آلاء الرّحمن في تفسير القرآن
من فضله جلت آلاؤه عَلَى عبده الضعيف الفقير إلى رحمته وعفوه محمد جواد البلاغي النجفي اعانه الرحمن بالتوفيق والتسديد وأنعم عليه بالحسنى والسعادة في الدنيا والآخرة انه ارحم الراحمين وخير المسؤولين
الجزء الاول
دار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
محرّر الرقمي: محمّد رادمرد
ص: 1
آلاء الرحمن في تفسير القرآن
وله الحمد وهو المستعان والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) سيد المرسلين وآله الطاهرين المعصومين صلوات اللّه عليهم اجمعين (وبعد) ففي فجر سعادة البشر و تبلج صبح الهدى ورسالته، اشرف نور القرآن الكريم على العالم من أفق الوحي على الرسول الأمين الصادع بأمر ربه. فكان باعجازه الباهر حجة على وحيه وبفضائله الفائقة دليلا على فضله وبسناه الوضاح هاديا الى اتباعه. يعرفك في كل باب من ابواب معارفه السامية انه تنزيل من رب العالمين. ولكن اختلاط اللسان واختلاف الزمان و تشعب الاهواء وتضارب الآراء أثارت من دون انواده غباراً وجعلت على البصائر من الجهل غشاوة. وقد اوجب اللّه على عباده أن ينصروا الحقيقة بالبيان ويجلوا غبار المشكوك بالحجة ويميطوا غشاوة الجهل بيد العلم الشافي. وقد نهض جماعة لتفسيره والارشاد الى منهج فهمه. فآثرت وانا الأقل محمد جواد البلاغي ان ألطفل في هذا الشأن واتقحم في هذا الميدان جاريا على ما تقتضيه أصول العلم متنكبا مالا حجة فيه من نقل الأقوال متحريا للاختصار مهما أمكن مستعينا باللّه ومستمداً من فضله وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت واليه أنيب. وقد سميت الكتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) وجعلت للمقصود مقدمة فيها فصول وخاتمة
ص: 2
المعجز هو الذي يأتي به مدعي النبوَّة بعناية اللّه الخاصة خارقاً للعادة وخارجاً عن حدود القدرة البشرية وقوانين العلم والتعلم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي وحجته في دعواه النبوَّة ودعوته
ودلالته على صدق النبي في دعواه ودعوته ليس إلا ان مدعي النبوَّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفاً بالأمانة معروفاً بصدق اللهجة والاستقامة لا يخالف العقل في دعوته وأساسيانها لم يجز عقلاً اظهار المعجز على يده إلا إذا كان صادقاً في دعوى النبوَّة ودعوتها. الاترى انه لو كان مع صفاته المذكورة كاذباً في دعواه لكان اظهار المعجز على يده وتخصيص اللّه له بالعناية اغراء للناس بالجهل وتوريطاً لهم في متاهات الضلال وهذا قبيح ممتنع على جلال اللّه وقدسه
توضيح ذلك
هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء والعصبية إذا ظهر لهم صلاح الشخص وصدقه وامانته واستقامته فيما يعرفونه من احواله وأطواره توسموا بباطنه الخير وان باطنه موافق لظاهره في الصلاح. وكلما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلا انه مهما يكن من ذلك فإنه لا يبلغ بهم مرتبة العلم وثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه وتبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له ولا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته، بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا وشمالا لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز وخارق العادة حصل العلم الثابت واطمئنت النفوس السليمة بصدقه وعصمته في دعواه وما يأتي به في دعوته. ويثبت اليقين وينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلالة اللّه وقدسه في مثل هذه المزلقة ان يظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره.
فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة المدلس على تدليسه ومشاركة له في اغوائه واغراء للناس في الجهل الضار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواء ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه
ص: 3
ولا يخفى أن حصول الفائدة المذكورة من تنوُّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب اختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب انه خارق للعادة لا يكون إلا بإرادة إلهية خاصة ويكون في بعض الشعوب معرضاً لشك او الجحود لاعجازه وخرقه للعادة
كان في عصر موسى النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية. ولأجل ذلك اقتضت الحكمة ان يحتج عليهم بمعجزة العصا التي القاها موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول ولم يبق الحبالهم وعصيهم عين ولا اثر فانهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أن امر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشرية ولذا آمن السحرة بأن أمرها من اللّه تعالى
وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطب فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم انه من بركات الكهنة والآثار الروحية وإن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والاعمى والأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب و مراغم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلا بقدرة اللّه تعالى
وأما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعاً منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرب والمكتشف والداخلة تحت سطيرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون
ص: 4
إلا بإعجاز إلهي. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له او سماعهم به يسبق الى اذهانهم ويستحكم في حسبانهم انه من السحر او من مهارة اهل البلاد الأجنبية في الصنائع وتقدمهم في العلوم واسرار الطبيعيات وقوانينها. ولا يذعنون بأنه معجزا لهي بل يسوقهم شك الجهل الى الجحود خصوصا اذا كان ذلك يحتج به النبي على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية واهواء الجهل
نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدموا فيها تقدماً باهراً حتى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل واينعت حدائقه وفاق بجده وقرروا له المواسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقي فيه. فرقت بينهم صناعته إلى اوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها واحاطوا باطرافها وحد دوا. قدورها. فعاد المرء منهم جد خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداء إلا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة
ولذا اقتضت الحكمة الإلهية «ولله الحكمة البالغة» ان يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون والذي عليه المدار في الحجة لرسالة خاتم النبيين وصفوة المرسلين صلوات اللّه عليهم اجمعين. فانه يكون حجة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الاتيان بمثله او بسورة من مثله. وبخضوعهم لاعجازه وهم الخبراء في ذلك يكون ايضا حجة على غيرهم في ذلك. وانه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتم فائدة المعجز على وجهها
مضافا الى انه امتاز عن غيره من المعجزات وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوَّة والرسالة ودعوتها «فمن ذلك» انه باق مدى السنين ممثل بصورته ومادته لكل من بريد أن يطلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو باد في كل آن ومكان لكل من يطلب الحجة على النبوَّة والرسالة ويريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق ولا تحتاج معرفة حقيقته ووجه اعجازه الى اساطير النقل ومماراة قال او قبل. فلا يحتمل أمره. إنه دبرت دعواه بليل. ولا يستراب من أمره باحتمال التمويه
ص: 5
بل ينادي هو بنفسه في كل زمان ومكان (هذا جناي وخياره فيه) وكله خيار فائق متفوق «ومن ذلك» انه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفل بالاثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجة على الرسالة الخاصة وشهادة اعجازه لها. ولم يوكل أمر ذلك الى غيره مما يختلج فيه الريب وتعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته : فالتفت واعرف ذلك من أمور
(الأول) انه تكفل ببيان دعوى النبي للنبوَّة والرسالة في سائر النبوّات
(الثاني) انه تكفل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوَّة والرسالة فلم تبقى حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها
(الثالث) انه تكفل في صراحته المتكررة ببيانه الكمالات مدعى رسالته وأطرى بصلاحه وأخلاقه الفائقة كما هو معروف. فهد المقدمات اللازمة في البيان وصورة الاحتجاج بانه لو كان كاذبا لكان ظهور المعجزة له من الاغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال اللّه وقدسه تعالى شأنه. واليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة. ففي سورة الاعراف (157 : «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا» وسورة النجم المكية من الآية الثانية الى الخامسة «مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» وفي سورة الفتح «29 : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» وفي سورة الأحزاب «40 : مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» وفي اوائل سورة القلم المكية «مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» وفي سورة الاعراف «156 : يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» و في سورة الأحزاب «44 و 45 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا»
(الأمر الرابع) انه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوَّة إذ بين مواد الدعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيها واخلاقيها واجتماعيها وسياسيها يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعا عن النبوَّة وفي سورة الاسراء المكية «9 : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» ودونك القرآن الكريم وحقق وتبصر وتنور فيما تضمنه من هذه المواد الشريفة «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»
فلا
ص: 6
(الأمر الخامس) انه زاد على كونه معجزاً بنفسه بأن كرر النداء والمصارحة في الاحتجاج باعجازه وتحدي الناس واعلن بالحجة وهتف بهم هتافاً مكرراً مؤكداً بأن يعارضوه لو لم يكن معجزاً ويأتوا بمثله أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله ان كان مما تناله قدرة البشر المحدودة وقد نادى بقرار الإنصاف والمماشاة وجعل لهم ان أتوا بعشر سور او سورة من مثله أن تسقط عنهم هذه الدعوى ويستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم وبدعوا من يستطيعون عقلا ان يدعوه من دون اللّه لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلا. جعل لهم ذلك من باب الماشاة والمجاراة في الحجة تعليقاً على المستحيل ولهم في ذلك المهلة والأناة ليعدوا عدنهم في المظاهرة والتعاون ففي سورة هود المكية «16 : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 17 : فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» وفي سورة يونس المكية «39 : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» وفي سورة البقرة «21 : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» فيما تدعونهم وتصفونهم به «32 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي» وفي سورة الاسراء الملكية. «9: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» هذا وقد مضت لهم عدة أعوام ودعوة الرسالة والاعذار والإنذار والاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم وهم في أشد الضجر من ذلك والكراهية له والخوف من عاقبته. وفي أشد التألم من آثار الدعوة وتقدمها وظهورها. وفي اشد الرغبة في اهوائهم وعاداتهم الوحشية ورئاساتهم والعكوف على معبوداتهم ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئا من القرآن الكريم ولو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجتهم وتسقط عنهم حجة الرسول ويستريحوا من عناهم وقلقهم وآلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانية وهددت رئاساتهم الوحشية وتشريعاتهم الأهوائية وفرقت بين الأب منهم وبنيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه والقريب وقريبه و كدرت صفائهم ونافرت بين عواطفهم. وقد سامهم في دعوته اصلاحا وخضوعا لم يكونوا يحتسبونه ولم يجدوا لذلك حيلة إلا الجحود السخيف والعناد الشديد وقساوة الاضطهاد والاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمردهم بالمثابرة الوحشية فاقتحموا فيها الأهوال وتجشموا المصاعب وقتال الأقارب والاخوان ومقاساة الشدائد وذلة المغلوبية. فلماذا
ص: 7
لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات او اكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ولو سورة واحدة ويفاخروا الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدوها لمثل ذلك فتكون لهم الحجة والانتصار في الحكومة وقرار النصفة وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة وتهديدها لضلالهم. فلماذا لم يفعلوا ذلك والقرآن والرسول قد دعواهم إلى ذلك تعجيز او هم هم وينابيع فصاحتهم وبلاغتهم غزيرة. وغرائزهم في الأدب العربي متدفقة، وقرائحهم سيالة ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم. وأسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة النامة والمهارة الفائقة والرقي المعروف وللّه الحجة البالغة
ولو كان هناك أقل قليل من المعارضة والإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال ناراً على علم. واحتفلت فيه ألوف الألوف من اضداد الإسلام والقرآن. ولسجلته دواوينهم في أقطار الأرض وأجيال الأمم. وتلقوه بأحسن ابتهاج، وصالوا به أكبر صولة لأنه الفيصل السلمي والحجة الأدبية التي ما فوقها حجة لهم في الجدل والبرهان. ولكن هل سمعت أن أحداً نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. وإن أمر ذلك بمعزل عن داخلية الإسلام لكي يقال انه أخفته شوكة المسلمين او دسائس تواطيهم. بل إن بذرته ومغرسه وسوره وحفظه وحياطنه ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من انصاره اضداد الإسلام والقرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ألا ترى انه بعد أن ضرب الإسلام بجرأته في جزيرة العرب بقي في اليمن وسوريا والعراق كثير من اليهود والنصارى وأمثالهم وهم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية ويتكلم بها ويتأدب بآدابها. وأضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول وبعده. فهل يخفى على هؤلاء ما هوضاً لتهم المنشودة. وسلاح سطوتهم. وعدة صولتهم وأقطع حجة لهم واكبر مدافع عن أديانهم. فإنه لا عطر بعد عرس ولكن ماذا يصنعون بالعدم. وعدم القدرة من المتأخر على الاختلاق
ومما يشهد لما ذكرناه ويجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أن اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدثين والمفسرين فدست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق وخرافة سبب النزول في آية التمني من سورة الحج كما نجده في اكثر التفاسير. فلوثت ق---دس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بما شاءت وسنحت به لها الفرصة، وكذا قدس جميع الأنبياء والمرسلين في
ص: 8
حديثهم. وتلاوتهم بحيث لا يبقى بهم ادنى وثوق في ذلك (1)
هذا في وجهة الاعجاز الذي تقوم به الحجة على العرب. وان للقرآن المجيد ايضا وجوهاً من الإعجاز ما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد اذا اطلع عليها. وهي عديدة نشير إلى بعض منها في هذا المختصر
لا نقول بذلك بمحض اخباره عن الحوادث الماضية والأمم الخالية وإن كان رسول اللّه الذي جاء به لا يقرأ ولا يكتب ولم يدخل مدرسة ولم يمارس تعلماً. كما هو المعلوم من تاريخ حياته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). فإنه يمكن ان يقال ان هذا الإخبار المذكور ممكن في العادة لنوع البشر وان كان معرضا للعثرات التي لا تقال. بل نقول ان القرآن الكريم اشترك في تاريخه في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على انها كتاب اللّه المنزل على رسوله موسی فأوردت هذه التوراة تلك القصص وهي مملوءة من الخرافات أو الكفر أو عدم الانتظام الذي تشابه فيه كلام المبتلى بالبرسام : فمن ذلك قصة آدم في نهى اللّه له عن الأكل من الشجرة وما فيها من الخرافات والكفر بنسبة الكذب والخداع إلى اللّه جل وعلا وسائر شؤون القصة على ما جاء في الفصل الثالث من سفر التكوين : ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منه من شك ابراهيم في وعد اللّه له بأعطائه الأرض في سوريا ومن ذكر العلامة في ذلك : ومن ذلك ما جاء في الفصل الثامن عشر والتاسع عشر في مجيء الملائكة إلى ابراهيم بالبشرى با سحق واخباره بأمر هلاك قوم لوط ومن حكاية ذهابهم إلى لوط و خطابهم معه. ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج في خطاب اللّه لموسى من الشجرة وفي أواخره ما حاصله ان اللّه جل شأنه افتتح الرسالة لموسى بالتعليم بالكذب : ومن ذلك ما جاء في الفصل الثاني والثلاثين في سفر الخروج في ان هارون هو الذي عمل العجل ليكون إكلها لبني اسرائيل ودعى لعبادته وبنى له رسوم العبادة فانظر إلى هذه القصص في مواردها المذكورة من التوراة الرائجة - والقرآن الكريم اورد القصة الأولى في سورتي الاعراف وطه - والثانية في أواخر سورة البقرة - والثالثة في سورتي هود والذاريات - والرابعة في سورطه والنمل والقصص -
ص: 9
والخامسة في سورتي طه والأعراف فجاءت هذه القصص بكرامة الوحي الإلهي منزهة عن كل خرافة وكفر وعن كل ما ينافي قدس اللّه وقدس انبيائه. جارية على المعقول. منتظمة الحجة. شريفة البيان. وذلك مما يقيم الحجة ويوجب اليقين بأنه لا يكون إلا من وحي اللّه ولا يكون من بشر بما هو بشر مثل رسول اللّه الذي لم يمارس تعلماً في المعارف الإلهية ولم يتخرج عن مدرسة ولم يثرب إلا بين اعراب وحشيين وثنيين على أوحش جانب من الوحشية والوثنية. بل لو مارس جميع التعاليم وتخرج من جميع الكليات لما امكنه ان يتنزه وينزه معارفه وكلامه من أمثال هذه الخرافات الكفرية
لم يكن في ذلك العصر وما قبله إلا تعاليم اليهود والنصارى. وأساسها في الديانة مبني على ما أشرنا اليه من خرافات التوراة الرائجة فهم عكوف عليها في عبادتهم ومواسمهم وتعاليمهم ومدارسهم. أو تعاليم الوثنيين ومنهم قومه. تلك التعاليم الجهلية الخاسئة. اوتعاليم المجوس المتشعبة من كلا التعليمين المذكورين فإنه صلوات اللّه عليه او كان اخذ القصص المذكورة من ذات النوراة الرائجة بالاتقان أو من الروحانيين المسيطرين على تعليمها وأراد أن يتقول بها على الوحي تزلفاً أو مخادعة لهم ليستجيبوا إلى اتباع دعوته لأتى بها على ما في التوراة من الخرافة والكفر. ولو كان أخذها سطحياً من افواه الرجال كما يأخذ الأمي من ألسن العامة لزاد عليها أضعاف خرافاتها وكفرها كما تستلزمه وتوجبه اميته وتربيته وجهل قومه وبلاده ووحشيتهم ووثنيتهم لكن (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) إلى رسول لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من الرحلة المدرسية (1) وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعده أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى ايوب أشنع الاعتراض على اللّه والجزع من قضائه ونسبة الظلم اليه جل وعلا وطلب المحاكمة معه حتى انه صار يوبخ واعظيه والناهين له عن هذه الجرأة ويسفة رأيهم. ونسب الزنا إلى داود بأشنع وجه. ونسب إلى سليمان انه تمادى في تأييد الشرك باللّه والعبادة الأوثانية وكثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان. وقد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها وقلة مكتوبها فنسبت الى قدسه شرب الخمر وتكرر الكذب والأحوال المنافية للعفة وانتهاره لوالدته وقدحه في قداستها والقول بتعدد
ص: 10
الآلهة والأرباب وغير ذلك مما سنشير اليه. وجاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) بوحي قرآنه منزها لهؤلاء الأنبياء ومبرء الهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى (1) وعلى هذا النحو يجري الكلام ايضا فيما ذكر في التوراة والعهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال اللّه وقدس انبيائه وشرفهم وشرف عائلاتهم كما في خرافات اختباء آدم عن اللّه. وبرج بابل. وشأن لوط مع الخمر وابنتيه والمصارعة مع يعقوب ومخادعة يعقوب لأبيه وتكرر كذبه عليه. وقصة يهوذا مع كنته ثامار وولادة سبط يهوذا الذي منهم داود وسليمان وكثير من الأنبياء، وقصة امنون بن داود وابن عمه مع اخته ثامار وملاعب شمشون. ومشورة اللّه جل شأنه مع جند السماء في اغواء آخاب ملك اسرائيل (2)وكثير من ذلك
ولأجل ان القرآن الكريم كلام اللّه القدوس ووحيه لم يذكر شيئا من ذلك ولو كان من اختلاف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشرية واغراضها وتزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. وان البشر الذي يتطلب قصص العهدين ويذكرها في كلامه واغراضه لا يفوته ما أشرنا اليه
نهض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في الظلمات والجهل عصر والعمى. ولإرشادهم الى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على ارجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقل بصيص فجاء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في قرآنه بكثير غزير من الحجج الساطعة على أهم المعارف واشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمه نفعا في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على ارقى نحو يستلفت العامي الى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. والى سناء البديهيات فيجلوه لادراكه. ويجري بمؤدى تلك الحجج مع الفيلاسوف في قوانين المنطق وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتج على وجود الإله ولوازم الميته. وعلمه وقدرته. وتوحيده.
ص: 11
وعلى المعاد الجسماني. وعلى ان القرآن وحي الهي. وعلى صدق الرسول في دعوته فلا يكاد يوجد في شيء من هذه الحجج خلل عرفاني او وهن أدبي او شائبة اختلاف او شائنة من تناقض فإذا فرضت أي بشر يكون في ذلك العصر المظلم ومثلت نشأته وتربيته بين الأعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم والقاحلة من كل فضيلة في المعارف وانه لم يتعاط تعلما ولا تأدبا على معلم ولا قراءة مكتوب ولا دراسة كتاب علمت انه يمتنع عليه في العادة بما هو بشر وبلا وحي الهي اليه أن يأتي بيان المعارف الصحيحة والمناقضة للجهل العام في عصره وبيئته وقومه ويحتج عليها بتلك الحجج النيرة القيمة على ذلك المنهاج الممتاز بفضيلته
وإن شئت أن تزداد بصيرة فيما ذكرناه فانظر الى ما في الأناجيل مما نسبته الى احتجاجات المسيح وحاشا قدسه منه ومما ذكرته من الحجج الساقطة الفاسدة على أمور اكثرها ضلال او غلط كالاحتجاج على تعدد الآلهة وعلى تعدد الأرباب. وعلى المنع من الطلاق. وانظر الى ما اشتملت عليه من الغلط والتحريف. نعم ذكرت الاحتجاج على القيامة من الأموات ولكن ماذا جاءت به من الغلط والخبط في الحجة واحوال القيامة. وإن شئت الاطلاع على شيء من ذلك فانظر في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 112 - 116 و 197 و 205 والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 73 و 32 - 39
قد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقي في ابواب الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح من علم اللاهوت او الأخلاق او التشريع المدني والتنظيم الإداري او الفن الحربي. او البشري والترغيب بالجزاء او الانذار والتهديد بالنكال. او الحجج والأمثال. او تذكرة المواعظ والعبر. وجرى من ذلك في الميادين الشريفة بأحسن اسلوب واقوم منهج وبلغ في جميع ذلك اكرم الغايات واعلاها في الرقي وهو يكرر بحسب الحكمة كثيراً من قصصه ومقاصده وفي جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف ولاعثرة تناقض ولا وهن اضطراب ولا سقوط حجة ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان. وها هو بارز في جميع العالم لكل من يريد الهدى والفحص والتدبر ينادي بابهة الافتخار وجمال السداد وشوكة الاستظهار «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (1) «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ
ص: 12
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» (1) منتشرا في ابوابه ومقاصده. فهل يمكن في العادة أن يكون كل هذا من بشر قد ذكرنا لك عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم الوحشي الوثني ولك العبرة بكتب العهدين وهي التي منذ قرون عديدة يصفق لاستحسانها اكثر العالم المفتخر بالعلم والتمدن وينسبونها بكمال الاحتفال الى كرامة الوحي - فكم وكم يوجد فيها من الوهن والسقوط والاختلاف والتناقض وقد ذكر شيء من ذلك في كتب اظهار الحق والهدى. والرحلة المدرسية.
واعتبر ايضا بأن كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة اسبوعية وقد كثر فيها الخبط والتناقض والاختلاف الى حد مهول مدهش وقد ذكر شيء منه في الجزء الاول من كتاب الهدى صفحة 196 - 234 وايضا ان الأناجيل وكتب العهد الجديد مؤسسة على ان كتب العهدين الرائجة هي كتب وحي إلهي صحيحة. إذن فاعتبر بأنه كم وقع الاختلاف والتناقض بين الأناجيل والعهد الجديد وبين العهد القديم وقد ذكر شيء مما ذكرنا في الجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 132 - 184
قدر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بشراً عاديا في مثل ما ذكرناه مراراً في عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم وعاداتهم الوحشية. ثم انظر هل يمكن في العادة لمثل هذا البشر إذا لم يكن موحى اليه ان يأتي من عنده ومن بشريته بمثل ما أتى به في القرآن الكريم من الشريعة الحقوقية العادلة والقوانين القيمة والأنظمة المعقولة الجارية بأجمعها على ما هو الصالح للبشر في المدنية والاجتماع والسياسة والحرب ومقدماتها ونتائجها. وجرت في عنايتها بالاصلاح من ادارة جميع العالم إلى الإدارة العائلية والبيئية والزوجية بل وإلى شؤون الكاتب والشاهد كما في سورة البقرة آية 282 فمنعت فيها من حضارة الكاتب والشاهد ونهت عن ان يحملا من أجل الكتابة والشهادة وادائها ضرر المشقة والعناء وتضييع وقت اكثر من الوقت الطبيعي لمحض الاداء. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. واليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع والقوانين العامة والخاصة واعتبر بكرامتها ومجدها في التشريع الفائق والاصلاح الحميد. ولا تحتاج معرفة مجدها وكرامتها إلى المقايسة والاعتبار بشرائع قطره وقومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود
ص: 13
والنصارى في اجيالهم في اكثر من خمسة وعشرين قرنا ويعدونها كتاب وحي إلهي مقدس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم وأوضاعها. وشريعة امرأة الأخ الميت. وتفلتها وولدها البكر من الأخ الثاني. وشريعة من ادعى زوجها انه لم يجد لها عذرة. وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب فإنك تعرف ان هذه الشرائع لا تكون إلا من بشر سخيف قاس وتزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه وإنه لا يكون الا من وحي الهي وقد اشير الى شيء مما ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة 280 - 292 والجزء الأول من الرحلة المدرسة صفحة 29 و 79 - 82 وانظر إلى العهد الجديد والغائه لنظام المدنية والأخذ أمام الظلم والعدوان بحيث ترك العالم بلا نظام رادع ولا شريعة تأديب عادلة فانك تزداد بصيرة بأن المتقول على الوحي في أمر التشريع لا بد له من ان يسقط سقطة تشوه التاريخ وتان منها الحقائف جزعاً. فاعرف اذن اعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي
وإذا نظرت إلى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل في الأمة وسوء الأعمال وعدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنك ترك هذه الأمور لها اثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة والانحراف عن جادتها والخبط في معرفتها وتمييز جدودها. فلا ترد البشر إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام والجيل المظلم والقطر الولي من نزغات الأهواء. ولئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الاخلاق لم يهتد السبيل في قوله وعمله إلا إلى شيء يشير اليه التداول بين جملة من الناس ولئن تكلف المتفلسف شيئا من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطا غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت فيه العثرات
ومن بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره وأتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في تلك الظلمات بشر من عند نفسه وتقولاً على الوحي فجاء في اجماله وتفصيله مستقصياً للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحث على التزين بها بما توجيه الحكمة من البعث والترغيب. ومحصباً للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الإصلاح من الارهاب والتنغير. واقام لذلك في العالم اشرف مدرسة زاهرة واعلا فلسفة مرشدة وابلغ خطابة واعظة
ص: 14
واليك بعضا من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل : 92 «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ». ومن سورة الفرقان ما في الآية الرابعة والستين الى الخامسة والسبعين. ومن سورة المعارج ما في الآية الثالثة والعشرين الى الثالثة والثلاثين. ومن سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. وغير ذلك مما لا يكاد أن تخلو منه سورة او يتخطاه تعليم او یجابی به قوم دون قوم او يتجاوز بالافراط الى التفريط والاخلال بنظام المدنية وراحة الاجتماع ولك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقية ولكن لأنها تلفيق و اختلاف بشري كدرت ما فيها من ذلك الوشل وذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني اسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم ونهتهم عن الحقد على ابناء شعبهم وعن السعي بالوشاية وعن شهادة الزور على قريبهم وأن يغدر احدهم بصاحبه، ويا للأسف على شرف هذا الأمر والنهي إذ شوهت جماله بتخصيص تعليمها لبني اسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهي عنه بالقريب والشعب والصاحب.
ولك المبرة ايضا بأن الأناجيل الرائجة قد افرطت بتصوفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعية ودفاع الظالمين بل علمت بأن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر ايضا ومن اراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا ومن اخذ الذي لك فلا تطالبه
فلوثت بافراطها البشري قدس تعاليم المسيح المتلقاة من الوحي الإلهي
وقد تكرر في القرآن معجزه في اخباره بالغيب اخبارا يقتضي التكهن والفراسة خلافه من حيث النظر الى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية وما يجري من النكال والتشريد والجفاء على مابيها. فمن ذلك قوله في سورة الحجر المكية في الأمر لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بالاعلان بالدعوة والبشرى بنجاحها وارغام معانديها ومعارضيها وكان ذلك عند طغيان الشرك واستفحاله وهيجان المشركين على رسول اللّه «94 فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: 95 إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ: 96 الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» وقد كفاه اللّه اشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. وقد بان للمشركين وعلموا
ص: 15
ما في قوله تعالى في آخر الآية فسوف يعلمون. وقوله في سورة الصف المكية في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك والمشركين «9 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» فأظهره على الدين أعز اظهار ارغمت به آناف المشركين. ومن الاخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم «غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ» فغلبت الروم فارس و دخلت مملكتها قبل مضي عشر سنين وقوله تعالى في سورة تبت في شأن ابي لهب وامرأته «سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» وهو اخبار بأنها يموتان على الكفر ولا يحظيان بسعادة الاسلام الذي يكفر عنها أقام الشرك ويحط اوزاره فمانا على الكفر كما اخبر به اخبارا حتميا
ولك العبرة في ذلك بأن انجيل متى ذكر اخباراً واحداً غيبياً للمسيح وهوائه يبقى مدفونا في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولكن ما برح انجيل متى أن كذب في أواخره هذا الاخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأخر على ان المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت وخرج عن قبره. وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر الا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد وذلك نهار وليلتان
هذا وإني عند مقايستي للقرآن الكريم بما ينسب إلى الوحي الالهي من كتب الأمم المندينة ومنهم البراهمة والبوذيون وغيرهم لم يحضر عندي الاكتب العهدين فلا ينبغي ان يجعل مقايستي بها تحاملا على خصوص اليهود والنصارى. ولي العذر في ذلك فإنه لا يصح للإنسان ان تأخذه في خدمة الحق وايضاح الحقيقة وتأييدها لومة لائم او يصده عذل عاذل. فإن خدمة الحق نصرة للبشر جميعا واللّه المستعان
هذا شي قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر اكثر من ذلك. وهب ان الوساوس تنقحم على الحقائق وتغالط الاذهان بواهيات الشكوك في الاعجازي مض آحادها ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. وهل يسوغ لذي الشعور ان يختلج في ذهنه الشك في اعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة وخروجه عن طوق البشر مطلقا وخصوصاً في ذلك العصر وتلك الأحوال وهل يسمح عقله الا بأن يقول (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)
ص: 16
لم نزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح والمقتضيات المتجددة آناً فاناً يتدرج في نزوله نجوما (1) الآية والآيتان والأكثر والسورة. وكلما نزل شيء هفت الي---ه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وهبوا الى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الاقبال وأشد الارتياح. فتلقوه بالابتهاج وتلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر اللّه والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى اللّه وقرآنه. وتناوله حفظهم بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوة الحافظة الفطرية واثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينئذ هو التجمل والتكمل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم. لكي يتبصر بحججه ويننور بمعارفه وشرائعه وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجة الدعوة. ومعجز البلاغة. ولسان العبادة لله. ولهجة ذكره. وترجمان مناجاته. وانيس الخلوة. وترويح النفس. و درساً للكمال. وتمرينا في التهذيب. وسلماً للترقي. وتدرباً في التمدن. وآية الموعظة. وشعار الإسلام. ووسام الإيمان والتقدم في الفضيلة. واستمر المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان الرسول يعدون بالألوف وعشراتها ومئاتها. وكلهم من حملة القرآن وحفاظه (2) وإن تفاوتوا في ذلك بحسب
ص: 17
السابقة والفضيلة.. هذا ولما كان وحيه لا ينقطع في حياة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن كله مجموعا في مصحف واحد وإن كان ما أوحي منه مجموعاً في قلوب المسلمين وكتاباتهم له .. ولما اختار اللّه لرسوله دار الكرامة وانقطع الوحي بذلك فلا يرجى للقرآن نزول تتمة رأى المسلمون ان يسجلوه في مصحف جامع فجمعوا مادته على حين اشراف الألوف من حفاظه ورتاب---ة مكتوباته الموجودة عند الرسول وكتاب الوحي وسائر المسلمين جملة وابعاضا وسورا (1) نعم لم يترتب على ترتيب نزوله ولم يقدم منسوخه على ناسخه (2) فاستمر القرآن الكريم على هذا الاحتفال العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ترى له في كل آن الوفا مؤلفة من المصاحف والوفا من الحفاظ ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ويسمع بعضهم من بعض. تكون الوف المصاحف رقيبة على الحفاظ، وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منهما، نقول الألوف ولكنها مئات الألوف والوف الألوف. فلم يتفق الأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد اللّه جلت الاؤه بقوله في سورة الحجر «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» وقوله في سورة القيامة «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» ولئن سمعت في الروايات الشاذة شيئا في تحريف القرآن وضياع بعضه فلا تقم لتلك الروايات وزناً، وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين وفيما جاءت به في مروياتها الواهية
ص: 18
من الوهن. وما الصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به واستمع من ذلك لأمور
(الأمر الأول) جاء فيها ان ابا بكر هو الذي أدى رأيه اولاً الى جمع القرآن وهو الذي طلب من زيد بن ثابت جمعه فنقل ذلك عليه فلم يزل ابو بكر يراجعه حتى قبل. وجاء فيها ايضا ان زيداً هو الذي أدى رأيه اولاً الى جمع القرآن وعزم عليه وكام في ذلك عمر فكلم فيه عمر ابا بكر فاستشار ابو بكر في ذلك المسلمين. وجاء فيها ايضا ان ابا بكر هو الذي جمع القرآن. وجاء فيها ان عمر قتل ولم يجمع القرآن. وجاء فيها ان عثمان هو الذي جمع القرآن في ايامه بأمره. وجاء فيها ان عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت وسعيد بن العاص لما أراد جمع القرآن أن يملي زيد و يكتب سعيد. وجاء فيها ان ذلك كان من عثمان في ايامه وبعد قتل عمر. وجاء في ذلك ايضا ان الذي يملي ابي بن كعب وزيد يكتبه وسعيد بعربه. وفي رواية أخرى ان سعيداً وعبد اللّه بن الحرث يعربانه : هذا بعض حال هذه الروايات في تعارضها واضطرابائها، ومن جملة ما جاء فيها ما مضمونه ان براءة آخر ما نزل من القرآن فما ترى لهذه الرواية من القيمة التاريخية. فانظر الى الجزء الأول من كنز العمال ومنتخبه اقلا
(الثاني) في الجزء الخامس من مسند احمد عن أبي بن كعب قال ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال ان اللّه أمرني ان اقرأ عليك القرآن قال فقرأ «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» فقرأ فيها «لو ان ابن آدم سأل وادياً من مال فاعطيه لسأل ثانيا فلو سأل ثانيا فاعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب وان ذلك الدين القيم عند اللّه الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيراً فلن يكفره». وفي رواية الحاكم في المستدرك ورواية غيره ايضا «ان ذات الدين عند اللّه الحنيفية لا المشركة» وفي رواية «غير المشركة» الى آخره وعن جامع الأصول لابن الأثير الجزري «ان الدين عند اللّه الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية» وذكر في المسند ايضا بعد هذه الرواية عن أبي قال قال لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان اللّه أمرني ان اقرأ عليك فقرأ علي «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا
ص: 19
مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ إن الدين عند اللّه الحنيفية لا المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره» قال شعبة ثم قرأ آيات بعدها ثم قرأ «لو ان لابن آدم واديين من مال لسئل واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب». قال ثم ختمها بما بقي منها انتهى. وهذه الروايات رواها ايضا ابو داود الطيالسي وسعيد بن منصور في سننه والحاكم في مستدركه كما في كنز العمال. وذكر في المسند ايضا عن ابي واقد الليثي قال كنا نأتي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إذا أنزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم ان اللّه عز وجل قال «إنا أنزلنا المال لاقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون له ثاني ولو كان له واديان لأحب أن يكون لهما ثالثا ولا يملاً جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب اللّه على من تاب انتهى. هب ان المعرفة والصدق لا يطالبان المحدثين «ولا نقول القصاص» ولا يسئلانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون انه من القرآن ولا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن وعلو شأنه فيها وبين انحطاط هذه الفقرات. ولكن أليس للمعرفة أن تسألهم عن الغلط في قولهم «لا المشركة» فهل يوصف الدين بأنه مشركة. وفي قولهم «الحنيفية المسلمة» وهل يوصف الدين او الحنيفية بأنه مسلمة وقولهم «ان ذات الدين وفي قولهم إنا أنزلنا المال لاقام الصلاة» ما معنى انزال المال. وما معنى كونه لإقام الصلاة. هذا واستمع لما يأتي ففي الجزء السادس من مسند احمد مسندا عن مسروق قال قلت لعائشة هل كان رسول اللّه يقول شيئا إذا دخل البيت قالت كان إذا دخل البيت تمثل لو كان لابن آدم و ادیان من مال لا بتغى واديا ثالثا ولا يملأ فمه الا التراب وما جعلنا المال إلا لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وينوب اللّه على من تاب. وفي الجزء السادس في اسناده عن جابر قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لو ان لابن أدم واديا من مال لتمنى واديين ولوان له واد بين لتمنى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وبإسناده ايضا قال سئل جابر هل قال رسول اللّه لو كان لا بن آدم وادر من نخل تمنى مثله حتى يتمنى أودية ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب انتهى. وهل تجد من الغريب او الممتنع في العادة ان يكون لابن آدم واد من مال أو من نخل. او ليس في بني آدم في كل زمان من ملك واديا من ذلك بل واديان. اذن فكيف يصح في الكلام المستقيم أن يقال لو كان لابن آدم لو ان لابن آدم او لېست او للامتناع. ياللعجب من الرواة لهذه الروايات ألم يكونوا عربا أو لهم المام باللغة العربية. نعم يرتفع هذا الاعتراض
ص: 20
بما رواه أحمد في مسند ابن عباس لو كان لابن آدم واديان من ذهب وكذا ما يأتي من رواية الترمذي عن انس. وايضا إن تمنى الوادي والواديين والثلاث ليس بذنب يحتاج إلى التوبة إذن فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة «ويتوب اللّه على من تاب» وإن شئت ان تستزيد مما في هذه الرواية من التدافع والاضطراب فاستمع إلى ما رواه الحاكم في المستدرك ان ابا موسى الأشعري قال كنا نقرأ سورة نشبهها بالطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير اني حفظت منها او كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وذكر في الدر المنثور انه أخرجه جماعة عن ابي موسى. وأضف إلى ذلك في التدافع والتناقض ما اسنده في الاتقان عن ابي موسى ايضا قال نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها ان اللّه سيويد هذا الدين بأقوام لاخلاق لهم ولو ان لا بن آدم واديين لتمنى إلى آخره. واسند الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لو كان لا بن آدم واد من ذهب لأحب ان يكون له ثان ولا يملاً فاه إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب. وها انت ترى روايات عائشة وجابر وانس وابن عباس تجمل حديث الوادي والواديين من قول رسول اللّه وتمثله. فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. ومع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدمة مما يجب ان ينزه عنه ودع عنك الاضطراب الذي يدع الرواية مهزلة
(الأمر الثالث) ومما الصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت كنا نقرأ آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي الرواية عن ذر عن ابي ان سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة او هي أطول منها وان فيها أو في أواخرها آية الرجم وهي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم» وفي رواية السياريه من الشيعة عن ابي عبد اللّه بزيادة قوله بما قضيا من الشهوة. وفي رواية الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد عن عمر كما سيأتي «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» وفي رواية ابي امامة ابن سهل ان خالته قالت لقد أقرأنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) آية الرجم «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» ونحو ذلك رواية سعد بن عبد اللّه وسليمان بن سعد بن عبد اللّه وسليمان بن خالد من الشيعة عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن وكرامته ان يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة بدون ان يذكر السبب وهو زناهما اقلاً فضلا عن شرط
ص: 21
الإحصان. وان قضاء الشهوة أعم من الجماع والجماع اعم من الزنا والزنا يكون كثيراً مع عدم الاحصان. سامحنا من يزعم ان قضاء الشهوة كتابة عن الزنا بل زد عليه كونه مع الاحصان ولكنا نقول ماوجه دخول الفاء في قوله «فارجموهما» وليس هناك ما يصحح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر ولا على وجه يصح تقديره وإنما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور «والزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا» لأن كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ. والزنا بمنزلة الشرط. وليس الرجم جزاء للشيخوخة ولا الشيخوخة سببا له. نعم الوجه في دخول هو الدلالة على كذب الرواية. ولعل في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله هل يقولون في القرآن رجم. وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد ان يقيد الأمر بالشيخ والشيخة مع اجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى. وان يطلق الحكم بالرجم مع اجماع الأمة على اشتراط الاحصان فيه. وفوق ذلك يؤكد الاطلاق ويجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة والشهوة الذي يشترك فيه المحصن وغير المحصن. فتبصر بما سمعته من الندافع والتهافت والخلل في رواية هذه المهزلة. واضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ والمستدرك ومسدد وابن سعد من ان عمر قال قبل موته بأقل من عشرين يوما فيما يزعمونه من آية الرجم لولا ان يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب اللّه لكتبتها «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة» واخرج الحاكم وابن جرير وصححه ايضا ان عمر قال لما نزلت اتيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فقلت اكتبها «وفي نسخة كنز العمال» اكتبنيها فكأنه كره ذلك. وقال عمر الا ترى ان الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد وان الشاب إذا زنا وقد احصن رجم. فالمحدثون يروون ان عمر يذكر ان رسول اللّه كره ان تكتب آية منزلة وعمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم. وفي الاتقان أخرج النسائي ان مروان قال لزيد بن ثابت ألا تكتبها في المصحف قال ألا ترى ان الشابين الثيبين يرجمان وقد ذكرنا ذلك لعمر فقال أنا اكفيكم فقال يا رسول اللّه اكتب لي آية الرجم قال لا تستطيع انتهى. فزيد بن ثابت يعترض عليها. ولما رأوا التدافع بين قول عمر اكتبهالي وبين قول النبي لا تستطيع قالوا أراد عمر بقوله ذلك أذن لي بكتابتها وكأنهم لا يعلمون ان عمر عربي لا يعبر عن قوله إذن لي بكتابتها بقوله اكتبها لي ومع ذلك لم يستطيعوا ان يذكروا وجها مقبولا لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لا تستطيع. وفي رواية في كنز العمال عن ابن الضريس عن عمر قلت لرسول اللّه اكتبها يا رسول
ص: 22
اللّه قال لا استطيع. واخرج ابن الضريس عن زيد بن اسلم ان عمر خطب الناس فقال لا تشكوا في الرجم فإنه حق ولقد هممت ان اكتبه في المصحف فسألت ابي بن كعب فقال اليس اتيتني وانا استقرئها رسول اللّه فدفعت في صدري وقلت كيف يستقرئه آية الرجم وهم يتساف---دون تسافد الحمر انتهى. فهذه الرواية تقول ان عمر لم يرض بانزال شي في الرجم. وليت المحدثون يفسرون حاصل الجواب من ابي لعمر وحاصل منع عمر لا بي عن استقرائها، واخرج الترمذي عن سعد بن المسيب عن عمر قال رجم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ورجم ابو بكر و رحمت ولولا اني اكره ان ازيد في كتاب اللّه لكتبته في المصحف. نعم يقول ان كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب اللّه وهو يكرهها - فقابل هذه الروايات الأربع احداهن بالأخرى واعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدثين. وإذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال صحيفة : 90 و 91 فانك تزداد بصيرة في الاضطراب والخلل
هذا ومما يصادم هذه الروايات ويكافحها ماروي من أن عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال اجلدها بكتاب اللّه وارجمها بسنة رسونه كما رواه احمد والبخاري والنسائي وعبد الرزاق في الجامع والطحاوي والحاكم في مستدركه وغيرهم. ورواه الشيعة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرسلاً فعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشهد بأن الرجم من السنة لا من الكتاب
الأمر الرابع
مما الصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في الاتقان والدر المنثور انه اخرج الطبراني والبيهقي وابن الضريس ان من القرآن سورتين «وقد سماها الراغب في المحاضرات سورتي القنوت» ونسبوهما الى تعليم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقنوت عمر ومصحفي ابن عباس وزيد بن ثابت وقراءة أبي وابي موسى (والأولى منهما) بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك انتهى.
لا نقول لهذا الراوي ان هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن ولا سوقه فانا نسامحه في معرفة ذلك ولكنا نقول له كيف يصح قوله يفجرك وكيف تتعدى كلمة يفجر وايضا ان الخلع يناسب الأوثان إذن فماذا يكون المعنى وبماذا يرتفع الغلط (والثانية منها) بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد واليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدان عذابك بالكافرين ملحق انتهى ولتسامح الراوي ايضا فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى
ص: 23
ولكنا نقول له ما معنى الجد هنا أهو العظمة او الغنى او ضد الهزل او هو حاجة السجع نعم في رواية عبيد نخشى نقمتك وفي رواية عبد اللّه نخشى عذابك وما هي النكتة في التعبير بقوله ملحق. وما هو وجه المناسبة وصحة التعليل لخوف المؤمن من عذاب اللّه بأن عذاب اللّه بالكافرين ملحق بل ان هذه العبارة تناسب التعليل لأن لا يخاف المؤمن من عذاب اللّه لأن عذابه بالكافرين ملحق
الأمر الخامس
ومما الصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب عن كتاب دبستان المذاهب انه نسب الى الشيعة انهم يقولون ان احراق المصاحف سبب اتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) واهل بيته (عَلَيهِ السَّلَامُ) «منها» هذه السورة وذكر كلاما يضاهي خمسا وعشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على اسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة اسلوبه الملفق فمن الغلط «واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أو آئك في خلفه» ماذا اصطفى من الملائكة وماذا جمل من المؤمنين وما معنى أولئك في خلقه. ومنه «مثل الذين يوفون بعهدك اني جزيتهم جنات النعيم» ليت شعرى ما هو مثلهم. ومنه «ولقد ارسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل» ما معنى هذه الدمدمة وما معنى با استخلف وما معنى فبغوا هارون ولمن يعود الضمير في بغوا ولمن الأمر بالصبر الجميل. ومن ذلك «ولقد اتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون» ما معنى اتينا بك الحكم ولمن يرجع الضمير الذي في منهم ولعلهم. هل المرجع للضمير هو في قلب الشاعر. وما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون. ومن ذلك «وان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون» قل ما محل قوله هل يستوي الذين ظلموا وما هي المناسبة له في قوله وهم بعذابي يعلمون. ولعل هذا الملفق تختلج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة والثانية عشرة من سورة الزمر وفي آخرها «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» فأراد الملفق أن يلفق منهما شيئا بعدم معرفته فقال في آخر ما لفق هل يستوي الذين ظلموا ولم يفهم انه جي بالاستفهام الانكاري في الآيتين لأنه ذكر فيهما الذي جعل اللّه انداداً ليضل عن سبيله والقانت آناء الليل يرجو رحمة ربه فهما لا يستويان ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.
ص: 24
وان صاحب فصل الخطاب من المحدثين المكثرين المجدين في التتبع الشواذ وانه ليعد امثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالته المنشودة ومع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من این جا بنسبة هذه الدعوة إلى الشيعة. و في أي كتاب لهم وجدها أفهكذا يكون النقل في الكتب ولكن لا عجب (شنشنة أعرفها من أخزم) فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني ومقدمة ابن خلدون وغير ذلك مما كتبه بعض الناس في هذه السنين واللّه المستعان
ولا يخفى ان شيخ المحدثين والمعروف بالاعتناء بما يروى وهو الصدوق طاب ثراه قال في كتاب الاعتقاد. اعتقادنا ان القرآن الذي انزله اللّه على نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هو ما بين الدفتين وليس بأكثر من ذلك ومن نسب الينا انا نقول انه اكثر من ذلك فهو كاذب انتهى. وحمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه أخر. وفي أواخر فصل الخطاب من كتاب المقالات للشيخ المفيد (قدّس سِرُّه) إنه قال جماعة من أهل الإمامة انه (أي القرآن) لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله. وعن السيد المرتضى (قدّس سِرُّه) قوله بعدم النقيصة وان من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من اصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنوا صحتها. وفي اول التبيان الشيخ الطوسي (قدّس سِرُّه) أما الكلام في زيادته ونقصه فيما لا يليق به أيضاً لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى وهو الظاهر في الروايات غير انه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الاعراض عنها انتهى. وتبعه على ذلك في مجمع البيان وفي كشف الغطاء في كتاب القرآن المبحث الثامن في نقصه لا ريب انه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن واجماع العلماء في كل زمان ولا عبرة بالنادر وما ورد من اخبار النقص تمنع البديهة من العمل بظاهرها إلى ان قال فلا بد من تأويلها بأحد وجوه. وعن السيد القاضي نور اللّه في كتابه مصائب النواصب ما نسب إلى الشيعة الإمامية من
ص: 25
وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم. وعن الشيخ النهائي وايضا اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه والصحيح ان القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا وبدل عليه قوله تعالى «وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» وما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) منه في بعض المواضع مثل قوله تعالی يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك في علي وغير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية وانما الكلام في النقيصة والمعروف بين اصحابنا حتى حكي عليه الاجماع عدم النقيصة ايضا. وعنه ايضا عن الشيخ علي بن عبد العالي انه صنف في نفي النقيصة رسالة مستقلة وذكر كلام الصدوق المتقدم ثم اعترض بما يدل على النقيصة من الأحاديث وأجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة المتواترة أو الاجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طر هذا وان المحدث المعاصر جهد في كتاب فصل الخطاب في جميع الروايات التي استدل بها على النقيصة وكثر أعداد مسانيدها باعداد المراسيل عن الأئمة عليهم السلام في الكتب كمراسيل العياشي وفرات وغيرها مع ان المتتبع المحقق يجزم بأن هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد. وفي جملة ما اورده من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤل به إلى التنافي والتعارض وهذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع ان القسم الوافر من الروايات ترجع اسانيده إلى بضعة انفار وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم اما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. واما بأنه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. واما بأنه كذاب متهم لا أستحل ان اروي من تفسيره حديثا واحدا وانه معروف بالوقف وأشد الناس عداوة للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ). واما بأنه كان غاليا كذابا. واما بأنه ضعيف لا يلتفت اليه ولا يعول عليه ومن الكذابين. واما بأنه فاسد الرواية يرمى بالغلو. ومن الواضح ان امثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا. ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير لوجب من دلالة الروايات المتعددة ان ننزلها على ان مضامينها تفسير للآيات أو تأويل او بيان لما يعلم يقينا شمول عمومائها له لأنه أظهر الافراد وأحقها بحكم العام. أو ما كان مراداً بخصوصه وبالنص عليه في ضمن العموم عند التنزيل - أو ما كان هو المورد النزول. او ما كان هو المراد من اللفظ المبهم. وعلى احد الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ماورد
ص: 26
فيها انه تنزيل وانه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يحمل التحريف فيها على تحريف المعنى ويشهد لذلك مكاتبة ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) اسعد الخير كما في روضة الكافي ففيها وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده. وكما يحمل ما فيها من ان--ه كان في مصحف امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) او ابن مسعود وينزل على انه كان فيه بعنوان التفسير والتأويل. ومما يشهد لذلك قول امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) الزنديق كما في نهج البلاغة وغيره ولقد جئتهم بالكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل. ومما أشرنا اليه من الروايات ان المحدث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج اربع روايات ذكرت ان كلمة (بولاية علي) مثبتة في مصحف فاطمة وهكذا هي في مصحف فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ولا يخفى ان مصحفها (عَلَيهَا السَّلَامُ) هو كتاب تحديث بأسرار العلم كما يعرف ذلك من عدة روايات في اصول الكافي في باب الصحيفة والمصحف والجامعة وفيها قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما فيه من قرآنكم حرف واحد. وما ازعم ان فيه قرآنا كما في الصحيح والحسن (ومنها) ما في الكافي في باب ان الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) شهداء على الناس في صحيحة بريد عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايته عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قولها (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى «وجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» نحن الأمة الوسطى. وفي شرحه عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونحن الذين قال اللّه «وجَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا». إذن فما روي مرسلا في تفسيري النعمان وسعد من ان الأئمة «أئمة وسطاً» لا بد من حمله على التفسير وان التحريف إنما هو للمعنى (ومنها) كما رواه في الكافي في باب ان الأئمة هم الهداة عن الفضل سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه تعالي «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» فقال كل إمام هو هاد للقرن الذي هو فيهم. ورواية بريد عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى إنما انت منذر ولكل قوم عاد فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) المنذر ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والهداة من بعده على (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم الأوصياء واحداً بعد واحد. ونحوها رواية ابي بصير عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية عبد الرحيم القصير عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) المنذر وعلي الهادي وبمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق ابي هريرة وابي برزة وابن عباس وطريق امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصححه الحاكم في مستدركه. وإذا احطت خبرا بهذا فهل يروق لك التجاء فصل الخطاب في تلفيقه وتكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخرة وعن الداماد في حاشية القبسات من قوله ان الأحاديث من طرقنا وطرقهم متضافرة بأنه كان التنزيل انما أنت منذر العبادو علي
ص: 27
لكل قوم هاد انتهى. هذا الشعر الذي ينشده المداحون ولا يرضى العارف باللغة العربية ان ينسب اليه نظمه ولا اظنك تجد من طرقنا وطرق اهل السنة غير ما سمعته اولا وهو غير ما نقله فاعتبر (ومنها) رواية الكافي عن ابي حمزة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قوله عز وجل ربنا ما كنا مشركين يعنون بولاية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا صريح في كونه تفسيرا فهي حاكمة بيانها على ضعيفتي ابي بصير في ظهورها بأن لفظ «بولاية علي» محذوف من الآية وبسري البيان من رواية ابي حمزة إلى أمثال ذلك (ومنها) رواية عمر بن حنظلة عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى في سورة البقرة متاعا إلى الحول غير اخراج. مخرجات. ولا اظن إلا انك تقول ان الحاق الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكلمة مخرجات انما هو تفسير للمراد من كلمة. اخراج. لابيان للنقيصة من القرآن الكريم ولكن فصل الخطاب اورد، بعنوان البيان للنقيصة فاعتبر (ومنها) صحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في الكافي في اول باب منع الزكاة وفيها ثمَّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو قول اللّه عز وجل سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة يعني ما يخلوا به من الزكاة فالرواية كالصريحة بأن لفظ «من الزكاة» إنما هو تفسير من الإمام لا من القرآن فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن ابي عمير عمن ذكره عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه عز وجل. سيطوقون ما بخلوا به. من الزكاة يوم القيامة وصارفة لها عن كونها بيانا للنقيصة. (ومنها) صحيحة ابي بصير عن ابي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في الكافي في باب نص اللّه ورسوله على الأئمة واحد بعد واحد. وفيها : فقلت له ان الناس يقولون فما له لم يسم عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأهل بيته في كتاب اللّه قال فقولوا لهم ان رسول اللّه نزلت عليه الصلاة ولم يسم اللّه لهم ثلاثاً ولا اربعا حتى كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي فسر لهم ذلك. وكذا قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الزكاة والحج. ومقتضى الرواية تصديق الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لقول الناس ان اللّه لم يسم عليا في القرآن وإن النسمية كانت من تفسير رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث من كنت مولاه وحديث الثقلين. ويشهد لك ما رواه في الكافي ايضا في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية ابي الجارود عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ايضا ورواية ابي الديلم عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) انهما تلوا في مقام الاحتجاج وعدم التقية قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» ولم يذكرا في تلاوة الآية كلمة «في على» وهذا يدل على ان ما روي في ذكر اسم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا المقام بل وفي غيره إنما هو تفسير وبيان للمراد في وحي القرآن يكون التفسير والبيان جاء به
ص: 28
جبرائيل من عند اللّه بعنوان الوحي المطلق لا القرآن وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (ومنها) رواية الفضيل عن ابي الحسن الماضي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في باب النكت من التنزيل في الولاية من الكافي قال قلت هذا الذي كنتم به تكذبون قال يعني امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قلت تنزيل قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) نعم فإنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذكر امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله يعني بعنوان التفسير وبيان المراد والمشار اليه في قوله تعالى هذا فقوله في الجواب «نعم» دليل على ان ما كان مراداً بعينه في وحي القرآن يسمونه (عَلَيهِم السَّلَامُ) تنزيلا. فتكون هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبثات فصل الخطاب بما حشده من الروايات التي عرفت حالها اجمالاً وإلى ما ذكرناه وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدست اسرارهم. فإن قيل ان هذه الرواية ضعيفة وكذا جملة من الروايات المتقدمة قلنا ان جل ما حشده فصل الخطاب من الروايات هو مثل هذه الرواية واشد منها ضعفا كما أشرنا اليه في وصف رواتها على ان ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لأولي الألباب
ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلا بعد جيل استمرت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحو واحد فلم يؤثر شيئا على مادته وصورته ما يروى عن بعض الناس من الخلاف في قراءته من القراء السبع المعروفين وغيرهم فلم تسيطر على صورته قراءة احدهم اتباعاله ولو في بعض النسخ ولم يسيطر عليه ايضا ما روي من كثرة القراءت المخالفة له مما انتشرت روايته في الكتب كجامع البخاري ومستدرك الحاكم مسندة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وعلي(عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن عباس وعمر وأبي وابن مسعود وابن عمر وعائشة وابو الدرداء وابن الزبير وانظر اقلا الى الجزء الأول من كنز العمال صفحة 284 - 289 نعم ربما اتبع مصحف عثمان على ما في مجرد رسم الكتابة في بعض المصاحف في كلمات معدودة كزيادة الألف بين الشين والياء من قوله تعالى لشيء من سورة الكهف وزيادتها ايضا في لأذبحنه من سورة النمل ونحو ذلك في قليل من للكلمات. وان القراءت السبع فضلا عن العشر إنما هي في صورة بعض الكلمات لا بزيادة كالمة او نقصها ومع ذلك ما هي إلا روايات آحاد عن آحاد لا توجب اطمئنانا ولا وثوقا. فضلا عن وهنها بالتعارض ومخالفتها للرسم المتداول المتواتر بين عامة المسلمين في السنين المتطاولة. وان كلا من القراء هو واحد لم تثبت عد اللّه ولا ثقته يروي عن آحاد حال غالبهم مثل حاله ويروي عنه آحاد مثله. وكثيراً ما يختلفون في الرواية عنه. فكم اختلف حفص وشعبة في الرواية
ص: 29
عن عاصم. وكذا قالون وورش في الرواية عن نافع. وكذا قنبل والبزي في روايتهما عن اصحابهما عن ابن كثير. وكذا رواية ابي عمر وابي شعيب في روايتهما عن اليزيدي عن ابي عمر. وكذا رواية ابن ذكوان وهشام عن اصحابهما عن ابن عامر. وكذا رواية خلف وخلاد عن سليم عن حمزة. وكذا رواية أبي عمر وابي الحارث عن الكسائي. مع ان اسانيد هذه القراءت الأحادية لا يتصف واحد منها بالصحة في مصطلح اهل السنة في الاسناد فضلا عن الإمامية كما لا يخفى ذلك على من جاس خلال الديار. فيا للعجب ممن يصف هذه القراءات السبع بأنها متواترة. هذا وكل واحد من هؤلاء القراء يوافق بقراءته في الغالب ما هو المرسوم المتداول بين المسلمين وربما يشذ عنه عاصم في رواية شعبة. إذن فلا يحسن أن يعدل في القراءة عما هو المتداول في الرسم والمعمول عليه بين عامة المسلمين في اجيالهم الى خصوصيات هذه القراءات. مضافا الى انا معاشر الشيعة الإمامية قد أمرنا بأن نقرأ كما يقرأ الناس أي نوع المسلمين وعامتهم
واملما تقول ان غالب القراءات السبع او العشر ناش من سمة اللغة العربية في وضع الكلمة وهيئتها نحو عليهم واليهم ولديهم بكسر الهاء أوضمها مع سكون الميم او ضمهما. ونحو تظاهرون يفتح الظاء او تشديدها. فعلى أي قراءة قرئت اكون قارنا على العربية. ولكن كيف يخفى عليك ان تلاوة القرآن وقراءته يجب فيها وفي تحققها ان تتبع ما أوحي الي الرسول وخوطب به عند نزوله عليه وهو واحد فعليك أن تتحراه بما يثبت به وليست قراءة القرآن عبارة عن درس معاجم اللغة
ولا تتشبث اذلك بما روي من ان القرآن نزل على سبعة احرف فإنه تشبث واه واهن. اما اولا فقد قال في الاتقان في المسألة الثانية من النوع السادس عشر اختلف في معنى السبعة احرف على اربعين قولا وذكر منها عن ابن حيان خمسة وثلاثين. وما ذاك إلا لوهن روايتها : واضطرابها لفظا ومعنى. وفي الاتقان ايضا في اواخر النوع السادس عشر وقد ظن كثير من العوام ان المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح (واما ثانيا) فقد روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم عن ابن مسعود عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نزل القرآن من سبعة ابواب على سبعة احرف زاجرا وامرا و حلالا وحراما ومحكما ومتشابها وامثالا فأحلوا حلاله وروى ابن جرير مرسلا عن أبي قلابة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) أنزل القرآن على سبعة
ص: 30
احرف آمر و زاجر و ترغیب و ترهيب وجدل وقصص ومثل. وروى ابن جرير والسنجري وابن المنذر وابن الانباري عن ابن عباس عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان القرآن على اربعة احرف حلال و حرام الحديث. واسند السنجري في الابانة. عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) انزل القرآن على عشرة احرف بشير ونذير وناسخ ومنسوخ وعظة ومثل ومحكم ومتشابه و حلال و حرام (واما ثالثا) فقد جاء في روايات السبعة احرف بأسانيد جياد في مصطلحهم ما يعرفك وهنها والحاقها بالخرافة ففي رواية احمد من حديث ابي بكر ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) استزاد من جبرئيل في احرف القراءة حتى بلغ سبعة حرف قال یعنی جبرئيل كل ما شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة واية رحمة بعذاب. وزاد في حديث آخر نحو قولك تعال واقبل وهلم واذهب واسرع واعجل. ونحوه في رواية الطبراني عن ابي بكرة وفي الاتقان اخرج نحوه احمد والطبراني عن ابن مسعود واخرج ابو داود في سننه عن ابي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الى قوله حتى بلغ سبعة احرف ثم قال ليس منها الاشاف كاف ان قلت سمعا عليها عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب. وفي كنز العمال فيما اخرجه احمد وابن منيع والغساني وابن أبي منصور وابو يعلى عن أبي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان قلت غفوراً رحيما او قلت ميعا عليها او عليها سميعا فاللّه كذلك ما لم تختم آية عذاب برحمة او رحمة بعذاب. واخرج ابن جرير عن ابي هريرة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان هذا القرآن نزل على سبعة احرف فاقرأوا ولا حرج ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة. واخرج احمد من حديث عمر القرآن كاله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا او عذابا مغفرة. فانظر الى هذه الروايات المفسرة للسبعة احرف كيف قد رخصت في التلاعب في تلاوة القرآن الكريم حسبما يشتهيه التالي ما لم يختم آية الرحمة بالعذاب وبالعكس) واما رابعا) ففي الروايات ما يقطع سند القراءات السبع فمن ابن الأنباري في المصاحف مسندا عن عبد الرحمن السلمي قال كانت قراءة ابي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة. وعن ابن أبي داود مسندا عن أنس قال صليت خلف النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وابي بكر وعمر وعثمان وعلي وكلهم كان يقرأ مالك يوم الدين. وروى ايضا ان أول من قرأ مالك يوم الدين هو مروان ابن الحكم (واما خامسا) وهو فصل الخطاب فقد روى من طرف الشيعة في الكافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجي من قبل الروايات. وارسل الصدوق نحوه في اعتقاداته عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي الكافي ايضا في الصحيح
ص: 31
عن الفضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة احرف فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) كذبوا، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد. وبويد ما ذكرناه. رواية السياري له ايضا عن الباقر والصادق (عَلَيهِما السَّلَامُ)
والمحاجة اليه مقامات (الأول) في مفردات الفاظه وبيان معناها في العربية - قد أنزل القرآن الكريم على افصح لغات العرب واكثرها تداولا ومألوفية لنوع العرب فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلا نادرا لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الانسان كما يروى في الأب والقضب في قوله تعالى في سورة عبس «وفاكهة وأباً وعنباً وقضباً». ولكن لم تشرفت الأمم من غير العرب بالإسلام وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول ان صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم أمانيها. ولا زال ذلك يزداد يوما فيوما حتى سرى داوه إلى بعض الخواص. ولا ستراحتهم في ذلك الى الاتباع والتقليد أثر غير هين
إذن فيرجع في التفسير المفردات الفاظه الشريفة الى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب ولغتهم وان للتدبر في اسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلا كبيرا في ذلك. واما محض الركون إلى آحاد اللغويين تعبدا بكلامهم وتقليداً لآرائهم فذاك مما لا مساغ له. فان الأغلب أو الغالب مما يستندون اليه في اقوالهم ما هو إلا الاعتماد على ما يحصلونه بحسب افهامهم وتتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز وعدم التثبت بالقرآن ومزايا الاستعمال. ألا ترى كم يشهد بعضهم على بعض بالخطأ والوهم
ومن شواهد ما ذكرناه ما وقع في تفسير اللمس والمس من الاضطراب والخبط. ففي النهاية مسست الشيء إذا لمسته بيدك. وفي القاموس لمسه مسه بيده ومسسته أي لمسته. وفي المصباح مسسنه افضيت اليه بيدي من دون حائل هكذا قيدوه وقال قبل ذلك لمسه افضى اليه باليد. هكذا فسروه. وقال ابن دريد اصل اللمس باليد ليعرف مس الشيء وقال لمست مسست وكل ماس لامس. وقال الفارابي اللمس المس. وفي التهذيب عن أبن الاعرابي اللمس يكون مس الشيء وقال في باب الميم المس مستك الشيء بيدك. وقال الجوهري اللمس
ص: 32
المس ثمَّ قال في المصباح وإذا كان اللمس هو المس فكيف يفرق الفقهاء بينها انتهى. ولعلك تذعن بأن الفقهاء احذق في استفادة المعنى من تتبع موارد الاستعمال وذلك لما اعتادوه وشحذوا به أذهانهم من بذل الجهد بالبحث والتحقيق فإن الفرق بين معني اللمس والمس واضح بحكم التبادر والتتبع لموارد الاستعمال. وغير خفي ان المعروف والمتبادر تبادر ايجزم معه بعدم النقل عن المعنى اللغوي الأصلي هو ان اللمس هو الإصابة بما به الإحساس من البدن بقصد الاحساس للملموس لا خصوص اللمس باليد ولا مطلق المس نعم كثير من موارد اللمس ما يكون باليد باعتبار انها آلة عادية واقوى احساسا. كما ان المس هو مطلق الإصابة لا بقصد الاحساس وقد صرح جماعة من اساطين علمائنا بأن معنى المس لغة بل وعرفا هو ما ذكرناه كما في المعتبر والمنتهى وروض الجنان والحدائق بل والمهذب البارع وأظن ان الذي يحقق في مراجعة العرف والتبادر وتتبع موارد الاستعمال قديما وحديثا لا يشك في ان معنى اللمس هو ما ذكرناه أولاً
و من شواهد ما ذكرناه هو الاضطراب في معنى التوفي وما استعمل في لفظه المتكرر في القرآن الكريم. فاللغويون جعلوا الإمائة في معنى النوفي. والكثير من المفسرين في تفسير
قوله تعالى في سورة آل عمران «48 يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ» قالوا أي ممبتك وقال بعض مميتك حتف انفك. وقال بعض مميتك في وقتك بعد النزول من السماء وكأنهم لم ينعموا الالتفات إلى مادة التوفي واشتقاقه ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها. وإلى استقامة التفسير لهذه الآية الكريمة واعتقاد المسلمين بأن عيسى لم يمت ولم يقتل قبل الرفع إلى السماء كما صرح به القرآن. وإلى ان القرآن يذكر فيا مضى قبل نزوله ان المسيح قال اللّه «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي» و من كل ذلك لم يفطنوا أن معنى التوفي والقدر الجامع المستقيم في محاورة القرآن فيه وفي مشتقاته إنماهو الأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء. وإن محاورة القرآن الكريم بنفسها كافية في بيان ذلك كما في قوله تعالى في سورة الزمر «43 : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» ألا ترى انه لا يستقيم الكلام إذا قبل اللّه بميت الأنفس حين موتها وكيف يصح ان التي لم تمت بيمينها في منامها. وكما في قوله تعالى في سورة الانعام «60 : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ
ص: 33
لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» فإن توفي الناس بالليل إنما يكون بأخذهم بالنوم ثم يبعثهم اللّه باليقظة في النهار ليقضوا بذلك آجالهم المسماة ثم إلى اللّه مرجعهم بالموت والمعاد. وكما في قوله تعالى في سورة النساء «19 : حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ» فإنه لا يستقيم الكلام إذا قيل يميتهن الموت وحاصل الكلام ان معنى التوفي في موارد استعماله في القرآن وغيره إنما هو أخذ الشيء وافياً أي تاماً كما يقال درهم واف وهذا المعنى ذكره اللغويون التوفي في معاجمهم وقالوا ان توفاه واستوفاه بمعنى واحد وأنشدوا له قول الشاعر
ان بني الادرد ليسوا لأحد***ولا توفاهم قريش في العدد
أي لا تتوفاهم وتأخذهم تماماً (قلت) لكن بين الاستيفاء والنوفي فرقاً واضحاً من جهة اثر الاشتقاق فإن الاستيفاء استعمال كالاستخراج يشير إلى طلب الآخذ واستدعائه ومعالجته والتوفي يشير إلى القدرة على الآخذ بدون حاجة إلى استدعاء وطلب ومعالجة ولذا اختص القرآن الكريم بلفظ التوفي وعدل عن الأخذ لعدم دلالته على التمام والوفاء كالتوفي الدال على تمام القدرة على نحو المعنى في إنا للّه وإنا اليه راجعون. ولك العبرة فيما قلناه بقوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» فإنك إن جعلت قوله تعالى «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» معطوفا على الأنفس لم تقدر أن تقول أن معنى يتوفى يميت. وإن قلت ان التوفي في المنام اماتة مجازية قلنا كيف يكون معنى اللفظ الواحد معنيين معنى حقيقيا ومعنى مجازيا ويتعلق باعتبار كل معنى بمفعول ويعطف احد المفعولين على الآخر مع اختلاف المعنى العامل به. وهل يكون اللفظ الواحد مرآة لكل من المعنيين المستقلين كلا لا يكون. وإن جعلت قوله تعالى «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ» مفعولاً لكلمة «يَتَوَفَّى» مقدرة يدل عليها قوله تعالى «يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ» قلنا ان دلالة الموجود على المحذوف إنما هي بمعناه كما لا يخفى على من له معرفة بمحاورات الكلام في كل لغة فكيف يجعل النوفي بمعنى الموت دليلاً على توف محذوف هو بمعنى آخر.. إذن فليس الا أن التوفي بمعنى واحد وهو الأخذ تماماً ووافياً، إما من عالم الحياة. وإما من عالم اليقظة. وإما من عالم الأرض والاختلاط بالبشر إلى العالم السماوي كتوفي المسيح وأخذه ومن الغريب ما قاله بعض من أن رفع المسيح إلى السماء غير مشتمل على أخذ الشيء ناما انتهى وليت شعري ماذا بقي من المسبح في الأرض وماذا تعاصى منه على قدرة اللّه في أخذه فلا يكون رفعه مشتملاً على أخذ الشيء تاما. هذا ولا يخفى ان القرآن ناطق بأن المسيح ما قتلوه
ص: 34
وما صلبوه ولكن شبه لهم ورفعه اللّه اليه وإن عقيدة المسلمين مستمرة كاجماعهم على انه لم يمت بل رفع إلى السماء إلى ان ينزل في آخر الزمان فلاجل ذلك التجأ بعض من يفسر الثوفي بالإماتة إلى ان يفسر قوله تعالى «يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» أي مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ولكني لا أدري ماذا يصنع بحكاية القرآن لما سبق على نزوله في قوله في اواخر سورة المائدة «116 و 117 : وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ - فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» فهل يسوغ ان تفسر هذه الآية بالوفاة بعد النزول وهل يصح القياس في ذلك على قوله تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» وهل يخفى ان مقتضى كلام المسيح في الآيتين هو انه بعد ان توفاه اللّه وانقطعت تبليغائه في دعوة رسالته وكونه شهيداً على امته تمحض الأمر ورجع إلى ان اللّه الرقيب عليهم. وان سوق الكلام واتساقه ليدل على اتصال الحالين. وان الرقيب كيفها فسرته إنما يكون رقيباً في وجود تلك الأمة في الدنيا دار التكليف لا الآخرة التي هي دار جزاء وانتقام. ولا تصح الطفرة في المقام من أيام دعوة المسيح لأمته في رسالته وكونه شهيداً عليهم إلى ما بعد نزونه من السماء في آخر الزمان حيث يكون وزيرا في الدعوة الإسلامية لا صاحب دعوة. ومن الواضح أن المراد في الآيتين من الناس الذين جرى الكلام في شأنهم إنما هم الذين كانوا أمة المسيح وفي عصر رسالته ونوبة دعوته وتبليغه... وأما صرف وجهة الكلام إلى الناس الذين هم في أيام نزوله من السماء فما هو إلا مجازفة فيها ما فيها وتحريف للكلم... وأما قوله تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» فلم يكن اخباراً ابتدائياً يكون وقوع الفعل الماضي فيه باعتبار حال المتكلم كما في الايتين بل جاء في سياق قوله تعالى «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ» في حوادث زمان البعث والقيامة ومقدماتها فهو في سياقه ناظر إلى ذلك الحين وسياق الكلام يجعله بدلالته في قوة قوله ونفخ حينئذ في الصور فهو على حقيقة الفعل الماضي وباعتبار ذلك الحين كما في قوله «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ». هذا وبعض المفسرين اقوله تعالى «يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» قال أي مميتك حتف انفك. واقول ان اراد الإماتة بعد نزول المسيح من السماء شارك ما سبق من التفسير وورد الاعتراض عليه وان اراد امانته قبل ذلك وقبل نزول القرآن خالف المعروف من عقيدة المسلمين وإجماعهم في اجيالهم ويرد عليه السؤال ايضا بأنه من أين جاء بالإمانة حتف انفه وماذا يصنع بما جاء في القرآن
ص: 35
كثيراً مما ينافي اختصاص التوفي بالموت حنف الأنف بل المراد منه الأخذ بالموت وإن كان بالقتل كقوله في سورة الحجه والمؤمن 69 في اطوار خلق الإنسان من التراب والنطفة إلى الهرم : «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» «لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» وفي سورة البقرة 234 و241 ««وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا» ويونس 104 «وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ» والنحل 72 «واللّه الذي خلقكم ثم يتوفاكم وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» والسجدة 11 «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ» والاعراف 35 «حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» والنساء 99 «و تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ» والنحل 30-33 «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ» والانعام 61 «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا» ومحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) 39 «فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ» والأنفال 52 «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ» والزمر 43 «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا» وإنك لا تكاد تجد في القرآن المجيد لفظ التوفي مستعملا فيا يراد منه الإماتة حتف الأنف إذن فمن اين جيء بذلك في قوله تعالى «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» نعم ابتلى لفظ التوفي ومشتقاته بالأخذ بمعناه يمنة ويسرة حتى ان العامة حسبوها مرادفة للموت حتى انهم يقولون في الذي مات توفى بفتح التاء والواو والفاء بالبناء للفاعل ويقولون في الميت متوفي بكسر الفاء وصيغة اسم الفاعل بل يحكى ان أمير المؤمنين عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يمشي خلف جنازة في الكوفة فسمع رجلا يسأل عن الميت ويقول من المتوفي بكسر الفاء
وأما ما نسب إلى ابن عباس من ان معنى قوله تعالى «يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ» إني مميتك فما أراه إلا كما نسب إلى ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق كما ذكر في الفصل الثاني من النوع السادس والثلاثين من اتقان السيوطي من ان نافعاً سأله عن قول اللّه «مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» أي بما يرجع إلى معنى تبهظهم وتثقل عليهم كما قال عمر ابن كاثوم في معلقته. (ومتني لدنة سمقت وطالت***ر وادفها تنوء بما ولينا) و كما انشده اللغويون. (إلا عصا ارزن طالت برايتها***تنوء ضربتها بالكف والعضد) فذكر ان ابن عباس قال له في الجواب لتثقل أو ما سمعت قول الشاعر
تمشي فتثقلها عجيزتها***مشي الضعيف ينوء بالوسق
أي ينهض بالوسق بتكلف وجهد على عكس المعنى المذكور في القرآن. أفهل ترى ابن عباس يفسر تنوء التي في الآية بغير معناها كما ثار من هذا الاستشهاد المنسوب اليه اعتراض
ص: 36
النصار بأن القرآن جا، بلفظة «لتنوء» في غير محلها. وهل ترى ابن عباس لا يعرف ان معنى ينوه بالوسق ليس يثقل بل ينهض به بتكلف. وهل ترى ابن عباس لا بدري ببيت المعلقة ليستشهد به استشهاداً صحيحاً مطابقاً منتظماً. كيف وإن المعلقات كانت للشعر في ذلك العصر كبيت القصيد ولكن «حن قدح ليس منها» وقد خرجنا عما نؤثره من الاختصار ولكنا ما خرجنا عن المقصود الاصلي من الكلام في تفسير القرآن الكريم بل سارعنا إلى شيء من الخير واللّه المسدد الموفق
المقام الثاني
لا يخفى ان القرآن الكريم مبني على ارقى انحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستمارة والكتابة والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته مما كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه. وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كل سامع عربي. ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير اسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدات مزايا الكلام واساليب المحاورات فساد ذلك المأنوس غريباً في العامة وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم والتدرب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي. من دون تقليد معرقل ولا وقوف عند الأسماء ولا جمود على قشور القواعد التي مهدها المتدربون في العربية من الخواص اقتباساً بقدر الوسع من ذلك الأدب القديم. فدونوا من مبتذلها شيئا وفاتهم من أسرارها وحقائقها الشيء الكثير. وربما أدت بهم وعورة البحث والجمود على التقليد إلى عشرات الوهم أو احجام الشكوك
انظر إلى ان جماعة من النحويين كالشراح لألفية ابن مالك وغيرهم قالوا في قول الراجز «جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط» ان التقدير بمذق مقول فيه هل رأيت الخ ولا يخفي ان الراجز يريد وصف المذق بما يبين حاله وتبدل كونه بكثرة الماء وماذا يجدي إلى ذلك كونه مقولا فيه هل رأيت الذئب قط ولم يقطنوا إلى ان الصفة التي يريدها الراجز كما يقتضيها المقام قد اشار اليها باستفهامه الذي هو بمنزلة التمثيل الحي لها. فكأنه قد جاؤوا بمذق لونه كلون الذئب هل رأيت الذئب يوما من الأيام فإن لون المذق كلونه فاعرف كيف كان. ومن شواهد ذلك ان صاحب الكشاف مع تضلعه من الأدب العربي ومعرفتة مذالكات الكلام
ص: 37
اضطرب كلامه وتفسيره في كلمة واحدة تكررت في القرآن الكريم على نحو واحد وهو قوله تعالى «لَا أُقْسِمُ» ففي سورة الواقعة في قوله تعالى «لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» قال فأقسم وان «لا» مزيدة مثلها في قوله لئلا يعلم اهل الكتاب وفي قوله تعالى «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» قال ادخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس. (ولا و أبيك ابنة العامري***لا يدعي القوم اني افر) وقال غوية بن سلمة. (ألا نادت امامة باحتمال***لتحزنني فلا بك لا ابالي)
وفائدتها توكيد القسم وقالوا انها صلة ابے زائدة مثلها في لئلا يعلم أهل الكتاب وقال في ذلك كلاماً فيه ما فيه وقال والوجه ان يقال هو للنفي والمعنى في ذلك انه لا يقسم بالشيء اعظاما له يدلك عليه قوله تعالى «فلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» فكأنه بادخال حرف النفي يقول ان اعظامي له باقسامي به كلا اعظام يعني ان يستأهل فوق ذلك انتهى. ومقتضى بيانه هذا ان يقول اعظاما للمقسم به فإنه أوضح البيان من مثله. ولينه لم يخلط بين دخول «لا» على فعل القسم كما في الآيتين وبين دخولها على حرف القسم كما في بيتي امرء القيس وغوية وغيرهما مما لا يقع جوابه إلا منفيا فإنه واضح الظهور في ان «لا» فيه نافية موطئة لنفي الجواب لتأكيده وسبيلها سبيل قوله تعالى في سورة النساء «68 فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ». وفي سورة الحاقة في قوله تعالى «فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ» قال اقسام بالأشياء كانها. وفي سورة البلد في قوله تعالى «لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ» قال اقسم بالبلد الحرام ولم يقل شيئا في قوله تعالى (لَا أُقْسِمُ) في سورة المعارج والتكوير والانشقاق. ومن شواهد ذلك ما سمعته هنا عن صاحب الكشاف في قوله تعالى «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ» ومن ان «لا» في لئلا مزيدة وصرح ايضا بذلك في تفسير سورة الحديد حيث قال الثلا يعلم ليعلم - ووافقه على ذلك جماعة فاغتنم اعداء القرآن الكريم من ذلك فرصة فاعترضوا على القرآن بأنه مشتمل على الزيادة اللغوية ولكن الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 350 و 355 اوضح البطلان في زعم الزيادة كما عليه جماعة من ان المعنى. ان اللّه وعد الذين آمنوا ويتقون اللّه ويؤمنون برسوله ان يؤتيهم كفلين من رحمته ويجعل لهم نوراً يمشون به ويغفر لهم ومن فوائد ذلك وغاياته ان لا يعلم اهل الكتاب ان الذين آمنوا لا يقدرون على شيء من فضل اللّه ولأن الفضل بيد اللّه الآية وليت شعري لماذا لا تنزه جلالة القرآن المجيد وبراعته عن لغوية هذه
ص: 38
الزيادة التي لا غاية فيها إلا الايهام
وفي تفسير قوله تعالى في سورة الاعراف «11 قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» قال في الكشاف أيضا «لا» في ان لا تسجد صلة «أي زائدة» بدليل قوله تعالى أي في سورة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) «75 مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» ومثلها لئلا يعلم أهل الكتاب بمعنى ليعلم انتهى. اقول وإن التدبر في آيات الاعراف. و (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يشهد بأن «لا» غير زائدة بل جيء بها في الاعراف للاشارة إلى أمر قد صرح به في آيات (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وذلك ان الفعل قد يكون له مانع من ضد او عذل أو غفلة او عجز أو كسل وقد يكون له سبب داع وحامل على تركه ومخالفته الأمر به فسأل اللّه انكاراً أو توبيخا في سورة (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن المانع بقوله تعالى (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وعن السبب والحامل على المخالفة بقوله تعالى أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ» وأشار جل شأنه في سورة الاعراف بوجود (لا) إلى السؤال عن السبب الحامل على المعصية بعد السؤال عن المانع فكأنه قال ما منعك من ان تسجد وما حملك على ان لا تسجد ولذا وقع الجواب من ابليس في كلا المقامين بيان السبب الحامل له على ان لا يسجد لا التعليل بالمانع فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وكذا الكلام في قوله تعالى في سورة طه «94 قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي» فإن التفريع في قوله أفعصيت أمري يدل على انه قد سبق السؤال عن المانع عن الاتباع وعن السبب الحامل على المعصية بتركه واشير اليه بادخال «لا» ولكن قال في الكشاف لا مزيدة والمعنى ما منعك ان تتبعني. وقال اللّه في سورة الأنبياء «95 وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ» وفي الكشاف فسر الاهلاك بالعزم عليه وفسر الرجوع بالرجوع من الكفر إلى الإسلام وهذا مختاره على الظاهر من الوجوه الثلاثة ثم قال فيه و «لا» صلة مزيدة انتهى وليته أبقى الإهلاك على ظاهره وفسر الرجوع بالرجوع إلى الإيمان والتوبة عند مشاهدة آيات الهلاك وأحوال الموت كإيمان فرعون عند الغرق كما في سورة يونس 90 أو كالذين «إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ» وكما في سورة النساء 22. وكما ذكره اللّه في سورة المؤمنين في حال المشركين والظالمين 101 «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ» فإن قولهم هذا رجوع إلى التوبة ولكنها لا تقبل كما قال اللّه في الموارد الثلاثة ويكون معنى الآية الكريمة هو ان أهل القرى
ص: 39
التي أهلكها اللّه حرام عليهم بسبب مشاهدتهم لآيات الإهلاك وحضور الموت وممتنع في العادة ومنفي بالمرة كونهم لا يرجعون إلى التوبة والإيمان بحسب الفطرة وإن كان لا ينفعهم ويستمرون على ما هم فيه حتى إذا جاءت الساعة وصار يوم القيامة وعاينوا ما كانوا يوعدون قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة عن هذا
وقال اللّه تعالى في سورة آل عمران «73 مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 74 وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا» ولا يخفى ان قوله تعالى ولا يأمركم معطوف على يقول المعطوف بثم على المنفي بقوله تعالى ما كان أي ليس له وإن (لا) هنا نافية يؤتى بها لتثبيت النفي في الأمرين مثلها في قولك ليس لك ان تقوم ولا أن تأكل لئلا يتوهم ان النفي للجمع بين الأمرين والجمع بين القيام والأكل كما قال في الكشاف في ثاني وجهيه في الآية. وقال في الكشاف ان في الآية وجهين احدهما ان نجمل «لا» مزيدة والمعنى ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم ان تتخذوا النبيين والثاني ان نجعل «لا» نافية غير مزيدة والمعنى ما كان لبشر يستنبئه اللّه ان يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة أي ما كان له أن يجمع بين الأمر والنهي. ويا للعجب ممن سوغ لنفسه في مثل بلاغة القرآن المجيد ان يفسر لا يأمركم بقوله ينهاكم ولو فسر بذلك كلام واحدمن الناس لأوسعه من الملام ما أوسعه - ولم ينفرد الزمخشري بدعوى زيادة (لا) في هذه الموارد بل ادعى ذلك جماعة من المفسرين والنحويين كما ذكر ابن هشام في المعنى في كلمة «لا» ولو ان زيادة «لا» محققة في كلام العرب متداولة في شعرهم ونثرهم لما ساغ لهؤلاء ان يقولوا بذلك في مثل بلاغة القرآن الكريم ومجدها وفي خصوص الموارد التي ادعوا فيها الزيادة فإن البلاغة بل استقامة الكلام تقتضي تثبيت اثبائها ورفع أوهام النفي عنها لو كانت مثبتة إذن فكيف يقلق مضمونها الشريف بما يوهم النفي ويشوش الكلام. وان المخبر الذي يعرف كيف يتكلم لا يدخل على خبره ما يوهم نقيضه هذا مع اني لم اجد شاهداً ذكروه من الكلام على زيادة «لا» إلا قوله : (وتلحينني في اللهو أن لا أحبه***وللهو داع دائب غير غافل) ولو كان هذا من شعر العرب وكان المراد منه ما فهموه الجاز أن يضمر فيه وتأمريني بأن لا أحبه أو وتدعينني إلى أن لا أحبه. ومن غرائبهم استشهاد بعضهم أيضاً بقول الشاعر
ص: 40
ابی جوده لا البخل واستعجلت به***نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
نعم لم يوافقهم الزمخشري على زعمهم لزيادة (لا) في قوله تعالى في سورة الأنعام «109 وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ» وقوله تعالى فيها «152 قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا». ومن شواهد ذلك انك سمعت كلام الكشاف في دخول لا النافية على القسم واستفاضته في كلامهم وأشعارهم وما ذكره من الشواهد في الشعر ومع ذلك قال في تفسير سورة النساء في قوله تعالى «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ» معناه فوربك كقوله تعالى «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ» و «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لئلا يعلم التوكيد وجوب العلم انتهى.. فانظر فيه واعتبر وقل أين ما ذكرته من الاستفاضة واين معنى الاستشهاد بالشعر. واولا الحمل على التحامل لذكرنا عن الكشاف وغيره اكثر من ذلك وفي ذلك كفاية لأولي الألباب : ومن ذلك ما نقله السيد الرضي في حقائق التأويل من قول بعضهم بزيادة الواو في قوله تعالى في سورة آل عمران 85 و لو افتدی به. وابراهيم 52 ولينذروا ب--ه والزمر 73 وفتحت ابوابها، أقول ولمثل هذه الواو في القرآن موارد وهي فيها كان او او العطف على محذوف يدل عليه سياف القرآن بكرامة نهجه وبراعة اسلوبه في مناحي البلاغة ويجلوه المقام باشراق تلك البراعة بأجلى المظاهر كما سيأتي التنبيه عليه في موارده ان شاء اللّه. ومن شواهد ذلك مما جناه القصور ان جماعة وقفوا عن الوصول في بعض ما في القرآن الكريم من فرائد البراعة وفوائد البلاغة حتى صار يلوح من ترددهم ان ذلك مخالف لقواعد العربية فاغتنم اعداء القرآن من ذلك فرصة الاعتراض وقد ساعد التوفيق على التعرض لتلك الاعتراضات وبيان خطأها بايضاح براعة القرآن الكريم في مواردها بأسرار البلاغة ولباب الأدب العربي وبواهر اساليبه وقد كتب شي من ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى وفي خصوص المقدمة الثالثة عشرة من صفحة 321 حتى آخره.. و من شواهد ذلك ان كثيرا من مجازات القرآن الكريم واستعاراته الواضحة العلاقة والفائقة في لحاظ التشبيه ومرمى الإشارة والمؤيدة بأحكام العقل ومحكمات الكتاب هذه الاستمارات التي كانت من ازهار الأدب العربي الغريزي حين ما كان روضه زاهباً زاهراً عادت بعد ما ذوى خميله معركة للآراء وهدفاً للجحود وإن حامت عنها محكمات الكتاب ونصرتها البراهين العقلية في تقديس اللّه وتفرده بالكمال. فمن ذلك ما في القرآن من نسبة الاضلال إلى اللّه جل اسمه في عدة آيات منها السابعة والعشرون
ص: 41
من سورة الرعد والثانية والثلاثون من سورة ابراهيم ونحوهما. فإن التعبير في ذلك بالاضلال مجاز فائق في الحسن يمثل ببراعته حاجة الإنسان مع نفسه الأمارة إلى لطف اللّه به وعنايته في توفيقه ويشير الى ما في اللطف والتوفيق من الأثر الشريف الكبير في النعمة على الإنسان وينبه إلى ان خذلان اللّه للانسان المتمرد برفع العناية في التوفيق وايكاله إلى نفسه شبيه بالضلاله في قوة الأثر. كل ذلك لأجل التنويه والامتنان بنعمة اللّه في توفيقه لعباده ولأجل هذه المزايا الفائقة استمير الاضلال لخذلان اللّه لعبده المتمرد وإيكاله إلى نفسه والعياذ باللّه
ولقد كان يكفي في القرينة على التجوز في لفظ الاضلال هنا وصرفه عن مقتضى وضعه ما في القرآن من المحكمات مثل قوله تعالى في سورة الاعراف «27 إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ» وفي سورة النحل «92 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فإن تمجد اللّه بذلك كاف في كونه قرينة على ان الإضلال المنسوب اللّه تعالى شأنه إنما هو مجاز. وإن مجده والطافه جلت آلاوه تعين المراد منه وهو ما ذكرناه. وكيف يكون الاضلال المنسوب إلى اللّه على حقيقته مع أن اللّه يدم الضالين ويعذبهم على ضلالهم ويوبخهم بقوله تعالى «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ. لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ. لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا» وتمام الكلام في الكتب الكلامية. وقد ذكر شيء منه في الجزء الثالث من الرحلة المدرسية صفحة 29 إلى 42 : ومن ذلك ان الفرقة الظاهرية لم تلتفت إلى المجاز ووجهه الواضح في قوله تعالى «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» ولم يصرفهم عن المعاني الحقيقية لهذه الألفاظ ضرورة العلم من القرآن والبراهين القطعية في ان اللّه منزه عن الجسم والأبن والمكان لكي يعرفوا ان المراد بالعرش هنا هو شأن القدرة والجلال واستيلاء السلطان على الملكوت في الأزل والأبد. ولأجل احضار هذا الشأن العظيم في اذهاننا القاصرة وملأ قلوبنا بعظمته مثل القرآن لتصورنا المحدود بتشبيهه بما نعرفه ونعرف آثاره من العرش الجسماني للملك الأرضي الذي بالصعود عليه صعوداً زمنياً ينفذ سلطانه وتعم قدرته
و من آثار الظاهريين العجيبة ما اخرجه ابن مردويه والخطيب في تاريخه وابن منصور في سننه من مسند عمر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى على العرش استوى قال حتى يسمع له اطيط الرحل. وانظر إلى كنز العمال الجزء الأول صفحة 226 وكذا منتخب الكنز واطيط
ص: 42
الرحل والقتب صوته أي صوت أخشابه من ضغط ثقل الراكب والحمل وسيأتي شبيه ذلك في تفسير آية الكرسي. وفي ميزان الذهبي من انكر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله «عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» قال يجلسه معه على العرش. وفي شواهد الحق كتاب الشيخ يوسف النبهاني صفحة 130 قال ومن كتب ابن تيمية كتاب العرش قال في كشف الظنون ذكر فيه إن اللّه يجلس على العرش وقد أخلى فيه مكانا يقعد معه فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما ذكر ذلك ابو حيان في قوله تعالى وسم كرسيه السماوات والأرض وقال يعنى ابا حيان قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية بخطه ما صورته ما ذكرناه ونقلها كشف الظنون من طريق آخر عن السبكي انتهى. وعلى هذا الوتر ضرب محمد بن عبد الوهاب في رسالته المطبوعة في من مجموعة فيها عدة من الرسالة طبعت في مكة فانظر إلى صفحة 155 و 156 من المجموعة هذا عبد الرحمن بن حسن الوهابي في صفحة 36 من المجموعة المذكورة
المقام الثالث
جاء في القرآن شي كثير من الألفاظ العامة التي يراد بها الخاص أو التي هي نص في خاص باعتبار نزولها في شأنه وغير ذلك مما كان معروفا في عصر نزوله ثم صارت اسباب الخفاء تختلسه شيئاً فشيئاً وتجعل ضده كما في خرافة الغرانيق وآية التمني
والمفزع في تفسير ذلك هو ما يحصل به العلم من اجماع المسلمين او اتفاقهم في الرواية التفسير. او في الرواية عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في الدلالة على من يفزع اليه بعده في تفسير كتاب اللّه وذلك كحديث الثقلين المتواتر القطعي الذي ذكره اخواننا من اهل السنة في كتبهم وأوردوا من روايته عن الصحابة الذين سمعوه من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اكثر من ثلاثين صحابيا وبقي على ذلك متواتراً في كل عصر إلى العصر الحاضر وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)«إني تارك فيكم الثقلين او الخليفتين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً فإنها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» وان لفظ العترة والأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين اهل البيت يعينان المراد من اهل البيت فضلا عن دلالة العرف والمحاورات. وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابدا مع قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يعينان الأئمة الاثني عشر المعصومين من عترة الرسول وذريته. ومن دلائل ذلك اجماع المسلمين على ان من عدا هؤلاء ليس معصوماً ولا يتصف بانه مثل كتاب اللّه لا يضل من تمسك به
ص: 43
وهاك اسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول اللّه (2) علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) امير المؤمنين (2) عبد اللّه بن عباس (3) ابو ذر الغفاري (4) جابر الأنصاري (5) عبد اللّه بن عمر (6) حذيفة بن اسید (7) زيد بن ارقم (8) عبد الرحمن بن عوف (9) ضميرة الأسلمي(10) عاصم ابن لیلی (11) ابورافع (12) ابو هريرة (13) عبد اللّه بن حنطب (14) زيد بن ثابت (15) ام سلمة (16) ام هاني أخت امير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (17) خزيمة بن ثابت (18) سهل بن سعد (19) عدي بن حاتم (20) عقبة بن عامر (21) ابو ايوب الأنصاري (22) ابو سعيد الخدري (23) ابو شريح الخزاعي (24) ابو قدامة الأنصاري (25) ابوليلي (26) أبو الهيثم بن التيهان. وهؤلاء الذين ذكرنا اسماء هم من بعد ام هاني قد رواه كل منهم منفرداً كمن تقدمه وقاموا في رحبة الكوفة مع سبعة من قريش فشهدوا انهم سمعوه من رسول اللّه فهو لاء ثلاثة وثلاثون. ورواه ابو نعيم الأصبهاني في كتاب منقبة المطهرين مسنداً عن جبير بن مطعم وأسنده أيضاً عن انس بن مالك واسنده عن البراء بن عازب ورواه موفق بن أحمد أخطب خوارزم عن عمرو بن العاص. وقل ما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنة من أول ما اخرج الحديث من الحفظ وصدور الحفاظ إلى صحف المحدثين ولازال يرو فيها عن صحابي واحد أو أكثر وربما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابياً اما مجملاً كما في الصواعق واما مسنداً مفصلاً كما في كتب السخاوي والسيوطي والسمهودي وغيرهم ومن اراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب العبقات
ورواه الإمامية في كتبهم بأسانيدهم المتكررة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) والكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائهم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وبالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعمر وابي ذر وجابر وابي سعيد وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وحذيفة بن اسيد وابي هريرة وغيرهم عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما في غاية المرام وتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني طاب ثراه وغير ذلك
ولعلك تقول ان البخاري لم يذكر هذا الحديث في جامعه فاعرف إذن ان المحدثين لا يلتفتون إلى استفاضة الحديث وتواتره وافادته للعلم من هذه الجهة كما هو شأن العالم المحقق في حجته وبحثه عن الحقائق. وإنما المهم للمحدث والموضوع في فنه هو الحديث الآحادي
ص: 44
الذي يأخذه بما عندهم في طرق الأخذ من رجل عن آخر على شروط يقررها في السند فكأن البخاري لم يحصل شرطه في سند من اسانيد الحديث الآحادية ولكن الحاكم في مستدركه استدرك عليه وعلى مسلم حديث زيد بن ارقم من طريق حبيب عن ابي الطفيل قال لما رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إني ق--د دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيها فإنها ان يفترقا حتى يردا علي الحوض ثم قال إن اللّه عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. ومن طريق مسلم بن صبيح عنه قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه واهل بيتي وانها لم يفترقا حتى يردا علي الحوض. وقال الحاكم أيضاً هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه قلت ولم أجد من تعقب الحاكم على استدرا كه بهذين الحديثين فيكون ذلك موافقة ممن عاصر الحاكم ومن بعده على الإستدراك وصحة الحديثين على شرط البخاري ومسلم. ومن طريق سلمة بن كهيل عن ابي الطفيل انه سمع زيد بن أرقم يقول وساق نحو الحديث الأول وفيه إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما كتاب اللّه وأهل بيتي عترتي الحديث وتعقبه الذهبي بأن في طريقه محمد بن سلمة وقدوهاه السعدي وذكر له ابن عدي أحاديث منكرة. ومراده من السعدي هو ابراهيم بن يعقوب السعدي الجوزجاني كما ذكره في ترجمة محمد بن سلمة. قلت وما ادراك ما السعدي فإنه معروف بالنصب وفي الميزان عن ابن عدي كان شديد الميل الى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد قال في اسماعيل ابن ابان الوراق شيخ البخاري انه كان مائلا عن الحق قال ابن عدي ولم يكن يكذب الجوزجاني يريد به ما عليه الكوفيون من التشيع إذن فاعرف السبب في تحامل الجوزجاني وابن عدي على محمد بن سلمة. ولعمر العلم الحق ان الحديث بتواتره في غنى عن التعرض له في جامع البخاري - هذا واما الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطا وضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة فهو مما لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين اللّه ولا تقوم به الحجة. لأن تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ولا يكون حجة من المسانيد إلا ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة ولو لم يكن
ص: 45
من الصوارف عنهم إلا ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنة لكفى. وإن الجرح مقدم على التعديل إذا تعارضا. أما عكرمة فقد كثر فيه الطعن بأنه كذاب غير ثقة ويرى رأي الخوارج وغير ذلك. وقيل للأعمش ما بال تفسير مجاهد مخالف او شي نحوه قال أخذه من أهل الكتاب ومما جاء عن مجاهد من المنكرات في قوله تعالى «عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» قال يجلسه معه على العرش. وأما عطا فقد قال أحمد ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن وعطا كانا يأخذان عن كل أحد وقال يحيى بن القطان مرسلات مجاهد احب إلي من مرسلات عطا بكثير كان عطا يأخذ من كل ضرب وروي انه ترکه ابن جريح وقيس بن سعد. وأما الحسن البصري فقد قيل انه بدلس وسمعت كلام احمد فيه وفي عطا. وأما الضحاك ابن مزاحم المفسر فمن يحيى بن سعيد قوله الضحاك ضعيف عندنا وكان بروي عن ابن عباس وأنكر ملاقاته له حتى قبل انه ما رآه قط. وأما قتادة فقد ذكروا انه مدلس. وأما مقاتل بن سليمان فقد قال فيه وكيع كان كذاباً. وقال النسائي كان مقاتل يكذب وعن يحيى قال حديثه ليس بشيء وقال ابن حيان كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم. وأما مقاتل بن حيان فعن وكيع انه ينسب إلى الكذب وعن ابن معين ضعيف وعن أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن حيان ولا بابن سليمان فانظر إلى ميزان الذهبي من كتب الرجال اقلا ودع عنك ان أصول العلم عندنا تأبى من الركون إلى روايتهم فضلاً عن اقوالهم الا في مقام الجدل أو التأييد أو حصول الاستفاضة والتوافق في الحديث
هذا وإن كثيراً من كتب التفسير قد لهج بأكذوبة شنيعة وهي ما زعموا من أن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قرأ سورة النجم في مكة في محفل من المشركين حتى إذا قرأ قوله تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى» قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في تمجيد هذه الأوثان وحاشا قدسه «تلك الغرانيق الأولى***منها الشفاعة ترتجى» فأخبره جبرائيل بما قال فاغتم لذلك فنزل عليه في تلك الليلة أية تسلية ولكن بماذا تسليه بزعمهم تسليه بما يسلب الثقة من كل نبي وكل رسول في قراءته وتبليغه، والآية هي قوله تعالى في سورة الحج «51 وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» فقالوا معنى ذلك إذا تكلم أو حدث أو تلا وقرأ ادخل الشيطان ضلاله في ذلك
إذن فما حال الأمم المساكين وما حال هداهم مع هذا الادخال الذي لم يسلم بزعمهم
ص: 46
منه نبي أو رسول ولم يسلم منه شيء من كلامهم أو حديثهم أو تلاوتهم على ما يزعمون «ما هكذا تورد ياسعد الابل» أفلا صدهم من ذلك اقلا ان سورة الحج مدنية امر فيها بالاذان بالحج 27 واذن فيها بالقتال. 4 وأمر فيها بالجهاد 77 ولم يكن هذا الأمر وهذا الاذن إلا بعد الهجرة بأعوام. وإن الذي بين ذلك وبين الوقت الذي يجعلونه الخرافة الغرانيق وخرافة نزول الآية هذه في ليلتها يكون اكثر من عشرة اعوام وقد ذكر شي من الكلام في ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 123 - 129 فلا بأس بمراجعته
ومن ذلك أن جملة من المفسرين والقراء يترددون في الوقف على بعض الكلمات لترددهم في ارتباطها بما بعدها أو بما قبلها. فلم يراعوا في ذلك مناسبات الكلام وجودته والحاجة إلى التقدير او حسنه.. ومن ذلك كلمة «فيه» من قوله تعالى في أول سورة البقرة «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ» زعما منهم أنها تكون خبراً مقدماً لقوله تعالى هدى للمتقين ويقدرون مثلها لقوله تعالى لا ريب مع ان الوقف على لا ريب يجعل الكلام قلقا مبتوراً بنحو لا يجدي في---ه التقدير. ومع انه لا حاجة لجعل الظرف خبراً مقدماً لهدى وجملته تكون خبراً ثانيا لذلك الكتاب. فإن كلمة هدى هي بنفسها تكون خبراً.. وهذا هو الأنسب بكرامة الكتاب المجيد فقد قال اللّه انه هدى ورحمة كما في الأعراف 50 والنحل 66 و 91 وغير ذلك وإن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين وهدى للناس وهدى ورحمة للمؤمنين وللذين آمنوا هدى وشفاء كما في سورة البقرة 91 و 181 والنمل 29 و حم السجدة 44
ومن ذلك كلمة «هذا» من قوله تعالى في سورة (يس) «مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ». فكأنهم لا يلتفتون إلى أن المقام غني عن وصف المرقد باسم الإشارة حتى للإيضاح لأنهم يقولون ذلك عند خروجهم من الأجداث ومراقد القبور. وان اخراج اسم الإشارة عن كونه مبتدءاً وما وعدنا خبره ليخرج الكلام عن الانتظام ويجعل صورته الحسنى مشوشة هي للنفي اقرب منها للاثبات وهو ضد المعنى الذي سيقت لبيانه الآية. هذا وأما الذين تهاجموا بآرائهم على تفسير القرآن بما يسمونه تفسير الباطن وكوناً بآرائهم إلى مزاعم المكاشفة والوصول ونزعات التفلسف أو التجدد أو حب الانفراد والشهرة بالقول الجديد وإن كان فيها ما فيها فقد آثروا متاهة الرأي على النهج السوي عن أصول العلم وفارقوه من اول خطوة
ص: 47
المقام الرابع
ان القرآن الكريم كثيراً ما ينسب التعقل والإدراك والاهتداء ونحو ذلك إلى القلب والمتجددون بنسبون الادراك وآثاره إلى الدماغ ويعتمدون في حدسهم في ذلك على انهم رأوا تلافيف الدماغ اي عقده في الإنسان اكثر منها في سائر الحيوانات وان الأعصاب الجمجمية المتصلة بظاهر الدماغ والمنتشرة أليافها في باطنه مرتبطة بأعصاب آلات الحس كالأذن والعين وغيرهما : ولكن مباحث التشريح ثقف دون حدسهم هذا. وإن المجموع العصبي والنخاع الممتد إلى الفقرة القطنية الأولى التي هي تحت الفقرة الثانية عشرة من الظهر هذه كلها كمخ الدماغ في كونها مكونة من الجوهر السنجابي والجوهر الأبيض فلاميزة التكوين الدماغ لكي يحدس امتيازه عنها بكونه كرسي الادراك والتعقل دونها. وإن الأعصاب كما ترتبط بآلات الحس ترتبط أيضاً بالقلب والكبد والمعدة بل حتى الأسنان وأعضاء البدن إلى أنامل اليدين والرجلين. وأما ما يتراءى من أن صغر الدماغ يقارن ضعف الادراك والتعقل إلى أن يصل الحال إلى البله فلا يدل على مدعاهم بل يجوز أن يكون خروجه عن المقدار الطبيعي للإنسان ككثير من العوارض البدنية موجباً لضعف الجزء الآخر العاقل في اداء وظيفته. وأما التفاوت بين أدمغة الرجال وبين أدمغة النساء فهو جار في قلوب الصنفين أيضاً. هذا مع أن الدماغ يزيد نموه في زمان قلة القوة العاقلة إلى السنة السابعة ثم ينمو بطيئًا إلى الرابعة عشرة ويتقهقر نموه إلى العشرين ومنها إلى الثلاثين ويقف عند الأربعين ثم ينقص وزنه في كل عشر سنين نحو اوقية مع أن الإنسان من العشرين فما زاد يزداد في قوة التعقل ويترقى في كونه أقوى وأحسن العقلاً وإدراكا. والقلب لا يزال يأخذ بالنمو والزيادة إلى الأدوار الأخيرة من الحياة ولا سيما في الذكور. وهذا أنسب بأزمنة حسن التعقل وجودة الإدراك. مضافاً إلى أن القلب هو مبد. الحركة الحيوية المديرة للدورة الدموية وأسباب الحياة والنمو وتوزيع القوى على جميع أجزاء البدن فهو أنسب من غيره بأن تستخدمه الروح الحيوانية في أعمالها العقلية. وأيضاً ان بناء القلب مؤلف من حلفات ليفية عضلية وكانها على نوع مدهش من التغمم والتصالب والتشبك بحيث يقال ان البناء العضلي للقلب لم يعرف كما ينبغي إلى الآن. وان بناء القلب وأليافه العضلية أكثر وأكثر تغماً وتصالباً وتشبكاً من البناء الذي امتازت به عضلات الحياة الحيوانية الحساسة للإرادة التي هي من أعمال النفس والمتثلة في أعمالها لأمرها. وهذا كله يشير إلى
ص: 48
أن لعضلية القلب وميزة بنائه عمل نفسي كبير فائق يفوق ما ذكر لعضلات الحياة الحيوانية وأنسب ما يكون بذلك هو الإدراك والتعقل. نعم يمكن ان يكون الدماغ محفظة لصور المدركات التي يستودعها القلب إياه
وخلاصة الحجة في ذلك هو ان وجوه الإعجاز في القرآن الكريم حجة على انه منزل من اللّه خالق القلب والدماغ بعلمه وحكمته. وقد اخبر بأن محل الإدراك والتعقل وآثاره هو القلب (خاتمة) من جملة ما يحضرني عند كتابتي لهذا التفسير من كتب الشيعة من كتب التفسير وانقل عنه تفسير القمي علي بن ابراهيم. والجزء الخامس من كتاب حقائق التأويل في متشابهات التنزيل المسيد الرضي طاب ثراه وهذا هو المقدار الموجود منه وابتداؤه من الآية الخامسة من سورة آل عمران إلى نهاية تأويل الحادية والخمسين عن سورة النساء. وكتاب مختصر التبيان للشيخ الطوسي. وهو قليل النسخة جداً وفيه احالات على كتابيه الخلاف وشرح جمل العلم. و كتاب مجمع البيان للطبرسي. وكتاب البرهان للسيد هاشم البحريني وهو تفسير بالحديث وهو مع الوسائل واسطتي إلى تفسير العياشي. واما التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد اوضحنا في رسالة منفردة في شأنه أنه مكذوب موضوع ومما يدل على ذلك نفس ما في التفسير من التناقض والتهافت في كلام الراويين وما يزعمان انه رواية وما فيه من مخالفة الكتاب المجيد ومعلوم التاريخ كما اشار اليه العلامة في الخلاصة وغيره. ومن كتب آيات الأحكام كنز العرفان للمقداد. وزبدة البيان للأردبيلي والقلائد للجزائري. و من كتب الحديث. الكافي. والفقيه. والتهذيبان. والوسائل. وعدة من كتب الصدوق وغيرها ومن كتب اهل السنة من كتب التفسير تفسير الطبري. والكشاف، والدر المنثور في تفسير المأثور للسيوطي. ومن كتب الحديث جوامعهم الستة. وموطأ مالك. ومسند احمد. ومستدرك الحاكم. وكنز العمال. ومختصره. وان الدر المنثور اجمع من غيره للمأثور في التفسير باعتبار الأحاديث ورواتها ومخرجيها في كتبهم فلذا كانت احالتي في الغالب عليه وان اخرج الحديث عن صحاحهم التي هي اعلامنه سمعة. وقد انقل عنها ما لم يذكره. وإنما اذكر عنه ما اسنده عن الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وسلم. او عن الصحابة الكرام رضي اللّه عنهم. واما ما يرويه موقوفاً على التابعين ومن بعدهم فلا حاجة لي فيه واللّه الموفق والمعين ولنشرع بعون اللّه وتوفيقه في المقصود
ص: 49
(1) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (2) الحَمدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ (3) الرَّحمان الرحيم (4) مَالِك يوم الدين (5) إياكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (1) اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ (7) صِرَاط الذين أنعَمتَ عَلَيهِم غير الْمَنْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ
-------------------------------------------------------------------
تسميتها
تواترت تسميتها بفاتحة الكتاب ومن ذلك قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) وسلم لا صلاة لمن لم يقرء بفاتحة الكتاب ونحو ذلك. وتكاثرت روايات الفريقين من الشيعة واهل السنة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وامير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تسميتها بأم الكتاب. وأم القرآن. والسبع المثاني. والقرآن العظيم. وعن ابي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنما سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين
برکتها
واستفاضت الرواية من الفريقين عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بل كادت ان تكون متواترة المعنى أن في قراءتها شفاء من الداء
محل نزولها
ذكر الواحدي في اسباب النزول وعن الثعلبي في تفسيره عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد نزلت فاتحة الكتاب بمكة الحديث. وروي عن عمرو بن شرجيل ما حاصله ان نزولها كان في أول الرسالة ونزول جبرائيل بالوحي. ولكن في مضامين الرواية ما فيها. وعن رجل من بني سلمة ما يقضي بأنها كانت تتلى قبل الهجرة. وقال اللّه تعالى في سورة الحجر «87 وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» وإذا كانت سورة الحجر كلها مكية قبل الهجرة ففي ذلك بضميمة ما ذكره في تسميتها دلالة على انها نزلت في مكة قبل الهجرة ولكن مرسوم في عناوين المصاحف انها مدنية وقيل انها مكية مدنية وهي سبع آيات باتفاق المسلمين وتضافر الأحاديث زيادة على احاديث السبع المثاني بل الأحاديث في روايات الفريقين متواترة في ذلك
بسملتها
بسم اللّه الرحمن الرحيم جزء من السورة باتفاق الإمامية والشافعية واجماع اهل البيت
ص: 50
والروايات المتكاثرة عنهم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وباتفاق المسلمين على رسمها في المصاحف من اول الأمر إلى الآن. والأخبار من طرف اهل السنة عن رسول اللّه وفيها الصحاح والحسان باصطلاحهم متكاثرة في ذلك كما في احاديث علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وام سلمة وعمار وجابر وبريدة وطلحة بن عبيداللّه وابن عمر وابي هريرة وانس والنعمان ابن بشير كما روي ايضا عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن عباس ومحمد بن كعب القرضي
الجهر بالبسملة
يجهر بها باتفاق الإمامية واجماع اهل البيت وعملهم وحديثهم وحديث اهل السنة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من طريق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعمار و عائشة والحكم بن عمير و ابن عمر و انس و ابي هريرة والنعمان بن بشير : وان تفسير البرهان المسيد هاشم البحريني من الإمامية وتفسير الدر المنثور للسيوطي من اهل السنة قد ذكر فيها الكثير مما اشرنا إليه من الاحاديث فليرجع اليها من اراد الاطلاع على التفصيل
اعراب البسملة
(بسم اللّه) يتعلق بمحذوف يشير اليه ظاهر المقام. وقيل تقديره ابدأوا او اقرأوا. أو قولوا. قلت على تقدير اقرأوا او قولوا تكون الباء بمعنى الاستعانة باسم اللّه كما يقال اكتبوا بالقلم وذلك لجلالة اسم اللّه وبركته بجلال المسمي جل وعلا وبركته. ويكون المقروء والمقول هو ما بعد البسملة من السورة (ويرد) على هذا النحو من التقدير اولا انه مناف الجزئية البسملة من السورة ومساواتها لسائر آياتها في حكم القراءة. وان التخلص يجعل البسملة معمولة ايضا لا قرأوا او مقولة لقولوا يستلزم تقدير عامل آخر تتعلق به الباء ومجرورها فما هو اذن. كما يرد ايضا ما ذكرنا على تقدير الكشاف اقرأ او اتلو من كلام القاري والتالي ويكون المقروء والمتلو ما هو بعد البسملة : ويرد الجميع ثانيا حتى ابدأوا للأمر انه لا يتجه اطراد هذه التقادير في السورة المصدرة بخطاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نحو يا أيها النبي. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قل أوحي بل وسائر السور المصدرة بكلمة (قل) وما أشبه ذلك من السور. وكذا السور المصدرة بخطاب غير النبي نحو يَا أَيُّهَا النَّاسُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فإن أمر اللّه للعباد بالقراءة أو القول يخرجها عن كونها في أول نزولها خطاباً إنشائياً من اللّه لرسوله أو للناس أو الذين آمنوا. وكذا إذا كان المقدر اقرأ او اتلو بصيغة المضارع. مضافاً إلى أن كلمة اقرأ او اتلو لا يصح ان تكون
ص: 51
من اللّه لأنه جل شأنه هو المتكلم بالقرآن والمنشى له فكيف تنسب اليه القراءة والتلاوة : فإن قلت انا في السور المشار اليها نجعل المقدر ما لا ينافي خطابها وفي غيرها نجعل المقدر كلمة اقرأ أو اتلو بصيغة المضارع من قول الناس. قلنا اولاً ماذا تصنع بما أوردناه اولاً (وثانيا) ما هو الذي تقدره في السور المشار اليها بحيث لا ينافي مقام خطابها وانشاءه فإنه ينبغي بيانه (وثالثا) يلزم من ذلك ان تفكك بين سياق البسملات التي في القرآن بلا دليل ولا حاجة ملزمة. مع أن الظاهر كونها في جميع السور على سياق واحد متسق كما ان الظاهر ان المقدر في تلك الدور وغيرها في حال النزول ووحي اللّه وفي حال تلاوة الناس وقراءتهم هو واحد. كما ان الظاهر ان التالي يتلو البسملة على ما تعلقت به حال النزول وان ما تعلقت به هو من القرآن المنزل الذي امر الناس بتلاوته وان كان مقدراً
فالظاهر ان البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة «ابدء» للمتكلم من قول اللّه جل اسمه تنويها بجلال اسمه الكريم وبركاته وتعظيما له لجلال المسمى وعظمته جل شأنه وله الأسماء الحسنى كما أمر في القرآن بذكر اسمه وتسبيحه كما في سورة المائدة والحج والمزمل والدهر والأعلى. فينتظم المقدر في جميع السور وجميع الأحوال بنظام واحد على نسق واح---د. ولا يعتريه ما استظهرناه غرابة ولا إشكال وكيف يعتريه ذلك وقد نسب اللّه الابتداء لذاته المقدسة في خلقه كما في قوله جل اسمه «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ» وق----د اقسم جل اسمه بمخلوقاته كالشمس والقمر والنفس وغيرها تعظيما لها لأنها مظاهر قدرته وآيات حكمته
خلق القرآن
وان لوحي اللّه بالسور إلى رسوله بداية ونهاية كما للسور كما قال اللّه تعالى في سورة الاحقاف في شأن القرآن «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى» ودع عنك ان القرآن الكريم كلام مؤلف من الحروف والكلمات ولا بد من أن يكون لها ولتأليفها بداية ونهاية ولا بد من ان يكون له علة في ايجاده ووجوده لأنه ليس بواجب الوجود فإن واجب الوجود واحد هو اللّه، وليست علة وجود الموحى منه إلا خلق اللّه خالق كل شيء قال اللّه في سورة الزخرف «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا» والجعل هو الخلق وكل مجمول ومخلوق له بداية. (اللّه) علم لواجب الوجود إله العالمين جات اسماوه و عظمت آلاوه. وتفخم لامه بعد الفتح والضم (الرحمن) لا اظنك تشك في ان معنى الرحمة تتلقاه افهام الناس من لفظه
ص: 52
في المحاورات على حدوده ومزاياه وتتناوله غرائزهم في اللغة على خصائصه وتميز في كل مقام ما يراد منه. بيد ان مقام التفسير قد يشوش الذهن لعدم اللفظ المرادف وعدم الاستقصاء في البيان لمزايا المعنى وحدوده. وقد فسرت الرحمة بالعطف والحنو. او الرأفة والحنان. أو الرقة والتعطف. وكل هذه التفاسير إنما تحوم حول المعنى وتشير إلى شيء منه من بعيد ألا ترى ان كلا من التفاسير الثلاثة تختلف كلمتاه في المعنى وإن هذه المذكورات قاصرة مع ان الرحمة تتعدى إلى المفعول. وان الأساس لمعنى الرحمة ودعامه ان تتعلق بالمحتاج إلى ما لا يقدر عليه من نبل الخير ودفع الأذى والضر. ويكون الداعي للراحم هو احتياج ذلك المحتاج والرغبة في إسعافه وإعانته فيه من دون أن يرجع إلى أغراض الراحم من نحو حاجة أو محبة او ارتباط خاص به. ويعرف من تعديتها إلى المفعول انها ليست عبارة عن الانفعال النفسي بل هي تستعمل في حالة نفسية تتعلق بالمحتاج على الوجه المذكور وبالنسبة للّه جل شأنه نحو من كماله الذاتي يتعلق بالمحتاجين على الوجه المذكور. ولأجل قصور البشر نوعاً على فهم صفات اللّه جل اسمه على ما هي عليه جرى القرآن الكريم على التعبير عنها بما يعبر به عما يناسبها في الشبه بالآثار والمزايا من صفات البشر الحميدة وجرى على ذلك في المبدأ والاشتقاق وتستعمل الرحمة ايضا بنفس الاسعاف او بنفس المسعف به. ومن الثالث بحسب الظاهر قوله تعالى في سورة آل عمران «وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» وفي سورة الكهف «رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» وغير ذلك. وفي القرآن ايضاً ما يصلح انطباقه على المعنى الأول والثاني. فالرحمن فعلان لذي الصفة الفعلية البينة ذات الأثر الظاهر ولها بقاء واستمرار كغضبان و ریان و فرحان. فيدل على فعلية الراحمية البيئة واستمرارها. وان اهمال المتعلق مع اشتقاقها من المتعدي ليدل على عموم هذه الراحمية ذات الأثر الظاهر و شمولها الكل محتاج اليها والكل محتاج اليها. ومن ذا الذي تكون راحميته او رحمته بمعنى اسعافه فعلية بينة ظاهرة الأثر مستمرة شاملة مطلقة ومن ذا الذي يقدر على هذا الإسعاف غير اللّه جلت آلاؤه ولأجل ذلك اختص هذا الاسم الكريم باللّه جل شأنه (الرحيم) صفة مشبهة تؤخذ بهذه الصيغة من المعاني الثابتة كالسجايا والأخلاق فتدل على ثبوت الرحمة ودوامها اللّه كدوام السجايا والأخلاق للبشر ولزومها وبهذه الدلالة وهذه المزية كانت ابلغ في المدح وبهذه الجهة صح الترقي اليها بالتمجد والمدح ولا يمتنع اخذ الصفة المشبهة بهذه الصيغة من الوصف المتعدي بحسب وضعه لأنه قد يجعل لازما بتضمينه معنى السجية
ص: 53
والخلق فيؤل إلى معنى فعل بضم العين كقوله تعالى في سورة المؤمن (15 رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ» اي رفيعة درجاته فأضيفت الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على ما هو من خصائص الصفة المشبهة كما قال الشريف في حاشية الكشاف وحكاه عن صرف المفتاح وفائق الزمخشري و مما يشهد بأن لفظ الرحيم ضمن معنى غير المتعدي هو انه حيث ذكر في القرآن متعلقا بمعمول ذكر متعلقا بواسطة الباء على سنة غير المتعدي دون لام التقوية كما في سورة البقرة «138 إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» وفي سورة الحج 164 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» وفي سورة الحديد «8 وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ - 9 وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» وفي سورة بني اسرائيل «68 رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا» «69 وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا» «70 أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ - 71 أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ - فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ» وفي سورة التوبة «إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ» وفي سورة النساء «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا» وفي سورة الأحزاب «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا» وهذه الصفة غير مختصة باللّه فقد جاء في سورة التوبة في وصف الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) «129 بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»
وقد عرفت مما ذكرناه من سورة البقرة والحج وبني اسرائيل والحديد ما ينبغي أن تطرح الرواية التي تذكر ان الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة ومما ذكرناه من سورتي بني اسرائيل والحج ينبغي ان تطرح ايضا الرواية التي تذكر ان الرحمن رحمان الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة كما أمرنا بذلك في عرض الحديث على كتاب اللّه
(الحمد اللّه) الحمد ثناء بالخير معروف يضعه المتكلم بحسب مرتكزاته في اللغة مواضعه ويعرف معناه بمزاياه ويفرق بينه وبين ما يقارنه في الاستعمال والفهم. ولكن الاضطراب يجيء من ناحية التفسير فمن قائل انه اخو المدح أي مرادفه. ومنهم من فسره بالشكر مستشهدا بقولهم الحمد للّه شكراً جاعلاً قولهم شكراً مفعولاً مطلقاً لا مفعولاً لأجله، ومنهم من قال ان الحمد والمدح والشكر متقاربة. ومنهم من جعله على صفات المحمود الذاتية وعلى عطائه. ومنهم من خصه بالثناء على الفعل الجميل الاختياري. والظاهر من التدبر في موارد الاستعمال والتبادر
ص: 54
ان الحمد هو الثناء باللفظ بالخير على فعل الجميل الاختياري إذا كان للجميل نحو مساس بالحامد وإلا فهو مدح. وأما الشكر فهو مقابلة الاوحسان بنوع إحسان يتضمن الاعتراف سواء كان عملا أو قولاً ولو بنحو من الاعتراف بذلك الاحسان وفضله لا مجرد الاعتراف بذات الفعل لا من حيث انه احسان وتفضل. ولا أظن قولهم الحمد للّه شكراً إلا ان شكراً مفعول لأجله نحو سبحته تعظيماً. وإن فاعل الجميل من الناس إنما يستحق الحمد إذا فعله لحسنه أو لوجه اللّه وهو روح الانيان بالفعل لحسنه «وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» بل لا يستحقه حتى في الظاهر إذا عرف انه لم يفعله اللّه ولا لحسنه وذلك القليل لا يستحق الحمد إلا من حيث مباشر ته لفعل الجميل و اختياره له. فإن القوى التي فعل بها والإدراك الذي عرف به حسنه والإرشاد إلى فعل الجميل والأعيان التي تكون محققة لاسداء الجميل هي كالها اللّه ومن اللّه جلت آلاؤه ولذا كان الحمد كله وبحقيقته للّه الغني المطلق جليل النعم التي لا تحصى نعماوه ولا يخلو من عظائها إنسان في حال من الأحوال. وجملة الحمد للّه خبرية ان كانت من كلام اللّه في تمجيده لذاته وتنويهه بجلاله جل شأنه ولكن روى الصدوق في الفقيه من كتاب العامل للفضل بن شاذان عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد وذلك ان قوله عز وجل الحمد للّه إنما هو اداء لما أوجب اللّه عز وجل من الشكر وشكر لما وفق له عبده من الخير رب العالمين توحيد له وتحميد واقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره الرحمن الرحيم استعطاف وذكر لآلائه ونعمائه على جميع خلقه مالك يوم الدين اقرار له بالبعث والحساب والمجازاة الحديث. إذن فجملة الحمد للّه إلى آخره إنما هي عن لسان العباد وتعليم كيف يحمدون ويوحدون ويقرون فهي خبرية تتضمن انشاء الحمد بانه كله وبحقيقته للّه (رَبِّ الْعَالَمِينَ) الرب المالك المدبر أو المربي والعالمين جمع عالم (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تقدم تفسيره (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) مالك يوم القيامة وبيده أمره يتصرف فيه بعدله أو برحمته كيف يشاء وفي التبيان والكشاف ومجمع البيان أن إضافة مالك إلى يوم الدين من اضافة اسم الفاعل إلى الظرف نحو قولهم «يا سارق الليلة أهل الدار». ولا أرى حاجة ماسة إلى ما ذكروه. وروي في التبيان ومجمع البيان مرسلاً عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والقمي مسنداً عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) واخرج ابن جرير والحاكم وصححه مسنداً عن ابن مسعود وناس من الصحابة ان يوم الدين يوم الحساب وأظن ذلك لبيان انه يوم القيامة. وفي التبيان والبيان الدين الحساب والجزاء وفي
ص: 55
الكشاف الجزاء واستشهد والذلك بقولهم كما تدين تدان وبيت الحماسة المنسوب لشهل بن ربيعة
صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم اخوان***عسى الأيام ان یرجعن قوما كالذي كانوا
ولما صرح الشر وأمسى وهو عريان***ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا
على معنى كما تجازي غيرك إذا أساء فإنك تجازى أيضا إذا أسأت وإنا جازينا بني ذهل على عدوانهم كما جازوا غيرنا فإن ظاهر الشعر ان قوم شهل كانوا قد صفحوا عن بني ذهل ولم يسبق منهم ما يكون به اعتداء بني ذهل عليهم مجازاة ولعل من معنى الدين المذكور في قول الأعشى «هو دان الرباب أذكر هو الدين دراكا بغزوة وصال» وامل من هذا الباب الديان من اسماء اللّه له الأسماء الحسنى وديان يوم الدين وقول الأعشى مخاطباً لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) «یا سيد الناس وديان العرب» والحديث كما ذكره في النهاية كان على ديان هذه الأمة. والأمر في تفسير الدين في الآية سهل فإنه يتراوح بين هذه المعاني وما يقرب منها.
