيّام من خروجي،راسلت السيّدة،و رقّقتها،و شكوت حالي إليها،و سألتها أن تدفع إليّ ذلك الخيش،لأنّه لا قدر له عندهم،و أنا أنتفع بثمنه.
قال:فاستحمقتني،و قالت:أيّ شيء قدر الخيش؟ردّوه عليه،فسلّم إليّ بأسره.
ففتحته،و أخذت منه المائة ألف دينار،ما ضاع لي منها دينار واحد، و أخذت من الخيش ما أحتاج إليه،و بعت باقيه بجملة وافرة.
فقلت في نفسي:قد بقيت لي بقيّة إقبال جيّدة.
ص:113
قد ينتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير
حدّثني عليّ بن هشام،قال:سمعت حامد بن العبّاس (1)،يقول:ربّما انتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير،أكثر من منفعته بالكبير،فمن ذلك:
أنّ إسماعيل بن بلبل (2)،لمّا حبسني،جعلني في يد بوّاب كان يخدمه قديما.
قال:و كان رجلا حرّا،فأحسنت إليه،و بررته،و كنت أعتمد على عناية أبي العباس بن الفرات (3)بي،و كان ذلك البوّاب،لقديم خدمته لإسماعيل، يدخل إلى مجالسه الخاصّة،و يقف بين يديه،و لا ينكر عليه ذلك،لسالف خدمته (4).
فصار إليّ في بعض الليالي،فقال:قد حرد الوزير على ابن الفرات بسببك،
ص:114
و قال له:ما يكسر المال على حامد غيرك،و لا بدّ من الجدّ في مطالبته بباقي مصادرته،و سيدعوك الوزير في غد إلى حضرته و يهدّدك.
فشغل ذلك قلبي،فقلت له:هل عندك من رأي؟
قال:نعم،تكتب رقعة إلى رجل من معامليك تعرف شحّه و ضيق نفسه، تلتمس منه لعيالك ألف درهم،يقرضك إيّاها،و تلتمس منه أن يجيبك على ظهر رقعتك،لترجع إليك،فإنّه لشحّه،يردّك بعذر،و تحتفظ بالرقعة، فإذا طالبك الوزير أخرجتها له على غير مواطأة،و قلت له:قد أفضت حالي إلى هذا،فلعلّ ذلك ينفعك.
قال:ففعلت ما قاله،و جاءني الجواب بالرّد كما خمّنّا،فشددت الرقعة معي.
فلمّا كان من الغد،أخرجني الوزير،و طالبني،فأخرجت الرّقعة،و أقرأته إيّاها،و رقّقته،و تكلّمت بما أمكن،فاستحيا،و كان ذلك سبب خفّة أمري، و زوال محنتي.
فلمّا تقلّدت في أيّام عبيد اللّه بن سليمان ما تقلّدت،سألت عن البوّاب، فاجتذبته إلى خدمتي،و كنت أجري عليه خمسين دينارا في كلّ شهر،و هو باق إلى الآن (1).
ص:115
أبو العتاهية يحبس لامتناعه عن قول الشعر
أخبرني أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصبهاني،قال:حدّثني عمّي الحسن ابن محمّد،قال:حدّثنا محمّد بن القاسم بن مهرويه،قال:حدّثني محمّد ابن أبي العتاهية (1)،قال حدّثني أبي (2)،قال:
لمّا امتنعت من قول الشعر،و تركته،أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فأخرجت من بين يديه إلى الحبس.
فلمّا أدخلته[68 ر]دهشت،و ذهل عقلي،و رأيت منظرا هالني.
فرميت[89 م]بطرفي أطلب موضعا آوي فيه،أو رجلا آنس بمجالسته، فإذا أنا بكهل حسن السمت نظيف الثوب،تبين عليه سيماء الخير،فقصدته، فجلست إليه من غير أن أسلّم عليه،أو أسأله عن شيء[120 غ]من أمره، لما أنا فيه من الجزع و الحيرة.
فمكثت كذلك مليّا،و أنا مطرق مفكّر في حالي،فأنشد الرجل:
تعوّدت مسّ الضرّ حتى ألفته و أسلمني حسن العزاء إلى الصبر
و صيّرني يأسي من النّاس واثقا بحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري
قال:فاستحسنت البيتين،و تبرّكت بهما،و ثاب إليّ عقلي،فأقبلت على الرجل،فقلت له:تفضّل،أعزّك اللّه،بإعادة هذين البيتين.
ص:116
فقال لي: ويحك يا إسماعيل-و لم يكنّني-ما أسوأ أدبك،و أقلّ عقلك (1)و مروءتك،دخلت،فلم تسلّم عليّ تسليم[88 ظ]المسلم على المسلم،و لا توجّعت لي توجّع المبتلى للمبتلى،و لا سألتني مسألة الوارد على المقيم،حتّى إذا سمعت منّي بيتين من الشعر الّذي لم يجعل اللّه فيك فضلا (2)و لا أدبا،و لا جعل لك معاشا غيره،لم تتذكّر ما سلف منك فتتلافاه،و لا اعتذرت ممّا قدّمته، و فرّطت فيه من الحق،حتّى استنشدتني مبتدئا،كأنّ بيننا أنسا قديما،أو معرفة سالفة،أو صحبة تبسط المنقبض.
فقلت له:تعذرني متفضّلا،فإنّ دون ما أنا فيه ما يدهش.
فقال:و في أيّ شيء أنت؟أنت إنّما تركت قول الشعر الّذي كان به قوام جاهك عندهم،و سببك إليهم،فحبسوك حتّى تقوله،و أنت لا بد أن تقوله،فتطلق،و أنا يدعى بي الساعة،فأطالب بإحضار عيسى بن زيد (3)،و هو ابن رسول اللّه،صلّى اللّه عليه و سلّم،فإن دللت عليه،لقيت اللّه عزّ و جل بدمه،و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،خصمي فيه،و إن لم أفعل،قتلت،فأنا أولى بالدهش و الحيرة منك،و أنت ترى احتسابي و صبري.
فقلت:يكفيك اللّه عزّ و جلّ،و أطرقت خجلا منه.
فقال لي:لا أجمع عليك التوبيخ و المنع،اسمع البيتين و احفظهما،فأعادهما عليّ مرارا حتّى حفظتهما.
ص:117
ثمّ دعي به و بي،فلمّا قمنا،قلت له:من أنت أعزّك اللّه؟
قال:أنا حاضر،صاحب عيسى بن زيد.
فأدخلنا على المهدي،فلمّا وقفنا بين يديه،قال له:أين عيسى بن زيد؟ قال:ما يدريني أين عيسى بن زيد،طلبته،و أخفته،فهرب منك في البلاد،و أخذتني،فحبستني،فمن أين أقف على موضع هارب منك و أنا محبوس؟
قال له:فأين كان متواريا،و متى آخر عهدك به،و عند من لقيته؟
قال:ما لقيته منذ توارى،و لا أعرف عنه خبرا.
قال:و اللّه،لتدلّني عليه،أو لأضربنّ عنقك السّاعة.
فقال:اصنع ما بدا لك،أنا أدلّك على ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لتقتله،و ألقى اللّه عزّ و جلّ،و رسوله،و هما مطالبان لي بدمه؟،و اللّه لو كان بين جلدي،و ثوبي،ما كشفت عنه.
فقال:اضربوا عنقه.
فقدّم،فضربت عنقه من ساعته.
ثمّ دعاني،فقال:أ تقول الشّعر،أو ألحقك به؟
فقلت:بل أقول الشّعر.
قال:أطلقوه (1).
قال محمّد بن القاسم بن مهرويه:و البيتان اللّذان سمعهما أبو العتاهية، من حاضر،هما في شعره الآن.
ص:118
قال القاضي أبو علي (1):و أنشدني بعض أصحابنا،بيتا آخر،زيادة:
إذا أنا لم أقنع (2)من الدّهر بالّذي تكرّهت منه طال عتبي على الدّهر
[و وجد على مسطرة علي بن أحمد (3)،رحمه اللّه تعالى،بيت رابع لهذا، و هو:[69 ر]
و وسّع صدري للأذى كثرة الأذى و قد كنت أحيانا يضيق به صدري] (4)
ص:119
الفيض بن أبي صالح و مروءته
وجدت في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم،ابن حاجب النعمان (1)،و هو يومئذ كاتب الوزير المهلّبي،على ديوان السواد (2)،و ذكر انّه نسخه من كتاب أعطاه إيّاه[121 غ]أبو الحسين عبد الواحد بن محمّد الخصيبي، و كان فيه إصلاحات بخطّ أبي الحسين بن ما بنداد:قال أبو الحسن عليّ بن الحسين ابن عبد الأعلى[90 م]الإسكافي (3):
كان داود،كاتب أمّ جعفر (4)،قد حبس وكيلا لها،وجب لها عليه في حسابه مائتا ألف درهم،فكتب الرجل إلى عيسى بن فلان،و إلى سهل بن الصباح،و كانا صديقين له،يسألهما الركوب إلى داود في أمره،فركبا إليه.
فلقيهما الفيض بن أبي صالح (5)،فسألهما عن خبرهما،فأخبراه،فقال لهما:أ تحبّان أن أكون معكما.
ص:120
قالا:نعم.
فصاروا إلى داود،فكلّموه في إطلاق الرجل،فقال:أكتب إلى أمّ جعفر، فكتب إليها،يعلمها خبر القوم و حضورهم،و مسألتهم إطلاق الوكيل.
فوقّعت في الرّقعة أن يعرّفهم ما وجب لها عليه من المال،و يعلمهم أنّه لا سبيل إلى إطلاقه دون أداء المال.
قال:فأقرأهم التوقيع،فقال عيسى و سهل بن الصبّاح:قد قضينا حقّ الرّجل،و قد أبت أمّ جعفر أن تطلقه إلاّ بالمال،فقوموا ننصرف.
فقال لهما الفيض بن أبي صالح:كأنّا انّما جئنا لنؤكّد حبس الرّجل.
قالا له:[89 ظ]فما ذا نصنع؟
قال:نؤدّي المال عنه.
قال:ثمّ أخذ الدواة،فكتب إلى وكيله في حمل المال عن الرّجل كتابا دفعه إلى داود كاتب أمّ جعفر،و قال:قد أزحنا علّتك في المال،فادفع إلينا صاحبنا.
قال:لا سبيل إلى ذلك،حتّى أعرّفها الخبر.
قال:فكتب إليها بالخبر،فوقّعت في رقعته:أنا أولى بهذه المكرمة من الفيض بن أبي صالح،فاردد عليه كتابه بالمال،و ادفع إليه الرّجل،و قل له لا يعاود مثل ما كان منه.
قال:و لم يكن الفيض يعرف الرّجل،و إنّما ساعد عيسى و سهلا على الكلام في أمره (1).
ص:121
كيف تخلّص أعشى همدان من أسر الديلم
[أخبرني أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصبهاني،قال:أخبرني الحسن ابن عليّ،قال:حدّثنا الحسن بن عليل العنزيّ،عن محمّد بن معاوية الأسدي، عن ابن كناسة.
و حدّثني مسعود بن بشر،عن أبي عبيدة،و الأصمعي.
و وافق روايتهم الهيثم بن عديّ (1)، عن حمّاد الراوية (2)،قال:] (3)
كان أعشى همدان،أبو المصبح (4)،ممّن أغزاه الحجّاج بلد الديلم (5)، و نواحي دستبى (6)،فأسر،فلم يزل أسيرا في أيدي الدّيلم مدّة.
ثمّ إنّ بنتا للعلج الّذي كان أسره،رأته،فهويته،فصارت إليه ليلا، و أمكنته من نفسها،فأصبح،و قد واقعها ثماني مرّات.
ص:122
فقالت له الديلميّة:يا معشر المسلمين،هكذا تفعلون بنسائكم؟
فقال لها:هكذا نفعل كلّنا بنسائنا.
فقالت له:بهذا العمل نصرتم،أ فرأيت إن خلّصتك،أن تصطفيني لنفسك؟
فقال لها:نعم،و عاهدها.
فلمّا كان الليل،حلّت قيوده،و أخذت به طريقا تعرفه،حتّى خلّصته.
فقال شاعر من أسراء المسلمين:
و من كان يفديه من الأسر ماله فهمدان تفديها الغداة أيورها
و قال الأعشى،يذكر ما لحقه من أسر الديلم له:
[لمن الظعائن سيرهنّ تزحّف عوم السفين إذا تقاعس مجذف
و ذكر أبو الفرج الأصبهاني القصيدة،و هي طويلة،اخترت منها ما تعلّق بالفرج بعد الشدّة،و هو قوله:] (1)
أصبحت رهنا للعداة مكبّلا أمسي و أصبح في الأداهم أرسف[91 م]
و لقد أراني قبل ذلك ناعما جذلان آبى أن أضام و آنف[122 غ]
و استنكرت ساقي الوثاق و ساعدي و أنا امرؤ بادي الأشاجع (2)أعجف (3)
و أصابني قوم و كنت أصيبهم فالآن أصبر للزمان و أعرف
و إذا تصبك من الحوادث نكبة فاصبر لها فلعلّها تتكشّف
[و يروى:فكلّ مصيبة ستكشّف] (4).
ص:123
يحتال للخلاص من حبس نجاح بن سلمة
و ذكر ابن عبدوس في أخبار الوزراء:
أنّ نجاح بن سلمة،حبس إبراهيم بن المدبّر (1)مكايدة لأخيه (2)،و ذلك في أيّام المتوكّل.
فلمّا طال حبس إبراهيم،و لم يجد حيلة في الخلاص،عمل أبياتا،و أنفذها إلى المسدود الطنبوريّ (3)،و سأله أن يعمل فيها لحنا،و يغنّي بها المتوكّل،فإذا سأل عن قائلها،عرّفه أنّها له.
ففعل المسدود ذلك،و سأله المتوكّل،فقال:لعبدك إبراهيم بن المدبّر، فذكره،و أمر بإطلاقه.
و الأبيات هي:
بأبي من بات عندي طارقا من غير وعد
بات يشكو ألم الشو ق و أشكو فرط وجدي
و تجنّى فبكى فان هلّ درّ فوق ورد
فيد تحت يد طو را و خدّ فوق خدّ
ص:124
يهب أحد أتباعه خمسة آلاف ألف درهم
و ذكر أيضا أنّ إسحاق بن سعد،قال:حدّثني أبو عبد اللّه محمّد بن عيسى المروروذي صاحب يحيى بن خاقان (1)،[عنه]،قال:
كان المأمون ألزمني خمسة آلاف ألف درهم،فأعلمته أنّي لا أملك إلاّ سبعمائة ألف درهم،و حلفت له على ذلك،بأيمان مغلّظة،اجتهدت فيها، فلم يقبل منّي،و حبسني عند أحمد بن هشام (2)،و كان بيني و بينه شرّ قد اشتهر و عرف،و كان يتقلّد الحرس.
فقال أحمد للموكّلين بي:احفظوه،و احذروا أن يسمّ نفسه.
ففطن المأمون لمراده،فقال:لا يأكل يحيى بن خاقان،و لا يشرب [90 ظ]إلاّ ما يؤتى به من منزله.
قال:فأقمت على ذلك[مدّة،فوجّه إليّ الحسن بن سهل بألف ألف درهم،] (3)،و وجّه إليّ فرج الرخجيّ بألف ألف درهم،و وجّه إليّ حميد الطوسيّ
ص:125
بألف ألف درهم،و أضفت ذلك إلى ما كان عندي،و اضطربت حتّى جمعت خمسة آلاف ألف درهم.
فلمّا اجتمعت،كتبت إلى المأمون بحضور المال الّذي ألزمني إيّاه،فأمر بإحضاري،فدخلت إليه و بين يديه أحمد بن أبي خالد،و عمرو بن مسعدة، و علي بن هشام (1).
فلمّا رآني،قال لي:أ و لم تخبرني و تحلف لي أنّك لا تملك إلاّ سبعمائة ألف درهم،فمن أين لك هذا المال؟
فصدقته عن أمره،و قصصت القصّة عليه.
فأطرق طويلا،ثمّ قال لي:قد وهبته لك.
فقال له الحضور:أتهب له خمسة آلاف ألف،و ليس في بيت المال درهم واحد،و أنت محتاج إلى ما دون ذلك بكثير؟فلو أخذته منه قرضا، فإذا جاءك مال رددته عليه.
فقال لهم:أنا على المال أقدر من يحيى،و قد وهبته له.
فرددت إلى القوم ما كانوا حملوه،و تخلّصت.
ص:126
يتنازل لأحد أتباعه عن عشرة آلاف ألف درهم
قال محمّد بن عبدوس في كتابه«أخبار الوزراء» (1):
ذكر الفضل بن مروان (2)،أنّ محمّد بن يزداد (3)سعى إلى المأمون بعمرو بن بهنوى (4).
فقال له المأمون:يا فضل،خذ عمرا إليك،و قيّده،و ضيّق عليه، ليصدق عما صار إليه من مال الفيء،فقد اختان مالا عظيما،و طالبه به.
فقلت[92 م]:نعم،و أمرت بإحضار عمرو،فأحضر،فأخليت له حجرة في داري[123 غ]،و أقمت له ما يصلحه،و تشاغلت عنه[70 ر] بأمور السلطان،في يومي و في الغد.
فلمّا كان في اليوم الثالث،أرسل إليّ عمرو يسألني الدخول عليه،فدخلت، فأخرج إليّ رقعة،قد أثبت فيها كلّ ما يملكه من الدور،و الضياع،و العقار، و الأموال،و الفرش،و الكسوة،و الجوهر،و القماش،و الكراع (5)،و ما يجوز
ص:127
بيعه من الرّقيق،و كان قيمة ذلك عشرون ألف ألف درهم،و سألني أن أوصل رقعته إلى المأمون،و أعلمه أنّ عمرا قد جعله من ذلك كلّه في حلّ وسعة.
فقلت له:مهلا،فإنّ أمير المؤمنين أكبر قدرا من أن يسلبك مالك كلّه، و نعمتك عن آخرها.
فقال عمرو:إنّه لكما وصفت،في كرمه،و لكنّ السّاعي لا ينام عنّي و لا عنك،و قد بلغني ما أمرت به في أمري من الغلظة،و ما عاملتني بضدّ ذلك، و قد طبت نفسا بأن أشتري عدل أمير المؤمنين في أمري،و رضاه عنّي،بجميع مالي.
فلم أزل أنزله،حتّى وافقته على عشرة آلاف ألف درهم،و قلت له:
هذا شطر مالك،و هو صالح للفريقين،و أخذت خطّه بالتزام ذلك صلحا عن جميع ما جرى على يده.
و صرت إلى المأمون فوجدت محمّد بن يزداد و قد سبقني إليه و هو يكلّمه، فلمّا رآني قطع الكلام و خرج.
فقال لي المأمون:يا فضل.
قلت:لبيك يا أمير المؤمنين.
قال:ما هذه الجرأة منك علينا؟.
قلت:يا أمير المؤمنين،أنا عبد طاعتك و غرسك (1).
فقال:أمرتك بالتضييق على النبطيّ عمرو بن بهنوى،فقابلت أمري بالضدّ، و وسّعت عليه،و أقمت له الأنزال.
فقلت له:يا أمير المؤمنين،إنّ عمرا يطالب بأموال عظيمة،و لم آمن أن أجعل محبسه في بعض الدواوين فيبذل مالا يرغب في مثله،فيتخلّص، فجعلت محبسه في داري،و أشرفت على طعامه و شرابه،لأحرس لك نفسه،
ص:128
فإنّ كثيرا من النّاس خانوا السلطان،و تمتّعوا بالأموال،ثمّ طولبوا بها،فاحتيل عليهم،أن يتلفوا،و يفوز بالأموال غيرهم.
قال الفضل:و إنّما أردت بذلك تسكين غضب المأمون عليّ،و لم أعرض الرقعة عليه،و لا أعملته ما جرى بيني و بين عمرو،لأنّي لم آمن سورته (1)في ذلك الوقت،لاشتداد غضبه.
فقال لي:سلّم عمرا إلى محمّد بن يزداد،[91 ظ]قال:فوجّهت من ساعتي،من سلّم عمرا إلى محمّد بن يزداد،فلم يزل يعذّبه بأنواع العذاب، ليبذل له شيئا،فلم يفعل.
فلمّا رأى أصحابه و عمّاله،ما قد ناله،جمعوا له بينهم ثلاثة آلاف ألف درهم،و سألوا عمرا أن يبذلها لمحمّد بن يزداد،فبذلها،فصار محمّد إلى المأمون متبجّحا (2)بها،فأوصل الخطّ بها إلى المأمون،و أنا واقف.
فقال المأمون:يا فضل،أ لم أعلمك،أنّ غيرك أقوم بأمورنا منك،و أطوع لما نأمره به؟
فقلت:يا أمير المؤمنين،أرجو أن أكون في حال استبطاء أمير المؤمنين أعزّه اللّه،أبلغ في طاعته من غيري.
فقال المأمون:هذه رقعة[93 م]عمرو بن بهنوى بثلاثة آلاف ألف درهم.
فقلت،و ما اجترأت عليه قطّ،جرأتي عليه في ذلك اليوم،فإنّي خرجت إلى إضبارة كانت مع غلامي،فأخذت الرقعة منها مسرعا،و قلت:و اللّه، لأعلمنّ أمير المؤمنين،أنّي مع رفقي،أبلغ في حياطة أمواله من غيري مع غلظته،و أريته رقعة عمرو الّتي كان كتبها لي،و حدّثته بحديثه عن آخره.
ص:129
فلمّا تبيّن المأمون الخطّين،و علم أنّهما جميعا خطّ عمرو،قال:ما أدري أيّكما أكرم،عمرو حين شكر برّك،و طاب نفسا بالخروج عن ملكه بهذا السبب،أم أنت،و محافظتك على أهل النّعم،و سترك عليه في ذلك الوقت، [124 غ]،و اللّه،لا كنتما يا نبطيّان،أكرم منّي[71 ر].
و دفع الرّقعة الّتي أخذها محمّد بن يزداد من عمرو إليّ،و أمرني بتخريقها، و تخريق الأوّلة (1)،و أنفذ من سلّم عمرا من محبسه إليّ،و أمرني بإطلاقه.
فخرجت من بين يديه،و فعلت ذلك من وقتي.
ص:130
أبو عمر القاضي يشيب في ليلة واحدة
حدّث أبو الحسين عبد اللّه بن أحمد بن الحارث بن عيّاش الخرزي البغدادي (1)، و كان خليفة أبي رحمه اللّه على القضاء بسوق الأهواز،المشهور الّذي كان صاهر أبا عمر القاضي (2)، قال:حدّثني القاضي أبو عمر رحمه اللّه،قال:
لما جرى في أمر ابن المعتز ما جرى،حبست و ما في لحيتي طاقة بيضاء،
ص:131
و حبس معي أبو المثنّى القاضي (1)و محمّد بن داود الجرّاح (2)في دار واحدة،في ثلاثة أبيات متلاصقة،و كان بيتي في الوسط.
و كنّا آيسين من الحياة،فكنت،إذا جنّنا الليل،حدّثت أبا المثنّى تارة، و محمّد بن داود تارة،و حدّثاني من وراء الأبواب،و يوصي كلّ منّا إلى صاحبه، و نحن نتوقّع القتل ساعة بساعة.
فلمّا كان ذات ليلة،و قد غلّقت الأبواب،و نام الموكّلون بنا،و نحن نتحدّث في بيوتنا،إذ حسسنا بصوت الأقفال تفتح،فارتعنا،و رجع كلّ واحد منّا إلى صدر بيته.
فما شعرنا إلاّ و قد فتح الباب عن محمّد بن داود،فأخرج،و أضجع ليذبح، فقال:يا قوم،ذبحا كما تذبح الشّاة،أين المصادرات،أين أنتم عن أموالي أفتدي بها نفسي؟عليّ كذا و كذا.
قال:فما التفتوا إلى كلامه،و ذبحوه،و أنا أراه من شقّ الباب،و قد أضاء الصّحن،و صار كأنّه نهار من كثرة الشموع،و احتزّوا رأسه،و أخرجوه معهم، و جرّوا جثّته،فطرحت في بئر الدّار،و غلّقت الأبواب،و انصرفوا.
ص:132
قال:فأيقنت بالقتل،و أقبلت على الصّلاة،و الدّعاء،و البكاء.
فما مضت إلاّ ساعات يسيرة،حتّى سمعت أصوات الأقفال تفتح،فعاودني الجزع،و إذا هم قد جاءوا إلى بيت أبي المثنّى القاضي[94 م]،ففتحوه، و أخرجوه،و قالوا له:يقول لك أمير المؤمنين،يا عدوّ اللّه،يا فاسق،بم استحللت نكث بيعتي،و خلع طاعتي؟
فقال:لأنّي علمت،أنّه لا يصلح للإمامة.
فقالوا له:إنّ أمير المؤمنين،قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر،فإن تبت رددناك إلى محبسك،و إلاّ قتلناك.
فقال:أعوذ باللّه من الكفر،ما أتيت ما يوجب الكفر.
قال:و أخذ يتهوّس معهم بهذا الكلام و شبهه،و لا يرجع عنه.
فلمّا أيسوا منه،مضى[92 ظ]بعضهم و عاد،فظننت أنّه يستثبت في الاستئذان،قال:ثمّ أضجعوه،فذبحوه،و أنا أراه،و حملوا رأسه،و طرحوا جثّته في البئر.
قال:فذهب عليّ أمري،و أقبلت على البكاء،و الدّعاء،و التضرّع إلى اللّه جلّ و عزّ.
فلمّا كان وجه السّحر (1)،و قد سمعت صوت الدبادب (2)،و إذا صوت
ص:133
الأقفال،فقلت:لم يبق غيري،و أنا مقتول،فاستسلمت،و فتحوا الأبواب عنّي،و أقاموني إلى الصّحن،و قالوا:يقول لك أمير المؤمنين،يا فاعل، يا صانع،ما حملك على نكث بيعتي؟.
فقلت:الخطأ،و شقوة الجدّ،و أنا تائب إلى اللّه عزّ و جلّ من هذا الذنب.
قال:و أقبلت أتكلّم بهذا و شبهه،فمضى بعضهم،و عاد فقال:أجب،ثمّ أسرّ إليّ،فقال:لا بأس عليك،فقد تكلّم فيك الوزير-يعنون ابن الفرات- و أنت مسلّم إليه،فسكنت قليلا،[و جاءوني بخفّي،و طيلساني،و عمامتي، فلبست ذلك] (1)،و أخرجت فجيء بي إلى الدّار الّتي كانت برسم ابن الفرات [125 غ]في دار الخليفة (2)،فلمّا رآني،أقبل[72 ر]يخاطبني بعظم جنايتي و خطئي،و أنا أقرّ بذلك،و أستقيل،و أتنصّل.
ص:134
ثمّ قال لي:قد وهب لي أمير المؤمنين ذنبك،و ابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار،ألزمتك إيّاها.
فقلت:أيّها الوزير،ما رأيت بعضها قطّ مجتمعا.
فغمزني بأن أسكت،و جذبني قوم من وجوه الكتّاب،كانوا ورائي، فسكّتوني،فعلمت أنّ الوزير ابن الفرات،أراد تخليصي،و حقن دمي.
فقلت:عليّ كلّ ما يأمر الوزير أعزّه اللّه.
فقال:احملوه إلى داري.
قال:فأخذت،و حملت إلى داره،فقرّر أمري على مائة ألف دينار، على أن أؤدّي منها النصف عاجلا،و يصير النّصف في حكم الباطل على رسم المصادرات.
فلمّا صرت في دار ابن الفرات،وسّع عليّ في المطعم،و المشرب،و الملبس، و أدخلت الحمّام،و رفّهت،و أكرمت.
فرأيت،لما خرجت من الحمّام،وجهي في المرآة،فإذا طاقات شعر قد ابيضّت في مقدّم لحيتي،فإذا أنا قد شبت في تلك الليلة الواحدة.
ص:135
قال:و أدّيت من المال نيّفا و ثلاثين ألف دينار (1)،ثمّ نظر لي ابن الفرات بالباقي و صرفني إلى منزلي،و تخلّص دمي.
و أقمت في بيتي سنين (2)،و بابي مسدود،لا أرى أحدا،إلاّ في الشاذّ، و توفّرت على دراسة الفقه،و النّظر في العلم،إلى أن منّ اللّه بالفرج،فكشف ما بي،و أخرجت من بيتي إلى ولاية الأعمال.[95 م]
ص:136
قضى ليلته معلّقا في بادهنج
و يشبه هذا الحديث،و يقاربه،و إن لم يكن في الحقيقة من باب من خرج من حبس،إلاّ أنّه من أخبار الفرج في الجملة،ما حدّثني به أبو عليّ الحسن بن محمّد بن عليّ بن موسى الأنباري الكاتب (1)،صهر أبي محمّد المهلّبي الوزير، قال:سمعت دلويه (2)،كاتب صافي الحرمي (3)، يتحدّث،قال:
كان في دار المقتدر باللّه،عريف على بعض الفرّاشين،يخدمني و صافيا إذا أقمنا في دار الخليفة،ففقدته في الدّار،و ظننته عليلا،فلمّا كان بعد شهور،رأيته في بعض الطرق،بزيّ التجّار،و قد شاب.
فقلت:فلان؟
قال:نعم،عبدك يا سيّدي.
فقلت:ما هذا الشّيب في هذه الشهور اليسيرة،و ما هذا الزيّ؟و أين كنت؟ فلجلج.
فقلت لغلماني:احملوه إلى داري،و قلت:حدّثني حديثك.
ص:137
فقال:على أنّ لي الأمان و الكتمان.
فقلت:نعم.
فقال:كان الرّسم الّذي تعرفه على كلّ عريف في الدّار من الفرّاشين، أن يدخل يوما من الأيّام،هو و من معه في عرافته،إلى دور الحرم،لرشّ الخيوش الّتي فيها.
فبلغت النّوبة إليّ،في يوم كنت فيه مخمورا،فدخلت،و معي رجالي، إلى دار فلانة-و ذكر حظيّة جليلة من حظايا المقتدر باللّه-لرشّ الخيش.
فلعظم ما كنت فيه من الخمار،ما رششت قربتي،و لم أخرج بخروج الرّجال،و قلت لهم:امضوا،فهاتوا قربكم لإتمام الرشّ،فإذا رششتموها فأنبهوني،فإنّي نائم هنا.
و دخلت خلف الخيش،إلى باب بادهنج (1)تخرج منه ريح طيّبة،فنمت،
ص:138
و غلب عليّ النّوم،إلى أن جاء الفرّاشون،و فرغوا من رشّ الخيش،و خرجوا، و لم ينبّهوني[93 ظ].
و تمادى بي النّوم،فما انتبهت إلاّ بحركة في الخيش،فقمت،فإذا أنا قد امسيت،و إذا صوت نساء في الخيش،فعلمت أنّي مقتول إن أحسّ بي، و تحيّرت فلم أدر ما أعمل،فدخلت البادهنج،[و كان ضيّقا،فجعلت رجليّ على حائطي البادهنج] (1)و تسلّقت فيه،و وقفت معلّقا،أترقّب أن يفطن لي، فأقتل.
و إذا بنسوة فرّاشات يكنسن الخيش،فلمّا فرغن من ذلك فرشنه (2)،و عبّي فيه مجلس الشّراب.
و لم يكن بأسرع من أن جاء المقتدر باللّه،و عدّة جواري،فجلس و جلسن [73 ر]،و أخذ الجواري في الغناء،و أنا أسمع ذلك كلّه،و روحي تكاد تخرج،فإذا أعييت،نزلت فجلست في أرض البادهنج،فإذا استرحت، و خفت أن يفطن بي،عدت فتسلّقت،إلى أن مضت قطعة من[126 غ] اللّيل،ثمّ عنّ للمقتدر أن جذب إليه حظيّته الّتي هي صاحبة تلك الدّار،فانصرف باقي الجواري،و خلا الموضع،فواقع المقتدر باللّه الجارية،و أنا أسمع حركتهما و كلامهما،ثمّ ناما في مكانهما،و لا سبيل لي إلى النّوم لحظة واحدة،لما أقاسي من الخوف.
ففكّرت في أن أخرج و أصعد إلى بعض السطوح،ثمّ علمت أنّي إن فعلت ذلك،تعجّلت القتل،و لم يجز أن أنجو.
فلم تزل حالي تلك إلى أن انتبه المقتدر باللّه في السّحر،و خرج من الموضع.
ص:139
فلمّا كان من غد نصف النّهار،جاء عريف آخر من الفرّاشين،و معه رجاله،فرشّوا الخيش،فخرجت فاختلطت بهم.
فقالوا:أيش تعمل هاهنا؟
فأومأت إليهم بالسّكوت،و قلت:اللّه،اللّه،في دمي،فإنّ حديثي طويل،فتذمّموا أن يفضحوني.
و قال بعضهم:ما بال لحيتك قد شابت؟
فقلت:لا أعلم،و أخذت ماء من[96 م]قربة بعضهم،فرطّبت به قربتي،و خرجت بخروجهم.
فلمّا صرت في موضع من دار الخليفة،وقعت مغشيا عليّ،و ركبتني حمى عظيمة و ذهب عقلي،[فحملني الفرّاشون إلى منزلي،و أنا لا أعقل] (1)،فأقمت مبرسما مدّة طويلة (2).
و قد كنت عاهدت اللّه تعالى،و أنا في البادهنج،إن هو خلّصني،أن لا أخدم أحدا أبدا،و لا أشرب النّبيذ،و أقلعت عن أشياء تبت منها.
فلمّا تفضّل اللّه تعالى بالعافية،وفيت بالنّذر،و بعت أشياء كانت لي، و ضممتها إلى دراهم كانت عندي،و لزمت دكّانا لحميّي أتعلّم فيه التّجارة معه، و أتّجر،و تركت الدّار،فما عدت إليها إلى الآن،و لا أعود أبدا إلى خدمة الناس،و لا أنقض ما تبت منه.
قال:و رأيت لحيته و قد كثر فيها الشّيب.
ص:140
ابن الفرات يصفح عمّن أساء إليه
حدّثني أبو الحسين عليّ بن هشام (1)،قال:
كان أبو الحسن بن الفرات،لما ولي الوزارة الأولى (2)،وجد سليمان بن الحسن (3)يتقلّد مجلس المقابلة في ديوان الخاصّة (4)،من قبل علي بن عيسى،و الديوان كلّه -إذ ذاك-إلى عليّ بن عيسى،فقلّد أبو الحسن بن الفرات،سليمان،الدّيوان بأسره فأقام يتقلّده نحو سنتين.
فقام ليلة في دار ابن الفرات يصلّي المغرب،فسقطت من كمّه رقعة، فرآها بعض من حضر (5)،فأخذها،و لم يفطن لها سليمان،و قرأها،فوجدها سعاية،بخطّه،بابن الفرات و أسبابه،إلى المقتدر باللّه،و سعيا لابن عبد الحميد، كاتب السيّدة (6)،في الوزارة،فتقرّب بها إلى ابن الفرات،فقبض على سليمان في الوقت،و أنفذه في زورق مطبق إلى واسط،فحبسه بها،و صادره،و عذّبه، فكان في العذاب دهرا،و أيس منه،
فبلغ ابن الفرات،أنّ أمّ سليمان بن الحسن قد ماتت ببغداد،و أنّها كانت
ص:141
تتمنّى رؤيته قبل موتها،فاغتمّ لذلك،و تذكّر المودّة بينه و بين أبيه الحسن ابن مخلد،فبدأ،و كتب إليه بخطّه كتابا أقرأنيه سليمان بن الحسن بعد سنين كثيرة من تلك الحال،فحفظته،و نسخته:
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،ميّزت-أكرمك اللّه-بين حقّك و جرمك، فوجدت الحقّ يوفي على الجرم،و تذكّرت من سالف[94 ظ]حرمتك، في المنازل الّتي فيها ربيت،و بين أهلها غذيت،ما ثناني إليك،و عطفني عليك، و أعادني لك إلى أفضل ما عهدت،و أجمل ما ألفت،فثق-أكرمك اللّه- بذلك،و أسكن إليه،و عوّل في صلاح ما اختلّ من أمرك عليه،و أعلم أنّي أراعي فيك،حقوق أبيك،الّتي تقوم بتوكيد السبب،مقام اللّحمة و النّسب، و تسهّل ما عظم من جنايتك،و تقلّل ما كثر من إساءتك،و لن أدع مراعاتها [127 غ]،و المحافظة عليها بمشيئة اللّه تعالى،و قد قلّدتك أعمال دستميسان لسنة ثمان و تسعين و مائتين،و بقايا ما قبلها،و كتبت إلى أحمد بن محمّد بن حبش (1)،بحمل عشرة آلاف درهم إليك،فتقلّد هذه الأعمال،و أثّر فيها أثرا جميلا يبين عن كفايتك و يؤدّي إلى ما أبغيه من زيادتك،إن شاء اللّه تعالى (2).
ص:142
قال أبو الحسين:أحمد بن حبش هذا،كان وكيل ابن الفرات في ضياعه بواسط (1).
ص:143
أراد أن يسير بسيرة الحجّاج فقتلوه
وجدت في بعض الكتب:
أنّ عمر بن عبد العزيز (1)،ولّى محمّد بن يزيد،مولى الأنصار (2)[97 م]، إفريقية (3)،فكان حسن السّيرة فيها،فلمّا مات عمر بن عبد العزيز،و ولي يزيد بن عبد الملك الأمر،صرفه،و ولّى يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجّاج ابن يوسف.
فلمّا ورد يزيد إفريقية،حبس محمّد بن يزيد،و تسلّط عليه (4)،و طالبه بأموال لم تكن عنده.
ص:144
ثمّ إنّ يزيد بن أبي مسلم أجمع أن يصنع بأهل إفريقيه،مثل ما صنع الحجّاج بن يوسف بأهل العراق،في ردّه من منّ اللّه عليه بالإسلام،إلى بلده و رستاقه،و أخذهم بالخراج (1)،فبلغ ذلك أهل إفريقية،فتراسلوا في قتله، و تساعوا فيه سرّا حتّى تمّ لهم أمرهم،فوثبوا عليه و هو يصلّي،فقتلوه و قد سجد، و جاءوا إلى حبسه،فأخرجوا محمّد بن يزيد،فردّوه إلى الإمارة،و كتبوا إلى يزيد بن عبد الملك:إنّا لم نخلع يدا من طاعة،و لكنّ يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به اللّه عزّ و جلّ،و لا المسلمون،من كيت و كيت،فقتلناه،و ولّينا محمّد بن يزيد،و وصفوا جميل سيرته.
فكتب إليهم يزيد:إنّي لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم،و قد أمّرت محمّدا عليكم (2).
و قد مضى هذا الخبر بروايات غير هذه الرواية،و سياقة غير هذه السّياقة، فيما تقدّم من هذا الكتاب (3).
ص:145
تشير الفقرة(5)إلى لون من ألوان السياسة المخرّبة التي اتّبعها الحجّاج خلال مدّة حكمه، تلك السياسة الّتي كانت من أهم الأسباب الّتي أدّت إلى سقوط دولة بني مروان(السيادة العربية،فان فلوتن 44)و خرّبت العراق تخريبا تاما.
فقد فرض على أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار،ممن كان أصله من السواد، من أهل الذمّة فأسلم،بالعراق،أن ردّهم إلى قراهم و رساتيقهم،و وضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم على كفرهم(وفيات الأعيان 311/6)إذ انّ هؤلاء لمّا أسلموا،كتب عمّال الحجّاج إليه،بأنّ الخراج قد انكسر،و أنّ أهل الذمّة قد أسلموا، و لحقوا بالأمصار،فأمر باخراج أهل القرى إلى قراهم،و أن تؤخذ منهم الجزية،على نحو ما كانت تؤخذ منهم و هم كفّار(ابن الأثير 464/4 و 101/5).
فاجتمع إلى ابن الأشعث،أهل الكوفة،و أهل البصرة،و القرّاء،و أهل الثغور، و المسالح،و تضافروا على حرب الحجّاج(ابن الأثير 469/4)و كان من جملتهم كتيبة تضمّ حملة القرآن،و تسمّى كتيبة القرّاء(ابن الأثير 472/4).
و لمّا ثار أهل العراق على الحجّاج،و احتشدوا لحربه،استنجد بعبد الملك،فأمدّه بجند من أهل الشام(بلاغات النساء 125)فأنزلهم في بيوت أهل الكوفة،و هو أول من أنزل الجند في بيوت الناس(ابن الأثير 482/4).
و لمّا قتل ابن الأشعث،قال الحجّاج:الآن فرغت لأهل السواد،فعمد إلى رؤسائهم، و أهل بيوتاتهم من الدهاقين،فقتلهم صبرا،و جعل كلّما قتل من الدهاقين رجلا،أخذ أمواله،و أضرّ بمن بقي منهم إضرارا شديدا،فخربت الأرض(أدب الكتاب للصولي 220/2).
و انبثقت في زمن الحجّاج،بثوق،أغرقت الأراضي،فلم يعن الحجّاج بسدّها، مضارّة للدهاقين،لأنّه كان اتّهمهم بممالأة ابن الأشعث حين خرج عليه(فتوح البلدان 291).
و كانت عاقبة هذه السياسة الخرقاء،أنّ جباية سواد العراق،و كانت على عهد الخليفة عمر بن الخطاب مائة ألف ألف و ثمانية و عشرين ألف ألف درهم،نزلت في عهد الحجّاج إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط،ثم ارتفعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مائة ألف ألف و أربعة و عشرين ألف ألف درهم(أحسن التقاسيم للمقدسي 133)فقال
ص:146
عمر بن عبد العزيز:لعن اللّه الحجّاج،فإنّه ما كان يصلح للدنيا،و لا للآخرة،فإنّ عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه،جبى العراق،بالعدل و النصفة،مائة ألف ألف،و ثمانية و عشرين ألف ألف درهم،و جباه الحجّاج مع عسفه و جبروته ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط،قال عمر:و ها أنا قد رجع إليّ على خرابه،فجبيته مائة ألف ألف درهم و أربعة و عشرين ألف ألف درهم،بالعدل و النصفة(معجم البلدان 178/3).
و ممّا يدلّ على عقلية الحجّاج الفاسدة،انّه لما خرب السواد من جراء إفراطه في الظلم و في سوء الجباية،تخيّل أنّ الانقطاع عن الزراعة،إنّما كان لقلّة الماشية التي تعين الفلاّحين على حرث الأرض،فأصدر أمره بتحريم ذبح البقر،فقال الشاعر:[الأغاني 378/16] شكونا إليه خراب السواد فحرّم فينا لحوم البقر
فكنّا كمن قال من قبلنا أريها السها و تريني القمر
و قد سمّى الناس سليمان بن عبد الملك،مفتاح الخير،لأنّه أذهب عنهم سنّة الحجاج، و أخلى السجون،و أطلق الأسرى(وفيات الأعيان 420/2)،و لما تولّى يزيد بن المهلّب العراق،نظر في نفسه،و قال:إنّ العراق قد أخربها الحجّاج،و أنا اليوم رجاء أهل العراق، و متى أخذت الناس بالخراج،و عذّبتهم عليه،صرت مثل الحجّاج،أدخل على الناس الخراب،و أعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم اللّه منها،(وفيات الأعيان 296/6 و 297)،و لما خرج يزيد بن المهلّب،بالعراق،بايعه الناس،على كتاب اللّه،و سنّة نبيه،و أن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجّاج(وفيات الأعيان 304/6).
و ليس الحجّاج هو الملوم وحده على سياسته المخرّبة،فإنّ عبد الملك بن مروان الذي سلّطه على العراق،هو الملوم الأوّل على ذلك،فالحجّاج سيئة من سيّئات عبد الملك(واسطة السلوك 209)،و يحقّ لعبد الملك أن يحذر من اللّه تعالى لأنّ من يكن الحجّاج بعض سيّئاته،يعلم أي شيء يقدم عليه(ابن الأثير 521/4).
و قد كان عبد الملك مطّلعا تمام الاطّلاع على سياسة الحجاج المخرّبة،و قد كتب إليه مرّة يقول:إنّ رأيك الذي يسوّل لك أنّ الناس عبيد العصا،هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك،و إذا أحرجت العامّة بعنف السياسة،كانوا أوشك وثوبا عليك عند الفرصة،ثمّ لا يلتفتون إلى ضلال الداعي،و لا هداه،إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك، و قد ولّي العراق قبلك ساسة،و هم يومئذ أحمى أنوفا،و أقرب من عمياء الجاهلية،و كانوا عليهم أصلح منك عليهم(العقد الفريد 45/5).
ص:147
و ظلّت سيرة الحجّاج في الظلم و العسف،تدور مع التاريخ،و يتذاكرها الناس خلفا عن سلف،حتى حيكت حولها الروايات،و رتّبت بشأنها القصص،فذكروا أنّ أعرابيا سأله الحجّاج:كيف سيرة أميركم الحجّاج؟فقال:غشوم ظلوم،لا حيّاه اللّه،و لا بيّاه، فقال له:لو شكوتموه إلى أمير المؤمنين،فقال الأعرابي:هو أظلم منه و أغشم،عليه لعنة اللّه(الملح و النوادر للحصري 15).
و ذكروا أنّ رجلا رأى في منامه الحجّاج بن يوسف،فقال له:ما حالك؟فقال:
ما أنت و ذاك،لا أمّ لك،فقال:سفيه في الدنيا،سفيه في الآخرة(المحاسن و المساوئ 14/2).
راجع ترجمة الحجّاج في حاشية القصّة 67 من هذا الكتاب،و بحثا عن ساديّته في حاشية القصّة 149 من الكتاب،و راجع بقية أخبار الحجّاج في الطبري 202/6 و 320 و 380-388 و 481 و 482 و 488 و 69/8 و ابن الأثير 481/1 و 359/4 و 434 و 462 و 504 و 37/5 و 51 و الأغاني 67/6 و 68 و 145 و 192،201 و 206 و 246 و 75/8 و العقد الفريد 174/2 و 175 و 324 و 354 و 477/3 و 119/4 و 37/5 و 38،46،47،48،55،57،59 و العيون و الحدائق 19 و البيان و التبيين 21/1 و 22،193 و 29/2،84 و شذرات الذهب 106/1-108 و مروج الذهب 112/2،194،و لطائف المعارف 141 و الإمامة و السياسة 47/2 و 48 و تاريخ اليعقوبي 274/2،291،295 و الامتاع و المؤانسة 178/3 و 182 و المحاسن و المساوئ 100/1، 220 و المعارف لابن قتيبة 548 و الفهرست 202،تاريخ الخلفاء 179.
ص:148
قال:
كنت أقيم خبر المحبسين (1)في المطبق بمدينة السّلام،في أيّام المقتدر باللّه، فرأيت في المطبق (2)رجلا مغلولا (3)،على ظهره لبنة من حديد،فيها ستّون رطلا، فسألته عن قصّته،فقال:أنا و اللّه مظلوم.
فقلت له:كيف كان أمرك؟
قال:كنت ليلة من الليالي،في دعوة صديق لي بسوق يحيى (4)،فخرجت من عنده مغلّسا،و في الوقت فضل و أنا لا أعلم،فلمّا صرت في قطعة من الشارع، فإذا مشاعل الطائف (5)،فرهبته،و لم أدر ما أعمل،فرأيت شريجة (6)مشوّشة،
ص:150
ففتحتها،و دخلت،و رددتها كما كانت،و قمت في الدّكان،ليجوز الطّائف و أخرج.
و بلغ الطّائف الموضع،فرأى الشريجة مشوّشة،فقال:فتّشوا هذه الدّكان.
فدخلت الرجّالة بمشعل (1)،رأيت في ضوئه رجلا في أرض الدكّان مذبوحا، على صدره سكّين،فجزعت.
فرأى الرّجالة ذلك الرّجل،و رأوني قائما،فلم يشكّوا في أنّي القاتل.
فأخذني صاحب الشرطة فحبسني،ثمّ عرضت فضربت ضربا شديدا، و عوقبت أصنافا من العقوبات،و أنا أنكر،و عندهم أنّي أتجلّد،و هم يزيدونني.
فاجتمع أهلي،و كانت لهم شعب (2)بأسباب السلطان،فتكلّموا فيّ و استشهدوا خلقا كثيرا[95 ظ]على سيرتي،فبعد شدائد ألوان،أعفيت من القتل، و نقلت[74 ر]إلى المطبق و ثقلت بهذا الحديد،و تركت على هذه الصورة، منذ ستّ عشرة سنة[98 م].
قال:فاستعظمت محنته،و بهتّ من حديثه،فقال:ما لك،و اللّه ما آيس مع هذا من فضل اللّه عزّ و جلّ،فإنّ من ساعة إلى ساعة فرجا.
