المؤلف : الشيخ الطوسي
الجزء : 2
المجموعة : فقه الشيعة الى القرن الثامن
تحقيق : المحققون : السيد علي الخراساني ، السيد جواد الشهرستاني ، الشيخ مهدي نجف / المشرف : الشيخ مجتبى العراقي
سنة الطبع : 1409
كتاب الخلاف
تأليف
شيخ الطائفة الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي
قدس سره
385 - 460 ه
الجزء الثاني
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة
لجامعة المدرسين بقم المشرفة
المحرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
الكتاب: الخلاف (الجزء الثاني)
المؤلف: شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
المحققون: الحاج السيد علي الخراساني والحاج السيد جواد الشهرستاني
والحاج الشيخ مهدي نجف
الموضوع: فقه اللغة: عربي
عدد الأجزاء: 5 أجزاء عدد الصفحات: 496
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرسين بقم المشرفة
الطبع: الجديدة المطبوع: 2000 نسخة
التاريخ: 1409 ه. ق
ص: 2
ص: 3
ص: 4
مسألة 1: يجب في المال حق سوى الزكاة المفروضة، وهو ما يخرج يوم الحصاد من الضغث بعد الضغث، والحفنة بعد الحفنة يوم الجذاذ، وبه قال الشافعي (1) والنخعي ومجاهد (2).
وخالف جميع الفقهاء في ذلك (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
وأيضا قوله تعالى: " وآتوا حقه يوم حصاد " (4) فأوجب إخراج حقه يوم الحصاد، والأمر يقتضي الوجوب، والزكاة لا تجب إلا بعد التصفية والتذرية، وبلوغه المبلغ الذي يجب فيه الزكاة.
وأيضا روت فاطمة بنت قيس (5) إن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " في
ص: 5
المال حق سوى الزكاة (1).
وروى حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده (2) قالوا جميعا: قال أبو جعفر عليه السلام: هذا من الصدقة، يعطى المسكين القبضة بعد القبضة، ومن الجذاذ الحفنة بعد الحفنة حتى يفرغ (3).
مسألة 2: في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه، وفي ست وعشرين بنت مخاض، وبه قال أمير المؤمنين عليه السلام (4). وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: في خمس وعشرين بنت مخاض (5)، وأما ما زاد على ذلك فليس في النصب خلاف إلى عشرين ومائة.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
ص: 6
وأيضا روى عاصم بن ضمرة (1) عن علي عليه السلام (2) قال: أظنه عن رسول اللّه، وذكر مثل ما قلناه.
وقد روي مثل ذلك عن عمرو بن حزم (3) عن رسول اللّه صلى عليه وآله.
وأيضا روى عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: في خمس قلائص (4) شاة، وليس في ما دون الخمس شئ، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين خمس، وفي ست وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين (5).
وقال عبد الرحمن: هذا فرق بيننا وبين الناس، وساق الحديث إلى آخره.
مسألة 3: إذا بلغت الإبل مائة وعشرين ففيها حقتان بلا خلاف، فإذا زادت واحدة فالذي يقتضيه المذهب أن يكون فيها ثلاث بنات لبون، إلى مائة وثلاثين ففيها حقه وبنتا لبون، إلى مائة وأربعين ففيها
ص: 7
حقتان وبنت لبون، إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق، إلى مائة وثمانين ففيها أربع بنات لبون، إلى مائة وسبعين ففيها حقة وثلاث بنات لبون، إلى مائة وثمانين ففيها حقتان وبنتا لبون، إلى مائة وتسعين ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون، إلى مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، ثم على هذا الحساب بالغا ما بلغ. وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن عمر (1). وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا بلغت مائة وإحدى وعشرين استؤنفت الفريضة، في كل خمس شاة، إلى مائة وأربعين ففيها حقتان وأربع شياه، إلى مائة وخمس وأربعين ففيها حقتان وبنت مخاض، إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق.
ثم يستأنف الفريضة أيضا بالغنم، ثم بنت مخاض، ثم بنت لبون، ثم حقة فيكون في كل خمس شاة إلى مائة وسبعين فيكون فيها ثلاث حقاق وأربع شياه.
فإذا بلغت خمسا وسبعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت مخاض، إلى مائة وخمس وثمانين.
فإذا صارت ستا وثمانين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون، إلى خمس وتسعين ومائة، فإذا صارت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق، إلى مائتين.
ثم يعمل في كل خمسين ما عمل في الخمسين التي بعد مائة وخمسين، إلى أن ينتهي إلى الحقاق، فإذا انتهى إليها انتقل إلى الغنم، ثم بنت مخاض، ثم بنت لبون، ثم حقة، وعلى هذا أبدا (2).
ص: 8
وقال مالك وأحمد بن حنبل: في مائة وعشرين حقتان، ثم لا شئ فيها حتى تبلغ مائة وثلاثين فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وجعلا ما بينهما وقصا (1).
وقال ابن جرير: هو بالخيار بين أن يأخذ بمذهب أبي حنيفة، أو مذهب الشافعي (2).
دليلنا: ما رواه عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام قالا: ليس في الإبل شئ حتى تبلغ خمسا، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة، ثم في كل خمس شاة حتى تبلغ خمسا وعشرين، فإذا زادت ففيها ابنة مخاض، فإن لم يكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت على خمس وثلاثين فابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت فحقة إلى ستين، فإذا زادت فجذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت فبنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت فحقتان إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين ابنة لبون (3).
ومثل هذا روى الناس كلهم في كتاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كتبه لعماله في الصدقات وهو مجمع عليه (4).
فوجه الدلالة من الخبر أنه لا يخلو أن يكون أراد بقوله: في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون في الزيادة أو في الزيادة والمزيد عليه، ولا يجوز أن يكون المراد بذلك الزيادة دون المزيد عليه، لأن ذلك خلاف الإجماع، لأنه لم يقل به أحد، ولأنه كان يؤدي إلى أن يجري في مائة وخمسين حقتان، لأنه ما زاد
ص: 9
ما يجب فيه حقة أو بنت لبون.
وأجمعوا على أن فيها ثلاث حقاق، وكان يجب في مائة وسبعين ثلاث حقاق، وذلك أيضا لم يقل به أحد، لأن أبا حنيفة يقول: فيها ثلاث حقاق وأربع شياه، ومالك يقول: فيها حقة وثلاث بنات لبون، وكذلك يقول الشافعي.
وإن أراد ذلك في الزيادة والمزيد عليه، فلا يخلو من أن يكون أراد أنه لا بد أن يجمع المال الأمران، أو يكون المراد أي الأمرين أمكن.
والأول باطل لأنا أجمعنا على أن في مائة وخمسين ثلاث حقاق، ولم يجتمع فيه العددان، فلم يبق إلا أنه أراد أي الجنسين في المال، فإنه يجب ذلك.
وإذا ثبت ذلك فيمكن في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، فوجب ذلك فيه كما أنه يجب في مائة وخمسين ثلاث حقاق، وهذا بين.
وروى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثل ذلك سواء (1).
وكذلك روى عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام (2).
وروى الفضيل بن يسار، وبريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثل ذلك (3).
وروى إبراهيم عن مسلم (4) عن أبيه أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" إذا بلغت الإبل مائة وعشرين وواحدة ففيها ثلاث بنات لبون " (5). وهذا نص.
ص: 10
مسألة 4: من وجب عليه بنت مخاض، ولا يكون عنده إلا ابن لبون ذكر، أخذ منه ويكون بدلا مقدرا لا على وجه القيمة، وبه قال الشافعي وأبو يوسف (1).
وقال أبو يوسف ومحمد: إخراجه على سبيل القيمة (2).
دليلنا: ما رويناه من الأخبار، فإنها تضمنت أنه متى لم تكن عنده بنت مخاض فابن لبون ذكر (3)، وما يكون على وجه القيمة لا يقدر، لأنه يختلف باختلاف الأسعار والأوقات والبلدان، فإذا ثبت أنه على وجه واحد، دل على أنه ليس على وجه القيمة، بل هو على وجه التقدير.
مسألة 5: إذا فقد بنت مخاض وابن لبون معا كان مخيرا بين أن يشتري أيهما شاء، ويعطي. وبه قال الشافعي (4).
وقال مالك: يتعين عليه شراء بنت مخاض (5).
دليلنا: إنه إذا ثبت أنه مخير بين إخراج أيهما شاء، فإذا فقدهما كان مخيرا بين شراء أيهما شاء.
على أن الخبر الذي رويناه (6)، رواه أيضا مخالفونا أنه قال: فإن لم يكن
ص: 11
عنده بنت مخاض فابن لبون ذكرا (1).
وهذا ليس عنده بنت مخاض، فينبغي أن يجوز له شراء ابن لبون لظاهر الخبر.
مسألة 6: زكاة الإبل، والبقر، والغنم، والدراهم، والدنانير لا تجب حتى يحول على المال الحول. وبه قال جميع الفقهاء (2)، وهو المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام، وأبي بكر، وعمر، وابن عمر (3).
وقال ابن عمر: لا زكاة حتى يحول عليه الحول عند ربه (4)، وقال ابن عباس: إذا استفاد مالا زكاه لوقته كالركاز (5) (6)، وكان ابن مسعود إذا قبض العطاء زكاه لوقته، ثم استقبل به الحول (7).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فلا خلاف أنه إذا حال الحول يجب عليه الزكاة، ولم يقم دليل على أنه يجب عليه الحول، والأصل براءة الذمة.
وأيضا روت عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (8).
ص: 12
وروي عن علي عليه السلام وأنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " (1).
وروي مثل ذلك عن ابن عمر (2).
وروى محمد الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يفيد المال؟ قال: لا زكاة حتى يحول عليه الحول (3).
مسألة 7: إذا بلغت الإبل خمسا، ففيها شاة. ثم ليس فيها شئ إلى عشر ففيها أيضا شاة، فما دون النصاب وقص، وما فوق الخمس إلى تسع وقص، والشاة واجبة في الخمس، وما زاد عليه وقص، ويسمى ذلك شنقا، وبه قال أبو حنيفة وأهل العراق وأكثر الفقهاء، وقالوا: لا فرق بين ما نقص عن نصاب، ولا ما بين الفريضتين (4).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما قال في " الجديد " و " القديم " و " البويطي " مثل ما قلناه، في أنه في خمس شاة وما زاد عليه عفو، وهو اختيار المزني (5).
وظاهر قوله في " الإملاء " إن الشاة وجبت في التسع كلها (6).
قال أبو العباس: وهو أصح القولين.
وأكثر أصحاب الشافعي عبروا عنها بالوجهين، والمسألة مشهورة بالقولين، وهو ظاهر مذهبهم (7).
دليلنا: إجماع الفرقة.
ص: 13
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " إذا بلغت خمسة وعشرين ففيها بنت مخاض، ولا شئ في زيادتها حتى تبلغ ستا وثلاثين، فإذا بلغتها ففيها بنت لبون " (1) وقوله: لا شئ في زيادتها نفي دخل على نكرة فاقتضى أنه لا شئ فيها بحال وروي حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد بن معاوية والفضيل بن يسار عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في حديث زكاة الإبل وساق الحديث على ما قلناه ثم قال: وليس على النيف شئ، ولا على الكسور شئ (2).
مسألة 8: إذا بلغت الإبل مائتين، كان الساعي بالخيار بين أن يأخذ أربع حقاق أو خمس بنات لبون.
وقال أبو حنيفة أربع حقاق لا غير (3).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (4)، والآخر مثل قول أبي حنيفة (5).
دليلنا: ما قدمناه من الأخبار من أن الإبل إذا زادت على مائة وعشرين ففي كل خمسين حقه وفي كل أربعين بنت لبون (6)، وهذا عدد اجتمع فيه
ص: 14
خمسينات وأربعينات فيجب أن يكون مخيرا.
مسألة 9: إذا كانت الإبل كلها مراضا، لا يكلف صاحبها شراء صحيحة للزكاة، وتؤخذ منها. وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: يكلف شراء صحيحة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا الخبر الذي تضمن ذكر كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عامله قال فيه: فلا تدخلن عليه دخول متسلط، واجعل الخيار إلى رب المال (3) يدل على ذلك.
وأيضا فعلى من أوجب شراء صحيحة الدلالة، وليس في الشرع ما يدل عليه، والأصل براءة الذمة.
مسألة 10: من وجب عليه جذعة، وعنده ماخض، وهي التي تكون حاملا، لم يجب عليه إعطائها. فإن تبرع بها رب المال جاز أخذها، وبه قال الفقهاء أجمع أبو حنيفة ومالك والشافعي (4).
وقال داود وأهل الظاهر: لا يقبل ماخضا مكان حائل، ولا شيئا هو على مكان ما هو دونها (5).
دليلنا: إن هذا الفضل في الحامل إذا تبرع به مالكه جاز أخذه. ألا ترى أنه
ص: 15
لو تبرع بإعطائه من غير أن يجب عليه جاز أخذه.
فأما نهي النبي صلى اللّه عليه وآله عن أخذ كرائم المال (1)، فإنما نهى أن يؤخذ ذلك بغير رضا صاحب المال، فأما مع رضاه فلم ينه عنه على حال.
مسألة 11: من وجب عليه شاة أو شاتان أو أكثر من ذلك وكانت الإبل بها ذبل يساوي كل بعير شاة، جاز أن يؤخذ مكان الشاة بعير بالقيمة إذا رضي به صاحب المال.
وقال الشافعي: إن كان عنده خمس من الإبل مراضا كان بالخيار بين أن يعطي شاة أو واحدا منها، وكذلك إن كانت عنده عشر كان بالخيار بين شاتين أو بعير منها، وإن كانت عنده عشرون فهو بالخيار بين أربع شياه أو بعير منها الباب واحد (2).
وقال مالك وداود: لا يقبل منه في كل هذا غير الغنم (3).
ووافق مالك الشافعي في أنه يقبل منه بنت لبون وحقة وجذعة مكان بنت مخاض وخالف داود فيهما معا (4)، إلا أنهم اتفقوا أن ذلك لا على جهة القيمة والبدل، لأن البدل عندهم لا يجوز (5) دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في جواز أخذ القيمة من الزكوات، وإذا كان قيمة بعير قيمة شاة أو قيمة شاتين جاز أخذه بذلك.
ص: 16
مسألة 12: من وجبت عليه شاة في خمس الإبل أخذت منه من غالب غنم أهل البلد، سواء كانت غنم أهل البلد شامية أو مغربية أو نبطية، وسواء كان ضأنا أو ماعزا، وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: نظر إلى غالب ذلك، فإن كان الضأن هو الغالب أخذت منه، وإن كان الماعز الأغلب أخذ منه (2).
دليلنا: ما رواه سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال: نهينا أن نأخذ من المراضع، وأمرنا أن نأخذ الجذع من الضأن، والثني من الماعز، وأطلق (3).
وأيضا قوله في خمس من الإبل شاة، والاسم يقع على جميع ما قلناه.
مسألة 13: إذا حال عليه الحول وأمكنه الأداء لزمه الأداء، فإن لم يفعل من القدرة لزمه الضمان، وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: إذا أمكنه الأداء لم يلزمه الأداء إلا بالمطالبة بها، ولا مطالبة عنده في الأموال الباطنة، وإنما تتوجه المطالبة إلى الظاهرة، وإذا أمكنه الأداء فلم يفعل حتى هلكت فلا ضمان عليه (5).
دليلنا: إن الفرض تعلق بذمته، فإذا أمكنه ولم يخرج كان ضامنا له، ولم يحكم ببراءة ذمته لأنه لا دلالة على ذلك.
ص: 17
وأما دليلنا على وجوب الأداء مع الإمكان: إنه مأمور به، والأمر يقتضي الفور، فوجب عليه الأداء في هذه الحال، وإنما قلنا أنه مأمور به لقوله تعالى:
" أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (1) فمن قال: لا يجب الأداء إلا مع المطالبة، فقد ترك الظاهر.
مسألة 14: لا شئ في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغتها ففيها تبيع أو تبيعة، وهو مذهب جميع الفقهاء (2).
وقال سعيد بن المسيب والزهري: فريضتها في الابتداء كفريضة الإبل في كل خمس شاة إلى ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع (3).
دليلنا إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، وقد أجمعنا على أن الثلاثين فيها تبيع، فمن ادعى أن فيما دون ذلك شيئا فعليه الدلالة.
وأيضا روى الحكم (4) عن طاووس عن ابن عباس قال: لما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة، وجذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة فقالوا:
الأوقاص؟ فقال: لم يأمرني فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بشئ، وسأسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إذا قدمت عليه، فلما قدم على رسول اللّه صلى اللّه
ص: 18
عليه وآله سأله عن الأوقاص؟ فقال: ليس فيها شئ ذكرها هذا الخبر الدارقطني (1).
وروى حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد والفضيل عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام قالا في البقر: في كل ثلاثين بقرة تبيع حولي، وليس في أقل من ذلك شئ، وفي أربعين بقرة بقرة مسنة، وليس فيما بين الثلاثين إلى أربعين شئ حتى تبلغ أربعين فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، وليس فيما بين الأربعين إلى الستين شئ، فإذا بلغت الستين ففيها تبيعان إلى السبعين، فإذا بلغت السبعين ففيها تبيع ومسنة إلى الثمانين، فإذا بلغت ثمانين ففي كل أربعين مسنة إلى تسعين، فإذا بلغت تسعين ففيها ثلاث تبيعات حوليات، فإذا بلغت عشرين ومائة ففي كل أربعين مسنة، ثم يرجع البقر إلى أسنانها. وليس على النيف شئ، ولا على الكسور شئ، ولا على العوامل شئ، إنما الصدقة على السائمة الراعية، وكلما لم يحل عليه الحول عند ربه فلا شئ عليه حتى يحول عليه الحول، فإذا حال عليه الحول وجب عليه (2).
مسألة 15: زكاة البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، وليس بعد الأربعين فيه شئ حتى تبلغ ستين، فإذا بلغت ففيها تبيعان أو تبيعتان، ثم على هذا الحساب ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، وبه قال مالك والشافعي والأوزاعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق (3).
ص: 19
وعن أبي حنيفة ثلاث روايات:
المشهور عنه ما ذكره في الأصول، وهو أن ما زادت وجبت الزكاة فيه بحسابه، فإذا بلغت إحدى وأربعين بقرة ففيها مسنة وربع عشر مسنة، وعليها المناظرة.
والثانية: رواها الحسن بن زياد لا شئ عليه في زيادتها حتى تبلغ خمسين، فإذا بلغتها ففيها مسنة وربع مسنة.
والثالثة: رواها أسد بن عمرو (1) مثل قولنا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا خبر طاووس عن ابن عباس يدل على ذلك (3)، وخبر زرارة وغيره عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام (4) صريح بما قلناه فلا وجه لإعادته.
مسألة 16: إذا بلغت البقر مائة وعشرين كان فيها ثلاث مسنات أو أربع تبائع مخير في ذلك.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما أن فيه ثلاث مسنات لا يجوز غيره، والآخر مثل قولنا من التخيير (5).
ص: 20
دليلنا: إجماع الفرقة والأخبار المروية في هذا المعنى أن في كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، فإذا اجتمع عدد يمكن أخذ كل واحد منهما كان بالخيار بين إعطاء أيهما شاء (1).
مسألة 17: زكاة الغنم في كل أربعين شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت واحدة ففيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا بلغت ذلك ففي كل مائة شاة، وبهذا التفصيل قال النخعي والحسن بن صالح بن حي (2).
وقال جميع الفقهاء أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم مثل ذلك إلا أنهم لم يجعلوا بعد المائتين وواحدة أكثر من ثلاث إلى أربعمائة، ولم يجعلوا في الثلاثمائة وواحدة أربعا كما جعلناه (3).
وفي أصحابنا من ذهب إلى هذا على رواية شاذة، وقد بينا الوجه فيها، وهو اختيار المرتضى (4).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وروى حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد والفضيل عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام في الشاة: في كل أربعين شاة شاة، وليس فيما دون الأربعين شاة شئ، ثم ليس فيها شئ حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا بلغت عشرين ومائة ففيها مثل ذلك شاة واحدة، فإذا زادت على عشرين ومائة
ص: 21
واحدة ففيها شاتان، وليس فيها أكثر من شاتين حتى تبلغ مائتين، فإذا بلغت المائتين ففيها مثل ذلك، فإذا زادت على المائتين شاة واحدة ففيها ثلاث شياه، ثم ليس فيها شئ أكثر من ذلك حتى تبلغ ثلاثمائة، فإذا بلغت ثلاثمائة ففيها مثل ذلك ثلاث شياه، فإذا زادت واحدة ففيها أربع حتى تبلغ أربعمائة، فإذا تمت أربعمائة كان على كل مائة شاة، ويسقط الأمر الأول، وليس على ما دون المائة بعد ذلك شئ، وليس في النيف شئ، وقالا: كل ما لا يحول عليه الحول عند ربه فلا شئ عليه، فإذا حال عليه الحول وجب عليه (1).
مسألة 18: السخال لا تتبع الأمهات في شئ من الحيوان الذي يجب فيه الزكاة، بل لكل شئ منها حول نفسه، وبه قال النخعي والحسن البصري (2).
وخالفت الفقهاء في ذلك على اختلاف بينهم سنذكره.
دليلنا: إجماع الفرقة، والأصل براءة الذمة، فمن أوجب شيئا في السخال إما بانفرادها أو مع أمهاتها فعليه الدليل.
وأيضا روت عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (3).
وقد قدمنا في رواية من تقدم عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام ما هو صريح بذلك، فلا معنى لإعادته.
وروي عن ابن عمر أنه قال: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول عند ربه (4).
ص: 22
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (1) عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه آله قال: " ليس في مال المستفيد زكاة " (2).
مسألة 19: قد بينا أنه لا زكاة في السخال ما لم يحل عليها الحول.
ومن أوجب فيها الزكاة اختلفوا، فقال الشافعي: السخال تتبع الأمهات بثلاث شرائط: أن تكون الأمهات نصابا، وأن تكون السخال من عينها لا من غيرها، وأن يكون اللقاح في أثناء الحول لا بعده.
وقال في الشرط الأول: إذا ملك عشرين شاة ستة أشهر فزادت حتى بلغت أربعين شاة، كان ابتداء الحول من حين بلغت نصابا، سواء كانت الفائدة من عينها، أو من غيرها. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (3).
وقال مالك ينظر فيه، فإن كانت الفائدة من غيرها كما قال الشافعي، وإن كانت من عينها كان حولها حول الأمهات، فإذا حال الحول من حين ملك الأمهات، أخذ الزكاة من الكل (4).
وقال في الشرط الثاني، وهو إذا كان الأصل نصابا، فاستفاد مالا من غيرها، وكانت الفائدة من غير عينها: لم يضم إليها، وكان حول الفائدة معتبرا بنفسها، وسواء كانت الفائدة من جنسها، مثل أن كان عنده خمس من الإبل ستة أشهر، ثم ملك خمسا من الإبل، أو من غير جنسها مثل إن كان عنده خمس من الإبل، فاستفاد ثلاثين بقرة (5).
ص: 23
وقال مالك وأبو حنيفة إن كانت الفائدة من غير جنسها مثل قول الشافعي، وإن كانت من جنسها، كان حول الفائدة حول الأصل، حتى لو كانت عنده خمس من الإبل حولا إلا يوما، فملك خمسا من الإبل، ثم مضى اليوم، زكى المالين معا (1).
وانفرد أبو حنيفة فقال: هذا إذا لم يكن زكى بدلها، فأما إن زكى بدلها، مثل أن كان عنده مائتا درهم حولا، فأخرج زكاته، ثم اشترى بالمائتين خمسا من الإبل، فإنها لا تضم إلى التي كانت عنده في الحول، كما قال الشافعي.
وقال: إن كان له عبد، فأخرج زكاة الفطرة عنه، ثم اشترى به خمسا من الإبل، مثل قول الشافعي.
وهذا الخلاف قد سقط عنا بما قدمناه من أنه لا زكاة على مال حتى يحول عليه الحول، سخالا كانت أو مستفادا أو نقلا من جنس إلى جنس.
مسألة 20: المأخوذ من الغنم، الجذع من الضأن، والثني من المعز، فلا يؤخذ منه دون الجذعة، ولا أكثر من الثنية. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ إلا الثنية فيهما (3).
وقال مالك: الواجب الجذعة فيهما (4).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روى سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول اللّه صلى اللّه عليه
ص: 24
وآله فقال: نهانا أن نأخذ من المراضع، وأمرنا أن نأخذ الجذعة والثنية (1).
مسألة 21: يفرق المال فرقتين ويخير رب المال، ويفرق الآخر كذلك ويخير رب المال، إلى أن يبقى ما فيه كمال ما يجب عليه، فيؤخذ منه.
وقال عمر بن الخطاب: يفرق المال ثلاث فرق، يختار رب المال واحد منها، ويختار الساعي الفريضة من الفرقتين الباقيتين. وبه قال الزهري (2).
وقال عطاء والثوري: يفرقه فرقتين، ثم يعزل رب المال واحدة، ويختار الساعي الفريضة من الأخرى (3).
وقال الشافعي: لا يفرق المال. ذكر ذلك في " القديم " (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، والخبر المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام فيما قاله لعامله عند توليه إياه ووصاه به، وهو معروف (5).
مسألة 22: من كان عنده أربعون شاة أنثى، أخذ منه أنثى، وإن كانت ذكورا كان مخيرا بين إعطاء الذكر والأنثى. وإن كان أربعين من البقر ذكرا كانت أو أنثى ففيها مسنة، ولا يؤخذ منها الذكر.
وقال الشافعي: إن كان أربعون إناثا، أو ذكورا وإناثا، ففيها أنثى قولا واحدا (6).
ص: 25
وإن كانت ذكورا فعلى وجهين: قال أبو إسحاق وأبو الطيب بن سلمة (1): لا يؤخذ إلا الأنثى (2).
وقال ابن خيران: يؤخذ منها ذكر، قال: وهو قول الشافعي (3).
دليلنا: إن الأربعين ثبت أنه يجب فيها شاة، وهذا الاسم يقع على الذكر والأنثى على حد واحد، فيجب أن يكون مخيرا.
وأما البقر، فلأن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " في كل أربعين مسنة " (4) والذكر لا يسمى بذلك، فيجب اتباع النص.
مسألة 23: إذا كان عنده نصاب من الماشية إبل، أو بقر، أو غنم، فتوالدت، ثم ماتت الأمهات، لم يكن حولها حول الأمهات، ولا يجب فيها شئ، ويستأنف لها الحول.
وقال الشافعي: إذا كانت عنده أربعون شاة مثلا، فإذا حال على الأمهات الحول، وجب فيها الزكاة من السخال. وهذا منصوص الشافعي، وبه قال أبو العباس، وعليه عامة أصحابه (5).
وقال أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحابه: ينظر فيه، فإن نقص من الأمهات ما قصرت الأمهات عن النصاب، بطل حول الكل، وكان للسخال
ص: 26
حول بنفسها من حين كمل النصاب. وإن لم ينقص الأمهات عن النصاب، فالحول بحاله (1).
وقال أبو حنيفة: إن ماتت الأمهات، انقطع الحول بكل حال، ولم يكن للسخال حول حتى يصرن ثنايا. فإن صرن ثنايا، يستأنف لهن الحول. وإن بقي من الأمهات شئ ولو واحدة، كان الحول بحاله. كما قال الشافعي (2).
وحكي هذا المذهب عن الأنماطي، وقال من حكاه: في المسألة ثلاثة أوجه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب في السخال بانفرادها، أو بانضمامها إلى الأمهات، أو جعل حولها حول الأمهات، فعليه الدلالة.
وأيضا قوله عليه السلام: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (4).
يدل على ذلك، لأن السخال لم يحل عليها الحول.
وروى جابر عن الشعبي أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس في السخال زكاة " (5).
مسألة 24: قد بينا أنه إذا ملك أربعين شاة، فتوالدت أربعين سخلة، ثم تماوتت الأمهات، لا يجب في السخال شئ، بل يستأنف حولها.
وقال الشافعي: لا ينقطع حولها، فإذا حال على الأمهات الحول أخذ من
ص: 27
السخال الزكاة، والفرض فيها واحد منها، ولا يكلف شراء كبيرة (1).
وقال مالك: يكلف شراء كبيرة، ولا يؤخذ منه واحد منها (2). وهذا الفرع يسقط عنا، لأن عندنا يستأنف بالسخال الحول على ما بيناه، فإذا حال عليها الحول أخذ منها.
مسألة 25: قد بينا أنه لا يؤخذ من الصغار حتى يحول عليها الحول.
وقال الشافعي على ما مضى القول فيه: تعد الصغار تابعة للأمهات، والظاهر من مذهبه أنه يؤخذ من الصغار الصغار، ومن الكبار الكبار، من خمس وعشرين فصيلا فصيل، ومن ستة وثلاثين فصيلا فصيل، وعلى هذا. وكذلك في الغنم والبقر (3).
وقال أبو العباس وأبو إسحاق معا: لا آخذ إلا السن المنصوص عليها بنت مخاض، وبنت لبون، وحقة، وجذعة، وبنتا لبون، وعلى هذا الحساب (4).
وهذا الفرع يسقط عنا لما مضى القول فيه.
مسألة 26: لا يجوز نقل مال الزكاة من بلد إلى بلد مع وجود مستحقيه، فإن نقله كان ضامنا له إن هلك، فإن لم يجد له مستحقا جاز نقله، ولا ضمان عليه أصلا.
وللشافعي في ذلك قولان، أحدهما: أنه يجزيه (5)، والآخر: إنه لا يعتد به (6).
دليلنا: إجماع الفرقة المحقة، فإنهم لا يختلفون في ذلك، وقد بينا رواياتهم في ذلك (7).
ص: 28
مسألة 27: إذا كان له ثمانون شاة في بلدين، فطالبه الساعي في كل بلد من البلدين بشاة، لم يلزمه أكثر من شاة. وكان بالخيار بين أن يخرجها في أي بلد شاء، وعلى الساعي أن يقبل قوله إذا قال: أخرجت في البلد الآخر، ولا يطالبه بيمين.
وقال الشافعي: يجب عليه شاة واحدة يخرجها في البلدين، في كل بلد نصفها، فإن قال: أخرجتها في بلد واحد أجزأه، فإن صدقه الساعي مضى، وإن اتهمه كان عليه اليمين (1). وهل اليمين على الوجوب أو الاستحباب؟ على قولين (2).
هذا قوله في جواز نقل المال من بلد إلى بلد، فإن لم يجز ذلك أخذ في كل واحد من البلدين نصف شاة، ولا يلتفت إلى ما أعطي.
دليلنا: إجماع الفرقة على قول أمير المؤمنين عليه السلام لعامله حين ولاه الصدقات: أنزل ماءهم من غير أن تخالط أموالهم ثم قل: هل اللّه في أموالكم من حق؟ فإن أجابك مجيب فامض معه، وإن لم يجبك فلا تراجعه (3).
فأمر عليه السلام بقبول قول رب المال، ولم يأمر باستظهار، ولا باليمين، فمن أوجب ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 28: إذا قال رب المال عندي وديعة، أو لم يحل عليه الحول، قبل من قوله ولا يطالب باليمين، سواء كان خلافا للظاهر أو لم يكن كذلك.
وقال الشافعي: إذا اختلفا، فالقول قول رب المال فيما لا يخالف الظاهر، وعليه اليمين استحبابا وإن خالف الظاهر فعلى وجهين. وما يخالف الظاهر هو
ص: 29
أن يقول: هذا وديعة، قال: لأن الظاهر أنه ملك له إذا كان في يده، فهذا اليمين على وجهين وإذا كان الخلاف في الحول، فإنه لا يخالف الظاهر، فيكون اليمين استحبابا، فكل موضع يقول: اليمين استحبابا فإن حلف وإلا ترك، وكل موضع يقول: يلزمه اليمين فإن حلف وإلا أخذ منه بذلك الظاهر الأول لا بالنكول (1).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء، فلا وجه لإعادته (2).
مسألة 29: إذا حال على المال الحول، فالزكاة تجب في عين المال، ولرب المال أن يعين في ذلك أي جزء شاء، وله أن يعطي من غير ذلك أيضا مخير فيه.
مثال ذلك، أن يملك أربعين شاة وحال عليه الحول، أستحق أهل الصدقة منها شاة غير معينة، وله أن يعين ما شاء منها. وبه قال الشافعي في الجديد، وهو أصح القولين عند أصحابه. وبه قال أبو حنيفة (3).
والقول الثاني: تجب في ذمة رب المال والعين مرتهنة بما في الذمة، فكان جميع المال رهنا في الذمة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن كل خبر روي في وجوب الزكاة تضمن أن الإبل إذا بلغت خمسا ففيها شاة - إلى قوله -: فإذا بلغت ستا وعشرين ففيها بنت مخاض، وكذلك فيما بعد، وكذلك قالوا في البقر إذا بلغت ثلاثين، ففيها تبيع أو تبيعة، وقالوا في الغنم إذا بلغت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها شاتان، وهذه الأخبار صريحة بأن الفريضة تتعلق بالأعيان لا
ص: 30
بالذمة (1).
وأيضا الأصل براءة الذمة، فمن علق عليها شيئا، كان عليه الدلالة.
مسألة 30: من كان له دراهم أو دنانير فغصبت، أو سرقت، أو جحدت، أو غرقت، أو دفنها في موضع ثم نسيها، وحال عليه الحول، فلا خلاف أنه لا تجب عليه الزكاة منها، لكن في وجوب الزكاة فيه خلاف، فعندنا لا تجب فيه الزكاة. وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وهو قول الشافعي في " القديم " (2).
وقال في " الجديد ": تجب فيه الزكاة، وبه قال زفر (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم لا يختلفون في ذلك.
مسألة 31: من غل ماله، أو غل بعضه حتى لا تؤخذ منه الصدقة، فإن كان جاهلا بذلك عفي عنه وأخذ منه الصدقة، وإن كان عالما بوجوبه عليه ثم فعله عزره الإمام، وأخذ منه الصدقة. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: إن كان الإمام عادلا عزره، وإن لم يكن الإمام عادلا لم يعزره، ويأخذ منه الصدقة. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري (4).
وقال أحمد بن حنبل وطائفة من أصحاب الحديث: تؤخذ منه الزكاة ويؤخذ معها نصف ماله (5).
ص: 31
وروي ذلك عن مالك أيضا.
دليلنا: إن الزكاة قد ثبت وجوبها عليه، فتؤخذ منه بلا خلاف، وتعزيره مجمع عليه، ولسنا نحتاج أن نشرط عدالة الإمام، لأنه لا يكون عندنا إلا معصوما، فأما أخذ نصف ماله فإنه يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " ليس في المال حق سوى الزكاة " (1) ولم يفصل.
مسألة 32: المتغلب إذا أخذ الصدقة، لم تبرأ ذمته من وجوب الزكاة عليه، لأن ذلك تحكم ظلم به، والصدقة لأهلها، ويجب عليه إخراجها، وقد روي أن ذلك مجز عنه (2)، والأول أحوط.
وقال الشافعي: إذا أخذ الزكاة إمام غير عادل أجزأت عنه، لأن إمامته لم تزل بفسقه (3).
وذهب أكثر الفقهاء من المحققين وأكثر أصحاب الشافعي إلى أنه إذا فسق زالت إمامته (4).
ص: 32
وقال أحمد بن حنبل وعامة أصحاب الحديث: لا تزول الإمامة بفسقه، وهو ظاهر قول الشافعي (1). وقال أصحابه لا تجئ على أصوله.
فأما فسق الإمام فعندنا لا يجوز، لأنه لا يكون إلا معصوما، وليس هذا موضع الدلالة عليه.
والذي يدل على أن ذمته لم تبرأ بما أخذه المتغلب، إن الزكاة حق لأهلها، فلا تبرأ ذمته بأخذ غير من له الحق، ومن أبرأ الذمة بذلك فعليه الدلالة.
مسألة 33: المتولد من الظباء والغنم سواء كانت الأمهات ظباء أو الفحولة نظر فيه، فإن كان يسمى غنما كان فيها الزكاة وأجزأت في الأضحية، وإن لم يسم غنما فليس فيها زكاة، ولا تجزي في الأضحية.
فأما إذا كانت ماشية وحشية على حدتها فلا زكاة فيها بلا خلاف.
وقال الشافعي: إن كانت الأمهات ظباء، والفحولة أهلية، فهي كالظباء لا زكاة فيها، ولا تجزي في الأضحية، وعلى قتلها الجزاء إذا كان محرما (2)، وهذا لا خلاف فيه.
وإن كانت الأمهات أهلية والفحولة ظباء قال الشافعي: لا زكاة فيها، ولا تجزي عن الأضحية، وفيها الجزاء (3).
وقال أبو حنيفة: هذه حكمها حكم أمهاتها فيها الزكاة، وتجزي في الأضحية، ولا جزاء على من قتلها (4).
دليلنا: ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله: " في سائمة الغنم
ص: 33
الزكاة " (1). وهذه إذا كانت تسمى غنما فالاسم يتناولها، فيجب فيها الزكاة.
وكذلك قوله: " في أربعين شاة شاة " (2) وهذه تسمى شاة، فيجب فيها الزكاة.
وقد قيل: إن الغنم المكية آبائها الظباء، وتسمية ما يتولد بين الظباء والغنم، رخل، وجمعه رخال، لا يمتنع من تناول اسم الغنم له، فمن أسقط عنه الزكاة فعليه الدلالة.
مسألة 34: لا زكاة في السخال والفصلان والعجاجيل حتى يحول عليها الحول.
وقد قال الشافعي وأصحابه: هذه الأجناس كالكبار من ملك منها نصابا جرت في الحول من حين ملكها، فإذا حال عليها الحول أخذت الزكاة منها، به قال أبو يوسف (3).
وقال مالك وزفر مثل ذلك، لكنهما قالا: تجب الزكاة ولا تؤخذ، ولكن يكلف عن الصغار كبيرة (4).
وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لا يجري في الحول حتى يصير ثنايا، فإذا
ص: 34
صارت ثنايا جرت في حول الزكاة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله:
" لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ". (2)
مسألة 35: لا تأثير للخلطة في الزكاة، سواء كانت خلطة أعيان، أو خلطة أوصاف. وإنما يزكى كل واحد منها زكاة الانفراد، فينظر إلى ملكه، فإن كان فيه الزكاة عن الانفراد ففيه الزكاة على الانفراد. فلا زكاة فيه مع الخلطة.
وخلطة الأعيان هي الشركة المشاعة بينهما، مثل أن يكون بينهما أربعون شاة مشتركة مشاعة، أو ثمانون شاة، فهذه شركة أعيان، فإذا كان كذلك فإن كان الأربعون بينهما فلا زكاة عليهما، وإن كان الثمانون بينهما كان عليهما شاتان، وإن كان لواحد كان شاة واحدة.
وخلطة الأوصاف أن يشتركا في المرعى والفحولة، ويكون مال كل واحد منهما معروفا معينا، وأي الخلطتين كانت كان الحكم ما قدمناه ذكره. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (3).
وقال الشافعي وأصحابه: إنهما يزكيان زكاة الرجل الواحد، فإن كان بينهما أربعون شاة كان فيها شاة، كما لو لواحد. وإن كانا خليطين في ثمانين
ص: 35
ففيها شاة، كما لو كانت لواحد. فلو كانت مائة وعشرين شاة لثلاثة ففيها شاة واحدة، وإن لم يكن للمال خلطة كان فيها ثلاث شياه على كل واحد شاة (1). وبه قال الأوزاعي، والليث بن سعد (2).
وقال عطاء وطاووس: وإن كانت الخلطة خلطة أعيان فكما قال الشافعي، وإن كانت خلطة أوصاف، أعتبر كل واحد بنفسه، ولم تؤثر الخلطة (3).
وقال مالك: إنما يزكيان زكاة الواحد إذا كان مال كل واحد منهما في الخلطة نصابا، مثل أن يكون بينهما ثمانون شاة فتكون فيها شاة، فأما إن قصر ملك أحدهما عن نصاب فلا زكاة عليه، فإن كان بينهما أربعون شاة فلا زكاة فيها، وإن كان بينهما ستون لأحدهما عشرون وللآخر ما بقي، فعلى صاحب الأربعين شاة، ولا شئ على صاحب العشرين (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (5) فإنهم لا يختلفون فيما قلناه.
وروى أنس النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " إذا لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فلا شئ فيها " (6) ولم يفرق.
وروي عنه أنه قال: " ليس على المرء فيما دون خمس ذود (7) من الإبل
ص: 36
صدقة " (1) ولم يفصل.
وأما ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله: " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع " (2) فنحمله على أنه لا يجمع بين متفرق في الملك لتؤخذ منه الزكاة زكاة رجل واحد، ولا يفرق بين مجتمع في الملك، لأنه إذا كان ملك للواحد وإن كان في مواضع متفرقة لم يفرق بينه وقد استعمل الخبر.
مسألة 36: إذا كان لرجل واحد ثمانون شاة في موضعين، أو مائة وعشرون في ثلاثة مواضع، لا يجب عليه أكثر من شاة واحدة. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي لا يجمع بين ذلك، بل يؤخذ منه في كل موضع إذا بلغ النصاب ما يجب فيه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن الأصل براءة الذمة، وما قلناه لا خلاف فيه، وما ادعوه ليس عليه دليل.
وقوله عليه السلام: " لا يفرق بين مجتمع " (5) يمكن أن يكون لرب واحد، وإن المراد به الجمع في الملك.
فإن قالوا: المراد المجتمع في موضع واحد.
قلنا: قد بينا أن ذلك غير واجب، فينبغي أن يكون المراد ما قلناه.
مسألة 37: لا يجب الزكاة في النصاب الواحد إذا كان بين شريكين، من الدارهم والدنانير وأموال التجارات والغلات. وبه قال أبو حنيفة ومالك
ص: 37
والشافعي في " القديم " (1).
وقال في " الجديد " تضم الخلطة في ذلك، وتجب فيه الزكاة (2).
دليلنا: إنه إذا ثبت أنه الشركة والخلطة في المواشي لا يجب فيها الزكاة، فلا تجب أيضا في هذه الأموال، لأن أحدا لا يفرق بين المسألتين.
مسألة 38: إذا كان لإنسان أربعون شاة، فأقامت في يده ستة أشهر، ثم باع نصفها، بطل حوله. فمتى حال على الجميع الحول، لا تجب فيه الزكاة لا على البائع ولا على المشتري. وإن حال عليه من يوم يشتريه.
وقال الشافعي: إن حوله باق إذا باع مشاعا، فمتى حال عليه الحول وجب عليه الزكاة، وعلى شريكه إذا حال الحول من يوم اشتراه، على هذا عامة أصحابه (3). وقال ابن خيران: يستأنف الحول بينهما من يوم يبيعه، لأنه يحصل بينهما الشركة في هذا الوقت (4).
دليلنا: إنا بينا أن مال الشركة لا تجب فيه الزكاة إذا نقص نصيب كل واحد عن النصاب، فإذا كان هذا ناقصا من النصاب، لم تجب فيه الزكاة على ما بيناه.
مسألة 39: من كان له أربعون شاة واستأجر لها أجيرا بشاة منها، سقط عند زكاتها إن كان أفرد الشاة بلا خلاف، لأنه نقص المال عن النصاب، وإن لم يفردها فعندنا مثل ذلك، لأن ملكه قد نقص عن النصاب.
وقال الشافعي: فيها الزكاة على الجميع بالحساب (5).
وهذه المسألة فرع على أن المال المختلط فيه الزكاة، وقد بينا فساده، فلا وجه
ص: 38
للكلام على هذا الفرع.
مسألة 40: إذا كان لرجل أربعون شاة في بلد، وله عشرون في بلد آخر خلطة مع عشرين لغيره، يجب عليه في الأربعين المنفردة شاة، ولا شئ عليه في العشرين المشتركة.
وقال الشافعي: الواجب في ذلك شاة ثلاثة أرباعها على صاحب الأربعين، والعشرين المشتركة وربعها على صاحب العشرين، وبه قال أبو إسحاق وغيره (1).
ومن أصحابه من قال: على صاحب العشرين نصف شاة، وعلى صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة (2).
وهذه المسألة تسقط عنا، لأنها مبنية على أن مال الخلطة تتعلق به الزكاة، وقد دللنا على خلافه.
مسألة 41: إذا كان له ستون شاة في ثلاثة بلاد، في كل بلدة عشرون خلطة مع عشرين لغيره، كان عليه شاة واحدة، لأن له ستين. ففي أربعين واحدة والباقي عفو، وليس على الباقين شئ من الزكاة، لأن مالهم نقص عن النصاب.
وقال الشافعي: في الكل شاة واحدة، على صاحب الستين منها نصف شاة، وعلى كل واحد من الشركاء سدس شاة (3).
ومن أصحابه من قال: على كل واحد من أصحاب العشرين نصف شاة، وعلى صاحب الستين نصف شاة، لأنه يضم ماله إلى بعض الكل خلطة (4).
ص: 39
ومنهم من قال وهو أبو العباس بن سريح: على أصحاب العشرين على كل واحد نصف شاة، وعلى صاحب الستين شاة ونصف، فيكون في الكل ثلاث شياه (1) وهذه المسألة أيضا تسقط عنا، لأنا بينا أن المراعى في النصاب الملك دون الخلطة، وهذه الأقاويل مبنية على أن مال الخلطة فيه زكاة، وقد بينا فساده.
مسألة 42: مال الصبي والمجنون إذا كان صامتا لا تجب فيه الزكاة، وإن كان غلات أو مواشي يجب على وليه أن يخرج عنه.
وقال الشافعي: مالهما مثل مال البالغ العاقل تجب فيه الزكاة، ولم يفصل.
وبه قال عمر، وابن عمر، وعائشة (2)، ورووه عن علي عليه السلام، وعن الحسن بن علي عليه السلام (3)، وبه قال الزهري، وربيعة، وهو المشهور عن مالك، وبه قال الليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق (4).
وقال الأوزاعي والثوري: تجب الزكاة في مالهما، لكن لا يجب إخراجها، بل تحصى، حتى إذا بلغ الصبي عرفوه مبلغ ذلك، فيخرجه بنفسه. وبه قال ابن مسعود (5).
وذهب ابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه إلى إنه لا تجب في ملكهما الزكاة، ولم يفصلوا (6).
ص: 40
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل عدم الزكاة، وإيجابها يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل على ما قالوه.
ويمكن أن يستدل بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق " (1).
ولا يلزمنا مثل ذلك في المواشي والغلات، لأنا قلنا ذلك بدليل.
مسألة 43: المكاتب على ضربين: مشروط عليه ومطلق، فإن كان مشروطا عليه فبحكم الرق لا يملك شيئا، فإذا حصل معه مال في مثله الزكاة لم تلزمه زكاة، ولا تجب أيضا على المولى زكاته، لأنه ما ملكه ملكا له التصرف فيه على كل حال. وإن كان غير مشروط عليه فإنه يتحرر بمقدار ما أدى، فإن كان معه مال (يخصه من الحرية قدر) (2) تجب فيه الزكاة وجب عليه الزكاة، لأنه ملكه، ولا يلزمه فيما عداه، ولا على سيده لما قلناه.
وقال الشافعي: لا زكاة في مال المكاتب على كل حال، وبه قال جميع الفقهاء (3) إلا أبا ثور فإنه قال تجب فيه الزكاة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن المكاتبة على القسمين اللذين ذكرناهما، فإذا ثبت ذلك فما يصح إضافته إلى ملكه لزمه زكاته، وما لا يمكن إضافته إليه لا يلزمه زكاته بلا خلاف.
ص: 41
وقد روي عن ابن عمر وجابر أنهما قالا: لا زكاة في مال المكاتب (1) ولا مخالف لهما.
