المؤلف : الشيخ الطوسي
الجزء : 5
المجموعة : فقه الشيعة الى القرن الثامن
تحقيق : المحققون : السيد علي الخراساني ، السيد جواد الشهرستاني ، الشيخ مهدي نجف / المشرف : الشيخ مجتبى العراقي
سنة الطبع : 1420
كتاب الخلاف
تأليف
شيخ الطائفة الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
قدس سره
385 - 460 ه
الجزء الخامس
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة
لجماعة المدرسين بقم المشرفة
المحرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
شابك 8 - 165 - 470 - 964
8 - 165 - 470 - 964 - ISBN
الخلاف
(ج 5)
تأليف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
تحقيق: السيد علي الخراساني والسيد جواد الشهرستاني والشيخ مهدي نجف
إشراف: الحاج الشيخ مجتبى العراقي
الموضوع: فقه
عدد الأجزاء: 6 أجزاء
عدد الصفحات: 604 صفحة
الطبعة: الثانية
المطبوع: 1000 نسخة
القيمة: 1550 تومان
التاريخ: 1420 ه.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
مسألة 1: موجب القذف عندنا في حق الزوج الحد، وله إسقاطه باللعان، وموجب اللعان في حق المرأة الحد، ولها إسقاطه باللعان. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: موجب القذف في حق الزوج اللعان، فإذا قذف زوجته لزمه اللعان. فإن امتنع من اللعان حبس حتى يلاعن، فإذا لاعن وجب على المرأة اللعان، فإذا امتنعت حبست حتى تلاعن (2).
وقال أبو يوسف: الحد يجب بالقذف على الرجل، وأما المرأة فإذا امتنعت من اللعان لم يلزمها الحد، لأنه يكون حكما بالنكول، والحد لا يجب بالنكول.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
ص: 5
أيضا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) ولم يفرق بين الأجنبي والزوج.
فإن قيل: الآية لا تتناول الزوج، لأنه أوجب الحد على القاذف، إذا لم يقم البينة. وهذه صفة الأجنبي، لأن الزوج إذا لم يقم البينة لاعن.
قلنا: الآية تقتضي عمومها أن من لم يقم بينة وجب عليه الحد، فدل الدليل على أن الزوج إذا لا عن سقط عنه الحد خصصناه، وبقي الباقي على عمومه.
وروي: أن هلال بن أمية (2) قذف زوجته بشريك بن سحماء (3)، فقال له النبي عليه السلام: البينة وإلا فحد في ظهرك، فقال: يا رسول اللّه أيجد أحدنا مع امرأته رجلا يلتمس البينة؟ فجعل النبي عليه السلام يقول: البينة وإلا فحد في ظهرك (4) فأخبر عليه السلام أن الحد واجب عليه حتى يقيم البينة ثبت أن قذف الزوج لزوجته موجب للحد. وأيضا لا خلاف أنه إذا أكذب نفسه يجب عليه الحد، فلو لم يجب بالقذف الحد لما وجب بالإكذاب.
مسألة 2: اللعان يصح بين كل زوجين مكلفين من أهل الطلاق، سواء كانا من أهل الشهادة، أو لم يكونا من أهلها. فيصح القذف واللعان في حق
ص: 6
الزوجين المسلمين والكافرين، أو أحدهما مسلم والآخر كافر. وكذلك بين الحرين والمملوكين، أو أحدهما حر والآخر مملوك. وكذلك إذا كانا محدودين في قذف، أو أحدهما كذلك. وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار والحسن البصري، ومالك، والشافعي، وربيعة، والليث بن سعد، وابن شبرمة، والثوري، وأحمد، وإسحاق (1).
وذهب قوم إلى أن اللعان إنما يصح بين الزوجين إذا كانا من أهل الشهادة. فإن لم يكونا كذلك، أو لم يكن أحدهما فلا يصح بينهما اللعان. فعلى هذا لا لعان بين الكافرين، ولا إذا كان أحدهما كافرا. ولا بين المملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا. ولا بين المحدودين في القذف، أو أحدهما. وذهب إليه الزهري، والأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو حنيفة وأصحابه (2).
والخلاف في فصلين:
أحدهما: أن اللعان يصح بين هؤلاء.
والثاني: أن اللعان هل هو يمين أو شهادة؟ فعندنا يمين يصح منهم.
وعندهم شهادة لا تصح منهم.
ص: 7
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (1) الآية، ولم يفرق.
والأخبار المتضمنة لوجوب اللعان (2) أيضا عامة.
وأما الدلالة على أنه يمين ما رواه عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي عليه السلام لما لاعن بين هلال بن أمية وزوجته، قال: إن أتت به على نعت كذا وكذا فما أراه إلا وقد كذب عليها، وإن أتت به على نعت كذا وكذا فما أراه إلا من شريك بن سحماء، قال فأتت به على النعت المكروه. فقال النبي عليه السلام: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن (3) فسمي اللعان يمينا. ولأنه لو كان شهادة لما جاز من الأعمى، لأن شهادة الأعمى لا تقبل عند أبي حنيفة.
وأيضا: فلو كان شهادة، لما تكررت، لأن الشهادة لا تكرار فيها.
وأيضا: فلو كان شهادة لما كان في حيز المرأة، لأن شهادتها لا تقبل في القذف، ولما صح أيضا من الفاسق لأن شهادة الفاسق لا تقبل.
دليلنا: أن النبي عليه السلام لاعن بين العجلاني (1) وزوجته، ولم يسأل هل له بينة أم لا؟ (2).
مسألة 4: حد القاذف من حقوق الآدميين، لا يستوفى إلا بمطالبة آدمي، ويورث كما يورث حقوق الآدميين. ويدخله العفو والابراء كما يدخل في حقوق الآدميين. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: هو من حقوق اللّه تعالى متعلق بحق الأدمي، ولا يورث ولا يدخله العفو والابراء، ووافق في أنه لا يستوفى إلا بمطالبة آدمي (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وأيضا قول النبي عليه السلام: يوم فتح مكة: ألا إن أعراضكم ودمائكم
ص: 9
وأموالكم عليكم حرام كحرمة بلدكم هذا في شهركم هذا (1) فأضاف الإعراض إلينا كإضافة الدماء والأموال، فكان ما يجب باستباحة ذلك حقا لنا. كما أن ما يجب باستباحة الدم والمال حق لنا.
مسألة 5: إذا قذف زوجته بزنا أضافه إلى مشاهدة، أو انتفى من حمل، كان له أن يلاعن. وإن لم يضفه إلى المشاهدة، بأن قذفها مطلقا، وليس هناك حمل، لم يجز له اللعان. وبه قال مالك (2).
وقال أبو حنيفة والشافعي: له أن يلاعن بالزنا المطلق (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). ولأن القذف قد ثبت بلا خلاف. فما يثبت به موجبه من اللعان يحتاج إلى دليل.
وأيضا فالأصل في اللعان نزل في شأن هلال بن أمية، وكان قذف زوجته بزنا إضافة إلى مشاهدة.
وروي عن ابن عباس: أن هلال بن أمية رجع من أرض عشاء فوجد عند أهله رجلا، فسمع بأذنيه، ورأي بعينيه، فلم يهجد تلك الليلة - يعني: لم ينم - ثم غدا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأخبره بذلك، فقال: يا رسول اللّه
ص: 10
إني أتيت أهلي عشاء، فسمعت بأذني، ورأيت بعيني، فكره ما قال رسول اللّه، واشتد عليه، فنزلت آية اللعان (1).
والآية إذا نزلت في سبب وجب قصره عليه عند مالك (2)، والمعتمد الأول.
مسألة 6: إذا أخبر ثقة بأنها زنت، أو استفاضت في البلد أن فلانا زنا بفلانة، ووجد الرجل عندها ولم ير شيئا، لا يجوز له ملاعنتها.
وقال الشافعي يجوز له لعانها في الموضعين (3).
دليلنا: ما قلناه من أنه لا يجوز لعانها إلا بعد أن يدعي المشاهدة، وهذا ليس بمشاهدة، فلا يجوز له اللعان.
مسألة 7: إذا كانا أبيضين، فجاء الولد أسودا، أو كانا أسودين فجاءت بأبيض، لم يجز له نفيه، ولا لعان المرأة.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والآخر: أنه يجوز له ذلك (4).
دليلنا: ما قدمناه من أنه لا يجوز له اللعان إلا بعد المشاهدة، ومع العلم بنفي الولد، وهذا مفقود هاهنا.
وأيضا روي أن رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله، فقال: يا رسول اللّه إن امرأتي أتت بولد أسود. فقال: هل لك من إبل؟، فقال: نعم. فقال: ما
ص: 11
ألوانها؟ قال: حمر. فقال: هل فيها من أورق؟ فقال: نعم. فقال: أنى ذلك؟ فقال: لعل أن يكون عرقا نزع، قال: وكذلك هذا لعل أن يكون عرقا نزع (1).
مسألة 8: الأخرس إذا كانت له إشارة معقولة، أو كناية مفهومة، يصح قذفه ولعانه، ونكاحه وطلاقه، ويمينه وسائر عقوده. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: لا يصح قذفه ولا لعانه (3).
وهكذا يقول: أنه إذا قذف في حال انطلاق لسانه ثم خرس فلا يصح منه اللعان (4).
ووافقنا في أنه يصح طلاقه ونكاحه، ويمينه وعقوده (5).
ص: 12
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (1) الآية ولم يفرق.
وأيضا إجماع الفرقة وأخبارهم (2) على ذلك.
مسألة 9: إذا قذف زوجته وهي خرساء أو صماء فرق بينهما. ولم تحل له أبدا.
وقال الشافعي: إن كان للخرساء إشارة معقولة، أو كناية مفهومة فهي كالناطقة سواء، وإن لم يكن لها ذلك فهي بمنزلة المجنونة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4) فإنهم لا يختلفون في ذلك.
مسألة 10: إذا قذف الرجل زوجته، ووجب عليه الحد، فأراد اللعان، فمات المقذوف أو المقذوفة، انتقل ما كان لها من المطالبة بالحد إلى ورثتها، ويقومون مقامها في المطالبة. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: ليس لهم ذلك، بناء على أصله أن ذلك من حقوق اللّه دون الآدميين (6).
دليلنا: ما تقدم: أن ذلك من حقوق الآدميين، فإذا ثبت ذلك فكل من قال بذلك قال بهذا، ولم يفرق.
مسألة 11: إذا ثبت أن هذا الحق موروث. فعندنا يرثه المناسبون جميعهم،
ص: 13
ذكرهم وأنثاهم، دون ذوي الأسباب.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: يشترك معهم ذوو الأسباب. والثالث: يختص بها العصبات (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وقد ذكرناها.
مسألة 12: إذا لاعن الرجل الحرة المسلمة، وامتنعت من اللعان وجب عليها الحد. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: يجب عليها اللعان، فإن امتنعت حبست حتى تلاعن (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وأيضا قوله تعالى: " ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الكاذبين " (6) فذكر اللّه تعالى لعان الزوج، ثم أخبر أن المرأة تدرأ عن نفسها العذاب بلعانها، فثبت أنه لزمها عذاب بلعان الزوج، وذلك هو الحد، بدلالة قوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (7) يعني: الحد. وقال
ص: 14
عز وجل: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (1) يعني: من الحد.
مسألة 13: إذا قذف زوجته ولاعنها، وبانت منه، فقذفها أجنبي بذلك الزنا فعليه الحد، سواء كان الزوج نفى نسب ولدها أو لم ينف، وكان الولد باقيا، أو قد مات، أو لم يكن لها ولد. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن نفي نسب الولد، لكن مات الولد، فلا حد على القاذف. وإن لم يكن نفى نسب الولد، أو كان الولد باقيا، فعلى القاذف الحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: فرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بين المتلاعنين، وقضى أن لا يدعى الولد لأب، وأن لا ترمى ولا ولدها، فمن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. ولم يفرق بين أن يكون الولد باقيا، أو قد مات (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
وأيضا عليه إجماع الصحابة، فإن أبا بكرة، ونافعا، ونقيعا شهدوا على المغيرة بالزنا، وصرحوا بالشهادة. وشهد عليه زياد ولم يصرح بل كنى في شهادته، فجلد عمر الثلاثة وجعلهم بمنزلة القذفة، فقال أبو بكرة - بعد ما جلده عمر - اشهد أنه زنا. فهم عمر بجلده، فقال له علي عليه السلام: إن جلدته فارجم صاحبك - يعني المغيرة - وأراد بذلك أنه إن كان هذا شهادة مجددة فقد كملت الشهادة أربعا، فارجم صاحبك. وإن كان ذلك إعادة لتلك الشهادة فقد جلدته فيها دفعة، فلا معنى لجلده ثانيا. فتركه عمر (2).
وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكروه. فعلم أنهم أجمعوا على أن من جلد في قذف أو ما جرى مجراه، ثم أعاد ثانيا لم يجلد دفعة أخرى.
مسألة 15: إذا تزوج رجل بامرأة وقذفها بزنا إضافة إلى ما قبل الزوجية وجب عليه الحد، وليس له أن يلاعن لإسقاطه. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: له إسقاطه باللعان (4).
فالاعتبار عندنا بالحالة التي يضاف إليها الزنا، وعنده بحالة وجود القذف.
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (5).
ص: 16
فإن عارضونا بقوله: " والذين يرمون أزواجهم " (1) وخصوا به آيتنا.
قلنا: لا نسلم له. أن الآية التي ذكروها تناولت هذا القاذف، فإنها واردة فيمن قذف زوجته. هذا لا يقال إنه قذف زوجته، فإنه أضاف القذف إلى حالة كونها أجنبية، والاعتبار بحالة إضافة القذف. ألا ترى أن من قذف حرا بزنا إضافة إلى حال كونه عبدا، لا يقال أنه قذف حرا. ومن قذف مسلمة بزنا، إضافة إلى حال كونها كافرة لا يقال أنه قذف مسلمة. فكذلك هاهنا.
مسألة 16: إذا أبان الرجل زوجته بطلاق ثلاث، أو فسخ، أو خلع، ثم قذف بزنا إضافة إلى حالة الزوجية، فالحد يلزمه بلا خلاف. وهل له إسقاطه باللعان؟ فيه ثلاثة مذاهب:
فمذهبنا ومذهب الشافعي: أنه إن لم يكن له هناك نسب لم يكن له أن يلاعن، فإن كان هناك نسب كان له أن يلاعن لنفيه (2).
وذهب عثمان البتي: إلى أن له اللعان سواء كان هناك نسب أو لم يكن (3).
وذهب الأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد إلى أن لا يلاعن، سواء كان هناك نسب أو لم يكن، ويلزمه الحد. فإن أتت بولد لحقه نسبه، ولم يكن له نفيه باللعان (4).
ص: 17
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) فأوجب الحد على من قذف محصنة ولم يأت بالبينة. وهذا قد قذف محصنة ولم يأت بالبينة، فوجب عليه الحد بظاهر الآية.
مسألة 17: إذا قذف زوجته وهي حامل لزمه الحد، وله إسقاطه باللعان، وبنفي النسب. فإن اختار أن يؤخر حتى ينفصل الولد فيلاعن لنفيه كان له، وإن اختار أن يلاعن في الحال وينفي النسب كان له. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: ليس له أن ينفي نسب الحمل قبل انفصاله، وإن لاعن فقد أتى باللعان الواجب عليه (3). فإن حكم الحاكم بالفرقة بانت الزوجة منه، وليس له بعد ذلك أن يلاعن لنفي النسب. بل يلزمه النسب، لأن عنده اللعان كالطلاق لا يصح إلا في زوجية.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (5) ولم يفصل.
وروى عكرمة، عن ابن عباس قال: لا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 18
بين هلال بن أمية وبين زوجته، وذكر الخبر، والمرأة كانت حاملا. ولا عن بينهما قبل انفصال الولد، بدلالة ما روي في الخبر: أنه قال: إن أتت به على نعت كذا وكذا فما أراه إلا وقد كذب عليها. وإن أتت به على نعت كذا وكذا فما أراه إلا من شريك بن سحماء (1).
ولو كان الولد قد انفصل لما قال: إن أتت به. فثبت أنه كان حملا لم ينفصل.
وذكر في آخر الخبر: وفرق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بين المتلاعنين، وقضى أن لا يدعى الولد لأب (2).
مسألة 18: إذا قذف زوجته بأن رجلا أصابها في دبرها حراما، لزمه الحد بذلك، وله إسقاطه باللعان. وإذا قذف أجنبية أو أجنبيا بالفاحشة في هذا الموضع، لزمه الحد، وله إسقاطه بالبينة. فلا فرق بين الرمي بالفاحشة في هذا الموضع، وبين الرمي في الفرج. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا يجب الحد بالرمي بالإصابة في هذا الموضع. بناء على أصلة في أن الحد لا يجب بهذا الفعل (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (6) وقوله: " والذين يرمون المحصنات " (7) ولم يفصل، ولأنا ندل فيما
ص: 19
بعد على أن هذا الفعل يوجب الحد، وكل من أوجب الحد به أوجب الحد بالقذف فيه.
مسألة 19: إذا قذف زوجته وأمها، بأن قال: يا زانية بنت الزانية، لزمه لكل واحدة منهما الحد، وله الخروج عن حد الأم بالبينة، وعن حد البنت بالبينة واللعان، ولا يدخل حق أحداهما في حق الأخرى. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: يجب عليه الحد للأم، واللعان للبنت، فإن لاعن البنت لم يسقط حق الأم، بل لها المطالبة فإن حقق القذف بالبينة وإلا حد (2).
وإن حد للأم، حكى الطحاوي، عن أبي حنيفة أنه قال: يلاعن البنت (3).
وقال الرازي: هذا لا يجئ على مذهب أبي حنيفة، لأن عنده أن المحدود في القذف لا يلاعن، وهو صحيح (4).
فعلى ما قاله الرازي مذهبهم أنه لا يلاعن البنت، بناء على أصله في أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته، ومن لا يقبل شهادته لا لعان له - وقد مضى الكلام عليه في هذا الأصل - وبينا أن اللعان ليس بشهادة، بل هو يمين.
مسألة 20: إذا نكح رجل امرأة نكاحا فاسدا، وقذفها، فإنه إن لم يكن هناك نسب لزمه الحد، وليس له إسقاطه باللعان بلا خلاف، وإن كان هناك
ص: 20
نسب صحيح، ولم يكن له أن ينفيه باللعان. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: له أن يلاعن ويسقط الحد (2).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (3) الآية، وقوله عز وجل:
" والذين يرمون أزواجهم " (4) فأوجب اللعان لمن رمى زوجته، وهذه ليست زوجته.
مسألة 21: يغلظ اللعان باللفظ والوقت، والموضع، والجمع. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: لا يغلظ بالمكان، ولا بالوقت، ولا بالجمع (6).
دليلنا: أن ذلك أردع وأخوف، وقد قال اللّه تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (7).
مسألة 22: ألفاظ اللعان معتبرة، فإن نقص شيئا منها لم يعتد باللعان، وإن حكم الحاكم بينهما بالفرقة لم ينفذ الحكم. وبه قال الشافعي (8).
ص: 21
وقال أبو حنيفة: إذا أتى بالأكثر وترك الأقل، وحكم الحاكم بينهما بالفرقة نفذ الحكم. وإن لم يحكم به حاكم لم يتعلق به حكم اللعان، ولا يجوز عنده للحاكم أن يحكم بذلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة. وقوله تعالى: " فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه " (2) ومن نقص منه خالف النص.
والخبر أيضا دال عليه، لأن النبي عليه السلام كذلك فعل، فمن خالف وجب أن لا يجزيه.
مسألة 23: الترتيب واجب في اللعان بلا خلاف، يبدأ بلعان الرجل، ثم بلعان المرأة. فإن خالف الحاكم، ولا عن المرأة أولا، وحكم بالتفريق، لم يعتد به، ولم تحصل الفرقة. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة، ومالك: ينفذ حكمه ويعتد به (4).
دليلنا: أن ما قلناه مجمع عليه، وليس على ما قالوه دليل. أيضا فهو
ص: 22
خلاف الآية، فوجب أن لا يجزيه.
وأيضا قوله تعالى: " ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات " (1) فأخبر أنها تدرؤ عن نفسها العذاب بلعانها.
والمراد بالعذاب عندنا الحد. وعند أبي حنيفة الحبس (2)، وكل واحد منهما إنما يثبت بعد لعان الزوج.
مسألة 24: لا يجوز دخول الكفار المساجد، لا بإذن ولا بغير إذن، أي مسجد كان. وبه قال مالك (3).
وقال الشافعي: يجوز دخول الكفار سائر المساجد بالإذن، إلا المسجد الحرام، والحرم، ومساجد الحرم، فإنه لا يجوز دخولهم شيئا منها بحال (4) وقال أبو حنيفة: يجوز دخول سائر المساجد الحرم وغيره (5).
دليلنا: قوله تعالى: " إنما المشركون نجس " (6) فحكم عليهم بالنجاسة، فإذا ثبتت نجاستهم، فلا يجوز دخولهم شيئا من المساجد، لأن النجاسات لا يجوز إدخالها المساجد بلا خلاف.
مسألة 25: إذا لاعن الزوج، تعلق بلعانه سقوط الحد عنه، وانتفى النسب، وزال الفراش، وحرمت المرأة على التأبيد، ويجب على المرأة الحد.
ولعان المرأة لا يتعلق به أكثر من سقوط حد الزنا عنها، وحكم الحاكم لا
ص: 23
تأثير له في إيجاب شئ من هذه الأحكام، فإذا حكم بالفرقة، فإنما تنفذ الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج، لا أنه يبتدي إيقاع فرقة. وبه قال الشافعي (1).
وذهبت طائفة إلى أن هذه الأحكام تتعلق بلعان الزوجين معا. فما لم يوجد اللعان بينهما لم يثبت شئ منها. ذهب إليه مالك، وأحمد، وداود (2). وهو الذي يقتضيه مذهبنا.
وذهب أبو حنيفة إلى أن أحكام اللعان تتعلق بلعان الزوجين وحكم الحاكم، فما لم يوجد حكم الحاكم لا ينتفي النسب ولا يزول الفراش، حتى أن الزوج إن طلقها بعد اللعان نفذ طلاقه، ولكن لعان الزوج يوجب زوال الفراش، ويلزم الزوج إيقاع الفرقة.
فإن أراد الزوجان أن يتقارا على الزوجية، وتراضيا بذلك، لم يجز، ووجب على الحاكم إيقاع الفرقة بينهما.
فالذي يتعلق باللعان - على قول أبي حنيفة - حكمان: انتفاء النسب، وزوال الفراش.
ويتعلق هذان الحكمان بلعانهما وحكم الحاكم. وأما الحد فإنه لا يجب عنده على الزوج بالقذف حتى يسقطه باللعان، والتحريم على التأبيد لا يثبت، فإن الزوج متى أكذب نفسه حلت له الزوجة (3).
ص: 24
وذهب عثمان البتي: إلى أن اللعان إنما ينفي النسب فحسب، وأما الزوجية فإنها لا تزول، ولا يتعلق به تحريم، بل يكونان على الزوجية كما كانا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، فإنها دالة على ما قلناه.
وروى ابن عباس: إن النبي عليه السلام قال: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (3).
العقد في الحال، فإذا أكذب نفسه، أو جلد في حد، زال التحريم.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
وروى ابن عباس: أن النبي عليه السلام قال: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (2).
مسألة 27: إذا أخل بترتيب الشهادة، فأتى بلفظ اللعن في خلال الشهادات أو قبلها، لم يصح ذلك، رجلا كان أو امرأة. وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والآخر: يجزي (3).
والأول أصح عندهم.
دليلنا: أن ما قلناه مجمع على إجزائه، وليس على إجزاء ما قالوه دليل.
وأيضا قوله: " والخامسة أن لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين " (4) فشرط أن يأتي باللعن في الخامسة، فإذا أتى به قبل ذلك لا يعتد به.
مسألة 28: إذا أتى بدل لفظ الشهادة بلفظ اليمين، فقال: أحلف باللّه، أو أقسم باللّه أو أؤلي باللّه، لم يجزه. وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما مثل ما قلناه. والآخر: أنه يجزي لأنه يمين، فما كان يمينا يقوم
ص: 26
مقامه (1).
دليلنا: إن ما قلناه مجمع عليه ولأنه موافق للنص، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 29: إذا قذف زوجته برجل بعينه وجب عليه حدان، حق الزوجة وحق الأجنبي، فإذا لاعن سقط حق الزوجة ولم يسقط حق الأجنبي. وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال الشافعي: يسقط باللعان الحدان معا (3).
دليلنا: أن حق الأجنبي ثابت بالقذف إجماعا، وإسقاطه باللعان يحتاج إلى دليل.
مسألة 30: إذا حد للأجنبي، كان له أن يلاعن في حق الزوجة، ولم يسقط عندنا، وعند الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: لا يلاعن، لأن المحدود في القذف عنده لا يلاعن (5).
دليلنا: الآية وعمومها، لأنه لم يفرق بين من حد ومن لم يحد، لأنه قال:
" والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه أنه لمن الصادقين " (6).
ص: 27
مسألة 31: إذا أكذب الزوج نفسه بعد اللعان، أقيم عليه الحد وألحق به النسب، يرثه الابن ولا يرثه الأب، ولا يزول التحريم، ولا يعود الفراش. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: يعود النسب مطلقا. وبه قال الزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق (1).
وذهب أبو حنيفة، ومحمد: إلى أن التحريم يزول، فيحل له التزويج بالمرأة، وهكذا عنده الزوج إذا حلف في قذف، فإن التحريم يزول. وبه قال سعيد بن المسيب (2).
وذهب سعيد بن جبير: إلى أنها تعود زوجة له كما كانت (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وروى سهل بن سعد الساعدي: أن النبي عليه السلام قال: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (5).
مسألة 32: إذا اعترفت المرأة بالزنا قبل الشروع في اللعان، سقط عن الزوج حد القذف عندنا وعند الشافعي.
وإن أقرت أربع دفعات وجب عليها حد الزنا، ولم يعتبر الشافعي العدد.
ص: 28
فإن لم يكن هناك نسب، لم يكن للزوج أن يلاعن عندنا وعنده على الصحيح من المذهب، لأن اللعان يكون لإسقاط الحد، أو نفي النسب، وليس هاهنا نسب، وإن كان هناك نسب كان له أن يلاعن، لنفيه عندنا وعنده على الصحيح، لأن النسب لم ينتف باعترافها بالزنا، بل هو لاحق به بالفراش، فاحتاج في نفيه إلى اللعان (1).
وخالف أبو حنيفة في ثلاثة أحكام فقال: إذا اعترفت المرأة بالزنا لم يتعلق باعترافها سقوط الحد، لأن عنده أن الحد لا يجب على الزوج بقذفه حتى يسقط.
وإنما أوجب عليه اللعان، ويسقط ذلك باعترافها. وأما حد الزنا فلا يجب عليها باعترافها، لأن عنده أن حد الزنا لا يجب بإقرارها دفعة واحدة - كما قلناه - واللعان لنفي النسب لا يجب أيضا، لأن عنده أن اللعان لا يجوز على نفي النسب المجرد، ولهذا لا يجيزه بعد وقوع الفرقة بين المرأة والزوج (2).
وإنما يجوز على نفس الفراش، ثم يتبعه انتفاء النسب، واللعان هاهنا منفرد بنفي النسب، فلم يكن ذلك للزوج.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). ويدل على أن للزوج اللعان لنفي النسب قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (4) الآية، ولم يفصل بين أن تعترف المرأة بالزنا أو تنكره.
مسألة 33: إذا ماتت المرأة قبل حصول اللعان، كان له أن يلاعن وليها، فإذا فعل ذلك لم يرثها. وإن لم يلاعن ورثها، وكان عليه الحد.
ص: 29
وقال الشافعي: إذا ماتت قبل اللعان ماتت على حكم الزوجية وورثها، والحد واجب لورثتها، وله إسقاطه باللعان (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 34: إذا قذف زوجته وهي حامل بنفي النسب، فإن لاعن ونفى النسب انتفى عنه. وإن أخر ذلك إلى أن تضع الولد لم يبطل حقه من النفي.
فإذا وضعته كان له أن يلاعن في الحال، فإن لاعن وإلا بطل حقه من اللعان، ولحق به النسب. وبهذا قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة، ليس له أن يلاعن ما دامت حاملا، فإن وضعت، فحقه من اللعان يثبت على الفور، فإن أخره بطل. وبه قال محمد بن الحسن، قالا:
إنا استحسنا جواز تأخير ذلك يوما أو يومين (4).
وقال أبو يوسف: له أن يلاعن مدة النفاس أربعين يوما لا أكثر منه (5).
وقال عطاء ومجاهد: له أن يلاعن أبدا. وهو الذي يقتضيه مذهبنا (6).
ص: 30
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، على أن له أن يلاعن، وإبطال ذلك وتخصيصها بوقت دون وقت يحتاج إلى دليل. وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (2) الآية، ولم يخصص.
مسألة 35: إذا انتفى من ولد زوجة له ولم يقذفها، بل قال: وطئك رجل مكرها فلست بزانية، والولد منه، وجب عليه اللعان.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما - وهو الأصح عندهم - مثل ما قلناه.
والثاني: ليس له أن يلاعن (3). لقول النبي عليه السلام: الولد للفراش (4). ولقوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (5) وهذا ما رمى.
دليلنا: ظواهر عموم الأخبار التي وردت في الانتفاء من الولد، وإنه يوجب اللعان (6).
مسألة 36: إذا أقر الرجل بولده بعد اللعان، فقال له أجنبي: لست بابن فلان. فإنه يكون قاذفا، يجب عليه الحد. وإن قال له الأب ذلك، لم يجب عليه الحد.
ص: 31
وللشافعي فيه قولان.
ولأصحابه ثلاث طرق:
أحدها: مثل ما قلناه.
والآخر: أن المسألتين على قولين، أحدهما يكون قاذفا فيهما.
والثاني لا يكون قاذفا.
والثالث: أنه على اختلاف الحالين، فإن قال الأجنبي أو الأب ذلك، بعد استقرار نسبه بإقراره، يكون قاذفا، والثاني أن يكون ذلك قبل استقرار نسبه، بأن يقول ذلك عقيب الولادة، قبل الإقرار والنفي، فإنه لا يكون قاذفا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). ولأن بعد إقراره ثبت نسبه شرعا، فمن أخرجه منه يكون قاذفا.
مسألة 37: إذا أتت المرأة بولدين توأمين، ونفاهما الزوج باللعان، فإن إرث أحدهما من الآخر يكون من جهة الأم ولا يتوارثان بالأب.
وعلى مذهب الشافعي: يتوارثان من جهة الأم - كما قلناه - وهل يتوارثان بالأب؟ على وجهين:
أحدهما: يتوارثان، لأن اللعان إنما يؤثر في حق الزوج والزوجة ولا يتعداهما.
والآخر: - وهو الأصح عندهم - أنهما لا يتوارثان به (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وأيضا نسبهما من جهة الأب منتف بلا
ص: 32
خلاف: فكيف يصح أن يرثا به؟
مسألة 38: إذا أبانها باللعان وفرق بينهما، لم يجب لها السكنى.
وقال الشافعي: يجب لها السكنى (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2) في أن من بانت وانقطعت العصمة بينهما لا تستحق النفقة والسكنى. ولأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 39: إذا أتت المرأة بولدين توأمين، فمات أحدهما وبقي الآخر، فللأب أن ينفي نسب الحي والميت معا. وكذلك إن كان الولد واحدا، فمات، كان له نفيه باللعان. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز نفي نسب الميت، فإذا لم يصح نفي نسب الميت، لم يصح نفي نسب الحي، لأنهما حمل واحد (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5) على أن له أن ينفي الولد، ولم يفصلوا بين الواحد والاثنتين، وبين أن يكون حيا أو ميتا.
مسألة 40: إذا أتت امرأة الرجل بولد، فنفاه باللعان، ثم مات الولد، فرجع الزوج فأقر بنسبه، فإنه لا يلحقه ولا يرثه الأب، سواء خلف الولد ولدا أو لم يخلف، ولو أقر به ثم مات الأب قبل الابن ورثه الابن.
ص: 33
وقال الشافعي: يرثه على كل حال، ويلحق به (1).
وقال أبو حنيفة: إن كان الولد خلف ولدا لحقه نسبه ونسب ولد الولد، وثبت الإرث بينهما. وإن لم يكن خلف ولدا لم يلحقه النسب، سواء مات موسرا أو معسرا (2)، ولا خلاف بينهم أنه لو أقر به قبل موته لحقه، وثبت النسب، وتوارثا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا فإن نسبه منقطع باللعان بلا خلاف، وإعادته تحتاج إلى دليل.
مسألة 41: إذا قال رجل لزوجته: يا زان - بلا هاء التأنيث - كان قاذفا لها عند جميع الفقهاء، إلا داود (4).
وإن قالت المرأة للرجل: يا زانية. كانت قاذفة عند محمد، والشافعي (5).
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: ليس ذلك بقذف، ولا حد فيه (6).
والذي يقتضيه مذهبنا أن نقول: إن علم من قصدهما القذف كانا قاذفين، وإن لم يعلم رجع إليهما في ذلك.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب حكم القذف عليهما يحتاج إلى دليل.
ص: 34
مسألة 42: إذا قال رجل لرجل: زنأت في الجبل. فظاهر هذا أنه أراد صعدت في الجبل، ولا يكون صريحا في القذف، بل يحمل على الصعود. فإن ادعى عليه القذف كان القول قوله مع يمينه، فإن نكل ردت على المقذوف، فإن حلف حد. وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد (1).
وقال أبو حنيفة: هذا قذف بظاهره، يجب به الحد (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
وأيضا قوله: زنأت في الجبل حقيقة في الصعود، فأما الرمي بالزنا فإنما يقال فيه: زنيت، ولا يقال: زنأت. ألا ترى أن القائل يقول: زنأت أزنو زنا، يعني: صعدت وزنيت أزني زناء.
وزنا - بالمد والقصر -: لغتان، يعني: فعلت الزنا. فإحدى الصيغتين تخالف الأخرى.
وقال الشاعر، وهي امرأة (3):
أشبه أبا أمك أو أشبه عمل * ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل * وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل وأيضا لو كانت هذه اللفظة تحتمل، لوجب أن لا تحمل على القذف
ص: 35
بالمحتمل، لأن الحدود موضوعة على أنها تدرأ بالشبهات.
مسألة 43: إذا قذفها بالزنا، فأقيم عليه الحد، ثم قذفها بذلك الزنا، لم يكن قذفا بلا خلاف، ولا يجب عليه حد القذف. فإن قذفها بزنا آخر وجب عليه حد القذف.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: لا حد عليه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وقوله: " والذين يرمون المحصنات " (3) الآية.
مسألة 44: إذا قذفها قبل إقامة الحد، ثم أعاد قذفها بما قذفها به أولا، فإن عليه حدا واحدا. وإن قذفها قذفا مجددا كان عليه حد واحد أيضا. وبه قال الشافعي في القديم والجديد، إلا أنه قال في القديم: ولو قيل أن عليه حدين كان مذهبنا.
فالمسألة على قولين: أصحهما مثل ما قلناه (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات - إلى قوله - فاجلدوهم ثمانين جلدة " (5) ولم يفرق بين أن يكون دفعة، أو دفعتين.
ص: 36
مسألة 45: إذا قذف امرأة أجنبية، ثم تزوجها، وقذفها بعد التزويج، ولم يقم البينة على القذف الأول والثاني، ولا لاعن عن الثاني، وطالبت المرأة بالقذفين، بدأت فطالبت بالثاني، ثم بالأول، وجب عليه الحدان.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: إنهما يتداخلان (1).
دليلنا: أنه قد ثبت عليه الحدان، وتداخلهما يحتاج إلى دليل.
مسألة 46: إذا قذف زوجته، فقبل أن يلاعنها، قذفها قذفا آخر، وجب عليه حد واحد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: أنه يجب عليه حدان. ولا خلاف أن له إسقاطهما باللعان الواحد (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا الأصل براءة الذمة.
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (4) الآية، ولم يفرق بين دفعة ودفعتين، فيجب أن يتعلق وجوب الحد بوجود الرمي، دفعة كانت أو دفعتين.
مسألة 47: إذا قذف زوجته ولاعنها، وبانت باللعان، ثم قذفها بزنا أضافه
ص: 37
إلى ما قبل اللعان، فعليه الحد بهذا القذف.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا حد عليه، لأن حصانتها تسقط باللعان (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (2) الآية فمن أسقط ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 48: إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، فقال لها: يا زانية. فقالت:
بل أنت يا زاني، سقط عنهما الحد، ووجب التعزير على كل واحد منهما.
وقال الشافعي: يجب على كل واحد منهما الحد، وللزوج إسقاطه باللعان أو البينة، وللمرأة إسقاط حد القذف بالبينة، وإسقاط حد الزنا إن لاعن الزوج باللعان وإن أقام البينة فليس لها إسقاطه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4) في أن نفسين إذا تقاذفا سقط عنهما الحد وعزرا، وهي عامة. وأيضا الأصل براءة الذمة.
مسألة 49: إذا قذف زوجته وأجنبية، فقال: زنيتما، وأنتما زانيتان، فهو قاذف لهما، ويجب عليه حدان. وله إسقاط حد زوجته بالبينة أو باللعان، وإسقاط حد الأجنبية بالبينة لا غير. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: إذا لم يقم البينة، أو يلاعن في حق الزوجة هل يجب عليه حد، أو حدان؟ فيه قولان:
ص: 38
أحدهما - وهو الأظهر - مثل ما قلناه.
والآخر: حد واحد (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين ير موت المحصنات " (2) وذلك عام في حق كل واحدة من النساء بلا خلاف.
مسألة 50: إذا قذف الرجل أربع نسوة أجنبيات بكلمة واحدة، أو قذف أربعة رجال أجانب، أو قذف أربعة نسوة، فالحكم في الجميع واحد. وهل يجب عليه حد واحد للجميع، أو يجب عليه حد كامل لكل واحدة من المقذوفات؟ عندنا أنهم إن جاؤوا به متفرقين، كان لكل واحد منهم حد كامل. وإن جاؤوا به مجتمعين كان عليه لجميعهم حد واحد.
وللشافعي فيه قولان:
قال في الجديد: عليه لكل واحد حد كامل، وهو الأصح.
وقال في القديم: يجب لجميعهم حد واحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (5) والمراد به كل واحد من الرامين والمحصنات، فأوجب الحد لكل واحدة منهن. فمن ادعى تداخله، فعليه الدلالة.
ص: 39
فأما إذا جاؤوا به مجتمعين، فإنا أوجبنا عليه حدا واحدا لإجماع الفرقة عليه.
مسألة 51: إذا قذف زوجته وهي حامل،، فله أن يلاعنها وينفي نسب الولد، سواء كان جامعها في الطهر الذي قذفها فيه بالزنا أو لم يجامعها، وسواء جامعها قبل القذف أو بعده. وبه قال أبو حنيفة (1) وأصحابه، والشافعي وعطاء (2).
وذهب مالك إلى أنه إن أضاف الزنا إلى طهر لم يجامعها فيه، كان له أن يلاعن وينفي النسب. وإن أضافه إلى طهر جامعها فيه، لم يكن له أن يلاعن لنفي النسب، لكن يلاعن لإسقاط الحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن له أن يلاعن ولم يفصلوا.
وقوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " (4) الآية، ولم يفصل.
مسألة 52: إذا قذف أجنبيا، أو أجنبية، أو زوجة وكان المقذوف محصنا، فلزمه الحد، فقبل أن يقيم عليه الحد ثبت أن زنا المقذوف، إما ببينة أو بإقراره، فإن الحد لا يسقط عن القاذف. وبه قال المزني، وأبو ثور (5).
وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وعامة الفقهاء: إنه يسقط الحد عن القاذف، ووجب على المقذوف حد الزنا (6).
دليلنا: أنه ثبت وجوب الحد عليه بالإجماع، وإسقاطه يحتاج إلى دليل.
ص: 40
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (1) والاعتبار بوجود الإحصان حال القذف، وقد وجد ذلك، وما تجدد من الزنا يرفع الإحصان الذي كان موجودا حال القذف، فلم يسقط به الحد.
مسألة 53: إذا قذف زوجته بالزنا ولم يلاعن فحد ثم قذفها ثانيا بذلك الزنا فإنه يجب عليه الحد ثانيا. وإن قذفها ولاعنها ثم عاد وقذفها ثانيا بذلك الزنا فلا حد عليه.
وقال الشافعي: لا حد عليه في الموضعين (2)، لأنه في الأول محكوم بكذبه، وفي الثاني محكوم بصدقه. والقذف يكون بما يحتمل الصدق والكذب.
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (3) الآية، ولم يفرق بين أن يكون قد حد أو لم يحد. وعليه إجماع الفرقة، وأخبارهم تدل عليه (4).
مسألة 54: إذا قذفها ولاعنها، فامتنعت من اللعان فحدت، ثم قذفها أجنبي بذلك الزنا لم يجب عليه الحد. وبه قال أبو إسحاق (5).
وقال أبو العباس بن سريج: يجب عليه الحد (6).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (7) وهذا ما رمى محصنة، لأن اللعان وإقامة الحد عليها يسقط حصانتها.
مسألة 55: لا خلاف أن الكفالة في حدود اللّه لا تصح - مثل: حد الزنا،
ص: 41
وشرب الخمر، وقطع السرق - وكفالة من عليه مال تصح عندنا. وكفالة من عليه حد القذف لا تصح. وللشافعي في كل واحد منهما قولان (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن كفالة من عليه حد لا تصح، ولم يفصلوا، ولا خلاف بينهم أن كفالة من عليه مال تصح، وهو أحد قولي الشافعي.
مسألة 56: إذا قال: زنت يدك أو رجلك، لا يكون قذفا صريحا وبه قال أبو حنيفة. وأصح قولي الشافعي (2).
والقول الآخر نقله المزني أنه صريح (3).
دليلنا: أن إثبات القذف يحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل فيه. على أن هذه الألفاظ صريحة في القذف، والأصل براءة الذمة.
مسألة 57: إذا قال: زنى بدنك. كان صريحا في القذف. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، والمزني وأبو العباس (4). وقال في القديم: لا يكون قذفا (5).
دليلنا: أنه صرح بالزنا وأضافه إلى بدنه الذي هو جملته، فيجب أن يكون قذفا.
مسألة 58: كنايات القذف - مثل قوله: يا حلال بن الحلال، أو ما أمي زانية، أو لست بزان - لا تكون قذفا لظاهرها، إلا أن ينوي بذلك القذف، سواء
ص: 42
كان ذلك حال الغضب أو حال الرضا. وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه، والثوري (1).
وقال مالك: إن كان ذلك حال الرضا لم يكن قذفا، وإن كان حال الغضب كان قذفا (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإثبات ألفاظ القذف وكناياته وما يكون به قاذفا يحتاج إلى دليل.
وروي أن رجلا أتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول اللّه إن امرأتي لا تكف يد لامس، فقال: طلقها، فقال: إني أحبها، فقال: أمسكها (3) فوجه الدلالة أنه عرض بزوجته، ونسبها إلى الفجور، وأنها لا ترد من يطلب الفجور، فلم يجعله النبي عليه السلام قاذفا.
مسألة 59: إذا شهد الزوج ابتداء من غير أن يتقدم منه القذف مع ثلاثة على المرأة بالزنا، قبلت شهادتهم، ووجب على المرأة الحد، وهو الظاهر من أحاديث أصحابنا (4). وبه قال أبو حنيفة (5).
وقد روي أيضا أن الثلاثة يحدون ويلاعن الزوج (6).
وقال الشافعي: لا تقبل شهادة الزوج، والثلاثة الأخر هل يحدون أم لا؟
ص: 43
على قولين (1).
وأما الزوج فقال أبو إسحاق: يكون قاذفا، وعليه الحد قولا واحدا، وذكر أنه قول الشافعي (2)، وقال ابن أبي هريرة: حكمه حكم الشهود، إن قلنا يجب عليهم الحد وجب عليه، وإن قلنا لا حد عليهم فلا حد عليه (3).
دليلنا: على ذلك أحاديث أصحابنا (4) التي ذكرناها.
وأيضا قوله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم " (5) ولم يفرق بين أن يكون الزوج واحدا منهم، أو لا يكون.
وقوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " (6) وهذا قد أتى بالشهداء.
وقال تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (7) وهذا قد أتى بأربعة شهداء.
مسألة 60: إذا انتفى من نسب حمل بزوجته، جاز له أن يلاعن في الحال قبل الوضع.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (8). والثاني: - وهو اختيار أبي
ص: 44
إسحاق - أنه لا يلاعن إلا بعد الوضع. وهو أصحهما عندهم، وبه قال أبو حنيفة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). والآية (3) أيضا تدل عليه، لأنه لم يستثن فيها الحامل، ولم يفرق.
مسألة 61: إذا قذف زوجته، ثم ادعى أنها أقرت بالزنا، وأقام شاهدين على إقرارها، لم يثبت إقرارها إلا بأربعة شهود.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: - وهو أصحهما عندهم - أنه يثبت بشاهدين (4).
دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على ثبوت الإقرار به، وما ذكروه ليس عليه دليل، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يجوز إيجاب الزنا عليها إلا بدليل.
مسألة 62: إذا قذف امرأة، وادعى أنها كانت أمة أو مشركة حال القذف. وقالت: ما كنت قط إلا مسلمة حرة، فالقول قوله مع يمينه.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: أن القول قولها (5).
ص: 45
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، والدار تجمع المسلمين والمشركين، والعبيد والأحرار، فلا ظاهر يحكم به، ولا يعلق على الذمة إلا ما دل عليه الدليل. ولو قلنا: أن الظاهر في دار الإسلام، والأصل الإسلام، وحكمنا بأن القول قولها مع يمينها لكان قويا.
مسألة 63: إذا قذف امرأة فطالبته بالحد، فقال: لي بينة غائبة، إمهلوني حتى تحضر. لا يمهل فيه، ويقام عليه الحد.
وقال الشافعي: يؤجل يوما أو يومين (1).
وقال أصحابه: يؤجل ثلاثة أيام (2).
دليلنا: أن الحد قد وجب لها، ووجوب التأجيل يحتاج إلى دليل.
وأيضا روى أصحابنا: أنه إذا حضر الشهود على الزنا، وقالوا: الآن يجئ الباقون لم يمهلوا، وأقيم عليهم الحد (3)، قالوا: لأنه ليس في إقامة الحد تأخير.
الحدود. وأما كتاب قاض إلى قاض فإنه لا يقبل في شئ من الأحكام عندنا.
وأيضا فإن الإثبات بهما يحتاج إلى شرع، ولا شرع يدل على ذلك.
مسألة 65: التوكيل في استيفاء حدود الآدميين مع حضور من له الحد يجوز بلا خلاف. فأما مع غيبته فإنه يجوز أيضا عندنا.
ولأصحاب الشافعي فيه ثلاث طرق:
منهم من قال المسألة على قولين إحداهما: يجوز، والآخر: لا يجوز.
والثاني: أنه يجوز التوكيل قولا واحدا.
والثالث: أنه لا يجوز قولا واحدا (1).
دليلنا: الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 66: إذا ولد له ولد وهنئ به، فقال له المهنئ: بارك اللّه لك في مولودك، جعله اللّه خلفا لك. فقال: آمين، أو أجاب اللّه دعاءك فإنه يكون ذلك إقرارا يبطل به النفي. وإن قال في الجواب بارك اللّه عليك، أو أحسن اللّه جزاك لم يبطل النفي عند الشافعي (2)، وهو الذي يقوى عندي.
وقال أبو حنيفة: يبطل فيهما (3).
دليلنا: أن ذلك محتمل للرضا بالولد، ويحتمل المقابلة والمكافاة للدعاء بالدعاء من غير رضا بالولد، ويخالف المسألة الأولى، لأن الدعاء فيها كان للولد، فأجابته على الدعاء به رضا بالولد. وهاهنا يكون اقتداء بقوله: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها " (4) الآية.
ص: 47
مسألة 67: الظاهر من روايات أصحابنا: أن الأمة لا تصير فراشا بالوطء، ولا يلحق به الولد إلزاما، بل الأمر إليه إن شاء أقر به، وإن لم يشأ لم يقر به (1).
وقال الشافعي: إذا وطأها ثم جاءت بعد ذلك بولد لوقت يمكن أن يكون منه، بأن يمضي عليه ستة أشهر فصاعدا ألزمه الولد، فإنها تصير فارشا بالوطء.
لكن متى ما ملك الرجل أمة ووطأها سنين ثم جاءت بولد، فإنه يكون مملوكا له لا يثبت نسبه منه إلا بعد أن يقر بالولد، فيقول: هذا الولد مني، فحينئذ يصير ولده باعترافه. فإذا اعترف بالولد ولحقه نسبة صارت الأمة فراشا له، فإذا أتت بعد ذلك بولد لحقه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا الأصل عدم النسب، وفقد الفراش وإثبات ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 68: لا خلاف بين المحصلين أنه لا يثبت اللعان بين الرجل وأمته، ولا ينفى ولدها باللعان. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، ومالك، وغيرهم (4).
وحكى أحمد بن حنبل، عن أبي عبد اللّه - يعني الشافعي - أنه رأى نفي ولد الأمة باللعان (5). وجعل أبو العباس هذا قولا آخر له، ودفع أصحابه هذه
ص: 48
الحكاية، وقالوا: ليس هذا المذهب، بل المذهب أنه ينتفي من ولدها بادعاء الاستبراء، واليمين عليه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء " (3) الآية، فأثبت اللعان بين الأزواج دون المماليك، فمن أثبت بينهم لعانا فقد خالف النص.
مسألة 69: لا يثبت اللعان بين الزوجين قبل الدخول، وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، إلا أنه إن حصل هناك إمكان وطء وتمكين منه يثبت بينهما اللعان.
مسألة 70: يعتبر في باب لحوق الأولاد إمكان الوطء، ولا يكفي التمكين فقط وقدرته. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: المعتبر قدرته وتمكينه من الوطء دون إمكان الوطء.
وعلى هذا حكى الشافعي عنه ثلاث مسائل في القديم:
إحداهما: إذا نكح رجل امرأة بحضرة القاضي فطلقها في الحال ثلاثا، ثم أتت بولد من حين العقد لستة أشهر فإن الولد يلحقه، ولا يمكنه نفيه باللعان.
والثانية: قال لو تزوج المشرقي بمغربية، ثم أتت بولد من حين العقد لستة
ص: 49
أشهر، فإنه يلحقه. وإن كان العلم حاصلا أنه لا يمكن وطؤها بعد العقد بحال.
والثالثة: إذا تزوج رجل امرأة، ثم غاب عنها وانقطع خبره، فقيل لامرأته:
أنه قد مات، فاعتدت وانقضت عدتها، وتزوجت برجل فأولدها أولادا، ثم عاد الزوج الأول. قال هؤلاء: الأولاد كلهم للأول، ولا شئ للثاني (1).
دليلنا: أن العلم حاصل بأن الولد لا يمكن أن يكون منه، فلا يجوز إلحاقه به. ونحن ننفي عنه الولد بوجود اللعان من جهته، وإن جوزنا أن يكون منه لغلبة الظن أن لا يكون منه، فمع العلم بأنه ليس منه أولى.
ص: 50
ص: 51
ص: 52
كتاب العدة مسألة 1: الأظهر من روايات أصحابنا، أن التي لم تحض ومثلها لا تحيض، والآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض، لا عدة عليهما من طلاق، وإن كانت مدخولا بها (1).
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: يجب عليهما العدة بالشهور (2). وبه قال قوم من أصحابنا (3).
دليلنا: روايات أصحابنا وأخبارهم (4)، وقد ذكرناها.
وأيضا قوله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر " (5) فشرط في إيجاب العدة ثلاثة أشهر إن ارتابت، والريبة لا تكون إلا فيمن تحيض مثلها، وأما من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها.
ص: 53
مسألة 2: الأقراء: هي الأطهار. وبه قال عبد اللّه بن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة (1)، وبه قال الفقهاء السبعة (2)، وفي التابعين: الزهري، وربيعة (3). وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور، وغيرهم (4).
وقال قوم: الأقراء، هي الحيض. ذهب إليه - على ما رووه - علي عليه السلام، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو موسى. وبه قال أهل البصرة:
الحسن البصري، وعبيد اللّه بن الحسن العنبري. وبه قال الأوزاعي، وأهل الكوفة والثوري، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وإسحاق (5).
وحكي عن أحمد أنه قال: الأظهر عندي قول زيد بن ثابت أنها الأطهار.
ورووا أنه قال: لا أحسن أن أفتي في هذه المسألة بشئ مع اختلاف الصحابة
ص: 54
فيها (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأما القرء: فهو مشترك بين الطهر والحيض في اللغة (3).
وفي الناس من قال: هو عبارة عن جمع الدم بين الحيضتين، مأخوذ من قرأت الماء في الحوض إذا جمعته (4).
ومنهم من قال: هو اسم لإقبال ما كان إقباله معتادا، وإدبار ما كان إدباره معتادا. يقال: اقرأ النجم: إذا طلع، لأن طلوعه معتاد. واقرأ النجم إذا غاب، لأن غيبوبته معتادة. فسمي الطهر والحيض قرء، لأن غيبتهما معتادة.
وإذا كان ذلك مشتركا، رجعنا في البيان إلى الشرع.
وروي أن النبي عليه السلام قال لفاطمة بنت أبي حبيش: صلي أيام أقرائك. يعني: أيان طهرك (5).
وروي أنه قال لعبد اللّه بن عمر، حيث طلق امرأته وهي حائض: ما هكذا أمرك ربك، إنما السنة أن تستقبل بها ثم تطلقها في كل قرء تطليقة. يعني: في كل طهر (6). والمعول على ما قلناه.
ص: 55
مسألة 3: إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (1). والثاني: لا تنقضي حتى يمضي الدم يوما وليلة (2).
وفي أصحابه من قال ذلك على اختلاف الحالين، إن كان لها عادة فرأت في وقت العادة تنقضي عدتها عند رؤية الدم. وإن كان قبل العادة، حتى يمضي يوم وليلة ليتحقق أنه دم حيض دون دم فساد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (5) وهذه عند رؤية الدم من الثالث قد اعتدت بثلاثة أقراء، التي هي الأطهار.
يوما، والأقراء: الحيض.
وقال أبو حنيفة: أقله ستون يوما ولحظة، لأنه يعتبر أكثر الحيض وأقل الطهر، وأكثر الحيض عنده عشرة أيام، وأقل الطهر خمسة عشر يوما (1).
دليلنا: ما دللنا عليه من أن الأقراء هي الأطهار، وأقل الحيض ثلاثة أيام، وأقل الطهر عشرة أيام. فإذا ثبت ذلك، فإذا طلقها قبل حيضها بلحظة، ثم حاضت بعده ثلاثة أيام، ثم طهرت عشرة أيام، ثم حاضت ثلاثة أيام، ثم طهرت عشرة أيام، ثم رأت الدم لحظة فقد مضى لها ثلاثة أقراء.
مسألة 5: الذي عليه أصحابنا ورواياتهم به، أن المطلقة إذا مرت بها ثلاثة أشهر بيض لا ترى فيها الدم، فقد انقضت عدتها بالمشهور. فإن رأت الدم قبل ذلك، ثم انقطع دمها، صبرت تسعة أشهر، ثم تستأنف العدة ثلاثة أشهر. وإن رأت الدم الثاني قبل ذلك، صبرت تمام السنة، ثم تعتد بعده بثلاثة أشهر.
وقال الشافعي: إن ارتفع حيضها بعارض من مرض أو رضاع، لا تعتد بالشهور، بل تعتد بالأقراء وإن طالت، وقالوا: هذا إجماع. وإن ارتفع حيضها بغير عارض، قال في القديم: تتربص إلى أن تعلم براءة رحمها، ثم تعتد عدة الآيسات (2).
وروي هذا عن عمر بن الخطاب، وبه قال مالك بن أنس (3).
وقال في الجديد: تصبر أبدا حتى تيأس من الحيض ثم تعتد بالشهور (4) - وهو
ص: 57
الصحيح عندهم - قال المزني: رجع الشافعي عن القول في القديم إلى الجديد.
وروي ذلك عن ابن مسعود. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا قوله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم " (3).
وروى أصحابنا: أن معنى قوله: " إن ارتبتم " إن شككتم في ارتفاع الدم (4).
مسألة 6: إذا زوج صبي صغير غير بالغ امرأة، فمات عنها، لزمها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، سواء كانت حاملا أو حائلا، وسواء ظهر بها الحمل بعد وفاة الزوج أو كان موجودا حال وفاته. وبه قال مالك بن أنس، والشافعي (5).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن ظهر الحمل بعد الوفاة اعتدت بالشهور كقولنا، وإن كان موجودا حال الوفاة اعتدت عنه بوضعه (6).
ص: 58
دليلنا: أن عدة المتوفى عنها زوجها عندنا أبعد الأجلين إذا كانت حاملا من الشهور أو وضع الحمل، فإن وضعت قبل الأربعة أشهر لم تنقض عدتها وهذا الفرع يسقط عنا، لأنه خلاف من اعتبر في انقضاء عدتها الوضع.
وأيضا قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " (1). فلم يفصل.
مسألة 7: المعتدة بالأشهر إذا طلقت في آخر الشهر، اعتدت بالأهلة بلا خلاف وإن طلقت في وسط الشهر سقط اعتبار الهلال في هذا الشهر، واحتسبت بالعدد، فتنظر قدر ما بقي من الشهر، وتعتبر بعده هلالين، ثم تتم من الشهر الرابع ثلاثين، وتلفق الساعات والانصاف. وبه قال الشافعي (2).
وقال مالك: تلفق الأيام التامة، ولا تلفق الإنصاف والساعات (3).
وقال أبو حنيفة: تقضي ما فاتها من الشهر. فيحصل الخلاف بيننا وبينه إذا كان الشهر ناقصا، ومضى عشرون يوما.
عندنا: أنها تحتسب، ما بقي، وهو تسعة، وتضم إليه أحد وعشرون.
وعنده: تقضي ما مضى وهو عشرون يوما (4).
وقال أبو محمد ابن بنت الشافعي (5): إذا مضى بعض الشهر سقط اعتبار
ص: 59
الأهلة في الشهور كلها، وتحتسب، جميع العدة بالعدد تسعون يوما (1).
دليلنا: قوله تعالى: " يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " (2) وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العدد في الجميع. وأما من اعتبر الهلال في الأول، فقوله قوي، لظاهر الآية. لكن اعتبرنا في الشهر الأول العدد لطريقة الاحتياط، والخروج من العدة باليقين.
مسألة 8: إذا طلقها وهي حامل، فولدت توأمين بينهما أقل من ستة أشهر، فإن عدتها لا تنقضي حتى تضع الثاني منهما. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي، وعامة أهل العلم (3).
وقال عكرمة: تنقضي عدتها بوضع الأول (4).
وقد روى أصحابنا: أنها تبين بوضع الأول، غير أنها لا تحل للأزواج حتى تضع الثاني (5)، والمعتمد الأول.
دليلنا: قوله تعالى: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (6) وهذه ما وضعت حملها.
مسألة 9: إذا طلقها فاعتدت، ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدة، لم يلحقه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأبو العباس بن
ص: 60
سريج (1).
وقال باقي أصحاب الشافعي: إذا أتت بولد لأقل من أربع سنين، وأكثر من ستة أشهر من وقت الطلاق لحق به (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا: فإنا قد دللنا على أن زمان الحمل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وكل من قال بذلك قال بما قلناه، والفرق بينهما خلاف الإجماع.
مسألة 10: إذا خلا بها ولم يدخل بها، لم يجب عليها العدة، ولا يجب لها المهر. على أكثر روايات أصحابنا (3)، إن كان هناك ما يعتبر به عدم الوطء، بأن تكون المرأة بكرا فتوجد كهي فلا يحكم به. وإن كانت ثيبا حكم في الظاهر بالإصابة، ولا يحل لها جميع الصداق إلا بالوطء.
وقال أبو حنيفة: الخلوة كالإصابة على كل حال (4).
وقال مالك: الخلوة التامة يرجح بها قول مدعي الإصابة من الزوجين، وهي ما تكون في بيت الرجل. وما لم تكن تامة لا يحكم به، وهي ما كانت في بيت المرأة (5).
ص: 61
وللشافعي في ذلك قولان، فقال في القديم: للخلوة تأثير (1).
واختلف أصحابه في معناه، فقال بعضهم: أراد به أنها بمنزلة الإصابة، مثل قول أبي حنيفة. وقال بعضهم: أراد بذلك ما قال مالك في أنه يرجح بها قول المدعي للإصابة (2).
وقال في الجديد: لا تأثير للخلوة ولا يرجح بها قول المدعي للإصابة، ولا يستقر المهر بها، وهو المذهب عندهم (3).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: الأصل براءة الذمة من المهر والعدة، وشغلها يحتاج إلى دليل، وما اعتبرناه مجمع عليه وما ادعوه ليس عليه دليل.
مسألة 11: إذا مات عنها وهو غائب عنها، وبلغها الخبر، فعليها العدة من يوم يبلغها. وبه قال علي عليه السلام (4).
وذهب قوم إلى أن عدتها من يوم مات، سواء بلغها بخبر واحد أو متواتر.
وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن الزبير، وعطاء، والزهري، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه، وعامة الفقهاء، والشافعي وغيره (5).
ص: 62
وقال عمر بن عبد العزيز: إن ثبت ذلك بالبينة، فالعدة من حين الموت، وإن لم يثبت بالبينة بل بالخبر والسماع فمن حين الخبر (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط. وأما إذا طلقها وهو غائب فإن عدتها من يوم طلقها لا من يوم يبلغها، والخلاف بين الفقهاء فيها مثل الخلاف في المسألة الأولى سواء.
مسألة 12: الأمة إذا طلقت، ولم تكن حاملا، عدتها قرءان. وبه قال جميع الفقهاء (2)، وهو المروي عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عمر (3).
وقال داود: عدتها ثلاثة أقراء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة من المهر والعدة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
وأيضا: ما اعتبرناه مجمع عليه، وما ذكره ليس عليه دليل. والأصل براءة الذمة.
ص: 63
وروى ابن عمر: أن النبي عليه السلام قال: عدة الأمة حيضتان (1).
مسألة 13: إذا كانت الأمة من ذوات الشهور، فعدتها خمسة وأربعون يوما.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: مثل ما قلناه.
والثاني: أن عدتها شهران، في مقابلة حيضتين.
والثالث: - وهو الصحيح عندهم - أن عدتها ثلاثة أشهر، لأن براءة الرحم لا تعلم بأقل من ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، فما اعتبرناه مجمع على وجوبه عليها والزيادة ليس عليها دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 14: الأمة إذا طلقت، ثم أعتقت وهي في عدتها قبل أن يمضي لها قرءان، فإن كان الطلاق رجعيا أكملت عدة الحرة، وإن كان بائنا أكملت عدة الأمة قرءين.
وللشافعي فيه قولان:
قال في الجديد: إن كان رجعيا أكملت عدة حرة، وإن كان بائنا فعلى قولين.
وقال في القديم: إن كان بائنا أكملت عدة أمة، وإن كان رجعيا فعلى قولين (4).
ص: 64
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 15: الأمة إذا كانت تحت عبد وطلقها طلقة، ثم أعتقت، ثبت له عليها رجعة بلا خلاف، ولها اختيار الفسخ. فإن اختارت الفسخ بطل حق الرجعة بلا خلاف، وعندنا أنها تتم عدة الحرة ثلاثة أقراء.
واختلف أصحاب الشافعي، فقال أبو إسحاق مثل ما قلناه (2).
ومن أصحابه من قال: فيه قولان:
أحدهما: تستأنف عدة الحرة.
والآخر: أنها تبنى.
وعلى كم تبني؟ فيه قولان، أحدهما: على عدة الأمة. والآخر: على عدة الحرة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4) على ما تقدم.
دليلنا: قوله تعالى: " ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة " (1) وهذه طلقها قبل المساس.
مسألة 17: إذا طلقها طلقة رجعية، ثم راجعها، ثم طلقها بعد الدخول بها، فعليها استئناف العدة بلا خلاف. وإن طلقها ثانيا قبل الدخول فعليها استئناف العدة، لأن العدة الأولى قد انقضت بالرجعة.
وقال الشافعي: إن لم يكن دخل بها على قولين:
قال في القديم: تبني. وهو قول مالك (2).
وقال في الجديد: تستأنف. وهو قول أبي حنيفة، واختيار المزني، وأصح القولين عندهم (3).
فأما إذا خالعها ثم طلقها، فإنها تبني على العدة الأولة قولا واحدا. وهو قول محمد بن الحسن (4).
وعند أبي حنيفة: أنها تستأنف العدة (5).
وقال داود: لا تجب عليها عدة أصلا، لا تستأنف العدة ولا تبني (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم. وأيضا: قوله تعالى: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " (7) ولم يفرق.
مسألة 18: عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حائلا أربعة أشهر وعشرة
ص: 66
أيام بلا خلاف، والاعتبار بالأيام دون الليالي عندنا، فإذا غربت الشمس من اليوم العاشر انقضت العدة وبه قال جميع الفقهاء (1) إلا الأوزاعي، فإنه قال:
تنقضي عدتها بطلوع الفجر من اليوم العاشر (2).
دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على انقضاء عدتها به، وما ذكره ليس عليه دليل.
وأيضا: فالليالي إذا أطلقت فإنما يراد بها ليالي أيامها، فحمل الكلام على ذلك هو الواجب.
وأبي هريرة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا أن ما اعتبرناه مجمع على انقضاء العدة به، وليس على ما ذكروه دليل.
وأيضا قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم - إلى قوله - وعشرا " (2) ولم يفصل. فإذا وضعت قبل ذلك وجب عليها تمام ذلك بحكم الآية، فإذا ثبت ذلك وبقيت المسألة الأخرى بأنها مجمع عليها، وهي: إذا مضى الأربعة أشهر وعشرة أيام وجب عليها أن تنتظر وضع الحمل.
وأيضا: فإن أحدا لا يفرق بين المسألتين.
وقوله عز وجل: " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " (3) مخصوصة بالمطلقات، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات، ولم يجر للمتوفى عنها زوجها ذكر.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة.
مسألة 21: المتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرا، حاضت فيها ثلاثة أقراء أو لم تحض. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (1).
وقال مالك: إن كانت عادتها أن تحيض كل خمسة أشهر دفعة، فإنها تعتد بالشهور ولا تراعي الحيض. وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة، أو في كل شهرين مرة، واحتبس حيضها، لم تنقض عدتها بالشهور حتى يستبين أمرها (2).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " (3) ولم يفرق.
مسألة 22: المطلقة البائنة لا تستحق النفقة، ولا السكنى عندنا، إلا أن تكون حاملا. وبه قال عبد اللّه بن عباس، وجابر، وفي الفقهاء: أحمد بن حنبل (4).
وقال الشافعي: لا تستحق النفقة، وتستحق السكنى. وبه قال عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن مسعود، وعائشة. وبه قال الفقهاء السبعة، وفقهاء
ص: 69
الأمصار بأسرهم: مالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: تستحق النفقة والسكنى معا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وأيضا: الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 23: الفاحشة التي تحل إخراج المطلقة من بيت زوجها أن تشتم أهل الرجل وتؤذيهم وتبدو عليهم. وبه قال ابن عباس. وإليه ذهب الشافعي (4).
وقال ابن مسعود: الفاحشة أن تزني، فتخرج وتحد، ثم ترد إلى موضعها.
وبه قال الحسن البصري (5).
دليلنا: عموم الآية (6) وإجماع الفرقة. وأيضا: فإن النبي صلى اللّه عليه
ص: 70
وآله أخرج فاطمة بنت قيس لما بدت على بيت أحمائها وشتمتهم (1)، فثبت أن الآية وردت في هذا.
مسألة 24: المتوفى عنها زوجها لا تستحق النفقة بلا خلاف. وعندنا لا تستحق السكنى أيضا. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - وعبد اللّه بن عباس، وعائشة (2). ومن الفقهاء أبي حنيفة وأصحابه، وأحد قولي الشافعي، واختيار المزني (3).
والقول الآخر: أنها تستحق السكنى. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن مسعود، وأم سلمة. وهو قول مالك وعامة أهل العلم، وهو أصلح القولين عندهم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا: الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 25: إذا أحرمت المرأة بالحج، ثم طلقها زوجها، وجب عليها العدة. فإن كان الوقت ضيقا بحيث تخاف فوات الحج إن أقامت، فإنها تخرج وتقضي حجها، وتعود فتقضي باقي العدة إن بقي عليها شئ. وإن كان الوقت
ص: 71
واسعا، أو كانت محرمة بعمرة، فإنها تقيم وتقضي عدتها، ثم تحج وتعتمر. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: عليها أن تقيم وتعتد، ولا يجوز لها الخروج، سواء كان الوقت ضيقا أو واسعا (2).
دليلنا: قوله تعالى: " أتموا الحج والعمرة لله " (3) ولم يفصل.
مسألة 26: المتوفى عنها زوجها عليها الحداد طول العدة. وبه قال جميع الفقهاء، وأهل العلم (4) إلا الشعبي، والحسن البصري، فإنهما قالا: لا يلزمها الحداد في جميع العدة، وإنما يلزمها في بعض العدة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على الزوج أربعة أشهر وعشرا (6).
ص: 72
مسألة 27: المطلقة البائن - إما بطلاق ثلاث أو خلع أو فسخ - لا يجب عليها الحداد عندنا.
وللشافعي فيه قولان. قال في القديم: يجب عليها الحداد (1). وبه قال سعيد بن المسيب، وأبو حنيفة وأصحابه (2).
وأطلق القول في الجديد. إلا أن الظاهر منه أنه لم يوجب الحداد، وإنما استحبه. وبه قال عطاء، ومالك (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن الأصل براءة الذمة.
وأيضا: فاستعمال الزينة والطيب الأصل فيه الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل.
وقوله تعالى: " قل من حرم زينة اللّه التي أخرج لعباده " (4) يدل عليه أيضا.
مسألة 28: المتوفى عنها زوجها إذا كانت صغيرة عليها الحداد بلا خلاف، وينبغي لوليها أن يجنبها ما يجب على الكبيرة اجتنابه من الحداد. وبه قال