قال:فو اللّه،ما خرج كلامه (3)من فيه،حتّى ارتفعت ضجّة عظيمة،و كسر الحبس،و وصلت العامّة إلى المطبق[128 غ]و مطاميره 11و أخرجوا كلّ من هناك،و خرج الرّجل في جملتهم.
و انصرفت و أنا أريد منزلي،و إذا نازوك قد قتل،و الفتنة قد ثارت (4)، و فرّج اللّه عن الرّجل،و عن جميع أهل الحبوس.
ص:151
الصدفة تنجي عامل كوثى من القتل
و بلغني عن رجل من أهل كوثى (1)،قال:
كان يتقلّد بلدنا رجل عامل من قبل أبي الحسن بن الفرات،في بعض وزاراته،فافتتح الخراج و اشتدّ في المطالبة.
و كان في أطراف البلد قوم من العرب قد زرعوا من الأرض ما لا يتجاسر الأكرة (2)على زراعته،و كان العمّال يسامحونهم ببعض ما يجب عليهم من الخراج.
فطالبهم هذا العامل بالخراج على التمام أسوة بالأكرة،و أحضر أحدهم فحقّق عليه المطالبة،و هو ممتنع،فأمر بصفعه،فصفع حتّى أدّى الخراج، و انصرف،فشكا إلى بني عمّه،فتوافقوا على كبس العامل ليلا،و قتله،و راسلوا في ذلك غيرهم من العرب،و اتّعدوا لليلة بعينها.
فلمّا كان اليوم الّذي تليه تلك اللّيلة،ورد إلى النّاحية عامل آخر،صارفا للأوّل،فقبض عليه،و صفعه،و ضربه بالمقارع،و أخذ خطّه بمال،و قيّده، و أمر بأن يحمل إلى قرية أخرى على فراسخ من البلد،فحبس فيها،و وكّل به عشرة من الرّجّالة،و سيّره مرّة ماشيا،و مرّة على حمار من حمير الشّوك، فكاد ممّا لحقه أن يتلف،و حصل في تلك القرية.
و كان له غلام قد ربّاه،و هو خصيص به،عارف بجميع أموره،فهرب عند ورود الصارف،فلمّا كان من الغد،لم يشعر المصروف المحبوس إلاّ بغلامه الّذي ربّاه قد دخل عليه،و كان مجيئه إليه أشدّ عليه من جميع ما لحقه إشفاقا
ص:152
على الغلام،و على نفسه مما يعرفه الغلام،أن يكون قد دلّ عليه.
فقال له: ويحك،وقعت في أيديهم؟
فقال له الغلام:من هم؟هات رجلك حتّى أكسر قيودك،و تقوم فتدخل بغداد.
فقال له:و أين الرّجالة الموكّلون بي؟
فقال:يا مولاي قد فرّج اللّه عزّ و جلّ عنك،و هربت الرجّالة (1).
قال:فما السّبب؟
قال:إنّ الأعراب الّذين كنت صفعت منهم واحدا،و طالبتهم بالخراج، كبسوا البارحة دار العمالة،و عندهم أنّك أنت العامل،و كانوا قد عملوا على قتلك،و لم يكن عندهم خبر صرفك،و لا خبر ورود هذا العامل،فقتلوه على أنّه أنت،و قد هرب أصحابه،و أهل البلد كافّة،فقم حتّى نمشي إلى بغداد، لا يبلغهم خبر كونك هنا،فيقصدوك،و يقتلوك.
فكسر القيد،و قام هو و غلامه،يمشيان على غير جادّة،إلى أن بعدا، و دخلا قرية،و استأجرا منها ما ركبا إلى بغداد.
و لقي المصروف الوزير،و شنع على المقتول،و قال:قد أفسد الناحية، و أثار فتنة مع العرب،فأقرّه الوزير[99 م]على النّاحية،و ضمّ إليه جيشا.
فعاد إلى كوثى،و تحصّن بالجيش،و ساس أمره مع العرب،إلى أن صالحهم،و حطّ لهم من الخراج عمّا كان طالبهم به،و أجرى أمرهم على رسومهم،و سكنوا إليه و سكن إليهم،و زال خوفه و استقام له أمر عمله[75 ر].
ص:153
الأمين يغاضب عمّه إبراهيم بن المهدي
ثمّ يرضى عنه [أخبرني أبو الفرج الأموي،المعروف بالأصبهاني،قال:أخبرني عمّي الحسن بن محمّد،قال:أنبأنا عبد اللّه بن أبي سعد،قال:حدّثني] (1)هبة اللّه ابن إبراهيم بن المهدي (2)،عن أبيه،قال:
غضب عليّ الأمين في بعض[96 ظ]هناته،فسلّمني إلى كوثر الخادم (3)، فحبسني في سرداب،و أغلقه عليّ،فمكثت فيه ليلتي.
فلمّا أصبحت،إذا أنا بشيخ قد خرج عليّ من زاوية السرداب،فدفع إليّ وسطا (4)،فأكلت،ثمّ أخرج إليّ قنينة شراب،فشربت،و قال غنّ لي:
[129 غ]
ص:154
لي مدّة لا بدّ أبلغها فإذا انقضت أيّامها متّ
لو ساورتني الأسد ضارية لغلبتها ما لم يجئ الوقت
فغنّيته،و سمعني كوثر،فصار إلى محمّد الأمين،فقال له:قد جنّ عمّك،هو جالس يغنّي بكيت و كيت.
فأمر بإحضاري،فحضرت،و أخبرته بالقصّة،فرضي عنّي،و أمر لي بسبعمائة ألف درهم (1).
ص:155
يتخلّصون من المحنة بأيسر الأسباب
[أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر،قال:أنبأنا أبو عمر محمّد بن عبد الواحد،قال:أخبرني] (1)النوري الصوفيّ (2)،قال:
لما كانت المحنة،و رميت أنا و جماعة من الصوفيّة بالكفر،أخذنا، فأودعنا المطبق أيّاما،ثمّ عرضنا على[ابن]الشّاه،و كان الوالي (3)،و أغري بسفك دمائنا،فعمل على ذلك،و أخرجنا للمسائلة،و ترديد العذاب،و إمراره علينا قبل القتل،و كنّا تعاقدنا أن لا نتكلّم حتّى يكفينا صاحب الأمر.
فقال للرّقام (4):أنت القائل:إنّ قولي بسم اللّه،لجّة من نور؟
قال:فسكت،على العقد.
و حضر من ذوي الأقدار و المنزلة من استعطف ابن الشّاه علينا،و أشار عليه بالتوقّف في أمرنا،و الزيادة في استيضاح ما قرفنا به.
فقال ابن الشّاه للرّقام:أنت صوفيّ،و لعلّك تأوّلت قولك«بسم اللّه» نورا،و قولك«الحمد للّه»،بعد فراغك،نورا.
فصاح الرّقام صيحة عظيمة:لحنت أيّها الأمير.
قال النّوري:فو اللّه لقد أضحكني على ما بي.
ص:156
فقال له الأمير:قد صرت تنظر في النحو بعدي،حتّى صرت تعرف اللّحن من الصواب؟.
فقال له:حاشاك أيّها الأمير من اللّحن الّذي هو الخطأ،و إنّما عنيت بقولي لحنت،أي فطنت (1)،بمعنى الصوفيّة.
فقال ابن الشّاه:في الدنيا أحد يرمي مثل هذا و أضرابه بالزندقة؟و أمر بتخلية سبيلنا.
فتخلّصنا ممّا كنّا فيه،و ممّا نحاذره،و كفينا بأضعف الأسباب و أيسرها.
ص:157
عبد اللّه بن طاهر يطلق الطوسي من حبسه
حبس عبد اللّه بن طاهر،محمّد بن أسلم الطوسيّ،فكتب إليه بعض إخوانه يعزّيه عن مكانه.
فأجابه:كتبت إليّ تعزّيني،و إنّما كان يجب أن تهنّيني،أريت العجائب، و عرضت عليّ المصائب،إنّي رأيت اللّه تعالى يتحبّب إلى من يؤذيه،فكيف من يؤذى فيه،إنّي نزلت بيتا سقطت فيه عنّي فروض و حقوق،منها الجمعة، و الأمر بالمعروف،و النّهي عن المنكر،و عيادة المريض،و قضاء حقوق الإخوان، و ما نزلت بيتا خيرا لي في ديني منه.
فأخبر بذلك ابن طاهر،فقال:نحن في حاجة إلى ابن أسلم،أطلقوه.
فأفرج عنه (1).
ص:158
المأمون يغضب على فرج الرخّجيّ
ثمّ يرضى عنه،و يقلّده فارس و الأهواز و كان[100 م]المأمون قد غضب على فرج الرخّجيّ (1)،فكلّمه عبد اللّه بن طاهر،و مسرور الخادم (2)،في إطلاقه.
قال فرج:فبتّ ليلتي،فأتاني آت في منامي،فقال لي:
لمّا أتى فرجا من ربّه فرج جئنا إلى فرج نبغي به الفرجا
فلما كان من الغد،لم أشعر إلاّ و اللواء قد عقد لي على ولاية فارس و الأهواز، و أطلق لي خمسمائة ألف درهم معونة.
فإذا أبو الينبغي الشاعر على الباب،و قد كتب هذا البيت في رقعة.
فقلت له:متى قلته؟
قال لي:البارحة،[في الوقت الّذي رضي عنك فيه] (3).
فأمرت له بعشرة آلاف درهم.
ص:159
محبوس يتحدّث عن هلاك الحجّاج
[قال عمارة بن عقبة،من آل سلمى بن المهير،حدّثني ملازم بن حرام الحنفي،عن عمّه] (1)ملازم بن قريب (2)الحنفي،قال:
كنت في حبس الحجّاج بسبب الحروريّة (3)،فحبس معنا رجل،فأقام حينا لا نسمعه يتكلّم بكلمة.
حتّى كان اليوم الّذي مات الحجاج في الليلة الّتي تليه،أقبل غراب في عشيّة[97 ظ]ذلك اليوم،فوقع على حائط السجن،فنعق.
فقال[130 غ]له الرّجل:و من يقدر على ما تقدر عليه يا غراب؟
ثمّ نعق الثانية،فقال:مثلك من بشّر بخير،يا غراب.
و نعق الثالثة،فقال له:من فيك إلى السّماء يا غراب.
فقلنا له:ما سمعناك تكلّمت منذ حبست إلى السّاعة،فما دعاك إلى ما قلت؟
فقال:إنّه نعق الأولى،فقال:وقعت على سترة (4)الحجّاج.
ص:160
فقلت:و من يقدر على ما تقدر عليه؟
ثمّ قال في الثانية:إنّ الحجّاج وجع.
فقلت:مثلك من بشّر بخير.
ثمّ نعق الثالثة،فقال:اللّيلة يموت الحجّاج.
فقلت:من فيك إلى السّماء.
ثمّ قال:إن انبلج الصّبح قبل أن أخرج،فليس عليّ بأس،و إن دعيت قبل الصّبح،فستضرب عنقي،ثمّ تلبثون ثلاثا لا يدخل عليكم أحد،ثمّ يستدعى بكم في اليوم الرّابع فتطالبون بالكفلاء (1)،فمن وجد له كفيلا،خلّي سبيله،و من لم يوجد له كفيل،فله ويل طويل.
فلمّا دخل اللّيل سمعنا الصّراخ على الحجّاج،و أخذ[76 ر]الرّجل قبل الصّبح فضربت عنقه،ثمّ لم يدخل علينا أحد ثلاثة أيّام.
فلمّا كان في اليوم الرّابع استدعينا،فطلب منّا الكفلاء،حتّى صار الأمر إليّ،فلم يكن لي كفيل.
فمكثت طويلا حتّى خفت أن أردّ إلى الحبس،فتقدّم رجل فضمنني.
فقلت له:من أنت يا عبد اللّه،حتّى أشكرك.
فقال:اذهب،فلست بمسئول عنك أبدا.
فانطلقت.
ص:161
يحسن إلى كاتب بغا الكبير على غير معرفة منه له
و قال عليّ بن الحسين بن عبد الأعلى الإسكافي (1):
كنت أكتب لبغا الكبير (2)،فصرفني،و نكبني،و أخذ مالي و ضياعي، و حبسني بعد ذلك،و تهدّدني،و نالني منه كلّ مكروه.
فإنّي لفي حبسه،إذ سمعت حركة،فسألت عنها،فقيل لي:قد وافى إسحاق بن إبراهيم الطاهري،صاحب الشرطة.
فقلت:إنّما حضر لعقوبتي،فطارت نفسي جزعا.
فلم ألبث أن دعيت،فحملت إليه في قيودي،و عليّ ثياب في نهاية الوسخ، فأدخلت عليه كالميت لما بي و لعظيم الخوف،فلمّا وقعت عين إسحاق عليّ، تبسّم،فسكنت نفسي.
فقال لي بغا:إنّ أخي أبا العبّاس-يعني عبد اللّه بن طاهر-كتب إليّ يشفع في أمرك،و قد شفّعته،و أزلت عنك المطالبة،و رضيت عنك،و رددت عليك ضياعك،فانصرف[101 م]إلى منزلك.
فبكيت بكاء شديدا،لعظم ما ورد على قلبي من السرور،ففكّت قيودي، و غيّرت حالي،و انصرفت.
فبتّ ليلتي (3)،و بكرت في السّحر إلى إسحاق لأشكره،و أسأله عمّا أوجب
ص:162
ما جرى،لأنّه شيء ما طمعت فيه،و لا كانت لي وسيلة إلى أبي العبّاس و لا إسحاق،فلقيته،و شكرته،و دعوت له و لأبي العبّاس،و سألته عن سبب ذلك.
فقال:ورد عليّ كتاب الأمير أبي العبّاس يقول:قد كانت كتب أبي موسى بغا ترد عليّ بمخاطبات توجب الأنس و الخلطة،و تلزم الشكر و المنّة، ثمّ تغيّرت،فبحثت عن السبب،فعلمت أنّ ذلك الكاتب صرف،و أنّه منكوب،و حقّ لمن أحسن عشرتنا،و وكّد المحبة بيننا و بين إخواننا،حتّى بان لنا موقعه،و عرفنا موضعه لمّا صرف،أن نرعى حقّه،فصر-أبقاك اللّه- إلى أخي أبي موسى،و سله في أمر كاتبه المصروف،عنّي،و استصفحه عمّا في نفسه منه،و استطلقه،و سله ردّه إلى كتبته،و إن كان ما يطالبه به ممّا لا ينزل عنه،فأدّه عنه من مالنا،كائنا ما كان.
فلقيته،ففعل ما رأيت،و أنا أعاود الخطاب في استكتابك،و قد أمر لك الأمير بكذا و كذا،من المال،فخذه.
فأخذته،و شكرته،و دعوت للأميرين،و انصرفت.
فما مضت إلاّ أيام،حتّى ردّني إسحاق إلى كتابة بغا بشفاعة أبي العباس، و رجعت حالي و نعمتي (1).
ص:163
كيف تخلّص عمر بن هبيرة من السجن
[حدّثني عليّ بن أبي الطّيب،قال:حدّثنا ابن الجرّاح،قال:حدّثنا ابن أبي الدنيا،قال:حدّثني سليمان بن أبي شيخ (1)،قال:] (2)حدّثنا سليمان ابن زياد (3)،قال:
كان عمر بن هبيرة،واليا على العراق (4)،ولاّه يزيد بن عبد الملك (5)،فلمّا مات يزيد بن عبد الملك[131 غ]،و استخلف هشام،قال[98 ظ] عمر بن هبيرة:سيولّي هشام العراق،أحد الرّجلين،سعيدا الحرشيّ (6)،
ص:164
أو خالد بن عبد اللّه القسريّ (1)،فإن ولّى ابن النصرانيّة (2)،خالدا،فهو البلاء.
فولّى هشام خالدا العراق،فدخل واسطا،و قد أذن عمر بالصلاة، و قد تهيّأ،و اعتمّ،و بيده المرآة يسوّي عمامته،إذ قيل له:هذا خالد قد دخل.
فقال عمر:هكذا تقوم الساعة،تأتي بغتة.
فتقدّم خالد،و أخذ عمر بن هبيرة،فقيّده،و ألبسه مدرعة صوف، فقال له:يا خالد،بئس ما سننت على أهل العراق،أ ما تخاف أن تصرف فتبتلى بمثل هذا (3)؟
فلمّا طال حبسه،جاء مواليه،و اكتروا دارا بجانب الحبس،ثمّ نقبوا منها سربا إلى الحبس،و اكتروا دارا إلى جانب سور المدينة،مدينة واسط،فلمّا جاءت الليلة الّتي أرادوا أن يخرجوه فيها من الحبس،و قد أفضى النقب إلى الحبس،فأخرج في السرب،ثمّ خرج من الدّار يمشي،حتّى بلغ الدّار الّتي إلى جانب السور،و قد نقب في السّور نقب إلى خارج المدينة،و قد هيّأت له خيل، فركب و سار،و علم به بعد ما أصبحوا،و قد كان أظهر علّة قبل ذلك ليمسكوا عن تفقّده في كلّ وقت.
فأتبعه خالد،سعيد الحرشي،فلحقه،و بينه و بين الفرات شيء يسير، فتعصّب له[102 م]و تركه (4).
ص:165
فقال الفرزدق (1)في ذلك:
و لمّا رأيت الأرض قد سدّ ظهرها و لم يبق إلاّ بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعد ما ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا (2)
خرجت و لم يمنن عليك سفاهة (3) سوى زائد التقريب من آل أعوجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة 14
و ما سار سار مثلها حين أدلجا 15
[قال سليمان بن أبي شيخ:فحدّثني ابن أبي خيرة 16،عن أبي الحبحاب،
ص:166
قال:حدّثني] (1)خازم،مولى ابن هبيرة،قال:
كنت مع عمر بن هبيرة حين هرب من السّجن،فسرنا حتّى بلغنا دمشق، بعد العتمة،فأتى مسلمة بن عبد الملك،فأجاره،و أنزله معه في بيته،و صلّى مسلمة خلف هشام الصّبح.
فلمّا دخل هشام داره،استأذن عليه مسلمة،فأذن له،فدخل.
فقال له هشام:يا أبا سعيد،أظنّ ابن هبيرة قد طرقك الليلة.
قال:أجل يا أمير المؤمنين،و قد أجرته،فهبه لي.
قال:قد وهبته لك (2).
ص:167
كيف تخلّص قيسبة بن كلثوم من أسره
[أخبرني أبو الفرج القرشي،المعروف بالأصبهاني،قال:] (1)ذكر ابن الكلبيّ عن أبيه،قال:
خرج قيسبة بن كلثوم السكوني،و كان ملكا،يريد الحجّ،و كانت العرب تحجّ في الجاهليّة،فلا يعرض بعضها لبعض.
فمرّ بيني عامر بن عقيل،فوثبوا عليه،و أسروه،و أخذوا ماله،و كلّ ما كان معه،و ألقوه في القدّ (2)،فمكث فيه ثلاث سنين،و شاع في اليمن (3)،أنّ الجنّ استطارته.
فبينما هو في يوم شديد البرد،في بيت عجوز منهم،آيس من الفرج،
ص:168
إذ قال لها:أ تأذنين لي أن آتي الأكمة،فأتشرّق عليها (1)؟فقد أضرّ بي البرد.
فقالت له:نعم،و كانت عليه جبّة حبرة (2)،لم يترك عليه غيرها.
فمشى في قيوده حتّى صعد الأكمة،ثمّ أقبل يضرب ببصره نحو اليمن، و تغشاه عبرة،فبكى،ثمّ رفع طرفه إلى السماء،فقال:اللّهم فاطر السّماء، فرّج لي ممّا أصبحت فيه.
فبينما هو كذلك،إذ عرض له راكب[132 غ]يسير،فأشار إليه أن أقبل،فأقبل عليه الراكب،فقال له:ما حاجتك؟
قال:أين تريد؟
قال:أريد اليمن.
قال:و من أنت؟
قال:أبو الطمحان القيني (3)،فاستعبر قيسبة.
فقال أبو الطمحان:من أنت؟فإنّي أرى عليك سيما الخير و لباس الملوك، و أنت بدار ليس فيها ملك.
فقال:أنا قيسبة بن كلثوم السكوني،خرجت عام كذا و كذا حاجّا، فوثب عليّ أهل هذا الحي،و صنعوا بي ما ترى و كشف له عن أغلاله و قيوده، فاستعبر[99 ظ]له أبو الطمحان.
فقال له قيسبة:هل لك في مائة ناقة حمراء؟
قال:ما أحوجني إلى ذلك.
ص:169
قال:أنخ،فأناخ.
ثمّ قال:أ معك سكّين؟
قال:نعم.
قال:ارفع لي عن رحلك،فرفع له عن رحله،حتّى بدا خشب مؤخّر الرحل.
فكتب عليه بالمسند (1)،و ليس يكتب به غير أهل اليمن:
بلّغن كندة الملوك جميعا حيث سارت بالأكرمين الجمال
أن ردوا الخيل بالخميس (2)عجالا و اصدروا عنه و الروايا ثقال
هزئت جارتي و قالت عجيبا إذ رأتني في جيدي الأغلال
إن تريني عاري العظام أسيرا قد براني تضعضع و اختلال
فلقد أقدم الكتيبة بالسي ف عليّ السلاح و السربال
و كتب تحت الشعر إلى أخيه،أن يدفع لأبي الطمحان مائة ناقة حمراء، ثمّ قال له:أقرئ هذا قومي،فإنّهم سيعطونك مائة ناقة حمراء.
فخرج تسير به ناقته،حتّى أتى حضرموت (3)فتشاغل بما ورد له،و نسي أمر قيسبة،حتّى فرغ من[103 م]حوائجه.
ثمّ سمع نسوة من عجائز اليمن،يتذاكرن قيسبة،و يبكين،فذكر أمره،فأتى أخاه الجون بن مالك،[و هو أخوه لأبيه و أمّه] (4)،فقال له:
يا هذا،أنا أدلّك على قيسبة،و قد جعل لي مائة ناقة حمراء.
فقال:هي لك.
ص:170
فكشف له عن الرّحل،فلمّا قرأه الجون بن مالك،أمر له بمائة ناقة حمراء.
ثمّ أتى قيس بن معدي كرب الكندي (1)،[أبا الأشعث بن قيس] (2)، فقال له:يا هذا إنّ أخي في بني عامر بن عقيل أسيرا،فسر معي بقومك لنخلّصه.
فقال له قيس:تسير تحت لوائي،حتّى أطلب ثأرك و أنجدك،و إلاّ فامض راشدا.
فقال له الجون:مسّ السّماء أيسر من ذلك،و أهون عليّ ممّا جئت به.
فضجّت السكون ثمّ فاءوا،و رجعوا،و قالوا له:و ما عليك من هذا؟ هو ابن عمّك،و يطلب لك بثأرك،فأنعم له بذلك.
و سار قيس،و سار معه الجون تحت لوائه،و كندة و السّكون معه،[فهو أوّل يوم اجتمعت فيه السّكون و كندة لقيس]1 و به أدرك الشّرف،فسار حتّى أوقع ببني عامر بن عقيل،فقتل منهم مقتلة عظيمة،و استنقذ قيسبة،فقال في ذلك سلامة بن صبيح الكندي (3):
لا تشتمونا إذ جلبنا لكم ألفي كميت كلّها سلهبه (4)
نحن أبلنا الخيل في أرضكم حتّى ثأرنا منكم قيسبه
و اعترضت من دونها مذحج فصادفوا من خيلنا مشغبه (5)
ص:171
جاءه الفرج من حيث لم يحتسب
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق[الكاتب،ابن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي] (1)قال:
كنت،و أنا حدث،أتعلّم في ديوان زمام السواد،بين يدي كاتب فيه، يقال[133 غ]له أبو الحسن عليّ بن الفتح،و يعرف بالمطوّق (2)،عاش إلى بعد سنة عشرين و ثلاثمائة،و أخرج إلينا كتابا قد عمله في أخبار الوزراء، منذ وفاة عبيد اللّه بن خاقان،إلى آخر أيّام القاهر باللّه،أو بعدها (3)-[الشكّ من أبي الحسن أحمد بن يوسف] 1-و سمّاه:كتاب مناقب الوزراء و محاسن أخبارهم (4)،فقرأ علينا بعضه،و أخبرنا بالباقي مناولة.
[قال مؤلّف هذا الكتاب:و أعطاني أبو الحسن أحمد بن يوسف،هذا الكتاب،مناولة] (5)،فوجدت فيه:أنّ القاسم بن عبيد اللّه اعتقل أبا العبّاس أحمد بن محمّد بن بسطام (6)في داره[أيّاما،لأشياء كانت في نفسه عليه،
ص:172
و أراد أن يوقع به]5 فلم يزل ابن بسطام،يداريه،و يلطف به،إلى أن أطلقه، و قلّده آمد (1)،و ما يتّصل بها من الأعمال،و أخرجه إليها،و في نفسه ما فيها، ثمّ ندم على ذلك،فوجّه إليه في آخر أيّام وزارته بقائد يقال له علي بن حبش، ابن أخي قوصرة 8،و وكّله به،فكان يأمر و ينهى في عمله،و هو موكّل به في داره،خائف على نفسه،لما ظهر من إقدام القاسم على القتل 9.
قال ابن بسطام:فأنا أخوف ما كنت على حالي و نفسي،و ليس عندي خبر، حتّى ورد عليّ كتاب عنوانه:لأبي العباس أطال اللّه بقاءه،من العبّاس بن الحسن 10.
ص:173
فلمّا رأيت العنوان ناقص الدّعاء،علمت أنّ القاسم بن عبيد اللّه قد مات، و أنّ العبّاس بن الحسن قد تقلّد الوزارة (1)،فلم أتمالك نفسي فرحا و سرورا بالسلامة في نفسي،و زوال الخوف عنّي.
و قرأت الكتاب،فإذا هو بصحّة الخبر،و يأمرني بالخروج إلى مصر،و تقلّد الأمانة على الحسين بن أحمد المادرائي (2).
قال علي بن الفتح:فخرج ابن بسطام[100 ظ]إلى مصر،و لم يزل يتقلّد الأمانة على الحسين بن أحمد إلى أن تقلّد علي بن محمّد بن الفرات الوزارة، فقلّده مصر و أعمالها،قال:فلم يزل بها إلى أن مات.
ص:174
العلويّ الصوفيّ يحتال للخلاص من سجن المعتصم
[حدّثنا أبو محمّد عبد الرحمن الورّاق المعروف بالصيرفيّ (1)،ابن أبي العبّاس محمّد بن أحمد الأثرم (2)،المقرئ البغدادي،بالبصرة،في المحرّم سنة خمس و أربعين و ثلاثمائة،بكتاب المبيّضة،لأبي العبّاس أحمد بن عبد اللّه بن عمّار، في خبر العلويّ الصوفيّ (3)،الخارج بالجوزجان (4)،على المعتصم،و هو محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب[104 م]رضي اللّه عنهم أجمعين،و كان عبد اللّه بن طاهر حاربه،و أسره،و بعث به إلى المعتصم، و هو ببغداد (5)،قال:حدّثنا أبو العبّاس بن عمّار،قال:حدّثنا أبو الحسن النوفلي،و هو عليّ بن محمّد بن سليمان بن عبد اللّه بن الحارث بن نوفل] (6)قال:
ص:175
حدّثت أنّ المعتصم أمر أن يبنى حبس في بستان موسى،كان القيّم به مسرور مولى الرّشيد.
قال:و كنت أرى أعلى هذا البناء من دجلة إذا ركبتها،إذ كان كالبئر العظيمة،قد حفرت إلى الماء،أو قريب منه،ثمّ بني فيها بناء على هيأة المنارة، مجوّف من باطنه،و هو من داخله مدرّج،قد حفر فيه،في مواضع من التدريج، مستراحات،و بني في كلّ مستراح شبيها بالبيت،يجلس فيه رجل واحد، كأنّه على مقداره،يكون مكبوبا على وجهه،لا يمكنه أن يجلس فيه،و لا يمدّ رجليه (1)،فلمّا قدم محمّد،حبس في بيت في أسفل ذلك الحبس،فلمّا استقرّ فيه أصابه من الجهد لضيقه،و ظلمته،و من البرد أمر عظيم،لنداوة الموضع و رطوبته،فكاد أن يتلف من ساعته.
فتكلّم بكلام دقيق سمعه من كان في أعالي البئر ممّن وكّل بالموضع، فقال:إن كان أمير المؤمنين يريد قتلي،فالسّاعة أموت،و إن لم يكن يريد قتلي فقد أشفيت عليه.
فأخبر المعتصم بذلك،فقال:ما أريد[134 غ]قتله،و أمر بإخراجه.
فأخرج و قد زال عقله،و أغمي عليه،فطرح في الشّمس،و طرحت عليه اللّحف،و أمر بحبسه في بيت كان قد بني في البستان،فوقه غرقة،و كان في
ص:176
البيت خلاء إلى الغرفة التي فوقه،و في الغرفة أيضا خلاء آخر إلى سطحها، فلم يزل محبوسا فيه حتّى تهيّأ له الخروج في ليلة الفطر سنة تسع عشرة و مائتين.
قال:فحدّثني علي بن الحسين بن عمر بن علي بن الحسين،و هو ابن عمّ أبيه،قال:أصبحت يوم الفطر،و أنا أتهيّأ للرّكوب إلى المصلّى،فأنا أشدّ منطقتي في وسطي،و قد لبست ثيابي أبادر الركوب إلى المصلّى.فما راعني إلاّ محمّد بن القاسم،قد دخل إلى منزلي،فملأني رعبا و ذعرا.
و قلت له:كيف تخلّصت؟.
فقال:أنا أدبّر أمري في التخلّص منذ حبست،و وصف لي الخلاء الّذي كان في البيت الّذي حبس فيه إلى الغرفة الّتي فوقه،و الخلاء الّذي كان في الغرفة إلى سطحها.
قال:و أدخل معي يوم حبست،لبد (1)،فكان وطائي و فراشي (2).
قال:و كنت أرى بغرش (3)،و هي قرية من قرى خراسان،حبالا تعمل من لبود،و تضفر كما يفعل بالسيور،[فتجيء أحكم شيء،فسوّلت لي نفسي أن أعمل من اللبد الّذي تحتي حبلا] (4)و كان على باب البيت،قوم موكّلون بي يحفظونني لا يدخل عليّ أحد منهم،إنّما يكلّموني من خلف الباب و يناولوني من تحته ما أتقوّت به.
فقلت لهم:إنّ أظفاري قد طالت جدّا،و قد احتجت إلى مقراض، فجاءني رجل يميل إلى مذهب الزيديّة،بمقراض أحد جانبيه منقوش كأنّه مبرد (5).
ص:177
و قلت لهم:إنّ في هذا البيت فارا (1)قد آذوني،و يقذرونني إذا قربوا منّي، فاقطعوا لي جريدة من النخل أطردهم بها.
فقطعوا لي من بعض نخل البستان،جريدة،فرموا بها إليّ،و كنت لا أزال أضرب بها في البيت،أريهم أنّي أطرد الفار،و أسمعهم صوتها أيّاما، ثمّ قشرت الخوص عنها،و قطعتها على مقدار ما ظننت أنّه يعترض في ذلك [105 م]الخلاء إذا رميت بها،فضممت ما قطعته منها بعضه إلى بعض، و قصصت اللبد،و فتلت منه حبلا،على ما كنت أرى يعمل بغرش،ثمّ شددت ما قطعته من الجريدة في رأس الحبل،ثمّ رميت به في الكوّة،و عالجته مرارا حتّى اعترض فيها،ثمّ اعتمدت عليها و صعدت إلى الغرفة،و من الغرفة إلى السطح، ففعلت ذلك مرارا،في أيّام كثيرة،و تمكّنت من الحركة لأنّي بردت (2)بجانب المقراض إحدى حلقتي القيد،و لم يمكنني أن أبرد (3)الأخرى،فكنت إذا أردت الحركة،شددت القيد مع ساقي،و أتحرّك،و قد صرت مطلقا.
فلمّا كان في هذه اللّيلة و قد شغل النّاس بالعيد و انصرف من كان على الباب من الموكّلين،فلم أحسّ منهم أحدا إلاّ شيخا واحدا كنت أسمع كلامه و حركته، و أطّلع فأراه.
فصعدت بين العشاءين (4)إلى الغرفة،و من الغرفة إلى السطح،فأشرفت، [101 ظ]فإذا المعتصم يفطر و النّاس بين يديه،و الشموع تزهر،فرجعت.
فلمّا كان في جوف اللّيل صعدت و النّاس نيام،و نزلت إلى البستان،فإذا فيه قائد و معه جماعة،فصاح بي بعضهم:من أنت؟
ص:178
قلت:مدينيّ من أصحاب الحمّام،و كان في البستان منهم جماعة يشرفون على أمر الحمّام.
فقال لي:الى أين تخرج السّاعة،اطرح نفسك حتّى تصبح،و تفتح الأبواب، فطرحت نفسي بينهم،حتّى فتح باب البستان في الغلس،و قد تحرّك النّاس.
فصرت إلى دجلة لأعبر،فوجدت الشيخ الّذي كان بقي من الموكّلين بي يريد العبور،فنزلت لأعبر،فطلب منّي الملاّح قطعة (1)،فقلت له:ما معي شيء، أنا رجل غريب ضعيف الحال.
فقال لي الشيخ:اعبر،فأنا أعطيه عنك،و أعطاه[135 غ]الشيخ عنّي قطعة،و عبرت حتّى جئتك.
قال علي بن الحسين:فقلت له:و اللّه،ما منزلي لك بموضع،فاخرج عنّي من ساعتك،و لا تقم فيه لحظة،و ركبت إلى المصلّى.
فصار إلى منزل رجل من الشّيعة،فأخفاه (2).
ص:179
حسن سيرته كانت سبب اعتقاله
[و حدّثنا أبو محمّد الأثرم،في كتاب المبيّضة،قال:حدّثنا أبو العبّاس ابن عمّار (1)،قال:حدّثني هاشم بن أحمد بن الأشهب البغوي،قال:حدّثني أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد بن إسماعيل،قال:حدّثني أبو إسحاق إبراهيم ابن رباح الجوهري،قال:حدّثني المفضل بن حمّاد الكوفيّ،من أصحاب الحسن بن صالح بن حيّ،بوفاة عيسى بن زيد بن عليّ،بالكوفة،و كيف ستر ذلك عن المهديّ،فذكر حديثا طويلا،قال فيه:] (2)
لما تواترت الأخبار على الرشيد،بحسن طريقة أحمد بن عيسى بن زيد (3)، و ميل النّاس إليه،أمر بحمله،فحمل إلى بغداد،و معه القاسم بن عليّ بن عمر[بن عليّ بن الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهم،و هو والد محمّد بن القاسم الصّوفي الخارج بخراسان في أيّام المعتصم] (4)،فحبسا عند الفضل بن الرّبيع، فكانا في حبسه في داره الشارعة على دجلة،قرب رأس الجسر،بمشرعة الصّخر.
و كان حسن الصنيع إليهما،يؤتيان بمائدة كمائدته الّتي توضع بين يديه، و يواصلان من الحلوى،و الفاكهة،و الثّلج في الصّيف،بمثل ما يكون على
ص:180
مائدته،فإذا أكلا،رفعت من بين أيديهما،و وضعت بين أيدي الموكّلين بهما.
فأكلا يوما من الأيّام،و رفعت المائدة فجعلت بين يدي الموكّلين بهما، فأكلوا،و أكثروا،و دخل وقت القائلة فناموا[106 م]،فخرج أحمد بن عيسى إلى حبّ (1)في ناحية الدهليز،فرأى القوم نياما،فغرف من الحبّ،[بالكوز (2)الّذي معه] (3)،ثمّ رجع،فقال للقاسم:يا هذا اعلم أنّي قد رأيت فرصة بيّنة، و هؤلاء نيام،و الباب غير مقفل،[لم يحكموا-كما كانوا يفعلون-إغلاقه، فاخرج بنا] 7.
فقال له القاسم:أنشدك اللّه،فإنّك تعلم،أنّا في عافية من كثير ممّا فيه أهل الحبوس،و الفضل محسن إلينا (4).
فقال له أحمد:دعني منك،و اعلم أنّ العلامة بيني و بينك،أن أغرف من الحبّ،فإن تحرّك القوم رجعت إليك،و كانت علّتي ظاهرة بسبب الكوز، و إن لم يتحرّكوا،فأنا-و اللّه-خارج،و تاركك بموضعك،و اعلم أنّك لا تسلم بعدي.
ثمّ خرج،فغرف من الحبّ بالكوز،ثمّ طرحه من قامته،[قال:و كان أطول منّي و منك] (5)،فما تحرّك أحد منهم،ثمّ انثنى عليّ،و قال:قد رأيت ما استظهرت به لك و لنفسي،و أنا-و اللّه-خارج،ثمّ مضى،و اتّبعه القاسم، ففتحا الباب،و خرجا،فقالا:لا نجتمع في طريق،و لكن موعدنا،موضع كذا.
ص:181
فلمّا جازا العتبة بخمسين ذراعا،لقيهما غلام للفضل بن الرّبيع،مدنيّ، أعرف بهما من أنفسهما،فبهت الغلام (1)لما رآهما،فأومأ إليه أحمد،بكمّه، كالآمر بغضب:تنحّ،فما ملك الغلام نفسه أن تنحّى،ثمّ كان عزمه أن يستقيم في طريقه ذاك،[فلمّا بلي من الغلام بما بلي،عدل عن تلك الطريق، و سار في طريق أخرى للاستظهار على الغلام] (2)،و أسرع حتّى نجا...و ذكر بقيّة الحديث (3).
ص:182
إناء من الفخّار،شائع الاستعمال في بغداد،يشبه الإبريق،إلاّ أنّه من دون البلبلة، أي القناة الصغيرة التي يصبّ منها الماء،و تسمّيه العامّة:تنكه،بالكاف الفارسية، معرّبة عن الفارسية:تنك،أي الكوز،و الفخّار الذي يجهّز لتصفية الماء و شربه ببغداد، على أشكال مختلفة،فالزير،و يسمونه الحبّ،و هي فصيحة،يصبّ فيه الماء الكدر، فيقطر الماء الصافي من أسفله إلى إناء من الفخّار،يسمّونه:بوّاقة،تلفظ القاف كافا فارسية على طريقة البغداديين،و الكلمة فصيحة،من باق:أي سرق،كأنّها تسرق الماء من الحبّ،نقطة نقطة،فإذا امتلأت البوّاقة،صبّ ماؤها في الجرّة ليبرد،و منها إلى الكوز حيث يكون معدّا للشرب،فإمّا أن يشرب من الكوز،أو يصبّ في كأس يسمّى شربة(الغيث المسجم في شرح لامية العجم 261/2)،أو حبّانة،يختلف اسمه باختلاف شكله،و صانعو الفخّار يجتهدون في اختيار التراب المناسب لصنعه،و يغالون فيه،إذ ليس كلّ تراب صالحا ليكون فخّارا جيّدا،فان وجدوا التراب المناسب،سلّطوا عليه الماء،و أجادوا مرسه بأيديهم،كيلا يبقى فيه أيّ أثر للمواد المالحة،حتى أنّ بعضهم كان يرمي بخاتمه في الطين،و يطلب من عمّاله أن يبحثوا عنه،و أن يعيدوه إليه،فيكلّفهم هذا البحث، أن يمرسوا بأصابعهم كلّ حفنة من الطين،فإذا تمّ تنظيفه،و تخميره،صنع على مختلف الأشكال،و أودع في موقد يشوى فيه،و هذا الموقد يسمّيه البغداديون:الكورة،فصيحة و هو اسم المحجرة من الطين،فإذا تمّ شيّه،أصبح صالحا للاستعمال،و استعمال الكوز، إذا كان جيّد الطين،حسن الصنع،من طيّبات الدنيا،و خاصّة إذا رشّ عليه،قبل استعماله،قطرات من ماء الورد،فإنّ شرب الماء في الكوز،يكسبه طعما لذيذا،لا يقدّره إلاّ من ذاقه،و مما يبعث على الأسف انّ استعمال الكوز،يكاد أن ينقرض، لشيوع الكهرباء و الثلاّجات،قال أبو إسحاق الصابي يتشوّق إلى شرب ماء الكوز ببغداد (معجم البلدان 648/1):
لهف،نفس على المقام ببغدا د و شربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الذميمة نسقى شرّ سقيا من مائها الأترجّي
أصفر منكر ثقيل غليظ خاثر مثل حقنة القولنج
كيف نرضى بشربه و بخير منه في كنف أرضنا نستنجي
ص:183
و ثقّله بالحديد،و أنفذه إلى القلعة المعروفة بأردمشت (1)،و هي مشهورة حصينة، من أعمال الموصل،فحبسه بها في مطمورة،و وكّل بحفظه عجوزا يثق بها، جلدة ضابطة،يقال لها:نازبانو (2)[136 غ]و أمرها أن لا توصل إليه أحدا، و لا تعرّفه خبرا،و أن تخفي موضعه عن جميع شحنة القلعة و حفظتها،ففعلت ذلك.
فأقام على حاله تلك نحو ثمان سنين.
ثمّ اتّفق أن انحدر أبو تغلب معاونا لعزّ الدولة أبي منصور بختيار (3)بن
ص:185
معزّ الدولة أبي الحسين،و معهما العساكر،يقصدان بغداد لمحاربة عضد الدّولة،و تاج الملّة أبي شجاع (1)،و خرج للقائهما،فكانت بينهم الواقعة العظيمة بقصر الجصّ (2)،و قتل فيها عزّ الدولة[102 ظ]بختيار،و انهزم أبو تغلب، فدخل الموصل،و خاف من تخلّص أخيه محمّد،فكتب إلى غلام له،كانت القلعة مسلّمة إليه يقال له:طاشتم (3)،أن يمكّن صالح بن بانويه (4)،رئيس الأكراد،-و كان كالشريك لطاشتم في حفظ القلعة-من أخيه محمّد بن ناصر الدّولة،ليمضي فيه ما أمره به،و كتب إلى صالح،يأمره بقتل محمّد، فمكّن طاشتم صالحا منه.
فلمّا أراد الدّخول على محمّد،ليقتله،منعت نازبانو من ذلك،و قالت:
لا أمكّن منه،إلاّ بكتاب يرد عليّ[107 م]من أبي تغلب.
و شارف عضد الدولة الموصل (5)،و أجفل عنها أبو تغلب،و كردته العساكر (6)،
ص:186
فاشتدّ عليه الطلب،و ورد عليه كتاب من القلعة بما قالت نازبانو ،فإلى أن يجيب عنه،أحاط عساكر عضد الدولة بالقلعة،و نازلوها،فانقطع ما بين أبي تغلب و بينها،فلم يصل إليها كتاب،و فتحها عضد الدولة بعد شهور، بأن واطأه صالح،بالقبض على طاشتم،و كتب إليه يعرّفه بما عمله،و يستأمره فيما يعمله.
و كان لمحمّد خصيّ أسود مملوك،يلي أمر داره،اسمه ناصح،و كان بعد القبض على محمّد،قد وقع إلى عضد الدولة،و هو بفارس،فصار من وجوه خدمه،[و حضر معه وقعة قصر الجصّ] (1)،فلمّا ورد خبر فتح القلعة، أذكره ناصح بوعد كان له عليه في إطلاق مولاه محمّد،إذا فتح القلعة، فكتب بأن يطلب محمّد في القلعة،فإن وجد حيّا،أطلق،و أنفذ به إليه مكرّما.
فحين دخل صالح،و معه من صعد إلى القلعة من أصحاب عضد الدولة، إلى محمّد في محبسه،جزع جزعا شديدا،و لم يشكّ أنّهم يريدون قتله، بأمر أبي تغلب،فأخذ يتضرّع،و يقول:ما يدعو أخي إلى قتلي.
فقال له صالح:لا خوف عليك إنّما أمرنا الملك أن نطلقك،و تمضي إليه مكرّما،فقد ملك هذه البلاد.
فقال:أغلب ملك الرّوم على هذه النواحي،و فتح القلعة؟
قالوا:لا،و لكن الملك عضد الدولة.
قال:الّذي كان بشيراز؟
قالوا:نعم،و قد جاء إلى بغداد.
قال:و أين بختيار؟
قالوا:قتل.
قال:و أبو تغلب؟
ص:187
قالوا:انهزم و دخل إلى بلاد الرّوم.
قال:و أين عضد الدولة؟
قالوا:بالموصل،و هو ذا نحملك إليه مكرّما.
فسجد حينئذ،و بكى بكاء شديدا،ثمّ حمد اللّه،فأرادوا فكّ قيوده فقال:لا أمكّن من ذلك،إلاّ أن يشاهد حالي الملك.
فحمل إلى الموصل إلى عضد الدولة،فرأيته و قد أصعد به مقيّدا من المعبر الّذي عبر فيه في دجلة،إلى دار أبي تغلب الّتي نزل بها عضد الدولة بالموصل، و كنت أنا-إذ ذاك (1)-أتقلّدها له و جميع ما فتحه ممّا كان في يد أبي تغلب مضافا إلى حلوان (2)،و قطعة من طريق خراسان (3)،فرأيت محمّدا يمشي في قيوده،حتّى دخل إليه فقبّل الأرض بين يدي عضد الدولة،و دعا له،و شكره، فأخرج إلى حجرة من الدّار،فاخذ حديده (4)،و حمل على فرس فاره بمركب ذهب،و قيّد بين يديه خمس دواب بمراكب فضّة[مذهبة] (5)،و خمس بجلالها،و ثلاثون بغلا محمّلة مالا صامتا (6)،و من صنوف الثياب الفاخرة،
ص:188
و الفرش السري،و الطّيب،و الآلات المرتفعة القدر،و نقل إلى دار قد فرّغت له، و فرشت بفرش حسن،و ملئت بما[137 غ]يحتاج إليه من الصّفر،و الآلات، و العلوفات،و الحيوان،و الحلوى،و أطعمة نقلت إليه من المطبخ،و أنبذة، و غير ذلك.
ثمّ أقطعه بعد أيّام،إقطاعا بثلاثمائة ألف درهم،و ولاّه إمارة بلده و أعماله، و جميع ما كان يتولاّه أبو تغلب (1).
ص:189
طريق خراسان،هو المحجّة،أو الطريق السلطانيّ بين الحضرة بغداد،و بين خراسان، و من جملة أعماله:البندنيجين،و براز الروز(الوزراء 187)و بعقوبا(ابن الأثير 215/11)،فالبندنيجين:بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل،من أعمال بغداد أصلها وندنيكان،و عرّبت،فأصبحت بندنيجين(معجم البلدان 745/1) أقول:و قد خفّف الاسم المعرّب،فأصبح الآن:مندلي،و هي بلدة على حدود العراق الشرقيّة،و قد ولّيت القضاء بها في السنة 1934،و أهلها طيّبون،و هم خليط من الأكراد، و التركمان،و العرب،و أرضها عظيمة الخصب،تكثر فيها الأرطاب و الحمضيات،تمرها من أفخر تمور العراق،لا سيّما المسمّى المير حاج،و أزرق الأزرق،و برتقالها لا مثيل له، رقيق القشرة،قويّ العطر،كثير الماء،قليل النوى،لذيذ الطعم جدّا،و تكثر فيها الزنابير،لكثرة التمور،و فيها الجرّار المشهور،و هو نوع من العقارب،أصفر اللّون، سمّي بالجرّار،لأنّه يجرّ ذنبه على الأرض وراءه،و يقال انّ لدغته قتّالة،و يوجد منه في الأهواز(المسالك و الممالك للأصطخري 64)و يوجد منه أيضا في شهرزور(نهاية الأرب 148/10)،و الجرّار كثير في مندلي،و قد كلّفت خادمي،مرّة،أن يحضر لي جرّارا لأراه،فقال:هل تريده ذكرا أو أنثى،يريد أنّه متوفّر إلى درجة أنّ له أن يختار و ينتقي ما يريد منها،أما براز الروز،فقد ذكر ياقوت في معجمه 534/1 أنّها من طساسيج السواد ببغداد،من الجانب الشرقي من استان شاه قباذ،و كان للمعتضد به أبنية جليلة، أقول:اسمها الآن:بلدروز،و هي ناحية تابعة لمندلي،أرضها عظيمة الخصوبة،و قد زرتها أكثر من مرّة،عند ما كنت قاضيا في مندلي،لأنّها تابعة لها،و كانت في العهد العثماني من الأملاك السنيّة،أي من أملاك السلطان عبد الحميد العثمانيّ،اختارها لخصوبة أرضها،و تنازل عنها لمتموّل يونانيّ،فأقام بها قصرا،و نصب لإدارتها موظّفين عدّة، يقومون بزراعتها،و استيفاء ارتفاعها،و موقع براز الروز،من أطيب المواقع،و هواؤها عذب لطيف رائق.