مسألة 44: المكاتب إن كان مشروطا وهو في عيلولة مولاه لزمه فطرته، وإن لم يكن في عيلته يمكن أن يقال: إنها تلزمه لعموم الأخبار بوجوب إخراج الفطرة عن المملوك (2)، ويمكن أن يقال: لا تلزمه، لأنه ليس في عيلته.
وإن كان غير مشروط عليه، وتحرر منه جزء. فإن كان في عيلته لزمه فطرته، وإن لم يمكن في عيلته لا تلزمه، لأنه ليس بمملوك بالإطلاق، ولا هو حر بالإطلاق، فيكون له حكم نفسه ولا يلزمه أيضا لمثل ذلك.
وقال الشافعي: لا يلزم واحدا منهما، ولم يفضل (3) ومن أصحابه من قال:
يجب عليه أن يخرج الفطرة عن نفسه، لأن الفطرة تتبع النفقة (4).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وليس هاهنا ما يدل على وجوب الفطرة على واحد منها.
فأما الموضع الذي قلنا إن على مولاه الفطرة إذا كان مشروطا عليه إن كان في عيلته، فعموم الأخبار الموجبة للفطرة على من يعوله من المماليك وغيرهم.
مسألة 45: إذا ملك المولى عبده مالا، فإنه لا يملكه، وإنما يستبيح التصرف
ص: 42
فيه، ويجوز له الشراء منه. فإذا ثبت ذلك، فالزكاة تلزم السيد لأنه ماله، وله انتزاعه منه على كل حال.
وقال الشافعي: في " الجديد ": لا يملك، وزكاته على سيده كما قلناه، وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال في " القديم ": يملك، وبه قال مالك. وعلى هذا قال: لا يلزمه الزكاة في هذا المال (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن العبد لا يملك، فإذا ثبت ذلك فإن المال للسيد فيلزمه زكاته.
وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا في أن من باع مملوكه وله مال إن علم ذلك كان ماله للمشتري، وإن لم يعلم كان للبائع، فلولا أنه ملكه لا يملك المشتري ذلك مع علمه، ولا جاز له أخذه إذا لم يعلمه.
مسألة 46: لا يجوز تقديم الزكاة قبل حول الحول إلا على وجه القرض، فإذا حال الحول جاز له أن يحتسب به من الزكاة إذا كان المقترض مستحقا والمقرض تجب عليه الزكاة.
وأما الكفارة، فلا يجوز تقديمها على الحنث.
وقال الشافعي: يجوز تقديم الزكاة قبل الحول، وتقديم الكفارة على الحنث (3).
وقال داود وأهل الظاهر وربيعة: لا يجوز تقديم شئ منهما قبل وجوبه بحال (4).
ص: 43
وقال أبو حنيفة: يجوز تقديم الزكاة قبل وجوبها، ولا يجوز تقديم الكفارة قبل وجوبها (1).
وقال مالك: يجوز تقديم الكفارة قبل الحنث، ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل الوجوب (2)، وبه قال أبو عبيدة بن حربويه (3) من أصحاب الشافعي.
وأبو حنيفة، ومالك في طرفي نقيض.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فلا خلاف في أنه إذا أخرجه وقت وجوبه أنه تبرأ ذمته، وليس على براءة ذمته إذا أخرجها قبل ذلك دليل.
وأيضا قول النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة علهم السلام: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (4). يدل على ذلك.
مسألة 47: إذا تسلف الساعي لأهل السهمان من غير مسألة من الدافع والمدفوع إليه، فجاء وقت الزكاة وقد تغيرت صفتهما أو صفة واحد منهما قبل
ص: 44
الدفع إلى أهل السهمان، ثم هلك بغير تفريط في يد الساعي، كان ضامنا. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان عليه (2).
فأما إذا هلك بتفريط فإنه يضمن بلا خلاف.
دليلنا: على ما قلناه: إنه قبض على ما ليس له من غير أمر من المستحق ولا تبرع من الدافع، فوجب عليه ضمانه، لأن إبراء ذمته من ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 48: إذا تسلف بمسألتهما جميعا، وجاء وقت الزكاة وقد تغيرت صفتهما أو صفة واحد منهما قبل الدفع إلى أهل السهمان، ثم هلك قبل الدفع بغير تفريط فإن ضمان ذلك على الدافع والمدفوع إليه.
وقال الشافعي فيه وجهان: أحدهما: إن ضمانه على رب المال (3) والثاني: على أهل السهمان (4).
دليلنا: إنه قد حصل من كل واحد من الفريقين إذن، وليس أحدهما أولى بالضمان من صاحبه، فوجب عليهما الضمان.
دليلنا على ذلك: إنا قد بينا أنه يجوز تقديم الزكاة على جهة القرض، فإذا ثبت ذلك، وتغير حال الفقير من الفقر إلى الغنى لم يسقط عنه الدين، بل يتأكد قضاؤه عليه، فمن أسقط عنه ما كان عليه فعليه الدلالة.
مسألة 50: إذا عجل زكاته لغيره، ثم حال عليه الحول وقد أيسر المعطى، فإن كان أيسر بذلك المال فقد وقعت موقعها ولا يسترد، وإن أيسر بغيره استرد أو يقام عوضه. وهو مذهب الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا يرد على حال أيسر به أو بغيره (2).
دليلنا: إنه قد ثبت أنه لا يستحق الزكاة غني، وإذا كان هذا المال دينا عليه إنما يستحقه إذا حال عليه الحول، وإذا كان في هذه الحال غير مستحق لا يجوز أن يحتسب بذلك.
مسألة 51: إذا عجل له وهو محتاج، ثم أيسر، ثم افتقر وقت حول الحول جاز أن يحتسب له قولان: أحدهما مثل قولنا (3)، والآخر أنه لا يحتسب له به (4).
دليلنا: إنا قد بينا أن هذا المال دين عليه، وإنما يحتسب بعد الحول، وإذا كان في هذا الوقت مستحقا جاز أنه يحتسب عليه فيها.
مسألة 52: إذا دفع إليه وهو موسر في الحال ثم افتقر عند الحول جاز أن يحتسب به
ص: 46
وقال الشافعي: لا يحتسب به أصلا (1).
دليلنا: إنا قد بينا أن هذا المال دين عليه، والمراعى في استحقاق الزكاة عند الإعطاء وهو حال الاحتساب، وفي هذه الحال فهو مستحق لها، فجاز الاحتساب.
مسألة 53: إذا عجل زكاته، ومات المدفوع إليه، ثم حال الحول، جاز أن يحتسب به بعد الحول.
وقال الشافعي: لا يجوز أن يحتسب به (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه يجوز أن يقضي به الدين عن الميت.
وأيضا قوله تعالى: " وفي سبيل اللّه " (3) وقضاء الدين عن المؤمنين في سبيل اللّه، فيجب أن يكون جائزا.
مسألة 54: من ملك مائتي درهم، فعجل زكاة أربعمائة عشرة درهم بشرط أن يستفيد تمام ذلك. أو كان له مائتا شاة فقدم زكاة أربعمائة أربع شياه، ثم حال الحول وعنده أربعمائة درهم. أو أربعمائة شاة لا يجزي عنها، وهو أحد قولي الشافعي المختار عند أصحابه (4).
والقول الآخر: إنه يجزي (5) دليلنا: إن هذه المسألة لا تصح على أصلنا، لأن عندنا المستفاد في الحول لا يضم إلى الأصل، فما زاد على المائتين اللتين كانتا معه لا يجب عليه الزكاة، لأنه لم يحل عليه الحول. فإن فرضنا أنه استوفى حول المستفاد جاز له أن يحتسب بذلك من الزكاة، لأنا قد بينا أن ما يجعله يكون دينا جاز له أن يحتسب بذلك من الزكاة.
ص: 47
مسألة 55: إذا كان عنده أربعون شاة فعجل شاة وحال الحول، جاز له أن يحتسب بها. وإن كان عنده مائة وعشرون وعجل شاة، ثم حال الحول لا يلزمه شئ آخر. وكذلك إن كانت عنده مائتا شاة فعجل شاتين، ثم نتجت شاة ثم حال الحول لا يلزمه شئ آخر. وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال في المسألة الأولى: إذا عجل من أربعين شاة أنها لم تقع موقعها لأن المال قد نقص عن الأربعين (1).
وقال الشافعي في المسألة الأولى: إنها تجزيه، وفي الثانية والثالثة إنه يؤخذ منه شاة أخرى (2).
دليلنا: إنه قد ثبت أن ما يعجله على وجه الدين، وما يكون كذلك فكأنه حاصل عنده، وجاز له أن يحتسب به، لأن المال ما نقص عن النصاب في المسألة الأولى، وفي المسألتين الأخيرتين لا يلزمه شئ آخر، وإن كان ما عجله باقيا على ملكه، لأن ما نتج لا يعتد به، لأنه لا يضم إلى الأمهات على ما مضى القول فيه.
دليلنا: على انقطاع الحول: إن الزكاة من فروض الأعيان، ومن شرط وجوبها حلول الحول في الملك، وهذا لم يحل عليه الحول في ملك واحد منهما، فيجب أن لا يلزمه فيه الزكاة، ومن يبني حول أحدهما على حول الآخر فعليه الدلالة.
مسألة 57: النية شرط في الزكاة، وهو مذهب جميع الفقهاء (1) إلا الأوزاعي، فإنه قال: لا تفتقر إلى النية (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين - إلى قوله - ويؤتوا الزكاة " (3) والإخلاص لا يكون إلا بنية.
وأيضا فلا خلاف أنه إذا نوى كونها زكاة أجزأت عنه، ولم يدل دليل على إجزائها مع فقد النية.
وأيضا قول النبي صلى اللّه عليه وآله: " إنما الأعمال بالنيات " (4) يدل على ذلك.
دليلنا إنه لا خلاف أنها إذا قارنت أجزأت، وليس على جوازها دليل إذا تقدمت.
مسألة 59: يجوز إخراج القيمة في الزكاة كلها، وفي الفطرة أي شئ كانت القيمة، ويكون القيمة على وجه البدل لا على أنه أصل. وبه قال أبو حنيفة (1)، إلا أن أصحابه اختلفوا على وجهين: منهم من قال: الواجب هو المنصوص عليه، والقيمة بدل (2).
ومنهم من قال: الوجب أحد الشيئين، أما المنصوص عليه أو القيمة، وأيهما أخرج فهو الأصل. ولم يجيزوا في القيمة سكنى دار، ولا نصف صاح تمر جيد بصاع دون قيمته (3).
وقال الشافعي وأصحابه: إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز، وإنما يخرج المنصوص عليه، وكذلك يخرج المنصوص عليه فيما يخرج فيه على سبيل التقدير لا على سبيل التقويم، وكذلك قال في الأبدال في الكفارات، وكذلك قوله في الفطرة (4). وبه قال مالك. غير أنه خالفه في الأعيان فقال: يجوز ورق عن ذهب، وذهب عن ورق (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في ذلك.
وأيضا فقد روى البرقي (6) عن أبي جعفر الثاني عليه السلام قال: كتبت
ص: 50
إليه: هل يجوز جعلت فداك أن يخرج ما يجب في الحرث الحنطة والشعير، وما يجب على الذهب دراهم ما يسوي أم لا يجوز إلا أن يخرج من كل شئ ما فيه؟ فأجاب عليه السلام: أيما تيسر يخرج منه (1).
وروى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن الرجل يعطي عن زكاته عن الدراهم دنانير، وعن الدنانير دراهم بالقيمة، أيحل ذلك له أم لا؟ قال: لا بأس (2).
مسألة 60: يجوز أن يتولى إخراج زكاته بنفسه عن أمواله الظاهرة والباطنة، والأفضل في الظاهرة أن يعطيها الإمام، فإن فرقها بنفسه أجزأه.
وقال الشافعي: يجوز أن يخرج زكاة الأموال الباطنة بنفسه قولا واحدا، والأموال الظاهرة على قولين: قال في " الجديد " يجوز أيضا، وقال في " القديم ":
لا يجوز (3). وبه قال مالك وأبو حنيفة (4).
دليلنا: كل آية تضمنت الأمر بإيتاء الزكاة مثل قوله تعالى: " أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (5) وقوله: " ويؤتون الزكاة " (6) وما أشبه ذلك يتناول ذلك، لأنها عامة، ولا يجوز تخصيصها إلا بدليل.
ولا ينافي ذلك قوله: " خذ من أموالهم صدقة " (7) لأنا نقول: إذا طالب الإمام بها وجب دفعها إليه، وإن لم يطالب وأخرج بنفسه أجزأه.
مسألة 61: لا تجب الزكاة في الماشية حتى تكون سائمة للدر والنسل، فإن
ص: 51
كانت سائمة للانتفاع بظهرها وعملها فلا زكاة فيها، أو كانت معلوفة للدر والنسل فلا زكاة. وهو مذهب الشافعي، وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وجابر، ومعاذ، وفي الفقهاء الليث بن سعد والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (1).
وقال مالك: تجب في الغنم الزكاة سائمة كانت أو غير سائمة (2)، فاعتبر الجنس.
قال أبو عبيد: وما علمت أحدا قال بهذا قبل مالك (3). وقال الثوري مثل قول أبي عبيد الحكاية.
وقال داود: لا زكاة في معلوفة الغنم، فأما عوامل البقر والإبل ومعلوفتها الزكاة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم، فإنهم لا يختلفون فيه.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وقد أجمعنا على أن ما اعتبرناه فيه الزكاة، وليس في الشرع دليل بوجوب الزكاة فيما ذكروه.
وأيضا روى أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " في سائمة الغنم زكاة " (5) فدل على أن المعلوفة ليس فيها زكاة عند من قال بدليل الخطاب.
ص: 52
وروى عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس في العوامل شئ " (1).
وروى ابن عباس قال، قال النبي صلى اللّه عليه وآله: " ليس في البقر العوامل شئ " (2) وروى عمر بن شعيب (3) عن أبيه (4) عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس في الإبل العوامل شئ " (5).
وروى زرارة عن أبي جعفر أو عن أحدهما قال: ليس في شئ من الحيوان زكاة غير هذه الأصناف الثلاثة: الإبل والبقر والغنم وكل شئ من هذه الأصناف من الدواجن والعوامل ليس فيها شئ (6).
مسألة 62: إذا كانت الماشية سائمة دهرها فإن فيها الزكاة، وإن كانت دهرها معلوفة أو عاملة لا زكاة فيها، وإن كانت البعض والبعض حكم للأغلب
ص: 53
والأكثر، وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: إذا كانت سائمة في بعض الحول، ومعلوفة في بعض الحول، سقطت الزكاة، فأما مقدار العلف، فإن فيه وجهين: أحدهما: أن يعلفها الزمان الذي لا يلزم فيه السوم.
والآخر: الذي يثبت به حكم العلف أن ينوي العلف ويعلف، فإذا حصل الفعل والنية انقطع الحول وإن كان العلف بعض يوم (2).
ومن أصحابه من قال بمذهب أبي حنيفة (3).
دليلنا على ذلك: إن حكم السوم إذا كان معلوما فلا يجوز إسقاطه إلا بدليل، وليس على ما اعتبره الشافعي دليل في إسقاط حكم السوم به.
مسألة 63: لا زكاة في شئ من الحيوان إلا في الإبل والبقر والغنم وجوبا، وقد روى أصحابنا أن في الخيل العتاق على كل فرس دينارين، وفي غير العتاق دينارا على وجه الاستحباب (4).
وقال الشافعي: لا زكاة في شئ من الحيوان إلا في الثلاثة الأجناس.
وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد.
وعامة الفقهاء قالوا: سواء كانت ذكورا، أو إناثا، أو سائمة، أو معلوفة وعلى كل حال (5).
وقال أبو حنيفة: إن كانت الخيل ذكورا فلا زكاة فيها (6)، وإن كانت
ص: 54
إناثا ففيه روايتان، أصحهما في الزكاة (1). وإن كانت ذكورا وإناثا ففيها الزكاة لا تختلف الرواية عنه. ولا يعتبر فيها النصاب، فإن ملك واحدا كان بالخيار بين أن يخرج عن كل فرس دينارا، وبين أن يقومه فيخرج ربع عشر قيمته كزكاة التجارة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإن ما فصلنا مجمع عليه عندهم.
وروى أبو يوسف، عن غورك السعدي (3)، عن جعفر بن محمد، عم أبيه، عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " في كل فرس دينارا إذا كانت راعية " (4).
وأيضا روى حريز عن محمد بن مسلم وزرارة عنهما جميعا قالا: وضع أمير المؤمنين عليه السلام على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين دينارا (5).
مسألة 64: من كان معه نصاب فبادل بغيره، لا يخلو أن يبادل بجنس مثله. مثل أن بادل إبلا بابل، أو بقرا ببقر أو غنما بغنم، أو ذهبا بذهب، أو فضة بفضة، فإنه لا ينقطع الحول ويبني.
ص: 55
وإن كان بغيره مثل أن بادل إبلا بغنم، أو ذهبا بفضة، أو ما أشبه ذلك، انقطع حوله، واستأنف الحول في البدل الثاني، وبه قال مالك (1).
وقال الشافعي: يستأنف الحول في جميع ذلك، وهو قوي (2).
وقال أبو حنيفة: فيما عدا الأثمان بقول الشافعي وقولنا، وفي الأثمان إن بادل فضة بفضة، أو ذهبا بذهب بنى كما قلناه، ويجئ على قوله إن بادل ذهبا بفضة أن يبني (3).
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، وإذا بادل لم يحل عليه الحول، وهذا يقوي ما قلناه من مذهب الشافعي.
وأما ما اعتبره من الذهب والفضة، إذا بادل شيئا منهما بمثله خصصناه بقوله عليه السلام: " في الرقة ربع العشر " (4) وما يجري مجراه من الأخبار المتضمنة لوجوب الزكاة في الأجناس، ولم يفصل بين ما يكون بدلا من غيره أو غير بدل.
مسألة 65: يكره للإنسان أن ينقص نصاب ماله قبل حول الحول فرارا من الزكاة، فإن فعل وحال عليه الحول وهو أقل من النصاب فلا زكاة عليه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي (5).
وقال بعض التابعين: لا ينفعه الفرار منها، فإذا حال عليه الحول وليس معه نصاب أخذت الزكاة منه، وبه قال مالك (6).
ص: 56
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (1) وهذا لم يحل عليه الحول.
مسألة 66: إذا كان معه نصاب من جنس واحد، ففرقه في أجناس مختلفة فرارا من الزكاة، لزمته الزكاة إذا حال عليه الحول، على أشهر الروايات. وقد روي أن ما أدخله على نفسه أكثر.
وقال الفقهاء في هذه المسألة مثل ما قالوه في مسألة التنقيص سواء (2).
دليلنا على هذه الرواية: ما رواه إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل له مائة درهم وعشرة دنانير أعليه زكاة؟ قال: إن كان فر بها من الزكاة فعليه الزكاة. قلت: لم يفر بها. ورث مائة درهم وعشرة دنانير؟ قال: ليس عليه زكاة قلت: لا يكسر الدراهم على الدنانير، ولا الدنانير على الدراهم؟ قال: لا (3).
دليلنا: قوله صلى اللّه عليه وآله: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (1) وهذا قد حال عليه الحول، فوجب أن يكون فيه زكاة.
مسألة 68: إذا رهن جارية أو شاة، فحملتا بعد الرهن، كان الحمل خارجا عن الرهن، وكذلك لو رهن نخلة فأثمرت. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: نماء الرهن يكون رهنا مثل الرهن (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإذا ثبت ذلك كانت الزكاة لازمة له.
مسألة 69: لا زكاة في شئ من الغلات حتى تبلغ خمسة أوسق، والوسق:
ستون صاعا، يكون ثلاثمائة صاع، كل صاع أربعة أمداد، يكون ألفا ومائتي مد، والمد رطلان وربع بالعراقي، يكون ألفين وسبعمائة رطل.
فإن نقص عن ذلك فلا زكاة فيه، وبه قال الشافعي، إلا أنه خالف في وزن المد والصاع، فجعل وزن كل مد رطلا وثلثا، يكون على هذه ألفا وستمائة رطل بالبغدادي. وبه قال ابن عمر، وجابر، ومالك والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري وأبو يوسف ومحمد (4).
وقال أبو حنيفة: لا يعتبر فيه النصاب، بل يجب في قليله وكثيره حتى لو حملت النخلة رطبة واحدة كان فيها عشرها (5).
دليلنا: إجماع الطائفة، وأيضا الأصل براءة الذمة، ولا خلاف أن ما قلناه تجب فيه الزكاة، وليس على قول من قال في قليله وكثيره الزكاة دليل.
ص: 58
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " (1).
وروى أبو الزبير (2) عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا زكاة في شئ من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق، فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الصدقة والوسق ستون صاعا " (3).
وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله " ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بنضح أو غرب ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق " (4).
مسألة 70: الصاع أربعة أمداد، والمد رطلان وربع بالعراقي.
وقال أبو حنيفة: المد، رطلان (5).
وقال الشافعي: رطل وثلث (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما اعتبرناه مجمع على تعلق الزكاة به، وإذا نقص عنه ففيه خلاف.
مسألة 71: إذا نقص عن النصاب شئ، قل ذلك أو أكثر، لم تجب فيه الزكاة، وهو المختار لأصحاب الشافعي وقالوا: لو نقص أوقية لم تجب فيه الزكاة.
ص: 59
وفيه قول آخر وهو أن ذلك على التقريب، فإن نقص رطل أو رطلان وجب فيه الزكاة (1).
دليلنا: إن النبي صلى اللّه عليه وآله جعل النصاب حدا، فلو أوجبنا الزكاة فيما نقص، لأبطلنا الحد. ولأن ما ذكرناه مجمع على وجوب الزكاة فيه، وما نقص عنه ليس عليه دليل.
مسألة 72: النصاب من الغلات إذا كان بين خليطين لا تجب فيه الزكاة، وبه قال أبو حنيفة (2).
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: تجب، والآخر: لا تجب (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليها شيئا فعليه الدلالة.
مسألة 73: يجوز الخرص على أرباب الغلات، وتضمينهم حصة المساكين. وبه قال الشافعي، وعطاء، والزهري، ومالك، وأبو ثور وذكروا أنه إجماع الصحابة (4).
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجوز الخرص في الشرع، وهو من الرجم بالغيب، وتخمين لا يسوغ العمل به، ولا تضمين الزكاة هذا ما حكاه المتقدمون من أصحاب الشافعي عنه.
وأصحابه اليوم ينكرون ويقولون الخرص جائز ولكن إذا اتهم رب المال في الزكاة خرص عليه، وتركها في يده بالخرص، فإن كان على ما خرص فذلك، وإن اختلفا فادعى رب المال النقصان، فإن كان ما يذكره قريبا قبل منه، وإن
ص: 60
كان تفاوت لم يقبل منه (1).
وأما تضمين الزكاة، فلم يجيزوه أصلا.
دليلنا: إجماع الفرقة: وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله بأهل خيبر، وكان يبعث في كل سند عبد اللّه بن رواحة (2) حتى يخرص عليهم (3).
وروت عائشة قالت: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يبعث عبد اللّه ابن رواحة خارصا إلى خيبر (4) فأخبرت عن دوام فعله.
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب (5) أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال في الكرم: " يخرص كما يخرص النخل، ثم تؤدى زكاته زبيبا، كما تؤدى زكاة النخل تمرا " (6)
مسألة 74: لا تجب الزكاة في شئ مما يخرج من الأرض إلا في الأجناس
ص: 61
الأربعة: التمر، والزبيب، والحنطة، والشعير.
وقال الشافعي: لا تجب الزكاة إلا فيما أنبته الآدميون ويقتات حال الادخار، وهو البر، والشعير، والدخن، والذرة، والباقلاء، والحمص، والعدس (1). وما ينبت من قبل نفسه كبذر قطونا ونحوه، أو أنبته الآدميون لكنه لا يقتات كالخضروات كلها القثاء، والبطيخ، والخيار، والبقول لا زكاة فيه. وما يقتات مما لا ينبته الآدميون مثل البلوط لا زكاة فيه.
والثمار فلا يختلف قوله في العنب، والرطب (2).
اختلف قوله في الزيتون فقال في (القديم): فيه الزكاة، وقال في (الجديد): لا زكاة فيه (3).
ولا على البقول في الورس، والزعفران وبه قال مالك، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد لكن محمدا قال: ليس في الورس زكاة (4).
وقال أبو حنيفة وزفر والحسن بن زياد: كل نبت يسقى بماء الأرض فيه العشر، سواء كان قوتا أو غير قوت (5). فأوجب في الخضروات العشر، وفي البقول كلها، وفي كل الثمار (6).
ص: 62
وقال: الذي لا تجب فيه الزكاة القصب الفارسي، والحشيش، والحطب، والسعف، والتبن (1). وقال في الريحان: العشر (2).
وقال في حب الحنظل النابت في البرية: لا عشر فيه، لأنه لا مالك له.
وهذا يدل على أنه لو كان له مالك لكان في العشر.
دليلنا: إجماع الفرقة: وأيضا الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه مجمع على وجوب الزكاة فيه، وما ذكروه ليس على وجوبه فيه دليل.
وروى علي عليه السلام، وطلحة بن عبيد اللّه (3)، وأنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " ليس في الخضروات صدقة " (4).
وروت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس فيما أنبت الأرض من الخضر زكاة " (5).
وروى معاذ بن جبل أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال: فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر يكون وإنما ذلك
ص: 63
في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطيخ والرمان والخضر فعفي عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (1).
مسألة 75: لا زكاة في الزيتون، وبه قال الشافعي في " الجديد "، وإليه ذهب ابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي (2).
وقال في " القديم ": فيه الزكاة، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد (3)، لكنهما خالفا أبا حنيفة في الخضروات (4).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
وقال أبو يوسف: فيه العشر، وفي كل عشر قرب قربة، هذا حكاية أبي حامد (1).
وحكى غيره قال: رأيته في كتبهم في كل عشرة أرطال (2).
دليلنا: ما قدمناه في المسائل الأولى سواء.
مسألة 77: الحنطة والشعير جنسان لا يضم أحدهما إلى صاحبه، فإذا بلغ كل واحد منهما نصابا - وهو خمسة أوسق - ففيه الزكاة، وإن نقص عن ذلك لم يكن في شئ.
وأما السلت - فهو نوع من الشعير يقال: إنه بلون الحنطة، وطعمه طعم الشعير بارد، مثله فإذا كان كذلك - ضم إليه، وحكم فيه بحكمة.
وأما ما عداه من سائر الحبوب فلا زكاة فيه.
وقال الشافعي: كلما يقتات ويدخر، مثل الحنطة، والشعير، والسلت، والذرة، والدخن، والجاروس، وكذلك القطان كلها وهي الحمص، والعدس، والذخر وهو اللوبيا، والفول وهو الباقلاء، والأرز، والماش، والهرطمان وهو الحلبان كل هذا فيه الزكاة، ولا يضم بعضها إلى بعض.
واعتبر النصاب خمسة أوسق كما قلناه، وإن خالفنا في المقدار على ما حكيناه عنه، وجعل السلت جنسا منفردا لم يضمه إلى الشعير (3).
قال: ولا زكاة في العث - وقيل: إنه بزر الأشنان، ذكر ذلك المزني (4)،
ص: 65
وقال غيره: هو حب أسود يقشر يأكله أعراب طي (1) - ولا حب الحنظل، ولا حب شجرة توته - وهو البلوط -، وحبة الخضراء، ولا في حب الرشاد - وهو الثفاء - ولا بزر قطونا، ولا حبوب البقول، ولا بزر قثاء والبطيخ، ولا بزر كتان، ولا بزر الجزر، ولا حب الفجل، ولا في الجلجان - وهو السمسم -، ولا في الترمس لأنه أدم، ولا في بزور القدر مثل الكزبرة، والكمون، والكراويا، ودار صيني، والثوم، والبصل (2).
وقال أبو حنيفة: الزكاة واجبة في جميع ذلك، ولم يعتبر النصاب (3).
وقال مالك الحنطة والشعير صنف واحد، والقطنية كلها صنف واحد، فإذا بلغ خمسة أوسق ففيها الزكاة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فما ذكرناه لا خلاف في وجوب الزكاة فيه:
وما قالوه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة.
وأما الدليل على أن الحنطة والشعير جنسان، فما رواه عبادة بن الصامت أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، ولا الحنطة بالحنطة، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بالسواء عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والحنطة بالشعير، والشعير بالحنطة، والتمر، والتمر بالملح، والملح بالتمر
ص: 66
يدا بيد كيف شئتم " (1).
فلو كان الشعير من جنس الحنطة، لما جاز بيعه متفاضلا.
مسألة 78: كل مؤنة تلحق الغلات إلى وقت إخراج الزكاة على رب المال، وبه قال جميع الفقهاء (2)، إلا عطاء، فإنه قال: المؤنة على رب المال والمساكين بالحصة (3).
دليلنا: قوله عليه السلام: " فيما سقت السماء العشر " (4) " أو نصف العشر " فلو ألزمناه المؤنة لبقي أقل من العشر أو نصف العشر.
مسألة 79: إذا سقي الأرض سيحا وغير سيح معا، فإن كانا نصفين، أخذ نصفين، وإن كانا متفاضلين، غلب الأكثر. وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر بحسابه (5).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 80: كل أرض فتحت عنوة بالسيف فهي أرض لجميع المسلمين المقاتلة وغيرهم، وللإمام الناظر فيها تقبيلها ممن يراه بما يراه من نصف أو ثلث،
ص: 67
وعلى المتقبل بعد إخراج حق القبالة، العشر أو نصف العشر، فيما يفضل في يده وبلغ خمسة أوسق.
وقال الشافعي: الخراج والعشر يجتمعان في أرض واحدة، يكون الخراج في رقبتها والعشر في غلتها (1) - قال: وأرض الخراج سواد العراق وحده من تخوم الموصل إلى عبادان طولا، ومن القادسية إلى حلوان عرضا - وبه قال الزهري، وربيعة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأحمد وإسحاق (2).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: العشر والخراج لا يتجمعان، بل يسقط العشر، ويثبت الخراج (3).
قال أبو حامد وظاهر هذا أن المسألة وفاق، وذلك أن الإمام إذا فتح أرضا عنوة فعليه أن يقسمها عندنا بين الغانمين، ولا يجوز أن يقرها على ملك المشركين.
ولا خلاف أن عمر فتح السواد عنوة، ثم اختلفوا فيما صنع، فعندنا أنه قسمها بين الغانمين، فاستغلوها سنتين أو ثلاثا، ثم رأى أنه إن أقرهم على القسمة تشاغلوا بالعمارة عن الجهاد وتعطل الجهاد، وإن تشاغلوا بالجهاد خرب السواد، فرأى المصلحة في نقض القسمة، فاستنزل المسلمين عنها، فمنهم من ترك حقه بعوض، ومنهم من تركه بغير عوض.
فلما حصلت الأرض لبيت المال - فعند الشافعي أنه - وقفها على المسلمين، ثم أجرها منهم بقدر معلوم، أخذ منهم في كل سنة عن كل جريب من الكرم
ص: 68
عشرة دراهم، ومن النخل ثمانية دراهم، ومن الرطبة ستة، ومن الحنطة أربعة دراهم، ومن الشعير درهمان، فأرض السواد عنده وقف لا تباع ولا توهب ولا تورث (1).
وقال أبو العباس: ما وقفها ولكنه باعها من المسلمين بثمن معلوم يجب في كل سنة عن كل جريب (2). وهو ما قلناه، فالواجب فيها في كل سنة ثمن أو أجرة، وأيهما كان فإن العشر يجتمع معه بلا خلاف، فإن العشر والأجرة يجتمعان، وكذلك الثمن والعشر يجتمعان، فعلى مقتضى مذهبنا لا خلاف بيننا وبينهم فيها.
وأما مذهب أبي حنيفة، فإن الإمام إذا فتح أرضا عنوة فعلية قسمة ما ينقل ويحول كقولنا.
وأما الأرض، فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسمها بين الغانمين، أو يقفها على المسلمين، وبين أن يقرها في يد أهلها المشركين ويضرب عليهم الجزية بقدر ما يجب على رؤوسهم. فإذا فعل هذا تعلق الخراج بها إلى يوم القيامة، ولا يجب العشر في غلتها إلى يوم القيامة، فمتى أسلم واحد منهم أخذت تلك الجزية منه باسم الخراج، ولا يجب العشر في غلتها، وهو الذي فعله في سواد العراق.
فعلى تفصيل مذهبهم لا يجتمع العشر والخراج إجماعا، لأنه إذا أسلم واحد منهم سقط الخراج عندنا، ووجب العشر في غلتها. وعندهم استقر الخراج في رقبتها، وسقط العشر من غلتها. فلا يجتمع العشر والخراج أبدا على هذا.
وأصحابنا اعتقدوا أن أبا حنيفة يقول: إن العشر والخراج الذي هو الثمن أو الأجرة لا يجتمعان، وتكلموا عليه.
ص: 69
واعتقد أصحاب أبي حنيفة إنا نقول: إن العشر والخراج الذي هو الجزية يجتمعان، فتكلموا عليه.
وقد بينا الغلط فيه.
وعاد الكلام في غير ظاهر المسألة إلى فصلين:
أحدهما: إذا فتح أرضا عنوة بالسيف ما الذي يصنع؟ عندنا تقسم، وعندهم بالخيار (1).
والثاني: إذا ضرب عليهم هذه الجزية، هل تسقط بالإسلام أم لا دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار التي أوردناها في كتاب تهذيب الأحكام مفصلة مشروحة (2).
وروى محمد بن علي الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعد. قلنا: أيشتري من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها.
قلنا: فإذا أخذها منهم، قال: نعم يرد عليه رأس ماله، وله ما أكل من غلتها بما عمل (3).
وروى أبو الربيع الشامي (4) عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: لا تشتروا
ص: 70
من أرض السواد شيئا إلا من كان له ذمة، فإنما هي فئ للمسلمين (1).
مسألة 81: إذا أخذ العشر من الثمار والحبوب مرة، لم يتكرر وجوبه فيما بعد ذلك، ولو حال عليه أحوال، وبه قال جميع الفقهاء (2).
وقال الحسن البصري: كلما حال عليه الحول، وعنده نصاب منه، ففيه العشر (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة وعدم الزكاة، وإنما أوجبنا في أول دفعة إجماعا، وتكراره يحتاج إلى دلالة، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 82: إذا كانت له نخيل، وعليه بقيمتها دين، ثم مات قبل قضاء الدين، لم ينتقل النخيل إلى الورثة، بل تكون باقية على حكم ملكه حتى يقضي دينه. ومتى بدا صلاح الثمرة في حياته فقد وجب في هذه المثمرة حق الزكاة وحق الديان، وإن بدا صلاحها بعد موته لا يتعلق به حق الزكاة، لأن الوجوب قد سقط عن الميت بموته، ولم يحصل به للورثة، فتجب فيه الزكاة عليهم، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي (4).
وقال الباقون من أصحابه: إن النخيل تنقل إلى ملك الورثة، ويتعلق الدين بها كما يتعلق بالرهن.
وقالوا: إن بدا صلاحها قبل موته فقد تعلق به حق الدين والزكاة، وإن بدا صلاحها بهد موته كانت الثمرة للورثة، ووجب عليهم فيه الزكاة، ولا يتعلق به الدين (5).
ص: 71
دليلنا: قوله تعالى لما ذكر الفرائض ومن يستحق التركة قال في آخر الآية:
" من بعد وصيته يوصي بها أو دين " (1) فبين أن الفرائض إنما تستحق بعد الوصية والدين، فمن أثبته قبل الدين فقد ترك الظاهر.
مسألة 83: إذا كان للمكاتب ثمار وزروع، فإن كان مشروطا عليه، أو مطلقا ولم يؤد من مكاتبته شيئا، فإنه لا يتعلق به العشر. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: فيه العشر (3).
وإن كان المكاتب مطلقا وقد أدى بعض مكاتبته، فإنه يلزمه بمقدار ما تحرر منه من ماله الزكاة إذا بلغ مقدارا تجب فيه الزكاة.
وهذا التفصيل لم يراعه أحد من الفقهاء بل قولهم في المكاتب على كل حال ما قلناه.
دليلنا: على الأول أن الزكاة لا تجب إلا على الأحرار، فأما المماليك فلا تجب عليهم الزكاة.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وليس في الشرع أن هذا المال فيه الزكاة.
وأيضا لا خلاف أن مال المكاتب لا زكاة فيه، وإنما يقول أبو حنيفة: إن هذا عشر ليس بزكاة، والعشر زكاة بدلالة ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله رواه عتاب بن أسيد أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال في الكرم: " يخرص كما يخرص النخل فتؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " (4).
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا زكاة في شئ من
ص: 72
الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق فإذا بلغ خمسة أوساق ففيه الزكاة " (1).
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس فيما دون خمسة أوساق من التمر صدقة " (2) وهذه نصوص على أن العشر زكاة
إذا استأجر أرضاً كان العشر علی مالك الزرع
مسألة 84: إذا استأجر أرضا من غير أرض الخراج، كان العشر على مالك الزرع دون مالك الأرض. وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد (3).
وقال أبو حنيفة: تجب على مالك الأرض دون مالك الزرع (4).
دليلنا: قوله عليه السلام: " فيما سقطت السماء العشر " (5) فأوجب الزكاة في نفس الزرع، وإذا كان مالكه المستأجر وجب عليه فيه الزكاة، ومالك الأرض إنما يأخذ الأجرة، والأجرة لا تجب فيها الزكاة بلا خلاف.
وقال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في هذه المسألة، وهي مسطورة لهم، منصوص عليها.
روى ذلك أبو عبيدة الحذاء قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أيما ذمي اشتري من مسلم أرضا فإن عليه الخمس (2).
مسألة 86: إذا باع تغلبي - وهم نصارى العرب - أرضه من مسلم، وجب على المسلم فيها العشر، أو نصف العشر، ولا خراج عليه وقال الشافعي: عليه العشر.
وقال أبو حنيفة: يؤخذ منه عشران (3).
دليلنا: إن هذا ملك قد حصل لمسلم، ولا يجب عليه وفي ذلك أكثر من العشر، وما كان يؤخذ من الذمي من الخراج كان جزية، فلا يلزم المسلم ذلك.
مسألة 87: إذا اشترى تغلبي من ذمي أرضا لزمته الجزية، كما كانت تلزم الذمي.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه عشران (4)، وهذان العشران عندهم خراج يؤخذ باسم الصدقة.
وقال الشافعي: لا عشر عليه ولا خراج.
دليلنا: إن هذا ملك قد حصل لذمي فوجب عليه فيه الجزية كما يلزم في سائل أهل الذمة.
ص: 74
مسألة 88: إذا نقص من المائتي درهم حبة أو حبتان في جميع الموازين، أو بعض الموازين، فلا زكاة فيه. وبه قال أبو حنيفة والشافعي (1).
وقال مالك: إن نقص الحبة والحبتان في جميع الموازين ففيها الزكاة (2).
هذا هو المعروف من مذهب مالك.
وقال الأبهري (3): ليس هذا مذهب مالك، وإنما مذهبه أنها إن نقصت في بعض الموازين، وهي كاملة في بعضها، ففيها الزكاة (4).
دليلنا: إنه لا خلاف أن في المائتين زكاة، وإذا نقص فليس على وجوب الزكاة فيها دليل، فوجب نفيه. لأن الأصل براءة الذمة.
وأيضا روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى اللّه إليه وآله قال: " ليس فيما دون خمس أواق صدقه " (5) وهي مائتا درهم.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وآله
ص: 75
أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أواق صدقة " وهي مائتا درهم.
وروى علي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم، وليس في أقل من مائتين شئ، فإذا كانت مائتين ففيها خمسة دراهم " (1).
مسألة 89: إذا كان عنده دراهم محمول عليها، لا زكاة فيها حتى تبلغ ما فيها من الفضة مائتي درهم، سواء كان الغش نصف أو أقل أو أكثر، وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان الغش النصف أو أكثر مثلا ما قلناه، وإن كان الغش دون النصف سقط حكم الغش، وكانت كالفضة الخالصة التي لا غش فيها (3). فإن كان مائتي درهم فضة خالصة، فأخرج منها خمسة مغشوشة أجزأه، ولو كان عليه دين مائتا درهم فضة خالصة فأعطى مائتين من هذه أجزأه (4).
وكان هذا لا يجوز عندنا، ولا عند الشافعي (5).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه لا خلاف فيه، وليس على ما قاله دليل.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة " (6).
ص: 76
وأيضا قولهم عليهم السلام: الزكاة في تسعة أشياء: الذهب، والفضة (1) والغش ليس بفضة، وكل هذه نصوص.
مسألة 90: لا زكاة في سبائك الذهب والفضة، ومتى اجتمع معه دراهم أو دنانير ومعه سبائك أو نقار، أخرج من الدراهم والدنانير إذا بلغا النصاب، ولم يضم السبائك والنقار إليها.
وقال جميع الفقهاء: يضم بعضها إلى بعض (2).
وعندنا أن ذلك يلزمه إذا قصد به الفرار من الزكاة (3).
دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الكتابين المقدم ذكرهما (4)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وما ذكرناه تجب فيه الزكاة بلا خلاف، وما قالوه ليس على وجوب الزكاة فيه دليل.
مسألة 91: من كان له سيوف مجراة بفضة أو ذهب، أو أواني، مستهلكا كان أو غير مستهلك، لا تجب فيه الزكاة.
وقال الشافعي وباقي الفقهاء: إن كان مستهلكا بحيث إذا جرد وأخذ وسبك لم يحصل منه شئ يبلغ نصابا فلا زكاة فيه، لأنه مستهلك. وإن لم يكن مستهلكا وكان إذا جمع وسبك يحصل منه شئ يبلغ نصابا، أو بالإضافة إلى ما معه نصابا ففيه الزكاة (5) .
ص: 77
دليلنا: إنا بينا في المسألة الأولى أن السبائك والمصاغ ليس فيها الزكاة، وإذا ثبت ذلك فهذه فرع عليها، ولا أحد يفرق بينهما.
مسألة 92: إذا كان له لجام لفرسه محلى بذهب أو فضة، لم يلزمه زكاته، واستعمال ذلك حرام، لأنه من السرف.
وقال الشافعي: إن لطخه بذهب فهو حرام بلا خلاف، ويلزمه زكاته (1)، وإذا كان بالفضة فعلى وجهين:
أحدهما: مباح، لأنه من حلي الرجال كالسكين والسيف والخاتم، فلا يلزمه زكاته (2).
والآخر: أنه حرام، لأنه من حلي الفرس، فعلى هذا يلزمه زكاته.
دليلنا: ما قدمناه من أن عدا الدراهم والدنانير ليس فيه الزكاة (3)، وهذا ليس بدنانير ولا دراهم.
مسألة 93: إذا كان معه مائتا درهم خالصة، وجبت عليه خمسة دراهم منها خالصة، فإن أخرج بهارج (4) لم يجزه، وعليه إن يتم خمسة دراهم خالصة.
وقال أبو العباس بن سريج من أصحاب الشافعي: لا يجزيه (5).
وقال محمد بن الحسن: قال أبو حنيفة: إن أخرج منها خمسة دراهم بهرجة أجزأه (6).
ص: 78
وقال: محمد عليه أن يخرج ما نقص (1).
دليلنا: الأخبار المروية في أن في مائتي درهم خمسة منها (2).
وأيضا قال عليه السلام: " في الرقة ربع العشر " (3) وهذا يقتضي أن يلزمه ربع العشر منها، فإذا أخرج بهارج لم يخرج منها.
مسألة 94: إذا كان معه خلخال وزنه مائتا درهم، وقيمته لأجل الصنعة ثلاثمائة درهم، لا تجب فيها الزكاة.
وقال محمد: قال أبو حنيفة: إن أخرج خمسة دراهم أجزأه، وبه قال أبو يوسف (4).
وقال محمد بن الحسن: لا يجزيه، وبه قال أصحاب الشافعي (5).
دليلنا: إنا قد بينا أن ما ليس بدارهم ولا دنانير لا تجب فيه الزكاة، وسنبين أن مال التجارة ليس فيه الزكاة، فعلى الوجهين لا تجب في هذا زكاة، لا في وزنه ولا في قيمته.
وأما على من قال من أصحابنا: إن مال التجارة فيه الزكاة (6)، فينبغي أن نقول أنه تجب فيه زكاة ثلاثمائة، لأن الزكاة تجب في القيمة، وقيمته ثلاثمائة.
مسألة 95: المعتبر في الفضة التي فيها الزكاة الوزن، وهو أن يكون كل درهم ستة دوانيق، وكل عشرة سبعة مثاقيل، ولا اعتبار بالعدد، ولا بالسود
ص: 79
البغلية التي في كل درهم درهم ودانقان، ولا بالطبرية الخفيفة التي في كل درهم أربعة دوانيق، وبه قال جميع الفقهاء (1).
وقال المغربي (2): الاعتبار بالعدد دون الوزن، فإذا بلغت مائتي عدد ففيها الزكاة سواء كانت وافية أو من الخفيفة، وإن كانت أقل من مائتي عدد فلا زكاة فيها، سواء كانت خفيفة أو وافية (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، بل إجماع الأمة، وقول المغربي لا يعتد به، ومع ذلك فقد انقرض وانعقد الإجماع على خلافه.
مسألة 96: لا زكاة في مال الدين إلا أن يكون تأخره من قبل صاحبه.
وقال أبو حنيفة، والشافعي في " القديم ": لا زكاة في الدين (4)، ولم يفصلا. وقال الشافعي في عامة كتبه: إن فيه الزكاة (5).
وقال أصحابه: إن كان الدين حالا، فله ثلاثة أحوال: إما أن يكون على ملي باذل، أو على ملي جاحد في الظاهر باذل في الباطن، أو على جاحد في الظاهر والباطن.
فإن كان ملي باذل ففيه زكاة، كالوديعة وهذا مثل قولنا.
وإن كان على ملي باذل في الباطن دون الظاهر، ويخاف إن طالبه أن يجحده ويمنعه، فلا زكاة عليه في الحال، فإذا قبضه زكاه. لما مضى قولا واحدا (6).
ص: 80
وإن كان على ملي جاحد في الظاهر والباطن، فالحكم فيه وفي المعسر واحد: لا يجب عليه إخراج الزكاة منه في الحال (1).
ولكن إذا قبضه هل يزكيه أم لا؟ على قولين: قال أبو إسحاق: يملكه (2)، وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يملكه (3). فعلى قول ابن أبي هريرة لا زكاة عليه أصلا، وعلى قول أبي إسحاق لا زكاة في الحال عليه.
فإذا قبضه فهل يستأنف أم لا؟ على قولين كالمغصوب سواء.
والمال الغائب إن كان متمكنا منه ففيه الزكاة في البلد الذي فيه المال، وإن أخرجه في غيره فعلى قولين.
وإن كان ممنوعا أو مفقودا يرجو طلابه لم يجب عليه أن يخرج الزكاة، فإذا عاد إليه فهل يخرج الزكاة لما مضى؟ على قولين كالمغصوب سواء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وإيجاب الزكاة في هذا المال يحتاج إلى دلالة شرعية، وليس فيها ما يدل على ما قالوه، فوجب نفيه.
مسألة 97: لا زكاة فيما زاد على المائتين حتى يبلغ أربعين درهما، وعلى هذا بالغا ما بلغ في كل أربعين درهما درهم، وما نقص عنه لا شئ فيه. والذهب ما زاد على عشرين ليس فيه شئ حتى يبلغ أربعة دنانير، ففيها عشر دينار. وبه قال أبو حنيفة (5).
وقال الشافعي: فيما زاد على المائتين وعلى العشرين دينارا ربع العشر، ولو
ص: 81
كان قيراطا بالغا ما بلغ، وبه قال ابن عمر. ورووه عن علي عليه السلام، وبه قال ابن أبي ليلى، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد، ومالك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا ما قلناه لا خلاف أن فيه الزكاة، وليس على ما قالوه دليل.