ص: 73
الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا حداد عليها (2).
دليلنا: عموم الأخبار (3)، وطريقة الاحتياط.
وروي: أن امرأة أتت النبي عليه السلام فقالت: يا رسول اللّه إن ابنتي توفي زوجها، وقد اشتكت عينها. أفأكحلها؟ فقال: لا (4). ولم، يسأل هل هي صغيرة أو كبيرة، فدل على أن الحكم لا يختلف.
دليلنا: عموم الأخبار (1). وقول النبي عليه السلام: المتوفى عنها زوجها لا تختضب، ولا تكتحل (2). وهو عام.
دليلنا: إجماع الفرقة وأيضا: فقد ثبت وجوب العدتين عليها، وتداخلهما يحتاج إلى دليل.
وروى سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: أن طليحة (1) كانت تحت رشيد الثقفي (2)، فطلقها البتة فنكحت في آخر عدتها، ففرق عمر بينهما وضربها بالمخفقة ضربات، وزوجها، ثم قال: أيما رجل تزوج امرأة في عدتها، فإن لم يكن دخل بها زوجها الذي تزوجها فرق بينهما، وتأتي ببقية عدة الأول، ثم تستأنف عدة الثاني، ثم لا تحل له أبدا (3). وعن علي عليه السلام، مثل ذلك (4)، ولا مخالف لهما في الصحابة.
مسألة 32: إذا نكحت المعتدة، وطأها الناكح وهما جاهلان بتحريم الوطء، أو كان الواطئ جاهلا والمرأة عالمة، فلا حد على الواطئ، ويلحقه النسب، وتحرم عليه على التأبيد. وروي ذلك عن عمر. وبه قال: مالك، والشافعي في القديم (5).
وقال في الجديد: تحل له بعد انقضاء العدة. وبه قال أهل العراق، ورووه
ص: 76
عن علي عليه السلام (1).
وهكذا حكم كل وطء بشبهة تتعلق به فساد النسب، كالرجل يطأ زوجة غيره بشبهة أو أمته.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وروي ذلك عن عمر (3)، ولا مخالف له في الصحابة.
مسألة 33: امرأة المفقود الذي لا يعرف خبره، ولا يعلم أحي هو أم ميت، تصبر أربع سنين، ثم ترفع خبرها إلى السلطان لينفذ من يتعرف خبر زوجها في الآفاق، فإن عرف له خبرا لم يكن لها طريق إلى التزويج، وإن لم يعرف له خبرا أمر وليه أن ينفق عليها، فإن أنفق عليها فلا طريق لها إلى التزويج، وإن لم يكن له ولي أمرها أن تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، فإذا اعتدت ذلك حلت للأزواج.
وللشافعي فيه قولان:
قال في القديم: تصبر أربع سنين، ثم ترفع أمرها إلى الحاكم حتى يفرق بينهما، ثم تعتد للوفاة وتحل للأزواج. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، ومالك، وأحمد، وإسحاق (4). وظاهر كلام الشافعي يدل على أن مدة
ص: 77
التربص تكون من حين الفقد والغيبة. وأصحابه يقولون: إن ذلك يكون من وقت ما ترفع أمرها إلى الحاكم، ويضرب لها المدة (1).
وقال في الجديد: أنها تكون على الزوجية أبدا، لا تحل للأزواج إلى أن تتيقن وفاته. وهو أصح القولين عندهم. وروي ذلك عن علي عليه السلام، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأهل الكوفة بأسرهم: ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري وغيرهم (2).
دليلنا:
إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 34: امرأة المفقود إذا اعتدت، وتزوجت، ثم جاء الزوج الأول، فإنه لا سبيل له عليها، وإن لم تكن تزوجت بعد أن خرجت من العدة، فهو أولى بها، وهي زوجته. وبه قال قوم من أصحاب الشافعي إذ نصروا قوله في القديم (4).
والذي عليه عامة أصحابه، وهو مذهبه على القول القديم، إذ قال: حكم الحاكم ينفذ في الظاهر والباطن، إنها بانقضاء العدة ملكت نفسها، فلا سبيل للزوج عليها. وإن كانت تزوجت فالثاني أولى بها وهي زوجته (5).
ص: 78
وإذا قال بالقول الجديد أو بالقول القديم أن الحكم ينفذ في الظاهر، فإنها ترد إلى الأول على كل حال.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1). ولأن الأصل بقاء الزوجية من الزوج الثاني، لأنا قد حكمنا بزوال زوجة الأول، وخروجها من العدة والبينونة تحتاج إلى دليل.
مسألة 35: المدبرة إذا مات عنها سيدها، اعتدت أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن أعتقها في حال حياته ثم مات عنها اعتدت ثلاثة أقراء. وبه قال عمرو بن العاص (2).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن المدبرة لا عدة عليها بموت سيدها ولا استبراء.
وأما أم الولد فإنها تعتد بثلاثة أقراء، سواء مات عنها سيدها أو أعتقها في حال حياته، ولا تجب عليها عدة الوفاة (3).
وقال الشافعي: المدبرة وأم الولد والمعتقة في حال الحياة، إذا مات عنها سيدها استبرأت بقرء واحد (4).
ص: 79
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه.
مسألة 36: الأمة المشتراة والمسبية تعتدان بقرءين، وهما طهران.
وروي حيضة بين الطهرين (1)، والمعنى متقارب.
وقال الشافعي: تستبرئان بقرء واحد. وهل هو طهر أو حيض؟ على قولين (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
مسألة 37 - إذا كانت الأمة المسبية أو المشتراة من ذوات الشهور، إستبرأت بخمسة وأربعين يوما.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: تستبرئ بشهر واحد.
والثاني: وهو الأظهر عندهم تستبرئ بثلاثة أقراء (3).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 38: أم الولد إذا زوجها سيدها من غيره، ثم مات زوجها، وجب عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام، سواء مات سيدها في أثناء تلك العدة أو لم يمت.
وقال الشافعي: عدتها شهران وخمس ليال.
فإن مات سيدها في أثناء العدة، فهل تكمل عدة الحرة؟ على قولين (4).
ص: 80
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
وأيضا: قوله تعالى: " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " (1). ولم يفصل.
مسألة 39: إذا ملك أمة بابتياع، فإن كان وطأها البائع، فلا يحل للمشتري وطئها إلا بعد الاستبراء إجماعا. وهكذا إذا أراد المشتري تزويجها، فلا يجوز له ذلك إلا بعد الاستبراء. وكذلك إذا أراد أن يعتقها ثم يتزوجها قبل الاستبراء، لم يكن له ذلك. وهكذا إذا استبرأها ووطأها ثم أراد تزويجها قبل الاستبراء لم يجز له ذلك. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يزوجها قبل الاستبراء، ويجوز أن يعتقها ويتزوجها (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي عليه السلام قال: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض (4). ولم يفرق.
مسألة 40: إذا اشترى أمة ممن لا يطأها، إما من امرأة، أو ممن لا يجامع مثله، أو عنين،، أو رجل وطأها ثم استبرأها، روى أصحابنا جواز وطئها قبل الاستبراء (5).
ص: 81
ورووا: أنه لا يجوز ذلك إلا بعد الاستبراء، وهو الأحوط (1). وبه قال الشافعي (2).
فأما جواز تزويجها، فإنه يجوز قبل الاستبراء إجماعا.
دليلنا: على الأول: أخبار أصحابنا ورواياتهم (3). وأيضا الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 41: إذا ملك أمة بابتياع، أو هبة، أو إرث أو استغنام فلا يجوز له وطئها إلا بعد الاستبراء، صغيرة كانت أو كبيرة، بكرا كانت أو ثيبا، تحبل أو لا تحبل. فلا يختلف الحال في ذلك إلا إذا كانت في سن من لا تحيض مثلها من صغر أو كبر. وبه قال الشافعي، إلا أنه لم يستثن من استثنيناه.
وبقول الشافعي: قال عمر، وعثمان، وابن مسعود، وحكي قريب منه عن أبي حنيفة (4).
وذهب مالك: إلى أنها إن كانت ممن توطأ مثلها يجب الاستبراء. وإن كانت ممن لا توطأ مثلها فلا استبراء (5).
وذهب الليث بن سعد إلى أنها إن كانت لا تحبل مثلها فلا استبراء، وإن كانت ممن تحبل مثلها وجب الاستبراء (6). وهذا مثل ما قلناه.
وذهب داود، وأهل الظاهر: إلى أنها إن كانت ثيبا وجب الاستبراء، وإن
ص: 82
كانت بكرا فلا استبراء. وروي هذا عن ابن عمر (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وعموم الخبر الذي قدمناه يدل عليه، وإنما خصصنا من لا تحيض مثلها بدليل أخبارنا.
مسألة 42: إذا باع جارية من غيره، ثم استقال المشتري فأقاله، فإن كان قد قبضها إياه وجب عليها الاستبراء. وإن لم يكن قبض لم يجب عليه الاستبراء. وبه قال أبو يوسف، إلا أنه قال: ذلك استحسانا، والقياس يقتضي أن عليه الاستبراء على كل حال (3).
وقال الشافعي: يجب عليه الاستبراء على كل حال، قبض أو لم يقبض (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة. وأيضا فالاستبراء يحتاج إليه لبراءة رحمها، وهذه ما خرجت من يده، فلا يجب استبرائها.
وقال عثمان البتي: يجب على البائع دون المشتري (1).
دليلنا: ظواهر الأخبار (2) وما تضمنته من الأمرين، وهو يقتضي الوجوب، وطريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 44: إذا ثبت وجوب الاستبراء على المشتري، فمتى قبضها استبرأها في يده، حسناء كانت أو سواء (3)، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (4).
وقال مالك: إن كانت وخشة (5) استبرأها في يده، وإن كانت فائقة استبرأها في يد عدل، ثم تسلم إليه (6).
دليلنا: إنه ملكها، فجاز أن يستبرئها في يده، ووجوب تركها في يد عدل يحتاج إلى دليل.
وأيضا عموم الخبر الذي رواه أبو سعيد الخدري يدل عليه (7).
مسألة 45: إذا ملكها، جاز له التلذذ بها ومباشرتها ووطئها فيما دون الفرج، سواء كانت مشتراة أو مسبية.
وقال الشافعي: إن كانت مشتراة فلا يجوز شئ من ذلك على حال، لأنه
ص: 84
لا يأمن أن تكون حاملا فتكون أم ولد غيره (1). وإن كانت مسبية ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز.
والثاني: - وهو المذهب - أنه يجوز التلذذ، والنظر بالشهوة دون الوطء (2).
دليلنا: الأصل جوازه، والمنع منه يحتاج إلى دليل، وإجماع الفرقة أيضا على ذلك، وأخبارهم (3) غير مختلفة فيه. وقوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " (4) وهذه ملك يمين.
مسألة 46: إذا اشترى أمة حاملا، كره له وطئها قبل أن يصير لها أربعة أشهر، فإذا مضت بها ذلك لم يكره وطئها في الفرج.
وقال الشافعي وغيره: لا يجوز له وطئها حتى تضع (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6)، والأصل الإباحة بظاهر الآية (7) وعدم المانع.
مسألة 47: إذا عجزت المكاتبة عن أداء ثمنها، وفسخ السيد العقد،
ص: 85
عادت إلى ملكه، وجاز له وطئها بغير استبراء. وكذلك إذا ارتد السيد أو الأمة فإنها تحرم عليه، فإن عاد إلى الإسلام حلت له بلا استبراء. وأما إذا زوجها من غيره، فطلقها الزوج قبل الدخول بها حلت له بلا استبراء. وإن طلقها بعد الدخول لم تحل له، إلا بعد الاستبراء بعدة. وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه قال في المتزوجة: تحل له بلا استبراء، ولم يفصل (1).
وقال الشافعي: لا تحل في هذه المواضع كلها، إلا بعد الاستبراء (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم. وأيضا قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " (3) وهذه منهن، ولم يفرق.
مسألة 48: إذا طلقت الأمة المزوجة بعد الدخول بها، لزمها عدة الزوجية، وأغنى ذلك عن استبراء ثان.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا بد من استبراء مفرد (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 49: إذا اشترى أمة مجوسية، فاستبرأها، ثم أسلمت، اعتدت بذلك الاستبراء.
ص: 86
وقال الشافعي: عليه الاستبراء ثانيا، ولا تعتد به (1).
دليلنا: قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " (2). وقوله عليه السلام: لا توطأ الحامل حتى تضع، والحائل حتى تستبرأ (3). ولم يفصل.
مسألة 50: العبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أمة صح له شرائها بلا خلاف، فإن استبرأت الجارية في يد العبد جاز للمولى وطئها، سواء كان على العبد دين أو لم يكن إذا قضى دين الغرماء.
وقال الشافعي: إن كان على العبد دين لم يجز له وطئها وإن قضى حق الغرماء، ولا بد من استبراء ثان (4).
دليلنا: قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " (5) وهذه منهن، ولأن الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 51: إذا باع جارية، فظهر بها حمل، فادعى البائع أنه منه، ولم يكن أقر بوطئها عند البيع، ولم يصدقه المشتري، لا خلاف أن إقراره لا يقبل فيما يؤدي إلى فساد البيع. وهل يقبل إقراره في إلحاق هذا النسب؟ عندنا: أنه يقبل.
وللشافعي فيه قولان:
قال في القديم والاملاء مثل ما قلناه (6).
ص: 87
وقال في البويطي: لا يلحقه (1).
دليلنا: ما ثبت من جواز إقرار العاقل على نفسه، ما لم يؤد إلى ضرر على غيره، وليس في هذا ضرر على غيره فوجب جوازه.
مسألة 52: أقل الحمل ستة أشهر بلا خلاف، وأكثره عندنا تسعة أشهر.
وقد روي في بعض الأخبار سنة (2).
وقال الشافعي: أكثره أربع سنين (3).
وذهب الزهري، والليث بن سعد: إلى أن أكثره سبع سنين (4).
وعن مالك روايات، المشهور منها ثلاث.
إحداها: مثل قول الشافعي أربع سنين.
والأخرى: خمس سنين.
والثالثة: سبع سنين (5).
وذهب الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: إلى أن أكثر مدة الحمل سنتان، وهو اختيار المزني (6).
ص: 88
دليلنا: إجماع الفرقة والعادة، وما رأينا ولا سمعنا في زماننا هذا ولا قبله بسنين من ولد لأربع سنين أو سبع سنين، وما يدعونه من الروايات الشاذة لا يلتفت إليها، لأنها غير مقطوع بها، وما ذكرناه مقطوع به بلا خلاف.
ص: 89
ص: 90
ص: 91
ص: 92
مسألة 1: إذا حصل الرضاع المحرم، لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة ومنها، لأن أخواته وإخوته صاروا بمنزلة أولاده. وخالف جميع الفقهاء في ذلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وطريقة الاحتياط، وقول النبي عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3)، وليس في الشرع جواز أن يتزوج الرجل بأخت ابنه على حال، فحكم الرضاع مثله.
مسألة 2: تنشر حرمة الرضاع إلى الأم: المرضعة، والفحل صاحب اللبن.
فيصير الفحل أبا للمرتضع، وأبوه جده، وأخته عمته، وأخوه عمه وكل ولد له فهم إخوة لهذا المرتضع. وبه قال علي عليه السلام، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وفي الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (4).
ص: 93
وذهبت طائفة إلى أن لبن الفحل لا ينشر الحرمة، ولا يكون من الرضاع أب، ولا عم، ولا عمة، ولا جد أبو أب، ولا أخ لأب. ولهذا الفحل أن يتزوجها، أعني: التي أرضعتها زوجته. ذهب إليه ابن الزبير، وابن عمر، وفي التابعين سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وفي الفقهاء ربيعة بن أبي عبد الرحمان أستاذ مالك، وحماد بن أبي سليمان - أستاذ أبي حنيفة - والأصم، وابن علية - وهو أستاذ الأصم - وبه قال أهل الظاهر داود وشيعته (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وروي أن عليا عليه السلام قال: قلت يا رسول اللّه هل لك في ابنة عمك ابنة حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش، فقال عليه السلام: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة، وإن اللّه حرم من الرضاع ما حرم من النسب (3).
ومعلوم أن الأخت والعمة يحرمان من النسب ثبت أنهما يحرمان من الرضاعة لعموم الخبر.
وروى ابن حمويه، عن علي بن عبد العزيز البغوي (4)، عن أبي داود، عن
ص: 94
محمد بن كثير العبدي (1)، عن سفيان عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: دخل علي أفلح بن أبي القعيس (2) فاستترت منه، فقال:
تستترين مني وأنا عمك؟ قالت، قلت: من أين؟ قال: أرضعتك امرأة أخي. قلت: إنما أرضعتني امرأة، ولم يرضعني الرجل، فدخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فحدثته، فقال: إنه عمك فليلج عليك (3).
وهذا نص في المسألة، فإنه أثبت الاسم والحكم معا.
وقد نقل هذا بألفاظ أخر (4)، منها ما نقله أبو داود، فإنه نقل: استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس (5)، وغير ذلك.
مسألة 3: من أصحابنا من قال: أن الذي يحرم من الرضاع عشر رضعات متواليات لم يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى (6).
ومنهم من قال: خمس عشرة رضعة - وهو الأقوى - أو رضاع يوم وليلة، أو ما
ص: 95
أنبتت اللحم وشد العظم، إذا لم يتخلل بينهن رضاع امرأة أخرى (1).
وحد الرضعة ما يروى به الصبي دون المصة.
وقال الشافعي: لا يحرم إلا في خمس رضعات متفرقات، فإن كان دونها لم يحرم. وبه قال ابن الزبير، وعائشة. وفي التابعين سعيد بن جبير، وطاووس.
وفي الفقهاء أحمد، وإسحاق (2).
وقال قوم: أن قدرها ثلاث رضعات فما فوقها، فأما أقل منها فلا ينشر الحرمة. ذهب إليه زيد بن ثابت في الصحابة، وإليه ذهب أبو ثور، وأهل الظاهر (3).
وقال قوم: أن الرضعة الواحدة أو المصة الواحدة حتى لو كان قطرة تنشر الحرمة. ذهب إليه - على ما رووه - علي عليه السلام، وابن عمر، وابن عباس.
وبه قال في الفقهاء مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (4).
ص: 96
دليلنا: أن الأصل عدم التحريم، وما ذكرناه مجمع على أنه يحرم، وما قالوه ليس عليه دليل.
وأيضا: عليه إجماع الفرقة إلا من شذ منهم ممن لا يعتد بقوله.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: الرضاعة من المجاعة (1) يعني: ما سد الجوع.
وقال عليه السلام: الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم (2).
وروى سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد اللّه بن الزبير: أن النبي عليه السلام قال: لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان (3).
وروي عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل اللّه في القرآن أن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهي مما يقرأ من القرآن (4).
ووجه الدلالة أنها أخبرت أن عشر رضعات كان فيما أنزله، وقولها: (ثم نسخن بخمس رضعات) قولها، ولا خلاف أنه لا يقبل قول الراوي أنه نسخ
ص: 97
كذا لكذا إلا أن يبين ما نسخه، لينظر فيه هل هو نسخ أم لا؟
مسألة 4: الرضاع إنما ينشر الحرمة إذا كان المولود صغيرا، فأما إن كان كبيرا فلو ارتضع المدة الطويلة لم ينشر الحرمة. وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وهو قول جميع الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، ومالك وغيرهم (1).
وقالت عائشة: رضاع الكبير يحرم كما يحرم رضاع الصغير، وبه قال أهل الظاهر (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا قوله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " (4).
وفيه دليلان:
الأول: أنه جعل الحولين تمام الرضاعة، ومعلوم أنه لم يرد الاسم واللغة ولا الجواز، فإنه ينطلق على بعد الحولين، ثبت أنه أراد الرضاع الشرعي الذي يتعلق به الحرمة والتحريم.
والثاني: حده بالحولين، فلا يخلو إما أن يريد جواز الرضاعة، أو الكفاية،
ص: 98
أو التحريم، فبطل أن يريد الجواز، لأنه جائز بلا خلاف، وبطل أن يريد الكفاية لأنه قد يكتفي بدون الحولين. فلم يبق إلا أنه حده بهذه المدة لأن الحكم بها يتعلق لا غيره.
وأيضا: روى ابن عباس أنه عليه السلام قال: لا رضاع بعد الحولين (1) ومعلوم أنه لم يرد سلب الاسم بعد الحولين، لأن الاسم ينطلق عليه بعدها، ثبت أنه أراد سلب حكمه.
مسألة 5: القدر المعتبر في الرضاع المحرم ينبغي أن يكون كله واقعا في مدة الحولين، فإن وقع بعضه في مدة الحولين وبعضه خارجا لم يحرم.
مثاله: إن من راعى عشر رضعات من أصحابنا، أو خمس عشرة رضعة على ما اعتبرناه، فإن وقع خمس رضعات في مدة الحولين، وباقيها بعد تمام الحولين فإنه لا يحرم.
وقال الشافعي: إن وقع أربع رضعات في الحولين وخامسة بعدهما لم ينشر الحرمة. وبه قال أبو يوسف، ومحمد (2).
وعن مالك روايات، المشهور منها حولان وشهر، فهو يقول المدة خمسة وعشرون شهرا. فخالفنا في شهر (3).
وقال أبو حنيفة: المدة حولان ونصف، ثلاثون شهرا (4).
ص: 99
وقال زفر: ثلاثة أحوال ستة وثلاثون شهرا (1).
دليلنا: قوله تعالى: " حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " (2) ومنه الدليلان على ما قدمناهما، وحديث ابن عباس أن النبي عليه السلام قال: لا رضاع بعد الحولين (3). يدل على ما بيناه، وإجماع الفرقة منعقد على ذلك.
مسألة 6: لا فرق بين أن يكون المرتضع مفتقرا إلى اللبن أن مستغنيا عنه، فإنه متى حصل الرضاع القدر الذي يحرم، ينشر الحرمة. وبه قال الشافعي (4).
وقال مالك: إن كان مفتقرا نشرها، وإن كان مستغنيا لم ينشرها (5).
دليلنا: عموم الأخبار (6)، ومن خصها يحتاج إلى دليل.
مسألة 7: إذا اعتبرنا عدد الرضعات، فالرضعة ما يشربه الصبي حتى يروى، ولا تعتبر المصة. ويراعى أن لا يدخل بين الرضعة والرضعة رضاع امرأة أخرى، فإن فصل بينهما برضاع امرأة أخرى بطل حكم الأولى.
وقال الشافعي: المرجع في الرضعة إلى العادة، فما يسمى في العرف رضعة اعتبر، وما لم يسم لم يعتبر. ولم يعتبر المصات - كما قلناه - ولم يعتبر أن لا يدخل بينهما رضاع أجنبية، بل لا فرق أن يدخل بينهما ذلك أو لا يدخل (7).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (8). ولأن ما اعتبرناه مجمع على وقوع
ص: 100
التحريم به، وما ذكروه ليس عليه دليل.
مسألة 8: إذا وجر اللبن في حلقه، وهو أن يصب في حلقه صبا، ووصل إلى جوفه، لم يحرم. وبه قال عطاء، وداود (1).
وقال باقي الفقهاء: أنه ينشر الحرمة (2).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى. وأيضا: قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " (3) وهذه ما أرضعت، ولأن الأصل نفي الحرمة، وإيجابه يحتاج إلى دليل.
مسألة 9: إذا سعط باللبن حتى يصل إلى دماغه فإنه لا ينشر الحرمة. وبه قال عطاء، وداود (4).
وقال باقي الفقهاء: إنه ينشر الحرمة (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 10: إذا حقن المولود باللبن لا ينشر الحرمة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: - وهو الصحيح عندهم - مثل ما قلناه، وبه قال أبو حنيفة (6).
ص: 101
والآخر: أنه ينشر الحرمة. وبه قال محمد، واختاره المزني (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى. وأيضا: قوله تعالى: وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " (2) وهذه ما أرضعت.
مسألة 11: إذا شيب اللبن بغيره، ثم سقي المولود، لم ينشر الحرمة، غالبا كان اللبن أو مغلوبا، وسواء شيب بجامد كالسويق والدقيق والأرز ونحوه، أو بمايع كالماء والخل واللبن، كان مستهلكا أو غير مستهلك.
وقال الشافعي: ينشر الحرمة وإن كان مستهلكا في الماء، فإنما ينشر الحرمة إذا تحقق وصوله إلى جوفه، مثل أن يحلب في قدح، وصب الماء عليه، واستهلك فيه، فشرب كل الماء، نشر الحرمة، لأنا قد تحققنا وصوله إلى جوفه.
وإن لم يتحقق ذلك، لم ينشر الحرمة. مثل أن تقع قطرة في حب من الماء، فإنه إذا شرب بعض الماء لم ينشر الحرمة، لأنا لا نتحقق وصوله إلى جوفه إلا بشرب الماء كله، هكذا حققه أبو العباس (3).
وقال أبو حنيفة: إن كان مشوبا بجامد كالسويق والدقيق والأرز والدواء لم ينشر الحرمة، غالبا كان اللبن أو مغلوبا. وإن كان مشوبا بمايع كالخل والخمر والماء والدواء المايع نشر الحرمة إن كان غالبا، ولم ينشرها مغلوبا (4).
ص: 102
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن كان غالبا نشرها، وإن كان مغلوبا مستهلكا لم ينشرها، والجامد والمايع سواء (1).
قالوا: فإن شيب لبن امرأة بلبن أخرى وشربه مولود، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: هو ابن التي غلب لبنها دون الأخرى.
وقال محمد: هو ابنهما معا.
دليلنا: قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " (2) وهذه ما أرضعت، ولأن الأصل نفي التحريم، وإثباته يحتاج إلى دليل.
مسألة 12: إذا جمد اللبن أو أغلي، لم ينشر الحرمة. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي: ينشرها (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 13: إذا ارتضع مولود من لبن بهيمة شاة أو بقرة أو غيرهما، لم يتعلق به تحريم بحال. وبه قال جميع الفقهاء (5).
وذهب بعض السلف إلى أنه يتعلق به التحريم، فيصيران أخوين من الرضاعة. وربما حكي ذلك عن مالك، والصحيح أنه غيره بعض
ص: 103
السلف (1).
دليلنا: ما قلناه في المسائل المتقدمة.
مسألة 14: لبن الميتة لا ينشر الحرمة، ولو ارتضع أكثر الرضعات حال الحياة وتمامها بعد الوفاة، لم ينشر الحرمة. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والأوزاعي: لبنها بعد وفاتها كهو في حال حياتها، لا يسقط حرمته (3).
دليلنا: قوله تعالى: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " (4) وهذه ما أرضعت.
ولأن الأصل الإباحة، والتحريم يحتاج إلى دليل. وقال: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " (5) وهذه من وراء ذلك.
مسألة 15: إذا كانت له زوجة مرتضعة، فارتضعتها من يحرم عليه بنتها، انفسخ النكاح بلا خلاف، ولا يلزمه شئ من المهر إذا لم يكن بأمره.
وقال الشافعي: يلزمه نصف المهر، قياسا على المطلقة (6).
دليلنا: الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ص: 104
مسألة 16: إذا أرضعتها من تحرم عليه بنتها - مثل أمه أو جدته أو أخته أو بنته أو امرأة أبيه - بلبن أخيه، فانفسخ النكاح، لم يكن للزوج على المرضعة شئ، قصدت المرضعة فسخ النكاح أو لم تقصد. وبه قال مالك (1).
وقال الشافعي: يلزمها الضمان، قصدت فسخ النكاح أو لم تقصد (2).
وقال أبو حنيفة: إن قصدت فسخ النكاح تعلق بها الضمان، وإن لم تقصد فلا ضمان عليها (3).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 17: قد بينا أنه لا يلزمها ضمان.
ومن قال يلزمها اختلفوا.
فقال الشافعي: يلزمها نصف مهر مثلها لا نصف المسمى (4).
وقال أبو حنيفة: يلزمها نصف المسمى (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء، وهذا ساقط عنا.
مسألة 18: إذا كانت له زوجة كبيرة لها لبن من غيره، وله ثلاث زوجات صغار دون الحولين، فأرضعت منهن واحدة بعد واحدة، فإذا رضعت الأولى الرضاع المحرم، انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة، فإذا أرضعت الثانية،
ص: 105
فإن كان قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاح الثانية، وإن لم يكن دخل بها فنكاحها بحاله، لأنها بنت من لم يدخل بها، فإذا أرضعت بعد ذلك الثالثة، صارت الثالثة أخت الثانية من رضاع، فانفسخ نكاحها ونكاح الثانية. وبه قال أبو حنيفة: والشافعي في القديم، وإليه ذهب المزني، واختاره أبو العباس، وأبو حامد (1).
وقال في الأم: ينفسخ نكاح الثالثة وحدها، لأن نكاح الثانية كان صحيحا بحاله، وإنما تم الجمع بينهما وبين الثالثة بفعل الثالثة، فوجب أن ينفسخ نكاحها (2).
دليلنا: قوله عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (3). وهذه أخت زوجته من أمها من جهة الرضاع، فوجب أن تحرم.
مسألة 19: لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال.
وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا تقبل شهادتهن منفردات إلا في الولادة.
وروي ذلك عن ابن عمر (4).
وقال الشافعي: شهادتهن على الانفراد تقبل في أربعة مواضع: الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب. وبه قال ابن عباس، والزهري، ومالك، والأوزاعي (5).
ص: 106
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1). ولأن الأصل ارتفاع الرضاع، وثبوته بشهادتهن يحتاج إلى دليل.
مسألة 20: قد قلنا أن شهادة النساء لا تقبل في الرضاع على وجه، لا منفردات، ولا مع الرجال، وإنما تقبل منفردات في الوصية والولادة والاستهلال والعيوب، ويحتاج إلى شهادة أربع منهن. وبه قال الشافعي في الموضع الذي تقبل شهادتهن منفردات (2).
وقال مالك: تقبل شهادة اثنتين (3).
وقال الزهري، والأوزاعي، وأحمد: يثبت بشهادة امرأة واحدة (4).
وقال أبو حنيفة: كلما يثبت بشهادة النساء منفردات يثبت بواحدة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما اعتبرناه من العدد مجمع على ثبوت الحكم به عند من قال بقبول شهادتهن، وما نقص عن ذلك ليس عليه دليل.
مسألة 21: إذا قال الرجل لمن هو أكبر سنا منه، أو مثله في السن: هذا ابني من الرضاع. أو قالت المرأة ذلك، سقط قولهما، ولم يقبل إقرارهما بذلك.
وبه قال الشافعي (6).
وقال أبو حنيفة: لا يسقط، لأنه يقول، لو قال لمن هو أكبر سنا منه: هذا
ص: 107
ابني. وكان عبدا له، عتق عليه بالنسب (1).
دليلنا: أن هذا معلوم كذبه، فإذا علمنا كذبه أسقطنا قوله، ومن لم يسقط احتاج إلى دليل.
ص: 109
ص: 110
مسألة 1: يجوز للرجل أن يتزوج أربعا بلا خلاف، والاستحباب أن لا يزيد على من يعلم أن لا يقوم بها.
وقال جميع الفقهاء: المستحب الاقتصار على واحدة (1).
وقال داود: الأفضل أن لا يقتصر على واحدة (2)، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله قبض عن تسعة.
دليلنا: أن ما ذكرناه مجمع عليه، والزيادة والنقصان عنه يحتاج إلى دليل.
مسألة 2: من وجب إخدامها من الزوجات، فلا يجب عليه أكثر من خادم واحد. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: إن كانت من أهل الحشم والخدم، ومثلها لا يقتصر على خادم واحد، فعلى الزوج أن يخدمها من العدد بقدر حالها (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ووجوب خادم واحد مجمع عليه، وما زاد
ص: 111
عليه ليس عليه دليل.
مسألة 3: نفقة الزوجات مقدرة، وهي مد، قدره رطلان وربع.
وقال الشافعي: نفقاتهن على ثلاثة أقسام: الاعتبار بالزوج إن كان موسرا فمدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد واحد. والمد عنده:
رطل وثلث (1).
وقال مالك: نفقة الزوجة غير مقدرة، بل عليه لها الكفاية، والاعتبار بقدر كفايتها كنفقة الأقارب، والاعتبار بها لا به (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان موسرا فمن سبعة إلى ثمانية في الشهر، وإن كان معسرا فمن أربعة إلى خمسة (3).
وقال أصحابه: كان يقول هذا والنقد جيد والسعر رخيص، فأما اليوم فإنها بقدر الكفاية (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
ص: 112
مسألة 4: إذا كان الزوج كبيرا، والزوجة صغيرة لا يجامع مثلها، لا نفقة لها. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي الصحيح عندهم، واختاره المزني (1).
والقول الثاني: لها النفقة (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ومن أوجب عليه نفقتها، فعليه الدلالة.
مسألة 5: إذا كانت الزوجة كبيرة والزوج صغيرا، لا نفقة لها وإن بذلت التمكن.
وللشافعي فيه قولان: أصحهما أن لها النفقة. وبه قال أبو حنيفة (3).
والآخر: لا نفقة لها (4). مثل ما قلناه.
ص: 113
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء، من أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 6: إذا كانا صغيرين فلا نفقة لها.
وللشافعي فيه قولان، نص عليهما في الإملاء (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألتين الأولتين.
مسألة 7: إذا أحرمت بغير إذنه، فإن كان في حجة الإسلام لم تسقط نفقتها، وإن كانت تطوعا سقطت نفقتها.
وقال الشافعي: تسقط نفقتها قولا واحدا (2)، لأن طاعة الزوج مقدمة، لأنها على الفور، والحج على التراخي.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3) على أنه لا طاعة للزوج في حجة الإسلام عليها، فلذلك لم تسقط نفقتها. ولأن نفقتها واجبة، وإسقاطها يحتاج إلى دليل، وأما الحج فعندنا أنه على الفور دون التراخي.
مسألة 8: إذا أحرمت بإذنه وحدها، لم تسقط نفقتها.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: تسقط (4).
دليلنا: ما قلناه من ثبوت وجوب نفقتها، وإسقاطها يحتاج إلى دليل.
ص: 114
مسألة 9: إذا اعتكفت وحدها بإذنه، لم تسقط نفقتها.
وللشافعي فيه قولان مثل الإحرام (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 10: إذا صامت تطوعا، فإن طالبها بالإفطار فامتنعت كانت ناشزة، وتسقط نفقتها.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا تسقط، لأنها ما خرجت عن قبضته (2).
دليلنا: أن طاعة الزوج فريضة، والصوم نفل، فمتى تركت ما وجب عليها من طاعته كانت ناشزا، كما لو تركتها بغير صوم. وإجماع الفرقة على أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها.
دليلنا: إجماع الفرقة، بل إجماع الأمة. وقول الحكم لا يعتد به، وقد انقرض أيضا.
مسألة 12: إذا اختلف الزوجان بعد أن سلمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة، فالذي رواه أصحابنا أن القول قول الزوج، وعليها البينة (1). وبه قال مالك (2).
وقال أبو حنيفة، والشافعي: القول قول الزوجة مع يمينها (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا فإن العادة جارية بأنها لا تمكن من الدخول إلا بعد أن تستوفي المهر، ولا تقيم معه إلا وتقبض النفقة، فإذا ادعت خلاف العرف والعادة فعليها البينة.
مسألة 13: إذا ارتدت الزوجة، سقطت النفقة، ووقف النكاح على انقضاء العدة، فإن عادت في زمان العدة، وجبت نفقتها في المستأنف، ولا يجب لها شئ لما فات في الزمان الذي كانت مرتدة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: - وهو المذهب - مثل ما قلناه.
والثاني: أن لها نفقة ما كانت مرتدة فيه (5).
ص: 116
دليلنا: الإجماع على سقوط النفقة زمان ردتها، وعودها يحتاج إلى دليل.
مسألة 14: إذا كانا وثنيين أو مجوسيين، فسلم إليها نفقة شهر مثلا، ثم أسلم الزوج، وقف النكاح على انقضاء العدة. فإن أسلمت كانت زوجته، وإن لم تسلم حتى تخرج من العدة بانت منه، وكان له مطالبتها بالنفقة التي دفعها إليها. وكذلك إذا أسلمت في آخر العدة، كان له استرجاع النفقة ما بين زمان إسلامه وإسلامها.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه - وهو المذهب -.
والآخر: ليس له أن يسترجع شيئا منها (1).
دليلنا: أن النفقة في مقابلة الاستمتاع بها، وهي إذا كانت وثنية وهو مسلم لم يمكنه الاستمتاع بها، فجرت مجرى الناشز، فلا نفقة لها. فإذا لم تكن لها نفقة، كان له مطالبتها بما أعطاها.
مسألة 15: إذا أعسر، فلم يقدر على النفقة على زوجته، لم تملك زوجته الفسخ، وعليها أن تصبر إلى أن يوسر. وبه قال من التابعين الزهري، وعطاء بن يسار، وإليه ذهب أهل الكوفة ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد (2).
وقال الشافعي: هي مخيرة بين أن تصبر حتى إذا أيسر استوفت ما اجتمع لها، وبين أن تختار الفسخ، فيفسخ الحاكم بينهما. وكذلك إذا أعسر بالصداق
ص: 117
قبل الدخول، فالاعسار عيب بذمته، فلها الفسخ (1). وبه قال في الصحابة على ما رووه علي عليه السلام، وعمر، أبو هريرة، وفي التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، وفي الفقهاء حماد بن أبي سليمان، وربيعة بن أبي عبد الرحمان، ومالك، وأحمد، وإسحاق (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " (3) ولم يفصل، وقال تعالى: " وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله " (4) فندب الفقراء إلى النكاح، فلو كان الفقر سببا تملك به فسخ النكاح، ما ندب إلى النكاح من يملك الفسخ عقيب النكاح. وأخبار أصحابنا (5) واردة بذلك، وقد ذكرناها في مواضعها.
مسألة 16: المطلقة البائن والمختلعة لا سكنى لها. وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق (6).
ص: 118
وقال باقي الفقهاء: إن لها السكنى (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 17: لا نفقة للبائن. وبه قال ابن عباس، ومالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والشافعي (2).
وقال قوم: أن لها النفقة. ذهب إليه في الصحابة عمر بن الخطاب، وابن مسعود. وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (3).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
وأيضا: قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " (4). لما ذكر النفقة شرط الحمل.
وأيضا: دليله يدل على أن من ليس بحامل لا نفقة لها.
وروى الشافعي، عن مالك، عن عبد اللّه بن يزيد (5)، عن أبي سلمة بن
ص: 119
عبد الرحمان، عن فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا وهو غائب بالشام، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته. فقال: واللّه مالك علينا من شئ فاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فذكرت له ذلك، فقال: ليست لك عليه نفقة. وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه ضرير تضعين ثيابك حيث شئت (1).
مسألة 18: البائن إذا كانت حاملا فلها النفقة بلا خلاف، وينبغي أن تعطى نفقتها يوما بيوم.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، وهو اختيار المزني، وأصح القولين.
والآخر: أنها لا تعطى حتى تضع، فإذا وضعت أعطيت لما مضى (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " (3) والأمر يقتضي الفور، وتأخيره يحتاج إلى دليل. وطريقة الاحتياط أيضا تقتضي ذلك.
مسألة 19: يجب على الوالد نفقة الولد إن كان موسرا، وإن لم يكن أو كان وهو معسر فعلى جده، فإن لم يكن أو كان وهو معسر فعلى أب الجد، وعلى هذا أبدا. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (4).
ص: 120
وقال مالك: النفقة على أبيه، فإن لم يكن أو كان وهو معسر لم تجب على جده، لأن النسب قد بعد (1).
دليلنا: كل ظاهر ورد في وجوب النفقة على الولد يتناول هذا الموضع، لأن ولد الولد يسمى ولدا، والجد يسمى أبا يدل على ذلك، قوله تعالى: " يا بني آدم " (2) فأضافنا بالبنوة إلى الجد الأعلى. وقال تعالى: " ملة أبيكم إبراهيم " (3) وقال تعالى: " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " (4) فسماهم آباء.
وقال النبي عليه السلام: الحسن ولدي هذا سيد يصلح اللّه به بين الفئتين (5). فإذا ثبت الاسم فقد قال النبي عليه السلام: أنفقه على ولدك (6).
وذلك عام، وأخبارنا في ذلك كثيرة جدا.
مسألة 20: إذا لم يكن أب ولا جد، أو كانا وهما معسران، فنفقته على أمة. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (7).
ص: 121
وقال مالك: لا يجب على الأم الانفاق (1)، لقوله تعالى: " فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن " (2) وكان الخطاب متوجها إلى الآباء.
وقال أبو يوسف، ومحمد: عليها أن تنفق، لكن تتحملها عن الأب، فإذا أيسر بها رجعت عليه بما أنفقت عليه (3).
دليلنا: عموم الأخبار (4) التي وردت بوجوب النفقة على الولد، ويدخل في ذلك الآباء والأمهات، وإنما قدمنا الآباء بدليل الإجماع. وأما الخطاب في الآية فإنما توجه إلى الأب المطيق القادر عليها، بدليل أنه أمره بإيتاء الأجرة ولا يأمره بذلك إلا وهو مطيق قادر عليها.
مسألة 21: إذا اجتمع جد - أبو أب وإن علا - وأم، كانت النفقة على الجد دون الأم. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: النفقة بينهما، على الأم الثلث، وعلى الجد الثلثان بحسب الميراث (6).
دليلنا: إنا قد بينا أن الجد يتناوله اسم الأب، والأب أولى بالنفقة على
ص: 122
ولده من الأم بالاتفاق.
مسألة 22: إذا اجتمع أم الأم وأم أب، أو أبو أم وأم أب، فهما سواء، لأنهما تساويا في الدرجة.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: أم الأب أولى، لأنها تدلى بالعصبة (1).
دليلنا: إنا قد بينا بطلان القول بالعصبة، وذلك عام في جميع الأحكام، وإنما النفقة بالرحم، وهما سواء.
مسألة 23: تجب النفقة على الأب والجد معا. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (2).
وقال مالك: لا تجب النفقة على الجد، كما لا تجب على الجد النفقة عليه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا: قد بينا أنه يجب على الجد النفقة عليه، فبطل الأصل الذي بناه عليه.
مسألة 24: يجب عليه أن ينفق على أمه وأمهاتها وإن علون. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (4).
ص: 123
وقال مالك: لا يجب عليه أن ينفق على أمه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وأيضا قوله تعالى: " وصاحبهما في الدنيا معروفا " (3) وهذا من المعروف.
وروي عن النبي عليه السلام: أن رجلا قال: يا رسول اللّه من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك (4). فجعل الأب في الرابعة، فثبت أن النفقة عليها واجبة.
مسألة 26: الولد إذا كان كامل الأحكام والخلقة، وكان معسرا، وجب على والده أن ينفق عليه.
وللشافعي فيه طريقان:
أحدهما: أن المسألة على قولين كالأب (1).
ومنهم من قال: ليس عليه أن ينفق عليه قولا واحدا، لأن حرمة الأب أقوى، لأنه يقاد بوالد ولا يقاد بولد.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 27: إذا كان أبواه معسرين، وليس يفضل عن كفاية نفقته إلا نفقة أحدهما، كان بينهما بالسوية.
وللشافعي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: مثل ما قلناه.
والثاني: أن الأب أولى، لأن له تعصيبا.
والثالث: الأم أولى، لأن لها الحضانة والحمل والوضع (2).
دليلنا: أنهما تساويا في الدرجة، وليس أحدهما أولى من صاحبه أشركنا بينهما، ومن قدم أحدهما فعليه الدلالة.
مسألة 28: إذا كان له ابن مراهق، كامل الخلقة، ناقص الأحكام، وأب كامل الأحكام، ناقص الخلقة، ومعه ما يفضل لنفقة أحدهما، قسم بينهما بالسوية.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: الابن أولى، لأن نفقته ثبتت بالنص، ونفقة الأب بالاجتهاد.
ص: 125
والثاني: الأب أولى، لأن حرمته أولى، بدلالة أنه لا يقاد بولده (1).
دليلنا: أنهما تساويا في النسب الموجب للنفقة، وتقديم أحدهما على صاحبه يحتاج إلى دليل.
مسألة 29: إذا كان له أب وأبو أب معسرين، أو ابن وابن ابن معسرين، ومعه ما يكفي لنفقة أحدهما، أنفق على الأب دون الجد، وعلى الابن دون ابن الابن.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: الفاضل بينهما (2).
دليلنا: أن الأب أقرب من الجد، وكذلك الابن أقرب من ابن الابن.
وقال اللّه تعالى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " (3) وذلك عام في كل شئ.
مسألة 30: إذا كان معسرا، وله أب وابن موسران، كانت نفقته عليهما بالسوية.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: نفقته على أبيه، لأنه إنفاق على ولد، وذلك ثابت بالنص، ونفقة الوالد ثابتة بالاجتهاد (4).
دليلنا: إن جهة النفقة عليهما واحدة، وهي إجماع الفرقة، ولا ترجيح لأحدهما، فوجب التسوية بينهما.
ص: 126
مسألة 31: اختلف الناس في وجوب نفقة المعسر على الغير بحق النسب، على أربعة مذاهب.
فأضعفهم قولا مالك، لأنه قال: يقف على الوالد والولد، ينفق كل واحد منهما على صاحبه، ولا يتجاوز بهما (1).
ويليه الشافعي، فإنه قال: يقف على الوالدين والمولودين ولا يتجاوز، فعلى كل أب - وإن علا - وعلى كل أم - وإن علت - وكذلك كل جد من قبلها وجدة، أو قبل الأب، وعلى المولودين من كانوا من ولد البنين أو البنات - وإن سفلوا - فالنفقة تقف على هذين العمودين، و. تتجاوز (2).
ويليه مذهب أبي حنيفة فإنه قال: يتجاوز عمود الوالدين والمولودين، فتدور على كل ذي رحم محرم بالنسب، فتجب على الأخ لأخيه وأولادهم، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات دون أولادهم، لأنه ليس بذي رحم محرم بالنسب (3).
والرابع: هو مذهب عمر بن الخطاب - وهو أعم الناس قولا - وهو: أنها تجب على من عرف بقرابة منه، وهذا مشهور بين الناس (4).
ص: 127
والذي يقتضيه مذهبنا ما قاله الشافعي (1)، لأن أخبارنا واردة متناولة بأن النفقة تجب على الوالدين والولد، وذلك يتناول هذين العمودين (2). وإن كان قد روي في بعضها أن كل من ثبت بينهما موارثة تجب نفقته، وذلك على الاستحباب.
والدليل على ما قلناه: عموم أخبارنا التي رويناها وذكرناها في الكتاب الكبير (3).
ويمكن نصرة الرواية الأخرى بقوله تعالى: " وعلى الوارث مثل ذلك " (4) فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد. وقال عليه السلام: لا صدقة وذو رحم محتاج (5).
ويقوي المذهب الأول ما رواه أبو هريرة: أن رجلا أتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول اللّه عندي دينار. فقال صلى اللّه عليه وآله: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر. فقال: أنفقه على ولدك، فقال: عندي آخر.
قال: أنفقه على أهلك، فقال: عندي آخر. قال: أنفقه على خادمك فقال عندي آخر. قال: أنت أعلم وفي بعضها: أنفقه في سبيل اللّه وذلك اليسر (6).
فذكر النبي عليه السلام الجهات التي تستحق بها النفقة من النسب والزوجية وملك اليمين، فلو كانت الأخوة تستحق بها نفقة لبينه.
ص: 128
مسألة 32: إذا وجبت النفقة على الرجل - إما نفقة يوم بيوم أو ما زاد عليه، للزوجة أو غيرها من ذوي النسب - وامتنع من إعطائه، ألزمه الحاكم إعطاؤه، فإن لم يفعل حبسه، فإن لم يفعل ووجد له من جنس ما عليه أعطاه، وإن كان من غير جنسه باع عليه وأنفق على من تجب له نفقته. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إن وجد له من جنس ما عليه أعطاه، وإلا حبسه حتى يتولى هو البيع، ولا يبيع عليه إلا الذهب والورق، فإنه يبيع كل واحد منهما بالآخر، ويوفي ما عليه. وأجاز في نفقة الزوجة إذا كان زوجها غائبا وحضرت عند الحاكم، وطالبت نفقتها، وحضر أجنبي فاعترف بأن للغائب ملكا، وهذه زوجته، فإنه يأمره الحاكم ببيعه، والنفقة عليها، ولم يجز في غير ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن من عليه حق وامتنع منه، فإنه يباع عليه ملكه، وذلك عام في الديون وغيرها من الحقوق اللازمة سواء.
وقال أبو ثور: له إجبارها عليه بكل (1) حال، لقوله تعالى: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " (2) وهذا خبر معناه الأمر، فإذا ثبت وجوبه عليها، ثبت أنه يملك إجبارها عليه، لأنه إجبار على واجب.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، والإجبار يحتاج إلى دليل. والآية محمولة على الاستحباب، وعليه إجماع الفرقة، وأخبارهم تشهد (3) بذلك.
مسألة 34: البائن إذا كان لها ولد يرضع، ووجد الزوج من يرضعه تطوعا، وقالت الأم: أريد أجرة المثل، كان له نقل الولد عنها. وبه قال أبو حنيفة، وقوم من أصحاب الشافعي (4).
ومن أصحابه من قال: المسألة على قولين:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: ليس له نقله عنها، ويلزمه أجرة المثل. وهو اختيار أبي حامد (5).
دليلنا: قوله تعالى: " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " (6) وهذه إذا طلبت الأجرة وغيرها تتطوع فقد تعاسرا.
واستدل أبو حامد بقوله تعالى: " فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن " (7) فأوجب لها الأجرة إذا أرضعته ولم يفصل، وهذا ليس بصحيح، لأن الآية تفيد لزوم الأجرة إن أرضعت، وذلك لا خلاف فيه، وإنما الكلام في أنه يجب دفع
ص: 130
المولود إليها لترضع أم لا، وليس ذلك في الآية.
مسألة 35: البنت إذا كانت بالغة، رشيدة، يكره لها أن تفارق أمها، ولا يجب عليها ذلك حتى تتزوج. وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: يجب عليها أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها (2).
دليلنا: أنه قد ثبت أنها بالغة رشيدة، نافذ أمرها في نفسا ومالها، ومن منعها من مفارقة الأم فعليه الدلالة.
مسألة 36: إذا بانت المرأة من الرجل، ولها ولد منه، فإن كان طفلا لا يميز، فهي أحق به بلا خلاف، وإن كان طفلا يميز - وهو إذا بلغ سبع سنين أو ثمان سنين فما فوقها إلى حد البلوغ - فإن كان ذكرا فالأب أحق به، وإن كان أنثى فالأم أحق بها ما لم تتزوج، فإن تزوجت فالأب أحق بها. ووافقنا أبو حنيفة وأصحابه في الجارية.
وقال في الغلام: الأم أحق به حتى يبلغ حدا يأكل ويشرب ويلبس بنفسه فيكون أبوه أحق به (3).
وقال الشافعي: يخير بين أبويه، فإذا اختار أحدهما يسلم إليه. وبه قال علي، وعمر، وأبو هريرة (4).
ص: 131
وقال مالك: إن كانت جارية فالأم أحق بها حتى تبلغ وتتزوج ويدخل بها الزوج، وإن كان غلاما فأمه أحق به حتى يبلغ (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 37: الموضع الذي قلنا أن الأب أحق بالولد، والأم أحق به، لا يختلف الحال بين أن يكون مقيما أو مسافرا، فإن الأمر على ذلك.
وقال الشافعي: إن كانت المسافة يقصر فيها الصلاة، فالأب أحق بكل حال، وإن لم يكن يقصر فيها فهو كالإقامة (3).
وقال أبو حنيفة: إن كان المنتقل الأب فالأم أحق، وإن كانت الأم المنتقلة، فإن انتقلت من قرية إلى بلد فهي أحق به، وإن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق به، لأن في السواد يسقط تعليمه وتخرجه (4).
دليلنا: عموم الأخبار (5)، وتخصيصها يحتاج إلى دليل.
مسألة 38: إذا تزوجت الأم سقط حقها من حضانة الولد. وبه قال أبو
ص: 132
حنيفة، ومالك، والشافعي (1).
وقال الحسن البصري: لا يسقط حقها بالتزويج (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد اللّه بن عمر، أن امرأة قالت: يا رسول اللّه إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواه، وإن أباه طلقني، فأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: أنت أحق به ما لم تنكحي (4).
وروى أبو هريرة: أن النبي عليه السلام قال: الأم أحق بحضانة ابنها ما لم تتزوج (5).
مسألة 39: إذا طلقها زوجها عاد حقها من الحضانة. وبه قال أبو حنيفة.
ص: 133
والشافعي (1).
وقال مالك: لا يعود، لأن النكاح أبطل حقها (2).
دليلنا: أن النبي عليه السلام علق بطلان حقها بالتزويج، فإذا زال التزويج فالحق باق على ما كان.
مسألة 40: إذا طلقها الزوج طلقة رجعية، لم يعد حقها، وإن طلقها بائنا عاد. وبه قال أبو حنيفة، والمزني (3).
وقال الشافعي: يعود على كل حال (4).
دليلنا: ما قدمناه من أن الرجعية زوجة في معنى الزوجات، لأن عندنا لا يحرم وطؤها.
دليلنا: ما قدمنا من أنها أولى بالميراث، لأن لها النصف، ولهذه السدس، فكانت أولى، لقوله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " (1).
مسألة 42: الجدات أولى بالولد من الأخوات.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والآخر: الأخوات أولى (2).
دليلنا: ما ثبت من أن الأم أولى، واسم الأم يقع على الجدة.
مسألة 43: أم الأب أولى من الخالة بالولد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: أن الخالة أولى (3).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
وأيضا قوله تعالى: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " (1) وذلك عام في كل شئ إلا ما خصه الدليل.
مسألة 45: إذا لم تكن أم، وهناك أم أم، أو جدة أم أم وهناك أب، فالأب أولى.
وقال الشافعي: أم الأم وجداتها أولى من الأب، وإن علون (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وأولو الأرحام بعضهم أولى بعض " (3) والأب أقرب بلا شك، لأنه يدلي بنفسه.
مسألة 46: إذا كان مع الأب أخت من أم أو خالة أسقطهما.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: أنهما تسقطانه (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 47: العمة والخالة إذا اجتمعتا تساويتا وأفرع بينهما.
وقال الشافعي: الخالة أولى قولا واحدا (5).
ص: 136
دليلنا: أنهما تساويا في الدرج، فلا ترجيح لإحداهما على الأخرى.
مسألة 48: إذا اجتمع جد وخالة وأخت لأم، فالجد أولى.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: يسقط الجد بهما (1).
دليلنا: ما قدمناه من الآية.
مسألة 49: أم أب، وجد متساويان.
وقال الشافعي: يسقط الجد (2).
دليلنا: أنهما متساويان في الدرج ولا ترجيح.
مسألة 50: أخت لأب، وجد متساويان.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: الجد أولى (3).
والثاني: الأخت أولى (4).
دليلنا: ما قدمناه من تساويهما في الدرج.
مسألة 51: العم وابن العم وابن عم الأب والعصبة يقومون مقام الأب في باب الحضانة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا حضانة لأحد من الذكورة غير الأب والجد (5).
ص: 137
دليلنا: الآية (1)، وهي عامة في جميع الأحكام.
وروى عمارة الجرمي (2) قال: خيرني علي بن أبي طالب عليه السلام بين أمي وعمي، وقال لأخ هو أصغر مني: وهذا لو بلغ مبلغ هذا لخيرته (3).
مسألة 52: لا حضانة لأحد من العصبة مع الأم.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: أنهم يقومون مقام الأب، ويكون الولد مع أمه حتى يبلغ ثم يخير.
فإن كان ذكرا خيرناه بينها وبين العم وابن العم، ومن كان من العصبات، وإن كان أنثى خيرناه بينها وبين كل عصبة محرم لها كالأخ وابن الأخ والعم، فأما ابن العم فلا (4).
دليلنا: قوله تعالى: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " (5) والأم أقرب من العصبة.
مسألة 53: إذا اجتمع مع العصبة ذكر من ذوي الأرحام كالأخ للأم، والخال، والجد أبي الأم، كان الأقرب أولى.
ص: 138
وقال الشافعي: لا حضانة لهم بوجه، لأنه لا حضانة فيه ولا قرابة يرث بها (1).
دليلنا: قوله تعالى: " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " (2) والمراد به الأقرب فالأقرب، وذلك عام.
مسألة 54: إذا لم يكن عصبة، وهناك خال وأخ لأم وأبو أم، كان لهم الحضانة.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: لاحظ لهم فيها، ويعود النظر فيه إلى الحاكم كالأجانب سواء، لأنه لا حضانة ولا إرث (3).
وقال أبو إسحاق: لهم الحضانة، لأن الحضانة تسقط بوجود العصبة (4)، فإذا لم يكن عصبة فلهم الرحم، فوجب أن يكون لهم الحضانة.
دليلنا: الآية (5) على ما رتبناه.
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه ينعتق بهذه الآفات، فإذا ثبت ذلك ثبت ما قلناه، لأن أحدا لم يفرق.
مسألة 56: لا يجب بالعقد إلا المهر، وأما النفقة فإنها تجب يوما بيوم في مقابلة التمكين من الاستمتاع. وهو الظاهر من قول أبي حنيفة (1)، وهو قول الشافعي في الجديد (2).
وقال في القديم: يجب بالعقد النفقة مع المهر، ويجب تسليمها يوما بيوم في مقابلة التمكين من الاستمتاع (3).
دليلنا: أنه إذا مكنت الزوجة من نفسها، لا يجب عليه إلا تسليم نفقة ذلك اليوم، ولا يجبر بلا خلاف. فلو كان يجب أكثر من نفقة يوم لوجب عليه تسليمها، لأنه مع التمكين اجمعنا على أنه لا يجب.
وأيضا: الأصل براءة الذمة، قد أجمعنا على وجب نفقة يوم بيوم، ولا دليل على وجوبها بالعقد.
مسألة 57: إذا ثبت ما قلناه من أنها تجب نفقة يوم بيوم، فإن استوفت نفقة هذا اليوم فلا كلام، وإن لم تستوف استقرت في ذمته، وعلى هذا أبدا.
هذا إذا كانت ممكنة من الاستمتاع. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: كلما مضى يوم قبل أن تستوفي نفقتها سقطت بمضي
ص: 140
الزمان، كنفقة الأقارب، إلا أن يفرض القاضي عليه فرضا فتستقر عليه بمضي الزمان نفقة ما مضى (1).
دليلنا: أنا قد أجمعنا على وجوب النفقة في ذلك اليوم، ومن ادعى إسقاطها فعليه الدليل.
مسألة 58: إذا تزوج رجل أمة، فأحبلها، ثم ملكها، كان الولد حرا على كل حال، وكانت هي أم ولده.
وقال الشافعي: إذا ملكها، فإن كانت حاملا ملكها وعتق حملها بالملك، ولم تصر أم ولد، وإن ملكها بعد الوضع لم تصر أم ولد، سواء ملكها وحدها أم مع ولدها (2).
وقال أبو حنيفة: إذا علقت منه، ثبت لها حرمة الحرية بذلك العلوق، فمتى ملكها صارت أم ولده تعتق لموته، سواء ملكها قبل الوضع أو بعده (3).
وقال مالك: إن ملكها حاملا صارت أم ولده وتعتق بموته، سواء ملكها قبل الوضع أو بعده. وقال: لأن حملها يعتق وهو كبعض منها، وإن ملكها بعد الوضع مثل قول الشافعي (4).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الولد لاحق بالحرية في أي الطرفين كان، لا يختلفون فيه، وأما كونها أم ولده فالاشتقاق يقتضي ذلك.
مسألة 59: إذا أسلف زوجته نفقة شهر ثم مات، أو طلقها بائنا، فلها نفقة يومها، وعليها رد ما زاد على اليوم. وبه قال الشافعي (5).
ص: 141
وقال أبو حنيفة: إن مات بعد الإقباض لم يكن عليها رد شئ، وإن كان بعد أن حكم الحاكم وقبل الإقباض سقطت بوفاته، ويتصور الخلاف معه إذا بانت بالموت، فأما الطلاق فلا، لأن المبيونة لها النفقة عنده (1).
دليلنا: أنا قد بينا أنه لا نفقة للبائن بالطلاق، وأما بالموت فلا خلاف أنه تسقط نفقتها. فإذا كان كذلك، وكان ما أعطاها لم يستقر لها، لم يثبت فيما بعد، فوجب عليها رده.
ص: 142
ص: 143
ص: 144
مسألة 1: يقتل الحر بالحرة إذا رد أولياؤها فاضل الدية، وهو خمسة آلاف درهم. وبه قال عطاء، إلا أنه قال: ستة آلاف درهم. وروي ذلك عن الحسن البصري، ورواه عن علي عليه السلام (1).
وقال جميع الفقهاء: أنه يقتل بها، ولا يرد أولياؤها شيئا. ورووا ذلك عن علي عليه السلام، وابن مسعود (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: " والأنثى بالاثني " (4) فدل على أن الذكر لا يقتل بالأنثى.
مسألة 2: لا يقتل مسلم بكافر، سواء كان معاهدا، أو مستأمنا، أو
ص: 145
حربيا، وبه قال في الصحابة: علي عليه السلام، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت. وفي التابعين: الحسن البصري، وعطاء، وعكرمة وفي الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق. وإليه ذهب أبو عبيد، وأبو ثور (1).
وذهبت طائفة إلى أنه يقتل بالذمي، ولا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي.
ذهب إليه الشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة وأصحابه. والمستأمن عند أبي حنيفة كالحربي (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: (ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا) (4) ولم يفصل. والمراد بالآية: النهي لا الخبر، لأنه لو كان المراد الخبر لكان كذبا.
وروى أبو هريرة، وعمران بن حصين، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
ص: 146
جده: أن النبي عليه السلام قال: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده (1).
وروى أبو داود، عن أحمد بن محمد بن حنبل. ومسدد (2)، وعن يحيى بن سعيد (3)، عن سعيد بن أبي عروبة (4)، عن قتادة، عن الحسن البصري، عن قيس بن عباد (5) قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي عليه السلام، فقلنا له: هل عهد إليك رسول اللّه شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ فقال: لا، إلا ما في كتابي هذا، فأخرج كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه مكتوب: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده (6).
مسألة 3: إذا قتل كافر كافرا، ثم أسلم القاتل، لم يقتل بالكافر. وبه قال
ص: 147
الأوزاعي (1).
وقال جميع الفقهاء: إنه يقتل به (2).
دليلنا: عموم قوله: لا يقتل مسلم بكافر (3). فمن خصه فعليه الدلالة.
مسألة 4: إذا قتل الحر عبدا لم يقتل به، سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره. فإن كان بعد نفسه عزر وعليه الكفارة، وإن كان عبد غيره عزر وعليه قيمته. وهو إجماع الصحابة. وبه قال الشافعي (4).
وقال النخعي: أقتله به، سواء كان عبده أو عبد غيره (5).
وقال أبو حنيفة: يقتل بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (7). وأيضا: قوله تعالى: " الحر بالحر
ص: 148
والعبد بالعبد " (1) فلما قال: (الحر بالحر) دل على أنه لا يقتل بالعبد، ولما قال: (العبد بالعبد) دل على أنه لا يقتل عبد بحر وإلا كان تكرارا.
وروى عمرو بن دينار، عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله:
قال: لا يقتل حر بعبد (2) وهذا نص.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد (3) وقوله: من السنة يعني به سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وهذا حديث مشهور، وفيه إجماع. روي ذلك عن علي عليه السلام، وأبي بكر، وعمر، وعبد اللّه بن الزبير، وزيد بن ثابت (4)، ولا مخالف لهم.
مسألة 5: إذا جنى العبد، تعلق أرش الجناية برقبته، فإن أراد السيد أن يفديه كان بالخيار بين أن يسلمه برقبته أو يفديه بمقدار أرش جنايته.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش جنايته.
والثاني: بالخيار بين أن يفديه بأرش الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبيع، وهذا مثل ما قلناه (5).
حديث 751 - 753، والاستبصار 4: 272 حديث 1029 - 1032.
ص: 149
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 6: إذا قتل عبدا عشرة أعبد، فأراد سيده أن يقتلهم كان له، إذا رد على مواليهم ما يفضل عن قيمة عبده وقال الشافعي: له أن يقتلهم، ولا يجب عليه رد شئ (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 7: إذا اختار قتل خمسة، وعفى عن الخمسة، كان عليه أن يرد على موالي الخمسة الذين يقتلهم ما يفضل عن نصف قيمة عبده، وليس له على الذين عفى عنهم شئ.
وقال الشافعي: له أن يقتل الخمسة وليس عليه لمواليهم شئ، وله على الموالي الذين عفى عنهم نصف الدية يلزم كل واحد منهم عشر القيمة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 8: دية العبد قيمته ما لم يتجاوز دية الحر، فإن تجاوزت لم يلزم أكثر من دية الحر. وكذلك القول في دية الأمة قيمتها ما لم يتجاوز دية الحرة، فإن تجاوزت لم يلزمه أكثر من دية الحرة. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد إلا أنه قال:
إلا عشرة دراهم من دية الحر في الموضعين (6). وقال الشافعي: ديته قيمته بالغا
ص: 150
ما بلغ، وكذلك القول في الأمة ديتها قيمتها بالغا ما بلغ. وبه قال مالك، والثوري، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق (1).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه مجمع عليه، وما زاد عليه ليس عليه دليل.
مسألة 9: لا يقتل الوالد بولده، سواء قتله بالسيف حذفا أو ذبحا، وعلى أي وجه كان. وبه قال في الصحابة: عمر بن الخطاب. وفي الفقهاء: ربيعة، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (2).
وقال مالك: إن قتله حذفا بالسيف فلا قود، وإن قتله ذبحا أو شق بطنه فعليه القود. وبه قال عثمان البتي (3).
ص: 151
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: لا يقتل والد بولده (2).
وروى عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل والد بولده (3).
مسألة 10: الأم إذا قتلت ولدها، قتلت به. وكذلك أمهاتها، وكذلك أمهات الأب - وإن علون - فأما الأجداد فيجرون مجرى الأب لا يقادون به، لتناول اسم الأب لهم.
وقال الشافعي: لا يقاد واحد من الأجداد والجدات، والأم وأمهاتها في الطرفين بالولد. وهو قول باقي الفقهاء، لأنه لم يذكر فيه خلاف (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا: قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص) (6) الآية. وكذلك قوله: (النفس بالنفس) (7) الآية. ولم يفصل،
ص: 152
فوجب حملها على العموم، إلا ما أخرجه الدليل.
مسألة 11: لا ترث الزوجة من القصاص شيئا، وإنما القصاص يرثه الأولياء. فإن قبلوا الدية كان لها نصيبها منها.
وقال الشافعي: لها نصيبها من القصاص (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) (3) وهذا ولي.
مسألة 12: إذا كان أولياء المقتول جماعة، فعفا أحدهم، لم يسقط حق الباقين من القصاص، وكان لهم ذلك إذا ردوا على أولياء المقاد منه مقدار ما عفى عنه.
وقال الشافعي: إذا عفا بعض الأولياء عن القود سقط القصاص، ووجب للباقين الدية على قدر حقهم. وبه قال باقي الفقهاء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا: قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما
ص: 153
فقد جعلنا لوليه سلطانا) (1) وهذا ولي.
وأيضا: فقد ثبت لجمعهم حق القصاص قبل أن يعفو بعضهم، فمن ادعى سقوط هذا الحق عند عفو بعضهم فعليه الدلالة.
مسألة 13: الأطراف كالأنفس، فكل نفسين جرى القصاص بينهما في الأنفس جرى بينهما في الأطراف، سواء اتفقا في الدية أو اختلفا، فيها كالحرين والحرتين، والحر والحرة، والعبدين والأمتين، والعبد والأمة، والكافرين والكافرتين، والكافر والكافرة. ويقطع أيضا الناقص بالكامل دون الكامل بالناقص. وكل شخصين لا يجري القصاص بينهما في الأنفس، كذلك في الأطراف كالحر والعبد، والكافر والمسلم طردا وعكسا. وبه قال الشافعي (2) إلا أن عندنا إذا اقتص للحرة من الرجل الحر في الأطراف ردت فاضل الدية.
وقال أبو حنيفة: الاعتبار في الأطراف بالتساوي في الديات، فإن اتفقا في الدية جرى القصاص بينها في الأطراف كالحرين المسلمين والكافرين والكافر والمسلم، فإن الدية عنده واحدة، والحرتين المسلمتين والكافرتين، والكافرة والمسلمة، بلى إن اختلفا في الدية سقط القصاص بينهما في الأطراف، كالرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل. وكذلك لا يقطع العبد الحر عنده، لأن قيمة العبد لا يدري كم هي، ولا يتفقان أبدا في الدية والقيمة عنده. ولا يقطع عبد بعبد، لأن القيمة لا تتفقان فيهما حقيقة، وإنما هو تقريب. فعنده: أن أطراف العبد لا تؤخذ قودا بحال، فقد أمن العبد أن يؤخذ أطرافه قودا.