ص:190
أسره الرّوم في أيّام معاوية و أطلقوه في أيّام عبد الملك
[روى حميد،كاتب إبراهيم بن المهدي،أنّ إبراهيم حدّثه،أنّ مخلدا الطبري،كاتب المهدي على ديوان السرّ،حدّثه[138 غ]،أنّ سالما مولى هشام بن عبد الملك،و كاتبه على ديوان الرسائل،أخبره،أنّه كان في ديوان عبد الملك يتعلّم كما يتعلّم الأحداث في الدواوين] (1)،إذ ورد كتاب صاحب بريد الثغور الشاميّة،على عبد الملك،يخبره فيه أنّ خيلا من الرّوم تراءت للمسلمين،فنفروا إليها،ثمّ عادوا و معهم رجل كان قد أسر في أيّام معاوية بن أبي سفيان،فذكر أنّ الرّوم لما تواقفوا مع المسلمين،أخبروهم أنّهم لم يأتوا لحرب،و إنّما جاءوا بهذا المسلم ليسلّموه إلى المسلمين،لأنّ عظيم الرّوم أمرهم بذلك.
و ذكر صاحب البريد،أنّ النافرين ذكروا،أنّهم سألوا المسلم عمّا قال الرّوم،فوافق قوله قولهم،و ذكر أنّ[103 ظ]الرّوم قد أحسنوا إليه، فانصرفوا عنهم،و إنّي سألته عن سبب مخرجه،فذكر أنّه لا يخبر بذلك أحدا دون أمير المؤمنين.
فأمر عبد الملك بإشخاص المسلم إليه،فأشخص إلى دمشق.
فلمّا دخل على عبد الملك،قال له:من أنت؟
قال:قتات بن رزين اللّخمي[77 ر].
[قال مؤلّف هذا الكتاب:كذا كان في الأصل الّذي نقلت منه:قتات، و أظنّه خطأ،لأن المشهور قباث بن رزين اللّخمي (2)،و قد روى الحديث عن
ص:191
علي بن رباح اللّخمي،عن عقبة بن عامر الجهني،أو لعلّه غيره و اللّه أعلم.
رجع الحديث:]1 أسكن فسطاط مصر في الموضع المعروف بالحمراء، أسرت في زمن معاوية،و طاغية الرّوم-إذ ذاك-توما بن مرزوق.
فقال له عبد الملك:فكيف كان فعله بكم؟
قال:لم أجد أحدا أشدّ عداوة للإسلام و أهله منه،إلاّ أنّه كان حليما، فكان المسلمون في أيّامه أحسن أحوالا منهم في أيّام غيره،إلى أن أفضى الأمر إلى ابنه ليون،فقال-في أوّل ما ملك-إنّ الأسرى إذا طال أسرهم في بلد، أنسوا به،و لو كان على غاية الرداءة،و ليس شيء أنكأ لقلوبهم من نقلهم من بلد إلى بلد،فأمر باثني عشر قدحا (1)،فكتب على رأس كلّ قدح اسم بطريق (2)من بطارقة البلدان (3)،و يضرب بالقداح في كلّ سنة أربع مرات،فمن خرج اسمه في القدح الأوّل،حوّل إليه المسلمون،فاحتبسهم عنده شهرا،ثمّ إلى الثاني،ثمّ إلى الثّالث،ثمّ تعاد القداح بعد ذلك.
فكنّا لا نصير عند أحد من البطارقة،إلاّ قال لنا:احمدوا اللّه حيث لم يبتلكم ببطريق البرجان (4)،فكنّا نرتاع لذكره،و نحمد ربّنا إذ لم يبتلنا به،فمكثنا على ذلك سنين.
ثمّ ضربت القداح،فخرج الأوّل و الثاني لبطريقين،و الثالث لبطريق البرجان،فمرّ بنا في الشهرين غمّ كبير،نترقّب المكروه.
ثمّ انقضى الشهران،فحملنا إليه،فرأينا على بابه من الجمع خلاف ما كنّا نعاين،و رأينا من زبانيته من الغلظة خلاف ما كنّا نرى،ثمّ وصلنا إليه،
ص:192
فتبيّن لنا من فظاظته و غلظته،ما أيقنّا معه بالهلكة،ثمّ دعا بالحدّادين،فأمر بتقييد المسلمين بأمثال (1)ما كان يقيّدهم به غيره،فلم يزل الحديد يعمل في رجل واحد واحد،حتّى صار الحدّاد إليّ،فنظرت إلى وجه البطريق فرأيته قد نظر إليّ نظرا بخلاف العين الّتي كان ينظر بها إلى غيري،ثمّ كلّمني بلسان عربيّ، فسألني عن اسمي و نسبي و مسكني،بمثل ما سألني عنه أمير المؤمنين،فصدقته عمّا سألني عنه.
ثمّ قال لي:كيف حفظك لكتابكم؟فأعلمته أنّي حافظ.
قال:اقرأ آل عمران،فقرأت منها خمسين آية.
فقال[139 غ]:إنّك لقارئ فصيح،ثمّ سألني عن روايتي للشّعر، فاعلمته أنّي رواية.
فاستنشدني لجماعة من الشعراء،فقال:إنّك لحسن الرواية.
ثمّ قال لخليفته:إنّي قد و مقت (2)هذا الرّجل،فلا تحدّده.
ثمّ قال:و ليس من الإنصاف أن أسوءه في أصحابه ففكّ الحديد عن جماعتهم،و أحسن مثواهم،و لا تقصّر في قراهم.
ثمّ دعا صاحب مطبخه،فقال له:لست أطعم طعاما،ما دام هذا العربيّ عندي،إلاّ معه،فاحذر أن تدخل مطبخي ما لا يحلّ للمسلمين أكله، و أن تجعل الخمر في شيء من طبيخك،ثمّ دعا بمائدته،و استدناني حتّى قعدت إلى جانبه (3).
فقلت له:فدتك نفسي و بأبي أنت،أحبّ أن تخبرني من أيّ العرب أنت؟
ص:193
فضحك و قال:لست أعرف لمسألتك جوابا،لأنّي لست عربيّا فأجيبك على سؤالك.
فقلت له:مع هذه الفصاحة بالعربية؟
فقال:إن كان العلم باللّسان ينقل الإنسان من جنسه إلى جنس من حفظ لسانه،فأنت إذا روميّ،فإنّ فصاحتك بلسان الرّوم،ليست بدون فصاحتي بلسان العرب،فعلى قياس قولك ينبغي أن تكون روميّا،و أكون أنا عربيا.
فصدّقت قوله،و أقمت عنده خمس عشرة ليلة،لم أكن منذ خلقت، في نعمة،أكبر منها.
فلمّا كانت ليلة ست عشرة،فكّرت[104 ظ]أنّ الشّهر قد مضى نصفه،و أن اللّيالي تقرّبني من الانتقال إلى غيره،فبتّ مغموما.
و صار رسوله إليّ،في اليوم السادس عشر،يدعوني إلى طعامه،فلمّا حضر الطعام بين أيدينا،رأى أكلي مقصّرا عمّا كان يعهد[78 ر]،فضحك، ثمّ قال لي:أحسبك يا عربيّ،لما مضى نصف الشّهر،فكّرت في أنّ الأيّام تقرّبك من الانتقال عنّي إلى غيري ممّن لا يعاملك بمثل معاملتي،و لا يكون عيشك معه مثل عيشك معي،فسهرت،و اعتراك لذلك غمّ غيّر طعامك، فأعلمته أنّه قد صدق.
فقال:[ما أنا إن لم أحسن الاختيار لصديقي بحرّ،و]1 قد أمّنك اللّه ممّا حذرت،و لم ألبث في اليوم الّذي وصلت إليّ فيه،حتّى سألت الملك،فصيّرك عندي،ما كنت في أرض الرّوم،فلست تنقل عن يدي،و لا تخرج منها إلاّ إلى بلدك،و أرجو أن يسبّب اللّه ذلك على يدي،فطابت نفسي،و لم أزل مقيما عنده،إلى أن انقضى الشّهر.
فلمّا انقضى،ضرب بالقداح،فخرج الأوّل،و الثّاني،و الثالث،لبطارقة غير الّذي نحن عنده،فحوّل أصحابي،و بقيت وحدي.
ص:194
و تغدّيت في ذلك اليوم مع البطريق،و كان من عادتي أن أنصرف من عنده بعد غدائي إلى إخواني من المسلمين،فنتحدّث،و نأنس،و نقرأ القرآن، و نجمّع الصلوات (1)،و نتذاكر الفرائض،و يسمع بعضنا من بعض ما حفظ من العلم و غيره،فانصرفت ذلك اليوم بعد غدائي إلى الموضع الّذي كنت أصير اليه و فيه المسلمون،فلم أر فيه أحدا إلاّ الكفرة،فضاق صدري ضيقا تمنّيت معه أنّي كنت مع أصحابي،فبتّ بليلة صعبة لم أطعم فيها الغمض (2)،و أصبحت أكسف خلق اللّه بالا،و أسوأهم حالا.
و صار إليّ الرّسول في وقت الغداء،فصرت إليه،فتبيّن الغمّ في أسرّة وجهي،و مددت يدي إلى الطعام،فرأى مدّ يدي إليه،خلاف مدّي الّذي كان يعرف،فضحك،ثمّ قال:أحسبك اغتممت لفراق أصحابك؟
فأعلمته أنّه صدق،و سألته:هل عنده حيلة في ردّهم إلى يده.
فقال:إنّ الملك لم ير أن ينقل أصحابك من يدي إلى يد غيري إلاّ ليغمّهم بما يفعل،و من المحال أن يدع تدبيره في الاضرار بهم،لميلي إليك و محبّتي لك، و ليس عندي في هذا الباب حيلة،فسألته أن يسأل الملك إخراجي عن يده.
و ضمّى إلى أصحابي أكون معهم حيث كانوا.
فقال:و لا في هذا أيضا حيلة،لأنّي لا أستجيز أن أنقلك من سعة إلى ضيق،و من كرامة إلى هوان،و من نعمة إلى شقاء.
فلمّا قال[140 غ]ذلك،تبيّن فيّ الانكسار و غلبة الغمّ،فقال لي:
بلغ بك الغمّ إلى النهاية؟
فأخبرته:أنّه قد بلغ بي الغمّ،أن اخترت الموت على الحياة،لعلمي
ص:195
أنّه لا راحة لي بغيره.
فقال لي:إن كنت صادقا،فقد دنا فرجك.
فسألته عمّا دلّه على ذلك،فقال لي:إنّي وقعت في نكبات أشدّ هولا ممّا أنت فيه،و كان عاقبتها الفرج.
و أعلمني أنّ بطرقة بلده لم تزل في آبائه يتوارثونها،و أنّ عددهم كان كثيرا، و لم يبق غير أبيه و عمّه،و كانت البطرقة إلى عمّه دون أبيه،فأبطأ على أبيه و عمّه الولد،فبذلا للمتطبّبين،الكثير من الأموال لعلاجهما بما يصلح الرّجال للنّساء، إلى أن بطل العمّ،و يئس من الانتشار،فصرف بعض الأطبّاء عنايته إلى معالجة أبي البطريق،فعلقت أمّه به.
فلمّا علم العمّ أنّه قد علقت أمّه به،جمع عدّة من الحبالى،من ألسنة مختلفة،منها العربي،و الرّومي،و الافرنجي،و الصقلابي،و الخزري، و غير ذلك،فوضعن في داره.
فلمّا وضعت البطريق أمّه،أمر بتصيير أولئك النّساء كلّهن معه،و تقدّم إلى كلّ واحدة منهنّ،ألاّ تكلّمه إلاّ بلسانها.
فلم تستتم له أربع سنين،حتّى تكلّم بكلّ الألسنة الّتي لأمّهاته اللاّتي أرضعنه.
ثمّ أمر بتصيير ملاعبيه و مؤدّبيه من جميع أجناس النّساء اللّواتي ربّينه، فكانوا يعلّمونه الكتابة،و قراءة كتبهم[105 ظ]فلم تمرّ عليه تسع سنين، حتّى عرف ذلك كلّه.
ثمّ أمر عمّه أن يضمّ إليه جماعة من الفرسان يعلّمونه الثّقافة و المناولة (1)،
ص:196
و جميع ما يتعلّمه الفرسان،و تقدّم بمنعه من سكنى المنازل،و أمر أن ينزل في [79 ر]المضارب،و أن يمنع من أكل اللّحم إلاّ ما يصيده طائر يحمله على يديه،أو كلب يسعى بين يديه،أو صيد بسهمه،فكانت تلك حاله حتّى استوفى عشر سنين،ثمّ مات عمّه،و ولي أبوه البطرقة بعد عمّه،و أمره بالقدوم عليه،فلمّا رآه،و رأى فهمه،و أدبه،و شمائله،اشتدّ عجبه به،فسمح له بما لم تكن الملوك تسمح به لأولادها (1)،و أعدّ له المضارب (2)و الفساطيط (3)الدّيباج (4)،و ضمّ إليه جماعة كثيفة من الفرسان،و وسّع على الجميع في كلّ ما يحتاجون إليه،و ردّه إلى سكنى المضارب،و أخذه بالاستبعاد عن منازل أبيه.
قال البطريق:فلمّا تمّت لي خمس عشرة سنة،ركبت يوما لارتياد مكان أكون فيه،فبصرت بغدير (5)ماء قدّرت طوله ألف ذراع و عرضه ما بين ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع،فأمرت بضرب مضاربي عليه،و توجّهت إلى الصّيد، فرزقت منه في ذلك اليوم،ما لم أطمع في مثله كثرة،و نزلت في بعض المضارب فأمرت الطبّاخين،فطبخوا لي ما اشتهيت من الطعام،ثمّ نصبت المائدة بين يدي.
فإنّي لأنظر إلى الطبيخ يغرف،إذ سمعت ضجّة عظيمة،فما فهمت خبرها حتّى رأيت رءوس أصحابي تتساقط عن أبدانهم،فتنحّيت عن مكاني
ص:197
الّذي كنت فيه،و خلعت الثّياب الّتي كانت عليّ،و لبست ثياب بعض عبيدي، ثمّ ضربت ببصري يمنة و يسرة،فلم أر حولي إلاّ مقتولا،و إذا فاعل ذلك بأصحابي منسر (1)من مناسر البرجان.
ثمّ أسرت كما يؤسر العبيد،و احتمل جميع ما كان معنا،من مضرب و غيره،و صاروا بي إلى ملك البرجان.
فلمّا رآني،و لم يكن له ولد ذكر،أمر بالتوسعة عليّ،و أن أكون واقفا عند رأسه،و سمّاني ابنه.
و كان للملك بنت،و كان بها مغرما،و كان قد علّمها الفروسيّة،و مساورة (2)الفرسان،و مساهمتهم (3)و مراكضتهم.
فقال-و أنا حاضر-لجماعة من بطارقته:من منكم يتوجّه إلى ملك الرّوم فيجيئني بكاتب من بلده،ليعلّم ابنتي الكتابة.
فأعلمته[141 غ]أنّ رسوله لا يأتيه بأكتب منّي.
فأمرني أن أكتب بين يديه،فكتبت،فاستحسن خطّي،و قرنه بكتب كانت ترد عليه من والدي،فرأى خطّي أجود منها،فدفع إليّ ابنته،و أمرني أن أعلّمها الكتابة،فهويتها،و هويتني .
فمكثت معي حتّى استوفت ثلاث عشرة سنة (4)،ثمّ عدت إليّ يوما و هي باكية،فقلت لها:ما يبكيك يا سيّدتي؟
فقالت:دعني،يحقّ لي البكاء،فسألتها عن السبب.
فقالت:كنت جالسة بين يدي أبي و أمّي في هذه اللّيلة،فغلبتني عيني،
ص:198
فنمت،فسمعت أبي يقول لأمّي:أرى ثديي ابنتك قد تفلّكا (1)،و أرى هذا الرّوميّ قد غلظ كلامه (2)،و ليس ينبغي أن يجتمعا بعد هذا الوقت،فإذا جلست غدا معه،فابعثي إليهما من يفرّق بينهما،حتّى لا يراها،و لا تراه.
قال البطريق:و من سنّة البرجان،أن يكون الرّجل يخطب لابنته زوجا، حتّى يزوّجها،و لا يخطب لها إلاّ من تختاره البنت.
قال البطريق:فقلت لابنة الملك،إذا سألك أبوك،من تحبّين أن أخطب لك من الرّجال،فقولي:لست أريد إلاّ هذا الرّومي.
فغضبت،و قالت:كيف يجوز أن أسأل أبي أن يزوجني بعبد؟
قال:فقلت لها:ما جعلني اللّه عبدا،و أنا ابن ملك،و أبي ملك الرّوم.
[قال البطريق:و أهل البرجان،يسمّون البطريق الرومي الّذي يتولّى حدّ برجان:ملك الرّوم.]1
فسألتني:هل أخبرتها بحقّ؟
فأعلمتها أنّه[106 ظ]حقّ.
فما انقضى كلامنا،حتّى جاء رسول الملك،ففرّقوا بيننا،و لم يمض[80 ر] بعد ذلك،إلاّ ثلاثة أيّام حتّى دعاني الملك،فدخلت عليه،فرأيت أمارات الشرّ مستحكمة في وجهه.
فقال لي:يا شقيّ،ما حملك على الكذب في نسبك؟و أنا أحكم على من انتسب إلى غير أبيه بالقتل.
فقلت له:ما انتسبت إلى غير أبي.
فقال لي:أ تقول إنّك ابن ملك الرّوم؟
فأعلمته أنّي أقول ذلك،و دعوته إلى الكشف عنه.
ص:199
فقال:لست أحتاج إلى كشف أمرك برسول أرسله ليعرف خبرك،و لكن لي أشياء أمتحنك بها،فأعرف صدقك من كذبك،فدعوته إلى كشفها بما شاء.
فدعا بدابّة،و لبد،و سرج،و لجام،فأمرني بتناول الدّابة،فأخذت الدّابة من يد السائس،ثمّ أمرني بأخذ اللّبد،فأخذته،ثمّ أمرني بإلقائه على الدّابة، ففعلت ما أمرني به،ثمّ أمرني بتناول السرج،فأخذته،ثمّ أمرني بشدّ الحزام، و الثفر (1)،و اللبب (2)،و أخذ اللّجام و إلجام الدابّة،ففعلت ذلك،ثمّ أمرني بركوب الدابّة،فركبت،و أمرني بالسّير فسرت،و أمرني بالإقبال و الإدبار، ففعلت،ثمّ أمرني بالنزول،فنزلت.
فقال،عند ذلك:أشهد أنّه ابن ملك الرّوم،لأنّه أخذ الدابّة أخذ ملك، و عمل سائر الأشياء مثلما تعمله الملوك،فاشهدوا أنّي قد زوّجته ابنتي.
فلمّا قالوا شهدنا،قال:لا تشهدوا.
فلمّا سمعت قوله:لا تشهدوا،تخوّفت أن يأتي على نفسي.
ثمّ قال لي:لم أتوقّف عن الشّهادة رغبة عنك،و لكنّا لنا شرط لا نقدر أن نخالفه،و لم نأمن أن تضطرّ إليه،فنحملك على شرطنا،و هو ما لم نخبرك به، و نوقفك عليه،فنكون قد ظلمناك،أو ندع لك سنّة بلدنا،فنكون قد فارقنا سنّتنا،إنّ سنّتنا يا روميّ،أن لا نفرّق بين الزوجين إذا مات أحدهما،فإن مات الرّجل قبل المرأة،نوّمناها معه في نعشه،و حملناهما معا،حتّى ننزلهما إلى بئر هي مأوى موتانا،و جعلنا معهما طعاما و شرابا لثلاثة أيّام،ثمّ أنزلناهما إلى البئر،فإذا صارا إلى قرارها سيّبنا الحبال عليهما،و كذلك إن ماتت[142 غ] المرأة قبل الرّجل،جعلناها في سريرها،و جعلنا زوجها معها،و صيّرناهما جميعا في البئر،فإن رضيت بهذه السنّة فبارك اللّه لك في زوجك،و إن لم ترض
ص:200
أقلناك،فلسنا نزوّجك،و لا تستقيم لنا على خلاف سنّتنا (1)،فأحوجتني الصبابة بها،أن قلت:قد رضيت بهذه السنّة.
فأمر بتجهيزها و تسليمها إليّ،و جمع بيننا،فأقمت معها أربعين يوما، لا نرى إلاّ أنّا قد فزنا بملك الدنيا.
ثمّ اعتلّت علّة كانت معها غشية،لم يشكّ كلّ من رآها إلاّ أنّها قبضت، فجهّزت بأفخر ثيابها،و جهّزت معها بمثل ذلك،و حملنا على نعش واحد، و ركب الملك،و أهل المملكة،فشيّعونا حتّى وافوا بنا شفير البئر،ثمّ شدّوا أسافل السرير بالحبال،و جعلوا معنا في النعش طعاما و شرابا لثلاثة أيّام، ثمّ حطّونا حتّى صرنا إلى قرارة البئر.
ثمّ أرخيت علينا الحبال،فسقط حبل منها على وجه الجارية،فأزال الوجع ما كان بها من الغشي،فانتبهت،فلمّا انتبهت،رأيت أنّ الدنيا قد جمعت لي.
و استمرّت عيني على الظلمة،فرأيت في الموضع الّذي أنا فيه،من الخبز اليابس و الخمر ماله دهر كثير،فأخذنا نتغذّى به جميعا.
و كنّا لا نعدم في يوم من الأيّام،إلاّ النادر (2)،سريرا يدلّى فيه زوجان، أحدهما ميت،و الآخر حيّ،فإن كان النّازل رجلا حيّا،تولّيت أنا قتله، لئلاّ يكون مع زوجتي غيري،و كذلك إن كانت الحيّة امرأة،تولّت زوجتي قتلها،لئلاّ يكون مع زوجها غيرها.
فمكثنا في البئر على[81 ر]هذه الحال أكثر من سنة،ثمّ دلّي في البئر دلو،فعلمت أنّ مدلّي الدلو غير برجانيّ،و أنّه[107 ظ]لا يدخل ذلك الموضع غير برجانيّ،إلاّ رومي،و وقع لي أن أقدّم الجارية قبلي،لتتخلّص، ثمّ تعرّفهم حالي،فيردّوا الدلو إليّ،فأصعد.
ص:201
فحملت بنت الملك فجعلتها في الدلو[بكسوتها،و حليها،و جواهرها، و اجتذب القوم الدلو]1،فخرجت إليهم الجارية.
فإذا القوم مماليك لأبي،[و لم ينتبهوا للسؤال عنّي،و هابتهم الجارية، أن تقول لهم شيئا]1،و قد كانوا رأوا ما فيه أمّي و أبي و ما غلب عليهما من الحزن لفقدي،فصاروا إليهما بالجارية ليتسلّون بها،فسرّا بها،و سكنا إليها.
و استمرّت الهبية (1)لهما بالجارية،فحصلت شرّ محصل.
و قد كان لوالدي صديق،له أدب و حكمة،و علم بالتصوير،صوّر لهما صورتي في خشبة،و زوّقها،و جعلها في بيت،و قال لأبويّ:إذا ذكرتما ابنكما،و اشتدّ غمّكما،فادخلا فانظرا إلى هذه الصورة،فانّكما ستبكيان بكاء كثيرا يعقبكما سلوة.
فلمّا صارت الجارية إلى أبويّ،و رأتهما يدخلان ذلك البيت كثيرا،و يخرجان، و قد بكيا،استقفتهما يوما،و هما داخلان،فبصرت بالصّورة،فلمّا رأتها لطمت وجهها،و نتفت شعرها،و مزّقت ثيابها.
فسألاها عن السبب فيما صنعت بنفسها،فقالت:هذه صورة زوجي، فسألاها عن اسمه،و اسم أبيه و أمّه،فأسمتهم جميعا.
فقالا لها:فأين زوجك؟
قالت:في البئر الّتي أخرجت منها،فركب أبي و أمّي في أكثر أهل البلد، و معهم الغلمان الّذين اخرجوا الجارية من البئر،حتّى وافوا البئر،فدلّوا الدلو، و كنت قد سللت سيفي الّذي كان أنزل معي من غمده،[و جعلت ذبابه (2)بين ثدييّ]1 لأتّكئ عليه،فأخرجه من ظهري،فأستريح من الدنيا،لغلبة الغمّ عليّ،فوثبت،فقعدت[143 غ]في الدّلو،و اجتذبوني حتّى خرجت،
ص:202
فوجدت أبي،و أمّي،و امرأتي،على شفير البئر،و قد أحضروا لي الدّواب لأركب و أنصرف إلى بلادي،و كان أبي قد صار ملك تلك البلاد،فلم أطعهما، و أعلمتهما أنّ الأصوب البعثة إلى أبي الجارية،و أمّها،حتّى يريا ابنتهما مثلما رأيتماني.
ففعلا ذلك،و وجّها إلى أبي الجارية،و هو صاحب البرجان،فخرج في أهل مملكته،حتّى عاينها،و أقاموا عرسا جديدا،و حدثت مهادنة بين الرّوم و البرجان جرت فيها أيمان مؤكّدة أن لا يعدو أحدهما على صاحبه ثلاثين سنة، و صار القوم إلى بلادهم،و صرنا إلى منازلنا.
قال:و مات أبي،فورثت البطرقة عنه،و رزقت من بنت ملك البرجان الولد، و أنت يا عربي،فإن كان الغمّ قد بلغ منك إلى ما ذكرت فقد جاءك الفرج.
فما انقضى كلام البطريق،حتّى دخل عليه رسول ملك الرّوم يدعوه، فمضى إليه،ثمّ عاد إليّ،فقال:يا عربيّ،قد جاءك الفرج،كنت عند الملك، و قد جرى ذكر العرب،و رمتهم البطارقة عن قوس واحدة،فذكروا أنّهم لا عقول لهم و لا آداب،و أنّ قهرهم الرّوم بالغلبة و الاتّفاق،لا بحسن التدبير.
فأعلمت الملك أنّ الامر بخلاف ما قالوا،فإنّ للعرب آدابا،و أذهانا، و تدبيرا جيّدا.
فقال لي الملك:أنت لمحبّتك لضيفك العربي تفرط في إعطاء العرب ما ليس لها،و تصفها بما ليس فيها.
فقلت:إن رأى الملك أن يأذن في إحضار هذا العربي،ليجمع بينه و بين هؤلاء المتكلّمين،ليعرف فضيلته،فأمرني بحملك إليه.
فقلت:بئس ما صنعت بي،لأنّي أخاف إن غلبني أصحابه أن يستخفّ بي،و إن غلبتهم أن يضطغن عليّ.
فقال:هذه صفة العامّة،و الملوك على خلافها،و أنا أخبرك أنّك إن
ص:203
غلبتهم جللت في عين الملك،و كنت عنده بمكان يقضي لك فيه حاجة[82 ر]، و إن غلبوك سرّه غلبة أهل دينه لك،فأوجب لك أيضا بذاك ذماما (1)،و إنّ أقلّ ما يرى أن يقضي لك حاجة،فإن غلبت أو غلبت[108 ظ]فسله (2)إخراجك من بلده،و ردّك إلى بلادك،فإنّه سوف يفعل ذلك.
قال قباث:فلمّا دخلت على الملك،استدناني،و قرّبني،و أكرمني، و قال لي:ناظر هؤلاء البطارقة.
فأعلمته،أنّي لا أرضى لنفسي بمناظرتهم،و أنّي لا أناظر إلاّ البطريق الأكبر (3)،فأمر بإحضاره.
فلمّا دخل،سلّمت عليه،و قلت له:مرحبا أيّها الشّيخ الكبير القدر.
ثمّ قلت له:يا شيخ،كيف أنت؟
قال:في عافية.
قلت:فكيف أحوالك كلّها؟
قال:كما تحبّ.
فقلت له:فكيف ابنك؟
فتضاحكت البطارقة كلّها،و قالوا:زعم البطريق[يعنون الّذي هو صديقي]1 أنّ هذا أديب،و أنّ له عقلا،و هو لا يعلم بجهله،أنّ اللّه تعالى قد صان هذا البطريق عن أن يكون له ابن.
فقلت:كأنّكم ترفعونه عن أن يكون له ابن؟
قالوا:إي و اللّه،إنّا لنرفعه،إذ كان اللّه رفعه عن ذلك.
فقلت:وا عجبا،أ يجلّ عبد من عبيد اللّه،أن يكون له ابن،و لا يجلّ
ص:204
اللّه تعالى،و هو خالق الخلائق كلّها،عن أن يكون له ابن.
قال:فنخر البطريق نخرة أفزعتني،ثمّ قال:أيّها الملك،أخرج هذا السّاعة عن بلدك،لا يفسد عليك أهله.
فدعا الملك بالفرسان،فضمّني إليهم،و أحضر لي دواب البريد،و أمر بحملي عليها،و تسليمي إلى من يلقانا في أرض الإسلام من المسلمين،فسلّموني إلى من تسلّمني من أهل الثّغر.
ثمّ ذكر حديثا لعبد الملك،مع الرّجل،لا يتعلّق بهذا الباب فأذكره، [و اللّه سبحانه و تعالى أعلم بالصّواب] (1)[144 غ].
ص:205
استنقذ المذحجيّين من أسر بني مازن
و ذكر القاضي[أبو الحسين في كتابه الفرج بعد الشدّة] (1)،قال:
بلغني أنّ عمرو بن معدي كرب (2)الزبيدي،قال:خرجت في خيل من بني زبيد،أريد غطفان،فبينما أنا أسير،و قد انفردت عن أصحابي،إذ سمعت صوت رجل ينشد شعرا،فحفظت منه قوله:
أ ما من فتى لا يخاف العطب يبلّغ عمرو بن معدي كرب
بأنّنا ننوّط في مازن بأرجلنا اليوم نوط القرب
فإن هو لم يأتنا عاجلا فيكشف عنّا ظلام الكرب (3)
و إلاّ استغثنا بعبد المدان و عبد المدان لها إن طلب
قال:فعلمت أنّه أسير في بني مازن بن صعصعة،فقلت لخيلي:قفوا حتّى آتيكم،فاقتحمت على القوم وحدي،فإذا هم يصطلون.
فقلت:أنا أبو ثور،أين أسرى بني مذحج؟.
فنادى[108 م]الأسرى من الرّجال،و بادر القوم إليّ يطلبوني،فلم أزل أقاتلهم و أقتل منهم حتّى استعفوني،و قالوا:إنّنا و اللّه لنعلم،أنّك لم تأتنا وحدك[إلاّ و أنت لا تبالي بنا] (4)،فلك الأسرى فاكفف عنّا خيلك.
ص:206
فنزلت،و أطلقت بعضهم،و قلت:ليحلّ بعضكم بعضا (1)،و ليركب كلّ واحد منكم ما وجد من الخيل،و أقبلت خيل فركبوها.
فقلت للأسرى:هل علمتم بموضعي،حين أنشدتم ما سمعت.
قالوا:لا و اللّه،و ما أصبحنا يوما،منذ حبسنا،آيس من الفرج من يومنا هذا (2)،فلذلك أقول:
أ لم ترني إذ ضمّني البلد القفر سمعت نداء يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فإنّا عصبة مذ حجية نناط على وفر و ليس لنا وفر
فقلت لخيلي أنطروني (3)فإنّني سريع إليكم حين ينصدع الفجر
و أقحمت مهري حين صادفت غرّة على الطفّ حتّى قيل قد قتل المهر
فأنجيت أسرى مذحج من هوازن و لم ينجهم إلاّ السكينة و الصّبر
و نادوا جميعا حلّ منا وثاقنا أخا البطش إنّ الأمر يحدّثه الأمر
و أبت بأسرى لم يكن بين قتلهم و بين طعاني ضاربا عنهم فتر
يزيد و عمر و الحصين و مالك و وهب و سفيان و سابعهم و بر
[تكلّفنا يا عمرو ما ليس عندنا هوازن فانظر ما الّذي فعل الدّهر] (4)
قال مؤلّف هذا الكتاب:أنشدنا أبو الفرج الأصبهاني البيتين الأوّلين، أوّلهما:أ لم تر لمّا ضمّني البلد القفر.و في الثّاني:نراد على وتر و ليس لنا وفر، قال:فيهما خفيف رمل بالوسطى لمحمّد بن الحارث بن بُسخُنَّر[عن عمرو، قال:و ذكر أنّه لابن بانه و فيهما ثاني ثقيل عن..] (5)
ص:207
[أخبرني بهذا الخبر،محمّد بن الحسن بن المظفّر[109 ظ]،قال:
أخبرني أبو القاسم الزينبي،قال:أخبرنا أبو خليفة الجمحي (1)،عن محمّد بن سلاّم (2)،و ذكر نحوه] (3).
ص:208
من فارق شدّة إلى رخاء بعد بشرى منام
لم يشب صدق تأويله بكذب الأحلام
ما عرض المعتضد في أيّامه للعلويّين
و لا آذاهم و لا قتل منهم أحدا
أخبرنا أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي،قال:حدّثنا محمّد بن يحيى ابن أبي عبّاد الحسني (1)،قال:
رأى المعتضد،و هو في حبس أبيه،كأنّ شيخا جالسا على دجلة،يمدّ يده إلى مائها فيصير في يده و تجفّ دجلة،ثمّ يردّه من يده،فتعود دجلة كما كانت.
قال:فسألت عنه،فقيل لي:هذا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
فقمت إليه،و سلّمت عليه،فقال لي:يا أحمد،إنّ هذا الأمر صائر إليك،فلا تتعرّض لولدي،و صنهم،و لا تؤذهم.
ص:209
فقلت:السّمع و الطاعة لك يا أمير المؤمنين.
و حدّثني أبي رحمه اللّه بهذا الحديث،على أتمّ من هذا،بإسناد ذكره عن ابن حمدون النديم،[قال:حدّثني أبو محمّد عبد اللّه بن أحمد بن حمدون (1)،أو قال:حدّثني من قال حدّثني أبو محمّد-أنا أشكّ-لأنّي لم أكتبه،و إنّما حفظته في المذاكرة،و لعلّ الألفاظ تزيد أو تنقص،قال] (2):
قال لي المعتضد باللّه و هو خليفة:لمّا قدم أبي،و هو عليل[العلّة الّتي مات فيها،و أنا في حبسه (3)،ازداد خوفي على نفسي،و لم أشكّ في أنّ إسماعيل بن بلبل،سيحمله على قتلي،أو يحتال بحيلة يسفك بها دمي،إذا وجد أبي قد ثقل،و أيس منه] 3.
فنمت ليلة من تلك اللّيالي،و أنا من الخوف على أمر عظيم،و قد صلّيت صلاة كثيرة و دعوت اللّه عزّ و جلّ،فرأيت في منامي كأنّني قد خرجت إلى شاطئ دجلة،فرأيت رجلا جالسا على الشاطئ،يدخل يده في الماء،فيقبض عليه،فتقف دجلة،و لا يخرج من تحت يده قطرة من الماء،حتّى يجفّ ما تحت يده،و يتزايد الماء فوق يده و يقف كالطود العظيم،ثمّ يخرج يده من الماء فيجري،يفعل ذلك مرارا،فهالني ما رأيت.
فدنوت منه،و سلّمت عليه،و قلت له:من أنت يا عبد اللّه الصالح؟
فقال:أنا عليّ بن أبي طالب.
ص:210
فقلت:يا أمير المؤمنين،ادع اللّه لي.
فقال:إنّ هذا الأمر صائر إليك،فاعتضد باللّه،و احفظني في ولدي، فانتبهت و كأنّي أسمع كلامه لسرعة المنام.
فوثقت بأنّني أتقلّد الخلافة،و قويت نفسي،و زال خوفي،فقلت لغلام لم يكن معي في الحبس غيره،إذا أصبحنا فامض فابتع لي خاتما،و انقش على فصّه أحمد المعتضد باللّه،[109 م]و جئني به.
فمضى،و فعل،و أتاني به،فلبسته،و قلت:إذا وليت الخلافة،جعلت لقبي المعتضد باللّه.
ثمّ أخذت أقطع ضيق صدري في الحبس،بتصفّح أحوال الدنيا،و الفكر في تدبير عمارة الخراب منها،و وجه فتح المنغلق،و تعيين العمّال للنواحي، و الأمراء في البلاد.
ثمّ أخذت رقعة،فكتبت،بدر:الحاجب،عبيد اللّه بن سليمان؛الوزير، فلان:أمير البلد الفلاني (1)،فلان؛عامل البلد الفلاني (2)؛فلان:للديوان الفلاني،إلى أن أتيت على ما في نفسي من ذلك،ثمّ دفعتها للغلام،و قلت له:
احتفظ بهذه،فإنّ دمي و دمك مرتهنان بما فيها،فحفظها.
فما مضى إلاّ أيّام يسيرة،حتّى لحقت الموفّق غشية،لم يشكّ الغلمان معها أنّه قد مات[83 ر]،فأخرجوني،فأتوا بي إلى بيت فيه الموفّق،فلمّا رأيته علمت أنّه غير ميت،فجلست عنده،و أخذت يده أقبّلها و أترشّفها،فأفاق، فلمّا رآني أفعل ذلك،أظهر التقبّل لي،و أومأ إلى الغلمان،أن قد أحسنتم فيما فعلتم.
ص:211
ثمّ مات الموفّق في ليلته تلك،و وليت مكانه (1)،فابتدأت بتقرير الأمور، على ما كنت قرّرته[145 غ]في الرّقعة،ثمّ وليت الخلافة،فأمضيت بقايا تلك التدبيرات كلّها.
[قال لي أبي:قال لي ابن حمدون:ما عرض المعتضد في أيّامه للعلويّين، و لا آذاهم،و لا قتل منهم أحدا] (2).
ص:212
سليمان بن وهب يتفاءل بمنام رآه و هو محبوس
[حدّثني عليّ بن هشام بن عبد اللّه الكاتب،قال:حدّثنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمّد الخصيبي،ابن بنت ابن المدبّر،قال:حدّثني أبو الفضل ميمون بن هارون بن مخلد بن أبان الكاتب-قال علي بن هشام:و ميمون هذا،هو جد أبي الحسين بن ميمون الأفطس،كاتب المتّقي في أيّام أبيه، و وزيره لما استخلف (1)-قال:] (2)
كانت بيني و بين أبي أيّوب سليمان بن وهب،مودّة وكيدة،فلمّا تسهّلت محنته بعد قتل إيتاخ،صرت إليه و هو محبوس مقيّد،إلاّ أنّه مرفّه في الكسوة، و كبر الدار،و الفرش،و حسن الخدمة،و قد صلحت حاله بالإضافة إلى ما كان عليه أوّل نكبته من الضرب و التضييق.
فحدّثني:أنّه رأى في ليلته تلك،في منامه،كأنّ قائلا يقول له:
اصبر و ربّ البيت لا يقتادها أحد سواك و حظّك الموفور
قال:فصرت إلى أخيه أبي عليّ الحسن بن وهب،فحدّثته بذلك،فسرّ به، و كان كالمستتر الممتنع عن لقاء السلطان،فعمل شعرا ضمّنه البيت،و سألني إيصاله إلى أخيه أبي أيّوب سليمان،فأخذته،و أدخلته إليه،و هو:
الدّمع من عيني أخيك غزير في ليله و نهاره محدور
بأبي و أمّي خطوك المقصور أ مقيّد،و مصفّد،و أسير؟[110 ظ]
ص:213
و زادني غيره،في غير هذه الرواية:
ما ذا بقلب أخيك مذ فارقته ليكاد من شوق إليك يطير
فكأنّما هو قرحة مقروفة (1) منها البلابل و الهموم تثور[146 غ]
فكر يجول بها الضّمير كأنّما يذكو بها حول الشغاف سعير
و جوى دخيل ليس يعلم كنهه ممّا يلاقيه أخ و عشير
فيظنّه أخدانه متسلّيا و البثّ في أحشائه مستور
رجع إلى الرواية الأولى:
ما كنت أحسبني أعيش و مهجتي تحت الخطوب تدور حيث تدور
قلقا (2)،فإنّك بالعزاء جدير و على النوائب-منذ كنت-صبور
عثرات مثلك في الزّمان كثيرة و لهنّ بعد مثابة و حبور
إن تمس في حلق الحديد فحشوها منك السماحة و النّدى و الخير
و الفصل للشبهات رأيك ثاقب فيها يضيء سداده و ينير
و زادني غيره أيضا:
و تحمّل العبء الثقيل بثقله منك المجرّب عزمه المخبور
رجع إلى الرواية الأولى:
فاصبر-و ربّ البيت-لا يقتادها أحد سواك و حظّك الموفور
ص:214
و اللّه مرجوّ لكربتنا معا و على الّذي نرجوه منه قدير (1)
قال:فما مضت إلاّ أيّام يسيرة،حتّى أطلق سليمان بن وهب،ثمّ انتهى بعد سنين إلى الوزارة.
[و ذكر هذا الخبر محمّد بن عبدوس في كتابه:كتاب الوزراء،على قريب من هذا،إلاّ أنّه أتى من الشعر ببيتين فقط.] (2)
ص:215
لم يقصد النّهابة دار الحسن بن مخلد
لأنّه كان متعطّلا
[حدّثني عليّ بن هشام،قال:حدّثني أبو الفرج محمّد بن جعفر بن حفص الكاتب (1)،قال:] (2)حدّثني أبو القاسم عبيد اللّه بن سليمان،قال:
كان أبو محمّد الحسن بن مخلد،أوّل من رفعني،و استخلفني على ديوان الضياع،فكنت أخلفه عليه،إلى أن ولي شجاع بن القاسم الوزارة (3)،[110 م] مع كتبة أوتامش (4)في أيّام المستعين،فاشتدّ جزع أبي محمّد منه.
ص:216
فسألته عن سبب ذلك،فقال:[84 ر]هذا رجل حمار،لا يغار على صناعته،و هو مع هذا من أشدّ النّاس حيلة و شرّا،و هو يعرف كبر نفسي، و صغر نفسه،و قد بدأ بأبي جعفر أحمد بن إسرائيل،فصرفه عن ديوان الخراج، و نكبه،و نفاه إلى أنطاكية (1)،و لست آمن أن يجعلني في أثره.
قال:فما مضى إلاّ أسبوع،حتّى ظهر أنّ أبا موسى عيسى بن فرخان شاه (2)القنّائي الكاتب قد سعى مع شجاع في تقلّد ديوان الضياع،ثمّ تقلّده صارفا للحسن بن مخلد،و خلع عليه،فازداد جزع الحسن،و أغلق بابه، و قطع الركوب.
فبينما أنا عنده في بعض العشيّات،إذ أتت رقعة من شجاع،يستدعيه، و يؤكّد عليه في البدار،فارتاع،و نهض،و تعلّق قلبي به،فقعدت أنتظر، إلى أن عاد و هو مغموم مكروب.
فقلت:ما خبرك؟
قال:قد فرغ شجاع من التدبير عليّ،و ذلك أنّه قد صحّ عندي بعد افتراقنا،أنّ أوتامش قال البارحة لبعض خواصّه:قد ثقّلنا على شجاع،و حمّلناه ما لا يطيق من كتبتي و الوزارة،و تركنا هذا الشيخ الحسن بن مخلد،متعطّلا، و لا بدّ أن يفرج له شجاع عن كتبتي،أو الوزارة،لأقلّده أحدها،فلمّا بلغ ذلك شجاعا،أنفذ إليّ في الوقت.
فلمّا لقيته السّاعة،قال لي:يا أبا محمّد،أنت شيخي،و رئيسي، و أنت اصطنعتني،و أنا معترف بالحقّ لك،و آخر ما لك عندي من الإنعام
ص:217
أن قلّدتني عمالة همذان (1)،فانتقلت منها إلى هذه المرتبة،و الأمير يحذرك الحذر كلّه و قد أقام على أنّه لا بدّ من نكبتك و إفقارك،فللحال الّتي بيننا، ما أقمت على الامتناع عليه من هذا،و سألته في أمرك،و بعد أن جرت خطوب، تقرّر أن لا تجاوره،و تشخص إلى بغداد،و رضّيته بذلك،و صرفت عنك النكبة،و قد أمرني بإخراجك من ساعتك،و ما زلت معه حتّى استنظرته لك ثلاثة أيّام،أوّلها يومنا هذا،فاعمل على هذا،و أنّك تمضي إلى بلد الأمر و النّهي فيه إلى أبي العبّاس محمّد بن عبد اللّه بن طاهر (2)،و هو صديقك،و يخدمك النّاس كلّهم،و لا تخدم أحدا،و تقرب من ضيعتك.
فأظهرت له الشكر،و ضمنت له الخروج،و أنا خائف منه أن يدعني حتّى أخرج آلتي و حرمي[111 ظ]ثمّ يقبض على ذلك كلّه،و ينكبني.
فقلت:الوجه أن تفرّق جميع مالك و حرمك و الأمتعة و الدوابّ،و تودعه ثقاتك،و إخوانك،من وجوه قوّاد الأتراك و كتّابهم،و تطرح الثّقل الّذي لا قيمة
ص:218
له من خيش و ستائر و أسرّة و آلة المطبخ في الزواريق،و تجلس في الحراقة (1)العجائز اللّواتي لا تفكّر فيهنّ،ليظنّ أنّهنّ الحرم،و تجتهد أن يكون خروجك ظاهرا،و لا تكاشف بالاستتار،بل على سبيل توقّ و مراوغة،فإذا حصلت ببغداد،دبّرت أمرك حينئذ بما ترى[147 غ].
فقال:هذا رأي صحيح،و أخذ يصلح أمره على هذا.
فلمّا كان في ليلة اليوم الثالث،لم أنم أكثر اللّيل،فكرا فيه،و غمّا بأمره، ثمّ نمت لمّا غلبتني عيني،فرأيت في السّحر كأنّ قائلا يقول لي:لا تغتمّ، فقد ركب الأتراك من أصحاب و صيف و بغا،إلى أوتامش و كاتبه شجاع، و قد هجموا عليهما،و قتلوهما،و استرحتم منهما.
فانتبهت مروّعا،و وجدت الوقت حين انفجار الصّبح،فصلّيت،و ركبت إلى الحسن بن مخلد،فدخلت إليه من باب له غامض،لأنّه كان قد أغلق أبوابه[85 ر]المعروفة،فسألته عن خبره.
فقال:هذا آخر الأجل،و قد خفت أن يعاجلني شجاع بالقبض عليّ، و قد أغلقت أبوابي،و استظهرت بغلمان يراعون رسله،فإن جاءوا و رأوا أمارات الشرّ منهم،خرجت من هذا الباب الغامض (2)،و أن يسألوا عن شجاع،
ص:219
فإن كان في داره[111 م]قالوا لمن جاء يطلبني إنّه في دار الأمير،و إن كان في دار الأمير،قالوا للرّسل إنّه في دار شجاع،مدافعة عنّي حتّى أهرب.
قال:فقصصت عليه الرؤيا،فتضاحك،و قال:ما ظننتك بهذه الغفلة، نحن في اليقظة على ما ترى،كيف يصحّ لنا خبرك في منامك؟هذا إنّما نمت و أنت تتمنّى خلاصي،فرأيت ذلك في منامك.
فخرجت من عنده أريد داري،فلقيني جماعة في الطريق،فعرّفوني أنّ الأتراك قد ركبوا بالسّلاح،فعدت إلى منزلي،و أغلقت بابي،و وصيّت عيالي بحفظ الدّار،ثمّ عدت،فدخلت إلى الحسن،فأخبرته بالخبر،فأمر بمراعاة الأمر.
فما زلنا نتعرّف الأخبار،ساعة بساعة،إلى أن جاء النّاس فعرّفونا أنّ الأتراك قتلوا شجاعا،ثمّ دخل رجل،فقال:أنا رأيت السّاعة رأس أوتامش، و صحّ الخبر بقتلهما جميعا (1).
و نهبت سامراء كلّها،فما أفلت أحد من النّهب أحسن من إفلات الحسن ابن مخلد،لأنّ ماله كلّه كان قد حصل عند القوّاد و كتّابهم،فلم يضع منه شيء،و كان متعطّلا،فلم يقصد النّهابة داره،و ما أمسينا إلاّ في أتمّ سرور و فرح، لأنّه فرّج عنّا بما لم يكن في حسابنا.
ص:220
اتخذ من رؤيا ادّعى أنّه رآها
سببا للتخلّص من حبس سيف الدولة.
حدّثني أبو الفرج المخزومي،المعروف بالببغاء الشاعر،قال:
كان بحلب بزّاز يعرف بأبي العبّاس بن الموصول (1)،اعتقله سيف الدولة (2)، بخراج كان عليه،مدّة،و كان الرّجل حاذقا بالتعبير للرؤيا.
فلمّا كان في بعض الأيّام،كنت بحضرة سيف الدولة،و قد وصلت إليه رقعة البزّاز،يسأله فيها حضور مجلسه،فأمر بإحضاره.