ولا غرو إذا تشابهت علينا هاهنا حقيقة معنى الدين بحدودها بواسطة التوسع في الاستعمال ولا ينبغي أن يخفى أن قوله عز وجل «رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ». هو بمنزلة الحجة على ان الحمد له جلت آلاؤه وبمنزلة الحجة على انحصار العبادة والاستعانة به في قوله جلت عظمته (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهل يعد أو يستعان به بما هو رب العالمين غير رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. وهل يصح في الشعور ان يرغب عن عبادته اولا تغتنم الاستعانة به. وقد كررت كلمة (إياك) لوجهين الأول للتصريح والنص على انحصار كل من العبادة والاستعانة به. ولو قيل إياك نعبد ونستعين لأوهمت صورة اللفظ ان المنحصر هو مجموع الأمرين من العبادة والاستعانة لا كل واحد منهما والثاني لأن الحصر فيهما مختلف فإنه بالنسبة للعبادة حصر الجميع أفرادها وبالنسبة للاستعانة حصر باعتبار بعض افرادها كما سيأتي إن شاء اللّه. وهذا الاسلوب في الآية الكريمة من قسم الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والالتفات في كلام العرب وشعر هم كثير وهم يعدونه من محاسن الكلام ومزاياه في البلاغة وهو متفاوت في الحسن ولكنه مهما بلغ فإنه لا يكاد ان يبلغ ما بلغه هذا الالتفات من الحسن الباهر والجودة الفائقة وأعلا درجات البلاغة. فإنه يمثل العبد شاخص البصر إلى جلال مولاه ومتوجها إلى حضرته بالاعتراف بأنه لا معبود سواه ولا مستعان إلا هو ومتضرع ابخطاب العبودية والمسكنة ومناجاة الرهبة والرغبة خاضعاً لربوبيته ماداً الى رحمته يد الانقطاع في المسألة والاستعانة
ص: 56
العبادة
يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رسلهم ومجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر ويعرفون بذوقهم مجازه ووجه التجوز فيه. وإن المحور الذي يدور عليه استعمالهم وتبادرهم هو ان العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع الها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالالهية، أو بعنوان انه رمز او مجسمة المسن تھا يزعمونه إلها تعالى اللّه عما يشركون. ولكن الخطأ والشرك. أو البهتان والزور. أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة (الأول) الإتيان بما تتحقق به حقيقة العبادة لما ليس أهلا لذلك بل هو مخلوق اللّه كمبادة الأوثان مثلاً (الثاني) مقام البهتان والافتراء وخدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئا من الإحترام بعنوان انه عبد مخلوق اللّه مقرب عنده لأنه عبده وأطاعه ويرمونه بأنه عبد ذلك المحترم وأشرك باللّه في عبادته، ألا تدري لمن يبهتون بذالك يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقرباً إلى اللّه لأنه اختاره وأكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي يجعل اللّه وعهده كما وعد اللّه بذلك ابراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» وهذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه ولا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هؤلاء المنحزبين لملوكهم وزعمائهم وحكامهم وخضوعهم لهم بالقول والعمل مهما بلغوا من النخوة الاعرابية. ولقدسرت هذه البادرة السوء كى موروثة من خلال الخوارج في تحزبهم إذ نسبوا الشرك والكفر لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ ألجأوه عند رفع المصاحف إلى السكوت عن تحكيم رجلين يعملان بما يوجبه القرآن في شقاق معاوية في حربه. كما ألجأوه إلى كون الحكمين أبا موسى وابن العاص. وكما نسبوا الشرك ثانياً الى ولده الحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما نافق قومه وزعماء.. جنده وانحاز بعضهم الى معاوية وكاتبه آخرون وواعدوه تسليم الحسن له قبض اليد فخطب الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في معسكره المحشو بالنفاق مستشيراً ومقيما للحجة ومختبراً لهم لكي يعرف الناس نفاقهم فيكونوا على بصيرة من أمرهم في الحرب او الهدنة
وهذه المباهلة الوخيمة والديسة الوبيئة في التحزب الأثيم صارت في العصور المتأخرة وسيلة للتهاجم على ما حرم اللّه من دماء المسلمين واموالهم واعراضهم وعلى حرمات الرسول والأئمة
ص: 57
(عَلَيهِم السَّلَامُ) وجرى من جرّاء ذلك ما تقشعر منه الجلود. ولولا أن ملكهم قمع طغيانهم الجرى من عدوانهم والدفاع لهم حوادث في المسلمين مزعجة واللّه المستعان اللهم إياك نعبد وإياك نستعين
(المقام الثالث) كثيرا ما فسرت العبادة بأنها ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع. او الطاعة. وهل يخفى عليك أن هذه التفاسير مبنية على التساهل بخصوصيات الاستعمال أو الارتباك في مقام التفسير وهل يخفى أن اغلب الافراد من كل واحد مما ذكروه لا يراه الناس عبادة ويغلطون من يسميها او بعضها عبادة الا على سبيل المجاز. وإن لفظ العبادة وما يشتق منه كعبد ويعبد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلا فيما ذكرناه من معاملة الإنسان ان يتخذه إلها معاملة الإله المستحق لذلك بمقامه في الإلمية. ولم اجدها في القرآن الكريم مستعملة في غير ذلك إلا في ثلاثة موارد ولكنها لم تخرج عن النظر إلى مناسبة المعنى الحقيقي المذكور والتجوز بلفظه. وهي قوله تعالى في سورة مريم 45«يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا» وفي سورة يس «60 أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ». فاستمير اسم العبادة الطاعة العمياء للشيطان على الدوام كما يلقي المؤمنون قياد طاعتهم اللّه على بصيرة من امرهم لأنه إلههم على نحو التجوز الواقع في قوله تعالى في سورة الفرقان «45 أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. والجاثية 22 أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» فإنهم لم يكونوا يعبدون الشيطان ولم يتخذوا هواهم إلها على سبيل الحقيقة. وثالثها قوله تعالى في سورة المؤمنون «49 قالوا (اي فرعون وملائه أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ» اي دائبون على العمل في تسخيرنا كما يدأب المؤمن في طاعة اللّه وعبادته، او باعتبار ان فرعون كان يدعي الالهية فجعلوا بالتشبيه والتمويه خضوع بني اسرائيل بالقهر والغلبة عبادة لفرعون هذا وان الشيخ محمد عبده خاض في هذا المقام في البحث على ما حكاه عنه تلميذه في تفسيره لسورة الفاتحة وقارب الغرض في كلامه ولما يقرطس. قال ما ملخصه مهما غالى العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له وتفانى في هواه وارادته. أو بالغ بعض الناس في تعظيم الملوك والزعماء فترى من خضوعهم لهم مالا تراه من خضوع القانتين للّه فإن العرب لم يكونوا يسمون شيئاً من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة اذن. وقال : تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بساطة لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها انها محيطة به
ص: 58
ولكنها فوق ادراكه انتهى كلامه و او انه صارح بجامع كلامه وملاك صحته واستقامته «وهو ما قدمنا من تقيد العبادة بالتعاق بمن يراه العابد الها» لما عادت جمله فلا متدافعةً يشلها الانتقاد وان اعتصم بعد ذلك بصائب قوله «العبادة صور كثيرة في كل دين شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى» فإنه لا يتسق قوله هذا الا أن يعتبر في معنى العبادة كونها ناظرة الى توفية من يتخذه إلها حقه من التعظيم والخضوع واي شعور مذكر فيها لولا ذلك الاعتبار. وان لم يعتبر ما ذكرناه فلا مفر الجمله المتقدمة عن النقد. فإن صور كثير من العبادات لا تبلغ حد النهاية من الخضوع ولا تقاربه كما ذكر في عبادة المتحنثين القائمين بالنسبة لخضوع ذلك العاشق لمعشوقه وخضوع اولئك في تعظيم الملوك والزعماء. وأيضا ان عابد اللّه يعرف أن منشأ العظمة وملاكها هي السلطة الإلهية والئن كانت فوق ادراكه فباعتبار عمومها. يعد ولا يحد من الممكنات لا بما هي سلطة الكلية عظيمة يمكن عرفاتها ونيلها بالادراك من هذه الوجهة. وفي مقام الفرق بين العبادة والعبودية قال ومن هنا قال بعض العلماء أن العبادة لا تكون في اللغة الا للّه تعالى «أقول» يريد ان العبادة من حيث ان معناها الحقيقي في اللغة مأخوذ فيه التعلق بالإلهية والا له لا يصح تعلقها إلا باللّه الذي لا إله الا هو ولا يريد أنها لم تنسب في اللغة الا اللّه. وكيف يخفى عليه أنها جاءت في نفس محاورات القرآن منسوبة لغير اللّه في اكثر من سبعين موردا. فالظاهر أنه لا وقع لاعتراضه عليه بقوله ولكن استعمال القرآن يخالفه. نعم يرد على من قال ان لفظ العباد مأخوذ من العبادة انه غفل عن قوله تعالى في سورة النور «32 وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ»
حصر الاستعانة باللّه جل اسمه
قال اللّه تعالى في سورة المائدة «3 تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» واما المعاونة في المباحات فهي إحسان أمر اللّه به أيضاً في كتابه بقوله تعالى في سورة النحل «92 ان إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» وفي سورة البقرة 91 وآل عمران 128 والمائدة 1 «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». والمعلوم بالضرورة من سيرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وأصحابه والأئمة والمسلمين انهم يستعينون في غالب أمورهم المباحة بالآلات والدابة والخادم والزوجة والصاحب والرسل والأجراء وغيرهم وفي سورة البقرة «42 و 128 اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ» وفي سورة النساء «67 وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا» فقد لامهم اللّه على
ص: 59
عدم مجيئهم للاستعانة على المغفرة باستغفار الرسول. وهذا يكفي في الحجة والدلالة على ان الإعانة ليست بجميع أقسامها منحصرة باللّه. وعلى انه لا يلزمنا أن نقصر استعانتنا بقول مطلق على اللّه. وتفصيل ذلك هو انا ننظر إلى استعانات البشر قولاً وعملاً فنراها تكون على نحوين (النحو الأول) هو الاستعانة بالوسائل المجمولة من اللّه لنيل المقصود التي هي وما فيها من التسبيب من جعل اللّه وخلقه. (والنحو الثاني) هو الاستعانة بالا كه بما هو اله معين بإلهيته وقدرته الذاتية المطلقة الفائقة. ولا ريب في ان النحو الثاني من الاستعانة هو المتيقن في قصره على اللّه. لأن الإستعانة بهذا النحو إذا كانت بغير اللّه كانت تأليها لذلك الغير واشراكا باللّه ومما ذكرنا من الآية والسيرة واقتران إياك نعبد وإياك نستعين في سياق توحيد اللّه وتمجيده بالمجد الإلهي تقوم الحجة وتتضح الدلالة على ان هذا النحو من الاستعانة هو تمام المقصور على اللّه دون النحوا لأول
الاستشفاع إلى اللّه
ولا ريب في أن الاستشفاع إلى اللّه في دعائه والتوسل اليه بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة والأولياء في الحوائج إنما هو من الاستعانة بالنحو الأول. وإنك إذا سألت حتى من الهمج عما يفعلون في توسلهم بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة والأولياء قالوا انا نستشفع بهم إلى اللّه ونقد مهم أمام تضرعاتنا اليه لكرامتهم عليه ووجاهتهم عنده لأنهم من عباده المكرمين. فإن قلت لهم انكم ربما تخاطبونهم بالتضرع والتمجيد وطلب الحاجة منهم فما هذا. قالوا لك تخاطبهم بالضراعة ليشفعواو بالتمجيد با هم أهل له احتراما لمقامهم عند اللّه وبطلب الحاجة منهم الحاحاً عليهم وتأكيد في الاستشفاع. وبياناً لأن شفاعتهم وسيلة ناجحة كما تقول لمقرب الملك فيما يرجع أمره إلى الملك أريد هذا الأمر منك. فإن قلت لهم هلا تسألون طلباتكم منهم. قالوا لك كيف وإنهم بشر لا يقدرون على ما يختص اللّه بالقدرة عليه من حيث الإلهية ولا إله إلا اللّه : فإن قبل ان اللّه ارحم الراحمين فما هي الحاجة إلى الاستشفاع. قلنا شرع الاستشفاع لأجل الحكمة التي شرع لأجلها الدعاء كما قال اللّه وهو أرحم الراحمين عالم الغيب والشهادة في سورة المؤمن «62 دْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ - 67 فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وفي سورة الاعراف «28 وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ - 54 وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا» فإن دعاء اللّه تمرين على عبادته والالتجاء اليه والفزع إلى إلهيته وقدرته... فإن قيل أين شرع الاستشفاع. قلنا يكفي في الدلالة
ص: 60
على مشروعيته من الكتاب المجيد ما ذكرنا من الآية السابعة والستين من سورة النساء في لو مهم على عدم مجيئهم ليغتنموا شفاعة الرسول باستغفاره لهم. وإن العدول والالتفات من خطاب اللّه لرسوله في الآية المشار اليها إلى قوله واستغفر لهم الرسول إنما هو للإشارة إلى ان الحكمة في ذلك هو تمرينهم على الانقياد إلى الرسول ومقام الرسالة بالمجيء إلى حضرته والخضوع لكرامته بالاحتياج وطلب الاستغفار وشفاعته لهم. كل ذلك لكي ينقادوا مستوثقين إلى طاعته في أمور الدين والإيمان. وهذه المشروعية يجري وجهها وحكمتها وعلتها في شفاعة الأئمة والأولياء وليننبه المستشفع من استشفاعه إلى كرامة المطيع اللّه لطاعنه فيحركه ذلك إلى الرغبة في الطاعة. وهذا أمر معروف المشروعية معمول عليه في الأديان الحقة كما حكى القرآن الكريم ان أولاد يعقوب نبي اللّه استشفعوا بأبيهم إلى اللّه وطلبوا استغفاره لهم فوعدهم يعقوب بذلك كما في سورة يوسف «98 يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا – 99 قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي»
الاستشفاع بالمقربين من الأموات
وما ذكرناه من الحكمة يجري أيضا على رسله في الاستشفاع بهم بعد وفاتهم لكي يحفظ انقياد الناس اليهم فيما علموه وأمروا به وارشدوا اليه من امر الدين وصلاح الدارين. وللتنبه ايضا إلى كرامة الطاعة اللّه. فإن قال قائل كيف يستشفع بالأموات وأين هم بعد موتهم من مقام الشفاعة
بقاء النفس بعد الموت
قلنا قد عرفنا اللّه في كتابه المجيد ان النفوس تبقى بعد الموت على ما هي عليه من المقام النفساني اما متمتعة بمقام الكرامة واما مبتلاة بالهوان والسخط. وقرب لأفهامنا القاصرة حالة النفس بعد الموت وبقائها بمقارنة حالتيها في الموت والنوم. فقال جل اسمه في سورة الزمر «43 اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وفي سورة البقرة «154 وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ» وآل عمران«170 وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 171 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون 172 يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ». وان قوله تعالى ان اللّه لا يضيع اجر
ص: 61
المؤمنين دون ان يقول لا يضيع اجر المجاهدين في سبيله البدل على ان ذلك من آثار الإيمان الجارية لكل مؤمن لا آثار خصوص القتل في سبيل اللّه ومن خواصه. وقال جل اسمه في سورة المؤمن «48 فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ 49 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ» فانظم البيان لبقاء النفوس بعد الموت هذه على كرامتها وهذه في هوانها
الشفاعة
فإن قال قائل إن اللّه قد نفى الشفاعة في القرآن الكريم ففي سورة البقرة «255 مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ» والسجده «4 مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ» إلى غير ذلك من الآيات «قلنا» ان الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع اللّه بزعم انهم آلهة قادرون با كميتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعاً وحتماً. أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتماكما في سورة یس 26 و المؤمن والزمر 44 والمدثر 48 وأثبتها من جهة أخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لا بهام نفيها المطلق عن كل احد فقال تعالى، إلا بإذنه، إلا من بعدا ذنه الا من اتخذ عند اللّه عمداً. إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً. إلا لمن ارتضى. إلا لمن أذن له. إلا من شهد بالحق. إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء وبرضى. كما في سورة البقرة 256 وبونس 3 ومريم 90 وطه 108 والأنبياء 29 وسبا 22 والزخرف 86 والنجم 27. وإن الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة. ويونس. وسبا، مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا. ولكن لو اعطي القرآن حقه من الندبر وسلمت النفوس من وباء الأهواء والتحزب وبوادر التعصب والنصب لما ثار الهياج من بعض الناس على استشفاع المسلمين بالرسول والأئمة والأولياء لأنهم عباد مكرمون وأولى عباد اللّه بأن نعتقد اذنه جلت آلاوه لهم بالشفاعة إكراماً لهم لأجل الحكمة التي ذكرناها. وقد اكتفينا ها هنا بدلالة الكتاب المجيد عن الإشارة إلى ما تواتر معناه من احاديث المسلمين في هذه الشؤون. وفي كتبهم في الحديث من ذلك شيء كثير والأمر فيه جلي ولكن «لأمر ما جدع قصير أنفه» والمشيخ محمد عبده على ما حكاه تلميذه في سورة الفاتحة صفحة 47,46 من الطبعة الثالثة كلام القاه على عواهنه في زوبعة الهياج المذكور وهو غريب من تحريه تهذيب كلامه وتدبر القرآن الكريم وتفسيره والتحرز
ص: 62
من عبودية الأهواء ولم يحضرني كتاب تفسيره لأرى ما فيه في هذا المقام (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) الهداية تستعمل في الإرشاد إلى الطريق والدلالة على الخير كقوله تعالى في سورتي فصلت «6 وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى» والشورى «52 وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وتستعمل في الايصال بالتوفيق والتسديد كقوله تعالى في سورة القصص «50 إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - 56 إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» والنساء 70 وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا» والأنعام بعد ذكر عدة من الأنبياء «87 وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» وهذا المعنى هو الظاهر والمراد من الآية حتى إذا كانت سورة الفاتحة أول ما نزل من القرآن الكريم. والهداية تتعدى إلى المهدي اليه بنفسها وبإلى. والصراط هو الطريق والمستقيم ما لا انحراف فيه ولا اعوجاج وهو أقرب نهج موصل إلى المقصود. ويكون سالكه أبعد من الضلال وخوفه. وعلى بصيرة من أمره من اول سلو که اذ يتضح منه منار الحق وبشائر الوصول من أول الاقبال اليه. وفي حديث الجمهور كما في الدر المنشوراته في الآية كتاب اللّه أو الاسلام او رسول اللّه وصاحباه بعده. وفي تفسير البرهان عن تفسير وكيع بن الجراح مسندا عن ابن عباس في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم قال قولوا يا معاشر العباد ارشدنا الى حب محمد واهل بيته. وعن تفسير الثعلبي مسندا عن ابي بردة قال صراط محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) واهل بيته. وفي روايات الإمامية انه امير المؤمنين. او انه الأئمة. وكلما صح من ذلك فهو من باب النص على احد المصاديق او اظهرها (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالتوفيق والسداد فنعموا بالوصول وفازوا بالزلفي (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) لأنهم عائدوا الحق بعد ما استنار صبح الارشاد ووضحت الدلالة وقامت الحجة فاستوجبوا بذلك غضب اللّه. وكلمة غير مجرورة على انها صفة للذين. وفي الحديث والروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود أو النواصب. وما صح من ذلك فهو من باب النص على بعض المصاديق (وَلَا الضَّالِّينَ) بجهلهم وتقصيرهم عن طلب الحق ومعرفته مع وضوح الدلالة وقيام الحجة وجي، بكلمة «لا» مع الضالين لأجل الاستقصاء في التعوذ من الفريقين المغضوب عليهم والضالين
مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية
ص: 63
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الذينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *
-------------------------------------------------------------------
(بسم اللّه الرحمن الرحيم) من تفسيرها في سورة الفاتحة
(1 آلم) علم معناها عند اللّه ورسوله ومستودعي علمه وأمنائه على وحيه. ولا غرو في ان يكون في القرآن ما هو محاورة بأسرار خاصة مع الرسول وامناء الوحي «ذَلِكَ الْكِتَابُ» القرآن أشير اليه باشارة البعيد لرفعة مقامه وعلو شأنه وذلك متعارف عند العرب في الإشارة الى العظيم الرفيع الشأن (لَا رَيْبَ فِيهِ) ليس فيه محل للريب ولا ينبغي الريب في أمره، او ليس فيه شي مريب بل هو (هُدًى) بالفعل وموصل الى حقيقة الدين وشريعة الحق وأركان الإيمان (لِلْمُتَّقِينَ) للّه الذين من تقواهم يقبلون على القرآن ويتبعونه حق الاتباع ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ويتأدبون بآدابه ويستر شدون بمعارفه. والاتقاء مأخوذ من الوقاية يقال اتقى السيف بالدرقة أي اتقى ما يخاف منه وفي الآية الثانية والعشرين «فَاتَّقُوا النَّارَ» و 46 «وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي» وتقوى اللّه عبارة عن انقاء ما يخاف منه كغضبه وعذابه فيتقى ذلك بطلب رضاه وطاعته في أوامره ونواهيه. واطلاق النقوى في وصفهم يدل على انها صفة عامة ثابتة لهم وملكة راسخة كالعالم والفقيه. والذين في الآية الآتية وكذا التي بعدها ليست مبتدأ وخبره جملة أو كئك على هدى كما احتمل في بعض التفاسير بل هي صفة للمتقين (2 الذين) من قوتهم في النقوب والإيمان بالحق واتباع الدليل والهداية (يُؤْمِنُونَ بِالغَيبِ) مما لم يروه ولم يحسوا به بل يحصل لهم يقين الإيمان بالحجة من كتاب اللّه وقول من قامت الحجة على عصمته وذلك كالبعث والنشور والوعد والوعيد والجنة والنار واحوال القيامة والنعيم والعذاب. ومن مصاديق المؤمنين بالغيب والمؤمنون بقيام المهدي المنتظر عجل اللّه فرجه كما في الرواية عن اهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ) يواظبون عليها في أوقاتها قائمة على حدودها وشروطها واخلاصها في العبادة والرغبة إلى اللّه في مناجاته والمثول في طاعته بحضرته (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) من مال بل وعلم كما في رواية أهل البيت (يُنْفِقُونَ) كما فرضه اللّه عليهم أو ندبهم اليه من البر والاحسان بالتعليم والبيان. وينفقونه على حين معرفة منهم واعتراف بأنه رزق اللّه ونعمته عليهم فيكون انفاقهم أدخل في الطاعة المقرونة بالشكر وأقرب الى المعرفة والإحسان والدوام (3 والذين) صفة اخرى
ص: 64
(4) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ همْ يُوقِنُونَ * (5) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
-------------------------------------------------------------------
للمتقين وجيء بواو العطف استافانا الى فضيلة هذه الصفة فإن التعدد بالعطف يمثل الذهن كلا الصفات مستقلة بمزاياها لا كما اذا طردت من غير عطف. ألا ترى ان الذهن يجد من
من الرونق للصفات في قواهم جاء الرجل العالم والصالح والكريم والشجاع ما لا يجده في قواهم جاء الرجل العالم الصالح الكريم الشجاع (يُؤْمِنُونَ بِما أُنزِلَ إِلَيْكَ) من الوحي من الكتاب وغيره ويذعنون بأنه منزل من اللّه على رسوله رحمة للعباد ولطفا منه فيظهر عليهم بذلك شعار الإيمان به (وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) على الرسل والأنبياء حسب ما يحصل لهم من اسباب العلم بإنزاله. واظهر الأسباب في ذلك اخبار القرآن الكريم والرسول المصطفى به. وذلك من الإيمان بالغيب لأنهم لم يشاهدوا آية ومعجزة من أولئك الأنبياء الماضين (وَبِالآخِرَةِ) التي ذكرها القرآن ومافيها وعرفتهم انت بذالك في بشراك وانذارك (همْ يُوقِنُونَ) ويرونها بإيمانهم بالغيب حق اليقين كان ذلك رأي العين. وصيغة المضارع في يوقنون تدل على ثبات اليقين ودوامه وهو الذي تظهر سماؤه في دوام الطاعة والرهبة من سخط اللّه وعقابه والرغبة في رضا اللّه و ثوابه الذي اعده في الآخرة الصالحين. وهؤلاء المتصفون بهذه الصفات بالآخرة هم يوقنون لا من يكذبها باعتقاده وقوله. او يصورها بتكلف اعتقاده بها على خلاف ما جاءت به رسل اللّه وكتبه. او من كانت سيرته في أعماله السيئة وتفريطه في الطاعات تمثل ضعف إيمانه بالآخرة وإن غفلاته عنها في أعماله وتروكه تكاد أن تأتي على ما يتكلفه من الاعتقاد بها والعياذ باللّه. وبعد التنويه بصفات المتقين المهتدين بالكتاب جاءت البشرى بكرامة مقامهم وربح تجارتهم فقال اللّه في شأنهم (5 أُولَئِكَ) مستقرون (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) وتوفيق وتسديد اذ كانوا بايمانهم وإقبالهم على الطاعة أهلا لذلك (وَأُولَئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) دون غيرهم أما في الدنيا فبراحة ما استشعروه من القناعة وتقدير النعم وشكرها وفضيلة الرضا بأمر اللّه والتسليم لحكمته وراحة الهدوء والصلاح وحسن الأخلاق. وأما في الآخرة فيفلاح النعيم المقيم. وبمناسبة حال الكتاب في هداه مع المتقين الموصوفين وما لهم من الاهتداء والفلاح ذكر اللّه لرسوله حال بعض الكافرين بأنهم في تماديهم بالغي على الكفر والتمرد لا يجدي معهم انذارك ولا يؤمنون
ص: 65
(6) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواهُ عَلَيهِمْ أَأَندَرَتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * (7) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
باللّه ورسوله وكتابه. هذا ما يقتضيه سياق القرآن الكريم خصوصا مع ابتداء الاخبار عن الذين كفروا بدون عطف بالواو (6 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني قسماً خاصاً ممن ينتحل الكفر والمعهودين عند الرسول أو هم مطلق الطواغيت الذين يعلم اللّه انهم من تمردهم يموتون على التمادي على ضلال الشرك والكفر باللّه ورسوله وكتابه وما جاءا به في دعوة الحق مع الحجج القيمة والدلالة الواضحة. هؤلاء (سَواهُ عَلَيهِمْ أَأَندَرَتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ولا يختارون الإيمان لأنهم بطغيانهم وانها كهم بضلال الكفر قد ارتجوا قلوبهم وأسماعهم وأحكموا سدها عن ان يلجها شيء من دعوة الإيمان ودلائل آياتها ولا شيء من نور الحق وشافي البيان فاستحقوا بذلك حرمانهم من توفيق اللّه وتسديده لهم. وإن توفيقه وتسديده جلت آلاؤه من أقوى ما يعين العبد في اختياره للطاعة والإيمان إذ يرفع عنه من طريقهما ما يعرقله ويزل اقدامه من نزغات الشيطان وهفوات الهوى وطموح النفس الأمارة إلى شهواتها ونزغاتها الردية ومألوفاتها. فكان حرمان المتمردين من التوفيق والتسديد بمنزلة الختم على ما سدوه بسوء اختيارهم وطغيانهم. ولأجل ان ذلك الحرمان من اللّه لخروجهم عن الأهلية نسب الختم الذي سمي به إلى اللّه عز وجل لأن اللّه هو الذي بيده أمر التوفيق منحة وحرماناً وعلى هذا قال جل اسمه (7 تَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) من التمرد حيث استحبوا العمى على الهدى فلا يبصرون انوار الحق والعرفان مع اشراقها كالشمس راد الضحى (وَلَهُمْ) بما جنوه من التمرد في الكفر والطغيان ومحادة اللّه ورسوله (عَذَابٌ عَظِيمٌ) وغير خفي ان مذهب العدلية من الإمامية والمعتزلة هو انه يمتنع على جلال اللّه القدوس الكامل الغني أن يمنع الإنسان بالإلجاء عن قبول الإيمان أو يلجئه إلى الكفر أو يكون هو الخالق للكفر فيه فضلا عن ان يلومه ويعاقبه مع ذلك عليه. فإن ذلك كله قبيح عقلا كما هو من البديهيات الفطرية. ومن البديهي ان القبيح ممتنع الصدور من اللّه الغني القدوس. وقد ذكرنا في أخريات شواهد المقام الثاني من الفصل الرابع في المقدمة ان اللّه عز وجل قد مجد قدسه في القرآن الكريم بالنزاهة عما هو دون ذلك في القبح ووبخ الناس على أعمال السوء. ولكن ابن المنير
ص: 66
في تعليقته على الكشاف تحامل على الزمخشري في هذا المقام واورد لمذهبه وجوهاً طالما لهج بها الأشاعرة «أولها» ان مذهب العدلية في المسألة مخالف لدليل العقل على وحدانية اللّه فإن مقتضاه ان لا حادث إلا بقدرة اللّه «ويدفعه» ان مسألة القدرة غير مسألة التوحيد وغاي---ة ما يقال في قدرة اللّه انها لا تقصر ولا تضعف عن الممكن وإن صار لقبحه ممتنع الصدور من--ه لجلال شأنه وقدسه وكماله وغناه. وليس مقتضى دليل العقل على الوحدانية ان يكون الزنا واللواط والكفر ومنع الكافرين عن الإيمان وأمثالها من القبائح تقع بفعل اللّه وخلقه وقدرته. وأما قولهم ان نسبة الفاعلية للناس وايجادهم لأفعالهم وخلقهم لها يقضي بالشرك والإشراك مع اللّه في صفنه وهو خلاف الوحدانية والتوحيد. فهو مردود بأن التوحيد الواجب في الإيمان هو توحيد اللّه ونفي الشريك له في الإلهية وما يعود اليها. وأما في غير ذلك فإن القرآن الكريم نفسه قد شرك بين اللّه وعباده في نوع صفة الحياة والعلم والرحمة والرأفة والخلق وغير ذلك وإن كانت صفات اللّه ممتازة عن نوعها بكماله ومميزاتها «ثانيها» دليل النقل كقوله تعالى خالق كل شيء. وهل من خالق غير اللّه. ويرده ان ابن المنير ومن يحتج بهذا كأنهم لم يقرأوا ولم يسمعوا من سورة العنكبوت قول ابراهيم خليل اللّه لقومه «16 وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا. وقول اللّه لعيسى كما في سورة المائدة 110 َإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. وقول عيسى رسول اللّه كما في سورة آل عمران 43 أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. وقوله تعالى من هذا الباب
في سورة المؤمنون 16 فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ». ولماذا لم يلتفتوا من ذلك إلى أن الخلق المقصور على اللّه إنما هو خلق الإله وإيجاده مما هو من أعمال الآلمية. وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الرعد «17 وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ». خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل اللّه خالق كل شيء «ثالثها» انه وان قبح صدور بعض الأفعال من الناس بحسب الشاهد لكن الحكم يقبح صدورها من اللّه قياس للغائب على الشاهد وهو باطل. ويردهم أولا انه ما اسمج التعبير عن اللّه وشؤونه بالغائب. وهو على كل شيء شهيد. وهو أقرب اليكم من حبل الوريد «وثانيا» ان الحكم على بعض افعال الناس بالقبح ليس من الحواس الخمس لكي يقال ان الحواس لا تدرك اللّه. وان الناس ليعلمون ان العدلية يعنونون هذه المسألة ومحل نزاعها بالحسن و القبح العقليين وينادون بأن الحاكم بالحسن أو القبح إنما هو العقل بنفسه وادراكه من دون مداخلة للحس أو وجود الفعل في الخارج. وليت شعري هل عند العقل شاهد وغائب «وثالثا» ان حكم
ص: 67
العقل الفطري بقبح صدور القبيح من فاعله انما هو بالنظر الى عقل الفاعل وجهة كماله وعلمه بالفعل وبجهة قبحه ولذا لا يحكم بالقبح الفاعلي على الفاعل من الاطفال والمجانين الذين لا يميزون ولا على الغافل عن الفعل اوجهة قبحه. وان اللّه هو الكامل العليم الخبير فهو جل قدسه اول من ينظر العقل إلى فعله ويحكم بامتناع صدور القبيح منه جل شأنه «رابعها» انه يقبح من الإنسان أن يمكن عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع أن القدرة التي يفعل بها الناس الفواحش هي من اللّه على علم منه بمن سيفعل الفواحش منهم «ويردهم» ان التمكين القبيح هو ما كان مختصاً بفعل الفواحش ولكن اللّه عز وجل أعطى القوى الإنسان ليتمتع بها في المباح والراجح نعمة منه لا بقاء نوعه وانتظام اجتماعه. غاية الأمر ان الإنسان يتمكن من أن يعملها في المحرم الذي أرشده إلى تركه بالعقل وزجر الأنبياء ونواهيه في وحيه وانذارهم لهم بالوعيد. فهذه القوى نعمة مسددة لا مساس لها بما ذكروه من المثال. ولم يخلق اللّه قوة مختصة بأعمال الشر لكي تكون نقضاً على ما نقول به من مسألة القبح «خامسها» أن ما يكون ظلماً قبيحا إنما هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه واللّه مالك العباد وكل شيء. فكل ما يفعله بالعباد ليس بظلم. ويرده أولاً ان العقل لا يتوقف في احكامه وموضوعاتها على ما يذكر في بعض المتون الفقهية أو معاجم اللغة في معنى الظلم تساهلاً أو قصوراً أو اقتصاراً على محل الحاجة في البيان. فإن كل ذي شعور إذا رأى مالك العبد قد سد فمه ومنعه بالقهر عن شرب الماء واستمر على المنع وهو يقول له اشرب الماء الشرب حتى إذا أضرَّ به العطش وهو ممنوع عن الشرب استشاط مالكه غضباً عليه وصار يعنفه وينكل به لأنه لم يشرب الماء. وكذا لو فعل مثل ذلك فيما يملكه من الحيوان، فإن الرائي لذلك الحال وكل من علم به يحكم بالبداهة ان العبد والحيوان المذكورين مظلومان. وإن المالك المذكور ظالم قد فعل قبيحاً. وثانيا. ان مقتضى ما زعموه ان الأنبياء والرسل الذين افنوا أعمارهم في طاعة اللّه وعبادته والدعوة اليه وصبروا في ذلك على الشدائد هؤلاء الكرام يجوز أن يعذبهم اللّه يوم القيامة في جهنم خالدين فيها بعذاب ابليس و فرعون بزعمهم وإنه ليس بظلم ولا قبيح فإنهم عبيد اللّه وملكه «سادسها أنه يجوز ان تكون هناك حكمة تسوغ ان يلجى اللّه عباده على الكفر وأعمال الشرثم يعاقبهم على ذلك فلا سبيل للعقل مع هذا الجواز إلى حكمه بقبح هذا الإلجاء وهذا العقاب «ويردهم» ان الفعل يحكم بالقبح والامتناع في هذا وأمثاله لأنه يجد ان لا حكمة ترفع قبحه وامتناعه من اللّه ولا يصلح
ص: 68
(8) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
-------------------------------------------------------------------
لأن ترفع حكمه قبحه. ولو حاول أحد أن يسد على العقل باب هذا الوجدان كان ذلك منه سفسطة سخيفة تسد على العقل باب احكامه وذلك باطل بالضرورة. على ان هذا الاحتمال والتجويز للحكمة يرد عليهم بنحو لا مخلص لهم منه أبداً فإنهم بإنكارهم للقبح العقلي وامتناع صدور القبيح من اللّه قد سدوا على أنفسهم باب العلم بصدق النبوات وبأن اللّه لا يظهر المعجز على يد الكاذب وبصدق الكتب الاولمية وما فيها من تقديس اللّه وأمر القيامة والنعيم والعذاب والجنة والنار فإن قالوا إنا نعرف من عادة اللّه انه لا يكذب جل وعلا ولا يظهر المعجز على يد الكاذب. قلنا عليهم أولاً لماذا لا تجوزون ان تكون هناك حكمة تسوغ مخالفة العادة وإذ قد عزلتم العقل في هذا المقام لم يكن لكم أن تقولوا ان العقل يجد أن لا حكمة تجوز مخالفة العادة مع ان مخالفة العادة ليس فيها محذور لا تعارضه حكمة بخلاف القبيح كما قلناه «وثانيا» ان دعوى العلم بعادة اللّه لا تليق إلا من قديم أزلي مطلع على جميع اعمال اللّه منذ الأزل نفياً وثبوتا لكي يعرف ما صار عادة اللّه وما لم يصر. ومن ذا الذي يزعم انه ذلك الأزلي المطلع على جميع أعمال اللّه منذ الأزل. وما هو المانع من مخالفة العادة حتى مع عدم الحكمة. سبحانك اللهم ما أجلى قدسك وكمالك للمقول التي وهبتها لعبادك وأقمت باحكامها عليهم الحجة (8 وَمِنَ النَّاسِ) أب قوم منهم وهم المنافقون (مَنْ يَقُولُ) افرد الضمير باعتبار لفظ «من» (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والظاهر كما حكي عليه الاتفاق ان المراد منهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق ومن الشواهد لذلك قوله تعالى فيما بعد وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا الى شياطينهم. ذكروا إيمانهم باللّه واليوم الاخر جمعاً لأطراف الإيمان لأن ايمانهم باليوم الآخر متفرع على الإيمان بالرسول والقرآن. ولأجل أن يظهروا في مخادعتهم أنهم يخافون اللّه وعذاب الآخرة ويرجون نعيم الثواب فهم ملازمون للتقوى من أجل ذلك. ومرادهم من قواهم آمنا از هم ثبتت لهم صفة الإيمان فهم من زمرة المؤمنين ولا يريدون الاخبار بمجرد صدور الإيمان منهم في الماضي والذي يجتمع مع الثبات عليه ومع الارتداد والنفاق بعده واذا قال اللّه جل شأنه (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بل منافقون (9 يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) والمخادعة هو ما يسبب الخديعة ويولدها من قول او فعل والخديعة هو ما يسبب ويتولد من
ص: 69
(9) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * (10) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *
-------------------------------------------------------------------
ذلك إذا لم يمنع منه علم من طلبت خديعته او تسديده من اللّه او حذره. والمفاعلة قد تجي من طرف واحد كما في عافاه اللّه وعاقب المجرم و عا بنت الشيء وحاولت الأمر وزاولته. ولكن مخادعتهم هذه لا تسبب ولا يتولد منها خديعة إلا لهم (وَمَا يَخْدَعُونَ) بها (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) يعود عليهم في الدنيا والآخرة من وبال مخادعتهم هذه ونفاقهم (وَمَا يَشْعُرُونَ) فإن قبل ان هؤلاء المنافقين ان كانوا في الحقيقة دهربين ينكرون وجود الا له فكيف يتوجهون اليه بالمخادعة. وإن كانوا وثنيين يعترفون باللّه والميته وعلمه ولكنهم يشركون الأوثان معه في الإركبهية فكيف بتصور اقدامهم على مخادعته فيحاولون منه الغرة والانخداع. قلنا إذا لم يتصور ذلك في تذبذبهم في النفاق وخبطهم في ضلالات الأهواء والكفر فقد قال بعض المفسرين ان المخادعة جاءت هنا على نحو التجوز والاستعارة باعتبار ان قولهم ذلك يشبه المخادعة وان لم يريدوها. ولكن الذي يظهر من المقام انهم بقولهم ذلك يخادعون الرسول والذين آمنوا على حقيقة المخادعة. ولا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معاً. ولذا أبقى المخادعة بعضهم على حقيقتها وقال ان النجوز إنما هو بإضافتها إلى اللّه دون إضافتها إلى الذين آمنوا والتجوز باعتبار ان الجرأة على مخادعة الرسول في مقدمة الذين آمنوا من حيث انه رسول اللّه بمنزلة الجرأة على مخادعة اللّه فأضيفت المخادعة الى اللّه على النهج الذي جاء عليه قوله تعالى في سورة الفتح «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ» وهذا أظهر القولين (10 فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) مرض النفاق والتلون واستعير اسم المرض هنا لأن فيه خروجا عن الصحة العادية والنفاق خروج عن الإستقامة الفطرية للبشر وجربهم على ما توضحه الدلائل النيرة. ولأجل تمردهم في نفاقهم خرجوا عن أهلية التوفيق للاستقامة فأعرض اللّه بوجهه الكريم عنهم وحرمهم اللّه بركات لطفه (فَزَادَهُمُ اللَّهُ) بحرمانهم التوفيق (مَرَضًا) على وتيرة من تمرد بالطغيان فوكله اللّه إلى نفسه المنهمكة بالقبح منذ اسلست قيادها للهوى والشيطان. وقيل المرض هو غم الحسد والعداوة المؤمنين وبحرمان اللّه لهم من توفيقه زاد مرضهم وبهذا الاعتبار نسبت الزيادة إلى اللّه وقيل ان فزادهم دعاء عليهم ولكن الفاء لا تناسبه. وقيل غير ذلك (وَلَهُمْ
ص: 70
(11) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (12) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ (13) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كما آمن الناسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (14) َإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ
-------------------------------------------------------------------
عَذَابٌ أَلِيمٌ) شديد الألم (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) في نفاقهم ومخادعتهم وقولهم آمنا و ماهم بمؤ منين. وما ظنك بعذابهم على كفرهم وسوء أعمالهم وفسادهم (11 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) بنفاقكم وسوء اعمالكم (قَالُوا إِنما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) وما أكذبه من قول يقوله مريض القلب والمتحكم بجهله او نفاقه على الحقائق والدين وشؤون الناس، فيسميه اذنابه بالمصلح الكبير (12 أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ) بنقصهم وبما يلحقهم من ذلك من وصمة الضلال وظهور الحال ووخامة السمعة (13 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) بالإيمان المعهود وثبتوا على حقيقة الايمان وتعاليمه الصالحة وأخلاقه الفاضلة والطاعة في نصرهم لدين الحق (قَالُوا) من غيهم (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ) الذين آمنوا وخضعوا للإسلام واحكام دينه والجهاد في سبيل اللّه وإظهار الحق (أَلَا إِنَّهُمْ) وهم المنافتمون (هُمُ السُّفَهَاءُ) الذين هم اختاروا سفاهة النفاق ورذيلته وأضاعوا رشدهم في المعارف ودين الحق وسعادة الدارين والعاقبة الحسنى (وَلَكِنْ) لأجل تماديهم في الغي (لَا يَعْلَمُونَ) بما يكون العلم به فضيلة للإنسان ووسيلة لسلامته من خسة السفاهة الموبقة. وهؤلاء المنافقون زيادة على ما ذكر لهم من قبائح الكفر والأقوال والأفعال مذبذبين ذوي لسانين ووجهين (14 وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) بحقيقة الايمان الثابت عن بصيرة (قَالُوا) بتزويرهم (آمَنَّا) ونحن الآن من زمرة المؤمنين (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) الذين يغرونهم بالكفر ومح-ادة اللّه ورسوله (قَالُوا) لهم في خلوتهم بهم (إِنَّا مَعَكُمْ) على ما انتم عليه ومن زمرتكم (إِنَّمَا نَحْنُ) في حالنا مع المؤمنين واظهارنا لهم انا منهم (مُسْتَهْزِئُونَ) بهم. خمساً لآراء المنافقين (15 اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) بأن يمهلهم ويخولهم من حطام الدنيا وحياتها شيئا ومصيرهم في عاقبة ذلك الى اخس الهوان واشد العذاب فاستعير لذلك لفظ الاستهزاء لمشابهته له في ابتهاجهم بظاهر الامهال والتحويل مع انه مقرون بالاستهانة بهم واعداد العذاب الأليم.
ص: 71
(15) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (16) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (17) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ
-------------------------------------------------------------------
ویزداد حسن هذه الاستعارة في مقابلة قولهم انما نحن مستهزؤون. واين عنها قول عمر بن كلثوم في معلقته : ألا لا يجهلن احد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) يملي لهم ويمهلهم في تماديهم على طغيانهم مع حرمانهم التوفيق وهذا بمنزلة التفسير لما استعير له لفظ الاستهزاء (يَعْمَهُونَ) العمه هو العمى في الرأي والبصيرة والتردد في الضلال (15 أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) اذ كانوا من هيا اللّه بالطاقه لهم اسباب الاهتداء وجعل بلادهم محط بركة الهجرة ومشرق انوار الوحي ومنار الدلائل والحجج قد أحاطت الألطاف بهم و توارد عليهم الارشاد في مصبحهم وممساهم واجابوا دعوة الإسلام بلا اكراه حرب ولا إرهاب سيف. ولكن هذا الهدى الذي سعدوا بالقرب من موارده العذبة وثماره الجنية قد اشتروا به الضلالة. وان كل مشتر من العقلاء لا بد من ان يراعي منفعته بما اشتراه وغبطته بتجارته وهذا أول ما يطلب من الربح فيها. والربح نقيض الخسران ومن لم يربح في تجارته ولم يكن لما اشتراه منفعة فهو خاسر ويكفي هؤلاء من السفه إنهم اشتروا وتاجروا (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ولا نفع لهم فيما اشتروه فضلاً عن وباله في الدنيا والآخرة (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) من أول الأمر لأنهم لم يظهروا الإسلام عن بصيرة وإيمان وإنما أظهروه لأغراض أخرى. وقيل وما كانوا مهتدين في تجارتهم والأول أظهر وأوفق بمقتضى الحال (17 مَثَلُهُمْ) في حالهم (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) وطلب وقودها لحاجته إلى الضياء (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) من النواحي وحان انتفاعه بنورها فيما يعنيه من أموره ذهب ذلك النور وعاد هذا المستوقد في ظلام دامس لا يبصر فيه شيئا وخبط عشواء لا يهتدي فيه سبيلا. وهؤلاء المنافقون المذكورون كانوا يتشرفون بحضرة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ويستمعون إلى كلامه وحججه في بیانه ودلائله في ارشاده وتلاوته لكتاب اللّه فهم بذلك كمن استوقد ناراً لهدى فلما أضاءت لهم للطف اللّه مناهج الرشد ومعاني الحق تمردوا على اللّه بنفاقهم فخرجوا عن كونهم أهلاً
ص: 72
(18) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ
-------------------------------------------------------------------
للتوفيق والتسديد ووكالهم اللّه إلى أنفسهم الأمارة وأهوائهم الخبيثة. فأسدلا عليهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم. ولأجل ان ينوه اللّه بما للتوفيق والتسديد من الأثر الشريف في تأييد العقل على مكافحته لوساوس الشيطان ونزغات النفس الأمارة واهوائها عبر عن حالهم في غيهم على سبيل المجاز واستمارة التشبيه بأنهم حينئذ (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) وأشار إلى معنى ذلك بقوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ) أي خلى اللّه بينهم وبين أهوائهم وسوء اختيارهم وصاروا يخبطون في ظلمات الضلال لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد. وقد سلك القرآن الكريم أحسن منهاج البلاغة في بيان مثلهم ونتيجتهم السيئة فذكر مجرى المثل ومغزاه واكتفى بذكر نتيجته بدلالة النتيجة السيئة لحال الذين ضرب المثل في شأنهم فناول السامع تتمة المثل ونتيجة حال المنافقين بأوجزييان مفهم كما اكتفى بمقدمات المثل عن ذكر المنافقين في استيقادهم لنار الهدى واضاءتها لما حولهم كما ذكرناه وربما تصوره جودة الفهم أحسن مما ذكرناه. ولو بسط القرآن الكلام كما شرحناه المزم التطويل. ولو أهمل ما ذكره الحال المنافقين لما تمثلت من ضرب المثل فائدة لها قيمة بل لو ذكر قبلها نتيجة المستوقد المذكور لأنس الذهن بها ولم يرعه ماذكر من نتيجة المنافقين السيئة المهولة وذلك خلاف المقصود و حسن البيان
(ومما ينبغي التنبيه عليه) هو ان بعض التفاسير المعروفة بالفضيلة ذكرت تفسير الآية على غير ما ذكرناه فنشأ من ذلك أمور «احدها» جرأة غير المسلمين على الاعتراض على القرآن الكريم «ثانيها» النجاوه إلى ان يجعل «الذي» بمعنى «الذين» وهذا مع وهنه مناف لا فراد الضمير في «استوقد» و «ما حوله» «ثالثها» استشهاده بقوله تعالى في سورة التوبة «70 وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا» مع ان كلمة «الذي» في الآية للمفرد لا بمعنى الذين «رابعها» عدم ذكر النتيجة السيئة لحال المنافقين وفي ذلك ما فيه. مع ان قوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ انما هي من صفات المنافقين لا من تتمة المثل وعلى ما ذكره يستلزم ربطها بالمنافقين طفرة كبيرة وفصلاً بالأجنبي الطويل وهؤلاء المنافقون الذين ذهب اللّه بنورهم على ما ذكرناه هم في ضلالهم (18 صُمٌّ) جمع أصم وهو الفاقد لحاسة السمع وقيل هو من ولد كذلك (بُكْمٌ) جمع ابكم قيل هو الأخرس وقيل من ولد كذلك وقيل هو الأخرس مع عي وبله (عُمْيٌ)
ص: 73
فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (19) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
-------------------------------------------------------------------
جمع اعمى شبهوا بذلك لأنهم بإصرارهم على الغي قد أخرجوا انفسهم عن الانتفاع والاهتداء بما يسمعون من الدلائل والوعظ والإنذار والتعليم وعن الاهتداء بسؤالهم عن الحق ومكالمتهم في ذلك وعن الانتفاع بما يشاهدونه مما يوضح لهم سبيل الرشد (فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) إلى حقيقة الإيمان إذ قد استحوذ عليهم الشيطان (19 أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) عطف بأو لأجل التنبيه بالترديد بين المثلين على اختلاف مجراهما ومغزاهما، فكأنه قيل ان شئت ضرب المثل لحال المنافقين مع الإسلام وهداه بالذي استوقد ناراً إلى آخره. وان شئت ضرب المثل لشأن الإسلام مع المنافقين فإن مثله كمثل صيب من السماء وحذف لفظ المثل لدلالة ما سبق وسياق الكلام عليه. والصيب هو المنهمل النازل من العلو والسماء جهة العلو فوق الأرض فالمراد من الصيب هو المطر الغزير المنصب والذي تحيي به الأرض وتزهر بنباتها وينمو به الزرع والضرع وهو قوام المعيشة للناس وخصوص العرب وأهل البوادي والأنعام ولكنه مع ذلك لا يخلو من ان تقارنه ظلمات تتابع كلما اكفهر السحاب الهاطل و ادلهمت به الآفاق خصوصاً إذا كان بالليل. ولذا وصف المطر الصيب بالتوسع في الظرفية بأنه (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) إذ لا ينفك عن الرعد والبرق والصواعق وهي الرعود القاصفة المخيفة بصوتها وهي المرادة في الآية وان كانت الصاعقة ايضاً اسماً للنار النازلة مع ذلك الرعد المخيف. فالإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل اللّه ونيل السعادة. وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعز الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحزب أخذهم الهام والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنهم (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ) اجل (الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها. وسفها لعقولهم اين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم (وَاللَّهُ مُحِيطٌ
ص: 74
بِالْكَافِرِينَ (20) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (21) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ قبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (22) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
-------------------------------------------------------------------
بِالْكَافِرِينَ) المنافقين لا مفر لهم من قضائه. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. وان المراد ما هذا الخوف والهلع والتحذر والحال ان اللّه محيط بالكافرين المحاربين للإسلام و خاذلهم ومهلكهم وقد ظهرت آيات ذلك في غزوة بدر وما قبلها (20 يَكَادُ الْبَرْقُ) اي ما ذكرناه من برق الإسلام وأنوار عزه وسعادته. (يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) بشدة انواره فهم (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ) وارتاحو البهجته وعلقت آمالهم بسعادة الدنيا (مَشَوْا فِيهِ) وجاروا المسلمين واظهر وا موافقتهم (وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بأن انقطع عنهم ضوء الآمال لما يرونه أحيانا ظلمات الشدائد (قَامُوا) ووقفوا في مكانهم في النفاق وثبتوا على حيرة ضلالهم (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) فلا يسمعون بما حصل من المبشرات في الإسلام ولا بما يرد احيانا على المسلمين من الشدائد ولا يبصرون ذلك فلا يترددون في ضلال النفاق (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (21 يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) واخضعوا له حق الخضوع للإله واطيعوه فإنه هو ربكم ومالككم ومديركم ومربيكم (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ قبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لم تجى لعل للترجي بل لبيان انه لا يلزم من عبادتهم اللّه انهم يتقونه حق تقاته بل يجوز أن تقع منهم التقوى المذكورة بحسن اختيارهم ويجوز ان لا تقع لسوء اختيارهم. ولأجل الاحتجاج بالاء الربوبية وآثار القدرة ذكر من صفات الرب ايضا انه (22 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) ممهداً يتيسر لكم الانتفاع بها في السكنى ونحوها والزرع والغرس (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) لا تخشون سقوط اجرامها عليكم. وليس في ذلك صراحة بموافقة الهيئة القديمة ولا صراحة بمخالفة الهيئة الجديدة فإن حقيقة الأمر لا يعلمها إلا اللّه وان الأوضاع المذكورة في الهيئتين لا مبنى لها إلا الحدس الذي تدافعه الشكوك والردود. والمحسوس إنما هي حركات الكواكب (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) أي من جهتها اوان المراد من السماء هنا جهة العلو (مَاءً) وهو المطر الذي يحيي ب--ه
ص: 75
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (23) وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
الارض بعد موتها (فَأَخْرَجَ بِهِ) بما خلقه فيه وقدره من الخواص (مِنَ الثَّمَرَاتِ) يجوز ان يراد بها ما يعم الحبوب والأطعمة (رِزْقًا لَكُمْ) وهل يكون ذلك من غير الاله القادر العليم الحكيم. وانكم لتعترفون بالإله وان هذا كله من خلقه وانعامه فما بالكم تجعلون معه آلهة ولو بزعم انها من تنزلات الاولية. او انها منبثقة من الإله. او انها مظاهره. او بناء على مزاعم العقول العشرة وانه لا يمكن أن يصدر من اللّه إلا العقل الأول تعالى اللّه عما يصفون (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) جمع ند بكسر النون. قيل ان الند المثل وقيل الضد. وفي النهاية هو مثل الشيء الذي يضاده في أموره وبناده أي يخالفه. وفي المصباح لا يكون الند إلا مخالفا. وفي التبيان ومجمع البيان في الآية المئة والستين وأصل الند المثل المناوئ. وفي الكشاف في هذه الآية ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوي ومثله في جمع الجوامع. وفي المصباح ناويته عاديته او فعلت مثل فعله مماثلة. وفي القاموس فاخره وعاداه ونحوه في النهاية. والمشركون يجعلون لأوثانهم وما يؤلهونه صفة الأولمية واعمالها وبذلك يجعلون كلا مما يشركون به ندا اللّه ومثلا معارضا له في إلهيته واعمالها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان الإله الخالق المعبود والمطاع هو اللّه فما هذه المزاعم وما هذا الشرك المناقض لعلمكم ومعرفتكم ولو تدبرتم الحجج الساطعة لعرفتم كيف لبست عليكم الأوهام وداست على عقولكم الاهواء. فوحدوا اللّه ايها الناس كما هو حقه وآمنوا بعبد اللّه رسوله الذي جاء بالحجج الباهرة وأنزل عليه القرآن العظيم (23 وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا) من القرآن (عَلَى عَبْدِنَا) وشككتم في انه كلام اللّه ووحيه المنزل من عنده وجوزتم أن يأتي به بشر من عند نفسه بلا وحي من اللّه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي مثل القرآن فإنه نزل بلسانكم العربي وانتم اهل الفصاحة والبلاغة. وقد بلغتم أوج الرقي في الأدب العربي بما تناله القدرة البشرية ولكم المهلة والأناة (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الذين ينصرونكم ويشهدون لكم لكي تستظهروا بشهادتهم فإن اللّه لا يشهد لكم فإنه يعلم انكم لا تقدرون على ذلك. او وادعوا رجال بلاغتكم الذين يشهدون المواسم واسواق العرب
ص: 76
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (24) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (25) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
-------------------------------------------------------------------
لأجل المفاخرة في البلاغة والمسابقة في ميادينها فاستعينوا بهم على ذلك من دون اللّه. فإن الاستعانة باللّه على ذلك ودعاءه يجعل الاتيان بالسورة والاكثر ممكنا بواسطة اعانة اللّه ووحيه كا مكانه لرسول اللّه (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم ان القرآن يمكن للانسان بقدرته البشرية أن يأتي به او بمثله او بسورة من مثله. وهؤلاء وإن كان صدقهم في ذلك ممتنعا يناسب ان يقال فيه لو كنتم صادقين لكن قبل «إِنْ كُنْتُمْ» مجاراة لهم وملاينة في الخطاب واما قوله تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ» مع ان ظاهرهم الجحود لكون القرآن منزلا من اللّه فيجوز أن يكون لأجل علمه جل شأنه بأن منهم من تأثر قليلا بكثرة الشواهد على الرسالة وانزال القرآن من اللّه فيرجع أمره من الجحود الى الشك والريب في ذلك فاحتج اللّه عليهم بالحجة القاطعة لوساوس الشك وعناد الجحود. او انه جل شأنه احتج على ادنى معارض للإيمان وهو الريب بالحجة الجارية فيه وفي الجحود (24 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ولم تأتوا بسورة من مثله لعجزكم وقصور القدرة البشرية عن ذلك (وَلَنْ تَفْعَلُوا) اخبار لهم بأنهم لا يفعلون ذلك لخروجه عن القدرة البشرية مها برعوا وتقدموا في الفصاحة والبلاغة ومها تعاونوا واستعانوا بالبشر (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي فإن عجزتم ولم تفعلوا الزمكم ان تعرفوا ان القرآن منزل من اللّه على رسوله ولزمكم الإيمان بالكتاب وبالرسول وان لم يدعكم الى الإيمان شرف الانسانية والعقل والرغبة في السعادة على نهج إيمان الأحرار فلا أقل من ان يدعوكم الخوف كما في طاعة العبيد فإن من ورائكم النار التي أنذركم بها القرآن (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) الوقود بفتح الواو ما توقد به النار فما ظنكم بناريكون وقودها الناس بلحومهم ودمائهم وفضلاتهم ووقودها مطلق الحجارة فانقوها بإيمانكم وطاعتكم للّه ورسوله (أُعِدَّتْ) وهيئت (لِلْكَافِرِينَ) الذين يموتون على الكفر. ثم قرن جل شأنه وعيده للكافرين بشراه للمؤمنين بقوله جل اسمه (25 وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) يتنعمون بها ومن كمال بهجتها وروحها وجمال منظرها انها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) على عادة الجنان ذوات البهجة والرونق من ان الماء لا ينقطع عنها ولا يعلوها فتكون كالمستنقعات
ص: 77
كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا
-------------------------------------------------------------------
بل تكون مجاري مياهها اوطأ من ارضها يتنعمون بثمارها و (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا) رأوا ذلك من جنس ثمار الدنيا و (قَالُوا) عند ذلك (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) في الدنيا. والحكمة في كون ثمار الجنة من جنس ثمار الدنيا هو ان ذلك ادعى للرغبة الى نعيم الجنة واحسن وقعا في البشرى فإن النفوس تهش الى مألوفاتها ولو ذكر للناس ما لم يروا له نموذجا في الدنيا لما رغبوا فيه رغبتهم فيما يعرفونه (وَأُتُوا بِهِ) الظاهر انه رزق الجنة (مُتَشَابِهًا) فيما بينه في الحسن والجودة لم يختلط مع جيده ردي (وَلَهُمْ فِيهَا) في الجنة (أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) طهر هن اللّه في خلقه لمن وناهيك بذلك وصفا ثابتا ومقتضى اطلاق التطهير انهن منزهات من كل ما يستقذر في خلقهن واخلاقهن (وَهُمْ فِيهَا) في الجنة (خَالِدُونَ) مدى الأبد (26 إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا) أي مثل يكون بحسب المناسبة في النمثل سواء كان بالحقير او بالخطير والا ية تشعر بأنها توبيخ لمن استنكر ضرب اللّه للأمثال ويجوز ان يكون لمنع الاعتراض على ضرب اللّه للمثلين المتقدمين وغيرهما وان لم يسبق من احد اعتراض، ورويت في نزولها اسباب ولم تصح ولا تسلم من وجوه الشك والخدشة. ولا يخفى ان في ضرب المثل فوائد كبيرة في التلقين والفهم لا تحصل بدونه. فإنه بتمثيله بالمحسوسات والمعهودات والمألوفات يشتد تأثر النفس بها ويستلفت الذهن الى الاقبال على فهم الأمر الممثل له فيستحكم تأثر النفس به. ومعنى أن اللّه لا يستحي هو ان ضرب المثل مع ما فيه من الحكمة واللطف في البيان لا يتركه اللّه لأجل حقارة الممثل به او ان الممثل له اعظم منه بكثير. وقد اقتضت المناسبة والنشبيه ان يستعار للترك المذكور لفظ الاستحياء الذي هو انفعال في النفس وخجل يمنع عن ابداء الشيء وان تعلق به غرض (بَعُوضَةً) من هذا البعوض المستحقر لصغره (فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) والجاري على الحكمة في بيان الحقيقة (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) على سبيل الاستنكار والاستخفاف (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) والظاهر انهم يقولون «اراد اللّه» على
ص: 78
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الفَاسِقِينَ (27) الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَندَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ *
-------------------------------------------------------------------
سبيل الاستهزاء بدعوى الرسول ان المثل وحي منزل من اللّه فإن الكافرين بل والمنافقين ينكرون الوحي المذكور ولو اعترفوا به لما قالوا قولهم هذا. وقد اعرض اللّه عن بيان ما أراد بالمثل فإن بيانه مقرون به وعن ذكر فائدته فإن حكمته ومغزاه ونتيجته واضحة لا يتجاهل فيها إلا السفيه المعاند ولكنه جل شأنه أجابهم بعاقبته السيئة بالنسبة اليهم فيا هم عليه من العناد وبأثره الحميد بالنسبة للمؤمنين فقال جل اسمه (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا) من الناس المنكرين على المثل او المستهزئين أي تكون عاقبتهم في ذلك الضلال وان اراد اللّه به تفهيمهم وهدايتهم. وذلك كما قيل فلان قتل فلانا بحلمه فإنه لم يرد بحلمه الافضيلته ولكن صارت عاقبته ان فلان الآخر اغتر بجهله واجترأ على آخر فقتله فنسب القتل الى فلان الأول باعتبار ان حلمه كانت عاقبته قتل ذلك المغتر يسوء اختياره (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) وهم المؤمنون إذ يتدبرونه ويهتدون بمفاده ويعرفون حكمته (وَمَا يُضِلُّ بِهِ) بالمعنى المذكور (إِلَّا الْفَاسِقِينَ) وهم الكافرون والمنافقون الهاتكون للحجاب فإن الفسق في اللغة هو خروج الشيء من حجابه يقال فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها، ولا يضر بعمومه للكافرين والمنافقين كونه في الإصلاح المتأخر مختصا بالمسلم العامل بالمعاصي (27 الَّذِينَ) الأظهر ان ذلك بيان اصفات مطلق الفاسقين لا خصوص من يضلهم ضرب المثل (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) نقض البناء هدمه ونقض الحبل حل فذله فهو ضد ابرامه. والعهد يستعمل في الوصية نحو قوله تعالى ألم أعهد اليكم يا بني آدم. وفي الوعد المقرون بإظهار الالتزام به. والميثاق مصدر من الوثوق مثل الميعاد من الوعد والميلاد من الولادة أي ينقضون وصية اللّه لهم أو ما أعطوه اللّه من المهد مع توثيقه بالمؤكدات. و شبه عهد اللّه في توثيقه وربطه ما بين العبد وربه بالحبل وابرامه فاستعير لمخالفته لفظ النقض. والأظهر ان المراد ما عهده اللّه إلى الناس ووثقه سواء كان بدلالة العقل أم بتبليغ الرسل والكتب المنزلة وسواء كان في التوحيد والمعرفة أم في النبوَّة أم في الإمامة ام في الدين والشريعة (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ومن ذلك صلة الأرحام وصلة الرسول والإمام بالطاعة كما أمر
ص: 79
(28) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
-------------------------------------------------------------------
اللّه. وصلة قربى الرسول بالمودة ونحوها (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) في فستهم وما ذكر من سوء اعمالهم (28 كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) يجوز أن يكون الخطاب المتكرر في الآية للكافرين وتكون «كَيْفَ» التوبيخهم على كفرهم مع ما يذكر من الحجة. ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لجميع الناس وبياناً لأنه لا يليق ان يختار الكفر انسان له شعور مع قيام الحجج في نفس وجوده وأحواله على حقيقة العرفان اللّه افيكفر باللّه (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) الواو حالية ولا حاجة إلى اضمار «قد» بل لا يصح لأنه يستلزم ان تكون الحال جملة «وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا» وليس كذلك لأنها لا تفي بالحجة بل الجملة الحالية مجموع وكنتم أمواتا فأحياكم او هو وما بعده ولا ينتظم ذلك بمعنى واحد يكون حالاً إلا إذا جعل الجميع خبر الأنتم محذوفة اي وانتم تعتور عليكم هذه الأمور الكافية في الدلالة على وجود الا له الواحد القهار. والمراد من كونهم امواتا انهم كانوا اشياء فاقدة للحياة ومن اقرب عهودهم بذلك انهم كانوا نطقاً في الأصلاب أو كانوا في الأرحام علقة أو مضغة أو عظاماً ولحماً ولا حياة في شيء من ذلك فجعل فيهم الحياة ولا يكون ذلك بلا مؤثر ولا من لا شيء ولا من فاقد العلم والحكمة والإرادة. فليعتبر الإنسان بما في تركيب بدنه وأجزائه وأوضاعها وأسباب حياته من بواهر الحكم وعجائب الصنع ثم ليعتبر بما وهب له من الحياة والحواس والإدراك وقد أوضح وج---ه الاعتبار بذلك بالنحو العرفي والعقلي في رسالة البلاغ المبين (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) في آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ان كان هذا من تتمة الاحتجاج فلا بد من أن يحمل على أمر معلوم محسوس لجميع الناس ومعناه حينئذ انه يحني نوعكم باحياء أمثالكم من الناس وفي هذه القدرة التامة الدائمة عبرة وحجة لأولي الألباب. وإن لم يكن من تتمة الاحتجاج كما هو المناسب لقوله تعالى ثم اليه ترجعون بل كان اخباراً بمواقع قدرته وآثار حكمته فإنه يكون المراد يحييكم في القبر. ويجوز ان يكون المراد يحيي بعضكم في الرجعة التي يقول بها الإمامية ونسبت الحياة إلى النوع تجوزاً (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يوم القيامة وليس رجوعهم بعد غيبوبتهم أو انفصالهم عنه جل وعلا بل كما تقول للحاضر عندك إلي مرجعك أي لا مهرب لك ولا بد من أن أنفذ فيك حكمي وعدلي وإن
ص: 80
(29) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
أمهلنك زماناً. ومن تأكيد الاحتجاج المسوق بسياق الامتنان واللّه الشكر قوله تعالى (29 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) لمنافعكم التي تعرفونها والتي لا تعرفونها ومن منافعكم اعتبار كم بخلقتها (مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) من نبات ومياه و حيوان ومعادن فتبصروا واعتبروا والتفتوا إلى ما في الأرض والبحار والنبات والحيوان من مظاهر قدرة الإله وإرادته وحكمته ورحمته (ثم ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) أي جهة العلو. والتعبير بالاستواء مجاز باعتبار توجه إرادته وحكمته الى خلق السماوات في العلم بعد أن خلق الأرض وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام (فَسَوَّاهُنَّ) وفسر ابهام الضمير بقوله تعالى (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ) مما خلفه (عَلِيمٌ) كما يظهر على المخلوقات دلائل علمه وخلقه بالإرادة على مقتضى حكمته. وذكر جل اسمه من السماوات سبعاً باعتبار ما يرونه وإمرفونه في تلك العصور من السيارات السبع و كف بعضها البعض وإن كانت السماوات في الهيئة القديمة تسما لأن فلك الثوابت والأطلس كما يزعمون سماء ان أيضاً. وفي الهيئه الجديدة باعتبار المدارات للسيارات اكثر من ذلك «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»
تنبيه
لا يخفى ان الحذف لما يدل على المقام ويرشد وجه الكلام إلى حذفه باب من أبواب البلاغة عند العرب وهو في نثرهم وشعرهم كثير. ولنذكر له شيئا من شعرهم لمناسبة المقام وتوطئة لما يأتي في بلاغة القرآن الكريم من نوع الحذف. قال لبيد بن ربعة العامري
قالت غداة انتجينا عند جارتها***انت الذي كنت لولا الشيب والكبر
فحذف خبر «كنت» اي جميلاً ونحو ذلك وغيرك الشيب والكبر. وقال مساور بن هند بن قيس
زعمتم أن اخوتكم قريش***لهم الف وليس لكم الاف
اولئك او منوا خوفا وجوعا***وقد خافت بنو اسد و جاعوا
فحذف تكذيبهم لدلالة حجته على ذلك. وقال عبد مناف الهذلي في آخر قصيدته
حتى إذا سلكوهم في قنائدة***شلاً كما تطرد الجمالة الشردا
فحذف جواب إذا و عاملها لدلالة المقام وقوله «شلا» وقال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته
ص: 81
(30) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ
-------------------------------------------------------------------
لا تخلنا على غراتك انا***قبل ما قد وشى بنا الاعداء
فحذف المفعول الثاني وهونهاب الملك أو نبالي به ونحو ذلك. أو حذف خبر «إنا» بهذا المعنى. أو كليهما فحذف المفعول الثاني بالمعني المتقدم وخبر «إنا» بما يريد ان يتصوره السامع من التهويل بالتحمس. وقال آخر
إذا قيل سيروا ان ليلى لعلها***جری دون ايلى مائل القرن أعقب
فحذف خبر «لعل» لنكتة آثرها فيما يتمناه من ليلى. وقال عبيد بن الأبرص يخاطب امرء القيس
نحن الأولى فاجمع جمو***عك ثم وجههم الينا
فحذف الصلة ليحضر في ذهن السامع ما يريده الشاعر من وجوه الحماسة والتهويل. وقد جمعنا في هذه المقدمة بعض الشواهد للحذف وأغراضه السامية لنحيل عليه في الاستشهاد لما يأتي من فرائد القرآن الكريم في وجوه البلاغة وبراعة البيان : هذا وقد استفاضت الرواية عن أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في انه كان قبل آدم في الأرض نوع من الخلق قد أفسدوا وأهلكوا كما في رواية علي بن ابراهيم في تفسيره في الصحيح عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) والقوي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عَلَيهِم السَّلَامُ) ورواه الصدوق أيضاً في العامل. ورواية تفسير البرهان عن العياشي عن هشام بن سالم عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) والعياشي عن علي بن الحسين وعن عيسى بن حمزة عن ابي عبد اللّه. وروى ذلك الحاكم في مستدركه من طريق الجمهور وصححه عن ابن عباس. وأخرجه الطبري في تفسيره أيضاً ولما ذكر اللّه خلقه للأرض وما فيها البنتفع الإنسان بذلك وذكر خلق السماوات ذكر ابتداء خلقه للإنسان وما جرى في ذلك من الشؤون وما في خلق الإنسان من الحكمة والكرامة لبعض أفراده ذوي الفضل فقال عز وجل (30 وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) «إذ» ظرف وعامله محذوف بفسره قوله تعالى «قالوا» إلى آخر القصص كما يأتي ان شاء اللّه. وجاعل خالق من أجعله خليفة. والخليفة من يخلف غيره ويجوز أن يكون المراد من يخلف الخلق السابق المذكور في الروايات المشار اليها. وقيل ان «إذ» مفعول به أي اذكر في القرآن ذلك الحين للناس كقوله تعالي واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت ولكن يلزم من هذا القول ان يكون
ص: 82
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ لككَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمونَ
-------------------------------------------------------------------
الذكر مختصاً بقول اللّه تعالى للملائكة «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ويكون ما بعده أجنبيا لأنه لم يفرّع عليه ليكون مرتبطا به كالارتباط الذي في قوله تعالي فأجاءها المخاض إلى آخره فالمناسب إذن هو أن تكون «إذ» ظرفاً متعلقاً بمحذوف يدل عليه سوق الكلام الذي يفسره وذلك بأن يكون التقدير وحين قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة جرت في ذلك محاورات وشؤون بفسرها قوله تعالى (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) قالوا ذلك حيث قد رأوا الخلق السابق وافسادهم وسفكهم الدماء كما دلت عليه الروايات المشار اليها وروى العياشي بسنده عن هشام بن سالم عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما علم الملائكة بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لولا انهم قد رأوا فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. ولا يلزم أن يكون قولهم هذا اعتراضاً وذنباً منهم. بل قالوا ذلك لأن اللّه أخبرهم في هذا الخطاب بأن الخليفة هو بشر من طين كما في قوله تعالى في سورة ص المكية (71 إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) فعرفوا من بشريته انه ذو شهرة وغضب وقد عهدوا من حال السابقين ان الشهوة والغضب ينشأ منها الفساد وسفك الدماء. ولأجل بغضهم للفساد ومعصية اللّه سألوا عن الحكمة في خلق هذا الخليفة مع انه في الشهوة والغضب مثل السابقين الذين طهرت الأرض من فسادهم (وَنَحْنُ) من لطفك في خلقنا بلا شهوة ولا غضب إنا دائما (نُسَبِّحُ) والتسبيح (بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ) والتقديس (لَكَ) فإن شئت عمران الأرض بصلاح عبادتك فاجعلنا فيها. ولكن مع ذلك كان الأولى بهم أن لا يصدر منهم هذا السؤال في هذا المقام وإن كان سؤالهم للتعليم بل يفوضوا الأمر إلى اللّه وحكمته وعلمه بما هو الصالح (قَالَ) اللّه لهم (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فإن في ذلك حكمة شريفة ولطفاً خفيا إذ يكون من البشر انبياء ورسل وأئمة فيهم شهرة وغضب وهم مع ذلك في اعلى درجات الطهارة والعصمة الاختيارية والطاعة والعبادة اللّه والتفاني في هداية الناس واصلاحهم. وفيما أشرنا اليه في تفسير القمي وعلل الصدوق عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جاعل في الأرض خليفة تكون حجة لي على خلقي. وفيه ايضا. اجعل من ذريته انبياء وعباداً
ص: 83
(31) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (32) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (33 قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
-------------------------------------------------------------------
صالحين وأئمة مهديين وأجعلهم خلفاء الحديث. (31 وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) أي اسماء هؤلاء الهداة. روب الصدوق بسندين معتبرين عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان اللّه تبارك وتعالى علم آدم اسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم ارواح على الملائكة فقال انبووني بأسماء هؤلاء (ثم عرضهم) وهم ارواح طاهرة وانوار قدسية تضيء بالهدى والطهارة والعصمة الاختيارية (عَلَى الْمَلَائِكَةِ) ليعرفوا فضاهم الفائق ويظهر لهم شيء من وجه الحكمة في خلق اللّه للبشر وعلمه بالذين تشرق الأرض بنورهم وتقوم بهم الحجة على الملائكة (فقال) اللّه بعد ان عرضهم وعرف الملائكة حالهم من الفضل (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ) الذين عرفتم فضلهم (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعوى العلم حتى قلتم قولكم ذلك (32 قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في أعمالك (33 قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ) اللّه الملائكة (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) فيما علمتكم من جلال الإلهية أو في معنى القول السابق إني أعلم ما لا تعلمون (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفوق ذلك إني أعلم ما في الضمائر (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يدل قوله تعالى وما كنتم تكتمون ان هناك شيئا كتمته الملائكة.. هذا وقبل في هذه الآيات ان اللّه علم آدم اسم الصفحة والقدر وكل شيء حتى البعير والبقر والشاة. وقيل اسماء الأدوية والنبات والشجر والجبال ونحو ذلك. ولكن هذا كاله ليس فيه مناسبة لسؤال الملائكة ولا للاحتجاج عليهم بالعلم بمواقع الحكمة في خلق الخليفة. بل ليس فيه جواب السؤال أصلا. مع ان ذلك لا يناسب قوله تعالى. عرضهم. هؤلاء. بأسمائهم فإن الإشارة وهذه الضمائر مختصة بمن يعقل. ودعوى ان اللّه غلب من يعقل على سائر الأشياء ما هي إلا مجازفة. مضافا إلى ان اللّه قال الأسماء كالها ليظهر فضل العلم بهذا العموم خصوصا على ما قيل فلا يناسب ان يؤتى بلفظ مختص في اللغة بالعاملين على خلاف
ص: 84
(34) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (35) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ
-------------------------------------------------------------------
العموم لما ذكروه ولا ينطبق على ما يدعى من العموم لكل الأشياء إلا بعد التي والمنيا من دعوى التغليب الذي لا قرينة عليه في اللفظ ولا في سياق الكلام وليس هو كالتغليب في قوله تعالى خلق كل دابة من ماء فمنهم من الآية (34 وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الظاهر ان «إذ» هنا كسابقتها في المعنى والعامل وان قوله تعالى فسجدوا إلى قوله تعالى يابني اسرائيل يكون تفريم وتفسيراً لما حدث في ذلك الحين. والأمر الملائكة بالسجود شامل لابليس لاندماجه حينئذ في زمرتهم وان كان في الأصل من الجن وقد علم ابليس بشمول الأمر له ولذا لم يعتذر بأن الأمر لم يكن شاملاً له بل النجأ في استكباره إلى القياس.. والسجود يجوز ان يكون لأدم ابتداء بعنوان التكريم لا العبادة، فإن السجود الذي يخلص باللّه ويمنع العقل والشرع ان يؤتى به لغيره إنما هو ما كان بعنوان العبادة والخضوع بعنوان الإلهية. ويجوز ان يكون اللّه شكراً على خلقه لآدم وما له ولبعض ذريته من الفضل ومن ذلك يحصل لآدم نوع من التكريم والتعظيم وبهذا الاعتبار قال اللّه اسجد وا لآدم والوجه الأول أظهر من اللفظ. وإن ثبت في شرعنا تحريم مطلق السجود لغير اللّه فلم يثبت المنع منه حتى في ذلك الحين (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) عن السجود (وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (35 وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) يقال لامرأة الرجل زوج وزوجة والأول هو اللغة العالية وبها جاء القرآن. والجنة اسم للبستان وروى الكليني وابن بابويه مسنداً والقمي مرفوعاً عن ابي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان جنة آدم من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الآخرة او الخلد لما أخرج منها انتهى. وهذا لا يستلزم كونها في الأرض (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) الأمر بالأكل كالأمر بالسكنى في الجنة إنما هو للاباحة والإنعام. والرغد صفة للمصدر اي اكلا رغداً رافها ليس فيه عناء وكلا من أي مكان شئتما مما يؤكل منه بلا حجر ولا نهي ارشادي (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) لا يخفى من دلالة المقام والنظائر ورواية العياشي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان المراد هنا هو عدم الأكل منها لا مطلق القرب ولكن صدر النهي بصورة النهي عن
ص: 85
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (36) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ
-------------------------------------------------------------------
القرب لأجل بيان التحذر من الأكل منها كقوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم. ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى. ولم يصح ما روي في حقيقة الشجرة. والنهي ها هنا للإرشاد. لا للتحريم بدلیل قوله تعالى في بيان الحال في سورة طه المكية «115 - 118 إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى» اي تقع في شقاء العيش ومشقته ويؤكد دلالة السياق على ذلك انه نسب الشقاء إلى آدم دون زوجته نظراً إلى ما جرت به العادة في الأرض في ان الرجل هو الذي يتعب في تحصيل المعيشة والمرأة عيال عليه «ان لك ان لا تجوع فيها اي في الجنة «وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى» ولا تحتاج لأن تتعب فكرك وبدنك في تحصيل المأكول والملبوس والمشروب والشيء الذي يظلك من حرارة الشمس. فلم يرتب على اخراج ابليس لهما اثم معصية وفسق خروج عن الطاعة ولا حذره من ذلك كما يقتضيه اللطف فالذهي لمحض الإرشاد إلى ان لا يقع في ورطة الأكل المستتبع بحسب الحكمة للخروج من نعيم الجنة إلى شقاء عيش الأرض وتعبه. وإن مخالفة النهي الإرشادي تسمى ايضا معصية وما كل معصية تساوي الذنب والاثم (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسكما بالخروج من النعيم إلى التعب. ومثل هذا الظلم لا يستوجب ذما ولا يعد ذنباً. والظلم في اللغة يساوق وضع الشيء في غير محله. وضد الإنصاف او العدول ومنه الحديث لزموا الطريق فلم يظلموه اي لم يعدلوا عنه. ولقد اغرب من قال ان الظلم اسم ذم لا يجوز ان يطلق على غير المستحق لللعن لقوله تعالى الالعنة اللّه على الظالمين. أفلا يدري ان الآية المذكورة وردت في سورة الاعراف 42 وسورة هود (21 فِي الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) (6 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا) زلت قدمه ورجله لم تثبت في مكانها وتحولت عنه وكذا الانسان وأزله حمله او ألجأه إلى الزلة والزلل فأزلها الشيطان بوسوسته وغوايته ومخادعته باليمين الكاذبة عن الوصية المدلول عليها بقوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة. ولا يخرجنكما من الجنة فتشقى. او از لهما عن الجنة ولم يتركهما ثابتين فيها. وقد رويت في كيفية وصوله اليها بالوسوسة والمخاطبة بالاغواء روايات لم تصح (فَأَخْرَجَهُمَا) صار باغوائه لهما سببا لخروجها من حيث تبدل المصلحة في اسكانها الجنة فنسب الاخراج اليه على سبيل المجاز في الاسناد (مِمَّا كَانَا فِيهِ) من النعيم
ص: 86
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (37) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِهِ كَلِماتِ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم (38) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
-------------------------------------------------------------------
واللباس والعيش الرغيد (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحوا وابليس. وإذا كان ابليس هابطا الى الارض قبل ذلك جاز هذا الخطاب بمعنى تساووا في الهبوط منها (بَعْضُكُمْ) ابليس وآدم و حوا او ذريتها (لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وعداوة البشر لا بليس باعتبار النوع وان اطاعه بعض الناس (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) اسم مكان أي موضع استقرار ومصدر والاستقرار معروف (وَمَتَاعٌ) اسم لما ينتفع به (إِلَى حِينٍ) محدود لكل بموته حتى ابليس عند الصعقة الأخيرة قريب القيامة والبعث (37 فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِهِ كَلِماتِ) التلقي هنا اخذ آدم للكلمات من اللّه باستقبال وقبول وتعلم وعمل. ومقتضى السياق هو ان آدم ندم على مخالفة اللّه في أمره الارشادي وأراد التوبة والرجوع الى مقام الأولياء المتبعين لارشاد اللّه في العمل والترك وصار يحاول الوسائل التي يتوب اللّه بها عليه فيعلمه اللّه كلمات توقفه في مقام المنيبين وتعرفه فضيلة ذويه الفضل. وقد روي من طرق الفريقين انه نحو من الدعاء وفي الدر المنثور مما اخرجه الديلمي في الفردوس مسنداً عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) دعاء فيه اللهم إني اسألك بحق محمد وآل محمد مكرراً. ونما اخرجه ابن النجار والبيهقي مسندا عن ابن عباس عن رسول اللّه «صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ» سألته عن الكامات التي تلقاها آدم من ربه قال سئل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ) فتاب عليه وروي من طريق الإمامية نحو ذلك كما رواه الكليني والصدوق عن ابن عباس ومرفوعا والعياشي نحوه عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعنه ايضا مرسلا. ولا منافاة بين روايات الدعاء وروايات الاستشفاع بأهل البيت الجواز الجمع بينها (فَتَابَ عَلَيْهِ) فرجع عليه بالرحمة ولطف الارشاد وقرب المنزلة والزلفى (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ولأجل الاختصار لم تذكر هنا توبة حوا ولأنها معلومة مذكورة في سورة الاعراف المكية 22 (38 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) كرر ذكر الأمر بالهبوط لأجل ان يذكر ما كان مرتبطا به من الكلام كما تدل على ذلك سورة طه الملكية 121 و 122 فقد جمع فيها ما بعد الأمرين بالهبوط هنا بعد امر واحد. وجميعا يراد منه ايضا ذرية آدم باعتبار هبوط ابويهم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) اما شرطية
ص: 87
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (39) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (40) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ
-------------------------------------------------------------------
والهدى الرسالة والآيات ودلائل الحق (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الآخرة وهذه الجملة جواب الشرط في اما يأتينكم (39 وَالَّذِينَ) لا يتبعون الهدى بل (كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (40 يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) خطاب للموجودين منهم عند النزول، واسرائيل لقب يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل معرب يسرئيل في العبرانية. وروي ان معناه عبد اللّه او قوة اللّه (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) فيما خص اللّه به آباءهم من التوفيق للتوحيد الموروث من ابراهيم وارساله موسى والأنبياء منهم ونجاتهم من فرعون وقومه وظهور الآيات لهم وانزال المن والسلوى عليهم وتوريثهم الارض المقدسة واهلاك اعدائهم وغير ذلك. وهذا النهج متعارف في الخطاب بأن يخاطب الموجودين من القبيلة والأمة بأمور اسلافهم لاسيما ما يعود أمره في الفخر والوبال على الموجودين. وشواهده في النثر والنظم من العرب وغيرهم كثيرة جداً (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) قد قطع اللّه العهد مع بني اسرائيل على العمل بما في النوراة من توحيده وعبادته واتباع دين الحق والعمل بالشريعة واتباع النبي الذي بقيمه اللّه لهم من اخوتهم بني اسماعيل ويجعل كلامه في فمه وان يسمعوا له ويطيعوا. ومها حرفت التوراة فقد بقي هذا العهد فيها. وان قراءة اليهود لها والالتزام بها في جميع اجيالهم التزام بهذا العهد وكذا المخاطبين بالآية من اليهود المعاصرين لرسول اللّه «(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)» (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) من اللطف والتوفيق والتسديد وثواب الآخرة. ويؤخذ من الآية قاعدة كلية وهي ان من لم يف بعهد اللّه فيما أخذه من الدين والشريعة فهو بنفسه قد نقض عهد اللّه معه وخرج عن كونه اهلا لما وعد به من اللطف والرحمة واستجابة الدعاء وعلى ذلك جاءت صحيحة القمي عن جميل عن ابي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في استجابة الدعاء. ومن عهود اللّه ومصاديق هذه القاعدة كما في الكافي في موثفة سماعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية ابن بابويه عن ابن عباس هو ما عقد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في غدير خم كما تواتر به الحديث بين المسلمين (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الرهبة الخوف والتقدير وا باي ارهبوا أي ولتكن رهبتكم منحصرة
ص: 88
(41) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (42) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (43) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ
-------------------------------------------------------------------
بي ولا يحملكم على نقض عهدي رهبة من شيء فارهبوني ولا تنقضوا عهدي وحذفت كلمة ارهبوا لدلالة «فَارْهَبُونِ» (41) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ) اي القرآن الذي انزلته على رسولي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وهو النبي الذي وعدكم به اللّه وموسى وأخذ اللّه عهدكم باتباعه (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) وبقي عند ندكم حتى في توراتكم المحرفة وهو أن اللّه يجمل كلامه في فم ذلك النبي. وقد دلكم اعجاز القرآن على أنه كلام اللّه، ومصدقا لما معكم من الإيمان باللّه واسم توحيده والاعتقاد بالنبوات ورسالة موسى وآياته، ولا يصح أن يقال أنه مصدق لما معهم من التوراة محرف بأشد التحريف المشتمل على الكفر والخرافات والقرآن صريح في مخالفتها في ذلك وقد اشرنا إلى شيء من ذلك في الفصل الأول من المقدمة في اعجاز القرآن في وجهة التاريخ (ولا) تكفروا به (تَكُونُوا) مع عهد توراتكم بالنبي وجعل اللّه كلامه في فمه ومع دلالة الوجوه المتعددة في اعجاز القرآن (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) اول من يعد من الكافر بن به. وذلك لتفاحش كفر كم بعد قيام الحجة عليكم من وجوه عديدة. يقال لكثير الكذب وشديد الفسق اول كاذب واول فاسق اي اول من يعد من الكافرين ومن الفاسقين (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) مع وضوح الحجة عليكم (ثَمَنًا قَلِيلًا) الثمن يشتريه الإنسان في معاملته كما أن الآخر يشتري السلمة واستعير لاستبدالهم آيات اللّه بأهوائهم لفظ الشراء لما فيه من استبدال شيء بشيء كما قال ابو ذؤيب الهذلي
وان تزعميني كنت اجهل فيكم***فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
والثمن القليل الحقير هو خوفهم من اكابرهم او حرصهم على جامعتهم الاسرائيلية او حسدهم للرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وغير ذلك من اباطيل الأهواء (وَإِيَّايَ) اتقوا او احذر وانكالي وعذابي المكافرين المعاندين للحق باهوائهم (فَاتَّقُونِ 42 وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) ولا تجعلوا على الحق المعروف لباس الباطل ترويجا لباطلكم (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) به. فأسلموا وفاء بعهد اللّه وعملا بالحق الذي تعلمون به (43 وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) من المسلمين
ص: 89
(44) أتأمرُونَ النَّاسِ بِالبِرِّ وَتَنْسَونَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تعْقِلُونَ (45) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ إِلا عَلى الخَاشِعِينَ (46) الَّذِينَ
-------------------------------------------------------------------
(44 أتأمرُونَ النَّاسِ بِالبِرِّ) من الصدق واتباع الحق وطاعة اللّه (وَتَنْسَونَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ) فإن فيه بقية من وصايا التوراة الحقيقة في الإرشاد والتعليم باتباع الحق والعمل بالعلم (أَفَلا تعْقِلُونَ) كيف لا يقبح من الانسان ان يترك عمل البر الذي يعلم به (45 وَاسْتَعِينُوا) على ما يراد منكم مما فيه سعادتكم في الدين والدنيا وتوصلوا اليه بالأسباب المروضة للنفس والموجهة لكم إلى اللّه في استعانته وطلب توفيقه وتسديده (بِالصَّبْرِ) على الوفاء بعهد اللّه والإيمان برسوله محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وما أنزل اليه وعلى طاعة اللّه في أوامره ونواهيه وعلى مخالفة النفس الأثارة وعلى مكافحة الكفر والضلال بنصر الدين ونشر الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى نوائب الدنيا بالتسليم لأمر اللّه. فإن الصبر في الآية الكريمة مطلق وأثره في جميع ما ذكرناه جلي محمود كما يدل عليه ما جاء في الكتاب والسنة في فضل الصبر وفي بعض رواياتنا المعتبرة تفسير الصبر بالصوم وذلك باعتبار كونه احد المصاديق وله الأثر الكبير في ترويض النفس وتمرينها على الصبر وتصفيتها وتوجيهها الى اللّه (وَالصَّلاةِ) فإن اقوالها واحوالها تعل بكل وجهة من تهذيب الأخلاق. وان الاتيان بها بحقيقتها والتدبر المضامين آياتها واذكارها يهدي الى كل خير وهي باب اللّه في مناجاته والاستعانة به (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةُ) على نوع الناس يرونها حملا كبيراً يثقل عليهم فيقوم اليها من يقوم على كل وتثاقل (إِلا عَلى الخَاشِعِينَ) الخشوع فوق الخضوع لا يقبل التصنع فيه نوع من الانكسار يظهر على الانسان وعلى القلب وعلى البصر وعلى الصوت كما جاء في القرآن الكريم أي إلا على الذين شعارهم الخشوع من خوف اللّه كأنهم اشرفوا على الموت والمعاد والحساب فخشعوا لذلك واستعدوا للزاد وطلب المغفرة ومناجاة الحق رغبة ورهبة ودعاء وثناء لم يغلبهم طول الأمل ليروا الموت بعيداً فيطمئنوا بالحياة ويسوفوا الأعمال الصالحة والاستعداد للآخرة بل غلبوا الأمل وقربوا الموت الى ظنهم كما قال امير المؤمنين لهام في صفة المتقي براه قريبا أجله أي يرى آثار ذلك عليه. وحالهم كما قال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته الجنادة واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً (46 الَّذِينَ) نظروا الى الدنيا
ص: 90
يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (47) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (48) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (49) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ
-------------------------------------------------------------------
وفنائها بعين البصيرة واشتاقوا الى نعيم الاخرة فهم (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقوا رَبِّهِمْ) ومستوفو آجالهم في ساعتهم وما يقرب منها (وَأَنَّهُمْ) عن قريب (إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) رجوع جزاء واستسلام (47 يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وقد مر شيء من بيان ذلك في الآية الثامنة والثلاثين وكرر هنا تأكيداً في استلفاتهم الى النعم واقامة للحجة بها عليهم (و) اذكروا (أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ) بها (عَلَى الْعَالَمِينَ) في زمان اسلافكم (48 وَاتَّقُوا) يوم القيامة يوم الحساب والنكال (مًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا تقضي ولا تؤديه مما عليها شيئا من جزى الدين إذا قضاء (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا) من النفس الأولى (شَفَاعَةٌ) من حيث انها نفس لها نحو صلة بالمشفوع له. وقد تقدم في تفسير سورة الفاتحة ما يدل من القرآن الكريم على تحقق الشفاعة بإذن اللّه ورضاه واجمع المسلمون على ان الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) شفاعة مقبولة وان جازفت المعتزلة بدعوى اختصاصها بمنافع المؤمنين. واجمعت الإمامية على ثبوت الشفاعة للنبي الكريم وأهل بيته الطاهرين واصحابه المنتجبين، وصالحي المؤمنين وبذلك جاءت احاديث الفريقين (وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا) من النفس الثانية (عَدْلٌ) عدل الشيء بالفتح ما يقوم مقامه من غير جنسه بمعنى ولا يقبل منها فداء معادل. واحتمل عود الضمير هنا الى النفس الأولى ايضا بمعنى لا تقبل شفاعتها ولا يؤخذ منها فداء للنفس الثانية والأول اظهر وأنسب بالاستقصاء وأبعد عما يعود الى التكرار لمعنى لا تجزي (وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي اهل ذلك اليوم المدلول عليه بتعدد النفوس ليس لهم ناصر على اللّه و حسابه وعذابه وناهيك بالتهديد بذلك اليوم ما ذكر فيه فليتقه ذوو الشعور (49 و) اذكروا يا بني اسرائيل (إِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَونَ) حال كونهم (يَسُومُونَكُمْ) قريب من معنى يولونكم (سُوءَ العَذَابِ) قال عمر بن كلثوم في معلقته
إذا ما الملك سام الناس خسفاً***ابینا ان يقر الخسف فينا
ص: 91
يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (50) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (51) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
-------------------------------------------------------------------
(يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) أي يكثر ويعم ذبحهم لهم (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) أي البنات اللاتي يولدن لكم ولا يذبحونهن كالأبناء. فكأنهم يتركهن طلبوا حياتهن وسميت نساء باعتبار بقائهن نوعاً إلى زمان الكبر (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) نسب البلاء إلى اللّه باعتبار قدره وقدرته على رفعه واملائه لآل فرعون (50 و) اذكروا (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ) فصلنا البحر بعضه من بعض. ومن قوله تعالى في سورة الشعراء «فكان كل فرق كالطود العظيم» يعرف ان افراقه كانت متعددة وطرف بني اسرائيل فيما بينها متعددة. فرقنا بكم أي انتم الفاصل والفارق ما بين اجزائه في عبور كم فيه على اليابسة وهذا أوضح في المعجز وأوضح في خرق العادة (فَأَنْجَيْنَاكُمْ) من مضايقة فرعون وجنوده ومن البحر (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) حين اتبعوكم في البحر (وَأَنْتُمْ) خارج البحر (تَنْظُرُونَ) إلى غرقهم. والبحر هو خليج السويس من البحر الأحمر وعرضه بحسب اختلاف مواقعه من نحو عشرة أميال إلى نحو عشرين ميلا واقتصر هنا في ذكر الغرق على آل فرعون باعتبار الامتنان بالنجاة من جيشهم بغرقه. وفي ذكر فرعون وعدوه والانتقام منه قال اللّه في سورة الاسراء 105 فأغر قناه ومن معه جميعاً (51 وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) باعتبار مجموع الوعدين الوعد الأول وهو ثلاثون ليلة والثاني وهو اتمامها بعشر كما في سورة الأعراف (138 ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلاها كما في سورة طة المكية 90 «فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى» ولم نجد صراحة يعول عليها في ان الذين عبدوا العجل هم كل بني اسرائيل الموجودين حينئذ ما عدا هارون أو بعضهم. لأن سوق الخطاب هنا وفي سورة النساء إنما هو باعتبار البعض من بني اسرائيل فيجوز ان يكون باعتبار البعض من جيش موسى نعم في سورتي الاعراف وطه نسب اتخاذ العجل واضلال السامري إلى قوم موسى ولكن يجوز ان يكون ذلك باعتبار البعض الكثير. نعم ربما يستظهر انهم البعض من قول هارون كما في سورة طه «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» ولكن تزاحم الاحتمالات في مراده من التفريق يزاحم ذلك الاستظهار. وغرض القرآن الكريم من قصصه
ص: 92
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (52) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (53) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَالفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (54) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ
-------------------------------------------------------------------
إنما هو التذكير والموعظة ولا يهمه تاريخيتها لكي ينص على الكل أو البعض (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد ان غاب عنكم موسى في ميعاد ربه (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) لأنفسكم ولعقولكم وللحقايق (52 ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد ما وقعت عبادة العجل. والسياق في خطاب بني اسرائيل بأحوال بعضهم لا يترك في الآية ظهوراً في العفو عمن عبد العجل ويجوز ان يكون حينئذ من لم يعبد المجل ولكنهم تخاذلوا ولم ينصروا هارون بالنهي عن هذا المنكر العظيم فيفا عنهم بتوبتهم كما في الآية الآتية (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) جي بامل عوضاً عن لام الغاية للوجه الذي سنذكره ان شاء اللّه في الآية الحادية والثمانين بعد المائة (53 وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) ترتيب القصة يقضي انها الألواح التي جاء فيها في سورة الاعراف 142 «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ 153 : أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ» فتكون بهداها فارقة بين الحق والباطل فسميت فرقاناً ويجوز ان يراد بالكتاب والفرقان التوراة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لغاية ان تهتدوا وجئ بلمل لما اشرنا اليه (54 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) اللّه الذي خلقكم وبرأكم بعد عدمكم. وما ذكرناه من سياق الآيات في خطاب القبيلة بفعل بعضها لا يترك في الآية ظهوراً بأنهم كلهم عبدوا العجل. وإن اردتم التوبة الصادقة التي تمحو ما وقع فيكم من الشرك باللّه بعبادة العجل (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الجملة بدل من «فَتُوبُوا» لبيان أن الذي تتحقق به توبتكم هو ان تقدموا على قتل بعضكم بعضاً فكان ذلك نفس التوبة هنا والظاهر انه ليس المراد ان ينتحروا وبقتل كل انسان نفسه بل قتل النفوس المضافة اليهم بالقرابة والرحم الماسة فقد كانوا عبارة عن آباء وأبناء واخوان واعمام وبني اعمام وكلهم مرتبطون بولاء القبيلة والقومية والجامعة الاسرائيلية (ذَلِكُمْ) اي توبتكم بقتلكم نفوسكم واقدامكم على ذلك طاعة للّه وتكفيراً لما وقع من الشرك وردعا عن مثله (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ) وفي التعبير بقوله تعالى «بَارِئِكُمْ» في
ص: 93
فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (55) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (56) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (57) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا
-------------------------------------------------------------------
الآية اشارة إلى أن اللّه هو بارتكم والمنعم بخلقكم فما اهون نفوس المشركين وقتلهم في جنب الحماية لتوحيده وقمع ضلال الاشراك به وفي جنب رضاه وتوبته عليكم. ففعلوا شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق مع قوله تعالى (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) وهو خطاب لبنى اسرائيل الموجودين في عصر الرسول بالنهج المتقدم من خطاب بعض القبيلة باعمال بعضها وباعتبار ان التوبة على قوم موسى في تلك الواقعة يعود نفعها على المخاطبين وعلى كل بني اسرائيل في جميع أجيالهم ببقاء جامعتهم القومية وصورة الدين والتوحيد (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 55 وَإِذْ قُلْتُمْ) خوطبوا بذلك باعتبار قول الأسلاف من قبيلتهم (يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) الصوت الشديد وأخذها هو استيلاؤها عليهم والمراد اما نتها لهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) توهما منكم انكم ترون اللّه تعالى شأنه. روى ابن بابويه في العيون عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما ملخصه : ان بني اسرائيل قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن اللّه أرسلك وكامك حتى نسمع كلام اللّه فاختار منهم سبعين رجلاً فلما سمعوا كلام اللّه من الجهات الست قالوا لن نؤمن بأنه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا (56 ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) كل الخطاب باعتبار أحوال السلف (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اي لغاية ان تشكروا اللّه على الاحياء بعد الموت (57 وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) الظاهر من الامتنان بالتظالميل انه غير السحاب الذي للمطر (وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ) ويسمى بذلك أيضا في التوراة العبرانية الدارجة او يسمي مان بفتحة مشالة إلى الألف. وقال بعض المفسرين انه الترنجبين وليس له مستند یعوّل عليه (وَالسَّلْوَى) وتسمى في التوراة العبرانية ايضا سلو. او سلاو. وفي السبعينية تقرأ سليو وفي كتب اللغة انه طائر او نحو الحمامة (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) حكاية لخطاب القدماء في عصر موسى (وَمَا ظَلَمُونَا) بما صدر منهم من المعاصي وكفران النعم وعبادة العجل وقولهم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فإن اللّه غني عن طاعتهم ولا تضره معصيتهم. بل هم الذين تنفعهم الطاعة وتضرهم
ص: 94
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (58) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (59) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
المعصية (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بمعاصيهم (58 وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) لا اعرف قرية في زمان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمروا بدخولها ودخول بابها سجداً على ما هو مذكور في الآية في نسق هذه القصص ومن البعيد جداً أن يراد بها الخيمة التي نصبها موسى في البر وقدسها للعبادة (1) إذ لا يناسبها اسم القرية ولا قوله تعالى (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) نعم يناسبها ان تكون قرية بيت المقدس الذي بناه سليمان وكان بنو اسرائيل يأتونها في مواسمهم للعبادة ويتمتعون فيها بالرغد والأمن. ويمكن أن يكون هذا القول من اللّه قد جاء في الوحي إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإن التوراة الرائجة تذكر ان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يذكر لهم من وحي اللّه احكام مجبتهم إلى المكان الذي يختاره اللّه بعد الخيمة كما في سفر التثنية متفرقا من الفصل الثاني عشر إلى الحادي والثلاثين. ولا بعد في ان يوجد في هذه الثوراة المحرفة شيء من انقاض التوراة الحقيقية واللّه العالم بحقائق الأمور (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) جمع ساجد ولعل المراد باب بيت المقدس والمعنى ان دخولكم يكون للسجود والعبادة والاستغفار كما هو شأن المساجد (وَقُولُوا حِطَّةٌ) بالرفع خبر المحذوف اي سجودنا وعبادتنا حطة لذنوبنا والجملة خبرية براد بها الدعاء أي اجعل سجودنا وعبادتنا سبباً لحط ذنوبنا عنا يقال حط الجمل من الدابة أي ازاله وانزله عنها (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) بأعمالهم على المغفرة بالثواب (59 فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وقالوا إلى الاستغفار وطلب الحط لأثقال ذنوبهم عنهم. ولعل من مصداق ذلك انهم حذفوا الأمر بالعبادة والاستغفار ودوام السجود في بيت المقدس وبدلوه بأن اللّه امرهم في التوراة بأنهم إذا لم يقدروا ان يحملوا زكواتهم ان يبيعوها بفضة وينفقوها في بلد بيت المقدس
ص: 95
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (60) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (61) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا
-------------------------------------------------------------------
بما تشتهي نفوسهم في البقر والغنم والحمر والمسكر (1) كما في الفصل الرابع عشر من سفر التثنية وهل يقبل ذو شعور ان اللّه يأمر بانفاق الزكاة بشرب الخمر والمسكر في بيت عبادته (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) كرر ذكر الظالمين اما لتخصيص الرجز بالظالمين أو تسجيلاً لقبيح ظلمهم وبيانا لأن ظلهم هو السبب في انزال الرجز عليهم (رِجْزًا) أي عذابا (مِنَ السَّمَاءِ بِمَا) أي بسبب ما (كَانُوا يَفْسُقُونَ) ولم يستغفروا ويطلبوا حط ذنوبهم عنهم بل بدلوا ما قيل لهم (60 وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى) طلب من اللّه السقيا (لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) فضرب به وحذف ذلك لأن دلالة المقام عليه واضحة (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) يشربون من مائها (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) وإن عدد العيون وامتياز الأناس بعضهم من بعض بالمشرب ليستفاد منه ان كل عين كانت مشرباً لسبط من اسباط بني اسرائيل الاثني عشر (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) الذي رزقكم إياه على سبيل المعجز و خارق العادة بدون شائبة من سعي أو تسبيب منكم وذلك هو المن والسلوى وهذا الماء المنفجر من الحجر فاشكروا اللّه واطلبوا رحمته وأطيعوه وتوكاوا عليه (وَلَا تَعْثَوْا) معناه قريب من لا تطغوا ونحوه (فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال من الضمير في لاتعثوا (61 وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) لانجد له بديلا في بعض الأيام وهو المن والسلوى (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا) وهو النبات الذي تخضر به الأرض ومنه النعنم والكراث والكرفس ونحوها مما ياً كله الإنسان (وَقِثَّائِهَا) وهو الخيار الطويل الأخضر (وَفُومِهَا) روى في مجمع البيان مرسلاً عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان القوم الحنطة ورواه ابن جرير في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس مستشهداً بقول
ص: 96
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (62) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
-------------------------------------------------------------------
ابي محجن الثقني أو احيحة بن الجلاح «ورد المدينة عن زراعة قوم» وروي في الدر المنثور عن ابن عباس ايضا انه الثوم وانه استشهد له بشعر امية بن الصلت ولا شهادة فيه وكلام اللغويين غير كاف في البيان (وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) منه (اهْبِطُوا مِصْرًا) بالتنوين يحتمل ان يراد بها مصر المعروفة ونونت الجواز صرفها بسبب سكون وسطها كهند ورعد وان ذكرت في غير هذا الموضع اربع مرات غير منصرفة. أو اهبطوا مصراً من الأمصار كما هو انسب بالتنوين والأمر بالهبوط على كلا الوجهين إنما هو للتعجيز لأن مصر هي بلاد عبوديتهم وذلتهم ومجمع عدوهم المنكوب مضافاً إلى انهم كتب عليهم التيه فكيف يستطيعون الهبوط إلى مصر (فَإِنَّ لَكُمْ) هناك إن قدرتم وانى (مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الظاهر ان الضمير لا يختص بالذين طلبوا البصل وما ذكر. فإنهم لم يعهد منهم قتل النبيين. بل يعود الضمير على نوع بني اسرائيل إذ ضربت عليهم الذلة (وَالْمَسْكَنَةُ) كما يعرف ذلك جلياً بعد انحلال مملكتهم في السامره وتم ذلك بسبي بابل (وَبَاءُوا) يقارب معنى رجعوا (بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ) أي ضرب الذلة والمسكنة ولزوم غضب اللّه عليهم بأنهم (كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) والصفة اللازمة لقتل النبيين كونه (بِغَيْرِ الْحَقِّ) كقوله تعالى لا برهان له به في قوله جل شأنه في سورة المؤمنون ومن يدع مع اللّه إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه (ذَلِكَ) يحتمل أن يكون تأكيدا للاشارة الأولى ويحتمل قريبا انه اشارة الى قتلهم النبيين (بِمَا عَصَوْا) أي بعصيانهم الذي اعتادوه (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) بحيث صار لهم الاعتداء عادة (62 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي اظهروا الإيمان من المسلمين (وَالَّذِينَ هَادُوا) أي انتحلوا اليهودية. يقال في التاريخ ان بني اسرائيل من بعد سليمان ارتد اكثر اسباطهم الى الشرك وعبادة الأوثان وعجلي الذهب للذين عملهما ملكهم ثم بادوا من بعد ذلك بالقتل والأسر ولم يبق لهم اسم ولا رسم قومي في الاسرائيلية. والذين بقوا على صورة التوحيد والشريعة على
ص: 97
وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
-------------------------------------------------------------------
تقلب في الوثنية والإيمان بحسب الأزمنة والملوك وبقي اسمهم وعنوان الموسوية واحترام بيت المقدس في اكثر الأزمنة فيهم الى اليوم إنما هم سبط يهودا ومن تبعهم كسبط بنيامين. فصار العنوان لمن ينتمي الى الملة الموسوية هم الذين هادوا. وذكر لهذه الصفة وجوه أخر واللّه العالم (وَالنَّصَارَى) وهم المنتمون الى اتباع الرسول عيسى. قبل مفرده نصران ونصرانة واستشهدوا له بقول الشاعر «وهو نصران شامس وقول الآخر «كما سجدت نصرانة لم تحنف» وقبل في وجه التسمية انه من النصرة لقول المسيح من انصاري الى اللّه قال الحواريون نحن انصار اللّه كما في سورتي آل عمران والصف. وقبل نسبة الى الناصرة قرية من بلاد الجليل في فلسطين نشأ فيها المسيح وكان يسمى الناصري فلحق المنتمين الى اتباعه هذا اللقب واللّه العالم (وَالصَّابِئِينَ) قبل فيهم اقوال كثيرة والظاهر ان منهم الصابئة الموجودين فيما بين البصرة وبغداد ولعلهم شعبة من اليهود امتازوا بديانة سرية وربما عرف من بعضهم انهم ينتمون الى اتباع يحيى بن زكريا. ولهم في ديانتهم ولع شديد بالماء وعناية بأمره (مَنْ آمَنَ) من هؤلاء (بِاللَّهِ) بحقيقة الإيمان به في الاخلاص بتوحيده في الإلهية وما له جل شأنه من صفات الجلال والجمال (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) على حقيقة الاريمان بالمعاد الجسماني والجنة والنار والحساب والجزاء وما ذكر في القرآن الكريم في شأن اليوم الآخر. ومن كان كذلك لم يتمرد على آيات اللّه ودلائله ولم تأخذه نخوة القومية بل يتفانى في طلب الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم او نزعة اهواء (وَعَمِلَ صَالِحًا) على حقيقة الشريعة المقدسة ولا يخفى ان الإيمان برسول اللّه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وبما جاء به لازم لحقيقة الإيمان المذكور والعمل الصالح. الاترى اقلاً ان حقيقة الإيمان بالمعاد واليوم الآخر على ما جاء في القرآن الكريم لا توجد عند فرقة من الفرق فضلا عن الإيمان باللّه وما له من الجلال والقدس والوحدانية حق الإيمان (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) وجزاؤهم معدة (عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الآخرة (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) و خبر «ان» اما جملة من آمن مع جزائها واما جملة فلا خوف. ويكون من آمن بدلا من اسم ان والمعطوف عليه ودخلت الفاء على الخبر لأجل تضمن «من» معنى الشرط ولعل الأول اظهر. وقد روعي في «من» لفظها في آمن. وعمل. ومعناها في «لهم»
ص: 98
(63) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (64) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (66) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
-------------------------------------------------------------------
وما بعدها (63 وإذ) واذكروا يا بني اسرائيل إذ (أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) وهو العهد الموتق الذي أشير اليه في الآية الثامنة والثلاثين (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) جبل سينا او قطعة منه وقد قيل في رفعه وتسميته ما لا يصلح حجة واللّه العالم (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ) وهو التوراة (بِقُوَّةٍ) وفي موثقة البرقي سثل ابو عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أقوة الأبدان او قوة القلب قال فيها جميعا وعن العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحو ذلك أي لا تهنوا في ابدانكم وقلوبكم عن أخذ ما في التوراة (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ) أي في التوراة ولا تنسوه ومن ذلك وصف النبي الذي يقيمه اللّه لهم من اخوتهم ولد اسماعيل لا منهم ويجعل كلامه وهو القرآن الكريم في فمه (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لأجل أن تتقوا اللّه وجي بلعل في مقام الغاية لأن حصول التقوى منهم غير لازم بل هو راجع الى حسن اختيارهم (64 ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) التولي بمعنى الاستدبار واستعمل هنا كناية عن الاعراض عما أخذ عليهم من الميثاق (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) الأخذ للميثاق (فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بقبول التوبة (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الذين ذهب رأس مالهم كني بالخسران عن هلكتهم بالضلال (65 وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) شأن (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) بعد ان نهاهم اللّه عن الصيد فيه وهم أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كما ذكرت قصتها قبل هذا في سورة الاعراف المكية من الآية الثالثة والستين بعد المائة الى السابعة والستين (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) على نحو قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (66 فَجَعَلْنَاهَا) أي حادثة المسخ ولعل الأقرب انها القرية المدلول عليها في سورة الاعراف (نَكَالًا) النكال اسم للعقوبة الظاهرة أو الباقية الأثر او لنفس الأثر والمصدر هو التنكيل (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا) أي ظاهر لما بين يديها من القرى والأمكنة باعتبار اهلها كما يقال أثر للناظرين (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي وتزيد بالنسبة للمتقين ان تكون لهم موعظة تزيدهم بصيرة في الإيمان والمعرفة وتسددهم للثبات على التقوى وهناك احتمالات أخر واللّه العالم
ص: 99
(67) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ
-------------------------------------------------------------------
(67 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وملخصا القصة مما رواء القمي بسند معتبر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن بابويه في العيون في الصحيح عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رجلا من بني اسرائيل قتل ابن عمه غيلة وانهم يقتله بني اسرائيل فصاروا يندارون ويدفعون عن انفسهم هذه التهمة فرجعوا في امرهم الى موسى فشاء اللّه ان يظهر حقيقة الامر بنحو المعجز فقال لهم موسى ان اللّه يأمركم ان تذبحوا بقرة فاستغربوا الحال و(قَالُوا) بجهلهم (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) وفي الصحيح عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو انهم عمدوا الى اي بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد اللّه عليهم. وروي ذلك في الدر المنثور من طرق متعددة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وابن عباس. وفي رواية القمي ان اللّه اشار بأوصاف البقرة الى بقرة رجل بار بابيه جزاء لبره ليشتروها بالثمن الغالي ولا تنافي بين الروايتين لجواز ان يكون ذلك نتيجة علم اللّه بتشديدهم على انفسهم (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ) لامستة (وَلَا بِكْرٌ) فتية في اوائل سنها بل هي (عَوَانٌ) ومتوسطة في منتصف عمرها (بَيْنَ ذَلِكَ) اي ما ذكر من الوصفين (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ 68 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا) اي شديد الصفرة وخالصها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ 69 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) بهذه الصفات (وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ 70 قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ) الذاول السهلة المنقادة بالتذليل والتعليم للاعمال التي تراد من نوعها وهذه لا تنقاد لكل اعمال البقر و بين ذلك بانها (تُثِيرُ الْأَرْضَ)
ص: 100
وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ
-------------------------------------------------------------------
وتنقاد لكرابها (و) لكنها (لَا تَسْقِي الْحَرْثَ) اي الارض المزروعة او الزرع ولا تطاوع لأن بدلى عليها من الآبار والأنهار (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب (لَا شِيَةَ فِيهَا) ليس فيها لون يخالف معظم لونها (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) اي بحق الوصف المبين والمعين (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) إما لغلاء ثمنها كما يروى واما لغير ذلك من الاسباب (71 وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) اي قتلها بعض منكم فسرت فيكم النهمة والخصومة فصار كل منكم يريد ان يدفعها ويدرأها عنه (وَاللَّهُ مُخْرِجٌ) بقدرته من سر الخفاء الى العلم والظهور (مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) اي يكتمه القاتل منكم من القتل وسببه. وقد كان الأمر بذبح البقرة وتعتهم في السؤال عنها وتناقلهم عن ذبحها من متعلقات القتل واتهام بعضهم بعضا وتدارتهم لها فيما بينهم ولكن افرد اللّه تلك الأمور بالذكر تذكيرا لبني اسرائيل بتباطي اسلافهم عن امتثال امر اللّه. ونسبة موسى الى الاستهزاء لما بلغهم امر اللّه ايزيح علتهم وشقاقهم بكثرة السؤال حتى انهم ما كادوا يفعلون. وامتناناً عليهم بالمجازاة لهم في شقاقهم وتباطئهم عن اوامره لكي يرفع تخاصمهم وينجي البري ويظهر البراءة بعلم اليقين. ثم شرع في تذكيرهم بمننه عليهم واظهار الحق وفصل الخصومة بالنحو المعجز الذي يوضح لهم قدرة اللّه وربط اطراف القصة بقوله حلت الاؤه (72 فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ) اي المقتول المذكور في الآية السابقة (بِبَعْضِهَا) اي تلك البقرة التي امروا بذبحها فذبحوها، فضربوه ببعضها ورجع حيا واخبر بقاتله وظهر امر القتل بالمعجز حق اليقين وارتفعت الخصومة وقد دل على هذا كله سياق الكلام والتذكير بما فيه من المنة عليهم مع قوله جلت قدرته (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) بالتدبر والاعتبار بآيات اللّه وقدرته واحيانه الميت ورحمته لكم لكي تعرفوا رشدكم وتهتدوا الى سواء السبيل وان تعقلهم احد الغايات وان كان اشرفها واكثرها لهم نفعا. وجي بلمل لأن تعقلهم غير لازم بل هو راجع الى حسن اختيارهم في التفكر وحسن الاعتبار والتبصر وعدم التناسي والانقياد الى وساوس الاهواء وضلالها (73 ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ)
ص: 101
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ
-------------------------------------------------------------------