الكلام معه في فصلين: هل يجري القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون
ص: 154
النفس؟ وهل يجب القصاص على العبد فيما دون النفس أم لا؟ (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: قوله تعالى: " والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص " (3) ولم يفصل.
مسألة 14: إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به أجمعين، بشرطين:
أحدهما: أن يكون كل واحد منهم مكافئا له، أعني: إذا انفرد كل واحد منهم بقتله قتل، وهو أن لا يكون فيهم مسلم مشارك للكفار في قتل كافر، ولا والد شارك غيره في قتل ولده.
والثاني: أن يكون جناية كل واحد منهم لو انفرد بها كان منها التلف، فإذا حصل هذا في الحياة والجناية قتلوا كلهم به. وبه قال في الصحابة: علي عليه السلام، وعمر بن الخطاب، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس. وفي التابعين: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء. وفي الفقهاء: مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق إلا أن عندنا أنهم لا يقتلون بواحد إلا إذا رد أولياؤه ما زاد على دية صاحبهم. ومتى أراد أولياء المقتول قتل كل واحد منهم كان لهم ذلك، ورد الباقون على أولياء هذا المقاد منه ما يزيد على حصة صاحبهم. ولم يعتبر ذلك أحد من الفقهاء (4).
ص: 155
وقال محمد بن الحسن: القياس أن لا يقتل جماعة بواحد، ولا تقطع أيد بيد، إلا أنا تركنا القياس في القتل للأثر، وتركنا الأثر في القطع على القياس (1).
وذهب طائفة إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لكن ولي المقتول يقتل منهم واحدا، ويسقط من الدية بحصته، ويأخذ من الباقين الباقي من الدية على عدد الجناة. ذهب إليه في الصحابة عبد اللّه بن الزبير، ومعاذ. وفي التابعين ابن سيرين، والزهري (2).
وذهبت طائفة: إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد، ولا واحد منهم. ذهب إليه ربيعة بن أبي عبد الرحمان، وأهل الظاهر داود وأصحابه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا: قوله تعالى: " ولكن في القصاص حياة يا أولي الألباب " (5) ومعناه: إنه إذا علم أنه إذا قتل قتل لا يقتل فتبقى الحياة، فلو كانت الشركة تسقط القصاص لبطل حفظ الدم بالقصاص، لأن كل من أراد قتل غيره
ص: 156
شاركه آخر في قتله، فبطل القصاص. وقال اللّه تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " (1) ومن قتله ألف أو واحد فقتل مظلوما، وجب أن يكون لوليه سلطان في القود به.
وروى أبو شريح الكعبي (2): أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا واللّه عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية (3) ولم يفصل بين الواحد والجماعة. وهو إجماع الصحابة. روي عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عباس، والمغيرة (4).
وروى سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسا أو سبعا برجل قتلوه قتل غيلة. وقال عمر: لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا (5).
وروي عن علي عليه السلام أنه قتل ثلاثة قتلوا واحدا (6).
وعن المغيرة بن شعبة أنه قتل سبعة بواحد (7).
ص: 157
وعن ابن عباس أنه إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به ولو كانوا مائة (1).
مسألة 15: إذا ثبت أنه يقتل الجماعة بالواحد، فأولياء المقتول مخيرون بين العفو عنهم وبين أن يقتلوا الجميع ويردوا فاضل الدية، وبين أن يقتلوا واحدا ويرد الباقون بحصتهم من الدية على أولياء المقاد منه.
وقال الشافعي: أولياؤه مخيرون بين العفو عنهم ويأخذون من كل واحد منهم بمقدار ما يصيبه من الدية، وبين أن يقتلوا واحدا منهم ويعفوا عن الباقين ويأخذوا منهم بمقدار ما يصيبهم من الدية (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 16: إذا قطع واحد يد إنسان، وآخر رجله، وأوضحه الثالث، فسرى إلى نفسه فهم قتلة، فإن أراد ولي لدم قتلهم قتلهم، وليس له أن يقتص منهم ثم يقتلهم.
وقال الشافعي: له أن يقطع قاطع اليد ويقتله، وكذلك يقطع رجل قاطع الرجل ثم يقتله، وكذلك يوضح الذي أوضحه ثم يقتله (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 17: إذا اشترك جماعة في جرح يوجب القود على الواحد كقلع العين وقطع اليد ونحو ذلك فعليهم القود. وبه قال الشافعي، وربيعة، ومالك،
ص: 158
وأحمد، وإسحاق (1).
وقال الثوري، وأبو حنيفة: لا يقطع الجماعة بالواحد (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: " والعين بالعين - إلى قوله - والجروح قصاص " (4) ولم يفصل.
وروي: أن رجلين شهدا عند علي عليه السلام على رجل بالسرقة فقطعه، ثم أتياه بآخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول، فرد شهادتهما على الثاني وأوجب عليهما دية يد. وقال: لو علمت أنكما تعمدتها لقطعتكما (5).
وموضع الدلالة أنه أوجب القصاص بالجناية الحكمية، فبأن يوجبه بالجناية المباشرة أولى.
مسألة 18: إذا ضربه بمثقل يقصد بمثله القتل غالبا كاللت والدبوس والخشبة الثقيلة والحجر الثقيل فعليه القود. وكذلك إذا قتله بكل ما يقصد به القتل غالبا، مثل أن حرقه أو غرقه أو غمه حتى تلف، أو هدم عليه بيتا، أو
ص: 159
طينه عليه بغير طعام حتى مات، أو والى عليه بالخنق فقتله ففي كل هذا القود.
فإن ضربه ضربة بعضا خفيفة فقتله نظرت، فإن كان نضو الخلقة، ضعيف القوة والبطش يموت مثله منها فهو عمد محض، وإن كان قوي الخلقة والبطش لم يكن عمدا محضا، وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد والشافعي (1).
وذهبت طائفة: إلى أنه متى قتله بالمثقل - أي مثقل كان - فلا قود، وكذلك بجميع ما ذكرناه. ذهب إليه الشعبي، والنخعي، والحسن البصري، وأبو حنيفة. وفصل أبو حنيفة فقال: لا قود إلا إذا قتله بمحدد أو بالنار، أو بمثقل حديد كالعمود ونحوه ففيه القود (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4) وهذا قتل مظلوما.
وأيضا: ما روي عن النبي عليه السلام من حديث أبي شريح الكعبي - وقد قدمناه - فيمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا أخذوا الدية، وإن
ص: 160
أحبوا قتلوا، ولم يفصل (1).
وروى شعبة، عن هشام بن زيد (2)، عن جده أنس: أن جارية كان لها أوضاح، فوضح رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وبها رمق، فقال لها: من قتلك؟ فلان قتلك؟ إلى أن قالت: نعم برأسها، فأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقتل بين حجرين (3)، فدل على وجوب القود بالمثقل.
مسألة 19: إذا أخذ صغيرا فحبسه ظلما، فوقع عليه حائط، أو قتله سبع، أو لسعته حية أو عقرب فمات كان عليه ضمانه. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: لا ضمان عليه (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6). وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه. وأما إذا مات حتف أنفه، فلا ضمان عليه بلا خلاف.
مسألة 20: إذا طرحه في النار على وجه لا يمكنه الخروج منها فمات كان عليه القود بلا خلاف. فإن طرحه بحيث يمكنه الخروج فلم يخرج حتى مات، إما أن يكون بالقرب من موضع ليس فيه نار، بأن يكون على طرف لو تحرك
ص: 161
لخرج منها، أو يقول: أنا أقدر على الخروج لكني لا أخرج، فأقام حتى مات، لم يكن عليه قود بلا خلاف. وهل فيه الدية؟ للشافعي فيه قولان:
أحدهما: فيه الدية، لأن الجاني بإلقائه.
والثاني: لا دية لأنه أعان على نفسه: وإنما عليه ضمان ما جنته النار بإلقائه فيها، وهذا هو الصحيح نذهب إليه (1).
والدليل على ذلك: أن الأصل براءة الذمة، فلا يعلق عليها إلا ما يقوم عليه دليل، ولا دليل على وجوب الدية في ذلك.
مسألة 21: إذا ألقاه في لجة البحر فهلك، كان عليه القود، سواء كان يحسن السباحة أو لم يكن يحسنها بلا خلاف بيننا وبين الشافعي (2). وإن ألقاه بقرب الساحل وكان مكتوفا سواء كان يحسن السباحة أو لم يحسنها، فمثل ذلك. وإن كان يحسن السباحة وكان فحلا وعلم من حاله أنه يمكنه الخروج فلم يفعل ذلك حتى هلك فلا قود عليه، وفي الدية طريقان.
وفي أصحابه من قال: على قولين مثل مسألة النار.
ومنهم من قال: لا ضمان هاهنا قولا واحدا، وهو الصحيح (3).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 22: إذا ألقاه في لجة البحر، فقبل وصوله إلى الماء ابتلعته سمكة، للشافعي في وجوب القود عليه قولان:
أحدهما: عليه القود، لأنه أهلكه بنفس الإلقاء وهو الصحيح الذي نذهب إليه.
ص: 162
والثاني: أنه لا قود عليه، لأن الهلاك حصل بغيره، كما لو رماه من شاهق فاستقبله آخر بسيف فقده بنصفين، فإن القود على القاتل بالسيف دون الرامي (1).
دليلنا: إن نفس الإلقاء قد حصل به الهلاك، ألا ترى أنه لو لم تبلعه الحوت كان هالكا فكان الحوت أتلفه بعد أن حصل فيه ما فيه هلاكه، كما لو قتله ثم ألقاه.
مسألة 23: يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس، ودية الطرف تدخل في دية النفس، مثل أن يقطع يده ثم يقتله، أو يقلع عينه ثم يقتله، فليس عليه إلا قتله أو دية النفس، ولا يجمع بينهما. وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال الشافعي: لا يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس، ويدخل دية الطرف في دية النفس (3).
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا تدخل دية الطرف في دية النفس أيضا مثل القصاص (4).
وقال أبو حامد: يدخل قصاص الطرف في قصاص النفس، وديته في ديتها. إلا أن له أن يقطع يده ثم يقتله، لا على وجه القصاص لكن له قتله على الوجه الذي قتله، كما لو أجافه ثم قتله فإن له ذلك على أحد القولين. وإن كانت الجائفة لا قصاص فيها، قال: ولو كان على وجه القصاص لجاز أن
ص: 163
يقتص من الطرف ثم يعفو عن قود النفس على مال (1). وأجمعوا على أن ذلك ليس له، فعلم أنه لم يكن ذلك على وجه القصاص.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: الأصل براءة الذمة، وما أوجبناه مجمع عليه، وما زاد عليه يحتاج إلى دليل.
مسألة 24: إذا قطع مسلم يد مسلم فارتد المقطوع، ثم عاد إلى الإسلام قبل أن يسري إلى نفسه، ثم مات، كان عليه القود.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: أنه لا قود عليه (3).
دليلنا: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (4) وقوله تعالى: " الحر بالحر " " والأنثى بالأنثى " (5) ولم يفصل.
مسألة 25: إذا قطع مسلم يد مسلم، فارتد المقطوع وثبت على الردة مدة يكون فيها سراية، فلا قود بلا خلاف. ثم أسلم، فهل يجب كمال الدية أم لا؟ للشافعي فيه قولان:
أحدهما: يجب كمال الدية (6) - وهو الصحيح.
ص: 164
والثاني: يجب نصف الدية. وقال: يجب على العاقلة الدية كاملة إن لم يمكث، وإن مكث فعلى قولين (1).
والذي يقوى عندي أنه يجب عليه القود، فإن قبلت الدية كانت كاملة.
دليلنا: أن الإسلام وجد في الطرفين حال الإصابة وحال استقرار الدية، فيجب أن تكون الدية كاملة.
مسألة 26: إذا قطع مسلم يد مسلم، فارتد ولحق بدار الحرب، أو قتل في حال الردة، أو مات، فلا قصاص عليه في اليد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه - وهو اختيار أبي العباس - (2).
والثاني: عليه القصاص - وهو المذهب - واختاره أبو حامد (3).
دليلنا: إنا قد بينا أن قصاص الطرف داخل في قصاص النفس، وإذا كان لو مات لم يجب عليه قصاص النفس، فكذلك قصاص الطرف لأنه داخل فيه.
مسألة 27: إذا جنى جان على يد عبد غيره في حال الرق، فقطع يده، ثم أعتق، فجنى عليه آخران حال الحرية، فقطع أحدهما يده والآخر رجله، ثم مات، فإنه يجب على الجاني في حال الرق ثلث قيمة العبد وقت جنايته ما لم يتجاوز ثلث الدية، فإن تجاوز وجب عليه ثلث الدية.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: للسيد أقل الأمرين من أرش الجناية، أو ثلث الدية.
ص: 165
والآخر: للسيد أقل الأمرين من ثلث القيمة، أو ثلث الدية (1) - مثل ما قلناه -.
دليلنا: أنه لما جنى عليه كان هو ملك للسيد، فلما أعتق جنى عليه آخران في غير ملكه، ولو جنى عليه جان في ملكه وآخران في غير ملكه ثم مات عبدا مثل أن باعه السيد بعد جناية الأول فجنى الآخران عليه في ملك المشتري، ثم مات، كان عليهم قيمته على كل واحد ثلثها. وهكذا لو جنى عليه الأول ثم ارتد، ثم جنى عليه آخران وهو مرتد، ثم مات، كان على الجاني قبل الردة ثلث قيمته، ثبت أن على الجاني حال الرق ثلث قيمته إذا مات بعد العتق.
مسألة 28: الإمام عندنا لا يأمر بقتل من لا يجب قتله، لأنه معصوم. لكن يجوز ذلك في الأمير، فمتى أمر غيره بقتل من لا يجب قتله، فعلم المأمور ذلك فقتله، فإن القود على القاتل بلا خلاف. وإن لم يعلم أن قتله واجب إلا أنه إعتقد أن الأمير لا يأمر بقتل من لا يجب قتله فقتله. قال الشافعي: لا قود على القاتل، والقود على الإمام (2).
والذي يقتضيه مذهبنا أن هذا المأمور إن كان له طريق إلى العلم بأن قتله محرم، فأقدم عليه من غير توصل إليه، فإن عليه القود، وإن لم يكن من أهل ذلك فلا شئ عليه وعلى الأمر القود.
دليلنا: أنه إذا كان متمكنا من العلم بذلك، فلم يفعل، فقد أتى من قبل نفسه، وباشر قتلا لم يجز له، فوجب عليه القود، وإذا لم يكن متمكنا فلا قود عليه بلا خلاف، وإن القود على الأمر.
مسألة 29: إذا أكره الأمير غيره على قتل من لا يجب قتله، فقال له: إن
ص: 166
قتلته وإلا قتلتك، لم يحل له قتله بلا خلاف. فإن خالف وقتل، فإن القود على المباشر دون الملجئ.
وفرض الفقهاء ذلك في الإمام والمتغلب مثل الخوارج وغيرهم، والخلاف في الإمام والأمير واحد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يجب عليهما القود كأنهما باشرا قتله معا. وبه قال زفر. قال: وإن عفى الأولياء فعلى كل واحد منهما نصف الدية والكفارة.
والقول الثاني: على الملجئ وحده القود، وعلى المكره نصف الدية، فإن عفى عن الإمام فعليه نصف الدية، وعلى كل واحد منهما الكفارة. ولا يختلف مذهبه أن الدية عليهما نصفان وعلى كل واحد منهما الكفارة، وإن على الإمام القود. وهل على المكره القود؟ على قولين (1).
وقال أبو حنيفة، ومحمد: القود على المكره وحده، ولا ضمان على المكره من قود، ولا دية ولا كفارة (2).
وقال أبو يوسف: لا قود على الإمام ولا على المكره، أما المكره فلأنه ملجأ، وأما الإمام فلأنه ما باشر القتل (3).
ص: 167
دليلنا: قوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (1) وهذا قتل مظلوما، وعليه إجماع الصحابة.
وروي أن رجلين شهدا عند علي عليه السلام على رجل بالسرقة، فقطعه علي عليه السلام، ثم أتياه بآخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا على الأول فرد شهادتهما على الثاني، وقال: لو علمت أنكما تعمدتها على الأول لقطعتكما (2).
فموضع الدلالة أنه عليه السلام قضى بالقصاص على من ألجأ الحاكم إلى القطع بالشهادة مع قدرة الحاكم على الامتناع من قتله، بأن يعزل نفسه عن النظر، والمكره أغلظ حالا من الحاكم، فإنه ملجأ إليه على وجه لا يمكنه إلا قتله خوفا على نفسه. فإذا كان على الشاهد القود فبأن يكون على المكره أولى وأحرى.
وهذا دليل الشافعي وليس فيه دلالة، لأنه قياس، ونحن لا نقول به.
ومعولنا على الآية قوله تعالى: " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " (3) وعلى إجماع الفرقة. وأيضا: روى عثمان بن عفان أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (4) وهذا قتل نفسا بغير نفس، فيجب أن يحل دمه.
مسألة 30: اختلفت روايات أصحابنا في أن السيد إذا أمر غلامه بقتل
ص: 168
غيره فقتله، على من يجب القود؟ فرووا في بعضها: أن على السيد القود.
وفي بعضها: أن على العبد القود (1)، ولم يفصلوا.
والوجه في ذلك أنه إن كان العبد مميزا عاقلا يعلم أن ما أمره به معصية، فإن القود على العبد، وإن كان صغيرا أو كبيرا لا يميز، ويعتقد أن جميع ما يأمره سيده به واجب عليه فعله، كان القود على السيد.
والأقوى في نفسي أن نقول: إن كان العبد عالما بأنه لا يستحق القتل، أو متمكنا من العلم به، فعليه القود. وإن كان صغيرا أو مجنونا فإنه يسقط القود ويجب الدية.
وقال الشافعي: إن كان العبد صغيرا لا يعقل ويعتقد أن كل ما يأمره به سيده فعليه فعله، أو كان كبيرا أعجميا جاهلا يعتقد طاعة مولاه واجبة وحتما في كل ما يأمره، ولا يعلم أنه لا طاعة في معصية اللّه تعالى فعلى السيد القود، لأن العبد ينصرف عن رأيه، فكان كالآلة بمنزلة السكين والسيف، فعلى السيد القود وحده.
وإن كان هذا العبد بهذه الصفة مملوكا لغيره، ويعتقد أن أمر هذا الأمير طاعة في كل ما يأمره به، فالحكم فيه كالحكم في عبد نفسه.
وإن أمره بقتله فقال: اقتلني، فقتله، هدر دمه، لأنه كالأمة له في قتل نفسه.
وإن قال له: اقتل نفسك أيها العبد، فقتل العبد نفسه وكان كبيرا، لا ضمان على الأمر.
ص: 169
وإن كان صغيرا لا يعقل أو كان مجنونا: فقال له: اقتل نفسك فقتلها كان على الآمر الضمان.
وإن كان المأمور حرا صغيرا لا يعقل، أو كبيرا جاهلا وأمره بقتله، فالقود على الآمر، لأنه كالآلة.
وإن قال له: اقتل نفسك، فإن كان كبيرا فلا شئ على الآمر، وإن كان صغيرا لا يميز فعلى الآمر القود. فإن كان المأمور عاقلا مميزا إما بالغا أو صبيا مراهقا فأمره بقتل رجل فقتله، فالحكم متعلق بالمأمور، ويسقط الآمر وحكمه معا.
وقد ذكرت الكلام في الجمع بين الأخبار، وسنبين ما يتعلق بهذه المسألة إن شاء اللّه تعالى.
وجملة القول في هذه المسائل: إن المأمور إذا كان عاقلا مميزا فالضمان عليه، وإن لم يكن عاقلا ولا مميزا إما بالصغر أو بالجنون فالضمان على الآمر (1).
مسألة 31: إذا جعل السم في طعام نفسه، وقربه إلى الغير، ولم يعلمه أنه مسموم، فأكله، فعليه القود.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا قود عليه، بل عليه الدية (2).
دليلنا: أنه كالقاتل له، لأنه عرضه لأكل الطعام، والجأه إليه بالإباحة لأكله. ولم يعلمه. ألا ترى أنه لو أعلمه أن فيه السم لم يختر شربه ولا أكله.
ص: 170
مسألة 32: إذا جعل السم في طعام غيره، وجعله في بيت مالكه، فدخل المالك بيته فوجد طعامه فأكله، فعلى الجاعل القود.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: لا ضمان عليه قولا واحدا (1).
والثاني: أن الحكم فيها كما لو جعله في طعام نفسه وقدم إليه، وهو على القولين: على ما مضى (2).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 33: إذا قتل مرتد نصرانيا له ذمة ببذل جزية أو عهد، فإن رجع إلى الإسلام فإنه لا يقاد به، وإن لم يرجع فإنه يقاد به.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: عليه القود على كل حال، وهو اختيار الشافعي والمزني (3).
والثاني: لا قود عليه، وهو اختيار أبي حامد. وسواء رجع إلى الإسلام أو أقام على الكفر (4).
دليلنا: على أنه لا يقتل إذا رجع: قوله عليه السلام: لا يقتل مسلم بكافر (5) ولم يفصل.
ص: 171
ودليلنا على أنه يقتل إذا لم يرجع: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (1) وقوله: " الحر بالحر " (2). ولم يفصل.
وقوله تعالى: " من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (3) وهذا قتل مظلوما.
مسألة 34: إذا قتل نصراني مرتدا وجب عليه القود. وليس للشافعي فيه نص، ولأصحابه فيه ثلاثة أوجه:
قال أبو إسحاق: لا قود له ولا دية.
ومنهم من قال: عليه القود، فإن عفى فعليه الدية.
وقال أبو الطيب ابن سلمة: عليه القود، فإن عفى فلا دية له (4).
دليلنا: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (5) و " الحر بالحر " (6) ولم يفصل.
مسألة 35: إذا زنى وهو محصن، فقد وجب قتله، وصار مباح الدم، وعلى الإمام قتله. فإن قتله رجل من المسلمين فلا قود عليه.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: - وهو المذهب - مثل ما قلناه.
وفي أصحابه من قال: عليه القود، وليس بمذهب (7).
ص: 172
دليلنا: إجماع الصحابة. روي ذلك عن علي، وعمر، ولم يخالفهما أحد (1).
روى سعيد بن المسيب: أن رجلا من أهل الشام يقال له رزين بن خيبري (2) وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلها، فأشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه، فكتب معاوية إلى أبي موسى الأشعري يسأل له عن ذلك علي بن أبي طالب، عليه السلام، فقال له علي عليه السلام: إن هذا الشئ ما هو بأرضنا، عزمت عليك لتخبرني فقال أبو موسى الأشعري: كتب إلي في ذلك معاوية، فقال علي: أنا أبو الحسن - وفي بعضها: أنا القرم (3) - إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته (4).
وروي عن عمر: أن رجلا قتل إنسانا وجده مع امرأة أخيه، فأهدر عمر دمه (5).
مسألة 36: روى أصحابنا أن من أمسك إنسانا حتى جاء آخر فقتله، أن على القاتل القود، وعلى الممسك أن يحبس أبدا حتى يموت. وبه قال ربيعة (6).
وقال الشافعي: إن كان أمسكه متلاعبا مازحا فلا شئ عليه، وإن كان أمسكه عليه للقتل أو ليضربه ولم يعلم أنه يقتله فقد عصى وأثم، وعليه التعزير (7).
ص: 173
وروي ذلك عن علي عليه السلام، وإليه ذهب أهل العراق: أبو حنيفة وأصحابه (1).
وقال مالك: إن كان متلاعبا لا شئ عليه، وإن كان للقتل فعليهما القود معا، كما لو اشتركا في قتله (2).
دليلنا: إجماع الطائفة وأخبارهم (3)، لأنهم ما رووا خلافا لما بيناه. وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: يقتل القاتل ويصبر الصابر (4).
قال أبو عبيد معناه: يحبس الحابس، فإن المصبور المحبوس (5).
وقال مالك: يجب على الممسك دون الردء (1). على ما حكيناه.
وقال الشافعي: لا يجب القود إلا على المباشر، دون الممسك والردء (2).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 38: إذا جنى على عين غيره فنخسها (3) وقلع حدقته، كان للمجني عليه أن يقتص منه، لكنه لا يتولى بنفسه، لأنه لا يدري كيف يستوفي، فربما فعل أكثر مما يجب بلا خلاف. وله أن يوكل.
فإذا وكل، كان للوكيل أن يقتص منه بأي شئ يمكن ذلك، سواء كان ذلك بإصبعه أو حديدة. وإن أذهب ضوءها ولم يجن على العين شيئا، فإنه يبل قطن ويترك على الأشفار، ويقرب مرآة محمية بالنار إلى عينه، فإن الناظر يذوب وتبقى العين صحيحة.
وللشافعي: في الوكيل قولان:
أحدهما: أن له أن يقتص بإصبعه.
والثاني: ليس له أن يقتص إلا بحديدة.
وأما إذا ذهب ضوؤها، فله أن يفعل به مثل ما فعل به، فإن أذهب وإلا فإن أمكن إذهاب الضوء بدواء استعمل، فإن لم يمكن قرب إليها حديدة محمية حتى تذهب بضوئه، فإن لم يذهب وخيف أن تذهب الحدقة، ترك وأخذت الدية دية العين، لئلا يأخذ أكثر من حقة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
ص: 175
مسألة 39: روى أصحابنا أن عمد الصبي والمجنون وخطأهما سواء، فعلى هذا يسقط القود عنهما (1). والدية على العاقلة مخففة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والآخر: أن الدية في قتلهما دية العمد المحض معجلة حالة في مالهما (2).
وقال في المجنون، إذا سرق شيئا فهو كالسكران، والسكران كالصاحي (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، ولأن الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه مجمع على وجوبه.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: رفع القلم عن ثلاثة (5).
أحدهما الصبي حتى يبلغ.
مسألة 40: القتل العمد يوجب القود فقط، فإن اختار الولي القصاص فعل، وإن اختار العفو فعل وسقط حقه من القصاص، ولا يثبت له الدية على القاتل إلا برضاه، وإنما يثبت المال على القاتل إذا اصطلحوا على مال، قليلا كان أو كثيرا - فأما ثبوت الدية عليه بغير رضاه فلا. وبه قال أبو حنيفة،
ص: 176
ومالك (1).
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: أن موجب القتل أصلان: القود أو الدية - وهو اختيار أبي حامد - (2).
والقول الثاني: موجبه القود فقط، والولي بالخيار بين أن يقتله أو يعفو، فإن قتل فلا كلام. وإن عفى على مال سقط القود، ويثبت الدية بدلا عن القود، فتكون الدية على هذا بدلا عن بدل.
وعلى القولين معا يثبت الدية بالعفو، سواء رضي الجاني بذلك أو سخط (3). وبه قال في التابعين: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء.
وفي الفقهاء أحمد، وإسحاق (4).
ص: 177
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1). وأيضا قوله تعالى: " النفس بالنفس " (2).
وقال عز وجل: " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر " (3) فمن جعل له أكثر من ذلك فقد ترك الآية.
مسألة 41: الدية يرثها الأولاد، ذكورا كانوا أو إناثا، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك الوالدان. ولا يرث الإخوة والأخوات من قبل الأم منها شيئا، ولا الأخوات من قبل الأب. وإنما يرثها بعد الوالدين والأولاد الإخوة من الأب والأم، أو الأب أو العمومة، فإن لم يكن واحد منهم وكان هناك مولى كانت الدية له، فإن لم يكن هناك مولى كان ميراثه للإمام. والزوج والزوجة يرثان من الدية، وكل من يرث الدية يرث القصاص إلا الزوج والزوجة، فإنه ليس لهما من القصاص شئ على حال.
وقال الشافعي: الدية يرثها جميع ورثته، وكل من ورث تركته من المال يرث الدية الذكور والإناث، وسواء كان الميراث بنسب أو سبب هو الزوجية، أو ولاء والعقل موروث كالمال، فكل من يرث الدية يرث القصاص، وكل من يرث القصاص يرث الدية. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (4).
وقال مالك: يرثه العصبات من الرجال دون النساء، فإن عفوا على مال
ص: 178
كان المال لمن يرث الدية من الرجال (1).
وقال ابن أبي ليلى: يرثه ذوو الأنساب من الرجال والنساء، ولا يرثه ذو سبب وهو الزوجية. قال: لأن الزوجية تزول بالوفاة، وهذا يورث للتشفي، ولا تشفي بعد زوال الزوجية (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 42: إذا كان أولياء المقتول جماعة لا يولى على مثلهم جاز لواحد منهم أن يستوفي القصاص، وإن لم يحضر شركاؤه سواء كانوا في البلد أو كانوا غائبين بشرط أن يضمن لمن لم يحضر نصيبه من الدية.
وقال جميع الفقهاء: ليس له ذلك حتى يستأذنه إن كان حاضرا، أو يقدم إن كان غائبا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: قوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4) وهذا ولي، فيجب أن يكون له السلطان.
مسألة 43: إذا كان بعض الأولياء رشيدا لا يولى عليه، وبعضهم يولى عليه لصغر أو جنون، كان للكبير أن يستوفي القصاص من حق نفسه دون حق المولى عليه، بشرط أن يضمن له نصيبه من الدية. وإن كان الولي واحدا مولى عليه لجنون وله أب أو جد، لم يكن لأحد أن يستوفي له حتى يبلغ، سواء كان
ص: 179
القصاص في الطرف أو في النفس، أو يموت فيقوم وارثه مقامه.
وقال الشافعي: إذا كانوا جماعة بعضهم مولى عليه، لم يكن للكبير العاقل أن يستوفي حقه ولا حق الصغير، بل يصبر حتى يبلغ الطفل، ويفيق المجنون أو يموت، فيقوم وارثه مقامه. وبه قال أبو يوسف، وعمر بن عبد العزيز.
وإن كان الوارث واحدا مولى عليه، لم يكن لأبيه ولا لجده أن يستوفي له، بل يصبر حتى يبلغ مثل - ما قلناه - سواء كان القصاص في الطرف أو في النفس (1).
وقال أبو حنيفة: إن كان بعضهم كبارا وبعضهم صغارا، فللكبير أن يستوفي القصاص في حقه وفي حق الصغير. حتى قال: إن قتل الزوج وله أطفال، كان للزوجة أن تستوفي حقها وحق الأطفال، وإن قتلت ولها أطفال كان لزوجها أن يستوفي حقه وحق الأطفال (2).
وقال أبو يوسف، قلت لأبي حنيفة: كيف يستوفيه بعضهم وهو بينهم؟ فقال: لأن الحسن بن علي عليه السلام قتل عبد الرحمان بن ملجم وهو بعضهم، والحق لجماعتهم.
فقلت له: ذلك لأن له الولاية بالإمامة. وإن كان الوارث واحدا طفلا،
ص: 180
كان لوالده أن يستوفيه له، طرفا كان أو نفسا. وإن كان الولي الوصي كان له ذلك في الطرف، والقياس أن له ذلك في النفس، لكنا منعناه استحسانا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: قوله تعالى: " فقد جعلنا لوليه سلطانا " (3) والكبير ولي وجب أن يكون له السلطان، وإنما قلنا: أنه يضمن، لأن حق الغير يتعلق به، فلا يجوز أن يبطل حق الغير.
مسألة 44: إذا وجب القصاص لابنين، فعفا أحدهما عن القصاص، سقط حقه ولم يسقط حق أخيه إذا رد على أولياء المعفو عنه نصف الدية.
وقال الشافعي يسقط حقهما، لأن القصاص لا يتبعض، وكان لأخيه نصف الدية (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا: قوله تعالى: " فقد جعلنا لوليه سلطانا " (6) ولم يفصل.
مسألة 45: يجوز التوكيل في استيفاء القصاص بلا خلاف، ويجوز للوكيل استيفاؤه بمشهد منه بلا خلاف. فأما في حال غيبته، فالذي يقتضيه مذهبنا أنه يجوز أيضا.
ولأصحاب الشافعي فيه ثلاث طرق:
ص: 181
أحدها: يجوز قولا واحدا - مثل ما قلناه - على ظاهر قوله في الجنايات (1).
ومنهم من قال: لا يجوز قولا واحدا - على ما قال في الوكالة - (2).
ومنهم من قال على قولين:
أحدهما: يجوز - مثل ما قلناه وهو الصحيح عندهم -.
والآخر: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة (3).
دليلنا: أنه لا مانع من ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 46: يجوز التوكيل باستيفاء القصاص بغيبة منه.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: عقد الوكالة باطل، إذا قال لا يستوفيه إلا بمشهد منه.
والثاني: صحيح، إذا قال يستوفيه منه بغيبة منه (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 47: إذا قتل واحد مثلا عشرة أنفس، ثبت لكل واحد من أولياء المقتولين القود عليه لا يتعلق حقه بحق غيره. فإن قتل بالأول سقط حق الباقين، وإن بادر أحدهم فقتله سقط حق كل واحد من الباقين. وبه قال الشافعي إلا أنه قال: يسقط حق الباقين إلى بدل، وهو كمال الدية في ماله خاصة (5).
ص: 182
وقال أبو حنيفة: يتداخل حقوقهم من القصاص، فليس لواحد منهم أن ينفرد بقتله بل يقتل بجماعتهم. فإن قتلوه فقد استوفوا حقوقهم، وإن بادر واحد فقتله فقد استوفى حقه، وسقط حق الباقين لا إلى بدل (1).
وقال عثمان البتي: يقتل بجماعتهم، فإذا قتل سقط من الديات واحدة، وكان ما بقي من الديات في تركته يأخذها أولياء القتل بالحصص (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: " فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4) فمن قال يتداخل فعليه الدلالة. وأما إثبات البدل، فالأصل براءة الذمة، وإثبات الدية يحتاج إلى دليل. على أنا قد بينا أن الدية لا تثبت إلا بالتراضي، وذلك مفقود هاهنا. وأيضا: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (5) ولم يقل نفس بأنفس. وقال: " الحر بالحر " (6) ولم يقل بالأحرار.
مسألة 48: إذا قطع يد رجل وقتل آخر قطعناه باليد، وقتلناه بالآخر. وبه قال الشافعي (7).
ص: 183
وقال مالك: يقتل ولا يقطع، لأن القصد إتلاف نفسه (1).
دليلنا: قوله تعالى: " إن النفس بالنفس والعين بالعين " (2) الآية. وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 49: إذا قطع رجل يد رجل، فقطع المجني عليه يد الجاني، ثم اندمل المجني عليه، وسرى القتل إلى نفس الجاني، كان هدرا. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: على المجني عليه الضمان، فيكون عليه كما دية يد الجاني (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6). وأيضا: روي عن علي عليه السلام، وعمر أنهما قالا: من مات من حد أو قصاص فلا دية له الحق قتله (7) ولا مخالف لهما في الصحابة.
مسألة 50: إذا قتل رجل رجلا ووجب القود عليه، فهلك القاتل قبل أن
ص: 184
يستقاد منه، سقط القصاص ويرجع إلى الدية. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: يسقط القصاص لا إلى بدل (2).
دليلنا: قوله عليه السلام: لا يطل دم امرئ مسلم (3) فلو أسقطناه لا إلى بدل لأطللنا دمه، ولو قلنا بقول أبي حنيفة لكان قويا، لأن الدية لا تثبت عندنا إلا بالتراضي بينهما، وقد فات ذلك.
مسألة 51: إذا قتل اثنان رجلا، وكان أحدهما لو انفرد بقتله قتل به دون الآخر، لم يخل من أحد أمرين.
إما أن يكون القود لم يجب على أحدهما لمعنى فيه أو في فعله، فإن كان لمعنى فيه، مثل أن شارك أجنبيا في قتل ولده، أو نصرانيا في قتل نصراني، أو عبدا في قتل عبد، فعلى شريكه القود دونه.
وإن كان القود لم يجب عليه لمعنى في فعله، مثل إن كان عمدا محضا شارك من قتله خطأ أو عمد الخطأ، فلا قود على واحد منهما. وبه قال الشافعي (4).
وقال مالك: على القاتل القود، سواء سقط عن شريكه لمعنى فيه، أو في فعله. وبه قال الحسن البصري، والنخعي (5).
وقال أبو حنيفة: لا قود عليه، سواء سقط القود عن شريكه لمعنى فيه، أو
ص: 185
في فعله (1).
دليلنا: على مالك: ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إلا أن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " (2).
فأوجب في عمد الخطأ الدية، وهذا عمد الخطأ، لأنها روح وخرج عن عمد وخطأ، وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
دليلنا: على أبي حنيفة: قوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " (4) وهذا قد قتل ظلما، فوجب أن يكون لوليه سلطان. وأيضا قوله عليه السلام: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا واللّه عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية (5) ولم يفصل.
مسألة 52: إذا قتله رجل عمدا، ووجب القصاص على قاتله، وكان له ابنان أو أكثر من ذلك، كان لهم قتله قودا مجتمعين بلا خلاف.
ص: 186
وعندنا: أن لكل واحد من الأولياء قتله منفردا ومجتمعا، ولا يقف ذلك على إذن الباقين.
فإن بادر أحدهما فقتله، لا يخلو الباقون من أحد أمرين: إما أن يكونوا عفوا عن نصيبهم أو لم يعفوا. فإن لم يعفوا ضمن هذا القاتل نصيبهم من الدية، وإن كان قد عفوا ضمن مقدار ما عفى الأولياء لأولياء المقاد منه من الدية، ولا يجب عليه القود بحال، سواء علم بعفوهم أو لم يعلم، حكم الحاكم بسقوط القود أو لم يحكم، لأن حكم الحاكم بسقوط القود إذا عفى بعضهم باطل لا يجب المصير إليه. وهو إحدى الروايات عن مالك (1).
قال الشافعي، وباقي الفقهاء: أنه إذا عفى أحدهم سقط القود، فإن بادر أحدهم فقتله، فإن كان بعد عفو الباقين، فهل عليه القود أم لا؟ على قولين (2).
وإن قتله بعد عفوه قبل حكم الحاكم، فإن كان قبل علمه بالعفو، فهل عليه القود أم لا؟ على قولين.
والصحيح: أن عليه القود (3).
والصحيح في التي قبلها: أنه لا قود عليه.
وإن قتل بعد العفو بعد العلم فمبنية على ما قبلها. فإن قلنا عليه القود قبل العلم، فهاهنا أولى، وإذا قلنا لا قود، فهاهنا على قولين (4).
ص: 187
هذه ثلاث مسائل على قولين، وإن قتل بعد حكم الحاكم فعليه القود قولا واحدا، علم بحكمه أو لم يعلم (1).
وإن عفوا معا عنه، ثم عادوا أو عاد أحدهم فقتله، فعلى من قتله القود (2).
فهذه وفاق ولا خلاف فيها. وهذه ثلاث مسائل على قول واحد.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وقد ذكرناها. وأيضا: قوله تعالى:
" ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4) ولم يفرق بين الاجتماع والانفراد.
مسألة 53: إذا قطع يد رجل من الكوع، ثم قطع آخر تلك اليد من المرفق قبل اندمال الأول، ثم سرى إلى نفسه فمات، فهما قاتلان عليهما القود. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: الأول قاطع، والثاني هو القاتل. يقطع الأول ولا يقتل، ويقتل الثاني لأنه قطع سراية الأول، بدلالة أنه لا يتجدد فيه الألم إلا بعد قطع الثاني (6).
دليلنا: أن القتل حدث عن القطعين. وألمهما باق في جسمه، فليس أن يضاف إلى الثاني بأولى من أن يضاف إلى الأول: فالواجب أن يضاف إليهما إذ لا ترجيح.
ص: 188
مسألة 54: إذا قطع رجل يد رجل من الكوع، وجاء آخر فقطع ذراعه من المرفق، ثم أراد القصاص من قاطع الذراع نظر فيه، فإن كان له ذراع بلا كف قطع به بلا خلاف، وإن أراد ديته كان له نصف الدية إلا قدر حكومة ذراع لا كف له، وإن كان للقاطع ذراع كامل وليس له ذراع بلا كف عليها، وأراد قطعه من المرفق كان له ذلك، وعليه أن يرد عليه دية اليد من الكوع.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: له قطع ذلك - ولم يذكر رد شئ -.
والآخر: ليس له أن يقطع من المرفق بحال (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: قوله تعالى: " والجروح قصاص " (3) وذلك عام في كل شئ إلا ما أخرجه الدليل.
مسألة 55: إذا قتل غيره بما يجب فيه القود من السيف، والحرق، والغرق، والخنق، ومنع الطعام والشراب وغير ذلك مما ذكرناه، فإنه لا يستقاد منه إلا بالحديد، ولا يقتل كما قتل.
وقال الشافعي في جميع ذلك: يقتل بمثل ما قتل (4).
وقال أبو حنيفة: لا يستقاد منه إلا فيما قتل بمثقل الحديد أو النار، وما
ص: 189
عداهما لا يوجب القود، ولا يستقاد منه إلا بالحديد مثل ما قلناه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا قوله عليه السلام: " لا قود إلا بحديدة " (3) وهذا خبر معناه: النهي.
واستدل الشافعي بقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (4) وبقوله عز وجل: " كتب عليكم القصاص " (5) والقصاص: أن يقتل بمثل ما قتل (6).
وروى البراء بن عازب، عن النبي عليه السلام أنه قال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه (7).
وعن أنس أن يهوديا رض رأس نصرانية بين حجرين، فأدركت وبها رمق، فقيل لها: أقتلك فلان أقتلك فلان؟ حتى ذكر لها اليهودي. فأومأت برأسها أن نعم، فسئل اليهودي فاعترف، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يرض رأسه بين حجرين (8).
ص: 190
مسألة 56: إذا جرحه، فسرى إلى نفسه ومات، وجب القصاص في النفس، ولا قصاص في الجرح، سواء كان مما لو انفرد كان فيه القصاص، أو لم يكن فيه القصاص. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: إذا كان مما لو انفرد كان فيه القصاص كان وليه بالخيار بين أن يقتص في الجرح ثم يقتل، وبين أن يقتل فحسب.
وإن كان مما لو انفرد واندمل لا قصاص فيه مثل الهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة، وقطع اليد من بعض الذراع، والرجل من بعض الساق.
فإذا صارت نفسا فهل لوليه أن يقتص منها، ثم يقتل أم لا؟ على قولين:
أحدهما: ليس له ذلك.
والثاني: له ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وروى العباس بن عبد المطلب أن النبي عليه السلام قال: لا قصاص في المنقلة (4).
مسألة 57: الجراح عشرة: الحارصة - وهي الدامية - فيها بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسة أبعرة، وفي جميعها يثبت القصاص.
ص: 191
وقال جميع الفقهاء: ليس فيها شئ مقدر، بل فيها الحكومة. ولا قصاص في شئ منها إلا الموضحة (1).
وروى المزني في الدامية القصاص (2).
وقال أبو حامد: يمكن أن يكون في الثلاثة قصاص (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا: قوله تعالى: " والجروح قصاص " (5) وذلك عام.
مسألة 58: الموضحة فيها نصف العشر، خمس من الإبل بلا خلاف، وفيها القصاص أيضا بلا خلاف. وما بعدها من الهاشمة فيها عشرة، والمنقلة فيها خمسة عشر بعيرا، والمأمومة فيها ثلث دية النفس بلا خلاف أيضا، ولا قصاص فيها ولا فيما فوق الموضحة بلا خلاف. ولا يجوز عندنا أن يوضح ويأخذ فضل ما بينهما.
وقال الفقهاء: له أن يوضح ويأخذ فضل ما بين الجنايتين، فإن كانت هاشمة له أن يوضح ويأخذ خمسا، وإن كانت منقلة له أن يوضح ويأخذ عشرا، وكذلك في المأمومة (6).
ص: 192
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 59: إذا قطع يمين غيره قطعت يمينه بلا خلاف، فإن لم يكن له يمين قطعت يساره عندنا، فإن لم يكن له يسار قطعت رجله اليمنى، فإن لم تكن له قطعت رجله اليسرى.
وقال جميع الفقهاء: إن لم يكن يمين يسقط القصاص (2).
وقال شريك: يقطع اليمين باليمين، فإن لم يكن له يمين قطعت اليسرى، وكذلك تقطع اليسرى باليسرى، فإن لم تكن له قطعت اليمنى (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 60: إذا قطع يدا كاملة الأصابع، ويده ناقصة الإصبع، فالمجني عليه بالخيار بين العفو على مال وله دية اليد خمسون من الإبل، وبين أن يقتص فيأخذ يدا ناقصة إصبعا قصاصا، ويأخذ دية الإصبع المفقودة. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: المجني عليه بالخيار بين أن يأخذ دية يد كاملة ويعفو،
ص: 193
وبين أن يقتص فيأخذ يدا ناقصة إصبعا، ولا يأخذ دية الإصبع المفقودة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (2) والمثل مثلان: مثل من طريق الصورة ومثل من طريق القيمة. فلما لم يكن هاهنا مثل من طريق الصورة والخلقة وجب أن يكون له مثل من طريق القيمة، فيأخذ قيمة الإصبع المفقودة.
مسألة 61: إذا قطع يدا شلاء ويده صحيحة لا شلل بها، لا قود عليه. وبه قال جميع الفقهاء (3). وقال داود: له أخذ الصحيحة بالشلاء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (5) وأيضا: قوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (6).
مسألة 62: إذا ثبت أنه لا قصاص فيها، ففيها ثلث الدية الصحيحة.
وقال جميع الفقهاء فيها الحكومة (7).
ص: 194
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، لأن ما اعتبرناه أكثر من الحكومة فتبرأ الذمة بيقين.
مسألة 63: إذا قطع إصبع رجل، فسرت إلى كفه، فذهب كفه، ثم اندملت، فعليه في الإصبع والكف القصاص.
وقال الشافعي: عليه القصاص في الإصبع دون الكف (2).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قصاص عليه أصلا (3).
دليلنا: قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (4) وهذا قد اعتدى بالأصبع والكف.
وقال تعالى: " فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (5).
وقال تعالى: " والجروح قصاص " (6).
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الموضحة، وإنما القصاص في الضوء كقوله في الإصبع (1).
وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يسقط القصاص في الموضحة بالسراية إلى ضوء العين (2).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 65: إذا قطع يد رجل، كان للمجني عليه أن يقتص من الجاني في الحال والدم جار، ولكنه يستحب له أن يصبر لينظر ما يكون منها من اندمال أو سراية. وبه قال الشافعي (3). وقال أبو حنيفة: ومالك: لا يجوز له أن يأخذ القصاص حتى يعلم ما يكون من اندمال أو سراية إلى النفس، فإن اندمل القطع وجب القصاص، وإن سرى إلى النفس سقط القصاص فيه، وأخذ القصاص في النفس. وإن سرى إلى المرفق واندمل سقط القصاص عنه في الجناية والسراية معا (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 66: إذا قطع يدي غيره ورجليه وأذنيه لم يكن له أن يأخذ ديتها كلها في الحال، بل يأخذ دية النفس في الحال وينتظر حتى تندمل، فإن اندملت كان له دياتها كلها كاملة، وإن سرت إلى النفس كان له دية واحدة.
وأما القصاص فله أن يقتص في الحال على ما مضى. ووافقنا أصحاب الشافعي في القصاص (5).
ص: 196
واختلفوا في الدية على قولين:
أحدهما: أن له أن يأخذ دياتها كلها في الحال وإن بلغت ديات النفس (1).
وقال أبو إسحاق: ليس له أن يأخذ أكثر من دية النفس في الحال (2).
والقول الثاني: ليس له أن يأخذ شيئا من دياتها في الحال قبل الاندمال، لأن الدية إنما تستقر حال الاندمال (3).
دليلنا: إن ما قلناه مجمع على استحقاقه له، لأنه لا يخلو أن يندمل أو يسري إلى النفس. فإن اندملت كان له ما أخذ وزيادة يطلب بها، وإن سرت إلى النفس فله دية النفس التي أخذها.
مسألة 67: شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين متى أعدم إنبات شئ منها ففيها الدية.
ففي شعر الرأس واللحية دية كاملة، وفي شعر الحاجبين خمسمائة، وفي أهداب العينين الدية، وما عدا هذه الأربعة فيها الحكومة في جميع الجسد. وبه قال علي عليه السلام (4).
وروي أن أبا بكر قضى في شعر الرأس بعشر من الإبل (5).
وقضى زيد فيه بثلث الدية (6).
ص: 197
وروي عن زيد في العين القائمة ثلث الدية (1).
وقال أبو حنيفة في الأربعة الدية، ولم يفصل. وفي الباقي حكومة (2).
وقال الشافعي: ليس في شئ من الشعر دية، وفي جميعه حكومة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا: روي أن رجلا أفرغ قدرا على رأس رجل فتمعط (5) شعره، فأتى عليه عليه السلام فقال له: اصبر سنة فصبر سنة فلم ينبت فقضى عليه بالدية (6)، ولا مخالف له في الصحابة.
مسألة 68: إذا جرح غيره، ثم أن المجروح قطع من موضع الجرح لحما، فإن كان ميتا فلا بأس والقود على الجاني بلا خلاف، وإن كان لحما حيا ثم سرى إلى نفسه كان على الجاني القود وعلى أولياء المقتول أن يردوا نصف الدية على أولياء الجاني. وكذلك لو شارك السبع في قتل غيره، أو جرحه غيره فجرح هو نفسه فمات.
واختلف أصحاب الشافعي على طريقين فيمن قطع لحما حيا.
ص: 198
أحدهما: القود، وعلى شريك السبع والجارح نفسه بعد جراحة غيره على قولين:
أحدهما: يجب عليه القود.
والآخر: لا قود عليه، ويلزمه نصف الدية (1).
ومن أصحابه من قال: لا قود على الجاني قولا واحدا، وعليه نصف الدية، ولم يختلفوا في شريك السبع والجارح نفسه بعد جراحة غيره أنها على قولين (2).
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت في أنه إذا اشترك جماعة في قتل واحد كان على جمعيهم القود، وعلى كل واحد منهم (3) بالشرط الذي قدمناه، ولم يفصلوا بين أن يكون الجماعة غير المجني عليه، أو هو من جملتهم، أو يكون السبع من جملتهم، فيجب أن يكون على الجاني في هذه المسائل القود.
مسألة 69: إذا قطع الأنملة العليا من إصبع رجل، ثم قطع المجني عليه الأنملة التي تحتها، ثم سرى إلى نفسه فإن كان لحما ميتا فعلى القاطع الفداء بلا خلاف، وإن كان القطع في لحم حي فعلى ما مضى من الخلاف، وكذلك إن قطع إصبع رجل، فأصابه فيها الأكلة، فقطع الكف كله خوفا على الجملة، وسرى إلى نفسه فمات، فهذا القطع خوف الأكلة لا يكون إلا في لحم حي، والخلاف فيه مثل المسألتين الأوليين.
وعند أبي حنيفة: القاتل هو الثاني في المسائل الثلاث (4)، وقد مضى أصل هذه المسألة، وهو إذا قطع رجل يده غيره من الكوع، وآخر ذراعه من المرفق
ص: 199
فسرى إلى نفسه، فعندنا وعند الشافعي هما واحد (1).
وعند أبي حنيفة: القاتل الثاني (2)، لأنه أزال موضع الجناية من الأول، وقطع سرايته، وقد مضى الكلام عليه.
مسألة 70: في الإصبع الزائدة إذا قطعت ثلث دية الإصبع الصحيحة الأصلية، سواء قطعت مع الإصبع الصحيحة الأصلية أو قطعت منفردة.
وقال الشافعي: ليس فيها شئ مقدر، بل فيها حكومة (3)، فإن أحدثت شيئا عند الاندمال لزمه ما بين كونه عبدا لا شين فيه، وبين كونه عبدا به شين. فينظر كم ذلك من القيمة فيلزمه بمقدار ذلك من دية الحر، وإن لم يحدث شيئا بل أحدث حمالا حال الاندمال فيها وجهان:
قال أبو العباس: لا شئ فيها (4).
وقال أبو إسحاق: فيها الحكومة (5).
وكيف يقوم؟ على وجهين:
أحدهما: يقوم والدم جار.
والثاني: يقوم إذا قرب من الاندمال. حكاه الساجي عنه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
ص: 200
مسألة 71: اليد الشلاء والإصبع الشلاء فيها ثلث دية اليد الصحيحة، وثلث الإصبع الصحيحة.
وقال الشافعي: فيها حكومة، ولا تقدير فيها (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 72: إذا قطع أذن غيره قطعت أذنه، فإن أخذ الجاني أذنه فألصقها فالتصقت، كان للمجني عليه أن يطالب بقطعها وإبانتها.
وقال الشافعي: ليس له ذلك، ولكن واجب على الحاكم أن يجبره على قطعها لأنه حامل نجاسة، لأنها بالبينونة صارت ميتة فلا تصح صلاته ما دامت هي معه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
دليلنا: قوله تعالى: " والجروح قصاص " (1). وقوله: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " (2) وقال: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (3) وعموم الأخبار (4) يقتضي ذلك.
مسألة 74: في ذكر العنين ثلث دية الذكر الصحيح.
وقال جميع الفقهاء: فيه حكومة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 75: في الخصيتين الدية بلا خلاف.
وفي كل واحدة منهما نصف الدية عند الفقهاء (7).
وروى أصحابنا: أن في اليسرى منهما ثلثي الدية، لأن الولد قالوا يكون منها (8).
دليلنا: أخبار أصحابنا وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (9).
مسألة 76: إذا قطع طرف غيره، ثم اختلفا، فقال الجاني: كان الطرف
ص: 202
فاسدا، فلا قود ولا دية كاملة فيه. وقال المجني عليه: كان صحيحا، ففيه القود أو الدية كاملة. فإن كان الطرف ظاهرا - مثل اليدين والرجلين والعينين والأنف وما أشبهها - فالقول قول الجاني مع يمينه، أو يقيم المجني عليه البينة وإن كان الطرف باطنا فالقول قول المجني عليه. وبه قال الشافعي نصا (1).
واختلف أصحابه، فمنهم من قال: المسألة على قوليه فيهما:
أحدهما: القول قول الجاني فيهما.
والثاني: القول قول المجني عليه فيهما، إلا أن الصحيح في الظاهر أن القول قول الجاني، وفي الباطن القول قول المجني عليه (2).
ومنهم من قال: على ظاهرها مثل ما قلناه (3).
وقال أبو حنيفة: القول قول الجاني، وهو قوي (4).
دليلنا: قوله عليه السلام: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (5).
والأعضاء الظاهرة لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة عليها، فلأجل ذلك لزمته البينة. وليس كذلك الباطنة، لأنه يتعذر عليه إقامة البينة عليها، فلأجل ذلك كان القول قوله.
ونصرة قول أبي حنيفة قوله عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. والمجني عليه هو المدعي، فلأجل ذلك لزمته البينة أو يمين الجاني المدعى عليه، ولأن الأصل براءة الذمة في الجاني، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ص: 203
واحتج الشافعي بما رواه ابن عباس عنه عليه السلام أنه قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة. فجعلها في القسامة على المدعي، وإنما كان كذلك لأن ولي الدم لا يمكنه إقامة البينة على القاتل في العادة، لأن القاتل يطلق خلوات المقتول.
مسألة 77: إذا قلع سن مثغر (1)، كان له قلع سنه، فإذا قلعه ثم عاد سن الجاني. كان للمجني عليه أن يقلعه ثانيا أبدا.
وللشافعي فيه ثلاثة أوجه.
أحدهما: مثل ما قلناه (2).
والثاني: لا شئ له (3).
والثالث: ليس له قلعها، وله الديد (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 78: إذا قلع سن مثغر، وأخذ ديتها، ثم نبتت السن، لم يجب عليه رد الدية.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
ص: 204
والثاني: يجب عليه ردها (1).
دليلنا: أن إيجاب الرد يحتاج إلى دليل، ولا دلالة.
مسألة 79: السن الزائدة فيها ثلث دية السن الأصلي.
وقال جميع الفقهاء: فيها الحكومة وليس فيها شئ مقدر، ولا تبلغ الحكومة سن الأصلي (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 80: إذا وجب لإنسان قصاص في نفس أو طرف، فلا ينبغي أن يقتص بنفسه. فإن ذلك للإمام أو من يأمره به الإمام بلا خلاف. وإن بادر واستوفاه بنفسه وقع موقعه ولا شئ عليه.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: المنصوص عليه، أن عليه التعزير.
والثاني: لا شئ عليه (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ومن أوجب عليه التعزير فعليه الدلالة.
مسألة 81: أجرة من يقيم الحدود ويقتص للناس من بيت المال.
وقال الشافعي: ذلك من خمس الخمس الذي كان للنبي عليه السلام، فإن كان هناك ما هو أهم منه مثل تقوية المقاتلة وسد الثغور كان على المقتص
ص: 205
منه الأجرة (1).
وقال أبو حنيفة: على المقتص المستوفي دون المستوفى منه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). ولأن الأصل براءة الذمة، وعلى من شغلها الدلالة.
مسألة 82: إذا قطع يد عبد، ففيه نصف قيمته يستوفيها منه سيده، ويمسك العبد. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: على الجاني نصف قيمته، ويكون السيد بالخيار بين أن يمسكه ويستوفي نصف قيمته، وبين أن يسلم العبد إلى الجاني ويطالبه بكمال قيمته (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
وأيضا: وجوب نصف القيمة على الجاني مجمع عليه، والتخيير إليه في تسليم العبد والمطالبة بكمال القيمة يحتاج إلى دليل.
مسألة 83: إن قطع يدي عبد، كان عليه كمال قيمته، ويتسلم العبد.
وقال الشافعي: عليه كمال القيمة، ولسيده إمساك عبده والمطالبة بالقيمة (7).
وقال أبو حنيفة: السيد بالخيار بين أن يمسك عبده ولا شئ له، وبين أن
ص: 206
يسلم العبد ويأخذ كمال قيمته. وليس له إمساك عبده والمطالبة من جنايته (1).
وقال أبو يوسف، ومحمد: السيد بالخيار بين أن يسلم العبد ويطالب بكل قيمته، وبين أن يمسكه ويطالب بما نقص لا بكل قيمته (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: فإذا وجب عليه كمال قيمته لا يجوز أن يمسك عنده العبد، لأنه لم يبق لسيده حق لم يستوفه، ويكون قد حصل للسيد الجمع بين البدل والمبدل، وذلك لا يجوز.
مسألة 84: إذا قطع إصبع غيره، فقال المجني عليه: قد عفوت عن عقلها وقودها، ثم اندملت صح العفو عن العقل والقود معا. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (4).
وقال المزني: لا يصح العفو عن دية الإصبع، لأنه عفو عما لم يجب، بدليل أن المجني عليه لو أراد المطالبة بدية الإصبع لم يكن له، ولأنه عفا عن مجهول لأنه لا يدري هل يندمل فيستقر دية إصبع، أو يسري إلى النفس فيختلف ذلك (5).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا: فإنه حق له، يجوز له إسقاطه كالقصاص فيها.
وقوله: أنه لم يجب باطل فإن الحق واجب بالجناية، وإنما يتأخر الاستقرار إلى حين الاندمال.
وقوله: لا يملك المطالبة لا يدل على أنه غير ثابت، كما أن المال المؤجل ثابت الاستحقاق وإن لم يملك بالمطالبة في الحال.
ص: 207
والدليل على أنه واجب بالقطع: أنه لو كان له عبد، فقطعت يده فباعه والدم جار، فاندمل عند المشتري، كان بدل تلك الجناية للبايع، فلولا أنها وجبت حين القطع وقبل البيع لم يكن للبايع فيه حق.
مسألة 85: إذا قطع إصبع غيره، فعفا عنها المجني عليه، ثم سرى إلى نفسه، كان لولي المقتول القود، ويجب عليه أن يرد على الجاني دية الإصبع التي عفى عنها المجني عليه. وإن أخذ الدية أخذ دية النفس إلا دية الإصبع.
وقال الشافعي: إذا عفا عن الإصبع سقط القصاص في النفس، لأن القصاص لا يتبعض (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا: قوله تعالى: " فقد جعلنا لوليه سلطانا " (3) وأيضا: قوله: " النفس بالنفس " (4) فمن ادعى أن العفو عن الإصبع قد أسقط القصاص فعليه الدلالة.
مسألة 86: إذا قطع إصبع غيره، صح من المجني عليه أن يعفو عنها وعما يحدث منها من الدية. فإذا فعل ذلك ثم سرى إلى النفس كان عفوه ماضيا من الثلث، لأنه بمنزلة الوصية. فإن لم يخرج من الثلث كان له مقدار ما يخرج منه.
وقال الشافعي: لا يخلو أن يقول ذلك بلفظ الوصية أو بلفظ العفو أو الإبراء، فإن قال بلفظ الوصية، فهل تصح الوصية للقاتل؟ فيه قولان:
أحدهما: تصح.
والآخر: لا تصح.
ص: 208
فإذا قال لا تصح، كانت الدية كلها للورثة. وإذا قال تصح كانت الدية له إن خرجت من الثلث، وإلا له مقدار ما يخرج منه. وإن قال بلفظ العفو والابراء فهل العفو والابراء من المريض وصية أم لا؟ على قولين: فإذا قال وصية فهو كالوصية، وقد مضى.
والثاني: إسقاط وليس بوصية، فعلى هذا صح الإبراء عما وجب له وهو دية الإصبع، ولم يصح فيما عداه، لأنه إبراء عما لم يجب، وذلك لا يصح (1).
دليلنا: قوله تعالى: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " (2) وذلك عام. وأيضا: الأصل جوازه، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 87: ميراث من لا وارث له لبيت المال، يختص به الإمام، وهو يعقل عنه، سواء كان مسلما أو ذميا.
وقال الشافعي: إن كان مسلما فالمسلمون يعقلون عنه، وهم يرثونه، فميراثه لبيت المال. وإن كان ذميا لا يعقلون عنه، ويكون الدية في رقبته إذا وجبت عليه، وقال: ينقل إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث على سبيل الفئ (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وقد مضت هذه في كتاب قسمة الغنائم.
مسألة 88: كل جرح لو اندمل وجب فيه القصاص، فإذا سرى إلى
ص: 209
النفس كفى فيه القصاص في النفس ودخل ذلك فيه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (1).
وقال الشافعي: يجب القصاص فيها ثم في النفس، نحو أن يقطع يده أو رجله، أو يقلع عينه أو أوضحه فسرى إلى النفس وجب أن يستقاد منه في الجرح ثم في النفس (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وقد بينا فيما مضى أن قصاص الطرف يدخل في النفس.
مسألة 89: إذا قطع يد رجل ثم قتله، كان لولي الدم أن قطع يده ثم يقتله. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (4).
وقال أبو يوسف، ومحمد: ليس له القصاص في الطرف، كما لو سرى إلى النفس (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 90: إذا قطع يده ثم قتله، فولي الدم بالخيار بين أن يقتل ولا يقطع، وبين أن يقطع ويقتل، وبين أن يقطع ويعفو عن القتل. فإذا فعل هذا لم يجب عليه دية اليد التي قطعها. وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد (6).
ص: 210
وقال أبو حنيفة: إذا عفا بعد قطع اليد، فعليه دية اليد التي قطعها (1).
دليلنا: أنه استوفى حقه، ومن استوفى حقه لا يرجع عليه بإسقاط حق آخر له. ولأن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الدية يحتاج إلى دليل.
مسألة 91: إذا حلق لحية غيره فنبتت، كان عليه ثلث الدية.
وعند الفقهاء: لا شئ عليه (2).
وإن لم تنبت، فقد ذكرنا الخلاف فيه.
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 92: في الشفتين الدية كاملة بلا خلاف. وفي الشفة السفلى منهما ستمائة دينار، لأنها تمسك الطعام والشراب، وفي العليا أربعمائة دينار.
وقال جميع الفقهاء: إنهما سواء (3).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 93: في إبهام اليد أو الرجل ثلث دية الأصابع من اليد أو الرجل في أظهر الروايات (4).
وقال جميع الفقهاء: الأصابع كلها سواء، في كل واحدة عشر من الإبل (5).
ص: 211
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
دية البيضتين
مسألة 94: في البيضتين الدية كاملة بلا خلاف، وفي اليسرى ثلثا الدية - على ما روي في بعض الروايات (2) - لأن منها يخلق الولد.
وفي الرواية الأخرى أن الدية فيهما سواء (3). وبه قال جميع الفقهاء (4).
دليلنا: الأخبار التي رويناها (5).
ص: 214
ص: 215
ص: 216
مسألة 1: روى أصحابنا أن قوله تعالى: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " (1) فيه كناية عن المؤمن المتقدم ذكره في الكنايتين بقتل الخطأ في قوله تعالى: " فإن كان من قوم عدو لكم " (2) وليس بكناية عن المعاهد، لأنه لم يجر له ذكر (3).
وقال الشافعي: إنه كناية عن الذمي إذا قتل في دار الإسلام (4).
دليلنا: أن ما قلناه أشبه بسياق الآية، لأن المؤمن جرى له ذكر في موضعين في قوله تعالى: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا " (5) ثم قال: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " (6) وذلك أيضا كناية عن المؤمن بلا خلاف. فلما قال: " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " (7) يجب أيضا أن يكون كناية عنه أيضا، والذمي لم يجر له ذكر، فلا يجوز أن يكنى عنه، وعليه إجماع الفرقة.
مسألة 2: القتل على ثلاثة أضرب: عمد محض، وخطأ محض، وشبيه
ص: 217
بالعمد. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (1).
وقال مالك: القتل ضربان: عمد محض، وخطأ محض، وما سميناه بشبيه العمد جعله عمدا، وأوجب فيه القود (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا: ما رواه عبد اللّه بن عمر، أن النبي عليه السلام قال: إلا في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها (4).
وروى عبد اللّه بن عمر، أن النبي عليه السلام خط يوم الفتح بمكة - وذكر الحديث - إلى أن قال: ألا إن دية الخطأ شبيه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها (5) وهذا نص، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله سماه عمد الخطأ، وخطأ العمد، وأوجب فيه الدية.
ومالك يسميه عمدا (6)، ويوجب فيه القود. وهذا خلاف النص، وعليه
ص: 218
إجماع الصحابة، لأنه ذهب إليه علي عليه السلام، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، المغيرة بن شعبة. كل هؤلاء سموه عمد الخطأ، وإن اختلفوا في قدر الدية، على ما يأتي ذكره، ولا مخالف لهم (1).
وشبهة مالك أن قال: قولنا عمد الخطأ متضاد لا يوصف به فعل واحد، كما لا يوصف بقائم قاعد، وأسود أبيض، ومتحرك ساكن.
والجواب: أن هذا مسلم في فعل واحد، وليس كذلك هاهنا، لأن الذي هو عمد فعله، والذي أخطأ فيه هو قصده، وما عمد فيه، فبطل أن يكون هاهنا فعل واحد وصف بصفتين ضدين، وإنما اتصف بذلك لأنه من جارحتين عمد بواحدة وأخطأ في أخرى، وذلك غير مستحيل، لأنه قد يعمد بيمينه ويخطأ بيساره، وذلك غير بعيد.
مسألة 3: الدية المغلظة هي ما تجب عن العمد المحض، وهي مائة من مسان الإبل.
وقال الشافعي: يجب في العمد المحض وعن شبيه العمد أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها (2). وبه قال عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة (3). ورووه عن علي عليه السلام (4). وبه
ص: 219
قال مالك في قتل الوالد ولده (1).
فأما العمد المحض في حق الأجنبي فإنما يجب عليه القود فقط، والمال يجب بالصلح بمنزلة ثمن البيع. وبقول الشافعي قال محمد بن الحسن (2).
وقال أبو حنيفة، والثوري، وأبو يوسف: المغلظة: أرباع، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وأيضا طريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه، لأن المسان أعلى الأسنان.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فقد ثبت وجوبها عليه، والوجوب عندنا على الفور، والتأجيل يحتاج إلى دليل شرعي أو صلح.
مسألة 5: دية العمد شبية الخطأ مغلظة أثلاثا، ثلاث وثلاثون منها بنت لبون، وثلاث وثلاثون منها حقة، وأربع وثلاثون منها خلفة كلها طروقة الفحل.
وروي: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وأربعون خلفة، وهي في مال القاتل تستأدى منه في سنة (1).
وقال الشافعي: هي أثلاث مثل دية العمد سواء، على ما حكيناه عنه في دية العمد، والتأجيل مثل دية الخطأ في ثلاث سنين وهي تلزم العاقلة (2).
وقال أبو حنيفة: هي أرباع، على ما مضى عنه في العمد المحض (3).
وقال مالك: شبيه العمد يوجب القود دون الدية (4).
وقال ابن شبرمة: دية شبيه العمد حالة في مال القاتل (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6) على الطريقين اللذين ذكرناهما.
ص: 221
وروى عبد اللّه بن عمر، وعمرو بن حزم، وعبادة بن الصامت: أن النبي عليه السلام قال: ألا أن دية الخطأ شبيه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة (1).
مسألة 6: دية الخطأ تغلظ في الشهر الحرام، وفي الحرم.
وقال الشافعي: تغلظ في ثلاث مواضع: في الحرم، والشهر الحرام، وإذا قتل ذا رحم محرم، مثل: الأبوين، والأخوة، والأخوات، وأولادهم (2). وبه قال في الصحابة عمر، وعثمان، وابن عباس. وفي التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس، والزهري (3).
وقال أبو حنيفة، ومالك: لا تغلظ في موضع من المواضع (4). وبه قال في التابعين النخعي، والشعبي. ورووه عن ابن مسعود (5).
ص: 222
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1). وأيضا طريقة الاحتياط.
مسألة 7: إذا ثبت أنها تغلظ في هذه المواضع، فالتغليظ هو أن يلزم دية وثلث من أي أجناس الديات كان. وقال من وافقنا في التغليظ: أنها لا تغلظ إلا في أسنان الإبل، وغيرها يؤخذ قيمتها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا: روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: من قتل في الحرم، أو قتل ذا محرم، أو قتل في الأشهر الحرم فعليه دية وثلث (4).