و قال:لأيّ شيء سألت الحضور؟
فقال:لعلمي أنّه لا بدّ أن يطلقني الأمير سيف الدولة من الاعتقال، في هذا اليوم.
قال:و من أين علمت ذلك؟
قال:إنّي رأيت البارحة في منامي،في آخر اللّيل،رجلا قد سلّم إليّ مشطا،و قال لي:سرّح لحيتك،ففعلت ذلك،فتأوّلت التسريح،سراحا من شدّة و اعتقال،و لكون المنام في آخر اللّيل،حكمت أنّ تأويله يصحّ
ص:221
سريعا،و وثقت بذلك،فجعلت الطريق إليه مسألة الحضور،لأستعطف الأمير.
فقال له:أحسنت التأويل،و الأمر على ما ذكرت،و قد أطلقتك،و سوّغتك خراجك في هذه السنة.
فخرج الرّجل يشكره و يدعو له (1).
ص:222
خراساني يودع بدرة من المال لدى أبي حسّان
الزيادي فيسارع إلى إنفاقها.
[أخبرني القاضي أبو طالب محمّد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنّوخي (1)،فيما أجاز لي روايته عنه،بعد ما سمعته منه،قال:حدّثنا محمّد بن خلف وكيع القاضي (2)قال:حدّثني أبو سهل الرازي القاضي،قال:] (3)حدّثنا أبو حسّان الزيادي القاضي (4)،قال:
جاءني رجل من أهل خراسان فأودعني بدرة دراهم،فأخذتها مضمونة، و كنت مضيقا،فأسرعت في إنفاقها،و كان قد عزم[148 غ]المودع[112 ظ] على الحجّ،ثمّ بدا له،فعاد يطلبها،فاغتممت،و قلت له:تعود إليّ من غد.
ص:223
ثمّ فزعت إلى اللّه تعالى،و دعوته،و ركبت بغلتي في الغلس،و أنا لا أدري إلى أين أتوجّه،و عبرت الجسر و أخذت نحو المخرّم،و ما في نفسي أحد أقصده،فاستقبلني رجل راكب،فقال:[86 ر]إليك بعثت.
فقلت:من بعثك؟
فقال:دينار بن عبد اللّه،فأتيته و هو جالس.
فقال لي:ما حالك؟
قلت:و ما ذاك؟
فقال:ما نمت اللّيلة (1)إلاّ أتاني آت،فقال:أدرك أبا حسّان.
فحدّثته بحديثي،فدعا بعشرين ألف درهم،فدفعها إليّ،فرجعت، فصلّيت في مسجدي الغداة،و جاء الرّجل،فدفعت إليه ماله،و أنفقت الباقي.
و وقع إليّ هذا الخبر،من طريق آخر،[فحدّثني طلحة بن محمّد بن جعفر الشاهد،و قرأته بالإجازة عن طلحة،قال:حدّثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمّد الخصيبي،قال:حدّثني أبو علي أحمد بن إسماعيل نطاحة، قال:حدّثني أبو سهل الرازي القاضي،قال:] (2)حدّثنا أبو حسّان الزيادي القاضي،قال:
أضقت إضاقة بلغت بها إلى الغاية،حتّى ألحّ عليّ الخبّاز،و القصّاب، و البقّال،و سائر المعاملين،و لم تبق لي حيلة.
فإنّي يوما من الأيّام على تلك الحال،مفكّرا في أمري،كيف أعمل، و كيف أحتال،إذ دخل عليّ غلامي،فقال:بالباب حاجّ يستأذن عليك.
فقلت:أدخله.
ص:224
فدخل عليّ رجل خراساني،فسلّم،و قال:أنت أبو حسّان؟
قلت:نعم،فما حاجتك؟
قال:أنا رجل غريب،أريد الحجّ،و معي جملة مالي،و هو عشرة آلاف درهم،و قد أحضرته في بدرة معي[112 م]أسألك أن تقبضها و تدعها قبلك،إلى أن أقضي حجّي،و أرجع،فإنّي غريب،و ما أعرف أحدا في هذا البلد.
فقلت:هات البدرة.
فسلّمها إليّ،و خرج بعد أن وزن ما فيها.
فلمّا خرج،فتحتها على الفور (1)،و أحضرت المعاملين،فقضيت جميع ديوني،و اتّسعت بالباقي،و قلت:أضمنها في مالي إلى أن يعود من الحجّ، [و إلى أن يجيء،يأتي اللّه بفرج من عنده.
فكنت في يومي ذاك،في سعة،]6،و أنا فرح،لست أشكّ في خروج الخراساني.
فلمّا أصبحت من الغد،دخل عليّ الغلام،فقال:الخراسانيّ الّذي أودعك البدرة،بالباب.
فقلت:أدخله.
فدخل،و قال:اعلم أنّي كنت عازما على الحجّ،ثمّ ورد عليّ خبر وفاة أبي،و قد عزمت على الرّجوع إلى بلدي فتفضّل عليّ بإعادة البدرة الّتي أعطيتك أمس.
فورد عليّ أمر عظيم،لم يرد عليّ مثله قط،و تحيّرت،و لم أدر بما أجيبه، ثمّ فكّرت،فقلت:ما ذا أقول له؟إن جحدته،قدّمني إلى القاضي،و استحلفني
ص:225
فكانت الفضيحة في الدنيا و الآخرة و الهتك،و إن دافعته،صاح و هتكني.
فقلت له:نعم،عافاك اللّه،إنّ منزلي هذا ليس بالحريز،و لمّا أخذت منك البدرة،أنفذتها إلى موضع أحرز منه،فتعود إليّ غدا،لأسلّمها إليك.
فانصرف،و بقيت متحيّرا،لا أدري ما أعمل،و عظم عليّ الأمر جدّا، فأدركني اللّيل،و فكّرت في بكور الخراساني،فلم يأخذني النوم،و لا قدرت على الغمض.
فقمت إلى الغلام،فقلت:أسرج البغلة.
فقال:يا مولاي،هذا أوّل اللّيل،إلى أين تمضي (1)؟
فرجعت إلى فراشي،فإذا النّوم ممتنع عليّ،فلم أزل أقوم إلى الغلام، و هو يردّني،حتّى فعلت ذلك مرّات،و أنا لا يأخذني القرار.
و طلع الفجر،فأسرج الغلام البغلة،فركبت،و أنا لا أدري إلى أين أتوجّه،فطرحت عنان البغلة،و أقبلت أفكّر و هي تسير،حتّى بلغت الجسر فعدلت بي إليه،فتركتها،فعبرت.
ثمّ قلت:إلى أين أعبر،إلى أين أتوجّه؟و لكن إن رجعت،رأيت الخراسانيّ على بابي،و لكن أدعها تمضي حيث شاءت،فمضت البغلة.[149 غ] فلمّا عبرت البغلة الجسر (2)،أخذت بي يمنة،ناحية دار المأمون،[و تركتها،
ص:226
و مرّت،فلم أزل كذلك إلى أن قربت من دار المأمون،]6،و الدنيا بعد مظلمة.
فإذا فارس قد تلقّاني،فنظر في وجهي،ثمّ سار و تركني،ثمّ رجع، و قال:أ لست أبا حسّان الزيادي؟
فقلت:بلى.
قال:إليك بعثت.
فقلت:ما تريد،رحمك اللّه،و من بعث بك؟
فقال:الأمير الحسن بن سهل (1).
فقلت:و ما يريد منّي الحسن بن سهل؟،[ثمّ قلت:امض بنا،فمضى حتّى استأذن على الحسن بن سهل،] (2)فدخلت إليه.
ص:227
فقال[87 ر]:يا أبا حسّان،ما خبرك،و كيف حالك،و لم انقطعت عنّا؟
فقلت:لأسباب،و ذهبت[113 ظ]لأعتذر عن التخلّف.
فقال:دع هذا عنك،أنت في لوثة (1)،و في أمر ما هو،فإنّي رأيتك في النّوم،في تخليط كثير.
فشرحت له قصّتي،من أوّلها إلى أن لقيني صاحبه،و دخلت عليه.
فقال:لا يغمّك اللّه يا أبا حسّان،هذه بدرة للخراسانيّ،مكان بدرته، و هذه بدرة أخرى تتّسع بها،فإذا نفدت،أعلمنا.
فرجعت من ساعتي،فدفعت للخراساني بدرته،و اتّسعت بالباقي،و فرّج اللّه عنّي،فله الحمد.
[و حدّثني بهذا الحديث أيضا،أبو الفرج محمّد بن جعفر،من ولد صالح صاحب المصلّى قال:حدّثنا أبو القاسم علي بن محمّد بن أبي حسّان الزيادي،و كان محدّثا ببغداد،ثقة،مشهورا،قال:حدّثني أبي،عن أبيه،قال:] (2)
كنت وليت القضاء من قبل أبي يوسف القاضي رحمه اللّه،ثمّ صرفت، و تعطّلت،و أضقت إضاقة شديدة،و ركبني دين فادح،لخبّاز،و بقّال، و قصّاب،و عطّار،و بزّاز،و غيرهم،حتّى قطعوا معاملتي لكثرة ما لهم عليّ، و إياسهم من أن أقضيهم،فتضاعفت إضاقتي،و اشتدّت حيرتي.
فإنّي يوما بمسجدي،قد صلّيت بأهله الغداة،ثمّ انفتلت أدرّس أصحابي الفقه[113 م]إذ جاءني رجل خراسانيّ،و ذكر الحديث على نحو ما ذكره
ص:228
طلحة،إلاّ أنّه لم يقل فيه جملة:فإلى....
و قال أبو الفرج في حديثه:فلمّا بلغت مربّعة الخرسي (1)،استقبلني موكب فيه شموع و نفّاطات،قد أضاء منه الطريق،فصار كالنّهار،فطلبت زقاقا أستخفي فيه،حتّى يجوز الموكب،فلم أجد،فإذا برجل من الموكب،يقول:
أبو حسّان و اللّه،فتأمّلته،فإذا هو دينار بن عبد اللّه (2)،فسلّمت عليه.
فقال:إليك جئت،أرسل إليّ أمير المؤمنين السّاعة،و أمرني أن أركب إليك بنفسي،و أحضره إيّاك.
فمضيت معه،حتّى أدخلني على المأمون.
فقال لي المأمون:[ما قصّتك؟فإنّي رأيتك في النوم البارحة،و النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم،يأمرني بإغاثتك.
فحدّثته بحديثي.
فقال المأمون:] (3)أعطوا أبا حسّان ثلاث بدر،و ولاّني الريّ (4)،و أمرني بالخروج إليها.
قال:فعدت إلى بيتي و ما طلع الفجر،فلمّا كان وقت صلاتي في مسجدي، خرجت،و إذا بالخراساني،فلمّا قضيت الصلاة،أدخلته إلى البيت،فأخرجت إليه البدر.
ص:229
فلمّا رآها،قال:ما هذا؟
فقصصت عليه القصّة،و أعطيته بدرة منها،فأخذها و انصرف.
[و ذكر محمّد بن عبدوس،في كتاب الوزراء،في أخبار دينار بن عبد اللّه:أنّ رسوله لقي أبا حسّان في الطريق،فقال له:قسمت شيئا على عيالنا،فذكرت عيالك،فأنفذت إليك عشرة آلاف درهم،فأخذها، و رجع من الطريق،و باكره الخراسانيّ،فأعطاه إيّاها كلّها،لأنّه كان قد أنفق جميع مال الخراساني،ثمّ عاد من غد إلى دينار،فعرّفه،و شكره،و عرّفه الحديث.
فقال:فكأنّما قضينا الخراساني في ماله،ثمّ أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى،و لم يذكر ابن عبدوس في خبره ذكر المنام.] (1)
[و حدّثني أبي هذا الحديث في المذاكرة،قال:حدّثني شيخ-ذكره أبي و أنسيته أنا،[150 غ]عن أبي حسّان الزيادي،بنحو ما ذكره محمّد بن جعفر في حديثه،إلاّ أنّه قال فيه:إنّ الخراسانيّ قال في حديثه لأبي حسّان:
إن رجع الحجّاج و لم ترني قد رجعت إليك،فاعلم أنّي هلكت،و البدرة هبة منّي إليك،و إن رجعت فهي لي،ثمّ يتقارب لفظ الحديثين،إلى أن لقيه في الجانب الشرقي قوم فلمّا رآهم تنحّى عن طريقهم،فلمّا رأوه بطيلسان، بادروا إليه،و قالوا له:أ تعرف منزل رجل يقال له أبو حسّان الزيادي؟
فقال:أنا هو.
فقالوا له:أجب أمير المؤمنين،و حمل] (2)فأدخل إلى المأمون.
فقال له:من أنت؟
ص:230
فقال:رجل من أصحاب أبي يوسف القاضي من الفقهاء و أصحاب الحديث.
قال:بأيّ شيء تكنّى؟
فقال:بأبي حسّان.
فقال:بما ذا تعرف؟
فقال:بالزيادي،و لست منهم،و إنّما نزلت فيهم،فنسبت إليهم.
فقال:قصّتك،فشرحت له قصّتي.
فبكى بكاء شديدا،و قال: ويحك،ما تركني رسول اللّه أن أنام بسببك، أتاني في أوّل اللّيل فقال:أغث أبا حسّان الزيادي،فانتبهت و لم أعرفك، و اعتمدت السؤال عنك،و أثبتّ اسمك و نسبك و نمت،فأتاني،فقال كمقالته، فانتبهت منزعجا،ثمّ نمت،فأتاني،و قال: ويحك،أغث أبا حسّان، فما تجاسرت على النّوم،و أنا ساهر،و قد بثثت في طلبك،ثمّ أعطاني عشرة آلاف درهم،[و قال:هذه للخراسانيّ،ثمّ أعطاني عشرة آلاف درهم أخرى، و قال:]6 اتّسع بهذه،و أصلح أمرك،و عمّر دارك،و اشتر مركوبا سريّا، و ثيابا حسنة،[و عبدا يمشي بين يدي دابّتك]6،ثمّ أعطاني ثلاثين ألف درهم، و قال:جهّز بها بناتك،و زوّجهنّ،فإذا كان يوم الموكب،فصر إليّ،حتّى أقلّدك عملا جليلا،و أحسن إليك.
فخرجت و المال بين يديّ محمول،حتّى أتيت مسجدي،فصلّيت الغداة، و التفتّ فإذا الخراساني بالباب،فأدخلته إلى البيت،و أخرجت بدرة[114 م] فدفعتها إليه.
فقال:ليس هذه بدرتي،أريد مالي بعينه.
فقصصت عليه قصّتي،فبكى،و قال:و اللّه لو صدقتني في أوّل الأمر عن خبرك لما طالبتك،و أمّا الآن،فو اللّه لا دخل مالي شيء من مال هؤلاء، و أنت في حلّ،[88 ر]و انصرف،
ص:231
فأصلحت أمري،و بكّرت يوم الموكب إلى باب المأمون،فدخلت، و هو جالس جلوسا عامّا.
فلمّا مثلت بين يديه استدناني،ثمّ أخرج عهدا من تحت مصلاّه،و قال:
هذا عهدك على قضاء المدينة الشرقيّة من الجانب الغربي من مدينة السلام (1)، و قد أجريت عليك في كلّ شهر كذا و كذا،فاتّق اللّه تدم عليك عناية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
فعجب النّاس من كلام المأمون و سألوني عن معناه،فأخبرتهم الخبر، فانتشر.
فما زال أبو حسّان قاضي الشرقية،إلى آخر أيّام المأمون (2).
ص:232
حبسه المهدي و أطلقه الرّشيد
[أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر،قال:حدّثني أبو عمر محمّد ابن عبد الواحد،قال:حدّثني بشر بن موسى الأسدي،قال:] (1)أخبرني بعض الهاشميّين،قال:
حبس المهدي يعقوب بن داود (2)[114 ظ]وزيره،فطال حبسه، فرأى في منامه،كأنّ قائلا يقول له:قل:يا رفيق،يا شفيق،أنت ربّي الحقيق،ادفع عنّي الضّيق،إنّك على كلّ شيء قدير.
قال:فقلتها،فما شعرت إلاّ بالأبواب تفتح،ثمّ أدخلت على الرّشيد (3)، فقال:أتاني الّذي أتاك،فاحمد اللّه عزّ و جلّ.
و خلّى سبيلي.
[و قد روي هذا الخبر،على خلاف هذا،فحدّثنا عليّ بن أبي الطّيب، قال:حدّثنا ابن الجرّاح،قال:حدّثنا ابن أبي الدنيا،قال:حدّثني خالد بن يزيد الأزدي.
و أخبرني محمّد بن الحسن بن المظفّر[151 غ]،قال:أنبأنا أبو بكر
ص:233
محمّد بن محمّد السرخسي،قال:حدّثنا أبو عبد اللّه المقدمي القاضي (1)، قال:حدّثنا أبو محمّد المعي،قال:حدّثنا خالد بن يزيد،قال:حدّثنا عبد اللّه بن يعقوب بن داود،قال:قال لي أبي:] (2)
حبسني المهدي في بئر بنيت عليها قبّة،فكنت فيها خمس عشرة سنة (3)، حتّى مضى صدر من خلافة الرّشيد،و كان يدلّى لي في كلّ يوم رغيف و كوز ماء، و أؤذن بأوقات الصلاة،فلمّا كان رأس ثلاث عشرة سنة،أتاني آت في منامي، فقال:
حنا على يوسف ربّ فأخرجه من قعر جبّ و بئر حولها غمم
فحمدت اللّه تعالى،و قلت:أتاني الفرج،ثمّ مكثت حولا لا أرى شيئا، فلمّا كان رأس الحول،أتاني ذلك الآتي،فقال:
عسى فرج يأتي به اللّه إنّه له كلّ يوم في خليقته أمر
ثمّ أقمت حولا لا أرى شيئا،ثمّ أتاني ذلك الآتي،بعد الحول،فقال:
عسى الكرب الّذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف و يفكّ عان و يأتي أهله النائي الغريب[116 م]
ص:234
[فلمّا أصبحت،نوديت،فظننت أنّي اؤذن بالصّلاة،فدلّي إليّ حبل] (1)و قيل لي:شدّ به وسطك،ففعلت،فأخرجوني،فلمّا تأمّلت الضوء،غشي بصري،فأخذ من شعري،و ألبست ثيابا،و أدخلت إلى مجلس،فقيل لي:
سلّم على أمير المؤمنين.
فقلت:السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي،و رحمة اللّه و بركاته.
فقال:لست به.
فقلت:السّلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي،و رحمة اللّه و بركاته.
فقال:لست به.
فقلت:السّلام عليك يا أمير المؤمنين الرّشيد،و رحمة اللّه و بركاته.
فقال:و عليك السّلام،يا يعقوب بن داود،و اللّه ما شفع أحد فيك إليّ، غير أنّي حملت اللّيلة صبيّة لي على عنقي،فذكرت حملك إيّاي على عنقك، فرثيت لك من المحلّ الّذي كنت فيه،فأخرجتك،ثمّ أكرمني،و قرّب مجلسي.
ثمّ إنّ يحيى بن خالد تنكّر لي،كأنّه خاف أن أغلب على الرّشيد دونه، فخفته،فاستأذنت في الحجّ،فأذن لي.
فلم يزل مقيما بمكّة،حتّى مات بها (2).
ص:235
[حدّثني أبي في المذاكرة بإسناد له،و كان في الخبر:أنّ المهدي حبسه في بئر،و وكل أمره إلى خادم له،و استحلفه أن لا يخبر بخبره أحدا من الخلق كلّهم،فكان الخادم الموكّل به،ينزل إليه في كلّ يوم رغيفين،و دورق ماء، منه شربه و طهوره،و في البئر موضع يتطهّر فيه،فكان كذلك خمس عشرة سنة.
فلمّا كان بعد خمس عشرة سنة[115 م]سأل عنه الرّشيد فقيل له:
سلّم إلى فلان الخادم،و ذكر أنّه مات.
فأحضر الخادم،و سأله عنه،فقال:إنّه مات.
فاستثبته،فرأى كلاما مختلفا،فجدّ به،فقال:لا أعرف غير موته، فهدّده،فأقام على الإنكار،إلى أن استحضر الرّشيد المقارع.
فقال:أنا أصدق،استحلفني أمير المؤمنين المهدي،ألاّ أخبر بخبره أحدا من الخلق أبدا.
فأكرهه الرّشيد،فدلّ على البئر الّتي هو فيها،ثمّ تتّفق الرّوايات.
قال:فلمّا وقف بين يدي الرّشيد،و سلّم،قال له الرّشيد-مخفيا كلامه- من أمير المؤمنين؟
فقال:المهدي.
قال:قد مضى لحال سبيله،فسلّم على أمير المؤمنين،فسلّم.
فقال:قولوا له من أمير المؤمنين؟
ص:236
[قال:الهادي
قال:قد مضى لحال سبيله،فسلّم على أمير المؤمنين،فسلّم.
فقال:قولوا له،من أمير المؤمنين؟
فقال:هارون،ثمّ تتّفق الروايتان.
و روي لي هذا الخبر على وجه آخر،و هو أضعف عندي،غير أنّي أجيء به كما بلغني،فحدّثت بروايات مختلفة،قالوا] (1)حدّث[89 ر] عبد اللّه بن أيّوب،قال:
رأيت يعقوب بن داود في الطواف،فقلت له:كيف كان سبب خروجك؟ قال:كنت في المطبق حتّى خفت على بصري،فأتاني آت في منامي، فقال لي:يا يعقوب كيف ترى مكانك؟
فقلت:و ما سؤالك؟أما ترى ما أنا فيه،أ ليس يكفيك هذا؟
فقال:أسبغ الوضوء،و صلّ أربع ركعات،و قل:يا محسن،يا مجمل، يا منعم،يا مفضل،يا ذا الفضل و النّعم،يا عظيم،يا ذا العرش العظيم، اجعل لي ممّا أنا فيه فرجا و مخرجا.
فانتبهت،و قلت في نفسي:هذا في النّوم،و رجعت إلى نفسي،فحفظت الدّعاء،و قمت،فتوضّأت،و صلّيت،و دعوت به،فلمّا أسفر الصّبح، جاءوني،فأخرجوني.
فقلت:ما دعاني إلاّ ليقتلني.
فلمّا رآني،أومأ إليهم،اذهبوا به إلى الحمّام،فنظّفوه،و أتوني به، فطابت نفسي،و سجدت شكرا للّه تعالى،فأطلت السجود.
فقالوا لي:قم.
ص:237
فقال لهم الرّشيد:دعوه ما دام ساجدا،ثمّ رفعت رأسي،ثمّ مضي بي إلى الحمّام.
فلمّا خرجت خلع عليّ،ثمّ ضرب بيده على ظهري،و قال لي:يا يعقوب، لا يمنّن عليك أحد بمنّة،فما زلت منذ اللّيلة قلقا بأمرك (1).
ص:238
المهدي يطلق علويّا من حبسه لمنام رآه
وجدت في بعض الكتب:أنّ المهديّ استحضر صاحب شرطته ليلا، و قد انتبه من نومه فزعا،فقال له:ضع يدك على رأسي،و احلف بما أستحلفك به.
[قال:]فقلت:[115 ظ]يدي تقصر عن رأس أمير المؤمنين،و لكن عليّ و عليّ،و حلفت بأيمان البيعة أنّي أمتثل ما تأمر به.
فقال:صر إلى المطبق،و اطلب فلانا العلويّ الحسيني،فإذا وجدته فأخرجه و خيّره بين الإقامة عندنا مطلقا مكرما محبورا،و بين الخروج إلى أهله،فإن اختار الخروج قدت إليه كذا و كذا،و أعطيته كذا و كذا،و إن اختار المقام أعطيته كذا و كذا،و هذه توقيعات بذلك.
فأخذتها و صرت إلى من أزاح علّتي في الجميع،و جئت إلى المطبق،فطلبت الفتى،فأخرج إليّ و هو كالشنّ البالي،[152 غ]فعرّفته أمر أمير المؤمنين،و عرضت عليه الحالين،فاختار الخروج إلى أهله بالمدينة،فسلّمت إليه الصّلة و الحملان.
فلمّا جاء ليركب و يمضي،قلت:بالّذي فرّج عنك،هل تعلم ما دعا أمير المؤمنين إلى إطلاقك؟
قال:إنّي و اللّه،كنت اللّيلة نائما،فرأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، في منامي،و قد أيقظني،و قال:يا بنيّ ظلموك؟
قلت:نعم،يا رسول اللّه.
قال:قم،فصلّ ركعتين،و قل بعد الفراغ:يا سابق الفوت،و يا سامع الصوت،و يا ناشز العظام بعد الموت،صلّ على محمّد و على آل محمّد، و اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا،إنّك تعلم و لا أعلم،و تقدر و لا أقدر، و أنت علاّم الغيوب،يا أرحم الرّاحمين.
ص:239
قال:فقمت،و صلّيت،و جعلت أكرّر الكلمات،حتّى دعوتني.
قال:فحمدت اللّه على توفيقي لمسألته،و عدت إلى المهدي،فحدّثته بالحديث.
فقال:صدّق و اللّه،لقد أتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في النّوم، فأمرني بإطلاقه.
و في خبر آخر:لقد أتاني زنجيّ في فراشي،بعمود حديد،فقال لي:
أطلق فلانا العلوي الحسيني و إلاّ قتلتك،فانتبهت فزعا،فما جسرت على النّوم، حتّى جئتني،فأمرت بإطلاقه (1).
ص:240
المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه
[حدّثني أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي،فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته منه،قال:حدّثني] (1)أحمد بن يزيد المهلّبي (2)،قال:
كنّا ليلة بين يدي المعتمد على اللّه،فحمل عليه النّبيذ (3)[117 م]فجعل يخفق برأسه نعاسا.
فقال:لا يبرحنّ أحد،ثمّ نام مقدار نصف ساعة،و انتبه،و كأنّه ما شرب شيئا.
فقال:أحضروا لي من الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمّال،فأحضر.
فقال له:منذ كم أنت محبوس؟
فقال:منذ ثلاث سنين.
قال:فأصدقني عن خبرك؟
قال:أنا رجل من أهل الموصل،كان لي جمل أعمل عليه و أعود بكرائه على عيلتي (4)،فضاق الكسب عليّ بالموصل،فقلت:أخرج إلى سرّ من رأى فإنّ العمل ثمّ أكثر،فخرجت.
ص:241
فلمّا قربت منها،إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطّريق، و كتب صاحب البريد بعددهم،و كانوا عشرة،فأعطاهم واحد من العشرة مالا على أن يطلقوه،فأطلقوه و أخذوني مكانه،و أخذوا جملي،فسألتهم باللّه عزّ و جلّ،و عرّفتهم خبري،فأبوا،ثمّ حبسوني،فمات بعض القوم،و أطلق بعضهم،و بقيت و حدي.
فقال المعتمد:أحضروني خمسمائة دينار،فجاءوه بها.
فقال:ادفعوها إليه،و أجرى عليه ثلاثين دينارا في كلّ شهر،و قال:
اجعلوا أمر جمالنا إليه.
ثمّ أقبل علينا،فقال:رأيت السّاعة النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم،في النّوم، فقال:يا أحمد،وجّه السّاعة إلى الحبس،و أخرج منصورا الجمّال،فإنّه مظلوم، و أحسن إليه،ففعلت ما رأيتم.
قال:ثمّ نام من وقته،و انصرفنا (1).
و وقع إليّ هذا الخبر،بطريق آخر،بأتمّ من هذه الرواية،[فحدّثني أبو محمّد الحسن بن محمّد الصلحي،الّذي كان كاتب أبي بكر بن رائق، ثمّ كتب لسيف الدولة،ثمّ كان آخر تصرّف تصرّفه،أن كتب للمطيع للّه، رحمه اللّه،على ضياع الخدمة (2)،و خاصّ أمره،في وزارة أبي محمّد المهلّبي لمعزّ الدولة (3)،قال:حدّثني أبو علي الأوارجى الكاتب،قال:حدّثني أبو محمّد
ص:242
عبد اللّه بن حمدون النّديم] (1)،قال:
كان المعتمد مع سماحة أخلاقه،و كثرة جوده و سخائه،شديد العربدة على ندمائه إذا سكر (2)،لا يكاد يسلم له من العربدة مجلس إلاّ في الأقل، فاشتهى يوما[153 غ][90 ر]أن يصطبح على أترجّ،فاتّخذ له منه شيء كثير،مفرط العدد،و عبّي،و حزم بعضه،فاصطبح عليه،و لم يدع شيئا من الخلع و الصّلات و الحملان (3)،إلاّ و عمله مع ندمائه في ذلك اليوم،و خصّني منه بالكثير،و كان كثير الشرب،و كانت علامته إذا أراد أن ينهض جلساؤه، أن يلتفت إلى سرير لطيف،كان إذا جلس يستند إليه،و يشيل (4)رجليه، كأنّه يريد أن يصعد،فيقوم جلساؤه (5)،فإذا كان يريد النّوم صعده،فنام،
ص:243
و إن لم يرد النوم،ردّ رجله،إذا قمنا،و أتمّ شربه مع بعض خدمه،أو حرمه.
فلمّا كان ذلك اليوم،[جلسنا بحضرته نهارنا أجمع،و قطعة من اللّيل، ثمّ] (1)ردّ رجله إلى السّرير في أوّل اللّيل،فقمنا،و انصرف الجلساء إلى حجرة مرسومة بهم،و انصرفت إلى حجرة مرسومة بي من بينهم.
فلمّا انتصف اللّيل،إذا بالخدم يدقّون باب حجرتي،فانتبهت مرعوبا، فقالوا:أجب أمير المؤمنين.
فقمت،و قلت:إنّا للّه و إنّا إليه راجعون،مضى يومنا و بعض ليلتنا، أحسن مضيّ،و قدّرت أنّي أفلتّ من عربدته،فقد عنّ له أن يعربد عليّ، فاستدعاني في هذا الوقت.
فأتيته و أنا في نهاية الجزع،أفكّر كيف أشاغله عن العربدة،إلى أن صرت بحضرته.
ص:244
فلمّا رآني قائما لم يستجلسني،و قال لخادمه:عليّ بصاحب الشرطة السّاعة.
فمتّ جزعا،و قلت في نفسي و أنا واقف بين يديه:لم تجر عادته في العربدة باستدعاء صاحب الشرطة،و ما هذا إلاّ لبليّة قد احتيل بها عليّ عنده.
فاقبلت أنظر إليه طمعا في أن يفاتحني بكلمة،فأداريه في الجواب، و هو لا يرفع رأسه عن الأرض،إلى أن جاء صاحب الشرطة،فرفع رأسه إليه، و قال له:في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الجمّال؟و في رواية:
يعرف بمنصور الجمّال؟
قال:نعم.
قال:أحضرنيه الساعة.
فمضى ليحضره،فسهل عليّ الأمر قليلا،و وقفت،و هو لا يخاطبني بشيء،إلى أن أحضر الرّجل.
فقال له المعتمد:من أنت؟
قال:أنا منصور بن فلان الجمّال.
قال:و ما قصّتك؟
قال:[116 ظ]أنا مظلوم،حبست منذ كذا و كذا سنة،و أنا رجل من أهل الجبال (1)،كان لي جمال أعيش من فضل أجرتها.
و كان يتقلّد بلدنا فلان العامل،فاستدعي إلى الحضرة،فأخذ جمالي غصبا يستعين بها في جمل متاعه (2).
فتظلّمت إليه و صحت،فلم ينفعني ذلك،و قال:إذا صرت بالحضرة رددتها عليك.
ص:245
فخرجت معه لئلا تذهب الجمال أصلا،فكنت مع جمالي أخدمها في الطّريق 118 م].
فلمّا قربنا من حلوان سلّ الأكراد منها جملا محمّلا،فبلغه الخبر، فأحضرني،و قال:أنت سرقت الجمل بما عليه،فقلت:غلمانك يعلمون أنّ الأكراد سلّوه.
فقال:الأكراد إنّما جاءوا بمواطأة منك،ثمّ أمر بضربي،و تقييدي، و طرحي على بعض جمالي.
فلمّا وردنا الحضرة،أنفذت إلى الحبس،و أخذ الجمال،و لم يكن لي متظلّم،و لا مذكّر و لا متكلّم،فطال حبسي،و طالت بي المحنة إلى الآن.
فقال لبعض الخدم:امض السّاعة إلى فلان العامل،و اقعد على دماغه، و لا تبرح،أو يرد عليه جماله أو قيمتها على ما يريد،فإذا قبض ذلك،فاحمله إلى الخزانة،و اكسه كسوة حسنة،و ادفع إليه كذا و كذا دينارا،و اصرفه مصاحبا.
ثمّ قال لصاحب الشرطة:في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الحدّاد؟ قال:نعم،قال:أحضرنيه الساعة،فأحضره.
فقال له:ما قصّتك؟
قال:أنا رجل حبست بظلم،أنا رجل من أهل الشّام،و كانت لي نعمة فزالت،فهربت من بلدي و اتّصلت محنتي[155 غ]إلى أن وافيت الحضرة طلبا للتصرّف (1)،فتعذّر عليّ حتّى كدت أتلف جوعا.
فسألت عن عمل أعمله ليلا لأتوفّر نهارا على طلب التصرّف،و أنفق في النّهار ما أكسبه ليلا،فأرشدت إلى حدّاد يعمل ليلا،فقصدته،فاستأجرني
ص:246
بدرهم في كلّ ليلة،و كنت أعمل معه،و كان معه غلام آخر يضرب بالمطرقة، فأفسد ذلك الغلام على الحدّاد نعلا كان[91 ر]يضربها،فاغتاظ عليه،و رماه بالنعل الحديد على قلّته (1)،فتلف للوقت،فهرب الحدّاد،و بقيت أنا في الموضع متحيّرا لا أدري إلى أين أمضي،و أحسّ الحارس في الحال بما رابه في الدكّان،فهجم عليّ فوجدني قائما،و الغلام ميّتا فلم يشكّ أنّي القاتل،فقبض عليّ و رفعني،فحبست إلى الآن،فقال لصاحب الشرطة:خلّ عنه.
و قال لخادم آخر:خذه فغيّر حاله،و ادفع إليه خمسمائة دينار،و دعه ينصرف مصاحبا.
ثمّ رفع رأسه إليّ،و قال:يا ابن حمدون،الحمد للّه الّذي وفّقني لهذا الفعل.
ففرّج عني،فقلت:كيف تكلّف أمير المؤمنين النّظر في هذا[154 غ] بنفسه،في مثل هذا الوقت؟
فقال: ويحك إنّي رأيت في منامي رجلا يقول لي:في حبسك رجلان مظلومان،يقال لأحدهما:منصور الجمّال،و الآخر:فلان بن فلان الحدّاد، فأطلقهما السّاعة و أحسن إليهما و أنصفهما،فانتبهت مذعورا،ثمّ نمت.
فما استثقلت حتّى رأيت الشّخص بعينه،يقول لي:ويلك آمرك أن تطلق رجلين مظلومين في حبسك،قد طال مكثهما،و أن تنصفهما و تحسن إليهما، فلا تفعل،و ترجع تنام؟لقد هممت أن أوجعك،فكاد يمدّ يده إليّ.
فقلت له:يا هذا من أنت؟
فقال:أنا محمّد رسول اللّه،فكأنّي قبّلت يده،و قلت:يا رسول اللّه، ما عرفتك،و لو عرفتك ما تجاسرت على تأخير أمرك.
ص:247
قال:قم،فاعمل في أمرهما السّاعة،بما أمرتك به،فانتبهت مذعورا، فاستدعيتك لتشاهد ما يجري.
فقلت:هذه عناية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بأمير المؤمنين، و اهتمام بما يصلح دينه،و يثبّت ملكه،و منّة عظيمة عليه،للّه عزّ و جلّ و لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم.
فقال:امض فقد أزعجناك،فعدت إلى حجرتي[117 ظ].
فلمّا كان من الغد عشيّا،دخلت إليه و هو جالس[للشّرب] (1)على الرّسم فأحببت أن أعرّف الجلساء ما جرى البارحة،ليسرّ هو بذلك،و كنت أعرف من طبعه أنّه يحب الإطراء و المدح،و نشر ما هذا سبيله،فإنّه إذا عمل جميلا أكثر من ذكره،و تبجّح به،و إن كان صغيرا.
فقلت له:إن رأى أمير المؤمنين أن يخبر خدمه،بما كان من المعجزة البارحة،و عناية رسول اللّه،صلّى اللّه عليه و سلّم،بخلافته.
فقال:و ما ذاك؟
فقلت:إحضاري البارحة،و إحضار صاحب الشرطة،و الجمّال،و الحدّاد، و رؤياه النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،و ما أمره به فيهما،و ما تقدّم به إلى أمير المؤمنين من إنصافهما.
فقال:و اللّه ما أذكر من هذا شيئا،و ما كنت إلاّ سكران،نائما طول ليلتي،و ما انتبهت.
فقلت:بلى يا سيّدي.
فتنكّر،و قال:يا ابن حمدون قد صرت تغالطني[119 م]و تخادعني بالكذب؟
ص:248
فقلت:أعيذ أمير المؤمنين باللّه،هذا أمر مشهور في الدّار عند الخدم الخاصّة و صاحب الشرطة نفسه،و قصصت عليه القصّة،و شرحتها.
فاستدعى الخدم،فتحدّثوا بمثل ما ذكرته،فأظهر تعجّبا شديدا،و حلف باللّه العظيم،و بالبراءة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و بالنّفي من العبّاس، أنّه لا يذكر شيئا من ذلك،و لا يعلم إلاّ أنّه كان نائما،و لا رأى مناما، و لا انتبه،و لا جلس،و لا استدعى أحدا،و لا أمر بأمر.
فما رأيت أعجب من هذا المنام و الحال،و لا أطرف من هذا الاتّفاق في نسيانه بعد ذلك (1).
و وجدت في خبر آخر،قريب من هذا،و لا يذكر فيه حديث الأترجّ، و ذكر فيه أنّ اسم الجمّال،كان نصرا،و أنّه كان من نهاوند (2)،و له جمال يكريها،و أنّ صاحب المعونة (3)،اكترى منه عشرين جملا،و حمل عليها عشرين رجلا من الأكراد أسرى،ليحملهم إلى الحضرة،فسار الجمّال معهم، فهرب منهم في بعض الطريق،واحد،فوقع لصاحب المعونة أنّ نصرا الجمّال هرّبه،فقيّده،و حمله مكانه،فلمّا دخلوا الحضرة،أنفذ الجمّال مع القوم، إلى الحبس،و أخذ صاحب المعونة جماله.
ص:249
السّكر،في اللغة:حالة تعترض بين المرء و عقله(المنجد)،و السكر من الخمر عند أبي حنيفة،أن لا يعلم الأرض من السماء،و عند الشافعي و أبي يوسف و محمّد،أن يختلط كلامه،و عند آخرين،أن يختلط في مشيته إذا تحرّك(التعريفات 81).
و السكر موجب للحدّ،أي العقوبة المقرّرة،و يعتبر حقا من حقوق اللّه تعالى(التعريفات 57)،و قد جلد رسول اللّه صلوات اللّه عليه في الخمر أربعين جلدة،و كذلك فعل أبو بكر الصدّيق،أما الفاروق عمر،فجلد ولده عبد الرحمن،حدّ الخمر،ثمانين جلدة، و أقيم الحدّ في عهد عثمان على الوليد بن عقبة،أمير العراق،و أخي عثمان لأمّه،فجلد أربعين جلدة(ابن الأثير 107/3 و مروج الذهب للمسعودي 533/1،546).
أما في عهد الأمويّين،فإنّ يزيد بن معاوية كان يدمن شرب الخمر،فلا يمسي إلاّ سكران،و لا يصبح إلاّ مخمورا،و كان عبد الملك يسكر في كلّ شهر مرة،حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء،و كان الوليد بن عبد الملك يشرب يوما،و يدع يوما،و كان سليمان ابن عبد الملك،يشرب في كل ثلاث ليال ليلة،و كان هشام يسكر في كلّ جمعة،و كان يزيد بن عبد الملك و الوليد بن يزيد يدمنان الشرب و اللهو،و كان مروان بن محمّد يشرب ليلة الثلاثاء و ليلة السبت.
أمّا العباسيّون،فقد كان أبو العباس السفاح يشرب عشية الثلاثاء وحدها،و كان المهدي، و الهادي يشربان يوما،و يدعان يوما،و كان الرشيد يشرب في كلّ جمعة مرّتين،و كان المأمون في أوّل أيّامه يشرب الثلاثاء و الجمعة،ثم أدمن الشراب عند خروجه إلى الشام في السنة 215 إلى أن توفّي،و كان المعتصم لا يشرب يوم الخميس و لا يوم الجمعة،و كان الواثق ربما أدمن الشراب و تابعه،غير أنّه لم يكن يشرب ليلة الجمعة،و لا في يومها(التاج في أخلاق الملوك 151-153).
أقول:الذي قرأته في الأغاني 77/6 أنّ هشام بن عبد الملك لم يكن يشرب، و لا يسقي أحدا بحضرته مسكرا،و كان ينكر ذلك و يعاقب عليه،و أنّ أبا جعفر المنصور لم يكن يشرب غير الماء(التاج 33 و محاضرات الأدباء 694/2)،و كان المهدي لا يشرب
ص:250
(الأغاني 160/5)لا تحرّجا و لكن كان لا يشتهيه(الطبري 160/8)،و أنّ موسى الهادي و هارون الرشيد كانا مستهترين بالنبيذ(نهاية الأرب 330/4)،و أنّ الأمين كان لا يبالي مع من قعد و لا أين قعد(التاج 42)،أمّا المتوكّل،فكان منهمكا في اللذّات و الشراب(تاريخ الخلفاء 349)و كان يعربد على جلسائه إذا سكر(الطبري 167/9) أمّا المهتدي،محمّد بن الواثق،فقد كان زاهدا و رعا(تاريخ الخلفاء 361)،و كان المعتمد منهمكا في اللهو و اللذّات(تاريخ الخلفاء 363)و كان المقتدر مؤثرا للشهوات و الشرب(تاريخ الخلفاء 384)أمّا القاهر فكان لا يصحو من السكر(تاريخ الخلفاء 386) أما المقتفي فلم يشرب النبيذ قط(تاريخ الخلفاء 294)و كذلك القادر باللّه(تاريخ الخلفاء 412)و القائم ابنه(تاريخ الخلفاء 417)و المقتدي حفيد القائم(تاريخ الخلفاء 423).
أما بشأن رجال الدولة،فقد ذكر أنّ الفضل بن يحيى البرمكي،لم يكن يشرب الخمر، و عتب عليه الرشيد،و ثقل عليه مكانه لتركه الشرب معه،و كان الفضل يقول:لو علمت أنّ الماء ينقص من مروءتي ما شربته(الطبري 293/8)،و كان سيف الدولة الحمداني لا يشرب النبيذ(الملح للحصري 266)،و كذلك كان سيف الدولة الأسدي صدقة بن دبيس،فإنّه لم يشرب مسكرا(المنتظم 159/9).
ص:251
أبو بكر المادرائي يولّي عاملا
و هو على صهوة جواده
و حدّثني أبو محمّد الصلحي (1)،قال:حدّثني أبو بكر محمّد بن علي المادرائي بمصر،[و كان شيخا جليلا،عظيم الحال و النعمة و الجاه،قديم الرئاسة و الولايات الكبار للأعمال،و قد وزّر لخمارويه بن أحمد بن طولون،و تقلّد مصر مرّات،و عاش ستّا و تسعين سنة] (2)،[و مات في سنة نيف و أربعين و ثلاثمائة] (3)،قال:
كنت أكتب لخمارويه بن أحمد بن طولون (4)،في حداثتي،فركبتني الأشغال[92 ر]و قطعني[ترادف الأعمال] 2،عن تصفّح أحوال المتعطّلين.
و كان ببابي شيخ من شيوخ الكتّاب قد طالت عطلته،و قد غفلت عن تصريفه.
ص:252
فرأيت ليلة في منامي،أبي،و كأنّه يقول لي: ويحك يا بنيّ أ ما تستحي من اللّه،أن تتشاغل بأعمالك و النّاس ببابك يتلفون ضرّا و هزالا؟هو ذا فلان، شيخ من شيوخ الكتّاب،قد أفضى أمره إلى أن تقطّع سراويله (1)،فما أمكنه أن يشتري بدله،أحبّ أن لا تغفل أمره أكثر من هذا.
فانتبهت متعجّبا،و اعتقدت الإحسان إلى الشيخ من غد،و نمت،فأصبحت و قد أنسيت أمره.
فركبت إلى دار خمارويه بن أحمد،فإنّي لأسير إذ تراءى لي الشّيخ على دويبة له ضعيفة،فأهوى ليترجّل لي،فانكشف فخذه،فإذا هو لابس خفّا بلا سراويل.
فحين وقعت عيني على ذلك،ذكرت المنام،فقامت قيامتي[120 م]، فوقفت في موضعي،و استدعيته،فقلت له:يا هذا،ما حلّ لك ما صنعت بنفسك من تركك إذكاري بأمرك،أ ما كان في الدنيا من يوصل لك رقعة، أو يخاطب في أمرك؟الآن قد قلّدتك الناحية الفلانية،و رزقتك رزقها و هو في كلّ شهر مائتا دينار،و أطلقت لك من خزانتي ألف دينار معونة،و أمرت لك من الثياب و الحملان بكذا و كذا،فاقبض ذلك و اخرج،فإن حسن أثرك في عملك،زدتك،و فعلت بك و صنعت.
و ضممت إليه من يتنجّز له ذلك.
ص:253
أدرك أبا محمّد الأزرق الأنباري
حدّثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي،قال:
خرج أخي أبو محمّد الحسن بن يوسف،يقصد أخانا أبا يعقوب إسحاق ابن يوسف و هو حينئذ بمصر،و معه زوجة كانت لأبي يعقوب إسحاق ببغداد، و بنيّة له منها،و مضى.
فلمّا عاد حدّثني[118 ظ]أنّه سلك في قافلة كبيرة،من هيت (1)على طريق السماوة (2)،يريد دمشق (3)،قال:فلمّا حصلنا في أعماق السماوة، أخفرتنا (4)خفراؤنا،و جاء قوم من الأعراب،فظاهروهم علينا،و أظهروا أنّهم من غيرهم،و قطعوا علينا،فاستاقوا ركائبنا،فبقيت أنا و النّاس مطرّحين على الماء الّذي كنّا نزلنا عليه بلا جمل،و لا زاد،و لا دليل،فأيسنا من الحياة.
فقلت للناس:إنّ الموت لا بدّ منه على كلّ حال،أقمنا في أماكننا أم
ص:254
سرنا،فلأن نسير في[156 غ]طلب الخلاص فلعلّ اللّه أن يرحمنا و يخلّصنا، أولى من أن نموت هاهنا،و إن متنا في سيرنا كان أعذر.
فساعدوني،و سرنا يومنا و ليلتنا،و أنا أحمل الصبيّة ابنة أخي،لأنّ أمّها عجزت عن حملها،و كلّما طال علينا الطّريق،و لم نر إنسانا و لا محجّة (1)، أحسسنا بالهلاك،و مات منّا قوم،و أنا خلال ذلك،قد بدأت بقراءة ختمة، و أنا متشاغل بها،و بالدّعاء.
إلى أن وقعنا في اليوم الثّاني،على حلّة (2)أعراب،فأنكرونا،فلم أعمل عملا،حتّى ولجت بيت امرأة منهم،فأمسكت ذيلها،و كنت سمعت أنّ الإنسان إذا عمل ذلك أمن شرّهم،و وجب حقّه عليهم،ثمّ تفرّقنا في البيوت.
و اختلفت أحوال النّاس،فأمّا أنا،فإنّ صاحب البيت الّذي نزلت عليه، لما رأى هيبتي و درسي للقرآن،أكرمني،و لم أزل أحادثه و أرفق به.
فقال لي:ما تشاء؟
فقلت:تركبني و هذه المرأة،و هذه الصبيّة،راحلة،و تسير معنا إلى دمشق على راحلة أخرى،بزاد و ماء،حتّى أعطيك ثمن راحلتك و أهبها لك،و أقضي حقّك بعد هذا.
قال:فتذمّم (3)و استحيا،و قدّرت أنّي إذا دخلت دمشق،وجدت بها
ص:255
من أصدقاء أخي،من آخذ منه ما أريد.
فكساني الأعرابي،و كسا المرأة و الصبيّة،و وطّأ لي راحلة (1)،و حمل معنا من الماء و الزّاد كفايتنا،و ركب هو راحلة أخرى،و كان أكثر من وصل معنا [93 ر]إلى ذلك الموضع،قد تأتّى له مثل ما تأتّى لي،فصرنا رفقة صالحة العدد.