وروى أبو إسحاق (2)، عن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما (3).
وروى محمد بن إسحاق (4) عن المنهال بن الجراح (5) عن حبيب بن نجيح (6) عن عبادة بن نسي (7) عن معاذ بن جبل أن النبي صلى اللّه عليه
ص: 82
وآله لما بعثه إلى اليمن قال له: " لا تأخذ من الكسر شيئا ولا شيئا من الورق حتى يبلغ مائتي درهم، فإذا بلغها فخذ خمسة دراهم، ولا تأخذ من زيادتها شيئا حتى تبلغ أربعين درهما، فإذا بلغها فخذ درهما " (1) وهذا نص.
مسألة 98: إذا ارتد الإنسان ثم حال الحول، فإن كان ارتد عن فطرة الإسلام وجب عليه القتل ولا يستتاب، وماله قد انتقل إلى ورثته، وليس ح عليهم فيه زكاة، لأنهم يستأنفون الحول.
وإن كان إسلامه عن كفر ثم ارتد انتظر به العود، فإن عاد إلى الإسلام بعد حلول الحول وجب عليه الزكاة بحلول الحول الأول، وإن لم يعد فقتل بعد حلول الحول، أو لحق بدارهم الحرب وجب أن يخرج عنه الزكاة، لأن ملكه كان باقيا إلى حين القتل. وللشافعي في مال المرتد قولان: أحدهما: فيه الزكاة. والثاني: نتوقف فيه (2).
دليلنا: إنه قد ثبت أنه مأمور بالزكاة، ولا يجوز إسقاطها إلا بدليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
وأيضا جميع الآيات المتناولة لوجوب الزكاة يتناول الكافر والمسلم، فمن خصها فعليه الدلالة.
مسألة 99: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا، فإذا بلغت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال، فإن نقص من العشرين ولو قيراط لا تجب فيه الزكاة، وما زاد عليه ففي كل أربعة دنانير عشر دينار، وبه قال أبو حنيفة (3).
ص: 83
وقال الشافعي، ما زاد على العشرين فبحسابه، ولو نقص شئ ولو حبة فلا زكاة، وبه قال أبو حنيفة وجميع الفقهاء (1).
وقال مالك إن نقص حبة وحبتان وجاز جواز الوافية، فهي كالوافية، فيها الزكاة بناء على أصله في الورق (2). وقد بيناه.
وقال عطاء والزهري والأوزاعي: لا نصاب في الذهب، وإنما يقوم بالورق، فإن كان ذهبا قيمته مائتا درهم ففيه الزكاة وإن كان دون عشرين مثقالا، (3) وقال الحسن البصري: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالا، فإذا بلغها ففيه دينار (4)، وذهب إليه قوم من أصحابنا (5).
دليلنا: الروايات المجمع عليها عند الطائفة، وقد أوردناها في الكتابين المذكورين، وبينا الكلام على الرواية الشاذة في هذا الباب (6).
وأيضا روى علي عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال:
" ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة، فإذا بلغ عشرين مثقالا ففيه نصف مثقال " (7).
وروى ابن عمر قال: كان الرسول صلى اللّه عليه وآله يأخذ من كل عشرين
ص: 84
دينارا نصف دينار، ومن كل أربعين دينارا دينارا (1).
مسألة 100: إذا كان معه ذهب وفضة، ينقص كل واحد منهما عن النصاب، لم يضم أحدهما إلى الآخر. مثل أن يكون معه مائة درهم وعشرة دنانير لا بالقيمة ولا بالأجزاء، وبه قال الشافعي وأكثر أهل الكوفة. ابن أبي ليلى وشريك (2)، والحسن بن صالح بن حي، وأحمد بن جنبل، وأبو عبيد القاسم بن سلام (3).
وذهبت طائفة إلى أنهما متى قصرا عن نصاب ضممنا أحدهما إلى الآخر، وأخذنا الزكاة منهما. ذهب إليه مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، محمد (4).
ثم اختلفوا في كيفية الضم على مذهبين:
فكلهم قال إلا أبا حنيفة: أضم بالأجزاء دون القيمة، وهو أن اجعل كل دينار بإزاء عشرة دراهم، فإذا كان معه مائة درهم وعشرة دنانير ضممنا إليها وأخذنا الزكاة منهما، سواء كانت قيمة الذهب أكثر من مائة أو أقل، فإن كان معه مائة درهم وتسعة دنانير لم يضم، وإن كان قيمة الذهب ألف درهم (5).
ص: 85
وقال أبو حنيفة: أضم ما هو الأحوط للمساكين بالقيمة أو الأجزاء، فإن كان معه مائة درهم وعشرة دنانير ضممتها بالأجزاء، وإن كانت قيمة الذهب تسعين درهما وإن كانت قيمة مائة درهم تسعة دنانير ضممتها إليه، ولم أضم بالأجزاء احتياطا للمساكين (1).
دليلنا: إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون فيه، وأيضا ما اعتبرناه لا خلاف فيه، وما ادعوه ليس على صحته دليل.
وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة " (2).
فمن قال: يجب فيها بأن يضم إليها غيرها فقد ترك الخبر.
وكذلك ما رواه علي عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله:
" ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب " (3) يدل على ذلك أيضا.
مسألة 101: كل مال تجب الزكاة في عينه بنصاب وحول فلا زكاة فيه حتى يكون النصاب موجودا في أول الحول إلى آخره، فإن كان عنده أربعون شاة، فذهبت واحدة، انقطع الحول. فإن ملك واحدة كمل النصاب واستأنف. وهكذا في عين الذهب والفضة متى نقص النصاب انقطع الحول، فإذا كمل استأنف الحول. وبه قال الشافعي وأصحابه (4).
وقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا كان النصاب موجودا في طرفي الحول لم يضر نقصان بعضه في وسطه، وإنما ينقطه الحول بذهاب كله، فأما بذهاب بعضه فلا (5).
ص: 86
وقال مالك: لو ملك عشرين شاة شهرا، ثم توالدت، وبلغت أربعين، كان حولها حول الأصل (1).
وقال أبو حنيفة: لو ملك أربعين شاة ساعة ثم هلكت إلا واحدة، ثم مضى عليها أحد عشر شهرا، ثم ملك تمام النصاب، أخرج زكاة الكل (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما اعتبرناه لا خلاف أن فيه الزكاة، وما ادعوه ليس عليه دليل.
وروت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (3) وهذا لم يحل عليه الحول، وإنما حال على بعضه.
مسألة 102: الحلي على ضربين: مباح، وغير مباح.
فغير مباح أن يتخذ الرجل لنفسه حلي النساء كالسوار، والخلخال، والطوق. وأن تتخذ المرأة لنفسها حلي الرجال كالمنطقة، وحلية السيف وغيره.
فهذا عندنا لا زكاة فيه، لأنه مصاغ، لا من حيث كان حليا. وقد بينا أن السبائك ليس فيها الزكاة.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: فيه زكاة (4).
وأما المباح، أن تتخذ المرأة لنفسها حلي النساء، ويتخذ الرجل لنفسه حلي الرجال كالسكين، والمنطقة، فهذا المباح عندنا أنه لا زكاة فيه.
للشافعي فيه قولان:
قال في " القديم " و " البويطي " وأحد قوليه في " الأم ": لا زكاة فيه، وبه قال في الصحابة ابن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وأسماء. وفي التابعين
ص: 87
سعيد بن المسيب، والحسن البصري، والشعبي، وقالوا: زكاته إعارته كما يقول أصحابنا (1). وفي الفقهاء مالك، وإسحاق، وأحمد وعليه أصحابه وبه يفتون (2).
والقول الآخر: فيه الزكاة، أومى إليه في " الأم "، وبه قال في الصحابة عمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن مسعود، وعبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، وفي التابعين الزهري، وفي الفقهاء المزني، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون فيه، وأيضا الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليها الزكاة كان عليه الدلالة.
وأيضا روي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: لا زكاة في الحلي (4).
وقالوا: " زكاة الحلي إعارته " (5).
وروي أبو الزبير، عن جابر بن عبد اللّه أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" لا زكاة في الحلي " (6) وهذا نص.
ص: 88
وروت فريعة بنت أبي أمامة (1) قالت: حلاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله رعاثا [من ذهب] وحلي أختي، وكنا في حجرة، فما أخذ منا زكاة حلي قط (2).
الرعاث: الحلق.
فإن قالوا: لم يأخذ لأنه لم يكن نصابا . قلنا هو باطل، لأنه لا يقال: ما أخذ زكاة إلا والمال مما يجب فيه الزكاة مسألة 103: ذهب الشافعي إلى أن الجام الدابة لا يجوز أن يكون محلى بفضة، وهو حرام (3). واختلف أصحابه، فذ هب أبو العباس وأبو إسحاق إلى التحريم (4).
وقال أبو الطيب بن سلمة: مباح (5).
والمسألة عندهم على قولين:
والذهب كله حرام بلا خلف إلا عند الضرورة، وذلك مثل أن يجدع أنف إنسان فيتخذ أنفا من الذهب، أو يربط به أسنانه (6).
والمصحف لا يجوز أن يحيله بفضة على قولين (7)، والذهب لا يجوز أصلا، وفي أصحابه من أجازه.
فأما تذهيب المحاريب وتفضيضها قال أبو العباس: ممنوع منه، وكذلك
ص: 89
قناديل الفضة والذهب: قال والكعبة وسائر المساجد في ذلك سواء (1)، فما أجازه وأباحه لا تجب فيه الزكاة، وما حرمه ففيه الزكاة (2).
ولا نص لأصحابنا في هذه المسائل غير أن الأصل الإباحة، فينبغي أن يكون ذلك مباحا إلا أنه لا زكاة فيه على كل حال، لأنها سبائك. وقد بينا أنه لا تجب الزكاة إلا في الدراهم والدنانير.
مسألة 104: أواني الذهب والفضة محرم اتخاذها واستعمالها، غير أنه لا تجب فيها الزكاة.
وقال الشافعي: حرام استعمالها قولا واحدا (3)، وفي اتخاذها قولان: أحدهما: محظور، والآخر: مباح. وعلى كل حال تجب فيه الزكاة (4).
دليلنا: ما قدمناه من أن المصاغ لا تجب فيه الزكاة، وإنما تجب في الدراهم والدنانير.
وأما الدليل على حظر استعمالها: ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن استعمال آنية الذهب والفضة، وقال: " من شرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " (5).
مسألة 105: كلما خرج من البحر من لؤلؤ، أو مرجان، أو زبرجد، أو در، أو عنبر، أو ذهب، أو فضة فيه الخمس وما يجري مجراه.
وكذلك الحكم في الفيروزج، والياقوت، والعقيق وغيره من الأحجار
ص: 90
والمعادن، وبه قال عبد اللّه بن الحسن العنبري البصري، وأبو يوسف (1).
وقال الشافعي: كل ذلك لا شئ فيه إلا الذهب والفضة، فإن فيه الزكاة. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، ومحمد بن الحسن (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، لأنهم لا يختلفون فيه.
وأيضا قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه " (3) وهذا غنيمة.
وقال الشافعي: هو القياس (1).
وذهب قوم إلى أنه ما دامت عروضا وسلعا لا زكاة فيه، فإذا قبض ثمنها زكاه لحول واحد. وبه قال عطاء، ومالك (2).
وذهب قوم إلى أن الزكاة فيه، يقوم كل حول ويؤخذ منه الزكاة. وبه قال الشافعي في " الجديد " و " القديم "، وإليه ذهب الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (3).
دليلنا: الأخبار التي أوردناها في الكتابين المقدم ذكرهما (4).
وأيضا الأصل براءة الذمة، ولا دليل على أن مال التجارة فيه الزكاة.
وأيضا ما رويناه من أن الزكاة في تسعة أشياء (5) يدل على ذلك لأن التجارة خارجة عنها.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمر بن العاص أنه قال: " ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " (6) فلولا أن التجارة تحفظ من الزكاة وتمنع من وجوبها
ص: 92
ما دلهم عليها.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " (1) ولم بين ولم يفصل بين ما يكون للتجارة والخدمة.
مسألة 107: على قول من قال من أصحابنا: إن مال التجارة فيه الزكاة، إذا اشترى مثلا سلعة بمائتين، ثم ظهر فيها الربح، ففيها ثلاث مسائل:
أوليها: اشترى سلعة بمائتين، فبقيت عنده حولا، فباعها مع الحول بألف، لا يلزمه أكثر من زكاة المائتين، لأن الربح لم يحل عليه الحول.
الثانية: حال الحول على السلعة، ثم باعها بزيادة بعد الحول، فلا يلزمه أكثر من زكاة المائتين، لأن الفائدة لم يحل عليها الحول.
وقال الشافعي: زكاها مع الأصل (2).
قال أصحابه: هذا إذا كانت الزيادة حادثة قبل الحول.
ص: 93
الثالثة: اشترى سلعة بمائتين، فلما كان بعد ستة أشهر باعها بثلاثمائة، فنضت الفائدة منها مائة، فحول الفائدة من حين نضت، ولا تضم إلى الأصل.
وبه قال الشافعي قولا واحدا.
وقال أصحابه المسألة على ثلاثة طرق:
منهم من قال: إذا نض المال كان حول الفائدة من حين نضت قولا واحدا (1).
وقال أبو العباس: زكاة الفائدة من حين ظهرت نضت أو لم تنض (2).
وقال المزني وأبو إسحاق وغيرهما: المسألة على قولين:
أحدهما: حول الفائدة حول الأصلي. وبه قال أبو حنيفة.
والثاني: حولها من حيث نضت (3).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ومن ضم الفائدة إلى الأصل يحتاج إلى دليل.
وأيضا روي عنه عليه السلام أنه قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول (4) والفائدة لم يحل عليها الحول، فلا تجب فيها الزكاة.
مسألة 108: قد بينا أنه لا زكاة في مال التجارة، وأن على مذهب قوم من أصحابنا فيه الزكاة، فعلى هذا إذا اشترى عرضا للتجارة بدراهم أو دنانير، كان حول السلعة حول الأصل. وإن اشترى عرضا للتجارة بعرض كان عنده للقنية كأثاث البيت فإن حول السلعة من حين ملكها للتجارة، وبه قال
ص: 94
الشافعي (1).
وقال مالك: لا تدور في حول التجارة إلا بأن يشتريها بمال تجب فيه الزكاة كالذهب والورق. فأما إذا اشترى بعرض كان للقنية فلا يجري في حول الزكاة (2).
دليلنا: ما رواه سمرة بن جندب (3) قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يأمرنا أن نخرج الزكاة من الذي نعد للبيع (4).
وأيضا متاع البيت لا زكاة فيه بلا خلاف، فمتى نقله أو عرضه للتجارة فإنما تجب عليه الزكاة إذا حال الحول ما تجب فيه الزكاة.
دليلنا: أنه لا بد من تقويم السلعة، فإنه لا يمكن النسبة إلى السلعة، فإذا ثبت ذلك وجب أن يأخذ منها الزكاة.
وروى إسحاق بن عمار في حديث الزكاة، أوردناه في تهذيب الأحكام عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: كل عرض فهو مردود إلى الدراهم والدنانير (1) وهذا يدل على أن الزكاة متعلقة بالقيمة.
مسألة 110: إذا ملك عرضا للتجارة، فحال عليه الحول من حين ملكه، وبلغت قيمته نصابا، كان فيه الزكاة. وإن قصر عن نصاب فلا زكاة فيه، وإذا بلغت قيمته في الحول الثاني نصابا استؤنف الحول من حين بلغ النصاب وقال ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي: أي وقت بلغت قيمته نصابا فذاك آخر الحول في حقه وأقومه وآخذ منه الزكاة (2).
وقال أبو إسحاق: ينقطع حكم الحول الآخر من حول الأول ويكون ابتداء الثاني عقيب خروج الأول، فإذا حال الثاني قومناه (3).
دليلنا: ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (4). وإنما يحول الحول من حين يكمل النصاب، فيجب أن يكون هو المراعى.
مسألة 111: إذا ملك سلعة للتجارة في أول الحول، ثم ملك أخرى للتجارة بعدها بشهر آخر، ثم أخرى بعدها بشهر، ثم حال الحول، نظرت فإن كان حول
ص: 96
الأولى وقيمتها نصاب، وحول الثانية وقيمتها نصاب، وحول الثالثة كذلك، يزكي كل سلعة بحولها.
وإن كانت الأولى نصابا، فحال حول الأولى وقيمتها نصاب، وحال حول الثانية والثالثة وقيمة كل واحدة منهما أقل من نصاب، أخذ من الأولى الزكاة خمسة دراهم، ومن الثانية والثالثة من كل أربعين درهما درهم.
وقال الشافعي في النصاب الأول مثل ما قلناه، وفيما زاد عليه ربع العشر.
وإن كانت بحالها وحال حول الأولى وهي أقل من نصاب، وحال حول الثانية وهي أقل من نصاب، لم يضم بعضه إلى بعض.
واعتبرنا تكملة النصاب وحول الحول من عند تمام النصاب، وما بقي بعد ذلك على ما قدمناه.
وقال الشافعي يضم بعضه إلى بعض، وأخذ منه الزكاة (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وما ذكره يحتاج إلى دليل، وأيضا فقد بينا في الأموال الصامتة أنه لا يضم بعضه إلى بعض، فحكم أموال التجارة حكم الصامتة، لأن أحدا لا يفرق.
مسألة 112: إذا اشترى عرضا للتجارة ففيه ثلاث مسائل:
أوليها: أن يكون ثمنها نصابا من الدراهم أو الدنانير على مذهب من قال من أصحابنا: إن مال التجارة ليس فيه زكاة، ينقطع حول الأصل. وعلى مذهب من أوجب، فإن حول العرض حول الأصل. وبه قال الشافعي قولا واحدا (2).
فإن كان الذي اشترى بها عرضا للقنية، مثل شئ من متاع البيت من
ص: 97
الفرش وغير ذلك، كان حول السلعة من حين اشتراها. وبه قال الشافعي (1).
وإن كان الذي اشتراها نصابا تجب فيه الزكاة من الماشية، فإنه يستأنف الحول. وبه قال أبو العباس، وأبو إسحاق من أصحاب الشافعي (2).
وقال الإصطخري: يبني ولا يستأنف، وهو ظاهر كلام الشافعي (3).
دليلنا: قد روينا عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: كل ما عدا الأجناس التسعة مردود إلى الدنانير والدراهم (4) فإذا ثبت ذلك لا يمكن أن يبنى على الحول الأول، لأن السلعة تجب في قيمتها من الدنانير والدراهم الزكاة، والأصل تجب في عينها، ولا يمكن حمل أحدهما على الآخر.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (5) وإذا لم يحل على الأول الحول، وجب أن لا يبنى عليه الثاني.
ص: 98
مسألة 113: إذا كان عنده سلعة ستة أشهر، ثم باعها استأنف الحول على قول من لم يوجب الزكاة في مال التجارة، وعلى من أوجب فيها بنى على الأول.
وقال الشافعي: بنى على حول الأصل (1)، وهذا وفاق على مذهب من أوجب في مال التجارة الزكاة، فأما من لا يوجب، فلا يصح، ويبني على أنه لا زكاة في مال التجارة، وقد مضت فيما تقدم.
مسألة 114: إذا اشترى سلعة للتجارة بنصاب من جنس الأثمان، مثلا اشتراها بمائتي درهم أو بعشرين دينارا، ثم حال الحول، قومت السلعة بما اشتراها به، ولا يعتبر نقد البلد. وإن لم يكن نصابا فلا يلزمه زكاته، إلا أن يصير مع الربح نصابا، ويحول عليه الحول. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: إن كان الثمن أقل من نصاب، فيه وجهان: أحدهما يقوم بما اشتراها به (2). وقال أبو إسحاق: يقوم بغالب نقد البلد (3). ووافقنا أبو يوسف في أنه يقوم بالنقد الذي اشتراها به (4). وقال محمد: يقوم بغالب نقد البلد، وبه قال ابن الحداد (5) (6).
ص: 99
وقال أبو حنيفة: يقوم بما هو أحوط للمساكين (1).
دليلنا: ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: إن طلب برأس المال فصاعدا ففيه الزكاة، وإن طلب بخسران فليس فيه زكاة (2) ولا يمكن أن يعرف رأس المال إلا أن يقوم بما اشتراه به بعينه.
مسألة 115: قد بينا أنه إذا بادل دنانير بدنانير، وحال الحول، لم ينقطع حول الأصل، وكذلك إن بادل دراهم بدراهم. وإن بادل دراهم بدنانير، أو دنانير بدراهم، أو بجنس غيرها. بطل حول الأول.
وقال الشافعي: يستأنف الحول على كل حال، بادل بجنسه أو بغير جنسه (3)، فإن كانت المبادلة للتجارة وهو الصرف الذي يقصد به شراء الذهب والفضة للتجارة والربح على وجهين:
قال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما، يستأنف (4)، وكان أبو العباس يقول بشراء الصيارف: أنه لا زكاة في أموالهم (5).
ص: 100
وقال الإصطخري: يبني ولا يستأنف، وكان يقول: الذي قال أبو العباس خلاف الإجماع (1).
وقال أبو حنيفة: إن كانت المبادلة بالأثمان بنى جنسا كان أو جنسين، وإن كان في الماشية استأنف جنسا كان أو جنسين (2).
دليلنا: ما روي عنهم عليه السلام أنهم قالوا: الزكاة في الدراهم والدنانير، وعدوا تسعة أشياء (3)، ولم يفرقوا بين أن تكون الأعيان باقية أو أبدلت بمثلها، فيجب حملها على العموم.
مسألة 116: إذا اشترى عرضا للتجارة، جرى في الحول من حين اشتراه.
وبه قال الشافعي (4).
دليلنا: قوله عليه السلام: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (5).
مسألة 117: إذا ملك سلعة للقنية، ثم نواها للتجارة، لم تصر للتجارة بمجرد النية. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك (6).
ص: 101
وقال الحسين الكرابيسي (1) من أصحاب الشافعي: تصير للتجارة بمجرد النية. وبه قال أحمد وإسحاق (2).
دليلنا: إنا قد اتفقنا أنه إذا اشترى بنية القنية لا يلزمه زكاته، فمن ادعى أن بالنية عاد إلى التجارة فعليه الدلالة.
مسألة 118: النصاب يراعى في أول الحول إلى آخره، وسواء كان ذلك في الماشية أو الأثمان أو التجارات.
وقال أبو حنيفة: النصاب في طرفي الحول، وإن نقص فيما بينهما جاز في جميع الأشياء، الأثمان والمواشي. وبه قال الثوري (3).
وقال الشافعي: وأصحابه فيه قولان:
وقال أبو العباس: لا بد من النصاب طول الحول في المواشي والأثمان والتجارات (4).
وقال باقي أصحابه: مال التجارة يراعى فيه النصاب حين حول الحول، فإن كان في أول الحول أقل من نصاب لم يضره ذلك، فأما الأثمان والمواشي فلا بد فيها من النصاب من أوله إلى آخره (5).
دليلنا: إن ما اعتبرناه لا خلاف أنه يتعلق به زكاة، وما ادعوه ليس عليه دلالة.
ص: 102
وأيضا قوله عليهم السلام: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (1).
وذلك عام في جميع الأشياء.
مسألة 119: من كان له مماليك للتجارة تلزمه زكاة الفطرة دون الزكاة المال، إذا قلنا لا تجب الزكاة في مال التجارة، وإذا قلنا فيه الزكاة، أو قلنا أنه مستحب، ففي قيمتها الزكاة، وتلزمه زكاة الفطرة عن رؤوسهم. وبه قال الشافعي ومالك أكثر أهل العلم (2).
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: تجب زكاة التجارة دون صدقة الفطرة (3).
دليلنا على الأول: إنا قد بينا أن مال التجارة لا تجب فيه الزكاة، فإذا ثبت ذلك، فزكاة الفطرة واجبة بالإجماع، لأن أحدا لم يسقطها مع إسقاط زكاة المال وأما الذي يدل على الثاني فهو أن الزكاة التجارة تجب في القيمة، وهي ثابتة بالإجماع، لأن أحدا لم يسقطها، وإنما الخلاف في اجتماع زكاة الفطرة معها، أم لا، وكل خبر ورد في وجوب إخراج الفطرة عن العبيد يتناول هذا الموضع.
وروى عبد اللّه بن عمر أنه قال: فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله زكاة الفطرة في رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير، وعلى كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين (4).
ص: 103
مسألة 120: إذا ملك مالا، فتوالى عليه الزكاتان، زكاة العين وزكاة التجارة، ومثل أن اشترى أربعين شاة سائمة للتجارة، أو خمسا من الإبل، أو ثلاثين من البقر، وكذلك لو اشترى نخلا للتجارة فأثمرت ووجبت زكاة الثمار، أو أرضا فزرعها فاشتد السنبل، فلا خلاف أنه لا تجب فيه الزكاتان معا، وإنما الخلاف في أيهما تجب، فعندنا أنه تجب زكاة العين دون زكاة التجارة. وبه قال الشافعي في " الجديد " (1).
وقال في " القديم ": تجب زكاة التجارة وتسقط زكاة العين، وبه قال أهل العراق (2).
دليلنا: كل خبر ورد في وجوب الزكاة في الأعيان يتناول هذا الموضع مثل قوله: " في أربعين من الغنم شاة، وفي خمس من الإبل شاة، وفي ثلاثين من البقر تبيع " (3) ولم يفصل، فمن أسقط فعليه الدليل وأيضا فإن عندنا أن زكاة التجارة ليس بواجب على ما مضى، فلو أسقطنا زكاة العين أدى إلى سقوطهما، وذلك خلاف الإجماع.
مسألة 121: إذا اشترى مائتي قفيز طعاما بمائتي درهم للتجارة، وحال الحول وهو يساوي مائتي درهم، ثم نقص قبل إمكان الأداء فصار يساوي مائة درهم، كان بالخيار بين أن يخرج خمسة أقفزة من ذلك أو درهمين ونصف. وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد (4).
ص: 104
وقال أبو حنيفة: هو بالخيار بين أن يخرج خمسة دراهم أو خمسة أقفزة (1).
دليلنا: إنا قد بينا أن الزكاة تتعلق بالقيمة، والقيمة تراعى وقت الإخراج، والإمكان شرط في الضمان، فإذا نقص قبل الإمكان فقد نقص منه، ومن مال المساكين فلا يلزمه أكثر من خمسة أقفزة أو قيمتها درهمين ونصف.
مسألة 122: المسألة بعينها بفرض أن الطعام زاد، فصار كل قفيز بدرهمين، فلا يلزمه أكثر من خمسة دراهم، أو قيمة قفيزين ونصف.
وقال أبو حنيفة: هو بالخيار بين أن يخرج خمسة دراهم أو خمسة أقفزة، لأنه يعتبر القيمة عند حلول الحول (2).
وقال أبو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين أن يخرج عشرة دراهم أو خمسة أقفزة، لأنهما يعتبران القيمة حين الإخراج (3).
وللشافعي فيه قولان:
- أولها: يخرج خمسة دراهم، لأن عليه ربع عشر القيمة حين الوجوب.
والآخر: أخرج خمسة أقفزة وإن كانت قيمتها عشرة دراهم، لأن الحق تعلق بالعين، فما زاد فللمساكين.
والثالث: هو بالخيار بين أن يخرج خمسة دراهم أو خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم (4).
دليلنا: إن ما اعتبرناه مجمع على لزومه، وما اعتبروه ليس عليه دليل.
مسألة 123: إذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة على أن يشتري بها متاعا والربح بينهما، فاشترى سلعة بألف، وحال الحول، وهي تساوي ألفين،
ص: 105
فإنما تجب في الألف الزكاة، لأنه قد حال الحول عليها. وأما الربح فإن فيه الزكاة من حين ظهر إلى أن يحول عليه الحول.
فزكاة الأصل على رب المال، وزكاة الربح ففي أصحابنا من قال: إن المضارب له أجرة المثل وليس له من الربح شئ (1)، فعلى هذا زكاة الرح على رب المال.
ومنهم من قال: له من الربح بمقدار ما وقع الشرط عليه (2)، فعلى هذا يلزم المضارب الزكاة من الربح بمقدار ما يصيبه منه، وزكاة باقي الرح على صاحب المال، هذا إذا كان المضارب مسلما.
فإن كان ذميا فمن قال: إن الربح لصاحب المال، كان الزكاة عليه،. ومن قال: بينهما صاحب المال بمقدار ما يصيبه منه، يلزم الذمي شئ، لأنه لا تجب الزكاة في ماله.
وقال الشافعي: إذا حال الحول والسلعة تساوي ألفين وجبت الزكاة في الكل، لأن الربح في مال التجارة يتبع الأصل في الحول (3). فأما من تجب عليه فيه قولان:
أحدهما: زكاة الكل على رب المال.
والثاني: على رب المال زكاة الأصل، وزكاة حصته من الربح. وعلى العامل زكاة حصته من الربح (4).
دليلنا: روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " (5) والربح لم يحل عليه الحول.
ص: 106
وأيضا الأصل براءة الذمة، والأصل تجب فيه الزكاة بلا خلاف، فمن أوجب في الربح الزكاة قبل الحول فعليه الدلالة، فأما صحة أحد المذهبين في مال المضارب قد بينا في الكتاب الكبير.
مسألة 124: إنما يملك المضارب الربح من حين يظهر الربح في السلعة.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، وهو أصحهما. وبه قال أبو حنيفة (1).
فعلى هذا يكون عليه الزكاة من حين ظهر الربح.
والآخر: بالمقاسمة يملك، وهو اختيار المزني (2)، فعلى هذا زكاة الكل على رب المال إلى أن يقاسم.
دليلنا: أنه إذا صح أن الربح بينهما وثبت، فحين ظهر الربح يجب أن يثبت للمضارب كما يثبت للمالك.
وأيضا روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال: من أعطي مالا للمضاربة فاشترى أباه قال: يقوم فإن زاد على ما اشتراه بدرهم انعتق منه نصيبه ويستسعى فيما بقي لرب المال (3).
فلولا أنه ملك بالظهور دون المقاسمة لما صح هذا القول.
مسألة 125: إذا ملك نصابا من الأموال الزكاتية الذهب، أو الفضة، أو الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الثمار، أو الحرث، أو التجارة وعليه دين يحيط به، فإن كان له مال غير هذا بقدر الدين، كان الدين في مقابلة ما عدا مال الزكاة
ص: 107
سواء كان ذلك عقارا أو أثاثا أو أي شئ، وعليه الزكاة في النصاب.
وإن لم يكن له غير النصاب الذي فيه الزكاة، فعندنا أن لا يمنع من وجوب الزكاة.
واختلف الناس فيه على أربعة مذاهب:
فقال الشافعي في الجديد والأم: الدين يمنع وجوب الزكاة، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى (1).
وقال في القديم، واختلاف العراقيين في الجديد: الدين يمنع وجوب الزكاة، فإن كان الدين بقدر ما عنده منع من وجوب الزكاة، وإن كان أقل منع الزكاة فيما قابله، فإن بقي بعده نصاب فيه الزكاة، وإلا فلا زكاة فيه. وبه قال الحسن البصري، وسليمان بن يسار، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق (2).
وذهب قوم إلى أنه إن كان ما في يده من الأثمان أو التجارة منع الدين من وجوب الزكاة فيما، وإن كان من الماشية أو الثمار، أو الحرث لم يمنع. ذهب إليه مالك، والأوزاعي (3).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين يمنع من وجوب الزكاة في الماشية، والتجارة، والأثمان. فأما الأموال العشرية الحرث والثمار، فالدين لا يمنع وجوب العشر. وكأنه يقول: الدين يمنع وجوب الزكاة، والعشر ليس بزكاته عندهم، فلا يمنع الدين منه (4).
ص: 108
دليلنا: كل خبر روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام (1) من أن الزكاة في الأجناس المخصوصة، متناول لهذا الموضع، لأنه لم يفرق بين من عليه الدين، وبين من لم يكن عليه ذلك، فوجب حملها على العموم.
مسألة 126: إذا ملك مائتي درهم عليه مائتان، وله عقار، وأثاث يفي بما عليه من الدين، فعندنا أنه يجب عليه في المائتين الزكاة.
وقال أبو حنيفة: المائتان في مقابلة المائتين، ويمنع الدين وجوبها فيه، لا يكون الدين في مقابلة ما عداه (2).
دليلنا: إنا قد بينا أنه لو يملك غير المائتين لم تسقط عنه الزكاة، لأن الزكاة حق في المال، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع منه.
مسألة 127: إذا ملك مائتين لا يملك غيرها، فقال: لله علي أن أتصدق بمائة منها، ثم حال الحول، لا تجب عليه زكاتها.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما، إن قال: إن الدين يمنع، فها هنا يمنع والآخر: لا يمنع (3).
ففي هذا وجهان، أحدهما: يمنع، والآخر: لا يمنع. فإذا قال: لا يمنع أخرج خمسة دراهم، وتصدق بمائة.
وقال محمد بن الحسن: النذر لا يمنع وجوب الزكاة عليه زكاة مائتين خمسة دراهم. درهمين ونصف عن هذه المائة، ودرهمين ونصف عن المائة الأخرى، وعليه أن يتصدق بسبعة وتسعين درهما ونصف (4).
ص: 109
دليلنا: إنه إذا جعل لله على نفسه من ذلك المال مائة فقد زال بذلك ملكه، فإذا حال الحول لم يبق معه نصاب، فلا تجب عليه، لأنه علق النذر بالمال لا بالذمة.
مسألة 128: إذا ملك مائتين، فحال عليها الحول، وجبت الزكاة فيها، فتصدق بها كلها وليس معه مال غيرها، لم يسقط بذلك فرض الزكاة.
وللشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه (1).
والثاني إن الخمسة تقع عن الفرض، والباقي عن النفل.
دليلنا: إن إخراج الزكاة عبادة، والعبادة تحتاج إلى نية، فمتى تجرد عن نية العبادة والوجوب لم يجز.
ولو قلنا: إنها يجزي عنه لأنه يستحق الزكاة منها، فإذا أخرج إلى مستحقها فقد أجزأ عنه، لأن ذلك يجري مجرى الوديعة. إذا لم ينو فإنها يقع رد الوديعة لكان قويا، والأحوط الأول.
مسألة 129: إذا كان له ألف، فاستقرض ألفا غيرها، ورهن هذه عند المقرض، فإنه يلزمه زكاة الألف التي في يده إذا حال عليها الحول دون الألف التي هي رهن، والمقرض لا يلزمه شئ، لأن مال القرض زكاته على المستقرض دون القارض.
وقال الشافعي: هذا قد ملك ألفين وعليه ألف دين، فإذا قال: الدين لا يمنع وجوب الزكاة زكى الألفين، وإذا قال: يمنع زكى الألف.
وأما المقرض ففي يده رهن بألف، والرهن لا يمنع وجوب الزكاة على الراهن، وله دين على الراهن ألف، فهل تجب الزكاة في الدين على قولين (2).
ص: 110
دليلنا: إنه لا خلاف بين الطائفة أن زكاة القرض على المستقرض دون القارض، وإن المال الغائب إذا لم يتمكن منه لا تلزمه زكاته، والرهن لا يتمكن منه، فعلى هذا صح ما قلناه.
والمقرض يسقط عنه زكاة القرض بلا خلاف بين الطائفة، ولو قلنا إنه يلزم المستقرض زكاة الألفين لكان قويا، لأن الألف القرض لا خلاف بين الطائفة أنه يلزمه زكاته، والألف المرهونة هو قادر على التصرف فيها بأن يفك رهنها، والمال الغائب إذا كان متمكنا منه يلزمه زكاته بلا خلاف بينهم (1).
مسألة 130: إذا وجد نصابا من الأثمان أو غيرها من المواشي، عرفها سنة، ثم هو كسبيل ماله وملكه، فإذا حال بعد ذلك عليه حول وأحوال، لزمته زكاته، فإنه مالك، وإن كان ضامنا له. وأما صاحبه فلا زكاة عليه، لأن المال الغائب الذي لا يتمكن منه لا زكاة فيه.
وقال الشافعي: إذا كان بعد سنة هل يدخل في ملكه بغير اختياره؟ على قولين: أحدهما وهو المذهب: إنه لا يملكها إلا باختياره (2). والثاني: يدخل مثلها في ذمته، وإن كانت ماشية وجب قيمتها في ذمته (3).
فأما الزكاة فإذا حال الحول من حين التقط فلا زكاة فيها، لأنه أمين (4).
وأما صاحب المال فله مال لا يعلم موضعه على قولين مثل الغصب، وأما الحول الثاني فإن لم يملكها فهي أمانة في يده.
ص: 111
ورب المال على قولين مثل الضالة، وإذا ملكها الملتقط وحال الحول فهو كرجل له ألف وعليه ألف، فإن قال: الدين يمنع، فها هنا يمنع، وإن قال: لا يمنع، فها هنا لا يمنع، إذا لم يكن له ملك سواه بقدره، فإن كان له مال سواه لزمه زكاته، ورب المال على قولين كالضالة والمغصوب (1).
دليلنا: ما روي عنهم عليهم السلام قالوا: لقطة غير الحرم يعرفها سنة ثم هي كسبيل ماله (2) وسبيل ماله أن تجب فيه الزكاة فهذا تجب فيه الزكاة.
مسألة 131: إذا أكرى دارا أربع سنين بمائة دينار معجلة أو مطلقة، فإنها تكون أيضا معجلة، ثم حال الحول، لزمته زكاة الكل، إلا إذا كان متمكنا من أخذه، وكل ما حال عليه الحول لزمته زكاة الكل، إلا أنه لا يجب عليه إخراجه إلا بعد مضي المدة التي يستقر فيها ملكه نصابا، فإذا مضت تلك المدة زكاه لما مضى، ولا يستأنف الحول.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما اختيار المزني والبويطي وأكثر أصحابه مثل ما قلناه (3)، والذي نص الشافعي عليه أنه إذا حال عليه الحول زكى بخمسة وعشرين، وفي الثانية زكى خمسين (4).
وقال مالك: كلما مضى شهر ملك الشهر.
ص: 112
وقال أبو حنيفة: إذا مضى خمس المدة ملك عشرين دينارا، وعندهما معا حينئذ يستأنف الحول.
دليلنا: إن عندنا أن الأجرة تستحق بنفس العقد بإجماع الفرقة على ذلك على ما بيناه في الإجارات إذا كانت مطلقة أو معجلة، وإذا كان هذا ملكا صحيحا وحال الحول لزمته زكاته.
والذي يدل على أن ملكه صحيح، إنه يصح أن يتصرف فيه بجميع تصرف الملك، ألا ترى أنه لو كانت الأجرة جارية جاز له وطؤها، فعلم بذلك أن ملكه صحيح.
مسألة 132: يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب، وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: يكره أن يقسمها في دار الحرب (2).
دليلنا على ذلك: إنه لا مانع في الشرع منه، فينبغي أن يكون جائزا.
مسألة 133: إذا حصلت أموال المشركين في أيدي المسلمين فقد ملكوها، سواء كانت الحرب قائمة أو تقضت.
وقال الشافعي: إن كانت الحرب قائمة فلا يملك ولا يملك أن يملك، ومعناه أن يقول أخذت حقي ونصيبي منها. وإن كانت الحرب تقضت فإنه لا يملكها، ولكنه يملك إن يملكها (3).
دليلنا: ما روي عنهم عليهم السلام: إن من سرق من مال المغنم بمقدار ما يصيبه فلا قطع عليه (4) فلو لم يكن مالكا لوجب عليه القطع.
وأيضا فلا خلاف أنه لو وطأ جارية من المغنم، فإنه لا يكون زانيا، ولا
ص: 113
يقام عليه الحد. وعندنا أنه يدرأ عنه الحد بمقدار ما يصيبه منها، فلولا أنه مالك لما وجب ذلك.
مسألة 134: إذا ملك من مال الغنيمة نصابا تجب فيه الزكاة جرى في الحول ولزمته زكاته، سواء كانت الغنيمة أجناسا مختلفة مثل الذهب والفضة والمواشي، أو جنسا واحدا.
وقال الشافعي: إن اختار أن يملك وملك وكانت الغنيمة أجناسا مختلفة لا تلزمه الزكاة، وإن كانت جنسا واحدا لزمته (1).
دليلنا: إنه قد ملك من كل جنس ما تجب فيه الزكاة، فوجب أن يجب عليه ذلك، لتناول الأمر له بذلك، ولا شئ يمنع منه، والشافعي إنما منع منه لأنه قال: إنه لا يملك من كل جنس بل الإمام مخير أن يعطيه من أي جنس شاء قيمته تحكما (2) وهذا عندنا ليس بصحيح، لأن له في كل جنس نصيبا، فليس للإمام منعه منه، والباقي يقسم بين المقاتلة (3) يتناول ذلك، ولم يقولوا إن الإمام مخير في ذلك، وله قسمة تحكم.
ولو قلنا: لا تجب عليه الزكاة لأنه غير متمكن من التصرف فيه قبل القسمة لكان قويا.
مسألة 135: من ملك نصابا، فباعه قبل الحول بخيار المجلس، أو خيار الثلاث، أو ما زاد على ذلك على مذهبنا، أو كان له عبد فباعه قبل أن يهل شوال بشرط، ثم أهل شوال في مدة الشرط، فإن كان الشرط للبائع، أو لهما، فإن زكاة المال وزكاة الفطرة على البائع، وإن كان الشرط للمشتري دون البائع
ص: 114
فزكاته على المشتري، زكاة الفطرة في الحال، وزكاة المال يستأنف الحول به.
وللشافعي في انتقال الملك ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه ينتقل بنفس العقد، فعلى هذا زكاة الفطرة على المشتري.
والآخر: إنه بشرطين، العقد وانقضاء الخيار، فالفطرة على البائع.
والثالث: إنه مراعى، فإن تم البيع فالفطرة على المشتري، وإن فسخ فالفطرة على البائع، لأن به تبين انتقال الملك بالعقد.
وزكاة الأموال مثل ذلك مبنية على الأقوال الثلاثة:
إذا قال: ينتقل بنفس العقد، فلا زكاة عليه.
وإن قال: بشرط، فالزكاة على البائع.
وإن قال: مراعى، فإن صح البيع استأنف المشتري الحول، وإن انفسخ فالزكاة على البائع (1).
دليلنا: ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " المؤمنون عند شروطهم " (2).
فإذا ثبت هذا، فإن كان الشرط للبائع، أولهما، فالملك ثابت للبائع، فعليه زكاته. وإن كان الشرط للمشتري، استأنف الحول، لأن ملك البائع قد زال.
مسألة 136: من باع ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، كان البيع صحيحا، فإن قطع فذاك، وإن توانى عنه حتى بدا صلاح الثمرة، فلا يخلو إما أن يطالب المشتري بالقطع، أو البائع بالقطع، أو يتفقا على القطع، فإن لهما ذلك، ولا زكاة على واحد منهما. وإن اتفقا على التبقية، أو اختار البائع تركه، كان له تركه، وكانت الزكاة على المشتري.
وقال الشافعي: إن طالب البائع بالقطع فسخنا البيع بينهما، وعاد الملك
ص: 115
إلى صاحبه، وكانت زكاته عليه. وكذلك إن اتفقا على القطع، فإن اتفقا على التبقية جاز، وكانت الزكاة على المشتري (1).
وقال أبو إسحاق: إن اتفقا على التبقية فسخنا البيع، فإذا رضي البائع بالتبقية واختار المشتري القطع، فيه قولان، أحدهما: يجبر المشتري على التبقية والآخر: يفسخ البيع (2).
دليلنا: على ما قلناه: إن الأصل براءة الذمة، وفسخ العقد يحتاج إلى دلالة، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 137: يكره للإنسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة، وليس محظور، وبه قال أبو حنيفة والشافعي (3).
وقال مالك: البيع مفسوخ (4).
دليلنا: قوله تعالى: " وأحل اللّه البيع وحرم الربا " (5) وهذا بيع، فمن ادعى فسخه، فعليه الدلالة.
مسألة 138: المعادن كلها يجب فيها الخمس من الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، والنحاس، والرصاص، ونحوها مما لا ينطبع ومما لا ينطبع، كالياقوت، والزبرجد، والفيروزج ونحوها، وكذلك القير، والموميا، والملح، والزجاج وغيره.
وقال الشافعي: لا يجب في المعادن شئ إلا الذهب والفضة فإن فيهما
ص: 116
الزكاة، وما عداهما ليس فيه شئ، انطبع أو لم ينطبع (1).
وقال أبو حنيفة: كلما ينطبع مثل الحديد، والرصاص، والذهب، والفضة ففيه الخمس. وما لا ينطبع فليس فيه شئ مثل الياقوت، والزمرد، والفيروزج فلا زكاة فيه لأنه حجارة (2).
وقال أبو حنيفة ومحمد: في الزيبق الخمس (3).
وقال أبو يوسف: لا شئ فيه، ورواه عن أبي حنيفة (4).
وقال أبو يوسف: قلت لأبي حنيفة: هو كالرصاص، فقال: فيه الخمس (5).
وقال أبو يوسف وسألته عن الزيبق بعد ذلك فقال: إنه يخالف الرصاص، فلم أر فيه شيئا (6).
فروايته عن أبي حنيفة ومذهبه الذي مات عليه أنه يخمس.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا قوله تعالى: " واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه " (7) وهذه الأشياء كلها مما غنمه الإنسان.
وأيضا الأخبار التي وردت عنهم عليهم السلام في أن الأرض خمسها لنا، وإن لنا خمس الأشياء حتى أرباح التجارات (8) تتناول ذلك.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " في الركاز الخمس " (9).
ص: 117
والمعادن ركاز.
مسألة 139: يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات، والغلات، والثمار على اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها ومؤنتها، وإخراج مؤنة الرجل لنفسه ومؤنة عياله سنة.
ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، لأنه إذا أخرج الخمس عما ذكرناه كانت ذمته بريئة بيقين، وإن لم يخرج ففي براءة ذمته خلاف.
مسألة 140: وقت وجوب الخمس في المعادن حين الأخذ، ووقت الإخراج حين التصفية والفراغ منه، ويكون المؤنة وما يلزم عليه من أصله، والخمس فيما يبقى، وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي (2).
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يراعى فيه حلول الحول، وهو اختيار المزني، لأنه لا تجب الزكاة إلا في الذهب والفضة، وهما يراعى فيهما حلول الحول (3).
والآخر عليه أصحابه: أنه يجب عليه حين التناول، وعليه إخراجه حين التصفية والفراغ، فإن أخرجه قبل التصفية لم يجزه (4).
ص: 118
دليلنا: قوله تعالى " فإن لله خمسه " (1) والأمر يقتضي الفور، فيجب الخمس على الفور.
وأما احتساب النفقة من أصله فعليه إجماع الفرقة.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وما قلناه مجمع عليه، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 141: لا بأس ببيع تراب المعادن وتراب الصياغة، إلا أن تراب الصياغة يتصدق بثمنه.
وقال مالك: يجوز بيع تراب المعدن دون تراب الصياغة (2).
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز بيعه (3).
دليلنا: قوله تعالى " وأحل اللّه البيع وحرم الربا " (4) وهذا بيع.
وأيضا الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 142: قد بينا أن المعادن فيه الخمس، ولا يراعى فيها النصاب.
وبه قال الزهري وأبو حنيفة كالركاز سواء، إلا أن الكنوز لا يجب فيها الخمس إلا إذا بلغت الحد الذي تجب فيه الزكاة (5).
وقال الشافعي في القديم والأم والجديد والإملاء: إن الواجب ربع العشر، وبه قال أحمد وإسحاق (6).
وأومأ الشافعي في الزكاة إلى اعتبار النصاب مائتي درهم (7)، وذهب
ص: 119
غيرهم إلى أن المعادن الركاز، وفيها الخمس (1).
وقال عمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي: ما وجد بدرة مجتمعة، أو كان في أثر سيل في بطحاء وغيرها، ففيه الخمس، وأومأ إليه في الأم (2).