وروى سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن عثمان بن عفان قضى في امرأة قتلت بمكة بستة آلاف درهم وألفي درهم تغليظا لأجل الحرم (5).
وروى نافع بن جبير: أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام في الحرم (6)، فقال ابن عباس: الدية اثنا عشر ألفا، وأربعة آلاف تغليظا لأجل الحرم، وأربعة آلاف للشهر الحرام. ولا مخالف لهم (7).
مسألة 8: إذا قتل أو قطع في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم، لم يقتل ولم يقطع، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج، فيقام عليه الحد.
ص: 223
وقال الشافعي: يستقاد منه في الطرف والنفس معا في الحرم (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يستقاد منه في الطرف، فأما في النفس فلا يستقاد منه حتى يخرج، ويضيق عليه، ويهجر، ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج. قالوا: والقياس يقتضي أن يقتل به، لكنا لا نقتله استحسانا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا: قوله تعالى: " ومن دخله كان آمنا " (4) وذلك عام في جميع الأحكام، وقال تعالى: " أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (5).
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: إن أعتى الناس على اللّه القاتل غير قاتله، والقاتل في الحرم، والقاتل بذحل الجاهلية " (6).
وقوله: " والقاتل في الحرم " يعني قودا وقصاصا، لأن القاتل ابتداء قد دخل تحت قوله: " القاتل غير قاتله ".
مسألة 9: دية القتل الخطأ أرباع، عشرون منها بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر، وثلاثون منها بنت لبون، وثلاثون منها حقة. وبه قال عثمان، وزيد
ص: 224
بن ثابت (1).
وقد روي: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون (2)، وبه قال علي عليه السلام، والحسن البصري، والشعبي (3).
وقال الشافعي: هي أخماس عشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون ذكر، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة جميع أسنان الزكاة (4). وبه قال بن مسعود، وفي التابعين: سليمان بن يسار، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وفي الفقهاء: ربيعة، ومالك، والليث بن سعد، والثوري (5).
وقال أبو حنيفة: هي أخماس أيضا. وخالف في فصل، فقال: مكان بني
ص: 225
لبون بني مخاض (1). وبه قال النخعي، وأحمد، وإسحاق، ويروونه عن ابن مسعود (2).
دليلنا: على الروايتين: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 10: الدية ستة أصول: على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الحلل مائتا حلة، وعلى أهل الغنم ألف شاة. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وأحمد بن حنبل. إلا أنهم قالوا في الشاة: أنها ألفان (4).
وقال أبو حنيفة: لها ثلاثة أصول الإبل مائة، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم (5)، ولا يجعل الإعواز شرطا، بل يكون بالخيار في تسليم أي الثلاثة شاء.
وللشافعي فيه قولان:
قال في القديم: الأصل مائة من الإبل، فإن اعوزت انتقلت إلى أصلين:
ص: 226
ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم، كل واحد منهما أصل. فتكون الدية ثلاثة أصول: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم. إلا أن للإبل مزية وهو أنها متى وجدت لم يعدل عنها. وبه قال أبو بكر، وعمر، وأنس بن مالك (1).
وقال في الجديد: إن أعوز الإبل انتقل إلى قيمة الإبل حين القبض ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم. فالدية الإبل والقيمة بدل عنها لا عن النفس (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وروي عن عمر أنه قضى في الدية بألف دينار، أو عشرة آلاف درهم (4).
وروي عن علي عليه السلام أنه قال لأصحابه: وددت أن يكون مكان كل عشرة منكم واحد من بني فراس بن غنم صرف الدينار والدرهم (5) ولا
ص: 227
مخالف لهما.
وروى أصحاب الشافعي، عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي عليه السلام، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي الدرداء: أن الورق اثنا عشر ألف درهم (1).
قال محمد بن الحسن: ويمكن استعمال الخبرين، فنقول: من يقل اثني عشر ألفا أراد من وزن ستة، ومن يقل عشرة آلاف أراد من وزن سبعة، فلا يتعارضان على هذا (2).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمانمائة دينار، فلم تزل كذلك حتى استخلف عمر، فصعد فخطب، فقال: ألا إلا الإبل قد غلت، وفرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الغنم ألفا شاة، وعلى أهل الحلل مائتا حلة (3).
ورواه عطاء عن جابر مثل ذلك (4).
مسألة 11: الموضحة هي التي توضح عظم الرأس حتى يظهر العظم، أو يقرع بالمرود إذا كان هناك دم لا يعلم الإيضاح حتى يقرع العظم المرود، وفيها خمس من الإبل سواء كانت في الرأس، أو على الوجه، أو على الأنف. وبه قال
ص: 228
الشافعي (1).
وقال سعيد بن المسيب: إن كانت على الرأس - مثل ما قلناه - وإن كانت على الوجه فيها عشر من الإبل، لأن الشين بها أكثر (2).
وقال مالك: إن كانت على الأنف ففيها حكومة، وليس فيها مقدر، وإن كانت على الرأس - مثل ما قلناه - (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا: روى عمرو بن حزم، أنه كان في الكتاب الذي كتب النبي عليه السلام إلى أهل اليمن: في الموضحة خمس من الإبل (5).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه السلام قال:
في المواضح خمس خمس (6).
ص: 229
وروى عمر ومعاذ: أن النبي عليه السلام قال: في الموضحة خمس من الإبل (1).
وروي ذلك عن علي عليه السلام، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهما (2).
مسألة 12: الموضحة في البدن مثل: الساعد، والساق، والفخذ أو غير ذلك من المواضع التي إذا جرحت أوضحت عن العظم، فيها نصف عشر دية ذلك العضو.
وقال الشافعي: لا مقدر فيه، بل فيه الحكومة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأما القصاص فيها فلا خلاف في وجوبه.
الإبل، وفيما زاد من هشم العظم حكومة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا: قد روي ذلك عن زيد، ولا مخالف له في الصحابة (3).
مسألة 14: قد ذكرنا في كتاب الجنايات (4): أن ما دون الموضحة من الشجاج ففيه القصاص، خلافا لجميع الفقهاء (5)، وفيها أيضا مقدر، لأن في الحارصة - وهي الدامية - بعيرا، وفي الباضعة بعيرين، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، وفي الموضحة خمسا.
وقال جميع الفقهاء: فيها الحكومة (6).
وقال أبو إسحاق: فيها الحكومة إذا لم يمكن معرفتها وكميتها من الموضحة، فإذا أمكن معرفة مقدارها من الموضحة بأن تكون بجنبها موضحة اعتبر بها، فإن كان نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها ففيها بحساب ذلك من دية الموضحة (7).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (8).
ص: 231
مسألة 15: في الجائفة ثلث الدية بلا خلاف، فإن جرحه فأجافه، وخرج من ظهره، فهما جائفتان. وبه قال الشافعي نصا (1).
وفيه قولا آخر: أنها جائفة واحدة (2). وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال أصحاب الشافعي: وليس بشئ (4).
دليلنا: أنه إذا ظهر من ظهره يسمى كل واحدة منهما بأنها جائفة ما في بطنه، وما في ظهره فيجب أن تكونا جائفتين.
وروي عن أبي بكر في رجل رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضى فيه أبو بكر بثلثي الدية (5)، ولا مخالف له.
مسألة 16: إن جرحه في وجهه، فشق الجلد واللحم، وكسر العظم ووصل إلى جوف الفم. للشافعي فيه قولان:
أحدهما: جائفة فيها ثلث الدية، لأنها دخلت إلى جوف.
والثاني: ليست جائفة، وتكون في هاشمة، وما زاد عليها إلى الفم حكومة، ولا أعرف فيه نصا، وينبغي أن يكون فيها حكومة فيما زاد على الهاشمة (6).
والذي يقتضيه مذهبنا أن الحكم بدية الهاشمة والحكومة إليه، لأنه لا خلاف فيه، وما زاد عليه يحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة.
وأما الجائفة: فلا تسمى بهذا إلا إذا كانت في الجوف، ألا ترى أن ما
ص: 232
يصل إلى الدماغ يسمى مأمومة ولا يسمى جائفة، ولا يمكن القول بذلك.
وينبغي أن يكون فيها حكومة فيما زاد على الهاشمة.
مسألة 17: إذا قطع أذنيه، ففيهما الدية. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (1).
وقال مالك: فيهما حكومة، لأن فيهما جمالا بلا منفعة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وروى عمرو بن حزم، أن النبي عليه السلام قال: وفي الأذنين الدية (4).
وقد روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر، ولا مخالف لهما (5).
مسألة 18: إذا جنى على أذنيه جناية، فشلتا، ففيهما ثلثا ديتهما.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: إن في شللهما الدية (6)، مثل اليدين إذا جنى عليهما فشلتا.
ص: 233
والثاني: فيهما حكومة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وما قالوه في اليدين، فالقول فيهما عندنا مثل القول في الأذنين.
مسألة 19: في شحمة الأذن ثلث دية الأذن، وكذلك في خرمها.
وقال الشافعي: فيها بحساب ما نقص من الأذن (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 20: في العقل الدية كاملة بلا خلاف، فإن جنى عليه جناية ذهب. فيها عقله، لم يدخل أرش الجناية في دية العقل، سواء كان مقدر أو حكومة، وسواء كان أرش الجناية أقل من دية العقل أو أكثر منها، أو مثلها.
وللشافعي فيه قولان:
قال في الجديد: مثل ما قلناه (5).
وقال في القديم: إن كان أرش الجناية دون دية العقل دخل في دية العقل، وإن كان أرش الجناية أكثر من دية العقل دخلت دية العقل فيه، مثل أن يقطع يديه ورجليه فيذهب عقله، فيدخل الأقل منهما في الأكثر (6). وبه قال أبو
ص: 234
حنيفة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا: قوله عليه السلام: في اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي العقل الدية (3). وهذا موجود كله.
وروى أبو المهلب: أن رجلا رمى رجلا بحجر، فأصابه في رأسه، فذهب سمعه، وعقله، ولسانه، وذكره فقضى عمر بأربع ديات (4). ولا مخالف له.
ومسألة 21: إذا جنى عليه جناية، فادعى أنه ذهب بصره، ولا يبصر بعينيه شيئا، فهذا لا يمكن، إقامة البينة عليه.
فروى أصحابنا أنه يستقبل به عين الشمس، فإن غمضهما ودمعتا علم أنه كاذب، وإن بقيتا مفتوحتين زمانا علم أنه صادق، ويستظهر عليه بالأيمان (5).
وقال الشافعي: نريه رجلين عدلين إن كانت الجناية عمدا، وإن كانت خطأ رجلا وامرأتين. فإن قالا: صدق أوجبنا الدية أو القصاص إذا - قالا لا يرجى عود البصر - وإن قالا: كذب. سقط قوله، وإن لم يشهدا بذلك لم يلزمه أكثر من الدية (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (7).
مسألة 22: في العين العوراء إذا كانت خلقة، أو ذهبت بآفة من جهة
ص: 235
اللّه، الدية كاملة.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: فيها نصف الدية (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 23: إذا جنى على عينه جناية، فادعى نقصان الضوء في إحدى العينين، قيس إلى العين الأخرى، باعتبار مدى ما يبصر بها من أربع جوانب بلا خلاف. فإن ادعى النقصان فيهما، قيس عندنا عيناه إلى عين من هو من أبناء سنه، فما نقص عن ذلك حكم له به مع يمينه.
وقال الفقهاء: القول قول المجني عليه مع يمينه، بلا اعتبار ذلك (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 25: إذا جنى على أهداب العينين، فأعدم إنباتها، ففيها الدية كاملة. وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال الشافعي: فيها حكومة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 26: في النافذة في الأنف إذا لم ينسد ثلث الدية، فإن انسد كان فيها عشر دية الأنف مائة دينار.
وقال الشافعي: فيهما معا الحكومة (5)، إلا أنها إذا تنسد كان أكثر.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 27: إذا جنى على أنفه، فصار أشل، كان فيه ثلثا دية الأنف.
وقال الشافعي فيه قولان:
أحدهما: الدية كاملة.
ص: 237
والثاني: فيه الحكومة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 28: في ذهاب الشم بالأنف الدية بلا خلاف. فإن اختلفا في ذهابه.
روى أصحابنا: أنه يقرب منه الحراق، فإن نحى أنفه علم أنه كاذب، وإن لم ينح علم أنه صادق، واستظهر عليه باليمين (3).
وقال الشافعي: يعتقل بالروائح الطيبة والكريهة، فإن هش للطيبة وتكره للمنتنة علم أنه كاذب، وإن لم يفعل شيئا من ذلك حلف وكان القول قوله مع يمينه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، مع أن هذا قريب من قولنا.
مسألة 29: إذا أخذ منه دية الشم، ثم عاد شمه، لم يجب عليه رد الدية، لأنه هبة من اللّه مجددة.
وقال الشافعي: يجب عليه ردها (6).
دليلنا: إن وجوب الرد يحتاج إلى دليل، وقد أجمعنا على أنه بالاستحقاق أخذه.
مسألة 30: في الشفتين الدية كاملة بلا خلاف، وفي السفلى عندنا ستمائة
ص: 238
دينار، وفي العليا أربعمائة دينار. وبه قال زيد بن ثابت، إلا أنه قال: في العليا ثلث الدية، وفي السفلى ثلثا الدية (1).
وقال أبو حنيفة، والشافعي، ومالك: هما سواء (2). ورووا ذلك عن علي عليه السلام،، وأبي بكر، وابن مسعود (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 32: إذا جنى على لسانه فذهب بعض كلامه، اعتبر بحروف المعجم كلها، وهي ثمانية وعشرون حرفا، ولا تعد " لا " فيها، لأنها قد دخلت في الألف واللام، فإن كان النصف ففيه نصف الدية، وما زاد أو نقص فبحسابه لكل حرف جزء من ثمانية وعشرين. وبه قال الشافعي وأكثر أصحابه، أبو إسحاق وغيره (1)، وهو ظاهر مذهبهم.
وقال أبو سعيد الإصطخري: الاعتبار بالحروف اللسانية دون الحلقية والشفوية، فإن الحاء، والخاء من حروف الحلق، والباء، والواو، والفاء من حروف الشفة، ولاحظ للسان فيها، فلا يعتد عليه بما لم يذهب (2).
فعلى قول أبي سعيد: إن كان حروف اللسان نصفها، ففيها كمال الدية.
وعلى قولنا، وقول الشافعي: فيها نصف الدية.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وما اعتبره أبو سعيد من أن الاعتبار بالحروف اللسانية دون الحلقية والشفوية فلا يعتد عليه بما لم يذهب منه.
أجاب عنه أبو إسحاق فقال: هذه وإن لم تكن من حروف اللسان فإنه لا ينتفع بها إلا مع وجود اللسان، فلهذا كان الاعتبار بكمالها (4).
مسألة 33: إذا جنى على لسانه، فادعى أنه قد ذهب نطق لسانه، وقال الجاني: لم يذهب. فالذي رواه أصحابنا عن علي عليه السلام أنه قال: يغرز
ص: 240
لسانه بأبرة، فإن خرج منه دم أسود علم أنه صادق، وإن خرج دم أحمر علم أنه كاذب، وأن لسانه صحيح (1)، ولم أعرف للفقهاء نصا.
والذي يقتضيه مذهبهم أن القول قول المجني عليه، كما قالوا في العين، والشم وغيره (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 34: في لسان الأخرس إذا قطع ثلث دية اللسان الصحيح.
وقال الشافعي: وجميع الفقهاء: فيه الحكومة ولا مقدر فيه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 35: إذا قطع لسانه، ثم اختلفا، فقال الجاني، لم يزل أبكم لا يقدر على الكلام، وادعى المجني عليه أنه كان ناطقا، فالقول قول الجاني مع يمينه بلا خلاف، لأنه لا يتعذر إقامة البينة على سلامة لسانه، فإن سلم له السلامة في الأصل، وادعى أنه كان أخرس حين القطع، كان على الجاني البينة، وإلا فعلى المجني عليه اليمين.
ص: 241
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: مثل ما قلناه. والثاني: أن القول قول الجاني، لأن الأصل براءة الذمة (1).
دليلنا: أنه قد اعترف بسلامة عضوه، وادعى أنه كان أخرس بعد ذلك حين القطع، كان عليه البينة، لقول النبي عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (2).
مسألة 36: إذا قطع لسان ناطق، فأخذ منه الدية، ثم ثبت وتكلم، لم يجب عليه رد الدية.
ولأصحاب الشافعي فيه طريقان:
منهم من قال مثل ما قلناه قولا واحدا (3).
ومنهم من قال على قولين، كالقولين في سن المثغر إذا عاد (4).
دليلنا: أن إيجاب الرد عليه يحتاج إلى دليل، لأن الأصل أخذه له بالاستحقاق..
مسألة 37: إذا جنى على لسانه، فذهب كلامه، واللسان صحيح بحاله، وحكم له بالدية، ثم عاد فتكلم، كان مثل الأولى سواء، لا يجب عليه الرد.
وقال الشافعي: يجب عليه رد الدية هاهنا قولا واحدا، لأنه لما نطق بعد أن لم يكن، علمنا أن كلامه ما كان ذهب، وإنما ارتفع لمانع (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
ص: 242
مسألة 38: الأسنان كلها فيها الدية بلا خلاف. وعندنا أنها ثمانية وعشرون سنا، الأصلية اثنا عشر في مقاديم الفم، وستة عشر في مواخيره، ففي التي في مقاديم الفم في كل واحدة خمس من الإبل، أو خمسون دينارا. وفي التي في مواخيره في كل واحدة خمسة وعشرون دينارا، الجميع ألف دينار.
وقال الشافعي: الأسنان اثنان وثلاثون. الأصلية في كل سن خمس من الإبل، والمقاديم والمواخير سواء، فإن قلعت واحدة كان فيها خمس من الإبل (1).
وبه قال ابن عباس، ومعاوية (2).
وقال عمر بن الخطاب: في السن خمس من الإبل، وهي التي تبين عند الكلام والأكل. فأما الأضراس ففي كل ضرس بعير (3).
وإن قلعت دفعة واحدة، فللشافعي فيه قولان:
المشهور منهما أن فيها مائة وستين إبلا.
والقول الآخر: فيها دية كاملة لا أكثر منها (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5). وأيضا ما قلناه مجمع على وجوبه، وما
ص: 243
زاد عليه لا دليل على وجوبه، والأصل براءة الذمة.
مسألة 39: إذا كسر سن صبي قبل أن تسقط، فعادت سنه مع أخواتها على هيئتها من غير زيادة ولا نقصان، كان على الجاني حكومة.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: لا حكومة فيها، لأنه ما جرحه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 40: إذا قلع سن كبير مثغر، وجبت له الدية في الحال بلا خلاف.
فإن أخذها ثم عادت سنه لم يجب عليه رد الدية.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: - وهو اختيار المزني - مثل ما قلناه.
والثاني: ترد عليه (3).
دليلنا: أن إيجاب الرد يحتاج إلى دليل، والأصل أخذه لها بالاستحقاق.
مسألة 41: إذا اضطربت أسنانه لمرض، فقلعها قالع، وجبت فيها الدية.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: فيها الحكومة، لأنها نقصت عن أخواتها في المنافع (4).
ص: 244
دليلنا: ظواهر الأخبار في إيجاب الدية في السن، ولم تفصل (1).
مسألة 42: إذا جنى على سنه، فندرت يعني سقطت - ثم أعادها في مغرزها بحرارة دمها، فثبتت، ثم قلعها بعد هذا قالع كان عليه الدية.
وقال الشافعي: لا شئ عليه، لأنه قد أحسن، فإن كان عليه أن يقلعها، وإلا أجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها ببدنه، فلا تصح صلاته فيها مثل الأذن (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن السن لا يلحقها حكم الميتة، فأما الدية فعموم الأخبار يدل عليها (3).
مسألة 43: إذا ندرت سنه، فغرز في مغرزها عظما طاهرا قام مقامها كسن حيوان ذكي يؤكل لحمه، أو كانت من فضة أو ذهب، فإذا ثبتت هذه ثم قلعها قالع لا شئ عليه.
وللشافعي فيه وجهان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: عليه حكومة (4)، لأنه أعدم الجمال والمنفعة بقلع ما ظاهر، فهو هو كالأسنان الأصلية.
دليلنا: الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل. وأيضا فما أزال عن جسمه شيئا.
ص: 245
إذا مات الصبي قبل عود مثل سنّة
مسألة 44: قد مضى أن سن الصبي إذا قلع لا دية له في الحال، ويصبر إلى وقت عود مثلها، فإن مات في أثناء ذلك، أو نبت منه شئ قبل تمامه، ثم مات لم يكن عليه أكثر من الحكومة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه في التي لم تنبت قبل موته، وفي التي نبت بعضها أن عليه بقدر ما لم تنبت من الدية.
والثاني: لا شئ عليه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أن في سن الصبي الحكومة، ولم يفصلوا، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك (2).
مسألة 45: إذا ضرب سنه فاسودت، كان عليه ثلثا دية سقوطها.
وقال الشافعي: فيه الحكومة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا دليل الاحتياط يقتضيه، لأن ما ذكرناه أكثر من اعتبار الحكومة على ما يرونه.
مسألة 46: إذا قلعها قالع بعد اسودادها، كان عليه ثلث ديتها صحيحة.
وقال الشافعي: عليه ديتها كاملة (5).
ص: 246
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 47: إذا اختلف النوع الواحد من الثنايا والرباعيات وكانت إحدى الثنيتين أقصر من الأخرى، أو إحدى الرباعيتين أقصر من الأخرى لم ينقص من ديتها شئ.
وقال الشافعي: ينقص عن الجاني بقدر ما قصرت عن قرينتها واعتبرت عادة الناس، لأن العادة أن كل نوع منها يتفق، بل تكون الثنايا في العادة أطول من الرباعيات (2).
دليلنا: أن الأخبار التي جاءت في أن في كل سن خمسا من الإبل (3) مطلقة عامة، ولم يفصلوا بين المتفق منها والمختلف.
مسألة 48: إذا قطع إحدى اليدين من الكوع، وجب فيها نصف الدية.
وبه قال جميع الفقهاء (4).
وقال أبو عبيد بن حربويه (5): لا يجب نصف الدية إلا إذا قطعت من المنكب، لأن اسم اليد يقع على ذلك أجمع (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: " فاقطعوا أيديهما " (7) فأطلق اسم اليد. وقطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يد سارق رداء صفوان من الكوع (8)،
ص: 247
فدل على أن الاسم يقع عليه بذلك.
مسألة 49: إذا ضرب يده فشلت، كان فيها ثلثا ديتها.
وقال الشافعي: فيها جميع ديتها (1).
دليلنا: إجماع الفرقة. ولأن الأصل براءة الذمة. وما قلناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 50: في الخمس الأصابع من يد واحدة خمسون من الإبل بلا خلاف.
وروى أصحابنا: أن في الإبهام منها ثلث ديتها، وفي الأربع الأصابع منها ثلثا ديتها بالسوية (2).
وقال الشافعي: الخمسة متساوية في كل واحدة عشر من الإبل (3).
وقد روى ذلك أيضا في أخبارنا (4). وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت (5)، وإحدى الروايتين عن عمر (6).
ص: 248
وعنه رواية أخرى أنه كان يفصل، وقال: في الخنصر ست، وفي البنصر تسع، وفي الوسطى عشر، وفي السبابة اثنا عشر، وفي الإبهام ثلاثة عشر (1)، فأوجب فيها خمسين من الإبل، وخالف في التفصيل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 51: في كل أنملة من الأصابع الأربع ثلث ديتها، وفي الإبهام نصف ديتها، لأن لها مفصلين. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي: في أنملة الإبهام ثلث ديتها مثل غيرها. قال: لأن لها ثلاث أنامل ظاهرتان وباطنة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأيضا لو اعتبرنا الأنملة الباطنة للزم أن يكون في كل إصبع أربع أنامل، وقد أجمعنا على خلافه.
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 54: الخلاف في أصابع الرجلين مثل الخلاف في أصابع اليدين في تفضيل الإبهام، عندنا وعند الفقهاء هي متساوية (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولم يذكر فيها خلاف عن أحد.
مجمع عليه، وما قاله ليس عليه دليل.
وأيضا قول النبي عليه السلام: في اليد خمسون من الإبل (1).
مسألة 57: إذا قلع عين أعور، أو من ذهبت فرد عينه بآفة من جهة اللّه تعالى، كان بالخيار، بين أن يقتص من إحدى عينيه، أو يأخذ تمام دية كاملة ألف دينار. وإن كان قلعت عينه فأخذ ديتها أو استحقها، وإن لم يأخذها ففي العين الأخرى نصف الدية. وبه قال الزهري، ومالك، والليث بن سعد، وربيعة، وأحمد، وإسحاق. والمسألة مشهورة بذلك (2).
وقال أبو حنيفة، والشافعي وأصحابهما، والنخعي، والثوري: هو بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو، وله نصف الدية (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وروي عن عمر وعثمان أنهما قالا في عين الأعور الدية، ولا مخالف لهما (5).
وروى أبو مجلز قال: كنت عند عبد اللّه بن عمر، فأتاه رجل فسأله عن
ص: 251
عين الأعور، فقال عبد اللّه: كان عمر بن الخطاب أوجب فيها الدية، فقال الرجل إنما أسأله - يعني أسأل ابن عمر - فقال نخبرك عن عمر وتسألني، فأقر عمر على ما ذهب إليه وأنكر أن يسأل هو عنها، ثبت أنهم أجمعوا على هذا، وإلى هذا ذهب أحمد، فإنه قال: نأخذ بقول عمر وابنه (1).
مسألة 58: إذا قلع الأعور إحدى عيني من له عينان، كان المجني عليه بالخيار بين أن يقلع عينه، أو يعفو، أو يأخذ دية عينه خمسمائة دينار. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (2).
وقال مالك: إن عفى فله دية عين الأعور - وهي ألف دينار عنده - وإن شاء قلع عينه قال: لأنه إذا عفا عنه فقد عفا عن جميع بصره (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله عليه السلام: وفي العين خمسون من الإبل (4) ولا يلزمنا ذلك في عين الأعور، لأنا قد قلنا ذلك بدليل.
مسألة 59: إذا كسر صلبه فشلت رجلاه، كان عليه دية في كسر الصلب، وثلثا الدية في شلل الرجلين.
وقال الشافعي: فيه دية وحكومة. فالدية عنده في شلل الرجلين، والحكومة في كسر الصلب (5).
ص: 252
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 60: إذا كسر صلبه فذهب مشيه وجماعه معا، كان عليه ديتان.
وفي أصحاب الشافعي من قال: دية واحدة (2).
وظاهر قول الشافعي: أن عليه ديتين، دية في ذهاب الجماع، ودية في ذهاب المشي - مثل ما قلناه - هكذا قال أبو حامد، قال: لأنه قال في الأم لو كسر صلبه فذهب جماعة ولم يذهب مشيه ففيه الدية (3).
وهذا أوجبه بشرط أن لا يذهب مشيه. فالظاهر أنه إن ذهب مشيه كان فيه ديتان.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
عليه الدية.
وقال الشافعي: فيه الحكومة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 63: دية المرأة نصف دية الرجل. وبه قال جميع الفقهاء (3).
وقال ابن علية، والأصم: هما سواء في الدية (4).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روى عمرو بن حزم أن النبي عليه السلام قال: دية المرأة على النصف من دية الرجل (5).
وروى معاذ نحو هذا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (6)، وهو إجماع الأمة.
وروي ذلك عن علي عليه السلام، وعن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهم (7).
ص: 254
مسألة 64: المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها في الأروش المقدرة، فإذا بلغتها فعلى النصف. وبه قال عمر بن الخطاب، وسعيد بن المسيب، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق (1).
وقال ربيعة: تعاقله ما لم يزد على ثلث الدية أرش الجائفة والمأمومة، فإذا زاد فعلى النصف.
وربيعة جعلها كالرجل في الجائفة، وجعلها على النصف فيما زاد عليها. وبه قال الشافعي في القديم (2).
وقال الحسن البصري: تعاقله ما لم تبلغ نصف الدية أرش اليد والرجل، فإذا بلغتها فعلى النصف (3).
وقال الشافعي في الجديد: لا تعاقله في شئ منها بحال، بل معه على النصف فيما قل أو كثر، في أنملة الرجل ثلاثة أبعرة وثلث، وفي أنملتها نصف هذا بعير وثلثان، وكذلك فيما زاد على هذا.
ورووا ذلك عن علي عليه السلام (4). وذهب إليه الليث بن سعد من أهل مصر، وبه قال أهل الكوفة: ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة
ص: 255
وأصحابه. وهو قول عبيد اللّه بن الحسن العنبري (1).
وقال قوم تعاقله ما لم تبلغ نصف عشر الدية أرش السن والموضحة، فإذا بلغتها فعلى النصف. ذهب إليه ابن مسعود، وشريح (2).
وقال قوم: تعاقله ما لم تبلغ عشر أو نصف عشر الدية أرش المنقلة، فإذا بلغتها فعلى النصف. ذهب إليه زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه السلام قال:
" المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها " (5).
وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ فقال: عشر قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون. قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون قلت:
ففي أربع؟ قال: عشرون. قلت له: لما عظمت مصيبتها قل عقلها. قال:
هكذا السنة (6).
قوله هكذا السنة دال على أنه أراد سنة النبي صلى اللّه عليه وآله وإجماع الصحابة والتابعين.
ص: 256
مسألة 65: في حلمتي الرجل ديته.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: فيهما حكومة، وهو أصحهما عندهم (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على الأخبار المروية في أن كل ما في البدن منه اثنان ففيهما الدية، وهي على عمومها (2) إلا ما أخرجناه بالدليل.
مسألة 66: إذا وطئ زوجته فأفضاها، فإن كان لها دون تسع سنين، كان عليه ضمانها بديتها مع المهر الواجب بالدخول. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: إفضاؤها غير مضمون على زوجها (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 67: إذا وطئ امرأة مكرهة فأفضاها، وجب عليه الحد لأنه زان، ووجب عليه مهرها لوطيها، ووجب عليه الدية لأنه أفضاها. فإن كان البول مستمسكا فلا زيادة على الدية، وإن كان مسترسلا ففيه حكومة. وبه قال الشافعي (6).
ص: 257
وقال أبو حنيفة: يجب عليه الحد - كما قلناه - والمهر لا يجب لوجوب الحد والافضاء. فإن كان البول مستمسكا فعليه ثلث الدية، وإن كان مسترسلا ففيه الدية ولا حكومة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 68: إذا وطئ امرأة بشبهة فأفضاها - مثل إن كان النكاح فاسدا، أو وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته فوطأها، فأفضاها - فالحد لا يجب للشبهة عند الفقهاء (3).
وروى أصحابنا أن عليه الحد خفيا، وعليها الحد ظاهرا في التي وجدها على فراشه، ويجب الدية. فإن أفضاها، فإن كان البول مسترسلا فعليه الدية مع الحكومة، وإن كان مستمسكا فالدية بلا حكومة (4). وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: لا حد، وأما المهر فننظر في الإفضاء، فإن كان البول مستمسكا فعليه ثلث الدية، ويجب المهر معه، وإن كان مسترسلا وجبت الدية ولم يجب المهر، بل يدخل المهر في الدية (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (7)، وأيضا: وجوب المهر ثابت، ودخوله في الدية يحتاج إلى دليل.
ص: 258
وروت عائشة عن النبي عليه السلام أنه قال: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها (1). ولم يفصل.
مسألة 69: في الخصيتين الدية بلا خلاف، وفي اليسرى منهما ثلثا الدية وفي اليمنى ثلثها. وبه قال سعيد بن المسيب، قال: لأن النسل منها (2). كما رواه أصحابنا (3).
وقال جميع الفقهاء: أنهما متساويتان (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 70: في الذكر الدية، وفي الخصيتين معا الدية، فإن قطعهما قاطع كان عليه الديتان، فإن قطع الخصيتين ثم قطع الذكر، أو قطع الذكر ثم الخصيتين كان فيهما الديتان. وبه قال الشافعي (6).
وقال أبو حنيفة ومالك إذا قطع الخصيتين ثم قطع الذكر كان في الخصيتين
ص: 259
الدية وفي الذكر الحكومة، لأن الخصيتين إذا قطعتا ذهبت منفعة الذكر، فإن الولد لا يخلق من مائه، فهو كالسليل (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " وفي الذكر الدية " (3).
وروي ذلك عن علي عليه السلام (4)، ولا مخالف له، وقوله منفعة الذكر بطل لا نسلم، بل منفعته الإيلاج والانعاظ والالتذاذ وكل هذا موجود فيه، وإنما لا يخلق الولد من مائه لعيب في الماء فإنه يرق ويضعف عن أن ينعقد منه الولد، وليس ذلك لعيب في الذكر.
مسألة 71: العين القائمة، واليد الشلاء، والرجل الشلاء، ولسان الأخرس، والذكر الأشل كل هذا وما في معناه يجب فيه ثلث دية صحيحة.
وروي عن أبي بكر أنه قال في العين القائمة ثلث الدية (5). وعن زيد بن ثابت في العين القائمة مائة دينار (6).
وقال الشافعي: لا يجب في جميع ذلك مقدر، وإنما يجب فيه حكومة (7).
ص: 260
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 72: كل عضو فيه مقدر إذا جنى عليه فصار أشل وجب فيه ثلثا ديته.
وقال الشافعي نظر فيها، فإن لم يكن هناك غير الجمال ففيه الحكومة قولا واحدا، كاليدين والرجلين والذكر (2). وإن كانت المنفعة قائمة كالأنف والأذنين فعلى قولين:
أحدهما: حكومة، لأنه صيره أشل.
والثاني: ديته، لأنه ما أذهب منفعته (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
على قولين:
أحدهما فيه الحكومة وهو الأظهر.
والآخر: أن في كل ضلع وفي كل ترقوة جملا (1). وبه قال عمر (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 76: قد ذكرنا أن الجراح عشرة، وكل واحد منها له مقدر إذا كانت في الرأس والوجه، فأما إن كانت في الجسد ففيها بحساب ذلك من الرأس، منسوبا إلى العضو التي هي فيه، إلا الجائفة فإن فيها مقدرا في الجوف وهو ثلث الدية، مثال ذلك في الموضحة إذا كانت في الرأس أو في الوجه، فيها نصف عشر الدية، وإن كانت الموضحة في اليد ففيها نصف عشر دية اليد، وإن كانت في الإصبع ففيها نصف عشر دية الإصبع، وهكذا باقي الجراح.
وقال الشافعي: جميع ذلك فيه حكومة إلا الجائفة، فإن فيها ثلث الدية مثل ما قلناه بلا خلاف (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 77: دية اليهودي، والنصراني مثل دية المجوسي ثمانمائة درهم.
واختلف الناس فيها على أربعة مذاهب.
فقال الشافعي: ثلث دية المسلم، فإن كانت الإبل معه موجودة ثلاثة وثلاثون وثلث، وإن اعوزت انتقل في الجديد إلى قيمتها، وفي القديم إلى أصل مقدر ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم. وبه قال عمر، وعثمان، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وفي الفقهاء أبو ثور وإسحاق (4).
ص: 263
وقال قوم هي على النصف من دية المسلم. ذهب إليه عمر بن عبد العزيز، وعروة بن الزبير. وفي الفقهاء مالك بن أنس (1).
وذهب قوم إلى أنها مثل دية المسلم لا يفترقان. ذهب إليه ابن مسعود، وهو إحدى الروايتين عن عمر، وعثمان، وبه قال في التابعين الزهري. وفي الفقهاء الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (2).
وقال أحمد بن حنبل: إن كان القتل عمدا فدية المسلم، وإن كان خطأ فنصف دية المسلم كقول مالك. والذمي والمعاهد والمستأمن في كل هذا سواء (3).
وأما دية المجوسي فسنذكر الخلاف فيه بين السلف والفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا: الأصل براءة الذمة وشغلها
ص: 264
يحتاج إلى دليل.
مسألة 78: دية المجوسي ثمانمائة درهم. وبه قال مالك، والشافعي، وهو إجماع الصحابة (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: ديته دية اليهودي، نصف دية المسلم (2)، فلم يفرق عمر بن عبد العزيز بينه وبين أهل الكتاب.
وقال أبو حنيفة: ديته مثل دية المسلم (3).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
وروى ابن المسيب، عن عمر بن الخطاب أنه قال: دية المجوسي ثمانمائة درهم (4).
وروى الزهري، عن عمر، وعثمان، وابن مسعود أن دية المجوسي ثمانمائة درهم (5). ولا مخالف لهم.
مسألة 79: من لم تبلغه الدعوة، لا يجوز قتله قبل دعائه إلى الإسلام بلا
ص: 265
خلاف. وإن بادر إنسان فقتله لم يجب عليه القود بلا خلاف أيضا، وعندنا لا يجب عليه الدية. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: يلزمه الدية. وكم يلزمه؟ فيه وجهان:
منهم من قال يلزمه دية المسلم، لأنه ولده على الفطرة. والمذهب أنه يلزمه أقل الديات ثمانمائة درهم دية المجوسي (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 80: كل جناية لها على الحر أرش مقدر من ديته، لها على العبد مقدر من قيمته.
ففي أنف الحر ولسانه وذكره ديته، وفي كل واحد منها في العبد قيمته.
وفي يد الحر نصف ديته، ومن العبد نصف قيمته، وفي إصبع الحر عشر ديته، وفي العبد عشر قيمته. وفي موضحة الحر نصف عشر ديته، وفي العبد نصف عشر قيمته. وبه قال سعيد بن المسيب، وهو مروي عن علي عليه السلام وعمر ولا مخالف لهما، وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك في العبد ما نقص إلا فيما ليس له بعد الاندمال نقص، وهي:
الموضحة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة ففي كل هذا مقدر من قيمته. وما عدا هذه من الأطراف وغيرها خالفنا فيه (4).
ص: 266
وعن أبي حنيفة روايتان:
فروى الحسن بن زياد اللؤلؤي عنه كقولنا (1).
وروى أبو يوسف وأهل الإملاء عنه، فقال: كل شئ فيه من الحر ديته ففيه من العبد قيمته إلا الحاجبين، والشارب، والعنفقة، واللحية وكذا يجئ على قولهم في أذنيه، لأن عندهم الأذن جمال بلا منفعة (2).
وقال محمد بن الحسن: في العبد ما نقص بكل حال كالبهيمة سواء (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا: فهو قول علي عليه السلام وعمر (5). ولا مخالف لهما في الصحابة، فدل على أنه إجماع.
مسألة 81: إذا جنى على عبد جناية تحيط بقيمته، كالأنف، واللسان، والذكر، واليدين، والرجلين لزمته قيمته، ويتسلم العبد من سيده.
وقال الشافعي: لزمته قيمته، والعبد لسيده (6). وقال أبو حنيفة: السيد بالخيار بين أن يمسكه ولا شئ له، وبين أن يسلمه ويأخذ كمال قيمته، فأما أن يمسكه ويطالب بقيمته فليس له ذلك،
ص: 267
ولو كان له ذلك لجمع له بين البدل والمبدل، وذلك لا يجوز (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 82: إن كانت الجناية عليه ما يجب بها نصف قيمته، مثل قطع يده أو قلع عينه، أمسكه سيده وطالب بذلك لا غير. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: سيده بالخيار بين أن يمسكه ويطالب بنصف قيمته، وبين أن يسلمه إلى الجاني ويطالبه بكمال قيمته (4).
وقد روى ذلك أصحابنا (5) وهو الأقوى.
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 84: دية النفس على العاقلة في قتل الخطأ، وفي أطرافه كذلك بلا خلاف. وفي العمد في ماله خاصة بلا خلاف، وفي شبيه العمد عندنا في ماله.
وعند الشافعي: على العاقلة، وكذلك القول في الأطراف (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، ولأن ذمة العاقلة بريئة في الأصل، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 85: إذا قتل عبدا عمدا، أو قطع أطرافه، فالدية في ماله خاصة، وكذلك إن كان شبيه العمد. وإن كان خطأ محضا فعلى العاقلة، سواء قتله، أو قطع أطرافه.
وقال الشافعي: إن قتله عمدا، أو قطع أطرافه مثل ما قلناه، وإن قتله خطأ، أو شبيه العمد، أو قطع أطراف كذلك فعلى قولين:
أحدهما: في ذمته. وبه قال مالك (3).
والثاني: على عاقلته. وهو أصحهما عندهم (4).
وقال أبو حنيفة: أما بدل نفسه فعلى العاقلة، وبدل أطرافه فعلى الجاني في ماله في الخطأ وشبيه العمد، ولا يحمل على العاقلة (5).
ص: 269
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
مسألة 86: ما كان عمدا محضا لا يحمل على العاقلة، سواء كان عمدا لا قصاص فيه، كقطع اليد من نصف الساعد، أو المأمومة، أو الجائفة، وكذلك إذا قتل الوالد ولده عمدا. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (2).
وقال مالك: إذا كانت الجناية لا قصاص فيها بحال، كالمنقلة، والمأمومة، والجائفة فأرشها على العاقلة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا: الأصل براءة الذمة للعاقلة، ولا يجوز شغلها إلا بدليل.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا تعقل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا (4). وهذا نص.
مسألة 87: الصبي إذا كان عاقلا مميزا، فالحكم فيه وفي المجنون إذا قتلا سواء، فإن كان القتل خطأ محضا فالدية مؤجلة على العاقلة، وإن كان عمدا محضا فحكمه حكم الخطأ، والدية في الموضعين على العاقلة.
ص: 270
ووافقنا الشافعي في الخطأ المحض، وقال في العمد المحض فيه قولان:
أحدهما: عمده في حكم الخطأ (1). وبه قال أبو حنيفة (2).
والثاني عمده في حكم العمد.
فإذا قال في حكم الخطأ، فالدية على العاقلة مؤجلة، والكفارة في ماله (3).
ووافقه أبو حنيفة: في أنها مخففة مؤجلة على العاقلة. وكان يحكي عنه أنها حالة على العاقلة، وهذا أصح. وإذا قال: عمده في حكم العمد، فالقود يسقط، والدية مغلظة حالة في ماله، كما لو قتل الوالد ولده (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، على أن عمد الصبي والمجنون خطأ، وذلك عام في حكم القتل، والدية، وكل حكم إلا ما خرج بدليل.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه (6).
مسألة 88: إذا جنت أم الولد، كان أرش جنايتها على سيدها عند جميع
ص: 271
الفقهاء (1). إلا أبا ثور، فإنه قال: أرش جنايتها في ذمتها، تتبع به بعد العتق (2).
وعندنا أن جنايتها مثل جناية المملوك سواء، على ما مضى القول فيه من أن السيد بالخيار بين أن يؤدي أرش جنايتها أو يسلمها.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أنها مملوكة يجوز بيعها (3).
مسألة 89: إذا جنت أم الولد، وغرم السيد الجناية، ثم جنت جناية أخرى، كان عليه أيضا، وهكذا أبدا.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، وهو اختيار المزني (4).
والثاني: لا يجب على السيد أكثر من قيمتها، فإذا غرمها، ثم جنت، شارك المجني عليه أولا، فتكون قيمتها بينهما. وبه قال أبو حنيفة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن جناية المملوك على سيده ولم يفصلوا، فوجب حمله على عمومه.
مسألة 90: إذا اصطدم فارسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه، والباقي هدر إذا كان ذلك خطأ محضا. وبه قال الشافعي، ومالك، وزفر (6).
ص: 272
وقال أبو حنيفة: على عاقلة كل واحد منهما كمال دية صاحبه. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وإسحاق (1).
دليلنا: إن ما ذكرناه مجمع على لزومه لهم، وما زاد عليه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: إذا اصطدم الفارسان فماتا، فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه (2). ولا يعرف له مخالف.
ولأنهما إذا اصطدما فماتا، فقد مات كل واحد منهما من صدمته وصدمة صاحبه، فصار موت كل واحد منهما بفعل اشتركا فيه، فما قابل جنايته على نفسه هدر، وما قابل جناية صاحبه عليه مضمون، فوجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما صاحبه وجرح نفسه فماتا، فما فعله في نفسه هدر، وما قابل فعل صاحبه فيه مضمون، كذلك هاهنا.
مسألة 91: إذا اصطدما متعمدين للقتل، فقصد كل واحد منهما قتل صاحبه، كان ذلك عمدا محضا، والدية في تركه كل واحد منهما لورثة صاحبه مغلظة.
وللشافعي فيه قولان:
قال: أبو إسحاق مثل ما قلناه (3).
ص: 273
وقال الباقون: أنه شبيه العمد، والدية على عاقلته على ما مضى (1).
وقال أبو حنيفة: هو خطأ، والدية على عاقلتهما على ما مضى (2).
دليلنا: أنه إذا قصد كل واحد منهما القتل كان ذلك عمدا، فمن جعله شبيه العمد فعليه الدلالة.
مسألة 92: لا فرق بين أن يقعا مستلقيين أو مكبوبين، أو أحدهما مكبوبا والآخر مستلقيا. وبه قال أصحاب الشافعي كلهم (3).
وقال المزني: إن كان أحدهما مكبوبا والآخر مستلقيا، فالمكبوب هو القاتل وحده، والمستلقي مقتول، فعلى عاقلة المكبوب كمال دية المستلقي (4).
دليلنا: عموم الخبر (5) الذي قدمناه، لأن عليا عليه السلام لم يفصل.
مسألة 93: يمكن أن يكون القتل بحجر المنجنيق عمدا محضا يجب به القود.
وقال الشافعي: لا يمكن ذلك، بل لا يكون ذلك إلا عمد الخطأ، والدية مغلظة على العاقلة عنده (6).
وأما على مذهب أبي حنيفة لا يكون إلا خطأ (7).
دليلنا: أنه لا يمتنع أن يقصد أن يصيب إنسانا بعينه فيصيبه فيقتله، فيجب أن يكون عمدا محضا عندنا وعند الشافعي، واستبعاده لذلك في غير موضعه.
ص: 274
مسألة 94: إذا اصطدمت السفينتان، من غير تفريط من القائم بهما في شئ من أسباب التفريط بريح، فهلكتا وما فيهما من المال والأنفس، أو بعضه كان ذلك هدرا، ولا يلزم واحدا منهما لصاحبه شئ.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: عليهما الضمان (1).
والآخر: لا ضمان عليهما كما قلناه (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على شغلها، فعلى من ادعى شغلها الدليل.
وقال الأصم: أنه يلزم القاتل دون العاقلة. قال ابن المنذر: وبه قالت الخوارج (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا إجماع الأمة، والأصم لا يعتد به، مع أن خلافه قد انقرض.
وروى المغيرة بن شعبة: أن امرأتين قتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل النبي عليه السلام دية المقتولة على عاقلة القاتلة (3)، وهو إجماع الصحابة.
وروي أن امرأة ذكرت عند عمر بن الخطاب بسوء، فأرسل إليها فأجهضت ذا بطنها، فاستشار الصحابة، فقالوا له: إنما أنت مؤدب لا شئ عليك، فقال لعلي عليه السلام ما تقول؟ فقال: إن اجتهدوا فقد أخطأوا، وإن تعمدوا فقد غشوك، عليك الدية. فقال له: عزمت عليك لو قسمتها على قومك، فأضاف قومه إلى علي عليه السلام تحاشيا لما بينهما - أي قومي قومك - (4).
وروي عن عمر أنه قضى على علي عليه السلام بدية موالي صفية بنت عبد المطلب، لأنه هو العاقلة، فقضى بدية مواليها عليه (5)، ولا مخالف لهم في ذلك.
مسألة 97: دية الخطأ مؤجلة ثلاث سنين، كل سنة ثلثها. وبه قال جميع
ص: 276
الفقهاء (1) إلا ربيعة، فإنه قال: أجلها خمس سنين (2).
وفي الناس من قال أنها حالة غير مؤجلة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، بل إجماع الأمة، وخلاف ربيعة لا يعتد به وقد انقرض.
وأيضا: فيه إجماع الصحابة، لأنه روي عن علي عليه السلام وعن عمر أنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين (4)، ولا مخالف لهما.
دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على أنه من العاقلة الذين يجب عليهم الدية، ولا دليل على أن الوالدين والولد منهم، والأصل براءة ذمتهم.
وروى ابن مسعود: أن النبي عليه السلام قال: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، لا يؤخذ الرجل بجريرة ابنه، ولا الابن بجريرة أبيه (1). وهذا نص.
وروى سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا، فقتلت إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بدية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرئ الزوج والولد، ثم ماتت القاتلة، فجعل النبي ميراثها لبنيها، والعقل على العصبة.
وفي بعضها جعل ميراثها لزوجها وولدها (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ودخوله في العقل يحتاج إلى دليل، وعموم الأخبار التي قدمناها يقتضي أن الدية على العاقلة كلها في رواية ابن مسعود وجابر (1).
مسألة 100: قال الشافعي: لا يحمل على كل واحد من العاقلة أكثر من نصف دينار إن كان موسرا، وربع دينار إن كان معسرا، ويؤخذ الأقرب فالأقرب، وكلما أخذت من الأقرب وفضل من الدية شئ أخذت من الذي يليه على ترتيب الميراث، فإذا لم يبق أحد من العاقلة وبقي من الدية شئ كانت في بيت المال (2).
وعندنا أنها يؤخذ جميعها منهم، ويؤخذ منهم على قدر أحوالهم، وما لا يجحف ببعضهم ويستوي القريب والبعيد في ذلك.
دليلنا: أن الأخبار (3) عامة في أن الدية على العاقلة، فمن نقلها أو بعضها إلى بيت المال أو قدم بعضها على بعض، أو قدر معينا فعليه الدلالة.
دليلنا: عموم الأخبار (1) أن العاقلة عليها الدية، ولم يقم دليل على أنها تتحول عنهم إلى أهل الديوان، فعلى من ادعى ذلك الدلالة.
مسألة 102: ابتداء هذه الدية المؤجلة من حين وجوب الدية، حكم الحاكم بإثباتها أو لم يحكم. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: ابتداء المدة من حين حكم الحاكم بها (3).
واختلف أصحابه متى تتحول الدية على العاقلة؟ على مذهبين:
منهم من قال: تجب على القاتل، ثم تتحول عنه إلى العاقلة عقيب وجوبها عليه بلا فصل، كالوكيل بالشراء يملك من البائع ثم يتحول عنه إلى موكله عقيب الملك بلا فصل (4).
ومنهم من قال: لا تتحول إلا بتحويل الحاكم إليهم، كالحوالة عليهم بذلك (5).
دليلنا: أن الموجب للدية الجناية، فيجب إذا حصلت أن تجب الدية ولا يقف ذلك على حكم الحاكم.
مسألة 103: إذا حال الحول على موسر من أهل العقل توجهت المطالبة
ص: 280
عليه، فإن مات بعدها لم تسقط بوفاته، بل تتعلق بتركته كالدين. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة تسقط بوفاته (2).
دليلنا: إن وجوبه عليه مجمع عليه، وسقوطه بموته يحتاج إلى دليل، ولا دلالة في الشرع على ذلك، فيبقى وجوه على ما كان.
مسألة 104: الدية الناقصة مثل: دية المرأة، ودية اليهودي، والنصراني، والمجوسي، ودية الجنين تلزم أيضا في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه (3).
والثاني: عليه في السنة الأولى ثلث الدية كاملة، والباقي في السنة الثانية (4).
فعلى هذا دية اليهودي والنصراني تحل في أول سنة، لأنها ثلث الكاملة عنده، ودية المجوسي تحل أيضا لأنها أقل من الثلث، وكذلك دية الجنين عنده خمسون دينارا وهي أقل من الثلث، ودية المرأة على ثلث دية الكاملة في أول سنة والباقي في الثانية.
دليلنا: عموم الأخبار (5) التي وردت في أن دية الخطأ في ثلاث سنين، ولم
ص: 281
يفصل.
مسألة 105: الموسر عليه نصف دينار، والمتوسط ربع دينار، يوزع على لأقرب فالأقرب حتى ينفذ العاقلة. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: على كل واحد منهم من ثلاثة إلى أربعة، والغني والمتوسط سواء، ويقسم الواجب على العاقلة، فلا يبدأ بالأقرب فالأقرب (2).
وخالف الشافعي في ثلاثة فصول: في قدر الواجب، والفرق بين الموسر والمتوسط، وهل يقسط على القريب والبعيد أم لا (3)؟ دليلنا: على أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب قوله تعالى: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " (4) وذلك عام في جميع الأشياء.
وأيضا: فلا يخلو أن يكون على الأقرب وحده، أو على من قرب وبعد كما قالوا، أو على الأقرب فالأقرب كما قلناه. فبطل أن يكون كلها على الأقرب لأنه لا خلاف في ذلك.
وبطل أن يقال: يكون على الكل، لما قلناه في الآية حتى يتعلق بالعصبات، وكان على الأقرب فالأقرب كالميراث والولاية في النكاح.
وأما المقدار، فمقدار ربع دينار على المتوسط لا خلاف في أنه يلزمه، وما زاد عليه فليس عليه دليل، والموسر نصف دينار أيضا مثل ذلك حتى يكون فرقا بينه
ص: 282
وبين المتوسط، ولأنه يلزمه في النفقة مدان والمتوسط مد.
مسألة 106: القدر الذي تحمله العاقلة عن الجاني، هو قدر جنايته، قليلا كان أو كثيرا. وبه قال الشافعي، ونقله المزني، حتى قال: لو كان أرش الجناية درهما لحملته. وبه قال البتي (1).
وروي في بعض أخبارنا: أنها لا تحمل إلا نصف العشر أرش الموضحة فما فوقها، وما نقص عنه ففي مال الجاني (2). وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (3).
وقال قوم: أنها تحمل ثلث الدية، فما زاد وما نقص من ذلك في مال الجاني. ذهب إليه سعيد بن المسيب، وعطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق (4).
وذهبت طائفة إلى: أنها تحمل ما زاد على الثلث، فما فوق ذلك وما دون ذلك ففي مال الجاني. ذهب إليه الزهري (5).
وقال في القديم على قولين:
أحدهما: تحمل الدية، فأما ما دونها ففي مال الجاني.
والثاني: تحمل ما قل وكثر، وهو قوله في الجديد (6).
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت في أن الدية على العاقلة ولم يفصلوا.
وإذا قلنا بالرواية الأخرى، فالرجوع في ذلك إلى تلك الرواية، وقد
ص: 283
أوردناها.
وروى المغيرة بن شعبة: أن امرأتين ضرتين اقتتلتا، فضربت إحداهما الأخرى بحجر أو مسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بدية الجنين على عصبة المرأة، يعني القاتلة (1). وهذا أقل من الثلث. وقصة المجهضة (2) تدل على ذلك أيضا سواء.
مسألة 107: إذا جنى الرجل على نفسه جناية خطأ محض، كان هدرا لا يلزم العاقلة ديته. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وربيعة، ومالك، والثوري (3).
وقال قوم: أن الدية على عاقلته، له إن كان حيا وقد قطع يد نفسه، ولورثته إن كان ميتا. ذهب إليه الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على أن هؤلاء يلزمهم بهذه الجناية شئ.
وأيضا روي أن عوف بن مالك الأشجعي (5) ضرب مشركا بالسيف،
ص: 284
فرجع السيف إليه فقتله، فامتنع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من الصلاة عليه، وقالوا: بطل جهاده مع رسول اللّه، فذكر ذلك للنبي عليه السلام، فقال: مات مجاهدا مات شهيدا.
فالظاهر أن هذا جميع حكمه، ولو كانت الدية على عاقلته لبين ذلك وأوضحه، لأنه وقت الحاجة.
مسألة 108: الدية في قتل الخطأ تجب ابتداء على العاقلة.
وفي أصحابنا من قال: ترجع العاقلة على القاتل بها، ولا أعرف به نصا (1).
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يجب على القاتل ابتداء، ثم يتحملها عنه العاقلة. وبه قال أبو حنيفة (2).
والثاني مثل ما قلناه (3).
دليلنا: أن كل خبر ورد في أن الدية على العاقلة (4) تضمن ابتداء، وليس في شئ منها أنها تجب على القاتل وتنتقل إلى العاقلة.
مسألة 109: المولى من أسفل لا يعقل عن المولى من فوق شيئا. وبه قال
ص: 285
أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وهو أصحهما عندهم (1).
وقال في الأم، وهو الضعيف: أنه يحمل (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فعلى من شغلها الدلالة.
مسألة 110: إذا كانت العاقلة أكثر من الدية الذين تقسم فيهم، على الغني نصف دينار، وعلى المتوسط ربع دينار، قسم على جميعهم بالحصة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: للإمام أن يخص من شاء منهم، على الغني نصف دينار، وعلى المتوسط ربع دينار (3).
دليلنا: أن الدية وجبت على العاقلة كلهم، فمن خص بها قوما دون قوم فعليه الدلالة.
مسألة 111: إذا كانت العاقلة كثيرين، متساوين في الدرجة، بعضهم غائب وبعضهم حاضر، كانت الدية عليهم كلهم، ولا يخص بها الحاضرون دون الغائب.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: يخص بها الحاضرون دون الغائب (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 112: الحليف لا يعقل ولا يعقل عنه. وبه قال أبو حنيفة،
ص: 286
والشافعي (1).
وقال محمد بن الحسن: يعقل (2).
وروي ذلك عن مالك (3).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن قال هو يعقل أو يعقل عنه فعليه الدلالة.
مسألة 113: عقد الموالاة صحيح، وهو أن يتعاقد الرجلان لا يعرف نسبهما على أن يرث كل واحد منهما صاحبه، ويعقل عنه، ويرث إذا لم يكن له وارث نسب. وبه قال أبو حنيفة في صحة العقد، غير أنه قال: لا يرث أحدهما صاحبه ما لم يعقل عنه، فإذا عقل أحدهما عن صاحبه لزم، وأيهما مات ورثه الآخر (4).
وقال الشافعي: هذا عقد باطل لا يتعلق به حكم (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6)، وقد استوفيناها في الفرائض.
مسألة 114: روى أصحابنا أن الذمي إذا قتل خطأ، ألزم الدية في ماله خاصة، فإن لم يكن له مال كان عاقلته الإمام، لأنهم إليه يؤدون جزيتهم، كما يؤدي العبد الضريبة إلى مولاه (7).
ص: 287
وقال جميع الفقهاء: أن عاقلة الذمي ذمي مثله إذا كان عصبته، فإن كان حربيا لم يكن عاقلة الذمي وإن كان عصبته، وإن كانوا مسلمين فكذلك لا يكونون عاقلة الذمي وإن كانوا عصبته، فإن لم يكن له عاقلة ففي ماله، ولا يعقل عنه من بيت مال المسلمين (1).
دليلنا: إجماع أصحابنا على الرواية (2) التي ذكرناها، لأنهم لم يرووا خلافها، ولأن ميراثه إذا لم يكن له وارث ينتقل إلى الإمام، فيجب أن يكون جنايته عليه.
مسألة 115: إذا كان القتل عمدا لا يجب به قود بحال، مثل قتل الوالد ولده، وكذلك الأطراف، وكذلك إذا جنى جناية لا يجب فيها قود بحال كالجائفة والمأمومة، فالكل حال في حال الجاني. وبه قال الشافعي إلا أنه زاد وما دون الموضحة، فإن عنده ليس فيه قصاص، وإنما يجب به الأرش (3).
وقد بينا أن عندنا أن فيه قصاصا.
وقال أبو حنيفة: كل هذا مؤجل على الجاني ثلاث سنين (4).
دليلنا: أنه قد ثبت وجوب ذلك عليه، ومن ادعى التأجيل في ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 116: إذا بنى حائطا مستويا في ملكه، فمال إلى الطريق، أو إلى دار جاره، ثم وقع وأتلف أنفسا وأموالا كان عليه الضمان.
ص: 288
وللشافعي فيه وجهان:
ظاهر المذهب أنه لا ضمان عليه، سواء أشهد أو لم يشهد، طولب بنقضه أو لم يطالب (1).
وقال أبو حنيفة: ينظر، فإن كان قبل المطالبة بنقضه وقبل الإشهاد عليه فلا ضمان، وإن كان قد طولب بنقضه وأشهد عليه به، فوقع بعد القدرة على نقضه، فعليه الضمان. وإن كان قبل القدرة على نقضة فلا ضمان (2).
وقال ابن أبي ليلى: إن كان الحائط قد انشق بالطول فلا ضمان، وإن انشق بالعرض فعليه الضمان (3).
دليلنا: أنه إذا مال إلى الطريق المسلمين، أو إلى دار جاره، فقد حصل في ملك الغير، فيلزمه ضمانه، كما لو ترك في الطريق حجرا، ولأنه قد استحق إزالته عليه، فإذا لم يفعل ضمن، كما لو وضع حجرا في طريق المسلمين.
ويقوى في نفسي أنه لا ضمان عليه، لأن الأصل براءة الذمة، وليس هاهنا دليل على وجوب الضمان.
مسألة 117: إذا سقط حائط إلى طريق المسلمين، فعثر إنسان بترابه فمات، لم يلزم ضمانه صاحب الحائط. وبه قال الشافعي، ومحمد (4).
ص: 289
وقال أبو يوسف: يضمن (1).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن شغلها فعليه الدلالة.
مسألة 118: إذا أشرع جناحا إلى طريق المسلمين، أو إلى درب نافذ أو غير نافذ وبابه فيه، أو أراد إصلاح ساباط على وجه لا يضر بأحد من المارة، فليس لأحد معارضته ولا منعه منه. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: له ذلك ما لم يمنعه مانع، فأما إن اعترض عليه معترض أو منعه مانع كان عليه قلعه (3).
دليلنا: أن الأصل جوازه، والمنع يحتاج إلى دليل.
وروي أيضا أن عمر بن الخطاب مر بباب العباس، فقطر ماء من ميزاب، فأمر عمر بقلعه، فخرج العباس فقال أو تقلع ميزابا نصبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بيده؟ فقال: واللّه لا يحمل من ينصب هذا الميزاب إلى السطح إلا ظهري، فركب العباس ظهر عمر، فصعد فأصلحه (4).
وهذا إجماع، فإن أحدا لم ينكره، والنبي عليه السلام أيضا فعله، ولأن هذه الأجنحة، والساباطات، والسقائف سقيفة بني النجار، وسقيفة بني ساعدة وغير ذلك إلى يومنا هذا لم ينقل أن أحدا اعترض فيها، ولا أزيلت باعتراض معترض عليها، ثبت أن إقرارها جائز بإجماع المسلمين.
مسألة 119: من أخرج ميزابا إلى شارع، فوقع على إنسان فقتله، أو متاع
ص: 290
فأتلفه، كان ضامنا. وبه قال جميع الفقهاء (1). إلا بعض أصحاب الشافعي فإنه قال: لا ضمان عليه، لأنه محتاج إليه. قال أصحابه ليس هذا بشئ (2).
دليلنا: إجماع الأمة، وهذا القول شاذ لا يعتد به.
مسألة 121: إذا كان هناك حركة، فضربها فسكنت بضربة، فلا ضمان. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وقال الزهري: إذا سكنت الحركة ففيه الغرة، لأنها إذا سكنت فالظاهر أنه قتله في بطن أمه (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ولم يقم دليل على أن بهذا يجب عليه شئ.
وأيضا فإن الحركة يجوز أن تكون للجنين، ويجوز أن تكون لريح، فلا يلزم الضمان بالشك.
مسألة 122: إذا ألفت نطفة، وجب على ضاربها عشرون دينارا، وإذا ألقت علقة، وجب أربعون دينارا، وإذا ألقت مضغة، وجب ستون دينارا، وإذا ألقت عظاما وفيه عقد قبل أن يشق فيه السمع والبصر، وجب فيه ثمانون دينارا، فإذا تم خلقه - بأن شق سمعه، وبصره، وتكاملت صورته قبل أن تلجه الروح فهو الجنين - يجب فيه مائة دينار.
وعندهم فيه غرة عبد أو أمة (3).
وبكل ذلك عندنا تصير أم ولده، وتنقضي به عدتها.
وأما الكفارة فلا تجب بإلقاء الجنين على ضاربها.
وقال الشافعي: إذا تم الخلق تعلق به أربعة أحكام الغرة، والكفارة،
ص: 292
وانقضاء العدة، وتكون أم ولد. وإن شهدن أربع قوابل أنه قد تصور الخلق وإن خفي ذلك على الرجال قبل ذلك، وإن شهدن أنه مبتدأ خلقة بشر غير أنه ما خلق فيه تصوير ولا تخطيط، فالعدة تنقضي به. والأحكام الثلاثة فعلى قولين، وإن ألقت مضغة وشكلت على القوابل، لم يتعلق بها الأحكام الثلاثة غير العدة قولا واحدا، والعدة على قولين (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 123: من أفزع غيره وهو يجامع حتى عزل عن زوجته الحرة، كان عليه عشر دية الجنين عشرة دنانير. وكذلك إذا عزل الرجل عن زوجته الحرة بغير اختيارها فإن عليه عشرة دنانير.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 124: دية الجنين مائة دينار، سواء كان ذكرا أو أنثى.
وقال الشافعي: يعتبر بغيره، ففيه نصف عشر دية أبيه، أو عشر دية أمه ذكرا كان أو أنثى (4).
وقال أبو حنيفة: يعتبر بنفسه، فإن كان ذكرا فنصف عشر ديته لو كان حيا، وإن كان أنثى فنصف عشر ديتها لو كانت حية، وإنما يتحقق هذه المعاني ليبين الخلاف معهم في جنين الأمة (5).
ص: 293
دليلنا: إجماع الفرقة على أن دية الجنين مائة دينار، وأخبارهم (1) على عمومها، ولم يفصلوا، ولم يدل دليل على خصوصها.
مسألة 125: إذا ضرب بطنها فألقت جنينا، فإن ألقته قبل وفاتها ثم ماتت ففيها ديتها، وفي الجنين إن كان قبل أن تلجه الروح مائة دينار على ما مضى، وإن كان بعد أن ولجه الروح فالدية كاملة، سواء ألقته حيا ثم مات أو ألقته ميتا إذا علم أنه كان حيا، وإن مات الولد في بطنها وكان تاما حيا ففيه نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى.
وقال الشافعي: فعليه ديتها، وفي الجنين الغرة، سواء ألقته ميتا أو حيا ثم مات (2). وبه قال أبو حنيفة، إلا في فصل - وهو إذا ألقته ميتا بعد وفاتها - فإنه قال: لا شئ فيه بحال (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وهذه قضية أمير المؤمنين عليه السلام فيمن ضرب امرأة على بطنها فماتت ومات الولد في بطنها، فقضى باثني عشر ألفا وخمسمائة، وخمسة آلاف درهم ديتها، ونصف دية الذكر، ونصف دية الأنثى لما أشكل الأمر فيه، ولا يختلف أصحابنا فيه.
مسألة 126: دية الجنين موروثة عنه، ولا تكون لأمه خاصة. وبه قال
ص: 294
الشافعي وأبو حنيفة (1).
وقال الليث بن سعد: تكون لأمه، ولا تورث عنه، لأنه بمنزلة عضو من أعضائها (2).
دليلنا: إجماع الطائفة وأخبارهم (3). وأيضا: تخصيص الأم بذلك يحتاج إلى دليل شرعي.
مسألة 127: كل موضع أوجبنا دية الجنين، فإنه لا يجب فيه كفارة القتل. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: كل موضع يجب فيه الغرة يجب فيه الكفارة (5).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل، والأخبار التي رويت عن النبي عليه السلام أنه أوجب الغرة لم يذكر فيها الكفارة (6)، فلو كانت واجبة لذكرها، لأن الوقت وقت الحاجة.
ص: 295
مسألة 128: إذا قتل الإنسان نفسه، لا يتعلق بقتله دية بلا خلاف، ولا يتعلق به الكفارة أيضا عندنا.
وقال الشافعي: يجب عليه الكفارة، تخرج من تركته (1).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ولو قلنا تجب عليه الكفارة لكان قويا، لقوله تعالى: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة " (2) ولم يفصل.
مسألة 129: دية جنين اليهودي والنصراني والمجوسي عشر ديته ثمانون درهما.
وقال الشافعي: فيه الغرة، قيمتها عشر دية أمه مائتا درهم إن كانت يهودية أو نصرانية، لأن ديتها عنده ألفان، وقال في المجوسي: عشر دية أمه أربعون درهما (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، ولأنا قد دللنا على أن دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم مثل دية المجوسي (5).
مسألة 130: إذا كان الجنين متولدا بين مجوسي ونصرانية، أو نصراني ومجوسية، فالحكم أيضا فيه مثل ذلك سواء.
وقال الشافعي: نقدره بأعلاهما دية، إن كانت أمه نصرانية ففيه عشر ديتها، وإن كانت مجوسية فنصف عشر دية أبيه النصراني، لأنه لو تولد بين
ص: 296
مسلم وكافرة اعتبرنا دية المسلم، فكذلك هاهنا (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 131: إذا ضرب بطن امرأة، فألقت جنينا حرا مسلما، واستهل - أي صاح وصرخ - ثم مات، فعليه الدية كاملة بلا خلاف، وإن لم يستهل بل كان فيه حياة مثل أن تنفس أو شرب اللبن، فالحكم فيه كما لو استهل. وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي (2).