فلمّا كان بعد أيّام،شارفنا دمشق مع طلوع الشمس،فإذا بأهلها قد خرجوا يستقبلوننا،و كلّ من له صديق أو معرفة،يسأل عنه،و قد بلغهم خبر القطع،فما شعرت إلاّ بإنسان يسأل عنّي،بكنيتي و نسبي.
فقلت:ها أنا ذا.
فعدل إليّ،و قال:أنت أبو محمّد الأزرق الأنباري؟
فقلت:نعم.
فقال:إليّ،و أخذ بخطام (2)راحلتي،و تبعني الأعرابي براحلته،حتّى دخلنا مع الرّجل دمشق.
فجاء بنا الرّجل،إلى دار حسنة سريّة (3)،تدلّ على نعمة حسنة،فأنزلنا، و لم أشكّ أنّه صديق لأخي.
فنزلت،و أنزلت الأعرابي معي،و أخذت جمالنا،و أدخلنا الحمّام[121 م] و ألبست خلعة (4)نظيفة،و فعل بالمرأة و الصبيّة مثل ذلك،و أقمت عنده يومين في خفض عيش،لا أسأله عن شيء،و لا يسألني.
ص:256
فلمّا كان في اليوم الثالث،قال:ما صورة هذا الأعرابي معك؟فأخبرته بما أخذنا منه.
فقال لي:خذ ما تريد من المال.
فقلت:أريد كذا و كذا دينارا،فأعطاني ذلك،فدفعته إلى الأعرابي، و سلّمت إليه جمليه.
و سألت الرّجل أن يزوّده زادا كثيرا[لا يكون مثله في البادية،فأخرج له شيئا كثيرا] (1)،و خرج الأعرابيّ شاكرا.
فقال لي الرّجل:إلى أين تريد من البلاد،و كم يكفيك من النفقة؟
فلمّا قال لي ذلك،ارتبت به،و قلت:لو كان هذا من أصدقاء أخي الّذين كاتبهم بتفقّدي،لكان يعرف مقصدي.
فقلت له:كم كاتبك أخي أن تدفع إليّ (2)؟
قال:و من أخوك؟
قلت:أبو يعقوب الأزرق الأنباري،الكاتب بمصر.
فقال:و اللّه،ما سمعت بهذا الاسم قط،و لا أعرفه.
فورد عليّ أعجب مورد،و قلت له:يا هذا،إنّي ظننتك صديقا لأخي، و أنّ ما عاملتني به من الجميل من أجله،فانبسطت إليك بالطّلب،و لو لم أعتقد هذا لانقبضت[118 ظ] (3)فما السبب فيما عاملتني به؟
فقال:أمر هو أوكد من أمر أخيك،يجب أن يكون انبساطك إليه أتمّ.
فقلت:ما هو؟.
قال:إنّ خبر الوقعة بالقافلة الّتي كنت فيها،بلغنا في يوم كذا و كذا،
ص:257
فما بقي كبير أحد بدمشق،إلاّ وردت عليه مصيبة عظيمة،إمّا بذهاب[157 غ] مال،أو بغمّ على صديق،غيري،فإنّي لم يكن لي شيء من ذلك يتعلّق قلبي به، و اتّعد النّاس للخروج،لتلقّي المنقطعين،و إصلاح أحوالهم،و لم أعزم أنا.
فلمّا كان في اللّيل،رأيت النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم في النّوم،و هو يقول لي:أدرك أبا محمّد الأزرق الأنباري،و أغثه،و أصلح شأنه بما يبلغه مقصده، فلمّا أصبحت،خرجت مع النّاس،فسألت عنك،فكان ما رأيت،و الآن اذكر ما تريده.
فبكيت بكاء شديدا،لم أقدر معه على خطابه مدّة،ثمّ نظرت إلى ما يبلغني مصر،فطلبته منه،فأخذته،و أصلحت أمري،و سألت الرّجل عن اسمه،فقال:أنا فلان بن فلان الصابوني[ذكره أبو محمّد،و أنسيه أبو الحسن] (1).
قال:فلمّا بلغت إلى مصر،حدّثت أخي بالحديث،فعجب منه،و بكى.
قال أبو الحسن:و ضرب الدّهر ضربه،و ورد أبو يعقوب أخي إلى بغداد بعد سنين،فتذاكرنا هذا الحديث.
فقال أخي:لما عرّفني أخي أبو محمّد،ما عامله به ابن الصابوني الدمشقي هذا،جعلته صديقا لي،فكنت أكاتبه.
فلمّا وردت إلى دمشق،وجدت حاله قد اختلّت،لمحن لحقته،فوهبت له ضيعتي بدمشق،و كانت جليلة الغلّة و القيمة،فسلّمتها إليه،مكافأة لما عامل به أبا محمّد أخي.
ص:258
اعتقلهم الوزير ابن الزيّات و أطلقوا لموت الواثق
[قال محمّد بن عبدوس،في كتاب الوزراء،حدّثني الحسين بن عليّ الباقطائي (1)، قال:حدّثني أبي،قال:قال لي أحمد بن المدبّر:] (2)
لما أمر محمّد بن عبد الملك (3)بحبسي،أدخلت محبسا فيه[94 ر] أحمد بن إسرائيل،و سليمان بن وهب،و هما يطالبان (4)،فجعلت في بيت ثالث،فكنّا نتحدّث و نأكل جميعا،و ربّما أدخل إلينا النّبيذ (5)،فنشرب.
و كان أحمد بن إسرائيل شديد الجبن،و كان ينكر علينا،و يمنعنا أن نتحدّث بشيء،أو نرجو لأنفسنا.
فجاءني يوما سليمان بن وهب،فقال لي:رأيت البارحة في نومي،كأنّ قائلا يقول لي:يموت الواثق إلى ثلاثين يوما،فقم بنا إلى أبي جعفر نحدّثه.
فقلت:و اللّه،إن سمع بهذا أبو جعفر،ليشقّنّ ثوبه،و ليسدّنّ أذنه خوفا.
ص:259
فقال لي:قم على كلّ حال،فقمنا فدخلنا عليه،فأخبره سليمان بما رأى.
فقال له:يا هذا،أنت أجسر النّاس،و أشدّهم جناية (1)على نفسك و علينا، إنّما تريد أن يسمع هذا فنقتل.
فقال له:فتكتب هذه الرؤيا عندك،لتمتحن صدقها.
فنفر،و قال:أنا لا أكتب مثل هذا،فكتبته أنا في رقعة صغيرة[122 م].
فلمّا كان يوم الثلاثين،دخل عليّ أحمد بن إسرائيل فقال لي:يا أبا الحسن، هذا يوم الثلاثين،فأخرجت الرقعة،فإذا هو قد حفظ اليوم،و مضى يومنا إلى آخره.
فلمّا كان اللّيل،لم نشعر إلاّ و الباب يدقّ دقّا شديدا،[و صاح بنا صائح:
البشرى،قد مات الواثق (2)،اخرجوا] (3)،
فقال أحمد بن إسرائيل:قوموا بنا،فقد حقّق اللّه الرؤيا،و أتانا بالفرج، و صدقت الرؤيا.
فقال سليمان بن وهب:كيف نمشي مع بعد منازلنا؟و لكن نوجّه من يجيئنا بما نركب.
فاغتاظ أحمد بن إسرائيل،و قال:نعم،نقعد،حتّى يجلس خليفة آخر،فيقال له:إنّ في الحبس جماعة من الكتّاب عليهم أموال،فيأمر بالتوثّق منّا،إلى أن ينظر في أمرنا،قم عافاك اللّه،حتّى نمرّ.
فخرج،و خرجنا على أثره.
فقبل أن نخرج من باب الهاروني،سمعنا رجلين يقول أحدهما للآخر:
سأل الخليفة جعفر المتوكّل عمّن في الحبس،فقيل:فيه جماعة من الكتّاب،
ص:260
فقال:يكونون فيه إلى أن ننظر في أمورهم.
فجددنا في المشي و قصدنا غير منازلنا،و استترنا.
و بحثنا عن الأخبار،فبلغنا إقرار الخليفة محمّد بن عبد الملك،فكتبت إليه رقعة عن جماعتنا،نعرّفه خبرنا[158 غ]،و اتّساع آمالنا فيه،و نستأذنه فيما نعمل.
فلمّا وصلت إليه الرّقعة،وقّع على ظهرها:لم استخفيتم؟و ليس منكم إلاّ من عنايتي تخصّه،[119 ظ]و رأيي فيه جميل،أما أبو أيّوب فقد تكلّم في حقّه أبو منصور إيتاخ،و استوهبه،فوهب له،و أمرت باحضاره ليخلع عليه، فليحضر،و أما أبو جعفر فإنّه طولب بما لا يلزمه،و قد وضحت حجّته في بطلانه،فليصر إليّ،و أمّا أبو الحسن فإنّه قذف بباطل،فاظهروا جميعا، واثقين بما عندي من حياطتكم و رعايتكم.
فصرنا إليه جميعا،و زال عنّا ما كنّا فيه،فخلع على سليمان خاصة (1).
ص:261
النبيذ:الخمر المعتصر من التمر،أو العنب،أو العسل،و سمي نبيذا،لأنّ الذي يتّخذه يأخذ تمرا أو زبيبا،فيلقيه في وعاء و يصبّ عليه الماء،و ينبذه حتى يفور،و يصير مسكرا،و المطبوخ منه هو الذي يعرض على النار،و خير أنواع النبيذ هو القطربّلي،من نتاج قطربّل إحدى ضواحي بغداد،و هي مشهورة بخمرها(معجم البلدان 133/4).
و للاطّلاع على أنواع النبيذ راجع ما كتبه أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشيّ المتطبّب المعروف بابن النفيس في مطالع البدور 140/1،و لزيادة التفصيل راجع كتاب الأشربة لابن قتيبة.
و ممّا يلاحظ أنّ العراقيين كانوا لا يرون بشرب النبيذ بأسا،أمّا الآن فهم يرون حرمته، و القليل منهم من يشربه،و قد كان عند أهل العراق لشرب النبيذ آيين،وصفه القاضي التنوخي في القصّة 109/8 من كتاب نشوار المحاضرة،فيما يتعلّق بترتيب مجلس الشراب، و ما فيه من تماثيل العنبر،و أجاجين ماء الورد،و الصواني،و المغاسل،و المراكن، و الخرداذيات،و المدافات التي تشتمل على الأنبذة،و كيف يختار النبيذ،و من يختاره، و كيف يتمّ السقي،و من يكون الساقي.
و في القصّة 69/3 أورد التنوخي قصّة أشار فيها إلى آيين المنادمة الذي يفرض على النديم أن يقبّل يد الملك أوّلا،ثم يقبّل القدح ثانيا،و يشرب،و إذا قدّم للملك شرابا،أو مأكلا، فإنّ عليه أن يتناول منه قبل الملك.
كما أورد التنوخي في نشواره وصفا لأحد مجالس شرب المقتدر(القصّة 158/1) و لأحد مجالس شرب الراضي(القصّة 159/1)و لأحد مجالس شرب المتوكّل(القصّة 162/1)و لأحد مجالس شرب عضد الدولة(القصّة 44/4)و لأحد مجالس شرب أبي القاسم البريديّ(القصّة 164/1)و لأحد مجالس شرب الوزير المهلّبي،وزير معزّ الدولة(القصّة 163/1)،و في معجم الأدباء 334/5 وصف لمجلس من مجالس شرب الوزير المهلّبي،كان يجتمع فيها بأصحابه من شيوخ القضاة،في كلّ أسبوع مرّتين، فيلبسون المصبّغات،و يوضع أمام كلّ واحد منهم طاس من الذهب وزنه ألف مثقال،
ص:262
مملوء شرابا قطربّليا عكبريا،فيشربون،و يطربون،و يرقصون،و إلى هذا المجلس أشار السريّ الرفّاء في قوله(ديوان السريّ الرفّاء 246):
إذا سقى اللّه منزلا فسقى بغداد ما حاولت من الديم
يا حبّذا صحبة العلوم بها و العيش بين اليسار و العدم
كيف خلاصي من العراق و قد أثرت فيها معادن الكرم
رأيت فيها خلاعة وصلت أطرافها بالعلوم و الحكم
مجالس يرقص القضاة بها إذا انتشوا في مخانق البرم
كأنّهم من ملوك حمير ما أوفت أكاليلهم على اللمم
و صاحب يخلط المجون لنا بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثا أنامل مثل حمرة العنم
راجع في كتاب مطالع البدور ما ورد في الراح،و في آنيتها،و استعمالها،و ما يجب على شاربيها،و مستهديها،و وصّافها،و المتنادمين عليها،و مسامراتهم،و غنائهم 128/1- 229.
و من أراد التوسّع في الاطّلاع على مجالس شرب الخلفاء و الأمراء و الشعراء،فعليه بكتاب الديارات للشابشتي تحقيق كوركيس عواد،و كتاب قطب السرور في أوصاف الخمور للرقيق النديم،فهما جامعان للكثير من هذه الأخبار،و في العقد الفريد 352/6-373 بحث عن النبيذ،و تحليله،و تحريمه،و عن الفرق بين النبيذ و الخمر.
ص:263
من شعر سليمان بن وهب لما حبس
قال:و في هذه الحبسة كتب سليمان بن وهب إلى أخيه[الحسن بن وهب فيما حكاه محمّد بن عبدوس] (1):
هل رسول و كيف لي برسول إنّ ليلي ليل السقيم العليل (2)
هل رسول إلى أخي و شقيقي ليت أنّي مكان ذاك الرّسول
يا أخي لو ترى مكاني في الحب س و حالي و زفرتي و عويلي
و عثاري إذا أردت قياما و قعودي في مثقلات الكبول
لرأيت الّذي يغمّك في الأع داء أن يسلكوا جميعا سبيلي
هذه جملة أراني غنّيا معها عن أذاك بالتفصيل
و لعلّ الإله يأتي بصنع و خلاص و فرجة عن قليل[95 ر]
[و ذكر أبياتا أخر،تماما لهذه الأبيات،لم أذكرها،لأنّها ليست من هذا المعنى] (3)،ثمّ قال:
[و قد ذكر محمّد بن داود،في كتابه المسمّى«كتاب الوزراء»من خروج سليمان بن وهب من حبس الواثق غير هذا،قال في كتابه:حدّثني أبو القاسم عبيد اللّه بن سليمان،و اقتصّ محمّد بن عبدوس،قصّة طويلة، ليس فيها ذكر منام،فذكرتها أنا في كتابي هذا،في باب من خرج من حبس
ص:264
أو أسر أو اعتقال،إلى سراح و سلامة و صلاح حال،و رويتها عن عليّ بن عيسى، عن عبيد اللّه بن سليمان،بألفاظ قويّة،[أقوى]من الألفاظ الّتي أوردها ابن عبدوس،و لم أذكرها هاهنا،لأنّ هذا الخبر،مختصّ بالمنامات،فجعلته في بابه،و أوردت تلك القصّة في الباب المفرد لأمثالها] (1).
ص:265
بين الوزير المهلّبي و الحسين السمري
[حدّثني علي بن محمّد الأنصاري الخطمي (1)،قال:حدّثني أبو عبد اللّه الحسين بن محمّد السمري (2)كاتب الدّيوان بالبصرة،قال:] (3)
كان أبو محمّد المهلّبي،في وزارته،قبض عليّ بالبصرة،و طالبني بمال، و حبسني حتّى يئست من الفرج،فرأيت ليلة في المنام،كأنّ قائلا يقول لي:
اطلب من ابن الراهبوني دفترا خلقا عنده،على ظهره دعاء،فادع اللّه به، فإنّه يفرّج عنك،و كان ابن الراهبوني هذا،صديقا لي من تنّاء أهل واسط، مقيما بالبصرة.
فلمّا كان من غد،جاءني،فقلت له:عندك دفتر على ظهره دعاء.
فقال لي:نعم.
قلت:جئني به،فجاءني به،فرأيت مكتوبا على ظهره:اللّهم أنت أنت،انقطع الرّجاء إلاّ منك،و خابت الآمال إلاّ فيك،صلّ على محمّد و على آل محمّد،و لا تقطع اللّهمّ منك رجائي؛و لا رجاء من يرجوك في شرق الأرض و غربها،يا قريبا غير بعيد،و يا شاهدا لا يغيب،و يا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا،و ارزقني رزقا واسعا[159 غ]من حيث لا أحتسب،إنّك على كلّ شيء قدير[123 م].
ص:266
قال:فواصلت الدّعاء بذلك،فما مضت إلاّ أيّام يسيرة،حتّى أخرجني المهلّبي من الحبس،و قلّدني الإشراف على أحمد الطويل (1)،في أعماله بأسافل الأهواز (2).
[قال لي أبو الحسن الأنصاري:قال لي أبو عليّ زكريا بن يحيى الكاتب النصراني،حدّثني بهذا الحديث] (3)أبو عبد اللّه السمري،و كتبت عنه الدعاء، و نقلته،و حفظته،و تقلّبت بي الأحوال،فكتبت لأبي جعفر ممله (4)،صاحب مائدة معزّ الدولة،فاعتقلني بعد مدّة،و نكبني،فواصلت الدّعاء به،فأطلقني بعد أيّام يسيرة.
ص:267
رأى في المنام أنّ غناه بمصر
[حدّثني أبو الرّبيع سليمان بن داود البغداديّ،صاحب كان لأبي، و كان قديما يخدم القاضيين أبا عمر محمّد بن يوسف،و ابنه أبا الحسين في دورهما،و كانت جدّته تعرف بسمسمة،قهرمانة كانت في دار القاضي أبي عمر محمّد بن يوسف رحمه اللّه، قال:] (1).
كان في جوار القاضي قديما،رجل انتشرت عنه حكاية،و ظهر في يده مال جليل،بعد فقر طويل،و كنت أسمع أنّ أبا عمر حماه من السلطان، فسألت عن الحكاية،فدافعني طويلا،ثمّ حدّثني،قال:
ورثت عن أبي مالا جليلا،فاسرعت فيه،و أتلفته،حتّى أفضيت إلى بيع أبواب داري و سقوفها،و لم يبق لي من الدنيا حيلة،و بقيت مدّة بلا قوت إلاّ من غزل أمّي،فتمنّيت الموت.
فرأيت ليلة في النّوم،كأنّ قائلا يقول لي:غناك بمصر،فاخرج إليها.
فبكرت إلى أبي عمر القاضي،و توسّلت إليه بالجوار،و بخدمة كانت من أبي لأبيه،و سألته أن يزوّدني كتابا إلى مصر،لأتصرّف بها،ففعل،و خرجت.
فلمّا حصلت بمصر،أوصلت الكتاب،و سألت التصرّف،فسدّ اللّه عليّ الوجوه حتّى لم أظفر بتصرّف،و لا لاح لي شغل.
و نفدت نفقتي،فبقيت متحيّرا،و فكّرت في أن أسأل النّاس،و أمدّ يدي على الطريق،فلم تسمح نفسي،فقلت:أخرج ليلا،و أسأل،فخرجت بين العشاءين،فما زلت أمشي في الطّريق،و تأبى نفسي المسألة،و يحملني الجوع
ص:268
عليها،و أنا ممتنع،إلى[120 ظ]أن مضى صدر من اللّيل.
فلقيني الطّائف (1)،فقبض عليّ،و وجدني غريبا،فأنكر حالي،فسألني عن خبري،فقلت:رجل ضعيف،فلم يصدّقني،و بطحني،و ضربني مقارع.
فصحت:أنا أصدقك.
فقال:هات.
فقصصت عليه قصّتي من أوّلها إلى آخرها،و حديث المنام.
فقال لي:أنت رجل ما رأيت أحمق منك،و اللّه لقد رأيت منذ كذا و كذا سنة،في النّوم،كأنّ رجلا يقول لي:ببغداد في الشّارع الفلاني،في المحلّة الفلانيّة-فذكر شارعي،و محلّتي،فسكتّ،و أصغيت إليه-و أتمّ الشرطيّ الحديث فقال:دار يقال لها:دار فلان-فذكر داري،و اسمي-فيها بستان، و فيه سدرة،و كان في بستان داري سدرة (2)،و تحت السدرة مدفون ثلاثون ألف دينار،فامض،فخذها،فما فكّرت في هذا الحديث،و لا التفتّ إليه، و أنت يا أحمق،فارقت وطنك،و جئت إلى مصر بسبب منام.
قال:فقوي بذلك قلبي،و أطلقني[96 ر]الطائف،فبتّ في بعض المساجد،و خرجت مع السّحر من مصر،فقدمت بغداد،فقطعت السدرة، و أثرت تحتها،فوجدت قمقما فيه ثلاثون ألف دينار،فأخذته،و أمسكت يدي، و دبّرت أمري،فأنا أعيش من تلك الدنانير،من فضل ما ابتعت منها من ضيعة و عقار إلى اليوم.
ص:269
خزيمة بن هازم يصرّف الحرّاني
و يعقد له على طريق الفرات
[وجدت في كتاب أبي الفرج عبد الواحد المخزوميّ الحنطبيّ (1)،عن عليّ ابن العبّاس النّوبختي (2)،قال:حدّثني أحمد بن عبد اللّه التغلبيّ،قال:كان من بقايا شيوخ خراسان،ممّن يلزم دار العامّة بسرّ من رأى،شيخ يكنى أبا عصمة، و كان يحدّثنا كثيرا،بأخبار الدولة و أهلها] (3)فحدّثنا يوما:
أنّ خزيمة بن خازم (4)،كان يجلس في داره للنّاس،في كلّ يوم ثلاثاء، فلا يحجب عنه أحد،و لا يستأذن لمن يدخل،إنّما يدخلون أرسالا،بغير إذن،فمن كان من الأشراف و وجوه النّاس،سلّم و انصرف،و من كان من طلاّب الحوائج،أو خطّاب التصرّف،دفع رقعته إلى الحاجب،فيجتمع النّاس و يدخلون،فيعرض رقاعهم عليه.
ص:270
و كان قد أفرد لهذا كاتبا حصيفا يقال له:الحسن بن مسلمة،يتصفّح [124 م]الرّقاع قبل عرضها عليه،فما كان يجوز أن يوقّع عنه فيه بخطّه، وقّع و سلّمه إلى أربابه،و ما كان لا بدّ من وقوفه عليه،و توقيعه فيه بخطّه، أوقفه عليه،و من كان من النّاس زائرا،أو مسترفدا،عرضت رقعته عليه، فيكون هو الموقّع فيها بما يراه
فلا يكاد ينصرف أحد من ذلك الجمع العظيم المفرط،إلاّ و هو مسرور بقضاء حاجته.
قال أبو عصمة:و كان ممّن يتصرّف في الأعمال،رجل من الأعراب، ذو لسان و فصاحة،يقال له:حامد بن عمرو الحرّانيّ،و كان فيه إلحاح شديد، و ملازمة تامّة إذا تعطّل،فيؤذي بذلك و يبرم.
و كان يخاطب خزيمة في أيّام الثلاثاء،و لا يقنع بذلك،حتّى يلازم بابه كلّ يوم،و إذا ركب خاطبه على الطّريق،و ربّما تعرّض له في دار الخليفة فخاطبه،و لم يكن في طبع خزيمة احتمال مثل ذلك.
قال أبو عصمة:فحدّثني الحسن بن مسلمة،كاتب خزيمة،قال:
نظر خزيمة إلى هذا الرّجل في داره،و كان قد لقيه في الطّريق،فخاطبه قبل ذلك بيوم،و أضجره،و وافق من خزيمة ضجرا بشيء حدث من أمور المملكة، مع ما فيه من الجبروتية و الكبر.
فحين خاطبة الرّجل،صاح فيه،و أمر بإخراجه من داره إخراجا عنيفا، ثمّ دعاني،فقال:و اللّه،لئن دخل هذا داري،لأضربنّ عنقه،و لئن وقف لي على طريق،أو كلّمني في دار السلطان،لأضربنّ عنقه،فأخبره بذلك، و حذّره،و تقدّم إلى البوّابين و الحجّاب بمنعه،و كان خزيمة إذا وعد أو توعّد، فليس إلاّ الوفاء.
ص:271
فخرجت إلى الحجّاب و البوّابين و أصحاب المقارع،فبالغت في تحذيرهم، و تهديدهم،و عرّفتهم ما قال،و أنّه حلف أن تضرب أعناقهم إذا خالفوا، و أكّدت الوصيّة بجهدي،مستظهرا لنفسي.
و خرجت إلى خارج الدّار،فوجدت الرّجل قائما،فأعلمته[121 ظ] أنّ دمه مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في دار السلطان،أو على بابه،أو في الطّريق،و حذّرته تحذيرا شديدا،و خوّفته من سفك دمه،و أن لا يجعل عليه سبيلا،فشكرني على تحذيره،و انصرف كئيبا.
فلمّا أصبحنا من الغد،غدوت إلى دار خزيمة على رسمي،للملازمة، فلمّا دنوت من الباب،إذا بالرّجل واقفا كما كان يقف منتظرا لركوبه.
فعظم ذلك عليّ،و قلت:يا هذا،أ ما تخاف اللّه؟أ تحبّ أن تقتل نفسك؟
أ ما تعرف الرّجل؟
فقال:و اللّه،ما أتيت هذا عن جهل منّي و لا اغترار،بل أتيته على أصل قويّ،و سبب وثيق،و سترى من لطف اللّه ما يسرّك،و تعجب منه.
قال الحسن:فزاد عجبي منه[97 ر]،و دخلت الدّار،فصادفت خزيمة في صحن الدّار يريد الركوب،فحين نظر إليّ،قال:ما فعل حامد بن عمرو؟
قلت:رأيته السّاعة بالباب،[و قد تهدّدته،فلمّا رأيته اليوم بالباب تعجّبت من جهله و عوده،مع ما أعذرت إليه من الوعيد،و أمرته بالانصراف، فأجابني بجواب لا أدري ما هو،فأنا بريء من فعله] (1).
فقال:بأيّ شيء أجابك؟فأخبرته،فسكت خزيمة،و خرج فركب، فحين رآه حامد ترجّل له.
ص:272
فصاح به:لا تفعل،و الحقني إلى دار أمير المؤمنين و سار خزيمة،فدخل دار الرّشيد (1)،و دخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه من الدّار،فجلسنا فيه،و مضى خزيمة يريد الخليفة،و جاء حامد فجلس إلى جانبي.
فقلت له:أصدقني عن خبرك،و السّبب في جسارتك على خزيمة، و لينه لك بعد الغلظة،و عرّفته ما جرى بيني و بين خزيمة ثانيا.
فقال:طب نفسا،فما أبدي لك شيئا إلاّ بعد بلوغ[125 م]آخر الأمر.
فبينما نحن كذلك،إذ دعي حامد إلى حيث كان مرسوما بأن يدخله من يخلع عليه،فتحيّرت فلم يكن بأسرع من أن خرج و عليه الخلع،و بين يديه لواء قد عقد له على طريق الفرات بأسره،فقمت إليه و هنّأته.
و قلت:و لا السّاعة تخبرني الخبر؟
فقال:ما فات شيء،و ودّعني و مضى،فأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة، فسرت معه إلى داره،فلمّا استقرّ،دعاني،فسألني عن أمور جرت.
و قال:أظنّك أنكرت ما جرى من أمر حامد؟
قلت:إي و اللّه،أيّها الأمير.
قال:فاسمع الخبر،اعلم أنّي كنت في نهاية الغيظ عليه،و أمرت فيه بما علمته أمس،فلمّا كان البارحة،رأيته في النّوم،كأنّه قائم يصلّي، و قد رفع يديه إلى اللّه يدعو عليّ.
ص:273
فصحت به:لا تفعل،لا تفعل،و ادن منّي،فانفتل من صلاته، و جاء حتّى وقف بين يديّ.
فقلت له:ما يحملك على أن تدعو عليّ؟
فقال:لأنّك أهنتني،و استخففت بي،و هدّدتني بالقتل ظلما،و قطعت أملي من طلب رزقي و قوتي،و أنا أشكوك إلى اللّه،و أستعينه عليك.
و كأنّي أقول له:طب نفسا،و لا تدع عليّ،فإنّي أحسن إليك غدا، و أولّيك عملا،و استيقظت.
فعجبت من المنام،و علمت أنّي قد ظلمت الرّجل،و قلت في نفسي:
شيخ من العرب،له سنّ و شرف،أسأت إليه بغير جرم،و أرعبته،و ما ذا عليه إذا لجّ في طلب الرزق؟و علمت أنّ الّذي رأيته في منامي موعظة في أمره، [و حثّ على حفظ النّعم،و أن لا أنفّرها بقلّة الشكر،و استعمال الظّلم] (1).
فاعتقدت أن أولّيه،كما وعدته في النّوم،فكان ما رأيت.
قال الحسن بن مسلمة:فقوّيت رأيه في هذا،و دعوت له،و انصرفت، فجاءني من العشيّ حامد،مسلّما،و مودّعا،ليخرج إلى عمله.
فقلت له:هات الآن خبرك.
فقال:نعم،انصرفت من باب خزيمة موجع القلب،قلقا،مرتاعا، فأخبرت عيالي،فصار في داري مأتم،و بكاء عظيم،و لم أطعم أنا،و لا هم، شيئا،يومنا و ليلتنا،و أمسيت كذلك.
فلمّا هذأت العيون،توضّأت،و استقبلت القبلة،فصلّيت ما شاء اللّه، و تضرّعت إلى اللّه،و دعوته بإخلاص نيّة،و صدق طويّة،و أطلت،فحملتني عيني،فنمت و أنا ساجد في القبلة.
ص:274
فرأيت في منامي،كأنّي على[122 ظ]حالي في الصّلاة و الدّعاء، و كأنّ خزيمة قد وقف عليّ،و أنا أدعو،فصاح بي:لا تفعل،لا تفعل، و اغد عليّ،فإنّي أحسن إليك،و أولّيك،فانتبهت مذعورا،و قد قويت نفسي، فقلت:أبكّر إليه،فلعلّ اللّه أن يطرح في قلبه الرقّة،فغدوت[98 ر]إليه، فكان ما رأيت (1).
قال الحسن:فكثر تعجّبي لاتّفاق المنامين،فقلت لحامد:لقد أخبرني الأمير بمثل ما ذكرته،لم يخرم منه حرفا،و بكّرت إلى خزيمة،فحدّثته بالحديث، فعجب منه،و أحضر حامدا حتّى سمع منه ذلك،و أمر له بكسوة وصلة و حملان، و لم يزل بعد ذلك يتعمّد إكرامه (2).
ص:275
بين الوزير عليّ بن عيسى و العطّار الكرخي
و يقارب هذا حديثان،حدّثني بأحدهما بعض أهل بغداد:
أنّ عطارا من أهل الكرخ،كان مشهورا بالستر و الأمانة،فركبه دين، و قام من دكانه (1)،و لزم بيته مستترا،و أقبل على الدّعاء و الصّلاة،إلى أن صلّى ليلة الجمعة صلاة كثيرة،و دعا،و نام،فرأى النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم في منامه،و هو يقول له:اقصد عليّ بن عيسى (2)،و كان إذ ذاك وزيرا،فقد أمرته أن يدفع إليك أربعمائة دينار،فخذها و أصلح بها أمرك.
قال الرّجل:و كان عليّ ستمائة دينار دينا،فلمّا كان من الغد،قلت:
قد قال[126 م]النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم،من رآني في منامه فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي،فلم لا أقصد الوزير.
فلمّا صرت ببابه،منعت من الوصول إليه،فجلست إلى أن ضاق صدري، و هممت بالانصراف،فخرج الشافعيّ (3)صاحبه،و كان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر.
فقال:يا هذا،الوزير و اللّه في طلبك منذ السّحر إلى الآن،و قد سألني
ص:276
عنك فأنسيتك،و ما عرفك أحد،و الرّسل مبثوثة في طلبك،فكن بمكانك، ثمّ رجع فدخل،فلم يكن بأسرع من أن دعي بي،فدخلت إلى عليّ بن عيسى.
فقال لي:ما اسمك؟
قلت:فلان بن فلان العطّار.
قال:من أهل الكرخ؟
قلت:نعم.
قال:أحسن اللّه إليك في قصدك إيّاي،فو اللّه ما تهنّأت بعيش منذ البارحة، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،جاءني البارحة في منامي،فقال:أعط فلان بن فلان العطّار من أهل الكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه،فكنت اليوم في طلبك،و ما عرفك أحد.
فقلت:إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،جاءني البارحة،فقال لي كيت و كيت.
قال:فبكى عليّ بن عيسى،و قال:أرجو أن تكون هذه عناية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بي.
ثمّ قال:هاتوا ألف دينار،فجاءوه بها عينا.
فقال:خذ منها أربعمائة دينار،امتثالا لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم،و ستمائة دينار هبة منّي لك.
فقلت:أيّها الوزير ما أحب أن أزداد على عطاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا،فإنّي أرجو البركة فيه،لا فيما عداه.
فبكى عليّ بن عيسى،و قال:هذا هو اليقين،خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار،و انصرفت،فقصصت قصّتي على صديق لي، و أريته الدنانير،و سألته أن يقصد غرمائي،و يتوسّط بيني و بينهم،ففعل.
و قالوا:نمهله بالمال ثلاث سنين.
ص:277
فقلت:لا،و لكن يأخذون منّي الثلث عاجلا،و الثّلثين في سنتين،في كلّ سنة ثلثا،فرضوا بذلك،و أعطيتهم مائتي دينار،و فتحت دكّاني بالمائتي دينار الباقية.
فما حال الحول إلاّ و معي ألف دينار،فقضيت ديني،و ما زال مالي يزيد، و حالي يصلح،و الحمد للّه (1).
ص:278
طاهر بن يحيى العلويّ
و جرايته من الحاج الخراسانيّ
و الخبر الآخر،ما حدّثني به أحمد بن يوسف الأزرق (1)،عن أبي القاسم ابن أماجور المنجّم (2)،قال:
كنت إذا حججت،دخلت على طاهر بن يحيى العلوي،فرأيت عنده خراسانيّا،كان يحجّ في كلّ سنة،فإذا دخل المدينة،جاء إلى[99 ر] طاهر بن يحيى فأعطاه مائتي دينار،فكانت كالجراية له منه.
فلمّا كان في[123 ظ]بعض السنين،جاء يريد داره،ليعطيه المائتي دينار،فاعترضه رجل من أهل المدينة،فشنع بطاهر عنده،و قال له:تضيع دنانيرك الّتي تدفعها إلى طاهر،و هو يأخذها منك و من غيرك،فيصرفها فيما يكرهه اللّه تعالى،و يفعل و يصنع،و تكلّم فيه بقبيح.
قال الخراساني:فانصرفت عنه،و تصدّقت بالدنانير،و خرجت من المدينة،و لم ألق طاهرا.
فلمّا كان في العام الثاني،دخلت المدينة،فتصدّقت بالمال،و طويت طاهرا.
ص:279
فلمّا كان في العام الثالث،تأهّبت للحجّ،فرأيت النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم في منامي،يقول لي: ويحك قبلت في ابني طاهر قول أعدائه،و قطعت عنه ما كنت تبرّه به؟لا تفعل،فاقصده،و أعطه ما فاته،و لا تقطعه عنه ما استطعت.
قال:فانتبهت فزعا،و نويت ذلك،و أخذت صرّة فيها ستمائة دينار، و حملتها معي،فلمّا صرت بالمدينة،بدأت بدار طاهر،فدخلت عليه و جلست، و مجلسه حفل.
فحين رآني،قال:يا فلان،لو لم يبعث بك إلينا ما جئتنا،
فقلت:كلمة وافقت أمرا،ليس إلاّ أن أتغافل،فقلت:ما معنى هذا الكلام أصلحك اللّه؟
فقال:قبلت فيّ قول[127 م]عدوّ اللّه،و عدوّ رسوله،و قطعت عادتك عنّي،حتّى لامك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في منامك و أمرك أن تعطيني الستمائة دينار،هاتها،و مدّ يده إليّ.
فتداخلني من الدّهش ما ذهلت معه،فقلت:أصلحك اللّه،هكذا و اللّه كانت القضيّة،فمن أعلمك بذلك؟
فقال لي:بلغني خبر دخولك المدينة في المدينة في السنة الأولى،فلمّا رحل الحاجّ و لم تأتني،أثّر ذلك في حالي،و سألت عن القصّة،فعرفت أنّ بعض أعدائنا لقيك، فشنع بي عندك،فآلمني ذلك.
فلمّا كان في الحول الثاني،بلغني دخولك،و خروجك،و أنّك قد عملت على قوله فيّ،فازددت غمّا لذلك.
فلمّا كان منذ شهور،ازدادت إضاقتي،و امتنع منّي النّوم غمّا لما دفعت إليه، ففزعت إلى الصّلاة،فصلّيت ما شاء اللّه،و أقبلت أدعو بالفرج،فحملتني عيني في المحراب،فنمت،فرأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في منامي و هو
ص:280
يقول لي:لا تهتمّ،فقد لقيت فلانا الخراساني،و عاتبته على قبوله فيك قول أعدائك،و أمرته أن يحمل إليك ما فاتك،و لا يقطع عنك بعدها ذلك، و يبرّك ما استطاع،و انتبهت،فحمدت اللّه و شكرته،فلمّا رأيتك،علمت أنّ المنام جاء بك.
قال:فأخرجت الصرّة الّتي فيها ستمائة دينار،فدفعتها إليه،و قبّلت يده، و سألته أن يحلّني من قبول قول ذلك الرّجل فيه (1).
ص:281
قصّة العلويّة الزمنة
حدّثني أبو محمّد يحيى بن محمّد بن سليمان بن فهد الأزديّ (1)،قال:
كان في شارع دار الرّقيق (2)،جارية علويّة،أقامت زمنة خمس عشرة سنة (3)، و كان أبي في جوارها[أيّام نزولنا بدرب المعوج من هذا الشارع،في دار شفيع المقتدريّ،الّتي كان اشتراها] (4)،يتفقّدها،و يبرّها،و كانت مسجّاة، لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب،أو تقلب،و لا تقعد،أو تقعد، و كان لها من يخدمها في ذلك،و في الإنجاء،و الأكل،لقصور أطرافها، و أعضائها،و كانت فقيرة،إنّما قوتها و قوت خادمتها من برّ النّاس.
ص:282
فلمّا مات أبي اختلّ أمرها،و بلغ تجنّي (1)،أمّ ولد الوزير المهلّبيّ خبرها، فكانت تقوم بأمرها،و أجرت عليها جراية في كلّ شهر،و كسوة في كلّ سنة.
فباتت ليلة من اللّيالي على حالها،و أصبحت من الغد،و قد برأت،[100 ر] و مشت،و قامت،و قعدت.
و كنت مجاورا لها،و كنت أرى النّاس يأتون باب دارها،فأنفذت امرأة من داري،ثقة،حتّى شاهدتها،و سمعتها تقول:إنّي ضجرت بنفسي ضجرا شديدا،فدعوت اللّه تعالى بالفرج ممّا أنا فيه،أو الموت،و بكيت بكاء [124 ظ]شديدا متّصلا،و بتّ،و أنا متألّمة،قلقة،ضجرة،و كان سبب ذلك،أنّ الجارية الّتي كانت تخدمني،تضجّرت بي،و خاطبتني بما ضاق صدري معه.
فلمّا استثقلت في نومي،رأيت كأنّ رجلا دخل عليّ،فارتعت منه، و قلت له:يا هذا،كيف تستحلّ أن تراني؟
فقال:أنا أبوك،فظننته أمير المؤمنين (2).
فقلت:يا أمير المؤمنين،هو ذا ترى ما أنا فيه.
ص:283
فقال:أنا محمّد رسول اللّه.
فبكيت،و قلت:يا رسول اللّه،ادع لي بالفرج و العافية.
فحرّك شفتيه بشيء لا أفهمه،ثمّ قال:هاتي يديك،فأعطيته يديّ، و أخذهما،و جذبني بهما،فقمت.
فقال:امشي على اسم اللّه.
فقلت:كيف أمشي؟
فقال:هاتي يديك،فأخذهما،و ما زال يمشي بي،و هما في يديه ساعة، ثمّ أجلسني،حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات.
ثمّ قال لي:قد وهب اللّه لك العافية،فاحمديه و اتّقيه،و تركني و مضى.
فانتبهت،و أنا لا أشكّ أنّه واقف،لسرعة المنام،فصحت بالخادم، فظنّت أنّي أريد البول،فتثاقلت.
فقلت لها:ويحك،أسرجي،فإنّي رأيت رسول اللّه[128 م]صلّى اللّه عليه و سلّم،فانتبهت،فوجدتني مسجّاة،فشرحت لها المنام.
فقالت:أرجو أن يكون اللّه تعالى قد وهب لك العافية،هاتي يدك، فأعطيتها يدي،فأجلستني.
ثمّ قالت لي:قومي،فقمت معها،و مشيت متوكّئة عليها،ثمّ جلست، ففعلت ذلك ثلاث مرّات،الأخيرة فيهنّ مشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سرورا بالحال،و إعظاما لها،فقدّر الجيران أنّي قد متّ،فجاءوا،فقمت أمشي بين أيديهم.
قال أبو محمّد:و ما زالت قوّتها تزيد،إلى أن رأيتها قد جاءت إلى والدتي في خفّ و إزار،بعد أيّام،و لا داء بها،فبررناها،و هي إلى الآن باقية، و هي من أصلح و أورع أهل زماننا،و قد تزوّجت برجل علويّ موسر،و صلحت
ص:284
حالها،و لا تعرف إلى الآن،إلاّ بالعلويّة الزمنة (1).
فمضى على هذا الحديث،سنون كثيرة،و جرى بيني و بين القاضي أبي بكر محمّد بن عبد الرّحمن،المعروف بابن قريعة (2)،مذاكرة بالمنامات، فحدّثني بحديث منام هذه العلويّة،و قصّتها،و علّتها،على مثل ما حدّثني به أبو محمّد،و قال:و أنا كنت أحمل إليها جرايتها من عند تجنّي،جارية الوزير أبي محمّد المهلّبيّ،و كسوتها على طول السّنين،و سمعت منها هذا المنام،و رأيتها تمشي بعد ذلك صحيحة،بلا قلبة،و تجيء إلى تجنّي،و تجنّي
ص:285
زوّجتها بالعلويّ،و أعطتني مالا،فقمت بتجهيزها،و أمرها،حتّى أعرس بها زوجها،و هي إلى الآن من خيار النساء.
قال مؤلّف الكتاب:و حدّثني بعد هذا،جماعة أسكن إليهم من أهل شارع دار الرّقيق،بخبر هذه العلويّة،على قريب من هذا،و هي باقية إلى حين معرفتي بخبرها في سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة (1).
ثمّ كنت في سنة سبع و سبعين و ثلاثمائة عند أبي الفتح أحمد بن عليّ بن هارون المنجم (2)،فرأيت في داره بدرب سليمان من شارع دار الرّقيق (3)، و أنا عنده،امرأة عجوزا،قد دخلت،فأعظمها.
فقلت:من هذه؟
فقال:العلويّة الزمنة،صاحبة المنام،و كانت تمشي بخفّها و إزارها.
فسألتها أن تجلس،ففعلت،و استخبرتها،فحدّثتني،فقالت:
اعتللت من برسام،[101 ر]و أنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثمّ انجلى عنّي،و قد لحق حقوي شيء أزمنني،فكنت مطروحة على الفراش سبعا
ص:286
و عشرين سنة،لا أقدر أن أقعد،و لا أقوم أصلا،و أنجو في موضعي،و أغسل، و كنت مع ذلك،لا أجد ألما.
ثمّ بعد سنين كثيرة من علّتي،رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،في منامي[125 ظ]و أنا أقول له:يا جدّي،ادع اللّه عزّ و جلّ أن يفرّج عنّي.
فقال:ليس هذا وقتك.
ثمّ رأيت أمير المؤمنين رضي اللّه عنه،فقلت له:أما ترى ما أنا فيه، فاسأل رسول اللّه أن يدعو لي،أو ادع لي أنت،فكأنّه قد دافعني.
ثمّ توالت عليّ بعد ذلك،رؤيتي لهما في النّوم،فجرى بيني و بينهما قريب من هذا،و رأيت الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما،و كأنّي أسأل كلّ واحد منهما الدّعاء بالعافية،فلا يفعل.
فلمّا مضت سبع و عشرون سنة،لحقني ألم شديد،أيّاما في حقوي، فقاسيت منه شدّة شديدة،فأقبلت أبكي،و أدعو اللّه بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي،النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم،فعرفته،لأنّي كنت أراه طول تلك السّنين على صورة واحدة،و كأنّي أقول له:يا جدّي،متى يفرّج اللّه عنّي؟
فكأنّه أدخل يده في طرف كمّي،و جسّ بدني،من أوّله إلى آخره، حتّى بلغ حقوي،فوضع يده عليه،و تكلّم بكلام لا أفهمه،ثمّ ردّني على قفاي،كما كنت نائمة،و قال:قد فرّج اللّه عنك،فقومي.
فقلت:كيف أقوم؟
فقال:هاتي يدك،فأعطيته يدي،فأقعدني.
ثمّ قال:قومي على اسم اللّه.
فقمت،ثمّ خطا بي خطوات يسيرة،و قال:قد عوفيت.
فانتبهت،و أنا مستلقية على ظهري،كما كنت نائمة،إلاّ أنّني فرحانة،
ص:287
فرمت القعود،فقعدت لنفسي وحدي،و دلّيت رجليّ من السرير،فتدلّتا، فرمت القيام عليهما،فقمت،و مشيت،فقلت للمرأة الّتي تخدمني:لست آمن أن يشيّع خبري،فيتكاثر النّاس عليّ،فيؤذوني،و أنا ضعيفة من الألم الّذي لحقني،إلاّ أنّي كنت لمّا انتبهت،لم أحسّ بشيء من الألم،و لم أجد غير ضعف يسير.
فقلت:اكتمي أمري يومين،إلى أن صلحت قوّتي فيهما،و زادت قدرتي على المشي و الحركة،و فشا خبري،و كثر النّاس عليّ،فلا أعرف إلى الآن، إلاّ بالعلويّة الزمنة.
فسألتها عن نسبها،فقالت:أنا فاطمة بن عليّ بن الحسن بن القاسم ابن عبد اللّه بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنهم،لم تذكر لي غير هذا (1)،و لا سألتها عنه (2).
ص:288
أبو القاسم السعدي يرى مناما
فيتوب عن فعل المنكر.
حدّثني أبو محمد يحيى بن محمّد بن سليمان بن فهد الأزديّ الموصليّ، قال:سمعت أبا القاسم السعديّ،يحدّث أبي ببغداد،قال:
كنت و أنا حدث السنّ،مشغوفا بغلام لي شغفا شديدا،منهمكا معه في الفساد،فكان ربّما هجرني،فأترضّاه بكلّ ما أقدر عليه،حتّى يرضى.
قال:و إنّه غضب عليّ مرّة غضبا شديدا،فهرب،و استتر عنّي خبره، فلحقني من الحيرة و الوله (1)،[ما قطعني عن النّظر في أمري،و صيّرني كالمجنون، و اجتهدت في صرف ذلك عنّي فما انصرف] (2).
و حضر وقت خروج النّاس إلى الحائر (3)،على ساكنه أفضل الصلاة و السّلام، فكتبت رقعة أسأل اللّه عزّ و جلّ فيها الفرج ممّا أنا فيه،و أتوسّل إلى اللّه تعالى بالحسين ابن عليّ رضي اللّه عنهما،و دفعتها إلى بعض من خرج،و سألته أن يدفعها في ناحية من القبر.
و كانت ليلة النّصف من شعبان،ففزعت إلى اللّه،في كشف ما بي، و تفرّدت بالصّلاة و الدّعاء،قطعة من اللّيل،ثمّ حملني النّوم[102 ر].
ص:289
فرأيت في منامي كأنّي في مقابر قريش (1)،و النّاس مجتمعون فيها،إذ قيل:قد جاء الحسين بن عليّ،و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، للزيارة.
فتشوّفت لرؤيتهما،فإذا بالحسين،في صورة كهل،حسن الوجه، بدرّاعة،و عمامة،و خفّ،قد أقبل،و معه فاطمة عليها السّلام،متنقّبة بنقاب أبيض،و ملحفة بيضاء.
فاعترضت الحسين،و قلت:يا ابن رسول اللّه،كتبت إليك رقعة في حاجة لي،فإن رأيت أن تعمل فيها؟فلم يجبني،و دخل إلى القبّة الّتي فيها محمّد بن عليّ بن موسى رضي اللّه عنهم،و دخلت فاطمة عليها السّلام معه، و كأنّ قوما قد وقفوا يمنعون النّاس من الدخول إليها،فلم أزل أكابس (2)و أتوصّل، إلى أن دخلت،فأعدت عليه الخطاب،فلم يجبني.