فزاغت عن الاعتبار بآيات اللّه والتعقل لدلائل الرشد (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) اي من بعد كل ماذكر من الآيات وافرد كاف الخطاب في «ذَلِكَ» باعتبار الجمع أو القوم لا الجماعة (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) في قسوتها وناهيك بها قسوة (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) اي وان شئت ان تصفها باعتبار الاثار فهي اشد قسوة من الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) ومن ذلك العيون الجارية من الجبال الصخرية (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ) ومن ذلك ما يحدث عند الزلازل من الانشقاق والانفجار (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) وقد حدث هذا كله لبني اسرائيل وشاهدوه رأي العين في الحجر الذي انفجرت منه العيون والجبل الذي تجلى له اللّه فجعله دكا. واما انتم يا بني اسرائيل فلاتتأثر قلوبكم بالآيات ودلائل الحق بل تعملون بما يغريكم به الهوى المردي والشيطان المضل ويحملكم عليه العناد للحق والتمادي على الطغيان (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل يمهلكم وبيلي لكم ثم اليه ترجعون (74 أَفَتَطْمَعُونَ) خطاب الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والمؤمنين (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) باللّه ورسوله وقرآنه ويجيبوا دعوتكم لهم الى حقيقة الايمان وهم اهل العناد والإصرار على الضلال على عمد (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ) عند خطابه لموسى. اومن موسى والانبياء مع اعترافهم بنبوتهم زيادة على دلالة المعجزات على ذلك (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يغيرونه ويبدلونه لا عن جهل بل عن عمد وضلال (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) وفهموه حق الفهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انهم محرفون كاذبون على اللّه. هذا حال سلفهم في الغي. واما هؤلاء الذين أطمعون ان يؤمنوالكم بالحق فهم كما في هذه الآية (75 وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) من علم التوراة وتخبرونهم بما فيها من صفة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ورسالته والامر باتباعه (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ) فتكون الغاية من ذلك ان تقوم به
ص: 102
عِندَ رَبِّكُم أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (78) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (79) بلى
-------------------------------------------------------------------
الحجة عليكم فيحاجوكم به (عِندَ رَبِّكُم أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما يترتب على ذلك من الغايات. وفي تبيان الشيخ الطوسي (قدّس سِرُّه) وروي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه قال كان قوم من اليهود ليسوا من المعائدين المتواطئين اذا لقوا المسلمين حدثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فنهاهم كبراءهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد فيحاجوكم به عند ربكم انتهى فتصاً لأوهامهم (76 أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ) ربهم الذين يكتمون الحق حذرا من محاجة المؤمنين لهم عنده هو اللّه الذي (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ 77 وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) الامي كما في مجمع البيان من لا يحسن الكتابة ولا القراءة (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ) استثناء منقطع بمعنى ليس لهم الا الاكاذيب والاختلافات التي يسمعونها من المدلسين. او ليس الا اماني العلم (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ظنا بما يسمعونه (فَوَيْلٌ) مبتدأ لانه نكرة مفيدة واللذين خبره والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) من حطام الدنيا والزعامة الكاذبة او ترويج الباطل قال في مجمع البيان انهم عمدوا الى الثوراة و حرفوا صفة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ليوقعوا الشك بذلك للمستضعفين من اليهود وهذا هو المروي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) اذ يحرفون ذلك اولا يعلمون بما يوجبه (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الآثام والكفر واعمال الضلال او التحريف لأجل الاضلال وكتمان الحق (78 وَقَالُوا) اي اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) اي قليلة (قُلْ) لهم يا رسول اللّه (أَتَّخَذْتُمْ) على سبيل الاستفهام الانكاري (عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) منه على ذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ) افتراء او تحكماً (عَلَى اللَّهِ) في هذا الزعم الباطل (مَا لَا تَعْلَمُونَ 79 بلى) رد لقولهم
ص: 103
مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (80) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ
-------------------------------------------------------------------
وبيان الحقيقة الامر وهو ان (مَنْ كَسَبَ) بسوء اختياره (سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) اي لزمته واستولت عليه استبلاء الشيء المحيط به ولم يكفرها عنه الايمان والتوبة بعد الكفر (فَأُولَئِكَ) اشير بالجمع باعتبار الجمع في معنى من كسب (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الى الابد (80 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ) دون غيرهم (فِيهَا خَالِدُونَ 81 وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) اي واذكروا اذقلنا لهم اقوالا واوصيناهم بها واخذنا منهم العهد الموثق بالعمل بها (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) وحده لا شريك له في العبادة والالهية والجملة خبرية يراد بها النهي والخبرية في مقام الطلب ابلغ من الانشائية وهي والجمل المعطوفة عليها معمولة للقول المدلول عليه باخذ الميثاق (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) احسانا مصدر نائب عن الفعل وهذا السبك أبلغ وآكد من ان يقال وأحسنوا (وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) عطف على الوالدين في الامر بالاحسان بهم (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) وهذه الوصايا غير مختصة ببني اسرائيل بل هي من اهم ما يقتضيه اللطف بكل امة ارسل اليها رسول. روي في الكافي بسند معتبر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى وقولوا للناس حسنا قال قولوا للناس حسنا ولا تقولوا الا خيراً حتى خيراً حتى تعلموا ما هوروى ابن بابویه بسند معتبر عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قولو اللناس احسن ما تحبون ان يقال فيكم الحديث (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) وادبرتم في المخالفة لذلك الميثاق (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن الميثاق متمردون على أوامر اللّه ونواهيه (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) التفات الى خطاب اليهود اما باعتبار أخذ الميثاق على اسلافهم او باعتبار ان إيمانهم برسالة موسى و توراتهم التزام بالوصية الشاملة لهم واعطاء للميثاق عليها كاسلافهم (لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ) لا يسفك بعضكم دم بعض (وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) لا يخرج بعضكم بعضا من بلادكم
ص: 104
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (83) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (84) أولئكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاخْرَةِ فَلا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَاهُم ينصَرُونَ (85) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ
-------------------------------------------------------------------
وعبر بالأنفس تأكيدا في النهي فإنهم أمة واحدة وبنو أب واحد والكلام في الجملة الخبرية في مقام الطلب ومحالها من الاعراب كما تقدم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بأخذ الميثاق (83 ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) القوم الذين أخذ عليهم الميثاق وأقروا وشهدوا ذكر ذلك للتغليظ في التوبيخ (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ بغير حق بل (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وهم قومكم ومنكم (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) مستعينين بكم على فدائهم (تُفَادُوهُمْ) وتبذلون فداء هم عملا بكتابكم فلماذا تخرجونهم من ديارهم ظلما (وَهُوَ) والشأن انه (مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) في الكتاب (إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ) أي القتل والإخراج، او النقاب الأهوائي في الايمان والكفر (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ) بيان لأن المراد من قوله ومن يفعل هو الجمع (إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فانه لا تخفى عليه خافية وقد اعد لكل عمل جزاءه (84 أولئكَ) اي المنافقون لميثاق اللّه هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالاخْرَةِ) وما اقبح خسرانهم بهذا الشراء اذن (فَلا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَاهُم ينصَرُونَ) ومن ذا الذي ينصرهم على اللّه (85 وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) اي التوراة (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ) اي اتبعناء بعد موته (بِالرُّسُلِ) في الكافي في باب الفرق بين الرسول والنبي أن الرسول هو من يعاين الملك ويأتيه جبرائيل فيراه ويكلمه بالوحي كما في صحيحتي زرارة والأحول عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايتي اسماعيل عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبريد عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) و الذين ذكرت اسماؤهم من الأنبياء بعد موسى هم داود وسليمان والياس واليسع وذو الكفل والظاهر انه حزقيال
ص: 105
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (86) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (87) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا
-------------------------------------------------------------------
ويونس وزكريا ويحيى والمسيح ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). والذين نص القرآن على رسالتهم هم الياس ويونس والمسيح ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ) من المعجزات (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) جبرائيل. يا بني اسرائيل (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) على دعوته الى دعوته الى الحق وجهدتم في مضادته ومعاندة الحق (فَفَرِيقًا) من الرسل (كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ 86 وَقَالُوا) اي بنو اسرائيل (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) اي في غلاف لأنفهم ما يقول الرسول في تبليغه وغرضهم العيب لما يقوله في التبليغ كما حكى اللّه عن المشركين في سورة حم السجدة «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ» وليسوا لا يفهمون ما يقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فإنهاتى في رسالته وتبليغه بماتقتضيه الفطرة وبداهة العقول ولا يخفى صلاحه على احد (بل) تمردوا على اللّه وكفروا على عمد فحرمهم بركة التوفيق و (لَعَنَهُمُ اللَّهُ) وابعدهم عن رحمته (بِكُفْرِهِمْ) وعنادهم (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) الفاء للتفريع على خرمانهم من التوفيق وطردهم عن رحمة اللّه بعنوهم في كفرهم و «قليلا» صفة للمصدر اي إيمانا قليلا و «ما» لتأكيد القلة بزيادة الإبهام في القليل. والظاهر ان المراد بقلة ايمانهم قلة من آمن منهم (87 وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو القرآن الكريم بمافيه من دلائل الاعجاز والحجج على انه من اللّه (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) من التوحيد وارسال الرسل وانزال الكتب والشريعة (وَكَانُوا) اي هؤلاء المردة المعاندون (مِنْ قَبْلُ) اي من قبل انزال القرآن او مجي الرسول الى المدينة (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) روى في الكافي في الموثق عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما ملخصه ان اليهود كانت تجد في كتبها ان مهاجرة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ما بين عير واحد فخرجوا يطلبون الموضع ونزله قوم منهم ثم صاروا يقولون للأوس والخزرج اما لو قد بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا فلما بعث اللّه محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود وهو قول اللّه وكانوا من قبل يستفتحون. وعن تفسير العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله. وفي صحيحة اسحق بن عمار
ص: 106
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (88) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (89) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
-------------------------------------------------------------------
عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يقرب من هذا. وكذا الحديث الأول والسابع والثامن الذي صححه الحاكم مما رواه في الدر المنثور. فيكون معنى يستفتحون يستنصرون بالتهديد او يطلبون في كلامهم ما يأملون من الفتح والنصر في المستقبل. وروى في الدر المنثور ايضا ان اليهود كانوا عند محاربتهم للعرب بستنصرون اللّه في الدعاء باسم النبي محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا) من امر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ورسالته وان اللّه يجعل كلامه في فمه (كَفَرُوا بِهِ) مع معرفتهم به ککفر ابليس (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ 88 بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) في مجمع البيان اكثر الكلام اشتريت بمعنى ابتعت وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت انتهى ولكن فيه هنا كما في التبيان والكشاف اشتروا بمعنى باعوا اقول ويجوز ابقاء الاشتراء على معناه المتعارف وتكون الآية توبيخاوتسفيها لليهود فإن حق النفس ان تشترى بالإيمان والاخلاق الفاضلة والعمل الصالح في هذه الحياة الدنيا لتكون كاملة زكية فائزة بالسعادة الأبدية. اذن فما بال هؤلاء السفهاء قد حملهم الحسد الذميم على ان يحفظوا لأنفسهم خرافات القومية والجامعة اليهودية وجعلوا الثمن لاشترائها لهذا الغرض الوخيم هو الكفر بآيات اللّه حسد او بغيا فبئس ما فعلوا وبئس الذي اشتروا به انفسهم او بئس شيئا اشتروا به (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ای كفرهم بما انزل اللّه وهو المخصوص بالدم مثل عمرو في قولهم بئس الرجل عمرو وتزداد شناعة كفرهم بما انزل اللّه مع معرفتهم بأنه كلام اللّه المنزل الذي وعدوا به بأن كفرهم هذا كان حسدا و (بَغْيًا) على ان يبعث اللّه من غيرهم رسولا و (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) كلامه وآياته ووحي ارساله (عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه) ويعلم اهليته للرسالة من ولد اسماعيل (فَبَاءُوا) نحو معنى رجعوا (بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) غضب اللّه عليهم من أجل الكفر مع المعرفة وقيام الحجة وغضبه من أجل حسدهم وبفيهم وعنادهم للرسول لكونه من غيرهم (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) يذ المهم و بهينهم (89 وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) من القرآن بأنه كلام اللّه المنزل على رسوله الكريم
ص: 107
قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (90) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (91) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
-------------------------------------------------------------------
وانقادوا بإيمانكم الى اتباعه فقد عرفتم انه من اللّه وقامت به الحجج عليكم (قَالُوا) من غيهم وبغيهم وضلال عصبيتهم اليهودية (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) ومفهوم قولهم الكفر بغير ما في كتبهم (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ) أي بما عداه مما أنزله اللّه على غيرهم كقوله تعالى «وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ» او ما بعده (و) الحال ان القرآن يكفرون به إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) من صفة الرسول وان اللّه يجعل كلامه في فمه وانه من اخوتهم ولد اسماعيل لا منهم أي هو الحق الذي يكون به صدق تلك المواعيد ثم رد اللّه منطوق قولهم نؤمن بما أنزل البنا مبينا كذبهم في هذه الدعوى وتمادي اسلافهم على معاندة الإيمان والقوم ابناء القوم وعلى وتيرتهم فقال جل اسمه لرسوله (قُلْ) لهم في ردهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بما أنزل اليكم فإن أنبياء اللّه لم يدعوكم إلا إلى الإيمان والعمل بما انزل اليكم (90 وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ) والآيات الباهرة التي لا مجال بعدها للشك والانحراف عن الإيمان (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) وارتددتم ذلك الارتداد القبيح واشركتم (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ 91 و) اذكروا (إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ) على الإيمان والتوحيد والعمل بالتوراة (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) وهو معنى قوله تعالى في الآية الستين «وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (ق قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) أي انهم بسبب كفرهم وغيهم انهمكوا في حب العجل حتى كأن العجل دخل في اعماق قلوبهم كما يدخل المشروب الذي يقبل عليه الانسان الى اعماف بدنه حتى صار العجل كالحبيب الحاضر في القلب بحبه. والذي اشربهم إياه في قلوبهم هو الشيطان او غواية الاهواء. ثم عاد الكلام على توبيخهم وردهم في قولهم الكاذب «نؤمن بما أنزل الينا» بما معناه ان الإيمان يأمر ويحمل على اتباع ما آمن الانسان به والعمل به. والذي انزل عليكم يأمركم بتوحيد اللّه ومجانبة
ص: 108
قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (92) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (94) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
-------------------------------------------------------------------
الأوثان وعبادته وحده وطاعة الأنبياء واحترامهم والإيمان برسول او كتابه - أفتقولون ان إيمانكم المزعوم الموهوم أمركم بما ذكر من افعالكم القبيحة إذن (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ) واين منكم الإيمان ولكن قبل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المجاراة في خطابهم والتنازل من النفي الى صورة التشكيك وهذا من بديع الأساليب في التقريع والتوبيخ. ومن افحامهم بالحجة انهم يدعون انهم هم شعب اللّه ولهم الآخرة والنجاة والنعيم وانهم ابناء اللّه وأحباؤه كما في سورة المائدة ويذكرون في ثوراتهم انهم ابن اللّه البكر فقال اللّه لرسوله (92 قُلْ) لهم (إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً) مختصة بكم (مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) شوقا لما أعد في الآخرة من النعيم العظيم الدائم والسعادة الكبرى لأهلها (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زعمكم عارفين بصدقكم (93 وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من موبقات الخطابا والضلال وإن جحدوا ذلك فإنه لا يخفى على اللّه (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 94 و) وزيادة على أنهم لا يتمنون الموت (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة ما وإن كانت قليلة (و) احرص على الحياة (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) الذين ينكرون المعاد والنعيم بعد الموت (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) من حرصهم على الحياة (لو يعمر) الظاهر ان «لو» بعد «ود. ويود» مصدرية كما حكاه في المغني عن القراء وابي علي وابي البقا والتبريزي وابن مالك. يؤتى بها بدل «ان» فيما كان مدخولها بعيد الحصول او ممتنعا في نفسه او بحسب العادة. او يراد ابرازه بصورة البعيد او الممتنع. وذلك كما في الآية والآية 103 وسور آل عمران 28 و 62 والنساء 45 و 91 و 103 والحجر 2 والاحزاب 62 20 والقلم 9 والمعارج 11. وما لا يكون كذلك تأتي فيه مكان «لو» أن المفتوحة المشددة المصدرية كما في صورتي الأنفال 7 وهود 82. أو «ان» الساكنة المصدرية كما في هذه السورة 99 و 268. أو «ما» المصدرية كما في سورة آل عمران 114 وليس في «لو» هذه معنى التمني كما هو ظاهر وبدليل ان ما يقع بعد الفاء متفرعا على ما بعدها لم يجى في القرآن إلا
ص: 109
أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (95) قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
-------------------------------------------------------------------
مرفوعا كقوله تعالى في سورة النساء 91 ودوالو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء و 103 ود الذين كفروا لو تغفلون عن أمتعتكم واسلحتكم فيميلون عليكم وفي سورة القلم 9 ودوا لو تدهن فيدهنون. والتي هي للتمني جاء ما بعد الفاء بعدها منصوبا كما في قوله تعالى 162 لو ان لنا كرة فتتبرأ منهم وفي سورة الزمر لو ان لي كرة فأكون بنصب اكون «فإن قيل» ان «لو» التي بعد يود وود كيف تكون مصدرية مع انها تقع بعدها اداة مصدرية كما في قوله تعالى في سورة آل عمران 28 تود لو ان بينها وبينه أمدا. وفي سورة الأحزاب 20 يودوا لو انهم بادون «قلت» ان «لو» كيفما كانت لا تدخل على الجملة الاسمية بل لا بد فيها من تقدير فعل. فالتقدير إذن لو يمكن او لو يتيسر ونحوهما كما تقول أود أن يتيسر ان بينها وبينه امدا ويودوا أن يمكن او يتيسر انهم بادون. وعبر بذلك التعبير لخصوصية «لو» وظهور المقام وخصوص الجملة الاسمية في مزايا الكلام كما لا بد من هذا التقدير على قول القائل انها للتمني (أَلْفَ سَنَةٍ) وماذا ينفعه ذلك التعمير. هل يحط عنه شيئا من ذنوبه او يدفع عنه العذاب ما لم يؤمن ويعمل صالحا. كلا (وَمَا هُوَ) أي احدهم (بِمُزَحْزِحِهِ) مزحزحه خبر للضمير هو والباء زائدة لتأكيد النفي (مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) المصدر فاعل لمزحزحه أي وما هو مزحزحه تعميره (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) من السيئات وان طول اعمارهم في عمل السيئات هو الذي يركسهم في درك العذاب (95 قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) لما تقدمه من كتب اللّه الحقيقية ومعارف الحق (وَهُدًى) حال ثان معطوف على مصدقا (وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) اي ان الذي يهتدي ويصل به الى الحق ويكون القرآن له بشر انما هم المؤمنون. والآية تشعر بان لها شأن وسبب نزول والسياق يقتضي ارتباطه باليهود. وقد روي في ذلك شيء ذكره في الدر المنثور ولكنه غير متصل الإسناد ولا سالم من الخال. وروي في تفسير البرهان شيء وفي مستنده ما فيه وذكر القمي شيئا ولم يذكر مأخذه واللّه هو العالم بحقيقة الحال (96 مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
ص: 110
(96) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (97) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (98) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (99) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (100) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
-------------------------------------------------------------------
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) اي لا يكون كذلك الا كافر واللّه عدو للكافرين وكفى بذلك خزيا لهم ووبالا (97 وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) لا ريب فيها (وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ) الذين خرجوا من طاعة الحق والرشاد واستحبوا الكفر (98 أَوَكُلَّمَا) الاستفهام للتوبيخ والتقريع على عادتهم القبيحة من انهم كلما (عَاهَدُوا) اللّه او رسله او أنبياءه (عَهْدًا نَبَذَهُ) والقاه كناية عن نقضه ومخالفته (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ليس الفريق القليل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ولا يثبتون على عهدهم ومنهم بنو قريضة والنضير وقينقاع وغيرهم ممن نقض عهده وميثاقه لرسول اللّه و المسلمين اقبح نقض باقبح عذر (99 وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) وهو محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) وسلم (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) من التوحيد وارسال الرسل وانزال الكتب الإلهية وصفات الرسول الذي وعدوا به وتبين لهم انه هو المصداق المصدق وجاءهم بالكتاب كلام اللّه المذكور في توراتهم (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهم الأكثر الذين لا يؤمنون (كِتَابَ اللَّهِ) القرآن الذي قامت به عليهم الحجة وعلموا بأنه كتاب ورموه (وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) كناية عن اعراضهم وكفرهم به (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) انه كتاب اللّه المبشر به في كتبهم وقامت به الحجج النيرة (100 وَاتَّبَعُوا) من الأباطيل والكفر (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي على اهل مملكته (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) روى ابن بابويه في العيون عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان هاروت وماروت علما الناس السحر ليحترزوا به عن سحر السحرة وببطلوا كيدهم وذكر مضمون
ص: 111
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا
-------------------------------------------------------------------
قوله تعالى (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى) ينذراه و (يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ) من جهة (فِتْنَةٌ) وابتلاء وامتحان تعلم الناس لغاية صحيحة (فَلَا تَكْفُرْ) وتستعمل ما تعلمه في غايات الصلال (فَيَتَعَلَّمُونَ) أي اليهود (مِنْهُمَا) من الشياطين وهاروت وماروت او من المتعلمين منهما (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) والمراد من الاذن عدم ابطال اللّه لأثر السحر أي ليس أثر السحر أمر لازم لا يقدر اللّه على رفعه ولكن لم يبطله بل خلى بينه وبين الناس في سوء اختيارهم كما خلى بينهم وبين سائر المعاصي وانواع الظلم لحكمة قدرها في العالم (وَيَتَعَلَّمُونَ) من السحر (مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) إذ لا يستعملونه في ابطال سحر السحرة ودفع كيدهم. روى القمي في تفسيره ان الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) سأله عطامكة عن هاروت وماروت فذكر من أمرهما في المعصية نحو ما يذكر الجمهور عن ابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار كما تراه مجموعا في الدر المنثور وفيما ذكرنا روايته عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحو معارضة لما روي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وراويه عن الباقر محمد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره ويمكن أن يكون الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحسب حال الوقت وعطا حكى له ما يروونه عن ابن عمر وابن عباس و كعب من دون ما يشعر بتصديقه. والشيخ في التبيان لم يشر إلى هذه الرواية ويبعد أن يكون لم يطلع عليها. والقول بكونها منافية لمصمة الملائكة يمكن دفعه بأن يقال بأن المسلم من عصمتهم هو ما داموا مجردين عن الشهوة والحرص لا ما إذا جعلا فيهم كما تقوله الرواية واللّه العالم بحقيقة الحال (وَلَقَدْ عَلِمُوا) اللام للقسم والجملة التي بعدها جوابه (لَمَنِ اشْتَرَاهُ) اللام الابتداء و«من» مبتدأ والضمير يعود الى السحر وما تتلوه الشياطين. وعبر عن اتباعه وتعلمه بالشراء اشارة الى انهم بذلوا بازائه وبدلا عنه دينهم وآخرتهم فمن اتبعه واشتراه (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) أي نصيب وذلك هو الخسران المبين وجملة «ماله» خير «من» والجملة من المبتدأ والخبر معموله «لعلموا» لأن الأصل في افعال القلوب أن تتعلق في العمل بالنسب الموجودة في الجمل (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا)
ص: 112
بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (101) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا
-------------------------------------------------------------------
أي باعوا. ويمكن أن يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الثامنة والثمانين (بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) فانه اقبح الأثمان وأخسها (101 وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) لهم مما يرونه بعمل السحر وتعلمه فضلا عن كمال الإيمان والتقوى وخسة السحر ونقصه واللام رابطة لجواب «لو» ومثوبة بمعنى ثواب مبتدأ وخير خبره والجملة جواب لو. ونكرت «مثوبة» لبيان ان فرداً واقل مصداق مما عند اللّه من الثواب خير لهم مما اتبعوه (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ولو هنا بمعنى التمني جرياً على ما يستعمله الناس في المحاورات في مثل المقام واللّه يجل ويتقدس عن حقيقة التمني (102 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اخرج احمد في مسنده ع----ن ابن عباس وفي الدر المنثور اخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ما أنزلت آية فيها يا ايها الذين آمنوا إلا وعلى رأسها واميرها. وفي الحلية ان الناس يروون هذا الحديث وفي الينابيع اخرجه موفق بن احمد عن مجاهد وعكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وقال موفق رواه جماعة من الثقاة هم الأعمش والليث وابن أبي ليلى وغيرهم عن مجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس عن رسول اللّه. وفي الصواعق اخرجه الطبراني وابن ابي حاتم عن ابن عباس واللفظ إلا وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) اميرها وشريفها. وفي كشف الغمة من نحو هذا كثير عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس و حذيفة. ولا معنى للرواية إلا أن عليا(عَلَيهِ السَّلَامُ) رأس الذين آمنوا واميرهم وشريفهم (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) جاء في الآية التاسعة والاربعين من سورة النساء ان اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون راعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين. وفي تبيان الشيخ قال ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعني الباقر هذه الكلمة «يعني راعنا» سب بالعبرانية اليه كانوا يذهبون قال الحسين بن علي المغربي فبحثت عن ذلك أي عن السب الذي ذكره الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوجدتهم يقولون راع على وزن قال بمعنى الفساد انتهى اقول وقد تتبعت العهد القديم العبراني فوجدت ان كلمة «راع» بفتحة مشالة الى الألف وتسمى عندهم «قامص» تكون بمعنى الشراو القبيح. ومن ذلك ما في الفصل الثاني والثالث من السفر الأول من توراتهم وبمعنى الشرير واحد الأشرار. ومن ذلك ما في الفصل الأول
ص: 113
وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (103) «مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (104) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
-------------------------------------------------------------------
من السفر الخامس. وفي الرابع والسنين والثامن والسبعين من مزاميرهم. وفي ترجمة الأناجيل بالعبرانية و «نا» ضمير المتكلم وفي الميرانية تبدل الفها واواً او تمال الى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا ونحو ذلك. وراعنا في العربية فسرها في التبيان استمع منا ونسمع منك وفي القاموس استمع لمقالي وفي النهاية المراعاة الملاحظة ونهى المؤمنون عن قولهم لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) راعنا لئلا يتخذها اليهود في خطابهم لرسول اللّه وسيلة لسبه والطعن في الدين (وَاسْمَعُوا) ما يقول الرسول (وَلِلْكَافِرِينَ) الذين يسبون رسول اللّه او الذين لا يسمعون قوله (عَذَابٌ أَلِيمٌ 103 مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا) من (الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ) من زائدة لوقوعها في حيز النفي وفائدتها بيان الاستغراق وتأكيده (مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ) ورسالته (مَنْ يَشَاءُ) على مقتضى المصلحة والأهلية فإنه اعلم حيث يجعل رسالته (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لا يمنع فضله عمن هو اهل من أي قوم كان (104 مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قد سمى القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة بالآية والآيات ومدح من يتلوها ففي سورة آل عمران بعد ذم اهل الكتاب «109 لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ» وفي سورة مريم بعد ذكر النبيين والصالحين من السلف (59 إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ الآية» وفي سورة الزمر (71 أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ) والنسخ والتبديل نظيران والظاهر ان المراد تبديلها لا تبديل حكمها بالنسخ الاصطلاحي فإن في الثاني تجوز لا قرينة عليه بل قد يمنع منه السياق والضماير (أَوْ نُنْسِهَا) بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين وحذف الياء حرف العلة للجزم بالعطف على ننسخ وهو من النسيان وأنسى بالألف اللينة حرف العلة ينسى بالياء في آخرها لا من النسى وانسأ ينأ بالهمزة في الأواخر ولو كان من ذلك لكان جزمه بسكون الهمزة أو الياء إذا ابدلت ياء إذ لا يجوز حذفها لأنها ليست بحرف علة وان مناسبة السياق في الآية التي قبلها لتشير الى ان المضمون هو انه وان كبر على اهل
ص: 114
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (105) أَلَمْ
-------------------------------------------------------------------
الكتاب نسخ كتب الأنبياء وآياتها بالقرآن وآياته في مقام التلاوة والذكر والصلاة والشريعة والهداية وغير ذلك فضلا عن ان تلك الكتب وآياتها قد حرفت وبدلت حتى صارت حقيقتها نسيا منسيا فإن القرآن منزل من اللّه بحسب المصلحة التي اقتضت انزاله وانه ما تنسخ من آية او نفسها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) في الأثر. (أَوْ مِثْلِهَا) ونسب الإناء إلى اللّه مجازا كما نسب الاضلال باعتبار تمرد المنتسبين الى كتابها حتى خرجوا عن أهلية اللطف والتوفيق فوكاهم اللّه الى انفسهم الأمارة فحرفوها وبدلوها الى ان صارت نسيا منسيا. ولا مصداق لهذه الآية في آيات القرآن بعضها مع بعض، اما نسخ نفس الآية القرآنية بمعنى نسخ تلاوتها فلا تكاد أن تعرف له مصلحة تقتضيه فضلا عما يختلج من وجوه المفسدة مضافا إلى انه لا دليل على وقوعه ولئن روي في ذلك شيء فقد مر في الأمر الثاني والثالث من الفصل الثاني من المقدمة ما يبطله ويكذبه وقد حكي عن مقالات الشيخ المفيد ان عدم هذا النسخ مذهب الشيعة وجماعة من اهل الحديث وغيرهم، واما ما حكي عن العلامة في نهاية الأصول. والكركي في طهارة جامعه والطبرسي. في اقسام النسخ من القول بوقوعه. فقد استندواله بما يزعم من آية الرجم وقد اشرنا الى ما فيها مضافا الى ما ذكر. والظاهر ان نسخه بهذا المعنى مناف لقوله تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» واما انساؤها ونسيانها فهو مناف لآية الحفظ المذكورة ولقوله تعالي «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى» ولا تشبث بقوله تعالى «إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ» فإن حمل الكلام على الاستثناء بالمشيئة لا يبقي وجها للامتنان والوعد بقوله تعالى «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى» بل ان المقصود منه الاستدراك لبيان ان عدم النسيان إنما هو بقدرة اللّه ومشيئته لالأمر طبيعي لازم بل او اقتضت المصلحة وشاء اللّه ان يتركه وبشريته لنسي كما في قوله تعالى في سورة هود 110 واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ» وقد اطلنا الكلام في المقام لأنه لم يعط حقه (أَلَمْ تَعْلَمْ) خطاب وتوبيخ للانسان بدليل ما يأتي (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ينزل الخير ويرسل الرسل ويرحم ويلطف بهم ويأت بخير ممانسخ ولا يخص بلطفه قوما دون قوم وهم اهل له (105 أَلَمْ تَعْلَمْ) ايها الانسان (أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وكل الناس عباده يفعل ما يشاء وما يقتضيه لطفه ورحمته
ص: 115
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (106) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (107) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (108) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (109) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
-------------------------------------------------------------------
بمن هو اهل ولا يفوته احد ممن تمرد عليه وعصاه (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ 106 أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ) الذي ارسل اليكم كافة (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) من طلبهم رؤية اللّه وغير ذلك من اقتراحات العباد (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)، يقال ضل الطريق وضل عنه (107 وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا) قد تقدم الكلام في «لو» بعد «ود» في الآية الرابعة و التسمين (حَسَدًا) لكم (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الأمارة الزائفة التي اختاروا غوايتها على هدى عقولهم (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) عن فلتات حسدهم ومحاولتهم لا ضلالكم (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) من الأمر بعقابهم من الطرد والجلاء او القتل حينما يتظاهرون بالغدر والعداوة لكم وللدين فتقوم عليهم الحجة ويمكنكم اللّه منهم (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 108 وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) محدوده-ا ومواقيتها (وَآتُوا الزَّكَاةَ) فإن ذلك خير يعود لأنفسكم (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) في دار العمل والتكليف لدار الجزاء والنعيم (مِنْ خَيْرٍ) بالأعمال الصالحة (تَجِدُوهُ) أي تجدوا جزاءه وثوابه (ِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وإن اسررتم به (109 وَقَالُوا) أي اهل الكتاب المذكورون فيما قبل (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا) أي يهوديا قالت اليهود ذلك وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا واوجز الكلام بأحسن إيجاز بقوله تعالى (أَوْ نَصَارَى) و مغزى كلام كل منهم ان المسلمين لا يدخلون الجنة (تِلْكَ) أي دعوى كل فريق
ص: 116
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (110) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (111) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ
-------------------------------------------------------------------
منهم انهم يدخلون الجنة (أَمَانِيُّهُمْ) الكاذبة التي يعللون بها أنفسهم انهم يدخلون الجنة (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) وحجتكم على هذه الدعاوي وتلك الأماني (إ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيها فإن الصادق لا بد له من حجة وبرهان (110 بَلَى) رد وابطال للنفي الذي قالوه على نحو قوله تعالى في سورة التغابن «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) (مَنْ أَسْلَمَ) نحو اسلم أمره الى اللّه أي وكاله وخلاه ولم يتداخل فيه بمعارضة المشيئة فالمراد هنا كما في سورة آل عمران 18 والنساء 124 ولقمان 21 أي وكل وخلا (وَجْهَهُ) الوجه معروف والمراد الكناية عن اقباله وتوجهه في سبيل المعرفة والعبادة والطاعة وطلب التوفيق والهدى واسلمه (للّه) ولم يتداخل فيه بزيع الاهواء ونزغات الضلال ونزعات النفس الأمارة. والى هذا تنحو اقوالهم في التفسير. اخلص نفسه اللّه. او وجه وجهه لطاعة اللّه. او فوَّض امره لطاعة اللّه (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) افرد الضماير باعتبار لفظ «من» (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من عقاب اللّه (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) من اجل استحقاقهم للعقاب. قال في الدر المنثور في نزول الآية الآتية اخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وذكر قصة ذكرت في التبيان ومجمع البيان بقولها قال ابن عباس وأوردها الواحدي كالمعلومات بلا رواية وفي القصة ان واحدا من نصاری نجران قال لليهود ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. ويوهن القصة انه ليس في النصارى من يجحد نبوة موسى ويكفر بالتوراة بحيث ينسب اللّه كلامه الى النصارى بقوله وقالت النصارى «وما آفة الأخبار إلا رواتها» (111 وقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) لأنهم ليسوا على نحلتهم (وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) لأنهم ليسوا على نحلتهم وكل من الفريقين يوجه قوله المذكور الى كل من لم يكن على نحلته حتى الى المسلمين يقولون قولهم هذا (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) أي نوعه وهي الكتب التي بأيديهم وينسبونها الى الوحي والنبوَّة مع ان في تلك الكتب كلمات حق وبقية من الوحي الحقيقي بحيث يدينون
ص: 117
كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (112) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (113) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
-------------------------------------------------------------------
به وفي تلك الكلمات التي يتلونها ما حاصله ان الجنة والنجاة ودين الحق مقرونة بتوحيد اللّه حق التوحيد وعبادته وطاعته والتصديق بأنبيائه وكتبه وآياته وان في اليهود قبل زمان عيسى وفي النصارى من خواص المسيح واتباعه من كان على الصراط المستقيم من ذلك فكيف يقول كل فريق قوله المذكور وهم يتلون كتبهم ويعلمون ما هو الأساس في دين الحق و (كَذَلِكَ قَالَ) المشركون (الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ما هو الأساس في دين الحق (مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ويحكم لمن كان على حقيقة الدين الصحيح (112 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) المسجد هو الذي تعتاد فيه عبادة اللّه والسجود له وإن كان من المشاهد التي لا تسمى في اصطلاح الفقهاء مسجدا (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ويعبد فيها بالصلاة وتلاوة كتابه (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) وفي التبيان قبل المراد به مشركو العرب من قريش لأنهم صدوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن المسجد الحرام وهو المروي عن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قلت وفي الدر المنثور اخرج ابن اسحاق وابن ابي حاتم عن ابن عباس ما هو من هذا النحو وعليه فمعنى خرابه أن يبقى للعبادة الباطلة كالمكاء والتصدية والسجود للأصنام وطواف العراة من الرجال والنساء. والظاهر ان ما روي بيان لمورد النزول الذي لا يجعل العام خاصا وفي المقام تفاسير عجيبة غريبة منها ما ذكره الواحدي عن قتادة وذكره غيره عن الحسن ايضا وهو ان بختنصر خرّب بيت المقدس وأعانته على ذلك النصارى. وليت شعري اين بختنصر من النصار وهو قبل المسيح بنحو ستمائة سنة وقريب منه في الغرابة ما ذكره الواحدي. وروي عن كعب الأحبار (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا) أي مساجد اللّه (إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 113 وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) على سبيل المثال أي له جميع الجهات وكلها في سلطانه بدليل قوله تعالى فيما يأتي «لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» في تحويل القبلة من بيت
ص: 118
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
المقدس وجهة الشمال الغربي الى الكعبة وجهة الجنوب أي واللّه كل الجهات ليس لجهة من الجهات دون الأخرى خصوصية ذاتية طبيعية تربطها بالتوجه الى عبادة اللّه ودعائه (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) وحاشا للّه أن تختص به جهة او مكان. وفي صحيحة الفقيه عن اسحاق بن عمار عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونزلت هذه الآية في المتحير اي في صلاة الفريضة واللّه المشرق والمغرب فأينما الآية. وروى انه احتج الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالآية لصحة سجود التلاوة لغير القبلة كما في رواية الصدوق في العلل عن الحلبي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ولعدم القضاء لصلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة كما في رواية التهذيب عن محمد بن الحصين الجعفي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وروى الجمهور في صحة الصلاة في هذه الصورة انه اخبر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بها او سئل عنها فنزلت الآية. ذكر في الدر المنثور اسماء عشرة اخرجوا هذا عن عامر بن ربيعة. واسماء ثلاثة اخرجوه عن جابر الانصاري. ورواها الواحدي في اسباب النزول باسناده عن عامر وجابر. وفي الدر المنثور ان ابن مردويه اخرج نحوه بسند ضعيف عن ابن عباس. وفي رواية الصدوق المتقدمة ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) احتج بالآية لصحة صلاة النافلة على الدابة أينما توجهت. وفي الدر المنثور ذكر اسماء عشرة منهم مسلم والترمذي والنسائي اخرجوا ذلك عن ابن عمر. واسماء اربعة منهم الحا و صحيحه عن ابن عمر ايضا. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال لما نزلت «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» قالوا الى اين فأنزلت «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ». هذا وان النظر الى مجموع هذا المروي ودلالة الآية وحجتها يرشد بأن رواية نزولها في مورد خاص إنما هو باعتبار انطباقها عليه وارادته في عموم تنزيلها. كما ان المروبي ولسان الآية وسوقها تشهد بأن مفادها قاعدة عامة مبينة بالحجة التي يشهد بها العقل ايضا إلا ان اللّه خص بعض الأماكن تكريما لها بأن يستقبلها من يصلى الفريضة وقسما من النافلة ويوجه اليها الميت والذبيحة حسبما يدل عليه الكتاب والسنة وما عدا ذلك يبقى لحكم العموم في هذه الآية المحكمة وحجتها. ؤكد عمومها ويحكمه قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) في الرحمة واللطف (عَلِيمٌ) بمن يتوجه الى حضرته بالطاعة. ومن العجيب قول الواحدي ومذهب ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله تعالى «وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ». أفلا يعلم كل مسلم ان آية أينما تولوا إن
ص: 119
(114) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (115) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (116) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ
-------------------------------------------------------------------
كان نزولها قبل تحويل القبلة الى الكمية فهي مخصصة من اول نزولها بالتوجه في الفريضة الى جهة خاصة وكانت إذ ذاك جهة بيت المقدس لأن صلاة الرسول اليها كان من اول وروده الى المدينة : وما عشت أراك الدهر عجبا : فقد نشأ في بدع قوم في عصورنا يمنعون ويضربون من يتوجه في مسجد الرسول الأكرم عند دعائه واستشفاعه بالرسول الى جهة قبره الشريف في ناحية المشرق كأنَّ اللّه لم ينزل الآية المتقدمة ولم يعرفوا من العادة ان المستشفع يقدم شفيعه بين يديه. ويحكم اللّه وهو خير الحاكمين (114 وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) والقائل بذلك النصارى بل وغيرهم ممن اخذوا عنه كاليونان وغيرهم والبراهمة والبوذيين إذ جعلوا زعماء ديانتهم آلهة مولودين من اللّه (سُبْحَانَهُ) تنزيها وتعظيما له عن ذلك (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والكل سواء في انهم مخلوقون اللّه واللّه وملكه (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ذكروا من معاني القنوت الخشوع والطاعة أب خاشعون او مطيعون بالانقياد الخالقية وقدرته واكلميته فأين الولدية والإلهية من المخلوق وجاء قاتتون بالجمع المذكر السالم تغليبا (115 بَدِيعُ) مبالغة في مبدع أي منشى ومخترع (السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا باحتذاء مثال قبلها (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا) أي خلق وصنع كقوله تعالى في سورة فصلت «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ» وقول ابي ذويب
وعليها مسرودتان قضاهما***داود او صنع السوابغ تبع»
والأمر الشيء او الحادث (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ) أي لا يحتاج الى تمهيد مقدمات ومعدات يحتاج اليها وجوده ويمتنع بدونها. بل الأشياء طوع ارادته يريد فيكون وقوله تعالى «يقول له كن إنما هو كناية عن ارادته بما يظهر به الناس ارادتهم وهو أمرهم (فَيَكُونُ) تفريع على يقول وليس جزاء لقوله تعالى «كن» لأن الكون بعد الفاء هو نفس الكون المأمور به لا أجزاؤه المترتب عليه وتوهم انه جزاء لذات الطلب او للكون مع الطلب مدفوع بأنه لو صح لوجب أن ينصب قوله تعالى فيكون (116 وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) بمواقع حكمة اللّه وحجته ودلالة آياته (لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ) لولا هنا بمعنى هلا للعرض والطلب والمراد تكليمه لهم بخصوصهم
ص: 120
أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (117) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (118) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ
-------------------------------------------------------------------
(أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) خاصة بهم بحسب اقتراحهم عنواً واستكباراً كما حكاه اللّه عنهم في سورة الاسراء المكية من قوله تعالى (92 - 96 وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله تعالى (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) في الاقتراح الفاسد مع انهم شاهدوا ما تقتضيه الحكمة من الآيات والدلائل حيث قال اليهود «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» وذلك بعد ما رأوا الدلائل على رسالة موسى كاية العصا وشق البحر (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الضلال والكفر بالآيات البينات. ولو جرت الآيات على حسب اقتراح المقترحين من المنهمكين بالضلال والمماراة لخرجت عن كونها آيات بل صارت بذلك اموراً عادية لا نقوم بها حجة فضلاً عن ان كثيراً منهم يطلب المستحيل عقلا كقول بني اسرائيل «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» وهل الآيات إلا ما تقتضيه الحكمة بحسب حال المدعوين إلى الإيمان مما يفيد اليقين ونقوم بالحجة وقد جاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)» بذلك على أحسن وجه (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بما يوجب اليقين بدلالته الكافية ولا يمارون فيها بعناد الضلال وتحكم الاهواء فقد نزل القرآن معجزاً على ما تقتضيه الحكمة من وجوه عديدة فاستنار بيقينه الموقنون وقطع المعاذير على الجاحدين والمرتابين إذ تحداهم بالاتيان بعشر سور او سورة من مثله. قلت وقد اشير إلى شيء من ذلك في الفصل الأول من المقدمة ولا تأس يا رسول اللّه من قول هؤلاء (117 إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا) للمؤمنين بما اعد لهم من النعيم (وَنَذِيرًا) بما اعد للكافرين والمعاندين من العذاب والهوان (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) الذين استحقوها بسوء اختيارهم (118 وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ) حتى تتبع ملتهم و حذف ذلك لدلالة قوله تعالى (وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ) اني اتبع الهدى واين منه اهواؤكم وتقليد كم فيها و (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بدين الحق وضلال هؤلاء فيما هم عليه اذن (مَا لَكَ) ولا لكل احد قامت
ص: 121
الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (119) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (120) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (121) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (122) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
-------------------------------------------------------------------
عليه الحجة من عقله وتبليغك (مِنَ اللَّهِ) متعلق بالمطلوب من الولي والنصير و هو الانقاذ و التخليص (مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) من زائدة وولي مبتدأ. ومالك خبره (119 الَّذِينَ) مبتدأ (آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) القرآن (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ) الجملة حال «لآتيناهم» لا خبر فإن ما كل من اوتي القرآن تلاه حق تلاوته. وفي مجمع البيان وعن العياشي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار يسأل في الأولى ويستعيذ من الأخرى. وهذا ملازم في المعنى لما عن الديلمي عن ابي عبد اللّه ايضا قال يرتلون آياته ويتفقهون به ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره ويتهون بنواهيه ما هو واللّه حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره و درس اعشاره و اخماسه حفظوا حروفه واضاعوا احكامه وإنما هو تدبر آياته والعمل بأحكامه قال تعالى «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ» (أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) جملة «أُولَئِكَ» خبر للذين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وذلك هو الخسران المبين (120 يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ 121 وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) قد مر الكلام في الآينين بعد الاية الثالثة والاربعين وقد كررت الاينان ها هنا تسجيلا لمعناهما على اليهود (122 وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ) سياف الآيات الثلاث التي بعد هذه الآية وعطفهن عليها يقتضي ان تكون كلمة «اذ» مفعولاً «لأذكر» القولية المقدرة فتكون الآية وارتباط كلماتها ومعانيها مستلزم ان يكون قوله تعالى «إِنِّي جَاعِلُكَ» إلى آخره تفسيراً للكلمات والفاعل في المهن هو اللّه. ويشهد لذلك رواية ابن بابويه في كتاب النبوَّة عن المفضل ابن عمر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعليه جرى ما حكاه
ص: 122
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
-------------------------------------------------------------------
في مجمع البيان عن قتاده وابي القاسم البلخي واختيار الحسين بن علي المغربي. وفي ال--در المنثور اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال الكلمات اني جاعلك اماما والآيات التي بعدها واخرج ابن جرير وابن ابي شيبة عن مجاهد نحوه. وإن كانت كلمة «إذ» ظرفا معمولا (لقال اني جاعلك) كانت الكلمات شيئا آخر فيظن ان يكون الفاعل في المهن هو ابراهيم. وفي تفسير القمي قال هو ما ابتلاه اللّه بما أراه في نومه من ذبح ولده فأتمها ابراهيم الخ. ولم يعلم ان القائل هو القمي أو الإمام. وروى في الدر المنثور عن ابن عباس في هذا النحو خمس روايات متدافعة نحو ما ذكره في مجمع البيان وعلى ما ذكرناه اولا يكون المعنى ابتلى ابراهيم بكلمات امامته وامامة الأئمة وتحمل أعبائها واداء شكرها (لِلنَّاسِ إِمَامًا) ومرجعاً و مقصد او زعيماً في امور الدين والدنيا. وقد استفاض الحديث عن الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) ان امامة ابراهيم كانت بعد نبوته ورسالته كما في الكافي عن جابر عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن زيد الشحام وعن هشام و درست عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي العيون عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويدل على ذلك ايضا ان نبوة ابراهيم كانت قبل ان يولد له ولد وقبل شيخوخته ومقتضى الآية ان قول اللّه له يجعله اماماً كان بعد ان صار له اولاد یرجو ان يكون له منهم ذرية وأما قبل ذلك فلم يكن له رجاء فإن القرآن في سورة الحجر يخبر انه لما بشر باسحق قال أبشرتموني على ان مسني الكبر قفيم تبشرون. ولا يكون جاعل هنا بمعنى جعلت في الماضي لأنه عامل بالمفعول وهو اماما وقوله تعالى «لِلنَّاسِ» متعلق «بجاعل» وفيه اشارة إلى الامتنان على الناس وان الإمامة لطف من اللّه ومن اكبر المصالح لأمورهم ويجوز ان يكون متعلقا بقوله «اماماً» وقدم للاهتمام بعموم الإمامة للناس وارتباطها بمصالحهم العامة والخاصة (قال) ابراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) الظاهر ان هذا عطف على «جاعل» في جاعلك اي وجاعل من ذريتي ويكون بمنزلة الاستفهام التقريري لمزيد الاستبشار والابتهاج ونحو من الشكر إذا علم من الكلمات والأسماء ان الأئمة من ذريته. او للاستفهام ان لم يعرف انهم من ذريته. وقيل ان المعنى واجعل من ذريتي. وفيه تكلف في التقدير الزائد على دلالة السوق خصوصا مع النظر إلى رواية الفضل الدالة على معلومية اسماء الأئمة في ضمن الكلمات فإنه يبعد من مقام ابراهيم ان يطلب الزيادة على
ص: 123
قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (123) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
-------------------------------------------------------------------
ما اخبره اللّه بتقديره (قال) اللّه جل اسمه في بيان ما لهذه الإمامة من الفضل (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) بياناً لشرف الإمامة في فضليتها العظمى وفضل الإمام فإن الإمامة يجعلي وعهدي في الدلالة على الإمام بحسب أهليته لهذه الكرامة في كماله وقيامه بمصلحة الناس على ما يقتضيه اللطف في صلاحهم واهليته لانقيادهم اليه وهذا العهد الكريم من نحو الوصية والدلالة على التعيين ونظير ذلك قولهم ولي العهد. والظالم يعم من ظلم نفسه بمخالفته للحق وكيف يليق من لا رادع له من كماله عن الظلم لنفسه او لغيره لأن يعهد اللّه اليه بإمامة الناس و اصلاح امورهم وارشادهم «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى» وفي رواية البرهان عن الكافي والمفيد عن هشام بن سالم و درست عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير الآية من عبد صنا أو وثنا أو مثالاً لا يكون اماما. وعن امالي الشيخ مسنداً وابن المغازلي في المناقب مرفوعاً عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في الآية عن قول اللّه لا براهيم من سجد لصنم دوني لا اجعله اماماً. وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فانتهت الدعوة إلى وإلى أخي علي لم يسجد أحدنا لصنم قط. وعن الكافي مسنداً والشيخ المفيد مرفوعاً عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يكون السفيه امام التقي. فيكون ذكر عبادة الصنم من باب النص على احد المصاديق من موانع الإمامة وهي ما تنافي العصمة التي يدل المقل على اعتبارها في هذه الإمامة. ومن شواهد ذلك ورشحاته ان الفطرة وحكم العقل بعثت جميع الحكومات المتمدنة على ان تجعل من قوانينها الأساسية ان من حكم عليه بجريمة توجب العقوبة ولو بسجن مدة قليلة يكون ساقطا باصطلاحهم من الحقوق المدنية اي لا تكون له وظيفة في الحكومة يتسلط فيها على غيره ولا تنفعه في ذلك توبة. أليس اللّه بأحكم الحاكمين (123 وإذ) عطف على اذ ابتلى في الآية السابقة (جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الحرام وهو الكمبة (مَثَابَةً لِلنَّاسِ) مرجعاً لهم والتاء للمبالغة لأن مرجعيته للناس جعلت دائمة فإنك ترى من يتحمل المشاق في زيارته يشتاق إلى الرجوع اليه مرة بعد أخر وهذا سر غريب وآية من آيات اللّه (وَأَمْنًا) بأمن من حل في حماه من الناس مع وحشية الاعراب و تعاديهم وعداوتهم. وهذا ايضاً من آيات البيت ويأتي له انشاء اللّه مزيد بيان في تفسير الآية الثانية والتسمين من سورة آل عمران (وَاتَّخِذُوا) عطف على اذكر (مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
ص: 124
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
-------------------------------------------------------------------
مصلى مقام ابراهيم يسمى به الآن محل يصلى فيه باعتبار ان فيه الصخرة التي قام عليها ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فصار فيها اثر قدميه. وقال فيه ابو طالب
وموطى ابراهيم في الصخر وطأة***على قدميه حافيا غير ناتل
وفي الكافي في الحسن كالصحيح عن ابي عبد اللّه مقام ابراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه. وفي مجمع البيان عن ابن عباس قصة فيها ان المقام صخرة وضعتها زوجة اسماعيل تحت رجلي ابراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه. وفيه ايضا ان علي بن ابراهيم روى مسنداً عن ابان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذه القصة بعينها. وفي الدر المنثوران الازرقي اخرج عن المطلب بن ابي وداعه. وآخر ان سيل ام نهثل في ايام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطلب ان عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. وفيه اخرج البيهقي في سننه عن عائشة ان المقام كان في زمن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وزمان ابي بكر ملتصقا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب. وفي الكافي والفقيه في الموثق كالصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان موضع المقام الذي وضعه ابراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مكة رده إلى الموضع الذي وضعه ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ان ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام فقال بعض انا قد كنت اخذت مقداره بنسع فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان. وذكر نحوه في المسالك عن سليمان بن خالد عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر ان المقام هو العمود من الصخر الذي كان ابراهيم يقف عليه حين بنائه للبيت. وكان في زمن أبراهيم ملاصقاً للبيت بحذاء الموضع الذي هو فيه اليوم. وفي تفسير القمي في سورة الحج ان المقام كان في زمن ابراهيم يلصق بالبيت وعليه نادى ابراهيم بالحج. وفي مضمرة ابن مسلم وصحيحة ابراهيم بن ابي محمود عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) المرويتين في الكافي ما يدل على ان محل المقام على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) غير محله في ايام الأئمة إلى الآن. اقول والظاهر ان المراد من مقام ابراهيم في الآية هو جهة موقفه ومحل قيامه لا خصوص موطئه في قيامه او نفس الصخرة فإنه لا يمكن ان يتخذ منه مصلى. وقد روي في الوسائل عن ائمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ) اكثر من
ص: 125
وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
-------------------------------------------------------------------
اثني عشر حديثا في ان صلاة الطواف خلف المقام بحسب موضعه في زمانهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) والآن خمس منها استشهد فيها بقوله تعالى «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى» وست نصت على الخلف. وعلى ذلك يحمل ما كان لفظه عند المقام والتعبير بعند فيه أيضا تقييد لاطلاق الخلف وكذا ما كان لفظه ارجع إلى المقام اوانت المقام. وهذا مما يشهد لارادة الجهة ومقدار سعتها. ولعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن الاستدبار أولأجل الستر على الشيعة والحصر في رواية زرارة بالمقام المعروف ظاهر في انه بالاضافة إلى الصلاة الطواف المتطوع في انها حيث شاء المتطوع من المسجد ويمكن ان تنزل على ذلك مرسلة صفوان كما يمكن ان تنزل صحيحة ابراهيم بن ابي محمود وسائر الروايات على السير على الشيعة فتجوز الصلاة ما بين موضعى المقام اولا وثانيا. ولكن الاحتمال لاحترام ذات المقام يرجح ظاهر الروايات ويمنع عن اليقين بالفراغ الا بالصلاة خلفه (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) اي الطائفين به لعبادة اللّه. والعكوف اللبث حوله للعبادة ولو بذات اللبث بقنائه. والركع جمع راكع. والسجود جمع ساجد والمراد المصلين حوله. وعن الصدوق في العلل والشيخ في التهذيب بسندين صحيحين عن عمران وعبد الأخوين الحلبيين سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيغتسلن النساء إذا اتين البيت قال نعم ان اللّه عز وجل يقول ان طهرا بيتي للطائفين والماكفين والركم السجود فينبغي للعبد ان لا يدخل إلا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهر والمراد من اتيان البيت التوجه اليه للطواف ونحوه. وعن الكليني بسند معتبر عن محمد الحلبي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه باسقاط السؤال وفيه فينبغي للعبد ان لا يدخل مكة إلا وهو طاهر «الرواية» وهذا يفسر متعلق الدخول في روايتي اخويه. ومن المعلوم ان طواف الناس وعكوفهم وركوعهم وسجودهم العاديين انما هي خارج البيت وحوله. وهكذا يدل على أن المراد تطهير فناء البيت من حيث حرمة البيت المضاف إلى اللّه والذي جعله يطاف حوله ويعكف ويركم ويسجد ويكون بالاعتبار الثانوي المرضي مراعاة لحال الناسكين حوله و به جرى التعليل بالآية الكريمة لأنه يدل على الاعتبار الاولي الذاتي دلالة واضحة. والمراد من التطهير هو ما يقتضيه اطلاقه بمعناه اللغوي وهو التنزيه
ص: 126
(124) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (125) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (126) رَبَّنا وَاجْعَلْنَا
-------------------------------------------------------------------
عن كل ما ينافي حرمة البيت من القذارات الصورية والمعنوية عرفية كانت او بكشف الشارع كما يشهد لها رواية الحلبيين والأمر في طهرا بمنزلة الخبر لبيان الوظيفة والغرض كقوله اغتسل للجنابة والجمعة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى «وعهدنا» فلا يمتنع شموله للواجب والندب ويسري التكاليف المفهوم منه إلى غير ابراهيم واسماعيل (124 وَ) اذكر (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا) أي فناء البيت وحرمه الذي هو مكة (بَلَدًا آمِنًا) اي بأمن اهله ومن فيه من اذى الناس (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) سكانه (مِنَ الثَّمَرَاتِ) لا كل سكانه بل (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ) ولم يقل بك محافظة على تخصيص الإيمان باللّه بالنص على اسمه العظيم (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال اللّه جلت آلاؤه ما حاصله اني استجبت دعا، ك ولا اخص رزقي في هذه الدنيا الفانية بالمؤمنين بل أرزق فيها المؤمن والكافر (وَمَنْ كَفَرَ) واصر على كفره (فَأُمَتِّعُهُ) في الدنيا (قَلِيلًا) اي مدة حياته القصيرة بالنسبة إلى ما وراءه وامهله وأقيم عليه الحجة واملي له (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) اي آخذه قهرا بالموت والحشر (إِلَى عَذَابِ النَّارِ) التي أعدت المكافرين (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيره (125 و) اذكر (إِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ) قاعدة البيت اساسه ورفع القواعد هنا هو البناء عليها وجعله مرتفعا (مِنَ الْبَيْتِ) أي الكعبة (وَإِسْمَاعِيلُ) حال كونها متقربين قائلين (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) طاعتنا (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) للدعاء (الْعَلِيمُ) بنياتنا في طاعتك (126 رَبَّنا وَاجْعَلْنَا) بتوفيقك (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) الظاهر أن الإسلام في الاصل هو الدخول في السلم بكسر السين وسكون اللام مثل الانجاد والاتهام والاقحال والسلم هو عدم المحاربة والمحادة. وبالنسبة اللّه يتحقق بالاذعان بإلهيته وتوحيده ورسالة رسله وكتبه. وقد اختص في الاستعمال بهذا المعنى فصار هو الظاهر من لفظ اسلام وأسلم واسلم ومسلم. وبعد رسالة خاتم النبيين محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) صار المتداول في الاستعمال هو ما ذكرناه مع الاذعان برسالته وأن قرآنه وشريعته من اللّه والإسلام الحقيقي هو الارذعان في النفس المساوق للإيمان وهو المراد هنا أي اجعلنا مسلمين لك مدة عمرنا بمعنى
ص: 127
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (127) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (128) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ
-------------------------------------------------------------------
ثبتنا بهدايتك وتوفيقك على الإسلام كما هديتنا له (و) اجعل بتوفيقك ولطفك (مِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) لم يسألا ذلك لكل ذريتها لما سبق من قول اللّه لا براهيم «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» لما قال ابراهيم ومن ذريتي اولما يعرفانه من حال البشر في اختيارهم للايمان وان الكثير منهم من يستحب العمى على الهدى. فطلبا أن تكون من ذريتهما أمة مسلمة لا خصوص الإمام (وَأَرِنَا) يحتمل أن يراد بالضمير ما يعم الأمة المسلمة من ذريتها (مَنَاسِكَنَا) النسك العبادة والناسك هو العابد. والنسك هو الموضع المعد للعبادة الخاصة. فتكون الرؤية المطلوبة على حقيقتها (وَتُبْ عَلَيْنَا) طلب التوبة باعتبار دخول الامة المسلمة في الدعاء. ويحتمل أن يختص الضمير بابراهيم واسماعيل فيراد من التوبة عليها الرجوع والعود عليهم بالرحمة واللطف فإن المعنى الاصلي للتوبة هو الرجوع والعود. ويحتمل أن يريد بالتوبة نحواً من معناها المعروف تصاغر اللّه واستصغاراً لأعمالهما في جنب جلال اللّه كما هو شعار الأولياء المخلصين (إن إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 127 رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ) اي الأمة من ذريتهما (رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) بارشاده وجهاده في الدعوة (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) في تنفيذ ارادتك ونصر رسولك في تبليغه واجراء احكامك وتعليمه وتزكيته لعبادك (الْحَكِيمُ) فيما تفعل. ومصداق هذا الدعاء هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) برسالته العامة فهو رسول اللّه في ذرية ابراهيم واسماعيل وبهم ابتدأت دعوته وهو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ايضا من ذريتهما. وفي تفسير القمي قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انا دعوة ابي ابراهيم. وفي البيان روى انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال ذلك. ورواه في الدر المنثور عن جماعة (128 وَمَن) استفهام يرجع الى الانكار والنفي (يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) في التوحيد والمعرفة والاخلاق الفاضلة والحنيفية (إِلَّا مَنْ) الذي (سَفِهَ نَفْسَهُ) السفه والسفاهة والسفيه معروفة. وسفه با لضم من افعال السجايا لا يتعدى. وسفه بالكسر متعد والمعنى إلا من اضر نفسه بسفاهته ونحو ذلك فإن ملة ابراهيم جارية في معارفها واخلاقها على النهج الفطري الواضح المعقول فلا يرغب
ص: 128
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (129) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (130) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (131) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (132) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
-------------------------------------------------------------------
عنه إلا السفيه (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ) أي ابراهيم واخترناه رسولاً وإماماً وهادياً (فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي معدود من الذين كانوا في الدنيا صالحين هادين (129 إِذْ قَالَ) ظرف لاصطفيناه (لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) وهذا القول لمثل ابراهيم يكون قبل زمان البلوغ وقد ذكرنا معنى الإسلام قريبا (قَالَ أَسْلَمْتُ) واشار الى معرفته وان اسلامه عن حجة وبصيرة بقوله (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 130 وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ) أي وصاهم بالملة الحنيفية ملة ابراهيم (وَيَعْقُوبُ) أي ووصى بها يعقوب بنيه وقال كل منها البنيه في مقام التوصية والتحريض على اتباع الملة حتى المات وان لا تلعب بهم الاهواء فيغتنم ابليس منهم الفرصة عند الموت فيردهم عن الحنيفية والإسلام (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) المعهود دين الحنيفية والإسلام واختاره لكم صافيا مصفى فالزموه واثبتوا على اتباعه حق الاتباع (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) على الدين الحنيف (131 أَمْ كُنْتُمْ) اضراب وانكار وهو يناسب أن يكون خطاباً لأهل الكتاب وانكاراً على دعوى ليس لهم بها علم ولا حضروا ولا شهدوا ما يسندون الدعوى اليه (شُهَدَاءَ) حضوراً (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وذلك لم يجر فيه ما تزعمون بل (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) قال ما تعبدون لأن معبودات اهل الضلال اكثرها مما لا يقل كالحيوان والتماثيل (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) وادرج اسماعيل في تفسير الآباء بنحو م----ن التغليب عليه ولأنه عم ليعقوب والعم كالأب (إِلَهًا وَاحِدًا) لا شريك له (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 132 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ومضت والظاهر ان المراد من الأمة بنو اسرائيل (لَهَا مَا كَسَبَتْ) من خير (وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بل كل مسئول عن تكليفه وما قامت
ص: 129
(133) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (134) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
-------------------------------------------------------------------
به الحجة عليه فانظروا لأنفسكم (133 وَقَالُوا) أي اهل الكتاب اليهود والنصار كل من الفريقين يدعو الى نحلته (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) او لتقسيم قولي الفريقين (تَهْتَدُوا قُلْ) یا محمد (بَلْ) نتبع (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) الحنيف هو الموحد التابع لدين الحق. ولا حاجة الى بيان المأخذ لاستعمال اللفظ في هذا المعنى (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ولعله تعريض باليهود والنصارى تعالى اللّه عما يشركون» وفي قوله ملة ابراهيم الى آخره احتجاج لوجوب اتباعها فإن قدرنا تتبع يكون مفاد الاحتجاج وعليكم أن تتبعوا ذلك. وان قدر اتبعوا يكون مفاد الاحتجاج كما اتبعنا نحن. يا اهل الكتاب لا تأخذنكم اهواء القومية وعصبية اليهودية او النصرانية فإن الحق أحق ان يتبع بل (134 قُولُوا) عن إيمان حقيقي واعتقاد واتباع للحجة (آمَنَّا بما أُنْزِلَ إِلَيْنَا) باعتبار النزول على أنبيائهم ورسلهم كالتوراة والانجيل والزبور (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) وهي صحف ابراهيم التي جرى عليها بنوه الى زمان موسى وبهذا الاعتبار قيل (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ) إذ لم يعهد نزول كتاب الى خصوص المذكورين. وعن الكافي باسناده عن سدير عن أبي جعفر ان اولاد يعقوب أي ما عدا يوسف لم يكونوا أنبياء ونحوه عن العياشي. والأسباط جمع سبط وهو ولد الولد. ومنه سمي الحسنان عليهما السلام بالسبطين وسميت قبائل الاسرائيليين باعتبار انتسابهم الى اولاد يعقوب اسباطا. والقبيلة الواحدة منهم سبط، وعليه استعمال القرآن الكريم. وقد سموا بذلك ايضا فيها بأيديهم من التوراة والعبرانية وكتاب يوشع وغيرهما (1) وان سموا فيها ايضا بغير ذلك (أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) من المعجزات او كرامة النبوَّة (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) من كرامة النبوَّة والوحي (مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) من أي قبيلة كان اذا دلت الدلائل على نبوته (وَنَحْنُ لَهُ) أي اللّه (مُسْلِمُونَ
ص: 130
(135) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (136) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (137) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (138) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا
-------------------------------------------------------------------
135 فَإِنْ) قالوا ذلك و (آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) ايها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) بكفرهم (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) ومعاندة لا في طلب الحق (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) يا رسول اللّه ويمنعك من كيد شقاقهم (إنه هُوَ السَّمِيعُ) لدعائك او لما يقولون (الْعَلِيمُ) بما في الضمائر (136 صِبْغَةَ اللَّهِ) منصوبة بدلاً من ملة ابراهيم. وعن الكافي مسنداً عن الصادق او احدهما عليها السلام بأسانيد ثلاثة اثنان منها من الموثق كالصحيح. وعن الصدوق في الصحيح عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن العياشي بسند آخر ان الصبغة هو الإسلام وهو ملة ابراهيم. وفي الدر المنشور اخرج ابن جرير وابن ابي حاتم عن ابن عباس قال دين اللّه. وسميت صبغة باعتبار الأثر الكريم الظاهر من التوحيد ومكارم الأخلاق وزينة الشريعة (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) بما يهدى اليه من الدين القيم. ويوفق لاتباعه (وَنَحْنُ لَهُ) وحده (عَابِدُونَ) لا نشرك في الالهية والعبادة غيره (137 قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا) وتجادلوننا (فِي اللَّهِ) زاعمين انكم الموحدون وفيكم النبوَّة. وكيف تحاجوننا بذلك مع ان اللّه لا يحابي بلطفه ورحمته الواسعة قبيلا دون قبيل. بل يراعى بها الأهلية وهو اعلم حيث يجعل رسالته ولا يمنع لطفه وتوفيقه الاعمن تمرد عليه بالشرك والعصيان. فكيف يحابيكم ويخص بكم ما تزعمون (و) الحال (هُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) وكلنا عباده ولطفه عام ورحمته واسعة لكل عباده (وَلَنَا أَعْمَالُنَا) فقد آمنا باللّه ووحدناه وعبدناه وان اللّه لا يضيع اجر من احسن عملا (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) ان عملتم خيرا من الايمان الخالص والعبادة (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) في عبادته وإكليته لا نشرك به شيئا. وفي ذلك حسن التعريض بهم تعالى اللّه عما يشركون (138 أَمْ تَقُولُونَ) يا اهل الكتاب وتزعمون (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) او للترديد بين قولي الفريقين اليهود يقولون كانوا يهوداً والنصارى يقولون كانوا نصارى (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ) مع انكم ادعيتم المحال.
ص: 131
أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (139) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (140) سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا
-------------------------------------------------------------------
اين كانت اليهودية والنصرانية في زمان هؤلاء (ام اللّه) الذي اخبر بان ابراهيم كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين. وانه اسلم لرب العالمين ووصى بها بعقوب بنيه. فقالوا نعبد اللّه إلها واحداً ونحن له مسلمون كما تقدم قريبا (ومن اظلم ممن كثم شهادة عنده من اللّه) اما بالنسبة الى علمهم بأن هؤلاء الذين ذكروهم كانوا مسلمين على الدين الحنيف او الشهادة برسالة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فلا ينحصر الأمر باليهودية ولا النصرانية لو بقيتا على التوحيد والشريعة. وقد اخبرهم اللّه في التوراة ان اللّه يقيم لهم نبيا من اخوتهم ويجعل كلامه في فيه. واخبرهم المسبح برسول يأتي من بعده اسمه احمد (وما اللّه بغافل عما تعملون) وما ينفعكم زعمكم و كذبكم على ابراهيم و اسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط مع قيام الحجة بارسال اللّه ورسله في زمانكم بالآيات الباهرات فعليكم بأنفسكم فلا تتعللوا زورا بمن مضى فان (139 تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) بل تسئلون عن اعمالكم ومعاملتكم مع رسول اللّه ودين الحق (140 سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) وهي بيت المقدس فان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) صلى اليه عند مقدمه الى المدينة مدة. وفي رواية التهذيب عن معاوية بن عمار عن ابي عبد اللّه الى ما بعد رجوعه من بدر. وعن رسالة الفضل بن شاذان كذلك وفيها وكان يصلي في المدينة الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا. وعن قرب الاسناد عن الباقر تسعة عشر شهرا. وهو الذي ذكره في الفقيه وعن الشيخ المفيد في مسار الشيعة في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة من بيت المقدس الى الكعبة. ونحو هذا ما رواه في الدر المنثور من روايات الجمهور. وفي الكافي في الحسن كالصحيح عن الحلبي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) سألته هل كان رسول اللّه يصلي الى بيت المقدس قال نعم فقلت كان يجعل الكعبة خلف ظهره قال اما اذا كان بمكة فلا واما اذ هاجر الي المدينة فنعم حتى حول الى الكعبة. وربما تشعر الرواية بانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) صلى في مكة الى بيت المقدس بدون ان
ص: 132
قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (141) كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
-------------------------------------------------------------------
يستدبر الكعبة. وعن النعماني باسناده عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كان يصلي في أول مبعثه الى بيت المقدس جميع ايام مقامه بمكة «الرواية» وفي الفقيه وصلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الى بيت المقدس بعد النبوَّة ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهرا بالمدينة وفي الدر المنشور اخرج الطبراني عن عثمان بن حنيف. وفي الحديث كان رسول اللّه قبل ان يقدم من مكة والقبلة الى بيت المقدس ويمكن الجمع بان رسول اللّه كان يجمع بين القبلتين في مكة كما يومي اليه الاشعار المتقدم في رواية الحلبي. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابي شيبة وابو داود في ناسخه والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كان يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه الحديث واللّه العالم (قل اللّه المشرف والمغرب) أي جميع الجهات فإن تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي الى نقطة الجنوب تقريبا. وليس اعتراضهم هذا إلا من السفه فهل يزعمون ان اللّه تحويه جهة خاصة او ان الذي له وفي ملكه جهة خاصة او ان لبعض الجهات استحقاق للاستقبال لازم لا يعقل التخلف عنه أفلا يعقلون ان الاستقبال أمر تعبدي من اللّه يجريه بحسب الحكمة والمصلحة (يهدي من يشاء الى صراط مستقيم) مما تقتضيه الحكمة ويوصل الى الهدى والحق (141 وكذلك) أيه وكما هديناكم الى صراط مستقيم (جعلناكم أمة وسطا) الوسط خيار الشيء لأنه محمي عن الفساد. وفي تفسير القمي وسطا أي عدلا. وهو المروي في روايات الجمهور كما في الدر المنثور (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ومن المعلوم ان الأمة كلها لا تتصف بالخيار والعدل وكونهم شهداء على الناس فإن فيهم الكثير ممن لا يخفى حاله. فهذه الصفات إنما تكون باعتبار البعض والموجه اليه الخطاب هو ذلك البعض. وقد روي في أصول الكافي عن بريد عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحن الأمة الوسط ونحن شهداء اللّه على خلقه. وفي الحسن كالصحيح عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله. وعن الصفار بهذا السند نحوه. وروي نحوه ايضا بسند آخر صحيح. وعن الحسكاني في شواهد التنزيل عن سليم الهلالي عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحن الذين قال اللّه وجعلناكم أمة وسطاً. و عن العياشي عن ابن ابي عمير الزبيري عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذه الآية افترى ان من
ص: 133
وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
-------------------------------------------------------------------
لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) ظاهر قوله تعالى في الآية التي بعد هذه «فلنولينك قبلة» انها نزات قبل تحوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الى الكعبة وظاهر السوق ان هذه الآية نزلت قبل تلك مع ان ظاهر قوله تعالى فيها كنت عليها كنت تتوجه اليها فيما مضى وصرفت عنها فتشكل هذه الظواهر. ولأجل ذلك قال بعضهم أن كان تامة بمعنى انت عليها. وقال في الكشاف ان التي كنت عليها مفعول ثاني لجعلنا والمقصود من الموصول مكة أي وما جعلنا القبلة مكة وفيه تعقيد ومخالفة للاعتبار مع ان الاشكال المذكور على حاله ويرتفع من أصله بأن قوله كنت عليها لا يختص بما بعد الانصراف عنها وانقطاع الكون. بل قيل باعتبار الكون الماضي وتوجهه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الى بيت المقدس اشهراً عديدة من دون نظر الى الانقطاع نحو وكان اللّه غفورا رحياً أي وما جعلنا بيت المقدس قبلة لك هذه المدة (إلا لنعلم) اللام للمعاقبة والحصر انما هو باعتبار العاقبة لا حكمة التشريع (من يتبع الرسول ممن) متعلق بتعلم لما في العلم بأحد الفريقين من التمييز له عن الفريق الآخر (ينقلب على عقبيه) ومثل ذلك في القرآن كثير كما في قوله تعالى وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا. ليعلم اللّه من يخافه بالغيب. وليعلم اللّه من ينصره. لنعلم أي الحزبين أحصى. إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة. ولنبلونكم حتى تعلم المجاهدين منكم والصابرين والوجه في كل هذه الموارد وامثالها واحد وهو ان علمه التابع جل شأنه وان كان أزليا أبديا لكن لمقارنته لوجود المعلوم في الخارج أثر ووقع في الزجر والتوبيخ او البشرب عند الناس. ولأجل هذا الاثر والوقع جرى مجرى التعبير بالفعل المستقبل في هذه الموارد باعتبار تلك المقارنة والعلم المقارن وعلى هذا النهج جرى التعبير في القرآن الكريم بقوله تعالى يريد اللّه كما ورد في اكثر من عشرين موردا وان كانت ارادته ازلية وايضا لوقيل ليقع ذلك لأوهم الجبر مع انه تفوت فائدة الاعلام بكون اللّه عالمابه. ولو قيل ليقع ما هو معلوم للّه بالعلم الازلي لثارت شبهة الجبر وقالوا اذن ان العبد لا يقدر على الترك اذ يلزم منه ان ينقلب علم اللّه جهلا ولم يلتفتوا كما لم يلتفتوا الى ان هذا العلم تابع لا اثر له في قدرة العبد (وان كانت
ص: 134
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (142) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
-------------------------------------------------------------------
لكبيرة الا على الذين هدى اللّه) ان هي المخففة وتلزمها اللام التي هي المأكيد. وظاهر السوق يقتضي ان الضمير في كانت يرجع الى القبلة التي كان عليها وهي بيت المقدس وهو الظاهر ايضا من معتبرة التهذيب عن ابي بصير عن احدهما عليها السلام قال قلت له امره ان يصلي الى بيت المقدس قال نعم الا ترى ان اللّه تعالى يقول «وما جعلنا القبلة» وتلا جميع الآية الى قوله رحيم» وكبيرة ثقيلة. ومن اللازم ان يكون استقبال بيت المقدس ثقيلا على قريش والعرب الا الذين هداهم اللّه الى الايمان برسول اللّه فيعلمون ان ذلك امر من اللّه الحكيم (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) في الكافي عن ابن ابي عمير الزبيري عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية ان اللّه سمى الصلاة ايمانا. وفي الفقيه قال المسلمون صلاتنا الى بيت المقدس تضيع يا رسول اللّه فانزل ذلك. وذكر انه اخرج حديثه في كتاب النبوَّة. وفي رواية العياشي انه لما حولت القبلة قالو ما حالنا اي في صلاتنا الماضية وما حال من مضى في صلاتهم الى بيت المقدس فانزل اللّه وما كان اللّه ليضبع ايمانكم. وفي الدر المنثور عن ابن عباس نحوه وصححه الحاكم (142 قد نرى تقلب وجهك في السماء) قد هنا للتكثير
قد اترك القرن مصفراً انامله***كان اثيابه محت بفرصاد
وقول عمران الانصاري. او امرؤ القيس
قد اشهد الغارة الشعواء تحملني***جرداء معروقة اللحيين سرحوب
قال القمي في تفسيره ان اليهود كانوا يعيرون رسول اللّه ويقولون انه تابع لنا يصلي الى قبلتنا فاغتم رسول اللّه وخرج في جوف الليل بنظر آفاق السماء ينتظر امر اللّه الخ. وفي مجمع البيان نسبه الى رواية القمي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع كلام ذكره القمي بعد ذلك. نعم ذكر في الفقيه نحو ما ذكره القمي واحال روايته على كتاب النبوَّة. فتدل الآية على انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كان له شأن في امر القبلة (فلنولينك قبلة ترضاها) لانها مرضية بفضلها وسابقتها وحكمة دعوة العرب وهي اول بيت وضع الناس فيه آيات بينات (فول وجهك شطر
ص: 135
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (143) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
-------------------------------------------------------------------
المسجد الحرام). أي نحوه والقبلة هي الكعبة بالضرورة كما يلهج بذلك المسلمون في تلقين موتاهم وفي تعقيباتهم وغير ذلك. وجاءت بذلك الاحاديث بنحو لا يقصر عن التواتر. ففي جامع البخاري وغيره عن ابن عمر ان النبي ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة. وفي جوامع البخاري ومسلم وابي داود والنسائي والموطأ عن البراء وانس وابن عمر في حديث تحول القبلة ان تحول المصلين كان الى الكعبة وروى الفريقان ان الارض زويت لرسول اللّه ورأى الكعبة فجعل محرابه بازاء الميزاب. ومن طريق الامامية او رد في الوسائل نحو اربعة عشر حديثا في ان الكعبة هي القبلة. واكثر هذه الاحاديث تصرح بان الكعبة هي التي صرف اليها رسول اللّه في هذه الآية. ولا مانع من ان تسمى الكعبة مسجدا باعتبار انها يسجد اليها. او يقال ان الآية نزلت في السنة الثانية من الهجرة فكان الخطاب بجعل الكعبة قبلة عامة ومتوجها الرسول اللّه ومن معه من المسلمين واهل المدينة وضواحيها فجرى التعبير بالمسجد الحرام باعتبار سعة استقبالهم للكعبة باستقبال المواجهة والاحترام والتعظيم مما يتحقق به ذلك عند الناس كما هو الظاهر من الآية. وان استقبالهم للمسجد بهذا النحو يلزمه استقبال الكعبة بهذا النحو ايضا (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) اي نحوه بالنحو المتقدم دون الاستقبال الهندسي لان تكليف النائين به حتى مثل اهل المدينة بل ما كان عن مكة بمرحلة مثلا يستلزم التكليف بما لا يطاق. ولا شك في انه كلما بعد المستقبل اتسعت وجهة استقباله للكعبة بالمواجهة الاحترامية التعظيمية وقد استقصينا الكلام في ذلك في رسالتنا في القبلة (وان الذين أوتوا الكتاب) اليهود والنصارى (ليعلمون انه) أي التحويل الى الكعبة هو (الحق من ربهم) إما لأنهم يعلمون ان أمر القبلة والاستقبال منوط بتشريع اللّه وأمره وإما لأنهم يعلمون ان الكعبة هي بيت اللّه من زمان ابراهيم. وفي مجمع البيان لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم انه يكون نبي صفاته كذا و كذا وانه بصلي الى القبلتين ونحوه في الكشاف (وما اللّه بغافل عما يعملون) من اقوالهم وافعالهم عناداً على خلاف ما يعلمون (143 ولئن أتبت الذين أوتوا الكتاب) ولم يوفقوا للإيمان بك
ص: 136
بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (144) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (145) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (146) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
-------------------------------------------------------------------
(بكل آية ما تبعوا قبلتك) أي الكمية (وما انت بنابع قبلتهم) اتباعاً خصوصا بعد ما أمرت بالتوجه شطر المسجد الحرام (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) فان النصارى تتوجه الى المشرق واليهود الى بيت المقدس (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) هذا توبيخ لهم وتبكيت بانهم اصحاب اهواء فاسدة لا يتبعها الا الظالمون. وخوطب بذلك رسول اللّه لقطع اطماعهم ولبيان فضله لانه لا يتبع اهواءهم ابدا بدليل قوله تعالى «وما انت بتابع قبلتهم» (144 الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) اے ہر فون رسول اللّه على الصفات التي وصف بها في كتبهم والاسم الذي سمي به بنحو لا ينبغي الريب فيه كما في تفسير البرهان عن محمد بن يعقوب الكليني بسند فيه رفع عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن علي بن ابراهيم في الحسن كالصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الآية التفات من الخطاب الى الغيبة (كما يعرفون ابناءهم) وان غابوا عنهم مدة طويلة (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) به من كتبهم وهذا الفريق هم من عدى الأوباش الذين لا يعلمون شيئا من كتبهم ومن عدى الذين اسلموا او شهدوا بالحق وأصروا على الغي (145 الحق من ربك) أي هو الحق من ربك (فلا تكونن من الممترين) الشاكين فيما تقوم عليه الحجة العلمية. والخطاب في النهي يراد به غير النبي كما في قوله تعالى في سورة الاسراء (24 و 25 اما يبلغن عندك الكبر - فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما - وقل - واخفض – وقل) (146 ولكل وجهة هو موليها) لم اجد عن النبي واهل البيت شيئا في ذلك. ويمكن تفسير الآية بالنظر في سورة المائدة في قوله تعالى «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» «الآية» فالمعنى واللّه العالم ولكل من الأمم الذين شرع اللّه لهم احكاما شريعة ولاه اللّه اياها وامره باتباعها مالم تنسخها الشريعة والوجهة التي بعدها فيولى اللّه الناس اياها (فاستبقوا الخيرات)
ص: 137
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (147) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
-------------------------------------------------------------------
وجاء قوله تعالى «فاستبقوا» متعديا الى المفعول بنفسه هاهنا وفي آية الانعام وفي سورة يوسف واستبقا الباب وفي سورة يس فاستبقوا الصراط ولو كانت بمعنى الاستباق وطلب السبق بكسر السين لوجب تعديتها بإلى. والنصب بنزع الخافض في مثل المقام بعيد من كرامة القرآن في عربيته وفصاحته. فالوجه انها في هذه الموارد من طلب السبق بفتح السين والباء وهو ما يحصله السابق بسبقه ومنه السبق المجعول في رهان المسابقة وفي جعل الخيرات والباب والصراط في الآيات سبقا بفتح السين والباء كناية لطيفة عن انه هو الغاية المطلوبة والفائدة المقصودة في المسابقة وحاصل المعنى واللّه العالم لكل أمة شريعة أمرت باتباعها وقد نسخ بعض الشرائع فسارعوا الى الحق واطلبوا ان تكون خيرات الأحكام وهي التي لم تنسخ وجاء بها الكتاب الذي يهدي للتي هي اقوم هذه اطلبوها سبقا لكم والغاية الشريفة من مسارعتكم وما هي إلا شريعة رسول اللّه والقرآن الكريم. ومن ذلك وأهم مصاديق الخيرات هي الولاية كما عن الكافي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في آية إنما وليكم. وحديثي الغدير. والثقلين وغير ذلك. (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وباعتبار السياق يكون المعنى ان يجمعكم يوم القيامة الحساب والجزاء من عذاب او نعيم ولا يعجز اللّه حشركم وجمعكم فإنه يأتي بكم أينما تكونوا. واما باعتبار عموم اللفظ وكثرة مصاديقه فقد روى في تفسير البرهان نحو اثنتي عشر رواية عن الأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) انهم استشهدوا بالآية لجمع اللّه اصحاب الحجة المنتظر من اطراف الأرض الى النهوض مع الحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ). وللتأكيد في امر استقبال الكعبة في الصلاة وعمومه في جميع الاحوال سفراً وحضراً قال اللّه تعالى (147 ومن حيث خرجت) سواء كان الخروج من مكة الى المدينة او من المدينة الى الشام بحيث يكون الوجه في المسير الى بيت المقدس على الانحراف اليسير او الاستقامة ام كان الى جهة مكة او المشرق او المغرب (فول وجهك في جميع هذه الاحوال وجميع الجهات (شطر المسجد الحرام) نحوه (وانه) أي التوجه الى المسجد الحرام في الصلاة على الاطلاق المنصوص عليه (للحق من) امر (ربك) وشريعته الجارية على الحكمة وكرامة البيت وان اللّه لا يضيع اجركم في امتثال امره (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ 148 وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
ص: 138
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (149) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
-------------------------------------------------------------------
الْحَرَامِ) وهذا الخطاب للرسول وان كان كافيا في عموم الشرعية والتكليف للمسلمين لكن الحكمة تقتضي التأكيد بالنص وتأكيده فقيل كما سبق) وحيثما كنتم) خطاب للرسول وامته (فولوا وجوهكم شطره) وان كنتم عند بيت المقدس وفي بلده (لثلا) اي شرع لكم ذلك بالاوامر المذكورة لئلا (يكون للناس عليكم حجة) وان كانت داحضة (1) هذا يقول اتبع قبلتنا وهذا يقول تركوا كمبتهم مع افتخار هم بسابقتها وفضلها وهذا يقول تركوا قبلة ابراهيم واسماعيل. او وهذا يقول مكتوب ان النبي يصلي الى القبلتين. وهذا يقول مكتوب انه يصلي الى الكعبة (الا الذين ظلموا) منهم استثناء من الناس فان هؤلاء الظالمين لا يقطعون جدلهم واحتجاجهم بالاباطيل حسب ما تغريهم اهواؤهم وظلمهم فلا تخشوهم واخشوني) اي ولتكن خشيتكم لي) ولا تم نعمتي عليكم، بتشريع الاستقبال القبلة المرضية قبلة ابراهيم وحصره بها (ولعلكم تهتدون) اي ولأجل ان تهتدوا الى معرفة لطف اللّه بالتمام النعمة بذلك عليكم وقطع حجج المجادلين لكم. او والى اقامة الصلاة بحدودها الى هذه القبلة ولكن لما كان الاهتداء من افعال الانسان وناشئا عن اختياره للتفكر ومجانبته لشكوك الاهواء وعنادها قيل في تعليله لعل وكذا كل غاية في القرآن هي من اعمال العباد وراجعة الى اختيارهم نحو لعلكم تشكرون. تتفكرون لم تخرج مخرج الجرم في التعليل. وقد لطف اللّه في امر القبلة بعباده لهذه الغايات الشريفة (149 كما ارسلنا فيكم رسولا منكم)، وكونه منكم اقرب الى انقياد كم للأسلام (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم) بدينه وشريعته وتعاليمه (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) مما يهمكم ويزينكم ويهذبكم وان تعدوا نعمة اللّه في ذلك لا تحصوها (150 فاذكروني) بما فيه سعادتكم
ص: 139
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (151) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (152) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (153) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (154) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (155) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ
-------------------------------------------------------------------
وكما لكم. من العبادة والطاعة والشكر لنعمي اعد عليكم بالجزاء واللطف والنعمة والمزيد. ولأجل المقابلة اللفظية جرى التعبير عن ذلك بقوله تعالى (اذكركم واشكروا لي) نعمائي عارفين بها (ولا تكفرون) لا تكفروني نعمتي لا تجحدوني نعمتي كفره حقه حجده (151 يا ايها الذين امنوا استعينوا) في امر دينكم وعبادتكم وطاعتكم اللّه واجتناب معاصيه و في مصائبكم (بالصبر) فانه نعم المطية ومفتاح الفرج ووسيلة البشرك بالصلوات من اللّه والرحمة (والصلاة) عطف على الصبر فانها باب اللّه في مناجاته والاستعانة به ومعراج السعادة والناهية عن الفحشاء والمنكر (ان اللّه مع الصابرين) وكفى بذلك بشرى (152 ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه) هم (اموات بل) هم (أحياء ولكن لا تشعرون) بحياتهم لأن عالمهم غير عالمكم. وقد اخبر اللّه جلت آلاؤه عما الحيوتهم السعيدة من الكرامة والحبور كما في الآية الثالثة والسنين بعد المائة واللتين بعدها من سورة آل عمران (153 ولنبلونكم) يا ايها الذين آمنوا كما يقتضيه سياق الخطاب. او يا ايها الناس (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على ذلك رضى بما قضى اللّه وتسليما الحكمته فلا يصدهم ما ذكر عن شكر ما هم فيه من نعمة ولا عن عبادته وطاعته والجهاد في سبيله بل هم (154 الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه)، وكل ما هو انا من حياة ونعمة إنما هو من عنده بدون استحقاق لنا في أقل شيء من ذلك يفعل بحكمته ما يشاء (وإنا اليه راجعون) في الآخرة فيعاملنا بصبرنا او جزعنا الذي هو كفران لنعمه (155 أولئك عليهم صلوات من ربهم) ثناء جميل (ورحمة) بالثواب والجزاء (وأولئك هم المهتدون) الى الحق بصبرهم وتسليمهم اللّه
ص: 140
(156) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا
-------------------------------------------------------------------
وعلمهم واعترافهم بأنهم اللّه وانهم اليه راجعون (156 إن الصفا والمروة) موضعان معروفان بمكة يسعى بينهما في الحج والعمرة) من شعائر اللّه (من معالم اعمال الطاعة التي جعلها اللّه في الحج والعمرة وان عرض ان المشركين جعلوا عليها الأصنام كما جعلوها على البيت الحرام الى ان القاها عنه رسول اللّه في فتح مكة إذ أصمد امير المؤمنين على كتفيه ورمى بها الى الارض (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) الحج والعمرة معروفان والتطوف الطواف. وسمي السعي تطوفا باعتبار تكرره فيكون كالطواف الذي يرجع الى مبتداء وطاف به اعم من الطواف حوله وجعله في وسط المطاف كالطواف بالبيت ومن المرور به في الطواف كما تسمى الكثيرة الخروج من دارها طوافة بالبيوت. وقد اتفقت الرواية من المسلمين على ان قريشا جعلوا من اصنامهم على الصفا والمروة فتوقف المسلمون من الطواف بهما لمكان الأصنام فرفع توهم التحريم بقوله لا جناح لأنها من شعائر اللّه وذلك لا ينافي الوجوب كما ثبت من السنة وعليه اجماع الإمامية واكثر الجمهور. ففي تفسير البرهان عنه أي عن محمد بن يعقوب في الكافي في الحسن كالصحيح عن ابي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث حج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وان المسلمين كانوا يظنون ان السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل اللّه تعالى ان الصفا والمروة الآية. قلت ولم أجد هذا الكلام في مظانه في الكافي. وعن العياشي قال ابو عبد اللّه في خبر حماد بن عثمان انه كان على الصفا والمروة اصنام فلما ان حج الناس لم يدروا كيف يصنعون فأنزل اللّه هذه الآية فلما حج النبي رمى بها. وفي الكافي في باب السعي في المرسل المعتبر عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) شرط على قريش في عمرة القضاء ان يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة فجاوا اليه وقالوا يا رسول اللّه ان فلانا لم يسع بين الصفا والمروة وقد أعيدت الأصنام فأنزل اللّه عزّ وجل «فلا جناح عليه أن يطوف بهما» وذكر القمي في تفسيره نجوه. وفيه ايضا ان عمرة القضاء كانت سنة سبع من الهجرة. وذكر الآية من أولها ولم ينسب شيئا من ذلك الى رواية (ومن تطوع خيراً) تجي صيغة تفعل للاتخاذ والجعل نحو توسد الحجر. وقد يتجلى عليها معنى الطلب والرغبة والتحصيل نحو تعرفت وتعلمت وتبصرت من البصيرة في
ص: 141
فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (107) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (158) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (159) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (160) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (161) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
-------------------------------------------------------------------
غير المطاوعة. ومن ذلك قول امرؤ القيس في معشوقته :
«تنورتها من اذرعات ودارها***بيثرب أدنى دارها نظر عالي»
فالمعنى ومن اتخذ الخير المشروع طاعة بطلب لها ورغبة. ولا دليل من اللغة ولا من هيئة التطوع او مادته على اختصاصه بالمستجدات. بل ان المقام يأبى ذلك فإن السعي حق في الحج والعمرة المندوبين يجب بالشروع فيهما. وحاصل الآية ان التطوف بالصفا والمروة خير لأنه تعظيم لشعائر اللّه وطاعة له في ذلك من تطوع خيرا (فإن اللّه شاكر عليم) بالطاعة لا يخفى عليه شيء منها ومجاز عليها. وإن كان الشكر مختصا بالنعمة واليد فنسبته إلى اللّه مجاز (157 إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات) الواضحات في الارشاد (والهدى من بعد ما بيناه للناس) وأوضحنا دلائله (في الكتاب) والعموم في الكتاب للقرآن وغيره من كتب اللّه أنسب بعموم التوبيخ وقيام الحجة واستحقاق اللعنة. ولذلك مصاديق كثيرة. ومنها ما رواه في البرهان عن العياشي (أو كنك بلعنهم اللّه) يطردهم عن رحمته (ويلعنهم) أي يدعو عليهم بالطرد عن الرحمة (اللاعنون 158 الا الذين ثابوا وأصلحوا) اعمالهم (وبينوا) ما كانوا يكنمونه وغيره ما ينبغي بيانه من الحق (فأولئك اتوب عليهم وانا التواب) على من تاب حق النوبة (الرحيم 159 ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة اللّه) وطردهم عن رحمته (و) لعنة (الملائكة) اي دعائهم باللعنة (والناس اجمعين) بلعنهم للظالمين والجاحدين للحق. ومن طرده اللّه عن رحمته فهو معذب (160 خالدين فيها) اي في اللعنة فهم خالدون في العذاب (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) من النظرة والامهال في العذاب والإمهال للاعتذار والنوبة (161 وإلهكم إله واحد) في الالمية وصفاتها لا شريك له فيها (لا إله الاهو)
ص: 142
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (162) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ
-------------------------------------------------------------------
وهذه العبارة في توحيد اللّه في الآلمية ونفي ما عداه فيها اوضح من ان تشوش بقواعد الإعراب (الرحمن الرحيم) وقدم تفسير الكلمتين في بسملة الفاتحة. ولعمر الحق ان مضمون هذه الآية الكريمة في وجود الإله ووحدانيته في الإلهية وابداع العالم بحكمته وارادته ورحمانيته ورحمته امر تجاوه الفطرة للعقول الحرة باوضح المجالي. ولكن اللّه جلت آلاوه شاء بلطفه ان يستلفت العقول الى ذلك بالحجة القيمة بنحو يكتفي منه العلمي بنظرته البسيطة ويستنبط العلم لها بحسب استعداده في العلوم من كل شيء يجلوه العلم برهانا كافيا. فذكر هنا جات الطافه بعض الآيات المشاهدة من خليقته وقال (162 ان في خلق السماوات) وما يرى فيها من الكواكب الثابتة والمسيارات المرتفعة بعضها عن بعض على مدار مخصوص والمستمرة كل على سيره المنتظم على منطقة البروج فضلا عما يعرف بالعلم من فوائد سير السيار على تلك المنطقة (والارض) وما فيها من الجبال وحكمها الباهرة. ومنها تفجر العيون من اعاليها واخراج النار من براكينها. و من انواع المعادن. ومن البحار وتباراتها وما في ذلك من الحكم (واختلاف الليل والنهار) على نظام موزون مستمر متماثل في ايام السنين يزيد النهار في كل محل من نصف الأرض الشمالي بمقدار ما ينقص في ذلك اليوم من مثل ذلك المحل في العرض من النصف الجنوبي. وتجري نقيصة الليل وزيادته على عكس النهار في المحال المتماثلة في المعرض من النصفين (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) من تجارة البلدان النائية والوصول الى البلاد البعيدة وكيف سخرت لها الرياح المسماة بالتجارية. فترى السفن تجري في زمان واحد وبحر ولحد كل الى مقصدها شمالا او جنوبا او شرقا اوغربا (وما انزل اللّه من السماء من ماء فاحيا به الأرض) بالنبات والشجر والنمو (بعد موتها) بكونها قاحلة ما حلة واوجد فيها روح قوة الإنبات لا تحصل بالدوامل (1) العادية. ولا الماء الجاري نعم قد يحصل من القوة شيء باطيان الفيضان المتشبعة بروح المطر (وبث فيها من كل دابة) ببركة احيائها (وتصريف الرياح) التي يسمونها استوائية
ص: 143
الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (163) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا
-------------------------------------------------------------------
وقطبية وموسمية وتجارية. وما في استقامتها وهدوها في البحر المسمى بالمحيط الهادئ أي الساكن وهو الواقع ما بين آسيا وامريكا مع ان مساحة قطره من المشرق الى المغرب تزيد على سبعة آلاف ميل ومن الجنوب الى الشمال اكثر من ذلك. واستقامة انواعها ايضا في البحر المسمى بالمحيط الأطلسي وهو الواقع بين أوروبا وامريكا وربما يبلغ عرضه اربعة آلاف ميل فلا يكون في هذين المحيطين العظيمين والطريقين الموصلين ما بين الدنيا القديمة والدنيا الجديدة خطر العواصف والأعاصير التي تكون في بحر الصين والهند وبحر انتيلة المقابل لأمريكا الوسطى (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) يجري حيث توجهه القدرة والحكمة تراه في محل واحد ينزل مطره قطرات وسحا وهكذا وتتخلل بين ذلك فترات واحوال مختلفة في نزوله وبينما هو واقف إذ اقلع مسرعا او على تأن. هذا وفي كل أمر من هذه الأمور وكل حال من هذه الأحوال المنتظمة بأحسن نظام يجد العقل الحر دلالة واضحة على ان كلا من ذلك إنما هو من إيجاد إله قادر عليم حكيم وتدبيره بحسب ارادته وحكمته ورحمته، ودلالة جلية على انه وحده لا شريك له في الإلهية وهذا الخلق العجيب والتدبير المنتظم ولو كان معه اله لاختل هذا النظام وفسدت المخلوقات كما قال جل شأنه في سورة الأنبياء «لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا» وفي سورة المؤمنون «وما كان معه من إله إذا اذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض» وقد جرى الكلام بأكثر من هذا الشرح في مضامين هذه الآيات في الجزء الثاني من المدرسة السيارة في صفحة 116 - الى 125 و 155 الى 0 16 وفي الجزء الثالث في صحيفة 17و18 وأنى يبلغ الشرح والبيان معشار ما في هذه الآيات من اسرار القدرة والحكم الدالة على الاوله وتوحيده. وعلى الاجمال ان فيا ذكر في الآية الكريمة (الآيات) باهرات و دلالات نيرة (لقوم يعقلون) وكلما تفكروا فيا ذكر ظهرت لعقولهم من الآيات والدلالات اضعاف ما عرفوه (163) ومن الناس من يتخذ من دون اللّه اندادا) قد مر الكلام في الند في الآية الثانية والعشرين. واتخاذ الانداد اعم من تأليههم واتباعهم على ظلمهم وباعتبار القسم الثاني جاءت الرواية عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في التبيان والبيان. وعن العياشي مرفوعة عنه
ص: 144
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (164) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ
-------------------------------------------------------------------
(عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي البرهان عن الكافي واختصاص الشيخ المفيد مسندة. وقيل في هذه الآية من دون اللّه باعتبار ان اتخاذ الأنداد حتى بالمعنى العام المذكور انما هو نكوص عن معرفة اللّه وحقيقة إلهيته وقدس توحيده وعبادته او نكوص عن طاعته واتباع شريعته ومن امر باتباعه (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) اصدق عرفانهم له في اخلاصهم في توحيده ويقينهم بأن الخلق والامر بيده وهو الرحمن الرحيم (ولو يرى الذين ظلموا) باتخاذهم الأنداد وتعديهم حدود اللّه في العدل (اذيرون (العذاب) ويشاهدون اهواله وانه ليس من دونه نصير (ان القوة للّه جميعا) جملة ان القوة أي مصدرها مفعول ليرى (وان اللّه شديد العذاب) عطف على مفعول يرى. وفي الآية توبيخ شديد وتسفيه لهؤلاء بالإشارة الى انهم لا يهتدون بعقولهم ودلالة العقل على وحدانية اللّه في الالهية والحصار القوة الإلهية به. ولزوم اتباع أوامره فيمن امر باتباعه. واتباع نواهيه فيمن نهى عن الضلال باتباعه. ولا يهتدون الى اليقين بما توعد اللّه به من انواع العذاب الأليم في يوم القيامة. وانه ليس من دونه ولي ولا نصير. بل هؤلاء كالبهائم لا تلتفت إلا الى ما تراه وتحسه. فلو ان هؤلاء الظالمون حينما يرون بالحس عذاب القيامة وما تذكره الآيتان بعد هذه الآية من اهوالها ويرون انحصار القوة الالهية باللّه وشدة عذابه لأقلموا عن غيهم واتخاذهم الأنداد وأنابوا إلى توحيد اللّه وطاعته. وحذف جواب «لو» لدلالة المقام عليه اختصارا. وليقدر بكل نحو يناسب المقام. قال امرؤ القيس
«فلو أنها نفس تموت سوية***ولكنها نفس تساقط أنفسا»
وقد مرَّ بعد الآية السابعة والعشرين شيء من شواهد الحذف لدلالة المقام (164 إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) في التبيان والبيان العامل في إذ قوله تعالى «شديد العقاب» والأظهر انها بدل من إذ يروا العذاب او عطف بيان فالعامل فيها «لو يرى» (ورأوا العذاب) جميعا التابعون والمتبوعون (وتقطعت بهم الأسباب) السبب هو الحبل الذي يتوصل به الى الصعود فإذا انقطع بالشخص المتعلق به آيس من نجاته من ورطته. كنى بذلك عن انقطاع
ص: 145
(165) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (166) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
-------------------------------------------------------------------
آمالهم بوسائلهم التي كانوا يتوهمونها (165 و قال الذين اتبعوا لو ان لنا كرة) لو التمني والتقدير لو يمكن ان الناكرة كما تقدمت الإشارة اليه في الآية التسمين. وقيل انها لا تحتاج الى جواب كجواب الشرط. وقال بعضهم هي لو الشرطية اشربت معنى التمني ومعناه انها تحتاج الى الجواب ولكن الغالب حذفه لدلالة سياق الكلام عليه. واحتجوا بقول مهلهل بن ربيعة
فلو نبش المقابر عن كايب***فيخبر بالذنائب أي زير
بیوم الشعثمين لقر عينا***وكيف لقاء من تحت القبور
فجاء بجوابها مقرونا باللام ولا بأس بهذه الحجة وقولها. وربما يكون بعض ما جي بجوابها مع اللام في القرآن الكريم هي «لو» التي للتمني (فتتبرأ منهم) من المتبوعين بنصب نثيراً لوقوعها في جواب النمني بعد الفاء (كما تبروا منا) أي تبريا ينفعنا في العمل والجزاء في دار لا فيها عمل ولا حساب (كذلك) أي كما تبرأ بعضهم من بعض. وتقطعت بهم الأسباب و خابت آمالهم (يريهم اللّه) في الآخرة (اعمالهم) في الدنيا (حسرات عليهم) أي اسباب حسراتهم على انفسهم فيما فرطوا فيها واقيم المسبب مقام السبب مبالغة ومن مصاديق ذلك ما في التبيان والبيان. روي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال الرجل يكسب المال ولا يعمل فيه خيرا فيرثه من يعمل منه عملا صالحا فيرى الأول ما كسبه حسنات في ميزان غيره. ورواه ايضا في تفسير البرهان عن أمالي الشيخ المفيد مسندا عن احدهما (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن الكافي نحوه مسندا ايضا عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما رواه عن العياشي ايضا (وما هم بخارجين من النار) وذلك معني الخلود فيها والعياذ باللّه (166 يا ايها الناس كاوا) الأمر هنا للاباحة (مما في الأرض) من بعضه مما أحله اللّه (حلالا) في نفسه (طيبا) في مأخذه وفي ذلك بلاغ لكم تعيشون به من نعمة اللّه ورحمته في هناء وسلامة في الآخرة (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) وتقتقوا أثره في غوايته وطريق ضلالة ووسوسته لكم فإنه لا يوسوس لكم إلا بما يضركم ولا يدعوكم إلا الى ما يوبقكم في الدنيا والآخرة (إنه لكم عدو مبين) لعداوته ولو تبصر تم فيما يغوي به الكفار
ص: 146
عَدُوٌّ مُبِينٌ (167) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (168) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (169) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (170) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (171) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
-------------------------------------------------------------------
والفساق لعرفتم انه لا يتخفى بعداوته لكم وارادته مضرتكم في الدارين. وروى في الكافي والتهذيب عن الصادق والباقر عليهما السلام ان الحلف على ذبح الولد والحلف بالطلاق والعتاق والنذر وان يقول علي الف بدنة وانا محرم بألف حجة او ان جميع مالي هدي وكل مملوكي حر ان كلمت فلانا إن هذا كله من خطوات الشيطان كما في البرهان مسندا عن العياشي مرفوعا. وروى في الدر المنثور فيما اخرجه الرواة وصحح بعضه الحاكم شيئا من نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وجابر بن زيد (167 إنما يأمركم) الشيطان بغوايته ووسوسته (بالسوء) بحيث تعرفون إذا نظرتم بعين البصيرة انه سوء يزجر عنه العقل والشرع (والفحشاء) وهو ما يستعظم قبحه (وان تقولوا) كاذبين (على اللّه ما لا تعلمون) انه منه (168 وإذا قبل لهم) أي للضالين عن الحق اتبعوا ما أنزل اللّه (من الدين) والشريعة (قالوا) لا تتبع ذلك (بل تتبع ما الفينا عليه آباءنا) من الاعتقاد والعمل ويقلدون بذلك آباءهم على عمى وضلال فسفها لهم (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) وهم كذلك إذ كانوا على غير ما يهدي اليه العقل والشرع (169 ومثل الذين كفروا) في اقوالهم هذه التي لا يتفكرون في فساد معانيها ولا يعرفون غلطها وما يقولونه فيها (كمثل) الأصم (الذي ينعق) كنعاق الراعي في غنمه (بما لا يسمع) ولا يميز من مداليل نعاقه معني معقولا (إلا دعاء ونداء) وصوتا بلا معني وانهم في ذلك (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) كيف ينطقون (170 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) نعمه (إن كنتم إياه تعبدون) ليس المراد منه حقيقة الشرط وتعليق الشكر على عبادته. بل لبيان ان الشكر لنعمه ملازم لعبادته عن معرفة بأنه إله العالم وخالقه ومدبره (171 إنما حرم عليكم الميتة) وهي الحيوان الذي عرض عليه
ص: 147
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ
-------------------------------------------------------------------
الموت والمراد منها غير الحيوان المذكى بما شرعه اللّه له من اسباب التذكية المحللة للأكل (والدم ولحم الخنزير) نص على لحم الخنزير الشامل هنا لشحمه عناية ببيان تحريمه وان كان من الميتة المحرمة (وما أهل به) ورفع الصوت عند ذبحه او نحره بالتسمية (لغير اللّه) كالذي يذبح قربانا للصنم أو الوثن والشجر او الذي يذكر عليه اسم الصنم والوثن وكلاهما مروي فإنه من الميتة. والحصر في الآية اضافي بالنسبة الى المأكول من الحيوان (فمن اضطر) إلى أكل شيء من ذلك بمقدار ما يحفظ به حياته حال كونه (غير باغ ولا عاد) وقد جاء في القرآن باغ في البغي وما يشتق منه في اكثر من عشرين موردا على معنى واحد لا يتعدى بنفسه وإنما يعدى بعلي. واختلفت كلمات المفسرين واللغويين في تفسيره بحسب ما يتراءى لهم من مناسبات الموارد لاستعماله لا لاختلاف فيه او اختلافه في تلك الموارد. فقالوا انه الحسد او الظلم او الاعتداء او الفساد من بنى الجرح إذا فسد او مجاوزة الحد عن الحق او عن القصد كما في تبيان الشيخ والنهاية والقاموس والمصباح والكشاف ومجمع البيان وهذا غير معنى الباغي بمعنى الطالب ومنه في القرآن ويبغونها عوجا» وابتغى ويبتغي وتبتغي ونحوه مما يتعدى بنفسه، وفي الكافي ومعاني الأخبار عن البزنطى عمن ذكره عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الباغي الذي يخرج على الإمام والعادي الذي يقطع الطريق. وسندها صحيح باعتبار رواية الصدوق وكون البزنطي ممن اجمع على تصحيح ما يصح عنه وبذلك فسره في المبسوط والشرائع والقواعد والارشاد واللمعة. وفي الروضة انه الأشهر. وفي البرهان عن تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن ابي عبد عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الباغي الخارج على الإمام. وعن محمد بن اسماعيل يرفعه الى ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الباغي الظالم والعادي الغاصب. وفي التبيان وقيل غير باغ على إمام المسلمين ولاعاد بالمعصية طريق المحقين. وفي السان هو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه عليهما السلام. وفيه نظر فإن روايته عن الباقر غير مذكورة والرواية عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليست منحصرة بذلك. ففي الكافي والتهذيب عن حماد بن عثمان عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال الباغي باغي الصيد والعاديه السارق. وفي رواية الفقيه والتهذيب عن عبد العظيم الحسني عن ابي جعفر الجواد(عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي يبغي الصيد لهوا وبطراً. وتفسير الباغي في هذه الروايات باعتبار
ص: 148