وقال الزهري، ومالك: فيه الغرة، ولا يجب فيه الدية كاملة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وأيضا قوله عليه السلام: وفي النفس مائة من الإبل (5)، وهذه نفس.
مسألة 133: في جنين الأمة عشر قيمتها، ذكرا كان أو أنثى. وبه قال أهل المدينة، والشافعي، ومالك (1).
وقال أبو حنيفة: فيه عشر قيمته إن كان ذكرا، ونصف عشر قيمته إن كان أنثى، فاعتبره بنفسه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
دليلنا: إن الجناية سبب الإسقاط، فيجب أن يكون الاعتبار بحال حصولها.
مسألة 136: إذا داس بطن غيره حتى أحدث، كان عليه أن يداس بطنه حتى يحدث، أو يفتديه بثلث الدية. وحكي عن أحمد بن حنبل مثل ذلك (1).
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، ولم يوجبوا فيه شيئا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 137: إذا قطع رأس ميت أو شيئا من جوارحه ما يجب فيه الدية كاملة لو كان حيا، كان عليه مائة دينار دية الجنين، وفي جميع ما يصيبه مما يجب فيه مقدر، وأرش في الحي من حساب المائة على حساب ما يحق للحي من الألف.
ولم يوافقنا في ذلك أحد من الفقهاء، ولم يوجبوا فيه شيئا (4)، وعندنا أنه يكون ذلك للميت، يتصدق به عنه، ولا يورث ولا ينقل إلى بيت المال.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد أوردناها في الكتاب الكبير (5).
ص: 299
ص: 300
ص: 301
ص: 302
كتاب القسامة مسألة 1: إذا كان مع المدعي للدم لوث - وهو تهمة للمدعى عليه بأمارات ظاهرة - بدئ به في اليمين يحلف خمسين يمينا، ويستحق ما سنذكره. وبه قال ربيعة، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل (1).
وقال أبو حنيفة: لا أعتبر اللوث، ولا أراعيه، ولا أجعل اليمين في جنبة المدعي (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام.
ومسلم بن خالد (4) عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة أن النبي
ص: 303
عليه السلام قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة (1).
فوجه الدلالة هو أنه جعل اليمين على من أنكر، واستثنى القسامة، ثبت أنها لا تكون فيها على من أنكر. فإذا ثبت أنها لا تكون على من أنكر علم أنها على من أثبت.
وروى الشافعي، عن مالك، عن أبي ليلى بن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن سهل، عن سهل بن أبي حثمة (2): أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد اللّه بن سهل (3) ومحيصة (4) خرجا إلى خيبر (5) من جهد أصابهما، فتفرقا في حوائجهما، فأتى محيصة، فأخبر أن عبد اللّه بن سهل قد قتل وطرح في بئر أو عين، فأتى يهود فقال: أنتم واللّه قتلتموه، قالوا: واللّه ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم فأقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فأقبل محيصة يتكلم وهو الذي كان يتكلم بخيبر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمحيصة كبر كبر
ص: 304
- يريد بذلك السن - فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة بعده، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب من اللّه؟ فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إليهم في ذلك، فكتبوا إليه: إنا واللّه ما قتلناه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لحويصة (1) ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا. قال فتحلف يهود؟ فقالوا: ليسوا بمسلمين. فوداه النبي عليه السلام من عنده، فبعث إليهم بمائة ناقة حمراء حتى إذا دخلت عليهم الدار، قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء (2).
وروى سفيان، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة فذكر نحو حديث أبي ليلى بن عبد الرحمن وفيه: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم، قالوا: أمر لم نشاهده، فكيف نحلف، فقال النبي عليه السلام: أفتبرئكم يهود بخمسين يمينا؟ قالوا: كيف نرضى أيمان قوم كفار؟ فوداه النبي عليه السلام من عنده (3).
ص: 305
ولنا من حديث الشافعي ثلاثة أدلة، أحدها: أنه عليه السلام ابتدأ فخاطب المدعي باليمين، فثبت أن اليمين عليهم ابتداء.
والثاني قال: تحلفون وتستحقون فأثبت الاستحقاق لهم بالإيمان منهم، وعند أبي حنيفة لا يحلفون ولا يستحقون بأيمانهم شيئا.
والثالث: أنه نقلها إلى يهود لما لم يحلف المدعون، وعند أبي حنيفة ليس في الإيمان نقل بحال، وهذه الأدلة الثلاثة من حديث سفيان.
وفيه دلالة رابعة: وهو قوله أفتبرئكم يهود بخمسين يمينا، وعند أبي حنيفة إذا حلفت يهود لزمها الضمان، والنبي عليه السلام أبرأهم باليمين.
قال الطحاوي: يجب على المدعى عليه في القسامة شيئان: اليمين، والدية جميعا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وأيضا ما قدمناه من الأخبار يدل على ذلك، لأن النبي عليه السلام قال للأنصار: تحلفون وتستحقون دم صاحبكم (2) فأثبت لهم دم صاحبهم. وفي الخبر الآخر: تستحقون صاحبكم، أو قاتل صاحبكم (3).
وحديث حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد (4)، عن بشير بن يسار (5)، عن سهل بن أبي حثمة: أن النبي عليه السلام قال للأنصار: يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (6). ومعناه القتل.
كما روي عن علي عليه السلام في رجل وجد مع امرأته رجلا، فقتله، فقال إن أتى بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته يعني القود (7).
وروي عن النبي عليه السلام أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نضر بن
ص: 307
مالك برجل منهم (1) وهذا نص.
مسألة 3: القسامة يراعى فيها خمسون من أهل المدعي يحلفون، فإن لم يكونوا حلف الولي خمسين يمينا. وقال من وافقنا في القسامة: أنه لا يحلف إلا ولي الدم خمسين يمينا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا الخبر الذي قدمناه من رواية حماد بن زيد، من قوله للأنصار: يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (4). يدل على ما قلناه.
فإن قالوا: هذا منسوخ.
قلنا: لا نسلم ما تدعونه، ومن ادعى النسخ فعليه الدلالة.
مسألة 4: القسامة في قتل الخطأ خمسة وعشرون رجلا.
وقال الشافعي: لا فرق بين أنواع القتل، ففي جميعها القسامة خمسون رجلا (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 5: إذا حلف أولياء المقتول خمسين يمينا على قتل العمد، وكان القاتل واحدا، قتل بلا خلاف بين من أوجب القود. وإن حلف على جماعة فمثل ذلك، على ما شرطناه في قتل الجماعة بواحد. وبه قال الشافعي، ومالك،
ص: 308
وأحمد بن حنبل، على ما يقولونه في قتل الجماعة بواحد (1).
وقال أبو العباس: إذا حلف على جماعة لم يقتلوا به، ولكن يختار واحدا منهم فيقتله (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وعموم الأخبار التي وردت في قتل الجماعة بواحد يتناول هذا الموضع.
مسألة 6: إذا وجد قتيل بين الصفين في فتنة، أو في قتال أهل البغي والعدل قبل أن ينشب الحرب بينهم، كان ديته على بيت المال.
وقال الشافعي: إذا كان قد التحم القتال، فاللوث على غير طائفته التي هو منها، وإن كان لم يلتحم فاللوث على طائفته سواء كانا متقاربين أو متباعدين (4).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا الأصل براءة الذمة، فإيجاب اللوث عليهم يحتاج إلى دليل.
ص: 309
مسألة 7: إذا وجد قتيل من ازدحام الناس إما في الطواف، أو الصلاة، أو دخول الكعبة، أو المسجد، أو بئر، أو مصنع لأخذ الماء، أو قنطرة كانت ديته على بيت المال.
وقال الشافعي: ذلك لوث بينهم، لأنه يغلب على الظن أنهم قتلوه (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 8: كل موضع قلنا قد حصل اللوث على ما فسرناه، فللولي أن يقسم سواء كان بالقتيل أثر القتل، أو لم يكن أثر القتل. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان به أثر القتل كقولنا، وإن لم يكن به أثر القتل فلا قسامة. بلى إن كان قد خرج الدم من غير أنفه فلا قسامة، لأنه يخرج من قبل خنق، ويظهر من غير قتل. وإن خرج الدم من أذنه فهذا مقتول، لأنه لا يخرج إلا بخنق شديد، وتعب عظيم (3).
دليلنا: أن المعتاد موت الإنسان بالأمراض، وموت الفجأة نادر، فالظاهر من هذا أنه مقتول، كما أن من به أثر القتل يجوز أن يكون جرح نفسه، ولا يترك لذلك القسامة، ولا ينبغي أن يحمل على النادر إلا بدليل، وقد يقتل الإنسان غيره بأخذ نفسه، أو عصر خصيته، وإن لم يكن هناك أثر.
مسألة 9: يثبت الموت بأشياء: بالشاهد الواحد، وبوجود القتيل في دار
ص: 310
قوم، وفي قريتهم التي لا يدخلها غيرهم ولا يختلط به سواهم، وكذلك محلتهم وغير ذلك، ولا يثبت اللوث بقول المقتول عند موته: دمي عند فلان. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (1).
وقال مالك: لا يثبت اللوث إلا بأمرين شاهد عادل مع المدعي، وقوله عند موته: دمي عند فلان (2).
دليلنا: أن الأصل في القسامة قصة الأنصار، ولم يكن هناك شاهد، ولا قول من المقتول، فأوجب النبي عليه السلام القسامة، فدل على ما قلناه.
وبطلان مذهب مالك في الفصلين، فأما قوله قول المقتول فلا يصح اعتباره، لقول النبي عليه السلام: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (3). وهذا مدع.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإثبات القتل على المسلم بيمين المشرك يحتاج إلى دليل، وأيضا فلو أوجبنا القتل عليه بيمينهم لوجب أن يقاد به، وقد بينا أنه لا يقاد مسلم بكافر، ولو أوجبنا عليه الدية، لأوجبنا بيمين كافر ابتداء على مسلم مالا مع علمنا بأنهم يستحلون أموال المسلمين ودمائهم.
مسألة 11: إذا قتل عبد، وهناك لوث، فلسيده القسامة. وبه قال الشافعي (1).
واختلف أصحابه على طريقين، قال أبو العباس فيه القسامة قولا واحدا، على القولين في تحمل العاقلة (2).
وقال غيره على قولين يبنى على قيمته. وهل تحملها العاقلة أم لا؟ فإنه على قولين، فإذا قالوا تحملها العاقلة كان فيه القسامة، وإذا قلنا لا تحملها العاقلة فلا قسامة، لأنه كالبهيمة (3).
دليلنا: عموم الأخبار (4) الواردة في وجوب القسامة في القتل، ولا دليل يخصها.
مسألة 12: يثبت عندنا في الأطراف قسامة مثل العينين، واللسان، واليدين، والرجلين، والشم وغير ذلك.
وقال جميع الفقهاء: لا قسامة في الأطراف، وإنما هي في النفس وحدها (5)، إلا أن الشافعي قال: إذا ادعى قطع طرف يجب فيه الدية كاملة،
ص: 312
كان على المدعى عليه اليمين (1).
وهل يغلظ اليمين أم لا؟ على قولين، أحدهما: لا يغلظ مثل سائر الأموال.
والثاني يغلظ.
وكيف يغلظ؟ مثل ما يغلظ في النفس؟ فإن كان المدعى عليه واحدا حلف خمسين يمينا، وإن كانوا جماعة فعلى قولين، أحدهما: يحلف كل واحد بما يحلف الواحد. والثاني: يحلف الكل خمسين يمينا على عدد الرؤوس.
وإن كانت الجناية ما يجب فيها دون الدية كقطع يد، أو رجل فهذا يجب فيها نصف الدية، وقدر ما يغلظ فيها قولان، أحدهما: خمسون يمينا ولو كانت أنملة، لأن الاعتبار بحرمته. والثاني: التغليظ مقسوم على قدر الدية. والواجب في اليد نصف الدية، يحلف نصف الخمسين خمسا وعشرين يمينا، هذا إذا كان المدعى عليه واحدا (2).
وإن كانوا جماعة ففيها خمسة أقوال.
أحدها: على كل واحد خمسون يمينا.
والثاني: على كل واحد خمسة وعشرون يمينا.
والثالث: على كل واحد عشرة أيمان.
والرابع: على كل واحد خمسة أيمان.
والخامس: على كل واحد يمين واحدة، على القول الذي يقول أنه لا تغلظ الأيمان (3).
وعند أصحابنا أن ما يجب فيه الدية في الأطراف، فالقسامة فيه ستة أنفس، بستة أيمان، فإن لم يكونوا كررت على المدعي ستة أيمان، وفيما نقص
ص: 313
بحسابه، فإن امتنع المدعي حلف المدعى عليه ستة أيمان أو ما يلزم بحساب ذلك منهم، وإن كانوا جماعة لا نص لهم فيه. والذي يقتضيه المذهب أنه لا يغلظ على كل واحد منهم (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 13: إذا كان المدعي واحدا فعليه خمسون يمينا بلا خلاف، وكذلك المدعى عليه إن كان واحدا فعليه خمسون يمينا، وإن كان المدعون جماعة فعليهم خمسون يمينا عندنا، ولا يلزم كل واحد خمسون يمينا، وكذلك في المدعى عليه إن كان واحدا لزمته خمسون يمينا وإن كانوا جماعة لم يلزمهم أكثر من خمسين يمينا.
وللشافعي فيه قولان في الموضعين، أحدهما: مثل ما قلناه في الموضعين.
والثاني: يلزم كل واحد خمسون يمينا في الموضعين، إلا أنه قال: أصحهما أن في جنبة المدعي خمسين يمينا بالحصص من الدية، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن ينقص في واحد كمل يمينا تامة، وأصحهما في جنبة المدعى عليه أن يلزم كل واحد خمسون يمينا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا: الأصل براءة الذمة وما قلناه مجمع على لزومه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 14: إذا لم يكن لوث ولا شاهد، ويكون دعوى محضة، فاليمين في جنبة المدعى عليه بلا خلاف. وهل تغلظ أم لا؟ عندنا أنه لا يلزمه أكثر من يمين واحدة.
ص: 314
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: مثل ما قلناه، والثاني: أنها تغلظ خمسين يمينا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2). وأيضا الأصل براءة الذمة.
مسألة 15: إذا قتل رجل، وهناك لوث، وله وليان أخوان أو ابنان، فادعى أحد الوليين أن هذا قتل أبي، وكذبه الآخر وقال ما قتله هذا، فلا يقدح هذا التكذيب في اللوث.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: مثل ما قلناه، وهو اختيار المزني. والآخر:
يقدح، وهو الصحيح عندهم (3).
دليلنا: أنه قد ثبت اللوث قبل التكذيب، فمن قال أن التكذيب أثر فيه فعليه الدلالة.
وأيضا فبثبوت اللوث ثبت حق للوليين، فإذا كذب أحدهما لم يسقط حق الآخر.
وأيضا فإن اليمين مع اللوث في الدماء كاليمين مع الشاهد في الأموال، ولو أن أحد الابنين ادعى مالا لأبيه، فأقام شاهدا واحدا وكذبه أخوه، وقال لا حق لأبينا على هذا، لم يقدح هذا التكذيب في شاهد أخيه، وكان له أن يحلفه.
فكذلك لا يقدح التكذيب في اللوث، وله أن يحلف.
مسألة 16: إذا ادعى رجل على رجل أنه قتل وليا له، وهناك لوث، وحلف المدعي القسامة، واستوفى الدية، فجاء آخر وقال: أنا قتلته وما قتله ذلك، كان الولي بالخيار بين أن يصدقه ويكذب نفسه، ويرد الدية ويستوفي
ص: 315
منه حقه، وبين أن يكذب المقر ويثبت على ما هو عليه.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: ليس له أن يدعي على المقر، لأن قوله في الأول ما قتله إلا فلان إقرار منه أن هذا المقر ما قتله، فلا يقبل منه دعواه عليه.
والقول الثاني: له أن يدعي عليه، لأن قول الولي قتله فلان إنما هو إخبار عن غالب ظنه، والمخبر يخبر عن قطع ويقين، وكان أعرف بما قال (1).
دليلنا: قول النبي عليه السلام: إن إقرار العاقل جائز على نفسه (2). وهو إذا قبل من الثاني فقد كذب نفسه في الأول، فقبل منه ذلك، وإقرار الثاني مقبول على نفسه لعموم الخبر.
ص: 316
ص: 317
ص: 318
مسألة 1: لا يجب الكفارة بقتل الذمي والمعاهد.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، فأوجبوا فيه الكفارة (1).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل، وقوله تعالى:
" فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة " (2) قد بينا أن الضمير في (كان) راجع إلى المؤمن الذي تقدم ذكره، فكأنه قال: وإن كان المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، بأن يكون نازلا بينهم، أو أسلم عندهم ولم يخرج إلينا، أو كان أسيرا في أيديهم.
مسألة 2: إذا قتل مسلما في دار الحرب، متعمدا لقتله، مع العلم بكونه مؤمنا، وجب عليه القود، سواء أسلم عندهم ولم يخرج إلينا، أو خرج وعاد، أو كان عندنا فدخل إليهم لحاجة. وبه قال الشافعي (3).
ص: 319
وقال مالك: فيه الدية والكفارة على كل حال (1).
وقال أبو حنيفة إن كان أسلم عندهم ولم يخرج إلينا، فالواجب الكفارة بقتله فقط، فلا قود ولا دية بحال (2).
دليلنا: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (3) وقوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4) ولم يفصل.
مسألة 3: إذا قتل مؤمنا في دار الحرب، عامدا إلى قتله، ولم يعلمه بعينه وإنما ظنه كافرا، فلا دية عليه، وليس عليه أكثر من الكفارة.
وقال الشافعي: عليه الدية في أحد القولين، وفي القول الآخر لا دية كما قلناه، والكفارة عليه قولا واحدا (5).
وقال مالك: عليه الدية والكفارة (6).
وقال أبو حنيفة: لا دية عليه (7).
دليلنا: قوله تعالى: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " (8) ولم يذكر الدية. وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 4: إذا حصل له تحرم بدار الإسلام - مثل أن يسلم عندهم وخرج إلينا - ثم عاد إليهم. أو كان مسلما في دار الإسلام، فخرج إليهم، وكان مطلقا -
ص: 320
يعني لا يكون ممنوعا من الهجرة عن دار الحرب - متصرفا لنفسه، فمتى قتل مع عدم العلم بإيمانه، سواء قصد قتله بعينه أو لم يقصد، فلا دية ولا قود، وفيه الكفارة.
وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الدية والكفارة (1).
وقال أبو حنيفة: فيه الدية والكفارة، سواء قصده بعينه أو لم يقصده (2).
وقال الشافعي: إن قصده بعينه ففيه الدية على أحد القولين، والقول الآخر لا دية، وفيه الكفارة مثل ما قلناه، وإن لم يقصده بعينه فلا دية، وفيه الكفارة (3).
دليلنا: الآية (4)، وإن اللّه تعالى أوجب الكفارة ولم يذكر الدية، وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 5: إذا قتل أسيرا في أيدي الكفار وهو مؤمن، وجبت فيه الدية والكفارة، سواء قصده بعينه أو لم يقصده. وبه قال أبو يوسف ومحمد (5).
وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه (6).
وقال الشافعي إن قصده بعينه فعليه الدية والكفارة على أحد القولين، والقول الآخر كفارة بلا دية، وإن لم يقصده بعينه فالكفارة بلا دية (7).
دليلنا: قوله تعالى ": ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة
ص: 321
إلى أهله " (1) وهذا مؤمن.
وأيضا قوله عليه السلام: " في النفس مائة من الإبل " (2) وهذه نفس، ولم يفصل.
مسألة 6: قتل العمد يجب فيه الكفارة. وبه قال الشافعي، ومالك، والزهري (3).
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا كفارة فيه، سواء أوجب القود - كما لو قتل أجنبيا - أو لم يوجب القود، نحو أن يقتل ولده (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه.
وروى واثلة بن الأسقع: قال: أتينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل، فقال: أعتقوا عنه رقبة يعتق اللّه بكل عضو منها عضوا منه من النار (6). وهذا قتل عمدا، فإنهم قالوا: استوجب النار
ص: 322
بالقتل، ولا يستحق النار إلا بقتل العمد.
وروي أن عمر بن الخطاب: قال يا رسول اللّه إني وأدت في الجاهلية، فقال: أعتق عن كل موؤدة رقبة (1).
مسألة 7: يجب بقتل العمد ثلاث كفارات على الجمع: العتق، والصيام، والاطعام. وخالف جميع الفقهاء في ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 8: الكفارة تجب بقتل العبد عمدا كان أو خطأ. وبه قال جميع الفقهاء في الخطأ والعمد على ما مضى (4).
وحكي عن مالك أنه قال: لا كفارة بقتل العبد، والصحيح عنه وفاقه للفقهاء (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وقوله تعالى: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (6) ولم يفصل. وقال: " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة " (7) ولم يفصل.
ص: 323
مسألة 9: تجب الكفارة في حق الصبي، والمجنون، والكافر. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا كفارة على واحد من هؤلاء (2).
دليلنا: قوله تعالى: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (3) ولم يفصل. وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، وإن قلنا لا تجب على هؤلاء، كان قويا، لقوله عليه السلام: رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ (4).
فأما الكافر فيلزمه على كل حال، ولأنه لا خلاف أن الصوم لا يجب على هؤلاء، وهو بدل عن العتق، فيجب أن لا يجب عليهم المبدل، ولأن نية القربة لا تصح من الصبي والمجنون، ومحال أن يجب عليه شئ على وجه القربة.
وحكي ذلك عن الشافعي، قال أصحابه ليس بشئ (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقوله تعالى: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (2) وكل واحد منهم قاتل.
مسألة 11: إذا لم يجد الرقبة انتقل إلى الصوم بلا خلاف، وإن لم يقدر على الصوم أطعم ستين مسكينا مثل كفارة الظهار.
وللشافعي فيها قولان، أحدهما مثل ما قلناه. والثاني أن الصوم في ذمته أبدا حتى يقدر عليه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 12: الكفارة لا تجب بالأسباب، ومعناه إذا نصب سكينا في غير ملكه، فوقع عليها إنسان فمات، أو وضع حجرا في غير ملكه، فتعقل به إنسان فمات، أو حفر بئرا في غير ملكه، فوقع فيها إنسان فمات، أو رش ماء في الطريق، أو بالت دابته فيها ويده عليها، فزلق فيه إنسان فمات، أو شهد رجلان على رجل بالقتل فقتل، ثم رجعا فقالا: تعمدنا ليقتل، فعليهم القود بلا كفارة، وإن قالا: أخطأنا كان عليهما الدية بلا كفارة، ولا يسمى فاعل شئ من هذه الأفعال قاتلا. وبه قال أبو حنيفة (5).
ص: 325
وقال الشافعي كل ذلك يجب فيه الدية والكفارة، ويسمى قاتلا (1).
دليلنا: قوله تعالى: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة " (2) وهذا ما قتل، ولا يسمى قاتلا، لأن القاتل في اللغة من باشر القتل. وأيضا الأصل براءة الذمة عن الكفارة، فمن أوجبها فعليه الدلالة.
وأما الدلالة على أنه بجميع ذلك لا يسمى قاتلا، أنه لو سمي ذلك لوجب أن يكون متى فعل ذلك في ملكه فوقع فيه إنسان فمات أن يسمى قاتلا، وأجمعنا على خلافه، ولأنه لو سمي قاتلا لوجب أن يكون متى تعمد ذلك أن يجب عليه القود، وقد أجمعنا على خلافه.
وأيضا فلو كان قاتلا، لوجب أن يكون فيه عمد يجب به الدية في ماله، وأجمعنا على خلافه، ولأنه إذا حفر بئرا فوقع فيها إنسان فما مات من فعله لأن فعله هو الحفر، وما مات به، وإنما تجدد بعد تقضي فعله وانقطاعه ما كان فيه التلف، فلم يكن به قاتلا، كما لو أعطى غيره سيفا فقتل به لا يكون قاتلا، ولأن الذي فعله الحفر، والمحفور الذي هو البئر ليس من فعله، وإذا وقع فيها واقع فالحافر ما باشر قتله، وما وقع في الحفر، وإنما وقع في المحفور، وذلك ليس من فعله.
مسألة 13: إذا كان الرجل ملفوفا في كساء أو في ثوب، فشهد شاهدان على رجل أنه ضربه فقده بأثنين، ولم يشهدا بجناية غير الضرب، واختلف الولي والجاني، فقال الولي: كان حيا حين الضرب، وقد قتله الجاني، وقال الجاني:
ما كان حيا حين الضرب كان القول قول الجاني مع يمينه. وبه قال أبو حنيفة (3) وهو أحد قولي الشافعي الصحيح عندهم (4).
ص: 326
وله قول آخر أن القول قول الولي مع يمينه (1).
دليلنا: أن الأصل براءة ذمة الجاني، وشغلها يحتاج إلى دليل.
فإن قالوا الأصل كونه حيا، وزواله يحتاج إلى دليل.
قلنا: الأصل براءة الذمة وتقابلا وسقطا.
مسألة 14: السحر له حقيقة، ويصح منه أن يعقد، ويرقى، ويسحر فيقتل، ويمرض، ويكوع (2) الأيدي ويفرق بين الرجل وزوجته، ويتفق له أن يسحر بالعراق رجلا بخراسان فيقتله عند أكثر أهل العلم أبي حنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي (3).
وقال أبو جعفر الاسترآبادي (4) من أصحاب الشافعي: لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وشعبذة، وبه قال المغربي (5) من أهل الظاهر (6).
ص: 327
وهو الذي يقوي في نفسي.
ويدل على ذلك قوله تعالى مخبرا في قصة فرعون والسحرة: " فإذا حبالهم.
وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى " (1) وذلك أن القوم جعلوا من الحبال كهيئة الحيات، وطلوا عليها الزيبق، وأخذوا الموعد على وقت تطلع فيه الشمس، حتى إذا وقعت على الزيبق تحرك فخيل لموسى أنها حيات تسعى، ولم يكن لها حقيقة وكان هذا في أشد وقت السحر، فألقى موسى عصاه فأبطل عليهم السحر فآمنوا به.
وأيضا فإن الواحد منا لا يصح أن يفعل في غيره، وليس بينه وبينه اتصال، ولا اتصال بما اتصل بما فعل فيه، فكيف يفعل من هو ببغداد فيمن هو بخراسان وأبعد منها؟ ولا ينفي هذا قوله تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " (2) لأن ذلك لا يمنع منه، وإنما الذي منعنا منه أن يؤثر التأثير الذي يدعونه، فأما أن يفعلوا ما يتخيل عنده أشياء، فلا يمنع منه.
ورووا عن عائشة أنها قالت: مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ستة أشهر، وفي رواية أخرى أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وذكر تمام الحديث (3).
وروى زيد بن أرقم قال: سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله رجل من اليهود، واشتكى من ذلك أياما، فأتاه جبرئيل فقال له: أن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا في بئر كذا، فبعث عليا فأخرجه، وكلما حل منه عقدا وجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله راحة، فلما حل الكل فكأنما نشط من
ص: 328
عقال (1)، وهذا نص.
وهذه أخبار آحاد لا يعمل عليها في هذا المعنى.
وقد روي عن عائشة أنها قالت: سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فما عمل فيه السحر (2)، وهذا يعارض ذلك.
مسألة 15: من استحل عمل السحر فهو كافر، ووجب قتله بلا خلاف.
ومن لم يستحله وقال: هو حرام، إلا أني أستعمله، كان فاسقا لا يجب قتله.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي (3).
وقال مالك: الساحر زنديق إذا عمل السحر، وقوله لا أستحله غير مقبول، ولا تقبل توبة الزنديق عنده (4).
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: يقتل الساحر، ولم يتعرضا لكفره (5).
وقد روى ذلك أيضا أصحابنا (6).
دليلنا: أن الأصل حقن الدماء، ومن أباحها يحتاج إلى شرع ودليل، ومن أوجب قتله استدل بأن عمر قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال الراوي:
ص: 329
فقتلنا ثلاث سواحر (1).
وحفصة زوجة النبي عليه السلام جارية لها سحرتها، فبعثت بها إلى عبد الرحمن بن زيد فقتلها (2).
ويدل على صحة ما قلناه ما روي عنه عليه السلام أنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا بها مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها (3).
وروي أن عائشة باعت مدبرة لها سحرتها باعتها من الأعراب (4).
يسقيه ما يقتل به على العادة - مثل السم - وليس السحر بشئ من ذلك.
وقد روى أصحابنا: أن الساحر يقتل (1). والوجه في هذه الرواية أن هذا من الساحر إفساد في الأرض والسعي فيها به، ولأجل ذلك وجب فيه القتل.
ص: 332
ص: 333
ص: 334
كتاب الباغي مسألة 1: الباغي: من خرج على إمام عادل، وقاتله، ومنع تسليم الحق إليه، وهو اسم ذم. وفي أصحابنا من يقول: إنه كافر (1). ووافقنا على أنه اسم ذم جماعة من العلماء المعتزلة بأسرهم، ويسمونهم فساقا، وكذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: هم فساق على وجه التدين (3).
وقال أصحاب الشافعي ليس باسم ذم عند الشافعي، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ، بمنزلة من خالف من الفقهاء في بعض مسائل الاجتهاد (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5) وأيضا قوله عليه السلام: حربك يا علي حربي وسلمك سلمي (6) وحرب النبي عليه السلام كفر، فيجب أن يكون
ص: 335
حرب علي مثل ذلك. وقوله عليه السلام: (اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله) (1) صريح بذلك لأن المعاداة من اللّه لا تكون إلا للكفار دون المؤمنين.
مسألة 2: إذا أتلف الباغي على العادل نفسا أو مالا والحرب قائمة، كان عليه الضمان في المال، والقود في النفس. وبه قال مالك (2).
وقال الشافعي إن أتلف مالا فعلى قولين، أحدهما: يضمن. والآخر: لا يضمن.
وإن كان قتلا يوجب القود فعلى طريقين، منهم من قال لا قود، قولا واحدا، والدية على قولين، لأن القصاص قد سقط بالشبهة، والمال لا يسقط، ومن أصحابه من قال القود على قولين مثل المال، والصحيح عندهم أنه لا قود عليه (3) وبه قال أبو حنيفة (4).
وإن كان المتلف عادلا فلا ضمان عليه بلا خلاف.
دليلنا: قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " (5).
ص: 336
وقوله عز وجل: " الحر بالحر " (1).
وقال: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " (2).
وقال النبي عليه السلام: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا واللّه عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية (3).
وروي عن أبي بكر في الدين قاتلهم: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم (4).
ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع.
فإن قالوا: إن عمر قال له أصحابه: عملوا لله، وأجورهم على اللّه، وإنما الدنيا بلاغ.
قيل: قول عمر لا يدل على سقوط المستحق، وإنما أفاد أن عملهم لله، وأجورهم على اللّه، ولا يمنع ذلك من وجوب حقوق الضمان لهم أيضا.
مسألة 3: مانعوا الزكاة في أيام أبي بكر لم يكونوا مرتدين، ولا يجوز أن يسموا بذلك. وبه قال الشافعي وأصحابه، إلا أنهم قالوا: قد سماهم الشافعي مرتدين من حيث منعوا حقا واجبا عليهم (5).
وقال أبو حنيفة: هم مرتدون، لأنهم استحلوا منع الزكاة (6).
دليلنا: أن إسلامهم ثابت، ومن ادعى أن منع الزكاة ارتداد فعليه
ص: 337
الدلالة، وعليه إجماع الصحابة، لأن أبا بكر لما هم بقتالهم احتج عليه عمر منكرا عليه بقول النبي عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا بها مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، فقال أبو بكر هذا من حقها، واللّه لو منعوني عناقا كانوا يعطون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقاتلتهم عليها، واللّه لا فرقت بين ما جمع اللّه، يعني قوله: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (1).
وأبو بكر أقر عمر على اعتقاده الإيمان فيهم، واحتج في قتالهم بمعنى آخر، وهو أنهم منعوا الزكاة، ولو كانوا مرتدين عند أبي بكر لقال له: فالقوم لا يقولون لا إله إلا اللّه، فلما لم يحتج عليه بذلك ثبت أن اعتقاده كاعتقاد عمر فيهم من الإيمان.
ولأن القوم منعوا بتأويل، واحتجوا حجة مقيم على الإسلام، فقالوا: قال اللّه تعالى: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " (2) كانت صلاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سكنا لنا، وليست صلاة ابن أبي قحافة سكنا لنا (3). فأخبروا أنهم متمسكون بدين النبي عليه السلام، وفرقوا بينه وبين أبي بكر، فإن صلاته كانت رحمة علينا، وصلاة أبي بكر ليست كذلك.
وأيضا فإن القوم لما جاؤوا تائبين، قالوا: واللّه ما كفرنا بعد إسلامنا، وإنما
ص: 338
شححنا على أموالنا (1)، فالقوم قد حلفوا أنهم ما كفروا. وهذا ظاهر من كلامهم، بين في أشعارهم، وقال شاعرهم:
ألا أصبحينا قبل نائرة الفجر * لعل منايانا قريب ولا ندري أطعنا رسول اللّه ما كان بيننا * فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر فأخبروا أنهم أطاعوا رسول اللّه في وقته حال حياته، وكانوا معه في دعة، فقالوا فوا عجبا ما بال ملك أبي بكر.
فإن الذي سألوكم فمنعتم * لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية * كرام على العزاء في ساعة العسر (2) ثبت بذلك أن القوم كانوا مسلمين مستمسكين بدين الإسلام.
مسألة 4: إذا ولى (3) أهل البغي إلى غير فئة، أو ألقوا السلاح، أو قعدوا، أو رجعوا إلى الطاعة حرم قتالهم بلا خلاف، وإن ولوا منهزمين إلى فئة لهم، جاز أن يتبعوا ويقتلوا. وبه قال أبو حنيفة وأبو إسحاق المروزي (4).
وقال باقي أصحاب الشافعي أنه لا يجوز قتالهم ولا اتباعهم (5).
ص: 339
دليلنا: قوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر اللّه " (1) وهؤلاء ما فاؤا إلى أمر اللّه.
ولا ينافي ذلك ما روي أن عليا عليه السلام يوم الجمل نادى: أن لا يتبع مدبرهم (2) لأن أهل الجمل لم يكن لهم فئة يرجعون إليها.
وعلى ما قلناه إجماع الفرقة، وأخبارهم (3) واردة به.
مسألة 5: من سب الإمام العادل وجب قتله.
وقال الشافعي يجب تعزيره. وبه قال جميع الفقهاء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، وأيضا قول النبي عليه السلام: من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب اللّه (6) ومن سب اللّه وسب نبيه فقد كفر، ويجب قتله.
مسألة 6: إذا وقع أسير من أهل البغي من المقاتلة، كان للإمام حبسه، ولم يكن له قتله. وبه قال الشافعي (7).
ص: 340
وقال أبو حنيفة: له قتله (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا روى عبد اللّه بن مسعود قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يا بن أم عبد، ما حكم من بغى من أمتي؟ قال، قلت: اللّه ورسوله أعلم، فقال عليه السلام: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، لا يقسم فيئهم (2) وهذا نص.
وروي أن رجلا أسيرا جئ به إلى علي عليه السلام يوم صفين، فقال: لا أقتلك صبرا، إني أخاف اللّه رب العالمين (3).
مسألة 7: إذا أسر من أهل البغي من ليس من أهل القتال - مثل:
النساء، والصبيان، والزمنى، والشيوخ الهرمى - لا يحبسون.
وللشافعي فيه قولان نص في الأم على مثل ما قلناه.
ومن أصحابه من قال: يحبسون كالرجال الشباب المقاتلين (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحبس عليهم يحتاج إلى دليل.
مسألة 8: إذا قاتل قوم من أهل الذمة مع أهل البغي أهل العدل، خرجوا بذلك من الذمة على كل حال.
وقال الشافعي إن قاتلوا بشبهة، مثل أن يقولوا: إنا لم نعلم أنه لا يجوز معاونة قوم من المسلمين، أو ظننا أن ذلك جائز، لم يخرجوا بذلك عن الذمة،
ص: 341
وإن كانوا عالمين بذلك فهل يخرجون عن الذمة أم لا؟ على قولين، أحدهما:
يخرجون، والثاني: لا يخرجون (1).
وقال أبو إسحاق: القولان إذا لم يشرط عليهم نطقا في عقد الذمة أنه لا يجوز منهم القتال للمسلمين، فإن شرط عليهم ذلك نطقا، فإنهم يخرجون عن الذمة قولا واحدا (2).
دليلنا: إن من شرط صحة عقد الذمة أن لا يقاتلوا المسلمين، فمتى قاتلوهم نقضوا شرط صحة العقد، فخرجوا بذلك عن الذمة.
مسألة 9: يجوز للإمام أن يستعين بأهل الذمة على قتال أهل البغي.
وقال الشافعي لا يجوز ذلك وبه قال باقي الفقهاء (3).
دليلنا: إنا بينا أنهم كفار وإذا كانوا كفارا فلا خلاف أنه يجوز أن يستعين بأهل الذمة عليهم ولأن الأصل جواز ذلك والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 10: إذا نصب أهل البغي قاضيا يقضي بينهم أو بين غيرهم، لم ينفذ حكمه، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي، وسواء كان حكمه وافق الحق أو خالفه.
وقال أبو حنيفة: إن كان القاضي من أهل العدل صح ذلك، وإن كان من أهل البغي لم ينفذ له قضاء، ولا ينعقد له الولاية (4).
ص: 342
وقال الشافعي: إن كان القاضي ممن يعتقد إباحة أموال أهل العدل ودمائهم لم ينعقد له قضاء، ولم ينفذ ما حكم به، سواء وافق حكمه الحق أو لم يوافق. وإن كان يقول أنه لا يستبيح أموال أهل العدل، ولا دمائهم، نفذت قضاياه كما تنفذ قضايا غيره، سواء كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن القاضي لا يجوز أن يوليه غير الإمام، وهذا لم يوله الإمام، فيجب أن لا ينعقد ولايته، ولا ينفذ حكمه فيما حكم به، لأن ثبوت ما يحكم به موقوف على ثبوت قضائه الذي بينا فساده.
مسألة 11: إذا كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي أهل العدل كتابا بحكم حكم به، أو بما ثبت عنده، لم يعمل عليه، ولا التفت إليه. وبه قال أبو يوسف (2).
وقال الشافعي: المستحب أن لا يعمل به، وإن عمل به جاز (3).
دليلنا: إنا قد بينا أن قضاءه غير ثابت، فإذا لم يثبت له القضاء فلا حكم لكتابه بلا خلاف.
مسألة 12: إذا شهد عدل من أهل البغي، ردت شهادته ولم تقبل.
وقال الشافعي: لا ترد شهادته (4). وبه قال أبو حنيفة، غير أن أبا حنيفة
ص: 343
يقول: أهل البغي فساق، لكنه فسق على طريق التدين، والفسق على طريق التدين لا ترد به الشهادة عندهم، لأنه يقبل شهادة أهل الذمة (1).
دليلنا: ما دللنا على أنهم كفار، وإذا ثبت ذلك فلا يجتمع الكفر مع العدالة، وإذا لم يكن عدلا فلا تقبل شهادته إجماعا.
مسألة 13: الباغي إذا قتل غسل وصلي عليه. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يغسل ولا يصلى عليه (3).
دليلنا: عموم كل خبر روي في وجوب الصلاة على الأموات (4)، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه.
مسألة 14: إذا كان المقتول في المعركة من أهل العدل لا يغسل ويصلى عليه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يصلى عليه. والثاني: يغسل ويصلى عليه (5).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الشهيد لا يغسل، ويصلى عليه، وهذا شهيد عندهم.
مسألة 15: قد ذكرنا في كتاب الفرائض: أن القاتل عمدا لا يرث إلا إذا كان مطيعا بقتله، وإن كان خطأ يرث من التركة دون الدية. وبه قال مالك (6).
ص: 344
وقال الشافعي: لا يرث على كل حال عمدا كان أو خطأ، مطيعا كان أو عاصيا (1).
وقال أبو حنيفة: لا يرث القاتل إلا في ثلاث مواضع: وهو إذا قتل وهو صبي أو مجنون، أو عاقل قتل مورثه من أهل البغي (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وأيضا قوله تعالى: " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " (4) وقوله تعالى: " يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (5) وقوله تعالى:
" ولكم نصف ما ترك أزواجكم " (6) وهذه الآيات على عمومها، إلا أن يقوم دليل.
مسألة 16: إذا قصد رجل رجلا يريد نفسه أو ماله، جاز له الدفع عن نفسه أو عن ماله، وإن أتى على نفسه أو نفس طالبه، ويجب عليه أن يدفع عن نفسه إذا طلب قتله، ولا يجوز أن يستسلم مع القدرة على الدفع.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: مثل ما قلناه. والثاني: يجوز له أن
ص: 345
يستسلم، ولا يجب عليه الدفع ذهب إليه أبو إسحاق (1).
دليلنا: قوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " (2) وأيضا معلوم بأوائل العقول وجوب دفع المضار عن النفس، فمن لم يدفعها عنها مع القدرة استحق الذم.
مسألة 17: ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه، والانتفاع به، ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له.
وقال الشافعي: لا يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدواب أهل البغي، ولا بسلاحهم، ولا يركبونها للقتال، ولا يرمون بنشابهم حال القتال ولا في غير حال القتال، ومتى حصل من ذلك شئ عندهم كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت الحرب رد عليهم (3).
وقال أبو حنيفة: يجوز الاستمتاع بدوابهم وبسلاحهم والحرب قائمه، فإذا انقضت كان ذلك ردا عليهم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا: قوله تعالى: " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر اللّه " (5) فأمر بقتالهم، ولم يفرق بين أن يقاتلوا بسلاحهم وعلى دوابهم أو بغير ذلك.
ص: 346
مسألة 18: إذا امتنع أهل البغي بدارهم، وأتوا ما يوجب الحد، فمتى ظهرنا عليهم، أقيم ذلك عليهم. وبه قال الشافعي (1).
وحكى الشافعي عن أبي حنيفة أنه لا يقام عليهم الحدود، ولا يستوفى منهم الحقوق بناء على أصله في دار الحرب (2).
دليلنا: قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (3) وقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (4) وقوله عليه السلام: " من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه " (5) ولم يفصل. ومن فرق احتاج إلى دلالة.
ص: 347
ص: 348
ص: 349
ص: 350
كتاب المرتد مسألة 1: المرأة إذا ارتدت لا تقتل، بل تحبس وتجبر على الإسلام حتى ترجع، أو تموت في الحبس. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقالوا: إن لحقت بدار الحرب سبيت واسترقت (1).
وروي عن علي عليه السلام: أنها تسترق. وبه قال قتادة (2).
وقال الشافعي: إذا ارتدت المرأة قتلت، مثل الرجل إن لم يرجع. وبه قال أبو بكر (3).
وروي عن علي عليه السلام: أنه قال: كل مرتد مقتول ذكرا كان أو
ص: 351
أنثى (1). وبه قال في التابعين الحسن البصري، والزهري، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن قتل النساء والولدان (4). ولم يفرق.
وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن قتل المرتدة (5).
وروي عن ابن عباس أنه قال: المرتدة تحبس ولا تقتل (6).
وأيضا الأصل حقن الدماء، ولم يقم دليل على جواز قتلها، فعلى من ادعى قتلها الدلالة.
وقال الشافعي تقبل توبته (1).
وعن أبي حنيفة روايتان (2) مثل قول مالك والشافعي.
دليلنا: إجماع الفرقة على الرواية التي ذكرناها. وأيضا فإن قتله بالزندقة واجب بلا خلاف، وما أظهره من التوبة لم يدل دليل على إسقاط هذا القتل عنه.
وأيضا فإن مذهبه إظهار الإسلام، فإذا طالبته بالتوبة فقد طالبته بإظهار ما هو مظهر له، فكيف يكون إظهار دينه توبة.
مسألة 3: المرتد على ضربين.
أحدهما: ولد على فطرة الإسلام من بين مسلمين، فمتى ارتد وجب قتله، ولا تقبل توبته.
والآخر: كان كافرا فأسلم، ثم ارتد، فهذا يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله وبه قال عطاء (3).
وقال الحسن البصري: المرتد يقتل بغير استتابة (4).
وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: إنه يستتاب سواء كان مسلما في الأصل فارتد، أو كافرا فأسلم ثم ارتد، فإن لم يتب وجب قتله (5).
ص: 353
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
وأيضا قوله عليه السلام: من بدل دينه فاقتلوه (2)، ولم يشرط الاستتابة.
وروي عن عثمان أنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (3). ثبت أنه أباح دمه مطلقا، ولا يلزمنا فيمن أجمعنا على استتابته، لأن ذلك خصصناه بدليل الإجماع.
مسألة 4: من اتفقنا على استتابته متى تاب سقط عنه القتل. وبه قال جميع الفقهاء (4).
وحكى الشافعي في القديم والجديد عن قوم أنه لا تقبل توبته ويجب
ص: 354
قتله (1).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم (2).
وأيضا قوله تعالى: " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا " (3) فأثبته مؤمنا بعد كفره.
وقال سبحانه: يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا - إلى قوله - فإن يتوبوا يك خيرا لهم " (4) فأخبر أن التوبة خير لهم.
وروي ما قلناه عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا بكر قاتل أهل الردة، فمن أسلم كف عنه (5).
وروي عن علي عليه السلام أن شيخا تنصر فعرض عليه الرجوع، فلما لم يقبل قتله (6) وقد قدمناه.
مسألة 5: الاستتابة واجبة فيمن شرطه الاستتابة.
ص: 355
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: مثل ما قلناه (1).
والثاني: مستحبة. وبه قال أبو حنيفة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وظاهرها الإيجاب.
وروي عن علي عليه السلام أنه عرض الإسلام على الشيخ الذي كان تنصر، فلما لم يقبل قتله (4).
وروي عن عمر أنه أنكر على أبي موسى الأشعري حين قتل المرتد، فقال:
هلا حبستموه ثلاثا. وروي ذلك عن مالك، عن عبد الرحمان بن محمد بن عبد القارئ، عن أبيه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل كان فيكم من مقدمه خبر؟ قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال: فماذا فعلتم به؟ قال: قدمناه فضربنا عنقه، فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه في كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر اللّه، اللّهم لم أحضره ولم آمر، ولم أرض إذا بلغني (5). فأنكر ترك الاستتابة، ولم ينكروا عليه، فلو لم يكن واجبا لما أنكره.
مسألة 6: الموضع الذي قلنا يستتاب، لم يحده أصحابنا بقدر، والأولى أن
ص: 356
لا يكون مقدرا.
وللشافعي فيه قولان، سواء قال أنه واجب أو مستحب، أحدهما: يستتاب ثلاثا. وبه قال أحمد وإسحاق وهو ظاهر قول أبي حنيفة (1).
والآخر: يستتاب في الحال وإلا قتل، وهو أصحهما عندهم، وهو اختيار المزني (2).
ورووا عن علي عليه السلام أنه قال: يستتاب شهرا (3).
وقال الثوري: يستتاب ما دام يرجى رجوعه (4).
دليلنا: أن التحديد بذلك يحتاج إلى دليل.
وأيضا روي عن علي عليه السلام أنه: تنصر رجل، فدعاه وعرض عليه الرجوع إلى الإسلام، فلم يرجع، فقتله (5)، ولم يؤخره، وظاهر ذلك أنه لا تقدير فيه.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: من بدل دينه فاقتلوه (6).
ص: 357
فالظاهر أنه يقتل من غير استتابة، إلا ما قام عليه الدليل من الاستتابة.
مسألة 7: المرتد إن كان عن فطرة الإسلام، زال ملكه عن ماله، وتصرفه باطل. وإن كان عن إسلام قبله كان كافرا، لا يزول ملكه، وتصرفه صحيح.
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على طريقين.
منهم من قال في ملكه وتصرفه ثلاثة أقوال، أحدها: لا يزول ملكه وتصرفه صحيح. الثاني: يزول ملكه وتصرفه باطل الثالث: يكون مراعى وكذلك تصرفه، فإن عاد تبينا أن ملكه ما زال عنه، وأن تصرفه وقع صحيحا وإن مات أو قتل تبينا أن ملكه زال عنه بالردة، وأن تصرفه باطل (1).
وفي أصحابه من قال في تصرفه ثلاثة أقوال وفي ملكه قولان (2).
دليلنا: على التفصيل الأول إجماع الفرقة على وجوب قتله، وقسمة ماله بين الورثة، ووجوب عدة الوفاة على امرأته.
والدليل على القسم الثاني: أنه لا دليل على زوال ملكه، والأصل بقائه، ومن ادعى زوال ملكه فعليه الدلالة.
مسألة 8: إذا مات المرتد، وخلف مالا، وله ورثة مسلمون ورثوه، سواء كان المال اكتسبه حال إسلامه أو حال كفره. وبه قال أبو يوسف ومحمد (3).
ص: 358
وقال أبو حنيفة يرث المسلمون ماله الذي اكتسبه حال حقن دمه، وهو حال إسلامه إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه، وما اكتسبه حال إباحة دمه فئ (1).
وقال الشافعي: الكل فئ، ما اكتسبه حال الإسلام وحال الارتداد، ولا يرثه مسلم (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا قوله تعالى: " يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (3) وقوله: " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " (4) وقوله: " ولكم نصف ما ترك أزواجكم " (5) وغير ذلك ولم يفصل، فوجب حمله على عمومه إلا ما أخرجه الدليل.
مسألة 9: من ترك الصلاة معتقدا أنها غير واجبة، كان كافرا، يجب قتله بلا خلاف. وإن تركها كسلا وتوانيا ومع ذلك يعتقد تحريم تركها، فإنه يكون فاسقا يؤدب على ذلك، ولا يجب عليه القتل.
وقال أبو حنيفة ومالك: يحبس حتى يصلي (6).
وقال الشافعي: يجب عليه القتل بعد أن يستتاب كما يستتاب المرتد، فإن
ص: 359
لم يفعل وجب قتله (1).
وقال أحمد بن حنبل: يكفر بذلك (2).
دليلنا: إن إيجاب القتل عليه يحتاج إلى دليل، وقد مضت هذه في كتاب الصلاة.
مسألة 10: المرتد الذي يستتاب إذا لحق بدار الحرب لم يجر ذلك مجرى موته، ولا يتصرف في ماله، ولا ينعتق مدبره، ولا تحل الديون عليه. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: يجري ذلك مجرى موته، تحل ديونه، وينعتق مدبره، ويقسم ماله بين ورثته على ما مضى (4).
دليلنا: أن هذا حي، فلا يصح أن يورث كسائر الأحياء، ولحوقه بدار الحرب من أجراه مجرى الموت فعليه الدلالة.
مسألة 11: إذا رزق المرتد أولادا بعد الارتداد، كان حكمهم حكم الكفار، يجوز استرقاقهم، سواء ولدوا في دار الإسلام أو في دار الحرب.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: لا يجوز، لأن الولد يلحق بأبيه، فلما ثبت أن أباه لا يسترق لأنه قد ثبت له حرمة الإسلام، فكذلك ولد من قد ثبت له حرمة الإسلام (5).
ص: 360
والثاني: يسترق، لأنه كافر بين كافرين، كالكافر الأصلي ولا فرق عنده بين أن يكونوا في دار الإسلام أو في دار الحرب (1).
وقال أبو حنيفة: إن كانوا في دار الإسلام لا يسترقون، وإن لحقوا بدار الكفر جاز استرقاقهم (2).
دليلنا: كل ظاهر دل على جواز استرقاق ذراري الكفار من ظاهر كتاب أو خبر عن النبي صلى اللّه عليه وآله، لأنها على العموم، ومن خصها فعليه الدلالة.
مسألة 12: إذا نقض الذمي أو المعاهد الذمة أو العهد، ولحق بدار الحرب، وخلف أموالا وذرية عندنا، فأمانه في ذريته وماله باق بلا خلاف، فإن مات ورثه ورثته من أهل الحرب، وورثته من أهل الذمة في دار الإسلام.
وقال الشافعي: ميراثه لورثته من دار الحرب دون ورثته من أهل الذمة في بلد الإسلام، لأنه لا توارث بين الحربي والذمي (3).
دليلنا: كل ظاهر يدل على ميراث الوالد والولد والزوج والزوجة فعمومها يتناول هذا الموضع.
مسألة 13: ما يخص الحربي من ماله على مذهبنا، أو جميعه على مذهب الشافعي، فإنه يزول عنه أمانه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: مثل ما قلناه، والثاني: أن أمانه باق (4).
ص: 361
دليلنا: أن الأصل في أموال أهل الحرب زوال الأمان عنه، وإنما أخرجنا زمان حياة هذا الميت بدليل، وهو أنه كان عقد الأمان لنفسه ولماله، فلما نقض هو الأمان في نفسه لم ينتقض في ماله، وليس هاهنا بيننا وبين الحربي أمان لا في نفسه ولا في ماله، فيجب أن يزول أمانه ويكون فيئا ينتقل إلى بيت المال.
ص: 362
ص: 363
ص: 364
كتاب الحدود مسألة 1: يجب على الثيب الرجم. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وحكي عن الخوارج (2) أنهم قالوا: لا رجم في شرعنا، لأنه ليس في ظاهر القرآن، ولا في السنة المتواترة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روى عبادة بن الصامت: أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: خذوا عني، قد جعل اللّه لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (4).
ص: 365
وزنا ما عز (1)، فرجمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2)، ورجم الغامدية (3)، وعليه إجماع الصحابة.
وروي عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي عليه السلام رجم يهوديين زنيا (4).
وروي عن عمر أنه قال: لولا إنني أخشى أن يقال زاد عمر في القرآن لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من اللّه (5).
وروي: أن عليا عليه السلام جلد شراحة (6) يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب اللّه، ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (7). فقد ثبت ذلك بالسنة وإجماع الصحابة.
مسألة 2: المحصن إذا كان شيخا أو شيخة فعليهما الجلد والرجم، وإن كان شابين فعليهما الرجم بلا جلد.
ص: 366
وقال داود وأهل الظاهر: عليهما الجلد والرجم، ولم يفصلوا (1). وبه قال جماعة من أصحابنا (2).
وقال جميع الفقهاء: ليس عليهما إلا الرجم دون الجلد (3).
دليلنا: قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (4) ولم يفصل.
وروى عبادة بن الصامت قال، قال رسول اللّه: خذوا عني، قد جعل اللّه لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ثم الرجم (5) وفيه إجماع الصحابة.
وروي أيضا: أن عليا عليه السلام جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، فقيل له: تحدها حدين؟ فقال: جلدتها بكتاب اللّه، ورجمتها بسنة
ص: 367
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (1).
مسألة 3: البكر عبارة عن غير المحصن، فإذا زنا البكر جلد مائة وغرب عاما، كل واحد منهما حد إن كان ذكرا، وإن كان أنثى لم يكن عليها تغريب.
وبه قال مالك (2).
وقال قوم: هما سواء. ذهب إليه الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأحمد، والشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: الحد هو الجلد فقط، والتغريب ليس بحد، وإنما هو تعزير إلى اجتهاد الإمام، وليس بمقدر، فإن رأى الحبس فعل، وإن رأى التغريب إلى بلد آخر فعل من غير تقدير، وسواء كان ذكرا أو أنثى (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، وأيضا الأصل براءة الذمة في المرأة، فمن
ص: 368
أوجب عليها التغريب فعليه الدليل، والحد لا خلاف أنه عليها.
وأيضا: قوله تعالى: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (1) فلو كانت المرأة الحرة يجب عليها التغريب، لكان على الأمة نصفها، وقد أجمعنا على أنه لا تغريب على الأمة، لقوله عليه السلام: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها (2) فكان هذا كل الواجب.
وأما الدليل على أنهما حدان ظاهر الأخبار (3)صحيح البخاري 8: 212، وسنن ابن ماجة 2: 852 حديث 2549، وأحكام القرآن للجصاص 3: 256.(4)، فمن حمل ذلك على التعزير أو جعله إلى اجتهاد الإمام فعليه الدليل، وهو إجماع الصحابة.
روي عن ابن عمر أن النبي جلد وغرب، وأن أبا بكر جلد وغرب، وأن عمر جلد وغرب (5).
وروي عن علي عليه السلام وعثمان أنهما فعلا ذلك.
وروي عن أبي وابن مسعود مثل ذلك (6)، فغرب أبو بكر وعمر إلى
ص: 369
الشام، وعثمان إلى مصر، وعلي إلى الروم (1) ولا مخالف لهم.
وما روي عن عمر أنه قال: واللّه لا غربت بعدها أبدا (2).
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: التغريب فتنة (3).
الوجه فيه أن عمر نفى شارب الخمر، فلحق بالروم، فلهذا حلف. وقول علي عليه السلام أراد: أن نفي عمر فتنة، وهذا الذي حكيناه.
مسألة 4: لا نفي على العبد، ولا على الأمة. وبه قال مالك، وأحمد (4).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه.
والثاني: أن عليهما النفي. وكم النفي له فيه قولان، أحدهما: سنة مثل الحر.
والآخر نصف السنة (5).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإن زنت فليجلدها (6). ولم يذكر التغريب.
ص: 370
مسألة 5: الإحصان لا يثبت إلا بأن يكون للرجل الحر فرج يغدو إليه ويروح، متمكنا من وطيه، سواء كانت زوجته حرة أو أمة أو ملك يمين، ومتى لم يكن متمكنا منه لم يكن محصنا، وذلك بأن يكون مسافر عنها، أو محبوسا، أو لا يكون مخلى بينه وبينها، وكذلك الحكم فيها سواء، ومتى تزوج الرجل، ودخل بها، ثم طلقها وبانت منه، بطل الإحصان بينهما.
وقال الفقهاء كلهم خلاف ذلك في الحرة: أنه متى عقد عليها، ودخل بها، ثم طلقها، أنه يثبت الإحصان بينهما وإن فارقها بموت أو طلاق، ولم يراعوا التمكن من وطيها (1).
وأما الأمة، فقال الشافعي: إذا أصاب أمة بنكاح صحيح، أو العبد حرة، يثبت الإحصان للحر دون المملوك. وهو قول مالك (2).
وقال أبو حنيفة: لا يثبت الإحصان لأحدهما (3).
وهكذا الصغير إذا أصاب كبيرة بالنكاح الصحيح، أو الكبير الصغيرة، ثبت الإحصان للكبير عند الشافعي (4).
وقال مالك وأبو حنيفة: لا يثبت الإحصان لأحدهما، ويحكى عن الشافعي هذا في القديم (5).
ص: 371
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، والأصل براءة الذمة، والاحصان الذي راعيناه مجمع عليه في الحرة، وما ادعوه ليس عليه دليل، فوجب نفيه.
مسألة 6: إذا مكنت العاقلة المجنون من نفسها فوطأها، لزمهما الحد. وإن وطئ المجنونة عاقل لزمه الحد، ولم يلزمها الحد.
وقال الشافعي: يلزم الحد العاقل دون من ليس بعاقل في الموضعين (2).
وقال أبو حنيفة: لا يجب على العاقلة الحد إذا وطأها المجنون، وإن وطئ عاقل مجنونة لزمه الحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (4) ولم يفصل، فهو على عمومه.
مسألة 7: إذا وطئ بهيمة، فإن كانت مأكولة اللحم ذبح وأحرق لحمها، ولا يؤكل، وإن كانت لغير الواطئ غرم قيمتها. وإن كانت غير مأكولة اللحم حملت إلى بلد آخر، وبيعت، ولا تذبح.
وقال الشافعي: إن كانت مأكولة ذبحت، وهل يؤكل لحمها؟ فيه وجهان: أحدهما لا يؤكل.
والآخر يؤكل.
وإن كانت غير مأكولة، فهل تذبح أم لا؟ فيه قولان: أحدهما لا تذبح،
ص: 372
والثاني تذبح (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 8: لا تثبت الشهادة على اللواط إلا بأربعة رجال، ويثبت إتيان البهيمة بشهادة شاهدين.
وقال الشافعي: إن قلنا: إنه كالزنا لم يثبت إلا بشهادة أربعة ذكور عدول، وكذلك إن قال: إنه أغلظ، وأما إتيان البهائم فإن قلنا: إنه كاللواط أو كالزنا لا يثبت إلا بأربعة ذكور، وإن قلنا: فيه تعزير فالمنصوص أنه لا يثبت إلا بأربعة (3).
وقال ابن خيران: يثبت بشهادة شاهدين (4).
وقال أبو حنيفة: يثبت جميع ذلك بشهادة شاهدين (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 9: روى أصحابنا، في الرجل إذا وجد مع امرأة أجنبية يقبلها ويعانقها في فراش واحد: أن عليهما مائة جلدة. وروي ذلك عن علي عليه السلام (7).
ص: 373
وقد روي أن عليهما أقل من الحد (1).
وقال جميع الفقهاء: عليه التعزير (2).
دليلنا: أخبار الطائفة وقد ذكرناها (3)، وقد روت العامة ذلك عن علي عليه السلام (4).
مسألة 10: إذا وجدت امرأة حبلى، ولا زوج لها، وأنكرت أن يكون من زنا، لا حد عليها. وبه قال أبو حنيفة والشافعي (5).
وقال مالك: عليها الحد (6).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحد يحتاج إلى دليل.
وأيضا فإنه يحتمل أن يكون من زنا، ويحتمل أن يكون من وطئ شبهة، ويحتمل أن تكون مكرهة، ولا حد مع الشبهة.
وقال ابن عباس: أقله واحد (1). وقد روى ذلك أصحابنا (2) أيضا.
وقال عكرمة: اثنان (3).
وقال الزهري: ثلاثة (4).
وقال الشافعي: أربعة (5).
دليلنا: طريقة الاحتياط، لأنه إذا حضر عشرة دخل الأقل فيه، ولو قلناه بأحد ما قالوه لكان قويا، لأن لفظ الطائفة يقع على جميع ذلك.
والخالة من النسب أو الرضاع، فوطأها مع العلم بالتحريم، كان عليه الحد.
وقال الشافعي في الأخت، والعمة، والخالة، والأم من النسب أو الرضاع فيه قولان: أحدهما عليه الحد (1).
والثاني: لا حد عليه. وبه قال أبو حنيفة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3) على أن هؤلاء ينعتقون، فإذا وطأها وطء حرة ذات محرم، فكان عليه الحد بلا خلاف بين أصحابنا.
فإن قيل: هذا وطء صادق ملكا وكان شبهة.
قلنا: لا نسلم ذلك، فإنه متى ملكها انعتقت في الحال، ولا تستقر حتى يطأها بعد ذلك في الملك.
مسألة 14: إذا ثبت الزنا بالبينة، لم يجب على الشهود حضور موضع الرجم. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: يلزمهم ذلك (5).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحضور عليهم يحتاج إلى دليل.
وقد روى أصحابنا أنه إذا وجب الرجم بالبينة، فأول من يرجمه الشهود، ثم الإمام. وإن كان مقرا على نفسه كان أول من يرجمه الإمام، فعلى هذا يلزمهم الحضور (6)
ص: 376
مسألة 15: إذا حضر الإمام والشهود موضع الرجم، فإن كان الحد ثبت بالإقرار، وجب على الإمام البدأة به، ثم يتبعه الناس. وإن كان ثبت بالبينة بدأ أولا الشهود، ثم الإمام، ثم الناس. وقال أبو حنيفة مثل ذلك (1).
وقال الشافعي: لا يجب على واحد منهم البدأة بالرجم (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وطريقة الاحتياط.
وأيضا فإنهم إذا فعلوا ما قلناه لم يستحقوا الذم بلا خلاف، وإذا لم يفعلوا ففي استحقاق ترك ذلك خلاف.
قال في الصحابة أبو بكر، وعمر (1)، وفي الفقهاء حماد بن أبي سليمان، ومالك (2).
وقال ابن أبي ليلى: لا يثبت إلا بأن يعترف أربع مرات، سواء كان في أربع مجالس أو مجلس واحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وإذا أقر أربع مرات على ما بيناه لزمه الحد بلا خلاف، ولا دليل على استحقاقه بإقراره مرة واحدة.
وروي عن ابن عباس أن ماعزا أقر عند النبي صلى اللّه عليه وآله مرتين فأعرض ثم أقر مرتين فأمر برجمه (5).
وروي أن أبا بكر قال لماعز: إن أقررت أربع مرات رجمك رسول اللّه (6).
مسألة 17: إذا أقر بحد، ثم رجع عنه، سقط الحد. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك (7).
ص: 378
وعنه رواية أخرى أنه لا يسقط. وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وداود (1).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا فإن ما عزا أقر عند النبي عليه السلام بالزنا فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا، ثم قال: لعلك لمست، لعلك قبلت (2). فعرض له بالرجوع حين أعرض عند إقراره، وصرح له بذلك في قوله: لعلك لمست، لعلك قبلت. ولولا أن ذلك يقبل منه، وإلا لم يكن له فائدة.
مسألة 18: المريض المأيوس منه إذا زنا وهو بكر، أخذ عذق فيه مائة شمراخ، أو مائة عود يشد بعضه إلى بعض ويضرب به ضربة واحدة، على وجه لا يؤدي إلى التلف.
وقال أبو حنيفة: يضرب مجتمعا أو متفرقا ضربا مؤلما (3).
وقال مالك: يضرب بالسياط مجتمعا ضربا مؤلما (4).
وقال الشافعي: يضرب مائة بأطراف الثياب والنعال ضربا لا يؤلم ألما شديدا (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
ص: 379
وأيضا قوله تعالى: " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " (1) وهذه قصة لأيوب عليه السلام معروفة.
وروي: أن مقعدا أقر عند النبي بالزنا، فأمر أن يضرب مائة بأثكال (2) النخل (3).
مسألة 19: إذا شهد عليه أربع شهود بالزنا، فكذبهم، أقيم عليه الحد بلا خلاف. وإن صدقهم أقيم عليه الحد. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: لا يقام عليه الحد، لأنه يسقط حكم الشهادة مع الاعتراف، وبالاعتراف دفعة واحدة لا يقام عليه الحد (5).
دليلنا: عموم الأخبار (6) التي وردت في وجوب إقامة الحد إذا قامت عليه البينة أربعة، ولم يفصلوا.
مسألة 20: إذا وجد الرجل على فراشه امرأة فظنها زوجته، فوطأها، لم يكن عليه الحد. وبه قال الشافعي (7).
وقال أبو حنيفة عليه الحد (8).
ص: 380
وقد روى ذلك أصحابنا (1).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 21: إذا أقر الأخرس بالزنا بإشارة مقبولة، لزمه الحد. وكذلك إذا أقر بقتل العمد، لزمه القود. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة لا يلزمه الحد ولا القتل (3).
دليلنا: عموم الأخيار (4) الواردة في أن المقر بالزنا وبالقتل يجب عليه الحد والقود، والأخرس إذا أقر بالإشارة سمي ذلك إقرارا. ألا ترى أنه لو أقر بمال لغيره لزمه ذلك بلا خلاف، ولا خلاف أيضا أنه يصح طلاقه.
مسألة 22: إذا لاط الرجل فأوقب، وجب عليه القتل، والإمام مخير بين أن يقتله بالسيف أو يرمي عليه حائطا أو يرمى به من موضع عال، وإن كان دون الإيقاب فإن كان محصنا وجب عليه الرجم، وإن كان بكرا وجب عليه مائة جلدة.
وقال الشافعي في أحد قوليه: إن حكمه حكم الزاني، يجلد إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا (5). وبه قال الزهري، والحسن البصري، وأبو يوسف، ومحمد (6).
ص: 381
والقول الآخر: أنه يقتل بكل حال كما قلناه. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق إلا أنهم لم يفصلوا (1).
وقال أبو حنيفة: لا يجب به الحد، وإنما يجب به التعزير (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال:
من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به (4).
وروي ذلك عن أبي بكر، وابن عباس (5).
وروي مثل ذلك عن علي عليه السلام (6)، ولا مخالف لهم فيه.
مسألة 23: إذا أتى بهيمة، كان عليه التعزير دون الحد. وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة (7).
ص: 382
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدها مثل ما قلناه، والثاني مثل الزنا، والثالث مثل اللواط (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، وليس على ما قالوه دليل.
مسألة 24: إذا شهد أربعة شهود على رجل بالزنا بامرأة، فشهد اثنان أنه أكرهها، وآخران أنها طاوعته.
قال الشافعي: إنه لا يجب عليه الحد (2)، وهو الأقوى عندي.
وقال أبو حنيفة: عليه الحد. وبه قال أبو العباس (3).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الحد يحتاج إلى دليل. وأيضا الشهادة لم تكمل بفعل واحد، وإنما هي شهادة على فعلين، لأن الزنا طوعا غير الزنا كرها.
مسألة 25: إذا ملك الرجل ذات محرم له بنسب أو رضاع، فوطأها مع
ص: 383
العلم بتحريم الوطء عليه، لزمه الحد على كل حال.
وقال الشافعي: لزمه الحد في أحد القولين وأصحهما، والقول الآخر لا حد عليه. وبه قال أبو حنيفة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، فإن قيل: هذا وطء صادف ملكا، فكان شبهة. قلنا: لا نسلم ذلك، لأنه متى ملكها انعتقت في الحال، ولم يستقر حتى يطأها بعد ذلك في الملك.