فقلت لفاطمة:يا سيّدة النّساء،إن رأيت أن تعملي في أمري.
فقالت:على أن تتوب؟
فقلت:نعم.
فقالت:اللّه؟
فقلت:اللّه.
فكرّرت ذلك عليّ ثلاثا،ثمّ أومأت إلى جماعة ممّن كانوا قياما،فقالت:
خذوه،فأخذوني،و نزعت خاتما من يدها فدفعته إليهم،و خاطبتهم بما لم أفهمه،فحملوني حتّى غبت عن عينها،و أضجعوني و حلّوا سراويلي و شدّوا
ص:290
ذكري بخيط حلبيّ،و وضعوا على الشدّ طينا،و ختموه بالخاتم[129 م]، فورد عليّ من الألم أمر عظيم،أنبهني،فانتبهت و قد أثّر الخيط في الموضع [128 ظ]،و صار أثر الخاتم كأنّه الجديريّ،مستديرا حول الموضع.
ثمّ قال لأبي:إن شئت كشفت لك فأريتك،فقد أريته لجماعة.
فقال:لا أستحلّ النّظر إلى ذلك.
قال السّعديّ:فأصبحت من غد،و ما في قلبي البتّة من الغلام شيء، و ابتعت الجواري،فكنت أطؤهنّ،لا أنكر من جماعي شيئا.
ثمّ طالبتني بالغلمان،فدافعتها مدّة،ثمّ غلبتني الشّهوة،فاستدعيت غلاما،فلم أقدر عليه،و استرخى العضو،و بطل،فلمّا فارقته،أنعظت، فعاودته،فاسترخى،فجرّبت ذلك على عدّة غلمان،فكانت صورتي واحدة.
فجدّدت توبة ثانية،و ما نقضتها بعد ذلك.
قال أبو محمّد:و كان أبو علي القارئ الضّرير،قد سمع معي هذا الخبر من السعديّ،فأخبرني بعد مدّة طويلة (1)-و حلف لي على ذلك-أنّه رأى فاطمة رضي اللّه عنها،في النّوم،قال:فقلت لها:يا سيّدتي (2)،منام السعديّ الّذي حكاه صحيح؟فقالت:نعم (3).
ص:291
أبو جعفر بن بسطام له قصّة في رغيف
حدّثنا أبو علي الحسن بن محمد الأنباريّ الكاتب،قال:
كان ابن الفرات (1)،يتتبع أبا جعفر بن بسطام بالأذيّة،و يقصده بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرة.
و كانت أمّ أبي جعفر قد عوّدته منذ كان طفلا،أن تجعل له في كلّ ليلة، تحت مخدّته الّتي ينام عليها،رغيفا من الخبز،فإذا كان في غد،تصدّقت به،عنه.
فلمّا كان بعد مدّة من أذيّة ابن الفرات له،دخل إلى ابن الفرات في شيء احتاج إلى ذلك فيه،فقال له ابن الفرات:لك مع أمّك خبر في رغيف؟
قال:لا.
فقال:لا بدّ أن تصدقني.
فذكر أبو جعفر الحديث،فحدّثه به على سبيل التطايب بذلك من أفعال النّساء.
فقال ابن الفرات:لا تفعل،فإنّي بتّ البارحة،و أنا أدبّر عليك تدبيرا لو تمّ لاستأصلتك،فنمت،فرأيت في منامي،كأنّ بيدي سيفا مسلولا، و قد قصدتك لأقتلك به،[126 ظ]فاعترضتني أمّك بيدها رغيف تترّسك به منّي،فما وصلت إليك،و انتبهت.
فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما،و جعل ذلك طريقا[103 ر]إلى
ص:292
استصلاحه،و بذل له من نفسه ما يريده من حسن الطاعة،و لم يبرح حتّى أرضاه،و صارا صديقين.
و قال له ابن الفرات:و اللّه،لا رأيت منّي بعدها سوءا أبدا (1).
ص:293
بينما كان يترقّب القتل
وافاه الفرج في مثل لمح البصر
ذكر محمّد بن عبدوس في كتابه،كتاب الوزراء،عن أبي العبّاس ابن الفرات (1)،عن محمّد بن عليّ بن يونس،عن أبيه،أنّه كان يكتب لرجاء ابن أبي الضحّاك،و هو بدمشق (2)،و أنّ عليّ بن إسحاق بن يحيى بن معاذ، كان يتقلّد خلافة صول أرتكين على المعونة بدمشق،فوثب على رجاء،فقتله (3)، و قبض على جماعة من أسبابه،و أمر بحبسي،فحبست في يدي سجّان كان جارا لي،فكان يأتيني بالخبر ساعة بساعة.
فدخل إليّ،و قال:قد أخرج راس صاحبك رجاء على قناة.
[ثمّ جاءني و قال:قد قتل مطبّبه،ثمّ جاءني فقال:قد قتل ابن عمّه] (4)، ثمّ جاءني فقال:قد قتل كاتبه الآخر.
ثمّ قال:السّاعة،و اللّه،يدعى بك لتقتل،فقد سمعت نبأ ذلك، فنالني جزع شديد،و خرج السجّان،فأقفل الباب عليّ.
فدعي بي،فدافع عنّي،و قال:البيت الّذي هو فيه مقفل،و المفتاح مع
ص:294
شريكي،و السّاعة يجيء،و بعث في طلبه.
فنالني في تلك السّاعة نعاس،فرأيت في منامي،كأنّي ارتطمت في طين كثير،و كأنّي قد خرجت،و ما بلّ قدمي منه شيء،فاستيقظت،و تأوّلت الفرج،و سمعت حركة شديدة،فلم أشكّ أنّها لطلبي،فعاودني الجزع.
فدخل السجّان،فقال:أبشر،فقد أخذ الجند عليّ بن إسحاق فحبسوه.
فلم ألبث حتّى جاءني الجند،فأخرجوني،و جاءوا بي إلى مجلس عليّ بن إسحاق (1)الّذي كان فيه جالسا،و قدّامه دواة و كتاب قد كان كتبه إلى المعتصم في تلك السّاعة،يخبره بخبر قتله رجاء،و جعل له ذنوبا،و لنفسه معاذير، و سمّاه رجاء المجوسيّ (2)،و الكافر،فخرّقت الكتاب،و كتبت بالخبر كما يجب إلى المعتصم.
فحبس طويلا،ثمّ أظهر الوسواس،و تكلّم فيه أحمد بن أبي دؤاد، فأطلق (3).
ص:295
المنصور يرى مناما
فيرفع الظلامة عن محبوس
وجدت في بعض الكتب:
أنّ المنصور استيقظ من منامه ليلة من اللّيالي،و هو مذعور لرؤيا رآها، فصاح بالرّبيع،و قال له:صر السّاعة إلى الباب الثاني الّذي يلي باب الشّام فإنّك ستصادف هناك رجلا مجوسيّا مستندا إلى الباب الحديد،فجئني به، فمضى الرّبيع مبادرا،و عاد و المجوسيّ معه.
فلمّا رآه المنصور،قال:نعم،هو هذا،ما ظلامتك؟
قال:إنّ عاملك بالأنبار،جاورني في ضيعة لي،فسامني أن أبيعه إيّاها، فامتنعت،لأنّها معيشتي،و منها أقوت عيالي،فغصبني إيّاها.
فقال له المنصور:فبأيّ شيء دعوت قبل أن يصير إليك رسولي؟
قال:قلت:اللّهمّ إنّك حليم ذو أناة،و لا صبر لي على أناتك.
فقال المنصور للرّبيع:أشخص هذا العامل،و أحسن أدبه،و انتزع ضيعة هذا المجوسيّ[من يده،و سلّمها إلى هذا المجوسيّ،و ابتع من العامل ضيعته،و سلّمها إليه أيضا] (1).
ففعل الرّبيع ذلك كلّه في بعض نهار يوم،و انصرف المجوسيّ،و قد فرّج اللّه عنه،و زاده،و أحسن إليه (2).
ص:296
صاحب الشرطة ببغداد يرى مناما
يرشده إلى القاتل و يبرّئ فيجا مظلوما.
وجدت في كتاب:حدّث القاسم بن كرسوع،صاحب أبي جعفر محبرة (1)،قال:
كان ابن أبي عون،صاحب الشرطة (2)،قد وعد محبرة أنّه يجيئه للإقامة عنده،و الشرب مصطبحا على ستارته (3)في يوم الثلاثاء،فأبطأ عليه،و تعلّق قلب محبرة بتأخّره،فبعث غلاما له يطلبه و يعرف خبره في تأخّره.
فعاد إلى محبرة،و قال:وجدته في مجلس الشرطة،يضرب رجلا بالسياط، و ذكر أنّه يجيء السّاعة،[104 ر]فلمّا كان بعد ساعة،جاء ابن أبي عون.
فقال له أبو جعفر:أفسدت صبوحنا (4)،و شغلت قلبي بتأخّرك،فما سبب ذلك؟
ص:297
فقال:إنّي رأيت البارحة في منامي،كأنّي بكّرت بليل لأجيك (1)،و ليس بين يديّ إلاّ غلام واحد،فسرت في خراب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب (2)، لأجيء إلى رحبة الجسر (3)،فإنّي لأسير في القمر،إذ رأيت شيخا بهيّا،نظيف الثّوب،على رأسه قلنسوة لاطئة (4)،و في يده عكّاز،فسلّم عليّ،و قال:
إنّي أرشدك إلى ما فيه مثوبة:في حبسك فيج 9مظلوم،وافى من المدائن،
ص:298
في وقت ضيّق،فاتّهم بأنّه قتل رجلا،و هو بريء من دمه،و قد ضرب و حبس، و قاتل الرّجل غيره،و هو في غرفة وسطى من ثلاث غرف مبنية على طاق العكّي 10بالكرخ،و اسمه فلان بن فلان،ابعث من يأخذه،فإنّك ستجده سكران، عريان،بسراويل،و في يده سكّين مخضّبة بالدّم،فاصنع به ما ترى، و أطلق الفيج البائس[129 ظ].
قلت:أفعل،و انتبهت،فركبت،و سرت،حتّى وافيت رحبة الجسر، فقلت:ما حدث في هذه اللّيلة؟
ص:299
فقالوا:وجدنا هذا القتيل،و هذا الفيج معه،فضربناه،و لم يقرّ.
فرأيت به أثر ضرب عظيم،فسألته عن خبره،فقال:أنا معروف بالمدائن بسلامة الطّريقة،و معاشي التفيّج،أنفذني فلان بن فلان من المدائن،إلى فلان بن فلان من أهل بغداد،بهذه الكتب،و أخرج إضبارة (1)،فدخلت أوائل بغداد وقت العتمة،فوجدت في الطّريق رجلا مقتولا،فجزعت، و لم أدر أين آخذ،فأنا على حالي إذ أدركني الأعوان،فظنّوني قتلته،و و اللّه ما أعرفه،و لا رأيته قطّ،و قد حبسوني و ضربوني،فاللّه،اللّه،في دمي.
فقلت:قد فرّج اللّه عنك،انطلق حيث شئت،ثمّ أخذت الرجّالة، و مضيت إلى طاق العكّي (2)،فإذا الثّلاث غرف مصطفّة،فهجمت على الوسطى، فإذا فيها رجل سكران عليه سراويل فقط،و في يده سكّين مخضّب بالدم، و هو يقول:أخ عليك،والك،نعم يا سيدي،أنا جرحته،أخو القحبة (3)، و إن مات فأنا قتلته،فأنزلته مكتوفا،و بعثت به إلى الحبس،و انحدرت إلى الموفّق،فأعلمته بالحديث،فتعجّب،و تقدّم إليّ أن أضرب القاتل بالسّياط إلى أن يتلف،و أصلبه في موضع جنايته،فتشاغلت بذلك إلى أن فرغت منه، ثمّ جئتك (4).
ص:300
الرحبة:الأرض الواسعة،و كانت الكلمة تطلق على المدينة أو القرية،أو الفضاء الكائن بين الأبنية،مما يسمّى الآن ساحة،أو ميدانا.
و ذكر ياقوت في كتابه(المشترك وضعا و المفترق صقعا ص 203)ستة مواضع تسمّى الرحبة،بضم الراء،و تسعة مواضع تسمّى الرحبة،بفتح الراء.
فمن المدن:رحبة مالك بن طوق،بناها مالك،و نسبت إلى بانيها،و هي بين الرقّة و بغداد على شاطئ الفرات على بعد 8 أيّام من دمشق(معجم البلدان 764/2).
و من القرى:الرحبة،قرية بحذاء القادسية،على مرحلة من الكوفة،قال عنها ياقوت إنّها على يسار الحاج المتوجّهين إلى مكة،و قد خرجت الآن لكثرة طروق العرب،لأنّها على ضفة البريّة،ليس بعدها عمارة(معجم البلدان 762/2 و المفترق صقعا ص 203).
أقول:مررت على الرحبة في السنة 1935 لما كنت قاضيا في منطقة أبي صخير المجاورة للنجف،و كانت الحيرة،و رحبة القادسية تابعة لمحكمة أبي صخير،و قد أبصرت أهالي الرحبة يقيمون في حصن،و قد اتخذوا في باطنه مساكن لهم،و هم يزرعون الخضر و البطيخ الأحمر المعروف ببغداد بالرقّى،و ماؤهم من عين ثرّة هناك،تسمى«عين الرحبة».
و أمّا الرحبة بمعنى الساحة،أو الميدان،أو الفضاء الكائن بين الأبنية،فقد كان لكلّ جامع رحبة،و في كلّ رأس جسر رحبة،هذا ما عدا الرحبات الأخرى الكائنة في داخل المدينة،و قد سميت إحدى رحبات مسجد المدينة،رحبة القضاء،إذ كانت دارا لعبد الرحمن بن عوف،قضى فيها لعثمان بالخلافة(الطبري 237/4)،و رحبة القصّابين بالبصرة،وقعت فيها معركة بين أنصار يزيد بن المهلّب،و بين أتباع الأمويين في السنة 101 (العيون و الحدائق 57/3)،و كان لمسجد البصرة رحبة(الطبري 518/5)و لجامع المنصور بالمدينة المدوّرة رحبة(الطبري 358/9)،و كانت إحدى الرحبات في سامراء،اسمها رحبة زيرك و هي بالقرب من باب الفراغنة(تاريخ بغداد للخطيب 368/6).
و كان لجامع القصر ببغداد رحبة،و هو الجامع الذي كان الخلفاء العبّاسيّون يقيمون فيه ببغداد صلاة الجمعة،ينفذون إليه من قصر الخلافة،عبر ممرّات تحت الأرض،و هذا الجامع،تعاورته أيدي الغصب فلم يبق منه إلاّ مئذنته،و اسمها الآن منارة سوق الغزل.
ص:301
أمّا رحبة جامع القصر،فهي واقعة خارج الجامع،مما يلي المئذنة،في شرقيّها،و ما تزال إلى الآن رحبة يحتلّها القصّابون الذين يبيعون لحم البقر،و تفصل هذه الرحبة الآن بين سوق الشورجة حيث تباع الغلال،و بين سوق الدهانة،حيث دكاكين العطّارين،و البقّالين، و الحلوانيين،و يسميهم البغداديون(الشكرچية).
و كانت رحبة الجسر من أنزه المواضع ببغداد،بحيث انّ الناس كانوا يجتمعون فيها للفرجة،و في بغداد أغنية شائعة،نظمها بغدادي أضاق،فقال يسلّي نفسه:
لا بدّ ما تنقضي و الفقر ما هو عيب
و أقف براس الجسر و أخرخشك يا جيب
و حدّثوا أنّ أعرابيا قدم بغداد،فأطعم اللوزينج(اسمه الآن ببغداد:بقلاوة،فارسية:
باقلاوا)،فاستطابه،و قال:سمعت الأشياخ من أهلي،يذكرون أنّ من طيّبات بغداد:
الحمّام،و رأس الجسر،و هذا الذي أكلته،لا بدّ أن يكون واحدا منهما.
ص:302
عزم على قتله ثم منّ عليه و أطلقه
ثمّ يمنّ عليه و يطلقه
حدّثني عليّ بن محمّد بن إسحاق بن إبراهيم بن موسى،و كان ابن أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاريّ (1)،قال:
كنت خرجت مع أبي و هو يكتب لأبي جعفر الكرخيّ محمّد بن القاسم (2)، لما تقلّد الموصل و الديارات (3)،و كان قد ضمّ إلى أبي جعفر جماعة من قوّاد السلطان،فلمّا صرنا بنصيبين (4)كان (5)أبي قد مضى و أنا معه إلى أبي العباس أحمد
ص:303
ابن كشمرد (1)مسلّما عليه،فتحدّثا،فسمعته يحدّثه،قال:
لما أسرني أبو طاهر القرمطيّ (2)،فيمن أسره بالهبير (3)،حبسني و أبا الهيجاء (4)،
ص:304
و الغمر (1)،في ثلاث حجر متقاربة،و مكّننا أن نتزاور،و نجتمع على الحديث.
فمكّن أبا الهيجاء خاصّة،و اختصّ به،و عمل على إطلاقه،و شفّعه في أشياء.
فسألت أبا الهيجاء أن يسأله إطلاقي،فوعدني،و استدعاه القرمطيّ، فمضى إليه و عاد[105 ر]إلى حجرته،فجئت و سألته:هل خاطبه؟
فدافعني.
فقلت:لعلّك أنسيت؟
فقال:لا و اللّه،و لوددت أنّي ما ذكرتك له،إنّي وجدته متغيّظا عليك، فقال:و اللّه،لأضربنّ عنقه عند طلوع الشّمس في غد.
و رحل أبو الهيجاء،فورد عليّ أمر عظيم،و عدت إلى حجرتي،و قد يئست من الحياة،فلمّا كان في اللّيل،رأيت في منامي كأنّ قائلا يقول لي:اكتب في رقعة:بسم اللّه الرّحمن الرّحيم،من العبد الذليل،إلى المولى الجليل،مسّني الضرّ و الخوف،و أنت أرحم الرّاحمين،فبحقّ محمّد و آل محمّد،اكشف همّي و حزني،و فرّج عنّي،و اطرح هذه الرّقعة في هذا النّهر،و أومأ إلى ساقية كانت تجري هناك في المطبخ.
فانتبهت من نومي،و كتبت الرّقعة،و طرحتها في السّاقية.
فلمّا كان السّحر استدعاني القرمطيّ،فلم أشكّ أنّه القتل،فلمّا دخلت إليه أدناني و أجلسني،و قال:قد كان رأيي فيك غير هذا،إلاّ أنّي قد رأيت تخليتك.
ص:305
فخرجت،فإذا على الباب راحلة،و رجل يصحبني،فركبت،و دخلت البصرة سالما،و لحقت أبا الهيجاء بها،فدخلنا معا إلى بغداد (1)
ص:306
قال:قال عيسى:خرج يوما محمّد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط (1)، فانتهى به السير إلى قبّة كانت لأحمد بن طولون (2)،يقال لها:قبّة الهواء، مطلّة على النيل و على البرّ،فجلس فيها و معه الحسين بن حمدان (3)و جماعة من القوّاد،ثمّ قال:الحمد للّه الّذي بيده الأمر كلّه يفعل ما يشاء.
فقال له الحسين بن حمدان:لا شكّ أنّ تجديدك الحمد لأمر.
قال:نعم،و هو عجيب طريف ذكرته السّاعة،و هو أنّي نزعت إلى مصر و أنا في حال رثّة،في زيّ صغار الأتباع،فضاق عليّ المعاش بها؟فاتّصلت بلؤلؤ الطولونيّ (4)،فأجرى عليّ دينارين في كلّ شهر،و صيّرني مشرفا في
ص:308
إصطبله على كراعه،فكنت هناك من حيث لا يعرف وجهي جيّدا،و لا أقدم على الوقوف بين يديه.
فلمّا كان في بعض الأيّام أحضرني،فقال: ويحك،من أين يعرفك الأمير؟يعني أحمد بن طولون.
فقلت:و اللّه،ما رآني قط،و لا وقعت عينه عليّ إلاّ في الطّريق،و لا محلّي محلّ من يتصدّى للقائه.
فقال:دعاني السّاعة،و هو في قبّة الهواء،فقال:معك رجل أشقر أشهل (1)،يقال له:محمّد بن سليمان.
فقلت:ما أعرفه.
فقال:بل هو في جنبتك،فأبعده عنك،فإنّي رأيته البارحة و في يده مكنسة يكنس داري بها،فتوقّ ويحك،و لا تتعرّف إلى أحد من حاشيته، و أقرّني على أمري،فامتثلت أمره.
و مضت لهذا الحديث شهور،ثمّ دعاني ثانية،فقال: ويحك،ما ذا بليت به منك،و بليت أنت به من هذا الأمير؟دعاني بعدّة من أصحاب الرّسائل، فوافيته و أنا في غاية الوجل،فقال.أ ليس أمرتك بصرف محمّد بن سليمان الأزرق الأشقر؟
فقلت:قد عرّفتك يا سيّدي أنّي ما (2)استخدمت من هذه سبيله،و لا وقعت لي عليه عين.
ص:309
فقال:كذبت،هو معك في إصطبلك،فأخرجه السّاعة عن البلد، فإنّي قد رأيته البارحة في النّوم،و في يده مكنسة،و هو يكنس بها سائر حجري و داري،و نسأل اللّه الكفاية.
فقلت للؤلؤ:[106 ر]و أيّ ذنب لي يا سيّدي في الأحلام؟
فقال لي:صدقت،فاستتر إلى أن يتناسى الأمير ذكرك،ففعلت، و كان يجري عليّ ذلك الرزق،و أنا لا أعمل شيئا.
فلمّا تهيّأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشّام ما تهيّأ،نهضت معه،و تخلّف عنه كتّابه،لما كانوا علموه من تغيّر حاله عند صاحبه،فأدناني،و قرّبني،و أجرى عليّ في كلّ شهر عشرة دنانير،و حملني على دابّة و بغل،فلزمت خدمته، و كفيته،و استحمدت إليه،فزادني من رأيه،و لم ينته إلى العريش،حتّى تنبّه أحمد بن طولون على استيحاش لؤلؤ،فكتب إليه بالرّجوع إلى مصر،فشاورني، فأشرت عليه بالانحدار إلى نواحي ديار مضر،و أخذ ما يستهدف له من المال، و لم أترك غاية إلاّ أتيتها في تضريبه و تأليبه،حتّى أوردته مدينة السّلام.
ثمّ تقلّبت بي الأحوال في خدمة السلطان،و خدمة الدول،و توفّي أحمد بن طولون،و قتل أبو الجيش (1)،و جيش ابنه (2)،و تولّى بعدهم هارون بن خمارويه (3)،
ص:310
فاختصصت أنا بالقاسم بن عبيد اللّه،فقلّدني ديوان الجيش.ثمّ ندبني لمحاربة هارون،و ضمّ إليّ القوّاد و الرّجال،و كان فيهم لؤلؤ صاحبي،و كان أصغر الجماعة حالا،و أحقرهم شأنا،خاليا من الرّجال و الكراع،فلم أقصّر في إصلاح حاله،و الإحسان إليه،و معرفة حقّه.
فلم أدن من الشّام حتّى تلقّاني بدر الحماميّ،و تلاه طغج بن جف (1)مسرعا،و صرت إلى مصر،فلمّا شارفتها وثب شيبان بن أحمد بن طولون [130 ظ]و من تابعه من جند مصر،فقتلوا هارون (2)،و تولّى شيبان الأمر بعده،و انثال إليّ القوّاد في الأمان،و لحق بهم شيبان،و تخلّف الرّجالة و قطعة من الفرسان،و أظهروا الخلاف،فأوقعت بهم،و أفنيتهم قتلا و أسرا،و دخلت فسطاط مصر عنوة،و حويت النعم و المهج،و أشخصت الطولونية عن البلد إلى الحضرة،حتّى لم يبق منهم أحد.
و صحّ بذلك منام أحمد بن طولون،فسبحان الّذي ما شاء فعل،و إيّاه نسأل خير ما تجري به أقداره،و أن يختم لنا بخير برحمته (3).
ص:311
شفاه منام رآه أحد أصحابه
حدّثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الكاتب المعروف بالببغاء،قال:
اعتللت بحلب (1)علّة،جفّ منها بدني كلّه،فكنت كالخشبة،لا أقدر على أن أتحرّك أو أحرّك،و نحل جسمي،و تقلّبت بي أعلال متّصلة متضادّة صعبة،فمكثت حليف الفراش ثلاث سنين،و آيسني الأطبّاء من البرء،و قطعوا مداواتي.
و كان لي صديق شيخ يعرف بأبي الفرج بن دارم،من أهل بلدي-يعني نصيبين-مقيم بحلب،مواظب على عيادتي،و ملازم لي،و كان لفرط اغتمامه بي،و أنّ الأطبّاء قد آيسوه منّي،يظهر لي من الجزع عليّ أمرا يؤلم قلبي، و يؤيسني من نفسي،ثمّ تجاوز ذلك إلى التصريح باليأس،و توطيني عليه، ثمّ تعدّى هذا إلى أن صار لا يملك دمعته إذا خاطبني.
فضعفت عن تحمّل هذا،و تضاعفت به علّتي،و خارت معه قوّتي، فاعتقدت أن أقول لغلامي أن يترصّده،فإذا جاء الرّجل إليّ قال له عنّي:
إنّي لا أستحسن حجابه،و إنّ علّتي تضاعفت ممّا أشاهده،و أسمعه منه، و يسأله أن ينقطع عنّي،أو يقطع مخاطبتي بما فيه إياس لي،و قرّرت عزمي على هذا في ليلة من اللّيالي،و لم أخاطب به غلامي.
ص:312
فلمّا كان في صبيحة تلك اللّيلة،باكرني ابن دارم،فحين وقعت عيني عليه،تثاقلت به خوفا من أن يسلك معي مذهبه،و هممت أن أفتتح خطابه بما كنت عزمت على مراسلته به،فسبقني بأن قال لي:جئتك مبشّرا.
فقلت:بما ذا؟
قال:رأيت البارحة في منامي،كأنّي بالرقّة،و النّاس يهرعون[107 ر] إلى زيارة قبور الشهداء.
قال أبو الفرج:و هم جماعة ممّن قتل بصفّين (1)،مع عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه،منهم عمّار بن ياسر (2)،حملوا إلى ظاهر الرقّة،فدفنوا بها، و الحال في ذلك مشهور،و القبور إلى الآن مغشيّة معمورة.
قال لي ابن دارم:و رأيت كأنّ أكثر النّاس مطيفون بقيّة،فسألت عنها، فقيل لي:هي على قبر عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه،فقصدتها،و طفت بها،
ص:313
فإذا القبر مكشوف،و فيه رجل شيخ،بثياب بيض،و في رأسه ضربات بيّنة دامية،و على لحيته دم،و النّاس يسألونه فيجيبهم،فلحقتني حيرة،و لم أدر عمّا أسأله.
فقلت له:يا سيّدي،لعلّك عارف بأبي الفرج عبد الواحد بن نصر المخزوميّ المعروف بالببغاء.
فقال:نعم،أنا عارف به.
فقلت:أ يعيش أم لا؟
فقال:نعم،يعيش،و يبرأ،و لكن أنت لك ابن فاحذر عليه من علّة تلحقه قريبا،و استيقظت.
و أخذ يهنّيني بالعافية،و يقول:سرّني ما جرى،و لكن قد أوحشني في أمر ابني،و أسأل اللّه تعالى الكفاية.
قال أبو الفرج:و كان للرّجل ابن،له نحو الثّلاثين سنة،و هو في الحال معافى،فلمّا مضت خمسة أيّام من الرؤيا حمّ الفتى،و تزايدت علّته،فمات في اليوم الرّابع عشر من يوم حمّ،فقويت نفسي في صحّة المنام،و ما مضى على موت الفتى إلاّ أيّام يسيرة،حتّى أدبر مرضي،و لم تزل العافية تقوى[131 ظ] إلى أن عوفيت،و عادت صحّتي كما كانت بعد مدّة يسيرة (1).
ص:314
رأى الإسكندر رؤيا
تبعها انتصاره على دارا ملك الفرس
وجدت في بعض الكتب:
أنّه لما اشتدّت الحرب بين الإسكندر (1)،و بين دارا بن دارا (2)،استظهر دارا عليه،و أشرف الإسكندر على الهلاك،و أيس من النّصر،و حال الشتاء بينهما،فانصرف الإسكندر إلى معسكره،مغموما مهموما ليلته،ثمّ نام.
فرأى في منامه،كأنّه صارع دارا،فصرعه دارا،فانتبه و قد كربه ذلك، و زاد في همّه و غمّه.
فقصّ رؤياه على بعض فلاسفته،فقال:أبشر أيّها الملك بالغلبة و النّصر، فإنّك تغلب دارا على الأرض،لأنّك كنت تليها لما صرعك.
فلمّا كان بعد أيّام يسيرة،انهزم دارا،و قتل،و جاءوا برأسه إلى الإسكندر (3).
ص:315
رؤيا عبد اللّه بن الزبير و تعبيرها
قال مؤلّف هذا الكتاب:
و مثل هذا ما هو مشهور في روايات أصحاب الأخبار و السّير،أنّ عبد اللّه ابن الزّبير (1)رأى في منامه،كأنّه صارع عبد الملك بن مروان،فصرع عبد الملك، و سمّره على الأرض بأربعة أوتاد.
فأرسل راكبا إلى البصرة،و أمره أن يلقى محمّد بن سيرين (2)،و يقصّ الرؤيا عليه،و لا يذكر له من أنفذه.
فأتاه و قصّ عليه المنام،فقال له ابن سيرين:من رأى هذا؟
قال:أنا رأيته في رجل بيني و بينه عداوة.
فقال:ليس هذه رؤياك،هذه رؤيا ابن الزّبير أو عبد الملك،أحدهما في الآخر.
فسأله الجواب،فقال:ما أفسّرها أو تصدقني،فلم يصدقه،فامتنع من التفسير،فانصرف الرّاكب إلى ابن الزّبير،فأخبره بما جرى.
فقال له:ارجع إليه،و اصدقه،أنّني رأيتها في عبد الملك.
ص:316
فرجع الرّاكب إلى ابن سيرين،و صدقه،فقال له:قل له يا أمير المؤمنين، إنّ عبد الملك يغلبك على الأرض،و يلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة،بعدد الأوتاد الّتي سمّرته بها على الأرض (1).
ص:317
رأى في منامه أنّه قد صرع خصمه
فكان تعبير رؤياه أنّ الخصم هو المنتصر
حدّثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمديّ (1)،الكاتب،المقيم-كان- بالبصرة،إلى أن مات،قال:
لمّا سعى أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنّى (2)،مع جيش أبي القاسم بن أبي عبد اللّه البريديّ (3)،في أن يقبضوا عليه،و يحبسوه عند أبي أحمد،إلى
ص:318
أن يرد المطيع للّه (1)،أو جيش له إلى البصرة،فيملكوها،و يتسلّمون منه أبا القاسم البريديّ،و كانت القصّة المشهورة في ذلك.
فبلغني ذلك،فخلوت بأبي أحمد،و كنت أكتب له حينئذ،و كان لا يحتشمني في أموره،و ثنيته عن هذا الرّأي،و عرّفته وجوه الغلط فيه،و المخاطرة بدمه و نعمته،و هو غير قابل لمشورتي،إلى أن أكثرت عليه.
فقال لي:اعلم أنّني قد رأيت رؤيا أنا بها واثق في تمام[108 ر]ما قد شرعت فيه من القبض على هذا الرّجل.
فعجبت في نفسي من رجل يخالف الحزم الظّاهر،و الرأي الواضح، من أجل منام،ثمّ قلت له:ما الرؤيا؟
فقال:رأيت كأنّ حيّة عظيمة،قد خرجت عليّ من حائط هذا العرضيّ (2).
قال:و كان جالسا في عرضيّ داره،قال:فكأنّي قد رميتها،فأثبتها في الحائط.
فحين قال أبو أحمد:أثبتّها في الحائط،ذكرت تأويل منام ابن الزّبير، و قصّ المنام الّذي ذكرته،فسبق إلى قلبي،أنّ تأويل منام أبي أحمد،أنّه قد أثبت عدوّه في حائطه،و أنّ عدوّه سيغلبه على البلد.
قال:فأمسكت،و قطعت الكلام،فما مضت إلاّ مدّة يسيرة،حتّى شاع التدبير،و صحّ الخبر به عند أبي القاسم البريديّ،[فبادر إلى القبض على
ص:319
فائق الأعسر،و كان هو الّذي ندبه أبو أحمد للقبض على البريديّ] (1)، و أن يكون أمير البلد،إلى أن يرد جيش الخليفة،فقرّره،فأقر بالخبر على شرحه،فقبض أبو القاسم على أبي أحمد بعد قبضه على فائق بيومين أو ثلاثة، فاستصفاه،و أهله،و ولده،ثمّ قتله بعد ذلك بأيّام (2)[132 ظ].
ص:320
الرّشيد يولّي أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق
بلغني عن إبراهيم بن المهدي،قال:
كنت في جفوة شديدة من أخي الرّشيد،أثّرت في جاهي،و نقصت حالي، و أفضيت معها إلى الإضاقة بتأخير أرزاقي،و ظهور اطّراحه إيّاي،فاختلّت لذلك أحوالي،و ركبني دين فادح،فبلغ بي القلق و الفكر فيه ليلة من اللّيالي، مبلغا شديدا،و نمت فرأيت في النّوم كأنّي واقف بين يدي أبي المهدي،و هو يسألني عن حالي،و أنا أشكو إليه ما نكبني به الرّشيد،و أنهيت إليه حالي، و أنا أقول:ادع اللّه عليه يا أمير المؤمنين.
فكأنّه يقول:اللّهم أصلح ابني هارون،يكرّرها ثلاثا.
فكأنّي أقول:يا أمير المؤمنين أشكو إليك ظلم هارون لي،و أسألك أن تدعو عليه،فتدعو له.
فقال:و ما عليك،إن أصلحه اللّه لك و للكافّة،أن يبقى على حاله، هو ذا أمضي إليه السّاعة،و آمره أن يرجع لك،و يقضي دينك،و يولّيك جند دمشق.
فكأنّني أومي إليه بسبّابتي،و أقول له:دمشق،دمشق،استقلالا لها.
فيقول لي:حرّكت مسبّحتك استقلالا لدمشق،فكلّما خفّ منها حظّك، كان في العاقبة أجود لك.
فانتبهت،و أحضرت رجلا كان مؤدّبي في أيّام المهدي،فسألته عن المسبّحة،فقال:كان عبد اللّه بن العبّاس،يسمي السبّابة:المسبّحة (1)،فما
ص:321
سؤال الأمير لي عنها؟
فقصصت عليه الرؤيا،و امتنع النّوم عنّي،فأخذ يحدّثني و أنا جالس في فراشي،إذ جاءني رسول الرّشيد،فارتعت له ارتياعا شديدا،و لم أعبأ بالمنام، و خفت أن يريدني لسوء يوقعه بي.
فقلت:أدافعه إلى أن تطلع الشّمس،ثمّ يكون دخولي الدّار نهارا، فإن كان أرادني لغيلة لم تتمّ.
فتقاطرت رسله حتّى أعجلوني عن الرأي،و اضطرّوني إلى الرّكوب في الحال،فدخلت إليه و أنا شديد الجزع،و هو جالس في فراشه ينتحب.
فلمّا رآني،قال:سألتك باللّه يا أخي هل رأيت اللّيلة في منامك شيئا؟
فقلت:نعم،الساعة رأيت أمير المؤمنين،المهدي.
فلمّا قلت له ذلك ازداد بكاؤه،ثمّ قال لي:ويحك،باللّه،شكوتني إليه و سألته أن يدعو عليّ؟
فقلت:قد كان ذلك،و لكنّه قال كذا و كذا،و شرحت له ما قال.
فقال:السّاعة و اللّه،جاءني في منامي،فقصّ عليّ جميع ما ذكرت، و قد وفى بوعده،و اللّه لأمتثلنّ أمره،و لأصلنّ رحمك،كم دينك؟
قلت:كذا و كذا،فأمر بقضائه.
و قال:لا تبرح،حتّى أصلّي و أخرج،فأعقد لك على دمشق،فانتظرت حتّى وجبت الصّلاة،فصلّى،و جاء وقت جلوسه،فجلس،و استدعاني [109 ر]فأظهر تكرمتي،و عقد لي لواء على دمشق (1)،و أمر النّاس،فساروا معي إلى منزلي،فعاد جاهي،و صلحت حالي (2).
ص:322
التسبيح،في اللغة:الصلاة،و الدعاء،و في الاصطلاح:قول سبحان اللّه،تمجيدا و تنزيها له،و المسبّحة:الإصبع التي تلي الإبهام،لأنّها يشار بها عند التسبيح(لسان العرب، مادة:سبح).
و كان التسبيح يجري باليد،ثمّ بالحصى،و كانت ساحات المساجد في الكوفة و البصرة و الموصل،مفروشة بالحصى،يسبّح به المصلّون،و يحصبون به الولاة و الخطباء،إذا سمعوا منهم ما لا يرضيهم(الطبري 234/5 و 235 و 203/6 و الأغاني 135/17 و 136 و الإمامة و السياسة لابن قتيبة 16/2 و 25 و 26 و العقد الفريد 8/4 و الهفوات النادرة 100 و 101).
و كان عبد الملك بن هلال،عنده زنبيل حصى ملآن،فكان يسبّح بواحدة،واحدة، فإذا ملّ شيئا،طرح اثنتين،اثنتين،فإذا ملّ،قبض قبضة،و قال:سبحان اللّه بعدد هذا،فإذا ضجر،أخذ بعروتي الزنبيل،و قلبه،و قال:سبحان اللّه بعدد هذا كلّه، و إذا بكّر لحاجة،و كان مستعجلا،لحظ الزنبيل،لحظة،و قال:سبحان اللّه عدد ما فيه(البيان و التبيين 228/3).
ثم اتّخذت السبحة(بضم السين)،أو المسبحة(بكسر الميم)،و هي خرزات منظومة في سلك،يجري التسبيح بها،و كان حمل السبحة،دلالة على التقوى،قال ابن أبي عتيق،لسلاّمة:احملي معك سبحة،و تخشّعي(القصّة 227 من هذا الكتاب، و الأغاني 342/8).
ثم تعدّى الأمر إلى اتخاذ السبحة للتسلية،و أصبح للسبحة هواة،يجمعون أصنافا منها،و يغالون في أثمانها،و كانت سبحة زبيدة،قد اشترتها بخمسين ألف دينار(البصائر و الذخائر م /1ق /3ص 145 و 146).و كان للمقتدر العباسي،سبحة قوّمت بمائة ألف دينار،حدّثنا عنها الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر،و ذكر أنّ والدته عمرة،جارية المقتدر،أخبرته،بأنّ المقتدر استدعى بجواهر،فاختار منها مائة حبّة،
ص:323
و نظمها سبحة يسبّح بها،و أنّ هذه السبحة عرضت على الجوهريّين،فقوّموا كلّ حبّة منها بألف دينار و أكثر(القصّة 147/7 من نشوار المحاضرة).
و أعطى المقتدر،قهرمانته زيدان،سبحة لم ير مثلها(تاريخ الخلفاء 384)و كان يضرب بها المثل،فيقال:سبحة زيدان(المنتظم 70/6).
و لمّا وزّر عليّ بن عيسى للمقتدر،قال:ما فعلت سبحة جوهر،قيمتها ثلاثمائة ألف دينار،أخذت من ابن الجصّاص؟،قال:في الخزانة،فقال:تطلب،فطلبت، فلم توجد،فأخرجها الوزير من كمّه،و قال:عرضت عليّ،فاشتريتها،فإذا كانت خزانة الجوهر لا تحفظ،فما الذي يحفظ؟،فاشتدّ ذلك على المقتدر(المنتظم 70/6).
و لما عاد الخليفة القائم في السنة 451 من منفاه في الحديثة،إلى بغداد،بعثت إليه زوجته أرسلان خاتون،اثنتي عشرة حبّة لؤلؤ كبارا مثمنة،و سألته أنّ يتخذ منها سبحة يسبّح بها(المنتظم 207/8).
و لما سمل توزون،الخليفة المتّقى،في السنة 333،و نصّب المستكفي خليفة بدلا منه، وجّه المستكفي إلى توزون سبحة جوهر في قد واحد،خاتمتها ياقوتة حمراء،لم ير مثل ذلك الدرّ و الخاتمة،و قوّمت بخمسين ألف دينار(تجارب الأمم 75/2).
و كان لأبي الحسن محمّد بن عمر العلوي الكوفي(315-390)سبحة جوهر، قيمتها مائة ألف دينار،طوّق بها قنينة بلّور للشراب(المنتظم 212/7).
و كانت سبحة نصر الدولة،صاحب ميافارقين(ت 453)من اللؤلؤ،عدد حبّاتها مائة و أربعون لؤلؤة،وزن كلّ حبّة مثقال،و في وسطها الجبل الياقوت،و قطع بلخش، قدّرت قيمتها بثلاثمائة ألف دينار(الوافي بالوفيات 122/1).
و لما استولى أمير المسلمين،يوسف بن تاشفين،على غرناطة في السنة 479،وجد لصاحبها سبحة جوهر،من أربعمائة حبّة،و قوّمت كلّ حبّة بمائة دينار(ابن الأثير 155/10).
أقول:و قد زرت في السنة 1968 عند ما كنت في طهران،متحف الجواهر،في قبو عمارة البنك الملّي الإيراني،فوجدت من جملة الجواهر المعروضة فيها،سبحة من اللؤلؤ، عدد حبّاتها قليل،إلاّ أنّ كلّ حبّة منها،كانت بقدر الجوزة،و لم تكن الحبّات تامّة التكوير،و سألت عنها،فقالوا:إنّها سبحة فتح علي شاه.
و في أيّامنا هذه،تتّخذ المسابح المعدّة للتسبيح،من الطين أو الخشب،أمّا التي تتّخذ
ص:324
للتسلية،فلا حصر لها،فهي تتخذ من أنواع المعادن،و الحجارة،و الزجاج،و العظام، و الجواهر،و اللآلئ،و لعلّ أكثرها استعمالا،التي تتّخذ من معدن الكهرمان،و يسمّى ببغداد:الكهرب.
و من أطرف ما سمعناه عن أصناف المسابح،مسبحة من الباقلاء،اتّخذها أحد طلبة الفقه في النجف،ليغيظ بها أهالي الحلّة،و تفصيل القصّة:أنّ الحليّين،يكثرون من زرع الباقلاء و أكلها،و هم يعيّرون بذلك،و يغضبون إذا ذكرت في مجالسهم،لا فرق بين صغيرهم و كبيرهم،و كان الشيخ محمد طه نجف،أحد كبار علماء الشيعة،يقضي شهرين من فصل الصيف في قرية الجمجمة من ضواحي الحلّة،و كان موكبه يشقّ الحلّة ليصل إلى تلك القرية،فكان إذا مرّ بسوق الحلّة،يسمع من خلفه الشتائم،فيعجب،ثم تبيّن له أنّ أحد تلاميذه يتحرّش بأهل الحلّة،و يعيّرهم بالباقلاء،فيسبّونه،فأنذر الشيخ تلميذه بأن لا يصحبه في رحلة الصيف،فاعتذر هذا و أظهر التوبة،و حلف لشيخه أنّه سوف لا يفتح فمه،و لا ينبس بحرف عند مروره بالحلّة،و لكن ما إن مرّ موكب الشيخ إلاّ و أخذت الشتائم تترى،فالتفت،فوجد تلميذه صامتا كما وعد،و لكنّه كان قد رفع كفّه حاملا مسبحة من الباقلاء يسبّح بها أمام الناس.
ص:325
يرى مناما و هو محبوس
فيطلق من حبسه.
حدّثني أبو القاسم طلحة بن محمّد بن جعفر،المقرئ،الشّاهد (1)،قال:
حدّثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمّد الخصيبي،قال:حدّثني أبو الفضل ميمون بن هارون (2)،قال:حدّثني موسى بن عبد الملك (3)،قال:
رأيت و أنا في الحبس،كأنّ قائلا يقول لي:
لا زلت تعلو بك الجدود نعم و حفّت بك السّعود
أبشر فقد نلت ما تريد يبيد أعداءك المبيد
لم يمهلوا ثمّ لم يقالوا بل يفعل اللّه ما يريد
فاصبر فصبر الفتى حميد و اشكر ففي شكرك المزيد
ص:326
[فانتبهت،و قد طفئ السّراج،فطلبت شيئا،حتّى كتبت الأبيات على الحائط،و أصبحت و قد قويت نفسي] (1).
قال:فما مضى على ذلك إلاّ أيّام يسيرة،حتّى أطلقت (2).
ص:327
يكره شخصا على العمل ثمّ يحبسه و يعذّبه
و ذكر المدائني في كتابه،كتاب الفرج بعد الشدّة و الضيقة،قال:
قال توبة العنبري (1):أكرهني يوسف بن عمر (2)على العمل،فلمّا رجعت حبسني حتّى لم يبق في رأسي شعرة سوداء.
فأتاني آت في منامي فقال لي:يا توبة[133 ظ]أطالوا حبسك؟
قلت:أجل.
فقال:سل اللّه عزّ و جلّ العفو و العافية،في الدنيا و الآخرة،ثلاثا،
ص:328
فاستيقظت،فكتبتها،و توضّأت،و صلّيت ما شاء اللّه،ثمّ جعلت أدعو، حتّى وجبت صلاة الصّبح،فصلّيتها.
فجاء حرسي،فقال:أين توبة العنبريّ،فحملني في قيودي،فأدخلني عليه، و أنا أتكلّم بهنّ،فلمّا رآني،أمر بإطلاقي.
قال توبة:فعلّمتها في السّجن رجلا،فقال:إنّي لم أدع إلى عذاب قط، فقلتهنّ،إلاّ خلّوا عنّي،فجيء بي يوما إلى العذاب،فجعلت أتذكّرهنّ، فلا أذكرهنّ،حتّى جلدت مائة سوط،فذكرتهنّ بعد،فدعوت بهنّ،فخلّوا عنّي (1).
[حدّثنا علي بن الحسن،بن أبي الطيّب،قال:حدّثنا ابن الجرّاح، قال:حدّثنا ابن أبي الدّنيا،قال:حدّثنا حاتم بن عبد اللّه،أنّه حدّث عن سيّار بن حاتم (2)،قال:حدّثنا عثمان بن مطر (3)،قال:حدّثنا توبة العنبري، فذكر مثله،و زاد فيه،فقيّدني،فما زلت في السّجن،حتّى لم يبق في رأسي شعرة سوداء] (4).
ص:329
رأى في منامه أن قد أخرجت
من داره اثنتا عشرة جنازة
و روى المدائني في كتابه أيضا،عن معمر بن المثنى،عن علي بن القاسم، قال:حدّثني رجل قال:
رأيت في المنام،أيّام الطاعون،أنّهم أخرجوا من داري اثنتي عشرة جنازة،و أنا و عيالي اثنا عشر نفسا،فمات عيالي،و بقيت وحدي،فاغتممت، و ضاق صدري.
فخرجت من الدّار ثمّ رجعت في الغد،فإذا لصّ قد دخل ليسرق، فطعن في الدّار،فمات،و أخرجت منها جنازته.
و سرّي عنّي ما كنت فيه،و وهب اللّه العافية و السلامة (1).
ص:330
وهب بن منبّه يصاب بالإملاق
ثمّ يعطيه اللّه من فضله
ذكر القاضي أبو الحسين،في كتابه الفرج بعد الشدّة:أنّ وهب بن منبّه (1)، قال:
أملقت،حتّى قنطت،أو كدت،فأتاني آت في منامي،و معه شبيه بالفستقة،فدفعها إليّ.
و قال:افضض،ففضضتها فإذا حريرة.
فقال:انشر،فنشرتها،فإذا فيها ثلاثة أسطر ببياض:لا ينبغي لمن عرف عن اللّه عدله،أو عقل عن اللّه أمره،أن يستبطئ اللّه في رزقه.
قال:فأعطاني اللّه بعدها،فأكثر (2).
ص:331
درس في الإيثار
و ذكر أيضا عن الواقدي (1)،أنّه قال:
أضقت إضاقة شديدة،و هجم شهر رمضان،و أنا بغير نفقة،فضاق ذرعي بذلك،فكتبت إلى صديق لي علويّ،أسأله أن يقرضني ألف درهم، فبعث إليّ بها في كيس مختوم،فتركتها عندي.
فلمّا كان عشيّ ذلك اليوم،وردت عليّ رقعة صديق لي،يسألني إسعافه لنفقة شهر رمضان،بألف درهم،فوجّهت إليه بالكيس بخاتمه.