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (172) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (173) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (174) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
-------------------------------------------------------------------
ان ما ذكر فيها من مصاديق البغي والباغي. اما الخارج على الإمام فظاهر واما طالب الصيد لهواً وبطراً فباعتبار ان هذا النحو من التصيد مصداق من مصاديق البغي. ففي الكافي والتهذيب عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الخروج الى الصيد صيد اللهو ليس بمسير حق. وفي الكافي والتهذيب وعن المحاسن انه مسير باطل. وعن الخصال من الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قال رسول اللّه اربعة يفسدن القلب وينبتن النفاق وعد منها الصيد. ثم ان كلا من الروايتين في تفسير الباغي تكون قرينة على ان لا ينحصر تفسير الباغي بما ذكرته، بل هو احد المصاديق ولكن خرج في نقل الرواية والسؤال والجواب بهذا الأسلوب. اذن فكل من صدق عليه انه باغ او عاد لم يجزله ان يتناول من الميتة وان اضطر اليها اخذا باطلاق الكتاب المجيد (فلا اثم عليه) اذا أكل ما ذكر بمقدار ما يحفظ به نفسه وما فوق هذا المقدار محرم لانه غير مضطر اليه (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 172 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا) ومما بلغ ذلك الثمن كان (قليلا) بالنسبة لكنماتهم لما انزل اللّه (أولئك) خبر ان (ما يأكلون في بطونهم) من هذا الثمن الخسيس (إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ) فلا يغتروا بأن الناس في الدنيا الفانية يكلمونهم ويزكونهم فإن لهم شديد العقاب (ولهم عذاب اليم 173 أولئك الذين) في عملهم هذا قد (اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة) ففعلوا بذلك فعل الصابر على النار بصبر عظيم (فما اصبرهم على النار 174 ذلك) وهو ان اللّه لا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم (بان اللّه نزل الكتاب بالحق) بيناً هداه كافية دلائله (وان الذين اختلفوا في الكتاب) شقاقا ونفاقا (لفي شقاق بعيد) امده (175 ليس البر) ايها الناس هو (ان تولوا وجوهكم) فيما اعتدتم عليه من صور عباداتكم التي لا يسعكم
ص: 149
(175) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ
-------------------------------------------------------------------
تركها بين الناس (قبل المشرق والمغرب) اي نحوهما على سبيل المثال (ولكن البر من آمن باللّه) حق الإيمان ولم يشرك به شيئا ولم يهدم ايمانه باتباع الهوى والشيطان في مخالفة اوامر اللّه ونواهيه واليوم الآخر يوم القيامة وحقيقة الإيمان به ان يظهر اثره على افعاله واقواله واخلاقه (والملائكة والكتاب) القرآن ويلزمه الإيمان بما ذكر فيه من الكتب الإلهية (والنبيين) وراس ذلك واساسه هو الإيمان بخاتمهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) فإنه بالإيمان به ينفتح باب الايمان بمن سبقه من الأنبياء لانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اخبر بهم وذكروا في القرآن المنزل عليه ولولا ذلك لما وجد الطريق الى معرفتهم لأن نقل معجزاتهم وادعاءهم النبوَّة منقطع مريب (وأتى المال على حبه) اي حب اللّه خالصا لوجهه الكريم (وذوي القربي) قال في التبيان والبيان اراد به قرابة المعطي. اقول وهو اقرب من حيث اللفظ وفيهما ايضا و يحتمل ان يكون اراد قرابة النبي. اقول وهو اقرب في العادة الى ابناء المال على حب اللّه خالصا لوجهه فإنه ابعد عن الدواعي النفسانية وحب الاقرباء وفي البيان وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). قلت ولم اجد الرواية بالنسبة لهذه الآية (واليتامى) المحتاجين (والمساكين وابن السبيل) المسافر المحتاج في سفره وان كان له مال لا يصل اليه (والسائلين) منه مالا (وفي) عتق (الرقاب) (واقام الصلاة) بحدودها (وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) ذكر الشرط لبيان هذا النحو من العهد وهو الذي يصدر منهم وجي بصيغة الجمع للاشارة الى العهود التي تقع بين الجماعات من الناس وللتعريض بغدر بني النضير وقريضة وامثالهم ممن لم يرع في العهد إلا ولا ذمة (والصابرين في البأساء) الفقر ونحوه (والضراء) المرض ونحوه (وحين البأس) الحرب وشدتها ونصب الصابرين على المدح لما في صبر هؤلاء الصابرين من الفضيلة الكبرى اذ عليه يبتني الثبات على الدين والطاعة اللّه وشكر نعمه والشدة والاقدام في نصرة الحق والسلامة من
ص: 150
(176) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى
-------------------------------------------------------------------
الضلال والارتداد (أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ومن المعلوم انه لم يجمع هذه الصفات من صحابة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الا امير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستقراء الأحوال، ومنها يوم أحد والأحزاب وخيبر وحنين يعرفك اختصاصه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذه الفضيلة. فهو معني بهذه الآية يقينا واما غيره فلا أقل من الشك في جامعته لها. وفي مجمع البيان عن الزجاج والقرآء انهااي هذه الصفات و جامعيتها مخصوصة بالأنبياء المعصومين وليت شعري ما ذانقموا من ابي الحسن. واما قوله (تعالى) ولكن البر من آمن باللّه فهو اسلوب فائق من البلاغة يخرج الكلام به من صورة الفرض الذي لا يهم في البيان الى صورة الوقوع والحجة بالعيان. قال الحارث بن حلزة اليشكري
والعيش خير في ظلال النو***ك ممن عاش عاش كدا
وقال النابغة الجعدي: كان غديرهم بجنوب سلى***نعام قاف في بلد قفار
وقال الحطيئة: وشر المنايا ميت وسط اهله***كهلك الفتى قد سلم الحي حاضره
فالغرض من الآية هي الإشارة الى الذين اتصفوا بهذه الصفات و اشرقت الأرض بنورهم والاحتجاج والمقابلة بهم لا مجرد المقابلة بين تولية الوجه قبل المشرق والمغرب وبين حقيقة البر. ولو قيل ولكن البار من آمن الى آخره خرج الكلام الى الفرض لا الوقوع. وكذالوقيل ولكن البر بر من آمن (176 يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم) في الشريعة رعاية لحق المقتول واوليائه (القصاص في القتلى) القصاص اخذ الجاني بمثل جنايته واتباع اثره فيها وهذا خاص بالعمد لقوله تعالى في سورة النساء «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ» الآية. وعلى ذلك اجماع المسلمين واحاديثهم وما كل المسلمين تتكافأ دماؤهم وتتساوى، بل (الحر بالحر والعبد بالعبد) ويقيد اطلاق جنسهما في شموله للذكر والأنثى بقوله تعالى (والأنثى بالأنثى) كما يتقيد اطلاق هذا بقوله تعالى «الحر بالحر والعبد بالعبد» فإن الأمة المسلمة لا تكافيء المسلمة الحرة. وفيها يتعلق بهذه الآية مبحثان «الأول» فيا خرج من اطلاقها وفيه مسائل :
«الأولى» لا يقتل مسلم بكافر وان كان ذميا. وعليه إجماع الإمامية وكثير من الجمهور. ولم يعرف الخلاف فيه منهم الا عن الشعبي والنخعي وابي حنيفة وصاحبيه. ويردهم قوله تعالى في
ص: 151
سورة النساء «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» نعم تثبت الدية للذمي بنص لاية الرابعة والتسعين من سورة النساء. فإن كان ذلك منافيا لظاهر نفى السبيل كان تخصيصا له ويبقى ما عداه لحكم العموم. ويحتج عليهم ايضا بما اخرجه احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي باسانيدهم من ابي جحيفة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الصحيفة التي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لا يقتل مسلم بكافر. واخرج احمد والنسائي وابو داود باسانيد صحيحة عندهم عن ابي حسان تارة وعن قيس بن سعد اخرى عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الصحيفة التي عهد بها رسول اللّه. المؤمنون تكافاً دماؤهم - لا يقتل مؤمن بكافر الحديث» والمراد من تكافأ دمائهم ان الصغير يكافئ الكبير والوضيع الشريف. وعن احمد وابن ماجة عن ابن عمر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مثله. وفي كنز العمال في ذلك عدة احاديث. نعم المشهور عند الإمامية ولعله اجماع ان المسلم اذا اعتاد قتل اهل الذمة قتل تأديبا ولا كرامة له كما نطقت به احاديثهم. وفي الكنز عن عبد الرزاق في جامعة وق عن عمر نحو ذلك
«الثانية» لا يقتل الأب بابنه باجماع الامامية واحاديثهم الكثيرة وهو المعروف من فقهاء الجمهور ورواه في كنز العمال مما اخرجه ابن ابي شيبة وابن ماجه والطبراني في الأوسط وابن عساكر واحمد في العلل والدارقطني وعبد الرزاف في احاديثهم عن عمر عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) واسنده الترمذي عن عمر وسراقة بن مالك عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وقال الترمذي ان العمل على هذا عند اهل العلم. وعن مالك ان ذبحه ذبحا او شق بطنه فعليه القود. واما الأم فإنها تقتل بولدها على اصولنا اذ لم يثبت المخرج لها
«الثالثة» لا يقتل حر بعبد ولا حرة بأمة سواء كان المقتول ملكا للقاتل اولغيره. وعليه اجماع الإمامية واحاديثهم. قيل وهو مذهب الصحابة. بل لم يعرف الخلاف من الجمهور الا من النخعي حيث قال يقتل بعبده وعبد غيره. وقال ابو حنيفة يقتل بعبد غيره ويحتج عليها من حديثهم بما اخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لا يقتل حر بعيد. وما أخرجه ابن عبد الرزاق في جامعه عن عمر لا بقاد العبد من الحر. وما اخرجه ابن أبي شيبة والقزويني ان ابا بكر وعمر يقولان لا يقتل المولى بعبده
«المبحث الثاني» ان الآية مسوقة لبيان التساوي والتكافؤ فلادلالة فيها على حصر القصاص وانحصاره بخصوصيات هذه المقارنات الثلاث بحيث لا يقتل كل الا بمن جعل في الآية مقارنا
ص: 152
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
-------------------------------------------------------------------
له. ولا بما اذا كان القاتل واحدا. ويشهد لذلك اجماع المسلمين واحاديثهم على عدم الالتزام بهذه المقارنات وفي ذلك مسائل
«الاولى» يعرف ما يحصل به النكافؤ والتساوي والجيران في القصاص بالنظر الى السنة في التفرقة بين دية الرجل والمرأه
«الثانية» اذا قتلت المرأة رجلا او قتل العبد حراً كفى قتل الجاني باجماع الإمامية وحديثهم بانه لا يجنى الجاني على اكثر من نفسه ولا يحضرني نقل خلاف فيه من الجمهور
«الثالثة» اذا قتل جماعة واحداً بحيث لو انفرد كل منهم بجنايته كان بها التلف جاز أن يقتلوا به جميعا الا من كان لو انفرد لا يقتل به كالأب بالنسبة للواد والمسلم بالنسبة للذمي والحر بالنسبة للعبد. وعلى كلي المسئلة اجماع الإمامية واحاديثهم. والجمهور ومنهم في ملتقى الأنهر نقلوا عليه اجماع الصحابة وكأنهم لم يعتنوا بما يحكي من خلاف ابن الزبير و معاذ بل لم يعرف الخلاف من فقهائهم الا من ابن سيرين والزهري وربيعة وداود واصحابه اهل الظاهر. والحجة ايضا على ما ذكرناه من القرآن الكريم اطلاق قوله تعالى «كتب عليكم القصاص في القتلى» والذي بعد ذلك إنما ينظر الى المساواة والمقابلة لا الى التقييد. نعم كل واحد يرد عليه من ديته بقدر ما على اصحابه من الجناية، وظاهر بعض الأصحاب ان قتل الولي لكل واحد يتوقف على اداء ما یرد عليه من ديته. وفي المسئله فروع تتكفل بها كتب الفقه
«الرابعة» اذا قتل الرجل امرأة جازان يقتل بها بعد أن يرد اولياؤها ما يفضل به عليها وهو نصف ديته. ومن ذلك والمسئلة السابقة يعرف الحكم فيما لو اشترك اكثر من واحد. هذا وان كتابة القصاص وشرعيته على المؤمنين بأن ينقادوا ويسلموا أنفسهم له اذا جنوا ليدل بالأولوية على كتابته على غيرهم من اهل الذمة والمستأمنين اذا قتلوا محترم النفس ولو بالمرض. ولا ينافي ذلك سقوطه بعفو الولي كل العفو. وجواز العفو ورجحانه بآيات العفو في القرآن الكريم او بعفو بعض العفو كان يعفو عن خصوصية القتل ويصالحه على الدية كقوله تعالى (فمن) كان ممن عليهم القصاص (عفي له من أخيه) وفي التعبير بالاخ ترغيب في العفو بالإشارة ان الجاني من المسلمين اخ اسلامي للولي والولي اخوه وينبغي للأخ ان يرعى
ص: 153
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (178) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
-------------------------------------------------------------------
لأخيه اخوته ويسامحه ويقيله عشرته (شي) صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل اي بعض العفو وشيء منه بأن رضي منه بالدية كما يدل عليه باقي الكلام (فاتباع) اي فالمعاملة المناسبة ان تكون بينهما بعد العفو والشأن الذي ينبغي ان يكون بينها في هذا المقام هو اتباع من الولي للجاني الذي استقرت عليه الدية (بالمعروف) كالنظرة إلى الميسرة (واداء) من الجاني (اليه) اي الولي (باحسان) كما احسن اليه بالعفو عن القصاص (ذلك) اي شريعة العفو والانتقال الى الدية بالاتباع بالمعروف (تخفيف عليكم ايها الجانين (من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك) وعاد الى القتل (فله عذاب) في الآخرة (اليم 177 ولكم في القصاص) المذكور (حياة) فانه احسن رادع للناس عن جرئتهم على قتل النفوس الذي ربما يجني حربا يفنى فيها كثير من الناس فإن القصاص قتل لا يقدم عليه لما فيه من ذلة الانقياد الى ما يعلمه من القتل صبرا حيث لا مانع ولا رادع. فهو فيه حياة للناس من حيث الأمن من القتل ظلما ومما تجنيه عواقبه وحياة لمن يرتدع عنه بخوف القصاص فهب انه مات اتفاقا بحق القصاص انسان واحد ظالم لكن تحفظ بذلك حياة كثيرين كما لا يخفى ذلك عليكم (يا اولي الألباب) والعقول الذين يعرفون الغلط في قول بعض الناس ان القصاص محض نقصان في حياة الانسان. وقد كتب القصاص لغاية ان تتقوا قتل الناس خوفا منه او تتقوا اللّه في ذلك ولكن لأجل ان الانقاء والتقوى امر اختياري اللانسان لا الجاء فيه قيل فيه (لعلكم تتقون 178 كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت) اي قرب منكم بان ظهرت اماراته بالمرض ونحوه (ان ترك خيراً) اي مالاً (الوصية للوالدين) بماهما والدان لا بقيد اجتماعها في الحياة والوصية نائب الفاعل لكتب (والأقربين بالمعروف) اقرب الاقرباء وقد يكونون اثنين او جماعة في مرتبة واحدة من القرابة وقد يكون الأقرب واحدا وجرى الجمع في الآية باعتبار الناس لا للتقييد بالجمع (حق) الظاهر انه حال من الوصية (على المتقين) للّه وفي هذا تأكيد لكتابتها. ولا يخفى ان المسلمين مجمعون على ان هذه الوصية غير واجبة
ص: 154
(179) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (180) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
بعد زمان من الهجرة الى آخر الأمر. واجمعت الإمامية على ان شرعية الوصية للوارث غير منسوخة وعلى ذلك احاديثهم. ويمكن ان يكون الوجوب المذكور في الآية كان في بدء التغيير بالشريعة لمواريث الجاهلية فإنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الأطفال ولا من يعجز عن حمل السلاح فاقتضت الحكمة ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية اولاً ثم باحكام المواريث فإن تغيير الميراث الجاهلي صعب على الناس. ولذا ترى كثيرا من القبائل حتى في هذه الأزمنة لا ينقادون للميراث الشرعي. بل يجرون على النحو الجاهلي (179 فمن بد له) اي الإيصاء مطلقا المدلول عليه بذكر الوصية لا خصوص الوصية المتقدمة كما يدل عليه التذكير المتكرر لضميره اربع مرات كما يشهد له ما استفاضت روايته عن الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بهذه الآية للوصية بالمال في سبيل اللّه والحج (بعد ما سمعه) وعلم به ولو بالبينة (فإنما اثمه) اي الذي يترتب على مخالفة الايصاء (على الذين يبدلونه) فإن الموصي اذا لم يكن مقصراً بتأخير ما اوصى به خرج بالوصية عن عهدته واثمه دينا كان او عينا وبقي الاثم كله على المبدل (ان اللّه سميع عليم) لا يخفى عليه شيء من ذلك (180 فمن خاف من موص جنفا) ميلاً عن الحق خطأ (او إثماً) كالوصية بما لا يخفى كونه معصية. وظاهر الآية خوف ما وقع من الجنف أو الاثم لاخوف وقوعها في المستقبل او الخوف في المستقبل كما لو قيل ان خاف او ومن يخاف ومقتضى الخوف ان يكون ذلك في مقام الابتلاء والعمل وهو ما بعد موت الموصي وخوفهما هو الخوف من تبعات العمل بها او ترك ردهما الى الحق ولو من باب الأمر بالمعروف للقادر عليه كما تقول خفت الأسد اذا خفت من تبعات عاديته (فأصلح) أصلح عمله وعمل الصالح برد الوصية إلى الحق المشروع كقوله تعالى في سورة المائدة 43 فمن تاب من بعد ظلمه واصلح ونحوه في سورة المائدة 48 و 54 وغير ذلك (بينهم) ظرف لأصلح والضمير يعود الى الوارث والموصى لهم كما يدل عليه المقام. وفي مجمع البيان انشد الفراء في مثله
«اعمى إذا ما جارتي خرجت***حتى بواري جارتي الخدر»
«ويصمُّ عما كان بينهما***سمعي وما بي غيره وقر»
ص: 155
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (181) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (182) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ
-------------------------------------------------------------------
أي عما كان بينها وبين زوجها. وبما ذكرناه جاءت الرواية عن اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) كما في الكافي في مرسل علي بن ابراهيم المضمر وصحيح محمد بن سوقه عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الفقيه في مرفوعة يونس عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). ورواه ابن جرير من الجمهور في تفسيره عن ابن عباس وقتادة والربيع وابراهيم بل والسدي ولم يذكر خلافا صريحا إلا عن مجاهد (فلا إثم عليه) بيان للأمن من إثم التبديل المذكور في الآية وتخصيص عمومه واكتفى برفع توهم الخطر لأن جهة الوجوب في هذا الإصلاح واضحة ولزيادة التأمين قال تعالى (إن اللّه غفور رحيم) للمذنبين. فكيف يخاف من اصلح ورد جور الوصية الى حق الشريعة (181 يا ايها الذين آمنوا كتب) وفرض (عليكم الصيام) وهو في اللغة الامساك والكف عن الشيء قيل ومنه قول النابغة الذبياني خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وخيل تملك اللجما» ويراد به في الشرائع امساك مخصوص على حسب ما تقتضيه المصلحة في تخصيصه وحدوده في الشريعة ولا يخرج بإرادة الخصوصية ولا يفهم الخاص بقرائن الشريعة عن كونه مصداقا للمعنى اللغوي (كما كتب على الذين من قبلكم) أي ككتابته عليهم وحظيتم بفضله واللطف به كما حظوا. وقيل المراد تسلية المؤمنين بذلك فقد دلت الآثار على انه مختلف بحسب الشرائع في الحدود والوقت. ففي رواية العلل عن الإمام الحسن المجتبى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن جده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ان الصوم على الأمم كان اكثر مما هو على المسلمين في شهر رمضان. وفي رواي--ة الفقيه عن حفص بن غياث عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان صوم شهر رمضان لم يفرض على الأمم قبلنا وإنما فرض على الأنبياء. وقد اختلفت روايات الجمهور في هذا المقام (لعلكم تتقون) بمعنى لتتقوا بلام الغاية وابدلت بلعل لكون التقوى اختيارية وحصول التقوى بالصوم هي الغاية العامة للناس وان اشتمل على غايات أخر لكسره للشهوات الباعثة على المعاصي (182 اياما معدودات) لا تتجاوز مقدار الشهر الى الأشهر. وقوله تعالى بعد آية شهر رمضان. فمن شهد منكم الشهر. فمن كان مريضا الآية. يبين فيه مقدار الأيام ومحلها. والعامل في اياما هو الصيام وهو كاف في العمل في الظرف فلا حاجة الي فضول التقدير (فمن كان منكم مريضا)
ص: 156
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
-------------------------------------------------------------------
يزيد الصوم مرضه او يبطو بسببه برؤه) أو على سفر) وبيان السفر ومقداره موكول الى السنة (فعدة) بالرفع كما عليه مصاحف المسلمين وقراءتهم المتداولة حتى القراءات السبع. والتقدير فالذي كتب الصيام فيه في الحالين كما يدل عليه اللفظ والسياق ولا دلالة على تقدير غيره هو عدة (من ايام أخر) في غير المرض والسفر والعدة هي بمقدار الفائت بالسفر والمرض كما يدل عليه قوله تعالى «اياما معدودات» وسوق الشرط والجزاء يدل على ان الصيام في المرض والسفر المذكورين غير مكتوب ولا مشروع كما انه في الأيام الأخر هو المكتوب والواجب المشروع وعلى ذلك اجماع اهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) واحاديثهم (وعلى الذين يطيقونه) أي يأتون به جهد طاقتهم. قال في النهاية الطوق اسم المقدار ما يمكن ان يفعل بمشقة منه. ومنه حديث عامر بن فهيره «كل امرء مجاهد بطوقه» أي اقصى غايته. واخرج ابن جرير عن ابن عباس الذين يطيقونه يتكلفونه. ومن طريق آخر عنه من لم يطق الصوم إلا على جهد. وفيا ورد من قراءته يطوقونه. اخرج ابن جرير كما عن الأنباري عنه يتجشمونه ويتكلفونه. وقد كثرت الرواية في الكتب ان ابن عباس كان يقرأ يطوقونه لهذا المعنى. ورويت هذه القراءة عن عائشة وعكرمة وعطا ومجاهد وسعيد بن جبير. واخرج ابن جرير عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الآية نزلت في الشيخ الكبير وكثرت الرواية بذلك عن ابن عباس وتصريحه بأنها غير منسوخة. وعن أنس بن مالك انه ضعف عن الصوم عاما قبل موته فأفطر فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم كما ذكر كل ذلك ونحوه في تفسير الطبري والدر المنثور. وفي الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش. ونحوها مرسلة ابن بكير عن ابي عبد اللّه، ورواية العياشي عن ابي بصير ورفاعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). والروايات في نفس الحكم مستفيضة وفيها العجوز الكبيرة والمرأة تخاف على ولدها وعليهم (فدية) لكل يوم (طعام مسكين) وقدر في الروايات بمد من حنطة (فمن تطوع خيراً) تقدم تفسير ذلك في الآية السادسة والخمسين بعد المائة (فهو) أي التطوع (خير) حاصل (له) ولا دليل علي اختصاصه بزيادة الإطعام بل هو عام ومن موارده الصوم
ص: 157
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
-------------------------------------------------------------------
المكتوب (وان تصوموا) مصدره في مقام المبتدأ وعدل الى الفعل ليتجلى منه الصدور م----ن الفاعل والترغيب في اختياره في المستقبل (خير لكم) خبر المبتدأ تعرفون انه خبر لكم (إن كنتم تعلمون) ان التكليف لطف من اللّه بعبده وان الطاعة وامتثال الفرائض معراج للسعادة وان الصيام فيه فضل كبير وفوائد كثيرة وقد تكرر الترغيب والتأكيد في أمر الصيام بقوله تعالى لعلكم تتقون. فمن تطوع خيراً. وان تصوموا خير لكم ان كنتم تعلمون. وذلك لأجل ما في الصيام من الفضل العظيم والكلفة في امساكه. وقال بعض ان قوله تعالى وان تصوموا الآية راجع الى من رخص له بالفدية. ويدفعه «اولا» انه لا معين لرجوعه الى ما ذكر مع صلاحيته للرجوع الى غيره «وثانيا» ان رجوعه إلى ما زعموا لا يناسب التأكيد بقوله تعالى إن كنتم تعلمون «وثالثا» سياق الخطاب في الآية يقضي بأنه خطاب لمن خوطبوا بأنهم كتب عليهم الصيام. والذي عليه الفدية إنما جاء بلفظ الغيبة. وقال بعض انه راجع الى الصيام في السفر ويدفعه «اولا» انه لا معين لرجوعه الى ذلك مع صلاحيته للرجوع الى غيره «وثانيا» انه لا يناسب سوق الآية بأن المكتوب في السفر هو عدة من أيام أخر. وليس في حكم السفر ذكراً وإشارة الى البدلية لكي يفضل احد البدلين على الآخر. بل الذي ذكر هو ان صوم العدة من ايام آخر هو المكتوب ولو اراد اللّه الرجوع الى ما زعموا لما ساق كلامه المجيد باسلوب يأباه «وثالثا» منافاته لما صبح عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من قوله ليس من البر الصيام في السفر. كما رواه احمد والبخاري ومسلم وابو داود والنسائي وعن ابن حبان في صحيحه عن جابر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وابن ماجه عن ابن عمر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) واحمد والنسائي وعن عبد الرزاق في جامعه والطبراني والبيهقي عن كعب بن عاصم الأشعري عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وما رواه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والنسائي عن عبد الرحمن موقوفا الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وما عن الديلمي في الفردوس وعبد الرزاق في جامعه عن ابن عمر عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان اللّه تصدق بافطار الصائم على مرضى امتي ومسافريهم فيحب احدكم ان يتصدق على احد بصدقة ثم يظل يردها. وروى نحوه في الكافي والفقيه والعلل والتهذيب في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)، وما اخرجه النسائي والترمذي ونص على صحته
ص: 158
عن جابر ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في سفره إلى مكة عام الفتح دعا بقدح ماء فأفطر وأفطر بعض الناس وصام بعض فبلغه ان ناساً صاموا فقال اولئك العصاة. ورواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال ان رسول اللّه الحديث، وما أخرجه احمد والأربعة وجماعة عن انس الكسي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انه دعاه إلى الطعام فاعتذر بالصيام فقال له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام. واخرج النسائي ايضا عن عمر بن امية الضمري عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نحوه. وما في كنز العمال عن الشافعي والبيهقي في المعرفة عن سعيد بن المسيب مرسلا عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة وافطروا ورواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وما عن عبد الرزاق في جامعه وابن شاهين في السنة وجعفر الفريابي في سننه ان عمر أمر رجلاً صام في شهر رمضان في سفره ان يقضيه. وما قاله الترمذي رأي بعض اهل العلم من اصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان الفطر في السفر افضل حتى رأى بعضهم ان عليه الإعادة إذا صام في السفر. وحكى غير واحد هذا القول عن عمر بن الخطاب وابن عباس وعبد اللّه ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابي هريرة وعروة بن الزبير. هذا واما ما يتشبثون به من الأحاديث فمنه ما هو وارد في الصوم المستحب لحديث حمزة الأسلمي فإنه فيه كنت اسرد الصيام او كان كثير الصيام. ومنه ما هو مردد بين الواجب والمستحب فلا تشبث بذلك اصلا واما ما كان التخيير فيه صريحا بالصيام في شهر رمضان فمع غض النظر عن سنده ومخالفته لاهل البيت وكثير من الصحابة واجماع الإمامية وابثلاثه بما ذكرناه من المعارضات وعدم صلاحيته للتصرف بأسلوب الآية والتي بعدها لا يخفى انه يلزم في التشبث به ان يثبت ان مدلوله كان بعد نزول الآية الشريفة والتي بعدها وانى باثبات ذلك. وعن العياشي عن محمد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الآية نزلت ورسول اللّه في كراع الغميم عند صلاة الفجر فأفطر وامر الناس أن يفطروا وسمى من اراد الصيام بالعصاة فإن قبل ان سورة البقرة كان نزول آية القبلة منها في السنة الثانية من الهجرة فكيف يتأخر النزول لبعض آياتها الى عام الفتح قلت أي بعد في ذلك وان سورة البقرة لم يحدد ختامها. وقد روي من طرقنا ما ذكر من ان آية الصفا والمروة نزات في عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة واخرج احمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن كعب بن عجرة انه نزل في شأنه في الحديبية قوله تعالى من السورة فمن كان منكم مريضا او به أذى من رأسه فقدية الآية. وكانت عمرة الحديبية في ذي القعدة من السنة
ص: 159
(183) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
-------------------------------------------------------------------
السادسة. ومن المعلوم ان التمتع بالعمرة الى الحج لم يكن معهودا في الشريعة قبل حجة الوداع. بل يعرف من احاديثه ان أمره شي نزل على رسول اللّه في ذلك الحين فكلما نزل في سورة البقرة في شأن حج التمتع وهديه نزل في حجة الوداع حتى قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة اللّه كما هو في روايتنا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (183 شهر رمضان) تفسير للأيام المعدودات أي وهي شهر رمضان. وفي الكافي والفقيه وغيرهما عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان فإن رمضان اسم من اسماء اللّه ولكن قولوا شهر رمضان. وعن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يقرب من هذا. وفي كنز العمال مثل قول الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ابن عمر وابي هريرة (الذي أنزل فيه القرآن) الى البيت المعمور في السماء ثم صار ينزله جبرائيل نجوماً على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما في الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي تفسير ابن جرير عن ابن عباس. وفي الدر المنثور فيما اخرجه جماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس وفيه الى بيت العزة (هدى) حال من القرآن أي ماديا (للناس و) دلائل (بينات من الهدى والفرقان) في الكافي وعن العباشي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به. ثم قسم اللّه حال الناس في وقت صومهم ومشروعيته ووجوبه تأكيداً لما سبق ورفعاً للشكوك فقال جل شأنه (فمن شهد) أي حضر (منكم الشهر) الشهر منصوب على الظرفية أي حضر فيه وهو غير مريض (فليصمه) فإنه الوقت الموقت لصيامه (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة) فالمكتوب عليه ووقت صيامه المكلف به عدة أي عدة ما لم يصمه في شهر رمضان (من ايام أخر لا يكون فيها مريضاً ولا مسافراً ففصل اللّه بين الحكمين وميز بين الموضوعين فجعل لصوم الحاضر وقتاً ولصوم المسافر وقتاً. ولو كان صوم المسافر في شهر رمضان راجحا عند اللّه لما أكد هذا التقسيم والتمييز بين الموضوعين والوقتين بهذا السياق البين ولكان ذكره في هذه الآية أولى من التي قبلها لما فيه من بيان الفضل لشهر رمضان وصومه بل ان اللّه جلت آلاوه ذكر في هذه الآية ما يزيد في البيان ويعزز الإيضاح فقال جات آلاوه (يريد اللّه بكم اليسر)
ص: 160
وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
-------------------------------------------------------------------
النوعي بافطار المريض والمسافر (ولا يريد بكم العسر) النوعي فالصوم في السفر غير مراد اللّه لأن فيه عسراً نوعيا. وفي الكافي والفقيه عن عبيد بن زرارة قال قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله تعالى «فمن شهد منكم الشهر فليصمه» قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما ابينها من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه وعن العياشي عن زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما ابينها لمن عقلها. ولأن قوله تعالى «يريد اللّه بكم اليسر» في مقام التعليل وبيان بعض الغايات في كتابة الصيام على النهج المذكور في الآيتين فباعتبار جمل الصوم في المرض والسفر في أيام أخر علل بالتيسير كأنه قيل لينيسر عليكم (ولتكملوا العدة) عطفا على المقدر فنفوزوا بفضل صوم الأيام المعدودات كاملة العدد بخلاف ما لو لم يشرع ذلك واضطر المريض والمسافر إلى الافطار كما هما مظنة للاضطرار إلى ذلك نوعا وباعتبار الهداية إلى شريعة الحق قال جل اسمه (ولتكبروا اللّه على ما هداكم) على هدايتكم إلى الدين والشريعة وهذا التكبير مستحب عندنا بالاجماع ولا يضر الخلاف النادر. وبذلك قال الشافعي وأحمد وابو حنيفة على ما نقل عنه ونسبه في الخلاف إلى الفقهاء. ووقته عندنا بعد صلاة المغرب من ليلة شوال والعشاء والصبح. والعيد باجماع الإمامية ورواية الكافي والفقيه عن سعيد النقاش عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية الاقبال بسنده عن معاوية بن عمار عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويقرب من مذهب الإمامية ما أخرجه ابن جرير في تفسيره بسنديه عن زید بن اسلم وابن عباس. وصورة التكبير مذكورة في كتب الفقه (ولعلكم تشكرون) اے ولتشكروا اللّه على نعمته عليكم بدين الحق ولطفه بتشريع الصيام وما فيه من الفوائد وتيسيره عليكم وعلى نعمة الطعام والشراب إذ تلتفتون اليها يجوعكم وعطشكم. ولا يخفى ان الشكر المطلوب ليس من الأفعال الموقتة المنقطعة التي يسوق اليها التكليف كاو كمال العدة والتكبير بل هو عمل نفسي دائم كالتقوى والاهتداء يرجع إلى اختيار الإنسان يديم التفاته إلى نعم اللّه ومعرفة قدرها وفقره اليها وعجزه عنها فيختار الشكر الثابت. وذلك يحتاج إلى قوة في الاختيار وثبات عليه وعلى مجاهدة الأوهام المعارضة. ولأجل هذه النكتة جرى التعبير عن التعليل والغاية بقوله تعالى «ولعلكم تشكرون» وكذا نظائره مما قيل في تعليله «لعلكم» وأما مقدار
ص: 161
(184) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (185) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
-------------------------------------------------------------------
السفر الذي لا يصام فيه وصفته وصفة المرض فبيانه موكول إلى معرفته من السنة والاجماع في كتب الفقه (184 وإذا سألك عبادي عني فإني) اي فأخبرهم اني ونحو ذلك وهو العامل في إذا (قريب) باللطف والرحمة والاجابة. لأنه يجل عن المكان (أجيب دعوة الداع إذا دعان) ذكر الشرط مع انه معلوم مما قبله لأجل التنبيه على انه ما كل من يدعو اللّه لحاجته هو داع اللّه بحقيقة الدعاء اللّه من حيث الانقطاع وصدق التوجه إلى اللّه ومعرفته. ومن معرفته الاذعان بحكمته وسعة رحمته لعباده (فليستجيبوا لي) فيما دعوتهم اليه مما فيه صلاحهم وسعادتهم ورشدهم. وكأن هذه الجملة في مقام الشرط أي ان ارادوا أن أجيب دعوتهم فليستجيبوا لي (وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) أي ليرشدوا وقد سبق الكلام على مثله (185 أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) الرفث هنا هو الافضاء إلى النساء بالجماع (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) كناية عن شدة ارتباط المرأة والرجل في التمتع (علم اللّه أنكم كنتم تختانون انفسكم) وتوقعونها في فعل الحرام (فتاب عليكم) مما فعلتم (وعفا عنكم) أي عن تحريم الجماع في ليلة الصيام من شهر رمضان (فالآن باشروهن) الأمر للاباحة والمباشرة ايصال بشرة إلى بشرة وهي ظاهر الجلد كنى بذلك عن الجماع لأن المباشرة من مقدمائه اللازمة. والمراد من الآن ما بعد نزول الآية. والآية بنفسها تدل على ان الجماع كان محرما في ليلة الصيام مطلقا او في حال خاص. وان بعض المسلمين فعلوا المحرم وجامعوا فنسخ ذلك التحريم عفوا من اللّه. وفي الكافي في الصحيح مسندا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما حاصله كان الجماع والأكل والشرب محرمة في شهر رمضان على من نام أي بعد العشاء فاتفق لرجل انه نام فلما عمل في النهار في الخندق صار يغشى عليه فنزلت الآية. وفي تفسير القمي عن ابي--ه مرفوعاً عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه وزاد و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سراً فأنزل اللّه الآية. وروى نحو ذلك في الدر المنثور من طرف متعددة. وزاد انه أخرج ابن جرير وابن
ص: 162
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ
-------------------------------------------------------------------
المنذر في حديث عن ثابت وابن جرير وابن ابي حاتم في آخر عن ابن عباس. واخرج ابن جرير في ثالث عن ثابت ان من المجامعين بعد العشاء في زمان التحريم عمر بن الخطاب. ونحوه عن عبد الرحمن بن ابي ليلى. وعن كعب بن مالك عن ابيه (وابتغوا ما كتب اللّه لكم) أي لنوعكم من الذرية (وكلوا واشربوا) الأمر فيها للاباحة ويمتد امدها (حتى) غاية الجواز بنقطع بها (يتبين لكم) يوجد في الافق ويلزمه عادة ونوعا ان يتبين لنوع الناس فالغاية ان يكون الصبح بحيث يراه الصائم لا استيلاؤه عليه كما يأتي في الليل. وهذه الغاية هي غاية الرفث ايضا بإجماع المسلمين لأن حله مقيد بالليل وهو ينقطع بالفجر (الخيط الأبيض) وهو الفجر الصادق المعترض وفيه قوة التبين لا الكاذب المستطيل كذنب السرحان المبني على الخفاء و الاضمحلال وعلى ذلك اجماع المسلمين واحاديث الفريقين وقد جمع شطر منها في الوسائل والدر المنثور. وسمي بالخيط اشارة إلى ان الغاية ما يتبين حينما هو كالخيط (من الخيط الأسود) وهو ما حول الفجر من الليل (من الفجر) بيان للخبط الأبيض (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ثم اوج---دوا الصوم تماما إلى الليل وعطف بثم الجريان المادة بالفصل والتراخي بين انقطاع الأكل والشرب وبين الفجر محافظة على حدود جوازهما في الليل وحرمتهما بأول الفجر. والليل هو السواد والظلام المعاقب للنهار ولذا يقولون ليل أليل أي شديد الظلام او السواد. والغاية للصيام ان يغشي الليل الصائم ويصل اليه لا وجوده. فإنه موجود في كل زمان بحسب التناوب على البلاد ولا رؤيته والا لقيل حتى يتبين ونحو ذلك كما قيل في الفجر فالغاية إذن ان تذهب الحمرة المشرقية ويصل سواد الليل المعاقب لها إلى الصائم اي الى سمت رأسه فإن المشرق في جهة السماء مطل على المغرب فيكتسب من نور الشمس ما تظهر به الحمرة ويبقى به النهار إلى ان تحتجب الشمس شيئاً فشيئاً فيظهر الليل ويسري على وتيرة احتجابها حتى يصل إلى الرأس فلا يذهب النهار عن الصائم الا بذهاب الحمرة عن سمت رأسه. وعلى ذلك من روايات الإمامية رواية ابان عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايات ابان وعمار وابن شريح. ومرسلنا ابن اشيم وابن ابي عمير ومرفوعة المفيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). ولا ينافيها ما عبر فيه بغيبوبة الشمس وغروبها لما أشرنا
ص: 163
وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (186) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
-------------------------------------------------------------------
اليه. وهذا هو الذي يفقه مما اخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابو داود وابن جرير وعن ابن ابي شيبة والنسائي عن عمر قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إذا اقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد افطر الصائم. واخرج البخاري وابو داود وابن جرير عن عبد اللّه بن ابي او في بعدة اسانيد في حديث قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) إذا أقبل الليل من هاهنا وضرب بيده نحو المشرق افطر الصائم. وفي الدر المنثور اخرج أحمد وعبيد بن حميد وابن ابي حاتم والطبراني في حديث عن بشير بن الخصاصية قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وأتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا ولا يخفى انه عند وجود الحمرة المشرقية لم يقبل الميل من ناحية المشرق ولم يكن على الصائم ليل (ولا تباشروهن) أي لا تمس بشرتكم بشرتهن باللمس والتقبيل بشهوة وبالجماع مطلقا. وهذا مذهب الإمامية وعليه اجماعهم لاطلاق المباشرة و دلالة المقام على ان المراد منها ما يرجع إلى التمتع والتلذذ (وانتم عاكفون في المساجد) العكوف الاقامة في المكان والملازمة له واعتكف قصد العكوف وجعل نفسه عاكفا. وامر هذا العكوف وصفاته وشروطه الشرعية موكول إلى السنة ويعرف مدلولها من كتب الفقه (تلك) اي ما عرف في هذه الآيات من حرمة ما يجب الامساك عنه في الصوم وحرمته قبل الليل وحرمة تضييع العدة من الأيام الأخر وحرمة المباشرة للنساء على المعتكف (حدود اللّه فلا تقربوها) مبالغة في التحذير منها وامر بملازمة الواجبات المحدودة وعدم الميل عنها إلى جانب تلك الحدود (كذلك) البيان في هذه الأمور (يبين اللّه آياته) ودلائله (للناس) فيا فيه صلاحهم (لعلهم يتقون) اي ليتقوا وجيء بامل لما ذكرناه قريباً (186 ولا تأكلوا أموالكم) أي لا يأكل بعضكم اموال بعض (بينكم بالباطل) وغير المشروع ومنه القمار كما رواه في الكافي في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورو في الكافي ايضا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان من ذلك ان يكون عند المديون مال فينفقه على نفسه ولا يفي به دينه. ومنه ما في مجمع البيان مرفوعا عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أكل المال باليمين الكاذبة (وتدلوا بها) أي ترسلوها رشوة (إلى الحكام) كمن يدلي دلوه ليستخرج الماء
ص: 164
لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (187) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (188) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (189) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ
-------------------------------------------------------------------
(لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بأن ذلك محرم عليكم (187 يسألونك) یا رسول اللّه (عن الأهلة) قبل يسمى هلالا ايضا في ليلته الثانية وقبل في الثالثة وقيل حتى يستدير بخطة دقيقة وقبل إلى الليلة السابعة (قل) لهم ما ندركه عقولهم من حكمتها (هي مواقيت المناس) تميز لهم ما يحتاجون اليه في مهماتهم من مقادير الزمان و اوقاته بحسب الأشهر والسنين بتوقيت محسوس للعامة. بل ان الدور الذي تتكون به الأهلة يعرف الناس منه ساعات الليل بتدرج الهلال في الطلوع والغروب الى أن يصير بدرا ثم أن يعود هلالا (والحج) أي مواقيت الحج (وليس البر) وعمل الخير (بأن تأتوا البيوت من ظهورها) كناية عن تشريعاتهم الجهلية الاهوائية وزعمهم ان العمل بها بر (ولكن البر من اتقى) فانظر الى هؤلاء الذين اتقوا اللّه واخلصوا له في طاعته واتباع شريعته واعرفوا البر من اعمالهم. وفي الآية الخامسة والسبعين بعد المائة ذكرنا الوجه والفائدة في جعل «من» الموصولة خيراً للبر (وأتوا البيوت من ابوابها) والأمور من وجوهها واعمال البر من حيث أمر اللّه وشرع. وعن محاسن البرقي مسندا والعياشي مرفوعا عن جابر عن الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله عز وجل «واتوا البيوت من ابوابها» قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يؤتى الأمر من وجهه أي الأمور كان. ومن هذا الباب ما اتفقت عليه رواية الفريقين من قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انا مدينة العلم وعلي بابها (واتقوا اللّه) في أوامره ونواهيه فيما شرعه من الدين القيم وهذا هو البر (لعلكم تفلحون) أي لتفلحوا (188 وقاتلوا في سبيل اللّه) ونصر دين الحق (الذين يقاتلونكم) عناداً للدين (ولا تعتدوا) في القتال عن الحد المشروع (إن اللّه لا يحب المعتدين) وما أشد خسران الذي لا يحبه اللّه (189 واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي ظفرتم بهم (واخرجوهم من حيث اخرجوكم) وهي مكة المعظمة، ولا يكبر في قلوب الضالين قتالهم وقد عدوا على المسلمين يقاتلونهم لأنهم اسلموا من قبل ذلك واخرجوهم عن ديارهم في مكة وفوق ذلك انهم لا زالوا يجهدون في أن يفتنوا
ص: 165
أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (190) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (191) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (192) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ
-------------------------------------------------------------------
المسلمين ويصرفوهم عن دينهم بالعذاب مرة وبالقتال أخرى (والفتنة) وصرف المؤمنين عن دينهم واضلالهم (أشد من القتل) ضررا على نوع الانسان فإن الضال المضل جرثومة فساد في الارض كما قال جل اسمه في سورة البروج «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ» (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) ويشمل التحريم مكة وما هو حريم للمسجد (حتى يقاتلوكم فيه) أي في حرمه بقرينة قوله تعالى عند المسجد (فإن قاتلوكم) عند المسجد (فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) في اعتدائهم وهتكهم لحرمة المسجد الحرام (190 فإن انتهوا) قيل انتهوا عن كفرهم بالتوبة والإسلام، ويحتمل أن يكون المراد فإن انتهوا عن قتالكم فاغفروا لهم نحو قوله تعالى في سورة الأنفال «وان جنحوا للسلم فاجنح لها» (فإن اللّه غفور رحيم 191 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) في التبيان الفتنة الشرك وهو المروي عن ابي جعفر اقول ولعله باعتبار انه يسبب الافتتان إذ يسبب الضلال ويصرف عن الحق كقوله تعالى في سورة المائدة «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» (ويكون الدين اللّه) أي على الحقيقة المعقولة منه ليس فيه كفر ولا شرك ولا عبادات اوثانية ولا شرائع اهواء جاهلية فإن الدين في هذا المقام وامثاله عبارة عن روابط الانسان مع مقام الارامية من حيث الاعتقاد بما يرجع للاله ورسله وكتبه وعبادته والطاعة والشريعة (فإن انتهوا) في التبيان ومجمع البيان أي امتنعوا عن الكفر وأذعنوا للإسلام ويحتمل الانتهاء عن قتال المسلمين (فلا عدوان) عن حد السلم (إلا على الظالمين) المعتدين. وفي التبيان والبيان ان هذه الآية مؤكدة لمضمون الآية الأولى لا ناسخة لقيودها في القتال. وهذا هو الظاهر من سياق الآيات مع قوله تعالى (192 الشهر الحرام بالشهر الحرام) فمن قاتل المسلمين في شهر حرام قاتله المسلمون في شهر حرام كما ان من قاتلهم عند المسجد الحرام قاتلوه فيه (والحرمات قصاص) فاذا كان المشركون في
ص: 166
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (193) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (194) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ
-------------------------------------------------------------------
عداوتهم للتوحيد ودين الحق ومحادتهم للّه ورسوله لا يمنعهم عن عداوتهم وقتالهم للمسلمين حرمة للشهر الحرام ولا حرمة البيت الحرام فليس لهم أن يلوذوا بالحرمات بل يحتج عليهم بقصاصهم بذلك واما نفس الحرمات فلم تسقط ولا يقتص منها بجناية المشركين بل عارضتها حرمة اللّه في نصر توحيده ورسوله ودين الحق واحترام الحرمات. والأشهر الحرم هي رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ولعل الأصل في حرمتها شريعة ابراهيم كحرمة البيت فاستمر العرب على ذلك وامضاه الإسلام (فمن اعتدى عليكم) حدود الحق (فاعتدوا عليه) حدود السلم والمجاراة وافرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من» (بم بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وناصر هم (193 وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا) انفسكم (بأيديكم الى التهلكة) وهذا النهي عام لكل اقتحام في اسباب التهلكة ومظانها ولا بد من أن يكون النهي مقيداً بما إذا لم يكن في ذلك الاقتحام حياة الدين ونصرته كما في نهضة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في اول دعوته واقدام سيد الشهداء في امتناعه عن بيعة يزيد في مثل زمانه(وأحسنوا) اعملوا الحسن واطلبوه في افعالكم وتروككم على حد قوله تعالى في سورة الكهف «إنا لا نضيع أجر من احسن عملا» وغير ذلك (إن اللّه يحب المحسنين) لأعمالهم وتروكهم وما اعظم هذا التعليم الجامع للخير فإن احسان العمل والترك غير خفي وان غالطت فيه الاهواء بما لا يخفى على العقل من التدليس. ومن مصاديق احسان العمل ما جاءت فيه رواية الكافي. وعن العياشي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لو ان رجلا أنفق ما في يديه في سبيل اللّه ما كان احسن ولا وفق اليس يقول اللّه ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة واحسنوا ان اللّه يحب المحسنين أي المقتصدين. فإن المقتصد هو الذي عمل الحسن واحسن عمله وان معنى التهلكة. ومقام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقوله ما كان احسن وتفسيره المحسنين بالمقتصدين لا يدع مجالا للقول بأن مضمون الرواية قريب من تفسير التهلكة بالاسراف (194 وأتموا الحج والعمرة اللّه) العمرة منصوبة بالعطف على الحج والحج والعمرة عبادتان معروفتان قد ذكرت اجزاؤهما وشروطها في السنة
ص: 167
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
-------------------------------------------------------------------
ونظمتها كتب الفقه وإتمامها اللّه دليل على انهما عبادتان يعتبر فيهما الاتيان بهما اللّه تقرباً اليه والظاهر من مراجعة الحديث وسبك اللفظ ان قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة أمر وايجاب لا يجادهما تامين بأجزائهما وشروطهما المشروعة كقوله تعالى من احسن عملا أي اوجده حسنا وكقولهم. ضيق فم الركي. واطل جلفة القلم. وافرج بين سطورك. وكثير من ذلك فمن مدلول الآية إيجاب العمرة كما في صحيحة التهذيب عن زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج وذكر الآية ونحو صحيحة الكافي عن معاوية بن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصحيحة الملل عن معاوية عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصحيحة التهذيب عن الفضل ابي العباس عنه. وفي الدر المنثور اخرج ابن عيينة والشافعي في الأم والبيهقي عن ابن عباس وذكر نحوه. واخرج الحاكم عن زيد بن ثابت عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان الحج والعمرة فريضتان. وفي الكافي في الصحيح عن ابن اذينة في حديث عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى واتموا الحج والعمرة قال يعني بتمامها اداءهما واتقاء ما يتقي المحرم فيها ونحوه عن العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال في الكشاف في تفسير أتموا اثنوا بها تامين ثم بعد ذلك حمله على محض الأمر بإتمامها أي بعد الشروع فيها واختار كون العمرة غير واجبة واغرب في تأوله الحديثي ابن عباس وعمر. ثم قال بأن الأمر بالإتمام للوجوب والندب كما تقول صم شهر رمضان وستة من شوال تأمر بفرض وتطوع وقال في سورة المائدة في آية الوضوء ما معناه انه لا يجوز ان يكون الأمر للوجوب والندب لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية أقول وفي هذا الذي نقلناه عنه من التدافع والغرابة ما يعجب منه الناظر. وقد نبه عليه في زبدة البيان (فإن أحصرتم) في المصباح قال ابن السكيت وثعلب حضره العدو في منزله حبسه واحصره المرض بالألف منعه من السفر. وقال الفراء هذا هو كلام العرب وعليه اهل اللغة انتهى. ونقل نحو ذلك ايضا عن الكسائي وابي عبيدة وعن الفراء أيضا انه يجوز ان يقوم احدهما مقام الآخر ورده المبرد والزجاج. وفي الخلاف عن الفراء احصره المرض لاغير وحصره العدو واحصره معا. وقد تكرر في رواياتنا الصحاح وغيرها ان المحصور غير المصدود وانها يختلفان في بعض الأحكام كما في روايات زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن ابي نصر عن الرضا
ص: 168
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ
-------------------------------------------------------------------
(عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعاوية بن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفيها المحصور هو المريض والمصدود هو الذي برده المشركون كما ردوا رسول اللّه ليس من مرض. وفي الدر المنثور أخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابي حاتم من طريق ابراهيم عن علقمة عن ابن مسعود في الآية بقول إذا اهل الرجل بالحج فاحصر إلى ان قال فإذا بر الحديث وقال ابراهيم ذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث (فما استيسر من الهدي) اي فإن احصرتم ومنعكم المرض عن الاتمام فارسلوا لأجل ان يسوغ لكم التحال ما استيسر لكل بحسب حاله ووقته من الهدي من الابل او البقر او الشاة والمشهور عندنا ان من ساف الهدي ثم احصر كفاه ذلك لأنه مما استيسر. والهدي هو ما يهدى من النعم للذبح في مكة او منى (ولا تحلقوا رؤوسكم) أي لا تحلوا فإن الحلق أول الاحلال (حتى يبلغ الهدي محله) اي المحل المقرر له بالسنة في نوع ذلك النسك فإن كان حاجا فمحل الهدي منى وإن كان معتمرا بالعمرة المفردة فمحله مكة او بفناء الكعبة أو بالحزورة. واما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) واصحابه في عمرة الحديبية فقد كانوا مصدودين عن المسجد الحرام لا محصورين (فمن كان منكم) في حال الاحرام (مريضاً) يحتاج في مرضه إلى الحلق (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) في التهذيب بسنده عن عمر بن يزيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فمن عرض له اذى او وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحا فصيام ثلاثة ايام إلى ان قال والنسك شاة يذبحها الرواية. والأذى ما يؤذي ومنه القمل الكثير. فقد روى في الكافي في المعتبر والتهذيبين في الصحيح على الظاهر. وعن العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مر على كعب بن عجرة الأنصاري والقمل تتناثر من رأسه فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اتو ذيك هوامك قال نعم فأنزلت الآية فأمر رسول اللّه بحلق رأسه وجعل عليه الصيام ثلاثة ايام او الصدقة على ستة مساكين لكل مسكين مدان او النسك شاة وذكر في الفقيه والمقنع نحوه بقوله مر رسول اللّه الحديث. واخرج نحو ذلك من الجمهور أحمد وأصحاب الجوامع وغيرهم وزادوا ان ذلك كان في عام الحديبية (فإذا أمنتم) من الصد ونحوه (فمن تمتع) أي أحل وتمتع مايحرم
ص: 169
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ
-------------------------------------------------------------------
التمتع به على المحرم كالطيب والمخيط والنساء ونحو ذلك (بالعمرة) بسبب الاتيان بالعمرة واكمالها (إلى الحج) أي إلى احرام الحج. وقد شرع هذا التمتع في حجة الوداع وهو اظهر من ان ينكر ولا بأس بالإشارة إلى شيء من حديثه. فمن التهذيب والعلل في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما فرغ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من سعيه بين الصفا والمروة اناه جبرائيل عند فراغه من السعي فقال ان اللّه يأمرك ان تأمر الناس ان يحلوا إلا من ساق الهدي فأقبل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) على الناس بوجهه فقال أيها الناس هذا جبرائيل واشار بيده إلى خلفه يأمرني عن اللّه عز وجل أن آمر الناس بأن يحلوا الا من ساق الهدي فأمرهم بما أمر اللّه فقام اليه رجل فقال يا رسول اللّه تخرج من منى ورؤوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره فقال ابها الناس لو استقبلت من امري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس ولكني سقت الهدي فلا يحل من ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محله فقصر الناس واحلوا وجعلوها عمرة وقام اليه سراقة بن مالك المدلجي فقال يا رسول اللّه هذا الذي امرتنا به لعامنا هذا ام للأبد فقال بل للأبد إلى يوم القيامة وشبك بين اصابعه وانزل اللّه بذلك قرآنا «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» وهذا الحديث جزء مما جاء في الرواية الطويلة عن معاوية بن عمار عن الصادق عن الباقر عليهما السلام كما في الصحيح في الكافي والتهذيب. ورواها على طولها مسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة في جوامعهم واحمد في مسنده وغيرهم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ع----ن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن جابر. واخرج اصحاب الجوامع الست وغيرهم ان الناس قد كانوا أهلوا بالحج لا یرون غيره كما عن جابر وانس وابي سعيد والبراء بن عازب وابن عباس واسماء بنت ابي بكر. بل وعائشة من طرق الاسود وعمره ومحمد بن القسم. وقد كثرت الرواية في أمر الاحلال والتمتع لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لو استقبلت من امري ما استدبرت لما سقت الهدي و لفعلت كما فعلتم. او كما امرتكم. او احل كما احلوا. وفي بعضها اني لأبركم واصدقكم واتقاكم ولولا اني سقت الهدي إلى آخره. اخرجه مسلم والنسائي والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه. وفي رواية الطبراني عن جابر انتهموني وانا امين أهل السماوات والأرض اما اني لو استقبلت الحديث. وممن روى ذلك من طريق الجمهور جابر والبراء وانس وعائشة وحفصة. وروي جابر في
ص: 170
حديثه الطويل في الحج وابن عباس وابن عمر وسراقة بن مالك وابن اخ الجبير بن مطعم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما في جوامع مسلم وابي داود والنسائي والترمذي و مسند احمد وابن عدي والطبراني والبغوي. وقد تكررت هذه المضامين مجتمعة ومتفرقة في المسانيد وجوامع الحديث الستة وغيرها مروية عن عدة كثيرة من الصحابة. ولا يخفى ان شرعية هذا التمتع والاحلال المطلق كما هو مدلول الأحاديث من الفريقين عليها اجماع الصحابة وعامة المسلمين في جميع الأعصار ولم يقل احد بنسخها نسخاً شرعيا. وقد استمر العمل عليها بفتيا جميع العلماء في جميع الأعصار. نعم وقمت في بعض الأحاديث بعض الشواذ فينبغي التنبيه عليها في ضمن امور
«الأول» ان هذه الآية التي شرع بها حج التمتع والاحلال مقيدة بالأمن وان المسلمين في حجة الوداع كانوا على أعز جانب من القوة والأمن وكانت جزيرة العرب إذذاك خاضعة لسلطان الإسلام متمتعة بأمنه العام وسلطة عدله القاهرة. واخرج البخاري عن حارثة ابن وهب الخزاعي صلى بنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ونحن اكثر ما كنا قط وأمنه بمنى ركعتين : فمن الشواذ ما يروى في جوامع الجمهور عن بعض الصحابة انه منع من متعة الحج فاحتج عليه امير المؤمنين(عَلَيهِ السَّلَامُ) بأنها سنة رسول اللّه التي سنها في حجة الوداع فاعتذر وقال نعم ولكن كنا خائفين كما اخرجه مسلم واحمد وابو عوانة والصحاوي والبيهقي
«الثاني» روى في الجوامع السنة وغيرها ان اصحاب رسول اللّه كانوا في حجة الوداع جميعا حتى عائشة قد أهلوا بالحج لا يرون غيره كما عن جابر وابن عباس وابي سعيد وابن عمر وأنس واسما بنت ابي بكر بل وعائشة من طرق الأسود وعمره ومحمد بن القسم. فمن الشاذ ما تفردت به الرواية عن عروة عن عائشة من ان الناس أهل بعضهم بالحج وبعضهم بالعمرة وهؤلاء هم الذين أمروا بالاحلال والتمتع. وان عائشة كانت مهلة بالعمرة
«الثالث» روي من طريق الإمامية عن اهل البيت وجابر ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة. ورواه الجمهور في جوامعهم ومسانيدهم كما تقدم. وروى الإمامية عن اهل البيت وجابر ايضا ان سراقة بن مالك قال يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به يعني الاحلال بعد العمرة إلى الحج لعامنا هذا أم الى الأبد فقال بل للأبد الى يوم القيامة. وروى الجمهور في جوامعهم ومسند احمد وغيره نحوه عن جابر وسراقة وعلى ذلك
ص: 171
عمل المسلمين وفقهائهم. واخرج مسلم واحمد عن ذكوان عن عائشة ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دخل عليها وقد كان غضبان لأنه أمر الناس بالحل فتردد بعضهم. واخرج احمد عن البرا ورواه كنز العمال عن النسائي عن البراء نحوه. واخرج البخاري واحمد والنسائي وغيرهم عن علي امير المؤمنين ان المتعة سنة رسول اللّه فلا يدعها لقول احد من الناس واخرج احمد ومسلم انه قيل لابن عباس في الاحلال بعد العمرة فقال سنة نبيكم وان رغمتم. وفي حديث اخرجه احمد والبخاري ومسلم اللّه اكبر سنة ابي القاسم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وإذا أحطت بما ذكرنا عرفت انه من الشواذ ما اخرجه مسلم وغيره عن ابي ذر ان المتعة في الحج كانت لأصحاب محمد خاصة ونحو ذلك كما اخرجه مسلم او للركب الذي كان مع رسول اللّه كما اخرجه ابو داود والنسائي نعم ان كان المراد من ذلك اخراج حاضري المسجد الحرام من مشروعية المتعة جرت الرواية على مقتضى الكتاب والسنة واجماع المسلمين. ومن الشواذ ايضا ما اخرجه مسلم انه كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبيرينهى عنها. فذكرت ذلك الجابر فقال على يدي دار الحديث تمنعنا مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فلما قام عمر قال ان اللّه كان يحل لرسول اللّه ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله وأتموا الحج والعمرة اللّه كما أمركم اللّه وابنوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة الى أجل إلا رجمته بالحجارة، وليت شعري ما هو المراد بقول القائل ان اللّه كان يحل لرسول اللّه ما شاء بما شاء. وهل كان الأمر بالاحلال نقضاً لأمر اللّه بإتمام الحج والعمرة ومخالفة له ولئن كان نقضاً فلماذا لا يكون نسخا بهذا النحو خصوصا مع قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت وقوله دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لسراقة الى الأبد. ومن الشواذ ايضا ما اخرجه احمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في اشهر الحج وقال فعلتها مع رسول اللّه وانا أنهى عنها وذلك ان احدكم يأتي الى آخر الرواية. ولم تذكر فيها إلا آراء لا تروج في الاستحسان فضلا عن مقاومة الشريعة. ومثل ذلك ما اخرجه احمد ومسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابي موسى انه سئل عمر عن نهيه عن التمتع فقال قد علمت ان رسول اللّه فعله واصحابه ولكن كرهت ان بظلوا بهن معرسين تحت الأراك ثم يروحون الى الحج تقطر رؤسهم. وما اخرجه احمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابي موسى ان عمر قال في ذلك ان تأخذ بكتاب اللّه فإن اللّه قال وأتموا الحج والعمرة اللّه وان أخذنا بسنة رسول اللّه «وفي
ص: 172
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
-------------------------------------------------------------------
رواية من روايات البخاري وان أخذنا بقول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)» فانه لم يحل حتى بلغ الهدي محله انتهى وقد سبق الكلام في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة اللّه. واما السنة فيا سبحان اللّه هل من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لأمته إلا ما اتفق عليه حديث المسلمين وإجماعهم من التمتع والحل وانه سنة الى الأبد. وان العمرة دخلت في الحج الى يوم القيامة. وهذا الدخول مع الاحلال يبين ان كلا من العمرة والحج يقع تاما في الشريعة بهذا الوجه وأما فعله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فقد كان موقتا مختصا بمن ساق الهدي في تلك السنة كما يحدده قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لو استقبلت من أمري ما استدبرت. دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لسراقة بل الى الأبد (فما استيسر من الهديه) من البدنة أو البقرة او الشاة وهو نسك لا جبران كما قال الشافعي (فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام) متواليات (في الحج) وهي يوم التروية وما قبله ويوم عرفة وعليه اجماع الإمامية ورواية الفريقين ولو فاته ذلك لم يصمه ايام التشريق. وفي الخلاف عليه اجماع الإمامية انتهى. وعلى ذلك روايات كثيرة وفي صحيح ابن سنان ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) استشهد لذلك بأن بديل ابن ورقاء أمره رسول اللّه بأن ينادي بمنى في الناس ان لا يصوموا ونحوه صحيح سليمان بن خالد وابن مسكان عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ونحوه في خبر عبد الرحمن بن الحجاج عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في التهذيبين ومعاني الأخبار. واخرج احمد ومسلم عن نبيشة الهذلي قال قال رسول اللّه ايام التشريق ايام أكل وشرب. وعن كعب بن مالك ان رسول اللّه ارسله واوس بن الحدثان ايام التشريق فنادى ايام منى ايام أكل وشرب. واخرج احمد والنسائي عن حمزة الأسلمي ان منادي رسول اللّه ينادي بمنى ورسول اللّه شاهد لا تصوموا هذه الأيام فإنها ايام أكل وشرب. واخرج احمد والحاكم وصححه على شرط البخاري ومسلم عن بديل بن ورقاء ان النبي بعثه على جمل أورق وأمره أن يتخلل الفساطيط وينادي في الناس ايام منى الا لا تصوموا فإنها ايام أكل وشرب وبمال. وعن الطيالسي عن أنس والبيهقي عن ابي هريرة نهى رسول اللّه عن صوم ايام التشريق. وهؤلاء المنادون أعرف بما أمروا به وما نادوا به فلا يعارضهم ما أخرجه البخاري وابن جرير عن عائشة وابن عمر من الرخصة في صيامها لمن لم يجد الهدي مع انهما لم يسندا الرخصة الى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بل هو أشبه بالاجتهاد كما اخرج البخاري ان
ص: 173
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
-------------------------------------------------------------------
عائشة كانت تصومها وكان أبوه او أبوها يصومها (وسبعة إذا رجعتم) الى أهاليكم والسر في هذا التعبير دون قوله تعالى إذا رجع هو ان من أقام بمكة يقدر له رجوع اصحابه الى بلده كما عليه فتوى الإمامية واحاديثهم. ومنها صحيحة التهذيب عن معاوية بن عمار وفيها ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) روى ذلك عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ويحتمل ايضا النظر الى اعتبار الرجوع بالنفر العام في الثالث عشر من ذي الحجة بمعنى ان من رجع الى اهله بالنفر الأول لم يصح منه صوم الثالث عشر عند اهله) تلك (أي الثلاثة في سفر الحج والسبعة عند الرجوع (عشرة) تعد عند اللّه نسكا واحداً لا يضر فيها الفاصل الطويل ولا الاتيان بالسبعة في غير مناسك الحج وغير اشهره ولا الصوم في السفر (كاملة) في النسك كمال الأضحية والهدي (ذلك) أي التمتع بالعمرة الى الحج (لمن لم يكن أهله) باعتبار وطنه ومسكنه (حاضري المسجد الحرام) م---ن الحضر بفتحتين والحضارة المخالفين للبدو والبداوة أي من لم يكن من أهل مكة وقراها وما ينسب عرفا اليها بحيث لا يعد القاطن هناك من البادين عن المسجد الحرام بل من اهل حضره وحاضريه. وقد اجمع المسلمون على ان من كان في الحرم فهو من حاضري المسجد الحرام وان بلغ من جهة المشرق اثني عشر ميلا. والمظنون ان الميل منها ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع بذراع اليد لكن بعضا من الإمامية قدر الحد الحاضر المسجد الحرام من كل جهة من جهاته بما لا يبلغ اثنى عشر ميلا ولا دليل عليه والروايات الصحيحة صريحة في خلافه. ومنها ما ذكر فيها ان اهل مر الظهران من حاضري المسجد فإنه عن مكة بمرحلة. والمروي الذيب لا يقبل التأويل هو ما لا يبلغ ثمانية واربعين ميلا للنص على ان اهل عسفان وذات عرق من حاضري المسجد الحرام. وبعد المكانين عن مكة اكثر من ثلاثين او اربعين ميلا. وفي بعض الروايات ان اقرب المواقيت خارج عن هذا الحد. وذهب ابو حنيفة واصحابه الى ان حاضر المسجد الحرام من كان داخلا في المواقيت وينبغي ان يريدوا بها يلملم وقرن المنازل وما ساواهما في البعد دون مسجد الشجرة او الجحفة. وقال الشافعي من لا يبلغ مسافة قصر الصلاة نظراً الى ان مسافة القصر تكون سفرا عن مكة لا حضراً قلت لو أخذنا الحضر في اللغة
ص: 174
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (195) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
-------------------------------------------------------------------
مقابل السفر لكانت مسافة عشرة اميال ونحوها سفراً لغويا وعرفها وضربا في الارض وما التحديد في القصر إلا تحديداً لبعض اقسام السفر وقال بعضهم من كان في الحرم (واتقوا اللّه) بطاعته فيما أمرتم به او نهيتم عنه في أمر الحج واحكامه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) على مخالفة الشريعة في ذلك فإنه شرع الحج بهذه الحدود لطفا بكم فإنه غني عن عبادتكم ومن لطفه أن يشدد عليكم بالوعيد على المخالفة لما يعلمه من عبث الأهواء بكم (195 الحج) أي وقت الحج والذي يصح فيه (اشهر معلومات) معينة ولئن كان المشركون ينستونها الى اشهر أخر فإنما النسي زيادة في الكفر. وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غيرها. نعم كل ذي الحجة وقت ببعض الاعتبارات لبعض الاجزاء كشوال وذي القعدة. قال في التذكرة وعليه اكثر علمائنا. وهو الظاهر مما روي في الكافي والفقيه والتهذيب عن سماعة ومعوية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انها شوال وذو القعدة وذو الحجة. ونحوه ما رواه في الكافي والتهذيب ع----ن زرارة عن الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور وغيره كالبيهقي والبخاري في احاديث مسندا ع----ن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انها شوال وذو القعدة وذو الحجة كما في احاديث ابي امامة وابن عباس وابن عمر. وصريح قول الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان جعفر «يعني الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)» يقول ذو الحجة كاله من اشهر الحج. كما رواه في التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج ورو نحوه في تفسير البرهان اخذاً من تفسير العياشي وكذا صريح قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في شمولها لما بعد ايام التشريق في صوم الثلاثة في بدل الهدي حينئذ انا اهل بيت نقول ذلك لقوله تعالى فصيام ثلاثة ايام في الحج يقول في ذي الحجة. كما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن كالصحيح او الصحيح عن رفاعة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويؤيده ما رواه في الوسائل والبرهان أخذا من تفسير العياشي عن حفص بن البختري عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وربعي عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ). والمراد في الآية ان مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من افعال الحج أي يصح بعض الاجزاء فيها كالاحرام الذي هو جزء من أحد النسكين الحج والعمرة وان اختصت بعض الأفعال بيوم عرفة وما بعده. فلا يجوز أن يقدم احرام الحج على الأشهر المذكورة باجماع الإمامية وحديث اهل البيت وبذالك قال عطا ومجاهد وطاووس والشافعي. وفي الدر المنثور
ص: 175
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
-------------------------------------------------------------------
ذكر جماعة رووا ذلك منهم الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والشافعي وغيره عن جابر موقوفاً، والاحرام جزء من الحج والحج أشهر معلومات. وحكى في التذكرة عن مالك والثوري والنخعي وابي حنيفة واسحاق واحمد ان الاحرام ينعقد قبل الأشهر المذكورة فإذا بقي على احرامه الى اشهر الحج جاز للحج. تشبثا منهم بقوله تعالى «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» ويرده ان كون الأهلة كلها مواقيت للناس والحج إنما هو باعتبار مجموع الحوادث المناس والحج فإنها إنما تكون مواقيت للحج والناس في حوادثهم وأمورهم إذا امتازت بعض الأهلة عن بعض باعتبار الوقوع او البداية او النهاية وإذا لم يمتز بعض الأهلة عن بعض في التوقيت كان الزمان كله ظرفا ليس فيه وقت ولا ميقات فلا تكون الأهلة مواقيت. ولو تنزلنا لكان قوله تعالى الحج اشهر معلومات نصا على التعيين كنص السنة على تعيين التاسع والعاشر من ذي الحجة على بعض اعماله. وعمرة التمتع كالحج لا يقع شيء منها في غير الأشهر المذكورة باجماع الإمامية وحديث اهل البيت وما رووه عن جدهم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دخلت العمرة في الحج الى يوم القيامة كما أسنده الجمهور في جوامعهم ومسانيدهم عن خمسة من الصحابة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما أشرنا اليه انفاً. فإذا كانت داخلة فيه كانت موقتة بوقته وان الاحرام الذي جعله للعمرة المتمتع بها إلى الحج كان في ذي القعدة ولم يرد ما يجوز تقديمه على شوال. وقد اجمع المسلمون على انه لا يجوز أن تقدم عمرة التمتع على اشهر الحج بجميع اعمالها. لكن في التذكرة عن ثاني قولي الشافعي إذا أحرم بالعمرة في شهر رمضان وأتى بباقي اعمالها في شوال وحج من سنته كان متمتعا. وقال ابو حنيفة ويجوز ايضا ان يقدم من اعمالها على أشهر الحج الى ثلاثة اشواط من طوافها. ولعل أبا حنيفة يتشبث لتقديم احرامها بما يتشبت به لتقديم احرام الحج وقد عرفت ما فيه. ويبقى قول الشافعي هنا وتقديم الأشواط الثلاثة ونحوها ليس له ما يتشبث به (فمن فرض فيهن الحج) اي جعل اتمامه فرضا واجبا عليه عقده للإحرام بالتلبية او اشعار الهدي او تقليده كما في صحيحة الكافي عن معاوية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويدخل في ذلك الإحرام من المواقيت في حج التمتع الدخول العمرة في الحج (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) اي ان الحج بطبيعته
ص: 176
ومصلحة تشريعه يأبى هذه الأمور. وتقدير الكلام فمن فرض فيهن الحج فلا يأت في حجه برفت ولا فسوق ولا جدال لأنه لا رفت ولا فسوق إلى آخره فحذف جواب الشرط لدلالة هذه الجملة المذكورة عليه دلالة يكون ذكره معها من فضول الكلام، وجيء بالجملة الخبرية. وصرح باسم الحج في قوله جل شأنه في الحج» لا يضاح ان الحج بذاته ينافر هذه الأمور. وليعرف ان عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض الحج بل هو غرض يريد الشارع تحصيله من المكلفين حتى في مورد لا يكون فيه من غير هذه الجهة منكر يجب النهي عنه وأثم تحرم المساعدة عليه كما لو اكره المحل بحق الزوجية زوجته على وطئها في حجها الواجب أو المستحب بإذنه أو المولى أمته في حجها باذنه. او طاوعت المحلة زوجها غير البالغ على وطئها في حجه وما اشبه ذلك. فإنه بمفاد الآية والغرض يراد من كل مكلف عدم حصوله كمنعه ان كان لمنعه أثر وعلى ذلك جاءت صحيحة اسحاق بن عمار عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ان المولى المحل إذا كان عالما بأنه لا ينبغي له ان يطأ امنه في حجها باذنهِ كان عليه الكفارة كما افتى الأصحاب على اطلاقها سؤالا وجوابا بل الظاهر انه لا يخفى عليه ان وطأها مع رضاها لا ينبغي له لأنه اعانة على الإثم. ولو قيل ولا جدال فيه لاحتمل عود الضمير إلى ذلك الحج المفروض من حيث انه فرضه على نفسه وما يرجع إلى تكليفه الخاص به لا من حيث منافرة ذات الحج لهذه الأمور وإن كان بعضها حلالاً في غيره كجماع الزوجين وقول لا واللّه وبلى واللّه في مقام الصدق. هذا وفي التبيان وغيره الرفث عند اصحابنا كناية عن الجماع قلت وهو احدث روايات الجمهور عن ابن عباس عن رسول اللّه ورووه ايضا عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير موقوفا. والحجة لأصحابنا فيه اجماعهم وما في الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الرفث الجماع. والفسوق الكذب والسباب. والجدال قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه ونحوه ما روى في الفقيه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلا انه لم يذكر السباب. ونحوه ايضا ما روي في التهذيب عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) الا انه ذكر المفاخرة بدل السباب. ولعل ذكر السباب والمفاخرة كان رعاية لبعض الوجوه باعتبار الغالب من اشتمالها على الكذب ويشهد لذلك خلوّ رواية الفقيه منهما وخلو رواية الكافي من المفاخرة وخلوّ رواية التهذيب من السباب وكلها في مقام البيان. وايضا ان الجماع هو المتيقن من الرفث في التفسير مع شهادة قوله تعالى فيما سبق «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» ولئن ذكر له في كتب اللغة معان أخر فهي على سبيل الاحتمال، والأصل فيه البراءة (وما تفعلوا
ص: 177
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (196) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
-------------------------------------------------------------------
من خير يعلمه اللّه) ويوفكم جزاء كم وهو العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين (وتزودوا) من تقوى اللّه والأعمال الصالحة. والزاد ما يعد من الطعام لحاجة السفر كني به هنا عن الاستعداد للآخرة (فإن خير الزاد) مما يعتني الإنسان بنزوده وبعده لضرورته ويراه واجبا لازما لحاجته إنما هو (التقوى) اللّه والعمل بأوامره ونواهيه. ولعمري ان التفريع بالفاء ليوضح الرد لما ذكر في تفسير الآية من ان قوما كانوا يرمون ازوادهم ويتسمون بالمتوكلين فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تلقوا كالكم على الناس. ولئن ذكرت بذلك رواية عن ابن عباس وغيره كما احصاء في الدر المنثور فإن عرضها على كتاب اللّه في تفريع الآية بالفاء يعرفك وهاهنا (واتقون) عطف تفسير على تزودوا فائدته البيان والتأكيد (يا أولي الألباب) الذين يعرفون بعقولهم حاجتهم إلى التزود بالأعمال الصالحة ووجوب تقوى اللّه وما للتقوى من فضل الغاية العظمى (96اليس عليكم جناح) في (ان تبتغوا فضلا من ربكم) في تفسير البرهان عن تفسير العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير الآية قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعني الرزق فإذا أحل الرجل من احرامه وقضى نسكه فليشتر وليبع انتهى. ويكون وجه المناسبة في السياق في هذه الجملة هو الاستدراك ورفع ما يتوهم بسبب تحريم الرفث والجدال والأمر بالتقوى والحث عليها فلا بأس في ان يكتسب ما هو زائد نوعا عما اعد من المال لسفر الحج. وروى في ذلك ونحوه في الدر المنثور عدة احاديث. وفي التبيان روى عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لا جناح عليكم ان تبتغوا فضلا من ربكم معناه ان تطلبوا المغفرة. وفي مجمع البيان رواه جابر عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ). ولعل ذكر المغفرة باعتبار انها المصداق الأهم لنوع الإنسان مما يبتغي حينئذ من اللّه. ووجه المناسبة في السياق هو انه بعد الترغيب في النقوى وملازمة الحدود في الواجبات والمحرمات اقتضى اللطف ان يرغب في الازدياد من الخير ومنه طلب المغفرة بأسبابها فجرك الترغيب بنحو الاحتجاج بثبوت المقتضي وعدم المانع فإن المقتضي لابتغاء الفضل من اللّه بديهي عند العقل والعقلاء ولبس في ذلك مانع ولا على المبتغي جناح. واي جناح عليه في ذلك فابتغوه واغتنموا فيه الفرص(فإذا
ص: 178
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (197) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ
-------------------------------------------------------------------
أفضتم من عرفات) الافاضة جعل الشيء فائضا من فيض الماء اي فإذا أفضتم جمعكم تشبيها لاندفاع بجمع الكثير في رحيلهم لساعتهم بعد العصر دفعة بفيض الماء المنبعث في ابتدائه من عرفات يقال افاض الحديث اي افاض كلامه فيه. وعرفات هو الموقف المعروف وفيه نسك اليوم التاسع. وفي التعبير بالافاضة دلالة على ان الموقف في عرفات له مكث محدود الوقت يجتمع فيه الناس ثم يرحلون بأجمعهم كالماء الفائض وان عرفات منشأ هذه الافاضة وفيض الجمع. وصرفت عرفات مع العلمية والتأنيث لأنها بصيغة الجمع فحمات عليه (فاذكروا اللّه) بالصلاة والتقرب اليه بطاعته في النسك والوقوف (عند المشعر الحرام) وهو المزدلفة وجميع وسمي مشعراً لأنه محل لنحو من شعائر اللّه. وإذا جعلت جملة «فاذكروا» لبيان الوظيفة بمنزلة الجملة الخبرية جازان يراد بالذكر ما يعم المستحب. ثم اكد اللّه الترغيب بذكره والاقبال عليه ببيان الاحتجاج والتذكير باستحقاقه شكراً لنعمته العظمى فقال جات آلاوه (واذكروه كما هداكم)، وانعم عليكم بالهدى تلك النعمة الجليلة (وإن كنتم) الواو للمحال «وان» مخففة من الثقيلة تفيد التأكيد بمعنى وقد كنتم (من قبله) اي من قبل الهدى المدلول عليه بقوله هداكم (لمن الضالين) ولا تجعلوا المشعر سبيل عابر من عرفات إلى منى كما كانت قريش تقترحه بنشر يعهم وجبروتهم على سائر العرب بل قفوا فيه للنسك بحيث يكون اندفاع جمعكم منه بعد الوقوف فيه افاضة منه كالافاضة من عرفات واذكروا اللّه فيه (197 ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) العاملين على شريعة الحج بحقيقتها وهو ابراهيم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي أتى بشريعة الحج واسماعيل واسحاق ومن كان بعدهم من المتبعين لهذه الشريعة. جاء فيما أشرنا اليه آنفا من الكافي والتهذيب في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن جابر في ذكره لحج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ثم غدا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أي من منى والناس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع «أي لا يقفون في عرفة فتكون لهم منها افاضة بل يقفون في المشعر وتكون منه افاضتهم» ويمنحون الناس من ان يفيضوا منها «أي من المزدلفة يعني انهم لا يدعون الناس بعد افاضتهم من عرفات ان يقفوا في المزدلفة لكي يكون لهم منها افاضة ايضا بل لا يكون لهم
ص: 179
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (198) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
-------------------------------------------------------------------
إلا الاستطراق» فأقبل رسول اللّه وقريش ترجو ان تكون افاضه من حيث كانوا يفيضون «اي لا يمضي إلى عرفة بل يمكث في المزدلفة وتكون منها افاضته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)» فأنزل اللّه عليه ثم افيضوا من حيث افاض الناس واستغفروا اللّه يعني ابراهيم واسماعيل واسحاق في افاضتهم ومن كان بعدهم الحديث. ولا ينبغي الريب في ان مرجع الضمير في منها هو المزدلفة إذ لم يسبق في بعدهم الحديث ادنى ذكر او إشارة الى عرفات. وفي تفسير البرهان آخذاً من تفسير العياشي ذكر خمس روايات تذكر ان المراد افيضوا من عرفات. نعم فيها ما يؤيد حديث جابر في ان قريشا منعوا الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة اي منعوهم من أن يمكثوا فيها عند رجوعهم من عرفة لكي تتحقق لهم الافاضة من المزدلفة. ولكن في تلك الروايات اختلاف فإن بعضها يذكر ان المأمور بالإفاضة من حيث افاض الناس هم قريش وبعضها انه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) و كذا ما احصاء في الدر المنثور في رواياتهم والكل لا يقوى على المقاومة لحديث جابر المنتصر برواية الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) والباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) له فإن ذلك تصديق منهما (عَلَيهِ السَّلَامُ) له. وينافيها ويردها أيضا سياق الآية والعطف فيها ثم. ولا يجدي في ذلك ما ذكره في الكشاف وغيره بالقياس الواهي. نعم في مجمع البيان انه قد روى اصحابنا ان هاهنا تقديما وتأخيراً تقديره فليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ثم أفيضوا من حيث افاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه. الآية. ولم أجد الرواية عاجلا لنرى سندها و او كانت عن إمام لذكره في المجمع على عادته فالحكم لبيان رواية الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) والباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن جابر المعتضدة بترتيب القرآن المتسالم عليه. وفي النبيان ذكر القول بأن الآية خطاب لجميع الحاج ان يفيضوا من حيث أفاض ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من مزدلفة وقال انه شاذ و عامل شذوذه بكلام مضطرب عهدة اضطرابه على النساخ وحاصله الاعتراض على كون المراد بالناس ابراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحده وقد عرفت ان رواية جابر ترفع هذا الاعتراض واما دعوى الاجماع على خلاف هذا القول فاعلها ناظرة إلى المروي عن ابن عباس وعائشة وعطا ومجاهد والحسن وقنادة وبعض المفسرين ولا حجة فيه وكيف كان فلا اجماع وبالنظر الى مجمع البيان يظهر ان نساخ التبيان خلطوا بين قولي الضحاك والجبائي. وظني ان في عبارة التبيان سقطا (واستغفروا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 198 فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) أتيتم بها و فرغتم
ص: 180
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (199) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (200) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (201) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ
-------------------------------------------------------------------
منها والمناسك هناك أفعال الحج لأنها ينسك بها اللّه (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ان من عادة الناس وخصوص العرب ان لا يغيب آباؤهم عن ذكرهم بالافتخار بهم والاطراء بمحاسنهم واحسانهم أو القسم بهم ونحو ذلك. فالمعنى العام في الآية ان لا تغفلوا عن ذكر اللّه بعد اداء المناسك. واولى ما يحتج عليهم في ذلك هو انهم لا يغفلون عن ذكر آبائهم إذن فكيف يغفلون عن ذكر اللّه بما هو اهله وهو الاوله العظيم وله المجد والجلال وهو خالقهم وكل نعمة عليهم حتى التي من آبائهم هي منه جلت آلاؤه بل ينبغي ان يكون ذكرهم اللّه اشد من ذكر الآباء بنحو يناسب جلال اللّه ونعمائه. وجاء في التفسير في الروايات ببيان بعض المصاديق العادية في ذكرهم لآبائهم. ففي صحيحة الكافي عن منصور بن حازم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم كان ابي كذا وكذا فقال اللّه وإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباء كم. ونحوها ما رواه العياشي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجملة مما رواه في الدر المنثور. هذا وان ذكر اللّه حق الذكر يساوق ملازمة التقوى ولكن احوال الناس مختلفة يكونون فيها على اصناف ذكر في الآيات بعضها (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا) وقد اعرض عن الآخرة ونسبها (وماللّه في الآخرة من خلاق) أي من نصيب لأنه أعرض عنها ولم يعمل لها ولم يسأل شيئا من خير ها (199 ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا) نعمة (حسنة وفي الآخرة (نعمة (حسنة وقنا عذاب النار) وفي الكافي في صحيحة جميل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) رضوان اللّه والجنة في الآخرة والمعاش وحسن الخلق في الدنيا (200 أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) «من» في «مما» بيانية فإن ما سألوه لا ينال بمحض الدعاء (واللّه سريع الحساب) لعباده من الصنفين المذكورين (201 واذ كروا اللّه في ايام معدودات) وهي ايام التشريق كما في صحيحتي الكافي عن محمد بن مسلم ومنصور بن حازم وصحيحة التهذيب عن حماد بن عيسى عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 181
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى
-------------------------------------------------------------------
كصحيحتي الوسائل عن قرب الاسناد عن حماد عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونحوهما روايات العياشي ورواية الدر المنثور عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. وذكر اللّه هو التكبير كما في صحيحتي محمد ومنصور المشار اليهما. وصورته المتفق عليها بين المسلمين كما ذكره في التبيان. اللّه اكبر. اللّه اكبر لا اله الا اللّه واللّه اكبر اللّه اكبر وللّه الحمد. وزاد اصحابنا تبعاً للروايات عن المتهم اهل البيت وجمعاً بينها. اللّه اكبر على ما هدانا والحمد للّه على ما اولا نلورزقنا من بهيمة الأنعام. وهو مستحب على المشهور لصحيحة علي بن جعفر عن اخيه الكاظم قال سألته عن التكبير في ايام التشريق اواجب اولا قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) مستحب و ان نسي فلاشى عليه فالامر في الآية للاستحباب ووقته بعد كل فريضة من صلاة الظهر يوم النحر الى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر. فيكون خمسة عشر تكبيراً ولمن ينفر بالنفر الاول بعد الزوال فيكون عشر مرات. واختلف كلام الفقهاء من الجمهور في عدده ولكن مالكاً والشافعي في احد اقواله وانما اصحابنا (فمن تعجل في) ضمن (يومين) من تعجل الدين اي تعجل مقامه بمنى في ضمن يومين بتعجل غايته فنهر النفر الاول. ولو كان بمعنى استعجل وعجل او للمطاوعة كما في الكشاف لدلت الآية على جواز النفر في اليوم الأول منها ايضا وهو باطل باجماع المسلمين. ولاجل جعل التعجل في ضمن يومين اشترط أصحابنا وفقها، اهل السنة الا ابا حنيفة واصحابه كونه قبل الغروب من اليوم الثاني فلو امسى حرم عليه النفر الاول (فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه) لهذه الجملة ظاهر لا محاجة الى بيانه لأن في رواية الكافي عن اسماعيل بن نجيح رد عليه ولأن الاحاديث عن الفريقين جاءت على خلافه وهو ان المراد غفرت ذنوبه. منها صحيحة الحلبي في قوله تعالى الحج أشهر معلومات وصحيحة عبد الأعلى ورواية ابن عيينة ورواية ابن نجيح ورواية العياشي عن معاوية ابن عمار وعن ابي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواه في الدر المنثور عن علي امير المؤمنين(عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن مسعود وابن عمر وابن عباس في احدى الروايتين فيكون حاصل المراد من الآية الكريمة فمن أتم حجه بالتعجل او التأخر غفرت ذنوبه فإنه لا أثر لخصوص عنواني التعجل والتأخر في غفران الذنوب. ومن هذا الوجه وكون التعجل اتماما للحج يعرف جوازه وانه (لمن اتقى) النساء والصيد كما هو المشهور بين الإمامية باعتبار الاختصاص بالأمرين المذكورين والمجمع عليه
ص: 182
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (202) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (203) وَإِذَا تَوَلَّى
-------------------------------------------------------------------
باعتبار الدخول في كل ما يحرم على المحرم كما عن ابن سعيد او ما يوجب عليه الكفارة كما عن ابن ادريس وابي المجد كما ورد في خصوص النساء والصيد صحيحة حماد بن عثمان وروايته الأخرى كما في التهذيب وصحيحة جميل ومعتبرة ابن المستنير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وب--ه جاءت احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس والمراد اتقاء المحرم وما يحرم عليه في حجة مما يكون بين النساء والرجال سواء كان رجلا أو امرأة. وهناك روايات أخرى من الفريقين لم يأخذ بمضمونها الإمامية وعلى ذلك إجماعهم مضافاً إلى أن قوله تعالى «ذلك لمن اتقى» لا يستقيم تفسيره بالمتقوى المطلقة بعمومها لأن حصولها إلى حين النفر لا يتفق إلا للمعصوم فلا يبقى موقعا للامتنان بغفران الذنوب إذا كان ذلك قبداً له وكذا لا يبقى مورد للتخفيف على سائر الناس كما يعرف من روايات الفريقين بأجمعها إذا كان قيداً لجواز النفر كما لا يستقيم تفسيره بمطلق حصول التقوى ومصداقها في الماضي اذ لا فائدة على ذلك في هذا القيد فإن كل من له حج قد حصل منه مصداق للتقوى فلا بد من ان يراد بذلك تقوى خاصة و هو ما بينته الروايات المتقدمة وبالنظر إلى هذا الذي ذكرناه يسقط كثير من الاحاديث (واتقوا اللّه واعلموا الكم اليه تحشرون) مقتضى سوف الآية هو انه لا تتكلوا على غفران ما مضى من ذنوبكم بسبب الحج بل اتقوا اللّه فيا بقي من اعماركم وتحققوا وليكن على علمكم وذكر كم دائما انكم الى اللّه لا محالة تحشرون فيحاسبكم على اعمالكم ويجازيكم فاستعدوا لذلك بالتقوى وتزودوا منها فإنها خير الزاد (202 ومن الناس من يعجبك قوله) وتستحسنه (في الحياة الدنيا) متعلق بيعجبك أي يظهر الإيمان والصفاء وحسن الصحبة ويقول ان ذلك في قلبي (ويشهد اللّه على ما في قلبه) بضم الياء من اشهد أي يقول اشهد اللّه على ذلك ولازمه دعوى ان اللّه عالم بذلك (و) الحال (هو) خصم لك و للايمان و (الد الخصام) في ذلك. واللدد هو الشدة في الخصومة والألد صفة مشبهة نحو أعمى العين واعورها أي شديد الخصومة. يقال خصم الد وخصوم لد كقوله تعالى في سورة مريم ولتنذر قوماً لدا (203 وإذا تولى) من الولاية بأن تصير له ولاية
ص: 183
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (205) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
وتسلط (سعى في الأرض) السعي الاسراع في المشي قيل والعمل ومنه قوله تعالى في سورة النجم ان ليس للانسان إلا ما سعى. وفي سورة الدهر وكان سعيكم مشكوراً. وظني ان ذلك من المعنى الأول وكني به عن العمل (ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل المراد بالحرث هذا الزرع لأنه تحرث له الأرض. والنسل ما يتولد بالتناسل. والناس نسل آدم وعن تفسير العياشي عن الحسين بن بشار عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله النسل هم الذرية والحرث الزرع وعن زرارة عن الصادق والباقر النسل الولد والحرث الارض وهذا يرجع إلى تفسيره بالزرع وفي مجمع البيان وروي عن الصادق ان الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس. واظن انه اخذه من تفسير القمي ففيه قال الحرث في هذا الموضع الدين. وهذا الكلام لا دلالة فيه على انه رواية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (واللّه لا يحب الفساد) ولا يعين عليه ولكن يمهل ذلك الساعي ويملي له (204 وإذا قيل له) اي لذلك المفسد (اتق اللّه) ولا تفسد (أخذته العزة) التي يراها لنفسه (بالاثم) واجتماع اتباعه معه على الضلال اي استولى عليه اعتزازه بالاثم اي بالتعاضد الباطل على الباطل والآثام فيأنف من قول القائل له اتق اللّه وفي التبيان أخذته العزة من اجل الائم الذي في قلبه من الكفر. وقيل أخذته العزة أي دعته العزة إلى الإثم كما تقول أخذت فلانا بأن يفعل أي دعوته إلى ان يفعل ونحوه قال في الكشاف (فحسبه جهنم) اي فليكن محسوبه في عاقبة جهنم (ولبئس المهاد) الذي مهده لنفسه بسوء اعماله هي (205 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) في التبيان شرى باع. وفي الكشاف يبيعها أي يبذلها في الجهاد أقول ويمكن ان يراد به معنى الاشتراء المتعارف على نحو ما ذكرناه في الآية الرابعة والثمانين أى يشتري نفسه بالأعمال الصالحة ابتغاء لمرضات اللّه عليها وهي سعادتها التي نشترى لها. وفي النبيان وروي عن ابي جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه قال نزلت في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين بات على فراش رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لما ارادت قريش قتله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ورواه في البرهان وغاية المرام في تفسير العياشي باسناده عن ابن عباس وعن جابر عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواه الشيخ الطوسي
ص: 184
في اماليه بأسانيده من رجال اهل السنة وغيرهم عن زين العابدين وابن عباس وانس وابي عمرو بن العلا وعن ابي اليقظان عمار عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وفي مجالسه عن ابي ذر ان امير المؤمنين احتج في الشورى بأن الاية نزلت في شأنه. وفي غاية المرام رواه ابن بابويه وابن شاذان والكليني والطوسي وابن عقده والبرقي وابن فياض والعبدكي والصفواني والثقفي بأسانيدهم عن ابن عباس وابي رافع وهند بن ابي هاله. ورواه من أهل السنة الحافظ ابو نعيم عن ابن عباس. والثعلبي في الجزء الأول من تفسيره. ورواه ايضاً في تفسيره وابن عقبة في ملحمته وابو السعادات في فضائل العشرة بأسانيدهم عن ابي اليقظان عمار. ورواه الغزالي في باب الإيثار من الاحياء بالنحو المفصل في مباهاة اللّه الجبرائيل وميكائيل بعلي ونزول الآية في شأنه وكذا اورده الرازي والنيسابوري والشيرازي في تفاسيرهم وعن ابن الأثير في الانصاف في جمعه بين الكاشف والكشاف ورواه في الفصول المهمة عن الاحياء ورواه الثعلبي ايضا باسناده عن السدي. وروى الحاكم في مستدركه والذهبي في تلخيص المستدرك واخطب خوارزم موفق في مناقبه والحمويني في فرائده وفضائل الصحابة بأسانيدهم عن زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال اول من شری نفسه ابتغاء مرضاة اللّه علي بن ابي طالب عند مبيته على فراش رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وروى احمد في مسنده بطريق صحيح والحاكم في مستدركه وصححه على شرط البخاري ومسلم وذكر روايته عن ابي داود والطيالسي وغيره ورواه النسائي في خصائصه صحيحا واخطب خوارزم في مناقبه والذهبي في تلخيصه وصححه والحمويني في كفاية الطالب والسمط الاول من فرائده عن ابن عباس في حديث وشرى علي نفسه ولبس ثوب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) و نام مكانه وقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) البسه برده وكانت قريش تريد ان تقتل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الحديث. هذا وفي الكشاف لم يذكر هذه الرواية وفسر يشري نفسه بقوله يبيعها ويبذلها في الجهاد ثم ذكر الرواية في صهيب وانه اشترى نفسه واقتداها من مشركي قريش بمانه. وهذا لا يناسب تفسيره بيبيعها ويبذلها وإنما يناسب ذلك ما روي في شأن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بذل نفسه وميته على فراش الرسول ليفديه بها. والعجب من السيوطي فإنه مع طول باعه في الحديث واستقصائه في الدر المنشور للأحاديث المتعلقة بالتفسير حتى الشواذ والمناكير ومع ذلك لم يذكر ما استفاض من طرقهم في نزول هذه الآية في شأن امير المؤمنين ومبيته على الفراش ورو نزولها في شأن صهيب او مع ابي ذر أو مع غيرهما. وان ما يرويه صهيب من قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) له ربح
ص: 185
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (206) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
-------------------------------------------------------------------
البيع لا يناسب بذل ماله ولا تناسب الآية افلات البي ذر من أهله. فإن قبل ان الآية مدنية فكيف يكون نزولها في مبيت علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الفراش في مكة قلت ان حادثة المبيت كانت حين خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من مكة مهاجراً فنزلت الآية بعد ذلك في تمجيد علي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وايضا لم یكن بين ما يروونه من شأن صهيب مع قريش وبذل ماله وبين مبيت علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الفراش إلا يوم ونحوه فكيف ناسبت الآية المدنية شأن صهيب ولم تناسب شأن امير المؤمنين في مبيته على الفراش (واللّه رؤوف بالعباد) وهذه التلمة وامتنانها انما تناسب شأن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورأفة اللّه به في حفظه بجبرائيل وميكائيل من قتل قريش كما فيما اشرنا اليه من روايات ابي نعيم والثعلبي وابن عقبة وابي السعادات والغزالي والرازي وغيرهم (206 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) فيما حضرنا من كتب اللغة السلم بكسر السين وسكون اللام الصلح والمراد منه الملائمة وعدم الحرب لا عقد المصالحة الذي يؤثر السلم. وتؤنث حملا على نقيضها الحرب كقوله تعالى في سورة الأنفال وان جنحوا للسلم فاجنح لها. وقال العباس بن مرداس
السلم تأخذ منها ما رضيت به***والحرب يكفيك من انفاسها جرع
ومن الغريب ما رواه في الدر المنثور من ان المراد بالسلم شرائع الإسلام وما ذكره من سبب النزول. وان المخاطبين هم اهل الكتاب. أو ان المراد بالسلم الإسلام. كما اغرب من نقل عنه في الكشاف ان المخاطبين هم المنافقون كما اغربوا بتفسير السلم بالطاعة كيف والآية والتي بعدها بناديان بأنهم نوع المؤمنين باللّه ورسوله محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وقد كانوا حين الخطاب بالآية ومدة حياة الرسول مستوسقين بأجمعهم للسلم فيما بينهم اذن فإذا الذي أمروا بأن يدخلوا فيه ما هو الا عنوان يضمن لهم دوام السلم بعد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ويحكم انتظامه ولم نجد لهذا العنوان بيانا وتفسيراً معقولا إلا ما ورد عن اهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) ففي الكافي بسنده عن عبد اللّه بن عجلان عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير السلم في الآية قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ولايتنا. وكذا رواية سعد بن عبد اللّه القمي بسنده عن الفضيل عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية ابن شهر اشوب عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية العياشي ع---ن الكلبي عن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الصادق عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي امالي الشيخ بسنده عن محمد بن ابراهيم عن الصادق(عَلَيهِ السَّلَامُ) قال في ولاية علي بن ابي طالب وكذا رواية ابن شهر اشوب عن زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 186
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (207) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (208) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
-------------------------------------------------------------------
والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية العياشي عن ابي نصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي معناها روايات أخر عن العياشي عن زرارة وحمران و محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وروايته عن جابر عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايته عن مسعدة عن الصادق عن ابيه عن جده (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولعمر الحق ان ولاية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمة من آل الرسول لهي اشرف انواع السلم واعظمها بركة. بها يستوسق السلم العام بين المسلمين بعد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وبها يستحكم نظامه ويقر قراره ولو تمسك كافة المسلمين بها لما حدثت الحروب الطاحنة كحروب البصرة وصفين والنهروان وكربلا والحرة وغيرها. ولما ذهب خيار المسلمين اضاحي لقساوة زياد وابنه والحجاج واشباههم اللّه وانا اليه راجعون. و «كافة» بمعنى جميعا حال من ضمير الجماعة في ادخلوا ولا محصل لكونه حالا من السلم خصوصا مع ما ذكرناه من حال المسلمين في عهد رسول اللّه (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) الخطوات جمع خطوة أي لا تتبعوا اثره وتخطوا على خطاه في الضلال ولا تنقادوا على أثره بغوايته (انه لكم عدو مبين) لعداوته. وهل تخفى عداوته. وها انتم بأقل التفات تعلمون انه يغريكم بكل قبيح ويوقعكم بغوايته في كل شر ومكروه (207 فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) ومنها قوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). وتأكد بيانه بتواتر الأحاديث من الفريقين في ان المراد من اهل البيت هم علي والزهراء وذريتها صلوات اللّه عليهم. وقوله تعالى قل لا اسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى. وغير ذلك من الآيات المأثورة تفسيرها في فضل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وزعامته وولائه كما مضى ويأتي ان شاء اللّه وما تواتر لفظا او معنى من احاديث الفريقين في فضل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وولايته وامرته على المؤمنين. (فاعلموا ان اللّه عزيز حكيم) في انفاذ امره واظهار الحق بلا الجاء(208 هل ينظرون) أي نوع الناس ان كان المقصود من الآية أحوال القيامة وأهوالها. وان كان المقصود أهوال أواخر الزمان فالمراد بعض الناس واهل ذلك الحين (إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغام) نسبة الاتيان إلى اللّه مجاز أي يأتيهم أنا وقدرته وعظمته وسلطانه القاهر كما
ص: 187
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (209) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (210) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
-------------------------------------------------------------------
يقال لمن جاءه جيش الملك بسطوة سلطانه جاءك الملك. وظلل جمع ظلة وهو ما اظلك. والغام معروف. وظلل الغمام يحتمل ان تكون مجازا في الشدائد التي ندهمهم وظلمات الأهوال كما يظلم الجو بالغمام (والملائكة) فاعل بالعطف ليأتي واسناد الآيتين اليهم لا مانع من حقيقته. وفي روايات الدر المنثور في الآية ما يعسر تأويله ويستحيل مؤداه لأنه تجسيم وفيه نسبة التحين في المكان إلى اللّه جل شأنه (وقضي الأمر) فإنه لا راد لقضاء اللّه (وإلى اللّه ترجع الأمور) وهو وليها يرجع اليه سلطان الميته القاهر ووجوبه وامكان ما سواه وحاجته في جميع احواله اليه جل سلطانه (209 سل) یا رسول (بنى اسرائيل) على وجه التقرير والتوبيخ على نمردهم وكفران النعم (كم آثيناهم) أي أظهرنا لهم (من آية بينة) واضحة تهديهم إلى الحق وتوضح لهم سبل الرشاد في التوحيد ووحي التوراة من اللّه ونبوة رسول اللّه ووحي قرآنه وحظوا من تلك الآيات وبينات دلائلها وارشادها بالنعمة العظمى ولكن بدلوها و كم قابلوها بالارتداد والجحود والعناد وكفران النعمة (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) كمجي، تلك الآيات البينات فشره بالعقاب الشديد (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ 210 زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) زينها الشيطان وأهواء النفس الأمارة كما في قوله في سورة الأنفال والنحل والنمل والعنكبوت. وقيل ان اللّه زينها لهم بأن خلق فيها الأشياء المرغوبة المعجبة. وليس بشيء لأن خلق هذه الأشياء إنما هو للناس عامة لا لخصوص الذين كفروا. وفي الكشاف يجوز ان يكون اللّه زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها أو لأنه أمهلهم قلت وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الانعام «و كذلك زينا لكل أمة عملهم» وفي سورة النمل «زينا لهم اعمالهم» ولكن هذا مجاز لا يصار اليه إلا بحسب اقتضاء الدليل (ويسخرون) أي الذين كفروا (بالذين آمنوا) اما لأجل فقرهم او لأجل ايمانهم بالآخرة ورجائها أو لأجل اقدامهم على تحمل الشدائد بسبب الإيمان (والذين اتقوا فوقهم) فوق الكافرين الساخرين (يوم القيامة) في نعيم الجنان ورفعة
ص: 188
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (211) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
-------------------------------------------------------------------
الرضوان. وهل المراد بالذين اتقوا هم الذين آمنوا او الاشارة إلى أن ما كل الذين آمنوا ينالون الدرجات الرفيعة يوم القيامة كما ورد في الحديث المستفيض المروي في صحاح اهل السنة وغيرها عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انه يؤخذ ببعض أصحابه يوم القيامة ذات اليمين وذات الشمال فيقول أصحابي أصحابي فيقال له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. اللّه هو العالم بالمراد (واللّه يرزق) بالكرامة ورفعة الدرجات (من يشاء) من عباده بحسب الأهلية واستحقاق الكرامة بغير حساب) ولا حد محدود واللّه ذو الفضل العظيم (211 كان الناس أمة واحدة) لا تفرق بينهم فيا يرجع إلى نحلة او شريعة. وفي التبيان روى عن ابي جعفر «الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)» انه قال كانوا قبل نوح امة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين ولا ضلال فبعث اللّه النبيين انتهى والمراد لا مهتدين كل الاهتداء في المعارف لأن الفطرة إنما تهدي إلى أصل الإلهية والتوحيد وشيء من صفاته جل شأنه. ولا توصل إلى المعاد الجسماني بالخصوصيات التي جاء بها القرآن الكريم ولا إلى الشريعة. ولا ضلالا بكل الضلال. إذن فهم ضلال في مطلق القول لضلالهم عن مما تراد منهم معرفته والاهتداء اليه. وفي رواية العياشي عن مسعدة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قلت افضلا لا كانوا قبل النبيين أم على هدى قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يكونوا على هدى بل على فطرة اللّه التي فطرهم عليها. وهذا كله ينطبق على ما اسنده الكافي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية قال كان قبل نوح أمة ضلال فبعث اللّه النبيين. وكذا في رواية العياشي عن يعقوب عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي روايته عن محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان هذا قبل نوح كانوا ضلالا. وروايته عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا ضلالا. ولم يرو عن أهل البيت انهم كانوا كفاراً. نعم اضطربت الروايات كما في الدر المنثور عن ابن عباس ففي بعضها قوله على الإسلام كلهم وقريب منه ما رواه عن ابي بن كعب وفي بعضها من طريق العوفي قال كانوا كفاراً (فبعث اللّه النبيين مبشرين) برضوان اللّه وجزائه ونعيم الآخرة لمن آمن باللّه واتقاه وعمل صالحا (ومنذرين) لمن خالف كل ذلك او بعضه بغضب اللّه ونكاله ويوم القيامة وعذابه الأليم المهين (وانزل معهم الكتاب) أي نوع الكتاب الإلهي الذي
ص: 189
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (212) أم
-------------------------------------------------------------------
يجيء به الرسل من الأنبياء من عند اللّه فيحتمل ان يراد بالنبيين خصوص الرسل الذين ينزل عليهم كتاب ويحتمل ان يراد بهم مطلق الأنبياء وعبر بانزال الكتاب معهم باعتبار انزاله على الرسل منهم فكان منزلا مع نوبة بعثتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) انزله اللّه (بالحق) أي ليبين الحق ويوضح للناس نهج الهدى في دينهم وشرائعهم. ومن غايات ذلك وفوائده ان يكون مرجعا وحكما فاصلا في الاختلاف وباعتبار هذه الغاية الشريفة قال جات آلاوه (ليحكم) ببيانه (بين الناس) أي مطلق الناس لا خصوص أو انك المذكورون ولو كانوا هم المراد لقيل ليحكم بينهم (فيا اختلفوا فيه) ودعاهم إلى الاختلاف فيه جهلهم واهو او هم (وما اختلف فيه) أي في الكتاب (الا الذين او توه) واختلفوا فيه (من بعد ما جاءتهم البينات) من محكماته المعتضدة بدلالة العقل وفي هذه الجملة دفع لما يتوهم من ان الكتاب كيف يحكم بين الناس مع ان كل فرقة من الأمة الواحدة في خصامها الديني والمذهبي مع الفرقة الأخرب تحتج بالكتاب الجامع بين الأمة وتدعي دلالته على ما تقول به فقال اللّه تعالى ما معناه ان الكتاب المنزل للأمة بحسب الحكمة بلسان البشر ولسان تلك الأمة ومحاورتها وان كان فيه صريح محكم وظاهر بالوضع ومجاز ظاهر المعنى بالقرائن اللفظية او العقلية البديهية لكن صريحه ومحكمه وبينائه لا تبقي مجالا للتوه-م. بل هي واقفة بالمرصاد لتلاعب الأهواء بظاهره ومجازاته فلم يختلفوا لخفاء دلالته واشكالها بل وقع الاختلاف (بغيا) حاصلا (بينهم) وانحرافا من بعضهم عن الحق وزيغا إلى البغي ليموه الباغون أمرهم بالتشبث بالمتشابهات (فهدى اللّه الذين آمنوا) بحقيقة الإيمان وأوصلهم بتوفيقه (لما اختلفوا فيه من الحق باذنه) وتأييده باللطف لأنهم اهل لذلك بإيمانهم وتدبرهم في الكتاب (واللّه يهدي) ويوصل إلى الحق (من يشاء) ممن هو اهل للطفه وتوفيقه جلت نعماؤه (إلى صراط مستقيم) ويجوز ان تحمل الآية على الاختلاف في نفس الكتاب وكونه منزلا من اللّه ويكون المراد من البينات هى المعجزات والدلائل على صدق الرسول ونزول الكتاب من اللّه (212 أم حسبتم) أيها المسلمون (أن تدخلوا الجنة) وتنالوا درجاتها الرفيعة جزاء ومكافاة
ص: 190
حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (213) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا
-------------------------------------------------------------------
للأعمال الصالحة بدون اخلاص ثابت وصبر و ثبات على نصر الدين وشدائده وبدون تمحيص للصادق من الكاذب «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» الحجرات 17 «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» 136 أي ولم يجاهد المجاهدون منكم ويصبر الصابرون فيكون» اللّه قد علم بعلمه التابع في الأزل انهم سيجاهدون ويصبرون باختيارهم رغبة فيا عند اللّه ونصراً لدين الحق (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) من انصار الحق من الأمم والمثل بمعنى مثل بكسر الميم اي تمتحنون وتبتلون وتصبرون كما امتحنوا وصبروا، والذي أتاهم وصبروا عليه هو ان (مستهم البأساء) من البؤس ضد النعماء (والضراء) من الضر ضد السراء اصابهم ذلك ومسهم بألمه لا مجرد عروض ذلك (وزلزلوا) بهيجان الابتلاء والمحن واضطراب الاحوال ولكن الصابرين منهم ثبتوا على شدتهم في أمر الدين ولم يهنوا بل دام بهم ذلك الحال وهم على صبرهم وثباتهم (حتى) يفزع الرسول والمؤمنون إلى نصر اللّه ويستنزلون نصره ورحمته و (يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) دعاء واستنصارا لرغبتهم في ظهور دين الحق. فكونوا مثلهم واصبروا واثبتوا أيها المسلمون ولكم البشرى بالنصر (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ 213 يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ) في جوابهم ما يعرفهم ما ينفقونه وهو ما كان خيراً نافعا يراد به الاحسان ووجه اللّه، وما يبين مواضعه لئلا يكون اتفاقهم تضيعاً للأموال ومستلزما للمفاسد (ما انفقتم من خير فللوالدين) الناحيتين من الوالدين الأب والجد والأم والجدة (والاقربين) للمنفق وقدموا على مطلق الأقارب ممن في اعطائهم صلة الرحم بيانا لأهميتهم وتقديمهم عند مساواتهم للغير في سائر المزيات ودوران الأمر (واليتامى) اليتيم هو الصغير الذي لا أب له (والمساكين) الفقراء (وابن السبيل) وهو المحتاج في سفره وان كان له مال لا يصل اليه (وما تفعلوا من خير فإن اللّه به عليم) وان اسررتم به فإنه لا تخفى عليه خافية ولا يضيع
ص: 191
مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (214) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (215) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
أجر المحسنين (214 كتب) وفرض (عليكم القتال) فرض كفاية لتنالوا فضيلة الجهاد ونصر الدين ويحظى بعضكم بكرامة الشهادة وحياتها الحسنى (و) الحال (هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الكره بالضم مصدر بمعنى المكروه كراهة طباع وإن رغب فيه المخلصون في نصر الإسلام (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأحسن اثرا وعاقبة في الدنيا أو في الآخرة أو في كليهما (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما هو خير لكم وما هو شر (وأنتم لا تعلمون) بذلك فيختار لكم بلطفه وتوفيقه ما هو خير (215 يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) ذكر القمي في تفسيره في سبب نزولها ما حاصله ان سرية لرسول اللّه يرأسها عبد اللّه بن جحش وافوا ببطن نخلة عبراً لقريش فقتلوا عبد اللّه بن الحضرمي وغنموها واسروا أسيرين وكان ذلك في اول يوم من رجب من الأشهر الحرم. وذكر في الدر المنثور رواية عن جندب بن عبد اللّه وفيها ان اصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) شكوا أن ذلك اليوم من رجب او من جمادى. وفيما ذكره عن ابن عباس انهم كانوا يظنون ان تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب ولم يشعروا. ونحوه ما رواه عن ابي مالك الغفاري. وعن الزهري وابي مقسم. واضطرب ما ذكر روايته عن عروة في ذلك وتدافع. وفي الكافي في الصحيح عن عمر بن يزيد من الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ان اليوم يتبع الليلة الماضية لا الآتية قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأن اهل بطن نخلة حيث رأوا الهلال قالوا قد دخل الشهر الحرام انتهى والرواية تشير إلى القصة. والمعنى يسألك المشركون على سبيل الانكار او المسلمون على سبيل الاستفهام عن الشهر الحرام قتال فيه. قنال بدل اشتمال من الشهر الحرام (قل) ما معناه ان ترك القتال في الشهر الحرام إنما هو وسيلة لنوع من احترام الناس وتسكين للشر واما إذا كان الناس هم الهاتكون للحرمات فأولئك لاحرمة لهم ولا كرامة فكيف يستنكر قتال المشركين في الشهر الحرام وهم الطواغيت المحادون اللّه ورسوله والمؤمنين دائما وفي الشهر الحرام ولهم (قتال فيه كبير وصد) للناس (عن سبيل اللّه) ولا يزالون على هذا
ص: 192
وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
-------------------------------------------------------------------
الصد منذ ظهرت دعوة الإسلام والتوحيد محادة لله (وكفر به و) صد عن (المسجد الحرام) فلا يخلون سبيل المسلمين اليه (واخراج اهله منه) وهم رسول اللّه ومن آمن به من اهل مكة بذلك الاخراج المزعج عداوة اللّه وتوحيده ورسوله ودعوته إلى الصلاح (اكبر عند اللّه) بما تحسبونه كبيراً من قتال المشركين في الشهر الحرام، بل انهم لا يزالون يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن التوحيد ودين الحق بالمخادعة أو ما تيسر لهم من انواع الايذاء (والفتنة) عن الدين (اكبر من القتل) مع ان غزوهم وقتالهم إنما كانا لأجل تهديدهم وإرهابهم وردعهم عن اذى المؤمنين فإنهم لا يزالون مصرين على عداوة دين الحق) ولا يزالون) في ضلالهم وغيهم (يقاتلونكم) هذا النفات إلى خطاب المسلمين وفيه مناسبة لأن يكونوا هم السائلين عن قتال المشركين في الشهر الحرام (حتى يردوكم عن دينكم) وهذا غرضهم من قتالهم لكم ان استطاعوا ان يدوموا على قتالكم وفيه بشرى بانهم لا يستطيعون ولا يدومون (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك جمع باعتبار معنى «من» (حبطت اعمالهم) وسقطت كأنها لم تكن فلا اثر لها ولا كرامة ولا استحقاق مع الكفر والارتداد (في الدنيا) باعتبار افتخار هم باعمالهم في الإسلام او ترتيب آثارلها (والآخرة) فإن المرتد الذي يموت على الكفر قد اسقط نفسه بكفره عن اهليته للجزآء وان عمل العمل في حينه على وجهه (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) في التبيان والمبسوط روی اصحابنا انه «اي قتال المشركين في الاشهر الحرم» باق على التحريم فيمن يرى لهذه الاشهر حرمة وافتى بذلك في النهاية ولم يحضرني كتاب الجهاد من خلافه والرواية هي مضمرة تهذيبيه وتفسير العياشي عن العلاء بن فضيل وفي طريقها محمد بن سنان. وفي المنتهى انه قول اصحابنا وفي الجواهر لا خلاف فيه عندنا وجعل المضمرة مجبورة بذلك. ولا يعارضه قتال الرسول (عَلَيهِ السَّلَامُ) عام الفتح لهوازن في شوال والطائف في ذي القعدة لأن الذين قاتلهم ممن هتكوا حرمة الشهر وبدأوا بالقتال بل بدل عليه قوله تعالى في سورة براءة فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا
ص: 193
(216) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (217) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
-------------------------------------------------------------------
المشركين والتعليق على ذلك ليس من حيث مهلة العهد فانها خاصة وهذه الآية عامة وتلك اربعة اشهر وهذه نحو خمسين يوما (216 ان الذين آمنوا) حق الايمان ويحتمل ان يراد بهم المؤمنون الذين لم يستطيعوا الهجرة حينئذ وبالمعطوف المهاجرون المجاهدون ويحتمل ان يراد المهاجرون وكرر لفظ الذين للعناية بهجرتهم وجهادهم (والذين هاجروا) من بلادهم لأجل الإسلام ونصرته. والهجرة مأخوذ من الهجر واختصت شرعا بمن هجر بلاد الشرك في سبيل الإسلام و اتباع الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قبل الفتح (وجاهدوا) بذلك جهدهم وطاقتهم واختص ذلك بالحرب الشرعية (في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه) جملة أو كتك خبر للذين وكفى برجائهم الرحمة اللّه معرفة باللّه وازدياداً للخير من فضله ورحمته (واللّه غفور رحيم) فكأنه قيل ان اللّه يرحمهم لأنه رحيم فكيف بمن يرجو رحمته بنيته وعمله بل ويغفر لهم ما سلف ويقبل توبتهم (217 يسألونك عن الخمر) في التبيان قال جمهور أهل المدينة كل ما اسكر كثيره فهو خمر انتهى واشتقاقها اما من الاختمار وهو لازم لنوع المسكرات المائعة واما من مخاصرتها للعقل. واستفاض من رواياتنا عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة من اهل البيت انها اسم لكل مسكر كما في صحيح ابن الحجاج عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية القمي في تفسيره عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمرسل من طريق والمسند المعتبر عن عامر بن السمط عن زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية الهاشمي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ورواية الامالي للطوسي بسنده عن النعمان بن بشير عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كما احصاء في الوسائل في الباب الأول من الأشربة وفي الباب الخامس عشر ايضا عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قال رسول اللّه كل مسكر حرام وكل مسكر خمر و استفاضت الرواية عن الصادق والكاظم والرضا (عَلَيهِم السَّلَامُ) في ان الفقاع خمر (والميسر) هو القمار واخطأ في المصباح في قوله الميسر قمار العرب بالأزلام ولم يلتفت إلى قوله تعالى في سورة المائدة 1925 إنما الخمر والميسر والانصاب والأزلام. ولو كانت الأزلام والمقامرة بها عين الميسر لما صح عطفها على الميسر مع الفاصل لكنها عطفت عليه من باب عطف الخاص على العام لما فيه من الأهمية. وفي الكافي مسندا عن الكاظم الميسر هو القمار. وبإسناده عن الباقر عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قيل يا رسول اللّه ما الميسر
ص: 194
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
-------------------------------------------------------------------