مسألة 27: إذا كان الزانيان كاملين، بأن يكونا حرين، بالغين، عاقلين فقد أحصنا، وإن كانا ناقصين بأن يفقد الشرائط فيهما لم يحصنا بلا خلاف، وإن كان أحدهما كاملا والآخر ناقصا، فإن كان النقص بالرق فالكامل قد أحصن دون الناقص، وإن كان بالصغر لا يثبت فيهما الإحصان. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال مالك: إن كان النقص رقا لم يثبت الإحصان لأحدهما، وإن كان صغرا أحصن الكامل (2).
وقال الشافعي: إن كان النقص بالرق فالكامل قد أحصن دون الناقص بلا خلاف على مذاهبهم، وإن كان النقص بالصغر ففيه قولان:
قال في الأم: الكامل محصن.
وقال في الإملاء: لا يثبت الإحصان لأحدهما، والمذهب الأول (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وثبوت الإحصان وإيجاب الرجم على ما قالوه يحتاج إلى دليل.
مسألة 28: من وجب عليه الرجم يؤمر بالاغتسال أولا والتكفين، ثم يرجم ويدفن بعد ذلك، بعد أن يصلى عليه، ولا يغسل بعد قتله.
وقال جميع الفقهاء: إنه يغسل بعد قتله ويصلى عليه (5).
ص: 385
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1) لا يختلفون فيه.
مسألة 29: إذا عقد النكاح على ذات محرم له كأمه، وبنته، وأخته، وخالته، وعمته من نسب أو رضاع، أو امرأة ابنه، أو أبيه، أو تزوج بخامسة، أو امرأة لها زوج ووطأها، أو وطئ امرأته بعد أن بانت باللعان، أو بالطلاق الثلاث مع العلم بالتحريم، فعليه القتل في وطء ذات محرم، والحد في وطء الأجنبية. وبه قال الشافعي إلا أنه لا يفصل (2).
وقال أبو حنيفة: لا حد في شئ من هذا، حتى قال: لو استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها لا حد عليه، فإن استأجرها للخدمة فوطأها فعليه الحد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف أنه كان فاحشة " (5) فسماه فاحشة، فإذا ثبت أنه فاحشة، فقد أمر اللّه تعالى بحبس من أتاها، فقال تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم - إلى قوله تعالى - أو يجعل اللّه لهن سبيلا " (6) ثم بين النبي عليه السلام، فقال: خذوا عني، قد جعل اللّه لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب
ص: 386
بالثيب جلد مائة والرجم (1). ثبت أن هذا حكم الفاحشة.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: من وقع على ذات محرم فاقتلوه (2). وهذا وقع عليها.
وروى البراء بن عازب قال: بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء، فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي عليه السلام، إذ أتوا قبة، فاستخرجوا منها رجلا، فضربا عنقه، فسألت عنه، فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه (3). وما فعل القوم هكذا إلا وكان بأمر النبي عليه السلام، أو بعلمه فأقرهم عليه.
مسألة 30: إذا تكاملت شهود الزنا، أربعة شهدوا به ثم ماتوا أو غابوا، جاز للحاكم أن يحكم بشهادتهم، ويقيم الحد على المشهود عليه. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: متى غابوا أو ماتوا لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادتهم (5).
دليلنا: أنه إذا ثبت الحكم بالشهادة جاز تنفيذه مع غيبة الشهود كسائر
ص: 387
الشهادات، ومن قال يسقط فعليه الدلالة.
وأيضا قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (1).
مسألة 31: إذا تكامل شهود الزنا، فقد ثبت الحكم بشهادتهم، سواء شهدوا في مجلس واحد أو في مجالس، وشهادتهم مفترقين أحوط. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن كانوا شهدوا في مجلس واحد ثبت الحكم بشهادتهم، وإن كانوا شهدوا في مجالس فهم قذفه يحدون، والمجلس عنده مجلس الحكم، فإن جلس بكرة ولم يقم إلى العشي فهو مجلس واحد، فإن شهد اثنان فيه بكرة وآخران عشية ثبت الحد، ولو جلس لحظة وانصرف وعاد فهما مجلسان (3).
دليلنا: كل ظاهر ورد بأنه إذا شهد أربعة شهود وجب الحد يتناول هذا الموضع (4)، فإنه لم يفصل.
وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (5) ولم يفصل.
وأيضا: فإذا شهد واحد أولا لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون شاهدا أو قاذفا، فبطل أن يكون قاذفا، لأنه لو كان قاذفا لم يصر شاهدا بإضافة
ص: 388
شهادة غيره إليه، فإذا ثبت أنه ليس بقاذف ثبت أنه يكون شاهدا، وإذا كان شاهدا لم يكن قاذفا بتأخر شهادة غيره من مجلس إلى مجلس آخر.
مسألة 32: إذا حضر أربعة ليشهدوا بالزنا، فشهد واحد أو ثلاثة ولم يشهد الرابع، لم يثبت على المشهود عليه بالزنا، لأن الشهادة ما تكاملت بلا خلاف، ومن لم يشهد لا شئ عليه أيضا بلا خلاف، ومن شهد فعليه الحد حد القذف.
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في أحد قوليه في القديم والجديد (1).
وقال في الشهادات لا يجب الحد، وهي المشهورة بالقولين، والأول أظهر في الآية، والثاني أقيس (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا ففيه إجماع الصحابة روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر، ولا مخالف لهما.
أما علي عليه السلام فروي: أن أربعة أتوه ليشهدوا على رجل بالزنا، فصرح ثلاثة، وقال الرابع رايتهما تحت ثوب، فإن كان ذلك زنا فهو ذلك (4).
وأما عمر، فالقصة مشهورة وهو: أنه استخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، وكن نازلا في أسفل الدار، ونافع، وأبو بكرة، وشبل بن معبد (5)، وزياد في علوها، فهبت ريح، ففتحت باب البيت، ورفعت الستر، فرأوا المغيرة
ص: 389
بين رجلي امرأة، فلما أصبحوا تقدم المغيرة ليصلي، فقال له أبو بكرة تنح عن مصلانا، فبلغ ذلك عمر، فكتب أن يرفعوا إليه، وكتب إلى المغيرة: قد يحدث عنك بما إن كان صدقا فلو كنت مت من قبله لكان خيرا لك، فاشخصوا إلى المدية، فشهد نافع وأبو بكرة وشبل بن معبد، فقال عمر: أودى (1) المغيرة الأربعة، فجاء زياد ليشهد، فقال عمر: هذا رجل لا يشهد إلا بالحق إن شاء اللّه، فقال: أما بالزنا فلا أشهد، ولكني رأيت أمرا قبيحا، فقال عمر: اللّه أكبر. وجلد الثلاثة، فلما جلد أبو بكرة، فقال أشهد أن المغيرة زنا فهم عمر بجلده، فقال له علي عليه السلام: إن جلدته فارجم صاحبك - يعني المغيرة - (2).
فموضع الدلالة أن هذه قصة ظهرت واشتهرت، ولم ينكر ذلك أحد.
وقيل في تأويل قول علي عليه السلام لعمر: (إن جلدت أبا بكرة ثانيا فارجم صاحبك) تأويلان:
أصحهما أن معناه إن كانت هذه شهادة غير الأولى، فقد كملت الشهادة أربعا (فارجم صاحبك) يعني إنما أعاد ما شهد به فلا تجلده بإعادته.
والثاني معناه أن جلده لا يجوز، كما أن رجم المغيرة لا يجوز، فإن جلدته - وجلده لا يجوز - فارجم صاحبك (3)، والأول أصح.
فإن الساجي نقل القصة وقال: قال علي عليه السلام: إن جعلت شهادته بمنزلة شهادة رجلين فارجم صاحبك (4).
ومن قال: لا حد عليهم، استدل بقوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات
ص: 390
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) فأخبر أن القاذف من إذا لم يأت بأربعة شهداء حد، وهذا ليس منهم، فإنه لا يحد إذا أتى بأقل منهم، وهو إذا شهد معه ثلاثة، فكل من خرج من قذفه بأقل من أربعة شهود لم يكن قاذفا.
مسألة 33: إذا شهد الأربعة على رجل بالزنا، فردت شهادة واحد منهم، فإن ردت بأمر ظاهر لا يخفى على أحد، فإنه يجب على الأربعة حد القذف، وإن ردت بأمر خفي لا يقف عليه إلا آحادهم، فإنه يقام على المردود الشهادة الحد، والثلاثة لا يقام عليهم الحد.
وقال الشافعي: إن ردت شهادته بأمر ظاهر فعلى قولين في الأربعة:
أحدهما: يقام عليهم الحد.
والثاني: لا يقام عليهم الحد.
وإن ردت شهادته بأمر خفي، فالمردود الشهادة لا حد عليه وهو المذهب، والثلاثة فالمذهب أنه لا حد عليهم، ومن أصحابه من قال على قولين (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على أنه يجب على هؤلاء الحد، وأيضا: فإنهم غير مفرطين في إقامة الشهادة، فإن أحدا لا يقف على بواطن الناس، فكان عذرا في إقامتها، فلهذا لا حد، ويفارق إذا كان الرد بأمر ظاهر، لأن التفريط كان منهم، فلهذا حدوا.
والدليل على أن مع الرد بأمر ظاهر يجب الحد، قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (3) وهذا ما أتى بأربعة شهداء، لأن من كان ظاهره ما يوجب الرد لا يكون شاهدا.
ص: 391
مسألة 34: إذا شهد أربعة، ثم رجع واحد منهم، فلا حد على المشهود عليه بلا خلاف، وعلى الراجع الحد أيضا بلا خلاف. وأما الثلاثة فلا حد عليهم.
وللشافعي فيه قولان (1)، المنصوص عليه مثل ما قلناه.
وقال بعض أصحابه: هذا أيضا على قولين (2).
وقال أبو حنيفة: عليهم الحد (3).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (4) وهذا أتى بأربعة شهداء، ورجوع واحد منهم لا يؤثر فيما ثبت.
وأيضا الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليهم الحد فعليه الدلالة.
مسألة 35: إذا شهد أربعة، فرجم المشهود عليه، ثم رجع واحد أو الأربعة، وقال الراجع عمدت قتله، كان عليه الحد والقود. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: لا قود عليه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (7).
وأيضا روي عن علي عليه السلام: أنه شهد عنده شاهدان على رجل أنه سرق، فقطعه، فأتياه بآخر، وقالا: هذا الذي سرق، وأخطأنا على الأول. فقال علي عليه السلام: لو علمت أنكما تعمدتها لقطعتكما (8). ولم ينكر عليه أحد
ص: 392
ذلك، ثبت أنه إجماع.
مسألة 36: إذا استكره امرأة على الزنا فلا حد عليها بلا خلاف، وعليه الحد، ولا مهر لها. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: لها مهر مثلها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3). وأيضا أن الأصل براءة الذمة فمن شغلها فعليه الدلالة.
وروى الحجاج بن أرطاة، عن عبد الجبار بن وائل بن حجر (4)، عن أبيه:
أن امرأة استكرهت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فدرأ النبي عليه السلام عنها الحد، وحد الذي أصابها (5). ولم ينقل أنه جعل لها مهرا، فلو كان واجبا أوجبه لها.
وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى عن مهر البغي (6).
وروي: البغاء.
ص: 393
والبغاء: الزنا، والبغي: الزانية (1).
مسألة 37: إذا زنا العبد أو الأمة، فعلى كل واحد منهما نصف ما على الحر خمسون جلدة، تزوجا أو لم يتزوجا. وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي (2).
وقال ابن عباس: إن كانا قد تزوجا، فعلى كل واحد منهما نصف الحد، وإن لم يكونا تزوجا، فلا شئ عليهما (3).
ومن الناس من قال: العبد كالحر، يرجم إن كان ثيبا، ويجلد مائة إن كان بكرا (4).
وقال داود: أما العبد فيجلد مائة، وأما الأمة فإن كانت تزوجت فعليها نصف الحد خمسون، وإن لم تكن تزوجت ففيه روايتان:
إحداهما: تجلد مائة.
والثاني: لا تجلد أصلا (5). وإنما اختلفت الرواية عنه هاهنا، لأن قوله:
" فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (6) يعني إذا تزوجن.
ص: 394
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وأيضا الأصل براءة الذمة، فمن أوجب أكثر مما قلناه فعليه الدلالة.
وأيضا قوله تعالى: " فإذا أحصن " بفتح الألف: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (2) معناه أسلمن.
فإذا قالوا: قد قرأت الآية بضم الألف (أحصن) يعني: تزوجن، دل على أنه إذا لم يتزوجن لا شئ عليهن.
قلنا: هذا دليل الخطاب، ولا نقول به، ولو سلمنا لجمعنا بينهما، فقلنا: إذا أحصن يعني أسلمن فعليهن ذلك، وإذا أحصن أيضا فعليهن مثل ذلك، فلا تنافي بينهما.
وروى أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني (3): أن النبي سئل عن أمة زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير.
قال الزهري: ولا أدري قال: بيعوها بعد الثالثة أو الرابعة.
والضفير: الحبل (4).
مسألة 38: السيد يقيم الحد على ما ملكت يمينه بغير إذن الإمام، سواء كان عبدا أو أمة، مزوجة كانت الأمة أو غير مزوجة. وبه قال ابن مسعود،
ص: 395
وابن عمر، وأبو بردة، وفاطمة، وعائشة، وحفصة. وفي التابعين الحسن البصري، وعلقمة، والأسود (1). وفي الفقهاء الأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (2).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس له ذلك، والإقامة إلى الأئمة فقط (3).
وقال مالك: إن كان عبدا أقام عليه السيد الحد، وإن كانت أمة ليس لها زوج فمثل ذلك، وإن كان لها زوج لم يقم عليها الحد، لأنه لا يد له عليها (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وأيضا روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم (6).
وروى سعيد بن أبي سعيد المقري، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي عليه السلام قال: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها، فإن زنت فليجلدها، فإن زنت
ص: 396
فليبعها ولو بضفير (1).
وروي عن ابن مسعود: أن رجلا سأله عن عبد له زنا، فقال: اجلده (2).
وروي عن ابن عمر: أن أمة له زنت فجلدها، ونفاها إلى فدك (3).
وروي: أن عبدا لابن عمر سرق، فأبق، فسأل الوالي أن يقطعه، فلم يفعل، فقطعه هو (4).
وأبو هريرة جلد وليدة له زنت.
وفاطمة عليها السلام جلدت أمة لها.
وعن عائشة أن أمة لها سرقت فقطعتها.
وعن حفصة: أنها قتلت مهيرة لها سحرتها.
وهو قول هؤلاء الستة، ولا مخالف لهم في الصحابة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وعموم قوله عليه السلام: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم (2). وإجماع الصحابة قد قدمناه في ذلك.
مسألة 40: يقيم السيد الحد على مملوكه باعترافه، وبالبينة، وبعلمه.
ووافقنا الشافعي في الاعتراف قولا واحدا (3).
وفي البينة على قولين، وكذلك في العلم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم. وأيضا عموم الأخبار التي وردت بإقامة الحد على المماليك يتناول كل وجه يثبت به ذلك (5).
مسألة 41: إذا كان السيد فاسقا أو مكاتبا أو امرأة، كان له إقامة الحد على مملوكه.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: ليس له ذلك، لأن الفسق يمنع منه (6).
دليلنا: عموم الأخبار (7) التي وردت بأن للسيد إقامة الحد على مملوكه، ولم يفصل.
ص: 398
مسألة 42: إذا وجد رجل قتيلا في دار لرجل، فقال صاحب الدار:
وجدته يزني بامرأته، فإن كان معه بينة لم يجب عليه القود، وإن لم يكن معه بينة فالقول قول ولي الدم، سواء كان الرجل معروفا بذلك أو لم يكن معروفا به بلا خلاف، وإن قال صاحب الدار قتلته دفعا عن نفسي ومالي، لأنه دخل لصا ليسرق المتاع، فإن كان معه بينة وإلا فالقول قول ولي الدم، سواء كان الرجل معروفا باللصوصية أو لم يكن. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إن كان معروفا باللصوصية فالقول قول القاتل، لأن الظاهر معه (2).
دليلنا: ما رواه ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (3). وفي بعضها: على من أنكر (4).
مسألة 43: إذا شهد اثنان أنه زنا بالبصرة، واثنان أنه زنا بالكوفة، فلا حد على المشهود عليه بلا خلاف، وعلى الشهود الحد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه (5).
ص: 399
والثاني: لا يحدون. وبه قال أبو حنيفة (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (2) وهؤلاء لم يأتوا بأربعة شهداء، لأن كل اثنين يشهدان على فعل غير الفعل الذي شهد الآخران عليه.
مسألة 44: إذا شهد أربعة على رجل أنه زنا في هذا البيت، وأضاف كل واحد منهم شهادته إلى زاوية منه مخالفة للأخرى، فإنه لا حد على المشهود عليه، ويحدون، وكذلك إن شهد اثنان على زاوية وشهد آخران على زاوية أخرى، لا يختلف الحكم فيه. ووافقنا الشافعي في سقوط الحد عن المشهود عليه، وقال في الحد عليهم قولان (3).
وقال أبو حنيفة: القياس أنه لا حد على المشهود عليه، لكن أجلده مائة إن كان بكرا، وارجمه إن كان ثيبا استحسانا (4).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء، من أن الشهادة ما اتفقت على فعل واحد، لأن الفعل في زاوية مضاد للفعل في زاوية أخرى، فإذا اختلف الشهادة لا يجب الحكم بها.
وقولهم أنه يمكن أن تلفق شهادتهم، لأنه يحتمل أن يكونا تقلبا على ذلك الفعل، مرة من زاوية إلى أخرى حتى دارا في زوايا البيت في كل البيت، فكل شاهد شاهدهما في زاوية باطل بمسألتين.
إحداهما: إذا شهد اثنان أنه زنا بها في الصفة، وآخران أنه زنا بها في صحن
ص: 400
الدار، فإنه يمكن حملها على ما قالوه، ومع هذا فلا خلاف في أنها لا تلفق.
والأخرى إذا شهد اثنان أنه زنا بها في وقت الظهر، وآخران أنه زنا بها في وقت العصر، فإنه يمكن حملها على الالفاق، وقد اتفقنا على أنه لا يجب ذلك.
والقول في أنهما إذا شهدا على أنه زنا بها وعليه جبة صوف، وآخران شهدا أنه زنا بها وعليه قميص، مثل ما قلناه سواء.
مسألة 45: إذا شهد أربعة بالزنا، قبلت شهادتهم، سواء تقادم الزنا أو لم يتقادم. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا شهدوا بزنا قديم لم تقبل شهادتهم (2).
وقال أبو يوسف: جهدنا بأبي حنيفة أن يوقت في التقادم شيئا فأبى (3).
وحكى الحسن بن زياد، ومحمد، عن أبي حنيفة: أنهم إذا شهدوا بعد سنة لم تجز (4).
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا شهدوا بعد شهرين من حين المعاينة لم يجز (5).
وفي الجملة إذا لم يقيموها عقيب تحملها لم تقبل.
دليلنا: قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
ص: 401
جلدة " (1) وأيضا قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (2) ولم يفرق بين الفور والتراخي، دل على أنهم إذا أتوا بالشهود لم يجب عليهم الحد، وإذا لم يجب عليهم الحد وجب الحد بشهادتهم، لأن أحدا لا يفرق.
مسألة 46: ليس من شرط إحصان الرجم الإسلام، بل شرطه الحرية، والبلوغ، وكمال العقل، والوطء في نكاح صحيح. فإذا وجدت هذه الشرائط فقد أحصن إحصان رجم. وهكذا إذا وطئ المسلم امرأته الكافرة، فقد أحصنا، وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: إن كانا كافرين لم يحصن واحد منهما صاحبه، لأن أنكحة المشركين فاسدة عنده، وإن كان مسلما وطئ كافرة فقد أحصنا معا، لأن هذا النكاح صحيح (4).
وقال أبو حنيفة: الإسلام شرط في إحصان الرجم، فإن كانا كافرين لم يحصنا، وإن كان مسلما وطئ زوجته الكافرة لم يحصنا معا، ولم يجب عليهما الرجم بالزنا (5).
فالكلام معه في فصلين: هل يجب الرجم على المشركين أم لا؟ وفي الإسلام هل هو شرط في الإحصان أم لا؟ دليلنا: على بطلان قول مالك، قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب - إلى
ص: 402
قوله -: وامرأته حماد الحطب " (1) فأضافها اللّه إليه بالزوجية. وأيضا عليه إجماع الفرقة وقد مضت.
وأما الدليل على وجوب الرجم، إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا روى عبادة بن الصامت: أن النبي عليه السلام قال: خذوا عني، قد جعل اللّه لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (3). ولم يفصل بين مسلم ومشرك.
وروى ابن عمر: أن النبي عليه السلام رجم يهوديين زنيا (4).
وفيه دليلان: أحدهما: رجم اليهودي، وعند أبي حنيفة لا يرجم اليهود.
والثاني: لما رجمهما دل على أنهما قد أحصنا فإنه لا يرجم إلا محصنا.
وروى ابن المسيب عن أبي هريرة: أن يهودين أقرا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالزنا، وكانا قد أحصنا فرجمهما (5). وهذا صريح في الرجم والاحصان.
مسألة 47: إذا قذف العبد محصنا، وجب عليه الحد ثمانون جلدة مثل حد الحر سواء. وبه قال عمر بن عبد العزيز، والزهري (6).
ص: 403
وقال جميع الفقهاء حده أربعون جلدة (1).
ورووا ذلك عن أبي بكر وعمر (2).
دليلنا: قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (3) ولم يفرق. وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 48: إذا قذف جماعة، واحدا بعد واحد، كل واحد بكلمة مفردة، فعليه لكل واحد منهم الحد. وبه قال الشافعي قولا واحدا (5).
وإن قذفهم بكلمة واحدة، فقال: زنيتم، أو أنتم زناة. روى أصحابنا أنهم إن جاؤوا به مجتمعين فعليه حد واحد لجميعهم، وإن جاؤوا به متفرقين كان لكل واحد منهم حد كامل (6).
ص: 404
وللشافعي فيه قولان: قال في القديم عليه حد واحد لجماعتهم، وفي الجديد عليه لكل واحد حد كامل. ولم يفصل (1).
وقال أبو حنيفة عليه لجماعتهم حد واحد، سواء قذفهم بكلمة واحدة، أو أفرد كل واحد منهم بكلمة القذف (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
فإن قالوا: قال اللّه تعالى: " والذين يرمون المحصنات " (4) ثم قال:
" فاجلدوهم ثمانين جلدة " (5) فأوجب بقذف جماعة المحصنات ثمانين جلدة.
قلنا: لا دلالة فيها، لأن المراد بذلك كل واحدة من المحصنات، ألا ترى أنه قال: " الذين يرمون المحصنات " (6) فجمع لفظ القاذف، والمراد به كل واحد منهم، فكذلك القول في المقذوف.
مسألة 49: إذا قال: زنيت بفلانة، أو قال: زنا بك فلان، وجب عليه حدان.
وقال أبو حنيفة: يجب عليه حد واحد. وبه قال الشافعي في القديم (7).
ص: 405
وقال في الجديد: فيها قولان:
أحدهما: حدان كما قلناه، كما لو قال: زنيتما.
والآخر: حد واحد (1).
مسألة 50: إذا قال الرجل: يا بن الزانيين، وجب عليه حدان لأبويه، فإن كان حيين استوفيا، وإن كان ميتين استوفاه ورثتهما.
وقال أبو حنيفة: عليه حد واحد (2)، وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، وهو قوله في الجديد.
والثاني: حد واحد، قاله في القديم (3).
دليلنا: أنه نسب كل واحد من الأبوين إلى الزنا، فوجب لكل واحد منهما الحد كاملا، كما لو أفرد كل واحد منهما، وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
أحدها: مثل ما قلناه.
والثاني: يرثه العصبات من الرجال فقط.
والثالث: وهو المذهب أنه يرثه كل من يرث المال من النساء والرجال، من ذوي الأنساب والأسباب، يعني الزوجة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وقد مضت في اللعان.
مسألة 52: إذا قذف رجلا، ثم اختلفا، فقال المقذوف أنا حر فعليك الحد، وقال القاذف أنت عبد فعلي التعزير، كان القول قول القاذف.
وقال الشافعي: في كتبه مثل ما قلناه في القاذف (3)، وقال في الجنايات القول قول المجني عليه (4).
واختلف أصحابه على طريقين، منهم من قال المسألتان على قولين:
أحدهما: القول قول القاذف.
والثاني: القول قول المجني عليه، وهو المقذوف، ومنهم من قال القول قول القاذف في القذف، والقول قول المجني عليه في الجناية (5).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة للقاذف، ولا تشغل، ولا يوجب عليها شئ إلا بدليل.
مسألة 53: من لم تكمل فيه الحرية إذا قذفه قاذف جلد بحساب الحرية، ويعزر بحساب الرق.
وقال الشافعي: عليه التعزيز لا غير (6).
ص: 407
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (1).
ص: 409
ص: 410
مسألة 1: النصاب الذي يقطع به ربع دينار فصاعدا، أو ما قيمته ربع دينار، سواء كان درهما أو غيره من المتاع. وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وعائشة (1) وفي الفقهاء الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي (2).
وقال داود وأهل الظاهر: يقطع بقليل الشئ وكثيره، وليس لأقله حد.
وبه قال الخوارج (3).
وقال الحسن البصري القطع في نصف دينار فصاعدا. وبه قال ابن
ص: 411
الزبير (1).
وقال عثمان البتي: القطع في درهم واحد فصاعدا (2).
وقال زياد بن أبي زياد (3): القطع في درهمين فصاعدا (4).
وقال مالك النصاب الذي يقطع به أصلان الذهب والفضة، فنصاب الذهب ربع دينار، ونصاب الفضة ثلاثة دراهم، أيهما سرق قطع من غير تقويم، وإن سرق غيرهما قوم بالدراهم، فإن بلغ ثلاثة دراهم قطع (5).
فخالفنا في فصلين، جعل أصلين، وقوم بالدراهم.
وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري: القطع في أربعة دراهم فصاعدا (6).
وقال النخعي: القطع في خمسة دراهم فصاعدا. وهو إحدى الروايتين عن
ص: 412
عمر (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: القطع في عشرة دراهم فصاعدا، فإن سرق من غيرها قوم بها.
فخالفنا في فصلين، في أصل النصاب، وفيما يقوم به (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وروى سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمان (4)، عن عائشة: أن النبي عليه السلام قال: القطع في ربع دينار فصاعدا (5).
ودليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (6) والظاهر من هذا يقتضي أن من يقع عليه اسم السرقة يجب عليه القطع إلا ما أخرجه الدليل.
ص: 413
فإن استدلوا بما روي أن النبي عليه السلام قطع من سرق مجنا قيمته عشرة دراهم (1).
عورضوا بما روي أنه كان قيمته ثلاثة دراهم (2)، فإذا تعارضا سقطا. على أنا لو سلمنا الخبر لما نافى ما قلناه، لأن من يقول يقطع بربع دينار أو ثلاثة دراهم، يقول يقطع بعشرة دراهم، والخبر تضمن أن المجن كان قيمته عشرة دراهم، وليس فيه أنه لا يقطع بأقل منها.
مسألة 2: إذا سرق ربع دينار من هذه الدنانير المعروفة المنقوشة، وجب القطع بلا خلاف بيننا وبين الشافعي. وإن كان تبرأ من ذهب المعادن الذي يحتاج إلى سبك وعلاج فلا قطع، وإن كان ذهبا خالصا غير مضروب يقطع عندنا، وعنده على وجهين، المذهب أنه يقطع (3).
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يقطع، لأن إطلاق الدينار لا يصرف إليه حتى يكون مضروبا، ولأن التقويم لا يقع به (4).
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت في أن القطع في ربع دينار (5) ولم يفصل،
ص: 414
وما قاله الشافعي من القول الآخر قوي، ويقويه أن الأصل براءة الذمة، والأول يقويه ظاهر الآية، وقوله أن إطلاق ذلك لا يصرف إلا إلى المضروب غير مسلم.
مسألة 3: إذا سرق ما قيمته ربع دينار، وجب القطع، سواء كان مما هو محرز بنفسه كالثياب والأثمار والحبوب اليابسة ونحوها، أو غير محرز بنفسه، وهو ما إذا ترك فسد، كالفواكه الرطبة كلها من الثمار والخضراوات والقثاء والخيار والبطيخ والبقل والباذنجان ونحو ذلك، أو كان طبيخا أو لحما طريا أو مشويا الباب واحد. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إنما يجب القطع فيما كان محرزا بنفسه، فأما الأشياء الرطبة والبطيخ فلا قطع فيه بحال (2).
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت أن القطع فيما كان قيمته ربع دينار (3).
وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد اللّه بن عمرو: أن النبي عليه السلام سئل عن التمر المعلق؟ فقال: من سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين (4)، فبلغ ثمن المجن، ففيه القطع (5). فأوجب على من سرق من التمر
ص: 415
نصابا فيه القطع، وفيه إجماع الصحابة.
روي: أن سارقا سرق أترجة في عهد عثمان، فأمر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما، بدينار فقطع عثمان يده، وقال مالك وهي الأترجة التي يأكلها الناس (1).
وعن ابن عمر أنه قال: لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين (2)، ولا مخالف لهما.
فإن عارضونا بقوله عليه السلام: لا قطع في ثمر ولا كثر (3).
والكثر: الجمار (4).
قلنا: يحمل ذلك على أنه إذا لم يكن في حرز بدليل ما تقدم.
مسألة 4: كل جنس يتمول في العادة فيه القطع، سواء كان أصله الإباحة أو غير الإباحة، فما لم يكن على الإباحة كالثياب والأثاث والحبوب، وما أصله الإباحة من ذلك الصيود على اختلافها إذا كانت مباحة، وكذلك الجوارح المعلمة، وكذلك الخشب كله، الحطب وغيره، الساج وغيره الباب واحد،
ص: 416
وكذلك الطين وجميع ما يعمل منه من الخزف والظروف والأواني والزجاج، وجميع ما يعمل منه والحجر، وجميع ما يعمل منه من القدور، وكذلك كل ما يستخرج من المعادن كالقير والنفط والموميائي والملح، وجميع الجواهر من اليواقيت وغيرها، وكذلك الذهب والفضة، كل هذا فيه القطع، وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: ما لم يكن أصله الإباحة مثل قولنا، وما كان أصله الإباحة في دار الإسلام فلا قطع فيه، وقال لا قطع في الصيود كلها، والجوارح بأسرها، المعلمة وغير المعلمة، والخشب جميعه لا قطع فيه إلا ما يعمل منه آنية كالجفان والقصاع والأبواب، فيكون في معموله القطع إلا الساج فإن فيه القطع معموله وغير معموله، لأنه ليس من دار الإسلام (2).
وعنه في الزجاج روايتان إحداهما لا قطع فيه كالخشب والقصب، والثانية فيه القطع كالساج.
وكلما يعمل من الطين من الخزف والفخار والقدور وغيرها من الأواني لا قطع فيه، وهكذا كلما كان من المعادن كالملح والكحل والزرنيخ والقير والنفط والموميائي كله لا يقطع فيه، إلا الذهب والفضة والياقوت والفيروزج فإن فيها القطع، قال لأن جميع ذلك على الإباحة في دار الإسلام، فلا يجب فيه القطع كالماء (3).
ص: 417
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (1) ولم يفرق.
وروت عايشة أن النبي عليه السلام قال: القطع في ربع دينار فصاعدا (2) وإنما أراد قيمته بلا خلاف.
مسألة 5: لا قطع إلا على من سرق من حرز، فيحتاج إلى الشرطين:
السرقة، والحرز. فإن سرق من غير حرز فلا قطع، ولو انتهب من حرز فلا قطع عليه. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي (3).
وقال داود لا اعتبار بالحرز، فمتى سرق من أي موضع كان فعليه القطع (4) فاسقط اعتبار النصاب والحرز.
وقال أحمد إذا سرق فعليه القطع، وكذلك المنتهب، والمختلس، والخائن في وديعة أو عارية، وهو أن يجحد ذلك فعليه القطع (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وما اعتبرناه
ص: 418
مجمع على وجوب القطع به، وما قالوه ليس عليه دليل.
وروى جابر أن النبي عليه السلام قال: ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا على الخائن قطع (1). وهذا نص على أحمد.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن حريسة الجبل؟ قال: ليس في الماشية قطع إلا أن يؤويها المراح، ولا في التمر قطع إلا أن يؤويه الجرين (2) فاسقط النبي عليه السلام القطع في الماشية قبل المراح وأثبت فيها بعد المراح وعند داود لا يختلف الحال فيه.
واختلف في تأويل الحريسة، منهم من قال: حريسة الجبل معناه سرقة الجبل، يقال: حرس إذا سرق، وسمي السارق حارسا. ومنهم من قال محروسة الجبل، يقال: محروسة وحريسة، كما يقال: مقتولة وقتيلة (3).
مسألة 6: كل موضع كان حرزا لشئ من الأشياء، فهو حرز لجميع الأشياء. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: يختلف ذلك باختلاف الأشياء، فحرز البقل وما أشبهه من دكاكين البقالين تحت الشريحة المقفلة، وحرز الذهب والفضة والثياب وغيرها من المواضع الحريزة من البيوت والدور إذا كانت عليه أقفال وثيقة،
ص: 419
فمن ترك الجواهر أو الذهب أو الفضة في دكان البقل فقد ضيع ماله، لأنه ليس في حرز مثله (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2) وظاهره يقتضي قطع كل سارق إلا من أخرجه الدليل.
وأيضا أن النبي عليه السلام قطع من سرق رداء صفوان من تحت رأسه في المسجد، وإن كان المسجد ليس بحرز، وهذا الموضع أحرز منه (3).
مسألة 7: الإبل إذا كانت مقطرة، وكان سائقا لها، فهي في حرز بلا خلاف. وإن كان قائدا لها فلا تكون في حرز إلا الذي زمامه بيده. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: تكون في حرز بشرطين، أحدهما أن تكون بحيث إذا التفت إليها شاهدها كلها. والثاني أن يكون مع الالتفات إليها مراعيا لها (5).
دليلنا: إن كون ذلك حرزا يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك.
مسألة 8: إذا نقب ثلاثة، ودخلوا، وأخرجوا بأجمعهم متاعا، فبلغ نصيب كل واحد منهم نصابا، قطعناهم بلا خلاف. وإن كان أقل من نصاب فلا قطع، سواء كانت السرقة ثقيلة أو خفيفة. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ص: 420
والشافعي (1).
وقال مالك إن كانت السرقة ثقيلة فبلغت قيمتها نصابا قطعناهم كلهم (2) وإن كانت خفيفة ففيه روايتان، إحداهما كقولنا، والثانية كقوله في الثقيلة (3).
وروى أصحابنا أنه إذا بلغت السرقة نصابا واخرجوا بأجمعهم، وجب عليهم القطع. ولم يفصلوا، والأول أحوط (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5) وأيضا فما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به، وما ذكروه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 9: إذا نقب ثلاثة، وأخرج كل واحد منهم شيئا، قوم، فإن بلغ قيمته نصابا وجب قطعه، وإن نقص لم يقطع. وبه قال الشافعي ومالك (6).
ص: 421
وقال أبو حنيفة: أجمع ما أخرجوه وأقومه، ثم أفض على الجميع، فإن أصاب كل واحد منهم نصابا قطعته، وإن نقص لم أقطعه (1).
دليلنا: إن ما ذكرناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 10: إذا نقب ثلاثة، وكوروا المتاع، وأخرج واحد منهم دون الباقين فالقطع على من أخرج المتاع دون من لم يخرج. وبه قال مالك والشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: أفض السرقة على الجماعة، فإن بلغت حصة كل واحد نصابا قطعت الكل، وإن نقصت عن نصاب القطع لم أقطع واحدا منهم (3).
دليلنا: إن ما اعتبرناه مجمع على قطعه، لأنه أخرج نصابا كاملا، وما قالوه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 11: إذا نقبا معا، فدخل أحدهما فأخذ نصابا، فأخرجه بيده إلى رفيقه، فأخذه رفيقه ولم يخرج هو من الحرز، أو رمى به من داخل وأخذه رفيقه من خارج، أو أخرج يده إلى خارج الحرز والسرقة فيها، ثم رده إلى الحرز فالقطع في هذه المسائل الثلاثة على الداخل دون الخارج. وبه قال الشافعي (4).
ص: 422
وقال أبو حنيفة: لا يقطع واحد منهما (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2) وهو على عمومه إلا ما أخرجه الدليل.
مسألة 12: إذا نقبا معا، ودخل أحدهما فقرب المتاع إلى باب النقب من داخل، فأدخل الخارج يده وأخذه من جوف الحرز، فعليه القطع دون الداخل.
وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا قطع على واحد منهما (4).
دليلنا: الآية (5)، وهي على عمومها إلا ما أخرجه الدليل، وأيضا فإنه أخذ متاعا من حرز، وشارك غيره في هتكه، فكان عليه القطع كما لو دخل فأخرجه.
مسألة 13: إذا نقب وحده، ودخل فأخرج ثمن دينار، ثم عاد من ليلته أو من الليلة الثانية فأخرج ثمن دينار آخر، فكمل النصاب، فلا قطع عليه. وبه قال أبو إسحاق المروزي (6).
ص: 423
وقال ابن سريج: عليه القطع (1).
وقال ابن خيران: إن عاد بعد أن اشتهر في الناس هتك الحرز فلا قطع، فإن عاد قبل أن يشتهر هتكه فعليه القطع (2).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وأيضا فإن هذا لما هتك الحرز أخرج أقل النصاب، فلم يجب عليه القطع بلا خلاف بين من راعى النصاب، فلما عاد ثانيا لم يخرج من حرز لأنه كان مهتوكا بالفعل الأول، فلم يكن سارقا من الحرز نصابا، فلم يجب عليه القطع.
ولو لم نقل هذا للزم لو أخرج حبة حبة في كل ليلة حتى كمل النصاب أن يجب عليه القطع، وهذا بعيد.
ولو قلنا: إنه يجب عليه القطع، لأن النبي عليه السلام قال: من سرق ربع دينار فعليه القطع (3)، ولم يفصل كان قويا.
مسألة 14: إذا نقب ودخل الحرز، فذبح شاة، فعليه ما بين قيمتها حية ومذبوحة، فإن أخرجها بعد الذبح فإن كان قيمتها نصابا فعليه القطع، وإن كان أقل من نصاب فلا قطع عليه. وبه قال الشافعي وأبو يوسف (4).
وقال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع عليه بناء على أصلهما في الأشياء الرطبة أنه
ص: 424
لا يقطع فيها (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2) ولم يفصل.
وأيضا قول النبي عليه السلام: من سرق ربع دينار فعليه القطع (3)، وإنما أراد ما قيمته ربع دينار بلا خلاف.
مسألة 15: إذا نقب بيتا، ودخل الحرز فأخذ ثوبا فشقه، فعليه ما نقص بالخرق. فإن أخرجه فإن كانت قيمته نصابا فعليه القطع، وإلا فلا قطع عليه.
وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: إذا شققه بحيث ما صار كالمستهلك، فالمالك بالخيار بين أخذه وأرش النقص وبين تركه عليه وأخذ كمال قيمته، بناء على أصله في الغاصب إذا فعل بالغصب هكذا، فإن اختار أخذ قيمة الكل فلا قطع، لأنه إذا أخذ القيمة فقد ملكه قبل إخراجه من الحرز، وإن اختار أخذ الثوب والأرش وكانت قيمة الثوب نصابا فعليه القطع (5).
دليلنا: ما ذكرناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 16: إذا سرق ما قيمته نصاب، فلم يقطع حتى نقصت قيمته لنقصان السوق فصارت القيمة أقل من نصاب، فعليه القطع. وبه قال الشافعي (6).
ص: 425
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 17: إذا سرق عينا يجب فيها القطع، فلم يقطع حتى ملك السرقة بهبة أو شراء، لم يسقط القطع عنه، سواء ملكها بعد أن ترافعا إلى الحاكم أو قبله، بلى إن كان ملكها قبل الترافع لم يقطع لا لأن القطع مشروط، لكن لأنه لا مطالب له بها، ولاقطع بغير مطالب بالسرقة. وبه قال الشافعي، ومالك، وأبو ثور (2).
وقال أبو حنيفة ومحمد: متى ملكها سقط القطع، سواء ملكها قبل الترافع أو بعده (3).
وعن أبي يوسف روايتان كقولنا وكقولهم (4).
وقال قوم من أصحاب الحديث: إن ملكها قبل الترافع سقط القطع، وإن ملكها بعده قطعناه (5).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (6) ولم يفصل.
ص: 426
وقوله عليه السلام: من سرق ربع دينار فعليه القطع (1). ولم يفصل.
وأيضا ما رواه صفوان بن عبد اللّه بن صفوان: أن صفوان بن أمية قيل له من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان المدينة، ونام في المسجد، وتوسد رداءه، فجاء سارق وأخذ رداءه من تحت رأسه، فجاء به صفوان بن أمية إلى النبي عليه السلام فأمر به النبي عليه السلام أن تقطع يده، فقال صفوان إني لم أرد هذا هو عليه صدقة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: فهلا قبل أن تأتيني به (2).
فموضع الدلالة أن صفوان تصدق بالرداء عليه وملكه إياه، فأخبر النبي عليه السلام أن هذا لا ينفع بعد أن حضرتما عندي، ثبت أن ملك السرقة لا ينفع.
مسألة 18: إذا سرق عبدا صغيرا لا يعقل أنه لا ينبغي أن يقبل إلا من سيده، وجب عليه القطع. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي (3).
وقال أبو يوسف: لا قطع عليه كالكبير (4).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (5) ولم يفرق.
وقول النبي عليه السلام: القطع في ربع دينار (6)، ولم يفصل، لأنه أراد ما
ص: 427
قيمته ربع دينار بلا خلاف، وهذا يساوي أكثر من ربع دينار.
مسألة 19: إذا سرق حرا صغيرا فلا قطع عليه. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي (1).
وقال مالك عليه القطع (2). وقد روى ذلك أصحابنا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أن القطع لا يجب إلا في ربع دينار فصاعدا (4)، والحر لا قيمة له بحال.
وقول النبي عليه السلام: القطع في ربع دينار (5) يدل على ذلك أيضا، لأنه أراد ما قيمته ربع دينار، وهذا لا قيمة له.
مسألة 20: إذا سرق الدفاتر، أو المصاحف، أو كتب الأدب، أو كتب الفقه، أو الأشعار أو غير ذلك وكان قيمته نصابا، وجب فيه القطع. وبه قال الشافعي (6).
ص: 428
وقال أبو حنيفة: لا قطع في شئ من ذلك (1).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2) ولم يفصل.
وقول النبي عليه السلام: القطع في ربع دينار (3)، أي فيما قيمته ربع دينار ولم يفصل.
مسألة 21: إذا سرق ما فيه القطع مع ما لا يجب فيه القطع، وجب قطعه إذا كان قدر نصاب، مثل أن سرق إبريق ذهب فيه ماء، أو قدرا فيها طبيخ، أو مصحفا وعليه حلي، أو فضة وجلده وورقه يساوي نصابا. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: لا قطع في جميع ذلك (5).
دليلنا: الآية (6) وعموم الأخبار (7) ولم يفصل.
مسألة 22: من سرق من ستارة الكعبة ما قيمته ربع دينار وجب قطعه وبه قال الشافعي (8).
ص: 429
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه (1).
دليلنا: الآية (2) والخبر (3)، وهما على عمومهما، وروى أصحابنا أن القائم إذا قام قطع أيدي بني شيبة، وعلق أيديهم على البيت، ونادى مناديه هؤلاء سراق اللّه (4)، ولا يختلفون في ذلك.
وروي أن سارقا سرق قبطية من منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقطعه عثمان (5) ولم ينكر ذلك أحد.
مسألة 23: إذا استعار بيتا، فجعل متاعه فيه، ثم أن المعير نقب البيت وسرق المتاع، وجب قطعه. وبه قال الشافعي وأصحابه (6).
وقال بعض أصحابه: لا قطع عليه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (7).
دليلنا: الآية (8) وعموم الخبر (9) ولم يفصلا.
مسألة 24: إذا اكترى دارا، وجعل متاعه فيها، فنقب المكري وسرق المتاع، فعليه القطع. وبه قال الشافعي وأصحابه، وأبو حنيفة (10).
ص: 430
وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه، لأن القطع بهتك حرز، وأخذ نصاب. ثم ثبت أنه لو كان له في النصاب شبهة لا قطع كذلك إذا كان في الحرز (1).
دليلنا: الآية (2) والخبر (3) ولم يفصلا.
مسألة 25: إن نقب المراح، ودخل وحلب من الغنم ما قيمته ربع دينار، وأخرجه وجب قطعه. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه. بناء على أصله في الأشياء الرطبة (5).
دليلنا: الآية (6) والخبر (7) ولم يفصلا.
مسألة 26: إذا سرق العبد، كان عليه القطع مثل الحر، سواء كان آبقا أو غير آبق وعليه إجماع الصحابة. روي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة. وبه قال الشافعي (8).
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه إن كان آبقا. فأبو حنيفة بناه على أصله في القضاء على الغائب، فقال: إذا كان آبقا كان قطعه قضاء على سيده في
ص: 431
وملكه، والسيد غائب فلا قطع عليه (1).
دليلنا: الآية (2) والخبر (3)، ولم يفصلا.
وروى مالك، عن نافع أن عبدا لابن عمر أبق، فسرق، فبعث به إلى سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة ليقطعه فأبى، فقال ابن عمر: في أي كتاب اللّه وجدت أن الآبق لا يقطع، ثم أمر به ابن عمر فقطع (4).
مسألة 27: روى أصحابنا أن السارق إذا سرق عام المجاعة، لا قطع عليه ولم يفصلوا (5).
وقال الشافعي: إن كان الطعام موجودا مقدورا عليه ولكن بالثمن الغالي فعليه القطع، وإن كان القوت متعذرا لا يقدر عليه، فسرق سارق طعاما، فلا قطع عليه (6).
دليلنا: ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: لا قطع في عام مجاعة (7).
وروي ذلك عن عمر أنه قال: لا قطع في عام مجاعة، ولا قطع في عام
ص: 432
السنة (1). ولم يفصلوا.
مسألة 28: النباش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر إلى وجه الأرض.
وبه قال ابن الزبير، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي. وإليه ذهب حماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، والشافعي، وعثمان البتي، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق (2).
وقال الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، ومحمد: لا يقطع النباش، لأن القبر ليس بحرز، لأنه لو كان حرزا لشئ لكان حرزا لمثله كالخزائن الوثيقة (3).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فقطعوا أيديهما " (4) وهذا سارق.
فإن قالوا: لا نسلم أنه سارق.
ص: 433
قلنا: السارق هو من أخذ شيئا مستخفيا متفزعا، قال اللّه تعالى: " إلا من استرق السمع " (1) وقالت عائشة سارق موتانا كسارق أحيائنا (2).
وقال عليه السلام: القطع في ربع دينار (3). ولم يفصل، وعليه إجماع الفرقة.
وقال عمر بن عبد العزيز: يقطع سارق موتانا كما يقطع سارق أحيائنا (4).
فسموا هؤلاء كلهم النباش سارقا، وهم من أهل اللسان.
وتسمية أهل اللغة النباش بالمختفي (5) لا تمنع من تسميته بالسارق، لأنه لا تنافي بينهما، وإنما قلنا ذلك لأن اسم السرقة اسم عام لكل من تناول الشئ مستخفيا متفزعا، وهو يشتمل على أنواع كثيرة.
فالذي يهتك الحرز وينقب يسمى نقابا (6)، والذي يفتح الأقفال يسمى فتاشا (7)، والذي يبط الجيب يسمى طرارا (8)، والذي يأخذ الأكفان يسمى نباشا ومختفيا. فإذا كان هذا عاما يشتمل على أنواع دخل تحته السارق، كما أن قولنا رطب اسم عام يدخل تحته أنواع كثيرة، وقد روينا عن عائشة وابن الزبير أنهما قالا: سارق موتانا كسارق أحيائنا (9) ولم ينكر عليهما، فدل على أنه إجماع.
ص: 434
فإن قالوا: القبر ليس بحرز.
قلنا: عندنا أنه حرز مثله، ولو فرضنا أن القبر في بيت مقفل عليه وسرق الكفن منه لما وجب عليه القطع عندهم، وإن سرق من الحرز، فبطل اعتبارهم الحرز.
فإن قالوا: الكفن ليس بملك لأحد، فكيف يقطع فيما ليس بملك؟ قيل: في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على حكم ملك الميت، ولا يمتنع أن يكون ملكا له في حياته، وفي حكم ملكه بعد وفاته. ألا ترى أن الدين في ذمته في حياته، وفي حكم الثابت في ذمته بعد وفاته، فكذلك الكفن.
والوجه الثاني: ملك الوارث، والميت أحق به، ولا يمتنع أن يكون الملك لهم والميت أحق به، كما لو خلف تركة وعليه دين، فإن التركة ملك للوارث والميت أحق بها لقضاء دينه، ولهذا قلنا: لو أن سبعا أكل الميت، كان كفنه لوارثه.
والثالث: ليس بملك لأحد، ولا يمتنع أن لا يكون ملكا لأحد، ويتعلق به القطع كستارة الكعبة، وبواري المساجد.
فإذا قيل: ملك للوارث أو في حكم ملك الميت، كان المطالب به هو الوارث، ويقطع النباش.
وإذا قلنا: لا مالك له، كان المطالب هو الحاكم يطالب به ويقطع.
مسألة 29: إذا سرق نصابا من حرز، وجب قطع يده اليمنى، فإن عاد ثانيا قطعت رجله اليسرى، وبه قال جميع الفقهاء (1)، إلا عطاء فإنه قال: تقطع يده
ص: 435
اليسرى (1).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روى أبو هريرة وجابر أن النبي عليه السلام أتي بسارق، فقطع يده، ثم أتي به وقد سرق فقطع رجله (2).
وكتب نجدة الحروري إلى عبد اللّه بن عمر: قطع رسول اللّه يد السارق بعد اليد، أو رجله بعد اليد؟ فقال عبد اللّه: قطع رجله بعد اليد (3). وهو إجماع الصحابة.
روي ذلك عن أبي بكر وعمر (4) ولا مخالف لهما.
مسألة 30: إذا سرق السارق بعد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى في الثالثة خلد الحبس، ولا قطع عليه. فإن سرق في الحبس من حرز وجب قتله.
وقال الشافعي: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ورجله اليمنى في الرابعة. وبه قال مالك، وإسحاق (5).
ص: 436
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد: لا يقطع في الثالثة مثل ما قلناه، غير أنهم لم يقولوا بتخليد الحبس (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا روي في قراءة ابن مسعود السارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما (3).
وروي عن علي عليه السلام أنه أتي بسارق مقطوع اليد والرجل، فقال:
إني لأستحي من اللّه أن لا أترك له ما يأكل به ويستنجي به (4). وأيضا الأصل براءة الذمة.
مسألة 31: موضع القطع في اليد من أصول الأصابع دون الكف، ويترك له الإبهام، ومن الرجل عند معقد الشراك من عند الناتئ على ظهر القدم، يترك له ما يمشي عليه، وهو المروي عن علي عليه السلام وجماعة من السلف (5).
ص: 437
وقال جميع الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والشافعي: إن القطع في اليد من الكوع - وهو المفصل الذي بين الكف والذراع - وكذلك تقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم (1).
وقالت الخوارج: يقطع من المنكب، لأن اسم اليد يقع على هذا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا قوله تعالى: " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " (4) ومعلوم أنهم يكتبون بأصابعهم دون الساعد والكف.
وأيضا ما قلناه مجمع على وجوب قطعه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 32: قد بينا أن السارق إذا سرق رابعا، قتل في الرابعة، ولا يتقدر فيما زاد عليه حكم.
وقال جميع الفقهاء بعد الرابعة: لا قطع، وإنما يعزر (5).
ص: 438
وقال عثمان بن عفان، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص: إنه يقتل في الخامسة. وبه قال عمر بن عبد العزيز (1).
دليلنا: ما قدمناه من إجماع الفرقة.
وروى جابر أن النبي عليه السلام أتي برجل سرق في الخامسة، فقتله وفي بعضها فأمر بقتله. قال جابر: فانطلقنا به، فقتلناه، ثم جررناه وألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة (2).
مسألة 33: الذمي إذا شرب الخمر متظاهرا به، وجب عليه الحد، وإن استتر به لم يجب عليه.
وقال الشافعي: لا حد عليه، ولم يفصل (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4)، وعموم كل خبر ورد بأن شارب الخمر يجب عليه الحد وجب حملها على عمومها (5).
مسألة 34: المستأمن إذا دخل دار الإسلام، فتظاهر بشرب الخمر، وجب عليه الحد. وإن زنا بمشركة وجب عليه الجلد إن كان بكرا، والرجم إن كان محصنا. وإن زنا بمسلمة كان عليه القتل، محصنا كان أو غير محصن، وإن سرق
ص: 439
نصابا من حرز وجب عليه القطع.
وقال الشافعي: لا حد عليه في شرب الخمر، ولا في الزنا بالمشركة (1). وله في السرقة قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: وهو الصحيح عندهم أنه لا قطع عليه (2) فأما الغرم فإنه يلزمه بلا خلاف.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (3)، وعموم الآيات (4) والأخبار التي تتضمن إقامة الحدود في الزنا، والسرقة، وشرب الخمر (5)، فيجب أن تحمل على ظاهرها.
مسألة 35: إذا سرق شيئا موقوفا مثل: دفتر أو ثوب وما أشبههما، وكان نصابا من حرز وجب عليه القطع.
وللشافعي فيه قولان: مبنيان على انتقال الوقف، وله فيه قولان:
أحدهما: أنه ينتقل إلى اللّه تعالى، فعلى هذا في القطع وجهان، أحدهما يقطع كما يقطع في ستارة الكعبة وبواري المسجد (6). والثاني لا يقطع كالصيود والأحطاب.
ص: 440
والقول الثاني: إن الوقف ينتقل إلى ملك الموقوف عليه، فعلى هذا في السرقة وجهان أيضا، أحدهما يقطع لأنه سرق ما هو ملك، وهو الصحيح عندهم. والثاني لا يقطع لأنه ملك ناقص (1).
دليلنا: الآية (2) والخبر (3) وهما على عمومهما.
مسألة 36: إذا سرق دفعة بعد أخرى، وطولب دفعة واحدة بالقطع، لم يجب عليه إلا قطع يده فحسب بلا خلاف، فإن سبق بعضهم وطالب بالقطع، فقطع مرة واحدة، ثم طالب الباقون روى أصحابنا أنه يقطع للباقين أيضا (4).
وقال الشافعي وجميع الفقهاء: لا يقطع للباقين (5)، لأنه إذا قطع بالسرقة فلا يقطع دفعة أخرى قبل أن يسرق، وهذا أقوى، غير أن الرواية ما قلناه.
يقطع (1) لأنه لا منفعة فيها ولا جمال، وإن كانت شلاء رجع إلى أهل المعرفة بالطب، فإن قالوا إذا قطعت اندملت قطعت، وإن قالوا تبقى أفواه العروق مفتحة لم تقطع.
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (2) وإنما أراد أيمانهما بلا خلاف ولم يفصل، والخبر مثل ذلك، وإجماع الفرقة على ما قلناه دليل في هذه المسألة.
مسألة 38: إذا سرق ويساره مفقودة أو ناقصة قطعت يمينه، وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: إن كانت يساره مفقودة أو ناقصة نقصانا ذهب به معظم المنفعة، كنقصان إبهام أو إصبعين لم تقطع يمينه، وإن كانت ناقصة إصبع واحدة قطعنا يمينه. وهكذا قوله إذا كانت رجله اليمنى لا يطيق المشي عليها لم تقطع رجله اليسرى (4).
دليلنا: الظواهر كلها (5) ولم يفرق فيها.
مسألة 39: كل عين قطع السارق بها مرة، فإنه إذا سرقه مرة أخرى قطعناه، حتى لو تكرر ذلك منه أربع مرات قتلناه في الرابعة. وبه قال الشافعي، غير أنه لم يعتبر القتل على أصله، وسواء سرقها من الذي سرقها منه أولا أو من غيره (6).
ص: 442
وقال أبو حنيفة: إذا قطع السارق بالعين مرة لم يقطع بسرقتها مرة أخرى، فلو سرقها بعد ذلك فلا قطع، سواء سرقها من الأول أو من غيره (1) إلا في مسألة واحدة، فإنه قال: إن كانت العين غزلا، فقطع بها، ثم نسج ثوبا، ثم سرق الثوب قطعناه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، ولأن ما اعتبرناه مجمع على ثبوت القطع به، وليس على ما قالوه دليل.
وروي أن سارقا أقر عند علي عليه السلام بالسرقة، فانتهره، فأقر ثانيا فقال: الآن أقررت مرتين (2)، وقطعه، ولا مخالف له.
مسألة 41: إذا ثبت القطع باعترافه، ثم رجع عنه، سقط برجوعه. وبه قال جماعة الفقهاء (3)، إلا ابن أبي ليلى. فإنه قال: لا يسقط برجوعه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وروى أبو أمية المخزومي: أن النبي عليه السلام أتي بلص قد اعترف اعترافا، ولم يوجد عنده متاع، فقال النبي عليه السلام: ما أخالك سرقت.
قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع. وجئ به فقال له:
استغفر اللّه وتب إليه، فقال: استغفر اللّه وأتوب إليه، فقال النبي عليه السلام: اللّهم تب عليه (6)، ثلاثا.
ص: 444
فوجه الدلالة أن النبي عليه السلام عرض له بالرجوع، فلولا أنه كان يسقط به لما عرض له فيه.
وقد روينا أن عليا عليه السلام انتهره. وهو مروي عن أبي بكر، وابن مسعود (1) ولا مخالف لهما.
مسألة 42: إذا قامت عليه البينة بأنه سرق نصابا من حرز لغائب، وليس للغائب وكيل بذلك، لم يقطع حتى يحضر الغائب، وكذلك لو قامت البينة بأنه زنا بأمة غائب، لم يقم عليه الحد حتى يحضر، وإن أقر بالسرقة أو بالزنا أقيم عليه الحد فيهما.
وقال الشافعي: إنه لا يقطع في السرقة، ويحد في الزنا (2).
واختلف أصحابه على ثلاث طرق.
فقال أبو العباس: لا يحد ولا يقطع (3).
وقال أبو إسحاق المسألة على قولين فيهما: أحدهما: يقطع ويحد، والثاني:
لا يقطع ولا يحد (4).
وقال أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص بن الوكيل لا يقطع في السرقة ويحد في الزنا (5).
دليلنا: على أنه لا يقطع ولا يحد في السرقة والزنا: أنه يجوز أن يكون الغائب أباح له العين المسروقة، أو ملكه إياها، أو وقفها عليه، أو كانت ملكا
ص: 445
للسارق عنده غصب من أبيه، أو وديعة أو غير ذلك، أو أباح له وطئ الأمة، أو متعه بها. وإذا احتمل ذلك لم يقطع ولم يحد للشبهة، وإما مع الإقرار فإنه يقام عليه الحد والقطع، لأنه يثبت عليه القطع بإقراره، والحد بالزنا بإقراره، وهما من حقوق اللّه تعالى، فلا يقف على حضور الغائب.
والظاهر يوجب القطع وإقامة الحد عليه، وهو قوله تعالى: " فاقطعوا أيديهما " (1) وقوله: " فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (2).
مسألة 43: إذا سرق عينا يقطع في مثلها قطعناه، فإن كانت العين باقية ردها بلا خلاف، وإن كانت تالفة غرم قيمتها. وبه قال الحسن البصري، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وابن شبرمة، والشافعي، وأحمد بن حنبل سواء كان السارق غنيا أو فقيرا (3).
وقال أبو حنيفة: لا أجمع بين الغرم والقطع، فإذا طالب المسروق منه بالسرقة ورفعه إلى السلطان، فإن غرم له ما سرق سقط القطع، وإن سكت حتى قطعه الإمام سقط الغرم عنه، وكان صبره وسكوته حتى قطعه رضى منه بالقطع عن الغرم (4). وقال مالك: يغرم إن كان موسرا، وإن كان فقيرا لا يغرم (5).
ص: 446
ولأبي حنيفة تفصيل، قال: إذا سرق حديدا، فجعله كوزا، فقطع، لم يرد الكوز. لأن الكوز العين الأخرى، فلو كانت السرقة ثوبا، فصبغه أسود، فقطع، لم يرد الثوب، لأن السواد جعله كالمستهلك، وإن صبغه أحمر كان عليه رده، لأن الحمرة لا تجعله كالمستهلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (3) فأوجب القطع، سواء غرم أو لم يغرم، فمن قال: إذا غرم سقط قطعه، فعليه الدلالة.
وأيضا فالآية توجب القطع من غير تخيير، وعندهم إن المسروق منه بالخيار بين المطالبة بالغرم فيسقط القطع، وإن سكت حتى يقطع سقط غرمه.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وأيضا الأصل براءة الذمة.
مسألة 45: إذا سرق الرجل من مال ولده، فلا قطع عليه بلا خلاف إلا داود (2).
وإن سرق الولد من مال والديه، أو واحد منهما، أو جده، أو جدته، وجدهما أو أجداده من قبل أمه وإن علوا كان عليه القطع.
وقال جميع الفقهاء: لا قطع عليه (3).
وروي عن علي عليه السلام: أن عليه القطع (4).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا الآية (5) والخبر (6)، ولم يفرقا.
والقول الثاني: لا قطع عليه. وبه قال أبو حنيفة (1).
وهكذا الخلاف في عبد كل واحد منهما إذا سرق من مال مولى الآخر، فكل عبد بمنزلة سيده سواء، والخلاف واحد (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: " فاقطعوا أيديهما " (3) والخبر (4) يدلان عليهما، لأنهما على عمومهما إلا من أخرجه الدليل.
دليلنا: الآية (1) والخبر (2) وهما على عمومهما.
مسألة 48: من خرج عن عمود الوالدين والولد من ذوي القرابة والأرحام إذا سرق من الآخر فهو كالأجنبي، يجب عليه القطع. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: كل شخصين بينهما رحم محرم بالنسب فالقطع ساقط، كما يسقط بين الوالد وولده، مثل: الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات (4).
دليلنا: الآية (5) والخبر (6)، وهما على عمومهما، وأيضا عليه إجماع الفرقة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، والآية (2) والخبر (3) يدلان عليه، لأنهما على عمومهما.
مسألة 50: من سرق شيئا من الملاهي من العيدان والطنابير وغيرهما، وعليه حلي قيمته نصاب ربع دينار، وجب عليه القطع. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، بناء على أصله أنه إذا سرق ما فيه القطع مع ما ليس فيه القطع لا قطع عليه (5).
دليلنا: الآية (6) والخبر (7)، وقد بينا فساد ما ذهب إليه في ذلك فيما مضى.
مسألة 51: من سرق من جيب غيره، وكان باطنا بأن يكون فوقه قميص آخر، أو من كمه وكان ذلك، كان عليه القطع. وإن سرق من الكم الأعلى أو الجيب الأعلى فلا قطع عليه، سواء شده في الكم من داخل أو من خارج.
وقال جميع الفقهاء: عليه القطع، ولم يعتبروا قميصا فوق قميص (8)، إلا أن أبا حنيفة قال: إذا شده في كمه، فإن شده من داخل وتركه من خارج فلا قطع عليه، وإن شده من خارج وتركه من داخل فعليه القطع (9). والشافعي لم
ص: 451
يفصل (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وأيضا الأصل براءة الذمة. وأيضا ما ذكرناه مجمع على وجوب القطع فيه، وما ذكروه ليس عليه دليل.
مسألة 52: إذا ترك الجمال والأحمال في مكان، وانصرف في حاجة، وكانت الإجمال في غير حرز هي وكل ما معها من متاع وغيره، فلا قطع فيها، ولا في شئ منها. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: إن أخذ اللص الزاملة بما فيها فلا قطع عليه، لأنه أخذ الحرز، وإن شق الزاملة وأخذ المتاع من جوفها فعليه القطع (4).
دليلنا: إن الحرز المرجع فيه إلى العادة، وما ذكرناه لا يعد أحد حرزا، بل من ترك أجماله كذلك قيل: أنه ضيعه، فمن جعله حرزا فعليه الدلالة.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 53: من سرق باب دار رجل، قلعه وأخذه، أو هدم من جداره آجرا، وبلغ قيمته نصابا، كان عليه القطع. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، لأنه ما سرق، وإنما هدم (6).
دليلنا: قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (7) والخبر (8).
وأيضا فإن الباب والآجر في الحائط في الحرز، فإذا كان حرزا له، فإذا أخذه
ص: 452
من الحرز قطعناه.
مسألة 54: إذا أقر العبد على نفسه بالسرقة، لا يقبل إقراره.
وقال جميع الفقهاء: إنه يقبل إقراره، ويقطع (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن إقراره إقرار في مال الغير، لأنه لا يملك نفسه، وهو مالك لغيره، فلا يقبل إقراره على غيره.
مسألة 55: إذا قصده رجل فقتله دفعا عن نفسه، فلا ضمان عليه، سواء قتله بالسيف أو بالمثقل، ليلا كان القتل أو نهارا. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان بالسيف كما قلناه، وإن كان بالمثقل وكان ليلا فكذلك، وإن كان نهارا فعليه الضمان (3).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ص: 454
ص: 455
ص: 456
كتاب قطاع الطريق مسألة 1: المحارب الذي ذكره اللّه تعالى في آية المحاربة (1) هم قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح، ويخيفون السبيل. وبه قال ابن عباس وجماعة الفقهاء (2).
وقال قوم: هم أهل الذمة إذا نقضوا العهد، ولحقوا بدار الحرب، وحاربوا المسلمين (3).
وقال ابن عمر: المراد بالآية المرتدون (4)، لأنها نزلت في العرينيين (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
ص: 457
وأيضا قوله تعالى في سياق الآية: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن اللّه غفور رحيم " (1) فأخبر أن العقوبة تسقط بالتوبة قبل القدرة عليه، ولو كان المراد بها أهل الذمة وأهل الردة كانت التوبة منهم قبل القدرة وبعد القدرة سواء، فلما خص بالذكر التوبة قبل القدرة وأفردها بالحكم، دلت الآية على ما ذكرناه.
مسألة 2: إذا شهر السلاح، وأخاف السبيل لقطع الطريق، كان حكمه متى ظفر به الإمام التعزير، وتعزيره أن ينفيه من البلد. وإن قتل ولم يأخذ المال قتل، والقتل متحتم عليه لا يجوز العفو عنه، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وينفى من الأرض متى ارتكب شيئا من هذا، ويتبعهم أينما كانوا أو حلوا في طلبهم، فإذا قدر عليهم أقام عليهم هذه الحدود. وبه قال في الصحابة عبد اللّه بن عباس (2)، وفي الفقهاء حماد والليث بن سعد ومحمد بن الحسن والشافعي (3).
ونحو هذا قول أبي حنيفة، وإنما خالف في فصلين:
قال: إذا قتل وأخذ المال قطع وقتل، وعندنا يصلب.
والثاني: إن النفي عندنا ما قلناه، وعنده النفي هو الحبس (4).
ص: 458
وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة مثل مذهبنا (1)، وليس كما حكاه. وإنما ذلك مذهب محمد بن الحسن، فأما مذهبه فما حكاه الكرخي في الجامع الصغير أن الإمام مخير بين أربعة أشياء: بين أن يقطع من خلاف ويقتل، أو يقطع من خلاف ويصلب، وإن شاء قتل ولم يقطع، وإن شاء صلب ولم يقطع (2).
والكلام عليه يأتي.
وقال مالك: الآية مرتبة على صفة قاطع الطريق، وهو إذا شهر السلاح وأخاف السبيل لقطع الطريق كانت عقوبته مرتبة على صفته، فإن كان من أهل الرأي والتدبير قتله، وإن كان من أهل القتال دون التدبير قطعه من خلاف، وإن لم يكن واحدا منهما لا تدبير ولا بطش نفاه من الأرض، ونفيه أن يخرجه إلى بلد آخر فيحبسه فيه (3).
وذهب قوم إلى أن أحكامها على التخيير، فمتى شهر السلاح وأخاف السبيل لقطع الطريق، كان الإمام مخيرا بين أربعة أشياء: القتل، والقطع، والصلب، والنفي من الأرض. ذهب إليه ابن المسيب والحسن البصري وعطاء ومجاهد (4).
ص: 459
فخرج من هذا مذهبان: التخيير عند التابعين (1).
والترتيب عند الفقهاء (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا روي عن ابن عباس أنه قال: أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا، أو ينفوا من الأرض (4)، على ما فسرناه.
فأما أن يكون قوله توقيفا أو لغة، فأيهما كان صح ما قلناه.
وأيضا إذا حملناها على هذا الترتيب أعطينا كل لفظة فائدة جديدة، وعلى ما قالوه لا يفيد ذلك، فكان ما قلناه أولى.
والثالث علق اللّه هذه الأحكام على من حارب اللّه ورسوله، ومعلوم أن محاربة اللّه لا تمكن، ثبت أن المراد من حارب أهل دين اللّه ودين رسوله، فاقتضى وجود المحاربة منهم، فمن علق هذه الأحكام عليهم قبل المحاربة فقد ترك الظاهر.
والرابع أن اللّه تعالى ذكر هذه الأحكام، فابتدأ بالأغلظ فالأغلظ، وكل موضع ذكر اللّه أحكاما، فبدأ بالأغلظ، كانت على الترتيب ككفارة الظهار والقتل، وكل موضع كانت على التخيير بدأ بالأخف ككفارة الأيمان.
ص: 460
وأيضا روى عثمان بن عفان أن النبي عليه السلام قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (1). وهذا ما فعل شيئا من ذلك، فوجب أن لا يقتل.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: القطع في ربع دينار فصاعدا (2).
وفي بعضها: لا قطع إلا في ربع دينار (3). ومن قطع قبل أخذه المال فقد ترك الخبر.
مسألة 3: قد بينا أن نفيه عن الأرض أن يخرج من بلده، ولا يترك أن يستقر في بلد حتى يتوب. فإن قصد بلد الشرك منع من دخوله، وقوتلوا على تمكينهم من دخوله إليهم.
وقال أبو حنيفة: نفيه أن يحبس في بلده (4).
وقال أبو العباس ابن سريج يحبس في غير بلده (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 4: إذا قتل المحارب، انحتم القتل عليه، ولم يجز العفو عنه لأحد. وبه
ص: 461
قال الشافعي (1).
وقال بعض الناس على التخيير (2).
وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إن قتل وأخذ المال انحتم قتله، وإن قتل ولم يأخذ المال كان الولي بالخيار بين القصاص والعفو (3). لما روي عن النبي عليه السلام من قوله: ثم أنتم يا خزاعة بين خيرتين. تمام الخبر (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، ولأن وجوب القتل مجمع عليه، والتخيير يحتاج إلى دليل، والآية (6) تدل على ما قلناه، لأن اللّه تعالى أوجب القتل ولم يذكر التخيير.
مسألة 5: الصلب لا يكون إلا بعد أن يقتل ثم يصلب، وينزل بعد ثلاثة أيام. وقال الشافعي مثل ذلك (7).
ص: 462
وقال ابن أبي هريرة: لا ينزل بعد ثلاثة أيام، بل يترك حتى يسيل صديدا (1).
وقال قوم من أصحابه: يصلب حيا ويترك حتى يموت (2).
وعن أبي يوسف روايتان: إحداهما مثل ما قلناه، والثانية أن يصلب حيا وينفج بطنه بالرمح حتى يموت (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 6: إذا قتل المحارب ولدا أو عبدا مملوكا، أو كان مسلما قتل ذميا، فإنه يقتل به.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما مثل ما قلناه. والثاني وهو أصحهما عندهم: لا يقتل (5).
دليلنا: قوله تعالى: " أن يقتلوا " (6) وقد بينا أن معناه أن يقتلوا إن قتلوا، ولم يفصل. وتخصيصه يحتاج إلى دليل.
والقول الثاني قوي أيضا، لقوله عليه السلام: لا يقتل والد بولده (7). ولا
ص: 463
يقتل مؤمن بكافر (1). إلا أن المحارب بنحتم عليه القتل لكونه محاربا، ألا ترى أنه لو عفى الولي عنه لوجب قتله، فلا يمتنع على هذا أن يجب قتله، وإن كان قتل ولده أو ذميا لكونه محاربا.
مسألة 7: قد قلنا أن المحارب إذا أخذ المال قطع، ولا يجب قطعه حتى يأخذ نصابا يجب فيه القطع في السرقة.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه،، وعليه عامة أصحابه.
وقال بعضهم: يقطع في قليل المال وكثيره (2)، وهو قوي أيضا، لأن الأخبار وردت أنه إذا أخذ المال وجب قطعه (3)، ولم يقيدوا، فوجب حملها على عمومها.
دليلنا: أن ما اعتبرناه مجمع على وجوب القطع به، وما قالوه ليس عليه دليل.
وأيضا قوله عليه السلام: القطع في ربع دينار (4).
مسألة 8: حكم قطاع الطريق في البلد والبادية سواء، مثل أن يحاصروا
ص: 464
قرية ويفتحوها ويغلبوا أهلها، ويفعلوا مثل هذا في بلد صغير، أو طرف من أطراف البلد، أو كان بهم كثرة فأحاطوا ببلد كبير واستولوا عليهم، الحكم فيهم واحد. وهكذا القول في دعار البلد إذا استولوا على أهله وأخذوا أموالهم على صفة لا غوث لهم، الباب واحد. وبه قال الشافعي وأبو يوسف (1).
وقال مالك: قطاع الطريق من كان من البلد على مسافة ثلاثة أميال، فإن كان دون ذلك فليسوا قطاع الطريق (2).
وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا كانوا في البلد أو في القرب منه مثل ما بين الحيرة والكوفة، أو بين قريتين لم يكونوا قطاع الطريق (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4). وأيضا: قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله " (5) إلى آخر الآية، ولم يفصل بين أن يكونوا في البلد وغير البلد.
مسألة 9: لا يجب أحكام المحاربين على الطليع والردء، وإنما تجب على من يباشر القتل، أو يأخذ المال، أو يجمع بينهما. وبه قال الشافعي (6).
ص: 465
وقال أبو حنيفة: الحكم يتعلق بهم كلهم، فلو أخذ واحد المال قطعوا كلهم، ولو قتل واحد قتلوا كلهم (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وإثبات القتل أو القطع على من لم يباشر شيئا يحتاج إلى دليل.
وما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (2)، يدل على ذلك، لأنه ليس بواحد منهم.
مسألة 10: إذا جرح المحارب جرحا يجب فيه القصاص في غير حد المحاربة مثل قطع اليد، أو الرجل، أو قلع العين وغير ذلك، وجب عليه القصاص بلا خلاف، ولا ينحتم بل للمجروح العفو.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر أنه ينحتم مثل النفس (3).
دليلنا: إن الأصل جواز العفو، وانحتامه يحتاج إلى دليل.
ص: 466
مسألة 11: إذا قطع المحارب يد رجل، وقتله في المحاربة، قطع ثم قتل، وهكذا لو وجب عليه القصاص فيما دون النفس، ثم أخذ المال، اقتص منه ثم قطع من خلاف بأخذ المال. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إذا قطع ثم قتل، قتل ولم يقطع. وإن قطع يسار رجل ثم أخذ المال في المحاربة، سقط القطع قصاصا، وقطع بأخذ المال (2).
دليلنا: أن القصاص حق لآدمي، والقتل في المحاربة حق لله، ودخول أحد الحقين في الآخر يحتاج إلى دليل. وأيضا قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " (3) الآية وفيها دليلان: أحدهما قوله " والعين بالعين " (4) ولم يفصل بين أن يكون أخذ المال أو لم يأخذه.
والثاني قوله عز وجل " والجروح قصاص " (5) وهذا جرح.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: وفي اليد خمسون من الإبل (6) ولم يفصل.
مسألة 12: المحارب إذا وجب عليه حد من حدود اللّه لأجل المحاربة، مثل انحتام القتل، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو الصلب، ثم تاب قبل أن يقام عليه الحد، سقط بلا خلاف. وإن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط بلا
ص: 467
خلاف، وما يجب عليه من حدود الآدميين فلا يسقط، كالقصاص، والقذف، وضمان الأموال، وما يجب عليه من حدود اللّه التي لا تختص بالمحاربة كحد الزنا، والشرب، واللواط فإنها تسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني لا تسقط (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن التائب قبل إقامة الحد عليه يسقط حده.
وأيضا قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " (2).
مسألة 13: كل من وجب عليه حد من حدود اللّه من شرب الخمر، أو الزنا، أو السرقة من غير المحاربين، ثم تاب قبل قيام البينة عليه بذلك، فإنها بالتوبة تسقط.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني لا تسقط (3).
دليلنا: إجماع الفرقة على ذلك على ما قدمناه، وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: " والسارق والسارقة - إلى قوله - فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن اللّه يتوب عليه إن اللّه غفور رحيم " (5) فأمر بقطع السارق قبل التوبة، ثم بين أن من تاب منهم وأصلح عمله، فإن اللّه يغفر له، ثبت أنه يسقط عنه.
فإن قيل: المراد غفران المأثم.
قلنا: إن ما تقدم ذكره هو القطع، فعادت الكناية إليه، والثاني يحمل
ص: 468
عليهما. وأيضا أنه شرط فيه إصلاح العمل والمأثم تسقط بمجرد التوبة ثبت أن المراد به ما ذكرناه.
وأيضا روي عن النبي عليه السلام أنه قال: الإسلام يجب ما قبله (1).
وفي بعضها: التوبة تجب ما قبلها (2).
وروي: أن رجلا أتى إلى النبي عليه السلام فقال إني أصبت حدا فأقمه علي، فقال: أليس قد توضأت؟ قال بلى، قال: أليس قد صليت؟ قال:
بلى، فقال: قد سقط عنك (3).
مسألة 14: إذا اجتمع حد القذف، وحد الزنا، وحد السرقة. ووجوب القطع قطع اليد والرجل بالمحاربة وأخذ المال فيها، ووجب عليه القود بقتل في غير المحاربة، فاجتمع حدان عليه وقطعان وقتل، فإنه تستوفي منه الحدود كلها، ثم يقتل. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: يسقط كلها ويقتل، فإن القتل يأتي على الكل (5).
وروي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول النخعي (6).
ولأبي حنيفة تفصيل، قال يقتل بغير حد إلا حد القذف، فإنه يقام عليه الحد ثم يقتل (7).
ص: 469
دليلنا: قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا " (1) الآية، وقوله عز وجل: " والذين يرمون المحصنات - إلى قوله - فاجلدوهم " (2) وقوله: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (3) وقوله: " إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله - إلى قوله - إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " (4) وقوله:
النفس بالنفس " (5) ولم يفصل، فوجب إقامة هذه الحدود كلها لهذه الظواهر، ومن ادعى تداخلها فعليه الدلالة.
مسألة 15: أحكام المحاربين تتعلق بالرجال والنساء، سواء، على ما فصلناه في العقوبات. وبه قال الشافعي (6).
وقال مالك: لا يتعلق أحكام المحاربين بالنساء (7).
وقال أبو حنيفة إذا كان معهم نساء فإن كن ردء والمباشر للقتل الرجال لم تقتل النساء هنا، لأنه يقتل الردء إذا كان رجلا، وإن كان المباشر للقتل النساء دون الرجال فظاهر قوله إنه لا قتل، لا على الرجال ولا على النساء (8).
دليلنا: قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله " (9) الآية ولم يفرق بين النساء والرجال، فوجب حملها على العموم.
ص: 470
ص: 471
ص: 472
مسألة 1: من شرب الخمر، وجب عليه الحد إذا كان مكلفا بلا خلاف.
فإن تكرر ذلك منه وكثر قبل أن يقام عليه الحد، أقيم عليه حد واحد بلا خلاف. فإن شرب فحد، ثم شرب فحد، ثم شرب فحد، ثم شرب رابعا قتل عندنا.
وقال جميع الفقهاء لا قتل عليه، وإنما يقام عليه الحد بالغا ما بلغ (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وروى أبو هريرة وغيره أن النبي عليه السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه (3).
وفي بعضها: (فقتلناه وأحرقناه) (4). ومن ادعى نسخ هذا الخبر فعليه الدلالة.
ص: 473
وروى سفيان، عن الزهري، عن قبيصة بن ذويب (1) أن النبي عليه السلام قال: إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه (2).
وروي مثل ذلك عن جابر.
رواه محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن محمد بن المنكدر (3)، عن جابر، أن النبي عليه السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه (4).
فهذه حرام، نجسة، يحد شاربها، أسكر أو لم يسكر بلا خلاف.
دليلنا: على أنه لا يعتبر الإزباد: إجماع الفرقة، والظواهر (1) كلها تتناوله، لأن أهل اللغة يسمون الخمر إذا أسكر واشتد وإن لم يزبد، فمن اعتبر ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 3: كل شراب أسكر كثيره، فقليله وكثيره حرام، وكله خمر، حرام نجس. يحد شاربه، سكر أو لم يسكر كالخمر، سواء عمل من تمر أو زبيب أو عسل أو حنطة أو شعير أو ذرة، الكل واحد، نقيعه ومطبوخه سواء. وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وابن عمر، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة (2). وفي الفقهاء أهل الحجاز، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (3).
وقال أبو حنيفة: أما عصير العنب إذا مسه طبخ نظرت، فإن ذهب ثلثاه فهو حلال ولا حد حتى يسكر، فإن ذهب أقل من الثلثين فهو حرام، ولا حد حتى يسكر، وما عمل من التمر والزبيب نظرت، فإن مسه طبخ وهو النبيذ فهو مباح، ولا حد حتى يسكر، وإن لم يمسه طبخ فهو حرام، ولا حد حتى يسكر.
ص: 475
وأما ما عمل من غير هاتين الشجرتين النخل والكرم مثل العسل والشعير والحنطة والذرة فكله مباح، ولا حد فيه، أسكر أم لم يسكر (1).
قال محمد في كتاب الأشربة: قال أبو حنيفة: الشراب المحرم أربعة: نقيع العنب الذي اشتد وأسكر، ومطبوخ العنب إذا ذهب منه ثلثه، ونقيع التمر والزبيب. وما عدا هذا حلال كله (2).
وممن قال النبيذ حلال: الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (3). وفي الصحابة يروونه عن عمر، وعلي، وابن مسعود (4).
فالكلام معه في أربعة فصول:
فكل شراب مسكر فهو خمر، وعنده ليس بخمر.
وهو حرام، وعنده ليس بحرام، إلا ما يعقبه السكر، فإنه متى شرب عشرة فسكر عقيبها فالعاشر حرام، وما قبله حلال.
وهو نجس، وعنده طاهر.
وشاربه يحد عندنا، وعنده لا يحد ما لم يسكر.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
ص: 476
والدليل على ما قلناه أيضا في فصل سنذكره.
أما ما يدل على أن هذه الأشربة تسمى خمرا: السنة، وإجماع الصحابة.
فالسنة ما رواه الشعبي، عن النعمان بن بشير، أن النبي عليه السلام قال:
إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا (1).
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب (2).
هذان في سنن أبي داود.
وروى طاووس، عن ابن عباس أن النبي قال: كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام (3).
وروى نافع عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام (4).
فدل ذلك كله على تسميته خمرا.
ص: 477
وأما الإجماع، فروى الشعبي، عن ابن عمر قال: صعد عمر المنبر، فخطب - وفي بعضها سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - يقول: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي يومئذ من خمسة: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر ما خامر العقل (1).
وروي مثل هذا عن أبي موسى الأشعري، غير أنه ليس فيه (والخمر ما خامر العقل) (2).
وروى الشافعي في الأشربة من الأم، عن مالك، عن إسحاق بن عبد اللّه ابن أبي طلحة (3)، عن أنس بن مالك، قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فكسرها.
قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى تكسرت (4).
الفضيخ: ما عمل من تمر وبسر، ويقال: هذا أسرع إدراكا، وكذلك كلما عمل من لونين.
والمهراس: الفاس.
فالنبي صلى اللّه عليه وآله سماها خمرا، والصحابة من بعده عمر، وأبو
ص: 478
موسى الأشعري، وهؤلاء الأنصار وغيرهم، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو طلحة، وأبي بن كعب كل هؤلاء قد سموه خمرا.
فإذا ثبت أنه خمر، فقال اللّه تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " (1) فأمر باجتناب المسكرات كلها.
وأما الكلام على الفصل الآخر، وهو أن هذه الأشربة حرام، فالدليل عليه: السنة، والاجماع.
فالسنة ما رواه مالك، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة: أن النبي عليه السلام سئل عن البتع؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام (2).
وروى أبو بردة، عن أبي موسى الأشعري قال: سألت النبي عليه السلام عن شراب العسل، فقال: ذاك البتع. فقلت إنهم ينبذون من الذرة، فقال:
ذلك المزر، أخبر قومك أن كل مسكر حرام (3).
وممن روى (أن كل مسكر حرام) عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن مسعود، وعبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، وأبو سعيد الخدري، والمغيرة بن شعبة، وأم سلمة، وصفية بنت حي (4) هؤلاء تسعة،
ص: 479
سبعة رجال وامرأتان، وقد روينا عن عائشة وأبي موسى فصاروا أحد عشر راويا، ثمانية رجال، وثلاث نسوة، كل واحد روى منفردا عن النبي عليه السلام: أن كل مسكر حرام (1)، ولم يفرق.
فإن قالوا: نحن نقول به لأن المسكر القدح العاشر، وذلك حرام لأنه هو المسكر.
قيل عن هذا جوابان: أحدهما قوله: (كل مسكر) عبارة عن الجنس، كقولك كل خبز مشبع، فإنه عبارة عن الجنس لا عن اللقمة التي يقع الشبع عقيبها، فالجنس كله حرام وهو إذا شرب العاشر فسكر، فالكل أسكره والعاشر معا، لا أنه سكر من العاشر وحده. ألا ترى أنه لو شربه وحده لم يسكر.
والجواب الثاني: أن النبي عليه السلام وصف الشراب فقال: كل مسكر حرام (2). وما من جزء يشار إليه من العشرة إلا ويمكن أن يكون السكر به، وهو أن يتأخر، فيكون هو العاشر، فلا قدح واحد من الجملة إلا ويمكن أن يكون ذلك العاشر إذا سبقه تسعة، كذلك نقول.
وأيضا: روي عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عمر، وجابر أن النبي عليه السلام قال: ما أسكر كثيرة فقليله حرام (3).
ص: 480
وروى سعد بن أبي وقاص، وخباب بن الأرت (1) أن النبي عليه السلام قال: أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره (2). فقد نقل هذا ستة نفر: أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
فقالوا: نقول به، وهو القدح العاشر، فقليل ذاك العاشر حرام، لأن كثيره يسكر، ففيه جوابان:
أحدهما: أراد الجنس.
والثاني: حمله على العاشر لا يمكن، لأن قليل العاشر عندهم ليس بحرام، فإن السكر ما وقع به، فقليل العاشر كالتاسع عندكم حتى يستوفيه كله.
وأيضا روى القاسم بن محمد، عن عائشة أن النبي عليه السلام قال: ما يسكر الفرق فملء الكف منه حرام (3). وفي بعضها: فالحسوة منه حرام (4).
قال القتيبي (5): الفرق - بسكون الراء - فرق الدبس، وذلك مائة وعشرون
ص: 481
رطلا. وأما الفرق - بفتح الراء - فهو أحد مكائيل العرب، وهو ستة عشر رطلا (1)، فإن العرب كان لها أربعة مكائيل: المد، والقسط، والصاع، والفرق.
فالمد معروف على اختلاف في وزنه.
والقسط ضعف المد.
والصاع ضعف القسط.
والفرق: ثلاثة أضعاف الصاع، ثلاثة اصئع.
وروى ديلم (2) الحميري قال: قلت: يا رسول اللّه إنا في أرض باردة، نعالج عملا شديدا، وإنا نتخذ من هذا القمح شرابا نتقوى به على أعمالنا، وبرد بلادنا. فقال عليه السلام: أيسكر؟ قلت: نعم. قال: اجتنبوه.
فقلت: إن الناس غير تاركيه، فقال: اقتلوهم (3). معناه قاتلوهم.
وهذا عند أبي حنيفة لا يجتنب.
وأما إجماع الصحابة: فروي ذلك عن علي عليه السلام، وعمر، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص ولا مخالف لهم (4) (5).
ص: 482
وروى جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا عليه السلام قال: لا أوتي بشارب خمر أو نبيذ إذا حددته (1).
وروي عن عمر أنه خرج فصلى على جنازة، فشم من عبد اللّه بن عمر ابنه ريح الشراب، فسأله، فقال: إني شربت الطلاء، فقال إن عبد اللّه ابني شرب شرابا، وإني سائل عنه، فإن كان مسكرا حددته. فسأله عنه، فكان مسكرا، فحده بشراب ليس بخمر (2).
فأما استدلالهم بأن الأصل الإباحة في هذه الأشربة، وإنما تركنا الخمر لدليل وبقي الباقي على أصلها، فليس بصحيح. لأنا قد دللنا أيضا على أن باقي المسكرات محرم، فيجب أن يترك الأصل وينتقل إليه.
وقولهم هذا مما تعم البلوى به يجب أن يكون معلوما، فقد بينا أنه معلوم بإجماع الفرقة، والظاهر من القرآن (3).
واستدلالهم بقوله تعالى: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " (4).
وقولهم: إن ابن عباس قال: السكر النبيذ (5).
ص: 483
فقد روي عن ابن عباس روايتان إحداهما السكر الخمر (1). وكان هذا قبل تحريم الخمر، وتابعه على هذا الحسن البصري، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم النخعي، وأبو رزين العقيلي (2).
والرواية الثانية أن السكر الحرام (3). فيكون معنى الآية تتخذون منه حلالا وحراما.
وقال الشعبي: السكر ما طاب منها، وهو الطلاء والرب.
وروي هذا عن مجاهد أيضا.
وأما أهل اللغة فقد قال أبو عبيدة معمر بن مثنى، أستاذ أبي عبيد: السكر الخمر. قال: وقيل السكر الطعم (4)، ومنه يقال: سكر بني فلان، أي طعمهم. وكذلك قول الشاعر:
* جعلت عيب الأكرمين سكرا * (5) يعني جعلت تعيب الأكرمين حتى جعلت عيبهم طعما لك.
وقال الفراء: السكر الخمر قبل أن يحرم (6). على أن السكر عند أبي حنيفة: نقيع التمر والزبيب (7). هكذا نقل عنه الحسن بن زياد اللؤلؤي (8)،
ص: 484
وهو حرام بلا خلاف على قولهم.
ولو سلمنا أن السكر من الأسماء المشتركة لوقف الكلام فيها على البيان.
ورووا عن النبي عليه السلام أنه قال: حرمت الخمر بعينها، والسكر من كل شراب (1).
والجواب: أنه روي هذا الخبر موقوفا على ابن عباس، فلا حجة في ذلك.
ولو كان مسندا لكان قوله: (حرمت الخمر بعينها) لا دلالة فيه، لأنهم لا يقولون بدليل الخطاب. ومن قال به، لا يقول إذا علق الحكم بالاسم كان ما عداه بخلافه. وهاهنا تعلق الحكم بالاسم.
وأما قوله: (والسكر من كل شراب) فمعناه المسكر من كل شراب. وقد روي في بعض الألفاظ ذلك، ولو لم يكن مرويا لكان معلوما، لأن السكر لا يصح النهي عنه، لأنه من فعل اللّه تعالى فينا كالجنون والمرض، ووصفه بالتحريم لا يجوز، ثبت أنه أراد السكر.
فإن قيل: فما الفائدة في الخبر، والتفرقة بين السكر والخمر إذا كان الكل واحدا.
قلنا له: فائدتان:
إحداهما: أن اللّه تعالى حرم الخمر بنص الكتاب، وحرم النبي عليه السلام ما عداها من المسكرات، فكان معناها حرمت الخمر نفسها بالقرآن، والمسكر بالسنة.
والثانية: أراد به تغليظ النهي في المسكرات، فذكرها في الجملة، ثم أفردها بالذكر. فقوله: " الخمر " كناية عن المسكرات كلها، ثم أفردها بالذكر
ص: 485
تأكيدا للنهي كقوله: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " (1).
وما رووه عن أبي موسى، أن النبي عليه السلام قال: اشربوا ولا تسكروا (2). فالجواب عنه: إنا نقلنا عنه أنه قال: سألت النبي عليه السلام عن شراب العسل، فقال: ذلك البتع. فقلت: إنهم ينبذون من الذرة، فقال ذلك المزر، أخبر قومك أن كل مسكر حرام (3). فإذا ثبت هذا فيكون قوله:
اشربوا ولا تسكروا، معناه ولا تشربوا المسكر، بدليل ما رواه في الخبر الآخر، وبدليل أن السكر لا ينهى عنه على ما مضى.
وما رووه عن أبي مسعود: إن النبي عليه السلام أتي بنبيذ السقاية، فشمه، وقطب، واستدعا ذنوبا من ماء زمزم فصبه فيه، وقال إذا اغتلمت (4) عليكم هذه الأنبذة فاكسروها بالماء (5).
فالجواب عنه: إن نبيذ السقاية ما كان مسكرا، لأن القوم كانوا ينبذون للحاج ليشربوا إذا صدروا من منى، ينبذ لهم ليلة العاشر فيبقى يومين أو ثلاثة، ثم يردون مكة فيشربون، منه، وهو غير مسكر، فإذا ثبت هذا فما ليس بمسكر ليس بحرام، والنبي عليه السلام كان يشربه.
وروي عن عائشة أنها قالت: كنا ننبذ لرسول اللّه على غدائه فيشربه على عشائه، وننبذ له على عشائه فيشربه على غدائه (6)
ص: 486
وقال ابن عباس: كان التمر يمرس (1) لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فيشرب منه يومين أو ثلاثة، وإذا كان في الثالث أمر به أن يسقى الخدم أو يراق، وإنما صب النبي عليه السلام الماء عليه لثخانته لا لشدته (2).
قال مالك: كان خاثرا فصب عليه الماء لثخانته لا لشدته.
قال مالك: كان خاثرا فصب عليه الماء حتى يرق (3).
وقولهم: (قطب) قال الأوزاعي: إنما فعل ذلك لأنه كان حمض، لا أنه كان اشتد. لأنه لو كان للشدة كان حراما عندكم، لأنه نقيع غير مطبوخ، فكيف كان النبي عليه السلام يكسره بالماء (4).
والحديث الآخر لأبي مسعود: إن النبي عليه السلام سئل عن النبيذ أحلال هو أم حرام؟، فقال: حلال. فإنه ضعيف.
وروى عبد العزيز بن أبان (5)، عن الثوري رفعه.
قالوا: وعبد العزيز بن أبان ضعيف (6)، على أنه يجوز أن يحمل ذلك على النبيذ الذي لا يسكر، لأنه يحتمل ذلك.
فإن قالوا: الخبر الذي رويتم من قوله: (كل مسكر حرام) فالراوي لا يعرفه أهل النقل، بل هو مضطرب لكثرة من رواه.
ص: 487
قلنا: هذا باطل، فإن البخاري نقل أربعة (1)، ومسلم بن الحجاج بعضها (2)، ثبت أنها في الصحيح، وليس شئ من أخبارهم مثبتا في الصحيح.
مسألة 4: تحريم الخمر غير معلل، وإنما يحرم سائر المسكرات لاشتراكها في الاسم، أو لدليل آخر.
وقال الشافعي: هو معلل، وعلتها الشدة المطربة، وسائر المسكرات مقيس عليها (3).
وقال أبو حنيفة: هي محرمة بعينها، غير معللة، وإنما حرم نقيع التمر والزبيب بدليل آخر، ولا نقيس عليها شيئا من المسكرات (4).
دليلنا: إن هذا الفرع ساقط عنا، لأنا لا نقول بالقياس أصلا في الشرع، والكلام في كونها معللة أو غير معللة فرع على القول بالقياس، فمن يمنع من العمل به لا يلزمه الكلام في هذه المسألة، وليس هاهنا موضع الكلام في تحريم القياس.
بشربه إذا لم يكن مسكرا.
ونهي النبي عليه السلام عن الخليطين (1) نحمله على أنه إذا كان مسكرا، ويكون نهي تحريم.
مسألة 6: الفقاع حرام، لا يجوز شربه بحال.
وقال أحمد بن حنبل: كان مالك يكرهه، وكره أن يباع في الأسواق (2).
وقال أحمد: حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي، عن ضمرة قال: الغبيراء التي نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عنها هي السكركة خمر الحبشة، وعبد اللّه الأشجعي يكرهه (3).
وروي أبو عبيد، عن ابن أبي مريم (4)، عن محمد بن جعفر (5)، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار (6): أن النبي عليه السلام سئل عن الغبيراء فنهى
ص: 489
عنها، وقال: لا خير فيها (1).
قال: وقال زيد بن أسلم: السكركة هي اسم يختص الفقاع (2).
وروى أصحابنا أن على شاربه الحد، كما يجب على شارب الخمر سواء، وأنه يجلد بعد التعزير (3).
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: هو مباح (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (5)، وطريقة الاحتياط تقتضي تجنبه، لأنه إذا تجنب برئت ذمته بلا خلاف، وإذا شربه أو عمله أو باعه ففيه خلاف، والأحوط اجتنابه.
مسألة 7: حد شارب الخمر ثمانون جلدة. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، ومالك (6). لا يزاد عليه ولا ينقص منه.
وقال الشافعي: حده أربعون، فإن رأى الإمام أن يزيد عليها أربعين
ص: 490
تعزيرا ليكون التعزير والحد ثمانين فعل (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا روى شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن النبي عليه السلام جلد شارب الخمر بجريدتين نحو أربعين. وإذا كان أربعون بجريدتين كان ثمانون بواحدة (3).
وروى منبه بن وهب، عن محمد بن علي عليه السلام، عن أبيه: أن النبي عليه السلام جلد شارب الخمر ثمانين (4). وهذا نص، وهو إجماع الصحابة.
وروي: أن عمر استشار الصحابة، فقال: إن الناس قد تبايعوا في شرب الخمر، واستحقروا حدها، فما ترون؟ فقال علي عليه السلام: إنه إذا شرب سكر، فإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فيحد به حد المفتري (5). وقال عبد
ص: 491
الرحمان بن عوف: أرى أن تحده كامل الحدود ثمانين (1)، فثبت بذلك أنهم أجمعوا على الثمانين.
مسألة 8: إذا تقيأ خمرا، أقيم عليه الحد. وبه قال في الصحابة عثمان.
وروينا عن علي عليه السلام (2).
فأما بالرائحة فلا يقام عليه الحد.
وقال ابن مسعود يقام عليه الحد بها (3).
وقال الشافعي وجميع الفقهاء: إنه لا يقام عليه الحد بالقئ والرائحة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وروي أن حمران (6) ورجل آخر شهدا عند عثمان على رجل، شهد أحدهما أنه شربها، وشهد الآخر أنه تقيأها. فقال عثمان: ما تقيأها حتى شربها. وقال لعلي عليه السلام أقم عليه الحد (7).
ص: 492
وروى مثل هذا أصحابنا عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (1).
مسألة 9: إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانين، فمات، لم يكن عليه شئ.
وقال الشافعي يلزمه نصف الدية (2).
دليلنا: إنا قد بينا أن الحد ثمانون، والشافعي بنى هذا على أن الحد أربعون، فلأجل هذا ضمنه دية على بيت المال (3).
مسألة 10: إذا عزر الإمام من يجب تعزيره، أو من يجوز تعزيره - وإن لم يجب - فمات منه، لم يكن عليه شئ. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: يلزمه ديته (5).
وأين تجب؟ فيه قولان: أحدهما: - وهو الصحيح عندهم - على عاقلته، والثاني: في بيت المال (6).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ص: 493
وأيضا: التعزير حد من حدود اللّه.
وقد روي عنهم عليهم السلام: أن من حددناه حدا من حدود اللّه، فمات، فليس له شئ، ومن ضربناه حدا من حدود الآدميين فمات، كان علينا ضمانه، والتعزير من حدود اللّه (1).
مسألة 11: روى أصحابنا: أن الختان سنة في الرجال، ومكرمة في النساء، إلا أنهم لا يجيزون تركه في الرجال، فإنهم قالوا: إنه لو أسلم وهو شيخ فعليه أن يختتن (2).
وقالوا أيضا: لا يتم الحج إلا به، لأنه لا يجوز أن يطوف بالبيت إلا مختتنا، وهذا معنى الفرض على هذا التفصيل (3).
وقال أبو حنيفة سنة، يأثم بتركها. هذا قول البغداديين من أصحابه (4).
وقال أهل خراسان منهم: هو واجب مثل الوتر، والأضحية وليس بفرض (5).
وقال الشافعي: هو فرض على الرجال والنساء (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (7) وروي عن النبي عليه السلام أنه قال:
ص: 494
الختان سنة في الرجال، ومكرمة في النساء (1).
وروي عنه عليه السلام أنه قال: عشرة من الفطرة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فذكر الختان منها (2).
وفيه دليلان:
أحدهما: أنه أخبر أنه من الفطرة، ومعناه من السنة.
والثاني: أنه قرن بينه وبين ما هو سنة، غير واجب ولا مفروض، ثبت أنه غير مفروض.
واستدل على وجوبه بقوله تعالى: " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا " (3) فأمر باتباع ملته، والتمسك بشريعته، وكان من شرعه الختان.
قالوا: ختن نفسه بالقدوم (4).
وقيل: القدوم اسم المكان الذي ختن نفسه فيه (5).
وقيل: إنه الفاس الذي له رأس واحد، وهو فاس النجار (6).
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال لرجل أسلم: إلق عنك شعر الكفر
ص: 495
واختتن (1). وهذا أمر فيقتضي الوجوب.
مسألة 12: الحد الذي نقيمه بالسوط حد الزنا، وحد القذف بلا خلاف.
وحد شرب الخمر عندنا مثل ذلك.
وللشافعي فيه قولان (2):
قال أبو العباس وأبو إسحاق مثل ما قلناه (3).
والمنصوص له أن يقام بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب لا بالسوط.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا: روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من شرب الخمر فاجلدوه (5). وإنما يكون الجلد بالسوط، وهو إجماع الصحابة.
وروى أبو ساسان حضين بن المنذر الرقاشي (6) أن عثمان قال لعلي عليه السلام: أقم الحد على الوليد بن عقبه، فقال علي للحسن أقم عليه الحد، فقال الحسن. ول حارها من تولى قارها (7)، فقال علي لعبد اللّه بن جعفر: أقم عليه
ص: 496
الحد، فضربه بالسوط وعلي يعده (1).
وروي عن عمر أنه ضرب ابنه بالسوط لما شرب المسكر (2)، فثبت أنه إجماع.
مسألة 13: التعزير إلى الإمام بلا خلاف إلا أنه إذا علم أنه لا يردعه إلا التعزير لم يجز له تركه، وإن علم أن غيره يقوم مقامه من الكلام والتعنيف كان له أن يعدل إليه، ويجوز له تعزيره. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي: هو بالخيار في جميع الأحوال (4).
دليلنا: ظواهر الأخبار (5) وتناولها الأمر بالتعزير، وذلك يقتضي الإيجاب.
مسألة 14: لا يبلغ بالتعزير حدا كاملا، بل يكون دونه، وأدنى الحدود في جنبة الأحرار ثمانون، فالتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة، وأدنى الحدود في المماليك أربعون، والتعزير فيهم تسعة وثلاثون.
وقال الشافعي: أدنى الحدود في الأحرار أربعون حد الخمر، ولا يبلغ بتعزير حر أكثر من تسعة وثلاثين جلدة. وأدنى الحدود في العبيد عشرون في الخمر، ولا يبلغ تعزيرهم أكثر من تسعة عشر (6).
ص: 497
وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، وأدناها عنده أربعون في حد العبد في القذف، وفي شرب الخمر، فلا يبلغ بالتعزير أبدا أربعين (1).
وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: أدنى الحدود ثمانون، فلا يبلغ به التعزير، وأكثر ما يبلغ تسعة وسبعون (2). وهذا مثل ما قلناه.
وقال مالك والأوزاعي هو إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى أن يضربه ثلاثمائة وأكثر فعل، كما فعل عمر بمن زور عليه الكتاب فضربه ثلاثمائة (3).
ص: 499
ص: 500
مسألة 1: إذا ارتد الزوجان، فرزقا بعد ارتدادهما ولدا، فإن كان في دار الإسلام، لا يسترق، وإن كان في دار الحرب يسترق. وبه قال أبو حنيفة (1).
وللشافعي: فيه قولان:
أحدهما: يسترق، وهو قوي.
والآخر لا يسترق، سواء رزق في دار الإسلام أو في دار الحرب، على القولين معا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وأيضا فإنه إذا رزق في دار الإسلام فإنه بحكم الإسلام، بدلالة أن أبويه يلزمان الرجوع إلى الإسلام، فإن لم يرجعا قتلا، وإذا اخترنا استرقاقه فهو أنه ولد كافر ليس عليه ذمة، ومن هذه صورته يجوز استرقاقه.
مسألة 2: إذا أتلف أهل الردة أنفسا وأموالا، كان عليهم القود في الأنفس
ص: 501
والضمان في الأموال، سواء كانوا في منعة أو لم يكونوا في منعة.
وقال الشافعي: إن لم يكونوا في منعة مثل ما قلناه (1).
وإن كانوا في منعة فعلى قولين: أحدهما: - وهو الصحيح عندهم - مثل ما قلناه، والثاني: لا يجب عليهم الضمان، قاله في قتال أهل البغي. وبه قال أبو حنيفة (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " (3) الآية، وقوله: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " (4)، وقوله: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " (5) ولم يفصل.
وروي عن أبي بكر أنه قال في أهل الردة: يدون قتلانا ولا ندي قتلاهم (6). ولم ينكر عليه أحد.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال لخزاعة: فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية (7).
ص: 502
مسألة 3: إذا ارتد الرجل، ثم رآه آخر من المسلمين مخلى، فقتله معتقدا أنه على الردة، فبان أنه كان رجع إلى الإسلام، فإن علمه راجعا إلى الإسلام كان عليه القود بلا خلاف، وإن لم يعلم رجوعه كان عليه أيضا القود. وكذلك إذا رأى ذميا، فقتله معتقدا أنه على الكفر، فبان مسلما. أو قتل من كان عبدا، فبان أنه كان أعتق، فعليه القود في هذه المواضع كلها.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا قود عليه. والثاني: مثل ما قلناه (1).
دليلنا: قوله تعالى: " النفس بالنفس " (2) الآية، وقوله: " ومن قتل مظلوما " (3)، وقوله: " ولكم في القصاص حياة " (4).
وقوله عليه السلام: فأهله بين خيرتين (5). ولم يخصوا، ولم يفصلوا.
وقال أبو يوسف: يحكم بكفره، وتبين امرأته (1).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا قوله تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " (2) وأيضا الأصل بقاء العقد، وإبانته يحتاج إلى دليل.
مسألة 5: السكران الذي لا يميز إذا أسلم وكان كافرا، أو ارتد وكان مسلما، لم يحكم بإسلامه ولا بارتداده. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي: يحكم بإسلامه وارتداده (4).
دليلنا: أن الأصل بقاء إسلامه إن كان مسلما، وبقاء كفره إن كان كافرا، فعلى من ادعى تغيره الدليل، وقياس الشافعي على سائر عقوده وأنها صحيحة لا يسلم، لأن سندنا أن عقوده كلها فاسدة، ولا يصح شئ منها بتة، فالأصل يتنازع فيه، وإنما ذلك على أبي حنيفة، لأنه يسلم له العقود، ويفرق بينهما أن العقود لا تحتاج إلى الاعتقاد في صحتها، فلهذا صحت منه. والإيمان يفتقر إلى اعتقاد، وليس من أهله، وعندنا أن العقود كلها تحتاج إلى نية واعتقاد، ومتى خلا منها لا تقع صحيحة.
مسألة 6: المرتد الذي يستتاب إذا رجع إلى الإسلام، ثم كفر، ثم رجع، ثم كفر قتل في الرابعة ولا يستتاب.
وقال الشافعي: يستتاب أبدا، غير أنه يعزر في الثانية، والثالثة، وكذلك
ص: 504
كلما تكرر (1).
وقال أبو حنيفة: يحبس في الثالثة، لأن الحبس عنده تعزير (2).
وقال إسحاق بن راهويه يقتل في الثالثة (3). وهو قوي لقوله تعالى: " إن الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن اللّه ليغفر لهم " (4) فبين أنه لا يغفر لهم بعد الثالثة.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن كل مرتكب للكبيرة فإذا فعل به ما يستحقه قتل في الرابعة، وذلك على عمومه.
ص: 505
ص: 506
ص: 507
ص: 508
مسألة 1: إذا صالت البهيمة على إنسان، فلم يتمكن من دفعها إلا بقتلها، فلا ضمان عليه. وبه قال ربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: عليه ضمانها بالقيمة بعد أن وافقنا على جواز قتلها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وبراءة الذمة.
وأيضا قوله تعالى: " ما على المحسنين من سبيل " (3) وهذا محسن، لأنه فعل ما يجب عليه فعله، لأن دفع المضرة عن النفس واجب، وعلى قول آخرين أنه مستحب له فعله.
وأيضا قوله: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (4).
وأيضا قوله عليه السلام: جرح العجماء جبار (5). ويحتمل أن يكون أراد
ص: 509
جنايتها على غيرها إذا أضيف الجرح إلى فاعلها ويحتمل أن تكون هي مفعولة فيها، ونحن نحمله على الأمرين.
وأيضا فلا خلاف أنه إن صال عليه آدمي، فدفعه، فقتله لم يلزمه ضمانه، فالبهيمة أولى بذلك.
مسألة 2: إذا عض رجل على يد رجل في حال الخصومة أو غيرها، فانتزع يده من العاض، فسقطت سن العاض، فلا ضمان عليه. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وقال ابن أبي ليلى: عليه الضمان (2).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
وروي أن رجلا خاصم رجلا، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع المعضوض يده من العاض، فذهبت ثنيته، فأتى النبي عليه السلام فأخبره بذلك، فاهدر سنه، وقال: أيدع يده في فيك تعضها كأنها في فحل؟ (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وأيضا براءة الذمة دليل هاهنا.
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: من اطلع عليك فخذفته بحصاة، ففقأت عينه، فلا جناح عليك (2). فإذا ثبت أنه لا جناح عليه فلا ضمان، لأن أحدا لا يفصل بين الأمرين.
مسألة 4: إذا كان لرجل بهائم، فأرسلها ليلا فأتلفت زرعا، فعليه ضمانه.
وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وروي أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا، فأفسدته، فرفع ذلك إلى النبي عليه السلام، فقضى أن على أهل الأموال حفظها نهارا، وعلى أهل المواشي حفظها ليلا، وإن على أهلها بالليل الضمان (6).
مسألة 5: إذا كان راكب دابة، أو قائدها، فعليه ضمان ما تتلفه بيدها،
ص: 511
وليس عليه ضمان ما تتلفه برجلها. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: يلزمه ضمان الجميع، ما تتلفه باليد والرجل (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
وروى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: الرجل جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس (4). وقوله: (الرجل جبار) يعني جنايتها هدر لا تضمن، فأما إذا كان سائقها فإنه يضمن الجميع بلا خلاف.
ص: 514
ص: 515
ص: 516
مسألة 1: الجهاد فرض على الكفاية. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وقال سعيد بن المسيب: هو فرض على الأعيان (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة.
وأيضا قوله تعالى: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم - إلى قوله: - وكلا وعد اللّه الحسنى " (3) ففاضل بين المجاهدين والقاعدين، فدل على أن الجميع جائز وإن كان الجهاد أفضل.
وروي عن النبي عليه السلام أن قال: من جهز غازيا فقد غزى، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزي (4)، فلو كان فرضا على الأعيان، لكان القاعد
ص: 517
يستحق العقاب دون الثواب.
مسألة 2: روى أصحابنا: أنه يجوز أن يغزو الإنسان عن غيره، ويأخذ عليه أجرة (1).
وخالف جميع الفقهاء في ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 3: إذا غزت طائفة بغير إذن الإمام، فغنموا مالا، فالإمام مخير إن شاء أخذه منهم، وإن شاء تركه عليهم. وبه قال الأوزاعي والحسن البصري (3).
وقال الشافعي: يخمس عليهم (4).
وقال أبو حنيفة لا يخمس (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 4: إذا غنم المسلمون خيلا للمشركين ومواشيهم، ثم أدركهم
ص: 518
المشركون وخافوا أخذها منهم، لم يجز عقرها وقتلها. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: يجوز قتلها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
وروي عن النبي عليه السلام أنه: نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله (4)، ونهى عن قتل الحيوان صبرا (5).
مسألة 5: الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم كالرهبان وأصحاب الصوامع، إذا وقعوا في الأسر حل قتلهم.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يجوز مثل ما قلناه (6) وهو الأصح.
ص: 519
والثاني: لا يجوز قتلهم. وبه قال أبو حنيفة (1) وذهب إليه قوم من أصحابنا (2).
دليلنا: على الأول قوله تعالى: " اقتلوا المشركين " (3) ولم يفصل.
وأيضا قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه - الآية إلى قوله: - حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (4) ولم يفصل.
وروى سمرة: (أن النبي عليه السلام قال: اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم) (5) يعني الغلمان المراهقين.
وأما القول الآخر فقد روي ذلك في بعض أخبارنا (6).
مسألة 6: من لم تبلغه الدعوة من الكفار لا يجوز قتله قبل عرض الدعوة عليه، فإن قتله فلا ضمان عليه. وبه قال أبو حنيفة (7).
ص: 520
وقال الشافعي: عليه ضمان ديته (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2) وأيضا الأصل براءة الذمة من الضمان، وإيجابه يحتاج إلى دليل.
دليلنا: قوله عليه السلام: المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم (1)، وأدناهم عبيدهم.
مسألة 9: من فعل ما يجب عليه به الحد في أرض العدو من المسلمين، وجب عليه الحد، إلا أنه لا يقام عليه الحد في أرض العدو، بل يؤخر إلى أن يرجع إلى دار الإسلام.
وقال الشافعي: يجب الحد وإقامته، سواء كان هناك إمام أو لم يكن (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان هناك إمام وجب، وأقيم، وإن لم يكن هناك إمام لم يقم (3).
وأصحابه يقولون: إنها تجب، لكنها لا تقام وهذا مثل ما قلناه (4).
وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: من قتل عمدا مسلما لا قود عليه.
والمشهور هو الأول (5).
دليلنا: على وجوب الحد قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (6) ولم يفصل.
ص: 522
وقوله تعالى: (والسارق والسارقة) (1) وإنما أخرناها لإجماع الفرقة على ذلك.
مسألة 10: لا يملك المشركون أموال المسلمين بالقهر والغلبة وإن حازوها إلى دار الحرب، بل هي باقية على ملك المسلمين، فإن غنم المسلمون ذلك ووجده صاحبه أخذه بغير ثمن إذا كان قبل القسمة، وإن كان بعد القسمة أخذه ودفع الإمام قيمته إلى من وقع في سهمه من بيت المال، لئلا ينتقص القسمة، وإن أسلم الكافر عليه فهو أحق به - يعني صاحبه - وبه قال الشافعي (2) وفي الصحابة أبو بكر، وسعد بن أبي وقاص، وفي الفقهاء ربيعة (3).
وقد روى أصحابنا أنه يأخذه بعد القسمة بالقيمة (4). وبه قال مالك والأوزاعي (5).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: كلما يصح تملكه بالعقود، فإن المشركين يملكونه بالقهر والإحازة إلى دار الحرب إلا أن صاحبه إن وجده قبل القسمة أخذه بغير شئ، وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة، وإن أسلم الكافر عليه فهو أحق
ص: 523
به (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وأيضا: روى عمران بن حصين: (إن قوما من المشركين أسروا امرأة أنصارية وناقة - وذكر الخبر إلى أن قال: - فلما أن كان ذات ليلة انفلتت المرأة عن وثاقها، فجاءت إلى. الإبل، فكلما مست بعيرا رغا إلى أن مست تلك الناقة فلم ترغ، فجلست على عجزها وصاحت بها، وانطلقت، فطلبوها من ليلتها فلم يدركوها، فنذرت إن نجاها اللّه، عليها أن تنحرها، فلما قدمت المدينة عرفوا الناقة، وإنها ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فقالت: قد نذرت إن نجاني اللّه عليها أن أنحرها، فأخبروا النبي عليه السلام بذلك، فقال: بئس ما جزيتيها، لا وفاء لنذر في معصية اللّه، ولا وفاء لنذر فيما لا يملكه ابن آدم، فأخذوا الناقة منها) (3).
وأما ما رواه أصحابنا: أنه يأخذ ماله بعد القسمة بالقيمة، فقد روي ذلك عن ابن عباس، قال: (سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن رجل شرد له بعير وأبق له عبد، فأخذهما المشركون، ثم ظهر عليهما. فقال: إن وجدهما قبل
ص: 524
القسمة فهما له بغير شئ، وإن وجدهما بعد القسمة فهما له بالقيمة) (1).
مسألة 11: إذا دخل حربي إلى دار الإسلام بأمان ومعه مال، انعقد أمانه على نفسه وماله بلا خلاف، فإذا رجع إلى دار الحرب وخلف ماله في دار الإسلام، ثم مات في دار الحرب، صار ماله فيئا.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه.
والثاني: يكون لورثته في دار الحرب (2).
دليلنا: إن مال أهل الحرب الأصل فيه أنه فئ، فإذا عرض عارض في حال الأمان منعنا منه، فإذا زال العارض عاد إلى الأصل من كونه فيئا، ومن منع منه فعليه الدلالة.
مسألة 12: إذا أسلم الحربي، أحرز ماله ودمه وصغار أولاده، وسواء في ذلك ماله الذي في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وقال مالك: يحرز ماله الذي في دار الإسلام إذا أسلم في دار الإسلام مما هو في يده، وما ليس في يده. وبه قال الشافعي (3) إلا أن أصحابه قالوا: يحرز ماله الذي يمكن نقله إلى دار الإسلام، وأما ماله في دار الحرب فهو غنيمة (4) وبنى هذا على أن أهل الحرب لا ملك لهم، فإذا أسلموا تجدد لهم الملك بالقهر
ص: 525
والغلبة على ماله في دار الإسلام، والذي في دار الكفر لا يملكه.
وقال أبو حنيفة: إذا أسلم أحرز ما في يده المشاهدة وما في يد ذمي، فأما ما لا يد له عليه فإنه لا يحرزه، فإن ظهر المسلمون عليه غنموه، وهكذا ما لا ينقل ولا يحول مثل العقار والأراضي لا يحرزها بإسلامه.
لأن اليد لا تثبت عليها على أصلهم (1).
وعند أبي حنيفة إن أملاك أهل الحرب ضعيفة، فلا يملكون بإسلامهم إلا ما تثبت عليه اليد، ويقول أيضا: الحربي إذا تزوج حربية فأحبلها، ثم أسلم قبل أن تضع، فالولد مسلم، ويجوز استرقاق الأم والولد، وإن انفصل الولد لم يجز استرقاقه (2).
وعند الشافعي لا يجوز استرقاقه بحال، وهو الذي يقتضيه مذهبنا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها) (5) فأضاف الأموال إليهم،
ص: 526
وحقيقة ذلك تقتضي ملكا، ثم قال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم) ولم يفصل بين ما كان في دار الحرب وغيره.
وروي: أن النبي عليه السلام لما حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا رجل، قال: أحرز إسلامهما دماءهما وأموالهما وصغار أولادهما (1). وهذا نص.
والدليل على مالك: قوله تعالى: (وأورثكم أرضهم وديارهم) (2) وحقيقة الإضافة تقتضي الملك.
مسألة 13: مكة فتحت عنوة بالسيف. وبه قال الأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك (3).
وقال الشافعي: إنها فتحت صلحا. وبه قال مجاهد (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وروي: أن النبي عليه السلام لما دخل مكة استد إلى الكعبة ثم قال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن) (6) فآمنهم بعد أن ظفر بهم، ولو
ص: 527
كان دخلها صلحا لم يحتج إلى ذلك.
وأيضا قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) (1) وإنما أراد فتح مكة، والفتح لا يسمى إلا ما أخذ بالسيف.
وقال تعالى: (إذا جاء نصر اللّه والفتح) (2) يعني فتح مكة (3).
وقال تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) (4) وهذا صريح في الفتح (5).
ومن قرأ السير والأخبار وكيفية دخول النبي عليه السلام مكة علم أن الأمر على ما قلناه.
وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: (كل بلدة فتحت بالسيف إلا المدينة فإنها فتحت بالقرآن) (6).
وروي عن النبي عليه السلام: (أنه دخل مكة وعلى رأسه المغفر) (7).
وقتل خالد بن الوليد أقواما من أهل مكة وهذا علامة القتال.
مسألة 14: إذا وطئ بعض الغانمين جارية من المغنم، لم يلزمه الحد. وبه قال جميع الفقهاء (8).
ص: 528
وقال الأوزاعي وأبو ثور: عليه الحد (1).
وروي ذلك عن مالك (2).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وأيضا إجماع الفرقة.
وأيضا قول النبي عليه السلام: (ادرؤا الحدود بالشبهات) (3) وهاهنا شبهة.
مسألة 15: إذا وطئ الغانم المسلم جارية من المغنم، فحبلت، لحق به النسب، وقومت عليه الجارية والولد، ويلزم بما يفضل عن نصيبه.
وقال الشافعي: يلحق به نسبه ولا يملكه (4).
وهل تقوم الجارية عليه؟ فيه طريقان.
منهم من قال على قولين.
وقال أبو إسحاق تقوم عليه قولا واحدا، فأما الولد فإن وضعت الولد بعد أن قومت الجارية عليه لا يقوم عليه الولد، لأنها وضعت في ملكه، وإن وضعت قبل أن تقوم عليه قوم عليه الولد (5).
وقال أبو حنيفة: لا يلحق به ويسترق (6).
ص: 529
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1) وأيضا فقد بينا أنه لا يجب عليه حد، وأنه ليس بزان، وولد الشبهة يلحق به.
مسألة 16: إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان، فسرق منهم شيئا، أو استقرض من حربي مالا، وعاد إلينا، فدخل صاحب المال بأمان، كان له عليه رده. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه رده (3).
دليلنا: قوله تعالى: " إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " (4) وهذا دخل بأمان، ولأن استحلال مال الغير يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل على جواز ذلك.
فحرم الزوجات من النساء، واستثنى من ذلك ملك اليمين.
وروي أن هذه الآية نزلت على سبب.
روى أبو سعيد الخدري قال: (بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سرية قبل أوطاس (1)، فغنموا النساء، فتأثم ناس من وطيهن لأجل أزواجهن، فنزلت: (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) (2). الآية نزلت في شأن المزوجات إذا سبين وملكن (3)، فأما إذا سبيت وحدها من زوجها فلا خلاف أن العقد ينفسخ.
مسألة 18: إذا سبيت المرأة مع ولدها الصغير، لم يجز التفريق بينهما بالبيع ما لم يبلغ الصبي سبع سنين، فإذا بلغ ذلك كان جائزا.
وقال الشافعي: لا يفرق بينهما حتى يبلغ الولد. في أصلح القولين وهكذا كل أمة لها ولد مملوك (4).
وفيه قول آخر: أنه إذا بلغ حد التخيير وهو السبع أو الثمان جاز التفريق كما قلناه (5).
وقال مالك: إذا أثغر الصبي - وهو أن تسقط أسنانه وتنبت - جاز التفريق (6).
ص: 531
وقال الليث بن سعد: إذا بلغ حدا يأكل بنفسه ويلبس بنفسه جاز التفريق (1).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز التفريق بينهما ما لم يبلغ (2).
وقال أحمد: لا يجوز التفريق أبدا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
مسألة 19: إذا فرق بين الصغير وبين أمه، لم يبطل البيع. وبه قال أبو حنيفة (5).
وقال الشافعي: يبطل (6).
دليلنا: قوله تعالى: (وأحل اللّه البيع) (7).
وأيضا الأصل جوازه، وصحته، وإبطاله يحتاج إلى دليل.
ولو قلنا أنه يبطل البيع كان قويا، فإن أخبارنا تدل على ذلك (8).
ولأنه إذا ثبت أنه منهي عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، كان قويا.
وأيضا: روي عن علي عليه السلام: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه
ص: 532
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن ذلك، فرد البيع) (1).
مسألة 20: يجوز التفريق بين الأبوين وكل قريب ما عدا الوالدين والمولودين. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: كل ذي رحم محرم بالنسب لا يجوز التفريق بينه وبين الولد (3).
دليلنا: أن الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 21: إذا سبي صبي مع أبويه أو أحدهما، تبعه في الكفر. وبه قال جميع الفقهاء (4).
وقال الأوزاعي يتبع السابي في الإسلام (5).
وقال مالك: إذا سبي مع أمه لا يتبعها ويتبع السابي، وإن سبي معهما أو مع الأب يتبعه (6).
دليلنا: قوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه) (7) ولم يفصل بين المسبي وغيره.
ولأن الأصل كونه تابعا لأبويه، ولكل واحد منهما، ونقله عن ذلك إلى
ص: 533
السابي يحتاج إلى دليل.
مسألة 22: يجوز بيع أولاد الكفار في الموضع الذي يحكم بكفرهم، من الكفار والمسلمين. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو يوسف، وأحمد: لا يجوز البيع من كافر (2).
وقال أبو حنيفة: أكره ذلك (3).
دليلنا: قوله تعالى: (وأحل اللّه البيع) (4) ولم يفصل.
وأيضا: المنبي عليه السلام لما سبي بني قريظة جزأ السبي ثلاثة أجزاء، فبعث بثلثيه إلى الحجاز، وثلثه إلى الشام (5). والشام كانت دار كفر في ذلك الوقت، وإنما بعث بهم للبيع.
مسألة 23: كل أرض فتحت عنوة بالسيف فهي للمسلمين كافة، لا يجوز قسمتها بين الغانمين، وإنما يقسم بينهم ما سوى العقارات والأرضين من الأموال. وبه قال مالك، والأوزاعي إلا أنهما قالا: تصير وقفا على المسلمين بالفتح (6).
وقال الشافعي: يجب قسمتها بين الغانمين كما يقسم غير الأرضين (7).
ص: 534
وقال أبو حنيفة: الإمام مخير إن شاء قسم وإن شاء أقر أهلها فيها وضرب عليهم الجزية، وإن شاء أجلاهم وجاء بقوم آخرين من أهل الذمة فأسكنهم إياها وضرب عليهم الجزية (1).
وأصل هذا الخلاف سواد العراق التي فتحت في أيام عمر، فعند الشافعي أنه قسمها بين المقاتلة، ثم استطاب أنفسهم واشتراها.
وعند مالك أنه وقفها.
وعند أبي حنيفة أنه أقر أهلها فيها، وضرب عليهم الجزية، وهي الخراج.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2) وقد مرت في كتاب الزكاة (3).
مسألة 24: إذا صالح الإمام قوما من المشركين على أن يفتحوا الأرض ويقرهم فيها، ويضرب على أرضهم خراجا بدلا عن الجزية، كان ذلك جائزا على حسب ما يعمله من المصلحة، ويكون جزية، فإذا أسلموا أو باعوا الأرض من مسلم سقط. وبه قال الشافعي إلا أنه قيد ذلك بأن قال: إذا علم أن ذلك يفئ بما يختص كل بالغ دينارا في كل سنة (4).
وقال أبو حنيفة: لا يسقط ذلك بالإسلام (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
مسألة 25: إذا خلى المشركون أسيرا على مال يوجهه إليهم، وأنه إن لم
ص: 535
يقدر على المال يرجع إليهم، فإن قدر على المال لم يلزمه إنفاذه، وإن لم يقدر عليه لم يلزمه الرجوع بل لا يجوز له ذلك. وبه قال الشافعي من الفقهاء (1).
وقال أبو هريرة، والنخعي، والحسن البصري، والثوري، والزهري، والأوزاعي. عليه إنفاذ المال إن قدر، وإن لم يقدر لا يلزمه الرجوع (2).
وقال الأوزاعي: إن لم يقدر على المال يلزمه الرجوع (3).
وحكي ذلك عن بعض أصحاب الشافعي.
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب المال والرجوع يحتاج إلى دليل، وأما الرجوع إليهم وإعطاء المال إياهم فظاهر الفساد، لأنه إذا كان بينهم يلزمه الخروج فيكف يجب عليه الرجوع، وفي إعطاء المال إياهم تقوية للكفار، وذلك باطل.
ص: 536
ص: 537
ص: 538
مسألة 1: لا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان، سواء كانوا من العجم أو من العرب. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم، ولا تؤخذ من العرب (2).
وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4).
وأيضا قوله تعالى: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (5) وقال تعالى:
ص: 539
(فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (1) ولم يستثن.
وقال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (2) فخص أهل الكتاب بالجزية دون غيرهم.
وأيضا قوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه (3).
مسألة 2: يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب. وبه قال جميع الفقهاء (4).
وقال أبو يوسف: لا يجوز (5).
دليلنا: قوله تعالى: (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (6) ولم يفرق.
وأيضا: بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خالد بن الوليد إلى دومة
ص: 540
الجندل (1)، فأغار عليها، وأخذ أكيدر (2) دومة، فأتى به النبي عليه السلام، فصالحه على الجزية (3).
وقال الشافعي: أكيدر بن حسان (4) رجل من كندة (5) أو غسان (6)، وكلاهما عرب.
وأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الجزية من أهل نجران (7) وفيهم
ص: 541
عرب (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1).
وأيضا قوله تعالى: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) (2) وقال: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) (3) ولم يأمر بأخذ الجزية منهم.
وأيضا قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه - إلى قوله -: من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (4) فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب، وهؤلاء ليسوا بأهل الكتاب.
مسألة 5: الصغار المذكور في آية الجزية، هو التزام الجزية على ما يحكم به الإمام من غير أن تكون مقدرة، والتزام أحكامنا عليهم.
وقال الشافعي: هو التزام أحكامنا عليهم (5).
ومن الناس من قال: هو وجوب جري أحكامنا عليهم (6).
ومنهم من قال: الصغار أن يؤخذ الجزية منه قائما، والمسلم جالسا (7).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الصغار هو أن لا يقدر الجزية، فيوطن نفسه عليها، بل تكون بحسب ما يراه الإمام مما يكون معه صاغرا.
وأيضا قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (8) فجعل الصغار
ص: 543
شرطا لرفع السيف، فمن قال أنه لا يرتفع حتى تجري أحكامنا، وحتى يعطوا الجزية خالف الظاهر.
مسألة 6: المجنون المطبق لا خلاف أنه لا جزية عليه، وإن كان ممن يجن أحيانا ويفيق أحيانا حكم بحكم الأغلب. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: يسقط حكم المجنون ولا تلفق أيامه.
وقال أكثر أصحابه تلفق أيامه، فإذا بلغت الأيام حولا وجبت الجزية (2).
دليلنا: قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية) (3) ولم يستثن، ولم يشرط التلفيق، وإنما أخرجنا المطبق ومن غلب على أكثر أيامه الجنون بدليل.
مسألة 7: الشيوخ الهرمى، وأصحاب الصوامع، والرهبان يؤخذ منهم الجزية.
وللشافعي فيه قولان، بناء على القولين إذا وقعوا في الأسر هل يجوز قتلهم أم لا؟ (4).
وفي أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية (5).
دليلنا: على الأول قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (6) ولم يفصل.
ص: 544
مسألة 8: يجوز لأهل الذمة أن يلبسوا العمائم والرداء. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة وأحمد: ليس لهم ذلك (2).
دليلنا: المنع من ذلك يحتاج إلى دليل.
وأيضا: إذا لبسوا العمائم وتميزوا من المسلمين فلا وجه للمنع من ذلك.
مسألة 9: ليس للجزية حد محدود، بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، يأخذ منهم بحسب ما يراه أصلح، وما يحتمل أحوالهم مما يكونوا به صاغرين وبه قال الثوري (3).
وقال الشافعي: إذا بذل الكافر دينارا في الجزية قبل منه، موسرا كان أو معسرا أو متوسطا (4).
وقال مالك: أقل الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وثمانية وأربعون درهما على أهل الورق في جميع من ذكرناه (5).
ص: 545
وقال أبو حنيفة: جزية المعتمل (1) اثنا عشر درهما، والمتوسط أربعة وعشرون درهما، والغني ثمانية وأربعون درهما (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، ولأن تقدير ذلك بحد يحتاج إلى دليل شرعي، وليس في الشرع ما يدل عليه. والآية إنما أوجبت الجزية التي يكون بإعطائها صاغرا وذلك يختلف الحال فيه.
وأيضا قوله تعالى: (لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها) (1) وأيضا قوله تعالى:
(لا يكلف اللّه نفسا إلا ما أتاها) (2) وإذا لم يكن له قدرة على المال ولا الكسب فلا يجوز أن تجب عليه الجزية.
مسألة 11: إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول، ثم مات أو أسلم قال الشافعي لم تسقط (3).
وقال أبو حنيفة تسقط (4).
وقال أصحابنا: إن أسلم سقطت، ولم يذكروا الموت. والذي يقتضيه المذهب أنه إذا مات لا تسقط عنه، لأن الحق واجب عليه فيؤخذ من تركته (5).
وبه قال مالك (6).
وأما الدليل على أنه تسقط بالإسلام: قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) (7)، فشرط في إعطائها الصغار، وهذا لا يمكن مع الإسلام،
ص: 547
فيجب أن تسقط.
وأيضا قوله عليه السلام: الإسلام يجب ما قبله (1)، يفيد سقوطها، لأن عمومه يقتضي ذلك.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: لا جزية على مسلم (2)، وذلك على عمومه في الاعطاء والوجوب.
مسألة 12: إذا صالحنا المشركين على أن تكون الأرض لهم بجزية التزموها وضربوها على أراضيهم، فيجوز للمسلم أن يشتريها، ويصح الشراء، وتصير أرضا عشرية. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: الشراء باطل (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
وأيضا فإن هذه الأرضين أملاك لهم، وإنما تؤخذ منهم الجزية، فيجب أن يصح شرائها كسائر الأملاك.
مسألة 13: إذا دخل حربي إلينا بأمان، فقال له الإمام: أخرج إلى دار الحرب، فإن أقمت عندنا صيرت نفسك عندنا ذميا، فأقام سنة، ثم قال: أقمت لحاجة، قبل منه ولم تؤخذ منه الجزية، بل يرده إلى مأمنه. وبه قال الشافعي (6).
ص: 548
وقال أبو حنيفة: إذا أقام سنة صار ذميا (1).
دليلنا: إن عقد الذمة، لا يكون إلا بالإيجاب والقبول، وهذا ما وجد والحكم بالذمة عليه يحتاج إلى شرع، والأصل براءة الذمة.
مسألة 14: لا يجوز أن يمكن أحد من أهل الذمة أن يدخل الحرم بحال لا مجتازا ولا لحاجة. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يدخله عابر سبيل، أو محتاجا إلى أن ينقل الميرة إليه (3).
دليلنا: قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) (4) وإنما أراد به الحرم كله بلا خلاف.
مسألة 15: إذا دخل حربي دار الإسلام، أو أهل الذمة دخلوا الحجاز من غير شرط لما يؤخذ منهم، فإنه لا يؤخذ منهم شئ. وهو ظاهر مذهب الشافعي (5).
وفي أصحابه من قال: يؤخذ من الذمي إذا دخل بلد الحجاز سوى الحرم
ص: 549
نصف العشر، وفي الحربي إذا دخل دار الإسلام العشر (1).
وقال أبو حنيفة: يؤخذ منهم ما يأخذون هم من المسلمين إذا دخلوا دار الحرب، فإن عشروهم عشرناهم، وإن أخذوا منهم نصف العشر فمثل ذلك، وإن عفوا عنهم عفونا عنهم (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وتقدير ما يؤخذ منهم يحتاج إلى شرع أو شرط، وليس هاهنا واحد منهما.
مسألة 16: إذا هادن الإمام المشركين مدة على أن من جاء منهم رده إليهم، وينكف الحرب فيما بينهم، ثم جاءت امرأة مسلمة مهاجرة منهم إلى بلد الإسلام، لم يجز ردها بلا خلاف، إلا أنه إن جاء زوجها وطالب مهرها الصحيح الذي أقبضها إياه كان على الإمام أن يرده إليه من سهم المصالح.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه (3)، وهو أضعفهما عندهم. والثاني: وهو الصحيح عندهم أنه لا يرد عليه شيئا. وهو اختيار الشافعي، والمزني، وبه قال أبو حنيفة (4).
دليلنا: قوله تعالى: " وأتوهم ما انفقوا " (5) وهذا قد أنفق.
مسألة 17: يجوز للإمام أن يصالح قوما على أن يضرب الجزية على أرضهم
ص: 550
بحسب ما يراه، ومتى أسلموا سقط ذلك عنهم وصارت الأرض عشرية. وبه قال الشافعي، إلا أنه قيد ذلك أنه يضع عليها بأقل ما يكون من الجزية فصاعدا (1).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاقتصار على هذا حتى ينضم إليه ضرب الجزية على الرؤس، ومتى أسلموا لا تسقط عنهم بل تكون الأرض خراجية على ما وضع عليها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 18: إذا صالحهم على أن يأخذ منهم العشر، أو السدس، أو الرابع مطلقا، وإن لم يشرط عليهم أنه متى نقص عن مقدار الجزية حمله، كان ذلك جائزا.
وقال الشافعي: لا يجوز ذلك، لأنه مجهول (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم على أن ذلك إلى الإمام بحسب ما يراه (5)، ولم يقيدوا.
مسألة 19: إذا انتقل الذمي من دينه إلى دين يقر أهله عليه، مثل يهودي صار نصرانيا، أو نصراني صار يهوديا أو مجوسيا، أقر عليه. وبه قال أبو حنيفة (6).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني - وهو الأصح عندهم - أنه
ص: 551
لا يقر (1)، لقوله عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه) (2) ولقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (3).
دليلنا: هو أن الكفر كالملة الواحدة، بدلالة أنه يرث بعضهم من بعض وإن اختلفوا، وعليه إجماع الفرقة.
وقوله عليه السلام: (من شرب الخمر فاجلدوه) (1) ولم يفصل.
مسألة 22: أهل الذمة إذا فعلوا ما يجب به الحد مما يحرم في شرعهم، مثل:
الزنا، واللواطة، والسرقة، والقتل، والقطع أقيم عليهم الحد بلا خلاف، لأنهم عقدوا الذمة بشرط أن تجري عليهم أحكامنا، وإن فعلوا ما يستحلونه مثل:
شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ونكاح المحرمات فلا يجوز أن يتعرض لهم ما لم يظهروه بلا خلاف. فإن أظهروه وأعلنوه كان للإمام أن يقيم عليهم الحدود.
وقال جميع الفقهاء: ليس له أن يقيم الحدود التامة، بل يعزرهم على ذلك، لأنهم يستحلون ذلك ويعتقدون إباحته (2).
دليلنا: الآيات الموجبات لإقامة الحدود (3)، وهي على عمومها، وإنما خصصنا حال الاستتار بدليل الإجماع، وأيضا عليه إجماع الفرقة.
ص: 553
ص: 554
الصورة