فلمّا كان في الغد،جاءني صديقي الّذي اقترض منّي،و العلويّ الّذي اقترضت منه[110 ر]،فسألني العلويّ عن خبر الدراهم،فقلت:صرفتها في مهمّ.
فأخرج الكيس بختمه،و ضحك،و قال:و اللّه لقد قرب هذا الشّهر و ما عندي إلاّ هذه الدراهم،فلمّا كتبت إليّ،وجّهت بها إليك،و كتبت إلى صديقنا هذا،أقترض منه ألف درهم،فوجّه إليّ بالكيس،فسألته عن القصّة،فشرحها،و قد جئناك لنقتسمها،و إلى أن ننفقها يأتي اللّه بالفرج.
قال الواقدي:فقلت لهما،لست أدري أيّنا أكرم،فقسمناها،و دخل شهر رمضان،فأنفقت أكثر ما حصل منها،و ضاق صدري،و جعلت أفكّر في أمري.
ص:332
فبينما أنا كذلك،إذ بعث إليّ يحيى بن خالد البرمكي في سحرة يوم، فصرت إليه.
فقال:يا واقدي،رأيتك البارحة فيما يرى النّائم،و أنت على حال دلّتني على أنّك في غمّ شديد و أذى،فاشرح لي أمرك.
فشرحته،إلى أن بلغت حديث العلويّ،و صديقي و الألف درهم، فقال:ما[134 ظ]أدري أيّكم أكرم،و أمر لي بثلاثين ألف درهم، و لهما بعشرين ألف،و قلّدني القضاء (1).
ص:333
من استنقذ من كرب و ضيق خناق
بإحدى حالتي عمد أو اتّفاق
محمّد بن زيد العلوي يضرب مثلا عاليا في النبل
حدّثنا أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني الكاتب،قال:
كان محمّد بن زيد العلوي (1)،الداعي بطبرستان (2)،إذا افتتح الخراج، نظر ما في بيت المال من خراج السنة التي قبلها،ففرّق في قبائل قريش قسطا، على دعوتهم،و في الأنصار،و في الفقهاء،و أهل القراءات،و سائر طبقات النّاس،حتّى يفرّق جميع ما بقي.
فجلس سنة من السنين،يفرّق المال،على ما كان يفعل،فلمّا فرغ من بني هاشم،دعا بسائر بني عبد مناف،فقام رجل،فقال له:من أيّ بني عبد مناف أنت؟،فسكت.
ص:334
قال:لعلّك من ولد معاوية؟
قال:نعم.
قال:فمن أيّ ولده أنت؟فسكت.
قال:لعلك من ولد يزيد (1)؟
قال:نعم.
قال:بئس الاختيار اخترت لنفسك،من قصدك بلدا ولايته لآل أبي طالب،و عندك ثأرهم في سيّدهم و إخوته و بني عمّه،و قد كانت لك مندوحة عنهم بالشام و العراق،عند من يتولّى جدّك،و يحبّ رفدك،فإن كنت جئت عن جهل بهذا منك،فما يكون بعد جهلك شيء،و إن كنت جئت متمرّيا (2)بهم، فقد خاطرت بنفسك.
فنظر إليه العلويّون نظرا شديدا،فصاح بهم محمّد و قال:كفّوا عافاكم اللّه،كأنّكم تظنّون أنّ في قتل هذا دركا أو ثارا بالحسين بن علي رضي اللّه عنهما، و أيّ جرم لهذا؟،إنّ اللّه عزّ و جلّ قد حرّم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت، و اللّه،لا يعرض له أحد إلاّ أقدته به (3)،و اسمعوا حديثا أحدّثكم به،يكون قدوة لكم فيما تستأنفون من أموركم.
حدّثني أبي،عن أبيه،قال:عرض على المنصور،سنة حجّ،جوهر فاخر،فعرفه،و قال:هذا كان لهشام بن عبد الملك (4)،و هذا بعينه،قد بلغني خبره،عند ابنه محمّد،و ما بقي منهم أحد غيره.
ص:335
ثمّ قال للرّبيع:إذا كان غدا،و صلّيت بالنّاس في المسجد الحرام، و حصل النّاس فيه،فأغلق الأبواب كلّها،و وكّل بها ثقاتك من الشيعة،و اقفلها، و افتح للنّاس بابا واحدا،وقف عليه،فلا يخرج إلاّ من عرفته.
فلمّا كان من الغد،فعل الرّبيع ما أمره به،و تبيّن محمّد بن هشام القصّة، فعلم أنّه هو المطلوب،و أنّه مأخوذ،فتحيّر.
و أقبل محمّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام على أثر ذلك،فرآه متحيّرا،و هو لا يعرفه،فقال له:يا هذا،أراك متحيّرا[111 ر]فمن أنت؟و لك أمان اللّه التام العام،و أنت في ذمّتي حتّى أخلّصك.
فقال:أنا محمّد بن هشام بن عبد الملك،فمن أنت؟
قال:أنا محمّد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
فقال محمّد بن هشام:عند اللّه احتسب نفسي.
قال:لا بأس عليك،فإنّك لست قاتل زيد (1)،و لا في قتلك إدراك ثأره، و أنا الآن بخلاصك،أولى منّي بإسلامك،و لكن تعذرني في مكروه أ تناولك به، و قبيح أخاطبك به،يكون فيه خلاصك بمشيئة اللّه تعالى.
قال:أنت و ذاك.
قال:فطرح رداءه على رأسه و وجهه،و لبّبه به،و أقبل يجرّه.
فلمّا وقعت عين الرّبيع عليه،لطمه لطمات،و جاء به إلى الرّبيع،و قال:
ص:336
يا أبا الفضل،إنّ هذا الخبيث جمّال من أهل الكوفة،أكراني جماله ذاهبا و راجعا،و قد هرب منّي في هذا الوقت،و أكرى بعض القوّاد الخراسانيّة، و لي عليه بذلك بيّنة،فتضمّ إليّ حرسيّين يصيران به معي إلى القاضي،و يمنعان الخراساني من عراره (1).
فضمّ إليه حرسيّين،و قال:امضيا معه.
فلمّا بعد عن المسجد،قال له:[135 ظ]يا خبيث،تؤدّي إليّ حقّي؟
قال:نعم يا ابن رسول اللّه.
فقال للحرسيّين:انصرفا،و أطلقه محمّد.
فقبّل محمّد بن هشام رأسه،و قال:بأبي أنت و أمّي،اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته،ثمّ أخرج جوهرا له قدر،فدفعه إليه،و قال:تشرّفني يا سيّدي بقبول هذا منّي.
فقال:يا ابن عمّ،إنّا أهل بيت،لا نقبل على المعروف مكافأة،و قد تركت لك دم زيد،و هو أعظم من متاعك،فانصرف راشدا،و وار شخصك، حتّى يخرج هذا الرّجل،فإنّه مجدّ في طلبك،فمضى،و توارى.
قال:ثمّ أمر محمّد بن زيد،الداعي بطبرستان،للأمويّ،بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف،و ضمّ إليه جماعة من مواليه،و أمرهم أن يخرجوا معه إلى الريّ (2)،و يأتوه بكتاب بسلامته.
فقام الأموي،فقبّل رأسه،و مضى و معه القوم،حتّى وصل إلى مأمنه، و جاءوه بكتاب بسلامته (3).
ص:337
أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي(25-64):
ثاني ملوك الدولة الأموية بالشام،فرضه أبوه على الناس فرضا،و شدّد في بيعته بالرغبة و الرهبة،ففتح بذلك على المسلمين بابا من أبواب الفتنة،راجع خبر ذلك في الأغاني 197/16 و في مروج الذهب 21/2 و في ترجمة معاوية(القصّة 309 من هذا الكتاب).
ولد يزيد بالشام و نشأ بها في ظل والده الذي حكم الشام حكما مستمرا دام ما يزيد على أربعين سنة،فنشأ نشأة الأمراء الأرستقراطيين،يشرب الخمر،و يسمع الغناء،و يمارس الصيد،و يتّخذ القيان،و يتفكّه بما يلهو به المترفون من اللعب بالقرود،و المعافرة بالكلاب و الديكة(الأغاني 300/17 و 301 و البصائر و الذخائر م 266/4 و أنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1 و 3)حتى وصفه أبو حمزة الخارجي،بأنّه:يزيد الخمور،و يزيد الصقور،و يزيد الفهود،و يزيد الصيود،و يزيد القرود(السيادة العربية 143).
و كان تصرّفه و هو ولي عهد،يستره لين أبيه مع الناس،فلمّا مات انكشفت أعماله للناس فلم يحتملها أحد منهم،لقرب عهدهم بأيّام الخلفاء الراشدين(11-40)فاضطرّوا إلى قتاله.
و كانت أيّام حكمه ثلاث سنوات لم تخل واحدة منها،من عظيمة من العظائم، ففي السنة الأولى قتل الحسين عليه السلام و أهل بيت رسول اللّه صلوات اللّه عليه،فضحّى بالدين يوم الطفّ(الأغاني 22/9)و في السنة الثانية استباح مدينة رسول اللّه صلوات اللّه عليه و انتهك حرمات أهلها ذبحا و نهبا و انتهاك حرمات(اليعقوبي 253/2)فشفى بذلك غيظه من الأنصار الذين عاونوا في انتصار المسلمين في موقعة بدر حيث قتل في مبارزة واحدة أبو جدّته هند،و عمّها،و أخوها(الأغاني 189/4)ذلك الغيظ الذي لم يطق كتمانه و هو أمير،فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار،فأبى و أشار عليه بالأخطل(العقد الفريد 321/5)فهجاهم،و وصفهم باللؤم،و عيّرهم بأنّهم يهود،فلما ذبح أهل المدينة،كان جند يزيد يقاتلونهم و يقولون لهم:يا يهود(أنساب الأشراف 37/2/4)و لما عرضت على يزيد جريدة بأسماء قتلى أهل المدينة،تملّكه
ص:338
العجب من كثرتهم،و قال:يا عجبا،قاتلني كلّ أحد،حتى ابن خالتي،و قال:
ما أرى أنّه بقي بالمدينة أحد(الأغاني 325/8 و 240/14)،ثم تمثّل بقول ابن الزبعري، الذي شمت بقتل المسلمين في يوم أحد،فقال:[رسائل الجاحظ 19-20]:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستطالوا و استهلّوا فرحا ثم قالوا:يا يزيد لا تشل
قد قتلنا الغرّ من ساداتهم و عدلناه ببدر فانعدل
و في السنة الثالثة،استباح الكعبة،حرم اللّه سبحانه و تعالى،و سفك فيها الدماء، و أحرقها(اليعقوبي 253/2 و أنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1 و الفخري 123)،و قضى في سنة حكمه الثالثة،فختم بهلاكه صحيفة سوداء ملوّثة،حتى أنّ رجلا ذكره في مجلس الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز،فقال:أمير المؤمنين يزيد،فقال له عمر:تقول أمير المؤمنين،و أمر به،فضرب عشرين سوطا(تاريخ الخلفاء 209).
ص:339
بين الإسكندر و ملك الصين
حدّثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني،إملاء من حفظه،قال:
قرأت في بعض الأخبار للأوائل،أنّ الإسكندر (1)لما انتهى إلى الصين، و حاصر ملكها (2)،أتاه حاجبه،و قد مضى من اللّيل شطره،فقال له:هذا رسول ملك الصين بالباب،يستأذن عليك.
فقال:أدخله (3).
فوقف بين يدي الإسكندر،و سلّم،و قال:إن رأى الملك أن يخليني، فعل.
فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف،و بقي حاجبه،فقال:إنّ الّذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك.
فقال:فتّشوه،ففتّش،فلم يوجد معه شيء من السلاح.
فوضع الإسكندر بين يديه سيفا مسلولا،و أخرج حاجبه،و كلّ من كان عنده،و قال له:قف بمكانك،و قل ما شئت.
فقال له:إنّي أنا ملك الصين،لا رسوله،و قد جئت أسألك عمّا تريده، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه،و لو على أشقّ الوجوه (4)،قبلته،و غنيت أنا و أنت عن الحرب.
قال الإسكندر:و ما آمنك منّي؟
ص:340
قال:علمي بأنّك رجل عاقل،و ليس بيننا عداوة،و لا مطالبة بذحل، و أنت تعلم أنّك إن قتلتني لم يكن ذلك سببا لأن يسلم إليك أهل الصين ملكهم، و لم يمنعهم قتلي من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيري،ثمّ تنسب أنت إلى غير الجميل (1)،و ضدّ الحزم.
فأطرق الإسكندر،و علم أنّه رجل عاقل،فقال:الّذي أريده منك، ارتفاع مملكتك لثلاث سنين عاجلا،و نصف ارتفاعها في كلّ سنة.
قال:هل غير ذلك شيء؟
قال:لا.
قال:قد أجبتك.
قال:فكيف يكون حالك حينئذ؟
قال:أكون قتيل أوّل محارب،و أكلة أوّل مفترس.
قال:فإن قنعت منك بارتفاع ثلاث سنين،كيف يكون حالك؟
قال:أصلح مما كانت،و أفسح مدّة.
قال:فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟
قال:يكون ذلك كمالا لأمر ملكي،و موفيا لجميع لذّاتي (2).
قال:فإن اقتصرت منك على ارتفاع السّدس؟
قال:يكون السّدس موفّرا،و يكون الباقي للجيش و لسائر الأسباب.
قال:قد اقتصرت منك على هذا،فشكره،و انصرف.
فلمّا طلعت الشمس،أقبل جيش ملك الصين حتّى طبّق الأرض،و أحاط بجيش الإسكندر حتّى خافوا الهلاك،و تواثب أصحابه فركبوا،و استعدّوا للحرب.
فبينما هم كذلك إذ طلع ملك الصين،و عليه التاج،و هو راكب،
ص:341
فلمّا رأى الاسكندر،ترجّل.
فقال له الاسكندر:غدرت؟
قال:لا و اللّه.
قال:فما هذا الجيش؟
قال:إنّي أردت أن أريك أنّني لم أطعك من قلّة و لا من ضعف،و أنت ترى هذا الجيش،و ما غاب عنك منه أكثر،و لكنّي رأيت العالم الأكبر (1)مقبلا عليك،ممكّنا لك ممن هو أقوى منك،و أكثر عددا،و من حارب العالم الأكبر غلب،فأردت طاعته بطاعتك[136 ظ]و الذلّة لأمره بالذلّة لك.
فقال الإسكندر:ليس مثلك من يؤخذ منه شيء،فما رأيت بيني و بينك أحدا يستحق التفضيل،و الوصف بالعقل،غيرك،و قد أعفيتك من جميع ما أردته منك،و أنا منصرف عنك.
فقال ملك الصين:أما إذ فعلت ذلك،فلست تخسر.
فلمّا انصرف الاسكندر،أتبعه ملك الصين،من الهدايا،بضعف ما كان قرّره معه (2).
ص:342
بين إسحاق الموصلي و غلامه فتح
أخبرني أبو بكر محمّد بن يحيى الصولي-فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته منه-قال:حدّثني الحسن بن يحيى (1)،قال:
كان لإسحاق الموصلي غلام يقال له:فتح،يسقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما.
قال إسحاق:فقلت له يوما:أيش خبرك يا فتح؟
قال:خبري أن ليس في هذه الدار أشقى منّي و منك،أنت تطعم أهل الدار الخبز،و أنا أسقيهم الماء.
فاستظرفت قوله،و ضحكت منه،و قلت له:فأيّ شيء تحبّ؟
قال:تعتقني،و تهب لي البغلين،لأستقي عليهما لنفسي.
ففعلت (2).
ص:343
أنسب بيت قالته العرب
أخبرني أبو الفرج،قال:حدّثني خلف بن وضاح (1)،قال:حدّثني عبد الأعلى بن عبد اللّه بن محمّد بن صفوان الجمحي (2)،قال:
حملت دينا بعسكر المهدي (3)،فركب المهديّ يوما بين أبي عبيد اللّه (4)، و عمر بن بزيع (5)،و أنا وراءه في موكبه على برذون قطوف (6)،فقال:ما أنسب بيت قالته العرب؟
فقال أبو عبيد اللّه:قول امرئ القيس:
و ما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتّل
فقال:هذا أعرابيّ قحّ.
ص:344
فقال عمر بن بزيع:قول كثيّر يا أمير المؤمنين:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
فقال:ما هذا بشيء،و ما له يريد أن ينسى ذكرها،حتّى تمثّل له؟
فقلت:عندي حاجتك يا أمير المؤمنين.
قال:الحق بي.
فقلت:لا لحاق بي،ليس ذلك في دابّتي.
فقال:احملوه على دابّة.
قلت:هذا أوّل الفتح،فحملت على دابّة،فلحقته.
فقال:ما عندك؟
فقلت:قول الأحوص يا أمير المؤمنين:
إذا قلت إنّي مشتف بلقائها
فحمّ التلاقي بيننا زادني سقما[112 ر]
فقال:أحسنت،حاجتك؟
قلت:عليّ دين.
قال:اقضوا دينه.
فقضي ديني (1).
ص:345
تقلّد الإنفاق على عسكرين فأفاد في
أقلّ من شهر سبعمائة ألف درهم
ذكر ابن عبدوس في كتابه،كتاب الوزراء:حدّث أحمد بن محمّد بن زياد (1)،قال:قال لي الريّان بن الصلت:
كنت في خدمة الفضل بن سهل (2)،فيما كنت فيه،من ثقته و استنامته، على ما كنت عليه.
فدعاني في وقت من الأوقات،إلى أن يضم إليّ أربعة آلاف من الشاكريّة و الجند،و يقوّدني عليهم،و يجريني مجرى قوّاده،فامتنعت عليه من ذلك، و أعلمته أنّي لا أقوم بذلك،و لا أصلح له،و لا آمن أن أ تقلّد منه ما يقع فيه التقصير،فيسقط حظّي عنده،و منزلتي لديه.
فأنكر ذلك عليّ أشدّ الإنكار،و عاودني فيه مرارا،فلم أجبه إليه،فلمّا رأى إقامتي على الامتناع،جفاني،و أعرض عنّي،و امتدّت الأيّام على هذا، حتّى أدّاني ذلك إلى الاختلال الشديد الّذي أضرّ بي.
فدخل إليّ غلامي يوما،فأعلمني أنّه لا نفقة عنده،و لا مضطرب له في احتيالها،لامتناع التجّار عن إعطائه،لتأخّر ما لهم علينا عنهم،و أنّه لا علف لدوابنا،و لا قوت لنا.
ص:346
فأومأت إلى عمامة ملحم (1)كانت بحضرتي،و أمرته ببيعها،و صرف ثمنها فيما يحتاج إليه،فباعها بثمانية دراهم.
و ورد عليّ في ذلك اليوم كتاب وكيلي على أهلي،بمدينة السّلام،يعلمني ضيق الأمر عليه فيما يحتاج إلى إقامته للعيال،و إنّه التمس من التجّار مقدار ألفي درهم،فلم يجيبوه إليها،فعظم عليّ ما ورد من ذلك،و ضاقت بي [137 ظ]المذاهب.
فبينما أنا قاعد في عشيّة يومي ذلك،إذ أتاني رسول الفضل يأمرني بحضور الدار،و المقام فيها،إلى عند خروجه من دار المأمون،فحضرتها بعد صلاة العتمة،فأقمت،إلى أن خرج الفضل في وقت السحر،فلقيته،و بين يديه خرائط كثيرة محمولة.
فقال:صلّيت صلاة اللّيل؟
قلت:نعم.
فقال:لكنّي ما صلّيت،فكن هاهنا إلى أن أصلّي،فصلّى،ثمّ انفتل من صلاته،فدعاني.
فقال:أ تدري ما هذه الخرائط؟
قلت:لا.
قال:هذه ثماني و ستّون خريطة وردت،و قرأتها،و أجبت عنها بخطّي، فدعوت اللّه له بحسن المعونة و التوفيق.
ثمّ قال لي:يا ريّان،إن أبا محمّد الحسن بن سهل قد دفع إلى واسط،
ص:347
و رأى أمير المؤمنين أن يمدّه بدينار بن عبد اللّه (1)و نعيم بن خازم (2)في عشرة آلاف رجل،و أن يقلّدك الإنفاق عليهم في عسكريهما،و أن يجرى لك في كلّ شهر عشرة آلاف درهم،و لكاتبك ثلاثة آلاف درهم،و لقراطيسك ألف درهم، و أن يوظّف لك على كلّ عسكر عشرة أجمال لحملك،أو مائة دينار عوضا
ص:348
عنها،ثمّ أمر لي في ذلك الوقت،أن تحمل إليّ أرزاق ثلاثة أشهر،فما صلّيت الصبح حتّى حمل إليّ اثنان و أربعون ألف درهم،و أخذ في تجهيز العسكرين.
قال:و بعث إليّ الفضل بفرس من دوابّه و أمرني أن أبعث به إلى نعيم بن خازم،و أعلمه أنّه خصّه به،و أنّه من خيله الّتي يركبها،فوجّهت به إلى نعيم بن خازم،فأظهر السرور و الابتهاج بذلك،و التعظيم له،و وهب لغلامي عشرة آلاف درهم،و بعث إليّ بخمسين ألف درهم.
فكتبت بذلك إلى الفضل،فكتب على رقعتي:أردد على نعيم ما بعث به إليك.
و ما وهب لغلامك،و اقبض لنفسك عوضا منه،مائة و عشرين ألف درهم.
ثمّ أمر بعد أيّام لدينار،بسبعمائة ألف درهم صلة و معونة،و لنعيم بن خازم بخمسمائة ألف درهم،فبعثت بها إليهما،فبعث إليّ كلّ واحد منهما بخمسين ألف درهم.
فكتبت إلى الفضل رقعة،فأعلمته فيها بما فعلاه،فوقّع على ظهرها:
اقبل من دينار ما بعث به إليك،و اردد إلى نعيم ما بعث به،و اقبض لنفسك عوضا من ذلك مائة ألف درهم.
قال:و سرنا عن مرو،فلمّا صرنا في الطّريق،ورد عليّ كتاب الفضل، يأمرني فيه،أن أحمل الى دينار ألف ألف درهم و خمسمائة ألف درهم، و إلى نعيم ألف ألف درهم،ففعلت،فحمل إليّ دينار مائة ألف درهم، و خمسين ألف درهم،و بعث إليّ نعيم مائة ألف درهم،فقبلت من دينار ما بعث به،و رددت على نعيم ما بعث به،حسبما حدّ لي في رقعتيّ الأولى و الثانية، و لم أكتب بالخبر في ذلك إلى الفضل،لئلا يتوهّم عليّ استدعاء العوض،و كتب له بذلك صاحب خبر (1)،كان له في السرّ علينا،فوقّع على ظهر كتابه إليّ،
ص:349
قد علمت أنّك أمسكت عن الكتابة إليّ بما فعله نعيم و دينار،و ما كان من ردّك على نعيم ما بعث به،لئلاّ أتوهّم عليك الاستدعاء للصّلة،و قد رأيت أن تقبض لنفسك عوضا عن ذلك مائتي ألف درهم.
قال الريّان:فلم تمض سبعة و عشرون يوما،حتّى حصل عندي سبعمائة ألف درهم.
ص:350
المأمون بخراسان ينقلب حاله
من أشدّ الضيق إلى أفسح الفرج
و ذكر في كتابه عن جبريل بن بختيشوع (1)،في خبر طويل،أنّه سمع المأمون يقول:
كان لي بخراسان يوم عجيب،فأولى اللّه فيه بإحسانه جميلا،لما توجّه طاهر بن الحسين (2)إلى عليّ بن عيسى بن ماهان (3)،كما قد عرفتموه من ضعف طاهر و قوّة عليّ،وقر (4)في نفوس عسكري جميعا،أنّ طاهرا ذاهب،و لحق أصحابي إضاقة شديدة،و ظهرت فيهم خلّة عظيمة،و نفد ما كان[138 ظ] معي،فلم يبق منه لا قليل و لا كثير،و أفضيت إلى حال كان أصلح ما فيها الهرب،فلم أدر إلى أين أهرب،و لا كيف آخذ،و بقيت حائرا متفكّرا.
فأنا-و اللّه-كذلك و كنت نازلا في دار أبوابها حديد،و لي مستشرفات (5)أجلس فيها إذا شئت،و عدد غلماني ستّة عشر غلاما،لا أملك غيرهم، و إذا بالقوّاد و الجيش جميعا قد شغبوا،و طلبوا أرزاقهم،و وافوا جميعا يشتموني، و يتكلّمون بكلّ قبيح.
ص:351
فكان الفضل بن سهل بين يديّ،فأمر بإغلاق الأبواب،و قال لي:
قم فاصعد إلى المجلس الّذي يستشرف فيه،إشفاقا عليّ من دخولهم،و سرعة أخذهم إيّاي،و تعليلا لي بالصعود.
فقلت:القوم يدخلون الساعة،فيأخذوني،فلأن أكون بموضعي،أصلح.
فقال لي:يا سيّدي اصعد،فو اللّه،ما تنزل إلاّ خليفة.
فجعلت أهزأ به،و أعجب منه،و أحسب أنّه إنّما قال ما قال،ليسمعني (1)، و أركنت للهرب من بعض أبواب الدار،فلم يكن إلى ذلك سبيل،لإحاطة القوم بالدار و الأبواب كلّها.
فالحّ عليّ أن أصعد،فصعدت و أنا وجل،فجلست في المستشرف، و أنا أرى العسكر.
فلمّا علموا بصعودي اشتدّ كلبهم،و شتمهم،و ضجيجهم،و بادروني بالوعيد و الشتم،فأغلظت على الفضل بن سهل و قلت له:أنت جاهل، غررتني،و لم تدعني أعمل برأيي،و ليس العجب إلاّ ممّن قبل منك،و هو في هذا كلّه،يحلف أنّني لا أنزل إلاّ خليفة،و غيظي عليه،و تعجّبي من حمقه، و مواصلة الأيمان أنّني لا أنزل خليفة،مع ما أشاهده،و الحال يزيد، أشدّ عليّ ممّا أقاسيه من الجند.
ثمّ وضع القوم النار في شوك جمعوه،و أدنوه من الدار،و نقبوا في سورها عدّة نقوب،و ثلموا منه قطعة،فذهبت نفسي خوفا و جزعا،و علمت أنّي بين أن أحترق،و بين أن يصلوا إليّ فيقتلوني،فهممت بأن ألقي نفسي إليهم، و قدّرت أنّهم إذا رأوني استحيوا منّي،و أقصروا.
و جعل الفضل بن سهل يقبّل يدي و رجلي،و يناشدني أن لا أفعل،و يحلف لي أنّي لا أنزل إلاّ خليفة،و في يده الأسطرلاب،ينظر فيه في الوقت بعد الوقت.
ص:352
فلمّا اشتدّ عليّ الأمر،و استحكم اليأس،قال لي:يا سيّدي،قد-و اللّه- أتاك الفرج،أرى شيئا في الصحراء قد أقبل،و معه فرجنا،فازددت من قوله غيظا،و أمرت غلماني بتأمّل الصحراء،فلم أر،و لم يروا شيئا.
و جدّ القوم في الهدم و الحريق،حتّى هممت-لما داخلني-أن أرمي بالفضل إليهم.
فقال الغلمان:إنّا نرى في الصحراء شيئا يلوح،فنظرت فإذا شبح، و جعل يزيد تبيانا،إلى أن تبيّنوا رجلا على بغلة،ثمّ قرب،فإذا هو يلوّح، و قرب من العسكر،و قويت له قلوبنا،و رأى الجند ذلك فتوقّفوا،و خالطهم، فإذا هو يقول:البشرى،هذا رأس علي بن عيسى بن ماهان معي في المخلاة (1)، فلمّا رأوا ذلك أمسكوا[113 ر]عنّا،و انقلبوا بالدعاء،و السرور بالظفر و الفتح.
فقال لي الفضل بن سهل:يا سيّدي،ائذن لي في إدخال بعضهم، فأذنت له،فشرط عليهم أن لا يدخل إلاّ من يريد،فأجابوا إلى ذلك،و سمّى قوما من القوم،فأدخلهم.
فكان أوّل من دخل عليّ،عبد اللّه بن مالك الخزاعي (2)،فقبّل يدي، و سلّم عليّ بالخلافة،ثمّ أدخل القوّاد بعده،واحدا،واحدا،ففعلوا مثل ذلك، فأطفأ اللّه-عزّ و جلّ-النائرة،و وهب السلامة،و قلّدني الخلافة،فظفرت
ص:353
من أموال علي بن عيسى بن ماهان،و ما في عسكره،بما أصلحنا به أمور جندنا.
ثمّ ذكر تمام الحديث.
و حدّثني بهذا الخبر،أبو محمّد الحسن بن محمّد الصلحي،قال:حدّثني أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرّة (1)،قال:قال الفضل بن مروان:كنت مع المأمون،و قد خرج إلى نواحي الإسحاقي ليتصيّد في[139 ظ]جماعة من عسكره قليلة،فذكر هذا الخبر بطوله،و صدره و عجزه على ما في كتاب ابن عبدوس،ممّا لم أذكره،فذكر فيه هذه القطعة من الخبر،على قريب ممّا هي مذكورة هاهنا (2).
ص:354
طلب الولاية على بزبندات
البحر و صدقات الوحش
و ذكر أيضا في كتابه،قال:حدّثني محمّد بن مخلد،و كان يلقّب لبد، لطول عمره (1)،و روى عنه المدائنيّ الكاتب،عن أبيه مخلد بن يزيد:
أنّ المأمون،أوّل ما قدم العراق،خطر له أن يقلّد الأعمال،الشيعة الذين قدموا معه من خراسان،فطالت عطلة كتّاب السواد و عمّاله،و كانوا يحضرون داره في كلّ يوم،حتّى ساءت أحوالهم.
فخرج يوما بعض مشايخ الشيعة،و كان مغفّلا،فتأمّل وجوههم،فلم ير فيهم أسنّ من مخلد بن يزيد،فجلس إليه،و قال له:إنّ أمير المؤمنين أمرني أن أتخيّر ناحية من نواحي الخراج،صالحة المرفق،ليوقّع بتقليدي إيّاها، فاختر لي ناحية.
ص:355
فقال:لا أعرف لك عملا أولى بك من بزبندات (1)البحر،و صدقات الوحش.
فقال له:أكتبه لي،فكتبه له مخلد،فعرض الشيعيّ الرقعة على المأمون، و سأل تقليده ذلك العمل.
فقال له:من كتب لك هذه الرقعة؟
فقال:شيخ من الكتّاب،يحضر الدار في كلّ يوم.
فقال:هلمّه.
فلمّا دخل،قال له المأمون:ما هذا يا جاهل؟تفرّغت لأصحابي (2)؟
فقال له:يا أمير المؤمنين،أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما يصل إلى أيديهم من الخزائن و الأموال،و أما شروط الخراج،و حكمه،و ما يجب تعجيل استخراجه،و ما يجب تأخيره،و ما يجب إطلاقه،و ما يجب منعه، و ما يجب إنفاقه،و ما يجب الاحتساب به،فلا يعرفونه،و تقليدهم يعود بذهاب الارتفاع،فان كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا،فضمّ إلى كلّ واحد منهم رجلا منّا،فيكون الشيعيّ يحفظ المال،و نحن نجمعه.
فاستطاب المأمون رأيه و كلامه،و أمر بتقليد عمّال السواد و كتّابه،و أن يضمّ إلى كلّ واحد منهم،واحدا من الشيعة،و ضمّ مخلد إلى ذلك الشيخ، و قلّده ناحية جليلة (3).
ص:356
المنصور يقتل مؤدّب ولده جعفر ظلما
و ذكر في كتابه:
أنّ المنصور ضمّ رجلا يقال له فضيل بن عمران (1)الكوفي إلى جعفر ابنه (2)، يكتب له،و يقوم بأمره.
و كانت لجعفر حاضنة تعرف بأمّ عبيدة،فثقل عليها مكان فضيل، فسعت به إلى أبي جعفر،و ادّعت عنده أنّه يلعب بجعفر،فبعث المنصور، مولاه الريّان (3)،و هارون بن غزوان،مولى عثمان بن نهيك (4)،إلى الفضيل، و أمرهما بقتله،و كتب لهما منشورا بذلك،فصارا إليه فقتلاه.
ص:357
و كان الفضيل ديّنا،عفيفا،فقيل للمنصور في ذلك،و أنّه أبرأ النّاس ممّا قرف به،فأحضر المنصور غلاما من غلمانه،و جعل له عشرة آلاف درهم، إن أدركه قبل أن يقتل،فصار إليه،فوجده قد قتل،و لم يجفّ دمه.
و اتّصل خبر قتله بجعفر بن أبي جعفر،فطلب الريّان،فلمّا جيء به، قال له:ويلك،ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل مسلم بغير جرم؟
فقال له الريّان:هو أمير المؤمنين،يفعل ما يشاء.
فقال له جعفر:يا ماصّ بظر أمّه،أكلّمك بكلام الخاصّة،فتكلّمني بكلام العامّة؟جرّوا برجله،فألقوه في دجلة.
قال الريّان:فأخذوا-و اللّه-برجلي،فقلت:أكلمك بكلمة،ثمّ اعمل ما شئت.
فقال:ردّوه،فرددت،فقال:قل.
فقلت له:أبوك إنّما يسأل عن قتل فضيل بن عمران وحده؟و متى يسأل عنه،و قد قتل عمّه عبد اللّه بن علي (1)،و قتل عبد اللّه بن الحسن،و عشرات من أولاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم (2)،و قد قتل من أهل الدنيا ما لا يحصى
ص:358
و لا يعدّ (1)،هو إلى أن يسأل عن فضيل بن عمران جوشانة (2)تحت خصى فرعون.
قال:فضحك،و قال:خلّوا عنه،لعنه اللّه،فأفلّت منه (3).
ص:359
مالك بن طوق يتزوّج المهناة بنت الهيثم الشيباني
وجدت في كتاب أبي الفرج الحنطبي المخزومي الكاتب:أنّ محمّد[140 ظ] بن عبد الحميد الجشمي قال:
حججت سنة ثلاث و أربعين و مائتين،فأنا في بعض المنازل راجعا،إذ رأيت فقراء،بالبادية يستميحون (1)،فوقفت منهم عليّ جارية تتصدّق،بوجه كأنّه القمر حين استدار،أو كقرن الشمس حين أنار،فرددت طرفي عنها، و استعذت باللّه من الفتنة بها،فلم تزل تذهب و تجيء،فيما بين رجال الحجّ، و تعود إلى رحلي،فوقفت.
فقلت لها:أ ما تستحين أن تبدين هذا الوجه في مثل هذا الموضع،بحضرة الخلائق.
فلطمت وجهها،و قالت:
لم أبده حتّى تقضّت حيلتي فبذلته و هو الأعزّ الأكرم
و يعزّ ذاك عليّ إلاّ أنّه دهر يجور كما تراه و يظلم
قد صنته و حجبته حتّى إذا لم يبق لي طمع و مات الهيثم
أبرزته من حجبه مقهورة و اللّه يشهد لي بذاك و يعلم
كشف الزمان قناعه في بلدة قلّ الصديق بها و عزّ الدرهم
أصبحت في أرض الحجاز غريبة و أبو ربيعة أسرتي و محلّم
قال:فأعجبني ما رأيت من جمالها،و فصاحتها،و أدبها،و شعرها، فبررتها،و قلت لها:ما اسمك؟
ص:360
قالت:أنا المهنّاة بنت الهيثم الشيباني،و كان أبي جارا لبني فزارة،فاعتلّ، و استنفد ماله،و توفّي،و تركني فقيرة،فاحتجت إلى التكفّف (1).
قال:و رحلنا،فلمّا صرنا بالرحبة،دخلت إلى مالك بن طوق (2)مسلّما، فسألني عن طريقي و سفري،و ما رأيته من الأعاجيب فيه،فحدّثته بحديث الجارية،فأعجب به،و استطرف الأبيات،و كتبها منّي،و رحلت الى منزلي بالشام.
فلمّا كان بعد أيّام من اجتماعنا،أتاني رسوله يستزيرني،فصرت إليه، فبينما أنا جالس عنده يوما،فإذا خادمان قد جاءا معهما أكياس مختومة، و تخوت ثياب مشدودة،فوضعاها بين يديّ.
فقلت لمالك:ما هذا؟
ص:361
قال:هذا حقّ دلالتك على المهنّاة بنت الهيثم الشيباني،الّتي أظفرني اللّه منها بما كانت أمنيتي تقصر عنه،و هي أنفذت إليك بهذا من مالها،و لك من مالي ضعفه.
فقلت:كيف كان خبرها؟
فقال:إنّك لما انصرفت،أنفذت رسلا إلى البادية،أثق بعقولهم و أمانتهم، فما زالوا يسألون عنها،حتّى ظفروا بها،فحملوها،و وليّها معها،فتزوّجتها، فرأيت منها ما زاد على ما كان زرعه حديثك عنها في نفسي،و قد افضت عليها من دنياي،بحسب تمكّنها من قلبي،[114 ر]فسألتني عن سبب طلبي إيّاها،فأخبرتها بخبرك،و كتبت أستزيرك لأعرّفك هذا،و أقضى حقّك، و قد أمرت لك بعشرين ألف درهم،و عشر تخوت ثياب.
قال عبد الحميد:و كانت أمّ عدّة من أولاده (1).
ص:362
بين ابن أبي البغل عامل أصبهان
و أحد طلاّب التصرّف
حدّثني أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني (1)،قال:
كان أبو الحسين بن أبي البغل (2)يتقلّد بلدنا (3)،فقدم عليه شيخ من الكتّاب يطلب التصرّف،و أورد عليه كتبا من الحضرة،يذكرون فيها طول عطلته، و محلّه من الصناعة،و يسألونه تصريفه،فسلّم إليه الكتب،فتركها ابن أبي البغل بين يديه،و كانت كثيرة،و كان فيه حدّة و ضجرة،فاستكثرها، و فضّ منها واحدا،فقرأه،و أقبل على شغله،من غير أن يقرأ باقي الكتب.
فقال له الرجل:إن رأيت أن تقف على باقي الكتب.
فضجر،و تغيّظ،و قال:أ ليس كلّها في معنى واحد؟قد-و اللّه- بلينا بكم يا متعطّلين،كلّ يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرّفا،لو كانت
ص:363
خزائن الأرض لي،لكانت قد نفدت،يا هذا،مالك عندي تصرّف،و لا عمل شاغر (1)فأردّه إليك،و لا في مالي فضل فأبرك،فدبّر أمرك بحسب ذلك، هذا و الرجل ساكت.
فلمّا سكن ابن أبي البغل،قام الرّجل،و قال:أحسن اللّه جزاءك[141 ظ] و فعل بك و صنع،و أسرف في الشكر و الدّعاء له،و ولّى منصرفا.
فقال ابن أبي البغل:ردّوه،فرجع.
فقال له:يا هذا،هو ذا تسخر منّي،على أيّ شيء تشكرني؟على إياسي لك من التصرّف،أو على قطع رجائك من الصّلة،أو قبيح ردّي لك،أو ضجري عليك؟أم تريد خدعتي بهذا الفعل؟.
فقال:و اللّه،ما أريد خداعك،و ما كان منك من قبيح الردّ فغير منكر، لأنّك سلطان،و لحقك ضجر،و لعلّ الأمر كما ذكرته من كثرة الواردين عليك، و قد بعلت (2)بهم،و اتّفق لقوّة نحسي،أن كان هذا الرد القبيح وقع في بابي، و لم أشكرك إلاّ في موضع الشكر،لأنّك صدقتني عمّا في نفسك من أوّل وهلة، و أعتقت عنقي من رقّ الطمع،و أرحتني من التعب بالغدوّ و الرواح إليك، و خدمة قوم أستشفع بهم إليك،و كشفت لي ما أدبّر به نفسي،و كسوتي جديدة، و بقيّة نفقتي معي،و لعلّي أتحمّل بها إلى بلد آخر،في وجه أحد سواك.
قال:فأطرق ابن أبي البغل،و مضى الرّجل،فرفع رأسه،فاستدعاه، و اعتذر اليه،و أمر له بصلة،و قال له:خذ هذه،إلى أن أقلّدك ما يصلح لك، فإنّي أرى فيك مصطنعا.
فلمّا كان بعد أيّام قلّده عملا جليلا،و صلحت حال الرّجل معه (3).
ص:364
بين جحظة البرمكي و محبرة بن
أبي عبّاد الكاتب
حدّثني أبو الفرج الأصبهاني،عن جحظة (1)،أنّه قال:
اتّصلت عليّ إضاقة،حتّى بعت فيها كلّ ما أملك،و بقيت و ليس في داري غير البواري،فأصبحت يوما أفلس من طنبور مقطّع الأوتار (2)،ففكّرت في الحيلة،فوقع لي أن أكتب إلى محبرة الكاتب (3)،و كنت أجاوره بالبصرة، و كان منقرسا (4)،يلازم بيته،حتّى صار لا يمكنه الحركة،إلاّ أن يحمل في محفّة (5)،و كان ظريفا،عظيم النعمة،كثير الشرب و القصف،فأتطايب عليه،ليدعوني،أو يبرّني بشيء،فكتبت إليه:
ص:365
ما ذا ترى في جديّ (1) و برمة (2)و بوارد (3)
و قهوة (4)ذات لون يحكي خدود الخرائد
و مسمع (5)يتغنّى من آل يحيى بن خالد
إنّ المضيع لهذا نزر المروءة بارد
قال:فما شعرت إلاّ بمحفّة محبرة،يحملها غلمانه،إلى داري،و أنا جالس على بابها.
فقلت:لم جئت،و من دعاك؟
قال:أنت[115 ر].
قلت:إنما قلت ما ذا ترى،و عنيت في منزلك،و لم أقل أنّه عندي، و بيتي-و اللّه-أفرع من فؤاد أمّ موسى.
فقال:قد جئت الآن،و لا أرجع،و لكن أحضر من داري،ما أريد.
فقلت:ذاك إليك،فدخل الدار،فلم ير فيها إلاّ بارية.
فقال:يا أبا الحسن،هذا و اللّه فقر مدقع.
فقلت:هو ما ترى.
ص:366
فانفذ إلى داره،فجاءوه بفرش حسنة،و آلة،و قماش،و آنية،و طعام كثير من مطبخه،و ألوان الأشربة،و الفواكه،و المشامّ،و عبّي المجلس، و فرش الفرش،و جلس يومه يشرب على غنائي و غناء مغنّية دعوتها له كانت تألفني.
فلمّا كان من الغد،سلّم اليّ غلامه كيسا فيه ألفا درهم،و رزمة ثياب صحاحا و مقطوعة،من فاخر الثياب،و استدعى محفّته فجلس فيها،و شيّعته.
فلمّا بلغ آخر الصّحن،قال:مكانك يا أبا الحسن،فكلّ ما في دارك هو لك،فلا تدع أحدا يأخذ منه شيئا.
و قال للغلمان:اخرجوا بين يديّ،فخرجوا،و أغلقت بابي على قماش يساوي ألوفا كثيرة (1).
ص:367
تاجر خراساني يجد الفرج
عند صاحبه الكرخي
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد العبقسي،عن بعض تجّار الكرخ ببغداد، قال:
كنت أعامل رجلا من الخراسانيّة،أبيع له في كلّ موسم متاعا،فأنتفع من سمسرته بألوف دراهم.
فلمّا كان سنة من السنين تأخّر عنّي،فأثّر ذلك في حالي،و تواترت عليّ محن،فأغلقت دكّاني[142 ظ]و جلست في بيتي،مستترا من دين لحقني، أربع سنين.
فلمّا كان في وقت الحاجّ،تتبّعت نفسي خبر الخراساني،طمعا في إصلاح أمري به،فمضيت إلى سوق يحيى (1)،فلم أعط له خبرا،فرجعت، فنزلت الجزيرة و أنا تعب مغموم.
ص:368
و كان يوما حارا،فنزلت إلى دجلة،فتغسّلت،و صعدت،فابتلّ موضع قدمي،فقلعت رجلي قطعة من الرمل،انكشفت عن سير (1).
فلبست ثيابي،و جلست مفكّرا أولع بالسير،فلم أزل أجرّه حتّى ظهر لي هميان (2)موصول به،فأخذته،فإذا هو مملوء دنانير،فأخفيته تحت ثيابي، و وافيت منزلي،فإذا فيه ألف دينار.
فقويت نفسي قوّة شديدة،و عاهدت اللّه عزّ و جلّ،أنّه متى صلحت حالي،و عادت،أن أعرّف الهميان،فمن أعطاني صفته،رددته عليه.
و احتفظت بالهميان،و أصلحت أمري مع غرمائي،و فتحت دكّاني، و عدت إلى رسمي من التجارة و السمسرة،فما مضت إلاّ ثلاث سنين حتّى حصل في ملكي ألوف دنانير.
و جاء الحجّ (3)،فتتّبعتهم لأعرّف الهميان،فلم أجد من يعطيني صفته، فعدت إلى دكّاني.
فبينما أنا جالس،إذا رجل قائم حيال دكّاني،أشعث،أغبر،وافي السبال (4)،في خلقة سؤّال الخراسانيّة (5)و زيّهم،فظننته سائلا،فأومأت إلى دريهمات لأعطيه،فاسرع الانصراف،فارتبت به،فقمت،و لحقته، و تأمّلته،فإذا هو صاحبي الّذي كنت أنتفع بسمسرته في السنة بألوف دراهم.
فقلت له:يا هذا،ما الذي أصابك؟و بكيت رحمة له.
فبكى،و قال:حديثي طويل.
ص:369
فقلت:البيت،و حملته إلى منزلي فأدخلته الحمّام،و ألبسته ثيابا نظافا، و أطعمته،و سألته عن خبره.
فقال:أنت تعرف حالي و نعمتي،و إنّي أردت الخروج إلى الحجّ في آخر سنة جئت إلى بغداد،فقال لي أمير البلد:عندي قطعة ياقوت أحمر كالكفّ، لا قيمة لها عظما و جلالة،و لا تصلح إلاّ للخليفة،فخذها معك،فبعها لي ببغداد،و اشتر لي من ثمنها متاعا طلبه،من عطر،و طرف،بكذا و كذا، و أحمل الباقي مالا.
فأخذت القطعة الياقوت،و هي كما قال،فجعلتها في هميان جلد، من صفته كيت و كيت،و وصف الهميان الّذي وجدته،و جعلت في الهميان ألف دينار عينا من مالي،[116 ر]و حملته في وسطي.
فلمّا جئت إلى بغداد،نزلت أسبح عشيّا في الجزيرة الّتي بسوق يحيى، و تركت الهميان و ثيابي بحيث ألاحظها.
فلمّا صعدت من دجلة،لبست ثيابي عند غروب الشمس،و أنسيت الهميان،فلم أذكره إلى أن أصبحت،فعدت أطلبه،فكأنّ الأرض ابتلعته.
فهوّنت على نفسي المصيبة،و قلت:لعلّ قيمة الحجر ثلاثة آلاف دينار، أغرمها له.
فخرجت إلى الحجّ،فلمّا رجعت،حاسبتك على ثمن متاعي،و اشتريت للأمير ما أراده،و رجعت إلى بلدي،فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته،و أتيته، فأخبرته بخبري.
و قلت له:خذ منّي تمام ثلاثة آلاف دينار،عوضا عن الحجر.
فطمع فيّ،و قال:قيمته خمسون ألف دينار،و قبض عليّ،و على جميع ما أملكه من مال و متاع،و أنزل بي صنوف المكاره،حتّى أشهد عليّ في جميع
ص:370
أملاكي (1)،و حبسني سبع سنين،كنت يردّد عليّ فيها العذاب.
فلمّا كان في هذه السنة،سأله النّاس في أمري،فأطلقني.
فلم يمكنني المقام ببلدي،و تحمّل شماتة الأعداء،فخرجت على وجهي، أعالج الفقر،بحيث لا أعرف،و جئت مع الحجّ الخراساني،أمشي أكثر الطريق،و لا أدري ما أعمل،فجئت إليك لأشاورك في معاش أتعلّق به.
فقلت:قد ردّ اللّه عليك بعض ضالّتك،هذا الهميان الّذي وصفته،عندي، و كان فيه ألف دينار[143 ظ]أخذتها،و عاهدت اللّه تعالى،أنّني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان،و قد أعطيتني أنت صفته،و علمت أنّه لك،و قمت، فجئته بكيس فيه ألف دينار.
و قلت له:تعيّش بهذا في بغداد،فإنّك لا تعدم خيرا إن شاء اللّه.
فقال لي:يا سيّدي الهميان بعينه عندك،لم يخرج عن يدك؟
قلت:نعم.