وقال أبو إسحاق في الشرح: المسألة على ثلاثة أقوال ولا يختلف مذهبه في أن في المعادن الزكاة.
دليلنا: إجماع الفرقة، وروى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" في الركاز الخمس. قلت: يا رسول اللّه وما الركاز؟ فقال: الذهب والفضة اللذان خلقهما اللّه سبحانه في الأرض يوم خلقها " (3) وهذه صفة المعدن.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وآله سئل عن رجل وجد كنزا في قرية خربة؟ فقال: " ما وجدته في قرية غير مسكونة، أو في خربة جاهلية ففيه، وفي الركاز الخمس " (4).
ثبت أن المعادن ركاز، لأنه عطف على الركاز.
مسألة 143: إذا كان المعدن لمكاتب أخذ منه الخمس، سواء كان مشروطا عليه أو لم يكن. وبه قال أبو حنيفة (5).
وقال الشافعي: لا شئ عليه (6).
دليلنا: إن ذلك خمس، ولا يختص بالأحرار دون العبيد والمكاتبين، والشافعي إنما منع منه لأن عنده أنه زكاة، وقد بينا خلافه، وإنه خمس.
مسألة 144: الذمي إذا عمل في المعدن يمنع منه، فإن خالف وأخرج شيئا
ص: 120
منه ملكه، ويؤخذ منه الخمس، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، إلا أنه قال: لا يؤخذ منه شئ لأنه زكاة، ولا يؤخذ منه زكاة (1).
دليلنا: ما قدمنا في المسألة الأولى سواء من أن ذلك خمس، وليس بزكاة، ولا يمنع الكفر من وجوب الخمس في ماله.
مسألة 145: حق الخمس يملك مستحقه مع الذي يخرج من المعدن شيئا. وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال الشافعي: المخرج يملكه كله، ويجب عليه للمساكين حق (3).
دليلنا: قوله تعالى: " فإن لله خمسه " (4) وهذا يتناول أن الخمس من نفس الغنيمة.
وكذلك الأخبار المروية أن المعادن فيها الخمس (5) تتناول ذلك.
مسألة 146: الركاز هو الكنز المدفون يجب فيه الخمس بلا خلاف، ويراعى عندنا فيه أن يبلغ نصابا يجب في مثله الزكاة، وهو قول الشافعي في الجديد (6).
وقال في القديم: يخمس قليله وكثيره، وبه قال مالك وأبو حنيفة (7).
دليلنا: إجماع الفرقة وأيضا ما اعتبرناه لا خلاف أن فيه الخمس، وما نقص فليس عليه دليل.
ص: 121
مسألة 147: النفقة التي تلزم على المعادن والركاز من أصل ما يخرج.
وقال الشافعي: تلزم رب المال (1).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 148: إذا وجد دراهم مضروبة في الجاهلية فهو ركاز، ويجب فيه الخمس، سواء كان ذلك في دار الإسلام أو دار الحرب، وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يجب فيه الخمس إن كان في دار الإسلام، وإن كان في دار الحرب لا شئ عليه (3).
دليلنا: قوله تعالى: " فإن لله خمسه " (4) ولم يفرق، والأخبار الواردة أن الركاز فيه الخمس على عمومها (5).
وخبر أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " في الركاز الخمس " (6)، عام أيضا ولم يفرق.
مسألة 149: إذا وجد كنزا عليه أثر الإسلام، بأن تكون الدراهم أو الدنانير مضروبة في دار الإسلام، وليس عليه أثر ملك، يؤخذ منه الخمس.
وقال الشافعي: هو بمنزلة اللقطة إذا كان عليها أثر الإسلام (7)، وإن كانت مبهمة لا سكة فيها، والأواني فعلى قولين: أحدهما: بمنزلة اللقطة. والثاني:
ص: 122
أنه ركاز وغلب عليه المكان، فإن كان في دار الحرب خمس، وإن كان في دار الإسلام فهي لقطة (1).
دليلنا: عموم ظاهر القرآن والأخبار الواردة في هذا المعنى (2)، وتخصيصها يحتاج إلى دليل.
مسألة 150: إذا وجد ركازا في ملك مسلم أو ذميا في دار الإسلام لا يتعرض له إجماعا، وإن كان ملكا لحربي في دار الحرب فهو ركاز، وبه قال أبو يوسف وأبو ثور (3).
وقال الشافعي: هو غنيمة (4).
وفائدة الخلاف المصرف، لأن وجوب الخمس فيه مجمع عليه.
دليلنا: عموم الأخبار المتناولة لوجوب الخمس في الركاز (5) فمن خصها فعليه الدليل.
فإن فعل فهو نادر، والغالب ما قلناه.
مسألة 152: مصرف الخمس من الركاز والمعادن مصرف الفئ. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي وأكثر أصحابه: مصرفها مصرف الزكاة، وبه قال مالك، والليث بن سعد (2).
وقال المزني وابن الوكيل من أصحاب الشافعي: مصرف الواجب في المعدن مصرف الصدقات، وأما مصرف حق الركاز فمصرف الفئ (3).
دليلنا: عموم الظاهر، والأخبار في مستحق الخمس (4)، وعليه إجماع الطائفة.
مسألة 153: إذا أخذ الإمام الخمس من مال، فليس له أن يرده على من أخذه منه، وبه قال الشافعي (5).
وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: له أن يرده عليه (6).
دليلنا: إن الخمس لمستحقه، فلا يجوز أن يعطى من لا يستحقه، والواجد لا يخلو من أن يكون من أهل الخمس أو من غير أهله، فإن كان من غير أهله فلا يجوز أن يعطاه، لأنه لا يستحقه ومن كان من أهله فله مشارك آخر، فلا يجوز إعطائه، إلا أن يقاص من غيره.
مسألة 154: على من وجد الركاز إظهاره وإخراج الخمس منه، وبه قال الشافعي (7).
وحكي في القديم عن أبي حنيفة: إنه بالخيار كتمانه ولا شئ عليه، وبين إظهاره وإخراج الخمس منه.
ص: 124
دليلنا: كل ظاهر دل على وجوب الخمس يتناوله، فعلى من أجاز الكتمان الدليل.
ص: 126
كتاب زكاة الفطرة
ص: 127
ص: 128
مسألة 156: زكاة الفطرة فرض، وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: هي واجبة غير مفروضة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى " (3) وروي عنهم عليه السلام أنها نزلت في زكاة الفطرة، والأخبار المروية في هذا المعنى أكثر من أن تحصى (4)، وظاهرها يقتضي الأمر، وهو يقتضي الإيجاب.
وروى ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله فرض صدقة من رمضان طهرة للصائم من الذنب واللغو، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة كانت له زكاة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات (5).
ص: 129
مسألة 157: زكاة الفطرة على كل كامل العقل إذا كان حرا، يخرجها عن نفسه وعن جميع من يعوله من العبيد والإماء وغيرهم، مسلمين كانوا أو كفارا.
فأما المشرك فلا يصح منه إخراج الفطرة، لأن من شرطه الإسلام.
وقال الشافعي: تجب على كل مسلم حر يخرجها عن نفسه وغيره من عبيد وغيرهم إذا كانوا مسلمين، فأما إخراجها عن الشرك فلا يجوز (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأخبار التي وردت في أنه يخرجها عن نفسه وعن من يعوله وعن عبيدة عامة في المسلمين والكفار (2)، فعلى من خصصها الدلالة.
وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه، لأنه إذا أخرجها عمن قلناه برئت ذمته بلا خلاف، وإذا لم يخرجها فيه خلاف.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا عندنا لا تجب الفطرة إلا على من يملك نصابا تجب في مثلة الزكاة. والعبد لا يملك شيئا، فلا تجب عليه الفطرة.
وأيضا الأصل براءة الذمة، فعلى من شغلها الدلالة.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة، إلا صدقة الفطرة في الرقيق " (1).
مسألة 159: إذا ملك عبده عبدا، وجب على السيد الفطرة عنهما.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، وهو قوله في الجديد، لأنه يقول إذا ملك لا يملك (2).
وقال قديما: إذا ملك ملك، فعلى هذا لا تجب على واحد منهما الفطرة (3).
دليلنا: إنه ثبت أن العبد لا يملك شيئا وإن ملك، فإذا لم يملك فما ملكه ملك لمولاه، فعلى المولى فطرتهما.
مسألة 160: المكاتب لا تجب عليه الفطرة إذا تحرر منه شئ، وتجب على سيده بمقدار ما بقي منه، وإن كان مشروطا عليه وجب على مولاه الفطرة عنه.
وقال الشافعي: لا تجب الفطرة عليه ولا على سيده (4).
ص: 131
وحكى أبو ثور في القديم إن على السيد إخراجها عن مكاتبة (1).
دليلنا: على المشروط عليه وهو أنه عبده، فما أوجب الفطرة عليه من العبيد يوجب عليه في المكاتب المشروط عليه، لأنه داخل فيهم.
وأما المطلق فلأنه ليس بملك له، لأن بعضه حر ولا هو حر كله فيلزمه، فيجب أن تسقط الفطرة بمقدار ما تحرر منه.
عن جده أن النبي صلى اللّه عليه وآله فرض صدقة الفطرة عن الصغير، والكبير، والحر، والعبد، والذكر، والأنثى ممن تمونون (1) وهذا نص.
مسألة 163: روى أصحابنا: أن من أضاف إنسانا طول شهر رمضان وتكفل بعيلولته لزمته فطرته (2). وخالف جميع الفقهاء في ذلك (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 163: الولد الصغير إذا كان معسرا، فطرته على والده. وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
غير أن أبا حنيفة قال: تجب عليه فطرته، لأن له عليه ولاية (4).
ص: 133
وعندنا أنه يلزمه، لأنه في عياله، وهذا داخل تحت العموم، والصريح بما روي أنه تجب عليه الفطرة يخرجها عن نفسه وعن ولده (1). وأما الشافعي فقال: لأن عليه نفقته (2).
مسألة 164: إذا كان الولد الصغير موسرا لزم أباه نفقته، وعليه فطرته. وبه قال محمد بن الحسن (3).
وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف والشافعي: نفقته وفطرته من مال نفسه (4).
دليلنا: كل خبر روي في أنه تجب الفطرة على الرجل يخرجها عن نفسه، وعن ولده (5) يتناول هذا الموضع، فعلى من خصها الدلالة.
مسألة 165: ولد الولد إذا كان صغيرا موسرا كان أو معسرا مثل ولد الصلب على ما مضى القول فيه (6).
ص: 134
وقال الشافعي مثل ذلك، وقال: إن كان موسرا فنفقته وفطرته من ماله، وإن كان معسرا فنفقته وفطرته على جده (1).
وقال أبو حنيفة: نفقته على جده دون فطرته (2).
وقال الساجي في كتابه (قال محمد بن الحسن: قلت لأبي حنيفة: لم لا تجب فطرته على جده؟ فقال: لأنها لا تجب على جده. فسألته عن العلة فأعاد المذهب) (3).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى، لأنها فرع عليها، فإذا ثبتت تلك ثبتت هذه، لأن اسم الولد يقع على ولد الولد حقيقة.
مسألة 166: الولد إن كان معسرا نفقته وفطرته على ولده، زمنا كان أو صحيحا.
وقال الشافعي: إن كان زمنا فعليه نفقته وفطرته (4).
وقال أبو حنيفة: تلزمه النفقة دون الفطرة (5).
وإن كان صحيحا ففيها قولان: قال في الزكاة: نفقته على ولده، وقال في النفقات: لا نفقة عليه (6).
وقال أبو حنيفة: عليه نفقته (7).
ص: 135
دليلنا: عموم الأخبار التي رويت في أن الإنسان يجبر على نفقة الوالدين (1) والولد يتناول هذا الموضع، لأنها على عمومها. فمن خصها بالزمن دون الصحيح فعليه الدلالة، وإذا ثبتت النفقة وجبت الفطرة لأنه صار من عياله، فيتناوله عموم اللفظ في وجوب الفطرة عمن يمونه.
مسألة 167: الولد الكبير إن كان موسرا فنفقته وفطرته عليه بلا خلاف، وإن كان معسرا فنفقته وفطرته على والده، صحيحا كان أو زمنا.
وقال الشافعي: إن كان زمنا نفقته وفطرته على أبيه (2).
وقال أبو حنيفة: عليه النفقة دون الفطرة (3).
وإن كان معسرا صحيحا فعلى طريقين: منهم من قال على قولين (4)، ومنهم من قال: لا نفقة على والده قولا واحدا (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
والثاني: لا تلزمه، وبه قال المزني (1).
دليلنا: إنه إذا لم يعلم بقاؤه لا يعلم أنه مالك للعبد، وإذا لم يتحقق الملك لا تلزمه، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " يخرجه عن نفسه وعن مملوكه " (2) وهذا لا يعلم أنه له مملوكا فلا تلزمه.
فأما إذا علم حياته فإنما أوجبنا عليه لعموم الأخبار (3).
مسألة 169: المملوك المعضوب - وهو المقعد خلقة - لا يلزم نفقته. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: تلزمه (5).
دليلنا: إن من هذه صفته ينعتق عليه على ما سنبينه فيما بعد، وعليه إجماع الفرقة، فإذا انعتق لا تلزمه نفقته إلا أن يتكفل بنفقته فتلزمه حينئذ فطرته.
مسألة 170: إذا كان له مملوك كافر، أو زوجة كافرة، وجب عليه إخراج الفطرة عنهما.
وقال الشافعي: لا يجب عليه إخراج الفطرة عن الكافر (6).
وقال أبو حنيفة: تلزمه إخراج الفطرة عن المملوك وإن كافرا، ولا
ص: 137
يلزمه إخراجها عن الزوجة، بناء منه على أن الفطرة لا تجب بالزوجية (1).
دليلنا: عموم الأخبار.
وأيضا روى ابن عمر: أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بصدقة الفطرة عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون (2).
وفيه دليلان: أحدهما في قوله: عن العبد، ولم يفرق. والثاني قوله: ممن تمونون، وهذا ممن يمونه.
مسألة 171: إذا كان لمشرك عبد مشرك، فأسلم العبد، أجبر على بيعه، ولا يترك على ملكه. فإن أهل هلال شوال ثم أسلم إلى قبل الزوال، لم يلزم فطرته.
وللشافي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه. والثاني إنه يزكي، وهو أصحهما عندهم (3).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك عليه يحتاج إلى دليل.
وعندنا وإن كان الكافر مخاطبا بالعبادات، فإخراج الزكاة لا يصح منه، لأنه يحتاج إلى نية القربة، وهي لا تتأتى منه مع كفره.
مسألة 172: قد بينا أن زكاة الفطرة تتحمل بالزوجية، فإن أخرجت المرأة عن نفسها بإذن زوجها أجزأ عنها بلا خلاف، وإن أخرجت بغير إذنه فإنه لا يجزي عنها.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه. والثاني أنه يجزي (4).
دليلنا: إنا قد بينا أن فطرتها على زوجها، ففعلها لا يسقط الفرض عنه إلا
ص: 138
بدليل، ولا دليل على ذلك.
مسألة 173: اختلف روايات أصحابنا فيمن ولد له مولود ليلة العيد، فروي أنه يلزمه فطرته (1). وروي أنه لا يلزمه فطرته إذا أهل شوال (2) وقال الشافعي في القديم: تجب الفطرة بطلوع الفجر الثاني من يوم الفطر، فإن تزوج امرأة أو ملك عبدا أو ولد له ولد أو أسلم كافر قبل طلوع الفجر بلحظة، ثم طلع فعليه فطرته، فإن ماتوا قبل طلوعه فلا شئ عليه. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (3).
وقال في الجديد: تجب بغروب الشمس في آخر يوم من رمضان، فلو تزوج امرأة أو ملك عبدا أو ولد له ولد أو أسلم كافر قبل الغروب بلحظة، ثم غربت، وجبت الفطرة، وإن ماتوا قبل الغروب بلحظة فلا فطرة عليه (4).
فأما إذا وجدت الزوجية أو ملك العبد أو ولد له بعد الغروب وزالوا قبل طلوع الفجر، فلا فطرة بلا خلاف.
وقال مالك في العبد بقوله الجديد، وفي الولد بقوله القديم (5).
دليلنا: على أنه لا يلزمه: ما رواه معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن مولود ولد ليلة الفطر، عليه فطرة؟ قال: لا قد خرج الشهر.
ص: 139
وسألته عمن أسلم ليلة الفطرة عليه فطرة؟ قال: لا (1).
والرواية الأخرى رواها العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الفطرة متى هي؟ قال: قبل الصلاة يوم الفطر (2).
والوجه في الجمع بينهما أن يحمل الخبر الأول على سقوط الفرض بخروج الشهر، والثانية بحملها على الاستحباب، ويقوي ذلك أن الأصل براءة الذمة، فلا يعلق عليها شئ إلا بدليل.
وروي عن ابن عباس قال: فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله صدقة الفطرة في رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين (3).
مسألة 174: إذا كان العبد بين شريكين فعليهما فطرته بالحصة، وكذلك إن كان بينهما ألف عبد، أو كان ألف عبد لألف نفس مشاعا، الباب واحد.
وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: إذا كان العبد بين شريكين سقطت الفطرة، ولو كان بينهما ألف عبد مشاعا فلا فطرة (5).
دليلنا: عموم الأخبار في وجوب إخراج الفطرة عن العبد (6)، ولم يفرقوا
ص: 140
بين أن يكون مشاعا أو غير مشاع.
وأيضا الاحتياط يقتضي ذلك، لأنه إذا أخرج برئت ذمته بيقين، وإذا لم يخرج ففي براءتها خلاف.
مسألة 175: إذا أوجبنا على الشريكين زكاة عبد واحد، كان عليهما من فاضل قوتهما الغالب عليه، فإن اختلف قوتهما كانا مخيرين بين الإنفاق من جنس واحد، سواء كان الأدون أو الأعلى. وإن أخرجا مختلفين كان أيضا جائزا.
وقال ابن سريج: يخرجان من جنس واحد من أدونهما قوتا (1).
وقال أبو إسحاق: يخرجان من جنسين مختلفين على قول الشافعي إنه يجب إخراجه من غالب قوته، وبه قال أبو عبيد بن حربويه (2).
والذي اختاره أبو عباس وأبو إسحاق أنهما يخرجان مع غالب قوت البلد، لأنه الذي يلزم المكلف دون قوت نفسه (3).
دليلنا: عموم الأخبار في التخيير بين الأجناس ولم يفوقوا.
وروى يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:
قلت له: جعلت فداك هل على كل أهل البوادي الفطرة؟ قال، فقال: الفطرة على كل من أقتات قوتا فعليه أن يؤدي من ذلك القوت (4).
روى هذا الخبر الصفار بإسناده عن يونس عن زرارة وابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السلام (5).
ص: 141
مسألة 176: إذا كان بعض المملوك حرا، وبعضه مملوك، لزمته فطرته بمقدار ما يملك منه. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا فطرة في هذا (2).
وقال مالك: على سيده بمقدار ما يملك، ولا شئ على العبد بالحرية (3).
وقال ابن الماجشون: تلزمه زكاته تامة، ولا شئ على العبد (4).
وعندنا فيما يبقي منه، إن كان يملك نصابا، وجب عليه فطرته، وإلا فلا شئ عليه (5).
وقال الشافعي: إن كان معه ما يفضل عن قوت يومه لزمته، وإلا فلا شئ عليه (6).
دليلنا: ما دللنا به على العبد بين الشريكين.
مسألة 177: إذا باع عبدا قبل هلال شوال، فأهل شوال قبل أن تمضي ثلاثة أيام التي هي شرط في الحيوان، كان الفطرة على البائع، لأنه في ملكه بعد، وإن كان بينهما الشرط أكثر من ثلاثة أيام للبائع أو لهما، كان مثل ذلك على البائع فطرته، وإن كان الشرط فيما زاد للمشتري، كانت الفطرة عليه، لأنه إذا اختار دل على أن العقد كان له في الأول.
ص: 142
وقال الشافعي: إذا باع عبدا بشرط خيار المجلس أو خيار الثلاث، وكان الخيار لهما أو لأحدهما، فلا فرق في ذلك الباب الواحد، تكون الفطرة على مالك العبد، وله فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: ينتقل بنفس العقد، فالفطرة على المشتري، وهو اختيار المزني (1).
والثاني: بالعقد، وقطع الخيار، فعلى هذا على البائع فطرته (2).
والثالث: مراعى باختيار أحدهما، فإن كان الاختيار للبائع كان العبد له والفطرة عليه، وإن اختار المشتري تبين أن العبد له وعليه فطرته (3).
دليلنا: ما روي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: إذا مات الحيوان في مدة الخيار كان من مال البائع دون مال المشتري (4) وذلك يدل على أن الملك له وعليه فطرته.
مسألة 178: إذا أهل شوال، وله رقيق، وعليه دين، ثم مات، فإن الدين لا يمنع وجوب الفطرة، فإن كانت تركته بقي بما عليه من الصدقة والدين، قضي دينه وأخرجت فطرته، وما بقي فللورثة. وإن لم تف، كانت التركة بالحصص بين الدين والفطرة.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: يقدم حق اللّه تعالى.
والثاني: يقدم حق الآدمي.
والثالث: يقسم فيهما (5).
ص: 143
دليلنا: إنهما حقان وجبا عليه، وليس تقديم أحدهما على صاحبه أولى من الآخر، فيجب أن يسوى بينهما، ومن رجح فعليه الدلالة.
مسألة 179: إذا مات قبل هلال شوال وله عبد، وعليه دين، ثم أهل شوال بيه العبد في الدين، ولم يلزم أحدا فطرته. وبه قال أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي (1).
وقال باقي أصحابه: أنه تلزم الفطرة الورثة، لأن التركة لهم وإن كانت مرهونة بالدين (2).
دليلنا: قوله تعالى في آية الميراث " من بعد وصية يوصي بها أو دين " (3) فثبت أن الميراث يستحق بعد قضاء الدين والوصية، فلا يجوز نقلها إليهم مع بقاء الدين.
فإن قيل: لو لم ينتقل إلى الورثة بنفس الموت، لكان إذا مات وله تركة وعليه دين وله إبنان، فمات أحدهما وخلف ابنا، ثم أبرأه منه له الدين عنه، كانت التركة بين الابن وابن الابن، فلو لم تكن منتقلة إلى الابنين بوفاته لما كان لابن الابن شئ هاهنا، فإن الوارث يملك ممن له الدين.
وأيضا فإن الوارث يملك قضاء الدين من غير التركة.
وأيضا فإنه يملك طلب التركة حيث وجدها، ويملك المخاصمة، ويملك أن يحلف، فلولا أنها له ما ملك إثباتها بيمينه، لأن أحدا لا يثبت بيمينه مال غيره.
قيل له: الملك وإن لم ينتقل إليها فهو مبقي على ملك الميت، فإذا أبرأه من له الدين، انتقل منه إلى ابنيه اللذين خلفهما، ولذلك صحت منهم المطالبة.
واليمين وغير ذلك من الأحكام.
ص: 144
مسألة 180: إذا أوصى بعبده، ومات الموصي قبل أن يهل شوال، ثم قبل الموصي له الوصية، لم يخل من أحد الأمرين: إما أن يقبل قبل أن يهل شوال أو بعده، فإن قبل قبله، كانت الفطرة عليه، لأنه حصل في ملكه بلا خلاف، وإن قبل بعد أن يهل شوال، فلا يلزم أحدا فطرته.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يملك حين قبل، فعلى هذا لا يلزم أحدا فطرته، وفيه وجه آخر أن فطرته في تركة الميت.
والثاني: مراعى، فإن قبل تبينا أنه ملك بالوصاية ولزمته فطرته. وإن رد تبينا أن الورث انتقل إليهم بالوفاة، فعليهم فطرته.
والثالث: قول ابن عبد الحكم: أنه يزول ملكه عنه بالموت إلى الموصى له بذلك، كالميراث. وهذا نقل المزني إلى المختصر (1)، وإنه دخل في ملك الموصى له بغير اختياره، فإن قبل استقر ملكه، وإن رد خرج الآن من ملكه إلى ورثة الميت. لا عن الميت، فعلى هذا يلزم الموصى له فطرته، وأبي أكثر أصحابه هذا القول (2).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وليس في الشرع دليل على شغل واحد منهما، فيجب تركهما على الأصل.
مسألة 181: إذا مات الموصي، ثم مات الموصي له قبل أن يقبل الوصية، قام ورثته مقامه في قبول الوصية، وصار مثل المسألة الأولى سواء. وبه قال الشافعي (3).
ص: 145
وقال أبو حنيفة: تبطل الوصية (1)، وحكي عنه أيضا أنها تتم بموت الموصى له، ودخلت في ملكه بموته ولا يفتقر إلى قبول (2).
وقد بينا في المسألة الأولى من الذي تلزمه فطرته.
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 182: من وهب لغيره عبدا قبل أن يهل شوال فقبله الموهوب له، ولم يقبضه حتى يهل شوال، ثم قبضه، فالفطرة على الموهوب له. وبه قال الشافعي في الأم، وهو قول مالك (3).
وقال أبو إسحاق: الفطرة على الواهب، لأن الهبة تملك بالقبض (4).
دليلنا: إن الهبة منعقدة بالإيجاب والقبول، وليس من شرط انعقادها القبض، وسنبين ذلك في باب الهبة. فإذا ثبت ذلك، ثبت هذه، لأن أحدا لا يفرق بينهما.
وفي أصحابنا من قال القبض شرط في صحة العقد، فعلى هذا لا فطرة عليه ، كما قال أبو إسحاق، وتلزم الفطرة الواهب (5).
مسألة 183: تجب زكاة الفطرة على من ملك نصابا تجب فيه الزكاة، أو قيمة نصاب. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (6).
وقال الشافعي: إذا فضل صاع عن قوته وقوت عياله ومن يمؤنه يوما وليلة
ص: 146
وجب ذلك عليه، وبه قال أبو هريرة، وعطاء، والزهري، ومالك (1)، وذهب إليه كثير من أصحابنا (2).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وقد أجمعنا على أن من ذكرناه تلزمه زكاة الفطرة، ولا دليل على وجوبها على من قالوه.
مسألة 184: إذا كان عادما وقت الوجوب، ثم وجد بعد خروج الوقت، لا يجب عليه، بل هو مستحب. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: يجب عليه (4).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 185: المرأة الموسرة إذا كانت تحت معسر، أو تحت مملوك، أو الأمة تكون تحت مملوك أو معسر، فالفطرة على الزوج بالزوجية. فإذا كان لا يملك لا يلزمه شئ، لأن المعسر لا تجب عليه الفطرة، ولا يلزم الزوجة، ولا مولى الأمة شئ، لأنه لا دليل على ذلك.
وقال الشافعي وأصحابه فيها قولان:
أحدهما: يجب عليها أن تخرجها عن نفسها، وعلى السيد أن يخرجها عن أمته.
ص: 147
والثاني: لا يجب ذلك عليه (1)، كما قلناه.
دليلنا: ما بيناه من أن الفطرة تجب على الزوج، فإذا أعدم سقط عنه فرضها ووجوب ذلك على الزوجة، والسيد، ورجوعها عليها يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 186: إذا أخرج الفقير الفطرة تبرعا، وهو ممن يحل له أخذ الفطرة، فرد عليه فطرته عليه بعينها، كره له أخذها.
وقال الشافعي: لا بأس به (2).
دليلنا: ما روي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: إذا أخرجت شيئا في الصدقة فلا ترده في مالك (3).
مسألة: 187: زكاة الفطرة صاع من أي جنس يجوز إخراجه. وهو المروي عن علي عليه السلام، وعبد اللّه بن الزبير، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعائشة، ومن التابعين النخعي وغيرة وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق (4).
وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن أخرج تمرا أو شعيرا فصاع، وإن أخرج البر فنصف صاع، وعنه في الزبيب روايتان (5).
ص: 148
قال الكرخي: هو إجماع الصحابة، روي ذلك عن أبي بكر، وابن عباس، وجابر وقال الثوري: بقوله في البر (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الذمة تبرأ بيقين بإخراج الصاع، ولا تبرأ بيقين بإخراج نصف صاع.
وأيضا روى عبد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله فرض صدقة الفطرة صاعا من تمرا أو صاعا من شعير أو صاعا من بر على كل حر وعبد، ذكر أو أنثى (2).
روى أبو سعيد الخدري قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب، ولم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية حاجا أو معتمرا وهو يومئذ خليفة فخطب الناس على منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وذكر زكاة الفطرة فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، وكان ذلك أول ما ذكر الناس المدين، قال أبو سعيد، فأما أنا فلا أخرجه إلا ذاك ما عشت أبدا (3).
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه سئل عن صدقة الفطرة؟ قال:
صاع من طعام، فقيل: أو نصف صاع؟ فقال: بئس الاسم الفسوق بعد
ص: 149
الإيمان، يعني قيمة معاوية.
مسألة 188: يجوز إخراج صاع من الأجناس السبعة: التمر، أو الزبيب أو الحنطة، أو الشعير، أو الأرز، أو الأقط، أو اللبن. ويجوز أخرج قيمته بسعر الوقت.
وقال الشافعي: يجوز إخراج صاع مما كان قوتا حال الاختيار كالبر، والشعير، والذرة، والدخن، والثفل يعني ما له ثفل من الحبوب دون ما لا ثفل له من الأدهان (1) وقال: لا يجوز إخراج القيمة (2).
وحكى يونس بن بكر (3) عن أبي حنيفة أنه إن أخرج صاعا اهليلج أجزأه فإن كان هذا منه على سبيل القيمة فهو وفاق منه، وإن كان منه على سبيل أنه أصل فهو خلاف.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فالأجناس التي اعتبرناها لا خلاف أنها تجزي، وما عاداها على جوازها دليل.
فأما جواز إخراج القيمة فقد مضى في باب زكاة الأموال، فلا وجه لإعادته.
مسألة 189: المستحب ما يكون غالبا على قوت البلد.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: الغالب على قوت نفسه، وهو قول أبي عبيد بن بويه (4).
ص: 150
وقال أبو العباس وأبو إسحاق مثل قولنا (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على الرواية المروية عن أبي الحسن العسكري عليه السلام في تصنيف أهل الأمصار، وما يخرجه أهل كل مصر وبلدة، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (2)، وذلك يدل على أن المراعى غالب قوت أهل البلد، لأن اعتبار قوت نفس الإنسان لا طريق إلى تعيينه.
مسألة 190: إذا اعتبرنا حال قوت البلد، فلا فرق أن يخرجه من أعلاه أو من أدونه، فإنه يجزيه.
ومن وافقنا من أصحاب الشافعي في هذه المسألة لهم فيها قولان: أحدهما مثل ما قلناه. والثاني: أنه إن كان الغالب الأدنى، وأخرج الأعلى أجزأه، وإن كان الأعلى فأخرج الأدنى لم يجزه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأخبار المروية في هذا الكتاب تضمنت التخيير، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " صاع من تمر أو صاع من زبيب أو من حنطة أو شعير " (4) ولم يفرق.
وقال أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحاب الشافعي: يجوز إخراج الدقيق (1).
دليلنا: إنه لا خلاف أن ما قلناه جائز، وليس على إجزاء ما ذكروه دليل.
وأيضا الأخبار المروية تضمنت الحب ولم تتضمن الدقيق والسويق (2)، فما خالفها وجب اطراحه.
مسألة 192: زكاة الفطرة واجبة على المسلمين من أهل الحضر والبادية، وبه قال جميع الفقهاء (3).
وقال عطاء، وعمر بن عبد العزيز، وربيعة بن أبي عبد الرحمن: لا فطرة على أهل البادية (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار المروية في هذا الباب عامة لجميع الناس (5). فمن خصصها فعليه الدلالة.
مسألة 193: يجوز لأهل البادية أن يخرجوا أقطا أو لبنا.
وقال الشافعي: يجوز إخراج الأقط، فإن لم يكن فصاعا من لبن. وقال في الأم: لا يؤدوا أقطا، فإن أدوا لا أقول تجب عليهم الإعادة (6).
ص: 152
واختلف أصحابه وقال أبو إسحاق: لا يختلف قوله أنه جائز (1).
وقال غيرة: المسألة على قولين: أحدهما، أنه جائز، والآخر غير جائز (2).
وروى أبو سعيد الخدري فيما قدمناه: (أو صاع من أقط) (3).
مسألة 194: إذا كان عبد بين شريكين، فقد قلنا: عليهما فطرته، فإن أخرج كل واحد منهما جنسا يخالف الجنس الآخر كان جائزا. وبه قال أبو إسحاق المروزي (4).
وقال أبو العباس: يجوز (5).
دليلنا: الأخبار التي رويت في التخيير (6)، أو يكون قوت البلد الغالب حنطة، جاز أن يخرج شعيرا.
ص: 153
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه. والثاني أنه لا يجزيه (1).
دليلنا: الأخبار الواردة في هذا الكتاب ظاهرها يقتضي التخيير، لأنه قال:
(صاعا من تمرا أو صاعا من شعير) (2) فوجب حملها على ظاهرها.
مسألة 196: مصرف زكاة الفطرة مصرف زكاة الأموال إذا كان مستحقه فقيرا مؤمنا.
والأصناف الموجودة في الزكاة خمسة: الفقير، والمسكين، والغارم، وفي سبيل اللّه، وابن السبيل. ويجوز أن يخص فريق منهم بذلك دون فريق، ولا يعطى الواحد أقل من صاع.
وقال الشافعي: مصرف هؤلاء الخمسة، وأقل ما يعطى من كل فريق ثلاثة (3) يقسم كل صاع خمسة عشر سهما لكل إنسان منهم سهم.
وقال مالك يخص به الفقراء والمساكين، وقال به أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي، فإذا أخرجها إلى ثلاثة أجزاء (4).
وقال أبو حنيفة: له أن يضعها في صنف شاة (5)، كما قلناه. وهكذا الخلاف في زكاة المال، وزاد بأن قال: لو خص بها أهل الذمة جاز (6).
ص: 154
دليلنا: قوله تعالى " إنما الصدقات للفقراء والمساكين " الآية والصدقة تتناول زكاة الفطرة وزكاة المال، فأما تخصيص فريق دون فريق فإجماع الطائفة عليه.
مسألة 197: يستحب حمل الزكوات زكاة الأموال الظاهرة والباطنة وزكاة الفطرة إلى الإمام ليفرقها على مستحقيها، فإن فرقها بنفسه جاز.
وقال الشافعي: الباطنة هو بالخيار، والفطرة مثلها، والظاهرة فيهما قولان:
أحدهما يتولاه بنفسه، والآخر: يحملها إلى الإمام (1).
ومنهم من قال الأفضل أن يلي ذلك بنفسه إذا كان الإمام عادلا، فإن كان الإمام جائزا فإنه يليها بنفسه قولا واحدا، وإن حملها إليه سقط عنه فرضها (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، وأيضا قوله (خذ من أموالهم صدقة (4) يدل على ذلك، والإمام قائم مقام النبي صلى اللّه على وآله في ذلك.
مسألة 198: وقت إخراج الفطرة يوم العيد قبل صلاة العيد، فإن أخرجها بعد صلاة العيد كانت صدقة، فإن أخرجها من أول الشهر كان جائزا، ومن أخرج بعد ذلك أثم، ويكون قضاء. وبه قال الشافعي (5).
ص: 155
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يخرج قبله، ولو أخرجها بسنين جاز (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما ذكرناه لا خلاف أنه جائز، وما ادعاه أبو حنيفة ليس عليه دليل.
مسألة 199: الصاع المعتبر في الفطرة في أربعة أمداد، والمد رطلان وربع بالعراقي، يكون تسعة أرطال.
وقال الشافعي: المد رطل وثلث، ويكون خمسة أرطال وثلث، وبه قال مالك وإليه رجع أبو يوسف، وإليه ذهب أحمد بن حنبل (2).
وذهب الثوري وأبو حنيفة ومحمد إلى أن المد رطلان، والصاع ثمانية أرطال (3).
دليلنا: أجاع الفرقة، وطريقة الاحتياط، لأنه إذا أخرج ما قلناه برئت ذمته بيقين بلا خلاف، وليس على براءتها إذا أخرج ما قالوه دليل.
مسألة 200: الزكاة إذا وجبت بحلول الحول، وتمكن من إخراجها، ولم تسقط بوفاته، سواء كانت زكاة الأموال، والحج. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: يسقط ذلك بوفاته، فإن أوصى بها كانت صدقة تطوع
ص: 156
تعتبر من الثلث هكذا زكاة الفطرة والكفارات، والحج (1).
والجزية والعشر عنه روايتان، قال في الأصول ونقله أبو يوسف ومحمد أنه تسقط بالوفاة كالخراج (2).
وروى ابن المبارك أنهما لا يسقطان بالموت (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا أن هذه حقوق واجبة تعلقت بذمته أو بماله، فلا يجوز إسقاطها بالموت إلا بدليل، ولا دليل يدل عليه.
وأيضا قوله تعالى: " خذ من أموالهم صدقة " وهذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه وآله، ومن يقوم مقامه، فإذا كانت الأموال ثابتة وجب أن يؤخذ منها الصدقة.
ص: 157
ص: 158
ص: 159
ص: 160
مسألة 1: قوله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات " (1).
من أصحابنا من قال إنما عني بعشرة أيام من المحرم، وكان الفرض التخيير بين الصوم والإطعام، ثم نسخ بقوله " شهر رمضان الذي - إلى قوله - فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (2) فحتم على الصوم لا غيره (3).
وقال الشافعي: المراد بالآية شهر رمضان، إلا أنه نسخ فرض التخيير إلى التضييق (4).
وقال معاذ: المراد به غير شهر رمضان، وهو ثلاثة أيام في كل شهر كان هذا فرض الناس حين قدم النبي صلى اللّه عليه وآله المدينة، ثم نسخ بشهر رمضان (5).
والذي قاله الشافعي أقرب إلى الصواب، لأن الظاهر الأمر فيها، وليس فيه
ص: 161
أنه كان غير شهر رمضان.
وأما التخيير الذي فيها فهو منسوخ بلا خلاف في شهر رمضان، فينبغي أقل ما في هذا الباب أن يتوقف في المراد بالآية، ويعتقد أنه إذا كان الفرض غير شهر رمضان فهو منسوخ به، وإن كان المراد به شهر رمضان فقد نسخ التخيير فيها بلا خلاف.
مسألة 2: الصوم لا يجزي من غير نية، فرضا كان أو نقلا، شهر رمضان كان أو غيره، سواء كان في الذمة أو متعلقا بزمان بعينه. وبه قال جميع الفقهاء (1) إلا زفر، فإنه قال: إذا تعين عليه رمضان على وجه لا يجوز له الفطر، وهو إذا كان صحيحا مقيما أجزأه من غير نية (2)، فإن لم يتعين عليه بأن يكون مريضا أو مسافرا أو كان الصوم في الذمة كالنذر والقضاء والكفارات، فلا بد فيه من النية، وروى هذا عن مجاهد (3).
دليلنا: قولي تعالى: " وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى " (4) فنفى المجازاة على كل نعمة إلا ما يبتغي به وجهه والابتغاء بها وجهه هو النية.
وأيضا فلا خلاف أنه إذا نوى أن صومه صحيح مجز، وليس على قول من قال إذا لم ينو أنه يجزئ دليل.
وأيضا قوله عليه السلام: " الأعمال بالنيات " (5) ونحن نعلم إنما أراد
ص: 162
به كونها شرعية مجزية دون وقوع جنس الأفعال، لأنه لو أراد ذلك لكان كذبا
مسألة 3: الصوم على ضربين: مفروض ومسنون، والمفروض على ضربين:
ضرب يتعين صومه، كصوم شهر رمضان، والصوم النذر المعين بيوم مخصوص، فما هذا حكمه يجوز فيه تجديد النية إلى قبل الزوال، وبه قال أبو حنيفة (1). ويجزي في صوم شهر رمضان نية واحدة من أول الشهر إلى آخره وبه قال مالك (2).
وما لا يتعين، بل يجب في الذمة، مثل النذر الواجب في الذمة، والكفارات، وقضاء شهر رمضان وما أشبه ذلك فلا بد فيه من تجديد النية لكل يوم، ويجزي ذلك إلى قبل الزوال.
وقال الشافعي: لا بد من أن ينوي لكل يوم من ليله، سواء وجب ذلك شرعا أو نذرا، كصيام شهر رمضان، والنذر، والكفارات، وسواء تعلق بزمان بعينه كصوم رمضان، أو نذر زمان بعينه، أو كان في الذمة كالنذور المطلقة، والقضاء، والكفارات، (3)، وبه قال مالك وأحمد، إلا أن مالكا قال: إذا نوى شهر رمضان في أول ليلة للشهر كله أجزأه (4)، كما قلناه.
ص: 163
وقال أبو حنيفة: إن كان متعلقا بالذمة كقول الشافعي، وإن كان متعلقا بزمان بعينه كصوم شهر رمضان والنذر المعين أجزأه أن ينوي لكل يوم قبل الزوال (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم.
وأيضا قوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (2) ولم يذكر مقارنة النية له.
وروي أن النبي صلى اللّه عليه وآله بعث إلى أهل السواد في يوم عاشوراء وقال " من لم يأكل فليصم، ومن أكل فليمسك بقية نهاره (3) وكان صيام عاشوراء واجبا " (4).
وروي مثل ما قلناه عن علي عليه السلام وابن مسعود (5).
مسألة 4: الصوم المعين على ضربين: أحدهما شهر رمضان، فيجزي فيه نية القربة، ولا تجب فيه نية التعين، فلو نوى صوما آخر نفلا أو قضاء وقع عن شهر رمضان، وإن كان التعيين بيوم مثل النذر يحتاج إلى نية معينة.
وأما الصوم الواجب في الذمة، مثل قضاء رمضان، أو الصوم في النذر غير المعين، أو غيره من أنواع الصوم الواجب، وكذلك صوم النفل، فلا بد في جميع ذلك من نية التعيين ونية القربة، ويكفي أن ينوي أنه يصوم متقربا به إلى اللّه تعالى، وأن أراد الفضل نوى أنه يصوم غدا يوما من شهر رمضان.
ونية التعيين هو أن ينوي الصوم الذي يريده، ويعينه بالنية.
وقال الشافعي: في جميع ذلك لا بد من نية التعيين، وهو أن ينوي أنه يصوم غدا من رمضان فريضة، ومتى أطلق النية ولم يعين أو نوى عن غيره
ص: 164
كالنذر والكفارات والتطوع لم يقع عن رمضان ولا عما نوى، سواء كان في السفر أو في الحضر (1).
وقال أبو حنيفة: إن كان الصوم في الذمة، كما قلناه (2).
وقال الشافعي (3): وإن كان متعلقا بزمان بعينه كالنذر وشبهه وشهر رمضان لم يخل حاله في رمضان من أحد أمرين: إما أن يكون حاضرا أو مسافرا.
فإن كان حاضرا لم يفتقر إلى تعيين النية، فإن نوى مطلقا أو تطوعا أو نذرا أو كفارة، وقع عن رمضان وعن أي شئ نوى، انصرف إلى رمضان، (4).
وإن كان في السفر نظرت، فإن نوى مطلقا وقع عن رمضان، وإن نوى نذرا أو كفارة وقع عما نوى له كما لو نوى نذرا.
أحدهما: عن شهر رمضان كما لو أطلق (5).
وقال أبو يوسف ومحمد: عن أي شئ نوى في رمضان وقع رمضان في سفر كان في أو حضر، وأجروه في السفر على ما أجراه أبو حنيفة في الحضر (6).
دليلنا: قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (7) فأمره بالإمساك،
ص: 165
وهذا قد أمسك فوجب أن يجزيه.
وأيضا تعيين النية يحتاج في الموضع الذي يجوز أن يقع الصوم على وجهين، فأما إذا لم يصح أن يقع إلا شهر رمضان فلا يحتاج إلى تعيين النية، كرد الوديعة.
وأما في حال السفر فعندنا لا يجوز أن يصومه على حال، بل فرضه الإفطار، فإن نوى نافلة، أو نذرا كان عليه، أو كفارة احتاج إلى تعيين النية ويقع عما ينويه، لأن هذا زمان يستحق فيه الإفطار، فجاز أن ينوي فيه صيام يوم يريده، لأنه لا مانع منه.
هذا على قول من أجاز صوم النافلة في السفر على ما نختاره (1)، فأما إذا منعنا منه، فلا يصح هذا الصوم على حال.
مسألة 5: وقت النية من أول الليل إلى طلوع الفجر، أي وقت نوى أجزأه، ويضيق عند طلوع الفجر، هذا مع الذكر. فأما إذا فاتت ناسيا جاز تجديدها إلى عند الزوال.
وأجاز أصحابنا في نية القربة في شهر رمضان خاصة أن تتقدم على الشهر بيوم وأيام (2) فأما نية التعيين فعلى ما بيناه أولا.
وقال الشافعي: وقت الوجوب قبل طلوع الفجر الثاني لا يجوز أن يتأخر عنه، فإذا بقي من الليل قدر نية فقط فقد تضيق عليه، كما إذا بقي من وقت الظهر قدر أربع ركعات تعينت عليه، قال: فإن وافق إنهاء النية مع انتهاء الليل أجزأه، وإن ابتدأ بالنية قبل طلوع فطلع الفجر قبل إكمالها لم يجزه (3).
ص: 166
وأما وقت الجواز ففيها ثلاثة أوجه: ظاهر المذهب أن وقتها ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني، أي وقت أتى بها فيه أجزأه (1)، وبه قال أبو العباس وأبو سعيد وغيرهما (2).
وفيهم من قال: وقتها بعد نصف الليل، فإن نوى قبل النصف لم يجزه (3).
وقال أبو إسحاق: وقت النية أي وقت شاء من الليل، ولكن بعد أن لا يفعل بعدها ما ينافيها، مثل أن ينام بعدها ولا ينتبه حتى يطلع الفجر فإن انتبه قبل طلوع الفجر، أو أكل أو شرب أو جامع، فعليه تجديد النية (4).
وحكي أن أبا سعيد الإصطخري لما بلغته هذه المقال قال: يستتاب من قال هذا، فإن تاب وإلا قتل، لأنه خالف إجماع المسلمين (5).
دليلنا: إجماع الأمة، فإن خلاف أبي إسحاق شاذ لا يلتفت إليه، وعليه إجماع الطائفة لا يختلفون فيه.
وقال مالك: لا يجوز حتى ينوي له ليلا كالفرض سواء، وبه قال المزني (1).
وروى ذلك عن جابر بن زيد (2) في التابعين، وفي الصحابة عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وأبي طلحة، وأبي الدرداء، وأبي أيوب الأنصاري (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون فيما قلناه إلا الخلاف الشاذ الذي لا يستند إلى رواية.
وروى عكرمة قال: قالت عائشة: دخل علي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال: " عندك شئ "؟ قلت لا فقال " إذن أصوم ". ودخل علي يوما آخر فقال: " عندك شئ "؟ قلت: نعم قال: إذن أطعم وإن كنت قد فرضت الصوم " (4).
فوجه الدلالة أنه قال: إذن أصوم يعني أبتدأ الصوم وأستأنفه فإن أذن في كلام العرب لهذا المعنى.
وأيضا روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال " من لم يأكل فليصم، ومن أكل فليمسك بقية النهار " (5).
ص: 168
مسألة 7: إذا نوى بالنهار يكون صائما من أوله لا من وقت تجديد النية. وبه قال أكثر أصحاب الشافعي (1).
وقال أبو إسحاق: يكون صائما من وقت تجديد النية، وما قبلة يكون إمساكا لا صوما يثاب عليه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في أنه يكون صائما صوما شرعيا، والصوم الشرعي لا يكون إلا من أوله.
مسألة 8: علامة شهر رمضان ووجوب صومه أحد شيئين، إما رؤية الهلال أو شهادة شاهدين، فإن غم عد شعبان ثلاثين يوما ويصام بعد ذلك بنية الفرض، فأما العدد والحساب فلا يلتفت إليهما، ولا يعمل بهما، وبه قالت الفقهاء أجمع (3).