قال كل ما تقامر به حتى الكعاب والجوز قيل في الازلام قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قداحهم التي يستقسمون بها وفي رواية العياشي عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) النرد والشطرنج من الميسر وفي الكشاف عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اياكم وهاتين اللعبتين المشومتين فإنهما من ميسر العجم وعن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الأرد والشطرنج من الميسر وفي الدر المنثور بسنديه عن ابن عباس وابن عمر الميسر القمار وقد خبط الكشاف هاهنا بقوله اولا الميسر القمار وقوله بعد هذا فإن قلت ما صفة الميسر قلت كانت لهم عشرة اقداح وهى الازلام إلى آخره وقوله بعد هذا وفي حكم الميسر انواع القمار من النرد والشطرنج انتهى هذا وان اسلوب الجواب في هذه الآية والنظر إلى قوله تعالى في سورة المائدة إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان والآية التي بعدها ليشعر بأنهم سألوه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وهم يذكرون منافعها للناس في شرب الخمر وربح القمار ونحو ذلك مما يسوله الهوى فجاء الجواب على سبيل التساهل والتأكيد في الحجة على تجريمهما (قل) يا رسول اللّه (فيهما اثم كبير ومنافع) بالتنكير اشارة إلى مجهوليتها وهوانها (للناس واتمها) في الدنيا في الصحة والشرف والمعيشة والسلام مع الناس وفي الآخرة (اكبر من نفعهما) وحقيق في لطف اللّه ورحمته ونظره إلى مصالح عباده وتكميلهم وتهذيبهم في شريعة ان يحرمهما لأجل انها الكبير (ويسألونك ماذا ينفقون) عند فقرهم وغناهم (قل العفو) كل بحسب حاله ففي الكافي مسندا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) العفو الوسط اي المقدار المتوسط بين ما يكون اسرافاً وما يكون من البخل بحسب حال الشخص. ونحوه رواية العياشي عن جميل عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي رواينه عن عب--د الرحمن عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال الذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقنروا وكان بين ذلك قواما. وعن يوسف عن الصادق والباقر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال الكفاف وفي رواية ابي بصير القصد ولا يخفى انه لم يقيد الاتفاق بكونه في سبيل اللّه بل هو مطلق الانفاق وقال اسماء بن خارجة الفزاري لزوجته
خذي العفومني تستديمي مودتي***ولا تنطقي في سورتي حين اغضب
(كذلك) خطاب لرسول اللّه (يبين اللّه لكم) جمع الضمير باعتبار ان البيان يشمل الامة (الآيات) في امر الخمر والميسر والنفقة وغيرها (لعلكم تتفكرون) لغاية أن تتفكروا باختيار كم فتأخذوا
ص: 195
(218) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (219) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
-------------------------------------------------------------------
بحظكم من الرشد (218 في) امور (الدنيا والآخرة) لتتبعوا رشدكم وتعملوا بما فيه صلاح الدارين (ويسألونك عن) امر (اليتامى) في مخالطتهم في أموالهم ففي تفسير القمي في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه لما نزل قوله تعالى في سورة النساء «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» اخرج كل من كان عنده يتيم وسألوار سول اللّه عن اخراجهم فأنزل اللّه ويسألونك عن اليتامى. وفي معناها رواية الدر المنثور المصححة عن ابن عباس (قل اصلاح لهم) بتولي أمرهم وحفظ اموالهم والانفاق عليهم منها وحسن تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم (خير) من اخراجهم وضياع أموالهم وادبهم (وان تخالطوهم) في المأكل والمال (فاخوانكم) في الدين أو في القبيلة او في النسب القريب ولا بأس بمخالطتهم إذا صافيته وهم مصافاة الاخوان واصلحتم (واللّه يعلم المفسد) الذي يأكل اموال اليتامى ظلما او يضيعها (من المصلح) الذي يخالطهم بالاحسان والاصلاح فاطلبوا الجزاء واحذروا العقاب ممن لا تخفى عليه خافية. وقد روي في الكافي والتهذيب وغيرهما شيء من وجوه مخالطتهم فليراجع (ولو شاء اللّه لأعتكم) أي حملكم على ما فيه مشقة عليكم وكلفكم به من اصلاح امر اليتامى وعدم مخالطتهم (ان اللّه عزيز) في ارادته (حكيم) في شريعته يجريها على حكمة العدل والتيسير (219 ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) في الدر المنثور مما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عمر انه كان إذا سئل عن نكاح النصرانية واليهودية استشهد لتحريمه بهذه الآية. وفي النبيان وهذه الآية على عمومها في تحريم مناكحة جميع الكفار وليست منسوخة ولا مخصوصة. وتبعه في مجمع البيان على هذه العبارة إلى آخرها وزاد بقوله وهي عامة عندنا وأكد ذلك في آخر كلامه بقوله وهو مذهبنا. وفي هذا شك فإن الإجماع الذي ادعاه في الانتصار على حظر نكاح الكتابيات يمكن تأويله ككثير من اجماعاته لأن القمي قال في تفسيره إن الآية منسوخة بقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب. ونص على الحل والنسخ في تفسير هذه الآية وهي السابعة من سورة المائدة وفي المبسوط نسب التحريم إلى المحصلين من اصحابنا
ص: 196
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
-------------------------------------------------------------------
او إلى بعضهم وقال وقداجاز اصحابنا كلهم التمتع بالكتابيات ووطأ هن بملك اليمين. وتبعه على ذلك في المجمع في تفسير قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب. وقد حكى جواز الدوام ايضا عن الحسن والصدوقين من القدماء. ووجه الكلام هنا ان هذه الآية وكذا قوله تعالى في سورة الممتحنة 10 ولا تمسكوا بعصم الكوافر. هل هما منسوختان بقوله تعالى في سورة المائدة «اليوم احل لكم الطيبات - وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ». أم هذه هي المنسوخة. وقد اختلفت الروايات في هذا الشأن وتحرير الكلام في ذلك موكول إلى مباحث الفقه. ويمكن أن يقال ان آية المائدة مختصة بتحليل الكتابيات بنكاح المتعة وذلك لاشتراطه بقوله تعالى إذا اتيتموهن أجورهن فإن هذا الشرمل مختص بنكاح المتعة. لا يقال ان هذا منقوض بورود هذا الشرط في الآية العاشرة من سورة الممتحنة في نكاح المؤمنات المهاجرات. لأنا نقول ان ذلك في آية الممتحنة يمكن كما هو الراجح ان يكون بيانا لأن لا يسقط المسلمون مهورهن بالمرة اكتفاء بما أمروا به من اعطاء ازواجهن الأول من المشركين ما انفقوا عليهن من المهر وحاصل ذلك ان تزوجهم للمهاجرات يكون على عادة الزواج النوعية بدون مقاصة لهن بما اعطي لأزواجهن الأول من اجلهن ولا اسقاط لمهورهن (ولأمة مؤمنة خير) لكم في الزواج (من) حرة (مشركة) مهما كانت (ولو اعجبتكم) و رغبتم فيها (ولا تنكحوا) نساء كم (المشركين) قبل ذلك نظراً إلى العادة من ان المرأة يزوجها الولي فيحرم ايضا على المؤمنة ان تزوج نفسها من المشركين (حتى يؤمنوا ولعبد مو من خير من) حر (مشرك ولو اعجبكم اولئك) يعني المشركين نساء ورجالا (يدعون إلى النار) وان وسوسة الخليط من نحو الزوج او الزوجة من المشركين لها أثر سي، مخوف يجب التحذر منه (واللّه يدعو إلى الجنة) ومن ذلك ان يأمركم بأن تتباعدوا عن وسوسة الخليط المشرك (و) يدعوكم إلى نيل (المغفرة باذنه) في ذلك بسبب هدايته وارشاده لكم وتوفيقكم للأعمال الصالحة (ويبين آياته للناس) بما فيه هداهم والإشارة إلى الحكمة (لعلهم يتذكرون) اي لغاية أن يتذكروا
ص: 197
(220) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ
-------------------------------------------------------------------
باختيارهم فتنفهم الذكرى (220 ويسألونك عن المحيض) المحبض مصدر الحاضت المرأة إذا أخذها الدم المعروف المعتاد للنساء ويجيء المحيض اسما لزمان الحيض ومكانه (قل هو أذى) اي قدر كما تقدم في قوله تعالى أوبه أذى من رأسه ان الأذى القمل. ولا بد في قوله قل هو اذى من نحو من الاستخدام فإن الحيض بمعناه المصدري ليس قدرا يجتنبه الرجال وإنما القذر والأذى هو الدم. ويحسن هذا الاستخدام بشدة الملابسة والاستغناء به عن التصريح باسم دم الحيض المستقذر (فاعتزلوا النساء في المحيض) اي لا تأتوهن في محل الحيض والقذارة وهو الفرج ويمكن حمل المحيض على اسم الزمان فيجب حمل الاعتزال على اعتزال مخصوص بسبق اليه الذهن من المقام وهو الجماع في الفرج ويوضحه التنفير بكون دم الحيض اذى وقذارة. فرع عليه الأمر بالاعتزال. واما مطلق اعتزال النساء في زمان الحيض فهو مخالف لإجماع المسلمين ودعوى الأخذ بالاطلاق بعد التخصيص بما دل عليه الاجماع يلزمها تخصيص الأكثر وهو مستهجن. واما اعتزال ما تحت المئزر كما يقول ابو حنيفة وابو يوسف فلا يساعده وجه من وجوه الآية الكريمة وحديثهم عن عائشة متعارض (ولا تقربو هن) بالجماع وهو تأكيد للأمر بالاعتزال (حتى يطهرن) بتخفيف الطاء كما هو المرسوم في المصاحف المتداولة بين المسلمين يداً عن يد وعليه قراءتهم ولا عبرة بما خرج عن ذلك من بعض القراءات كما ذكرنا في الفصل الثاني من المقدمة. والمعنى حتى ينظفن من ذلك الأذى والقذارة بانقطاع الحيض ونقاء المحل الذي هو الغاية لوجوب الاعتزال وعدم القرب، وهذا هو المناسب لتفريع الامر بالاعتزال على كون دم الحيض اذى وقذارة وتعليله به وعلى ذلك اجماع الإمامية واحاديثهم. ووافقهم ابو حنيفة واصحابه إذا انقطع الدم على العشرة دون ما قبلها وفي هذا التفصيل اضطراب ظاهر (فإذا تطهرن فأتوهن) لا يلزم أن يكون هذا التفريع تكراراً في بيان الغاية المذكورة في حتى يطهرن بل اللازم في قانون المحاورة بحسب النظر إلى يطهرن بالتخفيف وتطهرن بالتشديد ان يكون تفريعا لأمر آخر وراء تلك الغاية وهو ان الاباحة بالمعنى الأعم المضاد المحرمة تحصل عند غاية التحريم ووجوب الاعتزال وهو النقاء من الحيض. وان الوطء الذي يؤمر به ويطلب
ص: 198
مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (221) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
-------------------------------------------------------------------
لبقاء النوع وحسن الالفة بين الزوجين أو يكون مباحاً بالمعنى الأخص فهو اذا تطهرن م-ن الأقذاز بأن غسلن فروجهن من آثار الدم ولو بغسل الحيض وعلق هذا على تطهر من جرياً على الغالب والا فالغرض يحصل وان سقطن في الماء مثلا بدون اختيارهن (من حيث أمركم اللّه) في الآية بالاعتزال عنه وعليه رواية الدر المنثور عن ابن عباس وهو المناسب لتعريف ما يؤتى منه. ولا يضر في ذلك التعبير بلفظ من كما حكاه في التبيان عن الفراء. وحكى في التبيان التفسير بقولهم من حيث ما أمر اللّه به من النكاح دون الفجور كما عن ابي حنيفة. او من حيث اباحه اللّه دون اتيان الزوجة الصائمة او المحرمة مثلا كما عن الزجاج. والقولان بعيدان من وجوه. ولقد اغرب من قال ان الأمر في امركم اللّه هو الامر التكويني. هذا وان اباحة الإتيان من الفرج بعد الامر باعتزاله لا تدل على انحصار الإباحة بالوطء فيه بوجه من الوجوه (ان اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين) في الفقيه والعمل والخصال والكافي وتفسير العياشي في رواياتهم ذكر المتطهرين من الغائط بالماء وان الآية نزلت في ذلك وامله باعتبار بعض المصاديق (221 نساؤكم حرث لكم) الحرث في الاصل الكراب مصدر حرث الأرض اي كربها ثم استعمل في الارض التي تحرث كما في هذه الآية ثم استعمل في نبات الأرض المسبب عن الحرث كما في قوله تعالى ليهلك الحرث والنسل. وفي الآية شبه تمتع الرجل بزوجته بحرث الارض والزوجة بالارض التي تحرث فسميت حرثاً اي محل تمتع الكم كما ان الارض محل حفر و حرث وليس المراد ان اتيان المرأة لا يحل الا حيث يكون اتيانها زرعا للنسل حتى لو قلنا ان معنى انى شئتم هو اي وقت شئتم. او في القبل سواء كان من أمام او من خلف فإن الآية على هذين التقديرين ساكتة عن تحريم ما عداها حتى او قلنا ان الامر في قوله تعالى فأتوا حرثكم للوجوب (1) كيف ولا خلاف بين المسلمين في جواز اتيان اليائسة ومعلومة العقم واتيان المرأة مطلقا في اعكانها
ص: 199
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
-------------------------------------------------------------------
بين فخذيها وساقيها حتى ما بين اليتبها مثلا فأتوا الامر للاباحة (حرثكم أنى شئتم) اين شئتم وقد انكر بعضهم مجي انى في اللغة بمعنى كيف او بمعنى اي وقت والأول متيقن في اللغة والأخيران شكك فيها. والظاهر ان انى الاستفهامية مساوية في المعنى للشرطية وكلما جاء في القرآن من الاستفهامية صالح لأن يراد منه المكان والجهة مع ان منها ما لا يصلح ان يكون بمعنى كيف كما في قوله تعالى في سورة آل عمران 159 «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» و 32 «يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وأما بمعنى أي وقت فليس في القرآن ما يصلح له. وفي الدر المنثور في ذكر القول الثاني من المسألة ذكر من اخرج عن ابي سعيد الخدري ان رجلا اصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت «نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم» وذكر من اخرج اثنتي عشرة رواية عن عبد اللّه بن عمران الآية نزلت رخصة في وطء النساء في ادبارهن. وروي عن ابن عبد البر ان الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة مشهورة. وأورد عن مالك ما يكذب رواية الخلاف عن ابن عمر وصححه الدارقطني عن مالك. وفي تهذيب الشيخ في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه استشهد للحل بهذه الآية ولم يذكر انها نزلت في ذلك. وكذا رواية العياشي عن زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والظاهر ان استشهادهما عليهما السلام انما هو بعمومها لا بنزولها في هذا الشأن. وملخص الكلام في المسألة ان قول نافع بالجواز معروف وحكاه الطحاوي وحجاج بن ارطاة وعن مالك روايتان. وفي الخلاف عن المزني قال بعض اصحابنا حرام وقال بعضهم حلال ثم قال وآخر ما قال الشافعي لا ارخص فيه. وذكرت في الدر المنثور وغيره رواية الجواز عن ابي مليكة. وعن عبد اللّه بن القاسم قال ما ادركت احداً اقتدي به في ديني يشك انه حلال يعني وطء المرأة من دبرها ثم قرأ نساؤكم حرث لكم ثم قال وأي شيء أبين من هذا. وفيه اخرج الطحاوي والحاكم في مناقب الشافعي والخطيب عن محمد بن عبد اللّه بن الحكم ان الشافعي سئل عنه فقال ما صح عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس انه حلال. وفيه أيضا بعد ان ذكر روايات القول في التحريم قال الحفاظ في جميع الأحاديث المرفوعة «يعني المسندة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)» وعدتها نحو عشرين حديثا كلها ضعيفة لا يصح منها شيء والموقوفة يعني ما وقف سنده
ص: 200
وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (222) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
على الصحابي او التابعي هو الصحيح وقال الحافظ بن حجر في المرفوع منكر لا يصح من وجه كما صرح بذلك البخاري والبزار والنسائي انتهى. اقول وذهب اصحابنا الى جوازه على كراهية شديدة وهي المحصل من احاديثنا ووجه الجمع بينها وبذلك يستنكر ان يكون نزول الآية في اباحته نعم لا بأس في نزولها للعموم (وقدمو الانفسكم) الى هذه احكام ما يعود الى دنيا كم وقدموا لآخرتكم من الخيرات والأعمال الصالحة ما ينفعكم فيها (واتقوا اللّه) فان خير الزاد التقوى (واعلموا أنكم ملاقوه) اي وليكن عملكم عمل العالم المتيقن بأنه يموت ويحشر و يلاقي ربه يوم الحساب والجزاء لا عمل الغافل مع اقراره بالمعاد في اسلامه (وبشر) يا رسول اللّه (المؤمنين) حق الايمان والثابتين عليه بحيث استحقوا الوصف بذلك (222 ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم) العرضة ما تكثر ملاقاته ومصادفته كما يقال الانسان عرضة للبلاء فلا تكثروا أيمانكم باللّه بحسب كل ما يسنح لكم وتميلون له في الرضا والغضب فتقولون في ذلك واللّه لا اعطي فلانا. واللّه لا انفق على الفقراء واللّه لا اكلم اخي. واللّه لا ازور امي واللّه لا اصلح بين الناس. وفي رواية العياشي عن منصور بن حازم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية بعني الرجل يحلف ان لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك او لا يكلم امه (ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) اي لأن تبروا وتتقوا وتصلحوا تعليلا وبيانا لبعض ما يكون وجها وغاية للنهي في لا تجعلوا وان كان هناك وجه آخر لتعظيم اللّه واجلاله ففي الكافي في صحيح الخزاز عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا تحلفوا باللّه صادقين ولا كاذبين فان اللّه عز وجل يقول ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم. وربما كان هذا الوجه يدخل في البر والتقوى. فيكون النهي عن الحلف المعارض البر والتقوى والاصلاح كناية عن عدم انعقاده في هذه الموارد ففي الكافي عن اسحق بن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية قال اذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل علي يمين ان لا افعل. ويشبه ذلك ما اورد روايته في الدر المنثور عن ابن عباس. وقيل المعنى لا تجعلوا اللّه بواسطة الحلف به مانعا وحاجزا عما حلفتم على تركه بتسمية المحلوف على تركه يمينا. وهذا مرجع ماذكره في التبيان اولا وصريح ما اقتصر عليه في الكشاف والأول أظهر وانسب بالمروي واجمع (واللّه سميع) لأيمانكم (عليم)
ص: 201
(223) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (224) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (225) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
بأحوالكم وما يصلحكم (223 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) اي بسبب اللغو في ايمانكم اذا خالفتم اليمين اولم يطابق الواقع. واللغو مالم يقصد به عقد اليمين بل يجري على اللسان توكوءاً في الكلام كما ترى الرجل تقول له ماذا فعلت اليوم فيقول واللّه جلست من النوم واللّه خرجت الى المحل الفلاني بلا قصد لليمين وفي مجمع البيان وهو المروي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابي عبد اللّه. وقد تنجر العادة في الكلام الى لا واللّه بلى واللّه. ففي الكافي عن مسعدة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية اللغو قول الرجل لا واللّه بلى واللّه ولا يعقد على شيء (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) من الآثام فيما عقدتم عليه الايمان وكذبتم او حنثتم فيه (واللّه غفور) ان تبتم (حليم) لا يعاجلكم بالعقوبة لعلكم تتوبون (224 للذين يولون) الإيلاء الحلف من الالية اي الحلقة ويعرف من تتمة الآية وباقي القرائن انه الحلف على ترك وطء الزوجة مطلقا او مدة معينة والموضوع لاحكام الآية هو ما يزيد على اربعة اشهر. والجار والمجرور خبر مقدم متعلق في التقدير بحاصل وكائن ونحو ذلك (من نسائهم) اي من جانب نسائهم وحقوقهن في المعاشرة بالمعروف. والجار والمجرور متعلقان بحاصل و نحوه (تربص اربعة اشهر) تربص مبتدأ مؤخر فلاحق للزوجات فيها في المطالبة بالجماع ولهن المطالبة بعدها فإن سكتن او رضين فلا حرج على الزوج لأن الأمر في جماعهن من الحقوق لا التكاليف فإن انقضت الأربعة اشهر وطالبن او طالبن بعد ذلك (فَإِنْ فَاءُوا) اي رجعوا عن يمينهم الى جماعهن (فإن اللّه) يغفر لهم الحنث ومخالفة اليمين رحمة بالزوجين في حسن اجتماعهم ونظام امر الأولاد فإنه (غفور رحيم 225 وإن عزموا الطلاق) او أوقعوه (فإن اللّه سميع) لما يقولون (عليم) بنياتهم. والآيتان تدلان على ان المؤلي إذا طالبته المرأة بحقها بعد الأربعة اشهر ينحصر امره ويدور بين ان يفيء او يطلق فإن فاء ووظأ لزمته كفارة حنث اليمين المذكورة في سورة المائدة في الآية الحادية والتسعين. وليست اليمين بالنسبة الى ما بعد الاربعة اشهر يمينا على ظلم لكي تنحل حينئذ وتسقط كفارتها وذلك لأنه يمكن للمولي أن يخرجها عن الظلم بأن يطلق. وعلى هذا كله جاءت
ص: 202
(226) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
-------------------------------------------------------------------
احاديث الفريقين (226 والمطلقات) بالطلاق المشروع (يتربصن) جملة خبرية يراد بها الأمر وذلك ابلغ من الانشاء في الطلب والايجاب لصوغه بقالب ان المطلوب منه يقع منه ذلك ولا يكذبك (بأنفسهن) ويمسكنها عما يقتضيه الحال وطبايعهن من الطموح الى الزواج ومقدماته ولا يخرجن من رعاية الزوج وحيطته (ثلاثة قروء) القرء يأتي للظهر والحيض وهو هنا الطهر وعليه اجماع الإمامية وحديثهم وقول المالكية والشافعية والمروي عن عائشة وزيد بن ثابت وابن عمر كما في الدر المنثور. وفيه قال ابن شهاب سمعت ابا بكر بن عبد الرحمن يقول ما ادركت احدا من فقهائنا الا وهو يقول هذا انتهى (1) ولقوله تعالى في اول سورة الطلاق الموسومة بأنها مكية «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» اي في عدتهن التي تراد لاستبراء الرحم وعندها كما يقال ولدلست خلون من الشهر او لسبع بقين منه وقد انعقد الإجماع من المسلمين على ان طلاف السنة هو ما كان في الطهر وبه جاء قول الرسول الاكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الاكرم(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لا بن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ما هكذا أمرك اللّه انما السنة ان تستقبل الطهر استقبالا وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فإن بدا له ان يطلقها طاهرا قبل ان يمسها فذاك الطلاق للمدة كما انزل اللّه عزوجل. او فتلك العدة التي امر اللّه ان تطلق لها النساء كما في جوامع الجمهور وجوا معنا في الحديث واطلاق حكم المطلقات هنا مقيد بحكم الآية الثامنة والاربعين من سورة الأحزاب والرابعة من سورة الطلاق مع تأكيدها برواياتنا في اليائس بغير ريبة (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعني ان من كانت تؤمن باللّه واليوم الآخر
ص: 203
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا
-------------------------------------------------------------------
لا تجترئ على كتمان ما خلق اللّه في رحمها. وهذا الزجر الشديد يناسب ان يكون على كتمان الحمل اما لأن تخرج من المدة في ظاهر الحال عاجلا او لأن تكتمه لكراهية انتسابه لأبيه او الغير ذلك من اسباب الكتمان واما كتمان الحيض في ايام العدة وبعد آخرها لاجل الازدياد من مدة العدة لتأكل النفقة وتأمل الرجعة بعد انقضاء العدة الواقعية فهو بعيد لاستلزامه ان تكون صلة الموصول وهي «خلق اللّه في ارحامهن» واردة باعتبار ما مضى عن زمان الكتمان كما سيأتي في الجمع بين المعنيين. اذا فالمناسب لأسلوب اللفظ وظاهره وذلك الزجر الشديد هو كتمان الحمل. ويؤيده رواية البرهان والوسائل عن العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية لا يحل لها ان تكتم الحمل إذا طلقت وهي حبلى والزوج لا يعلم: ولا يمكن الجمع بين المعنيين من هذا اللفظ كما ذكر في الدر المنثور روايته عن ابن عمر ومجاهد وذلك لأن كتمان ما خلق اللّه في ارحامهن من الحيض إنما هو باعتبار خروجه من الرحم ويكون المراد من خلقه في ارحامهن انما هو باعتبار ما مضى فالكلام على هذا بمعنى ان يقال ولا يكتمن ما خرج من ارحامين مما خلق فيها قبل ذلك. وكتمان الحمل إنما هو باعتبار استقراره في الرحم. واللفظ الواحد لا يصلح للجمع بين هذين اللحاظين والاعتبارين. وفي تفسير القمي في الآية قال لا يحل للمرأة ان تكتم حملها أو حيضها او طهرها وقد فوض اللّه تعالى إلى النساء ثلاثة أشياء الطهر والحيض والحمل انتهي ولا يظهر من المقام كونها رواية واردة عن امام في بيان المراد بما خلق اللّه في ارحامهن ان لم يظهر خلاف ذلك فضلا عما بيناه من انه لا يمكن الجمع بين الأمرين في اللفظ الواحد. وفي مجمع البيان نسب ما ذكرناه من تفسير القمي إلى الرواية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم نجد لها أثراً ولعله اعتمد على تفسير القمي (وبعولتهن) جمع بعل والتاء التأنيث الجمع ومعنى البعل الزوج مع معنى التمتع بزوجته وملاعبتها ومباشرتها والبمال والمباعلة مباشرة النساء وملاعبتهن ولعل العدول عن التعبير بالزوج إلى التعبير بالبعولة لاخراج غير المدخول بها والايماء إلى الوجه في انهم (احق بردهن) نظراً إلى الحالة التي قبل الطلاق من الزوجية ولاحق للمرأة في معارضة البعل في ردها (في ذلك) التربص (ان ارادوا اصلاحا) لا مضارة. او جيء بلفظ «ان» لذكر الحالة التي يتحقق بها الرد وارادته كما في قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن
•
ص: 204
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (227) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ
-------------------------------------------------------------------
تحصنا. وهذا الحكم في الرد مقيد بحكم المختلفة كما في الآية الآتية وحكم المطلقة ثلاثا كما في التي بعدها (ولهن مثل الذي عليهن) من حسن المعاشرة (بالمعروف وللرجال عليهن درجة) في الفضل والنفوق. وجيء بلفظ الرجال دون الازواج اشارة إلى وجه التفوق وكمال الرجولية وفضل قيام الرجل بأمورها. وانفاقه عليها (واللّه عزيز) في حكمه (حكيم) في احكامه (227 الطلاق) للزوجة الواحدة الذي شرع فيه الرد المذكور ولم يجعل اللّه زاجرا عنه بتعليق المراجعة بعده على نكاح المرأة زوجا غيره (مرتان) ولأن الطلاق هو ان يقطع الزوج علق---ة الزوجية بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيد زوجيته يكون من البديهي انه لا يتحقق بدون الزوجية وعلقتها العادية التي يتوقف عليها تحقق موضوعه كما روى هذا المعنى في الكافي وغيره عن الباقر والصادق (عَلَيهَا السَّلَامُ)م وعليه مذهب اهل البيت واجماع الإمامية ومذهب ابن عباس. وفي الدر المنثور أخرج البيهقي عن ابن عباس ان وكانة قال لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) طلقتها ثلاثا في مجلس واحد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نعم انما تلك واحدة. واخرج عبد الرزاق ومسلم وابو داود والنسائي والشافعي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس كان على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وابي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاثة واحدة «أي الثلاثة في مجلسى واحد ونحوه» فقال عمر ان الناس قد استعجلوا في امر لهم فيه اناة فلو امضيناه عليهم فأمضاه عليهم. ونحوه من طريق طاوس ذا طلق الرجل طلاقا صحيحا فقد انقطعت من زوجيتها تلك العلقة التي بقطعها الطلاق فلا يقع منه طلاق لتلك المطلقة الا بأن تكون تلك العلقة قد رجعت اما برجعة واما بتزويج بعقد جديد. وان كان ما وقع لفظه اولا ليس صحيحا ولا طلاقا لم يكن ما يقع بعده طلاقا ثانيا بل هو اول وكذا الكلام في الثالث فاذا وقع الطلاق المذكور (فإمساك) اي فحكم اللّه في ذلك اما ان تردوهن بالرجعة إلى الزوجية وتمسكوهن على ذلك (بمعروف) في المعاشرة (او تسريح) بأن تتركوا الطلاق على رسله إلى ان تنقضي العدة (باحسان) في اداء النفقة والاسكان والمعاملة. قال في التبيان وهو المروي عن أثمننا وقال في مجمع البيان وهو المروي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) اقول ولم اجد ذلك مرويا بعنوان التفسير للتسريح
ص: 205
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ
-------------------------------------------------------------------
بالإحسان ولعلهما اخذاه مما روي في شرح طلاق السنة او يكون المراد بالتسريح بالاحسان هي التطليقة الثالثة كما رواه في الكافي والتهذيب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي الفقيه عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن تفسير العياشي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي الدر المنثور عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) (ولا يحل لكم) في مطلق الطلاق (ان تأخذوا مما اتيتموهن) ولا من غيره (شيئا) وخص الأخذ مما اوتين نظراً إلى الغالب من أن الزوج عند تفرقه من زوجته او نفرة الزوجة منه ينظر في امر طلاقها إلى استرداد ما أتاها من المهر (الا ان يخافا) أي الزوجان بسبب كراهية الزوجة له وتهديدها له بالاثم ان لم يطلقها فيكون كل من الزوجين معرضا المخالفة اللّه في أوامره ونواهيه ومحرماته فيخافا (ان لا يقيما حدود اللّه) فيما بين الزواج لدواع خصوصية، وعدل من الخطاب إلى الغيبة تكريما وتبعيدا من الخطاب بما يراد هنا من عدم الاقامة لحدود اللّه (فإن خفتم) بحسب ما عرفتم من حالها ومقالها (ان لا يقيما حدود اللّه فلا جناح) ولا اثم (عليها) بحسب البذل والاخذ (فيما افتدت به) نفسها من زوجها. ويفهم من الآية أمور «الاول» يجوز ان تكون الفدية في مورد الآية تمام ما آناها أو اكثر منه كما لا خلاف فيه عندنا نصا وفتوى لأن عدم الجناح انيط بما افتدت به مطلقا ولو اريد البعض مما اوتيت او الكل لا غير لقيل فلا جناح عليهما في أخذه «الثاني» ان تكون من الزوجة نفرة بحيث يخاف لأجل نفرتها ان لا تقيم حدود اللّه كما يدل ايضا قوله تعالى افتدت به «الثالث» يعرف من لفظ الافتداء انه لا رجعة للزوج في العدة وإلا لم يتحقق الافتداء «الرابع» ان مورد هذه يغاير مورد الثالثة والعشرين من سورة النساء لأن تلك اقتصرت على استثناء موردها من الذهاب ببعض ما اوتين حينما تأتي بالفاحشة البينة بل يجوز للزوج عندنا ان يعضلها حينئذ «الخامس» ان صورة ما ذكر من الفراق بافتداء الزوجة هو بحكم سياق الآية من الطلاق الذي جرى البيان في احكامه فلا يفترق عنه من حيث وقوع الثلاث كما عليه نصوص أحاديثنا وهو المشهور بل عليه الاجماع وكذا وقوع التحليل به وان وقع بلفظ خلمتك بدون لفظ الطلاف كما هو المنصوص عليه في احاديثنا (تلك) اشارة إلى ما ذكر من الأحكام. للطلاق والأخذ
ص: 206
حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (228) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (229) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
-------------------------------------------------------------------
(حدود اللّه فلا تعتدوها) اعتدى الحد وتعداه بمعنى واحد ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون) لغيرهم. بل ولأنفسهم بايقاعها في وبال المعصية (228) فإن طلقها (ثالثة ولا تنس ان الطلاق لا يتحقق إلا إذا ورد على زوجية (فلا تحل له) لا بالرجوع ولا بالنكاح (من بعد) أي بعد الطلاق الثالث معهما طال الأمد (حتى تنكح زوجا غيره) وتكون له زوجة شرعية بخصوص العقد الدائم (فإن طلقها) ذلك الغير طلاقا صحيحاً. والمراد من ذلك المثال لانقطاع علقة النكاح الدائم فإن الموت مثل الطلاق في التحليل باجماع الأمة(فلا جناح عليها) في (ان يتراجعا) بأن يستأنفا عقدة النكاح برغبة منهما وثبات على حسن العشرة وتأدب بما تخلل من نكاح الثاني عن المسارعة إلى الشغب وحزازة الطلاق (ان ظنا ان يقيما حدود اللّه) وقد ثبت في السنة من طريق الفريقين ان اطلاق الآية في نكاح الثاني مقيد بوطئه لها وعليه اجماع الأمة ولا يعتبر في الوطى الانزال لاطلاق السنة واما ذوق عسيلته في احاديث الفريقين فالمراد منه لذة الجماع لا التذاذها بماء الرجل ويوضح ذلك ان فيها ذوق عيلتها ومن المعلوم انه لا معتبر لنزول ماء المرأة كما انه لا لذة للرجل بماء المرأة ليكون له كذوق العسيلة بل المراد حتى تذوق لذة جماعه ويذوق لذة جماعها في القبل لأنه مجمع العسيلتين غالبا دون غيره نعم يقتضي ذلك عدم الاكتفاء بمقدار الحشفة فما دون ولا بأس بالأخذ بماهو احوط (وتلك) عطف على قوله تعالى في الآية السابقة «تلك» (حدود اللّه يبينها لقوم يعلمون) فيعرفوا وجوهها على حقيقتها ويعلموها على التفصيل للجاهلين بها (229 فإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) اي أشرفن على الوصول إلى آخر عدتهن كما يقال بلغت البلد أي أشرفت على الوصول اليه (فامسكوهن) بسبب الرجعة (بمعروف) في معاملتها كقوله تعالى في سورة النساء 23 وعاشروهن بالمعروف او المعني فراجعوهن بمعروف (او سرحوهن) واتركوهن على حالهن إلى أن تنقضي عدتهن
ص: 207
بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
-------------------------------------------------------------------
(بمعروف) في المعاملة والنفقة والاسكان بدون اضرار في شيء من ذلك (ولا تمسكوهن) بالرجعة أو ولا ترجعوهن (ضرارا) هو مصدر ضره يضره نائب عن المفعول المطلق اي امساكا ضرارة (لتعتدوا) عليهن (ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) بظلمه للمرأة الضعيفة واوقع نفسه في وبال معصية اللّه وغضبه ومخاصمة الضعيف الذي ضره واعتدى عليه (ولا تتخذوا آيات اللّه) بما بين فيها من احكامكم في صلاحكم ونظام اجتماعكم (هزوا) بل خذوا حظكم ورشدكم من العمل بها فإن من لم يسعد بالعمل بها كان كالمستهزء او مستهزءا بها (واذكروا نعمة اللّه عليكم) بعظائم النعم في الحياة والمعيشة والإسلام (وما انزل عليكم) باعتبار النزول على رسول اللّه لتبليغكم (من الكتاب) وهو القرآن الكريم لهداكم في الدين والشريعة والدعوة إلى اللّه (والحكمة) التي اشتمل عليها حال كون الكتاب (يعظكم) اللّه (به واتقوا اللّه) فيما شرعه مما أمركم به أو نهاكم عنه فانه المطلع عليكم (واعلموا) اي واعملوا عملكم حال كونكم تعلمون (أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 230 وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)، وأشرفن على انقضاء الأجل (فلا تعضلوهن) أيها المطلقون. والعضل المنع أو الحبس من ان ينكحن) من يكونون في المستقبل (أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك بأن يراجعها المطلق قريب انقضاء العدة لا لرغبة فيها بل لأجل أن يمنعها عن الازواج وقيل ان المراد ان لا يمنعها الولي العرفي من ان تنكح من كان زوجها بعد انقضاء عدته كما روي في الدر المنثور نزولها في شأن معقل واخته او جابر وابنة عمه و یلزمه التجوز في طلقتم النساء بجمله على تطليق نوع الإنسان فان الولي غير مطلق وفي ه--ذا المجاز بعد وإذا صرنا اليه فالأولى حمل الخطاب لمطلق العاضل وإن كان المطلق. اوان المطلق يعضل زوجته ويمنعها بعد العدة من ان تتزوج وهو فرض نادر إذ قل من يكون من المطلقين من له هذه السلطة والأقرب الأول ولفظ از واحهن مجاز اما من حيث كون الزوجية
ص: 208
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (231) وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ
-------------------------------------------------------------------
في الماضي كما في الثاني او من حيث كونها في المستقبل كما في الأول والثاك (ذلك) خطاب للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) (يوعظ به من كان منكم) أي من المسلمين (يؤمن باللّه واليوم الآخر) فإنه هو الأهل لأن يوعظ فتنفمه الموعظة ويقف عند نواهي الشريعة (ذلكم) خطاب للمسلمين والمشار اليه ترك العضل المذكور (ازكى لكم وأطهر واللّه يعلم) ما فيه صلاحكم (وانتم لا تعلمون 231 والوالدات) مطلقا مطلقات وغير مطلقات (يرضعن اولادهن) اخبار عن الوظيفة المقررة لهن في الشريعة جمعا لانحاء المصلحة على ما يأتي (حولين كاملين) لا تنقص عن اربعة وعشرين شهراً (لمن اراد ان يتم الرضاعة) ويعطي ما بازائها من اجرة وهو الأب ومن بيده أمر الطفل بعده ومن اراد ارضاعه دون الحولين فله ذلك وحده احد وعشرون شهراً كما نقل عليه اتفاقنا وعليه روايتا سماعة وعبد الوهاب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) الظاهر عدم الخلاف في ان الرزق والكسوة كناية عن الأجرة المذكورة في الآية السادسة من سورة الطلاق. والملحوظ في تقريرها حالتا السعة والضيق كما في السابعة منها ايضا. ولعل اجرة المثل تقارب مالية الرزق والكسوة ولكن عنوانها أقرب إلى الحشمة من عنوان الأجرة والتماكس فيها. وجرى التعبير هنا عن الأب بالمولود له بيانا لوجه الحكمة في كون الأجرة للرضاع عليه لأن الولد بعضه ونماء مائه وان الأم تربي برضاعها من ولد له (بالمعروف) ومن دون اجحاف بأحد الأبوين ولا يضيق بذلك على الأب فوق وسعه بحسب حاله وما يراد منه في أمر معيشته ومن تجب نفقته عليه (لا تكلف نفس) في جهة (إلا وسعها) في تلك الجهة (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) القراءة المعمول عليها بين الناس وعليها رسم المصاحف هي فتح الراء من «تضار» على انه مجزوم بلا الناهية وحركت لالتقاء الساكنين بالفتحة مشاكاتها للألف التي قبلها. والكلمة صالحة لأن تكون مبنية للفاعل ومبنية للمفعول باعتباران
ص: 209
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ
-------------------------------------------------------------------
الراء المدعمة مكسورة في التقدير او مفتوحة. ولكن الظاهر من الصحيح المروي في الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انها مبنية للفاعل لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) نهى اللّه ان تضار المرأة الرجل وان يضار الرجل المرأة وان الوارث نهى ان يضار الصبي أو يضار امه بالرضاعة. هذا والنهي عن المضارة بسبب الولد مطلق سواء كانت المضارة من جهة الأجرة وما اشبه ذلك في امر الرضاع ام من جهة منع الوالدة لزوجها الوالد عن جماعها لخوفها من الحبل وضرره للرضيع او من حيث امتناع الوالد عما يجب للوالدة من الجماع لخوفه من حبلها وضرره للرضيع كما استشهد (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالآية للأمرين وجاء بكل من المعنيين روايات اخر. وفي التبيان ذكر رواية الجهة الثانية عن ابي جعفر وابي عبد اللّه عليها السلام وكذا في مجمع البيان، وكان عليهما ان يذكرا رواية الجهة الأولى كالصحيح. ولم اجد ما اشار اليه من الرواية عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وعلى الوارث مثل ذلك) في صحيحة الحلبي وروايتي الكناني وابي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه نهى ان يضار بالصبي او يضار امه في رضاعها. وفي الدر المنثور عن ابن عباس ان لا يضار فمن الغريب مع ذلك ما في كنز العرفان في تفسير الوارث بالصبي. وفي التبيان وقد روي في اخبارنا ان على الوارث كائنا ما كان النفقة. واشار في الخلاف والمبسوط ايضا إلى الرواية. والظاهر كونها رواية غياث عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) اتي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيتيم فقال خذوا بنفقته اقرب الناس منه من العشيرة كما يأكل ميراثه. والرواية ان لم يكن الوارث في واقعتها الخاصه هو الجد امكن تنزيلها في واقعتها على الالزام لشيوع الفتوى بذلك حينئذ فإن مذهب الإمامية حتى الشيخ في كتبه ان النفقة انما تجب على العمودين فهو اجماع منا فالوارث في الآية اما وارث الطفل بمعنى كون الطفل ارثاً اي بقية له في القيام بأمره فهو وارثه بهذا المعنى كالجد والوصي والحاكم وليس في ذلك مجاز بحسب اللغة وان كان الدائر في المحاورات هو وارث المال. واما انه جار مجرى الغالب في كون من له الولاية بنفسه او بالوصاية وارثا كالجد والأخ والوصي مثلا او المولى من قبل الحاكم ولا دلالة من القرآن الكريم على اكثر مما في الروايات المتقدمة من ان الذي على الوارث هو ان لا يضار (فإن ارادا) المرضعة والوالد وان كان جدا (فصالا) للطفل عن الرضاع قبل الحولين (عن تراض) منها (وتشاور) بالنظر إلى صلاح الطفل
ص: 210
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (232) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
-------------------------------------------------------------------
لا مجرد تراضيهما مراعاة لاهوائهما (فلا جناح عليهما) ويحتمل ان يشمل ذلك ما بعد الحولين حينما يكون تعجيل الفطام مضرا بالطفل كما إذا كان مريضاً مثلا في المدة التي يجوز التأخير فيها (وان اردتم) عند عدم الاضرار (ان تسترضعوا) المراضع (اولادكم) مفعول ثان لتسترضعوا (فلا جناح عليكم إذا) راعيتم مصلحة الطفل بعدم مماطلة المرضعة باجرتها و (سلمتم ما آتيتم) وقررتموه في الاسترضاع (بالمعروف) بلا مدافعة ولا معاسرة (واتقوا اللّه) فيما أمركم به ونها كم عنه (واعلموا) أي واعملوا على مقتضى عليكم (ان اللّه بما تعملون بصير)، فخافوه (232 والذين يتوفون منكم) أي يؤخذون وافين وبراد بذلك الأخذ بالموت كما مر مشرو حافي المقام الاول من الفصل الرابع من المقدمة (ويذرون) يتركون (ازواجا) الذين مبتدأ وجملة (يتوفون) صلته وجملة «يذرون» معطوفة عليها وجملة (يتربصن) وهي خبر يراد به الأمر المؤكد تكون خبرا للمبتدأ والرابط بينهما هو الضمير الذي يجلوه المقام والسياق بمثل جلوة المذكور لوضوح ان فاعل التربص تلك الازواج اللائي يتركها المنوفون. فقدر لذلك ما يناسب تقديره (بأنفسهن) ويمسكنها عن الزواج والزينة ونحوها (اربعة أشهر وعشرا) أي وعشر ليال (فإذا بلغن اجلهن) باتمام ذلك (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من الخروج من البيوت وطلب الأزواج وترك الحداد مما يكون (بالمعروف) المشروع الموافق للاستقامة والعفة وفي تفسير القمي والتبيان ومجمع البيان وغيرها ان هذه الآية ناسخة الحكم الآية السابعة بعدها وعلى ذلك روايات الدر المنثور في هذه الآية عن ابن عباس وابن عمر أقول وربما كان تقديمها في ترتيب القراءة على تلك لكي تنتظم في نسق واحد مع الآيات المحكمة في الطلاق والعدد وربما يشير إلى النسخ في قوله تعالى فلا جناح عليكم بأن يكون المراد لا جناح عليكم من خروجهن وتعرضهن للأزواج قبل الحول مما كان يجب عليكم النهي عنه (واللّه بما تعملون
ص: 211
(233) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا
-------------------------------------------------------------------
خبير فلا تخالفوه (233 وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) نظم الآيات وسياق الآية وقوله تعالى فيها حتى يبلغ الكتاب اجله تدل على ان المراد من النساء المعتدات للوفاة وعليه الاتفاق والآية صالحة للعموم لبعض المعتدات ايضا وتفصيل ذلك موكول إلى كتب الفقه والتعريض هو خلاف التصريحات بما بسعه مجال الخطبة من وجوه الكلام وهو تضمين الكلام دلالة على شيء ليس فيه ذكر له والخطبة هو الكلام الدال على طلب المرأة للتزويج ولعل الاصل فيه ان الطلب كان يصاغ كثيراً بكلام ينشئه خطيب القوم ثم استعمل في مطلق الطلب فتعدى ويقال خطبها وهو خاطب (او اكننتم في انفسكم) بأن خطر في انفسكم الرغبة في نكاحها والعزم عليه واسررتموه (علم اللّه انكم ستذكرونهن) لسانا بابداء الرغبة في نكاحهن ولا يدل ذلك على التوبيخ الجواز ان يقصدوا في ذكرها وجها راجحاً خصوصا في عصر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كتطبيب قلوب المؤمنات المهاجرات المنقطعات ذوات الأيتام لكي تطمئن قلوبهن بوجود الكافل (ولكن لا تواعد و من سرا) في صحيحة الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان يقول لها او اعدك بيت آل فلان ونحوها رواية عبد اللّه بن سنان عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي رواية علي بن حمزة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) او اعدك بيت آل فلان يعرض لها بالرفث ويرفث الروابة اي يرفث قولا بأن يذكر لها الجماع وما يرجع اليه صريحا على خلاف الكناية والاحتشام. فإن الجماع يعبر عنه بالسر كقول امرء القيس
الا زعمت بسياسة اليوم انني***كبرت وان لا يشهد السرامثالي
وقول الاعشى: ولا تقربن حارة إن سرها***عليك حرام فانكحن او تأبدا
وقول الفرزدق: موانع للاسرار الا من اهلها***ويخلف ما ظن الغيور التعفف
(إلا ان تقولوا قولا معروفا)، الاستثناء منقطع لرفع ما يتوهم من المنع عن كل ما يدل على التزويج لأن التزويج يول إلى الجماع. بل يجوز القول بالمعروف الموافق للحياء والحشمة وكريم الخطاب كقوله لا تسبقيني بنفسك إذا انقضت العدة او اني مكرم للنساء، اولو انقضت عدتك لا تفوتيني ونحو هذا من معاريض الكلام و به جاءت روايات الدر المنثور عن ابن عباس (234 ولا تعزموا عقدة النكاح) ولا توقعوها وتوجبوها وبذلك جاءت رواية الدر المنثور
ص: 212
(234) وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ
-------------------------------------------------------------------
عن ابن عباس واما العزم على العقد بعد العدة فهو مرخص فيه في الآية خصوصا في قوله اواكننتم في انفسكم (حتى يبلغ الكتاب اجله) في التبيان معناه انقضاء العدة بلا خلاف. ومقتضى اللفظ حتى يبلغ القرآن باعتبار فرض العدة اجله في انقضائها او حتى يبلغ الفرض من كتب بمعنى فرض وكلاهما في وجه النجوز ببلوغها الأجل سواء (واعلموا ان اللّه يعلم ما في انفسكم) مما يبعث على الأعمال الخارجية ومنها ما هو محرم عليكم والمقصود تنبيههم على ما يعرفونه من علم اللّه زيادة في التحذير (فاحذروه) من ان تخالفوه وتعملوا بالمعاصي (واعلموا) مع ذلك (ان اللّه غفور) ان تبتم فبادروا إلى التوبة ولا تقنطوا من رحمة اللّه واحذروه من ترك التوبة كما تحذرونه من المعصية (حليم) لا يعاجلكم بالعقوبة بل يمهلكم لأن تتوبوا اليه فيقبل عليكم بحلمه كأن لم تذنبوا (235 لا جناح عليكم) اي لا اتم وهذا دفع لما يتوهم من الاثم في الصورتين المذكورتين لأنهما فراق قبل النتيجة المحبوبة المطلوبة شرعا من النكاح وقطع لما كان يؤمل من الفة الزواج وافراحه دون ان يصدر سوء صحبة خصوصا مع مجاملة المرأة واهلها بعدم المعاشرة في تقديم الصداق وفرضه في العقد. وفي الكشاف فسر لا جناح بقوله لا تبعة عليكم من ايجاب مهر ويدفعه انه لم يعرف من اللغة والقرآن مجي الجناح بغير معنى الاثم فلماذا يفسره هنا بتبعة المال (ان طلقتم النساء ما) اي في مدة وحال انكم (لم تمسوهن) بالوطء وكان ذلك على جاري العادة في فرض الصداق لهن في العقد (أو تفرضوا) توجبوا وهو مجزوم بالعطف على تمسوهن (لهن فريضة) وهو الصداق والمراد رفع الجناح في كل من الحالين حال عدم الوطء مع فرض الصداق و حال عدمه مع عدم الفرض وعطف بكلمة «أو» كما في قوله تعالى في سورة الدهر ولا تطع منهم أنما أو كفوراً لثلا يتوهم اشتراط اجتماعها، ولعله إلى هذا بنظر ما في التبيان ومجمع البيان ان التقدير ممن فرضتم لهن او لم تفرضوا. وان النظر إلى نظم هذه الآية مع التي بعدها لزعيم بما ذكرناه (ومتعوهن) وجوبا لظاهر الأمر. وان الآية الاخرى بحسب سوقها ونظمها مع هذه كالصريحة في ان نصف المهر هو تمام ما تستحقه التي فرض
ص: 213
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ
-------------------------------------------------------------------
لها الصداق فتختص المتعة الواجبة بمن لم تمس بالوط ولم يفرض لها مهر و على ذلك اجماعنا و صحيحة الكافي عن الحلبي وصحيحته عن ابي بصير وروايته عنه ايضا ورواية الفقيه عن الكناني عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية الدرالمنثور عن ابن عباس وفي الخلاف عليه اجماع الصحابة، ويكون مفاد الآيتين في نظمهما تشريك القسمين من غير المدخول بهن في عدم الجناح بطلاق ومن ثم التقسيم باختصاص نصف المهر بمن فرض لها واختصاص المتعة بمن لم تفرض لها فريضة. وعلى هذا التقسيم والتقييد يحمل اطلاق الآية الثانية والاربعين بعد المائتين من السورة والثانية والأربعين من سورة الاحزاب وليس المقام من النسخ لكي يتوقف على معرفة المتقدم والمتأخر بل هو من حمل المطلق على المقيد سواء كان الكلام تفصيلا بعد اجمال أو اجمالا مبنيا على التفصيل. والمتعة (على الموسع) اي ذي السعة في المال مثل المثري (قدره) أي المقدار الذي يليق بسمته من المال (وعلى المقتر) أي المقل من المال (قدره) وما يناسب اقلاله وكأنه بذكر الأمرين قيل على كل ما يناسب حاله. وفي الفقيه روى ان الغني يمتع بدار او خادم والوسط بثوب والفقير بدرهم أو خاتم وفي رواية ابي بصير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان ادنى المتعة على المعسر خمار وشبهه وفي رواية الحلبي وعبد اللّه بن سنان وسماعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الموسع يمتع بالعبد والامة ويمتع الفقير بالحنطة والزبيب والثوب والدراهم ولعل الكل على سبيل المثال ومناسبة الحال (متاعا) المتاع ما يتمتع به فيكون مفعولا لمتعوهن وقد يجيء بمعنى التمتيع. وفي التبيان انه حال من «قدره» والعامل فيه الظرف وكأنه لما في كلمة «على» من معنى الايجاب. وفي الكشاف انه تأكيد المتعوهن والمال واحد (بالمعروف) صفة للمتاع على الاولى ومتعلق به على الأخيرين والمآل في الكل واحد (حقا) صفة للمتاع (على المحسنين) بيان لكون المتعة بالمعروف احسان يرغب فيه المحسنون وبرونها حقا عليهم في شريعة الإحسان (236 وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) بيان لحكم القسم الأول في الآية السابقة وحقه فيعرف منه اختصاص القسم الثاني بالمتعة (فنصف ما فرضتم) وهو حق لهن يجب اعطاؤه (الا ان يعفون) عنه كلا او بعضا إذا كن بالغات جائزات التصرف في اموالهن سواء كان العفو منهن مباشرة ام من
ص: 214
أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى
-------------------------------------------------------------------
وكيلهنّ على العفوام الوكيل المأذون له في كل تصرف في اموالهن أم في خصوص هذا الطلاق مثلا (او يعفو الذي بيدة عقدة النكاح) وهو ولي الصغيرة الذي جعل بیده ان يعقد عقدة نكاحها وليس ذلك عندنا إلا الأب والجد اعنى أبا الأب او اباه ففي صحيحة التهذيب عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو ولي امرها وعن رفاعة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الولي الذي يأخذ بعضا ويترك بعضاً وفي بعض احاديثنا ما جمع فيه من يعفو بحسب الولاية او بحسب الوكالة العامة ففي معتبرة التهذيب بارسال ابن ابي عمير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الاب والذي توكله المرأة وتوليه امرها من اخ أو قرابة او غيرهما وفي الصحيحة المروية في الكافي والفقيه والتهذيب عن الحلبي وابي بصير وسماعه عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الأب والأخ والرجل يوصى اليه والذي يجوز امره في مال المرأة فيبتاع لها ويتجر ونحوها صحيحة التهذيب عن ابي بصير ومحمد. بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأما الموصى اليه في الصحيحتين فهو من اوصى اليه الأب والجد بالقيام بأمر الصغيرة إذا رأى المصلحة في العفو كما في عفو الأب والجد واما الأخ فيعرف امره من مرسلة ابن ابي عمير والظاهر ان عدم ذكر الجد هنا لدخوله في عنوان الأب (وإن تعفوا) وعفوكم ايها الناس (اقرب للتقوى) ربما تجد المرأة الضعيفة النفس في نفسها شيئا إذا رجح اللّه لها العفو بخطاب خاص فلطف اللّه بها بما معناه انه لا يرجح العفو لها من حيث انها امرأة ولا من حيث انه مهر بل ان كل عفو هو حسن راجح من جميع الناس وهذا المقام منه وان الزوج لم ينتفع بلذة او خدمة بازاء ما له فيكون طلب العفو بهذا النحو أطيب القلب المرأة المطلقة وادعى لها لأن تعفو فإن لمطلق عفو الإنسان عن حقه فضلا وفضيلة وهو بفضيلته اقرب الى فضيلة التقوى (ولا تنسوا الفضل بينكم) ايها الناس واسمعي ايتها المطلقة ولا تحملكم حزازات النفوس على ترك ما فيه الفضل (ان اللّه بما تعملون بصير) فيجازيكم على احسانكم (237 حافظوا) ايها الناس (على الصلوات) في اقامتها في اوقاتها بحدودها وشرائطها واخلاصها واقبالها عموما (والصلاة الوسطى) وهي صلاة الظهر وعن الخلاف ان عليه اجماع الفرقة والمروي في احاديثنا انها صلاة الظهر كصحيحة معاني الأخبار عن ابي بصير وروايتي العياشي عن عبد اللّه بن سنان
ص: 215
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا
-------------------------------------------------------------------
ومحمد بن مسلم عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وان ورد فيها بعد ذلك كما في الكافي والفقيه ما صورته وقال في بعض القراءات حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. وبناء على هذه الرواية فلا يخفى ان الإمام لا يتعال ببعض القراءات الا محاذرة من الوقت واهله فذكر الرواية الرائجة عن مصحف عائشة ورواينها واحدى الروايات عن مصحف حفصة وروايتها عن قراءة ابن عباس وابي بن كعب والسائب بن يزيد اسكانا عن بيانه الأول للحكم الواقعي. وإذا نظرت إلى ما احصاه الدر المنثور من روايات المقام ترى فيها من الاضطراب والتعارض شيئا مهولا ففي بعضها الفجر وفي بعضها الظهر و في بعضها العصر وفي بعضها المغرب وكثيرا ما تتعارض الرواية عن الشخص الواحد «وما آفة الأخبار إلا رواتها» (وقوموا) في الصلاة (للّه قانتين) عن العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) طائعين وفي رواية سماعة هو الدعاء ومنه قوله تعالى في سورة الزمر «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا»، وفي التبيان قبل اصله الدعاء في حال القيام أي في الصلاة وفي مجمع البيان وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه أقول ولم اجده عنها (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير الآية نعم في صحيحة زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونزلت هذه الآية في يوم الجمعة ورسول اللّه في سفره فقنت فيها. نعم كثر استعمالهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) اللفظ القنوت بالدعاء في الصلاة في حال القيام وهو القنوت المعروف كما في رواياتنا وهو معروف في لسان الصحابة وغيرهم كما في روايات الدر المنثور وغيره في الآية (238 فإن خفتم فرجالا) جمع راجل وهو الماشي على رجله مثل قيام جمع قائم كما في سورتي الفرقان 65 والزمر 68 اي فإذا خفتم فحكمكم في صلاتكم ان تتركوا ما ينافي التحذر من الوقوف والركوع والسجود بحسب ما يقتضيه الخوف والحذر وعلى رسلكم حال كونكم رجالا (أو ركبانا) راكب ويبقى ما لا ينافي الحذر على حاله كالقراءة والتسبيح والتشهد والتسليم نعم قد تخفى دلالة الآية على الإيماء للركوع والسجود إلا بالنظر إلى انه ميسور من خضوعها وانضاح قاعدة الميسور في هذا المورد للعقل والعقلاء كغيره من الموارد. وفي الكافي في صحيح عبد الرحمن قال سألت أبا عبد اللّه في الآية ما تقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلي قال يكبر ويومي إيماء برأسه اسب للركوع والسجود (فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علمكم)
جمع
ص: 216
اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
-------------------------------------------------------------------
بلطفه في الصلاة وغيرها (ما لم تكونوا تعلمون) من اذكار الصلاة واحكامها وغير ذلك (239 والذين يتوفون منكم) أي يشرفون على الوفاة (ويذرون) بعدهم ازواجا كتب اللّه عليهم (وصية) تأتي الوصية بمعنى الموصى به (لأزواجهم متاعا) بدل من «وصية» بمعنى الموصى به وإذا جعلنا الوصية هنا بمعنى الايصاء كان التقدير جعل اللّه لمن ما يوصى به في الابصاء متاعا ونحو ذلك والأول أظهر (إلى الحول) من حين وفاته في مؤونتها (غير اخراج) صفة المتاع ليعم السكنى. وربما لم يكن هذا أجلا لعدة الوفاة على كل حال بل ان شاءت ان تبقى في بيت زوجها فلها الانفاق والاسكان بحسب الوصية حولا (فإن خرجن) قبل انفسهن مطلقا أو من بعد أن تقضي اربعة أشهر وعشرا أو ابعد الأجلين إذا كانت حاملا فقد أسقطت حقها. وقيل ان الحول كان عدتها فنسخ والمراد من الآية خرجن بعد الحول (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) من حيث الزواج الشرعي أو اختيار ما يوافق حالها وصلاحها في الخروج. اما وجوب الوصية ان كان فهو منسوخ بالاتفاق وأما جوازها فمن مجمع البيان انه باق عندنا لم يسخ (واللّه عزيز) في احكامه (حكيم) في شريعته (240 والمطلقات متاع بالمعروف) بحق (حقا على المتقين) ان كان المراد من الآية تأكيد ما تقدم من متعة من لم تمس ولم يفرض لها فريضة كان اطلاقها جاريا على ذلك التقبيد وهذا هو المناسب لقربها من تينك الآيتين ولظاهر قوله تعالى «حقا على المتقين» ولما أشرنا اليه آنفا من الاجماع والروايات. ويمكن ان تحمل هذه الآية على الاستحباب في مطلق المطلقات بالنظر إلى صحيحة الحلبي وروايته وصحيحة عبد اللّه بن سنان وسماعة كما في الكافي ورواية ابي بصير كما عن العياشي وفيه شك (241 كذلك) خطاب لرسول اللّه (يبين اللّه) بلطفه (لكم آياته) خطاب للناس لاحتياجهم في نظام امرهم إلى بيان هذه الأحكام (لعلكم تعقلون) لغاية
ص: 217
(242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
ان تعقلوا إذا أقبلتم باختياركم على التدبر لهذه الآيات والعمل بها (ألم تر إلى الذين) أي ألم تعلم بأمرهم ونزل علمه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بما فيه من الإيمان واليقين بمنزلة الرؤية بالبصر (خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) أي خرجوا حذرا من الموت وفراراً (فقال لهم اللّه موتوا) وإنما أمره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فعبر عن ارادته التكوينية بالأمر بالموت وبالكون اشارة إلى ان قدرته لا تحتاج إلى عمل وممارسة مقدمات (ثم أحياهم) بعد موتهم. روى في روضة الكافي عن الباقر والصادق عليها السلام قصة هؤلاء وهر بهم من الطاعون وموتهم وبقاءهم بلا دفن حتى صاروا عظاما فجمعها المارة ونحوها عن الطريق فمر عليها حزقيل النبي من بني اسرائيل فدعا اللّه في احيائهم فأحياهم. وعن العياشي وسعد بن عبد اللّه عن حمران عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مختصر في هذه القصة. وروى في ذلك في الدر المنثور عدة روايات عن ابن عباس وبعض التابعين (1) (وإن اللّه لذو فضل على الناس) يعرفهم قدرته ويبصرهم بمواعظه ويحوطهم بألطافه ويجللهم برحمته (ولكن اكثر الناس لا يشكرون 243 وقاتلوا) ايها الناس (في سبيل اللّه) ولا تخافوا من الموت فإن الأمور بيد اللّه ولكم الموعظة بقرار هؤلاء من الموت وموتهم واحيائهم (واعلموا ان اللّه سميع) لدعائكم واستنصار كم وما تقولونه في امر الجهاد والدعوة إلى اللّه ودين الحق (عليم) بنياتكم في جهاد كم (244 من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً
ص: 218
(244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ
-------------------------------------------------------------------
حسنا) قد اقتضت حكمة اللّه ورحمته في شأن الإنسان ونظام مدنيته وتشابكه في الاجتماع ان يجعل بعضهم محتاجا إلى بعض في شؤون التعيش والاموال. كما اقتضت حكمته ورحمته في كمال الانسان ونيله كرامة الفضيلة وحسن الجزاء بأن يجعله مختاراً في افعاله واحواله في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية. واقتضت حكمته ورحمته ولطفه أن يأمر بالتعاون على البر والإحسان وان يعود الفني على الفقير بشيء مما هو من رزق اللّه وخلقه وينفق شيئا من مال اللّه في نصر الحق واهله ودفاع الباطل واهله. واقتضت رحمته ولطفه ان يرغب الإنسان في الانفاق في سبيل اللّه والخير في الفقراء والجهاد وينصره بهذا الترغيب على شح نفسه و نزعات حرصه وما يسوله له فقر إمكانه. فجاء القرآن الكريم على أحسن وجه في الترغيب وحاصل ما يشير اليه وينوه به هو انكم ايها الناس لا بداكم من انكم تعرفون أن كل نعمة عندكم إنما هي من اللّه وخلقه للعالم وما فيه. ومع ذلك فإن اللّه بحسب حكمته ولطفه بنديكم إلى أن تنفقوا شيئا مما أنعم به عليكم في طريق صلاحكم وسعادتكم وان الذي ينفق في ذلك شيئا من ماله وهو يريد به وجه اللّه يجعله اللّه قرضا عليه إذا كان قرضا وانفاقاً حسنا من المال الحلال فاقدا لما يشينه من الرياء والمن ونحو ذلك (فيضاعفه له) بنصب «يضاعفه» جوابا للاستفهام بعد الفاء وفي الحقيقة هو جواب لطلب القرض المؤكد باسلوب قوله تعالي من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له (اضعافا كثيرة). روى الصدوق في معاني الاخبار في الصحيح عن الخزاز والعياشي عن علي بن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما نزل من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول اللّه اللهم زدني فأنزل اللّه من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فقال رب زدني فأنزل اللّه من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيرة فعلم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان الكثير منه لا يحصى وليس له منتهى (واللّه يقبض ويبسط) في تفسير البرهان عن الصدوق مسندا عن الصادق يمنع ويعطي والمراد استلفاتهم إلى ان امر الرزق بيد اللّه جل شأنه فليغتنم ذو السعة فرصة الانفاق وقرض اللّه قبل ان يضيق عليه رزقه وتبقى له الحسرة. ولا يخف في انفاقه فقرا فإن بيده بسط الرزق (واليه ترجعون) فيو فيكم جزاء ما انفقتم وتشتد حسرات الحريص الشحيح على ما فرط (245 ألم
ص: 219
تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
تر) الرؤية كما تقدم قريبا كناية عن العلم) إلى الملأ) أي الأشراف والأعيان (من بني اسرائيل من بعد (موت (موسى إذ قالوا لنبي لهم) في تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان بني اسرائيل عملوا المعاصي وغيروا دين اللّه وعنوا عن أمر ربهم وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه وروى ان اسمه ارميا النبي أقول هذا وما بعده ليس من الصحيح بل هو ارسال من القمي وفيه ما هو خلاف الصحيح فإن نفس القمي سيروي في تفسير الآية الحادية والستين بعد المائتين في الصحيح عن الصادق ان ارميا النبي معاصر لبخت نصر وسبي بابل كما هو مقتضى التاريخ وبين ذلك العصر وعصر طالوت نحو اربعمائة سنة وتسعة اجيال وفي التبيان ومجمع البيان وقيل هو اشموئيل وهو المروي عن ابي جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي مجمع البيان وهو بالعربية اسماعيل وفيه منع فإن اسماعيل في العبرانية «بشمع ايل» ابعث لنا ملكا نقاتل (معه) في سبيل اللّه قال لهم نبيهم (هل عسيتم) عسى معناها الترجي في المحبوب والاشفاق في المكروه (ان كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا) المطرد فيما بعد عسى ان يأتي مقرونا بكلمة «ان» الناصبة ولكن لأجل ان المؤكدين بعد اختلاط اللسان ضاعت عليهم مزايا اللغة العربية بعد ان كانت معروفة لأهلها فقال بعض النحويين او جمهورهم ان عسى من الأفعال الناقصة والمنصوب بأن خبرها على حذف المضاف منه او من اسمها (قالوا ما مؤداه ماذا يمنعنا من القتال (وما لنا) من الفائدة في (ألا) الاهى ان المصدرية ولا النافية (نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) بالحرب والطرد عن الأوطان وهل بعد هذا مانع نفساني عن القتال أو فائدة تدعو إلى تركه. مضافا إلى انه قتال في سبيل اللّه ودفاع عن الدين والتوحيد. ومع هذا البيان منهم (فلما) بعث لهم طالوت ملكا و (كتب) وفرض (عليهم القتال) معه (تولوا) وتخاذلوا (إلا قليلا منهم واللّه عليم بالظالمين) يعلم حالهم من قبل ذلك (246 وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) قيل سمي طالوت لطوله وفي
ص: 220
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
-------------------------------------------------------------------
كتب اليهود انه كان اطول من كل بني اسرائيل من كتفه فما فوق (قالوا أنى) من أين (يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) وفي تفسير القمي أوروايته أنه كان من سبط بنيامين(1) قلت وتاريخ اليهود يذكر في اواخر سفر القضاة ان سبط بنيامين قد صدرت من بعضهم بادرة قبيحة فأراد بنو اسرائيل ان يؤدبوا هؤلاء فحاهم سبطهم فحاربهم باقي الاسباط حتى نكلوا بهم فصار سبط بنيامين بعد ذلك سبطا قليلا مستحقراً فيما بين بني اسرائيل (ولم يؤت سمة من المال (ليؤسس به ملوكيته وادارتها (قال) لهم نبيهم (ان اللّه اصطفاه عليكم وزاده بسطة) أي سعة (في العلم والجسم) يدبر بعلمه المملكة وشؤون القتال ويملأ ببسطة جسمه الأبصارهيبة تناسب الملوك ومخائل القوة والشجاعة (واللّه يؤتي ملكه من يشاء) فلا اعتراض لكم في ذلك (واللّه واسع) في فضله ورحمته أي واسم الفضل والرحمة (عليم) بما تقتضيه الحكمة في كل مقام (247 وقال لهم نبيهم) في مقام الاحتجاج والدلالة على ان طالوت يكون ملكا عليهم وذلك باصطفاء اللّه له (إن آية ملكه) والحجة التي تعرفون بها ذلك) (ان يأتيكم التابوت) الصندوق في مجمع البيان انه كان في ايدي اعداء بني اسرائيل غلبوهم عليه لما مرج امر بني اسرائيل وحدث فيهم الأحداث ثم انتزعه اللّه من ايديهم ورده على بني اسرائيل تحمله الملائكة وروى ذلك عن ابي عبد اللّه (فيه سكينة من ربكم) في تفسير القمي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) انها ريح
ص: 221
وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ
-------------------------------------------------------------------
من الجنة لها وجه كوجه الإنسان ونحوه في مجمع البيان والدر المنثور عن امير المؤمنين وفي رواية معاني الأخبار عن يونس عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) روح اللّه لكن في اصول الكافي في صحيح محمد ابن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) السكينة الإيمان. ونحوه في صحيح حفص وهشام عن الصادق ونحوه في صحيح ابي حمزة عن الباقر وزاد في قوله تعالي وايدهم بروح منه قال هو الإيمان ونحوه في صحيح جميل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) والظاهر ان هذه التعبيرات تشبيهات واشارات بحسب حال المورد والخطاب والمخاطب فلعل السكينة أمراً يوجب الامنة والطمأنينة جعله اللّه في التابوت ليسكن اليه بنو اسرائيل فقد كان لهم بمنزلة اللواء الأعظم في الحروب وفي التبيان انه الأولى واستظهر نحو ذلك في مجمع البيان وهو احدى روايات الدر المنثور عن ابن عباس (وبقية مما ترك آل موسى وهارون) من آثار النبوَّة (تحمله الملائكة) الجملة حال من يأتيكم وفي روضة الكافي في معتبرة عبد اللّه بن سليمان (1) عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في التابوت ما لفظه «والملائكة كانت تحمله على صورة البقرة» أقول وعلى تقدير صدور هذا المروي عن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يكون ما في كتب اليهود صورة لما ذكره (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الحقيقة. ففي الفصل السادس من كتاب صموئيل الأول في الآية وخرق العادة في رجوع التابوت وهو ان المشركين لما انتهبوا التابوت من بني اسرائيل أصابهم بلاء من الموت والأمراض فأرادوا أن يردوا التابوت ويستعمله وا من حاله وكرامته انه هل هو الذي سبب عليهم ذلك البلاء من اللّه فتبانوا على ان يجعلوه في عجلة ويربطونها ببقرئين مرضعتين صعبتين لم يعلهما نير وبعد ذلك يرجعون عنهما ولديهما إلى البيت فإن سارت البقرتان بالعجلة على الهدو والاستقامة عرفوا ان هذا الأمر الخارق للعادة من حال البقرتين إنما هو من آيات اللّه لبيان كرامة التابوت فسارت البقرتان بالتابوت والعجلة على أحسن استقامة ومعرفة للطريق إلى أن اوصلنا التابوت إلى بلاد بني اسرائيل وبمقتضى الآية الكريمة والرواية الشريفة ان الملائكة كانت تتولى حمل التابوت بهذا الحمل الخارق للعادة في تلك الصورة الظاهرية من تسخير البقرتين وفي مجمع البيان ذكر شيئا فيه شبه لهذا ولم ينسبه إلى
ص: 222
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
-------------------------------------------------------------------
إمام. وذكر في شرح روضة الكافي شيئا من تاريخ ابن الأثير وغيره من المفسرين واقول ان تفاسير هذه الأمور اما ان تؤخذ عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أو الإمام وإلا فلا لأن المؤرخين بل والمفسرين كما ذكرناه في المقام الثالث من الفصل الرابع من المقدمة ان منهم من يأخذ من النقل الافواهي المتقلب بالتحريف من اهل الكتاب الراجع إلى كتبهم من العهد القديم وهي التي كانت في ازمنة المفسرين والمؤرخين باللسان العبراني والبابلي واليوناني وهي ممنوعة عن غير اليهود والنصارى ويحرم في مذهب الفريقين ان يمكنوا منها حتى العوام منهم لكن بعد ان ظهرت في النصارى فرقة الانجيليين ترجموها بكل لسان ونشروها في البلاد فهذه الكتب على ما فيها من التحريف أقل تحريفا من الانقال المأخوذة عنها بالنقل الافواهي الذي لم بين على الحفظ والأمانة (ان في ذلك) أي في اخباري باتبان التابوت حال كونه تحمله الملائكة (لآية لكم) تعرفكم نعمة اللّه وقدرته لتطيعوه وتعرفكم صدقي وإن طالوت جعله اللّه ملكا عليكم كل ذلك (ان كنتم مؤمنين) باللّه وآياته ودلالتها حق الإيمان في تفسير القمي بسند صحيح عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان اذا وضع التابوت بين المسلمين والكافرين فإن تقدم التابوت رجل لا يرجع حتى يقتل أو يغلب فأوحى اللّه إلى نبيهم ان جالوت «وهو رئيس المشركين وشجاعهم» يقتله من يستوي عليه درع موسى اسمه داود بن اسي وفي كتب اليهود في العبرانية «يسي» وكان اسي راعيا وكان له عشر بنين اصغر هم داود فلما جمع طالوت بني اسرائيل للحرب بعث إلى اسي ان احضر ولدك فلما حضروا دعا واحداً واحداً منهم فألبسه درع موسى فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه فقال لأسي هل خلفت من ولدك احدا قال نعم اصغرهم تركته في الغنم فبعث اليه فلما دعي أقبل ومعه مقلاع فناداه ثلاث صخرات في طريقه يا داود خذنا فأخذها في مخلاته فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود (248 فلما فصل طالوت بالجنود) اي فلما ملك وجند جنوده في معسكره وفصل بمعنى انفصل بجنوده عن المعسكر ومحل التجمع وسار إلى محل الحرب (قال) لجنوده (ان اللّه مبتليكم بنهر) في طريقكم ليتبين مطيعكم من عاصيكم (فمن شرب منه فليس مني) اي من اصحابي
ص: 223
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
المطيعين ولا من حزب اللّه (ومن لم يطعمه) أي يذوقه (فإنه مني) اي من اصحابي ومن حزب اللّه (إلا من اغترف غرفة) واحدة (بيده) فإنه مسامح في ذلك فشربوا منه وعصوا إلا قليلا منهم) وفي تفسير القمي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الذين لم يشربوا ولم يعترفوا كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ونحوه عن تفسير العياشي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر في الدر المنثور رواية ذلك عن البراء وابن عباس (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) وهم جنده الذين شربوا والذين لم يشر بو الأنهم كلهم كانوا مؤمنين غير مشركين وان عصى بعضهم (قالوا) أي قال نوعهم لا كاهم (لاطاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) وفي روضة الكافي في الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما روى في تفسير القمي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الذين اعترفوا قالوا هذا القول والذين لم يغترفوا هم الذين قال اللّه فيهم (قال الذين يظنون انهم ملاقوا اللّه) اي الذين لم يلمهم الأمل بل قربوا الموت في كل حين إلى ظنهم شوقا إلى لقاء اللّه برفع الحجاب الشهواني كما قدمناه في الآية الثالثة والأربعين قالوا من قوة إيمانهم وثبات عزمهم وحسن ظنهم باللّه. والمؤمن ينظر بعين اللّه (كم من فئة) أي جماعة وفرقة (قليلة غلبت فئة كثيرة باذن اللّه) ونصره (واللّه مع الصابرين 249 ولما) تهيأوا للقتال و (برزوا) في موقف الحرب (لجالوت وجنوده) لم يعتمدوا على انفسهم مهما بلغوا من الطاعة والتفاني في سبيل اللّه بل (قالوا) في التجائهم إلى اللّه ودعائه بالتوفيق والتسديد والنصر لاظهار دين الحق (ربنا افرغ علينا صبرا) الافراغ الصب شبهوا الصبر بالماء الذي يعمهم بصبه عليهم فطلبوا من اللّه التوفيق للصبر الكثير المجدي بحيث يكون كما يصب عليهم الصبر صبا (وثبت اقدامنا) على الحق والجهاد في سبيلك (وانصرنا على القوم الكافرين) اعلاء لدين الحق (250 فهزموهم باذن اللّه) المأثور ان هزيمة الكفار كانت بعد ان قتل داود جالوت
ص: 224
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (الجزء الثالث) (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ
-------------------------------------------------------------------
ولكن اخر ذكر القتل ليجري ما ذكر اداود من الفضائل على نسق واحد فإن ذلك ابلغ في تمجيده واظهر بيانا لعظمة النعمة عليه (وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك) المهيب (والحكمة وعلمه مما يشاء) كفصل القضاء والنبوَّة والزبور و عمل السابغات ولولا دفع اللّه الناس عن الطغيان والإفساد العام (بعضهم) بدل من الناس (ببعض) آخر (لفسدت الارض) فإن اللّه جلت حكمته خلق الناس مختارين في افعالهم ومن الغابات ان يتمتعوا في الارض ويحصل منهم النسل ويلد الكافر المؤمن والفاجر الصالح وقد علم اللّه انه يكون في الناس امثال يزيد و مسلم بن عقبة والحجاج واذا خلى السبيل لامثال هؤلاء ملأوا الارض فساداً وافسدوها وان اهلاك المفسد والانتقام منه في الدنيا لا يرتدع به من يريد الفساد العام بل يعدون كل ذلك من سنن الكون ومقتضيات الاسباب العادية كالموت الذي لم يردع الناس عن غيهم وان قاربوه بالشيخوخة والمرض فكان من الرادع لهم أمر اللّه للمؤمنين بدفاع المفسدين ووجود المنازعين من الناس للمفسدين في اغراضهم فكان ذلك وما وقع من مغلوبية المفسدين ومقهوريتهم عند النزاع دافعا من اللّه الشمول الفساد وكان حذر المفسدين من صولة القوة وثورة النزاع وفوز الخصوم رادعاً نوعياً في الغالب يوقف الفساد عن طغيانه العام (ولكن اللّه) تفضل على العالمين بأن منع عموم الفساد في الارض بدفع الناس بعضهم ببعض مع بقاء الحكم على مواقعها فاللّه جلت آلاوه (ذو فضل على العالمين 251 تلك) اي قصص الامور المذكورة (آيات اللّه نتلوها عليك) يا رسول اللّه (بالحق) و على حقيقتها بالوحي الا امي (وانك لمن المرسلين) من اللّه الى الناس لتخرجهم من الظلمات الى النور (252 تلك الرسل) انثت الاشارة باعتبار الجماعة (فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللّه) اياه وفضله بتكليمه له کموسى ورسول اللّه فقد ورد مستفيضا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان التغير الذي يعتريه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عند الوحي انما هو عند تكليم اللّه له بدون توسط جبرائیل کا روی
ص: 225
وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
-------------------------------------------------------------------
مسندا في محاسن البرقي وعلل الشرائع وتوحيد الصدوق واكمال الدين و امالي الشيخ بل ان احاديث المعراج عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ناطقة بأن اللّه كلمه وناجاه وناداه كما في تفسير القمي وبصائر الدرجات وعلل الشرائع وامالي الصدوق وامالي الشيخ بأسانيدهم عن الكاظم والصادق والباقر وامير المؤمنين وابن عباس كما روى اهل السنة ذلك في حديث المعراج ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم المعجزات البينات (وايدناه بروح القدس) جبرئيل (ولو شاء اللّه) ان يلجئ عباده على عدم الكفر والعصيان له ووافق ذلك حكمته لفعل فا نه هو القادر القاهر و(ما اقتتل الذين من بعدهم) من المهم (من بعد ما جائتهم البينات)، ولم يكن ذلك لاجل خفاء الحق على احد الفريقين (ولكن اختلفوا) بسبب اتباع الهوى من بعضهم (فمنهم من آمن) باللّه وبما جاءه من البينات (ومنهم من كفر) واتبع هواه فاقتتلوا ولو شاء اللّه ما اقتتلوا) ولكن ليجزي المؤمنين جزاء المجاهدين في نصر الحق (ولكن اللّه يفعل ما بريد) مما يقتضيه اللطف والحكمة (253 یا ایها الذین آمنوا انفقوا مما رزقناكم) ان اريد الإنفاق الواجب كما هو ظاهر الطلب فهو الزكاة اذ لا يعهد انفاق عام واجب غيرها ولا تخافوا الفقر في اتفاقكم فإن ما عندكم انا هو من رزق اللّه وهو رازقكم فاغتنموا الفرصة في أموالكم في دار الدنيا (من قبل ان يأتي يوم) وهو يوم القيامة (لا بيع فيه) فتبتاعون ما ينفعكم فيه (ولا خل--ة) تجديكم فيه ان لم تكونوا من الذين اتقوا اللّه فيا امرهم به ونهاهم عنه وقدموا لانفسهم «والاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين» كما في سورة الزخرف (ولا شفاعة) الا لمن اتخذ عند اللّه عهدا والا باذن اللّه ولمن ارتضى كما اشرنا اليه في سورة الفاتحة في الشفاعة (والكافرون هم الظالمون) لانفسهم إذ لم يتركوا لأنفسهم لذلك اليوم وسيلة تؤهلهم ارحمة اللّه لهم ونجاتهم
ص: 226
(254) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
-------------------------------------------------------------------
(254 اللّه) اسم وعلم لواجب الوجود اله العالمين جل وعلا (لا اله الاهو) الاوله هو الذات المقدسة المتصفة بصفات الإلهية كوجوب الوجود والعلم والقدرة والخالقية وغيرها فلا شيء متصفا بصفات الإلهية ويستحق ان يسمى إلها وله تحقق الا اللّه (الحي) الثابتة له صفة الحياة والدائمة بدوام ذانه ووجوب وجوده لذاته ومعنى الحي واضح ظاهر (القيوم) مبالغة في من قام بالأمر فإنه جلت آلا وه هو القائم بايجاد العالم وتدبيره والمبالغة باعتبار العموم والدوام (لا تأخذه) لا تغلبه وتستولي عليه (سنة) بل (ولا نوم) السنة من الوسن وهو النعاس الذي لا يبلغ النوم ولكنه يغلب ويوجب الذهول والغفلة عن القيام بما يقام به من الامور. والنوم معروف ويجوز ان لا تغلب السنة ولا تستولي بل يطرء النوم فيغلب ولكن اللّه جل شأنه زيادة على انه لا تأخذه ولا تغلبه سنة الا يأخذه ولا يغلبه على قيوميته نوم وان كان اقوى من السنة بكثير (له ما في السموات) من الموجودات (وما في الارض) جميعا حتى السموات والارض كما تقول الملك له وتحت نفوذ ملوكينه ما في العراق اي حتى ارض العراق وحدودها كما اكتفى القرآن في هذا المعنى المتعارف في المحاورة العرفية بقوله له ملك السموات والارض. واللّه ملك السموات والارض كما في نحو ثمانية عشر موردا (من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه) فإن كل ما في السموات والارض له ومن خلقه فليس هناك من يتوهم كما يقول المشركون ان له استحقاقا طبيعيا الشفاعة والتأثير لتوهم تأليهه مع اللّه باحد الوجوه التي يتوهمونها ومنها الولادة والمظهرية تعالى اللّه عما يقولون لا إله الا هو وانما تكون الشفاعة لعبد مقرب بإذن اللّه له بها تشريفا له واعلاء لقدر عباده الصالحين المطيعين له وترغيبا للناس في الطاعة وما لها من علو الدرجات (يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم) اي الملائكة والجن والإنس من العقلاء الذين يصح نفي الشفاعة عنهمواثباتها لهم بوجه والمراد مما بين ايديهم وما خلفهم ما مضى وما هو آت (ولا يحيطون بشيء من علمه) اي مما يعلمه (إلا بما شاء) وعلمه لعباده و فتح لهم باب ادرا که (وسع
ص: 227
وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
-------------------------------------------------------------------
كرسيه السموات والأرض) روى الصدوق في توحيده بسنده عن المفضل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان العرش هو العلم الذي اطلع اللّه عليه انبياءه وحججه والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه احدا وبسنده عن حفص بن غياث عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الكرسي في الآية قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) علمه وبسنده عن عبد اللّه بن سنان عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الكرسي او العرش هو العلم الذي لا يقدر احد قدره وفي مجمع البيان ان هذا مروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي التبيان وهو مروي عنهما وفي الدر المنثور ذكر جماعة اخرجوه عن ابن عباس وذكر جماعة اخرجوه عن ابي موسى الاشعري قال الكرسي موضع القدمين وله اطيط كاطيط الرحل. وجماعة اخرجوا عن ابن مسعود عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في المقام المحمود قال ذلك يوم ينزل اللّه على كرسيه بأط منه كما يأط الرحل الجديد من تضايقه. وجماعة اخرجوا عن عمر عن رسول اللّه انه قال ان كرسيه وسع السموات والارض وان له اطيطا كاطيط الرحل الجديد اذا ركب من ثقله ما يفضل منه اربع اصابع. هذا ولما بين اللّه جل شأنه ان له ما في السموات والارض شاء ان يبين احاطة علمه وسلطة تدبيره بجميع ما هوله وملكه فناسب التقريب لادراكنا القاصر بالتمثيل بالجسمانيات المألوفة لنا فشبه الإحاطة والسلطة بمالو كانت بحسب التخييل في كرسي الملك. وعلى ذلك جرى تعبير الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في السموات والارض انها في الكرسي (ولا يؤوده) يثقله ويشق عليه (حفظهما) اي النوعين من السموات والارض وكيف (وهو العلي) في شأنه وقدرته وعلمه (العظيم) في سلطانه وجلاله (255 لا اكراه في الدين) قد مر تفسير الدين في الآية التاسعة والثمانين بعد المائة وليس الدين بشيء يخفى على الناس مجد حقيقته وكرامة كماله لكي يراد منهم بالإكراه كيف وهو دين الفطره مستقيم صراطه واضح منهجه مشرقة ارجاؤه منيرة اعلامه بينة آياته هادية دلائله (قد تبين الرشد من الغي) بدلالة العقل والفطرة وتتابع المعجزات وتوارد الحجج وان تعامى عنها المعاند له حتى اعمى عناده قلبه وعين بصيرته (فمن) يخالف هواه ويتبع عقله وبينات فطرته و (يكفر بالطاغوت) الطاغوت مأخوذ من الطغيان. وقد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم ثمان مرات ففي بعضها مسماه خبرا للجمع ويعود عليه ضمير الجمع كما في اوليائهم الطاغوت
ص: 228
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
-------------------------------------------------------------------
يخرجونهم في الآية. وفي بعضها الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة كما في يعبدوها في التاسعة عشرة من سورة الزمر. وفي بعضها ضمير المفرد كما في الثالثه والستين من سورة النساء. وفي بعضها اشير اليه بهؤلاء كما في الرابعة والخمسين من سورة النساء. وفي النهاية والقاموس تكون للواحد والجمع وذكر اللغويون انه يقال طاغوت للصنم والشيطان ورأس كل ضلال والطاغوت مأخوذ من الطغيان اما باعتبار كونه سببا كبيرا لطغيان الضلال كالأصنام. وفي النهاية ومنه الحديث هذه طاغية دوس و خثعم اي صنمهم ومعبودهم وأما باعتبار طغيانه في اغوائه وتمرده ودعوته الى الضلال كالشيطان ورؤساء الضلال. ففي كل مقام من القرآن الكريم يراد من الطاغوت ما يناسب سوقه. والمناسب للمقام هو الأصنام او دعاة الشرك او الشياطين ومعنى يكفر بالنسبة لكل من الأخيرين يخالفه في اغوائه بالشرك ويتبرء منه ومن اتباعه (ويؤمن باللّه فقد استمسك) اي احكم تمسكه (بالعروة الوثقى) التي هي اوثق العرب فإنها (لا انفصام لها) ابدا وليس في الإيمان باللّه منشأ تردد او ريب او وهن في الحجة (واللّه سميع) لأقوالكم في الإيمان به (عليم) بنياتكم (256 اللّه ولي الذين آمنوا) اي هو المدبر الأولي والاحق بتدبيرهم فيما هو الأصلح لهم بلطفه وان كان لطفه جلت آلاؤه بالدلالة والإرشاد عام لكل البشر ولكن خص الذين آمنوا بالذكر لأنهم لم يعاندوا الحق ولم يخرجوا انفسهم عن الأهلية لتوفيق اللّه لهم الى الحق والايصال الى المقام السامي فهو (يخرجهم) بتوفيقه (من الظلمات) ظلمات الضلال والمعاصي (الى النور) نور الهدى والطاعة (257 والذين كفروا) وعاندوا الحق واخرجوا انفسهم عن الأهلية للطف اللّه وولاينه في تدبير شؤنهم بالتوفيق والتسديد وقد تولوا الطاغوت فهم اذن (اوليائهم الطاغوت يخرجونهم) الظاهر من الضمير ارادة المغوين على الكفر والمغرين بالضلال كالشياطين ورؤوس الضلال فإنهم يخرجونهم (من النور) نور التوفيق والوصول الى الحق (الى الظلمات) ظلمات الخذلان والكفر والضلال (اولئك) الكافرون (اصحاب النار هم
ص: 229
خالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
-------------------------------------------------------------------
فيها خالدون 258 الم تر) المراد الم تعلم كما ذكرنا قريبا (الى الذي حاج ابراهيم في ربه) المحاجة تشمل الجدل وإن كان داحضا. والظاهر ان المحاج هو النمرود الملك. وفي مجمع البيان ان هذه المحاجة كانت قبل القاء ابراهيم في النار عن الصادق قلت ولم اجد روايتها. وفي تفسير القمي لا بعنوان الرواية والدر المنثور عن السدي انها بعد ذلك. وقد جرأه على محاجة ابراهيم بالباطل طغيانه وعتوه وبطره (ان آتاه اللّه الملك) اي لأن اللّه آتاه الملك في الدنيا واملى له فحاج ابراهيم (اذ قال ابراهيم ربي) والهي هو (الذي يحيي ويميت قال) نمرود (انا احبي واميت) قيل انه صرف الكلام عن وجهه حيث قال له ابرهيم كيف تحيي وتميت قال اعمد الى رجلين قد وجب عليها القتل فأخلي عن واحد واقتل الآخر فأكون قد احييت وأمت قال القمي في تفسيره لا بعنوان الرواية واورد نحوه في الدر المنثور رواية عن ابن عباس اقول مقتضى الآية ومحاجة نمرود لابراهيم في ربه هو انه لم يدع كونه شريكا اللّه ليقول انا ايضا احبي واميت مثل اللّه ويغالط في ذلك بان يقتل احد الشخصين ويستحيي الآخر بل انه ينكررب ابراهيم ويدعي الإلهية لنفسه فيكون قوله أنا احيي واميت مصادرة جزافية يريد بها الاحياء والموت اللذين قالهما ابراهيم فأراد ابراهيم ان يسد باب المصادرات بالدعاوي السخيفة الباطلة ولذا (قال ابراهيم) ان كنت قادرا على الاحياء والإماتة كما تزعم (فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق) والقادر على الاحياء والإماتة قادر على التصرف بالشمس (فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر) أي نمرود الكافر باللّه أو نوع الذي كفر من الحاضر بن نمرود واذنابه و بهت بالبناء للمفعول فهو مبهوت (واللّه لا يهدي) اي لا يوفق ولا يوصل بلطفه (القوم الظالمين) بل يتركهم واهواءهم. ومن المعلوم ان القرآن الكريم لا تتعلق اغراضه الكريمة في نهجه المجيد بالقصص من حيث تاريخيتها وإنما يذكرها للموعظة وضرب المثل وغير ذلك من الأغراض الحميدة فكأنه قبل ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه إلى آخر الآية فإن من
ص: 230
(258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ
-------------------------------------------------------------------
الناس من يكون في عناده وضلاله ومكابرته للحق الواضح كهذا (259 أو) يكون في غفلة عما يعتقده بايمانه (كالذي مر على قرية) روى القمي في تفسيره والطبرسي في احتجاجه ع---ن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه ارميا النبي وفي تفسير البرهان عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه عزير وفي ال--در المنثور عن امير المؤمنين وصححه الحاكم وعن ابن عباس بعدة طرق انه عزير فلا مساغ لصاحب الكشاف في اختياره ان صاحب القصة كافر وقد كفانا ابن المنير في حاشيته مونة الرد لما استند اليه الكشاف في دعواه (وهي خاوية) أي ساقطة اعاليها كقوله في سورة الحاقة فترى القوم فيها صرعى كأنهم اعجاز نخل خاوية (على عروشها) أي سقوفها ويقال العرش للسرير وارادته هنا ممكنة. وقيل معنى خاوية خالية وفي المصباح والقاموس خوت الدار خلت من اهلها لكن يكون على هذا في اعراب على عروشها تكاف بعيد عن كرامة القرآن (قال أنى) كيف (يحيي هذه اللّه بعد موتها) في رواية القمي في تفسيره عن الصادق فنظر إلى السباع تأكل الجيف فقال أنى يحيي اللّه هذه بعد موتها. وفي رواية الدر المنثور عن ابن عباس في ذكر القرية قد باد اهلها ورأى عظاما فقال انى يحبي اللّه الآية ولا يخفى ان الظاهر من لفظ يحيي وموتها وقصة موت القائل واحيائه والاحتجاج عليه بذلك هذه كلها تشير وتومي إلى المشار اليه بكلمة «هذه» وهي الأجساد او العظام واستغنى عن ذكرها بدلالة المقام واشارات الآية كما في قوله تعالى قبل آيات فقال لهم موتوا ثم احياهم وكثير من نحو ذلك (فأماته اللّه مائة عام) لا يخفى ان الظاهر من الآية هو المعنى الحقيقي للموت مع ان رواية القمي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورواية الدر المنثور التي صححها الحاكم عن امير المؤمنين ورواياته الأخر عن ابن عباس والحسن ووهب هذه كاها صريحة في ان هذا الشخص قد مات وتلاشت اجزاؤه وتفرقت فأحياه اللّه بأن جمعها و كسا عظامه. ولكن المفسر المصري المعاصر قال ما حاصله ان الإمانة والموت هنا عبارة عن فقد الحس والادراك وهو المسمى بالسبات لا مفارقة الروح للبدن ولم يحضرني الجزء الأول من تفسيره لكي أراه ماذا يقول فيا مر من قوله تعالى «53 ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (ثم بعثه قال كم لبثت) في موتك هذا (قال
ص: 231
لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
-------------------------------------------------------------------
لبثت يوما او بعض يوم قال بل لبثت مئة عام) وقد اظهرت المشيئة الإلهية لك شيئا من خارق العادة ودلائل القدرة على احياء الموتى وان تفرقت او صالهم (فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه) لم يتأثر بالسنين المتطاولة فإن مقتضى العادة ان تتابع عليه تغييرات السنين الى ان تلاشيه في اثناء المائة عام فبهذه القدرة يحبي اللّه الموتى (وانظر إلى حمارك) تكرار الأمر بالنظر يشير إلى انتقال الكلام الى وجهة اخرى تدل على طول لبثه في الموت او هي ان حماره قد افته السنين وبادت اجزاءه وتفرقت عظامه كما صرحت به الروايات المشار اليها (ولنجعلك آية للناس) اي امتناك و بعثناك بعد البلا لترى بالعيان كيف يحيي اللّه الموتى ولنجعلنك آية وموعظة للناس في احياء الموتى وقدرة اللّه. وهذا ظاهر من وجود واو العطف وسياق الكلام وانظر الى العظام كيف ننشرها بالزاي المعجمة وضم النون الاولى اي نجعلها بعد تفرقها بالبلا يرتفع وينشز بعضها الى بعض بالتركيب. وقد نصت الروايتان المشار اليهما على عظامه وعظام حماره. واما عظام اهل القرية فلم يعرف احياؤها (ثم نكسوها لحما فلما تبين له) ما ذكر (قال اعلم) يعرف من انه لم يقل الآن علمت انه عالم بذلك وانه يعلم بالعلم المستمر وبهذه المشاهدات تاكد علمه (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 363 وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) جرت في ذلك شؤون ويدل على تلك الشؤون ويفسرها ما في الآية وهو (قال) اللّه له بالاستفهام التقريري (اولم تؤمن) بقدرتي على احياء الموتى واني احبيبها و(قال) ابراهيم (بلي) اني مؤمن بذلك (ولكن) للعيان اثر كبير في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب فطلبت الرؤية البطمئن قلبي) ويزداد يقيني بسبب المشاهده با آمنت به كما في رواية الكافي في اول باب الشك من اصوله والصحيحة عن المحاسن (قال) اللّه له واذا كنت تطلب الرؤية فخذ اربعة من الطير فصر من اليك بضم الصاد وسكون الراء بمعني املهن واجمعهن اليك. وقيل معناه فقطعهن ولكن لا معنى لتعليق اليك به واما
ص: 232
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا
-------------------------------------------------------------------
تعليقها بقوله تعالى خذ مع وجود الفاصل الكثير والتفريع بالفاء فلا مساغ له في فصيح الكلام. والأخذ ليس مساوقاً للإمالة والضم اليه بل هو اعم (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً) وهذا كاف في الدلالة على سبق الأمر بالتقطيع. وقد تعددت الروايات الصحاح والمعتبرة عن الباقر والصادق والرضا (عَلَيهِم السَّلَامُ) في ان الجبال كانت عشرة كما احصي غالبها في الوسائل في باب الوصية بالجزء (ثم ادعمن يأتينك سمبا) وقد اكتفى بذكر هذا الوعد عن ذكر الوقوع لا ه-و معلوم من قدرة اللّه وانه لا خلف لوعده (واعلم) اي وليتأكد علمك (ان اللّه عزيز) بقدرت---ه (حكيم) في اعماله (360 مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه) اي ان المثل الذي يضرب الهؤلاء في جزائهم المضاعف من اللّه ونتيجة اتفاقهم المباركة هو (كمثل حبة) اي كالمثل الذي اضرب بحبة (انبتت) من اسناد الفعل الى بعض اسبابه (سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) وليس ذلك فرضا موهوماً كأنباب الأغوال بل هو كثير مشاهد مرئي وإن كان قليلا بالنسبة إلى نوع الزرع الكثير وكثيراً ما يشاهد ان الحبة يخرج منها اكثر من سبع سنابل بل وعشر وعشرين وكثيرا ما شوهد في قطرنا في السنبل القوي الجيد من الحنطة والشعير تبلغ الثمانين حبة (واللّه يضاعف لمن يشاء) بحسب نيته واخلاصه واقباله على الخير (واللّه واسع) في رحمته وقدرته وجزائه (عليم) بأعمال عباده ونياتهم فيها ووجوهها ولا يخفى ان سبيل اللّه غير مختص بالجهاد. وفي مجمع البيان ان الآية عامة في النفقة في ابواب البر وهو المروي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قلت وإن قوله تعالى واللّه واسع مع سوق الآية يعطي ان الجزاء المضاعف غير مختص بالانفاق بل يعم اعمال الخير كلها كما روي في محاسن البرقي في صحيحة عمر بن يزيد وعن امالي الشيخ وتفسير العياشي في معتبرة الوابشي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (261 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا) بعد ايصاله لمن اعطوه اياه (منا) المن معروف
ص: 233
وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا
-------------------------------------------------------------------
وهو ان يتطاول المعطي على من أعطاه بأنه أعطاه ومنه قوله ألم أعطاك ألم أحسن استطالة عليه لا في مقام ما يرجح من التنصل من القطيعة والبخل (ولا أذى) بسبب الاعطاء (لهم أجرهم عند ربهم) بيان لأن الجزاء المضاعف المذكور في الآية السابقة هو اجر للمنفقين على انفاقهم وذلك اهنا في نفوس العامة وفيه ترغيب لهم وان كان تفضل اللّه اهنا عند الخواص وأقرب الى الكرامة (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 262 قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) في الاعتذار غير منكر ولا مستوحش كأن يتلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه والدعاء له (ومغفرة) لما يصدر منه من الحاف أو ازعاج في المسئلة (خير من صدقة يتبعها أذى واللّه غني) يغني السائل من سعته ولكنه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استفرضكم في الصدقة واعطاء السائل (حليم) فعليكم يا عباده بالحلم والغفران لما يبدر من السائل. وقد اكد اللّه ارشاده في امر الانفاق والصدقة فقال جات آلاوه (263 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) وتكونوا قد انفقتم أموالكم ولم تبقوا لكم عند اللّه شيئا من الأجر والثواب فإن مفسدة المن والأذى ورذيلتها تذهب بفضيلة صدقاتكم وإن قصد تم بها القربة في حينها فانتم في ذلك (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) الرئاء والرياء والمراءاة مأخوذة من الرؤية وهو ان يعمل الإنسان العمل لا لحسنة ولا لوجه اللّه بل لأن يراه الناس تباهيا به (ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر) لكي يطلب ما عند اللّه (فمثله) أي مثل المرائي المنافق الدي لا يؤمن باللّه في انه لا خير فيه ولا في انفاقه (كمثل صفوان) الصفوان كالصفا هو الصخر الأملس (عليه تراب) يخيل انه ارض نافعة صالحة للنبات (فأصابه وابل) اي مطر عظيم القطر شديد الوق---ع فجرف ذلك التراب عن ذلك الصفوان (فتركه) صفوانا مجرداً (صلداً) أي صلبا أملس لا يصلح لنتيجة (لا يقدرون) أي المراؤون بإنفاقهم الذي أشير اليه بالآية (على شيء ما كسبوا) على فائدة
ص: 234
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
-------------------------------------------------------------------
مما انفقوه وكان مما كسبوه وتعبوا في كسبه وجمعه فلا يقدرون لا على شيء من عينه ولا من ثوابه فذهب عليهم بريائهم ونفاقهم هدرا وذلك اشد الحسراتهم (واللّه لا يهدي) ولا يوصل إلى الهدى بتوفيقه (القوم الكافرين) فإنهم أخرجوا أنفسهم بنفاقهم عن اهليتهم للتوفيق (264 وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي ولأن يثبتوا انفسهم على طاعة اللّه وطلب رضاه. فإن بذل المال عند نوع الناس صعب وان سهلت عليهم العبادات البدنية ويقال ان نوع الأعراب كانوا يستصعبون الزكاة ويعدونها كالاناوة فالذين يسمحون بأموالهم وينفقونها ابتغاء مرضاة اللّه يكون لهم من الغايات الحميدة تثبيت انفسهم على الطاعة وعمل الخير. ودخول «من» الجارة على انفسهم من انها مفعول التثبيت مثله شايع في اللغة كقولهم روض من عريكته وهز من عطفه ولعل السر في ذلك ان هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها وثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت اللّه بالمال العزيز عندها فهو يجعل من مقاصده في الانفاق تثبيتها على طاعة اللّه وابتغاء مرضاته بالنسبة للمستقبل من الازمان والحالات وبهذا الاعتبار يكون هؤلاء المنفقون الكرام كأنهم يثبتون من انفسهم بعضها فمثلهم (كمثل جنة) بستان (بربوة) ارض مرتفعة لانها تكون از کی شجرا واحسن ثمرا وانقى هواء لسلامتها من وخامة المستنقعات ونز الارض واضرار ذلك بالشجر والثمر (اصابها وابل) تقدم تفسيره ومن المعلوم ان سقي المطر للبستان بل كل زرع احسن لتنميتها وجودة تربتها من كل سقي (فانت اكلها) أي ثمرها المأكول (ضعفين) لما تؤتيه اذا سفيت بغيم المطر (فإن لم يصبها وابل فطل) يكفيها في ذلك الجودة منبتها وان كان مطرا صغير القطر (واللّه بما تعملون) ومنه انفاقكم بحسب نياتكم (بصير) ثم كرر المثل في الزجر عن ابطال الصدقة بالم---ن والاذى بقوله تعالى (265 ايود احدكم) وكيف يود ومن ذا الذي يود (ان تكون له جن--ة من نخيل وأعناب) ومن حيث بهجة منظرها ودوام سقبها (تجري من تحتها الأنهار)
ص: 235
لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
-------------------------------------------------------------------
حال كونه (له فيها) زيادة على النخيل والأعناب الذين تكون ثمراتهما فاكهة وغلة وقوتا (من كل الثمرات) التي يستغل ويتفكه بها (و) هو في زمان وحال يكون فيها احرص ما يكون على هذه الجنة حيث انه (اصابه الكبر) والشيخوخة وانقطع عن الكسب وشب فيه الحرص (وله) زيادة على ذلك (ذرية ضعفاء) يحرص على الانفاق عليهم وعلى توريثهم (فأصابها) أي تلك الجنة العزيزة (اعصار فيه نار) الاعصار ريح ترتفع بتراب فتلتف وتستدير وتقلع الشجر والنخل بقوتها (فاحترقت) تلك الجنة العزيزة بالنار وتلاشت بالاعصار. وإذا كان احد كم لا يود ذلك بل هو عليه من اعظم المصائب فلماذا يسلط نار المن والأذى في اعصار جهله ويحرق بها انفاقه ويبطله مع ان الحاجة إلى ثمراته اشد من الحاجة إلى تلك الجنة من ذلك المحتاج (كذلك يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون) أي لغاية أن تفكروا فتعرفوا رشدكم (266 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) بالتجارة ونحوها (ومما أخرجنا لكم من الأرض) من المعادن وبالزراعة والظاهر ان المراد مطلق الانفاق في سبيل اللّه سواء كان في الزكاة أم في غيرها والمراد بالطيب هو غير الردي في ذاته او بحرمته كما فسر بالأمرين المذكورين في روايات الكافي عن ابي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايات العياشي عن عدد اللّه بن سنان وابي بصير ورفاعه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن زرارة وابي الصباح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونحوها روايات الدر المنثور ومن ذلك يتأكد ظهور الآية في المعنى الأعم من الطيب بالحل والجودة او بالجودة المقابل للرداءة والخبث (ولا تيمموا) ولا تقصدوا (الخبيث) وتعدلوا اليه عن الطيب مع خبثه بالرداءة أو بالحرمة بالمعنى المقابل للطيب بالمعنى العام المتقدم (منه تنفقون) وتجعلون انفاقكم منه مع وجود الطيب واما من لم يعدل عن الطيب إلى الخبيث بل كان كل ماله ردياً قبل منه في الزكاة وشكر على الانفاق منه (ولستم بآخذيه) الواو للمحال والجملة لرفع المغالطة في مصداق الخبيث أي انكم لا تأخذونه في حقوقكم وهداياكم وصلاتكم (إلا) ان تتنازلوا وتتساهلوا في
ص: 236
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
-------------------------------------------------------------------
رداءته وخبثه و (ان تغمضوا فيه) كناية عن التنازل المذكور كمن يغمض عينيه لئلا يرى خبثه (واعلموا ان اللّه غني) عن انفاقكم على عباده وهو الذي يرزقكم واياهم وما بكم من نعمة فمن اللّه (حميد) أي محمود على نعمائه وآلائه العامة ولكنه مشرع لكم الاتفاق وطلبه منكم لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة فلا يحرمنكم الشيطان بإغوائه عظيم فضل الإنفاق (267 الشيطان يعدكم الفقر) ويخوفكم به لئلا تنفقوا (ويأمركم بالفحشاء) التي لا يخفى عليكم كونها فحشاء فاعرفوا بهذا عداوته لكم وخبثه وخداعه فيما يعدكم ويخوفكم به (واللّه يعدكم مغفرة منه) لكم فيما فرطتم به (وفضلا) أي زيادة في نعمته ورحمته (واللّه واسع) في فضله ورحمته أي واسع الفضل والرحمة (عليم) بانفاقكم ونياتكم فيه (268 يؤتي الحكمة) في التبيان ومجمع البيان في معنى الحكمة. وقيل وهي القرآن والفقه وهو المروي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) انتهى والذي وجدته عن تفسير العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الحكمة المعرفة والتفقه في الدين. وفي تفسير البرهان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق. وفي الكافي في باب معرفة الإمام في الصحيح عن الصادق طاعة اللّه ومعرفة الإمام وعن المحاسن نحوه وعن الكافي ايضا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) معرفة الإمام واجتناب الكبائر وفي روايات الدر المنثور عن ابن عباس ان الحكمة النبوَّة او فقه القرآن أو المعرفة به ناسخه و منسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وامثاله. اقول ولعل ذلك باعتبار ما هو اعم نفعا واعظم من مصاديق الحكمة فانها ما ينفع من العلم بالحقائق. ومن المؤلم والمؤسف ان اسم الحكمة شاع استعماله «مثلها سمي اللديغ سليما» بالفلسفة اليونانية ومنها مزاعم العقول العشرة تلك المزاعم التي جحدت مقام اللّه الجليل في الإلهية بنحو لم تجرأ عليه الوثنية بل هي عبارة مموهة عن الطبيعة إذ لم تسمح اللّه إلا بأنه علل العقل الأول بالتعليل الطبيعي بلا ارادة منه ولا اختيار فلا ارادة ولا خلق ولا مشيئة له ايضا في غير العقل الأول من الموجودات ولا سنخية ولا ربط خلافا لدلالة العقل والقرآن الكريم على ان اللّه خالق الخلق بمشيئته وان العالم صادر عن خالق وارادة وان التشبثات
ص: 237
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
-------------------------------------------------------------------
لهذه المزاعم مردودة بالحل والنقض ولزوم التناقض وسخافة ابتنائها في عدد العقول على موهومات الهيئة القديمة في الأفلاك وحصر عددها بالتسع وقد أشير إلى شيء من ذلك في فصول العقائد لنصير الدين الطوسي (قدّس سِرُّه) وآخر الجزء الثاني من المدرسة السيارة ومع هذا كله يسمى القائلون بمزاعم العقول بالعرفاء واهل الوصول والمكاشفات «مثلما اللديغ سليما» تعالى اللّه عما يقولون (من يشاء) من عباده بحسب جده وما حصله باختياره من كونه اهلا لهذه الرحمة والنعمة والتوفيق لها (ومن يؤت) بالبناء للمفعول والجزم باداة الشرط (الحكمة) مفعول ثاني (فقد أوتي خيرا كثيراً وما يذكر) بما ذكر به من آيات القرآن الكريم في الانفاق وغيره من الاخلاق والاحكام ويكون له نصيب من الحكمة (إلا أولو الألباب) الظاهر في اللب القلب والقرآن ينسب التعقل والتفهم إلى القلب والمراد هنا من لم يعم قلبه بالتمادي على الضلال وغفلة الجهل البسيط وضلال المركب وهو اقبحه فإنه كأنه لا قلب له ولا لب وربما فسر اللب هنا بالعقل وكأنه تفسير بما يؤل اليه المعنى المكنى عنه (269 وما انفقتم من نفقة) «ما» موصولة متضمنة معنى الشرط صلتها انفقتم وعائدها ضمير محذوف يفسره ويبينه (من نفقة) سواء كان الانفاق في الطاعة ام في المعصية مقرونا بالاخلاص ام بالرياء (او نذرتم من نشر) عطف على انفقتم. والنذر المشروع ان يقول اللّه علي ان افعل أو أترك كذا. أو اللّه علي ان كان كذا ان افعل أو أترك كذا ويشترط ان يكون المنذور طاعة اللّه. وقد يكون النذر للطاغوت او في معصية (فإن اللّه يعلمه) على ما هو عليه ويجازي عليه بجزائه. والجملة خبر للموصول والرابط هو الضمير في «يعلمه» والخبر ساد مسد الجزاء للشرط ولذا دخلت عليه الفاء (وما للظالمين) في انفاقهم او نذرهم للطاغوت أو في المعصية او في مخالفتهم للنذر الصحيح اللّه (من انصار) ينصرونهم على اللّه ويعارضونه ويمنعونهم بالقوة من عقابه (270 ان تبدوا الصدقات) التي براد بها وجه اللّه من الواجبة والمندوبة) (فنعما هي) أي فإن الصدقة نعم شيئا هي في ذاتها ولا يذهب الابداء لها بفضلها إذا لم يعرض عليها بسببه شيء من الرياء أو اذلال المتصدق عليه. واما ما ذكره
ص: 238
وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ
-------------------------------------------------------------------
في مجمع البيان والكشاف من ان المعنى فنعم شيئا ابداءها وحذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه واعطي اعرابه فهو تكلف لا يناسب جلالة القرآن الكريم (وإن تخفوها وتوتوها الفقراء) أي وتمكنتم مع اخفائها من ايصالها إلى مستحقيها من الفقراء بحسب الحاجة والأولوية (فهو) أي الاخفاء (خير لكم) لأنه ابعد عن الرياء وأقرب إلى الاخلاص وحفظ عزة الفقير وحرمة المتعفف (ويكفر عنكم من سيئاتكم)، اي ويكون الاخفاء سببا لأن يكفر اللّه عنكم بعض سيئاتكم) واللّه بما تعملون) مما تبدونه او تخفونه تراؤون فيه او تخلصون به له (خبير) لا يخفى عليه شي (271 ليس عليك) يا رسول اللّه (هداهم) اي ايصالهم إلى الحق ولا انت مسؤول عن ذلك فإنما عليك البلاغ (ولكن اللّه يهدي) أي يوصل بتوفيقه إلى الحق والعمل الصالح (من يشاء) ممن هو أهل للتوفيق (وما تنفقوا) يا أيها الناس (من خير) من المال او طيبه وخيره أو مسمي خيرا لأنه يقصد به وجه اللّه وسبيل الخير (فلا نفسكم) بعود النفع من انفاقه (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه) أي الوجه الذي بنتوجه به إلى اللّه وفي التبيان ابتغاء مرضاة اللّه وفي الكشاف وطلب ما عنده انتهى وما ذكره إنما هو غاية يقصدها الغالب في عملهم لوجه اللّه وقد تكون الغاية للأولياء هو ان اللّه اهل للعبادة كما يروى عن زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) تصريحه بذلك وإذا لم يثبت ما ذكر في الدر المنثور وغيره من ان السبب في نزول هذه الجملة هو الرخصة لمن امتنع عن الانفاق على ارحامه المشركين فالظاهر انها خبرية يراد بها تأكيد النهي عن ان ينفقوا إلا ابتغاء وجه اللّه خالصا من الرياء (وما تنفقوا من خير يوف اليكم) أي يوصل اليكم جزاءه تاما وافيا (وانتم لا تظلمون) بنقصه ولا تأخير ايصاله عن محل الحاجة فإنه يصل اليكم في حال انتم فيه في اشد الحاجة إلى ذلك الجزاء (272 للفقراء) قال في التبيان ومجمع البيان والكشاف تقديره «النفقة للفقراء» ويدل على ذلك تعدد ذكر الانفاق في الآيات وكونها مسوقة له وأما تعليق الجار والمجرور بكلمة «وما تنفقوا» في أول الآية فلا يصح لأن
ص: 239
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا
-------------------------------------------------------------------
الانفاق إنما يعدى بعلى لا باللام مضافا إلى ما بعده من حيث الفصل الطويل وعدم الانسجام (الذين احصروا في سبيل اللّه) في مجمع البيان قال ابو جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) نزلت في اصحاب الصفة ورواه الكلبي عن ابن عباس انتهى وفي الدر المنثور ذكر انه اخرجه ابن المنذر من طريق الكابي واخرجه ابن سعد عن محمد بن كعب القرضي عن ابن عباس. ولفظ الآية عام وإن كان اصحاب الصفة بمقتضى الرواية مورد النزول، والاحصار هو المنع او الحبس الذي يكون من ناحية المحصر. أي منعوا انفسهم وحبسوها في سبيل اللّه بسبب معاداتهم للمشركين او لأنهم وقفوا انفسهم على التجند في سرايا رسول اللّه وحروبه فحبسوا انفسهم على انتظار ذلك او على خدمة الدين او طلب العلوم الدينية فهم من اجل ذلك (لا يستطيعون ضربا في الأرض) للتكسب والاحتراف للرزق بالتجارة ونحوها (بحسبهم الجاهل) بحالهم (اغنياء من التعفف) وترويض انفسهم على العفة مع شدة الحاجة فإن مملكة العفة قد يغلبها الفقر ودوام الحاجة ولكنها إذا كانت لا تزال مؤيدة بالتعفف وترويض النفس كانت هي الغالبة (تعرفهم) بما هم فيه من الفقر والحاجة (بسيماهم) ومخاتلهم ودلائل احوالهم على الحاجة اي ان سيماهم كافية في تعريف حالهم لا ان معرفتهم بالفقر منحصرة بدلالة السماء فإن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وكثير من الناس كانوا يغرفون حال الكثير من المذكورين بالخبرة والاطلاع والظاهر ان الخطاب في تعرفهم ليس لحصر المعرفة بالرسول بل المعنى يعرف حالهم بسيماهم فهم وان تمادى بهم الفقر (لا يسألون الناس الحافا) في نهاية ابن الأثير من سأل وله اربعون درهما فقد سأل الناس الحافا و قال الزجاج الحف شمل بالمسألة وهو مستغن عنها. ونحوه في اساس الزمخشري. وفسروا الالحاف ايضا بالالحاح في المسئلة ومعنى الآية لا يسألون نوع الناس مهما احتاجوا ولا يشمل سؤالهم كل من يحتملون اسعافه لهم فيكونوا بذلك ملحفين وملحين بنوع السؤال وإن لم يلحوا في افراده ولا يلزم في فضل المذكورين ان لا يسألوا أحداً أبداً فلا يخدش في تعففهم ان تلجأهم الضرورة إلى ان يذكروا حالهم اتفاقا لمن هو أولى بالمؤمنين من انفسهم أو من ينوب عنه. ولا يبعد انه لا ينفك أحد من ان يسأل حاجة ولو من خواصه بل قد يجب ذلك أو يندب ولكن في
ص: 240
وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (274) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
-------------------------------------------------------------------
مجمع البيان قيل معناه انهم لا يسألون الناس اصلا عن ابن عباس وهو قول الفراء والزجاج واكثر ارباب المعاني واستشهد له بقول الاعشى (لا يغمز الساق من اين ومن وصب» ايليس بها ابن ولا وصب ليغمز ساقها واستشهد في التبيان لذلك بقولهم ما رأيت مثله يريدون بذلك انه ليس له مثل كما استشهدوا لذلك بقول امرئ القيس على لا حب لا يهتدى بمتارهاي ليس فيه منار يهتدى به اقول وهذه الشواهد لا تشبه الآية ولو كان المراد انهم لا يسألون اصلاً لما صح من مثل كرامة القرآن ان يبين فضلهم بلفظ يظهر منه خلاف المراد ولا يقارب المراد الاعما ذكروه من التأويل البعيد (وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم) يوفيكم جزاء (275 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وبيده مضاعفته (ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون) فيما رواه الصدوق في العيون مسندا عن الرضا عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) انها نزلت في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروى المفيد في الاختصاص مسنداً عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انها نزلت في علي وذلك لانه كان عنده اربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهار أو بدرهم سرا وبدرهم علانية. وروي في التبيان مثله عن ابن عباس. وقال وهو المروي عنها وفي مجمع البيان وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ورواه في الكشاف واسنده الواحدي في اسباب النزول عن ابن عباس. وحكى العياشي والواحدي روايته عن الكابي ونحوه ايضا في مناقب الخوارزمي وعن الحافظ ابي نعيم والثعلبي في تفسيره والحموبني في فرائده وابن المغازلي وذكر ابن ابي الحديد في شرح النهج ان شيخه الاسكاني احتج في رد الجاحظ بنزول الآية في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور اخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم والطبراني وابن عساكر من طريق عبد اللّه بن مجاهد عن ابيه عن ابن عباس وذكر نحوه وفي مناقب ابن شهر اشوب روى ذلك عن ابن عباس والسدي ومجاهد والكلبي وابي صالح والثعلبي والطوسي والواحدي والطبرسي والماوردي والقشيري والثمالي والنقاش والقتال وعلي بن حرب الطائي وعبد اللّه بن الحسين في تفاسيرهم قلت وكذا في تنوير المقياس
ص: 241
(274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
-------------------------------------------------------------------
وهو التفسير المنسوب لابن عباس : وايضا عن الثعلبي روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس انها نزلت في شأن عبد الرحمن بن عوف وعلي بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانت صدقة علي احب الصدقتين الى اللّه. وروى الواحدي وصاحب الدر المنثور ان الآية نزلت في اصحاب الخيل الذين يعلقونها في سبيل اللّه ولكنك لا تكاد تجد بين هذا وبين الآية مناسبة تليق بكرامة القرآن : هذا ولا يخفى ما في الصدقة والانفاق من الفوائد العظيمة في المصالح الدينية والاجتماعية وللمنفق في تهذيب نفسه من رذيلة الشح وفي قربه من اللّه واستحقاقه الجزاء المضاعف. كما لا يخفى ان الربا في مضاره على عكس ذلك ويقابله بالضدية في كل ما ذكرناه تمام المقابلة وهل يخفى ضرره بايقافه سوق التجارة وتبادل المنافع والمساعدات بالمعروف بين الناس. الا ترى ان الرجل بينما هو مثر اذا به قد استهلك الربا ثروته وتركه يعجز عن مؤنة عياله. فناسب ذلك في لطف اللّه وارشاده لعباده ان يتبع امره وترغيبه في الانفاق والصدقة بزجره وتوبيخه على الربا فقال جلت آلاؤه (274 الذين يأكلون الربوا) اصل الربا الزيادة واشتهر استعماله في خصوص الزيادة التي تؤخذ في معاوضة بعض النوع بمثله من المكبل والموزون سواء كان ذلك في معاملة او قرض. وحرمته في الجملة معلومة من الكتاب والسنة واجماع المسلمين بل لا يعد كونها من ضروريات الشريعة وان خفي بعض مصاديقه عن بعض الناس كما في بعض المعاملات الربوية. والمراد من الربا اخذه وانتزاعه من مالكه كما في قوله تعالى في السورة «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ» وفي سورة النساء «لا تأكلوا اموالهم الى اموالكم» «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) الخبط هو الضرب على غير استواء وضرب الشجر ليتناثر منه الورق. وخبطت الشجر اسقطت منه الورق. واسم الورق المتساقط من الشجر خبط بفتح الخاء والباء. والظاهر ان تخبطه مثل تزوجها وتبناه اتخذه خبطا اي جعله كالخبط في تتابع سقوطه بسبب مسه له في مجمع البيان من رواية الجمهور وفي تفسير القمي من رواياتنا ان رسول اللّه اري حال هؤلاء ليلة اسري به الى السماء وفي روايات
ص: 242
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ
-------------------------------------------------------------------
الدر المنثور عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وابن عباس وابن مسعود وانس وابن سلام لا يقوم يوم القيامة الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان وبذلك فسره مجمع البيان وهو ظاهر المقام وفي التبيان كأنه نسبه الى القبل (ذلك) اي حالهم في القيام المذكور (بانهم) أي عقوبة بسبب انهم (قالوا) في باطل قياسهم وغلط اعتراضهم على الشريعة وحكمتها (انما البيع مثل الربو) في انه يكون في تعاطيه ربح وتكون المالية في احد العوضين اكثر منها في الآخر مع ان البيع متداول بين الناس وقد غلطوا في قياسهم فإن اللّه جل شأنه قد اجرى احكام شريعتة على الحكم وكثير أما يظهر وجهها (واحل اللّه البيع) لقيامه بنظام الاجتماع ومصلحة المدنية في تبادل المنفعة باعيان الاموال ووجوه الحاجة الى خصوصياتها مع ابتنائه على العدل في تساوي العوضين في المالية بحسب الاعتبار عند المبايعة وانما تحصل الزيادة اتفاقاً بحسب اختلاف الرغبة او الزمان او المكان (وحرم الربا) لا بتنائه من اول الامر على الزيادة في العين وماليتها وعلى الاجحاف والاخلال بحسن الاجتماع بالمعروف لما اشرنا اليه من المفاسد وسد باب الإحسان والمعاونة (فمن جائه موعظة من ربه) الموعظة التذكير والتخويف من عقاب اللّه على معصيته ومخالفة نهيه عن الرباسواء كان ذلك بالتخويف الذي ذكره اللّه وخوفهم به من آي القرآن كما في التبيان او بالتخويف الذي ينتهي الى وحي اللّه مما يخوف به الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ثم الأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم الوعاظ نحو ما روي في الكافي والفقيه والتهذيب في الصحيح عن ابي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) در هم ربا عند اللّه يعدل سبعين زنية كلها بذات محرم وفي حديث آخر في بيت اللّه الحرام وفيه ايضا مثل ان ينكح الرجل امه في بيت اللّه الحرام ومثل ما ورد من لعن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لآكل الربا وفي روايات الدر المنثور وغيره نحو من ذلك (فانتهى) عن الربا بسبب الموعظة وثاب (فله ما سلف) الظاهر منه الفعل السالف وهو اخذ الربا وتعاطي معاملته اي ان اللّه يتوب عليه ويغفره له واما ارادة انه يحل له ما اخذه فيما سلف اذا تاب فتحتاج الى تصرف في اللفظ وقرينة دالة على ذلك وفي التبيان قال ابو جعفر «يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ)» من ادرك الاسلام وتاب مما عمله في الجاهلية وضع اللّه عنه ما سلف ونحوه في مجمع البيان. والرواية مع ارسالها لا يعلم كونها تفسير الهذه الآية ولو كان موردها الربا وعرف
ص: 243
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
منها ان الذي وضعه اللّه هو المال الذي اخذ ربا فيما سلف لكانت من قبيل ان الاسلام يجب ما قبله (وامره) في توبة اللّه عليه وتوفيقه للثبات عليها الى اللّه) بحسب علمه بصدق توبته واهليته للتوفيق للدوام عليها فان المغفرة ليست بلازم طبيعي لمحض اظهار النوبة. هذا من حيث الإثم واما من حيث المال الزائد الذي هو ربا في الدين او أحد العوضين في المعاملة الربوية الفاسدة فالامر موكول الى ما تقتضيه الاحكام الشرعية في اموال الناس وان اخذت في حال الجهل بحرمة الربا الا كما يظهر من كلامي الصدوق في الهداية والشيخ في النهاية من ان المأخوذ في حال الجهل بحرمة الربا لا يجب رده هو حلال لآخذه واعتمده في الدروس ومال اليه بعض متأخري المتأخرين استناداً الى روايات لا دلالة فيها على ذلك فإن ماروي في الكافي عن ابي المغرا وفي التهذيب عن الحلبي وفي الفقيه ما عدا صدره مرسلا جميعا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فانما يدل صدره المروي في الكافي والتهذيب على قبول التوبة من الربا وان كانت حرمته شديدة مغلظة ولفظ الجهالة في الرواية مثل ما في القرآن في الوعد بالتوبة لمن يعمل السوء بجهالة كما في سورة النساء 21 والانعام 54 والنحل 120 لا الجهل بالحرمة ثم على حل المال الموروث المختلط بالربا ويحمل على الذي يطهره الخمس جمعا. واما عجزه الذي انفرد به الكافي والفقيه وعن التهذيب فبالنظر الى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاراد ان ينزعه وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما مضى فله ويدعه فيما يستأنف لا بدل الا على انه يغفر له ما مضى من عمله بسبب توبته ونزع المال الربوي من ماله. واما ما اسنده الكافي والتهذيب عن الحلبي وارسله الفقيه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيمن اتى الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فانا يدل صدره على حل المختلط ويحمل على الذي يطهره الخمس جمعا او على ما يحتمل وجود الحرام فيه وذلك لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإن المال مالك واما عجزه من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فان رسول اللّه قد وضع الى آخره فلا دلالة فيه على انه تعليل لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكله هنيئا فإن المال مالك. ولم يجر في السؤال ان مورثه كان جاهلا حرمة الربا فغاية ما يظهر منه هو ان الجاهل بحرمة الربا اذا عمل به فهو معذور من حيث الإثم. فالظاهر ان المراد منه تطبيب قلب السائل بان العامل بالربا معذور اذا كان جاهلا بحرمته فانت اولى بالاطمئنان من الإثم. واما مارواه في التهذيب عن محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيمن عمل الربا حتى كثر ماله فهو شامل لصورة معرفته للربا وعلمه بتحريه ان لم يكن ظاهر الحال
ص: 244
وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ
-------------------------------------------------------------------
والسؤآل ذلك كما ان الظاهر من قول القائلين له ليس يقبل منك شيء الا ان ترده على اصحابه هو انهم سدوا عليه باب المغفرة وقبول التوبة الا ان يرد الربا على اصحابه وان جهلهم او تعذر عليه فيكون قول الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مخرجك من كتاب اللّه فمن جاءه موعظة الآية رداً على تشديد هؤلاء وان التوبة الصادقة والانتهاء مخرج من اثم الربا الى المغفرة واما مال الربا فقد يكفي فيه في بعض الموارد رده الى الامام او نائبه او الى الفقراء فلا ينحصر قبول التوبة بخصوص رده على اصحابه على كل تقدير وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) والموعظة التوبة يريد به ان الذي يتعلق به الغرض في قوله تعالى فمن جاءه موعظة الى قوله فانتهى ويغفر به الذنب انما هو التوبة واما المال فله احكامه (ومن عاد الى تعاطي الربا مستحلا له بعد ما نزل القرآن بتحريمه وبلغه ذلك او الى الاعتراض على الشريعة بقوله انما البيع مثل الربا اوالى كل من ذينك كفرا وارتدادا واصروا على عودهم هذا حتى ما تواكما هو ظاهر الآية (فأولئك) اشير بالجمع باعتبار المعنى في الموصول (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 275 يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) المحق الانقاص للشيء حالا بعد حال حتى يناف فاللّه بتلف الربا وان املی لأخذه زمانا حتى يذهبه منه او ممن جمعه لاجلهم كوراله (ويربي الصدقات) اي يزيدها باعتبار الجزاء والثواب المضاعف واللّه لا يحب كل كفار صيغة مبالغة في الكفر والاظهر ان المراد هنا هو كفر النعمة وعدم الاكتفاء بما انعم اللّه به عليه من الجلال حتى يتقدم ما حرم اللّه عليه من الربا لا الكفر الشرعي وتحقق المبالغة بتكرار اخذه الربا وكفران النعم وفي التبيان و مجمع البيان حملا الكفر على الشرعي فيمن يستحل اكل الربا والاول اعم في الزجر واظهر في المقام (اثیم) متماد على عمل الاثم (276 ان الذین آمنوا) باللّه ورسوله و کتابه وشريعته (و عملوا الصالحات) ومنها كف النفس عما حرم اللّه (واقاموا الصلاة وآتوا الزكوة) نص عليهما بالذكر تعظيم الشأنهما وان كانا من نوع الاعمال الصالحة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 277