فشهق شهقة،ظننت أنّه قد مات معها،و غشي عليه،فلمّا أفاق بعد ساعة، قال لي:أين الهميان؟
فجئته به،فطلب سكّينا،فأتيته بها،فخرق أسفل الهميان،و أخرج منه حجر ياقوت أحمر،أشرق منه البيت،و كاد يأخذ بصري شعاعه،و أقبل يشكرني،و يدعو لي.
فقلت له:خذ دنانيرك.
فحلف بكلّ يمين،لا يأخذ منها،إلاّ ثمن ناقة،و محمل،و نفقة تبلغه، فبعد كلّ جهد أخذ ثلاثمائة دينار،و أحلّني من الباقي،و أقام عندي،إلى أن عاد الحاجّ،فخرج معهم.
ص:371
فلمّا كان العام المقبل،جاءني بقريب ممّا كان يجيئني به سابقا من المتاع.
فقلت له:أخبرني خبرك.
فقال:مضيت،فشرحت لأهل البلد خبري،و أريتهم الحجر،فجاء معي وجوههم إلى الأمير،و أعلموه القصّة،و خاطبوه في إنصافي.
فأخذ الحجر،و ردّ عليّ جميع ما كان أخذه منّي،من متاع،و عقار، و غير ذلك،و وهب لي من عنده مالا.
و قال:اجعلني في حلّ ممّا عذّبتك و آذيتك،فأحللته.
و عادت نعمتي إلى ما كانت عليه،و عدت إلى تجارتي و معاشي،و كلّ هذا بفضل اللّه تعالى و بركتك،و دعا لي.
و كان يجيئني بعد ذلك،حتّى مات (1).
ص:372
أضاع هميانه في طريق الحجّ
و وجده أحوج ما يكون إليه
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد الصروي (1):قال حدّثني أبي:
أنّ رجلا حجّ،و في وسطه هميان فيه دنانير و جواهر،قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار،و كان الهميان ديباج أسود (2).
فلمّا كان في بعض الطريق،جلس يبول،فانحلّ الهميان من وسطه و سقط، و لم يعلم بذلك إلاّ بعد أن سار من الموضع فراسخ.
و اتّفق أنّ رجلا جاء على أثره،فجلس يبول مكانه،فرأى الهميان، فأخذه،و كان له دين،فحفظه.
قال الرّجل،فلم يؤثّر في قلبي ذهابه،لكثرة مالي،فاحتسبته عند اللّه تعالى،و تغافلت.
و كان[117 ر]معي تجارة بأموال عظيمة،فقضيت حجّي،و عدت إلى بلدي.
فلمّا كان بعد سنين،افتقرت لمحن توالت عليّ،حتّى لم يبق لي شيء،
ص:373
فهربت على وجهي من بلدي،و قد أفضيت إلى الصدقة عليّ،و زوجتي معي، فأويت إلى بعض القرى،فنزلت في خان خراب (1).
فأصاب زوجتي الطلق،و ما أملك غير دانق و نصف فضّة،و كانت ليلة مطيرة،فولدت.
ص:374
فقالت:يا هذا،الساعة أموت،فأخرج،و خذ لي شيئا أتقوّى به.
فخرجت أتخبّط في الظلمة و المطر،حتّى جئت إلى بقّال فوقفت عليه، فكلّمني بعد كلّ جهد،فشرحت له حالي،فرحمني،و أعطاني بتلك القطعة حلبة،و زيتا،أغلاهما عنده،و أعارني غضارة جعلته فيها،فمشيت أريد موضعي،فزلقت،فانكسرت الغضارة،و ذهب ما فيها.
فورد عليّ أمر عظيم،ما ورد عليّ مثله قط،و أقبلت ألطم،و أبكي، و أصيح،فإذا برجل قد أخرج رأسه من شبّاك في دار،و قال: ويلك،مالك تبكي،ما تدعنا ننام،فشرحت له قصّتي.
فقال:هذا البكاء كلّه بسبب دانق و نصف؟
فتداخلني من الغمّ أكثر من الأوّل،فقلت:يا هذا،و اللّه،ما لما ذهب عندي محلّ،و لكنّ بكائي رحمة لنفسي ممّا دفعت إليه،و إنّ زوجتي و ولدي الساعة يموتان جوعا،و و اللّه،و إلاّ فعليّ و عليّ،و حلفت بأيمان مغلّظة،لقد حججت في سنة كذا،و أنا أملك من المال،ما ذهب منّي هميان فيه دنانير و جواهر بثلاثة آلاف[144 ظ]دينار،ما فكّرت فيه،و هو ذا تراني الآن أبكي بسبب دانق و نصف فضّة (1)،فاسأل اللّه العافية و السلامة،و لا تعيّرني فتبتلي بمثل بلواي.
فقال لي:باللّه عليك،ما كان صفة هميانك؟
فلطمت رأسي،و قلت:ما يقنعك ما خاطبتني به و ما تراه من صورتي، و قيامي في الطين و المطر،حتّى تتلهّى بي،و أيّ شيء ينفعني و ينفعك من صفة همياني،و قد ضاع من كذا و كذا سنة،و مشيت.
و إذا هو قد خرج يصيح بي:تعال خذ هذا،فقدّرته يتصدّق عليّ، فجئته.
ص:375
فقال:أيش صفة هميانك؟و قبض على يدي،فلم أقدر أتخلّص منه، فوصفت له همياني.
فقال لي:أدخل،فدخلت منزله.
فقال:أين زوجتك؟
فقلت:في الخان الفلاني.
فأنفذ غلمانه،فأتوا بها،فأدخلها إلى حرمه،فأصلحوا أمرها،و أطعموها ما احتاجت إليه،و كساني كسوة حسنة،و أدخلني الحمّام،و أصبحت عنده في عيشة طيّبة.
فقال لي:أقم عندي أيّاما لأضيفك،فأقمت عنده عشرة أيّام،فكان يعطيني في كلّ يوم عشرين دينارا،و أنا متحيّر من عظيم برّه،بعد شدّة جفائه.
فلمّا كان بعد ذلك،قال لي:أيّ شيء تتصرّف فيه؟
فقلت:كنت تاجرا.
فقال:أقم عندي،و أنا أعطيك رأس مال فتتّجر في شركتي.
فقلت:أفعل.
فدفع إليّ مائتي دينار،و قال لي:اتّجر بها هاهنا.
فقلت:هذا معاش،قد أغناني اللّه تعالى به،يجب أن ألزمه،فلزمته.
فلمّا كان بعد شهور،ربحنا،فجئته،فقلت له:خذ ربحك.
فقال لي:اجلس،فجلست.
فأخرج إليّ همياني،و قال:أ تعرف هذا؟
فحين رأيته،شهقت شهقة غشي عليّ منها.
ثمّ أفقت بعد ساعة،فقلت له:يا هذا،أملك أنت أم نبيّ؟
فقال:لا،و لكنّي ممتحن بحفظ هميانك منذ كذا و كذا سنة،فلمّا سمعتك تلك اللّيلة تقول ما قلته،و أعطيتني علامته،أردت أن أعطيك هو،
ص:376
فخشيت أن تنشقّ مرارتك من الفرح،فأعطيتك تلك الدنانير الّتي أوهمتك أنّها هبة لك،و إنّما أعطيتك ذلك كلّه من هميانك،و الدنانير المائتان، قرض،فخذ هميانك و اجعلني في حلّ.
فأخذته،و دعوت له،و رددت عليه القرض،و رجعت إلى بلدي، و بعت الجوهر[118 ر]و أضفت ثمنه إلى الدنانير،و اتّجرت بها،فما مضت إلاّ سنيّات،حتّى صرت صاحب عشرة آلاف دينار،و صلحت حالي، فأنا في فضل اللّه تعالى،أعيش إلى الآن (1).
ص:377
الوزير عليّ بن عيسى يقول:ليتني تمنّيت المغفرة
حدّثني أبو سهل بن زياد القطّان (1)،صاحب عليّ بن عيسى،قال:كنت مع علي بن عيسى (2)بمكّة،حين نفي إليها (3)،فدخلنا في حرّ شديد،و قد كدنا نتلف،فطاف علي بن عيسى (4)،و سعى (5)،و جاء فألقى نفسه كالميت من الحرّ و التعب،و قلق قلقا شديدا.
و قال:أشتهي على اللّه عزّ و جلّ،شربة ماء بثلج.
فقلت له:يا سيّدنا،تعلم أنّ هذا ما لا يوجد بهذا المكان.
فقال:هو كما قلت،و لكنّ نفسي ضاقت عن ستر هذا،فاستروحت إلى المنى.
قال:و خرجت من عنده،فرجعت إلى المسجد الحرام (6)،فما استقررت
ص:378
فيه،حتّى نشأت سحابة،فأبرقت،و أرعدت رعدا متّصلا شديدا،ثمّ جاءت بمطر يسير،و برد كثير.
فبادرت إلى الغلمان،فقلت:اجمعوا،فجمعنا شيئا كثيرا،و كان علي بن عيسى نائما.
فلمّا كان وقت المغرب،خرج إلى الصلاة،فقلت له:أنت و اللّه مقبل، و النكبة زائلة،و هذه علامات الإقبال،فاشرب الثلج كما طلبت.
و جئته إلى المسجد الحرام بأقداح مملوءة بالأشربة (1)و الأسوقة (2)،مكبوسة بالبرد،فأقبل يسقي ذلك من كان بقربه من الصوفيّة و المجاورين و الضعفاء، و يستزيد،و نحن نأتيه بما عندنا من ذلك،و كلّما قلت له:اشرب،يقول:
حتّى يشرب النّاس.
فخبأت من البرد مقدار خمسة أرطال،و قلت[145 ظ]له:لم يبق شيء.
فقال:الحمد للّه،ليتني كنت تمنّيت المغفرة،بدلا من تمنّي الثلج، فلعلّي كنت أجاب.
ص:379
فلمّا رجع إلى بيته حلفت عليه أن يشرب،فما زلت أداريه حتّى شرب منه بقليل ماء و سويق،و تقوّت به باقي ليلته (1).
ص:380
المسجد الحرام:المسجد،بفتح الجيم:ما يمسّ الأرض من الأعضاء عند السجود، و بكسر الجيم:الموضع الذي يسجد فيه،و الجمع في كليهما:مساجد(المنجد)، و الحرام:المقدّس،و منه سمّيت مكّة و المدينة:المنطقة الحرام،و الحرمان(دائرة المعارف الإسلامية 361/7)و المسجد الحرام هو الكعبة،سمّيت الكعبة،لتربيعها(معجم البلدان 616/4-626).
و لم يكن للمسجد الحرام في أيّام النبي صلوات اللّه عليه و أبي بكر سور يحيط به، فضيّق الناس على الكعبة،و ألصقوا دورهم بها،فاشترى عمر تلك الدور،و هدمها، و زادها في المسجد،و اتّخذ للمسجد جدارا دون القامة،كانت المصابيح توضع عليه، و لما استخلف عثمان زاد في سعة المسجد،و اتخذ فيه الأروقة حين وسّعه(معجم البلدان 525/4-526)ثم وسّعه المنصور(أحسن التقاسيم 75).
و أقصى ما وصلت إليه سعة المسجد الحرام ثلاثين ألف مترا مربّعا،فأقدمت الحكومة العربية السعودية على عمل من أشرف الأعمال و أكرمها عند اللّه و الناس،إذ زادت في سعة المسجد إلى خمسة أضعاف مساحته الأولى،فبلغت مساحته مائة و خمسين ألف متر مربّع، و شيّدت حوله أروقة محيطة بالمسجد على طابقين بلغ من علوها أنّ سقف الطابق الثاني منها، قارب في علوه رءوس المآذن القديمة في المسجد،و سقفت المسعى بين الصفا و المروة، و شادت عليه طابقين،و كان البناء جميعه بالرخام البديع،فاكتسى المسجد الحرام رداء من الجمال و البهاء،لم أشاهد مثله في أي مكان من أماكن العبادة الأخرى،فإنّي شاهدت الفاتيكان،و كنائس روما،و الإسكوريال،و جامع قرطبة،و جامع دمشق،و جوامع القسطنطينيّة،و جوامع أصبهان،و المراقد المقدّسة في العراق و إيران و في جميعها ما يبهر الناظر، و لكنّها لا تماثل بناء المسجد الحرام و لا تقاربه،و أدارت بسور المسجد الحرام،رحبة عظيمة السعة أحاطت به من جميع جهاته،تنفذ منها طرق إلى خارج مكّة،اضطرّت لانفاذ بعضها أن نحتت الصخور،فصحّ في ذلك المثل القائل:همم الرجال،تقلع الجبال.
ص:381
فتى ورث مالا فأتلفه ثمّ آل أمره إلى صلاح
حدّثني عبيد اللّه بن محمّد الصرويّ،أيضا،عن أبيه،قال:
كان يجاورنا ببغداد فتى من أولاد الكتّاب،ورث مالا جليلا،فأتلفه في القيان (1)،و أكله إسرافا،حتّى لم يبق منه شيء،و احتاج إلى نقض داره،فلم يبق منها غير بيت يكنّه.
فحدّثني بعض من كان يعاشره و انقطع عنه لما افتقر،قال:
قصدته يوما بعد انقطاعي عنه نحو سنة،لأعرف خبره،فدخلت إليه، فوجدته نائما في ذلك البيت،في يوم بارد،على حصير خلق،قد توطّأ قطنا
ص:382
كأنّه حشو فراش،و تغطّى بقطن كان في لحاف،فهو بين ذلك القطن كأنّه السفرجل (1).
فقلت له: ويحك،بلغت إلى هذا الحدّ.
فقال:هو ما ترى.
فقلت:فهل لك حاجة.
قال:أو تقضيها؟
فظننت أنّه يطلب منّي شيئا أسعفه به،فقلت:إي و اللّه.
فقال:أشتهي أن تحملني إلى بيت فلانة المغنّية،حتّى أراها،و هي الّتي كان يتعشّقها،و أتلف ماله عليها.
و بكى،فرحمته،فمضيت إلى منزلي،فأتيته من ثيابي بما لبسه،و أدخلته الحمّام،و حملته إلى بيتي،فأطعمته،و بخّرته،و ذهبنا إلى دار المغنّية.
فلمّا رأتنا،لم تشكّ أنّ حاله قد صلحت،و أنّه قد جاءها بدراهم، فبشّت في وجهه،و سألته عن حاله،فصدقها عن حاله،حتّى انتهى إلى ذكر الثياب،و أنّها لي.
فقالت له في الحال:قم،قم.
فقال:لم؟
فقالت:لئلاّ تجيء ستّي،فتراك،و ليس معك شيء،فتحرد عليّ،لم أدخلتك،فاخرج برّا (2)،حتّى أصعد فأكلّمك من فوق،فخرج،و جلس ينتظر أن تخاطبه من روزنة في الدار،إلى الطريق،فأقلبت عليه مرقة سكباج (3)،
ص:383
فصيرته آية و نكالا.
فبكى،و قال لي:بلغ أمري إلى هذا؟أشهد اللّه،و أشهدك،أنّي تائب.
فضحكت منه،و قلت:أيّ شيء تنفعك التوبة الآن و قد افتقرت؟
فرددته إلى بيته،و نزعت ثيابي عنه،و تركته بين القطن،كما كان أوّلا، و حملت ثيابي فغسلتها و انقطعت عنه،فما عرفت له خبرا.
و بعد نحو ثلاث سنين،بينما[119 ر]أنا ذات يوم بباب الطاق، إذا أنا بغلام يطرّق (1)لرجل راكب،فرفعت رأسي،فإذا به على برذون فاره (2)، بمركب فضّة،خفيف،مليح،و ثياب حسنة،و كان أوّلا يركب من الدواب أفخرها،و من المراكب أثقلها.
فلمّا رآني،قال لي:يا فلان،فعلمت أنّ حاله قد صلحت،فقبّلت فخده.
و قلت:سيّدي أبو فلان.
قال:نعم،قد صنع اللّه تعالى،و له الحمد،البيت،البيت،فتبعته إلى منزله،فإذا بالدار الأوّلة،قد رمّها،و جصّصها،من غير بياض،و طبّقها (3)، و بنى فيها مجلسين متقابلين،و خزائن،و مستراح،و جعل باقي ما كان فيها، صحنا كبيرا،و قد صارت حسنة،غير أنّها ليست بذلك الأمر الأوّل.
فأدخلني إلى حجرة منها،كان يخلو فيها قديما،قد أعادها كأحسن
ص:384
ما كانت،و فيها فرش حسنة،و في داره ثلاثة غلمان،قد جعل كلّ خدمتين إلى واحد منهم،و قد أقام على حرمه خادما كان لأبيه،و له سائس هو شاكريّه (1)، و شيخ بوّاب كان يصحبه قديما،و وكيل يتسوّق له (2).
فجلس،و أجلسني،و أحضر فاكهة قليلة،في آلة مقتصدة مليحة، و جاءوا بعدها بطعام نظيف،كاف،غير مسرف و لا مقصّر،فأكلنا،ثمّ نام،و لم تكن تلك عادته،و مدّت ستارة،و أحضرت مشامّ و رياحين،في صواني و زبديّات،و الجميع متوسّط مليح،غير مسرف[146 ظ]،فانتبه، فصلّى،و تبخّر بقطعة ندّ 9،و بخّرني بقطعة عود مطرّى (3)،و قدّم بين يديه صينيّة فيها من مطبوخ العنب (4)شيء حسن،و قدّم بين يديّ صينية فيها نبيذ التمر (5)،جيّد.
فقلت:يا سيّدي ما هذه الترتيبات الّتي لست أعرفها.
ص:385
فقال:دع ما مضى،فإنّ الحال لا تحتمل الإسراف،فأقبل يشرب،و أنا أساعده،فتغنّى من وراء الستارة،ثلاث جواري في نهاية طيب الغناء،كلّ واحدة منهنّ أطيب من الّتي أنفق عليها ماله.
فلمّا طابت أنفسنا،قال لي:تذكر أيّامنا الأوّلة؟
قلت:نعم.
قال:أنا الآن في نعمة متوسّطة،و ما قد أفدته من العقل،و العلم بأمر الدنيا و أهلها،يسلّيني عمّا ذهب منّي،و هو ذا ترى فرشي،و آلتي،و مركوبي، و إن لم يكن ذلك بالعظيم المفرط،ففيه جمال،و بلاغ،و تنعّم،و كفاية، و هو مغن عن الإسراف،و التخرّق،و التبذير،و قد تخلّصت من تلك الشدّة، تذكر يوم عاملتني فلانة المغنّية،بما عاملتني؟
قلت:نعم و الحمد للّه الّذي كشف ذلك عنك،فمن أين هذه النعمة؟ قال:مات مولى لأبي،و ابن عمّ لي،في يوم واحد بمصر،فحصل لي من تركتهما أربعون ألف دينار،فوصل أكثرها إليّ،و أنا بين القطن كما رأيتني،فحمدت اللّه،و اعتقدت التوبة من التبذير،و أن أدبّر ما رزقته، فعمّرت هذه الدار بألف دينار،و اشتريت الفرش،و الآلة،و الجواري بتسعة آلاف دينار،و سلّمت إلى بعض التجّار الثقات،ألفي دينار،يتجر لي بها، و أودعت بطن الأرض عشرة آلاف دينار،للحوادث،و ابتعت بالباقي ضيعة تغلّ لي في كلّ سنة نفقتي هذه الّتي شاهدتها،فما أحتاج إلى قرض،و لا استزادة، و لا تقبل غلّة،إلاّ و عندي بقية من الغلّة الأوّلة،فأنا أتقلّب في نعمة اللّه، عزّ و جلّ،كما ترى،و من تمام النعمة،إنّي لا أعاشرك،و لا أحدا ممّن كان يحسّن لي السرف،يا غلمان،أخرجوه.
قال:فأخرجت،فو اللّه ما أذن لي بعدها في الدخول عليه (1).
ص:386
أبو يوسف القاضي يأكل اللوزينج بالفستق
و حدّثني أبي،قال:بلغني أنّ أبا يوسف (1)صحب أبا حنيفة (2)،ليتعلّم العلم،على فقر و شدّة،و كانت أمّه تحتال له فيما يتقوّته يوما بيوم،فطلب يوما ما يأكل،فجاءته[120 ر]بغضارة (3)مغطّاة،فكشفها،فإذا فيها دفاتر.
فقال:ما هذا؟.
فقالت:هذا الّذي أنت مشتغل به نهارك أجمع،فكل منه.
فبكى،و بات جائعا،و تأخّر عن المجلس من الغد،حتّى احتال فيما أكله،ثمّ مضى إلى أبي حنيفة،فسأله عن سبب تأخّره،فصدقه.
فقال له:أ لا عرّفتني فكنت أمدّك؟و لا يجب أن تغتمّ،فإنّه إن طال عمرك،فستأكل اللوزينج (4)بالفستق.
قال:فلمّا خدمت الرشيد،و اختصصت به،قدّم بحضرته يوما،جام
ص:387
فيه لوزينج بفستق،فدعاني إليه،فحين أكلت منه،ذكرت أبا حنيفة، فبكيت،و حمدت اللّه تعالى،فسألني الرّشيد عن قصّتي،فأخبرته (1).
ص:388
الشيخ الخيّاط و أذانه في غير وقت الأذان
حدّثني أبو الحسن محمّد بن عبد الواحد الهاشمي (1):
أنّ شيخا من التجّار،كان له على بعض القوّاد،مال جليل ببغداد، فماطله به،و جحده إيّاه،و استخفّ به.
قال:فعزمت على التظلّم إلى المعتضد (2)،لأنّي كنت تظلّمت إلى عبيد اللّه بن سليمان الوزير (3)،فلم ينفعني ذلك.
فقال لي بعض إخواني:عليّ أن آخذ لك المال،و لا تحتاج إلى أن تتظلّم إلى الخليفة،قم معي السّاعة،فقمت معه.
ص:389
فجاء بي إلى خيّاط في سوق الثلاثاء (1)،يخيط،و يقرئ القرآن في مسجد، فقصّ عليه قصّتي،فقام معنا.
فلمّا مشينا،تأخّرت،و قلت لصديقي:لقد عرّضت هذا الشيخ، و إيّانا،لمكروه عظيم،هذا إذا حصل على باب الرجل،صفع،و صفعنا معه، هذا لم يلتفت[147 ظ]إلى شفاعة فلان،و فلان،و لم يفكّر في الوزير، فكيف يفكّر في هذا الفقير؟
فضحك،و قال:لا عليك،امش،و اسكت.
فجئنا إلى باب القائد،فحين رأى غلمانه الخيّاط،أعظموه و أهووا التقبيل يده،فمنعهم من ذلك،و قالوا:ما جاء بك أيّها الشيخ،فإنّ صاحبنا راكب،فإن كان لك أمر يتمّ بنا بادرنا إليه و إلاّ فادخل،و اجلس إلى أن يجيء،فقويت نفسي بذلك،و دخلنا و جلسنا.
و جاء القائد،فلمّا رأى الشيخ أعظمه إعظاما تاما،و قال:لست أنزع ثيابي،أو تأمرني بأمرك.
فخاطبه في أمري،فقال:و اللّه،ما عندي إلاّ خمسة آلاف درهم تسأله أن يأخذها،و أعطيه رهنا في باقي ماله.
فبادرت إلى الإجابة،فأحضر الدراهم،و حليا بقيمة الباقي،فقبضت
ص:390
ذلك منه،و أشهدت عليه الرّجل،و صديقي،أنّ الرهن عندي إلى أجل، فإن حلّ الأجل و لم يعطني،فقد وكّلني في بيعه،و قبض مالي من ثمنه،فخرجنا، و قد أجاب إلى ذلك.
فلمّا بلغنا مسجد الخيّاط،قلت له:قد ردّ اللّه تعالى عليّ هذا المال بسببك، فأحبّ أن تأخذ منه ما أحببت،بطيبة من قلبي.
فقال:ما أسرع ما كافأتني على الجميل بالقبيح،انصرف،بارك اللّه لك في مالك.
فقلت:قد بقيت لي حاجة.
قال:قل.
قلت:تخبرني عن سبب طاعته لك،مع تهاونه بأكثر أهل الدولة.
فقال:قد بلغت مرادك،فلا تقطعني عن شغلي،و ما أعيش به.
فألححت عليه،فقال:أنا رجل أصلّي بالنّاس في هذا المسجد،و أقرئ القرآن،منذ أربعين سنة،و معاشي من هذه الخياطة،لا أعرف غيرها.
و كنت منذ دهر،قد صلّيت المغرب،و خرجت أريد منزلي،فاجتزت بتركيّ كان في هذه الدار،و امرأة جميلة مجتازة،و قد تعلّق بها و هو سكران، ليدخلها داره،و هي ممتنعة تستغيث،و ليس من أحد يغيثها،أو يمنعه منها، و تقول في جملة كلامها:إنّ زوجي قد حلّف عليّ بالطلاق،أن لا أبيت برّا (1)، فإن بيّتني،خرب بيتي،مع ما يرتكبه منّي من الفاحشة.
قال:فرفقت به و سألته تركها،فضرب رأسي بدبّوس (2)كان في يده،
ص:391
فشجّني (1)،و لكمني،و أدخل المرأة بيته.
فصرت إلى منزلي،و غسلت الدم،و شددت الشجّة،و استرحت، و خرجت لصلاة العشاء الآخرة.
فلمّا صلّينا،قلت لمن معي في المسجد:قوموا بنا إلى عدوّ اللّه،هذا التركي،لننكر عليه،و لا نبرح،أو نخرج المرأة.
فقاموا،و جئنا فضججنا على بابه،فخرج إلينا في عدّة غلمان،فأوقع بنا، و قصدني من بين الجماعة،فضربني[121 ر]ضربا عظيما كدت أتلف منه، فحملني الجيران إلى منزلي كالتالف،فعاجلني أهلي،و نمت نوما قليلا،و قمت نصف الليل،فما حملني النوم،للألم،و الفكر في القصّة.
فقلت:هذا قد شرب طول ليلته،و لا يعرف الأوقات،فلو أذّنت، لوقع له أنّ الفجر قد طلع،و أطلق المرأة،فلحقت بيتها قبل الفجر،فسلمت من أحد المكروهين.
فخرجت إلى المسجد متحاملا،و صعدت المنارة،فأذّنت،و جلست
ص:392
أطّلع منها إلى الطريق،أترقّب خروج المرأة،فإن خرجت،و إلاّ أقمت الصلاة، لئلا يشكّ في الصباح،فيخرجها.
فما مضت إلاّ ساعة،و المرأة عنده،حتّى رأيت الشارع قد امتلأ خيلا، و رجالا،و مشاعل،و هم يقولون:من أذّن الساعة؟ففزعت،و سكتّ.
ثمّ قلت:أخاطبهم،لعلّي أستعين بهم على إخراج المرأة،فصحت من المنارة:أنا أذّنت.
فقالوا لي:انزل،و أجب أمير المؤمنين.
فقلت:دنا الفرج،فنزلت،فإذا بدر،و عدّة غلمان،فحملني، و أدخلني على المعتضد،فلمّا رأيته،هبته،و ارتعت،فسكّن منّي.
و قال:ما حملك على أن تغرّ المسلمين بأذانك في غير وقته،فيخرج ذو الحاجة[148 ظ]في غير وقتها،و يمسك المريد للصوم (1)،في وقت قد أباح اللّه له الأكل فيه،و ينقطع العسس و الحرس عن الطواف؟
فقلت:يؤمنني أمير المؤمنين،لأصدقه.
فقال:أنت آمن.
فقصصت عليه قصّة التركي،و أريته الآثار.
فقال:يا بدر،عليّ بالغلام الساعة و المرأة،و عزلت في موضع.
فمضى بدر،و أحضر الغلام و المرأة،فسألها المعتضد عن الصورة،فأخبرته بمثل ما أخبرته.
فقال لبدر:بادر بها الساعة إلى زوجها،مع ثقة يدخلها دارها،و يشرح لزوجها القصّة،و بأمره عنّي بالتمسّك بها،و الإحسان إليها.
ص:393
ثمّ استدعاني،فوقفت بازائه،فجعل يخاطب الغلام،و أنا واقف أسمع.
فقال له:كم جرايتك؟
قال:كذا و كذا.
قال:و كم عادتك (1)؟
قال:كذا و كذا.
قال:و كم صلاتك؟
قال:كذا و كذا.
قال:و كم جارية لك؟
قال:كذا و كذا،فذكر عدّة جواري.
قال:أ فما كان فيهنّ،و في هذه النعمة العريضة،كفاية عن ارتكاب معصية اللّه تعالى،و خرق هيبة السلطان،حتّى استعملت ذلك،و جاوزته إلى الوثوب بمن أمرك بالمعروف؟فأسقط الغلام في يده،و لم يحر جوابا.
فقال:هاتوا جوالقا (2)،و مداقّ الجصّ (3)،و أدخلوه الجوالق،ففعلوا ذلك به.
و قال للفرّاشين:دقّوه،فدقّوه،و أنا أسمع صياحه،إلى أن مات (4)،
ص:394
فأمر به،فطرح في دجلة،و تقدّم إلى بدر،أن يحمل ما في داره.
ثمّ قال لي:يا شيخ،أيّ شيء رأيت من أجناس المنكر،كبيرا كان أو صغيرا،أو أيّ أمر عنّ لك،فمر به،و أنكر المنكر،و لو على هذا-و أومأ إلى بدر (1)-فإن جرى عليك شيء،أو لم يقبل منك،فالعلامة بيننا أن تؤذّن في مثل الوقت الّذي أذّنت فيه،فإنّي أسمع صوتك،و أستدعيك،و أفعل هذا بمن لا يقبل منك.
فدعوت له،و انصرفت.
و انتشر الخبر في الأولياء و الغلمان،فما خاطبت أحدا بعدها في إنصاف أحد،أو كفّ عن قبيح إلاّ أطاعني كما رأيت،خوفا من المعتضد.
و ما احتجت إلى الأذان في مثل ذلك الوقت (2).
ص:395
أحيحة بن الجلاح أكبّ على إصلاح ضيعته
وجدت في بعض الكتب:
أنّ أحيحة بن الجلاح (1)،أسرع في ماله فأتلفه مع إخوان له،حتّى افتقر، فهجروه و قطعوه،و احتاج إليهم في الشيء اليسير فمنعوه،فلحقته شدّة،و ضرّ و جهد.
فمات بعض أهله،فورّثه مالا،و ضيعة خرابا،تعرف بالزوراء،فأخذ المال،و خرج إلى الضيعة يعمرها به،فطمع فيه القوم الّذين أنفق ماله عليهم، فكتبوا إليه يعتذرون ممّا جرى،و يرغّبونه في مواصلتهم،و معاشرتهم،و كان أديبا،فكتب إليهم:
إنّي مكبّ على الزوراء أعمرها إنّ الكريم على الإخوان ذو المال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني إلاّ ندائي إذا ناديت يا مالي[122 ر]
فأيسوا منه،و كفّوا عنه،و ثابت حاله،و حسنت ضيعته (2).
ص:396
مجلس غناء بمحضر الرشيد
و روى حمّاد (1)،عن[أبي]صدقة (2)،و كان يحضر مجلس الرشيد مع المغنّين،فربّما غنّى،و ربّما لم يغنّ،قال:فدعانا الرّشيد يوما،فدخلنا، و الستارة دونه،و هو من خلفها جالس،فقال خادم من خلفها:غنّ يا ابن جامع (3)،فاندفع يغنّي بهذا الصوت:
قف بالمنازل ساعة فتأمّل هل بالديار لزائر من منزل
أولا ففيم توقّفي و تلدّدي وسط الديار كأنّني لم أعقل
ما بالديار من البلى و لقد أرى أن سوف يحملني الهوى في محمل
و أحقّ من يبكي بكلّ محلّة عرضت له في منزل للمعول
عان بكلّ حمامة سجعت له و غمامة برقت بنوء الأعزل[149 ظ]
يبكي فتفضحه الدموع فعينه ما عاش مخضلة كفيض الجدول
فقال الخادم:ليغنّ هذا الصوت منكم من كان يحسنه،فغنّى كلّ من أحسنه منهم،فكأنّه لم يطرب له.
ص:397
فأقبل الخادم عليّ،فقال:إن كنت تحسن أن تغنّيه،فغنّه.
فقلت:نعم،فعجبوا من إقدامي على صوت لم يستطب من جماعتهم، فغنّيته.
فقال الخادم:أحسنت،و اللّه،فأعده،فأعدته،و أعاد الاستحسان، و الأمر بإعادته على ذلك سبع مرّات.
ثمّ قال لي الخادم:قم يا[أبا]صدقة،فادخل،حتّى تغنّي أمير المؤمنين بحيث يراك،فدخلت،و المغنّون كلّهم محجوبون (1)،فغنّيته إيّاه،ثلاث مرّات،فطرب في جميعهنّ.
ص:398
و قال:أحسنت يا[أبا]صدقة.
فلمّا سمعت ما خصّني به من استحسانه،قلت:يا أمير المؤمنين،إنّ لهذا الصوت حديثا عجيبا،أ فلا أحدّثك به يا أمير المؤمنين،لعلّه يزداد حسنا.
فقال:بلى،هات.
فقلت:كنت يا سيّدي،عبدا لبعض آل الزبير،و كنت خيّاطا مجيدا، أخيط القميص بدرهمين،و السراويل بدرهم،و أؤدّي ضريبتي الى سيّدي في كلّ يوم درهمين،و آخذ ما فضل عن ذلك،فبينما أنا ذات يوم منصرفا، و قد خطت قميصا لبعض الطالبيّين،و قد أخذت منه درهمين،و انصرفت إلى موضع يجتمع فيه المغنّون،كنت أقصده إذا فرغت من شغلي،لشغفي بالغناء،
فلمّا صرت بحذاء بركة المهدي،إذا أنا بسوداء على رقبتها جرّة،تريد أن تملأها من ماء العقيق (1)،و هي تغنّي بهذا الصوت،أحسن غناء يكون،فأصابني من الطرب بغنائها ما أذهلني عن كلّ شيء.
فقلت لها:فداك أبي و أمي،ألقي عليّ هذا الصوت.
فقالت:استحسنته؟
فقلت:إي و اللّه.
فقالت:و حقّ القبر و من فيه،لا أعدته إلاّ بدرهمين.
فدفعت الدرهمين إليها،فأحدرت جرّتها عن رقبتها فارغة،فوضعتها
ص:399
على الارض،و جلست عليها،و كأنّي أنظر إلى فقحتها و قد برزت عن الجرّة نحو ذراع،و أقبلت تلقيه عليّ،و توقّع على الجرّة،حتّى أخذته،ثمّ أخذت الجرّة على رقبتها،و انصرفت.
فحين انصرفت،أنسيت الصوت و لحنه،حتّى كأنّي لم أسمعه قط، فبقيت متحيّرا لا أدري ما أصنع،و انصرفت إلى سيّدي بأسوإ حال،و أكسف بال.
فلمّا رآني،قال:هات ضريبتك[123 ر].
فلجلجت في كلامي،و قلت:يا سيّدي،اسمع حديثي.
فقال:يا ابن اللّخناء (1)،أبي تتعرّض؟
فبطحني،و ضربني مائة مقرعة،و حلق رأسي و لحيتي،و منعني قوتي، و كان أربعة أرغفة،فلم يكن شيء من ذلك،أشدّ عليّ،من ذهاب الصوت منّي،و بتّ ليلتي أسوأ خلق اللّه حالا،و أنا لا أعرف الجارية،و لا موضعها، و لا لمن هي.
فلمّا أصبحنا،خرجت ولها أطلبها في الموضع الّذي لقيتها فيه، و أسأل اللّه أن يحوج أهلها إلى الماء،حتّى تخرج لتأتيهم به،فأراها،فلم أزل أطلبها،لا أعمل شيئا إلى العصر.
فبينما أنا كذلك،و إذا بها قد أقبلت،فلمّا رأتني،و ما بي من الوله، قالت لي:مالك،أنسيت الصوت؟
فقلت:إي و اللّه،و ضربت مائة مقرعة،و منعت قوتي ليلتي،و حلقت رأسي و لحيتي.
ص:400
فقلت:دع هذا عنك،فو ربّ الكعبة،لاسمعته منّي،فضلا عن أخذه، إلاّ بدرهمين.
فقلت:اللّه،اللّه،فيّ،فيمرّنّ عليّ الليلة مثل ما مرّ عليّ البارحة،فارحميني.
فقالت:قد سمعت اليمين،و ذهبت لتمضي.
فقلت:اصبري،و جئت إلى بقال كان يعاملني،فرهنت عنده الجلمين (1)، على درهمين،و جئت بهما إليهما،فأخذتهما،و جعلتهما في فيها.
فلمّا بدأت بالصوت،ذكرته،فقلت:اللّه،اللّه،ردّي عليّ الدرهمين، فلا حاجة بي إلى غنائك.
فقالت:أنت أحمق،و لست تعرف هذا الأمر،لئن لم أردّده عليك مائة مرّة ما حصل لك منه شيء،و جلست على الجرّة،فغنّته مائة مرّة،أعدّها عليها[150 ظ]حتّى فهمته،و صرت به أمهر منها،و انصرفت.
فساعة فارقتها،لحقتني الندامة،و قلت:سيلحقني اللّيلة أكثر ممّا لحقني البارحة،لفقد الجلمين.
فرجعت إلى مولاي،فحين رآني،قال:هات ضريبتك.
فقلت له:اسمع منّي.
قال:أيّ شيء أسمع،يا ابن الفاجرة،أ ما كفاك ما مرّ بك أمس،و وثب إلى السوط.
فقلت له:اسمع،و اصنع ما شئت.
فقال:هات،فغنّيته الصوت.
ص:401
فقال:أحسنت،و اللّه،يعزّ عليّ ما أصابك،أما الضرب فقد مضى، و لا حيلة فيه،و أما قوتك فمردود،و أما ضريبتك،فساقطة عنك ما عشنا و لو متّ أنا و عيالي جوعا،فأنت اليوم واحدا منّا أبدا ما بقينا،فهذا خبر الصوت.
و كان المغنّون الّذين حضروا،إبراهيم الموصلي،و ابنه إسحاق،و ابن جامع، و مسلم بن سلام.
فأمر لكلّ واحد منهم بألف دينار،و أمر لي بعشرة آلاف دينار،مثل ما أمر لجماعتهم،ثمّ استدعى ألف دينار،فقال:خذ هذه بدل المائة مقرعة الّتي ضربت.
فانصرفت،و المغنّون يتعجّبون ممّا جرى (1).
ص:402
الوليد بن يزيد يستقبل البريد بموت هشام
و حدّث المنذر بن عمرو،و كان كاتبا للوليد بن يزيد بن عبد الملك،قال:
أرسل إليّ الوليد صبيحة اليوم الّذي أتته فيه الخلافة،فقال لي:يا أبا الزّبير،ما أتت عليّ ليلة أطول من البارحة،و عرضت لي أمور حدّثت نفسي فيها بأمور،و هذا الرّجل قد جدّ بنا،فاركب بنا.
فركبنا جميعا،و سرنا نحو ميلين،فوقف على تلّ،فجعل يشكو إليّ هشاما،إذ نظر إلى رهج (1)قد أقبل،و قعقعة البريد.
فتعوّذ باللّه من شرّ هشام،و قال:إنّ هذا البريد،قد أقبل،بموت حيّ، أو هلك عاجل.
فقلت:لا يسؤك اللّه أيّها الأمير،بل يسرّك و ينفعك،إذ بدا رجلان على البريد مقبلان،أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب،فلمّا رأيا الوليد نزلا،و سلّما عليه بالخلافة،فوجم،فجعلا يكرّران عليه السّلام بالخلافة.
فقال لهما:و يحكما ما الخبر،أمات هشام؟.
قالا:نعم.
قال:فمرحبا بكما،ما معكما؟.
قالا:كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن،فقرأ الكتاب،و انصرفنا.
و سأل عن عياض بن سالم،كاتبه الّذي كان هشام قد حبسه،و ضربه، فقالا:لم يزل محبوسا،حتّى نزلت بهشام مصيبة الموت،فلمّا بلغ إلى حال لا يرجى معها الحياة له،أرسل عياض إلى الخزّان:احتفظوا بما في أيديكم،
ص:403
و لا يصل أحد إلى شيء منه،فأفاق هشام إفاقة،فطلب شيئا،فمنعه الخزّان، فقال:أرانا كنّا خزّانا للوليد،و قضى من ساعته.
فخرج عياض لوقته من السجن عند ما قضى هشام،فغلّق الأبواب، و ختمها،و أمر بهشام،فأنزل عن فراشه،و منعهم أن يكفّنوه من الخزائن، فكفّنه غالب مولاه،و لم يجدوا قمقما (1)يسخّن فيه الماء،حتّى استعاروه.
و ذكر باقي الحديث ممّا لا يتعلّق بهذا الباب (2).
ص:404
الباب الخامس:من خرج من حبس أو أسر أو اعتقال،إلى سراح و سلامة و صلاح حال
5151رسول اللّه يمنّ على هوازن،و يطلق لهم أسراهم، و يردّ عليهم ما غنم منهم
9152الوزير القاسم،يعتقل ثلاثة أمراء عبّاسيّين
11153البحتري و أبو معشر،يؤصّلان عند المعتزّ أصلا
16154أبو سعيد الثغري،يعتقل،و يعذّب
18155البحتري يهنّئ إبراهيم بن المدبّر
20156يمنع ابن أبي سبرة علنا،و يجيزه سرّا
26157بال في ثيابه خوفا منه،ثم بال على قبره
29158لقاء بين الجدّ الروميّ النصرانيّ و الحفيد العربيّ المسلم
32159يحتال لإخراج أحد أصحابه من الحبس
34160شاميّ عظيم الجاه،من بقايا بني أميّة
43161ابن الفرات،يتحدّث عن اعتقاله و تعذيبه
51162كتاب ابن ثوابة باستيزار ابن الفرات
52163خرج من حبس المقتدر،و نصب مستشارا للوزير ابن مقلة
60164من مكارم القاضي أحمد بن أبي دؤاد
ص:405
\أ-سيّد العرب أحمد بن أبي دؤاد
63\ب-إطلاق الكتّاب من حبس الواثق
66\ج-إنقاذ أبي دلف من موت محقّق
76165الصريفينيّ الكاتب،يعلّم العمال حسن الصرف
85166الخليفة المعتضد يتخبّر على وزيره
92167الوزير عبيد اللّه بن سليمان يجازي على الإساءة بالاحسان
101168أسد كالح،و كبش ناطح،و كلب نابح
104169القرمطي،يبعث رسولا إلى المعتضد
108180كفى بالأجل حارسا
112171يرتجع من مال مصادرته مائة ألف دينار
114172قد ينتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير
116173أبو العتاهية يحبس لامتناعه عن قول الشعر
120174الفيض بن أبي صالح،و مروءته
122175كيف تخلّص أعشى همدان من أسر الديلم
124176يحتال للخلاص من حبس نجاح بن سلمة
125177يهب أحد أتباعه خمسة آلاف ألف درهم
127178يتنازل لأحد أتباعه عن عشرة آلاف ألف درهم
131179أبو عمر القاضي يشيب في ليلة واحدة
137180قضى ليلته معلّقا في بادهنج
141181ابن الفرات،يصفح عمّن أساء إليه
142182أراد أن يسير بسيرة الحجّاج،فقتلوه
149183فتنة تثور ببغداد،فتفرج عن بريء محبوس
ص:406
152184الصدفة تنجي عامل كوثي من القتل
154185الأمين يغاضب عمّه إبراهيم بن المهديّ،ثم يرضى عنه
156186يتخلّصون من المحنة بأيسر الأسباب
158187عبد اللّه بن طاهر يطلق الطوسي من حبسه
159188المأمون يغضب على فرج الرخّجي،ثم يرضى عنه، و يقلّده فارس و الأهواز
160189محبوس يتحدّث عن هلاك الحجّاج
162190يحسن إلى كاتب بغا الكبير على غير معرفة منه له
16191كيف تخلّص عمر بن هبيرة من السجن
168192كيف تخلّص قيسبة بن كلثوم من أسره
172192جاءه الفرج من حيث لم يحتسب
175194العلويّ الصوفيّ يحتال للخلاص من سجن المعتصم
180195حسن سيرته كانت سبب اعتقاله
184196محمد الحمدانيّ يحلّ محلّ أخيه في إمارة الموصل
191196أسره الروم في أيّام معاوية،و أطلقوه في أيّام عبد الملك
206198يستنقذ المذحجيّين من أسر بني مازن
الباب السادس:من فارق شدّة إلى رخاء،بعد بشرى منام لم يشب صدق تأويله بكذب الأحلام
209199ما عرض المعتضد في أيامه للعلويّين،و لا آذاهم، و لا قتل منهم أحدا
213200سليمان بن وهب يتفاءل بمنام رآه و هو محبوس
216201لم يقصد النّهابة دار الحسن بن مخلد لأنّه كان متعطّلا
ص:407
221202اتّخذ من رؤيا ادّعى أنّه رآها،سببا للتخلّص من حبس سيف الدولة
223203خراساني يودع بدرة من المال لدى أبي حسان الزيادي، فيسارع إلى انفاقها
233204حبسه المهديّ،و أطلقه الرشيد
239205المهدي يطلق علويّا من حبسه لمنام رآه
241206المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه
252207أبو بكر المادرائي،يولّي عاملا و هو على صهوة جواده
254208أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري
259209اعتقلهم الوزير ابن الزيّات،و أطلقوا لموت الواثق
264210من شعر سليمان بن وهب لما حبس
266211بين الوزير المهلّبي و الحسين السمري
268212رأى في المنام أنّ غناه بمصر
270213خزيمة بن خازم يصرّف الحرّاني،و يعقد له على طريق الفرات
276214بين الوزير علي بن عيسى و العطّار الكرخي
279215طاهر بن يحيي العلوي،و جرايته من الحاج الخراساني
282216قصّة العلوية الزمنة
289217أبو القاسم السعدي يرى مناما،فيتوب عن فعل المنكر
292219أبو جعفر بن بسطام له قصّة في رغيف
294219بينما كان يترقّب القتل،وافاه الفرج في مثل لمح البصر
296220المنصور العبّاسيّ،يرى مناما،فيرفع الظلامة عن محبوس
ص:408
297221صاحب الشرطة ببغداد يرى مناما يرشده إلى القاتل و يبرئ فيجا مظلوما
303222عزم على قتله ثم منّ عليه و أطلقه
307223محمد بن سليمان الكاتب دخل مصر أجيرا،ثمّ دخلها أميرا
312224شفاه منام رآه أحد أصحابه
315225رأى الاسكندر رؤيا،تبعها انتصاره على دارا ملك الفرس
316226رؤيا عبد اللّه بن الزبير،و تعبيرها
318227رأى في منامه أنه قد صرع خصمه فكان تعبير رؤياه أن الخصم هو المنتصر
321228الرشيد يولّي أخاه إبراهيم بن المهدي دمشق
326229يرى مناما و هو محبوس فيطلق من حبسه
328230يكره شخصا على العمل ثمّ يحبسه و يعذّبه
330231رأى في منامه أن قد أخرجت من داره اثنتي عشرة جنازة
331232وهب بن منبّه يصاب بالإملاق ثمّ يعطيه اللّه من فضله
332233درس في الإيثار
الباب السابع:من استنقذ من كرب و ضيق خناق،بإحدى حالتي عمد أو اتّفاق 334234محمد بن زيد العلويّ يضرب مثلا عاليا في النبل
340235بين الإسكندر و ملك الصين
ص:409
343236بين إسحاق الموصلي و غلامه فتح
344237أنسب بيت قالته العرب
346238تقلّد الإنفاق على عسكرين فأفاد في أقلّ من شهر سبعمائة ألف درهم
351239المأمون بخراسان ينقلب حاله من أشدّ الضيق إلى أفسح الفرج
355240طلب الولاية على بزبندات البحر و صدقات الوحش
357241المنصور يقتل مؤدّب ولده جعفر ظلما
360242مالك بن طوق يتزوّج المهنّاة بنت الهيثم الشيباني
363243بين ابن أبي البغل عامل أصبهان و أحد طلاّب التصرّف
365244بين جحظة البرمكي و محبرة بن أبي عبّاد الكاتب
368245تاجر خراسانيّ يجد الفرج عند صاحبه الكرخيّ
373246أضاع هميانه في طريق الحجّ و وجده أحوج ما يكون إليه
378247الوزير علي بن عيسى يقول:ليتني تمنّيت المغفرة
382248فتى ورث مالا فأتلفه ثمّ آل أمره إلى صلاح
387249أبو يوسف القاضي يأكل اللّوزينج بالفستق
389250الشيخ الخيّاط و أذانه في غير وقت الأذان
296251أحيحة بن الجلاح أكبّ على إصلاح ضيعته
397252مجلس غناء بمحضر الرشيد
403253الوليد بن يزيد يستقبل البريد بموت هشام
ص:410