وحكوا عن قوم شذاذ أنهم قالوا: يثبت بهذين وبالعدد، فإذا أخبر ثقات من أهل الحساب والعلم والنجوم بدخول الشهر ووجوب قبول قولهم (4).
وذهب قوم من أصحابنا إلى القول بالعدد (5)، وذهب شاذ منهم إلى القوق بالجدول.
دليلنا: الأخبار المتواترة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وعن الأئمة صلوات اللّه عليهم ذكرناها في تهذيب الأحكام (6)، وبينا القول فيما يعارضها من شواذ الأخبار.
ص: 169
وأيضا قوله تعالى: " يسئلونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج " (1) فبين أن الأهلة يعرف بها مواقيت الحج والشهور، ومن ذهب إلى الحساب والجدول لا يراعى الهلال أصلا وذلك خلاف القرآن.
مسألة 9: صوم يوم الشك يستحب بنية شعبان، ويحرم صومه بنية رمضان وصومه من غير نية أصلا لا يجزي عن شئ.
وذهب الشافعي إلى أنه يكره أفراده بصوم التطوع من شعبان، أو صيامه احتياطا لرمضان، ولا يكره إذا كان متصلا بما قبله من صيام الأيام.
وذلك لا يكره أن يصومه إذا وافق عادة له في مثل ذلك، أو يوم نذر أو غيره (2). وحكي أن به قال في الصحابة علي عليه السلام وعمر، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وفي التابعين الشعبي، والنخعي، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي (3).
وقالت عائشة وأختها أسماء: لا يكره بحال (4).
وقال ابن الحسن وابن سيرين: إن صام إمامه صام، وإن لم يصم إمامه لم يصم (5).
وقال ابن عمر: إن كان صحوا كره، وإن كان غيما لم يكره، وبه قال
ص: 170
أحمد بن حنبل (1).
وقال أبو حنيفة: إن صام تطوعا لم يكره، وإن صامه على سبيل التحرز لرمضان حذرا أن يكون منه فهذا مكروه (2).
دليلنا: إجماع الطائفة، والأخبار التي رويناها في الكتاب المقدم ذكره (3).
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان (4).
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " الصوم جنة من النار " (5) ولم يفرق.
مسألة 10: إذا رأى الهلال قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة دون الماضية. وبه قال جميع الفقهاء (6).
ص: 171
وذهب قوم من أصحابنا إلى أنه إن رأي قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رأي بعده فهو لليلة المستقبلة (1). وبه قال أبو يوسف (2).
دليلنا: الأخبار التي رويناها في الكتاب المقدم ذكره، وبينا القول في الرواية الشاذة (3).
وأيضا قول النبي صلى اللّه عليه وآله: " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا " (4) وهذا رآه بالنهار، فينبغي أن يكون صومه وفطره من الغد، لأنه إن صام ذلك عن علي عليه السلام وعمر، وابن عمر، وأنس وقالوا كلهم: لليلة القابلة، ولا مخالف لهم يدل على أنه إجماع الصحابة (5).
والأوزاعي، والليث بن سعد سواء كان صحوا أو غيما (1).
والآخر: إنه يقبل شهادة واحد، وعليه أكثر أصحابه، وبه قال في الصحابة عمر، وابن عمر، وحكوه عن علي عليه السلام، وبه قال الفقهاء أحمد بن حنبل (2).
وقال أبو حنيفة: إن كان يوم غيم قبلت شاهدا واحدا، وإن كان صحوا لم يقبل إلا التواتر فيه الخلق العظيم (3).
دليلنا: إجماع الطائفة، والأخبار التي ذكرناها في الكتابين المقدم ذكرهما (4).
وأيضا فلا خلاف أن شاهدين يقبلان، ولم يقم دليل على وجوب قبول الواحد.
وروى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنا صحبنا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله، وتعلمنا منهم، وأنهم حدثونا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين:
فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وأنسكوا " ذكره الدارقطني (5).
مسألة 12: لا يقبل في هلال شوال إلا شاهدان. وبه قال جميع الفقهاء (6).
ص: 173
وقال وأبو ثور: يثبت بشاهد واحد (1).
دليلنا: الإجماع، فإن أبا ثور لا يعتد به، ومع ذلك فقد انقرض خلافة، وسبقه الإجماع.
وأيضا فإن شهادة الشاهدين يجوز الإفطار بلا خلاف، وليس على قول من أجاز ذلك بواحد دليل.
مسألة 13: من أصبح جنبا في شهر رمضان ناسيا تمم صومه ولا شئ وعليه، وإن أصبح كذلك معتمدا من غير عذر بطل صومه وعليه قضائه وعليه الكفارة.
وقال جميع الفقهاء: تمم صومه ولا شئ عليه ولا قضاء ولا كفارة (2).
وقال أبو هريرة: لا يصح صومه (3)، وبه قال الحسن بن صالح بن حي (4)، وهذا مثل ما قلناه إلا أني لا أعلم هل يوجبان الكفارة أم لا.
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون فيه، وأيضا فإذا قضى وكفر برئت ذمته بلا خلاف وإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته بيقين.
وروي أبو هريرة قال: من أصبح جنبا فلا صوم له، ما أنا قلته قال محمد ورب الكعبة (5).
مسألة 14: إذا شك في طلوع الفجر وجب عليه الامتناع من الأكل، فإن
ص: 174
أكل ثم تبين له أنه كان طالعا كان عليه القضاء، وكذلك إن شك في دخول الليل فأكل ثم تبين أنه ما كان غابت الشمس كان عليه القضاء. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وقال الحسن وعطاء: لا قضاء عليه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى " أتموا الصيام إلى الليل " (3) وهذا لم يصم إلى الليل، فوجب عليه القضاء.
مسألة 15: يجوز له الجماع إذا بقي من طلوع الفجر مقدار ما يغتسل فيه من الجنابة، فإن لم يعلم ذلك وظن أن الوقت باق فجامع، فطلع عليه الفجر نزع وكان عليه القضاء دون الكفارة، فإن لن ينزع وأولج كان عليه القضاء والكفارة. فأما إذا كان عالما بقرب الفجر، فجامع فطلع الفجر عليه، كان عليه القضاء والكفارة.
وقال الشافعي وأصحابه: إذا أولج قبل طلوع الفجر فوافاه الفجر مجامعا فيه مسألتان: أحداهما أن يقع النزع والطلوع معا، والثانية إذا لم ينزع.
فالأولى: إذا وافاه الفجر مجامعا، فوقع النزع والطلوع معا، وهو أنه جعل ينزع وجعل الفجر يطلع لم يفسد صومه، ولا قضاء ولا كفارة. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال زفر والمزني: أفسد صومه، وعليه القضاة بلا كفارة (5).
وأما الثانية: إذا وافاه الفجر مجامعا فتمكث أو تحرك لغير إخراجه، فلا
ص: 175
فصل بين من هذا وبين من وافاه الفجر فابتداء بالإيلاج مع ابتداء الطلوع حتى وقع الإيلاج والطلوع معا.
فإن كان جاهلا بالفجر فعليه بالقضاء بلا كفارة (1).
وليس على قولهم جماع يمنع من صوم بلا كفارة إلا هذا، ولا من أكل مع الجهل أفسد الصوم إلا هذا.
فإن كان علما به أفسد الصوم وعليه الكفارة (2).
وقال أبو حنيفة: عليه القضاء بلا كفارة (3).
وقال أصحاب أبي حنيفة: لأن صومه ما أنعقد، فالجماع لم يفسد صوما منعقدا فلا كفارة (4).
وقال أصحاب الشافعي: المذهب أن الصوم لم ينعقد، وإن الكفارة إنما وجبت بجماع من الانعقاد (5).
دليلنا: إجماع الفرقة على من أصبح جنبا متعمدا، من غير ضرورة لزمه القضاء والكفارة، وفي المسألتين معا قد أصبح جنبا متعمدا، فوجب أن يلزم القضاء والكفارة.
فأما إذا لم يعلم، فليس عليه شئ، لأنه لو فعل ذلك نهارا لم يلزمه شئ بلا خلاف بين الطائفة.
مسألة 16: إذا خرج من بين أسنانه ما يمكنه التحرز منه، ويمكنه أن يرميه فابتلعه عامدا كان عليه القضاء. وبه قال الشافعي (6).
ص: 176
وقال أبو حنيفة: لا شئ عليه ولا قضاء (1).
دليلنا: إنه ابتلع ما يفطر، فوجب أن يفطره، لأنه لو تناول ابتداء ذلك المقدار لأفطره بلا خلاف.
وأيضا فإنه ممنوع من الأكل وهذا أكل.
مسألة 17: غبار الدقيق، والنفض الغليظ حتى يصل إلى الحلق يفطر، ويجب منه القضاء، والكفارة متى تعتمد.
ولم يوافق عليه أحد من الفقهاء، بل أسقطوا كلهم القضاء والكفارة معا (2).
دليلنا: الأخبار التي بيناها في الكتاب الكبير (3) وطريقة الاحتياط، لأن مع ما قلناه تبرأ الذمة بيقين، وفي الإخلال به خلاف مسألة 18: إذا بلغ الريق قبل أن ينفصل من فيه لا يفطر بلا خلاف، وكذلك إن جمعه في فيه ثم بلعه لا يفطر. فإن انفصل من فيه، ثم عاد إليه أفطر.
ووافقنا الشافعي في الأول والأخيرة (4)، وأما الثانية وهي الذي يجمع في فيه ثم يبلعه له فيها وجهان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر يفطر (5)، وكذلك القول في النخامة (6).
دليلنا: إن الصوم إذا كان صحيحا وجب أن لا يحكم بفساده إلا بدليل،
ص: 177
وليس في الشرع ما يدل أن ما ذكره يفطر.
مسألة 19: إذا تقيأ متعمدا وجب عليه القضاء بلا كفارة، فإن ذرعه القئ فلا قضاء عليه أيضا، وهو المروي عن علي عليه السلام، وعبد اللّه بن عمر، وبه قال أبو حنيفة: والشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق (1).
وقال ابن مسعود وابن عباس: لا يفطره على حال وإن تعمد (2).
وقال عطاء وأبو ثور: إن تعمد القئ أفطر وعليه القضاء والكفارة، وإن ذرعه لم يفطر وأجرياه مجرى الأكل عامدا (3).
دليلنا: إجماع الطائفة والأخبار التي رويناها في الكتاب الكبير (4) وطريقة الاحتياط تقتضيه أيضا، فإنه إذا قضى برئت ذمته بيقين، فأما إيجاب الكفارة فلا دليل عليه والأصل براءة الذمة.
وروى أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: " من ذرعه قئ وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقيأ فليقض " (5).
مسألة 20: إذا أصبح يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان، ويعتقد أنه من شعبان بنية الإفطار، ثم بان أنه من شهر رمضان لقيام بينة عليه قبل
ص: 178
الزوال، جدد النية وصام، وقد أجزأه. وإن بعد الزوال أمسك بقية النهار وكان عليه القضاء، وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: يمسك وعليه القضاء على كل حال (2).
قال الأكثر: أن يجب عليه الإمساك ولا يكون صائما (3).
وقال أبو إسحاق: يكون صائما من الوقت الذي أمسك صوما شرعيا (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5).
مسألة 21: إذ نوى أن يصوم غدا من شهر رمضان فرضة أو نفلة، فقال:
إنه كان من رمضان فهو فرض، وإن لم يكن من رمضان فهو نافلة أجزأه ولا يلزمه القضاء.
قال الشافعي: لا يجزيه وعليه القضاء (6).
دليلنا: ما قدمناه من أن شهر رمضان يجزي فيه نية القربة، ونية التعيين ليست شرطا في صحة الصوم (7)، وهذا قد نوى القربة وإنما لم يقطع على نية التعيين فكان صومه صحيحا.
مسألة 22: إذا كان ليلة ثلاثين، فنوى إن كان غدا من رمضان فهو صائما فرضا أو نفلا، أو نوى إن كان من رمضان فهو فرض وإن لم يكن فهو نفل أجزأه.
ص: 179
وقال الشافعي في الموضعين: إنه لا يجزي (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 23: إذا عقد النية ليلة الشك على أن يصوم من رمضان من غير أمارة من رؤية أو خبر من ظاهره العدالة، فوافق شهر رمضان أجزأه، وقد روي أنه لا يجزيه (2).
وإن صامه بأمارة من قول من ظاهره العدالة من الرجال أو المراهقين دون المنجمين فإنه يجزيه أيضا.
وقال أصحاب الشافعي في الأول: أنه لا يجزيه (3)، وفي المسألة الثانية قال أبو العباس بن سريح: إن صام بقول بعض المنجمين وأهل الحساب أجزأه (4).
دليلنا: ما قدمناه من إجماع الفرقة وأخبارهم على أن من صام يوم الشك أجزأه عن شهر رمضان، ولم يفرقوا.
ومن قال من أصحابنا: لا يجزيه، تعلق بقوله: " أمرنا بأن نصوم يوم الشك بنية أنه من شعبان، ونهينا أن نصومه من رمضان " وهذا يدل على فساد المنهي عنه.
مسألة 24: إذا كان شاكا في الفجر فأكل وبقي على شكه لا يلزمه
ص: 180
القضاء. وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: يلزمه القضاء (2).
دليلنا: قوله تعالى: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " (3) وهذا لم يتبين بعد.
مسألة 25: من جامع في نهار رمضان متعمدا من غير عذر وجب عليه القضاء والكفارة. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأصحاب أبي حنيفة (4).
قال الليث بن سعد والنخعي: لا كفارة عليه (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار الواردة التي ذكرناها (6).
وأيضا إذا فعل برئت ذمته بيقين، وإذا لم يفعل ففي برائتها خلاف.
وروى أبو هريرة قال: أتى رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال:
يا رسول اللّه هلكت فقال: ما شأنك؟ فقال: وقعت على امرأتي في شهر رمضان، فقال: تجد ما تعتق به؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال:
لا، قال: اجلس فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله بعذق فيه تمر، فقال: تصدق به، فقال: يا رسول اللّه ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، قال: فضحك النبي
ص: 181
صلى اللّه عليه وآله حتى بدا ثناياه فأطعمه إياهم (1).
مسألة 26: يجب بالجماع كفارتان: إحداهما على الرجل والثانية على المرأة إن كانت مطاوعة له، فإن استكرهها كان عليه كفارتان.
وقال الشافعي في القديم والأم: كفارة واحدة، وعليه أصحابه وبه يفتون (2). وهل عليه أم عليها ويتحملها الزوج، على وجهين: وقال في الإملاء: كفارتان على كل واحد منهما كفارة كاملة من غير تحمل (3)، وبه قال مالك وأبو حنيفة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في ذلك.
وأيضا الأخبار المروية في هذا الباب ذكرناها في الكتاب المقدم ذكره (5).
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله (6) أنه قال: " من أفطر في رمضان فعليه مثل ما على المظاهر " (7) وهذا نص وهذه قد أفطرت.
ص: 182
مسألة 27: إذا وطأها نائمة أو أكرهها قهرا على الجماع لم تفطر هي، وعليه كفارتان.
وللشافعي فيه قولان حسب قوله لزوم كفارة واحدة أو كفارتين (1).
وإن كان إكراه تمكين مثل أن يضربها فتمكنه فقد أفطرت غير أنه لا يلزمها الكفارة وكان عليه ذلك (2) وله في إفطارها وجهان ولا يختلف قوله في أنه ليس عليها كفارة (3).
دليلنا: على الأول إجماع الفرقة على أنه إذا أكرهها فعليه كفارتان لا يختلفون فيه، فأما إذا لم يكن أكرهها ملجأ فإنها تكون مفطرة ولزمها القضاء.
وأما الكفارة فلعموم قولهم: لا كفارة على المكرهة (4)، ولم يفصلوا بين إكراه وإكراه، والأصل براءة الذمة.
وقال الشافعي: عليه كفارة وعليها كفارة، ولا يتحملها بالزوجية، لأنها مفقودة ها هنا (1)، فإيجاب واحدة عليه ليس فيها خلاف.
وإذا نصرنا الثلاث كفارات، فالمرجع فيه إلى الخبر الذي ذكرناه، وقد أوردناه في الكتاب المقدم ذكره.
مسألة 29: الكفارة لا تسقط قضاء الصوم الذي أفسده بالجماع، سواء كفر بالعتق أو بالصوم.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يسقط منه القضاء (2)، والآخر: لا يسقط (3)، وعليه أكثر أصحابه سواء كفر بعتق أو صيام (4).
وقال الأوزاعي: إن كفر بصيام فلا قضاء، لأن الصوم يدخل في الصوم (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار التي رويناها عنهم عليهم السلام (6)، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه.
مسألة 30: إذا عجز عن الكفارة بكل حال يسقط عنه فرضها، واستغفر اللّه، ولا شئ عليه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (7).
ص: 184
والثاني: لا يسقط عنه فرضها، ويكون في ذمته أبدا إلى أن يخرج، وهو الذي اختاره أصحابه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة: وأيضا قوله تعالى: " لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها " (2) وقال: " لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتيها " (3) وهذا عاجز، وليس في وسعه الكفارة، ولا أوتي ذلك.
مسألة 31: إذا أكل وشرب ناسيا لم يفطر، وكذلك الجماع. وبه قال الشافعي وأصحابه، وهو المروي عن علي عليه السلام، وابن عمر، وأبي هريرة، وبه قال الفقهاء الأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه غير أن أبا حنيفة قال: القياس أنه يفطر، غير أني لم أفطره استحسانا (4). فعنده أن العمد والسهو فيما يفسد العبادات سواء إلا الصوم فإنه مخصوص بالخبر، فلهذا لم يفطره استحسانا (5).
وقال ربيعة ومالك: أفطره وعليه القضاء، ولا كفارة (6).
وقال مالك: هذا في صوم الفرض، فأما التطوع فلا يفطر الناسي (7).
ص: 185
وقال أحمد: إن أكل ناسيا مثل ما قلناه، وإن جامع ناسيا فعليه القضاء والكفارة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، وليس على إيجاب القضاء والكفارة على الناسي دليل.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2).
وروى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من صام ثم نسي فأكل وشرب فليتم صومه ولا قضاء عليه، اللّه أطعمه وسقاه " (3).
مسألة 32: كفارة من أفطر في شهر رمضان لأصحابنا فيه روايتان:
إحداهما: أنها على الترتيب، مثل كفارة الظهار. العتق أولا ثم الصوم ثم الإطعام (4). وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، والأوزاعي، والليث
ص: 186
ابن سعد (1).
والأخرى: إنه مخير فيها (2)، وبه قال مالك (3).
وقد ذكرنا الروايتين معا في الكتابين المقدم ذكرهما (4)، فإن رجحنا الترتيب فبطريقة الاحتياط، وإن رجحنا التخيير فلأن الأصل براءة الذمة وبما رواه أبو هريرة: إن رجلا أفطر في شهر رمضان، فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا (5)، وخبر الأعرابي (6) يقوي الترتيب.
دليلنا: الظواهر التي وردت في وجوب عتق رقبة (1)، ولم يقيدوها بمؤمنة، فعلى من قيدها بالإيمان الدليل، لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 34: يستحب أن تكون الرقبة سليمة من الآفات، وليس ذلك بواجب. وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال الشافعي: لا تجزي إلا سليمة (3).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
سواء كفر بالتمر، أو بالبر، أو غير ذلك.
وقال أبو حنيفة: إن كفر بالتمر والشعير فعليه لكل مسكين صاع، وإن كان من البر نصف صاع (1) وعنه في الزبيب روايتان (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه لا زيادة على مدين ولأن الأصل براءة الذمة ووجوب المدين أو المد قد بينا الوجه فيه فيما أومأنا إليه.
مسألة 37: إذا عملنا بالرواية التي ضمنت الترتيب (3) فتلبس بالصوم ثم وجد الرقبة لا يجب عليه الانتقال إليها، فإن فعل كان أفضل. وبه قال الشافعي (4)، وكذلك في سائر الكفارات المرتبة.
وقال أبو حنيفة فيها كلها بوجوب الانتقال إلا في المتمتع إذا تلبس بصوم السبعة أيام فإنه قال: لا يرجع إلى الهدي (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإنه إذا تلبس بالصوم تلبس بما هو فرضه، فمن أوجب عليه الانتقال إلى فرض آخر فعليه الدلالة.
مسألة 38: إذا أفسد الصوم بالوطء ثم وطأ بعد ذلك مرة أو مرات لا يتكرر عليه الكفارة، ولا أعرف فيه خلافا بين الفقهاء، بل نصوا على ما قلناه (6). وربما قال المرتضى من أصحابنا أنه يجب عليه بكل مرة
ص: 189
كفارة (1).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، والكفارة الأولى مجمع عليها، وما زاد عليها ليس عليه دليل.
مسألة 39: إذا أكل ناسيا، فاعتقد أنه أفطر، فجامع وجب عليه الكفارة.
وقال الشافعي في الأم: لا كفارة عليه (2).
دليلنا: إنه وطء في صوم صحيح في شهر رمضان يجب أن تلزمه الكفارة لدخوله تحت عموم الأخبار الواردة في هذا المعنى (3).
والكفارة، والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من عمل عمل قوم لوط فاقتلوه " (1).
وروي عن أبي بكر أنه يرمى به من شاهق (2).
وعن علي عليه السلام أنه يرمى عليه حائط (3) ولا مخالف لهما في الصحابة.
مسألة 42: إذا أتى بهيمة فأمنى كان عليه القضاء والكفارة. فإن أولج ولم ينزل فليس لأصحابنا فيه نص، ولكن يقتضي المذهب أن عليه القضاء، لأنه لا خلاف فيه. وأما الكفارة فلا تلزمه، لأن الأصل براءة الذمة، وليس في وجوبها دلالة، فأما الحد فلا يجب عليه ويجب عليه التعزير.
وقال أبو حنيفة: لا حد ولا غسل ولا كفارة، وكذلك إذا وطأ الطفلة الصغيرة (4).
وقال الشافعي وأصحابه: فيها قولان:
أحدهما: يجب عليه الحد إن كان محصنا الرجم، وإن كان غير محصن فالحد.
والآخر: عليه القتل على كل حال مثل اللواط (5).
ومنهم من الحق به ثالثا، وهو أنه لا حد عليه، وعليه التعزير مثل ما قلناه.
ص: 191
وإذا أوجبوا الحد ألزموه الكفارة (1) وإذا قالوا بالتعزير ففي الكفارة وجهان. أحدهما: لا كفارة، والثاني: عليه الكفارة (2).
دليلنا على أنه إذا أمنى إن عليه الكفارة: ما روي عنهم عليهم السلام أن من استمنى حكمه حكم المجامع من وجوب القضاء والكفارة (3).
فأما إذا لم ينزل فلا دلالة على وجوب الغسل ولا الكفارة، فيجب نفيها لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 43: إذا وطأ في يوم من شهر رمضان فوجبت الكفارة، فإن وطأ في اليوم الثاني فعليه كفارة أخرى سواء كفر عن الأول أو لم يكفر، فإن وطأ ثلاثين يوما لزمته ثلاثون كفارة. وبه قال مالك، والشافعي، وجميع الفقهاء (4) إلا أبا حنيفة فإنه قال: إن لم يكفر عن الأول فلا كفارة في الثاني، وإن كفر عن الأول ففي الثاني روايتان: رواية الأصول أن عليه الكفارة، وروي عنه زفر أنه لا كفارة عليه (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله فيمن جامع يوما من رمضان يتناول عمومه (6) ذلك لأنه لم يفصل، فعلى من خصه الدلالة.
ص: 192
مسألة 44: إذا أكل أو شرب أو ابتلع ما يسمى به أكلا لزمه القضاء والكفارة، مثل ما يلزم الواطئ، سواء كان ذلك في صوم رمضان أو في صوم النذر.
وقال الشافعي: لا تجب هذه الكفارة إلا بالوطء في الفرج إذا كان الصوم تاما، وهو أن يكون أداء صوم شهر رمضان في الحضر، فإن وطأ في غير الفرج أو في غيره من الصيام من نذر أو كفارة أو قضاء فلا كفارة، وعلى هذا جل أصحابه (1).
وقال أبو علي بن أبي هريرة: تجب الكفارة الصغرى، وهي مد من الطعام بالأكل والشرب وما يجري مجراهما (2)، وبه قال سعيد بن جبير، وابن سيرين، وحماد بن أبي سليمان (3).
وقال مالك: من أفطر بمعصية فعليه الكفارة بأي شئ أفطر من جماع أو غيره، حتى أنه لو كرر النظر فأمنى فعليه الكفارة (4).
وقال قوم: إن أفطر بأكل فعليه الكفارة، ذهب إليه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو إسحاق (5).
وقال أبو حنيفة، يكفر بأعلى ما يقع به الفطر من جنسه، فأعلى جنس الجماع الوطء في الفرج، وبه تجب الكفارة، وأعلى الكفارة جنس المأكولات ما يقصد
ص: 193
به صلاح البدن من طعام أو دواء، فأما ما لا يقصد به صلاح البدن مثل أن يبتلع جوهرة أو جوزة أو لوزة يابسة فلا كفارة عليه، بلى إن ابتلع لوزة رطبة فعليه الكفارة لأنه يقصد به صلاح البدن (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وأيضا روى أبو هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي صلى اللّه عليه وآله أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا (2) ولم يفرق.
وروى سعيد بن المسيب أن رجلا قال: يا رسول اللّه أفطرت في شهر رمضان، فقال له: " أعتق رقبة " (3) ولم يسأله عن التفصيل، ثبت أن الحكم لا يختلف.
مسألة 45: من أفطر يوما من شهر رمضان على وجه يلزمه الكفارة المجمع عليها أو الكفارة على خلاف، فإنه يقضي يوما آخر بدله لا بد منه.
وبه قال جميع الفقهاء أبو حنيفة والشافعي ومالك وغيرهم (4).
وقال ربيعة: يقضي اثنا عشر يوما قال: لأن اللّه تعالى رضي من عباده شهرا من اثني عشر شهرا، وجب أن يكون كل يوم اثني عشر يوما (5).
ص: 194
وقال سعيد بن المسيب: يقضي عن كل يوم شهرا (1)، وروي ذلك عن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وآله (2).
وقال النخعي: يقضي عن كل يوم ثلاثة آلاف يوم (3).
ورووا عن علي عليه السلام وابن مسعود: لا قضاء عليه لعظم الجرم (4).
ولا ينفع القضاء عنه بصوم الدهر، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من أفطر يوما من شهر رمضان لغير رخصة لم يقض عنه صوم الدهر " (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، فمن علق عليها أكثر مما قلناه فعليه الدلالة.
مسألة 46: من أكره على الإفطار لم يفطر، ولم يلزمه شئ، سواء كان إكراه قهر، أو إكراه على أن يفعل باختياره.
وقال الشافعي: إن أكره إكراه قهر مثل أن يصب الماء في حلقه لم يفطر، وإن أكره حتى أكل بنفسه فعلى قولين (6).
وكذلك إن أكره حتى يتقيأ بنفسه فعلى قولين، لأنه إن ذرعه القئ لم يلزمه شئ، وإن تقيأ متعمدا أفطر (7).
ص: 195
وكذلك إن أكرهها على الجماع بالقهر لم تفطر هي، وإن كان إكراه تمكين فعلى قولين (1).
وكذلك اليمين إذا حلف: لا دخلت هذا الدار، فأدخل الدار محمولا لم يحنث، وإن أكره على أن يدخل فعلى قولين (2).
ولو قتل باختياره لزمه القود، وإن أكره فإن كان إكراه قهر وهو أن يرمي به عليه فلا ضمان عليه، وإن أكره حتى يقبل فعلى قولين في القود (3) فأما الدية فإنها بينهما إذا سقط القود (4).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ولا يعلق عليها شئ إلا بدليل، ولا دليل في شئ من هذه المسائل على ما ادعوه.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " رفع عن أمتي ثلاث:
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (5).
مسألة 47: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وتصدقتا عن كل يوم بمدين، أو مد من طعام، وعليهما القضاء، وإليه ذهب الشافعي في القديم والجديد، وبه قال مجاهد وأحمد (6).
وقال في البويطي: على المرضع القضاء والكفارة، وعلى الحامل القضاء
ص: 196
دون الكفارة، وبه قال مالك والأوزاعي (1).
وقال الزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: عليهما القضاء ولا كفارة، وإليه ذهب المزني (2).
وقال ابن عباس وابن عمر: عليهما الكفارة دون الكفارة كالشيخ الهم يكفر ولا يقتضي (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
وأيضا قوله تعالى: " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " (4) هذه مطيقة.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 49: إذا وطأ فيما دون الفرج، أو باشرها، أو قبلها بشهوة فأنزل، كان عليه القضاء والكفارة. وبه قال مالك (1).
وقال الشافعي: لا كفارة عليه، ويلزمه القضاء (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط تقتضيه أيضا.
مسألة 50: إذا كرر النظر فأنزل أثم ولا قضاء عليه ولا كفارة، فإن فاجأته النظرة لم يأثم. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: إن كرر أفطر وعليه القضاء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا لا دليل على أنه بتكرار النظر يصير مفطرا والأصل براءة الذمة.
مسألة 51: إذا نوى الصوم من الليل فأصبح مغمى عليه يوما أو يومين أو ما زاد عليه كان صومه صحيحا، وكذلك إن بقي نائما يوما أو أياما، وكذلك إن أصبح صائما ثم جن في بعضه ح أو مجنونا فأفاق في بعضه ونوى فلا قضاء عليه.
وقال الشافعي: إذا نوى الصيام من الليل ثم أصبح مغمى عليه واتصل الإغماء يومين أو أكثر فلا صيام له بعد اليوم الأول لأنه ما نوى من ليلته وخرج النهار من غير نية، وأما اليوم الأول فإن لم يفق في شئ منه فلا صيام له (5).
ص: 198
وقال أبو حنيفة والمزني: يصح صيامه (1).
وإن أفاق في شئ منه، فنقل المزني: إذا أفاق في شئ منه صح صومه (2).
وقال في البويطي والظهار: إن كان مقيما عند طلوع الفجر صح صومه (3).
وقال في اختلاف العراقيين: إذا أصاب الرجل امرأته في شهر رمضان ثم مرض في آخر يومه فذهب عقله أو حاضت امرأته فقد قيل: على الرجل عتق رقبة، وقيل: لا شئ عليه (4).
وقال أصحابه في المسألة ثلاث أقوال:
أحدها: أنه يصح صومه إذا أفاق في شئ من صومه، وهو المختار عندهم (5).
والآخر: أن يكون مفيقا عند الدخول في الصوم، وإلا لم يصح (6).
والثالث: متى أغمي عليه في شئ منه بطل، وهو أقيسها (7).
ومنهم من قال المسألة على قول واحد، وهو أن الاعتبار بأن يكون مفيقا حين الدخول، ولا يضر ما وراء ذلك (8).
ص: 199
ومنهم من قال: من شرطه أن يكون مفيقا في طريفي النهار، حكي ذلك عن أبي العباس، وحكي عنه غير هذا (1).
فخرج في الإغماء خمسة مذاهب: أحدهما: من شرطه أن يكون مفيقا من أول النهار.
والثاني: متى أفاق في شئ منه أجزأه.
والثالث: متى أغمي عليه في شئ منه بطل صومه.
والرابع: يفترق إلى الإفاقة في الطرفين.
والخامس: يصح صيامه وإن لم يفق في شئ منه.
أما النوم فإنه نوى ليلا، وأصبح نائما، وانتبه بعد الغروب صح صومه قولا واحدا (2).
وقال أبو سعيد الإصطخري وغيره لا يصح صومه (3) وأما إن جن بعض النهار، وأصبح مجنونا وأفاق، أو أصبح مفيقا ثم جن قال في القديم: لا يبطل صومه (4) ومن أصحابه من قال: يبطل صومه (5).
وقال المزني إذا نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار أجزأه كما يجزيه إذا نام في جميع النهار (6).
دليلنا: إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون فيه، ولأن إبطال الصوم بما قالوه يحتاج إلى دليل.
وأيضا فقد بينا أنه ليس من شرط الصوم مقارنة النية له، ويجوز تقديمها
ص: 200
لأنه لا يحتاج إلى نية التعيين، وإذا ثبت ذلك صح ما قلناه.
مسألة 52: إذا نوى ليلا وأصبح مغمى عليه حتى ذهب اليوم، صح صومه. ولا فرق بين الجنون والإغماء وبه قال أبو حنيفة، والمزني (1).
وقال الشافعي، وباقي أصحابه: لا يصح صومه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا إبطال الصوم يحتاج إلى دليل.
مسألة 53: كل سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار، وقد بينا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل مسافرا لا يجوز له فيه أن يصوم، فإن صامه كان عليه القضاء وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة (3).
وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم أو يقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء، وخالف في جواز الصوم (4).
وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي وبين أن يفطر ويقضي، وبه قال أبو عباس (5).
وقال ابن عمر: يكره أن يصوم، فإن صامه فلا قضاء عليه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: " ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " (7) فأوجب القضاء بنفس السفر، وليس في الظاهر ذكر الإفطار.
ص: 201
وروي عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " ليس من البر الصيام في السفر " (1) " والصائم في السفر كالمفطر في الحضر " (2).
وروي عن جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله بلغه أن أناسا صاموا فقال:
" أولئك العصاة " (3).
مسألة 54: القادم من سفر وكان قد أفطر، والمريض إذا برأ، والحائض إذا طهرت، والنفساء إذا انقطع دمها، يمسكون بقية النهار تأديبا، وكان عليهم القضاء.
وقال أبو حنيفة: عليهم أن يمسكوا بقية النهار على كل حال (4).
وقال الشافعي وأصحابه: ليس عليهم الإمساك، وإن أمسكوا كان أحب إلي (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، ولأن هذا اليوم واجب صومه، وإنما أبيح الإفطار لعذر، وقد زال العذر، فبقي حكم الأصل.
مسألة 55: إذا نذر صيام يوم بعينه وجب عليه صومه، ولا يجوز عليه تقديمه، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يقدمه، وهكذا الخلاف في الصلاة (6).
دليلنا: إجماع الفرقة ودليل الاحتياط، ولأن جواز تقديمه يحتاج إلى شرع،
ص: 202
وليس شرع يدل عليه.
مسألة 56: إذا أصبح يوم الشك مفطرا، ثم ظهر أنه كان من رمضان، وجب عليه إمساك باقيه. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي في البويطي: لا يلزمه إمساك باقيه (2)، وقال في القديم والجديد: يلزمه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى " صوموا لرؤيته " وهذا قد صحت عنده الرؤية.
مسألة 57: الصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والمريض إذا برأ وقد أفطروا أول النهار أمسكوا بقية النهار تأديبا، ولا يجب ذلك بحال، فإن كان الصبي نوى الصوم من أوله وجب عليه الإمساك، وأن كان المريض نوى ذلك لا يصح، لأن صوم المريض لا يصح عندنا.
وأما المسافر فإن نوى الصوم لعلمه بدخوله إلى بلده، وجب عليه الإمساك بقية النهار ويعتد به.
وللشافعي وأصحابه في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا يجب أن يمسك وعليه أصحابه (4).
والآخر: عليه أن يمسك (5).
وقال أبو إسحاق: إن كان الصبي والمسافر تلبسا بالصوم، وجب عليهما الإمساك بقية النهار.
ص: 203
وقال الباقون: لا يجب ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، ولا يوجب عليها إلا بدليل.
مسألة 58: إذا نوى الصوم قبل الفجر ثم سافر في النهار، لم يجز له الإفطار.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي (1). وقال أحمد والمزني: له الإفطار (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبار قد أوردناها في الكتاب الكبير (3).
وأيضا قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (4) وحقيقة الإتمام، إكمال ما تلبس به.
مسألة 59: إذا رأى هلال شهر رمضان وحده لزمه صومه، قبل الحاكم شهادته أو لم يقبل، وكذلك إذا رأى هلال شوال أفطر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي (5). وقال مالك وأحمد: يلزمه الصيام في أول الشهر، ولا يملك الفطر في آخره (6). وقال الحسن البصري وعطاء وشريك: إن صام الإمام صام معه، وإن فطر أفطر (7).
ص: 204
دليلنا: قوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (1) وهذا فقد شهد وجب عليه صومه.
وقال عليه السلام: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " (2) وهذا قد رأى.
مسألة 60: إذا وطأ في هذا اليوم الذي رأى الهلال وحده كان عليه القضاء والكفارة.
وبه قال الشافعي ومالك (3).
وقال أبو حنيفة: عليه القضاء بلا كفارة (4).
دليلنا: الأخبار المتضمنة لوجوب الكفارة على من وطأ في نهار رمضان (5)، وهذا منهم.
وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه، لأن مع ذلك تبرأ ذمته بيقين.
وقال أبو ثور: شاهد واحد يثبت به كل ذلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قبول شاهدين في ذلك مجمع عليه، وثبوته بشاهد واحد لا دليل عليه.
مسألة 62: إذا قامت البينة بعد الزوال برؤية الهلال في الليلة الماضية في شوال أفطر على كل حال أي وقت كان بلا خلاف، فأما صلاة العيد فلا يجب قضاؤها. وبه قال أبو حنيفة، والمزني، وأحد قولي الشافعي (2). القول الآخر:
أنها تقضي (3).
وقد مضت في كتاب صلاة العدين (4)، وقلنا: إن القضاء فرض ثان يحتاج إلى دليل إذا قلنا إن صلاة العيدين فرض، وكذلك قضاء النوافل على مذهبهم يحتاج إلى دليل.
ولأنا روينا عنم أنهم قالوا: " صلاة العيد لا تقضى " (5) وهذا قد فاتته، فلا يلزم القضاء بموجب الأخبار.
مسألة 63: من فاته صوم رمضان لعذر من مرض أو غيره فعليه قضاؤه.
ووقت القضاء ما بين رمضانين، الذي تركه والذي بعده، فإن أخر القضاء إلى أن يدركه رمضان آخر صام الذي أدركه وقضى الذي فاته، فإن كان
ص: 206
تأخيره لعذر سفر أو مرض استدام به فلا كفارة عليه، وإن تركه مع القدرة كفر عن كل يوم بمد من طعام. وبه قال في التابعين الزهري، وهو قول مالك، والشافعي، والأوازعي، والثوري (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقضي ولا كفارة (2).
وقال الكرخي: وقت القضاء ما بين رمضانين، وقال أصحابه ليس للقضاء وقت مخصوص (3).
دليلنا إجماع الفرقة، والاحتياط يقتضيه، لأنه إذا كفر برئت ذمته بيقين، وإذا لم يكفر وقضى لم تبرأ ذمته بيقين.
وأيضا قوله تعالى: " ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " (4) وهو القضاء، فالظاهر أن الفدية على من أطاق القضاء وإن (5) كان الخطاب راجعا إلى القضاء والأداء معا، فالظاهر أنه منهما إلا أن يقوم دليل على تركه، وبهذا قال ستة من الصحابة، منهم: ابن عمر، وابن عباس وأبو هريرة (6)، ولا مخالف لهم.
مسألة 64: إذا أفطر رمضان ولم يقضه، ثم مات، فإن كان تأخيره لعذر
ص: 207
مثل استمرار المرض أو سفر لم تجب القضاء عنه ولا الكفارة. وبه قال الشافعي (1) وقال قتادة: يطعم عنه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن إيجاب ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 65: فإن أخر قضاءه لغير عذر ولم يصم ثم مات، فإنه يصام عنه.
وقال الشافعي في القديم والجديد معا: يطعم عنه ولا يصام عنه (3)، وبه قال مالك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه (4).
وقال أحمد وإسحاق: إن كان صومه نذرا فإنه يصوم عنه وليه، وإن لم يكن نذرا أطعم عنه وليه (5).
وقال أبو ثور يصوم عنه نذرا كان أو غيره (6).
وقال أصحاب الشافعي هذا قول ثان للشافعي، وهو أنه يصام عنه (7).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار التي وردت رويناها في الكتاب المقدم ذكره (8).
ص: 208
وروى عروة عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " (1).
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال:
نعم. قال: فدين اللّه أحق أن يقضى " (2) وهذا الحديث في الصحيح وهو نص.
مسألة 66: إذا أخر قضاء لغير عذر حتى يلحقه رمضان آخر ثم مات، قضى عنه وليه الصوم وأطعم عنه كل يوم مدين.
وقال الشافعي: إن مات قبل أن يدركه آخر تصدق عنه بمد، وإن مات بعد رمضان آخر بمدين (3).
وقال أبو حنيفة: يطعم مدين من بر أو صاعا من شعير أو تمر (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن ما ذكرناه مجمع عليه، وما ادعوه ليس عليه دليل.
مسألة 67: حكم ما زاد على عام واحد في تأخير القضاء حكم العام الواحد. وبه قال أكثر أصحاب الشافعي (5).
ص: 209
وقال بعضهم: عليه عن كل عام كفارة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 68: يجوز أن يقضي فواءت رمضان متفرقا، والتتابع أفضل، وبه قال الشافعي (2). وبه قال أبو عبيدة بن الجراح (3)، ومعاذ بن جبل، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وفي الفقهاء مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (4).
وقال قوم: إن المتابعة واجبة (5). روي ذلك عن علي عليه السلام، وعبد اللّه بن عمر، وعائشة، والنخعي (6)، وبه قال أبو داود وأهل الظاهر (7).
دليلنا: إجماع الفرقة.
فأما فضل التتابع فقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله
ص: 210
قال: " من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه " (1).
وأما جواز الفرقة رواه ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال في قضاء رمضان: " إن شاء تابع وإن شاء فرق " (2).
مسألة 69: لا ينعقد صيام يوم العيدين، فإن نذره لم يصح، ولم ينعقد نذره، ولا يلزمه قضاء. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: ينعقد النذر، فإن صامه أجزأه، وإن لم يصمه كان عليه قضاء (4).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا فقد ثبت أن صومه محرم بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن صيام هذين اليومين يوم الفطر ويوم الأضحى، روى ذلك أبو هريرة، وعمر، وعثمان، وعلي عليه السلام (5).
دليلنا: الأخبار المروية ذكرناها في الكتاب الكبير (1).
وأيضا روى أبو هريرة قال: نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن صيام ستة أيام. يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه (2) وروى أنس بن مالك أن النبي صلى اللّه عليه وآله نهى عن صيام خمسة أيام في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق (3).
مسألة 71: إذا أكل ما لا يؤكل باختياره، كالخزف والخرق والطين والخشب والجوهر أو شرب غير مشروب كماء الشجر والورد والعرق، كل هذا يفطر، وهو قول جميع الفقهاء (4) إلا الحسن بن صالح بن حي فإنه قال: لا يفطر إلا المأكول المعتاد (5).
دليلنا: قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (6) والصيام هو الإمساك، وهذا يقتضي الإمساك عن كل شئ.
وما روي من الأخبار في أن من أكل أو شرب متعمدا أنه يفطر (7) وهذا
ص: 212
يتناول هذا الموضع، لأن من أكل شيئا مما ذكرناه أو شرب يسمى أكلا.
مسألة 72: من أكل البرد النازل من السماء أفطر. وبه قال جميع الفقهاء (1).
وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يقول: لا يفطر (2).
دليلنا: إجماع المسلمين، فإن هذا الخلاف قد انقرض.
مسألة 73: الحقنة بالمايعات تفطر، وأما التقطير في الذكر لا يفطر.
وقال الشافعي: الواصل منهما يفطر، وهو الحقنة والتقطير في الذكر، وبه قال أبو يوسف ومحمد (3).
وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يفطر بهما (4).
وقال مالك: لا يفطر بقليل الحقنة ويفطر بكثيرها (5).
وقال أبو حنيفة: يفطر بالحقنة على ما قلناه (6).
وأما التقطير في الذكر، فقد قال الحاكم، (7) في المختصر: يفطر لأنه قال:
لو قطر في ذكره أفطر.
ص: 213
وكان الجرجاني أبو عبد اللّه (1) يقول: لا يفطره (2).
دليلنا: على الحقنة إجماع الفرقة، وأما التقطير فليس على كونه مفطرا دليل.
والأصل بقاء الصوم وصحته.
مسألة 74: إذا داوى جرحه، فوصل الدواء إلى جوفه لا يفطر، رطبا كان أو يابسا.
وكذلك إذا طعن نفسة فوصلت الطعنة إلى جوفه، أو طعن باختياره.
ذلك لا يفطر.
وقال الشافعي: ما كان من ذلك باختياره يفطر، وما كان منه بغير اختياره لا يفطر (3).
وقال أبو حنيفة: الدواء إن كان رطبا أفطر وإن كان يابسا لا يفطر (4).
قال أصحابه: لأن اليابس لا يجري ولا يصل إلى الجوف (5).
والطعنة فإن وصل الرمح إلى جوفه لم يفطر (6).
قال أصحابه: إذا لم يستقر لم يفطر وإن استقر أفطر (7).
وما عدا ذلك من المسائل التي ذكرناها كلها يفطر عنده، واعتبر وصول ذلك إلى جوفه بفعل آدمي كان أو غير آدمي (8)، إلا الذباب وغبرة الطريق
ص: 214
فإنه لا يفطر (1).
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يفطر بدواء ولا بطعنة (2)، والعقد عندهم أن يصل من المجاري التي هي خلقة في البدن، فأما من غيرها فلا يفطر.
دليلنا: إن الأصل صحة صومه وانعقاده، وكون هذه الأشياء مفطرة له يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 75: السعوط مكروه إلا أنه لا يفطر.
وقال الشافعي: ما وصل منه إلى الدماغ يفطر (3).
دليلنا: إن ذلك يحتاج إلى دليل، وليس ها هنا دليل.
مسألة 76: إذا تمضمض للصلاة نافلة كانت أو فرضا، فسبق الماء إلى حلقه لم يفطر، وإن تمضمض للتبرد أفطر.
وقال الشافعي: إذا تمضمض ذاكرا لصومه، فبالغ أفطر إذا وصل إلى حلقه.
وإن سبق الماء إلى حلقه من المضمضة أو إلى رأسه من الاستنشاق أو من غيرهما له فيه قولان:
قال في القديم والأم معا: يفطر، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والمزني (4).
وقال في البويطي والإملاء واختلاف العراقيين: لا يفطر، وهو أصح
ص: 215
القولين، وبه قال الأوزاعي (1)، وأحمد، وإسحاق سواء كان لفرض أو نافلة (2).
وقال النخعي وابن أبي ليلى: إن كان لنافلة أفطر، وإن كان لفريضة لم يفطر، وبه قال ابن عباس (3).
دليلنا: إن ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
وأما في حال التبرد فلا خلاف أنه يفطر.
وأيضا فإن على ما فصلناه إجماع الفرقة، وأخبارهم به مفصلة بيناها في الكتاب المقدم ذكره (4).
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (5) وهذا خطأ.
مسألة 77: من كان أسيرا في بلد الشرك، أو كان محبوسا في بيت، أو كان في طرف من البلاد ولا طريق له إلى معرفة شهر رمضان، ولا إلى ظنه بأمارة صحيحة، فليتوخ شهرا يصومه، فإن وافق شهر رمضان أو بعده أجزأ، وإن وافق قبله لم يجزه وعليه القضاء.
وقال الشافعي: إن لم يكن معه دليل وغلب على ظنه شهر فإنه يصومه، غير أنه لا يعتد به، وافق الشهر أو لم يوافق.
ص: 216
وإن كان معه ضرب من الدلالة والأمارات، مثل أن يعلم أنه صام في شدة الحر، أو البرد، أو الربيع، أو ذكر هذا في بعض الشهور وعرفه بعينه فصام حينئذ فله ثلاثة أحوال:
حاله يوافقه، فإنه يجزيه، وهو مذهب الجماعة (1) إلا الكرخي، فإنه قال:
لا يجزيه وإن وأفقه (2).