ص: 245
مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
يا ايها الذين آمنوا) واسلموا (اتقوا اللّه) وخافوه ولا تخالفوا امره ونهيه وذروا ما بقي (لكم عند الناس من الربا ان كنتم مؤمنين) على حقيقة الايمان فذروه (278 فإن لم تفعلوا) ولم تذروه بل اصررتم على اخذه (فأذنوا) اي فاعلموا وكأنه مأخوذ من العلم بواسطة السمع بالاذن (بحرب من اللّه ورسوله وان تبتم) عن الاصرار على اخذه او اخذتموه وتبتم بعد ذلك (فلكم رؤوس اموالكم) دون الزيادة الربوية (لا تظلمون) باخذ الربا (ولا تظلمون) بالنقص من رؤوس اموالكم (279 وان كان) حصل (ذو عسرة) او وان كان ذو عسرة غريما لكم وهو من لا يجد ما بغي به من غير ما استثني له في الشريعة (فنظرة الى ميسرة) اي فعليكم في امره او فالذي يحكم اللّه به في امره هو نظرة منكم له الى حصول ميسرة له ومن الميسرة ان يصل خبره الى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين اذا كان انفق الدين بالمعروف كما اسنده في الكافي عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وارسله في مجمع البيان عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وان تصدقوا) عليه بالدين كلاً او بعضاً (خير لكم) اي وصدقتكم عليه بذلك خير لما فيها من ثواب الصدقة وتفريج هم المديون وتسكين قلبه في عسرته (ان كنتم تعلمون) ما في هذا التصدق من الفوائد التي لا غنى لكم عنها. وجاءت الجملة شرطية لمزيد الترغيب اي ان كنتم تعلمون ما في التصدق المذكور من الخير فاتكم ترغبون فيه بما انكم عقلاء فتصدقوا. وعبر عن المصدر بالفعل ليكون اظهر في اقدامهم على فعل الصدقة واختبارها و في تعلق التصدق بالدين على المعسر. ولا دلالة في الآية على اختصاص حكمها بمن ذكر في الآية من السابقة المديونين بالمعاملة الربويه فإن لفظها مطلق وحكمتها عامة بل لو كانت مرتبطة لذكرت بالتفريع بالقاء فالظاهر هو عمومها لكل دين وفي التبيان وهو قولهما وفي مجمع البيان وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). وما روي في الدر المنثور عن ابن عباس ما يوهم اختصاصها بدين الربا لا اعتبار لسنده فضلا عن خلل متنه واضطرابه وجعل المقابل لدين الربا هو الأمانة (280 واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه) رجوع معاد واستسلام اتقوا ذلك اليوم واهواله
ص: 246
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
-------------------------------------------------------------------
العظمى بطاعة اللّه والانزجار عن معاصيه (ثم توفى كل نفس ما كسبت) من خير وشرو توفيته باعتبار توفية جزائه من ثواب او عقاب (وهم) اي الناس المدلول عليهم بكل نفس (لا يظلمون) بنقص الثواب عن قياس العمل أو عدمه وزيادة العقاب عن قباس الجرم أو ابتدائه بلا جرم (281 يا ايها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) اي تعاملتم بمعاملة فيها دين (إلى أجل مسمى) وهذا بيان لأن الأجل لا بد من ان يكون معينا لا جهالة فيه (فاكتبوه) اي فاجعلوه مكتوباً اعم من مباشرة الكتابة او تسييبها وهذا الدين غير القرض المحض فإنه لا اجل فيه ولا عبرة بتأجيله. ولعل السر في تخصيص ذي الأجل بالذكر هو كون المؤجل في الغالب معرضاً للوهم والنزاع في الأجل والشروط. وان كانت حكمة عدم الارتياب جارية في القرض ايضا باعتبار نفس المال ومقداره كما يشير الى ذلك قوله تعالى «الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها الخ» كما ان قوله تعالى «ذلك اقسط عند اللّه واقوم للشهادة وادنى ان لا ترتابوا» يشير إلى ان حكم الكتابة والاشهاد للإرشاد لا للوجوب مضافا إلى المعروف من عمل المتشرعة من عدم الكتابة في موارد الاطمئنان كما في قوله تعالى «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ» وفي التبيان لإجماع عصرنا على ذالك اي على عدم الوجوب (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) أي على حقيقة المعاملة والأجل والشروط والأمر هنا للمتعاملين كقولك يا صاحب الضيعة لبيت في ضيعنك حارس أي ابت حارسا وقد ذكرنا انه للارشاد. وهذا أعم من ان يكون الكاتب بينهما هو احدهما لحصول الغرض به او هو ناظر إلى الحال في عصر النزول من كون الغالب من العرب لا يكتبون (ولا يأب كاتب) أي من يحسن الكتابة في مثل المقام (ان يكتب) والنهي هنا للكراهة إذ لا يجب تسبيب الكتابة على المتعاملين فكيف تجب على غيرهما. ولئن وجبت صنعة الكتابة كفائيا اداء للوجوب في نظام العالم لم يقنض ذلك ان يجب على كل كاتب ان يكتب في كل مورد (كما علمه اللّه) وانعم عليه بالكتابة (فليكتب) للناس في محل حاجتهم شكر النعمة اللّه. وهذا هو المعنى التأسيسي والظاهر لهذه الجملة واسلوبه
ص: 247
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
-------------------------------------------------------------------
ايضا يدل على ان الكتابة مستحبة (وليمال الذي عليه الحق) والدين. يملل ويملي على الكاتب بمعنى واحد اي يذكر له الحال عند الكتابة ليكتب ما يذكره له المديون (وليتق اللّه ربه) في املائه فإن اللّه ربه والعليم بالأمور والقادر عليه ومن اليه مرجعه وبيده عقابه (ولا يبخس) في املائه (منه) أي من الحق الذي عليه (شيئا) ولو من شؤونه. وقد طلب الاملاء منه بهذا النحو استحبابا لأنه عارف بالحق ووجوهه فيكون املاؤه على الحقيقة اقرب إلى توطين نفسه على الوفاء وإلى اطمئنان الدائن بذلك وإلى المجاراة بينهما على المعروف، ويجوز بلا خلاف ان يملل غيره او يكتب الكاتب بحسب اطلاعه ثم يعترف المديون به ويشهد على اعترافه (فان كان الذي عليه الحق سفيها) في تصرفاته بماله بحيث الغى الشارع معاملاته واعترافاته فيها وارجع الامر في ذلك الى وليه (او ضعيفا) في عقله كالصغير والمجنون والابله والخرف (او لا يستطيع ان يمل هو) كالأخرس ونحوه او من لا يحسن ان بين الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة (فليملل وليه) الذي جعلت ولايته في الشريعة (بالعدل) على حقيقة المعاملة وخصوصياتها المطلوبة. والولي على الصغير ابوه وجده لأبيه وان لم يوجدا فولي سائر المذكورين وهو النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) او الإمام او النائب عن احدهما ولو بعموم الجمل كالحاكم الشرعي أو نائبه ولو في خصوص تلك المعاملة (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) المسلمين (فإن لم يكونا) اي الشهيدان الحاضران المذان هما من المسلمين (رجلين فرجل وامرأتان) أي كالذي يكتفي بشهادته رجل وامرأتان لكن لا مطلق الشاهد بل (ممن ترضون من الشهداء) أي ممن برضاهم النوع في الشهادة ويركن إلى شهادتهم لأجل اتصافهم بالصلاح والعدالة الرادعة لهم عن الكذب والتساهل في الشهادة. وجعل بدل الرجل امرأتان حذرا من (ان تضل احداهما) وتتيه في اداء الشهادة لأن نوع النساء ابعد عن ضبط هذه الأمور من نوع الرجال (فنذكر) اي فحين الضلال تذكر (احداهما الأخرى) فيتحاوران في الأمر وكل منها نذكر الأخرى بخصوصية
ص: 248
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ
-------------------------------------------------------------------
أمر فتذكر الضالة حقيقة الأمر بخصوصياته هذا في مقام الاشهاد الكافي في ثبوت الحق به فلا ينافي ما دل على ثبوته بالشاهد واليمين (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) لتحمل الشهادة ولا ينبغي ان يأب إذا دعي لذالك كما في صحيحة التهذيب وروايته عن ابي الصباح وسماعة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايته ايضا عن الكاظم ورواية الكافي عن ابي الصباح وصحيحته عن الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونحوها روايات العياشي والنهي للكراهة ويشهد لذلك سياق الآية في اوامرها ونواهيها وقول الإمامين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا ينبغي (ولا تسأموا) اي لا تملوا ولا تضجروا من ان تكتبوه اي الدين في شؤونه (صغيرا او كبيرا) فإن التساهل في كل من ذلك قد يوجب النزاع وضياع شيء من الحقوق (الى اجله) اي الدين (ذلكم) اي ما تقدم من احكام الكتابة واشهاد المرضيين وعدم السأم من الاستقصاء في الكتابة (اقسط عند اللّه) اي اعدل واولى بأن تكونوا مقسطين عادلين (واقوم للشهادة وأدنى) واقرب الى (ان لا ترتابوا) بعد ذلك في مبلغ الدين وخصوصيائه واجله. وهذه الأمور مطلوبة لحصول غاياتها الحميدة التي ربما تحتاجون اليها الا ان تكون المعاملة يذكم (تجارة حاضرة) ليس فيها دين بل (لديرونها) اي تتناقلون العوض والمعوض (بينكم) بأن يأخذ كل منكم عوض ما دفعه في النجارة فليس عليكم جناح اي ضيق وحزازة مما ارشد تم الى التخلص منه في امر الدين فلاضير في (أن لا تكتبوها) اي تلك التجارة (وأشهدوا اذا تبايعتم) وعلى استحباب ذلك اجماعنا في الحاضرة بل الاتفاق مما عدا اهل الظاهر وهو الصحيح في غيرها ولا يضار كاتب ولا شهيد الظاهر بسبب رجحان التأسيس وما يناسب المقام من الاستقصاء في الأحكام الاجتماعية العادلة وحكمة النظر من علام الغيوب الى حوادث المستقبل هو أن يكون «يضار» مبنيا للمفعول اصله يضار ربفتح الراء الأولى فسكنت وحركت الثانية بالفتحة حذرا من النقاء الساكنين بسبب الجزم بالنهي اي ولا يدخل علي الكاتب بسبب كتابته ولا على الشاهد كتابته ولا على الشاهد بسبب شهادته ضرر ما في ذات الكتابة
ص: 249
وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
-------------------------------------------------------------------
وعواقبها وفي ذات الشهادة وأدائها وليس عليه الا ادائها بلا ضرر. وعلى البناء للمفعول تفسير ابن عباس على ما في تنوير المقياس ورواية الدر المنثور وروايته ايضا لقراءة عمر عند فكه لادغام الراءين (وإن تفعلوا) وتضروهم فإنه فوق اي خروج عن الطاعة والاستقامة كائن (بكم) كما يقال به داء كذا. وانه لما به. و به جنون. وبه جنة كما جاء في سور الاعراف والمؤمنون وسبأ (واتقوا اللّه ويعلمكم اللّه) فاشكروا فضله واعلموا بما عليكم مما فيه صلاحكم وطريقكم الى تقوى اللّه فإنكم جاهلون (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 282 وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) واردتم الاستيثاق من دينكم (فرهان مقبوضة) اي فوثائقكم رهان مقبوضة. والرهن مصدر رهنت الشيء ارهنه. ويستعمل في المرهون كاستعمال الوقف في الموقوف. وهو في النظم والنثر كثير ومنه ان يقتلوني فرهن ذمتي لهم بذات ودقين لا يعفو لها اثر وجمعه رهان كثمر وثمار. وربما يقال ان قيد القبض هنا انما هو لأجل توقف الاستيثاق في السفر الذي ليس فيه كاتب وحصول هذه الفائدة فيه على القبض. واما الرهن في الحضر الذي هو مشروع بالسنة والاجماع فلا يشترط فيه القبض كما هو مذهب مالك من الجمهور بل يكفي في فوائده ان لا يتعلق الحجر لباقي الغرماء بالمرهون لكن في التبيان ومن شروط صحة الرهن ان يكون مقبوضا لقوله تعالى فرهان مقبوضة وعن خلافه خلاف ذلك وفي مجمع البيان فإن لم يقبض لم ينعقد الرهن اجماعا وفي رواية التهذيب عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا رهن إلا ما كان مقبوضا ونحوه عن تفسير العياشي لكن يكفي في منع الإجماع ما في السرائر والغنية من نقل عدم الخلاف في صحته اذا استجمع شروطا ذكراها وليس منها القبض وفي كنز العرفان ان المحققين على عدم الاشتراط بل في السرائر ان الاكثر من المحصلين على ان القبض ليس شرطا في اللزوم والرواية ضعفت بالاشتراك وتمام الكلام في الفقه (فإن أمن بعضكم بعضا) ولم يطلب منه وثيقة بل ائتمنه على دينه (فليؤد الذي اؤتمن امانته) وهو الدين ويمكن ان تعم جميع الامانات حتى الوديعة نظرا الى اشعارها بالتعليل ويكون هذا المورد من احد المصاديق للعام (وليتق) بذالك (اللّه ربه)
ص: 250
وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (28) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ
-------------------------------------------------------------------
ومالك امره في الدنيا والآخرة (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) آثم خبر إن وقلبه فاعل او خبر مقدم وقلبه مبتدأ والجملة خبر ان ونسب الاثم الى القلب باعتبار انه آلة الكتمان ولتغليظ الاثم ببيان فساد الميده للاعمال فإن فساد القلب اصل الشر والبعث ع-ل-ى الفساد. وقيل آتم ولم يعبر بالفعل ليدل على دوام الاثم بدوام الكتمان (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ 283 لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وهو الخالق للكل والمدبر له وبيده امره وانتم من جملة ذلك فهل يخفى عليه شيء من اموركم (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) في التبيان ومجمع البيان ان المراد بالآية ما يتناوله الأمر والنهي من الاعتقادات والارادات ما هو مستور عنا وعلى ذلك رواية العياشي عن رجل وعن ابي عمر الزبيري عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وقد اورد في الدر المنثور في هذه روايات كثيرة مختلفة متعارضة ومضطربة. منها عن ابن عباس انها نزلت في الشهادة واقامتها وكتمانها ويرد على الرواية انه ما معنى الحساب على ابدائها واقامتها. ومنها عن ابن عباس وعائشة انها غير منسوخة وفسر ابن عباس ما يخفونه بالاعمال التي لم يطلع عليها الحفظة. ومنها عن ابي هريرة وابن عباس انها نسخت بقوله تعالى لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها. وفي الرواية عن ابن عباس تفسيرها بوسوسة النفس وعنه تفسيرها تارة بحديث النفس وثارة بالتكذيب. ومنها عن ابن مسعود وعائشة ان الناسخ لها هو قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت : ولكن هذا غير مستقيم فإن ما لا يدخل في وسع الإنسان لا يكلف اللّه به لأن التكليف به قبيح فلا يمكن ان يثبت لكي ينسخ بقوله تعالى لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها ولا تكون هذه الآية نسخا لما هو داخل في الوسع واما قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فإنه لو اختص اثباته بالافعال الخارجية لما كان فيه دلالة على النفي عن غيرها ليكون ناسخا (فيغفر لمن يشاء) ممن يستغفر ويتوب ان كان اهلا لأن يتاب عليه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 284 آمَنَ الرَّسُولُ) محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) وسلم (بما انزل اليه
ص: 251
مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
-------------------------------------------------------------------
من ربه) في تفسير القمي في الصحيح عن الصادق وفي تفسير البرهان عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن مقتضب الأثر مسندا عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انه لما اسري به الى السماء ناداه اللّه عز وجل آمن الرسول بما انزل اليه من ربه فأجاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عنه وعن امته (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ولعله اشارة الى من حملته العصبية القومية او الاغراض الفاسدة على جحد الرسول بعد قيام الحجة على رسالته جحده لانه ليس من قومه او لأنه يعارض اغراضه الفاسدة. والى الذين قال لهم آمنوا بما انزل اللّه قالوا نؤمن بما انزل الينا ويكفرون بما وراءه الآية كما في الآية الخامسة والثمانين (وقالوا سمعنا واطعنا) اخبار من اللّه بفضلهم في الطاعة والايمان (غفرانك) منصوب بفعل من لفظه وهو اغفر ومعناه نسألك غفرانك يا (ربنا) وفيه تلطف في المسألة بنحو من الاحتجاج على رحمته ومعنى انت ربنا وولي امرنا والى اين يذهب العبد إلا إلى مولاه. ولم يذكر متعلق الغفران لأن طلبه عام لكل من يحتاج الى الغفران ولم يخرج بسوء اختياره عن اهليته له (واليك المصير) اي مصيرنا في امورنا في الدنيا والآخرة (280 لا يكلف اللّه) بأمره او نهيه (نفسا إلا وسعها) الوسع ما تسعه قدرة الإنسان ويدخل في وسعها ونسب الوسع الى النفس بهذا الاعتبار والمعنى الا ما تسمه قدرتها. وقد تمجد اللّه بذلك دلالة على تقدسه في كماله عن العبث والقبيح في التكليف بغير المقدور ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين تمجيدا اللّه بعد له (لها) اي للنفس (ما كسبت) من الخير يوفيها اللّه اياه ولا يفوتها من فضيلته وجزائه شي (وعليها ما اكتسبت) من الشراي عليها وزره ونقصه لا على غيرها. وعبر في الشر بالاكتساب لأجل التوبيخ لفاعله والاحتجاج عليه فإن الاكتساب يدل على الاعتمال والمعالجة في طلب الكسب يشير بذلك الى ان عمل الشر كان باختبار ومعالجة من النفس في طلبه مع انه شر قد زجرها العقل والشرع عنه يا (ربنا) ومالك امرنا ومفزعنا في امورنا (لا تواخذنا إن نسينا أو أخطأنا) من الخطأ ضد العمدوان كثيرا
ص: 252
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(سورة آل عمران * مائتا آية)
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الم اللّه لا إلهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ القَيُّومُ (2) نَزَّلَ عليك الكتاب بِالحَقِّ مُصَدِقاً لِما بَينَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ الفُرْقان
-------------------------------------------------------------------
من النسيان والخطأ ما يقع بسبب التساهل والتقصير في التحفظ لتحصيل ما كاف به وهذا مما لا تقبح فيه المؤاخذة على مخالفة الواقع فطلبوا من اللّه ان لا يؤاخذهم في ذلك (ربنا ولا تحمل علينا اصرا) اي عبئا ثقيلا من التكاليف الشاقة ولو لحكمة التأديب (كما حملته على الذين من قبلنا) لتمردهم (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به (من الابتلاء والامتحان او العذاب في دار الدنيا بل والآخرة واعف عنا العفو هو اسقاط الحق والمراد اسقاط حق العقوبة (واغفر لنا) الغفران هو الصفح عن الذنب (وارحمنا) وهو دعاء جامع انت مولينا وولي امرنا وملجأنا لا غيرك فانصرنا على القوم الكافرين) لتوفق لاظهار دينك وطاعتك في دين الحق
سورة آل عمران
مائنا آية وهي مدنية
(بسم اللّه الرحمن الرحيم) (1 آلم) علمها عند اللّه وأمناء وحبه (اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم) تقدم شيء من تفسيرها في آية الكرسي (2 نزل عليك الكتاب) وهو القرآن الكريم (بالحق) حال كونه (مصدقا لما بين يديه) اي ما تقدم عليه من الكتب الإلهية. يشهد بصدق نسبتها الى الوحي الإلهي وصدق ما فيها من الحقائق. او انه بانطباقه في مجده بعينه على اخبار الكتب الإلهية السابقة به ووصفها وتمجيدها نه يكون المصداق المصدق لها في ذلك الاخبار والتمجيد وانزل التوراة وهي الحقيقة المنزلة على رسوله موسى (والانجيل) وهو الكتاب الواحد الحقيقي المنزل على رسوله عيسى من قبل حال كون التوراة والانجيل (هدى للناس وانزل الفرقان) في تفسير القمي في الصحيح عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية الفرقان كل امر محكم. والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الانبياء. ونحوه عن تفسير
ص: 253
(3) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
-------------------------------------------------------------------
العياشي. وفي الكافي عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل ب--ه ونحوه عن تفسير العياشي (3 ان الذين كفروا بآيات اللّه) وجحدوا كونها منزلة من اللّه وماتوا على كفرهم لهم عذاب شديد بما كفروا (واللّه عزيز) في جلال شأنه (ذو انتقام) بعزته وقدرته من الكافرين (4 ان اللّه) عليم بكل شيء (لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ) الرحم هو العضو الذي يتكون فيه الجنين من الأم الى حين الولادة (كيف يشاء) بحكمته الباهرة ومن آيات ذلك ان اعضاء الإنسان الظاهرة مع انها معدودة يصورها بقدرته وحكمته بحيث يمتاز كل من البشر عن الآخر. واما حكمة هذا التصوير وما في كل واحد من الأعضاء الظاهرة والباطنة من الحكم الباهرة والفوائد الكبيرة والاسرار العجيبة فهو اعظم من ان يوصف. واما الذي وصلت اليه معرفة البشر فهو مما لا يسع هذا المقام بعضه. وفي التشريح الجديد ما يبهر العقول بيواهر حكمه وعجائبه. وان الذي يظهر من اعضاء الانسان وآلات حسه ليكفي في بيان الحكم العجيبة لكل ذي رشد وادراك. وكل ذلك جار في حكمه وخلقه وتصويره على قوانين منتظمة. وفي هذا كفاية في الحجة على ان ذلك من صنع له عليم يخلق بارادته وحكمته (لا إله الا هو العزيز) بقدرته و سلطانه (الحكيم) في خلقه واعماله «ولو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا» والذهب كل إله بما خلق واملا بعضهم على بعض» (5 هو الذي انزل عليك الكتاب) على ما اقتضته الحكمة الإلهية من كونه على احسن نهج في المحاورات. وابرع اسلوب في كلام العرب فيما يتسابقون به فخرا في ميدان البلاغة وينساجلون به في مقام التفنن بمحاسن الكلام ومزاياه الفائقة. ليكون بإعجازه ذلك حجةينة عليهم في انه تنزيل من رب العالمين. كما اشرنا الى شيء من وجه ذلك الفصل الاول من المقدمة. وعلى ذلك فلا بد من ان يشتمل اسلوبه الكريم على انواع الدلالات وملح الكنايات ولطائف الاشارات والنكت في انواع المجاز كما هو الشأن في الكلام البليغ. وقد تقتضي الحكمة
ص: 254
مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ
-------------------------------------------------------------------
ان تجي الآية بلفظ عام او مطلق والمراد منها منحصر في نوع او فرد هو مورد النزول وتدل عليه قرائن الاحوال ودلائلها كقولك هذا وهؤلاء حينما توجه الاشارة بالقرينة الى معين مخصوص. ولا ريب في ان ما ذكرناه مما يقتحم التشابه بادئ بدء في امره وما يؤول اليه تفسيره. وذلك اما من جهة خفاء القرينة ولو بواسطة القصور في بعض الافهام. واما من جهة المكابرة في امرها بحسب الأغراض وإن كانت عقلية بديهية. او يدل عليها نفس القرآن الكريم او الحديث الصحيح او المستفيض او المتواتر. ولأجل ما ذكرناه من الحكمة صار الكتاب المجيد من حيث وجوه الدلالة في الفاظه على المراد (منه آيات محكمات) قد احكمت باقتضاء الحكمة عباراتها في دلالتها على المراد بجريانها على النص والصراحة مع التأييد لذلك بحكم العقل البديهي واقتضاء السياق. فحفظت دلالتها بحسب اللغة والاستعمال من خيال الاحتمال و خلجان التشابه عند المستقيمين في الشعور والمعرفة لموازين الكلام، والمبرئين من فلتات الجهل وغواية الأهواء وعبثها بالحقائق. وهذه الآيات المحكمات كل واحدة منهن بالنظر الى ذاتها هي امر واصل ومرجع لما توضحه باحكامها من بيان حقيقة او تأسيس أساس، او تشريع حكم، او ايضاح المتشابه وتأييد لدلالته ولكن بالنظر الى مجموعها في القرآن المجيد، وكونها باعتبار احكامها مرجعا واحدا مبينا للمراد من حقائق الكتاب المجيد (هن) بمجموعهن والنظر اليه (ام الكتاب) ومرجعه الذي يتضح به المقصود من حقائق التنزيل وتتأيد به قرائن المتشابهات ويوضح دلالتها ويزيل عنها غبار الأوهام (و) منه (اخر متشابهات) على ما اشرنا اليه من اساليب الكلام البليغ ووجوه محاسنة في المحاورة وما تقتضيه الحكمة (فأما الذين في قلوبهم زيغ) اي استحبوا العمى على الهدى واختاروا الضلال بأهوائهم وحرفوا قلوبهم وأمالوها عن نهج الحق والاذعان به واشعروها الزيغ والانحراف التعيس (فيتبعون) باهوائهم ونزغات ضلالهم، ونزعات اضلالهم (ما تشابه) بالنحو الذي اشرنا اليه (منه) اي من الكتاب المجيد فيبدلون مراده ويغالطون في دلالة قرائنه، ويصرفونه عن موارد تنزيله تغاضيا عن واضحات قرائنه وبينات دلائلها ويتشبثون بالمتشابه (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) اي طلبا لأن يجدوا سبيلا الى التلاعب
ص: 255
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
-------------------------------------------------------------------
في تأويلهم له بحسب اهوائهم. وصرفه عن مؤدى تنزيله وطلبا لأن يفتنوا الناس بذلك (وما يعلم تأويله) اي تأويل القرآن كاه (الا اللّه والراسخون في العلم) لا هؤلاء الذين لم تثبت لهم في العلم قدم «بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون» فلم يسلكوا إلا دحض الجهل بزيغ الاهواء وللناس في هذا المتشابه الذي عنته الآية خلاف كبير وإن خلط بعضهم في محل النزاع فمن الناس من يقف في الآية على لفظ الجلالة ويستأنف قوله تعالى «والراسخون في العلم» بأن يكون الراسخون مبتدأ وخبره «يقولون آمنا» فيخرج الراسخين في العلم عن فضيلة العلم بالتأويل ويحطهم عن رتبة استحقوها ونوه بها القرآن الكريم في هذا السياق المشرق إذ وصفهم في طرده بالرسوخ في العلم. ومن الناس من قال بعطف «الراسخون» على لفظ الجلالة. وأن اللّه جات آلاؤه فتح للراسخين في العلم باب العلم بالتأويل بلطفه، وكرمهم بهذه الرتبة بتعليمه. وهذا الخلاف مما لا يكفى فيه بالمصادرات، ولا لعل وليت. بل لا بد فيه من ايراد الدلائل الرافعة لتشابه موارد الواو في عطف المفرد او الجملة او الاستئناف. وغاية ما يحتج به للقول الأول هو ما جمع رواياته في الدر المنثور - منها عن ابن عباس قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه الا اللّه. وعنه ايضا في بيان وجوه القرآن وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله الا اللّه ومن ادعى علمه فهو كاذب. وفي رواية اخرى وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلم تأويله الا اللّه ومن ادعى علمه سوى اللّه فهو كاذب ومن طريق طاوس عن ابن عباس ايضا كان بقرأها وما يعلم تأويله الا اللّه ويقول الراسخون في العلم آمنا. وعن الأعمش قال في قراءة عبد اللّه وفي حقيقة تأويله الا عند اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا. وذكر في الدر المنثور رواية هذا القول ايضا عن رأي عائشة وابي الشعثاء وعروة وعمرو بن عبدالعزيز ومالك وذكر ايضا احاديث تحذر من المجادلة في كتاب اللّه واتباع المتشابه منها ما اخرجه عبد الرزاق وسعيد وعبد بن حميد والجوامع السنة وغيرهم عن عائشة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انه قرأ الآيات وقال : فاذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عناهم اللّه فاحذروهم. وفي لفظ البخاري فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأحذرهم. وجمع ابن جرير بين العبارتين - ويرد هذا الاحتجاج بعد غض النظر عن الأسانيد وما فيها هو ان يوم القيامة الذي في حديث ابن عباس
ص: 256
خارج عن محل الخلاف وسوق الآية وموضوعها من التأويل. بل ان محل الخلاف هو ما عناه بقوله وتفسير تعلمه العلماء، او تفسره. وقوله في حديث آخر ظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وأما ما روي من القراءة فيرده تواتر غيرها واجماع المسلمين على عدم الاعتناء بها. وأما الآراء التي ذكرنا روايتها فهو اجتهاد في محل النزاع بلادليل واما التحذير ممن يجادل ويتبع المتشابه فإنما هو تحذير من الضالين المضلين الذين وصفتهم الآية الكريمة لا الراسخين في العلم. هذا واما القول الثاني فحجته دلالة العقل والنقل الصحيح من الفريقين وسياق القرآن الكريم، أما دلالة العقل فإن المتشابه الذي اشرنا اليه والى وجوه تشابهه والذي يتبعه ويطلبه الزائغون عن الحق ابتغاء الفتنة في امر الدين ونظام الملة واحكام الشريعة هو في القرآن كثير جدا. ومما لا يصح في العقل انه مع هذه الكثرة يحرم اللّه من تأويله والعلم به رسوله الهادي الكريم وامناءه على الوحي، وعلماء الأمة. فيكون القسم الكبير من القرآن الكريم لا فائدة في تنزيله للبشر مطلقا حتى الرسول الأكرم ولا اثر له إلا صدى الفاظه وسواد حروفه. واما الحديث من طريقنا ففي تفسير القمي في الصحيح عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) افضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما انزل في القرآن من التنزيل والتأويل وما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله واوصياءه من بعده يعلمونه كله وعن العياشي مثله. وفي الكافي عن احدهما (عَلَيهِم السَّلَامُ) مثله. وفي الكافي في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله. ونحوه عن تفسير العياشي. وفي نهج البلاغة وغيره قول امير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولقد جئتهم بالكتاب مشتملا على التنزيل والتأويل : ومن طرق اهل السنة ما في الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن الانباري من طريق مجاهد عن ابن عباس قوله انا ممن يعرف تأويله. واخرج احمد والطبراني وابو نعيم في الحلية عن ابن عباس ان رسول اللّه قال : اللهم اعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل واخرج الحاكم في مستدركه وابن ابي شيبة اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل. واخرج الحاكم ايضا اللهم علمه تأويل القرآن. وأخرج ابن ماجه وابن سعد والطبراني اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب. فانظر اقلا الى كنز العمال ومختصره في كتاب الفضائل. ولو كان علم التأويل منحصرا باللّه ولم يعلمه رسوله والراسخين في العلم لما دعا به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لابن عباس. وما هو معنى الدعاء بما لا يرجى وقوعه. واخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم كما هي عادته في المستدرك عن معقل بن
ص: 257
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (6) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
-------------------------------------------------------------------
يسار عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اعملوا بكتاب اللّه فما اشتبه عليكم فاسألوا عنه اهل العلم يخبرونكم الحديث. والذي يشتبه عليهم هو المتشابه. واخرج احمد وابو يعلى في مسنديها والبيهقي في شعبه والحاكم في مستدركه وابو نعيم في الحلية وسعيد بن منصور في سننه وابن السكن عن الأخضر الانصاري. والديلمي عن ابي ذر جميعا عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) على تنزيله. ومفاد الحديث ان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان عالما بتأويل القرآن على حقيقته فهو يقاتل دفاعا عنه وتثبيتا الحقائقه في الدين واساسياته كما قاتل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دفاعا عن تنزيله : واما دلالة سياق القرآن فإن تمجيد الراسخين في العلم بهذا التمجيد السامي والصفة الفائقة انما يناسب عطفهم في مقام العلم بالتأوبل ورسوخهم فيه ومجدهم في الايمان بموداه على بصيرة من امرهم واما قولهم آمنا فلو اريد به الإيمان بنزول لفظه من دون علم بمعناه ولا عمل به لكان المناسب له وصفهم بتصلبهم في الايمان والتسليم لرسول اللّه في التنزيل اذن فقوله تعالى (يقولون آمنا به) حال اي يعلمون تأويله حال كونهم يقولون آمنا اي بما عرفوه من مؤداه فإن الكثير منه هو اساسيات دينية قد اقتضت الحكمة ابهامها حال التنزيل بالاطلاق او العموم او الكناية او غير ذلك مع بيان تأويلها وخصوصية المراد بقرائن الحال او السنة كما وقع مثله في آية الزكاة إذا اعمل مقدارها ووقت اخذها ومورد وجوبها الى سنة ترويضا للناس في امرها وصعوبتها عليهم. وسيمر ان شاء اللّه لذلك موارد (كل) من المحكم والمتشابه والتنزيل والتأويل (من عند ربنا) وولي امرنا الحكيم في بيانه لنا وهدانا إلى الحق (وما يذكر) من ارشاد القرآن الكريم وهذه الآية الشريفة (إلا أولو الألباب 6 ربنا) اي يا ربنا ومالك امرنا ومن بيده توفيقنا وخذلاننا، ومناسبة السياق تقتضي ان يكون ذلك دعاء من الراسخين في العلم في التوفيق للثبات على الهدى بما علمهم اللّه من التأويل (لا تزغ قلوبنا) اي لا تخذلنا وتسلب عنا بسوء اعمالنا لطفك وتوفيقك فتزيغ قلوبنا وتنحرف عن الحق والاستقامة فنبتغي الفتنة بالتلاعب بتأويل القرآن (بعد إذ هديتنا) بلطفك الى معرفة الحق، والنكتة في نسبة الإزاغة إلى اللّه هي النكتة في نسبة الاضلال اليه جل شأنه. وهي التنويه بما لتوفيقه من الأثر المحيبي
ص: 258
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (7) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (8) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
-------------------------------------------------------------------
وما لخذلانه من الوبال المهلك كما ذكرنا فيما قبل الأخير من شواهد المقام الثاني من المقدمة في نسبة الإضلال واوضحنا امره تفسير الآية السادسة من سورة البقرة (وهب لنا من لدنك رحمة) باللطف والتوفيق (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 7 رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) وهو يوم القيامة والحشر من القبور للجزاء. كيف يكون فيه ريب وانت اخبرت به في كتابك الكريم بالصراحة المتكررة المؤكدة والحجة القاطعة (ان اللّه لا يخلف الميعاد) وعدل من الضمير الى الظاهر لأن لفظ الجلالة فيه اشارة الى الالهيبة وكمالها وقدسها فكأنه احتجاج على عدم الخلف للميعاد بمعنى أن الا له يجلُّ عن ذلك فلنا اليقين والثقة التامة بما وعد من المعاد والجزاء. (8 إن الذين كفروا) وماتوا على كفرهم (لن تغني عنهم اموالهم ولا اولادهم من) عذاب (اللّه) كما في التبيان، ومجمع البيان في تفسير الآية الثانية عشرة بعد المائة وفي الجلالين في تفسير الآيتين او بلائه او انتقامه او غضبه او مطلق ما يخاف منه فتكون «من» للابتداء كقولك اغنيت عنك في الحرب اهو الها من الميمنة (شيئا) من الغناء فيكون في مقام المفعول المطلق لتغني ويحتمل أن يكون مفعولا به لتغني اي لن تغني شيئا من عذاب اللّه ولن تجزيه فتكون «من» للتبعيض : ذكرت الأموال والاولاد لأنها من اهم ما يعتمد عليه الإنسان الجاهل لما يخافه من النوائب وهي التي يبيع لها آخرته ودينه. والغنى بالقصر وبالمد ككلام عدم الحاجة واغنى فلان قام بالحاجة وكفى عن غيره واليه يرجع قول النبيان. الاختصاص بما ينفي الحاجة. وكثر استعماله فيما كان الكافي او المكفى مما لا يعقل كاستعماله في دفع ما لا يراد والتخليص منه كقوله :
إذا قال قدني قال باللّه حلفة***لتغني عني ذا انائك اجمعا
اي ما في انائك وقول عثمان للرسول بصحيفة امير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) اغنها عني. ولأجل ما ذكرناه صار اللغويون يجولون حول هذا المعنى ففسروا الاغناء بالنفع او كفاية المؤنة، او الاجزاء، او الصرف، او الكف. وكثيرا ما يترك المفعول للإغناء والمتعلقات به لعدم الحاجة الى ذلك في مهم المقام كقول طرفة في معلقته
ص: 259
وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار (9) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (10) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
-------------------------------------------------------------------
ولا تجعليني كامرى ليس همه***كيمي ولا يغني غنائي ومشهدي
وقد يترك المفعول وتذكر المتعلقات المقصودة كما تقول ذبحت بالسكين ودفعت عنك بنفسي واغنيت في الحرب من هجماتها او من أبطالها أو من ميمنتها مثلا فتكون «من» في هذا المثال كالآية الابتداء كما عن المبرد و بعض. وذلك لتضمن اغناء المحذور معنى التخليص منه. وقال في الكشاف والمغني ان «من» في الآية بمعنى «بدل» اي ان اموالهم واولادهم لا تغني عنهم بدل رحمة اللّه اقول وهذا التفسير لا يستقيم مع ابقاء الاغناء على معناه وكيف تكون رحمة اللّه مغنية عن الكافرين بمعنى اغتناء المحاذير واكتفائها واجزائها بالرحمة بخلاف الأموال والأولاد فإنهم لا يكون كذلك بدل الرحمة. اللهم الا ان يدعى استعمال لفظ الاغناء هنا بمعنى النفع لكنه مجاز او صح لكان محتاجا الى القرينة المفقودة هاهنا فإن معنى النفع غير معنى الاغناء. ثقول في مثل هذا المقام اغنيت عنه ولا تقول نفعت عنه مضافا الى ان قوله تعالى لا تغني عنهم مانع عن استعمال لفظ الاغناء بمعني النفع لأن المتعلقات والحروف الجارة انما هي باعتبار المعاني لا باعتبار الألفاظ. اذا عرفت هذا فقل ما شئت في تفسير صاحب المنار حيث قال وانما معنى «من» هنا البدلية اي ان اموالهم واولادهم لن تكون لهم بدلا من اللّه تغنيهم عنه. واقول لماذا نسي هذا المفسر ان تنزيل الآية الكريمة انما هو لن تغني عنهم لا لن تغنيهم. واين «من» من البدلية ومثل ذلك ما حكي عن ابي عبيدة من ان معنى «من» في الآية معنى «عند» (وَأُولَئِكَ) اي الذين كفروا (هم وقود النار) وسوأة لهم وسحقا (9 كدأب آل فرعون) الدأب مصدر دأب يدأب اذا اعتاد الشيء وتمادى عليه اي حال هؤلاء المذكورين ودأبهم كدأب آل فرعون اي قومه (والذين من قبلهم) من الأمم (كذبوا بآياتنا) هذا تفسير لد أبهم اي كدأب المذكورين في التكذيب (فاخذهم اللّه) استولى عليهم بالعقاب (بذنوبهم) اي بسببها (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ 10 قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) المهادما يهده الإنسان لاستراحته وعبر عن جهنم بالمهاد لهكا بهم وبسوء اختيارهم وعاقبتهم، في تفسير
ص: 260
(11) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
-------------------------------------------------------------------
القمي ان هؤلاء بنو القينقاع من اليهود لما نقضوا بعد وقعة بدر عهدهم مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فغزاهم وخوفهم بما فعل اللّه بالمشركين فافتخروا برجالهم فانزل اللّه الآية وغلبوا واخرجوا من ديارهم واموالهم الى الجلاء صاغرين خاسئين، وفي الدر المنثور اخرجه ابن اسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس. وذكر في التبيان قولا بانه اخبار لليهود بان عبدة الأوثان ومنهم قريش سيغلبون وهو على هذه القراءة وهي خلاف المتواتر المتعارف ونقل في الكشاف غير ذلك والأول اقرب الى الصواب (11 قد كان لكم) هذه الآية ايضا مما امر اللّه به رسوله ان يقوله لهم (آية) ودلالة وموعظة (في فئتين) فرقتين من الناس (التقتا) في الحرب (فئة) منها (تقاتل في سبيل اللّه و) فئة (أخرى) منها (كافرة) يظهر من القمي انهما فيتا المسلمين والمشركين في وقعة بدر. وهي رواية الدر المنثور وابن جرير عن ابن عباس وذلك هو المناسب لخطاب بني القينقاع (یرونهم مثليهم رأي العين) المعروف أن المسلمين في بدر كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. والمشهور في الرواية ان المشركين كانوا نحو التسعمائة وخمسين فيكون المعنى ان المسلمين كانوا يرون جمع قريش مثليهم بحسب رؤية العين للجمع وصورة التجند لا بحسب الاحراز للعدد ومعرفة الكمية. اراهم اللّه اياهم مثليهم ائلا يستقلوهم ويتساهلوا في حربهم استقلالا واستضعافا لهم واراهم اياهم بدون عددهم في المقدار لئلا تهولهم كثرتهم فيحجموا عن مناجزتهم ويتخاذاوا في لقائهم كما قال اللّه تعالى في سورة الانفال «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا» وقيل في معناها ان المشركين بعد أن اشتبكت الحرب خذلهم اللّه فصاروا يرون المسلمين مثليهم وان كانوا نحو ثلثهم. والأول بلحاظ الآيتين اظهر وأقرب (واللّه يؤيد بنصره من يشاء) الأيد القوة والتأييد التقوية وقد ايد اللّه المسلمين بذلك النصر الباهر (إنَّ في ذلك لعبرة) وموعظة (لأولي الأبصار) يجوز أن يكون البصر هنا بمعنى البصيرة كما ذكره اللغويون، ويجوز أن يراد به حس العين فإن اراءة الشيء بالإرادة الإلهية على غير العادة آية وعبرة لأولي الأبصار العارفين بعادة البصر. أو أن ذلك النصر بما عليه المسلمون
ص: 261
(12) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ
-------------------------------------------------------------------
من القلة وضعف العدة وما عليه المشركون من قوة العدة وكثرة العديد عبرة لمن رأى ذلك (12 زين للناس) بحسب النوع بالنسبة لجميع المذكورات (حب الشهوات) اي المشتهيات كما يقال فلان طلبتي وهذا سؤلي وحاجتي و «من» بيانية ولو كان لفظ الشهوات على حقيقته لمعدي وربط بما بعده باللام (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) في التبيان في القنطار وقيل هو مل مسك ثورذهبا وهو المروي عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) و في مجمع البيان وابي عبد اللّه يعني الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور اخرجه عبد بن حميد وابن ابي حاتم والبيهقي عن ابي سعيد الخدري. قات وذلك احد الاحتمالات التي ذكرت في كتب اللغة. واورد في الدر المنثور عن رسول اللّه روايات متعددة متعارضه انه الف ومائتان اوقية وفي رواية انه الف اوقية. وفي اخرى الف دينار وفي اخرى الف ومائتا دينار، وينبغي ان تكون الرواية عن الباقر والصادق وابي سعيد في مورد السؤال عن قنطار الذهب او سقط منها قوله او فضة. والمقنطرة المجموعة قناطير كقولهم الوف مؤلفة (والخيل المسومة) اي المرسلة لأن ترعى سائمة لكثرتها (والانعام) وهي الابل والبقر والغنم باصنافها (والحرث) وهو المغروس والمزروع. ولم يذكر في هذه ما هو محرم العنوان ليكون تزيين اللّه له اشد في المنافاة لقدس اللّه من الأمر بالفحشاء والمنكر الذي تمجد اللّه وله المجد بتقديس جلاله وتنزهه عنه. فلا مانع من أن يكون اللّه تبارك اسمه هو المزين لحب المشتهيات المذكورة من طريق حلها كما تكلفت ببيانه الشريعة المقدسة وحددته بحدوده، زين حبها لنوع البشر تمهيداً لحسن اجتماعهم وبقاء نوعهم وانتظام اقتصادهم، وتشابكهم في عموم المنافع، وانتظام التبادل فيها، زين حب النساء والبنين لكي يسهل على الازواج تحملهم لعشرة النساء ونفقاتهن ونقصهن نوعا في الاخلاق والاستقامة فينتظم بذلك التحمل امر التوالد والتناسل. وزين حب البنين لكي يطلب البشر التناسل ويقوموا بالمشقات المعروفة في نفقتهم وتربيتهم وحسن المداراة لهم في تربيتهم والنظر الى اصلاح امورهم وعواقبهم. وزين حب الاموال المذكورة لينهض الناس الى العمل والعمران فتتوفر نعم اللّه على عباده وينالوا بها الذة والتنعم على حسب حبهم لمشتهياتهم ويعرفوا منها انموذجا لنعيم
ص: 262
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (13) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ
-------------------------------------------------------------------
الآخرة الدائم فيدفعهم الشوق اليه الى الاعمال الصالحة قلا يستولي على الناس او يغالطهم المجز بالتصوف البارد، وقد تكاثرت الاحاديث في ان الزهد في الدنيا هو الورع عن محارم اللّه وقد صرح امير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بانه يتعاطى التقشف في معيشته لأنه رئيس المسلمين والمنظور اليه في الاقتداء فيتسلى بحاله (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الح الفقر عليه ومسته البأساء. وفي سورة الاعراف «29 يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 30 ُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» يتنعمون بها بحسب ايمانهم الصادق على الحدود المشروعة والجارية على المصالح والصلاح «خالصة» من تبعات العقاب والنكمال «يوم القيامة» «كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» وما هذا التزيين الا للمحكمة التي خلق اللّه بها للانسان شهوة وقوى ينعم بها في الحياة الدنيا بما احله اللّه وجعل في الحلال كفاية في الحاجة وبلغة في التنعم وحدد حدوده بنهي العقل والشريعة عن الفحشاء والمنكر والبغي وما فيه المفسدة للشخص والنوع ونظامه ووعظ في ذلك وانذر وتوعد وحذر وارسل في ذلك الرسل وانزل الكتب وشرع الشرائع واستحفظ على اقامتها الأئمة، واستخدم لها علماء الأمة، نعم ان الذي يزينه الشيطان ليس هو القسم الذي يبقى به نوع الانسان، وشرف العمران، ويقوم به نظام الاجتماع. بل هو خصوص المحرمات وما فيه فساد النظام (ذلك) اي ما ذكر من المشتهيات (متاع الحياة الدنيا) الفانية (واللّه عنده حسن المآب) والمرجع وهو الماب الذي لا فناء فيه ولا عناء ولا تكدير في نعيمه فهو الحسن المطلق (13 قل) يا رسول اللّه للناس (أنبئكم بخير من ذلكم) مما هو (للذين اتقوا) اللّه ورغبوا في رضاه وطلبوا ما عنده وما اعد لهم (عند ربهم) هي (جنات تجري من تحتها الانهار) اي مساقي اشجارها لا بنحو تکون به كلها من قسم المستنقعات ولا يخفى ما في وصف القرآن من البهجة الفائقة الممتازة (خالدين فيها) اي في الجنات لا فناء لهم ولا لنعيمها كما يفنى مناع الحياة الدنيا واهلها ولا اخراج لهم منها (وازواج مطهرة) بما يرغب العقلاء فيه من طهارة الازواج في الخلق والاخلاق
ص: 263
وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (14) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (15) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (16) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ
-------------------------------------------------------------------
وفي ذلك النعيم الهني (ورضوان من اللّه) وهو الغاية القصوى لأولي الألباب في النعيم (واللّه بصير بالعباد) وما يعملون وما يستحقونه من الجزاء (14 الذين) في هذا بيان لصفات الذين اتقوا. وما اكرمها واحسنها من صفات (يقولون ربنا اننا آمنا) اي يؤمنون ويعترفون للّه بايمانهم ويجعلونه وسيلة الى اللّه في الدعاء لنجاتهم وغفران ذنوبهم (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 15 الصَّابِرِينَ) عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى نوائب الدهر تسليما لأمر اللّه ورضى بقضائه (والصادقين) واكرم بها صفة واحسن (والقانتين) الدائبين في العبادة (والمنفقين) کا امر هم اللّه وندبهم اليه والمستغفرين بالاسحار السحر هو الوقت الذي قبيل طلوع الفجر وهو احسن الاوقات نوعا لحضور القلب في العبادة والاقبال على المناجاة والدعاء، وابعدها عن مداخلة الرياء (شهد اللّه) اصل الشهادة من الشهود والحضور والمعاينة ثم شاعت فيما ينشأ عن ذلك ونحوه من الاعلام بالامر والشيء لإثباته ومنه المقام فيقال شهد بكذا (انه) اي بانه (لا إله الاهو) وشهادة اللّه اعلامه بالهيته ووحدانيته بالدلالات الجلية والحجج القاطعة ومن ذلك خلقه للعالم ودلائل الحكمة، وقوانين النظام الباهر فيه ودوام انتظامه على ذلك (و) شهد بذلك ايضا (الملائكة واولو العلم) وهم الذين لم يعمهم الجهل الى النظر اقلا الى نظام العالم ودوام انتظامه فشهدوا بذلك عن علم وبصيرة وحجة قيمة يرشدون بها الجاهل ويقاومون بها المعاند (قائما بالقسط) في التبيان وروي في تفسرنا ان في الآية تقديما وتاخيرا تقديره شهد اللّه انه لا اله الا هو قائنا بالقسط والملائكة الآية اي على انه حال من الضمير «هو» انتهى وفيه ان مثل هذا الارسال لا ينهض باثبات شيء فضلا عن مصادمته بالمتواتر من القراءة والمصاحف، وفي الكشاف جوز كونه حالا من الضمير ايضا على القراءة المتعارفة، اقول والانسب بكرامة القرآن الكريم في سياقه واسلوبه المجيد ان يكون حالا من لفظ الجلالة فإنه هو الذي له عنوان الكلام ووجهه الذي يقرب له البعيد من جملته ويوصل به المنفصل دون ضمائره فكل ما صلح ان يرتبط به من حال او غیره جره عنوان
ص: 264
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (17) إإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
-------------------------------------------------------------------
الكلام ووجهه اليه ولا يرتبط بغيره الا بالقرينة كما هو الشأن في كل كلام له حظ من البلاغة والاستقامة. وفسروا القسط بالعدل. والظاهر ارادة التقارب في المعنى لا الترادف والاتحاد في المفهوم. فان الاستعمال وما ورد في القرآن الكريم ينافيان ذلك لانه يقال عادل ولا يقال قاسط الا للجائر ونحوه. بل يقال لما يجعلونه بمعنى العادل مقسط وان اقسط يعدى بإلى كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة «8 الا إنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» والعدل لا يعدى بالى واظن ذلك منهم كتفسير الظلم بالجور مع ان الجور لا يتعدى الا بعلى. والظلم يتعدى بنفسه فانهم يفسرون اللفظ بما يقاربه في المعنى حيث لا يجدون له مرادفاً. ومن الظاهر في التبادر ان الجور ابلغ في العدوان من الظلم. وقد استفاض في حديث الفريقين في المهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، وفي سورة الحجرات «9 فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا» والظاهر من ذلك هو التأسيس لا التأكيد. وقال اللّه تعالى في سورة المائدة «11 شهداء بالقسط» فالقسط انسب بالشهادة من العدل والقائم بالشيء هو محققه ومجربه ومديمه اي شهد اللّه وهو المجري للقسط والحق ومديمه في الشهادة وغيرها. فما أعظمها وما اكبر شانها من شهادة (لا اله الا هو) وهذا تأكيد للمشهود به بعد الاخبار به كما تقول اشهد بكذا وهو كذلك (العزيز) في إلهيته ووحدانيته (الحكيم) في اعماله (17 ان الدین عند اللّه الاسلام) قد مر تفسير الاسلام في الآية الثانية والعشرين بعد المائة، وتفسير الدين في التاسعة والثمانين بعد المائة من سورة البقرة. وان دين الاسلام هو دين الفطرة الذي تجلت فيه ادلة العقل والنظر في ملكوت العالم ودعوة الانبياء والرسل وصراحة الكتب الالهية المشهود لها بدلالة المعجزات. وقد بقي ما يكفي في ذلك فيما حرف من التوراة والانجيل (وما اختلف الذين اوتوا الكتاب) في هذا الدين وهم بنو اسرائيل وخصوص اليهود والنصارى فتقلب الغالب من بني اسرائيل في الشرك من يوم مروا على عبدة الأوثان وذلك بعد ما اسلموا لموسى ورأوا الآيات النيرات في مصر وانشقاق البحر لهم وعبورهم فيه على الارض اليابسة فقالوا لموسى اجمل لنا إلها كما لهم آلهة (1) ويوم عبدوا العجل واستمروا على التقلب في الشرك في اجبالهم كما هو
ص: 265
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (18) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ
-------------------------------------------------------------------
معروف في تاريخهم وكتبهم وذهب الكثير من النصارى الى تثليث الآلهة وتأليه المسيح وابطال الشريعة بالرأي حتى استوعبهم ذلك اخيرا (1) (إلا من بعد ما جاء هم العلم) بالتوحيد والدين الصحيح من دلالة العقل والفطرة والمعجزات الباهرات، والآيات البينات وصراحة كتبهم. كما بقي شيء من ذلك فيما حرفوه. ولكن حدث الاختلاف فيهم (بغيا بينهم) من الكافرين على الموحدين. او بغيا حاصلا بينهم على الحق وتمردا على ما يعلمون، واستمر ذلك البغي فيهم حتى جحدوا رسالة رسول اللّه وقرآنه وما فيه من معارف الحق وشريعته بعد ما دل على ذلك المعجز وكتبهم في البشرى برسول اللّه وقرآنه (ومن يكفر بآيات اللّه) ويجحد دلالتها البينة (فإن اللّه) محاسبهم ومعاقبهم ومجاز بهم على كفرهم يوم القيامة وهو (سريع الحساب) «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا» (2) «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (3)» (18 فإن حاجوك) وجادلوك يا رسول اللّه في التوحيد وما جئت ب--ه. (فقل) لهم في الحجة الدامغة لهم انكم قد وافقتمونا في بعض اقوالكم وما عندكم من الكتب في توحيد اللّه في الإلمية والقدس والكمال. كما هو الحق والحقيقة وهل عن ذلك من محمد «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (4)» إني (اسلمت) ووكات وخليت (وجهي اللّه) لا اصده بضلال الاهواء عن اللّه وتوحيده، وطاعته ودين الحق (ومن اتبعني) على الحق الواضح ايضا أسلم وجهه اللّه. وجاز عطف الموصول على الضمير المرفوع المتصل في «اسلمت» لوجود الفاصل (وقل) يا رسول اللّه بعد هذا النحو من الاحتجاج (للذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (والأميين) أهل أم القرى وهي مكة. أو العرب لأنهم بحسب النوع والغالب لا يقرأون ولا يكتبون بل هم على ما ولدتهم أمهاتهم من الجهل بذلك. فإن هؤلاء الأميين معترفون ايضا باللّه وإلهيته وقدسه وكماله (اسلمتم) ودخلتم
ص: 266
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (19) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (21) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ
-------------------------------------------------------------------
في سلم اللّه فلا تحاربونه ولا تحادونه بالشرك والتمرد على آياته ورسوله وقرآنه (فإن اسلموا فقد اهتدوا) وذلك هو الفوز العظيم (وإن تولوا) عن الإسلام وحادوا اللّه ورسوله فلپس عليك من حسابهم من شيء وليس عليك أن لا يتولوا) (فإنما عليك البلاغ) والدعوة الى اللّه ودين الحق (واللّه بصير بالعباد) يعلم ما يكون منك ومنهم ويوفق من هو اهل للتوفيق (19 إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) بيان لأن قتل النبيين لا يكون إلا بغير الحق (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط) وهو الحق والمعروف وقيل العدل (م---ن الناس) من العباد الصالحين من غير النبيين (فبشرهم) يعني القاتلين الكافرين (بعذاب) في الآخرة (اليم) وعبر بالتبشير للسخرية بهم والتوبيخ لهم. ودخلت الفاء على بشرهم لأن الخبر هنا بمنزلة الجزاء المتفرع على الكفر وقتل النبيين كما في قوله تعالى «السارق والسارقة فاقطعوا ايديها» (20 أولئك الذين) لأجل ما ذكر من كفرهم وقتلهم للأنبياء والصالحين (حبطت اعمالهم) التي فيها حسن كالإحسان الى الفقير والعاني ونحو ذلك فلا أثر لها في استحقاق الجزاء والتخفيف عنهم بل سقطت (في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين) ينصرونهم على اللّه وينجونهم من عذابه (21)ألم تر) أي ألم يصل علمك (الى) حال (الذين أوتوا نصيبا) أي حظا وبعض الشيء (من الكتاب) لا يبعد أن يكون المراد هنا التوراة والانجيل أي من جنس الكتاب وان روي ان مورد النزول هم بعض اليهود. وعبر بالنصيب من الكتاب باعتبار ان التوراة والانجيل قد حرفا وبدلا في اكثرهما ولم يبق منها على ما أنزل إلا البعض وهو النصيب الذي بقي من الثوراة لليهود والنصارى المعاصرين لرسول اللّه ومن الانجيل الذي بقي للنصارى منهم. فقد بقي من التوراة إيمان ابراهيم وتوحيده وتاريخه المبين انه كان قبل اليهودية والنصرانية واقاويلها في الدين والتوحيد. وبقي فيها البشرى لبني اسرائيل
ص: 267
يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ
-------------------------------------------------------------------
بأن اللّه يرسل نبيا من اخوتهم أي من ولد اسماعيل لامنهم ويجعل كلامه في فمه كما في الفقرة الخامسة عشرة الى العشرين من الفصل الثامن عشر من سفر التثنية. وبقي فيها حكم القصاص في النفس والعين والسن والجروح كما في العدد الحادي والعشرين من الفصل التاسع عشر منه. وبقي في الانجيل شيء من الدعوة الى الاعتراف بأن اللّه هو الاله الحقيقي وحده وان عيسى رسوله كما في العدد الثالث من الفصل السابع عشر من انجيل يوحنا. وبقيت البشرى برسول اللّه احمد بير كا وطوس» وان حرفوه الى «بيرا كاي طوس» وعبروا عنه «فارقليط» و «المغري» كما في الفصل السادس عشر والسابع عشر من انجيل يوحنا. وحال هؤلاء انهم (يدعون الى كتاب اللّه) وهو القرآن الذي قامت عليهم الحجة بأنه كتاب اللّه بدلائل اعجازه وبشر كتبهم (ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم) وهم الأكثر (وهم معرضون) عن القرآن ودلائل حجته. ومنهم من وفق للإسلام والخضوع لأحكام اللّه في قرآنه المجيد. ومقتضى روايتي الدر المنثور ومجمع البيان عن ابن عباس هو ان المراد من كتاب اللّه الذي يدعون اليه هو التوراة. وكفى بذلك موهنا للروايتين فإن التوراة كانت حينئذ محرفة بأشد التحريف كما تراها الآن فكيف يسميها القرآن كتاب «اللّه» روي في الدر المنثور عن ابن عباس ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دعا اليهود الى حكم التوراة بأن ابراهيم لم يكن يهوديا، ويوهن هذه الرواية بعد غض النظر عن سندها ان التوراة ليس فيها ان ابراهيم لم يكن يهوديا وغاية ما فيها ذكر التاريخ المضطرب ومنه ان اللّه أوحى اليه أن نسله أي بني اسرائيل يستعبدون ويذلون في ارض غريبة أي ارض مصر اربعمائة سنة (1) وقالت التوراة ايضا في الفصل الثاني عشر من سفر الخروج ان المدة كانت اربعمائة وثلاثين سنة هذا مع ان النسخة السامرية والنسخة السبعينية قد زادتا في الاضطراب وجعلتا المدة المذكورة مدة لإقامة بني اسرائيل وآبائهم في ارض مصر وكنعان وقد تكلمنا على هذا الاضطراب في الجزء الثاني من كتاب الهدى (2) فهل يدعوهم رسول اللّه الى لا شيء في مثل هذا الكتاب المضطرب. وفي مجمع البيان عن ابن عباس دعاهم رسول اللّه
ص: 268
(22) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (23) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (24) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
-------------------------------------------------------------------
الى حكم التوراة برجم الزاني. وهذه الرواية موهونة ايضا بمضمونها فضلا عن وهنها بارسالها و بما ذكرناه في موهن الروايتين. فإن الموجود في تورائهم ان الرجم على الفتاة التي لم يجد لها زوجها بكارة وعلى العذراء المخطوبة إذا زنت وعلى الزاني بها كما في الفصل الثاني والعشرين من سفر التثنية. واما من يكون عليه الرحم في شريعة رسول اللّه فلم تذكر فيه التوراة الموجودة الا القتل كما في الفصل المذكور والفصل العشرين من سفر اللاويين. إذن فلا يحكم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالرجم على خلاف شريعته ويحتج بالتوراة المحرفة ويسميها كتاب اللّه (22 ذلك) أي توليهم وعنادهم لما يعرفونه من الحق اغترارا منهم (بأنهم قالوا) أي بسبب انهم زعموا في اعتقادهم الفاسد بأن عذابهم على مخالفة الحق هين قصيرة مدته لا ينبغي أن يصدهم عن المحافظة على جامعة اهوائهم وعصبيتهم القومية (لن تمسنا النار) ولا نعذب بها (إلا اياما معدودات) قليلة (وغرهم في دينهم) الذي يجب أن يدينوا به فخالفوه الى اهواء العصبية وضلالها (ما كانوا يفترون) بقولهم لن تمسنا النار إلا اياما معدودات فكفروا بدين الحق ورسول اللّه وكتابه وضلوا وأضلوا (23 فكيف) حالهم (إذا جمعناهم) في الحشر بعد موتهم (ليوم لا ريب فيه) وهو يوم القيامة (ووفيت كل نفس ما كسبت) أي جوزيت بجزائه وافيا أي تاما (وهم) أي اهل المحشر (لا يظلمون) بنقص الثواب او بالعقاب. يا رسول اللّه لا تأس من تمرد اهل الكتاب على دين الحق ومظاهرتهم للمشركين على الكفر فإن اللّه يظهرك عليهم ويعزك ويذلهم ويجعل لك السلطة على اظهار دينه (24 قل اللهم) معناه يا اللّه وكأن الميم المشددة المفتوحة في آخر الكلمة عوض عن حرف النداء فإنها لا يجتمعان. وشذ قول الراجز «اقول يا اللهم يا اللهما» (مالك الملك) الملك بضم الميم وسكون اللام هو التسلط والسلطنة. واللّه مالكه وبيده أمره وهو الخالق لما تكون عليه السلطنة ولمن يكون سلطانا. له ملك السموات والأرض (توتي الملك) والسلطنة الموقنة (من تشاء) من الناس أن تؤتيه. وإيتاء اللّه للملك يكون على
ص: 269
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ
-------------------------------------------------------------------
وجهين «اولهما» هو الإيتاء الخاص للممتاز من عباده بالصلاح والأهلية لتكميل البشر واصلاحهم في المعارف الدينية، والأخلاق الفاضلة، وحسن الاجتماع، والحصول على المستقبل الصالح السعيد. وهذا هو ملك الرسل والأنبياء وأئمة الحق «وثانيها» اويتائه لا بهذا النحو بل بحسب سير التقدير في العالم واقتضاء الأسباب التي قدرها اللّه في هذا الكون نعمة في الحياة الدنيا محددا لذلك بحدود الأخلاق الكريمة والواجبات العقلية والشرعية والنهي عن محرماتها كما أنعم على الانسان بالقوى ليتمتع بها في الواجب والندب والمباح. فيستقيم على الجادة من يستقيم ويحظى من ذلك بالكمال، وحسن الجزاء. ويضل بسوء اختياره من يضل فيخسر حظه ويستوجب ما يستوجب. ولكل من إيتاء الملك والقدرة والقوى اثر وغاية تحصل عن حسن اختبار الإنسان او سوئه. ففي سورة النمل في شأن سليمان النبي في تواضعه اللّه الناشئ من عصمته الاختيارية قوله في مسألة عرش بلقيس «40 فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» وفي سورة يونس «88 وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» الآية اي وكانت عاقبتهم ان يضلوا ع---ن اختبارهم. وفصل الكلام بقوله «ربنا» لا يضاح ان المراد من اللام هي العاقبة لا التعليل وفي سورة البقرة «360 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» ومما ينبغي التنبيه عليه ان الشيخ في التبيان قال ان الهاء في آتاه اللّه الملك كناية عن المحاج لا برهيم و نسب عودها الى ابراهيم الى القبل. ثم قال في توتي الملك من تشاء ما ملخصه لا يجوز ان يعطي اللّه الملك الفاسق لقوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين فكأنه نظر في هذه الآية الى الوجه الأول من وجهي ايتاء الملك وفي آية البقرة الى الوجه الثاني ولعل صورة هذا التدافع نشأت من اختصار التبيان ولذا لم يقع مثله في مجمع البيان وفي تفسير البرهان عن الكافي باسناده عن عبد الاعلى وعن تفسير العياشي عن داود بن فرقد جميعا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). رواية تنزل على نظر السائل الى الوجه الاول من ابناء الملك الذي ينبغي ان يسير من رسول اللّه الى الائمة من اهل بيته وعترته احد الثقلين (وتنزع الملك ممن تشاء) ان تنزعه منه بموثه
ص: 270
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (25) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ
-------------------------------------------------------------------
او بتحويله الى آخر (وتعز من تشاء) ان تجعله عزيزاً (وتذل من تشاء) ان تجعله ذليلا بان تجعل كلا من الفريقين بحسب سير التقدير الجاري بحكمتك في نظام العالم بتسبيبك للاسباب وتصيره في حالة تعد عزا او اخرى تعد ذلا وقد تجعل كلا منهما كذلك بارادة خاصة من النصر والمعونة او الخذلان والاهانة (بيدك الخير) اقتصر على ذكر الخير لان المقام مقام تعليم بالدعاء بالخير والنصر وتعريض بالبشر بها (انك على كل شيء قدير) ولك من مظاهر القدرة وعجائب التصرف بالكون ما يبهر العقول. فإنك «25 تولج الليل في النهار) الابلاج ادخال شي في شيء يحتوي عليه ويستره ومعنى ايلاج الليل في النهار هو ان ما يكون في الدورة اليومية ليلا او جزء من الليل في بعض الفصول من السنة والأمكنة التي تبعد عن خط الاستواء يجعلنه نهارا في فصل آخر او مكان آخر. وقد قدر اللّه نظام العالم بحكمته الباهرة في سير الارض او الشمس على منطقة البروج وفي هذا النظام العجيب من الحكم العظيمة وآثار القدرة وعموم الرحمة والعمران ما يبهر العقول وان الليل والنهار على مدار خط الاستواء (1) متساويان ويتساويان ايضا تقريبا في جميع الارض ويوم دخولها او دخول الشمس في برج الحمل او الميزان ويتفاوتان بالزيادة والنقصان بحسب الازمان والمواقع من الارض في المدارات الشمالية والجنوبية بتفاوت منظم موزون لا محل لذكره ههنا ففي المدارات الشمالية يأخذ الليل بعدا كما لطوله في النقيصة المتفاوتة على الانتظام من دخول الارض او الشمس في برج الجدي وبولج في النهار. فيأخذ النهار بالطول بعد كمال نقصه او بوجوده متزايدا بعد عدمه ويستمر على ذلك الى الدخول في برج السرطان فيشرع حينئذ بالزيادة. وفي المدارات الجنوبية يأخذ الليل بعد نهاية طوله في النقيصة ويستمر عليها وبولج ما ينقص منه في النهار على ما اشرنا اليه من الميزان والانتظام وذلك من حين الدخول في برج السرطان الى الدخول في برج الجدي فيشرع حينئذ بالزيادة (وتولج النهار في الليل) أي تدخل النهار في الميل فيأخذ النهار بالنقص في المدارات الشمالية على نهج ما ذكرناه من حين الدخول في برج السرطان الى الدخول في برج الجدي. وفي المدارات
ص: 271
وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (26) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
-------------------------------------------------------------------
الجنوبية من حين الدخول في برج الجدي الى الدخول في برج السرطان حتى يبلغ كل من الليل والنهار تحت القطبين في وقت واحد تقريبا على التبادل نحو ستة اشهر. فسبحان الحكيم القدير (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) قبل مثل اخراج البيضة من الطير واخراج الفرخ من البيضة، او اخراج الحيوان من النطفة والنطقة من الحيوان. وقبل يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن وفي مجمع البيان روى ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام. وفي تفسير البرهان قال ابن بابويه في حديث عن الإمام العسكري قال حدثني أبي عن أبيه عن جده الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر ذلك. وفي الدر المنثور اخرج سعيد بن منصور وابن جرير (1) وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات وابو الشيخ في العظمة عن سلمان في حديث نحو ذلك. واخرج ابن مردويه عن سلمان ايضا نحو ذلك. واخرج ابن مردويه ايضا عن ابن مسعود او عن سلمان عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نحو ذلك. واخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الزهري عن عبد اللّه ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شأن خالدة المؤمنة بنت الاسود ابن عبد يغوث المشرك قال سبحان الذي يخرج الحي من الميت. واخرج ابن مسعود من طريق أبي سلمة عن عائشة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نحوه (وترزق من تشاء) أن ترزقه (بغير حساب) ومراعاة لمقدار الرزق ومدآقة في العطاء كما يفعله من يخاف النقص في ملكه (26 لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) في النصرة والمودة لقرابة او محبة او صداقة او ولا، قبل الإسلام والآية نهي للمؤمنين عن أن يتخذوا الكافرين اولياء (من دون المؤمنين) و«من» لابتداء الغاية و «دون» للمكان الذي هو قبل المكان الذي تضاف اليه ثم شاع استعمالها في الكناية عن عدم الوصول بالشيء الى ما تضاف اليه وجعله في غيره. فالمراد لا يعدل المؤمن بولايته عن المؤمنين الى الكافرين (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) من رضى من اللّه اولطف او توفيق او ولاية او جزاء او فضيلة إيمان وغير ذلك مما يحظى به العبد الضعيف المحتاج
ص: 272
إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (27) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
-------------------------------------------------------------------
من اللّه ربه ومالك أموره. يقال هو من فلان في مقام ومكانة وحظوة او ليس منه في شيء من ذلك. ويفهم من مناسبات المقام ان هذا النهي وهذا التهديد جاريان في الموالاة الصورية ويتوهم جريان الذهي والتهديد فيها حتى لو كانت للدفاع عن النفس واتقاء الشر في بعض الأحيان، فاستدرك ذلك بقوله تعالى (إلا ان تنقوا) ايها المؤمنون (منهم) أي من الكافرين (تقاة) مصدر مفعول مطلق لتتقوا كالاتقاء والتقوى والتقية والتاء فيها للوحدة ومأخذها الوقاية بأن تقي نفسك من محذور شيء بشيء آخر. كما يقال ضربه بسيفه فانقاه بالدرقة ووقى نفسه بها من محذوره. وتاء الوحدة تفيد تحديد الاتقاء أي إلا ان تدفعواشرهم عنكم وعن دينكم عند انتظار الفرصة في نصره واظهاره وتتقوا منهم تقاة موقتة محدودة بأن تظهر والهم ما يدفع شرهم من صورة الموالاة الموقتة حيث لا مندوحة لكم إلى غير ذلك ولا فائدة في نصر الدين بقتل الرجل بل ينقص بقتله رجل من رجال الإسلام وانصاره. ولا تسترسلوا في ذلك وتجاوزوا به مقدار الضرورة بحيث يرجع إلى الضعف في الدين والتساهل في امره واستظهار الكافرين فإن أمر الدين عظيم فاحذروا إذن من غضب اللّه وعقابه (ويحذركم اللّه نفسه) ليس المراد بالنفس ما يرادف الروح المرتبطة بالبدن. بل ذاته العظيمة فإنه العزيز الجبار الذي لا تصير عليه وهو استعمال شائع في اللغة والقرآن الكريم ومنه قوله تعالى «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» ومنه ما جاء من تعليق الظلم بالنفس كقوله «كانوا انفسهم يظلمون» ونحوه في اكثر من عشرين موردا ومنه ذكر الجهاد بالأموال والانفس نحو عشر مرات فاحذروا اللّه فإنه شديد النكال اليم العذاب ولا تتساهلوا في أمر دينكم فإن الدنيا فانية وظل زائل (وإلى اللّه المصير) فيو في كل نفس ما عملت (27 قل) يا رسول اللّه محذرا (ان تخفوا ما في صدوركم) من نياتكم ووجوه اعمالكم (او تبدوه يعلمه اللّه) فاحذروا نبات النفاق وموادة من حاد اللّه ورسوله وكيف يخفى على اللّه شيء من ذلك وهو خالق نفوسكم واجسادكم والقائم عليها بالتدبير والابقاء والشهيد عليها يعلم ذلك منكم (ويعلم ما في السماوات وما في الأرض)
ص: 273
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (28) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
-------------------------------------------------------------------
اي جميع العالم لأنه خالقه ومدبره (واللّه على كل شيء قدير) من العقاب والجزاء والأخذ للمصير اليه (28 يوم تجد كل نفس) قيل «يوم» معمول لقوله تعالى : «يحذركم» واقول لا يكون «يوم» مفعولا ليحذركم لأن يحذر لا تتعدى إلا إلى مفعولين وقد استوفاهما ولا بدلاً من أحدهما كما لا يخفى ولا ظرفاً للتحذير لأن التحذير وفائدته إنما هما في الدنيا. ولا ظرفا للحذر لو صح في نظائره اعراباً لأن الحذر في ذلك اليوم لا فائدة فيه ولا غاية وقيل ان «يوم» معمول لاذكر مقدرة. ويرد عليه انه ليس من شيء بدل على ذلك ولا يقاس على تقدير ذلك عند قوله تعالى «وإذ» أي واذكر اذ. لأن السياق هناك يشير إلى ذلك. وتكرر في القرآن الكريم ذكره صريحاً في السور المكية سور مريم «16 وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ» وص «40 واذكر عبدنا أيوب إذ نادى» والاحقاف «30 واذكر أخا عاد اذ انذر» هذا مع ان المقام في أكمل الصلاحية والمناسبة لكون «يوم» ظرفاً للمصير. والفاصل ليس باجنبي (ما عملت) أي جزاء ما عملت و «ما» موصولة والعائد مقدر (من خير) «من» بيانية ولو كانت «ما» مصدرية لقيل من الخير (محضراً) بلاتسويف ولا بعد منال بل هو حاضر اعده اللّه تكريما وتبجيلا المحسنين (وما عملت من سوء) أي وتجد جزاء ما عملته من سوء محضرا اهانة لها وانتقاما حال كون ذلك الجزاء من شدة هوله وآلامه وخزيه (تود لو ان بينها وبينه أمداً بعيدا) والأمد بمعنى الغاية والمراد هنا البعد المكاني الثلا تروعها اهواله وتقاسي آلامه ومكارهه. فإن البعد الزماني لا يجدي مع اليقين فإن كل آت قريب. وقيل ان الموصول في «ما عملت» مبتدأ وجملة تود خبره وجملة المبتدأ معطوفة على جملة تجد. والأول اظهر في افادة المعنى المذكور الذي لا معدل عنه. واقل حاجة إلى التقدير والتأويل. واما ما في الكشاف، وجمع الجوامع من ان «يوم» في اول الآية معمول لتود والضمير في «بينه» يعود إلى ذلك اليوم يوم القيامة. ففيه ان الآية اخبار عن حال كل نفس وهل يخفى ان كثيرا من النفوس الزكية إذا وجدت ما عملت من خير محضراً تود لوان
ص: 274
(29) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (30) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
-------------------------------------------------------------------
يوم القيامة عجل لها من حين موتها لكي تفوز بسعادتها (يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ومن رأفته تكراره للتحذير والانذار والارشاد إلى سبيل النجاة والسعادة وهداه إلى الصراط المستقيم (29 قل) للناس يا رسول اللّه (ان كنتم تحبون اللّه) كما تزعمون فأول المصادق لهذا الحب ان تسارعوا إلى طلب رضاه، والاهتداء بهداه، وامتثال امره ونهيه. وقد اوضحت لك الدلائل البينة والحجج القاطعة على اني رسول اللّه، وباب رضاه و نور هداه، و ترجمان امره ونهيه، ومدرس تعاليمه، ووسيلة تكميلكم وتطهيركم للقرب منه. إذن (فاتبعوني) في ارشادي لكم، ووجود تقريبكم من اللّه ونيل السعادة الأبدية. فإني الكتاب الناطق «وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى» (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) وسلم وقد أمر اللّه بطاعته ونوه بفضلها في القرآن الكريم في اكثر من عشرين موردا. واخرج ابو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه وعلى شرط البخاري ومسلم وعن ابن حبان في ابواب السنة والعلم ونحو ذلك بأسانيدهم عن ابي رافع عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال لا الفين احدكم متكئاً على اريكنه يأتيه الأمر من امري مما امرت به او نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب اللّه اتبعناه. وفي رواية الحاكم من طريق الليث والا فلا. واخرجه أحمد في مسنده بعبارة أخرى. واخرج احمد في مسنده وابو داود والترمذي في الأبواب المذكورة بأسانيدهم عن ابي المقدام عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نحو هذا المضمون. كما اخرج احمد وابن ماجه والحاكم عن ابي المقدام ايضا عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نحوه. وكذا ابو داود في تعشير اهل الذمة عن العرباض عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وكذا ابن ماجه عن ابي هريرة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وهذه الأحاديث الموصوفة بالصحة والمستفيضة عن اربعة من الصحابة متفقة المضمون في اتباع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في امره ونهيه. وانه ليس لأحد ان يرد ذلك ويقول في ذلك حسبنا كتاب اللّه (يحببكم اللّه) أي ان اتبعتموني يحببكم اللّه. وكفى بذلك فضلا وفوزا وسعادة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 30 قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) وهذا تأكيد لما سبق (فإن تولوا) عن ذلك) (فإن اللّه لا يحب الكافرين) وذلك هو الخسران المبين
ص: 275
(31) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
-------------------------------------------------------------------
(31 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال في مثل اختار اي اختاره صافيا من الخليط والاختلاط. فقد يكون الصفاء من حيث الاندماج والاختلاط بالغير والمساواة له فيصطفي بالرسالة كقوله تعالى في شأن موسى في سورة الاعراف (141 إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي» او للملك ونصرة الدين كما في سورة البقرة في شأن طالوت «248 ان اللّه اصطفاه عليكم» او على سائر الأمم الوثنية باعتبار الانتساب إلى التوحيد ونبذ الاوثان كما في سورة فاطر «29 ُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ» او من الاختلاط بصنف آخر كما في سورة الصافات «153 أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ» او من حيث التخليص عن الشركاء وتمييزه عن المشترك من جنسه كاصطفاء الرسول من الغنائم ما بختار أو من حيث التخليص من الشرك وسفاهة الاهواء كما في سورة البقرة (126 إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ) او باعتبار التقدم في اختيار الإيمان والدعوة اليه كما في سورة البقرة في شأن ابراهيم «124 ولقد اصطفيناه في الدنيا» وكما في سورة ص في شأنه وشأن اسحق ويعقوب (47 وانهم عندنا لمن المصطفين الأخيار» فجهة الاصطفاء والصفاء تعرف من مقام الكلام وقرائنه ولأن اللّه لم يذكر بين آدم ونوح في هذه الآية «شيئا» هبة اللّه و «ادريس» الصديق النبي عرف ان هذا الاصطفاء فوق مقام الصلاح والنبوَّة بل هو في أمر الدعوة العامة، والإمامة للناس وزعامتها الكبرى. ولم يذكر ابراهيم في هذه الآية لأنه ذكر جعله الناس إماما وأن اللّه اصطفاه في الدنيا أي لذلك كما في سورة البقرة 118 و 124 وفي مجمع البيان في قوله تعالى وآل ابراهيم وآل عمران قبل اراد نفس ابراهیم و نفس عمران انتهى وفيه مع غرابته في اللفظ ومخالفته المأثور ان عمران سواء كان أبا موسى او ابا مريم ام المسيح ليس ممن له هذا المقام الخاص من الاصطفاء على العالمين. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابن عباس قالهم المؤمنون من آل ابراهيم وآل عمران وآل یس وآل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عَلَيهِم السَّلَامُ) ان امير المؤمنين علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمر الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان يخطب فخطب ونزل فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذرية بعضها من
ص: 276
بعض واللّه سميع عليم. وعن تفسير الثعلبي مسنداً عن الأعمش عن أبي وائل قال قرأت في مصحف ابن مسعود ان اللّه اصطفی آدم و نوحا وآل ابراهیم وآل محمد على العالمين. وفي التبيان وفي قراءة اهل البيت وآل محمد على العالمين. وقالوا ايضا ان آل ابراهیم هم آل محمد الذين هم اهله وكذا في مجمع البيان. وتفصيل الكلام ان الشيخ الطوسي روى في اماليه عن محمد بن ابراهيم قال سمعت جعفر بن محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقرأ وآل ابراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين. وفي تفسير القمي قال العالم نزل آل ابراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين. ونحوه عن تفسير العياشي عن ايوب عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن أبي عمر الزبيري عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه وايضا عن هشام بن سالم سألت ابا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قوله تعالى ان اللّه اصطفى آدم ونوحا فقال هو آل ابراهيم وآل محمد على العالمين فوضعوا اسما مكان اسم. اقول وهذه الرواية معارضة بما يرجح عليها مما دل على ثبوت آل عمران في القرآن فلا بد من صرفها عن ظاهرها ويعارض ما تقدم رواية العياشي عن سدير عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال ان اللّه اصطفی آدم و نوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض قال نحن منهم ونحن بقية تلك المترة. وعن ابي حمزة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه استشهد بالآية وقرأها على ما هو المرسوم في المصاحف وفي العيون بسنده عن الريان بن الصلت ان الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قرأها كذلك محتجا. وفي غيبة النعماني بسنده عن جابر الجعفي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان صاحب الأمر عجل اللّه فرجه يحتج عند ظهوره بالآية على ما هو مرسوم على انه أولى الناس بنوح وابراهيم. وعن الشيخ الطوسي بسنده عن يونس ابن حباب عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان رسول اللّه في خطابه لأمير المؤمنين تلا الآية على النحو المذكور. وهذه الروايات اوضح سنداً من الأولى واسلم من التعارض والتدافع فيما بينها وأولى بالترجيح. ويمكن الجمع بأن آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) كانوا مقصودين في التنزيل من آل ابراهيم بنص الوحي على الرسول في ذلك. وربما أثبت في مصحف علي امير المؤمنين(عَلَيهِ السَّلَامُ) ومصحف ابن مسعود بعنوان التأويل المقصود عند التنزيل كما ذكرناه في المقدمة في اواخر الكلام على روايات فصل الخطاب. والظاهر ان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمة الذين لهم الإمامة والزعامة العامة الكبرى هم القدر المتيقن في المراد من آل ابراهيم. واما اسماعيل واسحاق ويعقوب فلم يعلم ان مقامهم في النبوَّة والزعامة فوق مقام شيث (عَلَيهِ السَّلَامُ) وادريس اللذين أهملا من اصطفاء هذه الآية كما ان الظاهر من عمران انه عمران ابو مريم أم المسيح وانه ذكر
ص: 277
(32) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (33) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ
-------------------------------------------------------------------
لخفاء الاشارة الى المسيح بعموم آل ابراهيم مع اقتضاء المقام للاشارة اليه بنحو جلي ويشهد له ايضا قوله تعالى بعد هذه الآية «إذ قالت امرأة عمران» إلى آخر قصة المسيح (32 ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لدعاء الداعين ورجاء الراجين مستجيب لهم كدعاء ابراهيم بقوله ومن ذريتي» (عليم) بما تقتضيه المصلحة ومواقع اللطف (33 إذ قالت امرأة عمران) جد المسيح. ودعوى زيادة «إذ» هنا من الغلط. وجعلها ظرفا لسميع عليم لا يناسب مجيئها بعنوان الصفة الدالة على الثبوت الدائم المطلق. وجعلها مفعولا لأذكر مقدرة بعيدة في السوق والسياق كما ذكرت هذه الأقوال في التبيان ومجمع البيان وذكر الأخير في الكشاف وجعلها ظرفا لاصطفى المذكورة لا يصح إذ لا تكون ظرفا لاصطفاء آدم ونوح. فالوجه جعلها ظرفا لفعل مقدر يدل عليه الكلام. وهو سميع الدعاء أي استجابه إذ قالت. او اصطفى آل عمران إذ قالت بمعنى انه لاحت مظاهر الاصطفاء إذ قالت. والأول اقرب. وفي تفسير القمي في الحسن كالصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان امرأة عمران اسمها حنه. وكذا في الدر المنثور مما أخرجه اسحاق بن بشير وابن عساكر عن ابن عباس. واخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة. وفي تفسير القمي في سورة مريم وطرد الرواية عن أبي الجارود عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان زكريا كان رئيس الأحبار وامرأته اخت مريم بنت عمران بن ماثان وبنو ماثان من لد سليمان بن داود. وفي الدر المنثور مما اخرجه البيهقي في سننه عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة ان زكريا كان افضل الذين يكتبون التوراة وكانت اخت مريم تحته. وفي ضمن ما أخرجه ابن بشير وابن عساكر عن ابن عباس ان مريم كانت بنت امام القراء وكان إمام القراء من ولد هارون وكان زكريا رأس الأحبار و كانت خالة مريم عنده انتهى واللّه العالم. وابو الجارود ضعيف، وفي الفصل الأول من انجيل لوقا ان زكريا من الكهنة أي من ولدهارون سدنة بيت المقدس وان زوجته أم يحيى هي نسيبة مريم أي قرابتها ومشاركتها في النسب وان حملها بيحي قبل حمل مريم بالمسيح بستة اشهر. والأناجيل الرائجة لم تذكر نسب مريم ولا نسب عيسى من جهتها. بل ذكرت نسب يوسف النجار الذي يزعمون ان مريم كانت مخطوبة له. فإنجيل متى قال ويعقوب ولد يوسف. وانجيل لوقا قال ان يوسف بن هالي.
ص: 278
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (33) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم (35) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا
-------------------------------------------------------------------
والنصارى من أجل هذا الاختلاف في كتبهم التي ينسبونها الى الوحي تكافوا وتعسفوا بدعواهم ان «هالي» هو ابو مريم. وقد تعرضنا لهذا المقام في الجزء الأول من كتاب الهدى (1) (رب اني نذرت لك ما في بطني محرراً) أي للمسجد بيت المقدس. وفي تفسير القمي في الحسن كالصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان اللّه أو حى الى عمران اني واهب لك ذكرا مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذني وجاعله رسولا الى بني اسرائيل فيحدث بذلك امرأته حنه فلما حملت كان حملها عند نفسها غلاما، الرواية ونحوه عن العياشي عن جابر عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فحسبت ان المبشر به ولدها الأدنى (فتقبل مني) نذري أي اجعله واتخذه مقبولا عندك (انك انت السميع) للدعاء أي نذري وما يؤل اليه من الدعاء بسلامة الحمل وجعله ذكراً يقوم بما نذر له (العليم) بنيتي (34 فلما وضعتها) انت الضمير باعتبار كون المولود أنثى (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) فإنه هو الذي خلقها وصورها. وفي رواية القمي المتقدم ذكرها يقول اللّه واللّه اعلم بما وضعت (وليس الذكر) الذي كان في نبتي وبشرى عمران ومقصد نذري (كالأنثى) فإنها لا تكون رسولا ولا تقوم بما يراد من المنذور المحرر (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم) المرجوم بالشهب او باللعن. وكأنها تشير بذلك الى ما معناه انك رب تدفع بلطفك شر الشيطان وغوايته كما جعلته رجيما فأعذها وذريتها بلطفك من شره (35 فتقبلها ربها) ومولاها وجعلها واتخذها مقبولة عنده (بقبول حسن) كما سألته أمها وفوقه (وأنبتها نباتا حسنا) النبات يكون اسم مصدر لنبت ويكون مفعولا مطلقا لأنبتها بدلا عن مصدره ويستعمل ايضا فيما ينبت كقوله تعالى في سورة الاعراف. وطله. وعم «يخرج نباته بإذن ربه» «ازواجا من نبات شتى» «لنخرج به حبا ونباتا» فيكون المعنى أنبتها حال كونها
ص: 279
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (36) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (37) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
نباتا حسنا. والمراد من كلا الوجهين حسن نشأتها وتربيتها في صلاحها وكمالها (وكفلها زكريا) أي جمل زكريا كفيلها والقائم بأمرها بحسب التقدير او يجعل القرعة، بالاقلام له واكرم به من كفيل صالح امين روف (كلما دخل عليها زكريا المحراب) المسجد (وجد عندها رزقا) في رواية القمي المتقدمة يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. ونحوه ما اخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وفي الدر المنثور أخرج ابو يعلى عن جابر حديث الزهراء (عَلَيهِ السَّلَامُ) والجفنة التي ملئت خبزا و لحما ببركة اللّه وعطائه ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) سألها عن ذلك فقالت هو من عند اللّه فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني اسرائل. وروى الشيخ في أماليه عن حذيفة بن اليمان ما يشبه ذلك) قال يا مريم أنى لك هذا) ومن أين جاءك (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) لا في الجريان على العادة ولا على مقدار الضرورة (36 هنالك) أي حين ما رأى زكريا المعجز بوجود فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء رجا ان يرزقه اللّه ولدا وإن صار شيخا كبيرا وكانت امرأته عاقرا، و (دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) الذرية النسل والولد. والطيبة الصالحة. وهذا اجمال لما سبق نزوله في سورة مريم المكية من قوله فهب لي من لدنك وليا يرثني وبرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا» (إنك سميع الدعاء) القادر على اجابته (فنادته الملائكة) أي نوعهم تمييزا عن نداء نوع البشر وإن كان المنادي واحدا كما يقال قتله الجن (وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) فكان ذلك بشرى بالولد الذكر (مصدقا بكلمة من اللّه)، وهو المسيح رسول اللّه كما سيأتي إن شاء اللّه في الآية الثالثة والاربعين وقوله تعالى في سورة النساء «169 وكلمته القاها الى مريم» باعتبار أنه مخلوق بكلمة «كن» لا بالتناسل العادي. وان التصديق برسالة المسيح من الكهنة الذين بيدهم الرئاسة الشرعية على بني اسرائيل
ص: 280
وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (38) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (39) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
-------------------------------------------------------------------
قد كان من اصعب الأمور على النفوس الأمارة بالسوء. فالإخبار بتصديق يحيي لرسالة المسيح مدح كبير له، وتمجيد له بطيبه وصلاحه وانه لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا نزعة نفس أمارة (وسيداً) السيادة الزعامة وولاية الأمر والسيد من يسود غيره (وحصورا) في رواية القمي المتقدمة الحصورُ الذي لا يأتي النساء. ونحوه ما في الدر المنثور مما اخرجه عب--د الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس. وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود وشرعيته ورجحانه ومدحه مختص به إذ لم تعهد شرعيته ورجحانه بنحو نوعي في شريعة الكلية، واما في شريعة الإسلام فقد تحقق عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قوله النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني (ونبيا من الصالحين) ذكر ذلك تنويها بفضل النبوَّة فإن كل الأنبياء من الصالحين (38 قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) في السن. يقال بلغه الكبر والهرم وادركه الموت تنزيلا لهما منزلة الطالب الذي لا مفر منه (وامرأتي عاقر) لأنها لم تلد مدة عمرها. وقال زكريا ذلك مع انه دعا اللّه أن يرزقه الذرية والولي الوارث إما طلبا للاطمئنان بالبشرى لأن ذلك على خلاف العادة في التناسل من مثلهما. وإما شكر او اعترافا بنعمته في اجابة دعائه على خلاف العادة الجارية في التناسل بمعنى اني وامرأتي في مثل هذا الحال فمن اين يكون لي غلام لولا قدرتك ورحمتك وعنايتك الخاصة الخارقة للمادة في إجابة دعائي. ذكر ذلك السيد الرضي «رضي اللّه عنه» في حقائق التأويل (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ 39 قال) زكريا طلبا لزيادة الاطمئنان بحصول ذلك في العاجل ومعرفة وقت الحمل وإن كان مؤمنا بصدق البشر وقدرة اللّه (رب اجمل لي) في الدلالة على حصول الحمل واجابة دعائي علامة و (آية) من آياتك الخارقة للعادة (قال) اللّه له (آيَتُكَ) التي تطلبها هي (ان لا تكلم الناس) ولا تقدر على تكليمهم وإن كان لسانك مطلقا في ذكر اللّه وتسبيحه والصلاة له (ثلاثة ايام) بلياليها. ولذا جاء في سورة مريم ثلاث ليال سويا، ومن الشائع في العربية وغيرها في امثال هذا المقام دخول الليل في الأيام والنهار في الليالي يقال أقمت في البلد ثلاثة ايام كما يقال أقمت
ص: 281
إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (40) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (41) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
-------------------------------------------------------------------
فيه ثلاث ليال وشواهد ذلك حتى في اللغة العبرانية وكتب العهدين كثيرة لا يسمعها المقام (إِلَّا رَمْزًا) الرمز هو افهام المعنى بنحو من الإشارة والاستثناء هنا منقطع (واذكر ربك كثير اوسبح) تسبيح اللّه تنزيهه وتقديسه أو وصل له النوافل فقد ورد في الحديث كثيرا من طرق الفريقين عن الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والصحابة والأئمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) تسمية صلاة النوافل بالسبحة (بالعشي)، وهو من زوال الشمس الى الغروب أواخر النهار (والإبكار) بكسر الهمزة من حين طلوع الفجر الى وقت الضحى كما في التبيان والكشاف وغيرهما (40 و) اذكر (إذ قالت الملائكة) أي هذا النوع وان كان القائل واحد (يا مريم إن اللّه اصطفاك) قد ذكرنا معنى الاصطفاء وان جهة الاصطفاء تعرف وتؤخذ من قرائن المقام. فالمعنى إذن اصطفاك بأن تقبلك وقبلك من نذر أمك في تحريرك اللّه (وطهرك) زيادة على ذلك من الأدناس التي تلحق النساء (واصطفاك على نساء العالمين) و قدمك عليهن بالولادة من غير فحل. هذا غاية ما يدل عليه المقام والقرائن من وجهتي الاصطفاء بن وقد كرر ذكر الاصطفاء لأجل اختلاف الوجهة فيه. وليس في اللفظ وقرائن المقام دلالة على سيادتها على نساء العالمين. نعم ثبتت لها السيادة على نساء عالمها من السنة. واستفاض بل تواتر من حديث الفريقين عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان فاطمة بنته (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة. ومن ذلك ما رواه احمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة والحاكم وابو يعلى والروباني والمقبلي والطبراني وابن عساكر وصاحب الاستيعاب وغيرهم عن حذيفة، وابي سعيد الخدري، وابن عباس، وعائشة، وفاطمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) والأحاديث بذلك من طريق الشبعة كثيرة جدا (41 يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) قد ذكر معنى القنوت في الآية العاشرة بعد المائة. والتاسعة والثلاثين بعد المائتين من سورة البقرة. والسجود معروف والركوع يطلق على الانحناء المعروف. وقد يستعمل ركع واركم واركمي في الانيان بركمات الصلاة فيقال لمن صلى ركم ركمات خفيفة او ركع ركعات مطولة أي وكوني في زمرة المصلين الكثيري الصلاة ولا
ص: 282
(42) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (43) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
-------------------------------------------------------------------
ينحصر المعنى بصلاة الجماعة (42 ذلك) أي قصة امرأة عمران ومريم وزكريا وبشرى الملائكة لهما (من أنباء الغيب نوحيه اليك) ومن ذلك اختصامهم في كفالة مريم وا والقاء اقلامهم القرعة على كفالتها (وما كنت لديهم إذ يلقون اقلامهم) للقرعة لأخذ النتيجة منها وهي انه (أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) في ذلك حتى تراضوا على القرعة بالأقلام فلست تذكر للناس ما حضرته ورأيته. ولا هو مدون في الكتب المتداولة عند اهل الكتاب فضلا عن انك لا تقرأ كتابا ولم تمارس درسا ولا تعلما ولم يكن في قومك وبلادك شيء من العلم وفي هذا حجة على انه وحي من أنباء الغيب من اللّه. وقد روى في الدر المنثور وغيره في القاء الاقلام وكيفية روايات لا تنهض حجة (43 إذ قالت الملائكة) الظاهر ان «إذ» هنا بدل او عطف بيان لاذ المتقدمة في الآية الاربعين. فإن الظاهر هو ان قولي الملائكة في الآيتين كانا عند كبر مريم في زمان واحد او زمانين متقاربين بليق اعتبارهما حينا واحدا كالسنة ونحوها. واما ابدالها من إذ يختصمون فيعيد جداً لأن الاختصام كان بحسب الظاهر في صغر مريم والبشرى في كبرها عند حملها بالمسيح واعتبار الزمانين في مثل ذلك حينا واحدا بعيد (رْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) سمي عيسى بالكلمة لأنه تكون في رحم أمه من غير فحل بل بكلمة اللّه وهو قوله «كن» وذلك كناية عن إرادته التكوينية بدون اسباب ومعدات فالمسبح بنشأه كلمة من عند اللّه. ولأن المراد بالكلمة هو الذكر جيء بالضمير في «اسمه» مذكرا باعتبار المعنى. والمسيح لقب لعيسى وابن مريم نسبة له ولكن يصح في التوسع أن يقال اسمه المسيح عيسى بن مريم. ولعل تسميته بالمسيح مأخوذة من العادة الاسرائيلية في الزعيم الروحاني يمسحه للزعامة الروحانية من هو قبله من الزعماء فصار ذلك لقباً للزعيم الروحاني فكان المسح وسام الروحانية كالتتويج للملك. ونص على نسبته لأمه لبيان ان نسبته في الولادة منحصرة بأمه رداً على من يسميه ابن اللّه. ولعل من ذلك ما اتفقت عليه الأناجيل في حكايتها عن كلام المسيح انه يعبر عن نفسه بابن الانسان ليكون
ص: 283
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (44) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (45) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (46) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (47) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
-------------------------------------------------------------------
ورسولاً إلى بني إسرائيل ذلك رداً على من يزعم انه ابن اللّه بحسب الولادة (وجيهاً) أي ذا جاه (في الدنيا) مستجاب الدعوة مختاراً للرسالة قدوة للمؤمنين متبوعا للصالحين مظهرا للمعجزات والكرامات (والآخرة ومن المقربين 44 ويكلم الناس) بالأمور الإلهية وما ينفعهم حال كونه (في المهد) وجملة يكلم حالية معطوفة على وجيها» كجملة ومن المقربين، ومن كلامه في المهد ما ذكر من أول الآية الحادية والثلاثين الى آخر الرابعة والثلاثين من سورة مريم المكية (و) يكلم الناس بالامور الالهية وتبليغ الرسالة حال كونه (كهلا) وفي ذلك بشرى مريم بأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يبلغ زمان الكهولة واشارة الى انه لا يبقى بين الناس الى زمان الشيخوخة. والمعروف انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ارسل الى الناس وهو ابن ثلاثين ورفع الى السماء بعد ثلاث سنين (ومن الصالحين 45 قالت رب أنى) ومن أين (يكون لي ولد و)الحال اني (لم يمسني بشر) لمل مرجع سؤالها الى ان ولادتها هل تكون على جاري العادة بالتزويج، ومن هو زوجها الذي تلد منه لأن الولادة على غير العادة أمر غريب عجيب (قال كذلك اللّه) أي اللّه كذلك برزقك على خلاف العادة المقدرة وإن لم يمسسك بشر فإنه (يخلق ما يشاء) كيف شاء انه (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) قد مضى الكلام في هذا في الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة البقرة (46 ويعلمه الكتاب) الواو عاطفة وجملة يعلمه للحال معطوفة في نسق الأحوال على وجيها. والمراد بالكتاب اما مصدر كتب أي الكتابة بيده واما كتاب غير النوراة والانجيل او نوع الكتب وذكرت التوراة والانجيل لأهميتها من باب عطف الخاص على العام (والحكمة والثوراة) وهي في الأصل اسم للكتاب الذي أنزل على موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو في العبرانية اسم للشريعة. نعم جرى الاصطلاح اخيرا على ان كتب اليهود التي تسمى بالعهد القديم تسمى بالنوراة والظاهر انه اصطلاح لا اعتداديه في هذا المقام (والانجيل) وهو الكتاب الواحد الذي أنزل عليه (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويقال ان معناه في اليونانية القديمة «التعليم» (و) حال كونه (رسولا) من اللّه (الى بني اسرائيل) باعتبار ابتدائه بهم في
ص: 284
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
-------------------------------------------------------------------
الدعوة (اني قد جئتكم) لما كانت دعوى الرسالة تؤيد بالحجة عليها كان ذكر المعجز يجعل الكلام كالصريح بما معناه حال كونه يقول لهم حجتي اني جئتكم. وقد ذكرنا (1) ان الحذف لما بدل عليه الكلام بسياقه باب من ابواب البلاغة عند العرب (بآية من ربكم) المراد نوع الآية وما يكون حجة على الرسالة وإن كان ماجاء به آيات متعددة (اني) المصدر المنسبك من «ان» وجملتها بدل من آية او خبر لضمير محذوف يعود على آية والتقدير هي اني (اخلق) وأصور (لكم من الطين كهيئة الطير) وليس في ذلك آية فإن تصوير الطين مقدور للبشر (فأنفخ فيه فيكون طيرا) حقيقيا (بإذن اللّه) وخلقه له طبراً والحجة بإظهار اللّه لهذا المعجز على يد المسيح وفي التبيان ومجمع البيان في التفسير انه صنع من الطين كهيئة الخفاش ونفخ فيه فصار طائرا. ورواه في الدر المنثور مما أخرجه ابن جرير عن ابن جريح وابو الشيخ عن ابن عباس ولا ينهض شيء من ذلك حجة (وأبرى الأكمه) وهو الذي يولد أعمى او مطلق الأعمى (والأبرص) وهو معروف (وأحيي الموتى بإذن اللّه) وفعله وإنما نسب الابراء والاحياء اليه لأنه السبب ببركته ودعائه في ظهور هذا المعجز من اللّه على يده. وفي جمع الموتى دلالة على تعدد صدور الاحياء من اللّه بسببه، وفي الصافي في الكافي والعياشي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر احياء عيسى لصديقه. ورواه ايضا في الدر المنثور والقصة تشبه أن تكون قصة «اليعازر» المذكورة في انجيل يوحنا (وأنبئكم) من الغيب (بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) مما لا يدري غيركم (إن في ذلك لآية لكم)كافية في ارشاد كم بدلالتها القاطعة الى الإيمان بأني رسول اللّه (إن كنتم مؤمنين) باللّه وانه بلطفه يرسل رساله لهداية عباده الى الصلاح ودعوتهم الى السعادة. وانه جل شأنه يمتنع على قدسه اظهار المعجز على يد الكاذب. او ان كانت لكم ملكة الإيمان بما تقوم به الحجة وتشهد له الآيات. لا ممن استحوذ عليهم الشيطان وأضلهم
ص: 285
(47) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (48) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (49) َبَّنَا آمَنَّا
-------------------------------------------------------------------
الهوى كما قال اللّه في سورة الأنعام (111 ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلامهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا - 124 وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نوتى مثل ما أوتي رسول اللّه (47 ومصدقا) أي وجتكم حال كوني مصدقا (لما بين يدي) أي لما تقدمني (من التوراة) «من» بيانية (ولأحل) عطف على مصدقا (لكم بعض الذي حرم عليكم) في التوراة مما زال عنه مقتضى التحريم. ولعل منه ما في قوله تعالى في سورة النساء 158 فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طبيبات أحلت لهم» (وجئتكم بآية من ربكم) كرد ذكر الآية تأكيدا في الحجة وتمهيداً لقوله (فاتقوا اللّه) وتحذروا من غضبه وعقابه بما يقيكم من ذلك كطاعته والإيمان بآياته وشهادتها الرسله (وأطيعون) فإني ادعوكم الى اللّه والى سبيل سعادتكم في الدنيا والآخرة (إن اللّه ربي وربكم) وإلهنا جميعا وخالقنا ومدبر أمورنا واليه مرجعنا وإني وإياكم عباده لا إله إلا هو (فاعبدوه) واخضعوا له خضوع العبد لاله. ومن عبادته أن لا تشركوا به شيئا (هذا) أي تقوى اللّه وعبادته وطاعة الرسول في دعوته الى اللّه وتوحيده ودين الحق (صراط مستقيم) لا يهتدي من ضل عنه (48 فلما أحس عيسى منهم الكفر) بآيات اللّه ورسالته (قال من أنصاري الى اللّه) أي في الدعوة اليه بالإيمان به وبآياته وما ارسل به رسوله (قال الحواريون) في العيون مسندا عن الرضا(عَلَيهِ السَّلَامُ) انهم سموا حواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من اوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير (نحن انصار اللّه) في الدعوة الى دينه والجهاد في سبيل الحق (آمنا باللّه) ولا نكفر ككفرهم (واشهد بأنا مسلمون) داخلون في سلم اللّه لا نحاده ولا تخالف أوامره ونواهيه ولا نمانده فيما أمر به من الدعوة الى سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم التفتوا إلى التشرف بخطاب اللّه والاعتراف له بنعمة الإيمان والدعاء بدوام توفيقهم لذلك فقالوا (49 ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول) عيسى في جاء به من عندك (فاكلبنا) بتوفيقك وتثبيتك (مع الشاهدين)
ص: 286
بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (50) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
-------------------------------------------------------------------
بالحق الدائبين على ذلك. ثم التفت القرآن الى حال الذين أحس عيسى منهم الكفر بقوله تعالى (50 ومكروا ومكر اللّه واللّه خير الماكرين) بعض اللغويين فسر المكر بالخديعة. وفي التبيان والمكر وان كان قبيحا فإنما اضافه اللّه الى نفسه المزاوجة الكلام كما قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه. والثاني ليس باعتداء وإنما هو جزاء» ونحوه في مجمع البيان. وكأنهم نظروا في ذلك الى ان الكثير من استعمال الناس للفظ المكر هو فيا يساوق استعمالهم للفظ الخديعة من الانسان لا يصال الضرر المحرم الى غيره وبذلك يكون قبيحا. ولكن استعمال القرآن الكريم وبعض الموارد يرشد الى ان المكر هو اعمال خفية على الغير في معاملته على غفلة منه عنها. وقد جاء في القرآن الكريم منسوبا الى اللّه بدون. زاوجة كقوله تعالى في سورة الاعراف «197 فأمنوا مكر اللّه ولا يأمن مكر اللّه إلا القوم الخاسرون» وقال اللّه هذا وفي سورة الأنفال «30 واللّه خير الماكرين» فأطلق لفظ الماكر عليه جل شأنه وعلى غيره يعني الظالمين بلفظ واحد ولا يجوز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معا. وعموم المجاز يأباه المقام. وقد ورد في الدعاء في خطاب اللّه «ولا تمكر بي في حيلتك» بدون مزاوجة. وفي نهاية اللغة «وفي حديث الدعاء اللهم امكر لي ولا تمكر بي». واما ما أسنده ابن بابويه عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قوله ان اللّه لا يمكر ولكنه يجازي على المكر فإن في سنده جهالة واهمال ويمكن أن يريد نفي المكر بالمعنى الذي يساوق الخديعة لا يصال الضرر القبيح كما ذكرناه. والا فإن عرض الرواي----ة على ما ذكرناه من القرآن كما أمرنا به اهل البيت يوجب الوثوق بعدم صدورها عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ). هذا ولعل المراد من مكرهم ما يذكر من انهم قالوا لملكهم ان عيسى يطلب الملك لنفسه فوافقهم على صلبه وقتله. والمراد من مكر اللّه هو القاء تشبه المسيح على غيره ورفعه الي السماء. وفي تفسير القمي مسندا عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان المسيح قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويصاب ويكون معي في درجتي فقال شاب أنا يا روح اللّه فقال فأنت هوذا. ونحوه في رواية الدر المنثور مما اخرجه عبد بن حميد والنسائي وابن ابي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس. وروى عن وهب بن منبه مما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير ان الذي القى عليه شبه المسيح
ص: 287
(51) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (52) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
-------------------------------------------------------------------
وصلب هو الذي كان من اصحابه واخذ من اليهود ثلاثين درهما فدلهم على المسيح ليقتلوه. ونحوه في التفسير الذي أبطلنا نسبته للإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ). كما حكى نحو ذلك في انجيل برنابا وانه يهوذا الاسخريوطي - واللّه العالم. ولعل السر في هذا التشبيه هو انه لو غيب عنهم المسيح و رفع إلى السماء في الخفاء لا تهموا اهله والمؤمنون به بإخفائه فعمهم البلاء وكثر فيهم القتل والتنكيل وفضيحة النساء طلبا لإظهاره. ولو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس لاستحكمت شبهة ألوهيته وسرت حتى إلى بعض المؤمنين واللّه خير الماكرين فإن مكره وتدبيره الخفي لا يكون الاجاريا على الحكمة لا يفوته اللطف بالعباد (51) إذ) ظرف لمكر اللّه (قال اللّه يا عيسى إني متوفيك) أي آخذك من بين الناس ومن عالم الأرض وقد مضى الكلام على ذلك في الفصل الرابع من المقدمة (ورافعك إلى) قال جل شأنه الي وهو لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان تكريما للمسيح وتفخيما لغاية الرفع من الأرض التي فيها الكافرون والفساق الى السماء الممحضة لتسبيح اللّه وتقديسه فكنى عن ذلك برفعه إلى اللّه (ومطهرك من الذين كفروا) اي من رجس قربهم والابتلاء بمجاورتهم (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) اما النصارى فليسوا ممن اتبع المسيح كيف وقد أشركوا باللّه وألهوا المسيح، وثلثوا الآلهة ولم يبقوا لهم شريعة وأن انا جيلهم وكتبهم لتقول ان المسيح لم يبطل شريعة التوراة بل هم من بعده ابطلوها. وأن الذين اتبعوه على دين الحق ملة ابراهيم انما هم المؤمنون الموحدون حق التوحيد من قومه ومن بعدهم المسلمون بدعوة رسول اللّه. وعبر بالماضي باعتبار المؤمنين من قومه فإن جنس الذين اتبعوه قد مضى له التحقق باعتبار بعضه فهم فوق الذين كفروا مستمرين على ذلك (الى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم) بالحشر جميعاً (فأحكم بينكم فيا كنتم فيه تختلفون) من التوحيد والايمان وشريعة الحق (52 فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) كما ابتلوا بذلك البلاء العظيم من القتل العام والذلة الشاملة في
ص: 288
(53) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (54) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (55) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (56) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (57) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
-------------------------------------------------------------------
حادثة طيطوس وبقوا بعد ذلك المقتل والجزية وذالة المحكومية. (53 واما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم) اللّه وفيه النفات من التكلم في مقام الارهاب بسطوته الى الغيبة في مقام ثقة المؤمنين بالجزاء (أجورهم) وذلك اشرف الغايات (واللّه لا يحب الظالمين 54 ذلك نتلوه عليك) بالوحي يا رسول اللّه (من الآيات والذكر) أي القرآن (الحكيم). ولما ذكر اللّه ولادة المسيح من مريم من غير فحل على خلاف العادة. وقد أثار الضلال من ذلك شبهتين بين الناس احداهما تهمة اليهود لمريم والثانية زعم النصارى انه ابن اللّه، فلذلك احتج على الفريقين بما يعرفون---ه ويعترفون به من خلقة آدم فماذا يقول اليهود في آدم. وماذا يقول النصارى فيه فقال جل وعلا (55 إن مثل عيسى) في تصرف القدرة الإلهية بولادته بما هو بشر على خلاف العادة (عند اللّه كمثل آدم خلقه) (وصوره (من تراب ثم قال له كن) بشرا حيا (فيكون) لم يقل جل شأنه «فكان» لأن الماضي لا يدل على لزوم ترتب الكون على ان يقال «كن» بل هو يعم الأرتب اتفاقا بل هذا هو الظاهر والقدر المتيقن منه فجيء بالمضارع ليدل على الملازمة وانه جلت قدرته إذا قال لشيء كن فإنه يكون لا محالة (56 الحق من ربك) أي الاخبار بأحوال المسيح هو الحق من ربك (فلا تكن) ايها السامع (من الممترين) الشاكين. او يكون الخطاب الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) على النحو الذي ذكرناه في الآية الثانية والاربعين بعد المائة من سورة البقرة (57 فمن حاجك فيه) أي في عيسى زاعما انه إله وابن اللّه متشبثا بولادته من غير فحل. والمحاجة تبادل الاحتجاج. والحجة أعم من البرهان الصحيح والجدل الفاسد كما اشرنا اليه في سورة البقرة (144 (من بعد ما جاءك من العلم) المعقول والمحسوس والموحى به من ان اللّه جل شأنه واحد لا يكون ثلاثة ولا شريك له في الإلهية ولا بلد. وان البشر الجسماني المتحيز المتغير الذي يجوع ويتألم ويبكي ويحزن ويحتاج لا يعقل ان يكون اكلها. وان خلق اللّه الحيوان
ص: 289
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
-------------------------------------------------------------------
والانسان لا يتوقف على التولد من ذكر وأنثى كما هو المعروف في الفار والدجاج وتتم العبرة بخلق آدم (فقل) لهم قطعا للمعاذير وحسما لإصرارهم على الغي والضلال بعد ماجئت به من الحق والحجة القاطعة مما جاءك من العلم علم الى المباهلة والدعاء بأن يلعن اللّه الكاذبين في دعاويهم ويبطش بهم ويهلكهم ويخزيهم (تعالوا ندع) أنا وأنتم لهذه المباهلة وعاقبتها المخوفة أهم من يحافظ الانسان على سلامته وحفظ شرفه وصونه ومقامه في الحياة (ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساء كم) والمقصود اهم من ينسب الى الشخص من النساء في مقام الاهلية والرابطة العرضية اللازمة كالأم والأخت والبنت دون الزوجة التي تدنو بكامة التزويج وتبعد بكلمة الطلاق (وأنفسنا) أي وندع أنفسنا ولا بد من أن يكون الداعي غير المدعو والمراد هو الشخص الذي یرى داعيه ان وجوده في الأثر والمزايا والفضيلة والغاية بمنزلة وجوده في ذلك أو اقرب الناس إلى مقام وجوده وما يطلبه من غاية وجوده وبذلك يقول هذا نفسي بتنزيل صحيح ومجاز مقبول) (وأنفسكم ثم نبتهل) نحن أو نحن وهم أي ندعو باللعن (فنجعل لعنة اللّه) والمراد تكاله ونقابه الدنيوي (على الكاذبين) وقد اتفقت الرواية في شأن النزول ان نصارى نجران(1) وفد بعض من زعمائهم الروحانيين على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في المدينة فاحتج (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عليهم في أمر عيسى وانه بشر رسول من اللّه وليس باله كما يزعمون فلم ينيبوا إلى الحق بدلالة الحجة النيرة فأمر اللّه رسوله أن يدعوهم الى المباهلة فدعاهم بمقتضى الآية الكريمة فقال بعضهم لبعض ان جاءنا بأهله وخاصته فهو على يقين من أمره فلا تباهلوه. فغدا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عليهم للميعاد ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات اللّه وسلامه عليهم. وفي حديث مسلم والترمذي والحاكم وابن المنذر
ص: 290
والبيهقي عن سعد ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قال اللهم ان هؤلاء أهل بيتي فأبى أولئك أن يباهلوه وعاهدوه على الجزية. وفي رواية ابن اسحق والثعلبي والكشاف والرازي وابي السعود وغيرهم في تفاسيرهم والمالكي في الفصول المهمة ان اسقف نجران قال اني لأرى وجوها لو سألوا اللّه ان يزيل جلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا. وفي حديث جابر كما في مستدرك الحاكم واسباب النزول للواحدي وغيرهما «ابنائنا الحسن والحسين. ونسائنا فاطمة. وانفسنا علي بن ابي طالب» وفي صواعق ابن حجر اخرج الدارقطني ان عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم الشورى احتج على اهلها فقال انشدكم باللّه هل فيكم أحد اقرب إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في الرحم مني ومن جعله نفسه وابناءه ابناءه ونساءه نساءه غيري قالوا اللهم لا. الحديث اقول والقدر المشترك في الاحاديث هو ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لياهل بهم نصاری نجران رواه الفريقان بأسانيدهم عن جماعة من الصحابة والتابعين وأئمة أهل البيت. ففي كتب اهل السنة اخرجه مسلم والترمذي في جامعيها وابو نعيم في الدلائل والبيهقي في سننه وابن ابي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم في مستدركه وابن مردويه والثعلبي في تفسيره والواحدي في اسباب النزول وابن اسحق في المغازي وموفق بن احمد وابن المغازلي والحمويني والمالكي في فصوله والسيوطي في الدر المنثور وغيرهم بأسانيدهم ع---ن سعد بن ابي وقاص وجابر وابن عباس وعليا اليشكري وجد سلمة. وعن الشعبي والحسن والسدي ومقاتل والكلبي. بل ذكره جل المفسرين وقل ما يخلو من روايته كتاب تفسير. وفي كتب الشيعة اخرجه القمي في تفسيره والمفيد في اختصاصه والصدوق في العيون والشيخ في اماليه عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن ابي ذر (رضي اللّه عنه) ان عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) احتج بذلك يوم الشورى. وسعد بن ابي وقاص والحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجد محمد بن المنكدر والصادق والكاظم والرضا والهادي (عَلَيهِم السَّلَامُ). فهذا الحديث مروي بالأسانيد المتعددة عن تسعة من الصحابة وخمسة من التابعين وستة من أئمة اهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ونتيجة الآية الكريمة والحديث القطعي هي ان اللّه عز وجل امر رسوله بأن يسمي علي نفسه ليبين للناس انه ثانيه من امته في الفضيلة والغاية الكريمة والولاية العامة والزعامة الكبرى والقيام بأمر الأمة والدين وسياسته والإمامة التي هي دعوة ابراهيم في قوله «ومن ذريتي». وهل ترى غير الواجد لهذه المزايا يأمر اللّه رسوله بأن يسميه نفسه. ألا ترى انه لا يصح لأحد يعرف كيف يتكلم ان يقول
ص: 291
عن شخص آخر انه نفسي إلا إذا كان ذلك الشخص في نظر القائل ثانيه في مزاياه والوجه المطلوب منه وثقته في ذلك. ولعمر الحق ان هذا أمر جلى. ولقد تكرر ذلك من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) بيان هذا المعنى المنجلي من قوله «وانفسنا» كما امره اللّه وشرحه بعبارات متناسبة في الايضاح واقامة الحجة فهي نور على نور» كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) انت مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي وقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في ذلك المشهد العظيم في غدير خم مخاطبا للمسلمين «ايها الناس ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم» فلما قالوا اللهم بلى قال على النسق أخذا بضبع علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» وغير ذلك مما يضيق عنه هذا المقام. وهو مدون في كتب الفريقين كالشمس رأد الضحى. هذا وان ابن تيمية في كتاب منهاج السنة قد اعترف بصحة الحديث الدال على ان نفس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في الآية هو علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولكن حاول ان يمنع ما اشرنا الى وجهه الوضاح من الدلالة على امتياز امير المؤمنين بالفضيلة ومقام الإمامة في الأمة والزعامة الكبرى فقال ما ملخصه ان المراد بالأنفس في الآية هو من يتصل بالقرابة والقومية واستشهد لذلك بقوله تعالى واقتلوا انفسكم. لا تخرجون انفسكم من دياركم. تقتلون انفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم. فقل له ان اضافة النفس قد تقع تقمع باعتبار نوع من الرابطة كالقرابة والجامعة القومية. فيقال أنفسكم وانفسهم كما يقال رجالكم ورجالهم وانفس البلدة والمملكة. ولكن هل يخفى ان النفس إذا جعلت مقابلة للاقرباء بل اقرب الأقرباء كما في الآية وفي قوله تعالى في سورة التحريم «6 قوا أنفسكم وأهليكم ناراً» وفي سورتي الزمر 17 والشورى 43 «الذين خسروا أنفسهم واهليهم» فلا تكون النفس مستعملة إلا على وجه الحقيقة في نفس الإنسان الذي اضيفت اليه كما في آيات التحريم والزمر والشورى. او على وجه المجاز والاستعارة لمن ينزل بما اشرنا اليه من وجوه الشبه بحسب كل انسان بمنزلة نفس الإنسان الخاصة به كما في هذه الآية لما ذكرناه من الدعوة والرواي---ة الصحيحة المستفيضة المتفق عليها. ومن الظرائف ان ابن تيمية فطن إلى انه لو كان التعبير بالنفس ناظرا إلى القرابة لدعي العباس عم الرسول واولاده وامثالهم من بني هاشم فإنهم كانوا مسلمين مهاجرين في المدينة لأن وفد نجران جاء في السنة العاشرة أو التاسعة من الهجرة ولأجل ما فطن له قال في التخلص منه لأن العباس لم يكن من السابقين ولا كان له اختصاص بالرسول كملي واما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي انتهى فانظر إلى اضطراب هذا الرجل فإنه
ص: 292
بعد الاطناب في المغالطة والغفلة عن مقابلة النفس باقرب الأقرباء رجع إلى الاعتراف بأن المقام مقام امتياز في الفضل الديني وكرامة المقام الأرفع بحيث يناسب ان يأمر اللّه رسوله بأن يعبر عن علي لأجل ذلك بأنه نفسه. ولا يخفى ان هذا ليدل على اقصى ما تسمه الاستعارة ووجه المجاز في التفوق بالكمال والولاية العامةبعد ما يختص بالرسالة تفوقا تلزمه الإمامة بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ).
وما عشت أراك الدهر عجبا فإن الشيخ محمد عبده مع تظاهره ورغبته بأن يعرف بحرية الضمير والنزعة. ونزاهة البحث كأنه التفت الى حقيقة النتيجة من الآية الكريمة والحديث وفطن الى ما يرد على شيخه ابن تيمية فيما قاله فأراد ان يسد باباً فتحه اللّه ورسوله على مصراعيه فقال في درسه على ما ذكره صاحب المنار في تفسيره. ان الروايات متفقة على ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديها ويحملون كلمة نسائنا على فاطمة وكلمة انفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من اهل السنة ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة «نسائنا» لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج وابعد من ذلك ان يراد بكلمة «وانفسنا» علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) اقول لماذا لا يقول العربي نساءنا نظراً إلى الجنس ومجانسة الجمع بالجمع في اللفظ وهو يريد بها بنته لأن ذلك أقرب إلى الحشمة من التصريح بابنته أو لغير ذلك من وجوه الكلام وهل يقول ان النساء لا تطلق إلا على الأزواج. إذن فماذا يقول بقول القرآن الكريم فإن كن نساء فوق اثنتين. والنساء نصيب. ويستحيون نسائكم. او اخواتهن او نسائهن. ولا نسائهن. وكثير من مثل ذلك ولا حاجة إلى الاستشهاد بشعر العرب. ومما اشرنا اليه من وجوه الكلام هو بيان ان فاطمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) هي الممتازة الوحيدة من ناحية الرسول من عنوان نساء الاهلين في فضيلتها واهميتها ولياقتها لهذا المقام وقد صح واستفاض عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان فاطمة سيدة نساء العالمين كما اشرنا اليه في تفسير الآية الأربعين. وكذا الكلام في التعبير بأنفسنا وارادة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحده وقد صح واستفاض عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قوله لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) انت مني وانا منك كما رواه البخاري ومسلم عن البراء والحاكم عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين. واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حبشي بن جنادة. واحمد والحاكم عن بريده وابي رافع وابن ابي شيبة وابن جرير عن بريدة. وانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) جعل
ص: 293
(58) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
-------------------------------------------------------------------
عليا كنفسه كما رواه احمد عن عبد اللّه بن حنطب من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اوفد ثقيف. وما اخرجه ابن النجار من ان ابن العاص سأل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن حبه لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال ان هذا يسألني عن النفس. وفي اللثالى المصنوعة عن ابن النجار ايضا عنه بسند آخر قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) علي نفسي فمن رأيته يقول في نفسه شيئا. وعن ابي عمر الزاهد في كتاب اليواقيت عنه ايضا لسند آخر فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ما ظننت احدا يسأل عن نفسه. لكن اذا ذكرنا هذه الروايات وامثالها قيل ان مصادرها الشيعة ومقصدهم منها معروف إلى آخر الكلام المتقدم ويحكم اللّه وهو خير الحاكمين.. وقد جاء الجمع وارادة الواحد منه في القرآن الكريم. افلا يكفي من ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» ونحوه «كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم اخوهم هود. الى آخره. كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح. إلى آخره. كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط. إلى آخره. كذبت اصحاب الايكة المرسلين إذ قال لهم شعيب. إلى آخره». والمراد من المرسلين في كل من الآيات هو واحد.