ص: 555
ص: 556
الصورة

ص: 557
الصورة

ص: 558
الصورة

ص: 559
الصورة

ص: 560
الصورة

ص: 561
الصورة

ص: 562
الصورة

ص: 563
الصورة

ص: 564
الصورة

ص: 565
الصورة

ص: 566
الصورة

ص: 567
الصورة

ص: 568
الصورة

ص: 569
الصورة

ص: 570
الصورة

ص: 571
الصورة

ص: 572
الصورة

ص: 573
الصورة

ص: 574
الصورة

ص: 575
الصورة

ص: 576
الصورة

ص: 577
الصورة

ص: 578
الصورة

ص: 579
الصورة

ص: 580
الصورة

ص: 581
الصورة

ص: 582
الصورة

ص: 583
الصورة

ص: 584
الصورة

ص: 585
الصورة

ص: 586
الصورة

ص: 587
الصورة

ص: 588
الصورة

ص: 589
الصورة

ص: 590
الصورة

ص: 591
الصورة

ص: 592
الصورة

ص: 593
الصورة

ص: 594
الصورة

ص: 595
الصورة

ص: 596
الصورة

ص: 597
الصورة

ص: 598
الصورة

ص: 599
الصورة

ص: 600
الصورة

ص: 601
الصورة

ص: 602
الصورة

ص: 603