وإن وافق ما بعده، فإنه يجزيه أيضا (3) ويكون قضاء إذا كان شهرا يجوز صيامه كله، مثل المحرم أو صفر أو ما يجري مجراهما، سواء كان بعد رمضان أو أقل منه أو أكثر، وهو مذهب الشافعي.
وإن وافق شهرا لا يصح صومه كله، مثل شوال فإن صومه كله صحيح إلا يوم الفطر أو ذي الحجة، فإنه لا يصح صومه يوم النحر وثلاثة أيام التشريق، سقط ها هنا الاعتبار بالهلال، ويكون المعتبر العدد.
فمن صام شوال وكان تاما قضى يوما، وإن كان ناقضا قضى يومين، لأن فرضه ثلاثون.
وإن كان ذا الحجة وكان تاما قضى أربعة أيام، أيام النحر والتشريق، وإن كان ناقصا قضى خمسة أيام.
هذا إن صام شهرا بين هلالين، فأما إن صام ثلاثين يوما من شهرين أجزأ إذا كانت أياما يصح صوم جميعها، فإن كان فيها ما لا يصح صومه قضى ما لا يصح صيامه.
ومتى وافق ما قبله، ثم بان له الخطأ قبل خروج رمضان صامه، وإن كان قد
ص: 217
خرج بعضه صام ما أدرك منه وقضى ما فات.
وإن كان خرج كله فلهم فيه طريقان، أحدهما: عليه القضاء قولا واحدا، وذهب شيوخ أصحابه مثل الربيع والمزني وأبو العباس إلى أن المسألة على قولين:
أحدهما: لا قضاء عليه، ذكره المزني وقال: لا أعلم أحدا قال به (1).
والثاني: وهو الصحيح عليه القضاء، وبه قال أبو حنيفة وغيره من الفقهاء، وإليه ذهب المزني (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3)، ولأنه إذا وأفقه أو وافق ما بعده فقد برئت ذمته بيقين، وإذا صام قبله لم تبرأ ذمته بيقين، فكان عليه القضاء.
مسألة 78: إذا أفاق المجنون في أثناء الشهر صام ما أدركه، ولم يلزمه قضاء ما فاته في حال جنونه، وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: متى أفاق وبقي من الشهر جزء لزمه صومه جميعه (5).
دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الكتاب المقدم ذكره (6)، وعليه إجماع الفرقة.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وإيجاب ما مضى يحتاج إلى دليل.
وروي عن علي عليه السلام، عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال:
ص: 218
" رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه " (1).
ومن ألزمه القضاء فقد أجرى عليه القلم، وذلك خلاف الخبر.
مسألة 79: إذا وطأ في أول النهار ثم مرض أو جن في آخره، لزمته الكفارة ولم تسقط عنه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه وهو أقيسهما (2)، والثاني: لا كفارة عليه، وبه قال أبو حنيفة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قد اشتغلت ذمته بالكفارة حين الوطء بلا خلاف، وإسقاطها يحتاج إلى دليل.
وأيضا قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وذلك يقتضي بعد الدخول فيه.
مسألة 81: إن وطأ هذا المسافر لزمته الكفارة. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه (2).
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في وجوب الكفارة على من أفطر يوما من شهر رمضان (3)، وتخصيصها يحتاج إلى دليل.
مسألة 82: لا يكره السواك للصائم على كل حال. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: يكره بعد الزوال ولا يكره قبله (5).
دليلنا: الأخبار المروية في فضل السواك (6) وهي على عمومها، فمن خصصها فعليه الدلالة.
مسألة 83: إذا تلبس بصوم التطوع كان بالخيار بين إتمامه والإفطار، وبه قال الشافعي والثوري وأحمد (7)، غير أن عندنا إذا كان بعد الزوال يكره له الإفطار.
ص: 220
وقال أبو حنيفة وأصحابه: متى خرج فعليه قضاؤه، وهل يلزمه الدخول، فيه؟ فعلى قولين: المعروف من مذهبهم أنه يلزمه وعليه المناظرة، وقد يرتكبون أنه لا يلزمه (1).
مسألة 84: من أفطر يوما نذر صومه من غير عذر لزمته الكفارة.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
مسألة 85: من ارتمس في الماء متعمدا أو كذب على اللّه أو رسوله أو على الأئمة عليهم السلام متعمدا أفطر، وعليه القضاء والكفارة.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك في الإفطار ولزوم الكفارة معا (3)، وبه قال المرتضى من أصحابنا (4) والأكثر على ما قلناه (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 86: من أفطر يوما يقضيه من شهر رمضان بعد الزوال لزمه قضاؤه
ص: 221
وكان عليه الكفارة.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
مسألة 87: من تعمد البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر، أو نام بعد انتباهتين وبقي إلى طلوع الفجر نائما، كان عليه القضاء والكفارة معا.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، لأنه متى قضى وكفر فقد برئت ذمته بيقين، وإذا لم يفعل ففيه خلاف.
مسألة 88: إذا أجنب في أول الليل ونام عازما على أن يقوم في الليل ويغتسل فبقي نائما إلى طلوع الفجر لم يلزمه شئ بلا خلاف.
وإن انتبه دفعة ثم نام إلى طلوع الفجر كان عليه القضاء بلا كفارة.
وإن انتبه دفعتين كان عليه القضاء والكفارة على ما قلناه.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 89: إذا نوى في أثناء النهار أنه قد ترك الصوم، أو عزم على أن يفعل ما ينافي الصوم لم يبطل صومه، وكذلك الصلاة إذا نوى أن يخرج منها، أو فكر هل يخرج أم لا؟ لا تبطل صلاته، وإنما يبطل الصوم والصلاة بفعل ما ينافيهما.
وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال أبو حامد الأسفرايني: يبطل صومه وصلاته قال: ولا أعرفها منصوصة
ص: 222
للشافعي.
وحكي عن بعض الخراسانية من أصحابه أنها منصوصة للشافعي أنه يبطل الصوم (1).
وأما الصلاة فمنصوص للشافعي أنها تبطل (2).
دليلنا: إن نواقض الصوم والصلاة قد نص لنا عليها، ولم يذكروا في جملتها هذه النية، فمن جعلها من جملة ذلك كان عليه الدلالة.
مسألة 90: من كان عليه شهران متتابعان، فصام شهرا ويوما ثم أفطر لغير عذر بنى عليه، ولا يجب عليه استئنافه.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: يستأنف (3).
وكذلك إذا نذر صوم شهر متتابعا فصام خمسة عشر يوما ثم أفطر بنى.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار التي أوردناها في الكتاب المقدم ذكره (5)، ولا وجه لإعادتها.
ص: 223
ص: 224
ص: 225
ص: 226
مسألة 91: لا ينعقد الاعتكاف لأحد - رجلا كان أو امرأة - إلا في المساجد الأربعة التي هي: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى اللّه عليه وآله، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة.
وقال الشافعي في الجديد: لا ينعقد اعتكاف المرأة إلا في المسجد (1).
وقال في القديم والجديد معا: يكره لها أن تعتكف في غير مسجد بيتها، وهو الموضع المنفرد في المنازل للصلاة (2). وبه قال أبو حنيفة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فلا خلاف أن في المواضع التي ادعيناها ينعقد الإعتكاف وإن خالفوا في كراهته لها، ولم يدل دليل على انعقاده في المواضع التي قالوها، فوجب لذلك نفيها.
مسألة 92: لا يصح الإعتكاف إلا بصوم، أي صوم كان، نذرا أو رمضان أو تطوعا، ولا يصح أن يفرد الليل به، ولا العيدين، ولا التشريق. وبه قال أبو
ص: 227
حنيفة وأصحابه، ومالك، والثوري، والأوزاعي (1). وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وفي التابعين خلق (2).
وقال الشافعي: يصح الإعتكاف بغير صوم، ويصح أن يفرد الليل والعيدين وأيام التشريق بالاعتكاف (3)، وبه قال أحمد (4)، ورووا ذلك عن علي عليه السلام، وأبي مسعود البدري، والحسن البصري، وإسحاق (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فلا خلاف أن مع الصوم في الأوقات المخصوصة يصح اعتكافه، وليس على انعقاده في غيرها دليل، فوجب نفيه.
وروي عروة عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا اعتكاف إلا بصوم " (6).
وروى عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: قلت: يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إني نذرت أن أعتكف يوما في الجاهلية؟ فقال: " اعتكف وصم " (7).
ص: 228
مسألة 93: إذا باشر امرأته في حال اعتكافه فيما دون الفرج، أو لمس ظاهرها بطل اعتكافه، أنزل أو لم ينزل. وبه قال الشافعي في الإملاء (1).
وقال في الأم: لا يبطل اعتكافه، أنزل أو لم ينزل (2).
وقال أبو حنيفة: إن أنزل بطل، وإن لم ينزل، لم يبطل (3).
دليلنا: قوله تعالى: " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " (4) وهذا عام في كل مباشرة، أنزل أو لم ينزل، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.
مسألة 94: إذا وطأ المعتكف ناسيا، لم يبطل اعتكافه. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: يبطل اعتكافه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة. وقوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (7).
مسألة 95: إذا نذر أن يعتكف شهرا، كان بالخيار بين أن يعتكف متفرقا
ص: 229
أو متتابعا، والمستحب المتابعة. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: عليه المتابعة إلا أن ينوي اعتكاف نهار شهر، فإنه لا يلزمه المتابعة (2).
دليلنا: إن المتابعة لم يذكرها في النذر، فيجب أن لا تلزمه، ولأن الأصل براءة الذمة، والشهر لزمه لذكره له في اللفظ وبالإجماع.
مسألة 96: إذا نذر اعتكاف يومين، لا ينعقد نذره.
وقال الشافعي: يلزمه يومان وليلة (3).
وقال محمد: يلزمه يومان وليلتان، وحكى هذا عن أبي حنيفة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام، وإذا كان هذا يومين وجب أن لا ينعقد، فإذا ثبت ذلك فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيام لزمه ثلاثة أيام وليلتان، لأنه لا يمكنه أن يصوم ثلاثة أيام متواليات إلا بدخول ليلتين في جملتها، فلأجل ذلك قلنا ذلك.
مسألة 97: إذا نذر اعتكاف عشره أيام متتابعة، لزمه الوفاء به، ولا يصح منه اعتكافها إلا في المساجد الأربعة التي قدمنا ذكرها، فيصح منه أداء الجمعة فيها.
وقال الشافعي: إذا اعتكف قدر عشرة أيام متتابعة، فاعتكف في غير
ص: 230
الجامع خرج يوم الجمعة وبطل اعتكافه (1).
وقال أبو حنيفة: لا يبطل، ويكون كأنه استثناه لفظا إذا كان خروجه بمقدار ما يصلي فيه أربعا قبل الجمعة، وأربعا بعدها، وقيل: ستا قبلها وأربعا بعدها ثم يوافي موضعه ويبني (2).
دليلنا: إنا قد بينا أن الإعتكاف لا يصح إلا في المساجد الأربعة بإجماع الفرقة على ذلك، ويكون الاعتكاف صحيحا فيها فلا خلاف، وعدم الدليل على صحته في غيرها، وإذا ثبت ذلك سقط عنا هذا التفريع.
مسألة 98: إذا أذن لزوجته أو أمته في الاعتكاف عشرة أيام، لم يكن له منعهما بعد ذلك. وبه قال أبو حنيفة في الزوجة، فأما الأمة فلا يلزمها (3).
وقال الشافعي: له منعهما من ذلك (4).
دليلنا: أنه قد ثبت اعتكافهما بإذنه بلا خلاف، وجواز منعهما ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 99: إذا نذر أن يعتكف شهر رمضان، لزمه ذلك، فإن فاته قضى شهرا آخر يصوم فيه، فإن آخره إلى رمضان آخر فاعتكف فيه أجزأه.
وقال الشافعي: إذا فاته قضاه بغير صوم، وإن شاء أخره وقضاه في رمضان آخر (5).
ص: 231
وقال أبو حنيفة: إن فاته اعتكافه فعليه قضاء اعتكاف شهر يصوم، كما قلناه فإن أراد أن يعتكف رمضان الثاني عما تركه لم يجزه (1).
دليلنا: أن ما اعتبرناه من صوم رمضان الأول أو صوم شهر آخر لا خلاف أنه يجزيه، ومن قال: إنه يجزيه بلا صوم فعليه الدلالة، وكذلك من قال: إن رمضان الثاني لا يجزيه فعليه الدلالة.
مسألة 100: من أراد أن يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان إما بالنذر أو أراد استيفاءه، فينبغي أن يدخل فيه ليلة إحدى وعشرين مع غروب الشمس. وبه قال الشافعي، ومالك، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه (2).
وذهب الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن وقت الدخول فيه في أول نهار الحادي والعشرين (3).
دليلنا: أن ما اعتبرناه لا خلاف أنه يجوز، ولا دلالة على إجزاء ما قالوه.
مسألة 101: لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام وليلتين، ومن وافقنا في اعتبار الصوم فيه قال: أقله يوم وليلة (4)، ومن لم يعتبر الصوم مثل الشافعي وغيره قال: أقله ساعة ولحظة (5).
ص: 232
وقال في سنن حرملة المستحب: أن لا ينقص عن يوم وليلة.
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه لا يكون الاعتكاف أقل من ثلاثة أيام، وقد ذكرنا الأخبار في ذلك في الكتاب الكبير (1).
وهكذا الخلاف إذا نذر اعتكافا مطلقا.
مسألة 102: لا يصح الاعتكاف إلا في أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى اللّه عليه وآله، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة.
وقال الزهري: لا يصح الاعتكاف إلا في جامع، أي جامع كان (2). وبه قالت عائشة (3).
وقال الشافعي: المستحب أن يعتكف في الجامع، ويصح أن يعتكف في سائر المساجد (4). وبه قال أبو حنيفة (5).
دليلنا: أن ما اعتبرناه من البقاع لا خلاف أنه يصح الاعتكاف فيه وينعقد، وما قالوه ليس على انعقاد الاعتكاف فيه دليل.
وأيضا إجماع الفرقة على ذلك، وأخبارهم متواترة به ذكرنا طرفا منها في الكتاب الكبير (6).
ص: 233
مسألة 103: إذا نذر أن يصلي في مسجد معين، لزمه الوفاء به، والترحل إليه، سواء كان المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، أو مسجد الرسول، أو غيرها من المساجد.
والاعتكاف إذا نذره في المساجد الأربعة لزمه الوفاء به، ولا ينعقد إن نذره في غيرها.
وقال الشافعي: إن كان المسجد الحرام مثل ما قلناه، ووجب عليه أن يخرج حاجا أو معتمرا، وإن كان غيره صلى واعتكف حيث شاء (1).
دليلنا: إن ذمته اشتغلت بالقطع واليقين، فوجب أن لا تبرأ إلا بيقين، وما ذكرناه مقطوع عليه براءة الذمة، وليس على ما قالوه دليل.
مسألة 104: إذا خرج لقضاء حاجة ضرورية من المسجد، لا يجوز له أن يأكل في منزله، ولا في موضع آخر، ويجوز أن يأكل في طريقه ماشيا.
وللشافعي فيه قولان:
قال أبو العباس: ليس له أن يأكل في منزله، بل له أن يأكل ماشيا (2).
وقال أبو إسحاق: يجوز له ذلك (3)، وبه قال المزني (4).
دليلنا: أن ما اعتبرناه لا خلاف في جوازه، وليس على جواز ما قالوه دليل.
مسألة 105: يجوز للمعتكف أن يخرج لعيادة مريض ويزور الوالدين، والصلاة على الأموات.
وقال الشافعي: ليس له ذلك، فإن فعل بطل اعتكافه (5). وبه قال باقي
ص: 234
الفقهاء (1).
دليلنا: أنه لا مانع منه، والأصل الإباحة، وأيضا عليه إجماع الفرقة، وأيضا الأخبار الواردة في الحث على تشييع الجنازة، والصلاة على الأموات على عمومها (2).
مسألة 106: يجوز للمعتكف أن يخرج فيؤذن في منارة خارجة للجامع وإن كان بينه وبين الجامع فضاء لا يكون في الرحبة.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (3).
والآخر: لا يجوز، فإن خرج بطل اعتكافه (4).
دليلنا: كل ما روي في الحث على الأذان من الأخبار، إذ لم يفصلوا فيه بين حالة الاعتكاف وغير حاله (5)، فوجب أن تكون على عمومها.
مسألة 107: من خرج لإقامة الشهادة ولم يتعين عليه إقامتها لم يبطل اعتكافه.
ص: 235
وقال الشافعي: يبطل اعتكافه (1).
دليلنا: أن الأصل جواز ذلك، وأيضا قوله تعالى: " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " (2) ولم يفصل.
مسألة 108: إن تعين عليه الأداء دون التحمل، مثل إن لم يبق من الشهود غيره، فعليه أن يخرج ويقيم الشهادة، ولا يبطل اعتكافه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (3).
دليلنا: أنه مأمور بإقامة الشهادة، وواجب عليه ذلك بلا خلاف، فإذا خرج لما وجب عليه لا يبطل اعتكافه، لأنه لا دليل على ذلك.
مسألة 109: إذا سكر المعتكف، بطل اعتكافه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (4).
والثاني: لا يبطل (5).
دليلنا: أن الاعتكاف هو المقام واللبث للعبادة، فإذا سكر نقض حقيقة الاعتكاف لأنه فسق، فوجب أن يبطل اعتكافه.
مسألة 110: إذا ارتد المعتكف بطل اعتكافه.
وقال الشافعي: لا يبطل (6). واختلف أصحابه على وجهين، أحدهما:
ص: 236
مثل ما قلناه أنه يبطل (1).
والثاني: لا يبطل (2).
دليلنا: أنه إذا ارتد وهو مولود على الفطرة وجب قتله على كل حال، وإن كان أسلم ثم ارتد فهو محكوم بنجاسته، فلا يجوز أن يقيم في المسجد، ولا تصح منه الطاعة، وذلك ينافي الاعتكاف.
مسألة 111: من نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة، فخرج لغير حاجة بطل اعتكافه، وبه قال الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة (3).
وقال أبو يوسف، ومحمد: إن خرج أكثر النهار بطل اعتكافه، وإن أخرج أقله لم يبطل (4).
دليلنا: إذا لم يخرج صح اعتكافه بلا خلاف، وإذا خرج ليس على صحته دليل.
مسألة 112: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة، لزمه أن يفي به، ويصوم فيها.
وإن لم يذكر الصوم، وإن ذكر الصوم كان أبلغ فمتى أفطر يوما فيها أستأنف الصوم والاعتكاف.
وقال الشافعي: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة بصوم فأفطر قال أصحابه على قولين، أحدهما: يستأنف الصيام دون الاعتكاف (5).
ص: 237
والآخر يستأنفها معا (1).
دليلنا: أنه إذا أفطر قطع التتابع فيها لأنه ليس ينفصل الاعتكاف عن الصوم، ولأنه إذا استأنف وأعاده برئت ذمته بيقين، وإذا أفرد لم تبرأ ذمته بيقين.
مسألة 113: المعتكف إذا وطأ في الفرج نهارا، أو استمنى بأي شئ كان، لزمته كفارتان، وإن فعل ذلك ليلا لزمته كفارة واحدة، وبطل اعتكافه.
وقال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك وسائر الفقهاء: يبطل اعتكافه، ولا كفارة عليه (2).
وقال الزهري، والحسن البصري: عليه الكفارة ولم يفصلوا الليل من النهار (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإذا كفر برءت ذمته بيقين، وإذا لم يكفر لم تبرأ ذمته بيقين.
مسألة 114: إذا قال: لله علي أن أعتكف يوما، لم ينعقد نذره، لأنه لا اعتكاف أقل من ثلاثة أيام على ما بيناه.
فإن نذر اعتكاف ثلاثة أيام، وجب عليه الدخول فيه قبل طلوع الفجر من أول يوم إلى غروب الشمس من اليوم الثالث.
وقال الشافعي: إذا قال: لله على أن أعتكف يوما، وجب عليه ذلك (4).
وهل يجوز له التفريق أم لا؟ أصحابه على قولين:
أحدهما: أن له أن يبتدئ قبل طلوع الفجر إلى بعد الغروب، وإن دخل فيه
ص: 238
نصف النهار اعتكف إلى مثل وقته من النصف (1).
والقول الآخر عليه وأصحابه وهو المذهب: أن عليه أن يتابع ويدخل فيه قبل طلوع الفجر إلى بعد الغروب، قالوا: لأن اليوم عبارة عن ذلك (2).
دليلنا: أنا بينا أن الاعتكاف لا يصح إلا بصوم، ولا يكون أقل من ثلاثة أيام، فإذا ثبت ذلك فالصوم لا ينعقد إلا من عند طلوع الفجر الثاني إلى بعد الغروب، والثلاثة أيام مثل ذلك.
وأيضا فما اعتبرناه لا خلاف أنه يجزي، وما ذكروه لا دليل على جوازه.
مسألة 115: إذا قال لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام بلياليهن، لزمه ذلك.
فإن قال: متتابعة لزمه بينها ليلتان، وإن لم يشرط المتابعة جاز له أن يعتكف نهارا ثلاثة أيام لا للياليهن.
وقال أصحاب الشافعي: إذا أطلق على وجهين:
أحدهما: يلزمه ثلاثة أيام بينهما الليلتان.
والآخر: أنه يلزمه بياض ثلاثة أيام فحسب، وعليه أصحابه (3).
وقال محمد بن الحسن: يلزمه ثلاثة أيام بلياليها (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، والذي وجب عليه بالنذر الاعتكاف ثلاثة أيام، واليوم عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، هكذا ذكره الخليل (5)
ص: 239
وغيره من أهل اللغة (1)، والليل لم يجر له ذكر، فوجب أن لا يلزمه.
مسألة 116: لا يجوز للمعتكف استعمال شئ من الطيب.
وقال الشافعي: يجوز ذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا إذا لم يستعمل الطيب يصح اعتكافه بلا خلاف، وإذا استعمل ففي صحته خلاف.
مسألة 117: المعتكفة إذا مات زوجها أو طلقها، خرجت وبنت على اعتكافها إذا فرغت.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: تستأنف، والآخر: تبني (3).
دليلنا: إن إعادة الاعتكاف يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 118: من أكل طعاما في المسجد يحتاج إلى غسل يده، فالأولى أن يغسلها في الطست ويقلب الماء إلى خارج المسجد، فإن خرج فغسل يده لم يبطل اعتكافه.
وقال الشافعي: يبطل (4).
دليلنا: إن هذا خروج محتاج إليه، وقد استثنى ذلك عليه.
مسألة 119: من لا تجب عليه الجمعة من عبد، أو امرأة، أو أمة، أو أم
ص: 240
ولد، أو مسافر لا يصح منه الإعتكاف إلا في المساجد الأربعة.
وقال الشافعي: يعتكفون حيث شاءوا (1).
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في ذلك (2).
وأيضا لا خلاف أن اعتكافهم في هذه المواضع صحيح، ولا دليل على صحة ما قالوه.
مسألة 120: إذا نذر اعتكاف أيام إذا فعل فعلا، أو امتنع منه، لا على وجه القربة، بل على وجه منع النفس منه، مثل أن يقول: إن دخلت الدار، أو إن لم أدخل الدار، كان بالخيار بين الوفاء به وبين أن لا يفي به.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (3)، والآخر: عليه كفارة يمين (4).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ولا يجوز شغلها إلا بدليل.
وأيضا فقد روي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: لا نذر إلا ما أريد به وجه اللّه (5).
مسألة 121: إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام أو في مسجد الرسول صلى اللّه عليه وآله، أو في مسجد الكوفة، أو مسجد البصرة، لزمه الوفاء به، ولا يجوز في غيرها.
ص: 241
وقال الشافعي: إن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه الوفاء به، وإن كان مسجد الرسول صلى اللّه عليه وآله، أو مسجد الأقصى فعلى قولين، وإن كان غيرها فله أن يعتكف حيث شاء (1).
دليلنا: إنا بينا أن الاعتكاف لا يكون إلا في هذه المواضع، فإن نذر في غيرها لا ينعقد نذره، فأما هذه المساجد فإذا نذر على وجه القربة وجب عليه الوفاء به، لأنه لا دليل على التخيير فيه، والذي نذره شئ معين، فلا يجوز خلافه.
ص: 242
ص: 243
ص: 244
مسألة 1: ليس من شرط وجوب الحج الإسلام، لأن الكافر يجب عليه عندنا جميع العبادات.
وقال الشافعي: الإسلام من شرط وجوبه (1).
دليلنا: قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت " (2) ولم يفصل.
وقوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " (3) ولم يفصل بين الكافر والمسلم.
وأيضا جميع الأخبار الواردة بوجوب الحج. تتناول الجميع (4).
مسألة 2: من شروط وجوب الحج، الرجوع إلى كفاية زائدا على الزاد والراحلة.
ولم يعتبر ذلك أحد من الفقهاء إلا ما حكي عن ابن سريج أنه قال: لو كانت له بضاعة يتجر بها، ويربح قدر كفايته، اعتبرنا الزاد والراحلة في الفاضل عنها، ولا يحج ببضاعته (5). وخالفه جميع أصحاب الشافعي (6).
ص: 245
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل براءة الذمة، وعند حصول ما قلناه لا خلاف في وجوبه، وقبل حصوله ليس على وجوبه دليل.
مسألة 3: من لم يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه الحج، فإن حج لم يجزه وعليه الإعادة إذا وجدهما.
وقال باقي الفقهاء: أجزأه (1).
دليلنا: إن اللّه تعالى علق الوجوب على المستطيع (2)، فمن قال: إن غير المستطيع إذا حج أجزأ عنه إذا كان مستطيعا، فعليه الدلالة.
وأيضا عليه إجماع الفرقة.
وأيضا فإذا استطاع وأعاد برئت ذمته بيقين، وإن لم يعد فليس على برائتها دليل.
مسألة 4: المستطيع ببدنه، الذي يلزمه فعل الحج بنفسه، أن يكون قادرا على الكون على الراحلة، ولا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون عليها، فإذا كانت هذه صورته فلا يجب عليه فرض الحج إلا بوجود الزاد والراحلة. فإن وجد أحدهما لا يجب عليه فرض الحج، وإن كان مطيقا للمشي، قادرا عليه.
وبه قال في الصحابة ابن عباس، وابن عمر (3)، وفي التابعين الحسن البصري، وسعيد بن جبير (4)، وفي الفقهاء الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (5).
ص: 246
وقال مالك: إذا كان قادرا على المشي لم تكن الراحلة شرطا في حقه، بل من شرطه أن يكون قادرا على الزاد.
والقدرة على الزاد تختلف، فإن كان مالكا له لزمه، وإن لم يكن مالكا له وكان ذا صناعة كالتجارة والخياطة والحجامة وما يكتسب به الزاد في طريقه لزمه، وإن لم يكن ذا صناعة لكن من عادته مسألة الناس فهو واجد. فعنده القدرة على المشي كالراحلة، والقدرة على كسب الزاد بصنعه أو بمسألة الناس كوجود الزاد (1). وبمثله قال ابن الزبير، والضحاك (2) (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن الأصل براءة الذمة، ولا خلاف أن من اعتبرناه يجب عليه الحج، وليس على قول من خالف دليل.
وأيضا قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (4) والاستطاعة تتناول القدرة وجميع ما يحتاج إليه، فيجب أن يكون من شرطه.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " الاستطاعة الزاد والراحلة " لما سئل عنها. وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجابر بن عبد اللّه، وعائشة، وأنس بن
ص: 247
مالك، ورواه أيضا علي عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله (1).
مسألة 5: إذا وجد الزاد والراحلة، ولزمه فرض الحج، ولا زوجة له، بدأ بالحج دون النكاح، سواء خشي العنت أو لم يخش.
وقال الأوزاعي: إن خشي العنت فالنكاح أولى، وإن لم يخف العنت فالحج أولى.
وقال أصحاب الشافعي: ليس لنا فيها نص، غير أن الذي قاله الأوزاعي قريب (2).
دليلنا: قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (3) وهذا قد استطاع، فمن أجاز تقديم النكاح عليه فعليه الدلالة، على أن الحج فرض عند وجود الزاد والراحلة، وحصول كمال الاستطاعة بلا خلاف، وهو على الفور عندنا على ما سنبينه، والنكاح مسنون عند الأكثر، فلا يجوز له العدول عن الفرض إلى النفل إلا بدليل.
مسألة 6: الذي لا يستطيع الحج بنفسه، وأيس من ذلك إما بأن لا يقدر على الكون على الراحلة، أو يكون به سبب لا يرجى زواله وهو العضب، والضعف الشديد من الكبر، أو ضعف الخلقة بأن يكون ضعيف الخلقة في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب، يلزمه فرض الحج في ماله، بأن يكتري من الحج عنه، فإن فعل ذلك سقط الفرض. وبه قال في الصحابة علي عليه السلام (4)، وفي الفقهاء الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد،
ص: 248
وإسحاق (1).
وقال مالك فرض الحج لا يتوجه على من لا يقدر عليه بنفسه، فإن كان معضوبا لم يجب الحج عليه، ولا يجوز أن يكتري من يحج عنه، فإن أوصى أن يحج عنه حج عنه من الثلث (2).
وحكي عنه أنه قال: لو عضب بعد وجوب الحج عليه سقط عنه فرضه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، لأنه إذا فعل ما قلناه برئت ذمته بيقين، وإذا لم يفعل فليس على براءة ذمته دليل.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال لشيخ كبير لم يحج: إن شئت فجهز رجلا يحج عنك (4).
وروى سفيان عن عيينة عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت رسول اللّه عليه وآله فقالت: إن فريضة اللّه في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على راحلة، فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله: نعم.
وفي رواية عمرو بن دينار عن الزهري مثله، وزاد: فقالت: يا رسول اللّه فهل ينفعه ذلك؟ فقال: نعم كما لو كان عليه دين تقضيه نفعه (5).
ص: 249
مسألة 7: إذا استطاع بمن يطيعه بالحج عنه لا يلزمه فرض الحج إذا لم يكن مستطيعا بنفسه، ولا بماله، وبه قال مالك وأبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: يلزمه فرض الحج (2).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وليس في الشرع ما يدل على ذلك.
وأيضا قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " وهذا ما استطاع.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " إن الاستطاعة هي الزاد والراحلة " (3).
وإذا كان هذا غير واحد للزاد والراحلة لا يلزمه.
مسألة 8: إذا كان لولده مال، روى أصحابنا أنه يجب عليه الحج، ويأخذ منه قدر كفايته ويحج به، وليس للابن الامتناع منه.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك.
دليلنا: الأخبار المروية في هذا المعنى من جهة الخاصة قد ذكرناها في الكتاب الكبير (4) وليس فيها ما يخالفها تدل على إجماعهم على ذلك.
ص: 250
وأيضا قوله تعالى: " أنت ومالك لأبيك " (1).
فحكم أن ملك الابن مال الأب، وإذا كان له فقد وجد الاستطاعة فوجب عليه الحج
مسألة 9: إذا بذل له الاستطاعة، لزمه فرض الحج.
وللشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه (2).
والثاني: وهو الذي يختارونه أنه لا يلزمه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار الواردة في هذا المعنى (4).
وأيضا قوله تعالى: " من استطاع إليه سبيلا " (5) وهذا قد استطاع.
وفي أصحابه من قال: المسألة على قولين مثل العليل الذي يرجى زواله (1).
دليلنا: قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (2) وهذا قد استطاع، فوجب أن يحج بنفسه.
وما فعل أولا كان لزمه في ماله، فإجزائه عما يجب عليه في بدنه يحتاج إلى دليل.
مسألة 12: إذا أوصى المريض بحجة تطوع، أو استأجر من يحج عنه تطوعا فإنه جائز. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي (3).
والقول الآخر: لا يجزي ولا الوصية به (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأخبار التي وردت في فضل الحج، ومن يعطي غيره ما يحج به عنه، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (5).
مسألة 13: إذا أحرم بالحج عن غيره نيابة، ثم نقل النية إلى نفسه لا يصح نقلها. فإذا أتم حجه لم تسقط أجرته عمن كان استأجره.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: لا شئ له (6)، والآخر: وهو الذي يختارونه مثل قولنا من أن له أجرة (7).
دليلنا: أن الأجرة استحقها بنفس العقد، وبالدخول في الإحرام انعقد الحج عن المستأجر، ونيته ما أثرت في النقل، وجب أن يكون استحقاق الأجرة
ص: 252
ثابتا، لأن إسقاطه يحتاج إلى دليل.
مسألة 14: إذا استأجر الصحيح من يحج عنه الحجة الواجبة، لا يجزيه بلا خلاف، وإن استأجر من يحج عنه تطوعا أجزأه. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: لا يجوز أن يستأجر لا نفلا ولا فرضا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم الواردة في ذلك (3)، وأيضا الأصل جوازه، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 15: الأعمى يتوجه إليه فرض الحج إذا كان له من يقوده ويهديه، ووجد الزاد والراحلة لنفسه ولمن يقوده، ولا يجب عليه الجمعة.
وقال الشافعي: يجب عليه الحج والجمعة معا (4).
وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الحج وإن وجد جميع ما قلناه (5).
دليلنا: قوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (6) وهذا مستطيع، فمن أخرجه عن العموم فعليه الدلالة.
مسألة 16: من استقر عليه وجوب الحج فلم يفعل ومات، وجب أن يحج عنه من صلب ماله مثل الدين، ولم تسقط بوفاته، هذا إذا أخلف مالا، فإن لم يخلف مالا كان وليه بالخيار في القضاء عنه. وبه قال الشافعي، وعطاء، وطاووس (7).
ص: 253
وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط بوفاته، بمعنى أنه لا يفعل عنه بعد وفاته، وحسابه على اللّه يلقاه، والحج في ذمته. وإن كان أوصى حج عنه من ثلثه ويكون تطوعا لا يسقط الفرض به عنه.
وهكذا يقول في الزكوات، والكفارات، وجزاء الصيد كلها تسقط بوفاته، ولا تفعل عنه بوجه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة والأخبار التي ذكرناها في الكتاب الكبير (2)، ويدل عليه خبر الخثعمية أيضا (3).
مسألة 17: سكان الجزائر والسواحل الذين لا طريق لهم غير البحر، يلزمهم ركوبه إلى الحج إذا غلب في ظنهم السلامة، فإن غلب في ظنهم العطب لا يجب عليهم ذلك.
واختلف قول الشافعي في ذلك (4).
واختلف أصحابه على طريقين، فقال الإصطخري والمروزي: المسألة على اختلاف حالين: إذا كان الغالب الهلكة كالبر إذا كان مخوفا لا يلزمه.
والآخر: إذا كان الغالب السلامة، يلزمه وإن جوز حدوث حادثة في الطريق (5).
ومن أصحابه من قال: إذا غلب في ظنه الهلكة لم يجب قولا واحدا، وإن
ص: 254
غلب على ظنه السلامة فعلى قولين (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ومع غلبة الظن قد حصلت التخلية، لأن القطع على السلامة ليس في موضع، ولم يقم دليل على وجوبه مع ظنه الهلكة في ذلك.
مسألة 18: من مات وكان قد وجب عليه الحج، وعليه دين، نظر فإن كانت التركة تكفي للجميع أخرج عنه الحج ويقضي الدين من صلب المال، وإن لم يسع المال قسم بينهما بالسوية، والحج يجب إخراجه من الميقات دون بلد الميت.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدها مثل ما قلناه (2).
والثاني: إنه يقدم دين الآدميين (3).
والثالث: يقدم دين اللّه تعالى (4).
دليلنا: إنهما جميعا دينان، وليس أحدهما أولى من صاحبه، فوجب أن يقسم بينهما.
وكذلك يجوز له أن يتطوع به وعليه فرض نفسه (1). وبه نقول.
وقال الشافعي: كل من يحج حجة الإسلام لا يصح أن يحج عن غيره، فإن حج عن غيره أو تطوع بالحج انعقد إحرامه عما يجب عليه، سواء كانت حجة الإسلام أو واجبا عليه بالنذر. وإن كانت عليه حجة الإسلام فنذر حجة فأحرم بالنذر انعقد عن حجة الإسلام. وبه قال ابن عباس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل جوازه والمنع يحتاج إلى دليل، وكذلك إجازته مطلقا يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
فأما الدليل على أنه نوى التطوع وقع عنه لا عن حجة الإسلام قوله عليه السلام: " الأعمال بالنيات ولكل امرء ما نوى " (3) وهذا نوى التطوع، وجب أن يقع عما نوى عنه.
مسألة 20: من نذر أن يحج، ولم يحج حجة الإسلام، وحج بنية النذر، أجزأ عن حجة الإسلام على ما وردت به بعض الروايات.
وفي بعض الأخبار أن ذلك لم يجزيه عن حجة الإسلام، وهو الأقوى عندي.
وقال الشافعي: لا يقع إلا عن حجة الإسلام (4).
ص: 256
دليلنا على ذلك: إنهما فرضان، أحدهما: حجة الإسلام، والآخر: بالنذر، فإجزاء أحدهما عن الآخر يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 21: يجوز للعبد أن يحج عن غيره من الأحرار إذا أذن له مولاه.
وقال الشافعي: لا يجوز له ذلك (1).
دليلنا: إنه لا مانع يمنع عنه في الشرع، فيجب جوازه.
وأيضا الأخبار المروية في جواز حج الرجل عن الرجل (2) تتناول الحر والعبد، فوجب حملها على العموم.
مسألة 22: الحج وجوبه على الفور دون التراخي، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والمزني (3).
وليس لأبي حنيفة فيه نص، وقال أصحابه: يجئ على قوله أنه على الفور كقول أبي يوسف (4).
وقال الشافعي: وجوبه على التراخي (5) - معناه أنه بالخيار إن شاء قدم وإن شاء آخر والتقديم أفضل - وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد (6).
دليلنا: إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون، وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه.
ص: 257
وأيضا فقد ثبت أنه مأمور به، والأمر عندنا يقتضي الفور على ما بيناه في أصول الفقه.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من أراد الحج فليعجل " (1) فقد أمر بتعجيله وأيضا روى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى الحج ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ". (2) فتوعده على التأخير، فلولا أنه يقتضي الفور لم يوعده على تأخيره.
مسألة 23: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فإذا طلع الفجر قد انقضت أشهر الحج. وبه قال الشافعي، وابن مسعود، وابن الزبير. (3) وقال أبو حنيفة: شوال، وذو القعدة، وعشرة أيام من ذي الحجة. فجعل يوم النحر آخرها، فإذا غربت الشمس منه فقد خرجت أشهر الحج. (4) وقد روى ذلك أصحابنا. (5)
ص: 258
وقال مالك: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة ثلاثة أشهر كاملة. (1) وقد روي ذلك في بعض رواياتنا (2).
وعن ابن عمرو ابن عباس روايتان كقولنا وقول مالك (3).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن أشهر الحج يصح أن يقع فيه الإحرام بالحج، ولا يصح الإحرام بالحج إلا في الأشهر التي ذكرناها، لأنه إذا طلع الفجر من يوم النحر فقد فات وقت الإحرام بالحج، ولهذا رجحنا هذه الرواية على الروايات الباقية.
وأيضا فما اعتبرناه مجمع عليه على أنه من أشهر الحج، وليس على قول من قال بخلافه دليل.
مسألة 24: لا ينعقد الإحرام بالحج ولا العمرة التي يتمتع بها إلى الحج إلا في أشهر الحج، فإن أحرم في غيرها انعقد إحرامه بالعمرة. وبه قال جابر بن عبد اللّه، وابن عباس، وعطاء، وعكرمة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، ومالك، والشافعي (4).
وقال أبو حنيفة والثوري: ينعقد في غيرها إلا أن الإحرام فيها أفضل وهو
ص: 259
المسنون، وإذا أحرم في غيرها أساء وانعقد إحرامه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فلا خلاف أن الإحرام بالحج ينعقد في الأشهر التي قدمنا ذكرها، وليس على قول من قال بانعقادها في غيرها دليل.
مسألة 25: جميع السنة وقت العمرة المبتولة، (2) ولا تكره في شئ منها.
وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: تكره في خمسة أيام، وهي أيام أفعال الحج، عرفة والنحر، والتشريق (4).
وقال أبو يوسف: تكره في أربعة أيام النحر والتشريق (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا ما دل على وجوب العمرة أو ندبها لم يخصص بوقت دون وقت، وكراهتها في وقت يحتاج إلى دليل.
سيرين (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وكل خبر ورد في الحث على العمرة لم يخصص بعدد دون عدد.
وروي عن علي عليه السلام أنه قال: في كل شهر عمرة، أو في كل عشرة أيام عمرة (2).
واعتمر ابن عمر أعواما في كل عام عمرتين، في أيام ابن الزبير (3).
وروى القاسم بن محمد أن عائشة اعتمرت في شهر واحد عمرتين، فقال رجل للقاسم: فما أنكرتم عليها؟ فقال القاسم: أم المؤمنين كيف ينكر عليها، فاستحيى الرجل (4).
وأنس كلما حمم (5) رأسه اعتمر - يعني نبت شعره - (6) ولا مخالف لهم في الصحابة.
مسألة 27: لا يجوز إدخال الحج على العمرة، ولا إدخال العمرة على الحج إذا كان أحرم بالحج وحده، بل كل واحد منهما له حكم نفسه. فإن أحرم بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج، فضاق عليه الوقت، أو حاضت المرأة جعله حجة مفردة ومضى فيه. وإن أحرم بالحج مفردا ثم أراد التمتع، جاز له أن يتحلل
ص: 261
ثم ينشئ الإحرام بعد ذلك بالحج، فيصير متمتعا.
فأما أن يحرم بالحج قبل أن يفرغ من مناسك العمرة، أو بالعمرة قبل أن يفرغ من مناسك الحج، فلا يجوز على حال.
وقال جميع الفقهاء يجوز إدخال الحج على العمرة بلا خلاف بينهم. (1) وأما إدخال العمرة على الحج، إذا أحرم بالحج وحده وأراد إدخال العمرة عليه فللشافعي فيه قولان:
قال في القديم: يجوز، (2) وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال في الجديد: لا يجوز، وهو الأصح عندهم (4).
دليلنا: على ما فصلناه، إجماع الفرقة، وأما ما ذكروه فليس في الشرع ما يدل عليه، فوجب نفيه.
أومى في أحكام القرآن، وأمالي حرملة، وبه قال في الصحابة ابن مسعود، وهو قول الشعبي، ومالك، وأبي حنيفة وأصحابه (1).
دليلنا: قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " (2) والإتمام لا يتم إلا بالدخول، فوجب الدخول أيضا.
وروي عن علي عليه السلام وعمر أنهما قالا: إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك (3).
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة لله (4).
وأيضا فإن اللّه تعالى قرن العمرة بالحج في قوله: " وأتموا الحج والعمرة لله " (5) بلفظ واحد، فإذا كان الحج واجبا فالعمرة مثله.
وأيضا عليه إجماع الفرقة.
وأيضا فإذا اعتمر برئت ذمته بلا خلاف، وإذا لم يعتمر لم تبرأ ذمته بيقين، فالاحتياط يقتضي فعليها.
وروى ابن سيرين عن زيد بن ثابت أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" الحج والعمرة فريضتان، لا يضرك بأيهما بدأت " (6) وهذا نص.
ص: 263
وروي عن عائشة قالت: يا رسول اللّه على النساء جهاد؟ فقال:
" نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة " (1).
فأخبر أن عليهن جهادا، وفسره بالحج والعمرة، ثبت أنها واجبة.
مسألة 29: القارن مثل المفرد سواء إلا أنه يقرن بإحرامه سياق الهدي ولذلك سمي قارنا، ولا يجوز أن يجمع بين الحج والعمرة في حالة واحدة، ولا يدخل أفعال العمرة قط في أفعال الحج.
وقال جميع الفقهاء: أن القارن هو من قرن بين الحج والعمرة في إحرامه، فيدخل أفعال العمرة في أفعال الحج (2).
دليلنا: إجماع الفرقة المحقة، وأيضا من قال: إن أفعال العمرة تدخل في أفعال الحج، يحتاج قوله إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 30: إذا قرن بين الحج والعمرة في إحرامه لم ينعقد إحرامه إلا بالحج، فإن أتى بأفعال الحج لم يلزمه دم، وإن أراد أن يأتي بأفعال العمرة ويحل ويجعلها متعة جاز ذلك، ويلزمه الدم.
وقد بينا ما يريد الفقهاء بالقران، واختلفوا في لزوم الدم.
فقال الشافعي، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه:
يلزمه دم (3).
ص: 264
وقال الشعبي: عليه بدنه (1).
وقال طاووس: لا شئ عليه، (2) وبه قال داود (3).
وحكي عن محمد بن داود (4) أنه استفتي عن هذا بمكة، فأفتى بمذهب أبيه، فجروا برجله (5).
دليلنا: على ما فصلناه: إجماع الفرقة، وأيضا فإن كل من قال: إن القران ما فسرناه قال بما فصلناه، ولأن الأصل براءة الذمة، ثم قال إنه أتى بأفعال الحج لزمه دم فعليه الدلالة.
مسألة 31: إذا أراد المتمتع أن يحرم بالحج، فينبغي أن ينشئ الإحرام من جوف مكة ويحرم منها، فإن خالف وأحرم من غيرها وجب عليه أن يرجع إلى مكة ويحرم منها، سواء كان حرام من الحل. الحرم إذا أمكنه، فإن لم يمكنه مضى على إحرامه وتمم أفعال الحج، ولا يلزمه دم لهذه المخالفة.
وقال الشافعي: إن أحرم من خارج مكة وعاد إليها فلا شئ عليه، وإن لم يعد إليها ومضى على وجهه إلى عرفات فإن كان أنشأ الإحرام من الحل فعليه دم قولا واحدا، (6) وإن أنشأه من الحرم ما بين مكة والحل فعلى قولين:.
أحدهما: عليه دم (7)، والآخر: لا دم عليه (8).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ومن أوجب عليه دما لمكان ما قلناه فعليه الدلالة.
ص: 265
مسألة 32: المفرد إذا أراد أن يحرم بالعمرة بعد الحج، وجب عليه أن يحرم من خارج الحرم، فإن خالف وأحرم من مكة وطاف وسعى وحلق لا يكون معتمرا، ولا يلزمه دم.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (1).
والثاني: تكون عمرة صحيحة (2).
دليلنا: كون ذلك عمرة يحتاج إلى شرع، وليس في الشرع ما يدل عليه.
وأيضا فقد ثبت وجوب العمرة، وإذا أتى بالإحرام من خارج الحرم برئت ذمته بلا خلاف، وليس على براءة ذمته إذا أحرم من غيره دليل.
وقال أبو الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والمزني: القران أفضل (1).
وكره عمرة المتعة، (2) وكره زيد بن صوحان (3) القران، وكذلك سليمان ابن ربيعة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة المحقة، وأيضا المتمتع يأتي بعمرة والحج، ولا يجوز أن يكون من يأتي بالحج وحده أفضل ممن يأتي بهما.
وأيضا ما روى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة "، (5) فتأسف على فوات إحرامه بالعمرة، ولا يتأسف إلا على ما هو أفضل.
وأيضا أنه إذا تمتع أتى بكل من النسكين في وقت شريف، وإذا أفرد أتى بالعمرة في غير أشهر الحج.
ص: 267
مسألة 34: عندنا أن النبي صلى اللّه عليه وآله حج قارنا على ما فسرناه في القران.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: حج قارنا على ما يفسرونه (1).
وقال الشافعي: حج النبي صلى اللّه عليه وآله مفردا (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا روى البراء بن عازب أن عليا عليه السلام وأبا موسى الأشعري أحرما باليمن وقالا: إهلالا كاهلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فلما قدم علي عليه السلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال له النبي صلى اللّه عليه وآله: " بما أهللت؟ " فقال له: إهلالا كاهلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال: " أما إني سقت الهدي وقرنت " (3).