ومن أين لنا أن يروى أحاديث المباهلة وامثالها في فضل علي وأهل البيت مسندة إلى عصرنا عن امثال عمران بن حطان، ولمازة بن زياد، وعبد اللّه بن شقيق، ونعيم بن هند وجرير بن عثمان، وازهر بن عبد اللّه، وابراهيم السعدي، وامثالهم ممن شهد علماء رجالهم بنصبهم العداوة لأهل البيت (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإن تساهل في امر احدهم بعض كابن حجر في التقريب قال فيه «يرمى بالنصب» - وليت شعري ماذا أبقى هذا الشخ من الشأن لحديثهم وجوامعهم ومحدثيهم وتفاسيرهم ومفسريهم إذا كان يروج على عامتهم مثل ما زعمه من الوضع (57 إن هذا) وهو ما ذكر من ولادة عيسى وخلق اللّه له واعترافه بأن معجزاته إنما هي بإذن اللّه وان اللّه ربه ورب الناس، وأمره بعبادة اللّه وغير ذلك مما يدل على ان عيسى بشر مخلوق اللّه وأمره بيده وطوع قدرته (لهو القصص الحق) والذي يعترف النصارى به وتذكره كتبهم التي ينسبونها إلى الوحي (وما من إله إلا اللّه) وابن المسيح عيسى من الإلمية وقد جرى عليه من الاضطهاد ما جرى. ولم يزل يفزع بالدعاء والخضوع والتضرع الى اللّه (وان اللّه لهو
ص: 294
(59) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (60) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
العزيز الحكيم) في إلهينه وتقديره وتدبيره. وكل من عداه ذليل في مخلوقيته وحاجته فكيف يكون غير اللّه إلها معه (58 فإن تولوا) عن تصديقك واتباع الحق (فإن اللّه عليم بالمفسدين) أي فإنهم مفسدون يريدون اغواء الناس واضلالهم افسادا في الأرض واللّه عليم بهم يجز بهم جزاء هم (59 قل) يا رسول اللّه (يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم) أي مستوية بيننا وبينكم في تلاوتنا جميعا لها فيما هو من كتب الوحي او ينسب الى الوحي كما يوجد في توراتكم وأنا جياكم وسائر كتبكم التي تنسبونها الى الوحي من توحيد اللّه وانه هو الاله والرب المدبر لخلقه وحده لا شريك له. ومن جملة ذلك في توراتكم عن قول اللّه «لتعلم ان يهوه (1) هو الاوله ليس آخر سواه - ان يهوه هو الاله في السماء من فوق وعلى الأرض من اسفل ليسر، سواء (2)» «انا أنا هو وابس إله معي (3)» ونحوه في التوحيد ونفي الشريك في المزمور الثامن عشر 31 وفي كتاب اشعيا 44 : 6 و 08 وفي سفر التثنية من التوراة 4:6 وفي انجيل مرقس 29:12 يهوه إلهنا يهوه واحد. وفي انجيل يوحنا 3:17 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك انك انت الا له الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي ارسلته – وهذه الكلمة هي (أن) لا تخضع خضوع العبد لا كلمه من حيث انه إله كما هو معنى العبادة و (لا نعبد إلا اللّه) وحده (ولا نشرك به) في العبادة ونسبة الاولمية (شيئا) ولا نقول لشي غير اللّه انه إله (ولا يتخذ بعضنا) معاشر البشر (بعضا اربابا من دون اللّه) فان اللّه اذا قال أنا هو الرب والرب واحد. فإن قولكم ان البشر رب كما قلتم في عيسى يرجع الى جحد ربوبية اللّه ويكون جعلا للبشر الحادث والخاضع للآلام وحاجة البشرية وكوارثها ربا من دون اللّه. او يكون المعنى اربابا في المرتبة النازلة عن مرتبة اللّه كما هو رأي الوثنيين في شركاتهم بأي عنوان كان من النزلات الموهومة. ولا مانع من ان يخاطب اليهود، والنصارى بأمر مشترك بينهم وفي
ص: 295
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (62) يا أَهلَ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ
-------------------------------------------------------------------
الاثناء يذكر ما يخص النصارى. أو ان ذلك شامل لليهود باعتبار قولهم عزير ابن اللّه تعالى اللّه عما يشركون يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. كما في سورة التوبة. والظاهر ان المراد يضاهون قول البراهمة والبوذيين وغيرهم في نسبة الابن الى اللّه باعتبار التنزل في الإلهية. و ربما يكون اتخاذ الأرباب هنا على حد قوله تعالى في سورة التوبة «31 اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله» في الكافي والمحاسن عن أبي بصير عن ابي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انهم أحلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون. وعن المحاسن ايضا عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه. ونحوه ما أخرجه الترمذي وجماعة ذكرهم في الدر المنثور في سورة التوبة عن عدي بن حاتم عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وعن جماعة ايضا عن حذيفة وعن المحاسن وايضا بسند فيه ارسال عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما صلوا لهم ولا صاموا ولكن أطاعوهم في معصية اللّه. وفي الدر المنثور ايضا اخرج ابو الشيخ والبيهقي عن حذيفة وذكر نحوه. وعن العياشي برواياته عن الصادق والباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحو ما ذكرناه عنها (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي مجمع البيان عن تفسير الثعابي باسناده عن عدي بن حاتم في آية النوبة قلت أي لرسول اللّه انا لسنا نعبدهم فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أليس يحرمون ما أحله اللّه فتحرمونه ويحلون ما حرمه اللّه فتستحلونه قلت بلى قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فتلك عبادتهم وقيل «كالمة سواء» أي عادلة وما ذكرناه ابلغ في الدعوة واظهر في الحجة. لاستظهارها بالالزام بما في كتبهم واشارتها الى ان الاستواء في هذه الكلمة يشير الى انها من أساسيات كتبهم وأوليات العقل ولباب المعقول، وبينات البداهة (فإن تولوا) بسوء اختيارهم وغيهم ولم يقبلوا على هذه الدعوة الوحيدة في الكرامة (فقولوا) لهم انت يا رسول اللّه والمسلمون (اشهدوا) واعلموا مما تشاهدونه من حالنا في التوحيد واشهدوا علينا تثبيتا لاعترافنا بالحق وانا على بصيرة من أمرنا (بأنا مسلمون) اللّه لا نحاده بالشرك ولا نتخذ غيره ربا (60 يا أَهلَ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) ويزعم اليهود انه هودي ويزعم النصارى انه نصراني، وتتشبثون في حجتكم الداحضة بمجرد الدعاوي المستحيلة. والحال ان غابة التشبثات لليهودية ترجعونها الى رسالة موسى ونزول التوراة عليه. وغاية التشبثات للنصرانية ترجعونها الى رسالة المسيح ونزول الانجيل فضلا عن ان الرائج من اليهودية والنصرانية إنما هو من البدع التي حدثت بعد موسى
ص: 296
وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (63) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (64) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (65) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (66) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ
-------------------------------------------------------------------
والتورلة والمسيح والإنجيل. وأين ذلك من ابراهيم (وما أنزلت التوراة والانجيل الامن بعده) بقرون عديدة (أفلا تعقلون) كيف تتكلمون وكيف تدعون (61 ها أنتم هؤلاء) بعينكم أي لا أوجه الخطاب والتوبيخ اليكم باعتبار ما فعله اسلافكم بل أنتم بأنفسكم (حاججتم فيا لكم به علم) أي أخذتم في محاجتكم أمورا معلومة فصرتم تغالطون فيها وتتشبثون بها وذلك كرسالة موسى والتوراة فصرتم تلصقون بها مزاعمكم الفاسدة. وكولادة عيسى من غير فحل و بعض معجزاته فصارت النصارى تزعم من ذالك ان عيسى المولود من مريم إله مع اللّه فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ابل هو من المستحيلات بلا مغالطة فيه بالتشبث الواهي بأمر معلوم (واللّه يعلم) حالكم والحقيقة واضحة (وأنتم لا تعلمون 62 ما كان ابراهيم يهوديا) يقول في الإله (الوهيم) بصيغة الجمع كما ملأوا منه توراتهم الرائجة. وكما كتبوا في كتاب ارميا 23: 36 الوهيم حييتم يهوه صيباؤت الوهينو» أي الآلهة الاحياء رب الجنود الهتنا. ولا يقول بفلتات توراتهم في الجرءة على جلال اللّه. كما في نهي آدم عن الشجرة وحكاية برج بابل ومصارعة يعقوب وغير ذلك مما ذكر بعضه في الجزء الأول من «المدرسة السيارة» (ولا نصرانيا) يثلث الآلهة ويؤله البشر وينسخ الشريعة بالكلية بمجرد الاستحسان (ولكن كان حنيفا) موح----دا بحقيقة التوحيد (مسلما) أي داخلا في سلم اللّه في توحيده وحقيقة عرفانه وطاعته (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 63 إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على حنيفيته وإسلامه وملله في الدين من الأنبياء والموحدين الصالحين من الناس (و) على الخصوص (هذا النبي والذين آمنوا) معه فإن هذا النبي من اكبر الداعين الى الإسلام ملة ابراهيم على حقيقتها (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ 64 وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ودت بمعنى تمنت. ولو يضلونكم تفسير لها. والاستقبال
ص: 297
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (67) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (68) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (69) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (70) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
إنما هو بالنسبة للتمني لا للخطاب (وما يضلون إلا أنفسهم) إذ يزيد على ضلالها بضلالها في محاولة اضلال المؤمن الموحد على بصيرة من أمره (وما يشعرون 67 يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بأنها من اللّه بحسب ما تتلونه من كتب وحيكم من التوراة والانجيل وغيرهما في البشرى بها وبالرسول الذي يأتي بها بحيث يتعين مما تتلوه ارادة هذه الآيات بخصوصها أو المراد وأنتم تشهدوز وتعاينون ما يدل على انها من اللّه (68 يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) أي تجعلون الباطل لباسا على الحق تغطونه به محاولة الحجبه ومخادعة في أمره لتموهوا أمركم (وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) به (69 وقالت طائفة من أهل الكتاب) الظاهر انهم من اليهود قالوا لبعض قومهم تعليما لهم بمخادعة المؤمنين في محاولة اضلالهم عن الحق (آمنوا) أي تظاهروا بالإيمان الصوري (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) أي في أوائله (واكفروا) أي وصارحوهم بالكفر والارتداد (آخره) فلعل المسلمين من هذه المخادعة يحسبون ان كفر كم به وارتدادكم في يومكم كان عن بصيرة وعلم منكم بانكشاف خطأ كم في ايمانكم به وجه النهار و (لعلهم يرجعون) بهذه الخديمة عن إيمانهم ويرتدون عن دينهم، روى القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا المقام رواية ضعيفة بأبي الجارود بعيدة الإنطباق على الآية. وقالت تلك الطائفة ايضا لقومهم في اغوائهم واغوائهم بالدوام على الضلال وكتمان الحق (70 ولا تؤمنوا) أي ولا تبدوا إيمانكم بما في كتب وحيكم من ان اللّه يؤتي النبوَّة والوحي نبيا مثل موسى بنحو يتعين منه نبي المسلمين ولا تعترفوا بذلك (إلا لمن تبع دينكم) وكان منكم فإنه يخفيه كما نخفيه (قل) لهم يارسول اللّه انحسبون ان الهدى الى الحق منوط في حصوله وعدمه باعثر افكم بما في توراتكم وكتبكم واظهار كم الايمان كلا بل (ان الهدى هدى اللّه) يهدي من يشاء بلطفه ممن لم يتعصب على الحق الى سواء السبيل
ص: 298
أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (71) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (72) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ
-------------------------------------------------------------------
وجملة «قل ان الهدى»، معترضة في اثناء كلامهم في الاغواء جيئ بها للتعجيل في تقريمهم وتسفيه رأيهم في غوايتهم) ان يؤتى (اي ولا تؤمنوا الغير من اتبع دينكم بان يوتي (احد) من غير كم (مثل ما اوتيتم) باعتبار انبيائكم وكتبكم من النبوَّة والرسالة والكتاب والشريعة ويكون على وفق ما طلبتموه من موسى فاخبر كم بان يقيم نبيا من اخوتكم بني اسماعيل كموسى ويجعل كلامه في فيه (او) تؤمنوالهم بانهم (يحاجوكم عند ربكم) بما اخبركم به في شأن رسول اللّه و قرآنه كلام اللّه وان لهم عليكم الحجة عند اللّه بما تعرفونه من الحق (1) او ان المعنى قل ان الهدى هدى اللّه بان يوني احد الى آخره فتكون جملة ان يؤتى متعلقة بما امر اللّه رسوله ان يقوله لهم وعلى هذا يكون قوله تعالى قل ان الفضل تكرر الامر بالقول بدون توسط كلام اجنبي يقتضيه والاظهر هو الوجه الأول. وقد نقل في التبيان ومجمع البيان وجهان آخران لا اعتدادبها (قل) يارسول اللّه في تسفيه رأيهم فيما قالوه وتواصوا (ان الفضل) ومنه الرسالة والشريع---ة والتوفيق لاجابة الدعوة اليهما ونصرة الدعوة واعلاء كلمتها وظهور الهدى وفلج الحجة وشوكة دين الحق وانتظام جامعته (بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع) في فضله ولطفه ورحمته وقدرته (عليم) بمن هو اهل للرسالة وايتاء الفضل (71 يختص برحمته) بالفضل والهدى (من يشاء) اختصاصه بذلك من عباده لاهليته لذلك (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ 70 وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ) مى تفسير القنطار في الآية الثانية عشرة (يؤده اليك) تمسكا بحكم العقل والفطرة بقبح الخيانة في الأمانة فإن قبولها عهد بحفظها وردها وقد نهت شريعة الحق ع---ن الخيانة فيها (ومنهم من ان تأمنه بدينار) وهو مثقال شرعي من الذهب يساوي نحو نصف ليرة عثمانية (لا يؤده اليك الا مادمت عليه قائما) في المطالبة والحجة والقوة (ذلك) اي خيانتهم للأمانة (بانهم) في مزاعم ضلالهم (قالوا ليس علينا في الاميين سبيل) في الإثم وحرمة اموالهم
ص: 299
بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (72) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (73) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
-------------------------------------------------------------------
قبل ان المراد من الامين نوع العرب باعتبار ان الغالب منهم لا يقرأون ولا يكتبون. ويحتمل ان يراد منهم من عدى بني اسرائيل فإنهم ينسبونهم الى الأمة والأمم. ويحتمل ان یريدوا اتباع رسول اللّه الامي. ولعلهم يغالطون لنفي السبيل بما في توراتهم من انها نهتهم عن الانتقام والحقد على ابناء شعبهم. وعن السعي والوشاية بين ابناء شعبهم. وعن شهادة الزور على قريبهم. فيزعمون من ذلك ان غير الاسرائيلي مهدور الحرمة في الأحكام الاجتماعية العقلية ومن ذلك اداء الأمانة (ويقولون) في نفى السبيل وخيانة الأمانة (على اللّه الكذب وهم يعلمون) انه كذب منهم فإنهم مع حكم العقل يقرأون مما بقي في شريعة الحق في توراتهم ان الأمانة يجب ردها مطلقا. وان جحد الأمانة والوديعة خطيئة وذنب. وانهم منهيون عن السرقة والكذب والغدر من دون حصر لهذه الأحكام بالإسرائيلي. كما في الفصل السادس والتاسع عشر من سفر اللاويين (72 بلى) عليهم في الأميين سبيل وهم مسؤلون عن الأمانة والوفاء بعهدها. وما أحسن الوفاء بالعهد (من أوفي بعهده) في كتب اللغة أو فى بمعنى وفى. أقول والمستعمل في القرآن الكريم هو أوفى. وأوفى. وأوف. وأوفوا والموفون، وكاها من أوفى والظاهر ان الضمير في عهده يعود الى الموصول «من» وقيل يرجع الى لفظ الجلالة من قوله تعالى ويقولون على اللّه الكذب. وهو بعيد مع ان قبول الأمانة لا يتضمن عهدا مع اللّه وإنما يتضمن عهدا مع صاحبها. وان نفس الوفاء بالعهد محبوب اللّه ولكن ما كل من أوفى بعهده محبوب لله، بل من أوافى (واتقى) اللّه أي اتقى غضبه وعقابه بالأعمال الصالحة وطاعته في أوامره ونواهيه وكانت له التقوى ملكة ومذهبا (فإن اللّه يحب المتقين) الذين ديدنهم المحاذرة من ان يعرض اللّه بوجهه الكريم عنهم والعياذ باللّه (73 ان الذين يشترون بعهد اللّه) أي بعهدهم مع اللّه (وايمانهم ثمنا) يتعلق الاشتراء بالثمن كما يتعلق بالمبيع والثمن في الحقيقة احد المبيعين والموضين (قليلا) مهما كان مما تحملهم اهواؤهم لأجله على الحنث ونقض العهد (أولئك لا خلاق) أي لا نصيب ولا حظ (لهم في الآخرة ولا يكلمهم اللّه) لعله كناية عن مقته لهم
ص: 300
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (74) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
-------------------------------------------------------------------
وسخطه عليهم (ولا ينظر اليهم يوم القيامة (أي لا يعطف عليهم برحمته) ولا يزكيهم) بالعفو والمغفرة ولهم عذاب اليم 74 وان منهم) أي من اهل الكتاب (الفريقا بلوون ألسنتهم بالكتاب) زيادة على ما نابه من التحريف أي يقتلون السنتهم ويحرفونها في قراءتهم الى ما ليس فيه (لتحسبوه من الكتاب وما هو من) نوع (الكتاب) مطلقا بل هو زيادة وتحريف جديد منهم (ويقولون) في غلوائهم في الضلال والكذب على اللّه فيما لووا اليه السنتهم بالكذب منهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انه كذب منهم وافتراء على اللّه (75 ما كان لبشر ان) یرسله اللّه هاديا لعباده الى الحق و (يؤتيه اللّه الكتاب والحكم) في مجمع البيان أي العلم وفي الكشاف الحكمة. ولكن كل منها بعيد عن اللفظ، فالظاهر انه سيطرة الرسالة والدعوة والارشاد (والنبوَّة) في بيان الحقائق (ثم) بعد هذا كله (يقول) ذلك المبشر الرسول (للناس كونوا عباداً لي) ومما يدل عليه هذه الآية أمور ثلاثة - الأول - ان البشر المتكون في الرحم تدريجا جمادا بلا روح. ثم تتعلق به الروح. ثم یولد ضعيفا فقيرا في جميع احواله لا علم له ثم يتدرج في المعرفة والخروج من الجهل ومشابهة البهائم شيئا فشيئا. ويعيش على فقره وضعفه في جميع أموره بتألم ويجوع، ويعطش ويحزن ويخاف ويضطهد. هذا كيف يعقل وكيف يتوهم المتوهم أن يكون إلها واجب الوجود خالقا - الثاني - انه وإن اتفق لبعض البشر الناقصين أن يطغى بفساده ونقصه ويدعي الالهية ويدعو الناس الى عبادته، ولكن ليس من السائغ والممكن في المعقول أن يكون البشر الموصوف في الآية يدعو الناس الى عبادته ويدعي الربوبية و الإلهية. فإن اللّه هو الحكيم العليم بما يكون من عباده. فكيف وهو القدوس يخالف حكمته وعلمه ويؤتي الكتاب والحكم والنبوَّة لمن يعلم انه يدعو الى الشرك تعالى عن ذلك – الثالث - الإخبار بأن ذلك لم يقع ولا يقع لأنه من المستحيل على جلال اللّه. فتكون الآية
ص: 301
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ
-------------------------------------------------------------------
الكريمة دالة ببرهانها الواضح على بطلان دعوى من ادعى الإلهية والربوبية للبشر. وبطلان الدعوة إلى عبادة البشر ورداً وتوبيخا على ذلك. وهذا كله بعمومه شامل للنصار ويكون ردا وتكذيبا لهم فيما ينسبونه إلى المسيح في انجيل يوحنا 33:10 - 36 من انه ادعى الإلهية واستشهد بالعدد السادس من المزمور الثاني والثمانين. وما ينسبونه أيضا في اناجيل متى 22 : 41 - 46 ومرقس 13 35 - 38 ولوقا 41:20 - 45 من انه ادعى الربوبية محتجا بقول داود في اول المزمور العاشر بعد المائه «قال الرب لربي» مع ان في الاستشهاد تحريفا معنويا ظاهرا وفي الاحتجاج الثاني تحريف لفظي لما في المزامير العبرانية فإن ترجمته الصحيحة «قال اللّه السيدي» وماذا تنفع المزامير إذا ذكرت مستحيلا في المعقول لا ينطلي على العارف باللّه وقد ذكرنا من ذلك شيئا في الجزء الأول من كتاب «الهدى» صفحة 115 و 116 و 198 والجزء الأول من «المدرسة السيارة» صفحة 73 من الطبعة الثانية. وتكون الآية ايضا توبيخا لهم على تناقضهم في قولهم ان المسيح بشر آناه اللّه الكتاب والحكمة والنبوَّة وتعمد أي اغتسل على ي----د يحيى بن زكريا غسل التوبة ونزل عليه الروح بشكل حمامة كما تصرح بهذا كله انا جيلهم. وقولهم انه «وحاشاه» ادعى الإلهية والربوبية. ومعنى ذلك دعوة الناس لأن يكونوا عبادا له (من دون اللّه) فإن دعوة البشر إلى عبادته جحد في الحقيقة لمقام الإلهية وتحويل الواجب اللّه من العبادة له إلى غيره من البشر (ولكن)(البشر المنوه بفضيلته في الآية يقول للناس (كونوا ربانيين) في النهاية الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة. وفي التبيان والقاموس والنهاية كما يقال دم بحراني منسوب إلى البحر وهو قمر الرحم أو البحر المعروف لسعته. وكما يقال رقباني لعظيم الرقبة كما في التبيان والقاموس ولحياني العظيم اللحية ولعله إلى هذا يرجع تفسير الربانيين بالعلماء الفقهاء او الحكماء الانقياء او الحكماء العلماء، وفسرت هذه الكلمة ايضا بمديري امر الناس في الولاية بالاصلاح كربان السفينة أخذا من الربان الذي يرب امر الناس بتدبيره له واصلاحه اياه. ويدفع هذا الأخير اولا ان مقتضاه ان يقال ربانيين بلانسبة «وثانيا» ان الرسول لا يقول لكل الناس كونوا مدبرين لأمر الناس في الولاية بالاصلاح بل ان مقام الولاية بالاصلاح والتدبير انما يكون لآحاد مخصوصين من الناس وسوق الآية
ص: 302
بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (76) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (77) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ
-------------------------------------------------------------------
لا يناسب التخصيص. والتفاسير المتقدمة لم ينظر فيها الى اللفظ وانما اخذت من مخايل معناه فالرباني هو المتعلق في احواله ومعارفه واعماله بالانتساب الى اللّه مولاه رب العالمين فيما يحبه برضاه وهذا هو الجامع لدعوة الرسول للناس واصلاحها (بما كنتم) اي بمقتضى ما كنتم (تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) في الدين وتعاليم الوحي (76 ولا يأمركم) عطف على يقول للناس المنفي بمفاد «ما كان» (ان تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون اللّه فإنه كفر باللّه (أيأمركم) وكيف يأمركم (بالكفر) ويدعوكم اليه (بعد اذ أنتم مسلمون) داخلون في سلم اللّه بالإيمان به وتوحيده. وهو رسول اللّه العليم الحكيم والداعي إلى اللّه فكيف يصدر منه ما يحيله العقل على رسل اللّه وانبيائه (77 وإذ) واذكر في الكتاب. او تكون «إذ» ظرفا لقوله تعالى فيما بعد «قال أأقررتم» (اخذ اللّه ميثاق النبيين) في الآية وجهان وروايتان - احدهما - ان يكون الميثاق للنبيين على قومهم كما تقول إذا عاهدت اللّه اني قد جعات علي عهدا اللّه وميثاقه. ويكون الميثاق للنبيين باعتبار تبليغه لأممهم وتوثيقه عليهم وان كان اللّه آخذه بوحيه وامره النبيين بأخذه على قومهم. ففي التبيان روى عن ابي عبد اللّه يعني الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) تقديره وإذا أخذ اللّه ميثاق اسم النبيين بتصديق نبيها والعمل بما جاء به وانهم خالفوهم فيما بعد وما وفوا به وتركوا كثيرا من شريعته وحرفوا كثيراً منها وكذا في مجمع البيان. وفي تفسير صاحب المنار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو على حد قوله تعالى یا ايها النبي إذا طلقتم النساء فالخطاب للنبي والمراد امته عامة. ثم ذكر عن شيخه محمد عبده نسبة ذلك إلى الصادق. اقول ولم أجد الرواية في العاجل مسندة. نعم في تفسير البرهان عن العياشي عن حبيب السجستاني عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما يرجع إلى نحو ما ذكر في التبيان روايته. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن سعيد بن جبير قال قلت لا بن عباس ان اصحاب عبد اللّه «يعني ابن مسعود» يقرأون وإذا أخد اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس انما اخد اللّه ميثاق النبيين على قومهم. واخرج ابن
ص: 303
لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
-------------------------------------------------------------------
جرير عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى قال فاشهدوا يقول فاشهدوا على المكم بذلك وأنا معكم من الشاهدين. وعلى هذا يكون الخطاب فيما بعد للأمم «وثانيها» اخذ الميثاق من النبيين ويكون الخطاب فيما بعد لهم كما هو مؤدى تفسير القمي وروايته عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). ونحوها رواية البرهان عن سعد بن عبد اللّه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن صاحب كتاب الواحده عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). ورواية ابن جرير عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ايضا. ورواية ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ايضا. وعليه يكون الخطاب فيما بعد للنبيين والترجيح بعد تدافع الروايات والنظر الى سوق الآية الكريمة انما هو للوجه الأول. والميثاق هو العهد الموثق. وهو كالنذر والقسم في دخول اللام على جوابه تقول عاهدت اللّه لئن كان كذا لأفعان كذا. ونذرت أو اللّه علي او حلفت أو أقسمت أو واللّه لمن كان كذا لأفعلن كذا، واللام للأولى كالثانية في كونها لتلقي القسم ونحوه بالجواب يؤتى بها مع الشرط تثبيتا لدخول الشرط في حيز القسم والعهد وتقوية لتلقيها بالجواب لأن الشرط قيد الجواب ومن متعلقاته كقوله تعالى في سورة التوبة (76 وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ). كما جرى ذلك في القرآن الكريم في العهد والقسم الظاهرين والمقدرين ومن ذلك أقسموا باللّه في نحو خمسين موردا. ويشبه دخول هذه الأولى على الشرط لتقوية الربط دخول همزة الاستفهام الاذكاري على الشرط مع ان المستنكر عند الكفار بالبعث إنما هو جواب الشرط كما في سورة الاسراء«52 أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا» ونحوه الآية المائة وغير ذلك. وقد يكتفى باللام الأولى عن الثانية كقوله تعالى في سورة الحشر (12) لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم» فإنها لام القسم وبما يدل على ذلك قوله تعالى «ولئن نصروهم ليولن الأدبار» كما يكتفى بدخول همزة الاستفهام على الشرط مع ان المستنكر هو جوابه كقوله تعالى في سورة مريم «67 وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا». وقد يكتفى باللام الثانية كقوله تعالى في سورة المائدة «77 َإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» هذا وان الذي اخذ به الميثاق هو قوله تعالى (لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) والصحيح ان الملام الأولى هي التي تدخل على اداة
ص: 304
وَلَتَنْصُرُنَّهُ
-------------------------------------------------------------------
الشرط لتلقي الميثاق و «ما» شرطية نحو قوله تعالى في سورة الاعراف «17 لمن تبعك منهم لأملئن جهنم منكم اجمعين» أي كلما اتيتكم يا اسم النبيين من كتاب يبشر بالنبوَّة اللاحقة و حكمة تعرفون بها حكمة ارسال الرسول ودلائل صدقه وصرتم بذلك على بصيرة من الرسالة اللاحقة ثم جاء كم بعد هذا رسول دلت الدلائل على صدقه في دعواه الرسالة من اللّه و هو مصدق لما معكم من البشرى اي يكون مصداقها الذي تصدق به باعتبار انطباقها النام عليه ووضوح الدلالة على رسالته، او مصدقا لما معكم من معارف الإكلية والتوحيد ونبوة الأنبياء الكرام. فلا تمتنع رسالته كما هو الغالب في دعاة الضلال إذ يخالفون دين الحق فيما يرجع إلى الإلهية والتوحيد والمعاد. والميثاق في الآية هو قوله تعالى «لتؤمنن به ولتنصرنه» أي ذلك الرسول. هذا : وقيل ان اللام في «لما» للابتداء و «ما» موصولة لا اداة شرط وهو مبتدأ وخبره لتؤمان به ويدفعه - اولاً - ان الميثاق كالقسم مما يعتنى بربطه بالجواب وتلقيه بروابط القسم فلا ينقض هذا الغرض بلام الابتداء التي لها الصدر في الكلام ولا يجمع بين المتنافرين وهما ربط العهد و تلفيه مع قطعه بلام الابتداء - وثانيا - ان الإيمان بما اوتوه من كتاب وحكمة يجب من اول ما يجيئهم به نبيهم إذن فلا معنى لترتبه بثم على مجيء رسول آخر. وكذا الكلام في «لتنصرنه» ان اعيد ضميره على ما اوتوا من كتاب وحكمة – وثالثا - لا يصح افراد الضمير في الخبر إلا إذا كان المراد بالكتاب والحكمة شيء واحد وهو بعيد وإلا فاللازم تثنية الضمير - ورابعا - إذا جعلنا «لتؤمان» خبراً لقوله تعالى «ما آتيتكم» و كذا «التنصرنه» فما هي اللام فيها فإنها حينئذ لا تصلح ان تكون رابطة لجواب العهد والميثاق ولا مزحلقة لأن المزحلقة مختصة بخبر «ان» و - خامسا - لو قيل ان مساق الآية هو الذي آتيتكم من كتاب وحكمة لتؤمنن به ثم ان جاءكم رسول لتنصرنه فتكون جملة جاء كم وما بعدها فرد آخر من جنس الميثاق المأخوذ لقلنا - اولا - من أين لنا بالشرط في «ثم ان جاءكم» وليس هناك على قولكم شرطا معطوفا عليه - وثانيا - ان القرآن الكريم يجل عن مثل ما تفرضون من الكلام المعقد والمتداخل الأجزاء تداخلا يهون دونه قول الشاعر :
وما مثله في الناس إلا مملكا***ابو امه حي ابوه يقاربه
ص: 305
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (78) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (79) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
-------------------------------------------------------------------
فلا مناص عما ذكرناه من التفسير ويكون عموم الخطاب باعتبار من يدرك دعوة الرسول الثاني من الأمم وهكذا. وان رسول اللّه محمد خاتم النبيين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هو اظهر افراد الرسل في هذا الميثاق لتكرر البشرى به في كتبهم بشرى تشرف على الصراحة في تعيينه بأقرب ما يفهمه البشر الجاهل بالغيب في تعيين من يأتي في المستقبل. ولظهور الدليل على رسالته وكتابه وبقائه في جميع الأزمان وهو القرآن الكريم ودلائل الرسالة فيه كما اشرنا اليه في الفصل الأول من المقدمة. ومن نصره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) نصر من هو نفسه ووصيه في امته ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى وصاحب عهد الغدير ووصية الثقلين وغير ذلك علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى هذا الوجه ينزل بعض ما جاء في ذلك من الروايات (قال) أي اللّه جل اسمه النبيين (أأقررتم) بذلك بين الأمم في تبليغكم اياه لهم (واخذتم) على أسمكم (على ذلكم اصري) اي عهدي وميثاقي (قالوا) أي النبيون (أقررنا) بذلك بين المنا وباعتبار ان قولهم هذا جواب للاستفهام التقريري ينحل إلى قولهم أيضا وأخذنا عليهم على ذلك عهدك واصرك (قال) اللّه للنبيين (فاشهدوا) على الحكم بهذا الميثاق) وانا معكم من الشاهدين (78 فمن تولى بعد ذلك) من الأمم عن هذا الميثاق واعرض عنه وكفر بمن يأتي من الرسل و خصوص خاتمهم البينة حججه والساطع برهانه والعام الباقي معجزه (فَأُولَئِكَ) المتولون (هم الفاسقون) الخارجون عن حجاب الإيمان والطاعة (79 أفغير دين اللّه يبغون) بتوليهم عن عمد اللّه ودين الحق الإيمان باللّه ورسوله و كتابه وبمحادتهم اللّه بهذا التولي وخروجهم عن طاعته وهذا الاستفهام انكار عليهم وتسفيه لهم والحجة قوله تعالى (وله اسلم) اي والحال انه جل شأنه دخل في سلمه وانقاد اليه (من في السماوات والأرض) من الملائكة والانس والجن (طوعاً وكرها) بفتح الكاف قبل انه من الكراهية أي طائعين وكارهين. وقيل من الاكراه ابی طائعين ومكرهين. كظاهر قوله تعالى في سورة النساء (23 لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها أي اكراها). والثاني هو المناسب في الآية للمقابلة بالطوع وهو مقتضى الروايات المذكورة في تفسيري البرهان والدر المنثور ع---ن
ص: 306
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (80) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
-------------------------------------------------------------------
الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) والكاظم وابن عباس وما ذكر في مجمع البيان انه المروي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمراد من الكره ما كان في الابتداء فإن غالب الذين اسلموا كرها داموا على الإسلام على طوع ورغبة. وعطف الكره بالواو التي هي للجمع إنما هو باعتبار المجموع وإن اختص قسم بالطوع وقسم بالكره والأمر فيه ظاهر. لكن مع تفسير الإسلام بالاعتراف بالإلهية والتوحيد والتدين بدين الحق يكون ذكر من في الأرض انما هو باعتبار البعض وهو من دان بالإسلام فإن الكثير ممن في الأرض في كل زمان لم يسلم. وحينئذ قد يخفى وجه الحجة على الانكار بقوله تعالى «وله اسلم» فالظاهر ان الإسلام في الآية بمعنى يعم الانقياد للّه في معرفته ودينه وتكوينه وقضائه. وحينئذ لا ينفك عن مصداق ذلك من في السماوات والأرض بل جميع المخلوقات من وجه او وجوه. والمراد من الإسلام كرها هو ما لا تكون ارادة المسلم ورغبته علة كالانقياد للتكوين والقضاء والمعرفة التي تبعث اليها الفطرة على حين غفلة من ضلال الهوى فإنك ترى الإنسان حتى المادي المعطل إذا أصابته نائبة تنقطع فيها وسائله ان نفسه تفزع في الخلاص من تلك النائبة إلى من يراه قادرا على دفعها عنه بقدرته القاهرة رغما على الأسباب العادية. وهذا هو الاله القادر، وهو اللّه جل شأنه. وكالدخول في دين الإسلام بالاكراه في اول الأمر. ويكون الحاصل ان اللّه الاله الذي انقاد له كل شيء ومن ذلك الملائكة والانس والجن (واليه يرجعون) في يوم القيامة بعد ان لا يبقى إلا هو. هذا الإله هل يصح لهم ان يبتغوا غير دينه. وعلى هذا يكون ما أشرنا اليه من الروايات الواردة في تفسير الآية واردة باعتبار بعض المصاديق من الإسلام (80) قل) يا رسول اللّه انت و من يجب عليه اتباعك لا نبغي غير دبن اللّه بل (آمنا باللّه) الذي لا إنه الا هو وبدينه دين الحق كما انزل في كتبه المقدسة على رسله (وما انزل علينا) ببركة الوحي اليك وبركة رسالتك (وما انزل على ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط)، وهم قبائل بني اسرائيل المنتسبين الى اولاد يعقوب فيمكن ان يكون المراد بالانزال عليهم باعتبار الانزال على انبيائهم ونحو قوله تعالى في الآية «انزل علينا» و 65 «بالذي انزل على الذين آمنوا» وفي سورة البقرة «85 ما
>>>
ص: 307
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (81) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (82) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (83) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (84) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
انزل علينا» ومعنى «على» في على ابراهيم وعلى الأسباط واحد وانما الاختلاف بالاعتبار. ويمكن ان يراد بالأسباط أنبيائهم كموسى ومن بعده (وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم) من كتاب وحكمة وكرامة ومعجزة (لا نفرق بين احد منهم) في الايمان ولا تصرفنا الاهواء والعصبية القومية عن الإيمان ببعضهم (ونحن له) أي اللّه (مسلمون) في جميع ذلك (81 ومن يبتغ غير الإسلام) للّه (دينا) ومن اظهر مصاديقه الانقباد لما جاء به رسول اللّه خاتم النبيين (فلن يقبل منه) غير الإسلام وكيف يقبل منه الضلال (وهو في الآخرة من الخاسرين 82 كيف يهدي اللّه) ويوصل الى الحق بلطفه وتوفيقه (قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا) معطوف على معنى الفعل في (إيمانهم) أي بعد أن آمنوا وشهدوا (ان الرسول حق وجاءتهم البينات) الواضحات الدلالة على رسالته وحقيقة الإيمان فإن هؤلاء قد أخرجوا أنفسهم بتمردهم على اللّه عن أهليتهم للطفه وإيصالهم الى الهدى بتوفيقه (واللّه) جلت حكمته (لا يهدي) ولا يوصل بتوفيقة (القوم الظالمين) المتمردين بظلهم بل (83 أو انك جزاؤهم ان عليهم لعنة اللّه) أي طردهم عن رحمته (والملائكة) بالدعاء عليهم باالمنة (و) كذا لعنة (الناس أجمعين) وفي هذا إذن للناس بامنهم وطلب لذلك 84 (خالدين فيها) أي في اللعنة وطرد اللّه لهم عن رحمته (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة أو لا يمهلون يوم القيامة عن العذاب (85 إلا الذين تابوا) في الدنيا (من بعد ذلك واصلحوا) اعمالهم أي عملوا الصالحات (فإن اللّه غفور رحيم) أي فإن اللّه يغفر لهم ذنوبهم م بالرضا والثواب لأنه غفور رحيم وأقيمت الملة في التفريع مقام المعلول المتأكيد ولبيان ان هذه المغفرة ليست مما يرجى اتفاقه بل
ص: 308
(86) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (87) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ
-------------------------------------------------------------------
هي لازمة في رحمة اللّه ولطفه لأنه غفور رحيم لكل من هو أهل المغفرة والرحمة، قبل ان الآيات نزلت في الحارث بن سويد رجل من الأنصار ارتد و تاب وتاب اللّه عليه. وفي مجمع البيان وهو المروي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). اقول ولم أجد الرواية مسندة، والروايات في الدر المنشور في هذا المقام متدافعة (86 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) وقال جل شأنه في سورة النساء «21 إنما التوبة على الله» أي بمقتضى حكمته ولطفه في الدعوة الى الصلاح وقطع مادة الفساد ورحمته بعباده «لذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب» من عمرهم لا في آخره عند الموت الذي يرونه بعيداً «فأولئك يتوب اللّه عليهم وكان اللّه عليها بأن توبتهم عن اهتداء وندم حقيقي. لا لانقطاع آمالهم من الحياة وشهواتها و اهوائها عند معاينة الموت وانكشاف الحقائق «حكيما» في قبول التوبة «22 وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وعاين ما عاين فانقطعت عنه لذلك دواعي الهوى ونزعات النفس الأمارة الى الضلال «قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار» وقال جل اسمه في سورة يونس في شأن فرعون «90 حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ 91 الآن» یا فرعون حينما انقطعت عنك آمال الطفيان التي سوات لك ادعاءك للربوبية فمصيت وأفسدت وكفرت بآيات اللّه «وقد عصيت من قبل» : والظاهر اجماع المسلمين على قبول التوبة الصادقة قبل حضور الموت وحينما تكون دواعي الهوى ونزعات النفس الأمارة تبعثه على القبيح ويصدها عقله وتوبته وخوفه من اللّه وتقواه. فتكون واردة في توبة الذين كفروا بعد إيمانهم عند معاينة الموت أو ماتوا وهم كفار، وفي يوم القيامة يحاولون التوبة. وربما يرشد الى ذلك العدول عن قوله تعالى لا تقبل توبتهم الى قوله «لن تقبل توبتهم» الذي هو نص على النفي في المستقبل مع ان قبول التوبة مقارن لها. فيكون في ذلك اشارة الى ان توبتهم المستقبلة المتأخرة من حياتهم العادية وآمالهم فيها لن تقبل منهم (وأولئك هم الضالون (مدة حياتهم قبل معاينة الموت بل وعندها (87 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا)
ص: 309
مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (88) لن تنالوا البر حتى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيءٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٍ (89) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (89) (الجزء الرابع) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ
-------------------------------------------------------------------
دخلت الفاء في الخبر الخروج المبتدا باعتبار صلته مخرج الشرط. وذكر ملأ الارض ذهبالانه غاية ما يعظم في عين الإنسان نوعا من المال والبدل والوسيلة للخلاص فلا ينفعه ذلك لو تصدق به ونحو ذلك لأن اعمال الكافر حابطة لا يستحق بها الجزاء ممن کفر به (ولو افتدى به) وقدمه بعنوان الفداء وهذا غاية ما يدخل في تصور نوع الإنسان من التهويل والتخويف «ولعذاب الآخرة أشد» (أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) على اللّه. يا ايها المؤمنون (88 لن تنالوا البر) ويكون انفاقكم براً برضاء اللّه بأن تنفقوا الشي الزهيد الذي لا ترضونه بل (حتى تنفقوا مما تحبون) وترغبون بماليته فإن قصدكم التقرب الى اللّه إنما يظهر ببذلكم لوجهه الكريم ما لا تستحقرونه (وما تنفقوا من شيء فإن اللّه به عليم) لا يخفى عليه شيء منه ولا من نياتكم في انفاقه وهو مجازيكم عليه ويضاعف لكم الجزاء كما وعدكم بذلك في القرآن الكريم فلا تخشوا أن يفوتكم من انفاقكم واخلاصكم في النية شيء (89 كل الطعام) أي أصول المطعومات (كان حلا لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل) أي يعقوب (على نفسه من قبل) متعلق بحرم وقيل بتعلقه بقوله تعالى «حلا» ويدفعه لزوم الفصل باجنبي وهو جمالة «إلا ما حرم» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد والإيهام. نعم يفهم من قوله تعالى «كان حلا» انه من قبل أن تحرمه التوراة بتنزيلها (أن تنزل التوراة) على موسى. والتنبيه على تفسير الآية ثلاث مقدمات - الأولى - قال علي بن ابراهيم القمي في تفسيره هذا الكلام حكاية عن اليهود ولفظه لفظ الخبر. أي انه كلام اليهود ومن دعاو بهم الكاذبة. وهو في الآية في مقام الاستفهام الانكاري و حذفت منه اداة الانكار لدلالة قوله تعالى فأتوا بالتوراة. فمن افترى على اللّه الكذب. كما حذفت اداة الاستفهام لدلالة المقام عليها في قوله تعالى في سورة البقرة 74 «قل اتخذتم عند اللّه عبداً فلن يخلف اللّه عهده» وقوله تعالى في سورة الشعراء 21 «وتلك نعمة تمنها علي ان عبدت بني اسرائيل» على الصحيح من تفسير ذلك بإنكار موسى على فرعون ولو كان هذا
ص: 310
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
-------------------------------------------------------------------
الكلام اخبارا من اللّه لما ناسبه تكذيب اللّه لهم - الثانية - قيل في تفسير ذلك ان يعقوب حرم على نفسه العروق ولحم الجمل فقالت اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة أي انها تذكر ان اسرائيل حرمه على نفسه - الثالثة - ان تحريف التوراة الحقيقية كان قبل رسول اللّه بقرون متطاولة منذ انقطع أثرها بارتدادات بني اسرائيل وتتابع البلايا عليهم فادعى وجودها «حلقيا» الكاهن في زمان «يوشيا» الملك وذكروا تجديد كتابتها من عزرا بعد سبي بابل. كما اشرنا الى ذلك في المقدمة الخامسة من كتاب الهدى (1) فراجعه. كما ذكرنا بعض الشهادات بتحريفها من كتابي «اشعيا» و «ارميا» وهما من كتب وحبهم (2) فالتوراة في عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هي نفس التوراة الموجودة في عصورنا فإنها كانت إذ ذاك منتشرة بين الاسرائيليين والسامريين والنصارى في الشرق والغرب والحبشة وغيرهم باغات متعددة ومنها اليونانية السبعينية والحبشية ولا يوجد بينها إلا اختلاف طفيف فالتوراة الرائجة في عصورنا هي المحرفة التي جادلهم القرآن بها وقال «فأتوا بالتوراة فاتلوها» إذن فمعنى الآية ان بعض اهل الكتاب قالوا كل أصول المطعومات كانت حلا لبني اسرائيل قبل أن تحرم الثوراة ما حرمته منها ثم استثنوا من ذلك ما زعموا ان اسرائيل حرمه على نفسه من قبل أن تنزل التوراة فنزلت التوراة بتحريمه. وهذا كله كذب وافتراء حتى ان توراتهم تكذبهم فيه وتذكر ان المحرمات من الحيوانات البرية والمائية والطيور إنما هي رجس فانها نهتهم عن أن يأكلوا كل رجس كما في العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية ثم نصت في الفصل المذكور على المحرمات كما نصت عليها في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين. إذن فكيف يكون الرجس حلالا شرعيا قبل التوراة وايضا لم تذكر التوراة ان اسرائيل حرم على نفسه شيئا. بل إنما تذكر ان اسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنو اسرائيل عرق النساء الى هذا اليوم. فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من اسرائيل كما في الفصل الثاني والثلاثين من سفر التكوين يا رسول اللّه ان هؤلاء لا ينتهون عن الكذب إذن فجادلهم بتوراتهم و (قل) لهم في اظهار كذبهم (فاتوا بالتوراة فاتلوها) في هذه الموارد (إن كنتم صادقين) فإن
ص: 311
قبل ان اليهود يقولون بامتناع النسخ فكيف يدعون الحل الشرعي قبل التوراة «قلنا» المعروف ان اليهود يزعمون ان الشرع في التوراة منع من نسخ احكامها لأنها أبدية وهذا لا ينافي ادعاءهم هذا فيا قبل. وقد ذكرنا زعمهم وبطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 288 - 291 ولو كان اليهود كبعض النصارى يزعمون امتناع النسخ عقلاوانه لا شريعة قبل الاوراة لكانت دعواهم هذه باعتبار الحل العادي وعدم الحرمة الشرعية. وقد ذكرنا هذا الزعم و بطلانه في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة 235 - 239 و 241 - 243 وقيل في تفسير هذه الآية وجوها أخر مرجعها إلى أن الآية اخبار من اللّه بأن المطعومات كانت حلاً لبني اسرائيل وذكروا لذلك وجوها «منها» ما في الكشاف من ان الآية رد عليهم في دعواهم ان كل الذي حرم عليهم قد كان محرما على نوح وابراهيم ليتخلصوا بهذه الدعوة الكاذبة مماذكره القرآن انه بظلم من الذين هادوا حرمت عليهم طيبات احلت لهم. كما في سورة النساء158 ويبغيهم كما في سورة الأنعام 147 : ويرد على هذا الوجه انه ليس في الآية مايشير اليه. وليس في التوراة ما يدل على ان الذي حرم عليهم كان حلالاً قبل ذلك ومن الطيبات بل العدد الثالث من الفصل الرابع عشر من سفر التثنية يبين ان المحرمات عليهم رجس ففيه لا تأكلوا كل رجس ثم شرع ذكر المحرمات التي ذكرت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين. واما الاولية والشحم وزيادة الكبد والكليتين فقد ذكرت التوراة انها توقد على المذبح طعام وقود للرب وان كل الشحم للرب. وفي كل مساكنهم لا يأكلون شيئا من الشحم والدم كما في الثالث من سفر اللاويين فليس في تورائهم ما يكذبهم فيما ذكر لهم من الدعوى ولا ما يدل على أنهم حرمت عليهم بظلمهم طيبات احلت لهم «ومنها» ما في تفسير الرازي وغيره ان اليهود ينكرون وقوع النسخ في الشريعة ويزعمون ان الذي هو الآن حرام كان حراما ابدا وان الذي حرمه اسرائيل كان حراما من لدن زمان آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فطلب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان يحضروا التوراة لأنها ناطقة بأن بعض انواع الطعام انما حرم بسبب ان اسرائيل حرمه على نفسه انتهى ملخصا : ويرد على هذا الوجه أيضا انه ليس في الآية ما يشير إلى ورودها في مسألة النسخ ولا يلتفت من مخاتلها إلى النسخ اصلا فنزيلها على ذلك يلحق بالمعميات مع انه ليس في التوراة ان الذي حرم عليهم كان حلالا أو ان ما حرمه اسرائيل على نفسه هو محرم عليهم كما ذكرنا فلا يظهر كذبهم في زعمهم من التوراة. فالوجهان مشتركان في انه ليس لما ذكر فيهما عن
ص: 312
(90) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (91) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (92) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا
-------------------------------------------------------------------
بني اسرائيل قول او كلام صريح او مدلول عليه باحدى الدلالات لكي يمتحنوا فيه بالاتيان بالتوراة وتلاوتها ليظهر كذبهم فيه او صدقهم (90 فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 91 قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 92 إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) شماراً لدين الحق ومشعرا العبادة اللّه وتوحيده هو الكعبة. كما يحتج لذلك من بعد الطوفان بالتاريخ المتسلسل بين الأجيال وان بيت المقدس مما هو معروف الاخر. وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال كانت البيوت قبله ولكنه اول بيت وضع لعبادة اللّه. وفي المستدرك للحاكم بسنده عن خالد بن عرعرة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحو هذا المضمون. وروى ابن شهر اشوب ايضا نحوه واخرج ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير والبيهقي عن ابي ذر قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع اول قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) المسجد الأقصى. وروى في الكافي مسنداً عن الباقر وعن الصادق عليهما السلام ان الارض دحيت من تحت موضع البيت ونحوه عن العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور اخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اول بقعة وضعت في الارض موضع البيت واخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب واخرج ابن المنذر عن ابي هريرة وذكر نحوه (للذي ببكة) في البرهان عن ابن بابويه في العلل في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال موضع البيت «بكة» والقرية مكة. ونحوه عن العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وامل موضع البيت يشمل المسجد. وعن العياشي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) بكة موضع البيت ومكة الحرم. وفي الدر المنثور ذكر جماعة أخرجوا عن ابي مالك الغفاري بكة موضع البيت ومكة ما سوى ذلك. وعن ابن عباس مكة من الفج الى التنعيم وبكة من البيت الى البطحاء. و«بكة» مأخوذة من البك وهو الزحم والمدافعة. وروى ان هذا وجه تسميتها كما في الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن علل الصدوق بأسانيد صحيحة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه (مباركا) حال. ومظاهر البركة في البيت من الوجهة
ص: 313
وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (93) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
-------------------------------------------------------------------
الدنيوية والوجهة الدينية اظهر من أن تخفى او تجمد. فإنه في ارض ليس فيها مادة ثروة ولا تجارة ولا زراعة ولا صناعة وترى مجاوريه فيها يبلغون عشرات الألوف وهم منذ القرون المتطاولة في الجاهلية والإسلام في سمة من العيش وتمتم في النعم والعز والأمن فيما بين العرب الوحشيين الأشداء العتاة ويفد اليها الألوف العديدة من الحجيج فلا يضيق عليهم العيش. ويذبح في الموسم من كل سنة من اغنام ضواحيها ما يزيد على مائة الف فلا يظهر فيها النقص. واما من الوجهة الدينية فإنه المبارك (وهدى للعالمين) هدى حال بمعنى هاد ولمزيد هداه قبل هدى كما يقال زيد عدل. ومن بركة هداه ان العرب التفت باسماعيل وتلقت منه دين ابراهيم وشريعة الختان وعبادة اللّه بالحج والطواف وان مازج ذلك فيما بعد شيء من ضلال الوثنية بل بقي في حرمه شيء من الحقوق الاجتماعية والمدنية مدة الجاهلية على رغم ما في محيطه من وحشية الاعراب وضلالهم. وكفى ببركة هداه ان صارت مكة مولدا ومظهرا خاتم الأنبياء وصفوة الرسل ومهبطا للوحي ومبدءاً للدعوة الصالحة الى دين الحق دين الفطرة والشريعة المقدسة ونظام الاجتماع والصلاح ومشرقا لأنوار القرآن الكريم (فيه آيات بينات) بدلالتها الجلية على منزلته السامية في الشرف وكرامنه عند اللّه (مقام ابراهيم) وهو وما بذكر بعده بدل تفصيلي من الآيات المذكورة. فإن مقام ابراهيم من آيات البيت الباهرة الخالدة وهو الصخرة التي قام عليها ابراهيم الخليل فأثرت فيها قدماه الشريفتان تأثيراً بينا كما تؤثر في الطين الرطب وهذه الصخرة وذلك الأثر محفوظا الى الآن على رغم القرون المتطاولة وتتابع الحوادث وتقلب الأحوال وفي ذلك ايضا آية كبيرة. وقد تقدم شيء من الكلام على المقام في الآية التاسعة عشر بعد المائة من سورة البقرة (1) (ومن دخله كان آمنا) أي من دخل بلده
ص: 314
وحرمه المعروف والجملة من اقسام البدل التفصيلي من الآيات معطوفة على مقام ابراهيم أي وأمن من دخل فيه. ولعل «من» جي بها لتغليب من يعقل على ما لا يعقل. وفي الأمن آيات ظاهرة. فإن العرب على فوضويتهم ووحشيتهم وتهورهم في العدوان والنخوة الجاهلية وغلظتهم في ذلك بحيث لا يمنعهم من ذلك ولا يردعهم شريعة ولا وازع روحي ولا سيطرة ولا استقامة اخلاق قد كانوا خاضعين لاحترام من دخل الحرم منقادة نفوسهم لذلك في القرون العديدة في تلاطم امواج الجاهلية. فضلا عن الإسلام. وليس ذلك من طبع التربة والهواء ولا بنحو الجبر السالب للاختيار. بل لأن العناية الإلهية الهمت الناس اكراما للبيت الحرام أن يحترموا الحرم ومن فيه. نعم وقع التمرد من جيش يزيد والحجاج ولعل الحكمة في ذلك ان يعرف الناس ان هذا الاحترام ليس من قسر الطبيعة والإلجاء وإنما هو توفيق من اللّه شمل المشركين ولم يشمل من تمرد على اللّه وحاده وعاداه. وفي الصحيح او الحسن كالصحيح عن الحلبي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال سألته عن قول اللّه ومن دخله كان آمناً قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا احدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر الى الحرم لم ينبغ لأحد أن يأخذه من الحرم ولكن يمنع من السوق ولا يبايع ولا بطعم ولا يسقى ولا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك أن يخرج في أخذ وإذا جنى في الحرم جناية أقيم
ص: 315
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
-------------------------------------------------------------------
عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة : ونحوها معتبرة حفص ورواية علي بن ابي حمزة عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في السارق والجاني ونحوها صحيحة معاوية بن عمار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في القاتل. وفيها ولا يأوي : وفي الدر المنشور ان جماعة اخرجوا من طرق سعيد وطاوس ومجاهد وعكرمة وعطا عن ابن عباس في الآية مثل ذلك. ولا ينافي ذلك ما روي من طرق الفريقين من انه أمن من سخط اللّه. أوفي الآخرة، أو من النار، فإن ذلك يكون بيانا لبعض المصاديق المندرجة في عموم الأمن. وبمقتضى الروايات المتقدمة قبل علماء الإمامية من دون خلاف يعرف. وابو حنيفة وصاحباه وزفر واللوائي وافقوا الإمامية في قصاص النفس واحتجوا بالآية ويرد عليهم ان الأمن فيها مطلق فإذا قدم على دليل القصاص قدم على سائر أدلة القصاص والحدود لذلك الوجه حتى لو حملنا الخبر في الآية على الأمر مع ان الآية لا تحمل على ذلك ولا يتوقف عليه. بل الآية تدل على جمل الأمن بنحو وضعي عام. وجعله من اللّه من حيث الشريعة هو اظهر الافراد وأولاها فإن الذهن لا يذعن بأن اللّه تبارك اسمه يمجد البيت بأن من آياته ان الناس يحترموته بإلهام وتوفيق منه وهو جل شأنه لا يشرع احترامه في حقوقهم وحقوقه نعم ان الجاني في الحرم قد هنك حرمته فيؤخذ بجنايته في ذلك لقوله تعالى في سورة البقرة 187 ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه 190 والحرمات قصاص.. وايضا ان طعام العرب نوعاً مما يصطادونه من احناش الأرض وحيواناتها ولهم في الصيد ولع وعادة ومع ذلك يحترمون صيد الحرم ومكة. ومن المستفيض نقله ان الحيوانات لا يقتل بعضها بعضا فيه. ولا تصطاد الكلاب والسباع فيه : ومن آيات البيت ما استفاض نقله من ان الطير لا يعلو عليه في طيرانه بل يحيد عنه يمينا او شمالا (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قوله تعالى «وللّه على الناس» الآية جملة مستأنفة فلا يندرج في جملة الآيات البينات للبيت. والحج بالكسرو عن سیبويه انه مصدر وقيل اسم مصدر ومعناه في اللغة القصد بالسفر وغلب على القصد بالسفر الى مكة لنسك الحج المعروف او نقل الى نفس المناسك المخصوصة. ومن استطاع بدل من الناس. والتقييد هذا بالاستطاعة يعرف منه انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف. إذن فهي الاستطاعة العرفية. وذكر في الدر المنثور عن جماعة كثيرين منهم الشافعي والترمذي
ص: 316
وَمَنْ كَفَرَ
-------------------------------------------------------------------
وابن ماجة والحاكم قد اخرجوا بأسانيد متعددة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وابن مسعود وجابر وعائشة وأنس و ابن عمر وعبد اللّه بن عمرو بن العاص ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) سئل عن السبيل في الآية فقال الزاد والراحلة. ومثله عن عمر وابن عباس. وفي رواية عن ابن عباس ان يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير ان يجحف به. وقد خالف في ذلك مالك فيمن يقدر على المشي ويمكنه الاكتساب في مسيره ولو بالسؤال. والمروي من طرق الإمامية عن الباقر والصادق والرضا (عَلَيهِم السَّلَامُ) كما أحصاه في الوسائل في تفسير الاستطاعة في الآية بحسب السؤال وما يقتضيه المقام من البيان. بأن يكون له ما يحج به ومن عرض عليه فاستحبى فهو ممن يستطيع. وبأن من كان صحيحا في بدنه مخلى في سر به له زاد وراحلة فهو ممن يستطيع. وبالزاد والراحلة مع الصحة وبالصحة في بدنه والقدرة في ماله. وبالقوة في البدن والبسار في المال. هذا والظاهر عدم الخلاف عندنا في ان من الاستطاعة أن يكون له ما يمون به عياله في طعامهم وكسوتهم واسكانهم وما يحتاجون اليه في معيشتهم الى رجوعه. وفي التبيان وهو «أي السبيل» عندنا وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع الى كفاية عند العود اما من مال او ضياع او عقار أو حرفة مع الصحة والسلامة انتهى والظاهر دخول ذاك في الاستطاعة العرفية. وروى المفيد في المقنعة عن ابي الربيع الشامي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية فقال ما يقول الناس فقبل الزاد والراحلة فقال سئل ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن هذا فقال هلك الناس إذن لئن كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما او مقدار ذلك مما يقوت به عياله ويستغني به عن الناس فقد وجب عليه أن يحج بذلك يرجع فيسأل الناس بكفه لقد هلك إذن فقيل له فما السبيل عندك قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) السمة في المال وهو ان يكون معه ما يحج ببعضه ويبقى بعض بقوت به نفسه وعياله. ورواه في الكافي والتهذيب والفقيه والعال بنحو من ذلك والرواية معتبرة في نفسها خصوصا إذا كان ابن محبوب من اصحاب الاجماع ومعتضدة بعمل الشيخين وجماعة من القدماء بها. وروى الصدوق في الخصال باسناد عن الأعمش عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : وحج البيت واجب على من استطاع اليه سبيلا وهو الزاد والراحلة مع صحة البدن وان يكون للانسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه بعد حجه : فما ذكر في النبيان هو الأقوى والظاهر من الاستطاعة. وتمام الكلام في الحج موكول الى كتب الفقه كما أو كل القرآن امره الى السنة (ومن كفر) لا يخفى ان مفاد الآية هو
ص: 317
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (94) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (95) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
-------------------------------------------------------------------
التوبيخ لمن يترك الحج مع استطاعته والمسلمون من الموبجين بل هم اظهر الافراد في هذا التوبيخ فيكون الكفر كناية عن شدة العصيان بترك الحج وتغليظا على تاركيه في تضييعهم لهذه الفريضة العظيمة الأثر في الدين والإسلام وان المسلم المضيع للحج ليس بكافر حقيقة ولا تجري عليه احكام الكافر حتى بعد موته بل تجري عليه احكام المسلم باجماع المسلمين. وفي التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث ومن كفر يعني من ترك. وفي الفقيه عن الصادق عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) في وصية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كفر باللّه العظيم من هذه الأمة عشرة وعد تسعة من اصحاب الكبائر كالنمام والزاني والعاشر من وجد سعة فمات ولم يحج، وروى ذريح المحاربي في الصحيح كما في الكافي والمقنعة والتهذيب والمحاسن والفقيه وعقاب الأعمال والمعتبر عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان من استطاع ولم يحج حتى مات فليمت يهوديا او نصرانيا. وفي رواية الشيخ إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا. ومثلها رواية الدر المنثور مما أخرجه سعيد بن منصور واحمد في كتاب الإيمان وابو يعلى والبيهقي عن ابي امامة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ومما اخرجه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب وابن مردويه عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ومما اخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من قول عمر بن الخطاب. وان عبارة الرواية «فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» لتدل بسوقها على انها للتغليظ في سوء العاقبة وخسران التارك إذ فاته ما للحج من الفضل واللطف على العباد بتعريضهم لثواب هذه المطاعة واقامة هذه الشعائر الدينية التي يعود نفعها الى الناس لفقرهم وحاجتهم الى ذلك ومن عضى وترك عاد الضرر والخسران عليه (فإن اللّه غني عن العالمين) بأجمعهم لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين ولا تنقص منه معصية العاصين (94 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) ومن جملتها ماجاء به رسول اللّه وقرآنه المجيد وما في البيت الحرام من الآيات البينات (واللّه شهيد على ما تعملون) لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية (95 قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ) روى الواحدي في اسباب النزول
ص: 318
تَبْغُونَهَا عِوَجًا
-------------------------------------------------------------------
والسيوطي في الدر المنثور عن زيد بن اسلم ان الآية نزلت في شاس بن قيس اليهودي لما أمر يهوديا أن يجلس مع الأوس والخزرج ويهيج الأضغان فيما بينهم ويذكرهم الحروب التي دارت فنما بينهم من يوم بغاث وما قبله : ويدفع ذلك مع وهن السند ان ذلك ليس صداً عن سبيل اللّه وإنما يناسبه التوبيخ على القاح الفتنة وتهييج الشر بين الناس. فالآية الكريمة عملى رسلها في توبيخ اهل الكتاب على دأبهم في التصدي لإضلال الناس وصدهم عن الإسلام بأنواع الوسائل. والسبيل كالطريق يذكر ويؤنث والأكثر في القرآن تذكيره. وجاء مؤنثا في سورة يوسف «108 قل هذي سبيلي» وفي هذه الآية (تبغونها) أي السبيل قال في التبيان ومعناه تطلبون لها عوجا. ونحوه في الكشاف. وحكاه الرازي في تفسيره عن ابن الأنباري وانه مثل وهبتك درهما أي وهبت لك. وصدتك ظبيا أي صدت لك وأنشد :
فنولی غلامهم ثم نادى***اظليما اصيدكم أم حمارا
وفي النهاية في الحديث ابغني احجارا استطيب بها يقال ابغني كذا بهمزة الوصل أي اطلب لي وابغوني حديدة استطيب بها. وفي لسان العرب قال واقد بن الغطريف كما في ديوان الحماسة وغيره :
لئن لبن المعزى بماء مويسل***بغاني داء إنني لسقيم
وقال الأعشى :
حتى إذا ذر قرن الشمس صبحها***ذوال نبغان يبغي قومه المتعا
أي يبغي لصحبه الزاد. وفي الصحاح «ليبغيه خيرا وليس بفاعل» أي ليبغي له (عوجاً) مفعول لتبغونها ومثله في سور الاعراف 43 و 84 وهود 22 وابراهيم 3 وفي مجمع البيان في سورة الأعراف ويجوز ان يكون منصوبا على المصدر نحو رجع القهقرى واشتمل المصماء ويدفعه ان المروج ليس من معنى يبغون ولا يدانيه فلا يكون مثل هذين المثالين. والمصدر لا ينصب على المصدرية إلا بعامل من لفظه او معناه. وذكر الرازي وجها آخر وهو ان يكون عوجا في موضع الحال والمعنى تبغونها ضالين يعني حال كونكم معوجين. ويدفعه ان لا قرينة ولا حاجة الى تأويل عوجا بموجين مضافا الى ان الآية معناها الانكار على اضلالهم لا ضلالهم وقد
ص: 319
وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (96) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (97) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
فسرها بأنهم كانوا يحتالون لإلقاء الشبه بأنواع الحيل فلا موقع للتفسير بكونهم يطلبون سبيل اللّه حال كونهم ضالين والآية تقول يصدون عن سبيل اللّه فانظر فيها الى آخرها وتدبرها : وفي النهاية العوج بالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والقول. وفي المصباح العوج بالكسر في المعاني واستشهد بكلام أبي زيد. وفي مجمع البيان في سورة الأعراف 84 العوج بالكسر في الدين وكل ما لا يرى. أقول وكأن القائل بذلك لم يقرء قوله تعالى في سورة طه «105 وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا 106 فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا» والمعنى تطلبون يا أهل الكتاب بصدكم عن سبيل اللّه بتزوير كم ومخادعتكم وتحريفكم وكتمانكم لما في كتبكم أن تجعلوا سبيل اللّه عوجاء تطلبون لها الموج وهي الصراط المستقيم بيئة الحجج نيرة الأعلام واضحة الدلالة ساطعة البرهان (وأنتم شهداء) على بشرى كتبكم برسول اللّه وقرآنه ودينه. أو أنتم شاهدون لدلالة المعجز والآيات البينات على رسول اللّه ووحي قرآنه وحقيقة دينه القيم (وما اللّه بغافل عما تعملون) من الصد عن سبيل اللّه ومحاولة الاضلال واللّه لا يفوته شي وهو شديد الانتقام (96 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) باعتبار إيتاء الكتاب الحقيقي لأسلافهم قبل تحريفه. والفريق هم المتصدون للاضلال والاغواء والصد عن سبيل اللّه وتنقادوا الضلالهم بالاتباع الأعمى (يردوكم) باغوائهم واضلالهم (بعد إيمانكم كافرين 97 وكيف تكفرون) وقد غمرتكم الألطاف ووضحت لكم الحجج (وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه) وفيها الهدى والرشاد (وفيكم رسوله) وهو نور الهدى والصلاح ومنار الحجة وإمام الاصلاح، وباب اللّه ووسيلته لخلقه (ومن يعتصم باللّه) العصمة هو المنع والحفظ مما يحذر. والعاصم هو الحافظ المانع بتسبيبه أو فعله. والمعتصم هو الملتجي الى العاصم واللائذ به ليمنعه ويحفظه مما لاذ والتجأ حذرا منه. وتختلف وجوه الحذر و محققاته باعتبار شأن المعتصم به ووجهة الحذر فالاعتصام باللّه في هذا المقام هو التجاء العبد
ص: 320
فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (98) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
-------------------------------------------------------------------
وانقطاعه اليه ليمنعه ويحفظه بهداه وتوفيقه من محاذير الضلال واتباع الهوى والنفس الأمارة وموبقات المعاصي والأخلاق الذميمة، ومهالك غضب اللّه، وحرمان الطفه وتوفيقه ورضاه والمحقق لهذا الاعتصام بعد مخالفة الهوى والنفس الأمارة هو اتباع دلالة العقل والفطرة وما جاءت به رسل اللّه في معرفته مع النظر في آياته واتباع مدلولها والإيمان برسله وكتبه. وفي حال الخطاب هو الإيمان بخاتم النبيين وقرآنه واتباعهما فيما جاءا به وبلغه رسول اللّه حق الاتباع ومن جرى على هذا الاعتصام (فقد أهدي الى صراط مستقيم) وان هذا الاعتصام لصراط مستقيم يؤهل العبد إلى توفيق اللّه له لسلوك الصراط المستقيم (98 يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه) أي اتقوا غضبه وما يخاف منه بطاعتكم له (حق تقاته) جاء في سورة البقرة 115 يتلونه حق تلاوته. والأنعام 91 والحج 73 والزمر 67 ما قدروا اللّه حق قدره. والحج 77 جاهدوا في اللّه حق جهاده. والحديد 27 فما رعوها حق رعايتها. فالمعنى ما يحق ويليق بجلاله من تقاته ويكون نصب «حق» على النيابة عن المفعول المطلق المضاف اليه لأنه من صفاته. وفي تفسير البرهان عن معاني الاخبار ومحاسن البرقي في الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسي، ويشكر فلا يكفر، ونحوه عن ابن شهر اشوب عن تفسير وكيع عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي الدر المنثور ذكر جماعة اخرجوه منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود. واخرجه الحاكم ايضا وصححه عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى، ومن المعلوم ان اللّه لا يكلف العبد في مفردات التكاليف بما لا يقدر عليه ولا يجمع عليه منها ما هو فوق ما يقدر عليه ولا يستطيع الاتيان يجميعه. إذن فحق تقاة العبد اللّه أن يتقيه في جميع ما الزمه به أو كما ذكرت الروايات المتقدمة. وان التكليف الذي هو لطف بالعباد لتكميلهم لا يتنازل عن هذا المقدار والالزام لا يتساهل فيه. نعم قد يقتضي اللطف والتيسير أو عدم القدرة والاستطاعة من اول الأمر أن لا يكاف ببعض الأفعال او التروك وإن كانت من سنخ الواجبات. وعليه لا يكون الارتكاب لها مما ينبغي أن يتقى اللّه ويخاف من أجله. وعن قتادة والسدي والربيع ان قوله تعالى اتقوا اللّه حق تقاته منسوخ بقوله تعالى في سورة التغابن 16 «فاتقوا اللّه ما استطعتم» كما ذكر روايه في الدر المنثور عن قتادة والربيع. وذكر
ص: 321
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (99) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
-------------------------------------------------------------------
ايضا من اخرج رواية ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. كما ذكر من اخرج عن ابن عباس انها لم تنسخ. وفي النبيان في النسخ قوله وهو المروي عنها. وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ). أقول ولم أجد الرواية عن الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ) نعم عن العياشي عن أبي بصير عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) انها منسوخة بقوله تعالى واتقوا اللّه ما استطعتم. والعياشي لم يذكر الواسطة بينه وبين أبي بصير. والمعروف عن العياشي انه يعتمد على الضعفاء وعلى كل حال لابد من طرح الرواية او تأويل النسخ فيها بنزول المفسر الذي يرفع ما يتوهمه البعض بالنظر السطحي من ان حق التقاة المكلف به ما فوق الاستطاعة والعجب من الشيخ حيث أشار في تبيانه الى الرواية في مقام النسخ وهو العارف بحقيقة النسخ واشتراط القدرة والاستطاعة في التكليف وتنزيل الاستطاعة في آية التغابن على الاستطاعة العرفية مع انه مخالف لسوق الآية يوجب التهاون بأمر التقوى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) يمكن أن يراد بالإسلام هنا حق التقاة وهو الدخول في سلم اللّه بالطاعة وعدم المحادة له بالمعصية دائما. وهو أمر يمكن أن لا يتصف به المؤمن باللّه والرسول ويوم القيامة فالمراد من الآية دوام الاتصاف بهذه الصفة الكريمة حتى الموت وان لا يموتوا إلا وهذه صفتهم الدائمة وسجيتهم المستمرة ومن ذلك طاعة الرسول ومن أمر الرسول بطاعته وموالاته والتمسك به كما اشارت اليه رواية البرهان عن العياشي عن الحسين ابن خالد عن الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ). ويمكن أن يكون المراد من الإسلام ما يخالف الكفر ويساوق الإيمان في المعنى فيكون المراد هو الاتصاف بهذه الصفة حتى الموت. والأول اظهر بحسب السوق والأمر بالتقوى حق التقاة. والثاني أنسب بالمعنى المتداول للإسلام ويمكن توجيه التناسب فيه بكون المعنى لازموا التقوى حق التقاة ليندحر عنكم الشيطان ولا تعصوا اللّه فيطمع فيكم الشيطان ويصرفكم عن الإيمان ولو عند الموت. وفي هذا التخريج نوع تكلف (99 واعتصموا) من السقوط (بحبل اللّه جميعا) أي حال كونكم مجتمعين على الاعتصام بحبل اللّه وما جعله اللّه سببا عاصما من سقوط الضلال ووباله. وقد دلنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) على ما هو من مصاديق هذا السبب والحبل الذي لا يضل من تمسك به بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث الثقلين «ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا - كتاب اللّه وعنرتي اهل بيتي» واستعير لفظ الجبل في
ص: 322
وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (100) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
-------------------------------------------------------------------
الآية للإشارة الى ان عدم الاعتصام به يوجب السقوط في مهواة الضلال والهلكة (ولا تفرقوا) عن حبل اللّه والاعتصام به (واذكروا نعمة اللّه عليكم) أي ولتكن نعمة اللّه المذكورة على ذكركم دائما فإن لكم فيها موعظة وعبرة تدعوكم الى الاجتماع على الاعتصام بحبل اللّه وتزجركم عن التفرق عنه. وذلكم (إذ كنتم) في جاهليتكم (اعداء) بحسب قبائلكم بل والكثير من آحاد كم (فألف) اللّه ببركة الإسلام والرسول (بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته) عليكم بهذا التأليف (اخوانا) كمادة الاخوان الاشقاء في كونكم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة (وكنتم) في شرككم وعدوانكم واعمالكم الجاهلية (على شفا حفرة من النار) أي طرف الحفرة وحافتها مشرفين على السقوط فيها ما بينكم وبينه إلا الموت وهو قريب منكم (فأنقذكم) وانجاكم (منها) في الكافي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأنقذكم منها بمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ونحوه عن العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ايضا ونحوه ما في الدر المنثور عن الطستي عن ابن عباس وهو تفسير جلي (كذلك يبين اللّه لكم آياته) ومنها التأليف بين قلوبكم بعد تلك المداوات الشديدة والأحقاد المنوغلة في قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا ومنها انقاذكم من تلك الضلالات المشرفة بكم على الخلود في درك الجحيم ببينها لكم (لعلكم) تنتبهون و (تهتدون 100 وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) اللام للأمر و «منكم» للتبعيض فالوجوب كفائي منوط بحصول الغرض كما في التبيان. والحكم في الآية كسائر التكاليف لطف عام لجميع الناس وإن كان الخطاب متوجها إلى المسلمين لأنهم حينئذ هم المصفون الى خطاب الوحي والمتلقون الشرائعه بترحيب الايمان. وفي النسيان وقبل «من» لتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس مثلها في قوله تعالى واجتنبوا الرجس من الأوثان. اقول يعني ان «من» تفيد هنا ما يسمى في الاصطلاح بالتجريد نحو رأيت منك أسداً وليكن لي منك صديق، وكقول الزعيم لأصحابه لينهض منكم جيش ولينتظم منكم صفوف إذا أراد نهوضهم وانتظامهم بأجمعهم أي كونوا جميعا
ص: 323
أمة يدعون الآية «ويدفعه اولا» ان هذا خلاف الظاهر والمتداول من لفظ «من» وليس في المقام قرينة تصرفها من التبعيض اليه ومما يشهد للتبعيض او يدل عليه معتبرة مسعدة بن صدقة المروية في الكافي والخصال والتهذيب وفيها ان الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) استشهد للتبعيض بالآية - وثانيا - ان هذا المعنى يصرف وجه الكلام عن الأمر لبعض المسلمين بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع حاجتهم إلى الأعلف بهذا الإصلاح، بل يكون وجهه هو أمرهم ونهيهم لغيرهم. وهذا مما يأباه عموم لطف الآية ومجد اصلاحها وكرامة شريعتها. فالظاهر إذن من لفظ «من» وسوق الآية هو التبعيض. ولذكر الأمة جهتان - الأولى - بيان ان هذا المقام توصلي يراد منه حصول الغرض بمن يحصله وليس بتعبدي واجب على كل احد على كل حال بل قد يسقط الوجوب عن كثير من الناس لعدم تأثيرهم او غير ذلك مما ذكر في شروطه – الثانية – الاشارة الى ان هذا المقام يحتاج غالبا في تأثيره الى التعاضد والتعاون وإذا ترك المتصدي وحده اوشك أن تحول وحدته دون نهوضه ودون التأثير فيجب تحصيل الأثر بالمعاونة والاجتماع «والخير» معروف وهو ما هدى اليه العقل السليم أو دل على فضيلته الشرع. وقد تكفل الدين الحنيف والشرع الشريف، والقرآن الكريم بالدلالة على كل خير كالا سلام والإيمان والمعارف الدينية. وكرامة الطاعة واتباع الحق والعدل والتزين بالأخلاق الفاضلة، واسباب التكميل والتهذيب وترويض النفس والسعادة، وفضيلة العلم، ونظام الاجتماع، والمدنية، والصلاح والإصلاح، وانك إذا تتبعت القرآن الكريم والسنة الشريفة تجد الدعوة الى ذلك والأمر بها جارية على أحسن نهج وأعمه وأنفعه، واوضحه واوفقه بالحكمة. و«المعروف» هو ما يعرف العقلاء والمتشرعة برجحانه في حسنه من دلالة العقل او الشرع، و «المنكر» ما أنكره واستبشعه العقلاء والمتشرعة الدلالة العقل أو الشرع على رداءته. وفي الكافي والتهذيب مسنداً عن الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث ان الأم أمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضته عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الاعداء ويستقيم الأمر الحديث. وقد شدد الإنذار في السنة والنكير على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهدد بعقاب الدنيا ووباله قبل الآخرة. فمن ذلك ما روي في الكافي وعقاب الأعمال والتهذيب مسنداً عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يقول إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف
ص: 324
والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللّه (1) وذكر في كنز العمال من اخرج نحو معناه عن حذيفة وابي بكره وجرير عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وعن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ايضا لتأمرن" بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليستعملن اللّه عليكم شراركم (2) فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم (3) وذكر في كنز العمال من اخرج هذا المعنى ونحوه عن ابن مسعود وحذيفة وابي هريرة وعائشة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وقد جمع في الوسائل وكنز العمال في باب الأمر بالمعروف جملة من الأحاديث فلتراجع. وفي المقام مسائل - الأولى - انه وان كان الظاهر بحسب اللغة كون الدعوة والأمر والنهي ما كان باللسان. ولكن المعلوم من مغزى الآية وفحواها ووجهة لاصلاحها وقرائنها من الشريعة هو ان المراد ما يكون باعثا على الانقياد الفعل المعروف ورادعا عن المنكر من االقول والفعل والوسائل المحصلة لذلك حتى الالجاء لكن بعض الوسائل الفعلية تحتاج إلى لاذن من ولي الأمر سلطان الوقت أو من ينوب منابه - الثانية - ذهب للشيخ في التبيان والحلي في السرائر وحكي عن المرتضى والحلبي والقاضي والطوسي في التجريد والعلامة وكثير من غيرهم ونقلت حكاية الشيخ له عن جماعة انهما يجبان على الكفاية بمعنى انها يجبان على كل مكاف لم يفقد شرط الوجوب لكنها يسقطان بقيام من به الكفاية او نهوضه لها مع المراعاة بحصول الغرض. وهذا هو المفهوم من المقام وامثاله مما يكون التكليف فيه لغرض يتعلق بغير المكاف. وهو الظاهر من الآية ورواية مسعدة المشار اليها. وفي نهاية الشيخ والوسيلة وحكى عن بعض المتأخرين انهما من فروض الأعيان وذكر في المختلف احتجاج الشيخ له بالاية وبعض الروايات الواردة في الباب «ويدفعه» ان الآية ظاهرة في فرض الكفاية والروايات لا تنافي ذلك. هذا وإذا احتاج الواجب الى تعاون جماعة وجب على كل مكلف به أن يهيأ نفسه للانضمام الى من يعاونه بل ويدعو الى ذلك - الثالث - يشترط في وجوبها جواز التأثير
ص: 325
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (101) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (102) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
-------------------------------------------------------------------
وحكي على ذلك الاجماع بل يدل عليه العلم بأن وجوبها إنما هو لتحصيل الاثمار والانتهاء. وعلى ذلك لا يجبان إلا أن يحرز اصرار المأمور على ترك المعروف والمنهي على فعل المنكر. بل ربما يصادف ذلك اهانة التائب وهي مفسدة. ومع الشك فالأصل عدم الوجوب خصوصا مع احتمال المفسدة المذكورة ولزوم الاحتراز عن الإهانة للغير إلا بحق ومن أجل ذلك يتوقف الأمر والنهي على معرفة المعروف او المنكر فإن كان الجهل من حيث الشرع وجب التعلم بوجوب تعلم الأحكام الشرعية وإن كان من حيث الاشتباه الخارجي فالأصل البراءة مع لزوم الاحتراز عن اهانة الغير إلا بحق - الرابعة - أن لا تكون فيها مفسدة من نحو ما تقدم أو ضرر يرجح الحذر منه على مصلحتها بحسب المورد الخاص. والتفصيل موكول الى كتب الفقه (وأولئك) الواو للاستئناف والمشار اليهم هم الذين يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على النحو المطلوب (هم المفلحون 101 ولا تكونوا كالذين تفرقوا) عما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح والفلاح (واختلفوا) بحسب اهوائهم (من بعد ماجاء تهم البينات) الواضحات من أدلة الحق فتولوا عنها بضلال اهوائهم (وأولئك لهم عذاب عظيم) والواو يحتمل أن تكون للاستئناف ويحتمل أن تكون عاطفة على أولئك هم المفلحون. وفي العطف مناسبة المقابلة والتقسيم في النظم (102 يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) في التبيان ما ملخصه ان العامل في «يوم» عظيم - ويجوز أن تعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم. وتبعه على كلامه بحروفه في مجمع البيان. وفي الكشاف نصب «أي يوم على الظرفية» بالظرف وهو لهم» او باضمار «اذكر» أي على انه مفعول لا ظرف وتبعه على ذلك الرازي في تفسيره. ولكن ارتباط الآيات في النظم وذكر ابيضاض الوجوه واسوداد هما على ترتيب الفلاح والعذاب في الآيتين المتقدمنين يناسبها ان يكون «يوم» ظرفا لفلاح المفلحين وعاقبة المتفرقين. وقبل ان ابيضاض الوجوه كناية عن رونق بشرها واسودادها كناية عن حالة خزيها نحو قوله تعالى في سورة النحل «60 وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم» وهذا
ص: 326
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (103) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (104) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (105) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (106) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
-------------------------------------------------------------------
القول كما في مجمع البيان عدول عن حقيقة اللفظ بلا ضرورة. بل يكون البياض بحقيقته و سنا نوره سيماء تكريم وبشرى للصالحين المقربين ويكون السواد باظلامه و تشويهه وسم خزي ونكال لأولئك البعداء (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) في التبيان ومجمع البيان والكشاف وتفسير الرازي ان جواب «اما» محذوف تقديره فيقال لهم اكفرتم. اقول ويقرب عندي أن يكون الجواب من نحو فهم في عذاب أليم ونقمة من غضب اللّه كما يدل عليه قوله تعالى فذوقوا العذاب ويناسبه قوله تعالى في الآية الاخرى «ففى رحمة اللّه هم فيها خالدون» ومن نحو هذا الحذف في القرآن الكريم كثير وفائدته التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول. وهو باب واسع في البلاغة قد ذكرنا شيئا من شواهده في الآية الثامنة والعشرين من سورة البقرة. ثم خوطبوا بنحو الالتفات في التوبيخ والتقريع بقوله تعالى «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (103) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» وكفى بذلك في رفعة النعيم وسعادته (104 تلك) أي ما قدمناه من آيات المواعظ والحجج والارشاد والنعيم والعقاب (آيات اللّه نتلوها عليك بالحق) الثابت من مضامينها ومنه الوعيد والعقاب فإنه على الحق والعدل واستحقاق المجرم لارتكابه ما ارشده اللّه الى تركه أو تركه لما ارشده اللّه إلى فعله بأنواع الارشاد والترغيب والتنفير. فإن اللّه يريد للإنسان صلاحه وسعادته بالاستقامة والطهارة الاختيارية (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ 100 وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لأنه إله العالم ومدبره وخالقه وكل ما عداه محتاج اليه في ذاته وأموره فكل أمر من شؤون العالم يرجع اليه. وكرر اسم الجلالة للإيماء الى وجه رجوع الأمور اليه لما في اسمه المقدس من معنى الاولية والسلطان العام (106كنتم خير أمة) الأمة الجماعة ويقال
ص: 327
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
-------------------------------------------------------------------
للمسلمين أمة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) باعتبار انهم جماعته الذين آمنوا به (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) والكلام في الآية مقامان - الأول - ان المترائي من الآية ان «كان» ناقصة تدل على ان مضمون خبرها قد كان في الزمان الماضي وانقضى وانقطع. ومن أجل ذلك ذكر في الدر المنثور عشرة اكثرهم من اهل الصحة عندهم منهم الحاكم في مستدركه اخرجوا عن ابن عباس في ذلك انه قال : هم الذين هاجروا مع رسول اللّه الى المدينة. واخرج بعضهم عن عمر قال تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وعن عمر ايضا لو شاء اللّه لقال أنتم فكنا كلنا ولكن قال كنتم في خاصة اصحاب محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) و من صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة اخرجت للناس. وفي حقائق التنزيل وروي عن الحسن «أي البصري» ان ذلك اشارة الى الصحابة دون من بعدهم ممن تغيرت حاله، واختلفت اوصافه. وفيه ايضاروي عن الحسن انه كان يقول هكذا واللّه كانوا مرة وبعض المسلمين كان يقول أعوذ باللّه ان أكون كنتيا (1) اقول وهذا كله ينظر الى مفاد كان الناقصة ولكن لم يعط معناها حقه فإنها لو كانت في الآية ناقصة لكانت دالة على انقطاع الصفة التي في خبرها وتبدلها وباعتبار كون الخطاب فيها للمسلمين تكون من أشد التوبيخ والتقريع بسوء العاقبة لمن كان موجوداً من المسلمين حين نزول الآية وخطابها وقد كان البارز منهم حينئذ جل الكبار من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. فكيف يخاطب القرآن هؤلاء الأكابر وغيرهم من الأمة في وقت النزول بما يؤدي الى انهم منسلخون حينئذ من صفات الآية قد انقطعت عنهم بعد ما كانوا حائزين لكرامتها. ولا
ص: 328
يقاس المقام بقوله تعالى وكان اللّه سميعا عليها واشباهه فإن «كان» في هذه الموارد للاشارة الى انه كذلك منذ الازل ومن المعلوم ان صفاته الأزلية أبدية ايضا لا يعتريها انقطاع وانقضاء وهذا المعلوم البديهي يصرف «كان» عن مفادها بخلاف هذه الآية ولا أقل من انه لا يساق للمدح والتمجيد ما يعطي بظاهره الذم والتقريع (1) فالوجه أن تكون «كان» في الآية تامة كقوله تعالى وان كان ذو عسرة فنظرة. مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين مثل قوله تعالى كن فيكون». وخير أمة حال من الضمير وجملة أخرجت صفة للأمة بمعنى اظهرت للناس واخرجت من العدم او الخفاء «المقام الثاني» ان كثيراً من الموجودين حال نزول الآية لم يثبتوا على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وان الأحوال المذكورة في مقتل عثمان وشؤونه وحربي البصرة وصفين تجعل شطرا وافيا من كبار المهاجرين والأنصار على غير صفات الآية وان اعتذر عنهم بالخطأ في الاجتهاد. وقد استفاض عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) او تواتر أن اقواما من اصحابه في يوم القيامة يحال بينهم وبين رسول اللّه وورود الحوض وينادى بهم الى النار فيقول رسول اللّه اصحابي فيقال انهم ارتدوا على اعقابهم القهقرى وفي حديث أبي هريرة فلا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم كما رواه بالأسانيد المتعددة والمعاني المتقاربة احمد في مسنده والبخاري ومسلم وابن ماجه في جوامعهم والحاكم في مستدركه
ص: 329
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (107) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ
-------------------------------------------------------------------
والطبراني وغيرهم رووه مسندا عن اثني عشر من الصحابة ورواه البخاري في باب الحوض بأسانيده عن سبعة منهم. هذا واما إذا قلنا ان المراد من الأمة في الآية أمة رسول اللّه الى يوم القيامة وجرى الخطاب لهم باعتبار الموجودين منهم فما اوسع الخرق في الأمة خصوصاً إذا نظرنا الى ايام زياد ويزيد والحجاج وآل مروان و امثالهم. والى هذا المقام الثاني بنظر ماروي عن ابن عباس وعمر والحسن البصري وإن لم يصادف بعضه محزه. وفي تفسير القمي في الحسن كالصحيح او الصحيح عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مقام الانكار خير أمة تقتلون امير المؤمنين(عَلَيهِ السَّلَامُ) والحسن والحسين. الحديث. إذن فلا مناص من أن يكون الخطاب الجماعة مخصوصين ملازمين لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان باللّه حق الإيمان. وفي الدر المنشور اخرج ابن ابي حاتم عن ابي جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انهم اهل بيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وعن تفسير العياشي عن أبي عمر الزبيري عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الآية يعني الأمة التي وجبت لها دعوة ابراهيم «أي قوله تعالى إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فهم الأمة التي بعث اللّه فيها ومنها واليها وهم الأمة الوسطى وهم خير أمة اخرجت للناس. وفي رواية العياشي عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) هم آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وعن أبي بصير عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنما أنزلت هذه الآية على محمد فيه وفي الأوصياء من بعده. وفي بعض الروايات انها نزلت خير أئمة : والمراد ان هذا المعنى مراد في التنزيل وإن كان اللفظ أمة كما تقدم مثله في المقدمة في الكلام على روايات فصل الخطاب ويشهد له هنا رواية الزبيري (ولو آمن اهل الكتاب) باللّه وبآياته ورسوله و قرآنه لكان خيراً لهم يفوزون بسعادته نعم (منهم) الأناس (المؤمنون و) لكن (اكثرهم الفاسقون) والخارجون بكفرهم من الحجاب وهؤلاء (107 لن يضروكم إلا أذى)، باللسان والتهيج عليكم والتجمع الحربكم فلا يضرونكم في ظهور دينكم وجامعتكم وشو كنكم الإسلامية وانتصاركم وفي هذا بشرى عظيمة غيبة قد تحقق مصداقها على أعز الوجوه (وإن يقاتلوكم بولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) كما وقع ذلك كله مدة وجود المخاطبين
ص: 330
(108) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (109) لَيْسُوا سَوَاءً
-------------------------------------------------------------------
من المسلمين الى الاستيلاء على الشام وما بعد (108 ضربت عليهم الذلة) في قرون عديدة (1) لما يذكر في آخر الآية من سوء اعمالهم (أينما ثقفوا) وادركوا وظفر بهم فلا منعة لهم من الذلة (إلا) أن يعتصموا (بحبل من اللّه) بأن ينقطعوا ويلتجوا اليه باخلاص فيغيتهم (وحبل من الناس) بأن يدخلوا في عهدهم وذمتهم او رعايتهم وحمايتهم. وسمي ذلك بالحبل لمنعته لهم من السقوط في هاوية الذل (وباءوا) بمعنى رجعوا و نحوه (بغضب من اللّه) لسوء اعمالهم (وضربت عليهم المسكنة) في القاموس من معاني المسكين الضعيف الذليل. وفي المصباح عن ابن الأعرابي الذليل المقهور وفي النهاية مما يدور على المسكين والمسكنة من المعاني الخضوع والذلة. اقول والظاهر هنا ان معنى المسكنة ما تدور حوله هذه المعاني وهو لازم لليهود لانكسار شوكتهم القومية والسياسية وانحلال جامعتهم في ذلك مهما بلغ بعض الأفراد منهم في الثروة والنخوة الجزئية الصورية الموقته (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه) بتتابع ارتدادهم. و كفرهم بما أوتي المسيح منها (ويقتلون الأنبياء بغير حق) القيد للتوضيح والتسجيل لقبيح افعالهم فإن قتل الأنبياء كله بغير حق (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) حدود اللّه. وكررت الاشارة تأكيدا لبيان الجهات التي يستحقون بها النكال الماجل والانتقام. هذا شأن النوع من أهل الكتاب في اجبالهم وما كلهم كذلك فإنهم (09 اليسوا سواء) وعلى وتيرة واحدة في الضلال
ص: 331
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (110) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (111) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ
-------------------------------------------------------------------
والغي بأجمعهم بل (من أهل الكتاب أمة) وجماعة (قائمة) للعبادة او كناية عن الاستقامة في الإيمان والطاعة والعناية بوظائف العبادة (پتلون آيات اللّه آناء الليل) آناء جمع قبل ان مفرده «أني» بفتح الهمزة او كسرها وسكون النون او «أنو» بالواو أي في ساعات الليل واوقاته (وهم يسجدون) في التبيان ان الواو ليست للحال بل لعطف جملة «هم يسجدون» على جملة يتلون» اقول اظن الداعي لهذا التفسير حمله للآية على من اسلم من اهل الكتاب وان الذي يتلونه هو آيات القرآن وليس في سجود المسلمين تلاوة. لكن فيه = اولا = عدم ظهور الفائدة والمنشأ في العدول الى الجملة الاسمية والاتيان بالضمير فإن الحصر لا محل له. وافادة الدوام تحصل من الفعل المضارع = وثانيا = لم يصح ان الآية نزلت في ابن سلام وامثاله ممن اسلم من اهل الكتاب بل لم يعهد من هؤلاء اتصافهم بالصفات المذكورة في الآية والتي بعدها بحيث يستحقون التنويه بها مع ان الآية السابقة وخصوص قوله تعالى «ويقتلون الانبياء» تدل على ان السباق هو في احوال اهل الكتاب من الأوائل فالمناسب أن يراد المؤمنون منهم لبيان فضلهم واخراجهم من تلك المذمة العامة. فالمتلو لهم هي آيات كتبهم الحقيقية ولم يعلم انه يمتنع في شريعتهم ان يتلوها في سجودهم. بل يمكن على الوجهين ان يتجه كون الواو حالية بأن يكون المراد يتلون فيما بين سجودهم المتتابع في القيام للعبادة كما يقال يتكلمون وهم يشربون ويحدثون بنعمة اللّه عليهم ويخاطبون بالموعظة والحث على العبادة وهم يصلون أي فيما بين صلواتهم المتتابعة (110 يؤمنون باللّه) صفة ثانية لأمة (واليوم الآخر) يوم المعاد ويعملون على حقيقة الإيمان ب-ه (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) بتقواهم وحبهم للخير وطلبهم لرضا اللّه بلا توان ولا حاجة إلى البعث والالجاء. وما اوضح كلمة «يسارعون» في الدلالة على اختيار الانسان في افعاله، وسوق الآية وتمجيدها بدل على ان هذه الصفات صفات ثابتة لهم ناشئة عن ملكات راسخة (وأولئك من الصالحين 111 وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) بل ينوه بفضلهم فيه ويوفيهم اللّه جزاءه واللّه عليم بالمتقين مهما
ص: 332
خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (112) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (113) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
-------------------------------------------------------------------
أسروا اعمالهم الصالحة وتقواهم. وقد اقتضت مناسبة المقام والمقابلة توبيخ الكافرين على كفرهم وسوء اعمالهم و بیان خسرانهم وخيبتهم وسوء عاقبتهم فقال عز وجل (112 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقد مر تفسير الآية في الآية الثامنة وزيد عليها ههنا ببيان الخلود في النار وان دلت عليه بالاشارة في قوله تعالى وأولئك هم وقود النار. وان قيل ان هؤلاء الكافرين ربما ينفقون من اموالهم شيئا في صلة الرحم ونفع المحتاجين من الفقراء والمساكين وغير ذلك فلماذا لا تغني عنهم اموالهم فلقد أزاح اللّه علة هذه الشبهة بقوله (113 مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدني)ا وتضيعهم له فيها بكفرهم وان قصدوا وجها يزعمون انه وجه اللّه ولكنه ليس بوجه اللّه الذي كفروا بآياته واشركوا به ووصفوه بما يجل عنه من الصفات (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ) هذا من التشبيه المركب ليتبين منه حال كفرهم مع انفاقهم في احباطه بما جنوه على انفسهم ولذا صدر المثل ببيان المتلف للحرث ليروع الكافرين بعنوانه في صدر المثل. والصر بكسر الصاد هو البرد الشديد او شدة البرد كما نص عليه جل اللغويين والمفسرين وذكر في الدر المنثور جماعة اخرجوه عن ابن عباس من طرق متعددة، وروى الطستي ان ابن عباس استشهد له بقول النابغة الذبياني
لا يبردون إذا ما الأرض جللها***صر الشتاء من الإيمال كالإدم
وأنشد في الكشاف قول الشاعر :
لا تعدلن اتاويين تضربهم***نكباء صرة بأصحاب المحلات
والحرث هو المزوع في الأرض. والأنسب في فهم قوله تعالى ظهوا انفسهم انهم ظلموها بزرعه في غير أوان زرعه بحسب الفصول او في غير بلاد زرعه من الأرض (وما ظلهم اللّه) باحباط عملهم بكفرهم (ولكن أنفسهم يظلمون) باختيارهم الكفر الملقى لهم في هلكة
ص: 333
(114) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
-------------------------------------------------------------------
العذاب وخسة الوبال و احباط العمل. (114 يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة) البطانة خاصة الانسان والذي يستبطن أمره ويطلع على سره) من دونكم) أي من دون أمتكم وقومكم المؤمنين. وما احسن التعبير عنهم في هذا المقام بهذا الضمير لبيان ان اخوانكم المؤمنين في اتحاد كامتكم في الإيمان واتحاد كم في نصره بمنزلة انفسكم فكيف تعدلون الى غير هم بالاختصاص الذي تطلعونهم به على بواطن أمور كم وحريم اسرار كم في دفاع الكافرين، وكفى بهذا التعبير بيانا لكون المنهي عن اتخاذهم بطانة هم من غير المؤمنين والاية الآتية تدل على انهم المنافقون الذين إذا لقوهم يقولون آمنا و «من» للابتداء متعلقة بقوله تعالى «لا تتخذوا» او بصفة البطانة والأول اظهر. لا للتبعيض أو التبيين كما في التبيان ومجمع البيان ومحكي تفسير الرازي وكذا قول تفسيري الجلالين والمنار من غير كم فإن يلزم على ذلك ان يقال ممن دونكم. وقد اوضح جلت آلاؤه للمؤمنين وجه النهي عن اتخاذ هؤلاء بطانة بأنهم (لا يألونكم خيالا) خبالا مفعول ثان والجملة صفة توضيحية لازمة لهذه البطانة لا تقييدية. وفسروا «لا يألونكم» بيقصرون وهذا لا يناسب تعديها الى مفعول واحد فضلا عن المفعولين كما هو الكثير المسموع من استعمالها فيلزم جعلها بمعنى لا ينقصونكم كقوله في سورة براءة «ثم لم ينقصو كم شيئا». والخبال فساد الرأي او مطلق الفساد أي يوفونكم الفساد او فساد الرأي بدسائسهم (ودوا ما عنتم) عنت أصابه العنت مثل مات ومرض. ومما ذكره اللغويون في العنت فيما يناسب المقام هو الضرر والهلاك. والمشقة. ولقاء الشدة. والهلاك ولعل معناه واحد ينطبق بنحو واحد على هذه المعاني أي ودوا ما أصابكم من العنت والظاهر ان جملة ودوا صقة أخرى للبطانة ولو كانت مستأنفة لقيل قد ودوا مثل قوله تعالى (قد بدت البغضاء) بغضاؤهم لكم (من افواههم) وفلتات كلماتهم (وما تخفي صدورهم) مما يسرونه من البغضاء لكم (اكبر) مما يبدر من السنتهم فهل يصح بعد ذلك للمؤمن المدافع عن دين الإسلام والناهض لا علاء دعوة الحق ان يتخذ هؤلاء بطانة من دون المؤمنين (قديينا لكم الآيات) والدلالات على شأنهم (إن كنتم تعقلون)
ص: 334
(115) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
-------------------------------------------------------------------
البيان ومرمى الإشارة وواجب العمل على البيان والحذر من أن لا تنخذوا منهم ولا م----ن امثالهم بطانة (115 ها انتم أولا تحبونهم) «انتم» مبتدا والظاهر ان «اولاء» نداء يفيد هنا فائدة الاختصاص تأكيدا للومهم في مقام التحريض على التباعد عن أولئك وامثالهم (ولا يحبونكم) الظاهر ان الجملة حالية والعامل فيها «تحبونهم» ويجوز ان تكون خبراً ثانيا بالعطف (وتؤمنون بالكتاب) القرآن ولبعض المفسرين في تفسير الكتاب تكلفات (كله) وقد نهيتم فيه قبل هذا عن الركون الى الذين ظلموا كما في سورة هود المكية وفيه ان اللّه لا يحب المعتدين كما في سورتي البقرة والاعراف المكية. والظالمين كما في سورة الشورى المكية والمفسدين كما في سورة القصص المكية. والخائنين كما في سورة الانفال. والكافرين كما في سورة الروم. فهل يسوغ ويحسن منكم ايها المؤمنون بالكتاب كله ان تحبوا من لا يحبه اللّه لأجل شره (1) والظاهر ان الجملة معطوفة على الخبر أي ها انتم تحبونهم وتؤمنون بالكتاب كله وكيف تجمعون بين الأمرين وقد سمعتم من الكتاب انه ينهاكم عن الركون الى الذين ظلموا ويوعز لكم ان لا تحبوا هؤلاء وامثالهم فإن اللّه لا يحبهم. وفي الكشاف ان الجملة حالية. ويرد عليه وجود الواو وهي لا تدخل على الحالية من المضارع المثبت. وتقدير الضمير لتكون اسمية لا داعي له (وإذا لقوكم قالوا) بنفاقهم ومخادعتهم (آمنا) بما آمنتم به و نحن معكم ومنكم (وإذا خلوا) ولم يكن معهم معهم احد منكم (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) من أجل إيمانكم وعلو كلمتكم بظهور الإسلام. وعض الأنامل يكون عند شدة الغيظ بحيث لا يتمالك المغتاظ عن ان يعض أنامله ويؤلمها كما قال ابو طالب «يعضون غيظا خلفنا بالأنامل» والحرث بن ظالم المري «يعضون من غيظ رؤوس الأباهم» والأنامل اطراف الأصابع. والأباهم جمع ابهام (قل) لهم يا رسول اللّه (موتوا بغيظكم) فإن اللّه معل كلمة الحق وسلطان الإسلام وخاذلكم (إن
ص: 335
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
-------------------------------------------------------------------
اللّه عليم بذات الصدور) لا يخفى عليه نفاقكم. وذات الصدور كناية عن الخصلة او السريرة او الحالة او العلة المتعلقة بالصدور من نفاق او إيمان ونحو ذلك. على حد قولهم ذات الصدر وذات الرئة وذات الجنب. وعلى ذلك جاء قوله تعالى «148 وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ» فالآيتان مثل قوله تعالى في سورة النمل «76 وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ» ونحوه الآية التاسعة والستين من سورة القصص. والتعبير بذات الصدور وماتكن صدورهم إنما هو باعتبار ان الصدر وعاء للقلب الذي هو مرجع لهذه الأمور كما يدل عليه قوله تعالى ويمحص ما في قلوبكم. كما تقول علم بخبايا الدار أي بما في صناديقها ونحو ذلك. وبما ذكرناه تعرف ما في المصباح المنير من قوله «المعنى عليم بنفس الصدور» وعلى ما ذكرناه من معنى ذات الصدور فسروا قول الشاعر «لتغني عني ذا انائك اجمعا» بإضافة «ذا» إلى الإناء أي ما يتعلق بإنائك مما فيه من لبن او غيره. وعليه ايضا ما في المصباح المنير انه أنشده ابن فارس في متخير الألفاظ
و نعم ابن عم القوم في ذات ماله***إذا كان بعض القوم في ماله كابا
اي فيا يرتبط ويتعلق بماله وقال النابغة
مجلتهم ذات الإله ودينهم***قويم فما يرجون غير العواقب
المجلة الكتاب اي كتابهم هو ما يرتبط ويتعلق بالاوله ووحيه (116 ان تمسكم) حادثة (حسنة) من حوادث الدنيا تنالون منها خيرا ولو بمسيسها كناية عن قلة نفعها لكم (تسؤهم) الحسدهم وبغضهم لكم ولدين الحق (وإن تصبكم سيئة) بمعنى تصيبكم فادحة اصابة لا بمجرد المسيس (يفرحوا بها) ولا تأخذهم لذلك رقة الجوار او القرابة والاتصال بالقبيلة (وأن تصبروا) على ما يحمد الصبر عليه من طاعة اللّه ونصر دينه وجهاد عدوه وعداوة هؤلاء واذاهم (وتتقوا) اللّه في اوامره ونواهيه (لا يضركم كيدهم شيئا) بضم الراء وتشديدها لأن مثل هذا المدغم لا يظهر عليه الجزم بالسكون إلا بفك ادغامه نحو «ان يمسكم» وفي هذاوعد المؤمنين بحماية اللّه الجامعتهم من ضرر المنافقين (إن اللّه بما يعملون محيط) فيحميكم من اعمالهم
ص: 336
(117) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (118) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا
-------------------------------------------------------------------
التي يكيدونكم بها. والقراءة المتداولة في المصاحف وبين المسلمين حتى القراء السبعة «يعملون» بالياء المثناة من تحت ولم تذكر بالتاء المثناة من فوق إلا عن الحسن وابي حاتم ومع ذلك قال في الكشاف «بما تعملون من الصبر والتقوى محيط» (117) وإذ) في التبيان والمجمع والكشاف ان العامل في «إذ، اذكر» (غدوت) في النهاية الغدو هو اول النهار غدا يغدو غدوا. وفي المصباح غدا بمعنى انطلق. والمراد مجموع السبر الواقع في اول النهار وصدره (من اهلك) و محل اقامتك. وفي المجمع انه الخروج الى احد (1) عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور ذكر من اخرج ذلك عن ابن عباس ومن اخرجه عن عبد الرحمن بن عوف. وهذه الآية والتي بعدها بمزاياهما و خصوصياتهما تعينان ذلك (تبوء المؤمنين مقاعد للقتال) تبوء المكان بمعنى استقر فيه. وبوأه المقعد أقره فيه. وجملة «تبوء» حال من «غدوت» لأن مجموع السير والبعد عن الأهل في اول النهار وصدره كان من مقارناته واحواله التبوء للقتال بأن جعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) مقاعد للقتال في سفح أحد وجعله في ظهورهم. وجعل في الشعب عبد اللّه بن جبير مع خمسين من الرماة لئلا يدهمهم المشركون من ناحيته. وأمر الرماة أن لا يبرحوا من مكانهم مهما تطورت الحرب وعواقبها (واللّه سميع) لما قبل في ذلك الغدو في أمر الحرب من كلام المنافقين وكلام الرسول والمؤمنين (عليم) بالنيات وما جرى من الأعمال في تلك الحرب ومقدماتها (118 إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا) الفشل هو الجبن وضعف القلب. وفي الدر المنثور ذكر جماعة منهم مسلم والبخاري اخرجواعن جابر ان الطائفتين هم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار واخرجه ابن جرير عن ابن عباس وارسله في مجمع البيان عن الباقر والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي تفسير القمي نزلت في عبد اللّه بن أبي وقوم اصحابه اتبعوا رأيه في القعود عن نصرة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). ويدفعه ان الآية تقول همت ان من تفشلا ومن المعلوم ان عبد اللّه واصحابه قد فشلوا وقعدوا ونافقوا كما يأتي حالهم من الآية
ص: 337
وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (119) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
-------------------------------------------------------------------
الستين بعد المائة حتى الثانية والسنين من السورة (1) وقد قال اللّه تعالى في الطائفتين (واللّه وليهما) وفي ذلك دلالة على ان اللّه عصمها عما همتا به. وقد ذكر في الآيات المشار اليها من ذم اللّه لعبد اللّه واصحابه ومقته لهم شيئا كثيراً وانهم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان وقوله تعالى «إذ همت» بدل من «إذ غدوت» (وعلى اللّه فليتو كل المؤمنون) فإنه وليهم وناصرهم ولا يهنوا عن نصر الدين بنفاق البعض وخذلانه. كيف (119 ولقد نصركم اللّه ببدر) ذلك النصر الباهر على اعدائكم ذوي العدد المناهز للألف والعدة الكاملة من الخيل والنعم والسيوف والدروع (وأنتم أذلة) بقلة عدد كم إذ كان جميع جيشكم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وبوهن عدتكم «والمأثور ان معظم سلاحهم جريد النخل وليس معهم من الخيل إلا فرسان. وابلهم اباعر معدودة يتعاقب عليها بعضهم وبعضهم مشاة ولم يخرجوا باهبة حرب ولا عزة محارب (فأتقوا اللّه) في نصر دينه والتوكل عليه وعدم التخاذل بنفاق المنافق (لعلكم تشكرون) أي لغاية ان تشكروا اللّه على ما يمنحكم من عظائم النعم والنصر الباهر «إن تنصروا اللّه ينصركم»
ص: 338
(120) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (121) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (122) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ
(120) إذ تقول) قال في التبيان التقدير اذكر اذ، وفي الكشاف ظرف لنصركم اقول وهو اولى واظهر (للمؤمنين الن يكفيكم) في الثبات والاطمئنان بالنصر (ان يمدكم ربكم) وولي أمر كم القادر ويبعث لكم مدداً لنصركم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (121 بلى) رد المضمون النفي في جملة «الن يكفيكم» (ان تصبروا) وتثبتوا (وتتقوا) اللّه فيما تلزم فيه التقوي ومنه الثبات لنصر دين الحق (ويأتوكم) أي الأعداء المشركون من قريش العادون بعد مانجت قافلتهم باتيانهم الحربكم (من فورهم هذا) قال في التبيان ومجمع البيان من وجههم هذا ورواه في الدر المنثور عن الحسن وعكرمة والربيع وقتادة والسدي ولم أجد لهذا المعنى أثراً في النهاية والمصباح ولم اعهده في اللغة نعم في القاموس أتوا من فورهم أي من وجههم وقبل أن يسكنوا. وروى في الدر المنثور عن عكرمة ومجاهد وأبي صالح والضحاك «من غضبهم» مأخوذ من الفوران وفورة الغضب وهو غريب واغرب منه ما عن الضحاك من قوله من وجههم وغضبهم وعن ابن عباس من سفرهم هذا. وهو غريب. ومن فسره بالغضب قال ان الآية نزلت في غزوة أحد والمراد غضبهم من يوم بدر اقول والمناسب لو صح في اللغة ان يقال من فورهم ذلك مع ان ظاهر الآية ومناسبة اللتين قبلها وبعدها وروايات الكافي والعياشي بأسانيدهما عن الباقر والصادق عليهما السلام انها نزلت في شأن غزوة بدر. وفي الكشاف جعله من الفوز ضد التراخي - أي من وقتهم هذا القريب. وهذا هو المعروف والمناسب والمتبادر من هذا اللفظ (يمدد كم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) من السيما وهي العلامة. ولعل المراد انهم اتخذوا سيماء البشر ولم يبقوا على صورتهم الأصلية لكن في صحيحة الكافي عن ابي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وروايته عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير المسومين قال «العمائم» ونحو ما في الدر المنثور مما أخرجه ابن اسحاق والطبراني عن ابن عباس (122 وما جعله اللّه) أي الامداد بالملائكة لأن نصره للمسلمين متوقف على الملائكة. كلا. بل لأن أولئك المسلمين ما عدا الخواص بشر ضعفاء ببشريتهم لا يستحكم استبشار هم واطمئنانهم إلا بالمحسوسات الجارية على العادات ككثرة العدد
ص: 339
إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (123) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (124) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
-------------------------------------------------------------------
وشوكة المدد فشاء اللّه برحمته أن يجاري بشريتهم بما تتحقق لهم به البشرى والاطمئنان في حربهم بل والاطمئنان بأنهم على الحق اليقين وان اللّه معهم فما جعله (إلا بشرى لكم) ايها المسلمون المجاهدون (ولتطمئن قلوبكم به) أي بسبب الامداد المذكور (وما النصر إلا من عند اللّه العزيز) في أمره (الحكيم) في اعماله ونصره وتطبيب قلوب المؤمنين وليس النصر من الملائكة ولا من غيرهم (123 ليقطع) تعليل للنصر لا لقوله تعالى فيما سبق «نصركم اللّه ببدر» كما ذكر في التبيان ومجمع البيان قوله وذكره في الكشاف اول التفسيرين فإنه لا يلايم الترديد والتقسيم في قوله تعالى «ليقطع او يكبت» بل الذي يناسبه هو النصر المطلق الذي يقطع به (طرفا) أي بعضا (من الذين كفروا) ويهلكهم كما في يوم بدر وخيبر ونحوهما (او يكيتهم) كما في يوم الأحزاب وامثاله. في المصباح كبته اهانه وأذله وكبته لوجهه صرعه. وفي النهاية أذله وصرفه وصرعه وخيبه. وفي القاموس صرعه و اخزاه وصرفه و کسره ورد العدو بغيظه وأذله. وعن الخليل الكبت صرع الشيء على وجهه وحقيقة الكبت شدة الوهى الذي يقع في القلب وربما صرع الانسان لوجهه للخور الذي يدخله. وفي التبيان الكبت الخزي ونسب ما عن الخليل الى القبل. وفي الكشاف يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة اقول والمراد من الكبت في الآية معنى تحوم حوله هذه المعاني التي يأخذونها مما تسنح لهم من مناسبة المقام او موارد الاستعمال ولعله نحو مجاز مما ذكر عن الخليل (فينقلبوا خائبين) الخيبة معروفة وفسرت بالانقطاع عما امل وهو انسب مما ذكر لها من التفسير، (124 ليس لك) يا رسول اللّه (من الأمر) في شؤون الخلق من حيث الايصال إلى الهدى والتوبة والتعذيب ونحو ذلك (شي) مما يرجع إلى قدرة اللّه ولا داخل تحت قدرتك فإنك بشر مخلوق وانما الأمر في ذلك اللّه (او يتوب عليهم) بنصب يتوب أب إذا تابوا واصلحوا) (او بعذبهم) بالنصب أيضا إذا لم يتوبوا فيتوب عليهم (فإنهم ظالمون) اختار في الكشاف ان نصب يتوب ويعذبهم بالعطف على «ليقطع» وجملة ليس لك من الأمر معترضة ونسب غيره إلي القيل. وذكره قبله في التبيان اول الوجهين
ص: 340
(125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
-------------------------------------------------------------------
وفي مجمع البيان احد الوجهين. وبدفعه زيادة على ومن اعتراض الجملة ان التوبة والعذاب لا مناسبة لكونهما غاية للنصر لكي يقال بعطفها على «ليقطع او يكبت» ونقل في الكشاف قولا حاصله ان يتوب ويعذبهم منصوبان بان مضمرة بعد او. والمصدر في محل الجر بالعطف بأو علي الأمر أي ليس لك من الأمر او التوبة عليهم او عذابهم شي. او في محل الرفع بالعطف على شيء أي ليس لك من الأمرشي او التوبة عليهم او تعذيبهم. وفي التبيان ومجمع البيان ذكرا وجها آخر نسبه الكشاف الى القيل وهو ان او بمعنى إلا. وذلك كقول زياد الأعجم
«وكنت إذا غمزت قناة قوم***کسرت كعوبها او تستقيما»
بمعنى ليس لك من الأمر شيء إلا توبة اللّه عليهم او عذابهم فيكون أمرك تابعا لأمر اللّه لرضاك بتدبيره كما في النبيان ومجمع البيان واقول ان الأمر في توبة اللّه عليهم او تعذيبه لهم إنماهو اللّه وحده فلا يصح استثناؤه واثباته للرسول بالاستثناء المتصل ولا يجدي في ذلك التفريع بقولها فيكون أمرك تابعا لأمر اللّه مع انه لا دلالة على هذا التفريع. فالوجه ان تكون «او» الأولى بمعنى «الا» التي هي للاستدراك مثل «لكن» المخففة كما في الاستثناء المنقطع الرافعة لما يتوهم من الكلام السابق عليها فإن سباق قوله تعالى «ليس لك من الأمر شيء» بعد ذكر الذين كفروا في الآية السابقة قد يتوهم منه انه لا يقع شيء مما يرجوه الرسول من صلاحهم واسلامهم فجرى الاستدراك بما يؤدي إلا ان رجاء الرسول لا ينقطع بالنفي المتقدم بل يتوب اللّه على من يتوب وينيب الى الإسلام ويعذب الذين لا يتوبون لأنهم ظالمون بكفرهم وسوء اعمالهم. وروي في الدر المنثور في نزول الآية روايات لا تكاد أن تنطبق. منها عن احمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر ان رسول اللّه قال يوم أحد اللهم العن ابا سفيان وذكر ثلاثة معه فنزلت الآية، ويدفعه ان الدعاء باللعن ليس من الأمر المنفي عن رسول اللّه بل دعاء جمله اللّه لرسوله ولسائر المؤمنين بقوله تعالى ادعوني استجب لكم. وقد لعن اللّه الظالمين والكافرين. وكذا الكلام فيما أخرجه البخاري ومسلم وجماعة عن ابي هريرة ان النبي قنت بعد الركوع ودعا بنجاة اشخاص ولمن بعضا فنزلت الآية. مضافا الى ان الآية لا تناسب الدعوة بالنجاة مع ان هاتين الروايتين وامثالها متنافية بالتمارض في سبب النزول (125 واللّه ما في السماوات وما في الارض) والأمر بيده (يغفر لمن يشاء) كقوله تعالى في سورة طه
ص: 341
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (126) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (127) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (128) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (129) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (130) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ
-------------------------------------------------------------------
المكية 84 واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى (ويعذب من يشاء) من لم يحسن توبته (واللّه غفور رحيم) لمن تاب واناب (126 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) هذا بيان لنحو من جهات المفسدة فيه وذلك انه بحسب طبعه وجوره يستهلك اموال المديون ويكون ما يأخذه منه اضعافا مضاعفة بالنسبة لما استدانه فايا كم وباب هذا الجور (واتقوا اللّه) فإن التقوى هي التي يقوم بها النظام ويستقيم الاجتماع (لعلكم تفلحون) أي لغاية ان تفلحوا (127 واتقوا النار) جهنم (التي أعدت للكافرين) وما أخس مقامها واعظم عذابها بهذا الاعدام المشوم وما اخس المسلم الذي يلقي نفسه بسوء اعماله واكله الربا في هذه النار (128 واطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون) أي لغاية ان ترحموا إذا ثبتم على الطاعة الكاملة (129 وسارعوا) بصالح اعمالكم وحسن توبتكم ولا تسوفوا فيفوتكم حظكم (إلى مغفرة) لكم (من ربكم) وولي اموركم (وجنة عرضها) اي مقدار عرضها (السماوات والأرض) ولابد من ان يكون طولها اكثر من ذلك بحسب ما شاء اللّه. وان اوهام الهيئة القديمة في افلاكها ومحدد الجهات لتثير هاهنا سؤالا ولكن من يعرف قدرة اللّه وسعة ملكوته لا تعترض هذه الأوهام ايمانه. وذكرت سعة الجنة ليطمئن الإنسان بأن له ما تشتهيه نفسه من المحل الواسع وامل هذا التقدير للعرض جار على ما يناله تصور نوع الناس من التمثيل بالموجود في الخارج. وهذه الجنة (اعدت للمتقين) اللّه وكانت التقوى لهم ملكة ثابتة. واليك شيئا من صفاتهم الكريمة (130 الذين ينفقون) (لوجه اللّه (في السراء والضراء) في الدر المنثور عن ابن عباس في حالتي اليسر والعسر. وفي التبيان وقيل في حال السرور والاغتمام أي لا بقطعهم شيء من ذلك عن الانفاق فيدخل فيه اليسر والعسر الذهى وينبغي ان يراد اسباب الاغتمام نوعا من انواع الضراء وهذا اقرب وادخل بعمومه في المدح (والكاظمين الغيظ) كظم غيظه حبسه
ص: 342
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (131) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
-------------------------------------------------------------------
ورده بالصبر عن هيجان آثاره من الكلام او الانتقام. وكظم البعير امسك عن الجرة. قيل واصله كظم القربة أي شد رأسها عند مائها أقول كان المراد كظم مائها عن أن يطفح وكظم البعير ما في كرشه عن ان يخرجه للاجترار (والعافين عن الناس) والعفو اقرب للتقوى وان كظم الغيظ والعفو عن الناس من محاسن الأخلاق وآثار الفضيلة التي تعين على السلم والهدو وحسن الاجتماع وراحة البشر في الجملة. وصفات هذه الآية من اهم موارد الاحسان (واللّه يحب المحسنين) وكفى بذلك فخرا وفوزا (131 والذين) قبل انها مجرورة بالعطف على المتقين و «أُولَئِكَ» في الآية الآتية اشارة إلى الجميع وذكرت المغفرة لأن كل من عدا المحصوم محتاج اليها. وقيل اللذين مبتدأ وجملة او لتك خبره والقول انسب بيان الجزاء للمتقين وبقوله تعالى فنعم اجر العاملين فان الاستغفار وان كان عملا صالحا لكنه يبعد ان يترك التنويه باعمال المتقين ويقتصر في التنويه على استغفار اولئك المستغفرين هذا واذا قبل ان خصوص ما ذكر من اتفاق فعل الفاحشة وظلم النفس مع ذكر اللّه واستغفاره وعدم الاصرار لا ينافي كونهم من المتقين قبل ذلك وبعد ذكر اللّه والاستغفار وإن تضعضعت فيهم ملكة التقوى عند الذنب فعليه تكون كلمة «الذين» معطوفة على «المافين» في طرد صفات المتقين وفيه نوع اشكال واللّه العالم (إذا فعلوا فاحشة) في النهاية الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب والمعاصي و كثيراً ما ترد بمعنى الزنا. وفي المصباح فحش مثل قبح وكل شيء تجاوز الحد فهو فاحش ومنه غبن فاحش. وفي القاموس الفاحشة الزنا وكل ما يشتد قبحه من الذنوب اقول وأظن ان ارادة الزنا من الفاحشة في بعض الموارد إنما باعتبار كونه من الافراد الظاهرة في الفحشاء فالأظهر في الآية استعمال الفاحشة في مطلق المحصية الفاحشة في قبحها (او ظلموا أنفسهم) بما دون ذلك من الذنوب (ذكروا اللّه) قيل ذكروا وعبدوا اللّه. والأقرب ان يكون المراد انهم بعد ان اغفلهم الشيطان والنفس الأمارة حين الذنب وأنساهم ما يجب له من الطاعة وعدم المخالفة ذكروا اللّه وماله من الجلال وانه ربهم العظيم ومالك أمرهم ومرجع خوفهم ورجائهم وتنبهوا الى زللهم (فاستغفروا) اللّه (لذنوبهم) فيكون السر في ذلك تمييزهم عمن
ص: 343
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (132) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (133) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
-------------------------------------------------------------------
كان اللّه على ذكرهم حين المعصية ففعلوها محادة له وعناداً فإن هؤلاء بعيدون - والعياذ للّه - عن التوبة والاستغفار (ومن يغفر الذنوب إلا اللّه) وهل يلتجأ العارف باللّه لغفران ذنبه إلا إلى اللّه ولئن استشفع إلى اللّه بن جعلت له الشفاعة فإن ذلك مما يؤكد الفزع والالتجاء إلى اللّه. ولعل في هذا الانكار اشارة الى من يطلب المغفرة من الأوثان او من القسوس ويعتمد على غفرانهم كما هو المتعارف عند فرقة «الكاثوليك «من النصارى حتى في هذه الأزمنة. ومن يغفر الذنوب إلا اللّه (ولم يصروا على ما فعلوا) من ذنوبهم ولم يقيموا عليها تماديا على المعصية (وهم يعلمون) الجملة حالية أي لم يصروا حال كونهم عالمين بأن فعلهم معصية فإن هذا هو الاصرار الموبق واما من أصر على ما يجهل كونه معصية فليس بمصر على معصية (132 أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) والمخصوص بالمدح في «نعم» هي المغفرة والجنات المذكورة باعتبار ان ذكر اللّه واستغفاره عمل صالح جلت الآء اللّه وألطافه (133 قد خلت) ومضت (من قبلكم) با ايها الناس أو با ايها الذين آمنوا (سنن) منها سنن المؤمنين المصدقين للأنبياء والمجاهدين في سبيل اللّه والجارين على ما ارشدوا اليه من العمل الصالح والاستعداد لسعادة الآخرة وطلب ما عند اللّه فجعلوا الدنيا دار رحلة وتزود، ومع ذلك قد تنعموا فيها بالرضا بما قسم اللّه باحسن من نعيم غيرهم المكدر المنغص بالحرص وطموح الشهوات وجماح الانفس في الطمع. ومنها سنن الكافرين المكذبين مع قيام الحجة عليهم ووضوح البينات لهم كل ذلك لانهاكهم بالضلال والشهوات و قصر نظرهم على الدنيا (فسيروا في الأرض) لزيادة الاعتبار والتبصر (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) للرسل وآيات اللّه إذ قطعت الدنيا آمالهم و كدرت عيشهم وتركت دبارهم للخراب او لسكنى الأعداء ونعيمهم للبوار وجمعهم للشتات. فانظروا الى آثار ع----اد وثمود وقوم لوط. بل وانظروا الى الملوك المكذبين للأنبياء من بني اسرائيل واتباعهم من
ص: 344
(134) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (135) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
-------------------------------------------------------------------
تلكم الأمم الطاغية كيف قد صارت عاقبتهم الفناء والشتات والجلاء من الديار وذلة الأسر والقتل ولم يبق في ديارهم إلا الاسم (134 هذا) الظاهر ان الآيات من قوله تعالى «واذ غدوت» الى هنا سابقة على هذه الآية في نسق التنزيل فتكون الإشارة راجعة إلى مضامين تلك الآيات الكريمة وما احتوت عليه من المطالب العالية. او إلى مضمون الآية السابقة ولأجل الشك من بعضهم في ترتيب النزول قال ان الاشارة إلى القرآن اقول وهو بعيد إذ لو كانت الإشارة إلى القرآن لقيل هذا القرآن ونحو ذلك كما قيل في امثال ذلك (بيان للناس) حتى من لا يهتدي ولا يتعظ (وهدی) موصلا الى الحق (وموعظة) تدعو الى الاتعاظ (للمتقين) اللّه فإن البيان يؤثر فيهم الاهتداء والانفاظ (135 ولا تهنوا) ايها المسلمون بسبب ما اصابكم في يوم احد. وفي كتب اللغة الوهن الضعف. لكن المترائى من موارد الاستعمال انه نحو خاص من الضعف. وفي القاموس وتبعه صاحب المنار انه ضعف في العمل. فإن اراد ضعف العامل في عمله بأن يكون الوهن صفة للعامل فقد نسا قوله تعالى ان اوهن البيوت لبيت العنكبوت وان اراد ضعف العمل او ضعف المعمول بأن يكون الوهن صفة للعمل او للمعمول من حيث انه معمول فقد غفلا عن هذه الآية وعن قوله تعالى «فما وهنوا» كما سيأتي قريبا ان شاء اللّه. والمراد لا يظهر عليكم اثر الضعف والخور (ولا تحزنوا) مما اصابكم (وانتم الأعلون) وفي هذه الجملة وجوه «اولها» في التبيان ومجمع البيان والكشاف انها حالية فتكون كالاحتجاج عليهم في النهي عن الوهن والحزن بمعنى انكم رأيتم نصر اللّه لكم وعلوكم على عدوكم فقد كنتم نحو ربع المشركين فهزمتموهم واثخنتم فيهم القتل في أول الحرب. ومع انكم طمعتم في الغنيمة واخليتم مراكزكم في الحرب وشعبكم الذي يحمي ظهور كم وانهزمتم تلك الهزيمة من اللّه وانعم عليكم برسوله وثبات الصادقين في جهادهم فتراجعتم وانخذل المشركون واحجموا عن قتالكم فإنكم الأعلون في هذا الحرب وخاتمتها مهما اصابكم بما كسبت ايديكم «ثانيها» احتمل في التبيان والمجمع ان تكون جملة «وانتم الأعلون» ابتدائية أي لا تهنوا ولا تحزنوا ان كنتم مؤمنين وانتم الأعلون فتكون
ص: 345
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (136) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
-------------------------------------------------------------------
متضمنة للبشرى بالعلو المطلق حتى في المستقبل «ثالثها» ان يراد انتم الاعلون مطلقا بحسب ما ذكر في الوجه الأول وبحسب علمكم بما وعد اللّه رسوله وبشراه لكم بعلو أمر الدين وبوار المشركين فيصح عليه كون الجملة حالية. ويكون قوله تعالى (ان كنتم مؤمنين) قيدا للتصديق بالبشرى أو للبشرى وعلى الوجهين الأولين تكون مبينة ان انتهاء هم عن الوهن والحزن تابع لا يمانهم باللّه. ويجوز ايضا على الوجه الأول ان تكون قيدا لإذعانهم وايمانهم بأن ما ذكر فيه من علوهم في اول الحرب وخاتمتها كان من نصر اللّه لهم. والاظهر هو الوجه الثالث (136 ان يمسكم قرح) لعل التعبير بالمس لتهوين ما أصابهم ببيان انه مس لا نكاية والقرح بفتح القاف فسره في التبيان ومجمع البيان والكشاف بالجرح وعن مجاهد جراح وقتل. ويجوز ان يكون واحد القروح كناية عما اصابهم وهو الأظهر (فقد مس القوم) المشركين (قرح مثله) قيل ان ذلك اشارة الى ما اصاب المشركين يوم بدر وهو المروي عن الحسن البصري. ولكن الأظهر والمناسب للمقام واسلوبه وتسليته وتشجيعه ان يراد ما اصاب المشركين يوم احد فقد قتل منهم يومئذ خلق كثير من شجعانهم واهل نجدتهم فقد عد في التاريخ عشرة وعشرة وفلانا وفلانا بحيث لا يقل عن شهداء المسلمين بكثير. وأما قوله تعالى في الآية التاسعة والخمسين بعد المائة «قد اصبتم مثليها» فيمكن ان يراد به القتلى والأسرى من المشركين في يوم بدر ويمكن ان يراد به قتلى المشركين في بدر واحد ولكن هون على المشركين يوم احد انهم ادركوا فيه شيئا من ثار بدر ولم يصدموا بصدمته. وشدد على المسلمين ما لقوه انه على خلاف ما يرجونه من نصر اللّه لهم ولدين الحق وانهم اذنبوا بفرارهم فنالهم بعض الخذلان ولذلك صارت حربهم بانشيالهم على اطماع الغنائم وفرارهم حربا عادية لم تستمر معها روح النصر الأول فجرت على سنة الحروب المبنية غلبتها على الاقدام والفرار والكثرة والقلة وما يعرض من الاحوال الحربية والتقدير الألمي المنوط بالأسباب العادية في عالم التكوين من مداولة الأيام بحسب التقدير لأسبابها. وعلى هذا وجه قال اللّه جل اسمه) وتلك الأيام نداولها بين الناس) بمقتضي التقدير على الأسباب. والأيام عطف بيان لتلك» اي ايام الحرب او ايام الدنيا.