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " (4).
فتأسف على فوات إحرامه بالعمرة، لأن في فوتها فوت التمتع الذي هو أفضل على على ما دللنا عليه.
فهذا الخبر يدل على ثلاثة أشياء:
أحدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وآله حج قارنا.
والثاني: إن القران ما قلناه دون ما قالوه.
ص: 268
والثالث: إن التمتع أفضل.
مسألة 35: دم التمتع نسك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه (1).
وقال الشافعي: هو دم جبران (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعال: " والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه لكم فيها خيرا فاذكروا اسم اللّه عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " (3).
فأخبر أنها من الشعائر، وأمرنا بالأكل، فلو كان دم جبران لما أمرنا بالأكل منها.
مسألة 36: المتمتع إذا أحرم بالحج من مكة لزمه دم بلا خلاف، فإن أتى الميقات وأحرم منه لم يسقط عنه الدم.
وقال جميع الفقهاء يسقط عنه الدم (4).
دليلنا: طريقة الاحتياط، فإنه إذا فعل ما قلناه برئت ذمته بلا خلاف، وإذا لم يفعل فيه خلاف.
وأيضا لا خلاف إن ما قلناه هو الذي أمر به النبي صلى اللّه عليه وآله أصحابه، وقال لهم: " من لم يسق هديا فليحل وليجعلها عمرة " (1) وروى ذلك جابر وغيره بلا خلاف في ذلك، وهذا صريح. ومن ادعى النسخ فعليه الدلالة، وما يدعى في هذا الباب خبر واحد لا ينسخ فيه المعلوم.
مسألة 38: إذا أتى بالإحرام في غير أشهر الحج، وفعل بقية أفعال العمرة في أشهر الحج لا يكون متمتعا، ولا يلزمه دم.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: لا يجب عليه الدم كما قلناه (2). والثاني:
يلزمه دم التمتع (3). وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال ابن سريج: إن جاوز الميقات محرما بعمرته في أشهر الحج لزمه دم، وأن جاوزه في غير أشهر الحج فلا دم عليه (5).
وهذا مثل قولنا، لأن ما قبل الميقات عندنا لا يعتد به، والمراعى أن يحرم من الميقات.
دليلنا: إجماع الفرقة على أن من شرط العمرة التي يتمتع بها أن تقع في أشهر الحج، فإذا فعل الإحرام في غيرها لم يفعل جميع العمرة فيها، فمن أجاز ذلك وواجب عليه الدم فعليه الدلالة.
مسألة: 39: إذا أحرم المتمتع من مكة بالحج، ومضى إلى الميقات، ثم مضى منه إلى عرفات لم يسقط عنه الدم.
ص: 270
وقال الشافعي: إن مضى إلى عرفات لزمه دم قولا واحدا (1).
وإن مضى إلى الميقات، ثم منه إلى عرفات على وجهين: أحدهما: لا دم (2) والثاني: عليه دم (3) دليلنا: قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " (4) ولم يفرق، فمن خصه فعليه الدلالة.
مسألة 40: من أحرم بالتمتع بعد الميقات ولا يمكنه الرجوع صحت متعته، ولزمه الدم.
وقال الشافعي في القديم: لا يلزمه دم التمتع، لكن يلزمه دم لأنه ترك الإحرام من الميقات (5). ولم يراع إمكان الرجوع ولا تعذره.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (6).
وأيضا قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " (7) ولم يفرق.
وأيضا فلا خلاف أنه إذا نوى، أن تمتعه صحيح، وإذا لم ينو لا دليل على صحته.
مسألة 42: فرض المكي ومن كان من حاضري المسجد الحرام القران والإفراد، فإن تمتع سقط عنه الفرض، ولم يلزمه دم.
وقال الشافعي: يصح تمتعه وقرانه وليس عليه دم (1).
وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع والقران، فإن خالف وتمتع فعليه دم المخالفة دون التمتع والقران (2).
دليلنا: قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - إلى قوله - ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " (3).
معناه أن الهدي لا يلزم إلا من لم يكن من حاضري المسجد، ويجب أن يكون قوله ذلك راجعا إلى الهدي لا إلى التمتع، لأنه يجري مجرى قول القائل: من دخل داري فله درهم، ذلك لمن لم يكن غاصبا في أن ذلك يرجع إلى الجزاء دون الشرط، ولو قلناه أنه راجع إليهما وقلنا إنه لا يصح منهم التمتع أصلا لكان قويا.
مسألة 43: من ليس من حاضري المسجد الحرام فرضه التمتع، فإن أفرد أو قرن مع الاختيار لم تبرأ ذمته، ولم تسقط حجة الإسلام.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا إنها تسقط.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4) وأيضا فذمته مشغولة بحجة الإسلام
ص: 272
بلا خلاف، وإذا تمتع برئت ذمته بلا خلاف، وإذا أفرد أو قرن فليس على براءة ذمته دليل.
مسألة 44: إذا أحرم بالحج متمتعا وجب عليه الدم إذا أهل بالحج، ويستقر في ذمته. وبه قال أبو حنيفة والشافعي (1).
وقال عطاء: لا يجب حتى يقف بعرفة (2).
وقال مالك: لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة (3).
دليلنا: قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " (4) فجعل الحج غاية لوجوب الهدي، والغاية وجود أول الحج دون إكماله يدل عليه قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (5) كانت الغاية دخول أول الليل دون إكماله كله.
وروى ابن عمر قال: تمتع الناس على عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله فقال عليه السلام: " من كان معه هدي فإذا أهل بالحج فليهد ومن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " (6) وهذا نص.
مسألة 45: لا يجوز إخراج الهدي قبل الإحرام بالحج.
وقال الشافعي: إذا أخرج ذلك، إذا تحلل من العمرة وقبل الإحرام بالحج على قولين، أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز (7).
دليلنا: إنه لا يجب عليه قبل الإحرام بالحج بلا خلاف بيننا، فإخراج ما لم
ص: 273
يجب عليه عما يجب عليه فيما بعد يحتاج إلى دليل.
مسألة 46: إذا أحرم بالحج وجب الهدي على ما قلناه، ولا يجوز له إخراجه إلى يوم النحر. وبه قال أبو حنيفة (1).
وقال الشافعي: إذا أحرم بالحج يجوز له إخراجه قولا واحدا (2)، ولا يجوز قبل الإحلال من العمرة قولا واحدا (3).
مسألة 47: لا يجوز الصيام بدل الهدي إلا بعد عدم الهدي، وعدم ثمنه، فإن عدمهما جاز له الصوم، وإن لم يحرم بالحج بأن يصوم يوما قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وقد روي رخصة في أول العشر (4).
وقال أبو حنيفة: إذا أهل بالعمرة يجوز له الصيام إذا عدم الهدي ودخل وقته، ولا يزال كذلك إلى يوم النحر (5).
وقال الشافعي: لا يجوز له الصيام إلا بعد الإحرام بالحج وعدم الهدي، ولا يجوز له الصوم قبل الإحرام بالحج قولا واحدا (6).
ووقت الاستحباب أن يكون آخره يوم التروية، ووقت الجواز أن يكون آخره يوم عرفة.
ص: 274
دليلنا: إنه لا خلاف بين الطائفة أن الواجب أن يصوم الثلاثة أيام التي ذكرناها مع الاختيار، وأن الإحرام بالحج ينبغي أن يكون يوم التروية، فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحج.
مسألة 48: لا يجوز صيام أيام التشريق في الحج بدل الهدي في أكثر الروايات (1)، وعند المحصلين من أصحابنا (2). وبه قال علي عليه السلام في الصحابة، وإليه ذهب أهل العراق، وبه قال الشافعي في الجديد (3).
وقال في القديم: يصومها، وبه قال ابن عمر، وعائشة، في الفقهاء مالك وأحمد وإسحاق (4).
وقد روي في بعض روايات أصحابنا ذلك (5).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن صوم أيام التشريق محرم لمن كان بمنى، وأخبارنا في هذا المعنى قد أوردناها في الكتاب المقدم ذكره (6).
وروي أبو هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله نهى عن صيام ستة أيام:
يوم الفطر، والأضحى، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك فيه من رمضان (7).
ص: 275
وروى عمر وابن سليم (1) عن أبيه قال: بينا نحن بمنى إذ أقبل علي بن أبي طالب عليه السلام على جمل أحمر ينادي: إن الرسول صلى اللّه عليه وآله قال:
إنها أيام أكل وشرب فلا يصومن أحد فيها (2).
وقد أوردنا في الكتاب ما فيه كفاية من الأخبار من طرقنا، وأنهم قالوا:
يصبح ليلة الحصبة صائما (3)، وهي بعد انقضاء أيام التشريق.
مسألة 49: لا يصوم التطوع ولا صوما واجبا عليه ولا صوما نذره فيها بل يقضيها ولا صوما له به عادة في أيام التشريق، هذا إذا كان بمنى، فأما إذا كان في غيره من البلدان فلا بأس أن يصومهن.
وقال أصحاب الشافعي في غير صوم التمتع لا يجوز صومه على حال (4).
وماله سبب كالنذر والقضاء أو وافق صوم يوم له به عادة، فعلى وجهين:
أحدهما: لا يجوز (5).
وقال أبو إسحاق: يجوز صوم له سبب (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن النهي عام عن صوم هذه الأيام (7)،
ص: 276
فوجب حملها على عمومها.
فأما الفرق بين منى وغيرها من الأمصار فالمرجع فيه ما روته الطائفة فقط.
مسألة 50: إذا تلبس بالصوم ثم وجد الهدي، لم يجب عليه أن يعود إليه، وله المضي فيه وله الرجوع إلى الهدي بل هو الأفضل، وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إن وجده وهو في صوم السبعة مثل ما قلناه (2). وإن كان في الثلاثة بطل صومه، وإن وجده بعد أن صام الثلاثة فإن كان ما أحل من إحرامه بطل صومه أيضا وعليه الهدي، وإن كان أحل من إحرامه فقد مضى صومه (3).
وهذا مذهبه في كل كفارة على الترتيب متى وجد الرقبة وهو في الصوم فعليه أن يعود إلى الرقبة (4).
وهكذا المتيمم إذا وجد الماء بعد تلبسه بالصلاة (5). ووافقه المزني في كل هذا (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا من عدم الهدي وثمنه كان فرضه الصوم، فإذا تلبس فقد دخل في فرضه، فمن أوجب عليه الانتقال إلى فرض فعليه الدلالة.
مسألة 51: إذا أحرم بالحج ولم يصم، ثم وجد الهدي، لم يجز له الصوم ووجب عليه الهدي.
ص: 277
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال مبنية على أقواله في الكفارات.
أحدها: إن الاعتبار بحال الوجوب، فعلى هذا فرضه الصيام فإن أهدى كان أفضل.
والثاني: الاعتبار بحال الأداء.
والثالث: بأغلظ الأحوال، فعلى الوجهين يجب عليه الهدي (1).
دليلنا: الإجماع على أنه إذا أهدى برئت ذمته، وليس على قول من قال:
أنه إذا صام برئت ذمته دليل.
مسألة 52: قد بينا أنه إن يصم الثلاثة أيام التي قبل النحر، فلا يصوم أيام التشريق ويصوم بعدها، ويكون أداء إلى أن يهل المحرم، فإذا أهل المحرم فإن وقت الصوم قد فات، ووجب عليه الهدي واستقر في ذمته.
وقال أبو حنيفة: إذا لم يصم إلى أن يجئ يوم النحر سقط الصوم، فلا يفعل أبدا، ويستقر الهدي في ذمته (2).
وقال الشافعي في قوله في القديم: يصوم أيام التشريق ويكون أداء، وبعدها يصومها ويكون قضاء (3).
وعلى قوله في الجديد: لا يصوم أيام التشريق ويصوم بعدها ويكون قضاء (4).
وقال ابن سريج: فيها قول آخر مثل قول أبي حنيفة (5).
ص: 278
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه يصوم بعد أيام التشريق ولم يقولوا بأنه يكون قضاء، وتسميته بأنه قضاء يحتاج إلى دليل.
فأما استقرار الهدي في ذمته بعد النحر فيحتاج إلى دلالة، واستقراره بعد المحرم فعليه إجماع الفرقة.
وأيضا قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج " (1) وروي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: يعني في ذي الحجة (2)، فدل على ما قلناه، لأن هذا قد فاته صوم ذي الحجة.
مسألة 53: صوم السبعة أيام لا يجوز إلا بعد أن يرجع إلى أهله، أو يصير بمقدار مسير الناس إلى أهله، أو يمضي عليه شهر ثم يصوم بعده.
وقال أبو حنيفة: إذا فرغ من أفعال الحج جاز له صوم السبعة قبل أن يأخذ في السير (3).
وللشافعي فيه قولان:
قال في الحرملة ونقله المزني: أن المراد هو الرجوع إلى أهله (4) كما قلناه.
وقال في الإملاء: هذا إذا أخذ في السير خارج مكة بعد فراغه من أفعال الحج (5).
وفي أصحابه من يجعل مثل قول أبي حنيفة القول الثاني (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم فصلوا ما قلناه وبينوه، وقد أوردنا ما
ص: 279
روى عنهم في الكتاب المقدم ذكره (1).
ويدل على ذلك قوله تعالى: " وسبعة إذا رجعتم " (2) فلا يخلو من أن يريد رجوعا عن أفعال الحج، أو عن وقته، أو الأخذ في السير أو الرجوع إلى وطنه.
فبطل أن يريد عن أفعاله لأنه إنما يقال فيه: فرغ منها ولا يقال: رجع عنها.
وبطل أن يريد الوقت لأنه لا يجوز أن يقال: رجع عن زمان كذا.
وبطل أن يريد الأخذ في المسير لأنه ليس بالرجوع، والرجوع في الحقيقة الرجوع إلى موضعه.
ولأن السفر لا يجوز فيه الصيام عندنا على ما بيناه في كتاب الصوم، فلم يبق إلا أراد الرجوع إلى الوطن.
وروى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من لم يجد الهدي فليصم ثلاثة أيام وسبعة إذا رجع إلى أهله " (3) وهذا نص.
مسألة 54: إذا لم يصم في مكة ولا في طريقه حتى عاد إلى وطنه، صام الثلاثة متتابعة والسبعة مخير فيها، ويجوز أن يصوم العشر متتابعة.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (4).
والثاني: أنه يفصل بين الثلاثة والسبعة (5).
وكيف يفصل؟ له فيه خمسة أقوال، أحدهما: أربعة أيام وقدر المسافة.
والثاني: أربعة أيام. والثالث: يفصل قدر المسافة. والرابع: لا يفصل بينهما،
ص: 280
والخامس: يفصل بينهما بيوم (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإيجاب الفصل بينهما يحتاج إلى دليل، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 55: يستحب للمتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية بعد الزوال. وبه قال الشافعي (2)، سواء كان واجدا للهدي أو عادما له.
وقال مالك: المستحب أن يحرم إذا أهل ذو الحجة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وقد ذكرنا أخبارهم في ذلك (4).
مسألة 56: إذا أفرد الحج عن نفسه، فلما فرغ من الحج خرج إلى أدنى الحرم فاعتمر لنفسه ولم يعد إلى الميقات لا دم عليه، وكذا من تمتع ثم اعتمر بعد ذلك من أدنى الحرم.
وكذلك إذا أفرد عن غيره أو تمتع أو قرن ثم اعتمر لنفسه من أدنى الحل كل هذا لا دم لتركه الإحرام من الميقات بلا خلاف.
وأما إن أفرد غيره ثم اعتمر لنفسه من خارج الحرم دون الحل، قال الشافعي في القديم: عليه دم (5).
وقال أصحابه: على هذا لو اعتمر من غيره ثم حج عن نفسه، فأحرم بالحج من جوف مكة فعلية دم لتركه الإحرام من الميقات، وعندنا أنه لا دم عليه (6).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فمن ألزمها شيئا احتاج إلى دليل.
ص: 281
مسألة 57: إذا أكمل المتمتع أفعال العمرة، تحلل منها إذا لم يكن ساق الهدي، فإن كان لا يمكنه التحلل ولا يصح له التمتع ويكون قارنا على مذهبنا في القران.
وقال الشافعي: إذا فعل أفعال العمرة تحلل، سواء ساق الهدي أو لم يسق (1).
وقال أبو حنيفة: إن لم يكن معه هدي لم يحل من العمرة، لكنه يحرم بالحج ولا يحل حتى يحل منهما (2).
دليلنا: إجماع الفرقة. وأيضا لا خلاف أن النبي صلى اللّه عليه وآله لم يحل، وقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي " (3).
وهذا يدل على بطلان مذهب الشافعي في قوله: إن له أن يحل على كل حال، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله جعل العلة في ترك التحلل سياق الهدي ويدل على بطلان مذهب أبي حنيفة في قوله: أن يحرم بالحج، وإن لم يحل لأنه لو جاز ذلك لفعله النبي صلى اللّه عليه السلام وآله، وقد علمنا أنه لم يفعل، وإنما مضى على إحرامه الأول.
وروت حفصة قالت: قلت يا رسول اللّه ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " (4).
ص: 282
مسألة 58: المواقيت الأربعة لا خلاف فيها، وهي: قرن المنازل، ويلملم - وقيل: المسلم - والجحفة، وذو الحليفة. فأما ذات عرق، فهو آخر ميقات أهل العراق، لأن أوله المسلخ، وأوسطه غمرة، وآخره ذات عرق.
وعندنا أن ذلك منصوص عليه من النبي صلى اللّه عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالإجماع من الفرقة وأخبارهم (1).
وأما الفقهاء، فقد اختلفوا فيه:
فذهب طاووس، وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وابن سيرين إلى أنه ثبت قياسا (2).
فقال طاووس: لم يوقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل المشرق، فوقت الناس ذات عرق (3).
وأما أبو الشعثاء فقال: لم يوقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لأهل المشرق شيئا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق (4).
وابن سيرين قال: وقت عمر بن الخطاب ذات عرق لأهل العراق (5).
وقال عطاء: ما ثبت ذات عرق إلا بالنص، وقال: كذلك سمعنا أنه وقت ذات عرق أو العقيق لأهل المشرق (6).
وقال الشافعي في الأم: لا أحسبه إلا كما قال طاووس (7).
ص: 283
وقال أصحابه: ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وآله نص في ذلك (1).
دليلنا: ما قلناه من إجماع الفرقة وأخبارهم.
وأيضا روى القاسم بن محمد، عن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وقت لأهل العراق ذات عرق (2).
وروى أبو الزبير، عن جابر، عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق (3).
وقال الشافعي: الإهلال لأهل المشرق من العقيق كان أحب إلي (4) وكذلك قال أصحابه (5).
مسألة 59: من جاوز الميقات مريدا لغير النسك، ثم تجدد له إحرام بنسك رجع إلى الميقات مع الإمكان، وإلا أحرم من موضعه.
وقال الشافعي: يحرم من موضعه (6) ولم يفصل.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا توقيت النبي صلى اللّه عليه وآله المواقيت يدل على ذلك (7)، لأنه لو جاز الإحرام من موضعه لم يكن لذلك معنى.
ص: 284
وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، لأنه إذا فعل ما قلناه صح نسكه بلا خلاف، وإذا لم يفعل ففيه الخلاف.
مسألة 60: المجاور بمكة إذا أراد الحج أو العمرة خرج إلى ميقات أهله إن أمكنه، وإن لم يمكنه فمن خارج الحرم.
وقال الشافعي: يحرم من موضعه (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 61: من جاوز الميقات محلا، فأحرم من موضعه وعاد إلى الميقات قبل التلبس بشئ من أفعال النسك أو بعده لا دم عليه.
وقال الشافعي: إن كان عوده بعد التلبس بشئ من أفعاله، مثل أن يكون طاف طواف الورود، وجب عليه دم. وإن كان قبل التلبس لا دم عليه (2). وبه قال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وأبو يوسف، ومحمد (3).
وقال مالك، وزفر، يستفز الدم عليه متى أحرم دونه، ولا ينفعه رجوعه (4).
وقال أبو حنيفة: إن عاد إليه ولبى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه دم (5).
ص: 285
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وليس على وجوب وما قالوه دليل.
مسألة 62: لا يجوز الإحرام قبل الميقات، فإن أحرم لم ينعقد إحرامه إلا أن يكون نذر وذلك.
وقال أبو حنيفة: الأفضل أن يحرم قبل الميقات (1).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل قول أبي حنيفة (2).
والثاني: الأفضل من الميقات إلا أنه ينعقد قبله على كل حال (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فالاحرام من الميقات مقطوع على صحته وانعقاده، وليس على انعقاده قبل الميقات دليل، والأصل براءة الذمة.
وأيضا لا خلاف أن النبي صلى اللّه عليه وآله أحرم من الميقات، ولو كان يصح قبله أو كان فيه فضل لما تركه عليه الصلاة والسلام.
مسألة 63: يستحب الغسل عند الإحرام، وعند دخول مكة، وعند دخول المسجد الحرام، وعند دخول الكعبة، وعند الطواف، والوقوف بعرفة، والوقوف بالمشعر.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: في سبع مواضع: للإحرام، ولدخول مكة، وللوقوف بعرفة، وللمبيت بالمزدلفة، ولرمي الجمار الثلاث، ولا يغسل لرمي جمرة العقبة (4).
ص: 286
وقال في القديم: لتسع مواضع هذه السبع مواضع، ولطواف الزيارة، وطواف الوداع (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما ذكرناه مستحب بلا خلاف، والزائد عليه ليس عليه دليل.
مسألة 64: يكره أن يتطيب للإحرام قبل الإحرام إذا كانت تبقى رائحته إلى بعد الإحرام.
وقال الشافعي: يستحب أن يتطيب للإحرام، سواء كانت تبقى رائحته وعينه مثل الغالية والمسك، أو لا تبقى له عين وإنما تبقى له الرائحة كالبخور والعود والند (2). وبه قال عبد اللّه بن الزبير، وابن عباس، ومعاوية، وسعد بن أبي وقاص، وأم حبيبة (3).
وعائشة، وأبو حنيفة، وأبو يوسف (4).
وكان محمد معهما حتى حج الرشيد (5)، فرأى الناس كلهم متطيبين
ص: 287
فقال: هذا شنيع، فامتنع منه (1).
وقال مالك مثل قولنا إنه يكره، فإن فعله فعليه أن يغتسل، وإن لم يفعل وأحرم على ما هو عليه فعليه الفدية (2)، وبه قال عطاء (3)، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا أجمعت الأمة على أنه لا يجوز للمحرم الطيب، ولم يفصلوا بين استئنافه واستدامته، والنهي متناول للحالين، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك.
وأما أخبارنا فهي أكثر من أن تحصى قد ذكرناها في الكتاب المقدم ذكره (5).
وروى صفوان بن يعلى بن منية (6) عن أبيه (7) قال: كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالجعرانة (8) فأتاه رجل وعليه مقطعة - يعني جبة -
ص: 288
وهو متضمخ بالخلوق - وفي بعضها وعليه ردع من زعفران - فقال: يا رسول اللّه إني أحرمت بالعمرة، وهذه علي؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: ما كنت تصنع في حجك؟ قال: كنت أنزع هذه المقطعة فأغسل هذا الخلوق، فقال له رسول اللّه: فما كنت صانعا في حجتك فاصنعه في عمرتك (1) وهذا أمر يقتضي الوجوب.
مسألة 65: يجوز أن يلبي عقيب إحرامه، والأفضل إذا علت راحلته البيداء أن يلبي. وبه قال مالك (2).
وللشافعي فيه قولان:
قال في الأم والإملاء: الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا، وإذا أخذ في السير إن كان راجلا (3).
وقال في القديم: أن يهل خلف الصلاة نافلة كانت أو فريضة (4). وبه قال أبو حنيفة (5).
دليلنا: ما ذكرناه من الأخبار في الكتاب المقدم ذكره (6) فأما الراجل فالأفضل أن يلبي خلف صلاته كما قال أبو حنيفة والشافعي في القديم.
مسألة 66: لا ينعقد الإحرام بمجرد النية، بل لا بد أن يضاف إليها التلبية
ص: 289
والسوق، أو الأشعار، أو التقليد.
وقال أبو حنيفة: لا ينعقد إلا بالتلبية أو سوق الهدي (1).
وقال الشافعي: يكفي مجرد النية (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا لا خلاف أن ما ذكرناه ينعقد به الإحرام، وما ذكروه ليس عليه دليل.
مسألة 67: إذا أحرم كإحرام فلان وتعين له ما أحرم به عمل عليه، وإن لم يعلم حج متمتعا.
وقال الشافعي: يحج قارنا (3) على ما يقولون في القران.
دليلنا: إنا قد بينا ما يدعونه من القران لا يجوز، فإذا بطل ذلك فالاحتياط يقتضي أن يأتي بالحج متمتعا، لأنه يأتي بالحج والعمرة وتبرأ ذمته بيقين بلا خلاف.
مسألة 68: إذا أحرم فنسي، فإن عرف أنه أحرم بشيئين ولم يعلم ما هما جعلهما عمرة، وإن نسي فلم يعلم بماذا أحرم منهما، أو لم يعلم هل بهما أو بأحدهما، مثل ذلك جعله عمرة ويتمتع.
وقال الشافعي: إن أحرم بشيئين ولم يعلم ما هما فهو قارن (4) - على ما يفسرونه - وإن نسي فلم يعلم بماذا أحرم منهما، أو لم يعلم هل أهل بهما أو
ص: 290
بأحدهما ففيها قولان:
قال في الأم والإملاء: لا يجوز له التحري وعليه أن يقرن (1) وبه قال أبو حنيفة (2).
وقال في القديم: من لبى فنسي ما نواه فأحب إلي أن يقرن.
فعلى هذا القول قال أصحابه: يتحرى (3).
دليلنا: إنه لا يخلو أن يكون إحرامه بالحج أو العمرة، فإن كان بالحج فقد بينا أنه يجوز له أن يفسخه إلى عمرة يتمتع بها، وإن كان بالعمرة فقد صحت العمرة على الوجهين، وإذا أحرم بالعمرة لا يمكنه أن يجعلها حجة مع القدرة على إتيان أفعال العمرة، فلهذا قلنا: يجعلها عمرة على كل حال.
مسألة 69: التلبية فريضة، ورفع الصوت بها سنة، لم أجد أحدا ذكر كونها فرضا.
وقال الشافعي: إنها سنة (4)، ولم يذكروا خلافا، وكلهم قالوا: رفع الصوت بها سنة (5). وبه قال في الصحابة علي عليه السلام على ما حكوه عنه، وابن عمر، وعائشة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق (6).
ص: 291
دليلنا: إجماع الفرقة والأخبار الواردة المتضمنة للأمر بالتلبية (1)، وظاهرها يقتضي الوجوب، وطريقة الاحتياط تقتضيه.
وروى خلاد بن السائب (2) عن أبيه (3) أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" أتاني جبرئيل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال " (4) وظاهر الأمر يقتضي الوجوب، ولو خلينا وظاهره لقلنا إن رفع الصوت أيضا واجب، لكن تركناه بدليل.
مسألة 70: لا يلبي في مسجد عرفة. وبه قال مالك (5).
وقال الشافعي: يستحب ذلك (6).
دليلنا: إن الحاج عليه أن يقطع التلبية يوم عرفة قبل الغروب، فإن حصل بعرفات بعدها هناك لم يجز له التلبية، وإن حصل قبل الزوال جاز له ذلك لعموم الأخبار (7).
مسألة 71: لا يلبي في حال الطواف لا خفيا ولا معلنا.
وللشافعي فيه قولان، قال في الأم: لا يلبي. وقال في غير الأم: له ذلك لكنه يخفض صوته. وبه قال ابن عباس (8).
ص: 292
دليلنا: إجماع الفرقة على أنه يجب على المتمتع أن يقطع التلبية عند مشاهدة بيوت مكة.
وما روي عنهم عليهم السلام من قولهم: إن هؤلاء يطوفون ويسعون ويلبون، وكلما طافوا أحلوا، وكلما لبوا عقدوا، فيخرجون لا محلين ولا محرمين (1).
وأيضا وري عن ابن عمر أنه قال: لا يلبي الطائف (2).
وقال سفيان ما رأيت أحدا يلبي وهو يطوف إلا عطاء بن السائب (3) (4).
فالدلالة من قوله أنه إجماع، لأنه لا مخالف له.
مسألة 72: التلبية الأربعة لا خلاف في جواز فعلها على خلاف بيننا و بينهم في كونها فرضا أو نفلا، وما زاد عليها عندنا مستحب.
وقال الشافعي: ما زاد عليها مباح، وليس بمستحب (5).
وحكى أصحاب أبي حنيفة عنه أنه قال: إنها مكروهة (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، فأما الألفاظ المخصوصة التي رواه أصحابنا من قوله:
" لبيك ذا المعارج لبيك " وما بعدها (7) فلم يعرفها أحد من الفقهاء.
ص: 293
مسألة 73: لا يجوز للمرأة لبس القفازين، وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وابن عمر، وعائشة، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، والنخعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق (1).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، وهو الأقوى (2).
والآخر: لها ذلك (3). وبه قال أبو حنيفة، والثوري (4). وبه قال سعد بن أبي وقاص، فإنه أمر بناته أن يلبسن القفازين (5).
دليلنا: الإجماع على أنها إذا لم تلبس يصح إحرامها ويكمل، ولا دليل على جواز لبس ذلك لها في حال الإحرام، فطريقة الاحتياط تقتضي تركهما.
وروى الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين " (6) وهذا نص وعليه إجماع الفرقة، لا يختلفون فيه.
ص: 294
مسألة 74: يكره للمرأة أن تختضب للإحرام قصدا به الزينة، فإن قصدت به السنة لم تكن به بأس.
وقال الشافعي: يستحب ذلك (1)، ولم يفصل.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وطريقة الاحتياط تقتضيه، لأن مع تركه يتحقق كمال الإحرام، وليس على استحبابه مطلقا دليل.
مسألة 75: من لا يجد النعلين، لبس الخفين، وقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين على جهتهما. وبه قال عمر، وابن عمر، والنخعي، وعروة بن الزبير، والشافعي، وأبو حنيفة وعليه أهل العراق (3).
وقال عطاء وسعيد بن مسلم: القداح يلبسهما غير مقطوعين، ولا شئ عليه (4) وبه قال أحمد بن حنبل (5) وقد رواه أيضا أصحابنا (6) وهو الأظهر.
دليلنا: أنه إذا لم يلبسهما غير مقطوعين لا خلاف في كمال إحرامه، وإذا
ص: 295
لبسهما كما هما فيه الخلاف.
وروى ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين " (1) وهذا نص.
وأما الرواية الأخرى فقد ذكرناها في الكتاب المقدم ذكره (2).
مسألة 76: من كان معه نعلان وشمشك (3) لا يجوز له أن يلبس الشمشك.
وقال أبو حنيفة: هو بالخيار يلبس أيهما شاء (4) وبه قال بعض أصحاب الشافعي (5) وقال في الأم: لا يلبسهما، فإن فعل افتدى (6).
دليلنا: إنه إذا لم يلبسهما كمل إحرامه بلا خلاف، وإذا لبسهما ففي كماله خلاف، فالاحتياط يقتضي تركهما.
دليلنا: طريقة الاحتياط، فإنه إذا كفر برئت ذمته بيقين، وإذا لم يفد ففيه خلاف.
وأيضا ما روي عنهم عليهم السلام من قولهم: " كل من لبس ما لا يحل له لبسه، أو أكل طعاما لا يحل له فعليه فدية " (1) وذلك داخل فيه.
مسألة 78: من لا يجد ميزرا ووجد سراويلا لبسه، ولا فدية عليه، ولا يلزمه فتقه. وبه قال ابن عباس، والشافعي، والثوري، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور (2).
وقال مالك: لا يفعل ذلك، فإن فعل فعليه الفداء (3).
وقال أبو حنيفة: لا يلبسه بحال، فإذا عدم الأزار لبسه مفتوقا، فإن لبسه غير مفتوق فعليه الفداء (4) وربما ذكر أصحابه جواز لبسه عند عدم الأزار، وإذا لبسه فعليه الفداء (5) دليلنا: ما ذكرناه في الكتاب المذكور من الأخبار، وأنهم قالوا لا بأس بلبسه (6).
ولم يذكروا فتقه، ولا وجوب الفدية.
وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 79: من لبس القباء، فإن أدخل كتفيه فيه ولم يدخل يديه في كميه
ص: 297
ولا يلبسه مقلوبا كان عليه الفداء. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا شئ عليه (2).
ومتى توشح به كالرداء لا شئ عليه بلا خلاف.
دليلنا: طريقة الاحتياط، والقطع على تمام الإحرام وصحة نسكه إذا افتدى، وليس على قول من أسقطها دليل.
وروى ابن عمر، عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " لا يلبس المحرم القميص ولا الأقبية " (3).
مسألة 80: لا يجوز للمحرم لبس السواد. ولم يكره أحد من الفقهاء ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 81: يجب على المحرم كشف رأسه بلا خلاف، وكشف وجهه غير واجب. وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وجابر، ومروان بن الحكم (4) ولا مخالف لهم فيه. وبه قال الشافعي، والثوري، وأحمد وإسحاق (5).
ص: 298
وقال أبو حنيفة ومالك: يجب عليه كشف وجهه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل الإباحة، فمن ادعى الحظر فعليه الدلالة.
مسألة 82: إذا حمل على رأسه مكتلا أو غيره لزمه الفداء. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه، وبه قال عطاء (3).
دليلنا: عموم ما روي فيمن غطى رأسه أن عليه الفدية (4) ولم يفصلوا.
مسألة 83: إذا لبس المحرم، ثم صبر ساعة، ثم لبس شيئا آخر، ثم لبس بعد ساعة، فعليه عن كل لبسة كفارة، سواء كفر عن الأولى أو لم يكفر، وكذلك الحكم في الطيب.
وقال الشافعي: إن كان كفر عن الأولى لزمته الكفارة ثانية قولا واحدا (5) وإن لم يكفر ففيها قولان:
قال في القديم: يتداخل، فعليه كفارة واحدة (6)، وبه قال محمد (7).
ص: 299
وقال في الأم والإملاء مثل ما قلناه (1). وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف (2).
دليلنا: إنه لا خلاف أنه يلزمه بكل لبسة كفارة، فمن ادعى تداخلها فعليه الدلالة. وطريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه، لأن معه تبرأ ذمته بيقين.
مسألة 84: إذا وطأ المحرم ناسيا، أو لبس أو تطيب ناسيا، لم تلزمه الكفارة. وبه قال الشافعي، وعطاء بن أبي رباح، والثوري، وأحمد، وإسحاق (3).
وقال أبو حنيفة ومالك: عليه الفدية (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، وطريقة براءة الذمة.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " رفع عن أمتي ثلاث:
النسيان والخطأ وما استكرهوا عليه " (6).
مسألة 85: إذا لبس ناسيا في حال إحرامه، وجب عليه نزعه في الحال إذا ذكر، فإن استدام ذلك لزمه الفداء، وإذا أراد نزعه فلا ينزعه من رأسه بل يشقه من أسفله.
ص: 300
وقال الشافعي: ينزعه من رأسه (1).
وحكي عن بعض التابعين أنه قال: ينزعه من أسفل بأن يشقه حتى لا يغطي (2). وهذا مثل ما قلناه.
وإن كان لبسه قبل الإحرام نزعه من رأسه.
دليلنا: طريقة الاحتياط، فإنه متى فعل كما قلناه كمل إحرامه بلا خلاف، وإذا لم يفعل ففيه الخلاف، وأخبارنا صريحة بذلك مفصلة ذكرناها في الكتاب الكبير (3).
مسألة 86: إذا لبس أو تطيب مع الذكر فعليه الفدية بنفس الفعل، سواء استدامه أو لم يستدمه، حتى لو لبس ثم نزع عقيبه أو تطيب ثم غسل عقيبه. وبه قال الشافعي (4).
وكان أبو حنيفة يقول في القديم: إن استدام اللباس أكثر النهار ففيه الفدية، وإن كان أقل فلا فدية، وقال: أخيرا إن استدامه طول النهار ففيه الفدية، وإن كان أقل من ذلك فلا فدية فيه، ولكن فيه الصدقة (5). ووافقنا في الطيب (6).
وعن أبي يوسف روايتان مثل قول أبي حنيفة (7).
دليلنا: عموم الأخبار التي تضمنت الفدية (8)، ولم يفرقوا فيها بين من استدامه أو لم يستدمه، وطريقة الاحتياط تقتضيه، لأنه إذا أفدى برئت ذمته بيقين، وإذا لم يفد فيه الخلاف.
ص: 301
وأيضا قوله تعالى: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو نسك " (1) ومعناه من كان منكم مريضا فلبس أو طيب أو حلق بلا خلاف، فعلق الفدية بنفس الفعل دون الاستدامة.
مسألة 87: من طيب كل العضو أو بعضه فعليه الفداء، وإن ستر بعض رأسه فعليه الفدية، وإن وجد نعلين بعد لبس الخفين المقطوعين وجب عليه نزع الخفين ولبسهما، فإن لم يفعل فعليه الفداء وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إن تطيب جميع العضو، أو لبس في العضو كله كاليد والرجل فيه الفدية، وإن لبس في بعضه أو طيب بعضه فلا فدية وتجب الصدقة إلا في الرأس فإنه إذا أستر بعضه ففيه الفدية، فأما لبس الخفين المقطوعين أسفل من الكعبين فلا فدية عنه، فإنه لا يستر جميع العضو (3).
دليلنا: عموم الأخبار (4)، والآية، وطريقة الاحتياط.
مسألة 88: ما عدا المسك، والعنبر، والكافور، والزعفران، والورس، والعود عندنا لا يتعلق به الكفارة إذا استعمله المحرم.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، فأوجبوا في استعمال ما عداها الكفارة (5).
والأخبار التي ذكرناها ليس فيها خلاف.
ص: 302
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (1)، وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دلالة.
مسألة 89: الريحان الفارسي إذا شمه، لا يتعلق به الفدية.
واختلف أصحاب الشافعي، فمنهم من قال مثل ما قلناه، وبه قال عطاء وعثمان وابن عباس (2).
وقال آخرون: هو طيب، وبه قال ابن عمر وجابر (3).
دليلنا: إن الأصل الإباحة، وبراءة الذمة، فمن حظره أو أوجب به كفارة فعليه الدلالة.
وكذلك الخلاف في النرجس، والمرز نجوش، واللفاح، والبرم، والبنفسج،
مسألة 90: الدهن على ضربين: طيب وغير طيب فالطيب هو: البنفسج، والورد، والزنبق، والخيري، والنيلوفر، والبان وما في معناها لا خلاف أن فيه. الفدية على أي وجه استعمله.
والضرب الثاني ليس بطيب مثل الشيرج، والزيت، والسليخ من ألبان، والزبد، والسمن لا يجوز عندنا الأدهان به على وجه، ويجوز أكله بلا خلاف.
فأما وجوب الكفارة بالأدهان بما قلناه فلست أعرف فيه نصا، والأصل براءة الذمة.
واختلف الناس على أربعة مذاهب:
ص: 303
فقال أبو حنيفة: فيه الفدية على كل حال (1).
وقال الحسن بن صالح بن حي: لا فدية فيه بحال (2).
وقال الشافعي: فيه الفدية في الرأس واللحية، ولا فديه فيما عداهما (3).
وقال مالك: إن دهن به ظاهر بدنه ففيه الفدية، وإن كان في بواطن بدنه فلا فدية (4).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب فيه الفدية فعليه الدلالة.
وروى ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله إدهن وهو محرم بزيت (5).
مسألة 91: من أكل طعاما فيه شئ من الطيب، فعليه الفدية على جميع الأحوال.
وقال مالك: إن مسته النار فلا فدية (6).
وقال الشافعي: إن كانت أوصافه باقية من طعم أو لون أو رائحة فعليه الفدية، وإن بقي له وصف ومعه رائحة ففيه الفدية قولا واحدا (7).
وإن لم يبق غير لونه وما بقي ريح ولا طعم فيه، قولان: أحدهما مثل ما
ص: 304
قلناه. والثاني: لا فديه عليه (1).
دليلنا: عموم الأخبار في أن من أكل طعاما لا يحل له أكله وجبت عليه الفدية (2). وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه.
مسألة 92: العصفر والحناء ليسا من الطيب، فإن لبس المعصفر كان مكروها وليس عليه فدية. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: هما طيبان، فمن لبس المعصفر وكان مفدما (4) مشعبا فعليه الفدية، وإلا فلا فدية عليه (5).
دليلنا: إن الأصل الإباحة وبراءة الذمة، فمن حظرها أو أوجب الفدية باستعمالهما فعليه الدلالة. والأخبار صريحة عن أهل البيت عليهم السلام بأن ذلك ليس من الطيب (6).
وروي أن عمر بن الخطاب أبصر على عبد اللّه بن جعفر ثوبين مضرجين وهو محرم، فقال: ما هذه الثياب؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخال أحدا يعلمنا بالسنة، فسكت عمر (7).
ص: 305
مسألة 93: إذا مس طيبا ذاكرا لإحرامه، عالما بالتحريم، رطبا، كالغالية والمسك والكافور إذا كان مبلولا بماء ورد أو دهن طيب، فعليه الفدية في أي موضع كان من دية، ولو بعقبه. وكذلك لو سعط به أو حقن به.
وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة لو ابتلع الطيب فلا فدية (2).
وعندنا وعند الشافعي ظاهر البدن وباطنه سواء، وكذلك إن حشي جرحه بطيب فداواه.
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت فيمن استعمل الطيب أن عليه الفدية (3) وهي عامة في جميع المواضع، وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه، لأنه إذا كفر برئت ذمته بيقين، وإن لم يكفر ففيه الخلاف.
مسألة 94: وإن كان الطيب يابسا مسحوقا، فإن علق بيده منه شئ فعليه الفدية، وإن لم يعلق بحال فلا فدية، وإن كان يابسا غير مسحوق كالعود والعنبر والكافور فإن علق بيده رائحته فعليه الفدية.
وقال الشافعي: إن علق به رائحته فيها قولان (4).
دليلنا: عموم الأخبار (5) وطريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 95: إذا مس خلوق الكعبة لا فدية عليه، عالما كان أو جاهلا، عامدا أو ناسيا.
ص: 306
وقال الشافعي: إن جهل أنه طيب فبان طيبا رطبا، فإن غسله في الحال وإلا فعليه الفدية، وإن علمها طيبا فوضع يده عليه يعتقده يابسا فبان رطبا ففيها قولان (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2) فإن هذه المسألة منصوصة لهم، وأيضا الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 96: يكره للمحرم القعود عند العطار الذي يباشر العطر، وإن جاز في زقاق العطارين أمسك على أنفه.
وقال الشافعي: لا بأس بذلك، وأن يجلس عند رجل متطيب عند الكعبة، وفي جوفها وهي تجمر إذا لم يقصد ذلك، وإن قصد الإستشمام كره له ذلك، إلا الجلوس عند البيت وفي وجوفه، وإن شم هناك طيبا فإنه لا يكره (3).
دليلنا: إجماع الفرقة فإنها منصوصة لهم (4)، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك.
مسألة 98: لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه كله ولا بعضه مع الاختيار بلا خلاف، فإن حلق لعذر جاز وعليه الفدية، وحد ما يلزم فيه الفدية ما يقع عليه اسم الحلق.
وحد الشافعي ذلك بثلاث شعرات فصاعدا إلى جميع الرأس (1).
وقال أبو حنيفة بحلق ربع الرأس فصاعدا، فإن كان أقل من الربع فعليه الصدقة (2).
دليلنا: قوله تعالى: " ولا تحلقوا رءوسكم " 03) وهذا نهي عما يقع عليه اسم الحلق، ثم قال: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية " (3) ومعناه فحلق " ففدية " فما يقع عليه هذا الاسم يجب في الفدية.
وهكذا في الأظفار الثلاثة، وفي ثلاث حصيات، فإن في الثلاث دما قولا واحدا، فما دونه فيه الأقوال الثلاثة (1).
وقال مجاهد: لا شئ عليه (2).
وعن مالك روايتان كقول الشافعي، وقول مجاهد (3).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ولا يتناوله اسم الحلق، وأما الصدقة فطريق وجوبها الاحتياط.
وما روي عنهم عليهم السلام من أن من مس شعر رأسه ولحيته فسقط شئ من شعر رأسه ولحيته يتصدق بشئ (4) يتناول هذا الموضع.
مسألة 100: من قلم أظفار يديه لزمته فدية، فإن قلم دون ذلك لزمه عن كل أصبع مد من طعام.
وقال أبو حنيفة: إن قلم خمسة أصابع من يد واحدة لزمته الفدية (5) ورواه أيضا أصحابنا - وإن قلم أقل من ذلك من يد أو خمسة من اليدين فعليه الصدقة (6).
وقال الشافعي: إن قلم ثلاث أصابع لزمته فدية، سواء كانت من يد واحدة أو من اليدين، وإن قلم الأظفار كلها لزمته أيضا فدية واحدة إذا كان في مجلس واحد، وإن كان في مجالس لزمه عن كل ثلاثة فدية.
وهكذا قوله في شعر رأسه: كلما حلق ثلاث شعرات لزمته فدية، وإن حلق
ص: 309
جميع الرأس لزمته فدية واحدة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2) وأيضا ما قلناه مجمع على وجوب تعلق الدم به، وما قالوه ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة، وأخبار الخاصة في ذلك قد ذكرناها.
مسألة 101: إذا قلم ظفرا واحدا تصدق بمد من طعام.
وللشافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدهما مثل ما قلناه. والثاني: فيه درهم.
والثالث: فيه ثلث شاة (3).
وإن قلم ثلاثة أظافير في ثلاثة أوقات ففي كل واحد ثلاثة أقوال، ولا يقول: إذا تكاملت ثلاثة فيها دم (4).
وفي أصحابه من قال: دم، وليس هو المذهب عندهم (5).
دليلنا: إجماع الفرقة على ما قلناه وأخبارهم (6)، وطريقة الاحتياط في اعتبار المد، وطريقة براءة الذمة في المنع من إيجاب شاة، أو ثلث شاة أو درهم كذلك.
ص: 310
مسألة 102: من حلق أو قلم ناسيا لم يلزمه الفداء، والصيد يلزمه فداءه ناسيا كان أو عامدا، فأما إذا فعل ذلك جاهلا لزمه الفداء على كل حال.
وقال الشافعي: يلزمه الفداء عالما كان أو جاهلا، ناسيا كان أو ذكرا، وإن زال عقله بجنون أو إغماء ففيه قولان (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وبراءة الذمة.
وما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله من قوله: " رفع عن أمتي ثلاث:
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2).
فأما الصيد فلا خلاف فيه أنه يلزمه الفداء وإن كان ناسيا.
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 104: المحل لا يجوز له أن يحلق رأس المحرم بحال إذا كان عالما بحاله، لا بإذنه ولا بغير إذنه، فإن فعل لم يلزمه الفداء.
وقال الشافعي: إن حلقه بأمره لزم الآخر الفدية، ولا تلزم الحالق. وإن حلقه مكرها أو نائما ففيه قولان:
أحدهما: على الحالق الفدية، ولا شئ على المحرم (1)، وبه قال مالك (2).
والآخر: أنه يلزم المحرم الفدية، وعلى الحالق صدقة، والصدقة فيه نصف صاع (3).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 105: إذا حلق محرم رأس محرم لا يلزمه شئ، وإن كان قد فعل قبيحا.
وقال أبو حنيفة: إن كان بإذنه فعلى الآذن الفدية، وعلى الحالق صدقة (4).
ص: 312
وقال الشافعي: كالمحل يحلق رأس المحرم، إن كان بأمره لزم الآمر الفدية، وإن كان مكروها على قولين، وإن كان ساكتا فعلى وجهين.
فأما المحرم فعندنا إن كان بأمره لزمه الفداء، وإن كان بغير أمره لم يلزمه فداء (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فعلى من شغلها الدليل.