ص: 346
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (137) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (138) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
-------------------------------------------------------------------
وندا ولها خبر. وجرى ما جرى على مقتضى أحوال الناس من نفاق عبد اللّه بن ابي واصحابه ورجوعهم من الجيش ومن مخالفة من خالف كالكثير من اصحاب عبد اللّه بن جبير وم---ن فرار من فر وكان ما كان من جري الأمور على اسبابها لاجراء الأمور على مقاديرها (وليعلم اللّه الذين آمنوا) أي ولتكون العاقبة ان يتحقق في الخارج ايمان الذين آمنوا واتبعوا الرسول إلى الحرب وجاهدوا ويعلمهم اللّه في الأزل بعلمه التابع ويقارن ذلك في استمراره عملهم في الإيمان والجهاد (ويتخذ منكم شهداء) اي ولنكن العاقبة ان يفوز بعضكم بالشهادة. وفي التعبير بقوله تعالى «ويتخذ» تكريم عظيم للشهداء إذا كان استشهادهم باتخاذه لهم واختياره لهم الحسنى (واللّه لا يحب الظالمين) ولكنكم فرد تم وخالفتم فتسلط عليكم الظالمون بحسب مجرى الاسباب والمقادير واحوال الحرب (137 وليمحص اللّه الذين آمنوا) أي ولتكن العاقبة ايضا تمحيص المؤمنين من غيرهم. والتمحيص التخليص اما من شين الخليط بتمييز المؤمن بإيمانه من غيره. واما بتخليص المؤمن من الذنوب والاظهر الأول (ويمحق الكافرين) بنقصهم شيئا فشيئا حتى يضمحلوا (138 ام حسبتم) أم منقطعة في مقام الاستفهام الانكاري (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) جملة «ولما يعلم» حال من «تدخلوا» وكلمة «لما» تفيد النفي المستمر إلى زمان الخطاب او متعلق الحال لما هو في مقام الوقوع. اي حسبتم ان تدخلوا الجنة حال عدم علم اللّه النابع من الأزل الى اوان دخول الجنة بجهاد المجاهدين. وحاصل المعنى أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يجاهد المجاهدين منكم فذكر علم اللّه لأنه لازم للوقوع وفي ذلك اشارة وقوع الجهاد و حصول المجاهدين والصابرين (ويعلم الصابرين) بنصب يعلم بان مضمرة والواو بمعنى مع أي يعلم الذين جاهدوا مع علمه بالصابرين. كما يقال لا تأكل السمك وتشرب اللبن بنصب تشرب أي لا تأكله مع شربك اللبن ويكون العلم بالصابرين قيدا لاثر العلم بالمجاهدين وحاصله ان دخولكم الجنة منوط بجهاد المجاهدين مع صبر الصابرين الثابتين مدة الجهاد في مركز الحرب واحتدام لظاها. فلا تظنوا انكم تدخلون الجنة
ص: 347
لولا هذين العادين الذين قام بها اللدين وانتظمت جامعة الإسلام والهدى وبصبر الصابرين في ذلك وصادق جهادهم وثباتهم حفظت في ذلك اليوم شوكة الإسلام خير رجوعكم إلى الرسول الاكرم بالكرة وتوبتكم من الفرار من الزحف فتأهلتم لدخول الجنة ببركة الإسلام وصالح الأعمال. هذا والمحصل من واقعة أحد بحسب التاريخ والحديث ان عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل طلحة من بني عبد الدار صاحب لواء المشركين واكثر الحديث والتاريخ وأصحه انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل تسعة تعاقبوا على حمل لواء المشركين من بني عبد الدار وعاشرهم صواب مولاهم واشتدت الحرب فانهزم المشركون فانثال المسلمون على الغنيمة وطمع فيها اكثر اصحاب عبداللّه ابن جبير ولم يصغوا إلى نهي عبد اللّه عن مبارحة الشعب ولم يحفظوا وصية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وامره بذلك فلم يبق مع عبد اللّه إلا عشرة فما دون فاغتنم ذلك خالد بن الوليد وهجم عليهم بخيل المشركين فقتلهم ودهم المسلمين من ورائهم وهم فارون بالغنائم فقر المسلمون بهزيمة مهولة والذي اتفق التاريخ على انه ثبت في ذلك في حومة الحرب والدفاع عن رسول اللّه هو امير المؤمنين علي واختلف في غيره وربما تذكر لبعضهم اعمال بعدان فاء المسلمون إلى رسول اللّه من فرارهم فيحسب انه كان من الثابتين الذين لم يفروا. روى الطبراني في الكبير كما في كنز العمال ومنتخبه مسندا عن ابي رافع لما اقبلت على علي يوم احد اصحاب الألوية قال جبرائيل يا رسول اللّه ان هذه لهي المواساة فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انه مني وانا منه فقال جبرائيل وانا منكما يا رسول اللّه، وروى ابن جرير في تاريخه مسنداً برجال الصحة عندهم عن محمد ابن عبيد اللّه بن ابي رافع عن ابيه عن جده لما قتل على اصحاب الألوية ابصر رسول اللّه جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل عمرو الجمحي ثم ابصر رسول اللّه جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك فقال جبرائيل يا رسول اللّه ان هذه المواساة فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) «انه مني وانا منه» فقال جبرائيل وانا منكما قال فسمعوا صوتا «لا سيف الاذو الفقار ولا فتى إلا علي». وذكر نحوه ابن الأثير في تاريخه إلا انه لم يذكر المقتولين في الجملتين. وفي اللثالى المصنوعة عن ابن عدي مسندا برجال الصحة عندهم عن محمد المذكور عن ابيه عن جده قال كانت راية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يوم احد مع علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وراية المشركين مع طلحة بن ابي طلحة فذكر خبرا طويلا وفيه وحمل راية المشركين سبعة ويقتلهم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال جبرائيل يامحمد هذه المواساة
ص: 348
فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) انا منه وهو مني ثم سمعنا صائحا في السماء يقول «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» (1). وعن ابن المغازلي الشافعي في المناقب مسندا عن ابي رافع نادے ملك من السماء يوم احد لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وروى ابن عدي مسندا عن ابن عباس قال صاح صائح يوم احد لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. لكن قال
ص: 349
ابن عدي ان في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل وهو متروك (1). وقال ابن ابي الحديد في أواخر الجزء الثالث من شرحه للنهج روى ابو عمر الزاهد ومحمد بن حبيب في اماليه قال لما فر معظم اصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وذكر نحو ما ذكره ابن جرير وزاد ان عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل من الكتيبة الأولى عشرة وزاد في قول جبرائيل لقد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى. وان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) سئل عن المنادى فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) هذا جبرائيل ثم قال ابن ابي الحديد وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة ووقفت عليه في بعض نسخ مغازي ابن اسحق ورأيت بعضها خاليا عنه وسئلت شيخي عب---د الوهاب بن سكينه عن هذا الخبر فقال خبر صحيح فقلت فما بال الصحاح لم تشتمل عليه فقال او كلما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح فلكم اهمل جامع واالصحاح من الاخبار الصحيحة وعن السمعاني في كتاب فضائل الصحابة بسنده عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذكر نحو هذا النداء. وعن ابن المغازلي انه رو بسنده عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) انه نودي بهذا النداء يوم بدر وروى ابن عدي بسنده عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) نادى مناد من السماء يوم بدر يقال له رضوان «لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» (2). وعن سبط الجوزي أنه نودي في يوم خيبر وصححه لا سيف الاذو
ص: 350
(139) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ
-------------------------------------------------------------------
الفقار ولا فتى إلا علي وانه رواه احمد في الفضائل وذكر ايضا انه مما روي به النداء ايضا يوم بدر اقول ولا تنافي بين هذه الروايات إذ يمكن صدور هذا النداء في بدر واحد و خيبر فإن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد امتاز في تلك الأيام بالمواقف العظيمة. فإن الحديث عن أبي رافع مختلف في لفظه افلا بعد هذا من الاضطراب الموهن للرواية قلت ان الاختلاف انما هو بالنقيصة وهذا ليس من الاضطراب بل تحمل النقيصة على النسيان أو دواع أخر وقد ابتلي الحديث بالاختلاف الذي هو أشد من هذا فإن جل ما تكرر من الحديث في مسند احمد والجوامع الست وغيرها او كله لا ينفك عن مثل هذا الاختلاف وما هو اكثر منه واكثر فانظر إلى كتب الحديث واعتبر، «ظريفة» قال الطنطاوي في صفحة 143 من الجزء الثاني من تفسيره «فانهزم المسلمون وبقي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في جماعة من اصحابه كأبي بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد» قلت ربما روى ما يترائى منه ان أبا بكر من الثابتين ولكن المعروف في الحديث والتاريخ انه ليس ممن دام ثباته في اول الحرب إلى آخرها وفي صحيح ابن حبان مسندا عن عائشة قالت قال ابو بكر لما كان يوم احد انصرف الناس كلهم عن رسول اللّه فكنت اول من فاء اليه دع هذا ولكن قل الطنطاوي اين كان العباس يوم احد والعباس لم يدخل في جامعة المسلمين ويأتي المدينة إلا بعد فتح مكة وأي عباس هذا ولقد تخيلت ان كلمة «والعباس» من غلط المطبعة فنظرت إلي جدول التصحيح فرأيته صحح من الصفحة المذكورة غلطتين لفظينين دون المعنى الكبير نعم ذكر في صفحة 154 ان الذين ثبتوا يومئذ مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) من المهاجرين سبعة لم يذكر منهم العباس «فظن خيراً» وان كان له في تاريخ الشرق غرائب واحوالا. (139 ولقد كنتم تمنون) تتمنون فحذفت احدى التاثين ومثله شايع كثير في العربية والتمني معروف (الموت من قبل ان تلقوه) في تفسير القمي وفي رواية ابي الجارود عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان المؤمنين لما اخبرهم بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر ومنازلهم في الجنة رغبوا في ذلك وقالوا اللهم ارنا قتالا نستشهد فيه فأراهم اللّه اياه يوم احد فلم يثبتوا إلا من شاء اللّه منهم. وفي الدر المنثور اخرج
و في اللئالي كلا بل هو ثبت ثقة من الابدال. وفي التقريب صدوق يخطي اقول ولعل نسبته إلى الخطأ جاءته من روايته لهذا الحديث وامثاله.
ص: 351
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (140) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (141) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ
-------------------------------------------------------------------
ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وذكر نحوا من ذلك. ولئن لم تنهض الروايات حجة في ذلك فالا بة ناطقة بما هو نحوه. ومقامها يقتضي ان يكون المراد من الموت المتمنى هي الشهادة (فقد رأيتموه) قيل رأيتم اسبابه من الحرب والقتال اقول وان الشهادة والقتل وبقاء الأبدان بلا ارواح امر مرئي ولا مانع من ان يراد ذلك مع انه اظهر واولى، والرؤية هي الاحساس بالباصرة (وانتم تنظرون) والنظر غير الرؤية المتعدية إلى مفعولها بل هو اعمال الباصرة لأجل الرؤية ويكفي في بيان المغايرة انه لا يتعدى إلا بكلمة «إلى» كما عليه اللغة واستعمال القرآن الكريم ابی رأيتموه لا صدفة وانتم تعملون باصرتكم لأجل رؤية الحال والقتال والشهادة وموت الشهداء. ولا ضير في تمني الشهادة بعد العلم العادي بأن الدفاع في نصرة الدين لا بد فيه من ان ينال بعض المسلمين سعادة الشهادة وحياتها الأبدية خصوصاً بعد ما يروك من ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اخبرهم بأنهم يستشهد بعدد اسرى بدر و اين هذا من تمني تسلط الشرك ونقص د المسلمين كما يذكر في الاشكال الواهي (140 وما محمد) (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم) (إلا رسول) من البشر المقدر عليه الموت ببلوغ اجله (قد خلت) ومضت وسلفت (من قبله الرسل) دعاهم اللّه فأجابوا وهو مثلهم أمره بيد اللّه بدعوه إلى دار السعادة والزلفى فيجيب (أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم) ناكصين عن الطاعة او الدين، والاستفهام للانكار عليهم. وقد روى البخاري في باب الحوض وغيره في غيره ولعله من الحديث المعلوم بين الفريقين ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) اخبر بانقلاب ناس من اصحابه(ومن ينقلب) عن الطاعة او الدين (على عقبيه فلن يضر اللّه شيئا) وإنما يهلك نفسه فإن اللّه غني عن العالمين (وسبجزي اللّه الشاكرين) لنعمته عليهم بالإيمان والشريعة اذ عرفوا ما لهذه النعمة من القدر العظيم فثبتوا عليها (141 و) لا تحسبوا ان الموت يأتيكم مصادفة واتفاقاً من عروض العوارض بلا تقدير م---ن اللّه فتتوهموا انه ينجيكم منه الحذر والفرار والقعود عن الجهاد بل (ما كان) ولم يثبت بل ولا يثبت (لنفس ان تموت إلا بإذن اللّه) ومشيئته وتقديره (كتابا) في التبيان والمجمع
ص: 352
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (142) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
-------------------------------------------------------------------
والكشاف انه مصدر منصوب بفعل من لفظه أي كتب ذلك كتابا أقول ويجوز ان لم يكن الظاهر ان يكون بمعنى المكتوب وهو حال مفسرة من الاذن (مؤجلا) اي كتبت فيه الآجال بحدودها (ومن يرد) من اللّه بعمله (ثواب الدنيا) والجزاء فيها (نوته منها) أي من الدنيا (ومن يرد ثواب الآخرة) وما اعده اللّه لطالبيها (نوته منها) بحسب عمله واخلاصه (وسنجزي الشاكرين اللّه على نعمه واعظمها توفيقهم لطاعته وطلب ما عنده. هذا هو الظاهر من الآية وذكر في النبيان ومجمع البيان اقوالاً لا حجة عليها ولا بها (142 وكأين) الظاهر من المغني و شرح الكافية للشيخ الرضي اتفاق النحويين وامثالهم على انها مركبة من كاف التشبيه و «أي» الموصولة ورسمت النون للمحافظة على التنوين في الأصل وانها صارت بعد التركيب اسما يفيد معنى «كم» الخيرية والتكثير وان خالفتها من وجوه وان محلها الابتداء وما بعد تميزها خبرها وعلى ذلك جرى مجمع البيان بل وظاهر التبيان وأما الكشاف فلم يتعرض في تفسيره لشي من ذلك اقول ان لم يجدوا منها في موارد استعمالها معنى كاف النشبيه ومعنى «اي» فمن أين جاؤوا بحديث تركيبها واصلها وصيرورتها بالتركيب اسما فإن العرب لا يتحدثون ولا يحدثون بمثل ذلك وإنما يستعملون ما في لغتهم بمقتضى غريزتهم العربية وعلى رساهم بدون تحليل. وإذا كانوا يجدون منها معنى جزء يها فلماذا يقولون انها صارت اسما ولماذا لا يجرون على مقتضى جزءيها. وقد جاءت في القرآن الكريم سبع مرات كما في الآية وسور يوسف 105 والحج 44 و 47 والعنكبوت 60 ومحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) 14 والطلاق 8، قال حسان
كأين قد اصيب غداة ذاكم***من ابيض ماجد من سر عمرو
وقد تسهل همزتها وتكون على وزن فاعل كقول زهير في معلقته :
وكائن ترى من صامت لك معجب***زیادته او نقصه في التكلم
(من نبي) تمييز وبيان (قاتل) خبر (معه ربيون كثير) «ربيون» فاعل لقاتل وفي الكشاف ومجمع البيان جواز ان يكون الفاعل ضمير يعود للنبي و «معه ربيون» جملة حالية
ص: 353
فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
لقائل ويدفع ذلك ان الجملة الاسمية تحتاج في كونها حالا إلى ربطها بالواو او بها مع الضمير. واما الاكتفاء بالضمير وحده فهو من الضعيف الذي يجل عنه قدر القرآن الكريم. والزمخشري يصرح بالضعف في نحوه. اما الربيون ففي الكشاف ان الربي كالرباني هو المنسوب إلى الرب وكسرت الراء من تغيير النسب. يعني ان النسبة تكون معها تغييرات كثيرة في بناء الكلمة حتى في اولها كما يقال في المنسوب إلى الدهر دهري بضم الدال وبصري بكسر الباء وتوافقه احدث الروايتين عن ابن عباس. وقد اختلفت الرواية في تفسير الربي ففي الدر المنثور عن ابن عباس علماء كثير وعنه ايضا جموع. والجموع الكثيرة. وعن ابن مسعود الوف. وفي التبيان الربي عشرة آلاف وهو المروي عن ابي جعفر يعني الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم اجد الرواية وكأنها من رواية ابي الجارود في تفسيره وهو ضعيف. وعن العياشي عن منصور بن الصيقل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) الوف الألوف. ومنصور مجهول الحال ورواية العياشي عنه مرسلة. وفي تفسير القمي الربيون الجموع الكثيرة والربوة الواحدة عشرة آلاف. وفي القاموس الربوة بالكسر عشرة آلاف والربي واحد الربيين وهم ألوف من الناس. وعليه فنسبة الربي الى الربوة يحتاج إلى تصرف زائد بقلب الواو ياء ثم حذف الياء مع ان ظاهر الآية توبيخ اصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) في احد لأجل وهنهم بقرارهم وعدم صبرهم في الجهاد في سبيل ربهم وحماية الدين مع ان اصحاب النبيين قالموا معهم في عراهم ذلك فإذا كان اصحاب كل نبي ينسبون إلى الربوة والجموع الكثيرة وعشرات الألوف لم يأخذ التوبيخ موقعه من الحجة لأن الجموع الكثيرة والعشرات من الألوف فما زاد إلى الوف الألوف يعتزون بحسب العادة بكثرة جموعهم وعدد الوفهم مضافاً إلى كون وصفهم بالكثيرين لا فائدة فيه وبهذا تزداد الرواية ضعفا واستيجا باللاطراح اللهم إلا ان يقال انهم ينسبون إلى الربوة وعشرات الألوف فما زاد باعتبار تكرر المعارك الكثيرة مع ذلك النبي وتناوب المجاهدين وفي جميعها يثبتون. وفيه بعد. وعليه يكون المعنى وكم من نبي قاتل معه في جهاده كثيرون فثبتوا وصبروا على ما اصابهم فما لكم لم تصبروا ولم يثبت منكم إلا اثنان ونحو ذلك. وعلى قول الكشاف ايها المنتسبون إلى الرب والجهاد في سبيل ربهم لماذا فررتم ولم تصبروا صبر الكثيرون من المنتسبين بالإيمان والطاعة إلى ربهم الذين جاهدوا في سبيل ربهم مع الانبياء (فما وهنوا لما) اي لأجل ما (اصابهم) من شدائد
ص: 354
سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (143) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (144) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (145) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
-------------------------------------------------------------------
الحرب والجهاد (في سبيل اللّه وما ضعفوا) وهذا يدل على ان معنى الوهن اما ما هو قريب في المعنى من الضعف او هو قسم خاص منه فإن محض التأكيد بالمترادفين بعيد فيمكن ان يراد فما اختل نظام اجتماعهم ولم يعرض لهم الهلع وخمود العزائم وما ضعفت ابدانهم لكونهم استسلموا للرعب والخوف وروعة الحرب (وما استكانوا) الاستكانة الذل والخضوع. ويحتمل ان يكون ذلك تعريضاً بما يروى من ان بعضا هموا بأن يوسطوا عبد اللّه بن سلول ليطلب لهم الأمان من قريش، بل ان الربيون صبروا صبر الكرام في حروبهم (واللّه يحب الصابرين) وكفاهم بذلك فضلاً وفخراً (143 وما كان قولهم) في شدائد الحروب و امثالها (إلا ان قالوا ربنا) (اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في امرنا) قول المستصغر لعمله الخائف من هفوات الزلل والطالب من اللّه التسديد والمغفرة لما سلف (وثبت اقدامنا) في الجهاد في سبيلك وطاعتك قول الصابر الموطن نفسه على الثبات والطالب من اللّه التوفيق والتسديد (وانصرنا) في جهادنا (على القوم الكافرين 144 فآتاهم اللّه) جزاء بما عملوا (ثواب الدنيا) من النصر والفتح وسائر النعم (وحسن ثواب الآخرة) وفي ذكر الحسن بيان لعظمة ثوابهم في الآخرة وان كان كله حسن واي حسن جزاء لإحسانهم (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 145 أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) بالطاعة العامة أو في أمر الجهاد والدين. وقيل ان الآية نزلت في عبد اللّه بن ابي سلول الذي رجع من جيش النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) عن حرب احد بثلاثمائة من اصحابه وصار يخذل المسلمين عن رسول اللّه. وفي الكشاف ومجمع البيان وتفسير البرهان مرسلاً عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نزات في قول المنافقين أي للمسلمين عند الهزيمة ارجعوا إلى اخوانكم وادخلوا في دينهم وعليه يكون مورد النزول من احد المصاديق والآية على عمومها (يردوكم) عن دين الحق والايمان والجهاد إلى الوراء والضلال (على اعقابكم فتنقلبوا) بردهم إلى الضلال (خاسرين) وكفى بذلك هلكة
ص: 355
(146) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (147) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (148) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ
-------------------------------------------------------------------
فلا تطيعوهم (146 بل اللّه مولا كم) وولي أمركم وهو لكم وناصر كم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ 147 سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) قد استفاض الحديث بأن المشركين رجعوا من حرب أحد إلى مكة مرعوبين والآية عامة فقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) منصور ابر عب اعدائه منه كما يشهد به الحديث والتاريخ واحوال المشركين وحروبهم للمسلمين (بما اشركوا) أي بسبب اشراكهم (باللّه ما لم ينزل به) في الميته واستحقاقه للاشراك مع اللّه في الإلهية (سلطانا) وحجة من عنده فإن كل هؤلاء المشركين قد اسوا شركهم على الاعتراف باللّه وإلميته وماله من كمال الإلهية. ولكنهم يزعمون في الشركاء انهم آلهة صغار بحسب ماصوره لهم ضلالهم من الولادة من اللّه او تنزلات الاولمية ونحو ذلك فتقوم الحجة على المشركين بأن اللّه جل شأنه كيف يهمل شأن الإله المتولد منه أو الذي هو من تنزلاته ولا ينزل سلطانا على إلهيته ومقامه فيها واستحقاقه العبادة كما يزعمون فإنه جات آلاؤه لم يترك نبيا يبعثه بدون اقامة الحجة على نبوته لئلا يضيع مقامه وتضيع الفائدة من نبوته فكيف يضيع الفائدة ويبطل الحكمة فلا يقيم حجة ولا ينزل سلطانا بالمية من تواد منه أو صار من تنزلاته. دع عنك هذا التقرير ولكن من اين لهم الحجة على إلهية شركائهم وهل نزل اللّه بذلك سلطانا يحتجون به فإن مرجع ذلك إلى اللّه لا إلى اوهام الضلال. وهذه حجة الزامية على المشركين زيادة على الحجج العقلية على وحدة الاوله وبطلان الشرك وان كل ما يشركونه مع اللّه ملزوم بلوازم المخلوقية والحدوث وامتناع إلهيته (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) المأوى هو المحل الذي يعد وبوتى ليستراح ويحتمي به. والمثوى هو المحل الذي يطول المكث فيه. وجرى التعبير بالمأوى تبكيتاً بسوء عاقبتهم. وان النار مثواهم ومحل مكثهم وبئس المثوى المعد الظالمين (148 ولقد صدقكم اللّه وعده) لكم بالنصر وظهر لكم مصداقه (إذ تحسونهم بإذنه) اي تقتلونهم بنصر اللّه ومشيئته. وفي النبيان الحس هو الفتل على وجه الاستئصال. وفي النهاية حوهم بالسيف حسا استأصلوهم قتلاً. وفي الكشاف تقتلونهم قتلا ذريعا. وعلى هذا يدور كلام
ص: 356
حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ
-------------------------------------------------------------------
اللغويين في كتبهم. قال عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حسا كأننا***نفلق منهم بالجماجم حنظلا
والحسيس القتيل. قال صلائة بن عمرو كما في لسان العرب وغيره
نفسي لهم عند انكسار القنا***وقد تردوا كل قرن حسيس
وقد كان في قتل المسلمين للمشركين في اول الحرب يوم احد قتل استئصال فقد استأصلوا حملة اللواء بني عبد الدار وسرى القتل الذريع في المشركين حتى انهزموا واكب المسلمون على رحالهم للغنائم وكان ذلك القتل والانهزام باذن اللّه ونصره على خلاف الموازنة الحربية ومصادمة القوة بالقوة وكثرة عدد المشركين وعدتهم فقد كانوا نحو اربعة امثال المسلمين المجاهدين. وفي التبيان اذ تحسونهم يوم بدر حتى إذا فشلتم يوم احد. وفي مجمع البيان اكثر المفسرين على ان المراد بالجميع يوم احد ونقل ما ذكره التبيان عن ابي علي الجبائي. وما ذكرناه مقتضى سوف القرآن فهو الظاهر وعليه روابتا ابن عباس في الدر المنثور وان كان فيما صححوه منها ظهوره في حضور ابن عباس يوم احد وهو خلاف المعروف من التاريخ من ان ابن عباس لم يكن حينئذ مهاجراً بل لم تعرف هجرته إلا بعد فتح مكة (حتى إذا فشلتم) أي ظهر مصداق وعد اللّه لكم بالنصر وصر تم تقتلونهم قتلا ذريعا ودام ذلك حتى إذا فشلتم انقطع ذلك بسبب فشلكم وما جرى منكم. وفسر الفشل بالجين اي جبنهم حينما كر عليهم المشركون بعد فرارهم. وعلى هذا يكون العطف بعد ذكر الفشل على خلاف الترتيب وهو سائغ مع الواو (وتنازعتم في الأمر) ومن ذلك ما وقع من الرماة اصحاب ابن جبير في الشعب حيث رغب اكثرهم في الغنيمة وخالفوا امر الرسول وفارقوا الثابتين الأمرين لهم بالثبات في مركزهم (وعصيتم) بالذهاب من الشعب الى الغنيمة وفراركم عن رسول اللّه (من بع---د ما اراكم) اللّه (ما تحبون) من النصر وقتلكم لهم وهزيمتهم (149 منكم من يريد الدنيا) فآثر الغنيمة على طاعة الرسول أو آثر الحياة الدنيا بالفرار على الجهاد في سبيل اللّه (ومنكم من يريد الآخرة) فثبت وجاهد جهاد الصابرين (ثم صرفكم عنهم) عطف على صدقكم اللّه اي صرفكم
ص: 357
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (150) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا
-------------------------------------------------------------------
بما اقتضاه التقدير في احوال الحرب والتخاذل فيها فو كاكم إلى انفسكم (ليبتليكم) اللام للغاية أي ومن غايات ما جرى ان يمتحنكم وتظهر اعمالكم فيرفع اللّه درجات الصابرين (ولقد عفا عنكم) أي عمن خالف ولم يصبر وهذا العفو من فضل اللّه ببركة ايمانكم (واللّه ذو فضل على المؤمنين 150 إذ تصعدون) «اذ ظرف لصرفكم والمراد فرارهم و «تصعدون» بضم التاء من «اصعد» بمنى دخل واخذ في الصعود إلى الجبال مثل «انجد. واتهم» او دخل في الصعود في الأرض اي السير فيها قال حسان : «يبارين الأعنة مصعدات» وقال الآخر «هواي مع الركب اليمانين مصعد» ولا تلتفتون في فراركم واصعادكم (ولا تلوون) ابدانكم (على احد) سواء كان داعياً منكم الثبات أو مستجيراً بأحدكم او عدوا محاربا (والرسول يدعوكم) إلى نصره و جهاد المشركين. قبل وكان دعاء. (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ) إلى عباد اللّه ارجعوا انا رسول اللّه (في اخراكم) أخرى القوم الجماعة التي هي آخر هم والظاهر ان الجار والمجرور متعلق بيدعوكم كما يقال نادي في الناس. وهذا يقتضي بأن أوائلهم قد امعنت بالفرار وبعدت فيكون الدعاء والنداء في اخراهم. ويجوز ان يكون حالا من الفاعل في «يدعوكم» أي حال كونه في الجماعة التي هي اخراكم من ناحية العدو والقتال والمراد منها الثابتين (فأثابكم) اللّه وهو عطف على صرفكم أي جزاكم. والثواب الجزاء على الطاعة والمعصية وان كثر استعماله في الطاعة (غما بغم) في النبيان غما على غم وقبل مع غم. وفي تفسير القمي والدر المنثور في تفسير غما بغم ببيان السبب للغم روايات لا تنهض حجة للتعويل عليها خصوصاً مع التعارض في روايات الدر المنثور. وفي الكشاف غما بسبب غم أذقتموه رسول اللّه بعصيانكم انتهى ولا حجة على ما قال وقال بعد ذلك ما حاصله يجوز ان يكون فاعل اثابكم هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) أي كما اغتممتم لما اصابه غمه ما نزل بكم وآسا كم بغمه لتسليتكم لكي لا تحزنوا الآية انتهى وهو اجنبي عن سوق الآيات وحال الواقعة. والغم معروف وان فسر بالحزن لكن الاستعمال والتبادر يشهدان بأنه عبارة عن حالة معروفة تعرض على الإنسان عند المصائب والحزن يضيق بها صدره وهي اقرب إلى معنى الكرب من الحزن (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) من
ص: 358
تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (151) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى
-------------------------------------------------------------------
الظفر بعدوكم وانتصار كم عليه (وما اصابكم) من اثم المعصية اللّه والمخالفة لرسوله والهزيمة ووبالها الدنيوي من الانكسار والوهن والخوف والرعب من كرة العدو عليكم وعلى بلادكم واهليكم هذا هو الظاهر من السياق أي واثابكم غما بغم والغاية من تراكم الغموم عليكم ان تذهلوا عن الحزن المذكور (واللّه خبير بما تعملون) لا تخفى عليه من اعمالكم ووجوهها خافية (151 ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ) أي يشغلهم ويغفلهم عن الخوف فتساوي حالتهم حالة الأمن كقوله تعالى في سورة الأنفال في ذكر وقعة بدر 11 «اذ يغشاكم النعاس امنة منه» وهذا نحو من اللطف بهذه الطائفة الذي عراهم في جملة غمومهم غم المعصية بالفرار خوفا من اللّه وندما على الذنب (وطائفة) أخرى منكم وهم الذين لم يكونوا أهلا لهذا اللطف بل هم مرتكسون في همومهم وغمومهم (قد اهمتهم انفسهم) في امر الحياة الدنيا وقد يئسوا من النصر «طائفة» مبتدأ وجملة قد اهمتهم خبر (يظنون باللّه غير الحق) في وع---ده لرسوله بالنصر وان يظهروا على الدين كله (ظن الجاهلية) والجملة خبر ثان (يقولون) حال من ضمير «يظنون» او خبر ثالث (هل لنا من الأمر من شيء) أي من النصر وان لم يكن خطابا لرسول اللّه بل فيما بينهم فيحتمل ان يريدوا من الأمر الحق ويكون استفهامهم انكار با كما يومي اليه ما يأتي (قل) لهم يا رسول اللّه في جواب سؤالهم منك أو محاورتهم فيما بينهم (أن الأمر كله اللّه) وبسده ازمة الأمور (يخفون في انفسهم) عليك (ما لا يبدون لك يقولون) في انفسهم او فيما بينهم في محاورتهم (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل)، يا رسول اللّه للناس في بيان الحقيقة ما يكون جوابا لما اخبرتك به مما يخفيه عليك هؤلاء ان امر القتل تابع للتقدير والقضاء ليفوز الشهداء بسعادة الشهادة ويهلك المنافق والمشرك. (ولو كنتم) يا ايها الناس (فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) في الشهادة او الهلاك على حكم قضاء
ص: 359
مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (152) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (153) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ
-------------------------------------------------------------------
اللّه. ومن غايات ذلك ان يفوز السعيد بسعادته ويشقى الشقي بهوانه (وليبتلي اللّه ما في صدور كم) ويظهر مكنونها من الطاعة والنفاق. والتعليل بلام الغاية معطوف على غاية مقدرة كما ذكرناه ونحوه مما يدل عليه السياق (وليمحص ما في قلوبكم) ويخلص ما في قلب المؤمن المجاهد الصابر من النيات الصالحة والإيمان الثابت ويميز ذلك عما في قلوب غير الصابرين وقلوب المنافقين والكافرين (واللّه عليم بذات الصدور) وما فيها ولكن الابتلاء والتمحيص لظهور ذلك في الخارج بعروض المحركات (152 ان الذين تولوا منكم) منهزمين (يوم التقى الجمعان) في احد (إنما استزلهم الشيطان) واوقعهم بالذلة (ببعض ما كسبوا) اي بسبب انقيادهم اليه بما كسبوه من الذنوب التي سهلت له استزلا لهم بمثل هذا الذنب الكبير (ولقد عفا اللّه عنهم) بسبب توبتهم وبركة الرسول الأكرم (ان اللّه غفور) لمن يحسن التوبة (حليم) فلم بما جلهم بالعقوبة (153 يا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) باللّه فينسبون حوادث الكون الى صدفة اسبابها العادية دون تصرف اللّه في العالم وجريان الأمور بمشيئته وتقديره وقضائه (وقالوا لاخوانهم) الذين من قبيلهم وقومهم أي في شأن اخوانهم (إذا ضربوا في الأرض) سفرا عاديا (أو كانوا غزى) ومات بعضهم أو قتل. والغزى جمع غاز كشهد وعود جمع شاهد وعائد. وجي، بكامة «إذا» لأن هذا القول منهم كلي وظرفه كلي بالنسبة للسفر وللغزو وليس الظرف وقتا شخصيا لكي يقال «إذ» (لو كانوا عندنا) ولم يسافروا ولم يغزوا (ما ماتوا وما قتلوا) يعتقدون ذلك بكفرهم وسوء رأيهم ويقولونه (ليجعل اللّه) أي ومن غايات ذلك ان يجعل بتقديره (ذلك) الاعتقاد وذلك القول (حسرة في قلوبهم) اي بسبب حسرة إذ يأسفون و يمولون في اسفهم و حسراتهم لماذا تركناهم يسافرون لماذا تركناهم يغزون (واللّه يحيي ويميت)
ص: 360
وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (154) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (155) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (156) فَبِمَا رَحْمَةٍ
-------------------------------------------------------------------
بيده أمر الحياة والموت لا كما يزعمون بكفرهم. فكم من حاضر وهو في صحة ودعة قد اماته اللّه من مسافر وغاز يقاسي الشدائد والأهوال ويرده اللّه سالما (واللّه بما تعملون) يا ايها الذين آمنوا أو يا ايها الناس (بصير) لا يخفى عليه شيء منها ولا من وجوهها فاتقوا اللّه في اعمالكم ومنها اقوالكم (154 ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم) لكان لكم الجزاء العظيم ووقع اجركم على اللّه ومن اجركم المغفرة والرحمة ومن ذا الذي لا يحتاج اليهما و (لمغفرة) من مصاديق المغفرة من اللّه (ورحمة) من مصاديق الرحمة (خير مما يجمعون) من حطام الدنيا (155 وائن متم او قتلتم) يا ايها الناس (لإلى اللّه تحشرون) وعدا مؤكدا بلامي القسم ولا تفوتونه بل يجازيكم بأعمالكم ان خيراً فخير وان شراً فشر. او ولئن متم أو قتلتم في سبيل اللّه لا إلى اللّه تحشرون وعليه تقدمون فيوفيكم اجوركم (156 فبما رحمة) قال في التبيان ان «ما» زائدة جاءت مؤكدة للكلام وزاد في مجمع البيان باجماع المفسرين. ودعواه الاجماع في غير محلها فقد حكى في التبيان عن الحسين بن علي المغربي ان «ما» بمعنى «أي» أي بأي رحمة. وحكاه ابن هشام عن جماعة وان اورد عليه ما لا يرد وفي حواشي المغني الشمني عن ابي البقا عن الاخفش وغيره وحكى نقله ايضا عن ابن كيسان. وقال السيد الرضي في حقائق التأويل ولأبي العباس المبرد مذهب انا اذهب اليه وهو انه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن الا لمعنى مفيد وقال الرضي ايضا ان «ما» معناها تفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم. ومرجعه إلى ماقاله الحسين واليه يرجع اختيار الرازي ان المعنى فبأي رحمة. والمقصود أي المفيدة للتفخيم كما تقول أي رجل هذا. وكثير ممن ذكرنا متقدمون على مجمع البيان وهم اساطين الفن وصيارفة اللغ---ة والمرجع في امثال ذلك. وقال الرازي في تفسيره قال المحققون دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام احكم الحاكمين غير جائز : وقال عنتر في معلقته
يا شاة ما قنص أن حلت له***حرمت علي وليتها لم تحرم
فإن معنى «ما» معني «اي» التعجبية لغرض التفخيم وكرامة قنصها بكرامتها ظاهر من
ص: 361
مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (157) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (158) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ
-------------------------------------------------------------------
الشعر وقال الفند الزماني: أبا طعنة ما شيخ***كبير يفن بال
إلى ان قال : تفتيت بها إذ كس***ره الشكة امثالي
فإن قوله تفتيت بها يدل على ان «ما» للتعجب بتعظيم أمر الشيخ في طعنه وقال الفرزدق :
نادیت انك ان نجوت فبعدما***يأس وقد نظرت اليك شعوب
أي بعد أي يأس شديد. هذا والذين رأيناهم يقولون بزيادة «ما» في الآية يقولون انها زيدت للتأكيد. أفلا قائل يقول لهم على أي وجه يكون التأكيد ولماذا يؤكد. نعم يجدون لها معنى لا تنطبق عليه قواعدهم القاصرة المستحدثة فيلتجئون إلى تسميته بالتأكيد (من اللّه) عليهم بل على سائر البشر (لنت لهم) وصرت تحتملهم وتعطف عليهم في اختلاف آرائهم وأحوالهم و مما يصدر منهم مما لا يرتضى لكي ينضموا اليك ويهندوا بهداك فيقام عمود الدين وتنتظم جماعة الإسلام وتنقمع شوكة الكفر والضلال (ولو كنت فظا غليظ القلب) فسره في التبيان والكشاف بالجافي قاسي القلب وهو نحو من انحاء ما ذكره اللغويون (لا نفضوا من حولك) وتفرقوا عنك ولكنك على خلق عظيم وبالمؤمنين رؤوف رحيم (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) الذي يعرض أي واستصلحهم واستمل قلوبهم بالمشاورة. لا لأنهم يفيدونه سداداً او علما بالصالح.. كيف وان اللّه مسدده وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى (فإذا عزمت) على ما اراك اللّه بنور النبوَّة وسددك فيه (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) عليه (157 إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) ويكلكم إلى انفسكم (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) شبه جل شأنه في خذلانه لهم باستحقا و هم الخذلان بمن اعرض عنهم وجاوزهم (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) واليه يكون التجائهم (108 وما كان لنبي ان يغل) بفتح الياء والغلول هو الخيانة في الغنيمة. والمعني لا يقع الفلول من الأنبياء وما وقع هذا من احدهم
ص: 362
وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (159) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
-------------------------------------------------------------------
لأنهم معصومون وامناء اللّه. واورد في الدر المنثور روايات عن ابن عباس وفي تفسير البرهان عن الصدوق بسند فيه جهالة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الآية نزلت في شأن قطيفة حمراء فقدت من الغنيمة يوم بدر فقال بعض الناس أخذها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وفي الرواية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأظهر اللّه رسوله على القطيفة ونزات هذه الآية. وفي الروايات عن ابن عباس تعارض (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) ويفضحه اللّه به من اول حشره (ثم توفى كل نفس ما كسبت) أي توفى جزاء ما كسبت عندما يكون الحساب والجزاء فيوفى جزاء ما كسب من الغلول وغيره كما توفى كل نفس جزاء ما كسبت ان خيرا فخير وان شراً فشر تجزاه وافيا أي تاما ما لم يتب المذنب في الدنيا ويتوب اللّه عليه فيكون كمن لا ذنب له (وهم لا يظلمون) بجزاء المسيء بغير ما كسب ولا ينقص جزاء المحسن (159 أفمن البع) في اعماله وأقواله وترو كه ودينه و انقياده بالطاعة والاقتداء والاهتداء والاتباع لمن جعل اللّه ولي امره وفي معاملته مع الناس ومداخلته في امورهم الخاصة وما يعود إلى الهيئة الاجتماعية (رضوان اللّه) بأن نظر في كل أمر من هذه إلى رضا اللّه فيه بحسب ما يدل عليه دين الحق وشريعة اللّه. ونور الحق المبرأ من الاهواء. ورشاد الفطرة وحاسب نفسه فيه وجعل رضوان اللّه مقصوده الأصلي ومتبوعه الوحيد الذي يسير به في نهج الحق والصراط المستقيم والسعادة العظمى. قال من رأينا كلامه من اللغويين والمفسرين الرضوان كالرضا مصدر رضي : لكن الظاهر من موارد الاستعمال كونه اسم مصدر وان معناه أوفر من معنى الرضا. وهل يكون المتبع لرضوان اللّه على ما ذكر (كمن باء) أي رجع بسوء اعماله ومعاصيه ونكوصه عن النهج القويم (بسخط من اللّه) وصار بذلك عضوا فاسداً وبيئا في المجتمع البشري (ومأواه جهنم وبئس المصير) ولعمر الحق ان هذا التعليم الفائق على ايجازه ليضمن اتباعه وسلوك نهجه فضيلة الصلاح وفوز السعادة الفردية والاجتماعية وان كل تخلق بالأخلاق الحسنة لا تقوم حياته بروح الانباع لرضوان اللّه انما هو كصورة المرآة وظل زائل، و سراب خادع، ولئن راقت صورته المموهة فإنما هو للهيئة الاجتماعية كالسم في
ص: 363
(160) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (161) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
-------------------------------------------------------------------
الدسم : وحكى في البيان ومجمع البيان والدر المنثور حمل الآية على موارد خاصة ولا مستند لذلك في مخالفة ظاهر الآية في العموم الا أقوال سعيد بن جبير، والضحاك وابن جريح ومجاهد وفي تفسير البرهان عن الكافي بسند فيه ضعف وعن العياشي مرسلا عن عمار عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان الذين اتبعوا رضوان اللّه هم الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ). والرواية لا تنهض حجة على الحصر. نعم هم صلوات اللّه عليهم في هذه الأمة اظهر الأفراد وأعلاهم درجة (160 هم درجات عند اللّه) في التبيان والمجمع تقدير الآية هم ذووا درجات. المؤمنون ذووا درجات رفيعة والكفار ذووا درجات خسيسة وفي الكشاف نسب هذا إلى القيل «وقال قبله ولم يبين مرجع الضمير أي هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات» : يعني انهم شبهوا في تفاوتهم بالدرجات فأخبر عنهم بها على نحو الاستعارة كما يقال زيد اسد بالنظر إلى الشجاعة وهو باب من ابواب البلاغة واولى من التقدير وأظهر والرازي في تفسيره جعل عود الضمير على خصوص من اتبع رضوان اللّه اولى واستدل لذلك بوجوه اربعة لا تنهض حجة نعم في رواية عمار المشار اليها ما يقتضي ذلك بوجه آخر لو كانت حجة (واللّه بصير بما يعملون 161 لقد من اللّه على المؤمنين) وانعم عليهم بالنعمة العظيمة (إذ بعث فيهم) ليبتدئ بهم بحسب الحكمة في الدعوة العامة لجميع البشر (رسولاً من انفسهم) اضافة الأنفس اليهم باعتبار العربية والقومية والنشأة معهم بحيث يكونون مطلعين على احواله ووجوه كماله وملكاته الفائقة في الصدق والأمانة ونحو ذلك مما يقتضي ركون النفس اليه ويدعو إلى تصديقه والاقبال على الايمان به. ويعرفون بكونه منهم اسانه و محاوراته وينقادون اليه ولا تمنعهم نخوة العربية وعصبية القومية من ان ينقادوا اليه لو كان من غير العرب. فكان من عظيم اللطف بالعرب والمنة عليهم ان سهل عليهم طريق الإيمان برسول اللّه يجعله منهم فرفع بذلك ما يقتضيه جهلهم ونخوة القومية والعربية من المعاثر. ومن منه جلت آلاؤه ان جعل الدليل على الرسالة ومعجزها بلغتهم كما ذكرنا ذلك في المقدمة في حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن الكريم. فصار الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (يتلو عليهم آياته) آيات اللّه من القرآن فيفهمون معانيها واشاراتها بدون ترجمة تعسر عليهم (ويزكيهم ويعلمهم) بتلاوته
ص: 364
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (162) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (163) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (164) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
-------------------------------------------------------------------
وتبليغه وخطبه ومواعظه وبيانه (الكتاب والحكمة وان كانوا) الواو للحال و «ان» المكسورة مخففة من المثقلة تفيد التأكيد والتحقيق لأنهم (من قبل) أي من قبل ان يبعث فيهم ويؤمنوا به (لفي ضلال مبين) من حيث المعارف والشريعة والاخلاق والصلاح والعدل والمدنية : يا ايها المسلمون من اصحاب احد بحسب نوعكم (162 او لما) خالفتم امر الرسول واخليتم مراكز كم للجهاد وانهمكتم بالغنيمة وفررتم ذلك الفرار و (اصابتكم مصيبة) لم تكن اصابتكم في اول جهادكم وثباتكم مع عاقبة المشركين المحاربين لكم بل (قد اصبتم) من المشركين (مثليها) فقد قتل منهم في بدر واحد مثلي ما قتل منكم في يوم أحد. او ان مصيبة المشركين في يوم بدر بقتلاهم واسراهم مثلا مصيبتكم في يوم أحد (قلتم) جواب لما (أنى هذا) الذي اصابنا ومن اين جاءنا تقولون ذلك استيحاشا واستعظاما (قل) يا رسول اللّه في جوابهم (هو من عند انفسكم) إذ خالفتم الرسول واسرعتم إلى الغنيمة، أو إذ خالفتم الرسول كمارواه في الدر المنثور عن ابن عباس. او اذ طمعتم في وقعة بدر بغداء الأسرى وانذركم رسول اللّه بأنه يقتل منكم بعد دهم فرضيتم كما في الدر المنثور انه اخرجه ابن ابي شيبة والترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن علي امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي مجمع البيان وهو المروي عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ). ان اللّه قادر على ان ينصركم كنصر بدر واعز منه كما رأيتم مظهر النصر في اول الحرب يوم احد (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 163 وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) من قتل وجراح (فباذن اللّه) وتقديره للحرب والجهاد في سبيله لينال الشهادة من فاز بها (و) فيه غابة اخرى وهي تمييز الطيب بجهاده من الخبيث بنفاقه ورجوعه من الجيش (ليعلم) ليثبت علمه الأزلي التابع ويقارن في استمراره وجود المعلوم (المؤمنين) الذين اتبعوا رسول اللّه الجهاد (164 وليعلم الذين نافقوا) وهم عبد اللّه بن ابي سلول واتباعه (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه او ادفعوا) عن قومكم وبلادكم وحفائظكم ان لم تكن لكم رغبة في
ص: 365
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (165) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (166) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (167) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ
-------------------------------------------------------------------
الجهاد في سبيل اللّه (قالوا) في التعلل والنفاق مع ان العدو نزل بعدته وعديده بساحتهم وهو يتغيظ حنقا. والقتال معلوم بمجاري المادة واحوال العرب (لو نعلم قتالا لا تبعناكم) وكذبوا (هم للكفر يومئذ) بنفاقهم (أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق والتحيز للكفر (واللّه اعلم بما يكتمون 165 الذين) صفة للذين نافقوا (قالو الاخوانهم) أي في شأن اخوانهم بحسب القبيلة والقومية (وقعدوا) الجملة اما حالية باضمار «قد» على رأي البصرين والفراء او بعدم الاضمار على رأي الكوفيين والأخفش، واما معطوفة بالواو التي هي لمطلق الجمع أي قعدوا عن القتال ورجعوا من الجيش إلى المدينة (لو اطاعونا) بالقعود وعدم الذهاب إلى الحرب (ما قتلوا) وقولهم هذا يرجع إلى جحودهم لكون أمر الموت او القتل بيد اللّه وبتقديره وقضائه بل ينسبونها إلى اسباب يمكن دفعها والتحرز عنها. فكأنهم لا ينظرون إلى انه كم شجاع بقذف نفسه في وطيس الحرب والهوات الموت ثم يرجع إلى اهمله باذن اللّه سالما. وكم من صحيح وادع في اهله قد طرقه الموت باذن اللّه في مأمنه (قل) يا رسول اللّه لهم في رد زعمهم ان الموت مما يستدفع ويتحرز منه (فادرأوا) وادفعوا (عن انفسكم الموت ان كنتم صادقين) في زعمكم ومغزى قولكم لو أطاعونا ما قتلوا (166ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواناً) على ما يتوهم المتوهمون من بطلان ادراكهم وصيرورتهم كالجمادات. والخطاب صورته للرسول الاكرم ومنحاه تعليم الناس (بل) هم (احياء عند عن ربهم) القادر الرحيم (يرزقون) ما يتنعمون به في تلك الحياة السعيدة والعالم الحميد حال كونهم (167 فرحين بما آناهم اللّه من فضله) من النعيم ويعرفون احوال أهل الدنيا و يسرون بصلاحهم ونجاتهم به من استحقاق العقاب (ويستبشرون) عطف على فرحين (بالذين لم يلحقوا بهم من
ص: 366
خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (168) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (169) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
-------------------------------------------------------------------
خلفهم) بالموت او الشهادة اي يستبشرون بسعادتهم بصلاحهم (الا خوف عليهم) في الآخرة اي بأن لا خوف عليهم (ولا هم يحزنون) في يوم الجزاء (168 يستبشرون) حال آخر كفرحين (بنعمة من اللّه) عليهم في نعيمهم (وفضل و) ب (ان اللّه لا يضيع اجر المؤمنين) بل يوفيهم جزاء هم (169 الذين) مبتدأ (استجابوا اللّه والرسول) إذ دعاهم الرسول إلى اتباع جيش المشركين في رجوعهم من حرب احد ارهابا لهم قلبوا دعوته (من بعد ما اصابهم القرح) بتلك النكبة وكثرة الجراح فتبعوهم مع رسول اللّه إلى حمراء الأسد وهو سوق العرب على ثمانية اميال من المدينة ورجعوا ولم يلاقوا حربا (1) (الذين احسنوا) اعمالهم في الحياة
ص: 367
أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
-------------------------------------------------------------------
الدنيا ودار العمل أي جعلوا أعمالهم حسنة نحو قوله تعالى من أحسن عملا (منهم واتقوا أجر عظيم) الجملة خبر «الذين» وكم وكم ينبغي للانسان ان يتحذر وبلازم التقوى، ويراقب عاقبته، ويحاسب نفسه في ايام عمره ويتحرى الإخلاص للّه في اعماله فإن هؤلاء الذين استجابوا اللّه والرسول في تلك الشدة وذلك الفرح لم يجر شكر الاستجابة والوعد بالأجر الجميعهم على رسله بل قسمهم مفاد الآية في تبعيضها إلى اللذين أحسنوا منهم واتقوا وإلى غيرهم وخص الوعد بالأجر بالقسم الأول. فيكون الثناء والأجر في حقيقة الأمر في هذه الآية واللمنين بعدها إنما هو للبعض وان كانت صورته جارية على نوعهم. كما جرى مثل ذلك في الآية الأخيرة من سورة الفتح في قوله تعالى «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ» وذكر الثناء الجميل إلى أن قال جل وعلا «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا» فقسمهم بكلمة «منهم» ايضا ذلك التقسيم المرعب و كشف بتقسيم هاتين الآيتين عن حال الاطلاق او العموم في غيرهما وابان ان جريانه في نفس الأمر إنما هو على البعض لا الكل وياللاسف وفي الكشاف ان «من» في «منهم» للتبيين مثلها في قوله تعالى في اخر سورة الفتح وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة لأن الذين استجابوا اللّه والرسول قد احسنوا كلهم وانقوا. وحكى ابن هشام في المغني نحوه عن ابن الانباري، ومن الغريب ممن يعد من النوابغ في النحو والعربية والخبرة بكرامة القرآن الكريم في فصاحته وبلاغته وكيف يخفى عليه انه يلزم في «من» التي لبيان الجنس ان يكون ما تبينه فيه ابهام في جنسه ويكون في مجرورها بيان يرفع ذلك الابهام ويتكفل بايضاح المراد ويصح ان يحمل على ما يبينه حملاً مفيداً ببيانه. إذن فماذا في قوله تعالى «منهم» من الايضاح الجديد الرافع للابهام وما هي الفائدة في البيان في قول القائل الذين احسنوا واتقوا هم : وحكى في تفسير المنار عن استاذه اختياره لكون «من» في الآية للتبعيض لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج إلى حمراء الأسد يعني ان الضمير في «منهم» يعود إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة أقول وهذا
«عسفان» على نحو مرحلتين من مكة فساهم اهل مكة جيش السويق ويقولون لهم انما خرجتم تشربون السويق.
ص: 368
(170) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
-------------------------------------------------------------------
لا يصح إذا كان الموصول وهو «الذين» في اول الآية مبتدألأن خبره و هو جملة «الذين» يبقى بلا رابط واذا بني التلميذ صحة ما قاله استاذه على نصب «الذين» على المدح واقول ان النصب على المدح مبني على ان يكون الموصول وهو «الذين» صفة للمؤمنين نحو قول الخرنق بنت عفان من بني قيس :
لا يبعدن قومي الذين هم***سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك***والطيبون معاقد الأزر
وليس في هذا النصب على المدح عطف يدل علي المغايرة. بل لو كان هناك عطف لما اقتضى المغايرة بل جرى على نهج قوله تعالى في سورة البقرة «172 والصابرين في البأساء» وفي سورة النساء (160 والمقيمين الصلاة) إذن فيعود التبعيض والتقسيم إلى الذين استجابوا و من أين يعرف ؟ ان «الذين» هنا منصوب على المدح فينأمل في كلام صاحب المنار واستاذه في هذا المقام. وليت شعري ما هذا التكاف في تفسير الآية مع اجماع الأمة على انه ليس كل الصحابة معصومين (170 الذين) بدل من «الذين» التي هي مبتدأ باعتبار البعض او م----ن المجرورة باللام باعتبار الكل وهو الأظهر (قال لهم الناس) أي بعضهم. قيل ركب من التجار وقيل نعيم بن مسعود الأشجعي (1) و في النبيان والمجمع وهو قول ابي جعفر وابي عبد اللّه اي الباقر والصادق عليها السلام (ان الناس) اي المشركين (قد جمعوا لكم) جندا لحربكم (فاخشوهم فزادهم) ذلك القول (ايمانا) باللّه ودين الحق ووجوب نصره والجهاد في سبيله او بوعده بالنصر (وقالوا حسبنا اللّه) ناصرا على جموعهم (ونعم الوكيل) عليهم وفي النبيان والمجمع والكشاف الذي يوكل اليه الأمر. وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي رافع ان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وجه عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نفر معه في طلب ابي سفيان فلقيهم اعرابي من خزاعة
ص: 369
(171) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (172) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ
-------------------------------------------------------------------
فقال ان القوم قد جمعوا لكم فقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية أقول ويمكن ان يكون امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع النفر كانوا في مقدمة الطلب أو طلبوهم من حمراء الأسد (171 فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل) ولا تخفى دلالة التفريع بالفاء على ان هذا الانقلاب بالنعمة والفضل كان من المدير الذي استجابوا به اللّه والرسول كما ذكر في الآيتين السابقتين فلا وجه ولا صحة لجعل المراد بالاستجابة هو المسير إلى حمراء الأسد والمراد من الانقلاب بالنعمة والفضل هو الرجوع من غزوة بدر الصغرى في العام الثاني كما في الرواية التي ذكر في الدر المنثور انها اخرجها النسائي وابن ابي حاتم والطبراني بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس وجرى تفسير الكشاف على نهجها في التفريق على خلاف التفريع في الآية الكريمة (لم يمسسهم سوء) من حرب او نكبة (واتبعوا رضوان اللّه) في استجابتهم هذه. وهنيئا لمن دام على الاحسان والتقوى كما شرطه اللّه ففاز بسعادة الاجر العظيم (واللّه ذو فضل عظيم) ومن فضله وفقوا لهذه الاستجابة وانقلبوا بنعمة منه وفضل (172 إنما ذلكم الشيطان) هذا تشجيع للمؤمنين على الاقدام على الجهاد وحاصله ان الذين ارادوا ان تخافوا المشركين بقولهم ان الناس قد جمعوا لكم انما نشأ من تسويل الشيطان ودسائسه في ترويج الضلال فإنه يخوف المؤمنين اولياءه الضالين حماية منه للكفر والضلال (يخوف اولياءه) تتعدى خاف إلى مفعول واحد تقول خفت الكلب وتتعدى بالتشديد إلى مفعول ثان كما تقول خوفني عمرو الكلب وقد يحذف المفعول الثاني كما تقول خوفني عمرو وقد يحذف المفعول الأول كما تقول خوف عمرو الكلب وكما في الآية فهي كما اذا قيل بخوفكم اولياءه كما يروى من قراءتي ابن عباس وابن مسعود ولكن لفظ «يخوف» في القراءة العامة أعم وأنتم من الفائدة في مقام الذم لا بلبس وعموم تخويفه للناس اولياءه وعموم اوليائه في النهي عن خوفهم بنحو يفيد البشرى بالأمن من شرهم لا خصوص قريش (فلا تخافوهم) أي اولياء الشيطان فإن اللّه ناصر كم كما وعد كم ليقطع طرفا من الذين كفروا او يكبتهم فينقلبوا خائفين (وخافون) فإن السعادة في خوف العبد ربه
ص: 370
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (173) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (174) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
وثقواه (ان كنتم مؤمنين) باللّه ووعده بالنصر وانه يجب ان يطاع في امره ونهيه وانه مالك أمر النفع والضر، شديد العقاب واليه يرجعون : يا رسول اللّه (173 ولا يحزنك) بفتح الياء وضم الزاي يجيئ «يحزن» بفتح الياء والزاي للقاصر وبضم الزاي للمتعدي وفي المصباح وهي لغة قريش اقول وعليها استعمال القرآن الكريم كما في هذه الآية وثمانية موارد من سائر السور وعلى هذه اللغة جاء محزون في اسم المفعول في اللغة العامة. والحزن معروف (الذين يسارعون في الكفر) ويقتحمون جامحين في وجوه ضلاله ونزغات غيه من دون تريث في اتباع الهوى ومحادة اللّه والتمرد عليه ولا ترو للنظر في حجج الإيمان ودلائل الحق، ولا اصغاء إلى داعي الهدى. ومن المعلوم ان هؤلاء وامثالهم قد خرجوا بتمردهم عن اهليتهم الطف اللّه ورحمة الرسول فلا يحزن الرسول رحمة لهم بل يحزن لمحادتهم اللّه وتمردهم على الإيمان به ولذا كانت تسلية اللّه لرسوله بقوله جل اسمه (انهم لن يضروا اللّه شيئا) فإن اللّه غني عن العالمين و «شيئا» واقع موقع المصدر أي شيئا من الضرر ولوقوعه في حيز النفي يفيد العموم. ولأجل ما ذكر من تمردهم ومسارعتهم في الكفر خرجوا عن اهلية اللطف وحرموا انفسهم خيره فلأجل ذلك (يريد اللّه ان لا يجعل لهم حظا) أي نصيبا من الخير (في الآخرة) أي يريد حرمانهم وعبر بالارادة تأكيدا لبيان وقوع الحرمان بأنه تعلقت به ارادة اللّه وما ربك بظلام للعبيد (ولهم) فوق ذلك (عذاب عظيم) جزاء بما كانوا يكفرون (174 ان الذين اشتروا الكفر بالإيمان) بعد ما اتضحت حجج الحق وبراهين الإيمان من الفطرة والآيات ودعوة الرسول ونور الدلالة فكان الإيمان بعد ذلك كأنه في حوزتهم فرغبوا فيه وتركوه واختاروا الكفر كما يرغب المشتري عن الثمن ويستبدل به المبيع الذي يرغب فيه. ويحتمل ان يراد منهم في هذه الآية أولئك المسارعون في الكفر فتكون الآية تأكيدا للتي قبلها في الأمر الذي يناسب الحال تأكيده. ويحتمل ان يكون المراد من يعم أولئك المسارعين ومن هو دونهم في النمرد فتفيد الآية عموما وتأكيدا في ضمنه ولعله اظهر (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 175 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ)
ص: 371
(175) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (176) مَا كَانَ اللَّهُ
-------------------------------------------------------------------
في اعمارهم ونرخي لهم في آجالهم لا نعاجلهم بالعقوبة والاهلاك (خير لأنفسهم) اي لكل واحد بحسب نفسه التي هي اعز الأنفس عليه واولاها بطلبه الخير لها. وليجري الكلام على هذا النص فلا يوهم ان الخير وازدياد الاثم برجمان إلى المجموع كما لو قيل «لهم» (انما عملى لهم ليزدادوا اثما) اللام في «ليزدادوا» للعاقبة مثلها في قوله تعالى في سورة القصص 7 فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا والحصر في «إنما» إنما هو باعتبار العاقبة وان الاملاء لهم ليس في عاقبته ما داموا على الكفر خير (ولهم عذاب مهين) يرون به هوانهم بما كفروا (176 ما كان اللّه) في الآية بحسب الأقوال وجوه «الاول» في الدر المنثور اخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس ان الخطاب في هذه الآية للكفار وذكر احتمال ذلك في التنبيان وكذا في مجمع البيان بنحو تشويش. ولم يذكره في الكشاف وتفسيري الرازي والمنار من اسناده فكانهم لم يعتنوا به. ومقتضى تفسير ابي السعود ان مختار المحققين غيره. وعليه يكون المعنى یا ايها الكافرون ما كان اللّه بحسب لطفه بعباده ان يتركهم بلا ارسال رسول ولا دعوة حق ويذر المؤمنين على ما انتم عليه من الكفر بل يقيم الحجة وينير البرهان فيؤمن الطبيبون وان عاند اشقياء الضلال وطواغيت الكفر فيميز بذلك الخبيث بضلاله من الطيب الذي يختار هدى الإيمان وربما يستشهد لهذا الاحتمال بقوله تعالى في الآية الثانية في طرد الخطاب «فآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» ولكن لا شهادة في ذلك اذ قد جرى امثاله في خطاب المؤمنين كما في سورة النساء 58 «يا ايها الذين آمنوا - ان كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر «135 يا ايها الذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله» ومحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بعد خطاب الذين آمنوا في الآية الثانية والثلاثين 35 «وان تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم» والأنفال في خطاب المؤمنين بخمس الغنائم «ان كنتم آمنتم باللّه وما انزل على عبدنا» وغير ذلك. مضافا إلى ان الظاهر في خطاب القرآن كونه خطابا للمؤمنين وحمله على غيرهم يحتاج إلى قرينة وهي مفقوده فضلا عن كون السياق في الآيات المتقدمة لخطاب المؤمنين (الوجه الثاني» ان يكون الخطاب للمؤمنين والمراد بالخبيث هم المنافقون كما حكاه في التبيان والمجمع وقال به في الكشاف وبعض
ص: 372
لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
-------------------------------------------------------------------
كتب التفسير «وعليه» فإن اريد من المنافق هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر من حينه لم يوافق ذلك اصطلاح القرآن الكريم فإنه يجعل المنافقين قسما مقابلا للمؤمنين لا قسما منهم كما في قوله تعالى في هذه السورة 166 «وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا» وصورة المنكوت 10 «وليعلمن اللّه الذين آمنوا وليعلمن المنافقين» والأحزاب 72 «ليعذب اللّه المنافقين والمنافقات ويتوب على المؤمنين» والحديد 13 «يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا». «الثالث» وهو الأظهر الأقرب ان يراد بالخبيث هو من تشرف حينئذ بالإيمان ثم يتمرد بكبائر المعاصي والعظائم لأنه كان ساس القياد للهوى والشيطان فيسرع إلى موبقات الانام والارتداد والانقلاب على الاعقاب والبغي والفساد في الأرض والمروق من الدين فينشأ خبثه عن الامتحان فيكون معنى الآية. ما كان اللّه وليس من شأنه الكريم وحكمته ولطفه (ليذر المؤمنين) مطلقا وهم المتشرفون بصفة الإيمان (على ما أنتم) ايها الموجودون حين الخطاب من المؤمنين (عليه) من اشتباه الحال في الظاهر (حتى) تصدر أوامره ونواهيه بلطفه وحكمته بالشريعة وأساسياتها في سعادة البشر واكمال الدين وإتمام النعمة والنظام الصالح ويجري مقاديره بحسب الحكمة فيها يكون عاقبته الابتلاء والامتحان فتسرع النفوس الأمارة التي لم تروض الى اختيارها خبث التمرد والجماح في الغي. ومن آثار ذلك ان (يميز الخبيث) باسراعه في اختياره لما أشرنا اليه من موبقات الآثام : يميز بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء مضارع ماز بمعنى فرق وبين (من الطيب) الدائب على طاعة اللّه واتباع الحق ومخالفة الهوى. ويؤيد هذا الوجه ما في تفسير البرهان عن العياشي عن عجلان بن صالح الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وما كان اللّه) ولا يليق بحكمته ولطفه وجلال شأنه (ليطلعكم على الغيب) في شؤون الشريعة وما اشرنا اليه من أساسياتها وموارد الامتحان لأن ذلك مقام كبير استم أهلا له بل يخل ذلك بجامعتكم وشؤون الإسلام وان الاعلام بهذا الغيب إنما يليق بحسب الحكمة بمقام الرسول واللّه أعلم حيث يجعل رسالته ممن هو أهل بكماله الاختياري لها (ولكن اللّه يجنبي عن رسله من يشاء) بحسب اهلية الرسول واقتضاء المصلحة وحكمته جلت آلاوه
ص: 373
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
-------------------------------------------------------------------
لا بالجبر على اجتباء من لم يكن أهلا ولا تقتضي الحكمة اجتباءه. قال في التبيان و «من» هنا لتبيين الصفة لا للتبعيض لأن الأنبياء كلهم مجتبون انتهى يريد بذلك انها لتبيين جهة الاجتباء بتبيين جنس المجتبى كما في قوله تعالى «ما يفتح اللّه من رحمة. ما ننسخ من آية» وكما في قولك عندي عشرون من الدراهم اذا قصدت بالدراهم جنسها المعروض الجمع والعدد دون ما إذا قصدت بها دراهم معينة هي اكثر من عشرين كما أوضحه الشيخ الرضي في شرح الكافية. ولم أجد عاجلا من صرح بالتبيين هنا في غير التبيان وإن لاح من كلام بعضهم. وان كانت «من» للتبعيض يكون الاجتباء إنما هو بما يفضل به بعض الرسل على بعض لا باصل الرسالة ويكون المعنى واللّه يجتبي من بين رسله من يشاء منهم ويفضله بمقام ممتاز من علم الغيب والكرامة ولكن هذا المعنى لا يناسب السياق ولا التفريع بقوله تعالى (آمنوا باللّه ورسله) فيما جاوا به عند اللّه لأن اللّه اجتباهم لذلك (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ 177 وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فيما أوجبه اللّه من الانفاق (بما آتاهم اللّه من فضله) وفي ذلك احتجاج على الباخلين فيما فرضه اللّه بأن ما يبخلون به إنما هو من عطاء اللّه والفاضل الزائد على حاجتهم الفعلية (هو خيراً لهم) «خيراً» مفعول ثان ليحسين والمفعول هو البخل المدلول عليه بقوله تعالى (يبخلون) أو الذي بخلوا به مما آتاهم اللّه وعلى كل تقدير يجلوه لمقام مفعوليته وتقديره ضمير الفصل «هو» فلا يقولوا انا حفظنا أموالنا لخيرنا ومنافعنا (بل هو شر لهم) لما في ذلك من خسة المعصية ورذيلة الشح وسوء الظن باللّه ووبال العقاب وحرمان الثواب وخسران فضيلة الطاعة وحسن السماحة والرحمة والاعانة في المجتمع، وفسر ذلك بمنع الزكاة كما رواه في تفسير البرهان عن الكافي في صحيحة محمد بن مسلم وعن الكافي ومجالس الشيخ في معتبرة ايوب ابن راشد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وعن تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ) وعن ابن سنان عن الصادق عن آبائه عن رسول اللّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعن يوسف الطاهري عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). ورواه في الدر المنثور مما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). واخرجه احمد وعبد بن حميد والترمذي، وصححه. وابن ماجه والنسائي وابن جرير وابن خزيمة وابن
ص: 374
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (178) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ
-------------------------------------------------------------------
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وما أخرجه جماعة وصححه الحاكم ايضا من الحديث الآخر عن ابن مسعود عن النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وروى في الدر المنشور ايضا روايات أخر تفسر الآية بغير هذا المعنى ولا اعتداد بها خصوصا ما كانت في البخل على ذي الرحم فإنها لا تناسب التشديد والانذار بقولة تعالى (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وفيما أشرنا إليه من أحاديث الفريقين ما معناه ان اللّه يجعل عقاب ذلك ثعبانا في عنقه مطوقا به ينهش به. وما هو من نحو هذا المعني. فلماذا يبخلون ولماذا يدخرون وهم عن قريب فانون و تاركون لما بخلوا به (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 178 لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) في الدر المنثور عن ابن عباس من طريق عكرمة ان القائل لذلك «فنحاص» قال ذلك لأبي بكر لما دخل بيت المدراس على اليهود. وعن ابن عباس ايضا من طريق سعيد بن جبير ان اليهود أتوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) لما أنزل اللّه «من يقرض اللّه قرضا حسنا» فقالوا أفقير ربنا يسأل عباده القرض. فأنزل اللّه الآية. وبين الروايتين تعارض وفيها جهات أخر. وفي تفسير القمي قال «رأوا أولياء اللّه فقراء فقالوا لو كان اللّه غنيا لأغنى اولياءه» ولا تعرف نسبة هذا النقل الى إمام واللّه العالم نعم يعرف مما بعد الآية ان القائلين من اليهود (سنكتب ما قالوا) أي سنحفظ في الثبوت ما قالوا ليلاقوا نكال جزائه. وهذا أباغ في الوعيد من أن يقال «كتبنا ما قالوا» لأن الكتابة في الماضي ربما تحتمل العفو والتفكير (و) نكتب (قتلهم الأنبياء بغير حق) نسبة قتل الأنبياء اليهم اما باعتبار القبيلة أي ونحفظ على قومهم الذين هم مثلهم في التمرد قتلهم الأنبياء والقوم ابناء القوم. او باعتبار رضا هؤلاء بقتل اسلافهم للأنبياء فيحفظ عليهم إنهم ونسب اليهم القتل باعتبار القبيلة والأسلاف. ففي الكافي بسند عن مروك عن رجل عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان بين القائلين ان اللّه عهد الينا «وهم الذين قالوا إن اللّه فقير» وبين القائلين الأنبياء خمسمائة عا وأظن ان هذا التقدير على سبيل المثال في الكثرة أو ان الأصل الف وخمسمائة عام»
ص: 375
وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (179) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (180) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ
-------------------------------------------------------------------
فالزمهم اللّه القتل برضاهم بما فعلوا. ونحوه روايات العياشي عن ساعة وعن معمر وعن محمد بن هاشم عمن حدثه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ). وفي الدر المنثور ذكر من اخرج عن الشعبي مثل ذلك وعن العلا بن بدر انه سأل عن نسبة قتل الأنبياء اليهم وهم لم يدركوا ذلك فقال بموالاتهم من قتل أنبياء اللّه (ونقول) لهؤلاء (ذوقوا عذاب الحريق 179 ذلك بما) أي بسبب ما (قدمت ايديكم وان اللّه) بفتح الهمزة وتشديد النون (ليس بظلام للعبيد) أي وبأن اللّه لا يظلم عباده بعد ان اقتضت حكمته ورحمته ان يخلقهم مختارين في افعالهم بأن لا يجعل لهم رادعا نوعيا عن الشر من النهي والوعيد والجزاء. او بأن اللّه لا يظلم من له الحق بل لا بد من ان يجعل له ما يتشفى به من عقاب الجاني او يعوضه عنه لكن الجاني هنا ليس أهلا للتعويض عنه. او بأن اللّه ليس بظلام يساوي بين الأنبياء وقتلتهم في السلامة يوم القيامة والنجاة (180 الذين) بدل من «الذين» في الآية المتقدمة (قالوا) كذبا وافتراء (ان اللّه عهد الينا ان لا نؤمن ارسول) الظاهر ان مرادهم من يدعي الرسالة لا من يعترفون برسالته ويعلقون الإيمان به على ما قالوه. بل قالوا «برسول» مداهنة ومغالطة في الكلام (حتى يأتينا بقربان تأكله النار) ليدل ذلك باعجازه على صدقه في دعواه الرسالة. في تفسير القمي كان عند بني اسرائيل طست كانوا يقربون القربان فيضعونه في الطست فيجيي نار فتقع فيه فتحرقه. وفي الدر المنثور عن ابن عباس في حديث فإذا تقبل منه انزلت عليه نار من السماء فأكلته. وهذا وان كان قاصرا عن الحجية لكن ظاهر الآية يقارب الصراحة بأن اكل النار للقربان إنما هو من نحو المعجز الخارق العادة لا من احراف البشراه بالنار. وفي صحيح الكافي بسنده عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قصة ابني آدم المذكورة في الآية الثلاثين من سورة المائدة كما عن العياشي في تفسيره قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان القربان تأكله النار. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن مسعود عن ناس م-----ن الصحابة في حديث فنزلت النار فأكلت قربان هابيل. واخرج ابن جرير ايضا عن ابن عباس في حديث فجاءت النار فنزلت فأكلت الشاة : أقول وهذا غير مستحيل عقلا وان كان
ص: 376
خارقا للمادة (1) (181 قُلْ) با رسول اللّه في بيان كذبهم في كلامهم من انهم يؤمنون بالرسول
ص: 377
(181) قُقَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (182فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (183) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (184) لَتُبْلَوُنَّ
-------------------------------------------------------------------
الذي يأتيهم بما قالوه ودع كذبهم بأن اللّه عهد اليهم ما زعموه (قد جاءكم رسل من قبلي با) امجزات (البينات) الدالة على صدقهم في ادعائهم الرسالة ودعوتهم الصالحة (وبالذي قلتم) من القربان الذي تأكله النار (فلم قتلتموهم) أي قتلتم اسلافكم والقوم ابناء القوم (ان كنتم صادقين) في زعمكم ان اللّه عهد اليكم وانكم تجرون على عهد اللّه وتتبعون البينات وعهد اللّه الإيمان. هذا ولم اعرف من الحديث من هم الرسل الذين جاؤ وا بقربان تأكله النار وقتلهم بنو اسرائيل (182 فإن كذبوك) يا رسول اللّه مع ما جئت به من الحجج الباهرة والكتاب المنير فهذا دأب الضالين (فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات) في حججهم والمعجزات (والزبر) قيل انها الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والكتاب المنير بشرائعه ومعارفه وحكمه (183 کل نفس ذائقة الموت) وفي ذلك تسلية لرسول اللّه والمؤمنين فإن دنيا هولاء الضالين فانية وليس عليكم من اوزارهم من شيء (وإنما توفون أجور كم يوم القيامة) الخطاب للمؤمنين كما يتضح من الآية الآتية وفيه بشرى للمؤمنين بأن التوفية بالجزاء التام انما هي في الأجر واما جزاء ما يتفق من السيئات فهو معرض للمسامحة والتكفير والغفران لمن يشاء اللّه (فمن زحزح عن النار) أي نحي عنها (وادخل الجنة) وليس الادخال في الجنة قيدا زائدا إذ لا واسطة بين الجنة والنار بل المراد انه من يزحزح عن النار يكون من اهل الجنة (فقد فاز وما الحياة الدنيا) التي هي قبل الموت (إلا متاع الغرور) أي متاع زائل يغتر به المغترون (184 لتبلون) بلاه وابتلاه بمعنى واحد ويجيء في الخير والشر كما في سور الاعراف 167 والأنبياء 34 والنمل 39 والفجر 14 و 16 ومعناه ان يورد عليهم في هذه الحياة الدنيا تكاليف
ص: 378
فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (185) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (186) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا
-------------------------------------------------------------------
على مقتضى المصالح وتعريضهم للسعادة ومقادير على حسب ما اقتضت الحكمة أن يقدر في هذه الدنيا الفانية من الأسباب. ويكون من غايات ذلك ان تظهر في الوجود اعمالهم في الطاعة والكمال أو في المعصية والشقاء (فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي مشركي العرب (أذى كثيرا) من شر كلامهم كما يؤثر من كلام بعض اليهود وبعض المشركين وتحريضهم على حرب المسلمين (وان تصبروا وتتقوا) وتمسكتم بالطاعة اللّه ولم تجزعوا جزعا يبلغ الأتم والأظهر ان براد مطلق التقوى اللازمة كمطلق الصبر فيما يرد عليهم من التكاليف والمقادير وما يسمعونه من الأذى (فإن ذلك من عزم الأمور) يقال عزم الأمر بنصب الأمر على المفعولية كقوله تعالى في سورة البقرة 227 عزموا الطلاق و 235 ولا تعزموا عقد النكاح، والعزم يرجع إلى عقد الضمير والجزم في العمل والظاهر انه في الآية من اضافة المصدر إلى مفعوله وان المراد ان الصبر والتقوى يحتاجان إلى حزم وبصيرة وقوة في الإرادة ورسوخ في الفضيلة وثبات في الكمال تؤدي إلى العزم والجزم والعمل (185 َإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) ومن ذلك بشراه برسول اللّه و قرآنه كما اشرنا اليه مرارا (فَنَبَذُوهُ) القوه وطرحوه (وراء ظهورهم) كناية عن انهم اعرضوا عنه وتركوه ولم يعملوا به ولم يبينوه وعملوا به ما هو أشد من الكتمان واشتروا به (واستبدلوا به (ثمنا قليلا) من حطام الدنيا أو نزعات الأهواء (فبئس ما يشترون) اياه ذلك الثمن الخسيس (186 لا تحسبن) الضلال المضلين (الذين يفرحون ما اتوا) به (ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا) وهذه الصفة منهم تدل على انهم كانوا يفرحون بما أتوا به مما هو رباء أو تشريع فيزيدون على فساده برذيلة العجب. وروى في الدر المنثور في اسباب النزول ومعنى الآية ما اللّه أعلم به. والمفعول الثاني ل-«تحسبن» محذوف التهويل ولأن يقدره
ص: 379
فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (187) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (188) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (189) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
-------------------------------------------------------------------
السامع بما يليق بهؤلاء من ذمهم. وهذا باب من ابواب البلاغة ذكرنا شواهده صفحة 81 و 82 ثم فرع على ما اشير اليه من خستهم في الدنيا بعاقبتهم السيئة في الآخرة بقوله تعالى (فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) فسر المفازة في التبيان ومجمع البيان والكشاف بالمنجاة وذكر اللغويون في معاني الفوز النجاة (ولهم عذاب اليم) تأكيد في الأخبار بعذابهم والوعيد لهم (187 واللّه ملك السماوات والأرض) أي وما فيها من الموجودات وذلك يعم جميع العالم (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 188 إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) الذين يلتفتون بقلوبهم وعقولهم إلى ما في ذلك من وجوه الحكم الدالة على انها من صنع الإله الحكيم الواحد القادر وقد تقدم شيء من الإشارة إلى ذلك في الصفحة ال143 و 144 وفي تفسير الآية السادسة والعشرين من هذه السورة (189 الذين) صفة لأولي الألباب (يذكرون اللّه قياما) جمع قائم وهو حال (وقعودا) جمع قاعد وهو حال ايضا (و) مضطجعين (على جنوبهم) إلى الدائبين في ذكر اللّه في جميع احوالهم فمن امالي المفيد و أمالي الشيخ عنه بسند جيد عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يزال العبد في صلاة ما كان في ذكر اللّه قائما او جالسا او مضطجعا ان اللّه يقول وتلا الآية. وفي الكافي عن الباقر ايضا قال في الآية الصحيح يصلي قائما وقعودا «أي بالقيام والقعود كالقعود بين السجدتين والمنشهد والتسليم» والمريض يصلي جالسا وعلى جنوبهم المريض الذي يكون اضعف من المريض الذي يصلي جالسا انتهى والمراد من ذلك بيان بعض المصاديق لكن في الدر المنثور مما اخرجه الفريابي وابن ابي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في الآية إنما هذا في الصلاة إذا لم يستطع قائما فقاعدا وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبيه (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) وما في ذلك من عجائب الصنع وآثار القدرة والحكم الباهرة معتبر بن بذلك وموقنين انه من صنع الإله القادر الحكيم شاهدين ومعترفين للّه
ص: 380
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (190) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (191) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (192) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا
-------------------------------------------------------------------
و عابدين له بشهادتهم واعترافهم قائلين (ربنا ما خلقت هذا) المخلوق (باطلا) وانت العليم الحكيم (سبحانك) تقديسا وتنزيها لك (فقنا عذاب النار) ولعل ذلك من أجل ما يشاهدونه من الحكمة وآثار العظمة وعظيم النعمة على الانسان فيأخذهم الخوف من التقصير في طاعة الإله وعبادته وشكر نعمه فيسألون منه التوفيق الذي يقيهم عذاب النار معترفين بأن في دخول النار خزيا وفضيحة تكشف عن خبث وسوء اعمال (190 ربنا انك من تدخل النار فقد أخزيته) في الكشاف أي أبلغت في اخزائه ونحوه في كلامهم من ادرك مرعى الصمان فقد ادرك. ومن سبق فلانا فقد سبق. وهو حسن. وعليه يخرج ما اخرجه ابن جرير والحاكم عن جابر قوله «وما اخزاه اللّه حين احرقه بالنار وإن دون ذلك خزيا» بأن يكون المراد ما احدث اخزاءه حين احرقه بالنار بل الاخزاء بدخولها أشد أقسام الاخزاء وافظعها (وما للظالمين) اي هؤلاء الذين يدخلون ويخزون واشير اليهم بهذه الصفة بيانا لانهم ظلموا انفسهم إذ اوقعوها بكفرهم وعصيانهم في استحقاق النار) (من انصار) ومن ذا الذي ينصرهم على اللّه (191 ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان) أي سمعنا ما نادى به وهو معنى قوله (أن آمنوا بربكم) خالقكم ومربيكم ومدبر امور كم (فأمنا) في مجمع البيان عن ابن عباس وابن مسعود المنادي هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وبذلك فسره القمي. وفي الدر المنثور عن محمد بن كعب القرطي «هو القرآن ليس كل الناس يسمع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكأنه رأي منه فهو مردود عليه بأن المسموع مانادى به وهو ما يعم حكاية دعوته كقوله في سورة التوبة 6 «حتى يسمع كلام اللّه» ولو ابقى المنادي على اطلاقه لينطبق على جميع الرسل وتشمل الآيات كل ما تنطبق عليه من مؤمني الأمم لكان انسب بسياق الآيات وربما يشهد له قوله تعالى في الآية الآتية «على رسلك» (ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا) اي ولنكن عند أخذك لنا (مع الأبرار) وفي زمرتهم (192 ربنا و آتنا ما وعدتنا) اي وفقنا للايمان والتقوى والعمل الصالح لنكون أهلا لما وعدتنا
ص: 381
عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (193) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (194) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (195) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
-------------------------------------------------------------------
به ان آمنا واتقينا فإن وعد اللّه كما في القرآن مشروط بالموافاة على الإيمان والتقوى (على رسلك) جيء بكلمة «على» للاشارة الى ان الوعد هو وحي منزل من اللّه على رسله في بشرى المؤمنين المتقين أي وآتنا ما انزلته على رسلك من وعادك لنا في جملة من آمن واتقى وعمل صالحا (ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد) قالوا ذلك تمجيدا اللّه واعترافا بقدسه (193 فاستجاب لهم ربهم أني) بفتح الهمزة أي بقوله اني محذوف القول لظهور الكلام وناب معنى المقول في دخول الباء عليه (لا اضيع عمل عامل) أي اجيب دعاء كم واعطيكم ما وعدتكم على شرطه فإن تقواكم وعملكم للصالحات يؤهلكم للثواب وغفران الذنوب وتكفير السيئات (منكم من ذكر او انثى) «من» لبيان جنس العامل (بعضكم من بعض) أي من جنس بعض في صفة الايمان والطاعة والعمل فكيف يضيع عمل بعضكم فليعمل كل منكم للجزاء. وفي هذا حث على العمل وزاده بيانا بقوله تعالى (فالذين هاجروا) من ديارهم لما نا لهم من الأذى في سبيل الإيمان والنصرة لدعوة الحق (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا) جرى التنصيص على ذلك لأنه من افضل الأعمال وللدلالة على انه كله بعين اللّه لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند اللّه، صرح باسم الثواب والجزاء على العمل لأنه اكمل في اللذة وصرح باسم الجلالة تنويها بشرف الثواب و کرامته وعظمه واللّه عنده حسن الثواب) برحمته الواسعة وقدرته التامة (194 ولا يغرنك) خطاب للرسول والمعني به غيره او لغيره (تقلب الذين كفروا في البلاد) ممتعين بالصحة والامهال فإنه (195 متاع قليل) في مدته القصيرة ايام حياتهم (ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد) الممهد لهم بكفرهم وسوء اعمالهم (196 لكن) استدراك من سوء حال الكافرين ووعيدهم بذكر سعادة
ص: 382
(196) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (197) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (198) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
-------------------------------------------------------------------
المتقين وبشراهم (الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) حال كونها (نزلا) والنزل بضمتين ما اعد للضيف واكرامه من قرى ومنزل وفي ذلك الكرامة العظيمة والبهجة الكبيرة إذ كانت نزلا لهم اكرام نهم (من عند اللّه) و يا لها من حظوة (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ 197 وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) بنزوله على رسول اللّه ولازمه الإيمان برسوله وقبل البكم باعتبار ابتداء الدعوة بهم وإلا فهو منزل لكل البشر في دعوتهم إلى السعادة ودين الحق وشريعته (وما انزل اليهم) بنزوله على انبيائهم يؤمنون حال كونهم (خاشعين اللّه) من ذكر الخشوع في صفحة 90 (لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فلا تأخير في توفيتهم اجورهم يوم الجزاء 198 (یا ايها الذين آمنوا اصبروا) على ما يحمد الصبر عليه وفيما يحمد فيه وان فسر فيما جمعه تفسير البرهان والدر المنثور من الأحاديث ببعض المصاديق لما أمر بالصبر عليه أو فيه (وصابروا) من باب المفاعلة ومقابلة الصبر بالصبر ويفهم من المقام زيادة الصبر في مقام المقابلة (ورابطوا) الذي يتحصل من الأحاديث التي أشرنا اليها في تفسيري البرهان والدر المنثور ان المرابطة هنا ليس على المعنى المترائى من المفاعلة بل هي مثل عاين وسافر وضاعف فتكون هنا بمعنى اثبتوا وواظبوا ولازموا (واتقوا اللّه لعلكم تفلحون) أي لغاية ان تفاحوا. وقبل «لعلكم» لأن الفلاح غير لازم لمجرد ان تحصل هذه الأمور بل شرطه الاستمرار عليها مع الإيمان الصحيح إلى الموت... وفقنا اللّه وجميع المؤمنين لذلك وثبتنا عليه انه ارحم الراحمين وخير المسؤولين.
تم الجزء الأول من التفسير «آلاء الرحمن» والحمد للّه والشكر كما هو اهله ويتلوه الجزء الثاني إنشاء اللّه أوله سورة النساء
ص: 383
المطبوع منها : (1) في التفسير هذا الجزء الأول (وفي الفقه) (2) تعليقة على مباحث البيع من مكاسب المرحوم آية اللّه الأنصاري (3) بعض العقود المفصلة في حل المسائل المشكلة. ومنها عقد في العلم الاجمالي وحاله مع الأصول (وفي الدين وقمع الاهواء) (4) كتاب الهدى إلى دين المصطفى جزء آن (5) انوار الهدى (6) نصائح الهدى (7) الرحلة المدرسية والمدرسة السيارة ثلاثة اجزاء، وترجمة بعضها بالفارسية ثلاثة اجزاء ايضا (8) أعاجيب الأكاذيب، وترجمته بالفارسية (9) رسالة التوحيد والتثليث (10) أجوبة المسائل البغدادية (11) الرسالة الأولى في نقد الفتوى بهدم القبور الشريفة في الحرمين (12) الثانية ايضا في هذا الموضوع (13) البلاغ المبين في الاولمية (14) المصابيح في بعض من أبدع الدين في القرن الثالث عشر (15) مختصر بالانكليزية في ان وضوء الأمامية وصلاتهم وصومهم هي بحسب أدلة الإسلام تكون على الوجه الأحوط والاقرب إلى اليقين بالبراءة من سائر اقوال المسلمين
(واما كتبه التي لم تطبع إلى الآن) فهي في الفقه (16) الأصل العربي لهذا المترجم بالانكليزية (17) تعليقة بحثية علمية على الجزء الأول من العروة الوثقى (18) في التقييد لم (19) في صلاة الجمعة لمن سافر بعد الزوال (20) في الخيارات لم يتم (21) رسالة فتوائية في مسائل الرضاع على مذهب الإمامية والمذاهب الاربعة لأهل السنة (22) في المتمم كرا (23) في الغسالة (24) في حرمة مس القرآن على المحدث (25) في ذكر ما يدل على مذهب الإمامية في الأحكام الشرعية زيادة على أدلتهم القيمة وذلك مما جاء في احاديث اهل السنة. كتب منه مباحث الطهارة وكثير من مباحث الصلاة ثم انشغل عنه بما هو أهم في نظره (26) في القبلة وفي مواقع البلدان في المسكونة بالنسبة إلى مكة المعظمة بحسب الاختلاف في الطول والعرض. وأوضح اثناء ذلك بعض الخطأ في الاعتماد على التقويم القديم. وعاقه فقدان بعض الآلات عن إتمام الكتاب ببيان الانحراف لكل من البلدان عن مكة ومقداره (27) في مواقيت الإحرام ومحاذاتها من الطرق إلى مكة براً وبحرا مع تشكيل الطرق المذكورة وموازين مسافتها وتعيين مواضع المحاذاة للميقات (28) في منجزات المريض (29) في اقراره (30) في الرضاع (31) تعليق على كتاب الشفعة من جواهر الكلام (32) في العول والتعصيب كتبه في شبابه (33) في ذبائح اهل الكتاب (43) في حرمة حلق اللحية (35) في الزام المتدين بما عليه في احكام دينه بتحرير وجمع وتفريع لم يسبق اليه (في أصول الفقه) (36) رسالة في الأوامر (كتبه المتنوعة في غير الفقه) (37) رسالة في شأن التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) (38) داعي الإسلام وداعي النصارى
ص: 384
(39) في الرد على جرجيس سايل. وهاشم العربي (40) في الرد على كتاب تعليم العلماء (41) الشهاب في الرد على كتاب حياة المسيح لبعض القاديانيين (43) في الرد على كتاب ينابيع الإسلام لبعض النصارى
وله رسائل كثيرة متنوعة يبلغ مجموعها مجلدا ضخما. وهي في اجوبة المسائل الواردة اليه من البلدان فيما يعود إلى اصول الدين في الإلاهيات. والنبوَّة والمعراج. والإمامة والمهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وما يتعلق بذلك. وفي الرد الشبهات بعض النصارى
وقد كان ملتزما بأن لا يكتب اسمه في مطبوعات كتبه لبعض الأمور. وحذرا من ان يختلسه الريا. ونحوة التبجح. ولكن بعض الأمور الجاته بعد ذلك إلى كتابة اسمه
3...في المعجز ووجه شهادته
4... حكمة تنوع المعجز وكونه للعرب و القرآن
5...امتياز القرآن عن غيره من المعجزات
7...تعجيزه للعرب بطلب معارضته وعجزهم
9...اعجازه من وجهة التاريخ وحال العهدين فيها
11 اعجازه من وجهة الاحتجاج. و حال الاناجيل فيها
12... اعجازه من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض. وحال العهدين في ذلك
13... اعجازه من وجهة التشريع العادل. ونظام المدنية وحال العهدين في ذلك
14... اعجازه من جهة الأخلاق. وحال العهدين فيها
15... اعجازه من وجهة علم الغيب. وحال الاناجيل فيها في اللغة العربية
17...في جمع القرآن في مصحف واحد
19... اضطراب الروايات في جمعه بعض ما الصق بكرامة القرآن حكاية الوادي والواديين
21...الرجم. والشيخ والشيخة فارجموها
23... حكاية سورتي القنوت
24... حكاية دبستان المذاهب
25... قول الإمامية بعدم النقيصة في القرآن
26... كتاب فصل الخطاب. ونقده
29... قراءة القرآن والقراآت السبع وقراؤها وروائها روايات السبعة أحرف
30... وما جاء في بعضها من الغرائب
32... في تفسيره. واللغويين
33... الاضطراب في معنى التوفي. وما هو التحقيق فيه
36... آية تنوء بالعصبة
37... مجازات القرآن. واسلوبه وخبط المولدين
38... لا اقسم : وما وقع للكشاف وغيره فيها. وما زعموه من زيادة «لا»
39... لئلا يعلم. ان لا تسجد. ان لا تتبعني
40... لا يرجعون. لا يأمركم
ص: 385
41... فلا وربك. والكشاف دعوى زيادة الواو مجازات القرآن المراد من الاضلال المنسوب إلى اللّه. وقرائن التجوز
42... فيه من المحكمات على العرش استوى. والظاهريون
43... النبهاني. ابو حيان. الشهرستاني ابن تيمية. والعرش حديث الثقلين. وتواتره
44... رواته من الصحابة
45... استدراك الحاكم على البخاري ومسلم محمد بن سلمة. الجوزجاني. ابن عدي الرجوع في التفسير إلى امثال عكرمة ومجاهد
46... احوالهم في كتب الرجال. وخرافة الغرانيق
47... التردد في الوقف
48... مركز التعقل. والقلب. والدماغ
49... ما يحضرني من الكتب
50...سورة الفاتحة. تسميتها. محل نزولها
51 بسملتها - الجهر بها. اعرابها
52... خلق القرآن. الرحمن
53... الرحيم
54... الحمد للّه
55...رب العالمين. مالك يوم الدين
56... اياك نعبد واياك نستعين
57... العبادة. ودسائس التحزب في معناها
58... تفسير العبادة. ومحمد عبده
59...حصر الاستعانة باللّه
60...الاستشفاع إلى اللّه بالمقربين
61... الاستشفاع بالمقربين من الأموات بقاء النفس بعد الموت
62... الشفاعة
63...اهدنا الصراط المستقيم
64... سورة البقرة. والمتقين
65... الموقنون بالاخرة. والمفلحون
66... الخذلان. ختم اللّه على قلوبهم
67... الجبر والاختيار
69... في المنافقين
70...يخادعون اللّه. في قلوبهم مرض
71... في احوال المنافقين
72... مثلهم في الإسلام كمثل الذي استوقد نارا
74... مثل الإسلام معهم كصيب من السماء
75... تتمة المثل. يا ايها الناس اعبدوا الامتنان بل الاحتجاج بما خلق اللّه للانسان
76...والنهي عن جعل الانداد الاحتجاج على الرسالة باعجاز القرآن
77... بشرى المؤمنين
78... لا يستحي ان يضرب مثلا ما
79... الذين ينقضون عهد اللّه
80... كيف تكفرون باللّه
81...والاحتجاج بخلق ما في الأرض والسماوات تنبيه في الحذف في العربية
83...إخبار الملائكة بخلق البشر وسؤالهم عن الحكمة
84...علم آدم الأسماء، البأهم بأسمائهم
ص: 386
وما هي الأسماء
85... السجود لادم. كفر ابليس نهي آدم وحوا عن الأكل من الشجرة
86... اذلها الشيطان
87... اهباطهم إلى الأرض. توبة آدم الكلمات محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) علي وفاطمة والحسنان (عَلَيهِ السَّلَامُ)
88... خطاب بني اسرائيل. وتذكيرهم. والوفاء بعهد اللّه
89... آمنوا بما انزات مصدقا
90... واستعينوا بالصبر والصلاة الذي يظنون انهم ملاقوا ربهم
91... واتقوا يوما لا تجزى، تذكير بني اسرائيل بنجاتهم من آل فرعون
92... فرقنا بكم البحر، اتخذتم العجل
93...فتوبوا. واقتلوا انفسكم
94...نرى اللّه جهرة، ثم بعثناكم، الغمام، المن والسلوى
95... ادخلوا هذه القرية. وقولوا حطة الخمر والتوراة الرائجة
96...اضرب بعصاك الحجر لن نصبر على طعام واحد
97... ضربت عليهم الذلة الذين هادو او النصارى والصابئين
99...الطور، كونوا قردة
100... قصة ذبح البقرة وتمردهم
102... تحريف اليهود. ونفاقهم
103... في اهل الكتاب
105... في الرسل بعد موسى
106... رسول اللّه والقرآن، كان اليهود يستفتحون برسول اللّه
107... بئس ما اشتروا
108... اشربوا العجل
109... تمنوا الموت، لو بعد رد
110... عدواً لجبريل
111... هاروت وماروت
113... الايمان والتقوى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) امير المؤمنين راعنا في العبرانية
114... ما ننسخ من آية او ننسها
116... تحذير المؤمنين من اهل الكتاب
117... اليهود والنصارى يذم بعضهم بعضا
118...منع مساجد اللّه ان يذكر فيها اسمه
119... اينما تولوا وجوهكم فثم وجه اللّه
122... ابراهيم والكلمات. والإمامة
124... البيت مثابة وأمن
125... مقام ابراهیم
127... مكة حرم آمن
128... دعوة ابراهيم واسماعيل بالإسلام وببعثة الرسول من ذريتهما
129... اصطفاء ابراهيم. اسلامه، وصيته به
130... في اهل الكتاب والإيمان
131... صفة اللّه
132... في تحويل القبلة إلى الكعبة
133... أمة وسطا
ص: 387
134... وما جعلنا القبلة، وانها الكبيرة
135... تحويل القبلة إلى الكعبة
137... اهل الكتاب، ولكل وجهة
138... فاستبقوا الخيرات . التوجه إلى الكعبة
139... في الاستقبال، رسولا منكم
140... استعينوا بالصبر والصلاة، في الصابرين
141... الصفا والمروة، فمن تطوع خيرا
142... يكتمون ما انزل اللّه، في التوحيد
143... آيات خلق السماوات والأرض. والفلك والمطر والرياح
145... اتخاذ الشركاء، تبري المضل من الضال
146... اماني تابعيهم، كلوا مما في الأرض
148 تحريم الخبائث، فمن اضطر غير باغ 181 اذكروا اللّه في ايام معدودات
149... يكتمون ما انزل اللّه
150... ليس البر. ولكن البر من آمن باللّه
151... في القصاص ومسائله
154... في القصاص حياة الوصية للوالدين والأقربين
155...من خاف من موص جنفا
156... فرض الصيام على المسلمين
157... من كان مريضا او على سفر و على الذين يطيقونه فدية
159... لا صوم في السفر
160... شهر رمضان. المريض والمسافر يريد اللّه بكم اليسر
162... الرفث إلى نسائكم
163... الفجر، والليل وقت الافطار
164... لا تأكلوا اموالكم بالباطل
164... يسألونك عن الأهلة قاتلوا في سبيل اللّه
166... الشهر الحرام بالشهر الحرام
168... اتموا الحج والعمرة للّه
170... حج التمتع
173... الهدي. بدله. ايام التشريق
174 حاضري المسجد الحرام
175... الحج اشهر معلومات
177... لا رفت ولا فسوق ولا جدال
179... افضتم من عرفات ثم من حيث افاض.. الناس
182... التكبير في ايام التشريق التعجل لاتمام الحج في النفر الأول
183... ليفسد فيها، العزة بالاثم يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه امير المؤمنين ومبيته على فراش الرسول
186... ادخلوا في السلم كافة
188... زين للذين كفروا
189... كان الناس أمة واحدة
191... ام حسبتم ان تدخلوا الجنة يسألونك ماذا ينفقون
192... كتب عليكم القتال يسألونك عن الشهر الحرام
194... يسألونك عن الخمر والميسر
195... ويسألونك ماذا ينفقون
ص: 388
196... ويسألونك عن اليتامى ولا تنكحوا المشركات
198... ويسألونك عن المحيض
199... نساؤكم حرث لكم
201... ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم
202... في الايلا.
203... عدة المطلقة . القرء لا يكتمن
204... الرجوع في العدة
205... الطلاق مرتان
206... في الخلع
207... طلاق الثلاث، من احكام المطلقات
208... حرمة عضل المطلقات
209... الوالدات واحكام الارضاع
211... عدة الوفاة
212... التعريض بالخطبة فيها
213... الطلاق قبل الدخول
215 حافظوا على الصلوات الصلاة الوسطى
216... صلاة الخوف
217... الوصية للمطلقات والمتاع
218... قال لهم موتوا ثم احياهم بعض المفسرين المصريين
219... من ذا الذي يقرض اللّه
220... بنو اسرائيل. اجعل لنا ملكا
221... طالوت. آية ملكه تاريخ الطنطاوي
222... التابوت تحمله الملائكة
223... فلا فصل طالوت بالجنود
224... احوال المؤمنين من الجنود
225... داود و جالوت. دفع اللّه الناس بعضهم ببعض تكليم اللّه او سوله
226... اختلاف أمم الأنبياء
227... آية الكرسي
228... الكرسي . لا اکراه . الطاغوت
230... الذي حاج ابراهيم. النمرود
231... اماته مائة عام. والمنار
232... كيف يحيي الموتى. اربعة من الطير
233... انبتت سبع سنابل
234... لا تبطلوا صدقاتكم. صفوان
235... كمثل حبة بربوة
236... فاحترقت انفقوا - ولا تيمموا الخبيث
237... الشيطان يعدكم الفقر
238... الحكمة - ابداء الصدقات
239... الانفاق - للفقراء الذين احصروا
240... لا يسألون الناس الحافا
241... علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
242... في الربا
243... حرمته والحث على التوبة منه
246... في امهال المعسر
247... كتابة الدين واحكامه
250... الرهن واداء الأمانة
250... كتمان الشهادة
253... سورة آل عمران
ص: 389
254... تصوير الإنسان
255 المحكمات. ام الكتاب. المتشابهات
256 المراسخون في العلم يعلمون التأويل
259... لن تغني عنهم من اللّه
260... الكشاف . المغني . تفسير المنار
261... الإشارة إلى غزوة بدر
262... من هو المزين لحب الشهوات
264... بعض صفات المتقين شهد اللّه - واولو العلم
266... فإن حاجوك
268... يدعون إلى كتاب اللّه
269... قل اللهم مالك الملك
271... تولج الليل في النهار و –
272... تخرج الحي من الميت و
273... ان تخفوا ما في صدوركم
274... يوم تجد كل نفس
275... اتباع الرسول. والطاعة
276... اصطفی آدم ونوحا و –
277... المقصود من آل ابراهيم
279... الحمل بمريم.. ووضعها
280... كفالة زكريا. رزقا. الزهراء دعاء زكريا. بشراه بيحيى
281... استفهام زكريا. طلبه الآية
282... اصطفاه مریم فاطمة (عَلَيهِ السَّلَامُ) سيدة نساء العالمين
283... بشرى مريم بالمسيح
284... كلامه في المهدي. سؤال مريم
280... معجزات مريم
286... المسيح وبنو اسرائيل.. الحواريون
295... ان الدين عند اللّه الإسلام
287... ومكروا ومكر اللّه حكمة التشبيه بالمسيح
288... اني متوفيك
289... مثل عيسى عند اللّه
290... آية المباهلة
291... حديث المباهلة : اهل البيت
292... علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) نفس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) ابن تيمية
293... محمد عبده وكلامه الغريب
295... تعالوا إلى كلمة سواء
296... لم تحاجون في ابراهيم
297... ما كان ابراهيم يهوديا و –
298... اهل الكتاب. وطائفة منهم
299... و من اهل الكتاب
300... اوفى بعهده
301... النبي لا يدعي الإلمية
302... الأناجيل والمسيح. الربانيين
303... ميثاق النبيين
304... الميثاق ودخول اللام في جوابه
305... الإيمان بالرسول ونصره
306... وله أسلم = طوعا وكرها
307... الايمان باللّه والنبيين
308... في التوبة
309... الذين ماتوا وهم كفار
ص: 390
310... لن تنالوا البر. كل الطعام كان حلا
313... بكة والبيت الحرام
314... آیات البيت. مقام ابراهيم
315... صاحب المنار. والطنطاوي
316... حج البيت والاستطاعة
318... يا اهل الكتاب لم تصدون
319... تبغونها عوجا
320... تحذير المؤمنين من المضلين الاعتصام باللّه
321...حق تقاته
322... اعتصموا بحبل اللّه
323 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
326... تبيض وجوه وتسود وجوه
327... كنتم خير امة
330... لن يضركم إلا اذى
331... ضربت عليهم الذلة. ليسوا سواء
332... امة قائمة يتلون
333... لن تغني عنهم اموالهم. والقير
334... احوال المنافقين
335... ذات الصدور
336... ان تمسكم حسنة تسوهم
337 واقعة احد. همت طائفتان
338... الطنطاوي. نصركم اللّه ببدر
339... من فورهم. يمددكم مسومين
340... إلا بشرى. ليقطع. ليس لك
341... او يعذبهم. دعاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ)
342... عرضها السماوات والأرض الانفاق. كظم الغيظ
343... العفو . ذكر و اللّه
344...... ومن يغفر . قد خلت سنن
345... لا تهنوا. المنار. انتم الأعلون
346... ان يمسكم. نداولها
347... ليعلم. ليمحص. ام حسبتم
348... علي وصبره ومواساتة
349... لا سيف إلا ذو القفار ولا فتى إلا على التشيع
351... الطنطاوي. تمنون الموت
352... وما محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ). وما كان لنفس ان تموت
353... وكأين . ربيون كثير
354... فما وهنوا
356... ما لم ينزل. ولقد صدقكم
357... تحسونهم إذا فشلتم
358... تصعدون. غما بغم
359... أمنة نعاسا
360... تولوا منكم
361... فبما رحمة. عدم زيادة «ما»
363... اتبع رضوان اللّه
364 هم درجات. رسولا من انفسهم
365... اصبتم مثليها
366... اقوال المنافقين
367... يستبشرون. الذين استجابوا
368... للذين أحسنوا منهم الكشاف وغيره والمنار واستاذه
369... جمعوا لكم. زادهم إيمانا
ص: 391
370... فانقلبوا بنعمة ورضوان. الشيطان يخوف أولياءه
371... لا يحزنك. اشتروا الكفر بالإيمان
372... إنا غلي لهم
373... ما كان اللّه ليذر، حتى عير
374... فآمنوا باللّه ورسله، ولا تحسبن الذين يبخلون
375... الذين قالوا إن اللّه فقير، وقتلهم الأنبياء
376... اللّه ليس بظلام للعبيد. قربان تأكله النار
377... صاحب المنار وأستاذه
378... قد جاءكم رسل من قبلي. فإن كذبوك. كل نفس ذائقة الموت
379... لتبلون. ميثاق الذين أوتوا الكتاب. لا تحسبن الذين يفرحون
380... الذين يذكرون اللّه قياما وقعود او على جنوبهم
381... قولهم سمعنا مناديا للإيمان، دعاوهم
382... استجابة دعائهم الذين هاجروا في الذين كفروا
383... في المتقي. أهل الكتاب. اصبروا وصابروا انتهاء الجزء الأول
384... فهرست مصنفات المفسر
تفسير «آلاء الرحمن»
صفحة / سطر / خطأ / صواب
2 / 8 / المشكوك / الشكوك
3 / 19 / جلالة اللّه / جلال اللّه
4 / 17 / مراغم / مزاعم
4 / 23 / سطيرة / سيطرة
5 / 7 / مجده / بجده
6 / 6 / في / كما في
7 / 5 / الدعوى / الدعوة
7 / 13 / 32 / 22
8 / 16 / بجرأته / بجرانه
8 / 19 / يخفى على / يخفي هؤلاء
12 / 18 / البشري / البشرى
13 / 19 /حضارة / مضارة الكاتب
14 / 15 جدودها / حدودها
17 / 5 / وتلقوه / وتلقونه
17 / 26 بن ابي / وابي
18 / 4 / رتابة / رقابة
19 / 4 / فتقل / فتقل
19 / 7 / القرآن / القرآن في ايامه
19 / 7 // يأمره، وجاء فيها انه هو الذي جمع القرآن
19 / 2 / فماتری / فماذا تری
20 / 23 / بل و ادیان / بل اودية
21 / 17 / ذر / زر
23 / 3 / يستقرئه / تستقرئه
ص: 392
صفحة / سطر / خطأ / صواب
23 / 4 / المحدثون / المحدثين
23 / 7 / نعم / فعمر
23 / 10 / بضيرة / بصيرة
25 / 3 / الدعوة / الدعوى
26 / 11 / في جميع / في جمع
27 / 15 / النعمان ان الأئمة / النعماني ان الآية
27 / 16 / الفضل / الفضيل
27 / 25 / منذر العباد / منذر العباد
28 / 20 / ويشهد لذلك / ويشهد لك
29 / 17 وابو الدرداء / وابي الدرداء
29 / 18 على ما في / على ما يقال في
31 / 7 / بكر / بكرة
31 / 22 / من قرء مالك / من قرء ملك
32 / 18 / بالقرآن / بالقرائن
32 / 12 / فيه لفظه / في لفظه
33 / 13 / من معنى التوفي / في معنى التوفي
33 / 19 / ان معنى / إلى ان معنى
35 / 23 / وورود / في ورود
36 / 21 / اردن / ارزن
37 / 21 / کونه / لونه
37 / 21 / إلى ذلك / في ذلك
37 / 23 / الحي / الحسي
37 / 13 / قد / قال
38 / 10 / ان / انه
38 / 18 / ومن / من
38 / 21 /350 / 354
41 / 8 / معنى / مضى
43 / 9 / الرسالة / الرسائل
47 / 24 / عن اصول / من اصول
48 / 8 / وان المجموع / فإن المجموع
48 / 22 / ليفيه عضليه / ليفية والياف عضلية
48/ 21 / التقيم / التقيم
48 / 24 / تغما / تغما
49 / 9 / عن / من
49 / 19 / في تفسير / في التفسير
53 / 11 / على فهم / عن فهم
61 / 5 / مستوسقين / مستوثقين
61 / 22 / 170 / 163
61 / 23 / 171 / 164
61 / 24 / 172 / 165
64 / 20 / والمؤمنون / لمؤمنون
65 / 3 / التعدد / التعداد
68 / 24 / الفعل / العقل
69 / 2 / حكمه قبحه / حكمة قبحه
71 / 24 / والتحويل / والتخويل
72 / 24 / للصف اللّه / بلطف اللّه
75 / 7 /وان المراد / او ان المراد
79 / 15 / في الاصلاح / في الاصطلاح
81 / 13 / على المقام / عليه المقام
81 / 21 / وقد خافت بنو / وقد جاءت بنو
81 / 21 / اسد و جاعوا / اسد وخافوا
82 / 6 / اعقب / اعضب
84 / 24 / بالعاملين / بالعاقلين
86 / 22 اليها / اليهما
ص: 393
صفحة / سطر / خطأ / صواب
89 / 9 / ومصدقا / اوم صدقا
89 / 10 محرف / فإن ما معهم من التوراة محرف
89 / 12 / (تكونوا) / و (تكونوا)
89 / 16 من الكافرين / من الكاذبين
95 / 16 / حط الجمل / حط الحمل
97 / 9 / ورعد / ودعد
97 / 23 / للذين / الذي
100 / 8 / وملخصا / وملخص
101 / 14 / بالمجازات / بالمجاراة
103 / 14 / الاختلافات / الاختلاقات
104 / 19 / روی / وروی
100 / 18 / المنافقون / الناقضون
106 / 8 / إلى دعوته
106 / 9 / لأنفهم / لا نفهم
106 / 17 / من آمن / من يؤمن
109 / 5 / برسول او کتاب / برسول اللّه وكتابه
109 / 13 / ولم يتمنوه / ولن يتمنوه
109/ 14 / وزيادة / زيادة
109 / 22 / صورتي / سورتي
110 / 14 / عذر / غدر
110 / 18 / کتاب / کتاب اللّه
112 / 7 / أي لليهود / أي الناس
/ / / من الشياطين وهاروت وماروت / و المتعلمين منهما من هاروت وماروت
112 / 23 / معموله / معمولة
113/ 5 / یرونه / يريدونه
114 / 22 / ینسی / ينسي
116 / 11 العباد / العناد
120 / 13 / الخالقيه / خالقيته
120 / 21 / لا اجزائه / لأجزائه
124 / 3 / فضليتها / فضيلتها
127/ 20 / والأقحال / والأقحاط
128 / 10 / والنسك / والمنسك
128 / 13 / از یرید / ان يريدا
132 / 12 / اللّه ورسله / اللّه رسله
133 / ليكونوا / لتكونوا
139 / 19 / مخرج الجرم / مخرج الجزم
148 / 7 / في البغي / والبغي
149 / 10 / من الكاظم / عن الكاظم
149 14 (فلاائم عليه) / (لا اثم عليه)
13 (وذوي القربي) / (ذوي القربي)
152 / 4 / من ابي / عن ابي
152 / 11 / في جامعة / في جامعه
156 / 7 / الخطر / الحظر
156 / 13 / ولا يفهم / ولا بفهم
156 / 15 / فقد / وقد
161 / 21 / يديم / ان يديم
163 / 14 / تماما / تاما
165 / 11 / ثم ان يعود / ثم إلى ان يعود
171 / 12 / وامنهم / و آمنهم
181 / 5 / هناك / هنا
ص: 394
صفحة / سطر / خطأ / صواب
183 / 7 / في حجة / في حجه
183 / 10 / واتقوا اللّه / (واتقوا اللّه)
184 / 24 / في تفسير / عن تفسير
187 / 24 / اناو / آثار
188 / 7 / الآيتين / الايتان
188 / 10 / يرجع اليها / يرجمها اليه
186 / 10 / ضلال / ضلالا
191 / 8 / 136 / آل عمران 136
194 / 21 / 925 / 95
195 / 12 / تجريهما / تحريهما
195 / 15 / شريعة / شريعة الحق
200 / 2 / بين فخذيها / و بين فخذيها
200 / 2 /فأتوا / (فأتوا)
204 / 21 / الزوج / الأزواج
206 7 / تفرقه / نفرته
206 / 10 / الزواج / الازواج
208 / 8 / ضرارة / ضرارا
210 / 7 / يحب / یجب
213 / 21 / اجتماعها / اجتماعهما
218 / 15 / في سبيل / في سبيل
222 / 12 / البقره / البقر
227 / 13 / الا يأخذه / لا يأخذه
228 / 18 / عن ابي موسى / عن ابي
228 / 24 / مساه / يكون مسماه
229 / 16 / الأولي / الأولى
232 / 10 / اوهي / وهي
232 / 20 / و (قال) / (قال)
233 / 14 / اضرب / يضرب
234 / 9 / لا لحسنة / لا لحسنه
235 / 12 / من أنها / مع انها
237 / 9 / مشرع / شرع
237 / 25 / عن خالق / عن خلق
239 / 14 / او مسمى / اوسمي
240 / 3 / إلى ما بعده / إلى بعده
241 / 6 / ابن / این
241 / 7 / بمثاره / بمناره
244 / 7 / الاكما / لا كما
246/ 18 / واختبارها / واختيارها
200 / 8 / واعلموا با / واعملوا
253 / 20 / الحقيقة / الحقيقية
254 / 22 / الفصل / في الفصل
255 / 14 / هي امر / هي ام
256 / 11 / لا يكتفي / لا يكتفى
256 / 18 / وفي حقيقة / وان حقيقة
258 / 3 / يخبرونكم / یخبروكم
258 / 16 / اذا اهمل / إذ اهمل
258 / 19 / الشريفة إلا / الشريفة إلا
259 / 5 / تفسير / في تفسير
260 / 11 / لا يكون لا يكونون
262 / 17 / تكلفت / تكفلت
263 / 4 / تلا / فلا
264 / 17 / إلى النظر / عن النظر
268 / 7 / المغرى / المعزي
268 / 24 / 34 – 39 / 24 - 29
ص: 395
صفحة / سطر / خطأ / صواب
270 / 10 / اختبار / اختیار
270 / 15 / اختبارهم / اختیار هم
270 / 16 / 360 / 260
271 / 14 / اكما لطول / اكمال طوله
274 / 12 / 30 / 20
275 / 8 / لك / لکم
270 / 10 / ووجود / ووجوه
275 / 13 / وعلى / على
276 / 15 / شينا / شيئا
283 / 11 / وكيفية / وكيفيته
286 / 7 / رسول اللّه / رسل اللّه
292 / 2 / تكرر ذلك / تكرر من
294 / 5 / لسند / بسند
297 / 19 / ویوله / ويأله
298 / 9 / تتلوه / تتلونه
298 / 19 / واغوائهم / واغرائهم
299 / 6 / بان يوتي / بأن يوتي
299 / 24 / مثل شأنهم / في شأنهم
300 / 10 / يعلمون / (يعلمون)
300 / 19 / اوافي / اوفى
302 / 10 / تحویل / تحویل
302 / 22 / ربانيين / ربانين
304 / 10 / للأولى / الاولى
304 / 10 / الاذكاری / الانكاري
300 / 22 / شرطا معطوفا / شرط معطوف
307 / 23 / ونحو / نحو
308 / 19 / باالعنة / باللعنة
309 / 9 / الذي يرونه / الذي كان يرونه
312 / 4 / ذكر / في ذكر
314 / 15 / محفوظا / محفوظان
31 / 24 / «وطيته» / «وطئة»
323 / 21 / وقبل / وقيل
324 / 18 / برجحانه / رجحانه
325 / 22 / استيلائه / استيلائهم
328 / 19/ كذا من / وكذا من
331 / 22 / خلقوهم / خلفوهم
333 / 22 / المزوع / المزروع
334 / 20 / صفة / صفة
362 / 12 / الاعدام / الاعداد
343 / 10 / والقول / والقول الأول
343 / 19 / انما / انما هو
346 / 23 / هذا وجه / هذا الوجه
347 / 20 / وقوع / إلى وقوع
348 / 1 / اللدين / الدين
378 / 10 / فارون / غارون
349 / 23 / ن رواية / من ان راویه
349 / 24 / رواية / رواية
351 / 4 / فان / فان قلت
351 / 16 / المعنى / هذا المعنوي
357 / 20 / الآخره (/ الآخرة)
359 / 16 / يظهروا / يظهره
359 / 23 / ولو / لو
360 / 13 / بالذلة / با ازلة
360 / 23 / بسبب / سبب
362 / 7 / اذك- / اذك
362 / 22 / استحقاوهم / استحقاقهم
363 / 12 / ولا ينقص / ولا بنقص
365 / 10 / عاقبه / عافيه
366 / 18 / ان / ان كان
368 / / واتقواهم / هم واتقوا
هذا ولم يتيسر لنا الاطلاع على الملازم الاخيرة لنصلح خطأها والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات
ص: 396