مسألة 106: الاكتحال بالإثمد (2) مكروه للنساء والرجال.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: مثل ما قلناه، والآخر: أنه لا بأس به (3) هذا إذا لم يكن فيه طيب، فإن كان فيه طيب فلا يجوز. ومن استعمله فعليه الفداء.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وطريقة الاحتياط.
وقول النبي صلى اللّه عليه وآله: " الحاج أشعث أغبر " (4). وذلك ينافي الاكتحال.
مسألة 107: يجوز للمحرم أن يغتسل، ولا يجوز له أن يرتمس في الماء،
ص: 313
ويكره له أن يدلك جسده ورأسه بل يفيض الماء عليه، فإن سقط شئ من شعره لم يلزمه شئ، ومتى ارتمس في الماء لزمه الفداء، وهو المماقلة والتماقل.
وقال الشافعي وباقي الفقهاء: لا بأس بذلك إلا أنه قال: إن سقط شئ من شعره فالأحوط أن يفديه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على أن الارتماس لا يجوز، وطريقة الاحتياط تقتضي الامتناع منه، فأما إذا ارتمس فقد غطى رأسه بالماء. وما أوجب الفداء في تغطية الرأس أوجبه ها هنا لدخوله في العموم.
دليلنا: براءة الذمة في الأصل، فمن شغلها فعليه الدلالة.
مسألة 110: يكره للمحرم أن يحتجم.
وقال الشافعي: لا بأس به (1).
وقال مالك: لا يفعل (2).
دليلنا: إن الأصل الإباحة، فعلى من منع منه الدلالة، وأما كراهته فعليه إجماع الفرقة.
وروي عن ابن عباس أنه قال: احتجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو محرم (3)، وذلك يدل على أنه ليس بمحظور.
مسألة 111: إذا كان الولي أو وكيله، أو الزوج أو وكيله في القبول، أو المرأة محرمين أو واحد منهم محرما، فالنكاح باطل. وبه قال في الصحابة علي عليه السلام، وعمر، وابن عمر، وزيد بن ثابت، ولا مخالف لهم في الصحابة، وإليه ذهب في التابعين سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، وفي الفقهاء مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق (4).
وقالت طائفة: إنه لا تأثير للإحرام في عقد الزواج بوجه، ذهب إليه
ص: 315
الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، ويرويه عن الحكم (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم(2) ، فإنهم لا يختلفون في ذلك.
وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه، لأنه إذا عقد في حال الإحلال كان العقد صحيحا بلا خلاف، وإذا عقد في حال الإحرام ففيه خلاف.
وأيضا فاستباحة الفرج لا يجوز إلا بحكم شرعي بلا خلاف، ولا دليل في الشرع على استباحته بالعقد حال الإحرام.
وروى أبان بن عثمان عن عثمان (3) أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال:
" لا ينكح محرم ولا ينكح ولا يخطب " (4) وهذا نص.
مسألة 112: إذا أشكل الأمر فلا يدري هل وقع في حال الإحرام أو قبله، فالعقد صحيح، لأن الأصل الإباحة (5). وبه قال الشافعي (6).
والأحوط عندي تجديد العقد، لأنه إذا جدد فإن كان وقع العقد الأول حال الإحلال فلا يضر هذا شيئا، وإن كان وقع العقد حال الإحرام فيكون هذا العقد صحيحا، فالاحتياط يقتضي تجديده على ما بيناه.
مسألة 113: إن اختلفا، فقالت: وقع العقد بعد إحرامك، وقال هو وقع قبله، فالقول قول الزوج بلا خلاف بيننا وبين الشافعي (7). وإن كان بالضد من ذلك، فادعت أنه كان حلالا، وقال: كنت حراما، حكم عليه بتحريم
ص: 316
الوطء، ولزمه نصف المهر (1)..
وهذا أيضا ينبغي أن يكون مذهبنا، ويسقط الخلاف فيهما، والحكم في الأمة والحرة سواء إذا اختلفا أو اختلف السيد والزوج.
مسألة 114: إذا عقد المحرم على نفسه عالما بتحريم ذلك، أو دخل بها وإن لم يكن عالما، فرق بينهما ولا تحلل له أبدا، ولم يوافقنا عليه أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط وأخبارهم، قد ذكرناها في الكتاب الكبير (2).
يفرق بينهما بطلقة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فالطلاق فرع ثبوت العقد، فإذا لم يثبت العقد كيف يطرأ عليه الطلاق، والخبر الذي قدمناه من النهي عن نكاح المحرم يدل على فساده، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه على ما بين في الأصول (2).
مسألة 117: للمحرم أن يراجع زوجته سواء طلقها حلالا ثم أحرم، أو طلقها وهو محرم. وبه قال الشافعي (3).
وقال أحمد: لا يجوز ذلك (4).
دليلنا: قوله تعالى: " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " (5) ولم يفصل. وقال:
" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " (6) والإمساك هو المراجعة، ولم يفصل.
فوجب حمله على عمومه.
مسألة 118: للمحرم أن يستظل بثوب ينصبه ما لم يكن فوق رأسه بلا خلاف، وإذا كان فوق رأسه مثل الكنيسة، والعمارية، والهودج فلا يجوز له ذلك سائرا، فأما إذا كان نازلا فلا بأس أن يقعد تحت الخيمة، والخباء، والبيوت. وبه قال مالك وأحمد (7).
وقال الشافعي: يجوز له ذلك كيف ما ستر (8).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، لأنه إذا لم يستر صح إحرامه
ص: 318
كاملا بلا خلاف، وإذا ستر ففيه الخلاف.
وروي عن ابن عمر أنه قال: أضح لمن أحرمت له (1)، فأمره بالظهور للشمس.
مسألة 119: يكره للمحرم النظر في المرآة، رجلا كان أو امرأة. وبه قال الشافعي في سنن الحرملة (2).
قال في الأم: لهما أن ينظر في المرآة (3).
دليلنا: جماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 120: يجوز للمحرم أن يغسل ثيابه وثياب غيره. وبه قال الشافعي (4).
وقال أحمد: أكره له أن يغسل ثياب غيره.
دليلنا: إجماع الفرقة، وبراءة الذمة، وإباحة الأصل، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 121: يجوز دخول مكة نهارا بلا خلاف، ويجوز عندنا دخولها ليلا.
وبه قال الشافعي وجميع الفقهاء (5).
وحكي عن ابن جريح عن عطاء أنه قال: أكره دخولها ليلا (6).
دليلنا: إباحة الأصل، وكراهته تحتاج إلى دليل.
مسألة 122: الأدعية المخصوصة التي ذكرناها في الكتاب عند دخول مكة، والمسجد الحرام، ومشاهدة الكعبة (7) لا يعرفها أحد من الفقهاء، ولهم
ص: 319
أدعية غيرها.
دليلنا: عمل الطائفة بما أوردناه.
مسألة 123: رفع اليدين عند مشاهدة الكعبة لا يعرفه أصحابنا.
وقال الشافعي: ذلك مستحب (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وشغلها بواجب أو مندوب يحتاج إلى دليل.
مسألة 124: المستحب أن يستلم الحجر بجميع بدنه، فإن لم يتمكن واستلمه ببعضه أجزأه.
وللشافعي فيه وقولان: أحدهما مثل ما قلناه (2). والثاني قاله في الأم: إنه لا يجزيه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة.
مسألة 125: استلام الركن الذي فيه الحجر لا خلاف فيه، وباقي الأركان مستحب استلامها. وبه قال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر (4).
وقال الشافعي: لا يستلمها - يعني الشاميين - وبه قال عمر، وابن عمر، ومعاوية (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وعملهم وأخبارهم (6) وطريقة الاحتياط تقتضيه، لأن فعل ذلك لا يضر على حال بلا خلاف.
ص: 320
مسألة 126: يستحب استلام الركن اليماني على ما بيناه. وبه قال الشافعي، وقال: يضع يده عليه ويقبلها ولا يقبل الركن (1)، وبه قال مالك إلا أنه قال: يضع يده على فيه ولا يقبلها (2).
وقال أبو حنيفة: لا يستلمه أصلا (3).
دليلنا: إن ما قلناه مروي عن ابن عمر، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة (4) ولا مخالف لهم في الصحابة. وأيضا عليه إجماع الفرقة وأخبارهم (5) وطريقة الاحتياط تقتضيه.
دليلنا: كلما ورد من فضل قراءة القرآن لا يختص بمكان دون مكان (1).
وأيضا قوله تعالى: " فاقرؤا ما تيسر من القرآن " (2) وقوله: " فاقرؤا ما تيسر منه " (3) يدلان عليه.
مسألة 128: الأفضل أن يقول طواف وطوافان وثلاثة أطواف، فإن قال: شوط وشوطان وثلاثة أشواط جاز.
وقال الشافعي: أكره ذكر الشوط (4). وبه قال مجاهد (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل الإباحة.
مسألة 129: لا يجوز الطواف إلا على طهارة من حدث ونجس، وستر العورة، فإن أخل بشئ من ذلك لم يصح طوافه، ولا يعتد به. وبه قال مالك، والشافعي، والأوزاعي وعامة أهل العلم (6).
وقال أبو حنيفة: إن طاف على غير طهارة فإن أقام بمكة أعاد، وإن عاد إلى بلده وكان محدثا فعليه دم الشاة، وإن كان جنبا فعليه بدنة (7).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، لأنه إذا طاف على طهارة صح طوافه بلا خلاف، وليس على صحته إذا طاف بغير طهارة دليل.
وروت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله لما أراد أن يطوف توضأ، ثم
ص: 322
طاف (1). وقد قال عليه السلام: " خذوا عني مناسككم " (2) وهذا أمر يقتضي الإيجاب.
وروى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله: " لا صلاة إلا بطهور " (3) فوجب أن يكون حكم الطواف حكمه.
مسألة 130: من طاف على وضوء وأحدث في خلاله، انصرف وتوضأ وعاد، فإن كان زاد على النصف بنى عليه، وإن لم يزد أعاد الطواف.
وقال الشافعي: إن لم يطل الفصل بنى قولا واحدا، ولم يفصل، وإن طال فعلى قولين: قال في القديم: استأنف، وقال في الجديد: بنى، وهو المذهب عندهم ولم يفصل (4).
ص: 323
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (1)، وطريقة الاحتياط فإنه إذا لم يجز النصف وأعاد صح طوافه بلا خلاف.
مسألة 131: متى طاف على غير وضوء وعاد إلى بلده، رجع وأعاد الطواف مع الإمكان، فإن لم يمكنه استناب من يطوف عنه.
وقال الشافعي: يرجع ويطوف، ولم يفصل (2).
وقال أبو حنيفة: يجبره بدم (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (4) وطريقة الاحتياط، لأن من طاف على ما قلناه برئت ذمته بلا خلاف، وسقط الفرض عنه، هذا على أبي حنيفة، وأما على الشافعي فقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (5).
مسألة 132: الطواف يجب أن يكون حول البيت والحجر معا، فإن سلك الحجر لم يعتد به. وبه قال الشافعي (6).
وقال أبو حنيفة: إذا سلك الحجر أجزأه (7).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، لأن من طاف على ما قلناه برئت ذمته بلا خلاف، وسقط الفرض عنه، وإذا لم يفعل ففيه الخلاف.
مسألة 133: إذا تباعد من البيت حتى يطوف بالسقاية وزمزم لم يجزه.
وقال الشافعي: يجزيه (8).
ص: 324
دليلنا: إن ما ذكرناه مقطوع على إجزائه، وما ذكروه ليس على إجزائه دليل، فالاحتياط أيضا يقتضي ما قلناه.
مسألة 134: إذا طاف منكوسا - وهو أن يجعل البيت على يمينه - فلا يجزيه، وعليه الإعادة. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: إن أقام بمكة أعاد، وإن عاد إلى بلده جبره بدم (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، والقطع على براءة الذمة إذا فعل ما قلناه، وعدم القطع إذا فعل خلافه.
وأيضا لا خلاف أن النبي صلى اللّه عليه وآله فعل ما قلناه، وقد قال:
" خذوا عني مناسككم " (3) فمن خالفه لا يجزيه.
مسألة 135: كيفية الطواف: أن يبتدئ في السبع طوافات من الحجر، ثم يأتي إلى الموضع الذي بدأ منه، فإن ترك ولو خطوة منها لم يجزه، ولم تحل له النساء حتى يعود إليها فيأتي بها. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: عليه أن يطوف سبعا، لكنه إذا أتى بمعظمه وهو أربع من سبع أجزأه، فإن عاد إلى بلده جبره بدم، وإن أتى بأقل من أربع لم يجزه (5).
ص: 325
دليلنا: طريقة الاحتياط، وظواهر الأوامر بسبع طوافات، فمن نقص لا يكون قد امتثل المأمور، وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله، لأنه لا خلاف أنه طاف كما قلناه.
مسألة 136: لا ينبغي أن يطوف إلا ماشيا مع القدرة، وإنما يطوف راكبا إذا كان عليلا أو من لا يقدر عليه، فإن خالف وطاف راكبا أجزأه ولم يلزمه دم.
وقال الشافعي: الركوب مكروه، فإن فعله لم يكن عليه شئ، مريضا كان أو صحيحا (1).
وقال أبو حنيفة: لا يركب إلا من عذر من مرض، فإن طاف راكبا فعليه دم (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنه لا خلاف بينهم في كراهته، وأما إلزام الدم فيحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 138: ركعتا الطواف واجبتان عند أكثر أصحابنا (1). وبه قال عامة أهل العلم أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والثوري (2).
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والآخر أنهما غير واجبتين (3) وهو أصح القولين عندهم. وبه قال قوم من أصحابنا.
دليلنا: قوله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " (4) وهذا أمر يقتضي الوجوب.
وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه، لأنه إذا صلاهما برئت ذمته بيقين، وإذا لم يصلهما فيه الخلاف، وأخبارنا في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ذكرناها وبينا الوجه في الرواية المخالفة لها (5) ولا خلاف أن النبي صلى اللّه عليه وآله صلاهما، وظاهر ذلك يقتضي الوجوب.
وقال الثوري: يأتي بهما في الحرم (1).
دليلنا: أنه لا خلاف أن الصلاة في غيره مجزية، ولا تجب عليه الإعادة، وجبرانه بدم يحتاج إلى دليل، لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 140: السعي بين الصفا والمروة ركن، لا يتم الحج إلا به، فإن تركه أو ترك بعضه ولو خطوة واحدة لم تحل له النساء حتى يأتي به. وبه قالت عائشة، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (2).
وقال ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب: السعي سنة، ليس بواجب (3).
وقال أبو حنيفة: واجب وليس بركن، وهو بمنزلة المبيت بالمزدلفة، فإن تركه فعليه دم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط في براءة الذمة، وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله، وأمره بالاقتداء به (5).
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: " إن اللّه تعالى كتب عليكم السعي " (6) ومعناه فرض.
مسألة 141: السعي بين الصفا والمروة سبع، يبتدئ بالصفا، ويختم بالمروة
ص: 328
بلا خلاف بين أهل العلم، وصفته أن يعد ذهابه إلى المروة دفعة، ورجوعه إلى الصفا أخرى، يبدأ بالصفا ويختم بالمروة وهكذا. وعليه جميع الفقهاء وأهل العلم إلا أهل الظاهر، وابن جرير، وأبا بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي فإنهم اعتبروا الذهاب إلى المروة والرجوع إلى الصفا دفعة واحدة (1).
وحكي عن ابن جرير أنه استفتي فأفتى بذلك، فحمل الفتيا إلى أبي بكر الصيرفي فأفتى بمثله، فحمل الفتيا إلى إسحاق المروزي فخط على فتيا الصيرفي ظنا منه أنه تبع ابن جرير، فأقام الصيرفي على فتياه.
دليلنا على ما قلناه: إجماع الفرقة وأخبارهم (2)، وأيضا في خبر جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله بدأ بالصفا وختم بالمروة (3)، فلو كان ما قالوه صحيحا لكان خاتما بالصفا، وذلك باطل بالاتفاق.
مسألة 142: يكفي في السعي أن يطوف ما بين الصفا والمروة وإن لم يصعد
ص: 329
وقال ابن الوكيل من أصحاب الشافعي: لا بد أن يصعد عليهما ولو شيئا يسيرا (1).
دليلنا: قوله تعالى: " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " (2) وأجمع المفسرون على أنه أراد أن يطوف بينهما، ومن انتهى إليهما فقد طاف بينهما، والأخبار كلها دالة على ما قلناه (3)، وعليه إجماع الفرقة.
مسألة 143: إذا طاف بين الصفا والمروة سبعا وهو عند الصفا، أعاد السعي من أوله، لأنه لا بدء بالمروة.
وقال الفقهاء: يسقط الأول، ويبني على أنه بدأ بالصفا، فيضيف إليه شوطا آخر (4).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (5)، وطريقة الاحتياط تقتضيه، لأنه إذا أعاد برئت ذمته بيقين، وإذا لم يعد ففيه الخلاف.
مسألة 144: أفعال العمرة خمسة: الإحرام، والتلبية، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والتقصير. وإن حلق جاز، والتقصير أفضل، وبعد الحج الحلق أفضل.
وقال الشافعي: أربعة، في أحد قوليه: الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير والحلق أفضل (6).
وفي القول الأخر: ثلاثة، والحلق أو التقصير ليس فيها، وإنما هو إطلاق محظور (7).
ص: 330
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، لأنه إذا فعل ما قلناه فقد أتى بكمال العمرة بلا خلاف، وإن لم يفعل ففيه الخلاف.
مسألة 145: هدي المتمتع لا يجوز نحره إلا بمنى.
وقال الشافعي: ينحره على المروة، وإن نحره بمكة جاز أي موضع شاء (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
مسألة 146: من ليس على رأسه شئ من الشعر، مثل أن يكون أصلع أو أقرع فعليه أن يمر الموسى على رأسه استحبابا. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: يجب عليه ذلك (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، والأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 147: المحرم بالعمرة من الميقات يقطع التلبية إذا دخل الحرم، فإن كان متمتعا قطعها إذا شاهد بيوت مكة.
وقال الشافعي: لا يقطع المقيم التلبية حتى يأخذ في الطواف (5).
وبه قال ابن عباس (6).
وقال مالك مثل ما قلناه، إلا أنه قال: إذا كان أحرم وراء الميقات لا يقطع حتى يرى البيت (7).
ص: 331
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن إيجاب ذلك على ما قالوه يحتاج إلى دليل.
مسألة 148: أفعال العمرة لا تدخل في أفعال الحج عندنا، ومتى فرغ من أفعال العمرة بكمالها حصل محلا، فإذا أحرم بعد ذلك بالحج أتى بأفعال الحج على وجهها، ويكون متمتعا، وإن أحرم بالحج قبل استيفاء أفعال العمرة بطلت عمرته وكانت حجته مفردة.
وقال الشافعي: إذا قرن يدخل أفعال العمرة في أفعال الحج، واقتصر على أفعال الحج فقط، يجزيه طواف واحد وسعي واحد عنهما (1).
وبه قال جابر، وابن عمر، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، ومجاهد، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق (2).
وقال بمثل ما قلناه من أن أفعال العمرة لا تدخل في أفعال الحج في الصحابة علي عليه السلام، وابن مسعود، وفي التابعين الشعبي، والنخعي، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه (3).
ولأبي حنيفة تفصيل، قال: من شرط القران تقديم العمرة على الحج، ويدخل مكة، ويطوف ويسعي للعمرة، ويقيم على إحرامه حتى يكمل أفعال الحج، ثم يحل منها. فإن ترك الطواف للعمرة قبل الوقوف انتقضت عمرته، وصار مفردا بالحج، وعليه قضاء العمرة (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في التفصيل الذي ذكرناه، وقد
ص: 332
أوردنا أخبارهم في شرح ذلك في الكتاب المقدم ذكره (1).
وأيضا قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " (2) فأمر بالحج والعمرة معا، ولكل واحد منهما أفعال مخصوصة، فمن ادعى دخول أحدهما في الآخر فعليه الدليل.
وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من جمع الحج إلى العمرة فعليه طوافان " (3).
وروى حماد بن عبد الرحمن (4) قال: حججت مع إبراهيم بن محمد بن الحنفية (5) فطاف طوافين وسعى سعيين لحجته وعمرته وقال: حججت مع أبي محمد بن الحنيفة (6) فطاف طوافين وسعى سعيين لحجته وعمرته، وقال:
حججت مع أبي علي بن أبي طالب عليه السلام فطاف طوافين وسعى سعيين لحجته وعمرته، وقال: حججت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فطاف طوافين وسعى سعيين لحجته وعمرته، فهو فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 333
والأئمة والناس من بعد (1).
فأما القران الذي قالوه فقد بينا فساده فيما مضى.
مسألة 149: إذا حاضت المتمتعة قبل أن تفرغ من أفعال العمرة، جعلته حجة مفردة.
وقال الفقهاء بأسرهم تحتاج إلى تجديد الإحرام (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 150: يخطب الإمام بعرفة يوم عرفة قبل الأذان. وبه قال الشافعي (4).
وقال أبو حنيفة: بعده (5).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وحديث جابر لأنه قال: فخطب الناس ثم أذن بلال وأقام (6) وهذا نص.
مسألة 151: يصلي الإمام بالناس بعرفة الظهر والعصر، يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة (7).
ص: 334
وقال مالك: بأذانين وإقامتين (1).
وقال أحمد: بإقامتين (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، (3)، وحديث جابر لأنه قال: ثم إذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر (4).
وروى ابن عمر أن النبي صلى اللّه عليه وآله جمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان واحد وإقامتين. وهذا نص.
مسألة 152: إذا كان الإمام مقيما أتم وقصر من خلفه من المسافرين، وإن كان مسافرا قصر وقصروا، ومن كان من أهل مكة فلا يقصر لأن المسافة نقصت عما يجب فيه التقصير.
وقال الشافعي: إن كان الإمام مقيما أتم وأتم من خلفه من المقيمين والمسافرين، وإن كان مسافرا قصر وقصر من خلفه من المسافرين وأتم المقيمون (5).
وبه قال أبو حنيفة (6).
وقال مالك: يقصر كما قالوا: وزاد فقال: يقصر أهل مكة من وإن كانت
ص: 335
المسافة قريبة مع قوله بأن التقصير في أربعة برد (1).
دليلنا: إنا قد بينا فيما تقدم من كتاب الصلاة أن فرض المسافر التقصير، وأنه لا يجوز له التمام، وإن صلى خلف المقيم، فمن أوجب التمام فعليه الدلالة.
فأما أهل مكة، فلم تحصل لهم المسافة التي يجب فيها التقصير.
وروى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " (2) وهذا نص.
مسألة 153: من صلى مع إمام جمع، وإن صلى منفردا جمع أيضا، سواء كان من له التقصير، أو من ليس له القصر.
وللشافعي فيمن ليس له القصر قولان.
أحدهما: ليس له الجمع، والآخر: له الجمع (3).
وقال أبو حنيفة: ليس له الجمع إلا مع إمام (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فقد بينا في كتاب الصلاة أن له الجمع في السفر والحضر، وعلى كل حال (5).
وروي عن ابن عمر أنه جمع مع إمام وعلى الانفراد (6).
قال الشافعي (1).
وقال مالك: يجزيه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، وحديث جابر (3).
وروى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن وادي عرنة " (4).
وروي في بعض أخبارنا: إلى طلوع الشمس (1).
وفي شاذها: إلى زوال من يوم النحر (2)، ولم يقل به أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، وحديث جابر كل ذلك يدل على أول الوقت (3)، وقد تكلمنا على الأخبار المختلفة من طرق أصحابنا إلى طلوع الشمس، وإلى الزوال في الكتابين المقدم ذكرهما (4).
مسألة 157: الأفضل أن يقف إلى غروب الشمس في النهار، ويدفع من الموقف بعد غروبها، فإن دفع قبل الغروب لزمه دم، فأما الليل إذا وقف ففي أي وقت دفع أجزأه.
وقال أبو حنيفة والشافعي: إن الأفضل مثل ما قلناه، فأما الإجزاء فهو أن يقف ليلا ونهارا أي شئ كان، ولو كان بمقدار المرور فيه (5).
وقال أبو حنيفة: يلزمه دم إن أفاض قبل الغروب (6).
وقال الشافعي في القديم والأم: إن دفع قبل الغروب عليه دم (7).
وقال في الإملاء: يستحب أن يهدي، ولا يجب عليه، فضمان الدم على قولين، وقال: إن دفع قبل (8) الزوال أجزأه.
ص: 338
وقال مالك: إن وقف نهارا لم يجزه حتى يقيم إلى الليل، فيجمع بين الليل والنهار، وإن وقف ليلا وحده أجزأه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، فإنه إذا وقف إلى الوقت الذي قلناه تم حجه بلا خلاف، وإن لم يقف ففيه الخلاف، ولا خلاف أن النبي صلى اللّه عليه وآله أفاض بعد الغروب، وقد قال: " خذوا عني مناسككم " (2).
وأما لزوم الدم، فطريقه إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
وروى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من ترك نسكا فعليه دم " (3) وهذا قد ترك نسكا، لأنه لا خلاف أن الأفضل الوقوف إلى غروب الشمس.
مسألة 158: إذا عاد قبل غيبوبة الشمس وأقام حتى غابت سقط عنه الدم، وإن عاد بعد غروبها لم يسقط. وبه قال أبو حنيفة (4).
وقال الشافعي: إن عاد قبل خروج وقت الوقوف سقط الدم (5).
دليلنا: إن إسقاط الدم بعد وجوبه عليه إذا عاد ليلا يحتاج إلى دليل، وليس عليه دليل.
مسألة 159: يجمع بين المغرب والعشاء الآخرة بالمزدلفة بأذان واحد وإقامتين.
ص: 339
وقال أبو حنيفة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة (1).
وقال مالك: بأذانين وإقامتين (2).
وقال الشافعي مثل ما قلناه: إذا جمع بينهما في وقت الأولى (3)، وإن جمع بينهما في وقت الثانية ثلاثة أقوال:
قال في القديم: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين وهو الصحيح عندهم (4).
وقال في الجديد: يجمع بينهما بإقامتين بغير أذان (5).
وقال في الإملاء: إن رجى اجتماع الناس أذن وإلا لم يؤذن (6).
وحكي عن مالك مثل قولنا سواء (7).
دليلنا: إجماع الفرقة وحديث جابر قال: جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بين المغرب والعشاء الآخرة بالمزدلفة بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شئ (8).
مسألة 160: المغرب والعشاء الآخرة لا يصليان إلا بالمزدلفة إلا لضرورة من الخوف، والخوف أن يخاف فوتهما، وخوف الفوت إذا مضى ربع الليل، وروي إلى نصف الليل (9). وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قال: بطلوع
ص: 340
الفجر (1).
وقال الشافعي: إن صلى المغرب في وقتها بعرفات والعشاء بالمزدلفة أجزأه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، فإنه لا خلاف أنه إذا صلى كما قلناه أنه يجزيه، وقبل ذلك لا دليل عليه.
وحديث أسامة بن زيد عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه لما نزل المعرس أناخ النبي صلى اللّه عليه وآله ناقته، ثم بال، ثم دعا بالوضوء فتوضأ ليس بالبالغ جدا فقلت: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال: الصلاة أمامك، ثم ركب حتى قدمنا المزدلفة، فنزل فتوضأ وأسبغ الوضوء وصلى (3).
عليه (1).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، لأنه إذا وقف بها فلا خلاف في صحة حجته، وإذا لم يقف ففي صحتها خلاف، وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله يدل عليه لأنه لا خلاف أنه وقف بالمشعر.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: " من ترك المبيت بالمزدلفة فلا حج له " (2).
مسألة 162: من فاته عرفات وأدرك المشعر ووقف بها فقد أجزأ. ولم يوافقنا عليه أحد من الفقهاء (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4) فإنهم لا يختلفون فيما قلناه.
مسألة 163: لا يجوز الرمي إلا بالحجر، وما كان من جنسه من البرام والجواهر وأنواع الحجارة، ولا يجوز بغيره كالمدر، والآجر، والكحل، والزرنيخ، والملح وغير ذلك من الذهب والفضة. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة: يجوز بالحجر، وبما كان من نفس الأرض كالطين والمدر،
ص: 342
والكحل، والزرنيخ، ولا يجوز بالذهب ولا بالفضة (1).
وقال أهل الظاهر: يجوز بكل شئ حتى لو رمى بالخرق، والعصافير الميتة أجزأه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، فإن ما ذكرناه مجمع على إجزائه، وليس على ما قالوه دليل.
وروى ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله غداة جمع: التقط حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: " بأمثال هؤلاء فارموا ومثل الحجر حجر "، (3) وروي الفضل بن عباس قال: لما أفاض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من المزدلفة وهبط بمكان محسر قال: " أيها الناس عليكم بحصى الخذف " (4) وهذا نص.
مسألة 164: لا يجوز أن يرمي بحصاة قد رمي بها، سواء رماها هو، أو رماها غيره.
وقال الشافعي: أكرهه، فإن فعل أجزأه، سواء رماها هو أو غيره (5).
وقال المزني: إن رماها هو لا يجوز، وإن رماها غيره أجزأه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط، وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله، فإنه لا خلاف أنه ما رمى بها هو أو غيره.
ص: 343
مسألة 165: إذا رمى الحصاة، فوقعت على عنق بعير، فتحرك البعير فوقعت في المرمى، أو على ثوب رجل، فتحرك فوقعت في المرمى، لا يجوز.
وللشافعي فيه وجهان (1).
وإذا رمى فلم يعلم أصاب أم لا؟ يجزيه.
وللشافعي فيه وجهان (2).
وإذا وقعت على مكان عال وتدحرجت فوقعت عليه أجزأه.
وللشافعي فيه وجهان (3).
دليلنا: طريقة الاحتياط، فإنه إذا عاد مكانها برئت ذمته بلا خلاف، وإذا لم يفعل ففيه الخلاف.
مسألة 166: قد قلنا أن وقت الوقوف بالمزدلفة من وقت حصوله بها إلى طلوع الفجر الثاني. وقد روي إلى طلوع الشمس (4). فإن دفع قبل طلوع الفجر مع الاختيار لم يجزه، سواء كان قبل نصف الليل أو بعده.
وقال الشافعي: الوقت الكامل من عند الحصول إلى أن يسفر الفجر، والآخر إلى أن يكون بها ما بين أول وقتها إلى طلوع الشمس، إلا أنه إن حصل بها بعد نصف الليل أجزأه ولا شئ عليه، وإن حصل قبل نصف الليل ولم يلبث بها حتى ينتصف الليل فهل عليه دم أم لا؟ على قولين (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 167: وقت الاستحباب لرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس من يوم النحر بلا خلاف، ووقت الإجزاء من عند طلوع الفجر مع الاختيار.
ص: 344
فإن رمى قبل ذلك لم يجزه، وللعليل، ولصاحب الضرورة، والنساء يجوز الرمي بالليل.
وقال الشافعي: أول وقت الإجزاء إذا انتصفت ليلة السحر، وبه قال عطاء، وعكرمة (1).
وقال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق: وقته إذا طلع الفجر، فإن رمى قبله لم يجزه مثل ما قلناه (2).
وقال النخعي، والثوري: وقته بعد طلوع الشمس من يوم النحر، وقبل ذلك لا يجزي ولا يعتد به (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها (4).
وروي عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أرسل بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت وأفاضت (5).
مسألة 168: ينبغي أن يبتدئ بمنى برمي جمرة العقبة، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يذهب إلى مكة فيطوف طواف الزيارة وهو طواف الحج بلا خلاف، ويسعى إن لم يكن قدم السعي حيث كان بمكة قبل الخروج، والترتيب في ذلك مستحب وليس بواجب، فإن قدم الحلق على الرمي أو على الذبح أجزأه. وبه قال الشافعي (6).
ص: 345
وقال أبو حنيفة الترتيب مستحب، فإن قدم الحلق على النحر فعليه دم (1).
دليلنا: إنه لا خلاف أنه إذا فعل ذلك لا يجب عليه الإعادة، وأما لزوم الدم فيحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة، وأخبارنا في ذلك قد ذكرناها في الكتاب الكبير (2).
وروى عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل فقال: يا رسول اللّه لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: إذبح ولا حرج، فجاء رجل فقال: يا رسول اللّه لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: إرم ولا حرج قال: فما سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عن شئ يومئذ قدم أو أخر إلا قال: إفعل ولا حرج (3).
وهذا بعينه على هذا اللفظ مروي عن أئمتنا عليهم السلام (4).
وقال مالك: يأكل من الكل إلا من جزاء الصيد (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 170: يجوز الأكل من الهدي المتطوع به بلا خلاف، والمستحب أن يأكل ثلثه، ويتصدق بثلثه، ويهدي ثلثه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه (2).
والثاني: يأكل النصف ويتصدق بالنصف (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وقوله تعالى: " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " (4) فقسم ثلاثة أصناف.
مسألة 172: التحلل في الحج ثلاثة:
أولها: إذا رمى، وحلق، وذبح، فإنه يتحلل من كل شئ إلا النساء والطيب.
فإذا طاف طواف الزيارة، وسعى، حل له كل شئ إلا النساء. فأما الإصطياد فلا يحل له لكونه في الحرم، ويجوز أن يأكل منه.
فإذا طاف طواف النساء حلت له النساء.
وقال الفقهاء كلهم: إنه يتحلل بتحليلتين معا بالرمي وطواف الزيارة.
والتحلل الأول يحصل بشيئين: رمي وحلق، أو رمي وطواف، أو حلق وطواف، ويستبيح عند ذلك اللباس، وترجيل الشعر، والحلق، وتقليم الأظفار (1).
قال الشافعي: ولا يحل له الوطء إلا بعد التحلل الثاني قولا واحدا (2).
والطيب على قولين: قال في القديم: لا يحل بالتحلل الأول (3). والآخر يحل قولا واحدا (4).
فأما عقد النكاح، والوطء فيما دون الفرج، والاصطياد، وقتل الصيد فعلى قولين:
قال في القديم: لا يحل (5).
ص: 348
والثاني: يحل له كل هذا (1). وبه قال أبو حنيفة (2)، ولم يعتبر أحد طواف النساء بحال.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة تقتضي ذلك، لأنه إذا فعل ما قلناه لا خلاف أنه يستبيح النساء، وقبل طواف النساء لا دليل على إباحته.
مسألة 173: يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم.
وخالف جميع الفقهاء في ذلك، وقالوا: إذا استلم الحجر قطعها (3)، وقد مضت.
والحاج يقطع التلبية يوم عرفة عند الزوال، وقالوا: لا يزال يلبي حتى يرمي جمرة العقبة من يوم النحر (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن إيجاب ذلك يحتاج إلى دليل.
دليلنا: ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله خطب يوم النحر (1).
وروى ذلك الهرماس بن زياد الباهلي (2)، وأبو أمامة الباهلي (3).
وأيضا الأصل الإباحة، والمنع يحتاج إلى دليل.
وأيضا فإنه تحميد اللّه، والصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله، وتعليم الناس المناسك، وكل ذلك مرغب فيه، فلا وجه للمنع منه.
مسألة 175: روى أصحابنا رخصة في تقديم الطواف والسعي قبل الخروج إلى منى وعرفات (4)، والأفضل أن لا يطوف طواف الحج إلا يوم النحر إن كان متمتعا، ولا يؤخره. فإن أخره فلا يؤخره عن أيام التشريق.
وأما المفرد والقارن فيجوز لهما أن يؤخرا إلى أي وقت شاءا، والأفضل التعجيل على كل حال.
وقال الشافعي: وقت الفضل يوم النحر قبل الزوال، وأول وقت الإجزاء النصف الأخير من ليلة النحر، وآخره فلا غاية له، ومتى أخره فلا شئ عليه (5).
وقال أبو حنيفة: إن أخره عن أيام التشريق فعليه دم (6).
ص: 350
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم أوردناها في الكتاب الكبير (1).
مسألة 176: لا يجوز الرمي أيام التشريق إلا بعد الزوال، وقد روي رخصة قبل الزوال في الأيام كلها (2)، وبالأول قال الشافعي وأبو حنيفة (3) إلا أنه قال أبو حنيفة: وإن رمى اليوم الثالث قبل الزوال جاز استحسانا (4).
وقال طاووس: يجوز قبل الزوال في الكل (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، فإن من فعل ما قلناه لا خلاف أنه يجزيه، وإذا خالفه ففيه الخلاف.
مسألة 177: الترتيب واجب في رمي الجمار بلا خلاف، ويرمي التي هي إلى منى أقرب، ويختم بالتي هي إلى مكة أقرب، ويقف عند الأولى والثانية، ويكبر مع كل حصاة يرميها، ولا يقف عند الثالثة، كل ذلك لا خلاف فيه، فإن نقص في الأولى شيئا ورمى الجمرتين بعدها نظرت، فإن كان أقل من الثلاث أعاد على الجميع، وإن كان رماها أربعا فصاعدا أتمها ولا يعيد على التي بعدها.
وقال الشافعي: من نسي واحدة من الأولى أعاد عليها وعلى ما بعدها (6).
ص: 351
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فإن إيجاب الإعادة يحتاج إلى دلالة لأنها فرض ثان.
مسألة 178: إذا نسي واحدة من الحصيات ولا يدري عن من أي الجمار هي، رمى كل جمرة بحصاة، وقد أجزأه.
وقال الشافعي: يجعلها من الأولى ويرميها بحصاة، ويعيد على الجمرتين (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وإيجاب الإعادة على الباقيين يحتاج إلى دليل.
مسألة 179: إذا رمى سبع حصيات دفعة واحدة لم يعتد بأكثر من واحدة، سواء وقعت عليها مجتمعة أو متفرقة. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: إذا وقعت متفرقة اعتد بهن كلهن (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وحديث عائشة أنها قالت: يكبر مع كل حصاة (4)، وذلك لا يتم إلا مع التفريق.
مسألة 180: إذا أخر الرمي حتى يمضي أيام الرمي، وجب عليه أن يرميها في العام المقبل، إما بنفسه أو يأمر من يرمي عنه، ولا يلزمه الهدي، ويحل إذا أتى بطواف الزيارة والسعي وطواف النساء.
وقال أ صحاب الشافعي: يجب عليه الهدي في ذمته (5)، وهل يحل قبل
ص: 352
الذبح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصير حلالا قبل الذبح (1).
والثاني: لا يصير حلالا حتى يذبح (2).
دليلنا: إجماع الفرقة على ما قلناه وأخبارهم (3)، وإلزام الهدي يحتاج إلى دلالة، وليس عليه دلالة.
مسألة 181: من فاته رمي يوم حتى غربت الشمس، قضاه من الغد، ويكون قاضيا، فإذا قضى رمى ما فاته بكرة، وما يرمي ليومه عند الزوال، هكذا في الأيام كلها.
فإن فاته في الأيام كلها فقد فات الوقت، ولا يرميها إلا من القابل على ما مضى في هذه الأيام، إما بنفسه أو من ينوب عنه.
وليس عليه دم بتأخيره من يوم إلى يوم، ولا بتأخير الأيام.
وقال الشافعي فيه قولان:
أحدهما: إن الأربعة أيام كاليوم الواحد، فما فاته في يوم منها رماه في الغد على الترتيب ويكون مؤديا، وهو الذي قاله في القديم، ومختصر الحج، ونقله المزني واختاره الشافعي (4).
والثاني: كل يوم محدود الأول محدود الثاني، فإذا غربت الشمس فقد فات
ص: 353
الرمي (1)، هذا قوله في الثلاثة أيام.
فأما يوم النحر ففيه طريقان، أحدهما: أن فيه قولين مثل الثلاثة. والآخر:
إنه محدود الأول والآخر (2). وهو بعيد عندهم.
فعلى هذا إذا فاته حتى غربت الشمس ففيه ثلاثة أقوال، أحدها: يقضي، والثاني: لا يقضي وعليه دم، والثالث: يرمي ويهريق دما " (3).
فأما إذا فاته الثلاثة فعلى القولين معا " مضى وقت الرمي على كل حال (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن القضاء في اليوم الثاني أحوط، وكذلك فيما بعد الأربعة، وإلزام الدم يحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة.
دليلنا: قوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " (1) وإلزام المبيت والحال ما وصفناه فيه حرج.
مسألة 183: يستحب للإمام أن يخطب بمنى يوم النفر الأول بعد الزوال، وهو أوسط أيام التشريق، ويعلمهم أنهم بالخيار بين التعجيل والتأخير. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: يخطب يوم النفر، وهو أول التشريق (3)، فانفرد به ولم يقل به فقيه، ولا نقل فيه أثر.
دليلنا: إن ما ذكرناه أحوط. وقد روي أن النبي صلى اللّه عليه وآله خطب بمنى أوسط أيام التشريق (4).
روت ذلك سراء بنت نبهان (5) قالت: خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وذكرت مثل ذلك (6).
مسألة 184: يوم النفر الأول بالخيار أن ينفر أي وقت شاء إلى غروب
ص: 355
الشمس، فإذا غربت فليس له أن ينفر، فإن نفر أثم. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: له أن ينفر قبل طلوع الفجر، فإن طلع الفجر يوم النفر الثاني فنفر أثم (2).
دليلنا: قوله تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه " (3) فعلق الرخصة في اليوم الثاني، وهذا فاته اليوم الثاني، فلا يجوز له أن ينفر.
مسألة 185: من فاته رمي يوم، رماه من الغد، وكذلك الحكم في اليومين، ويبدأ بالأول فالأول مرتبا.
وللشافعي فيه قولان، أحدهما: مثل ما قلناه (4).
والآخر: يسقط الترتيب (5).
فإن اجتمع عليه الثلاثة أيام جاز أن يرمي كل جمرة بإحدى وعشرين حصاة.
دليلنا: إجماع الفرقة، ودليل الاحتياط، فإن ما قلناه لا خلاف في جوازه، وسقوط النسك به، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 186: إذا رمى ما فاته بنية يومه قبل أن يرمي ما لأمسه، لا يجزي ليومه ولا عن أمسه.
وللشافعي فيه وجهان، أحدهما: مثل ما قلناه (6).
ص: 356
والثاني: وهو المذهب أنه يقع لأمسه، هذا على قوله بالترتيب (1).
دليلنا: إجماع الفرقة على وجوب الترتيب، وهذا لم يرتب، وطريقة الاحتياط.
مسألة 187: إذا رمى جمرة واحدة بأربع عشرة حصاة، سبعا عن يومه، وسبعا عن أمسه، فالأولى لا تجزيه عن يومه، لأنه ما رتب، والثانية تجزي عن أمسه، ويحتاج أن يرمي ليومه.
وقال الشافعي: لا يجزيه عن يومه بلا خلاف، وأجزأه عن أمسه (2).
ولكن أي السبعين يجزيه؟ فيه وجهان، أحدهما: الأولى، والثاني:
الثانية (3).
دليلنا: إنا قد أبطلنا أن ما يرميه بنية يومه يجزيه عن أمسه، فإذا بطلت الأولى لم يبق بعد ذلك إلا الثانية، فيجزي عن أمسه.
مسألة 188: من فاته حصاة أو حصاتان أو ثلاثة حتى يخرج أيام التشريق لا شئ عليه، وإن رماها في القابل كان أحوط.
وقال الشافعي: إن ترك واحدة فعليه مد، وإن ترك ثنتين فعليه مدان، وإن ترك ثلاثة فدم (4)، إذا كان في الجمرة الأخيرة، فإذا كان من الجمرة الأولى أو الثانية لا يصح ما بعدها على ما مضى (5).
ص: 357
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فمن أوجب عليها شيئا فعليه الدلالة.
مسألة 189: من ترك الرمي في الأربعة أيام قضاه من قابل، أو أمر من يقضي عنه، ولا دم عليه.
وقال الشافعي: لا قضاء عليه قولا واحدا.
وفيما يجب عليه قولان:
أحدهما عليه دم واحد (1)، والثاني: عليه أربعة دماء، لكل يوم دم (2).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فعلى من شغلها بشئ الدلالة.
مسألة 190: من ترك المبيت بلا عذر بمنى ليلة كان عليه دم، فإن ترك ليلتين كان عليه دمان، والثالثة لا شئ عليه، لأن له أن ينفر في الأول إلا أن تغيب الشمس، ثم ينفر فيلزمه ثلاثة دماء.
وقال الشافعي: إن ترك ليلة فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: عليه دم (3)، والآخر: عليه ثلث دم (4)، والثالث قاله في مختصر الحج: في ليلة درهم وفي ليلتين درهمان وفي الثلاثة عليه دم، على أحد قوليه (5)، والقول الآخر: لا شئ عليه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
ص: 358
مسألة 191: نزول المحصب (1) مستحب، وهو نسك. وبه قال عمر بن الخطاب.
وقال جميع الفقهاء: هو مستحب، وليس بنسك (2).
فإن أرادوا بالنسك ما يلزمه بتركه الدم فليس عندنا، لأن من تركه لا يلزمه الدم، وإنما يكون قد ترك الأفضل، ويسقط الخلاف.
مسألة 192: يصح أن يحرم عن الصبي، ويجنبه جميع ما يتجنبه المحرم، وكلما يلزم المحرم البالغ يلزم في إحرام الصبي مثله، من الصيد، والطيب، واللباس وغير ذلك، وتصح منه الطهارة، والصلاة والصوم، والحج غير أن الطهارة والصلاة والصيام لا يصح منه حتى يعقل ويميز، والحج يصح منه بإذن وليه إذا كان مميزا، ويصح له الحج بحرام وليه عنه إن لم يكن مميزا. وبه قال مالك والشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا ينعقد له صلاة، ولا صوم، ولا حج، فإن أذن له وليه فأحرم لم ينعقد إحرامه، وإنما يفعل ذلك ليمرن عليه، ويتجنب ما يتجنب المحرم استحسانا، وإذا قتل صيدا فلا جزاء عليه (4).
ص: 359
دليلنا: إجماع الفرقة.
وأيضا ما روي أن امرأة رفعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله صبيا من محفة فقالت: يا رسول اللّه ألهذا حج؟ قال: " نعم ولك أجر " (1).
مسألة 195: إذا أحرم الولي بالصبي، فنفقته الزائدة على نفقته في الحضر على الولي دون ماله، وبه قال أكثر الفقهاء (1).
وقال قوم منهم: يلزمه في ماله (2).
دليلنا: إن الولي هو الذي أدخله في ذلك، وليس بواجب عليه، فيجب أن يلزمه، لأن إلزامه في مال الصبي يحتاج إلى دلالة.
مسألة 196: إذا حمل الإنسان صبيا فطاف به، ونوى بحمله طواف الصبي وطواف نفسه، أجزأ عنهما.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: يقع الطواف عن الولي، والثاني: يقع عن الصبي (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنها منصوبة لهم فيمن حمل غيره فطاف به في أنه يجزي عنهما جميعا إذا نوى ذلك (4).
مسألة 197: الصبي إذا وطأ في الفرج عامدا فقد روى أصحابنا إن عمد الصبي وخطأه سواء (5)، فعلى هذا لا يفسد حجه، ولا تتعلق به كفارة.
وإن قلنا: أن ذلك عمد، يجب أن يفسد الحج وتتعلق به الكفارة،
ص: 361
لعموم الأخبار فيمن وطأ عامدا أنه يفسد حجه (1)، كان قويا، إلا أنه لا يلزمه القضاء، لأنه ليس مكلف، ووجوب القضاء يتوجه إلى المكلف.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: إن عمده وخطأه سواء في الحكم، فإن حكم بأن عمده خطأ، فهو على قولين مثل البالغ في فساد الحج.
وإن قال: عمده عمد فقد أفسد حجه وعليه بدنه (2).
وهل يجب عليه القضاء بالإفساد؟ على قولين، أحدهما: لا قضاء عليه، لأنه غير مكلف مثل ما قلناه. الثاني: عليه القضاء (3).
فإذا قال: يصح منه وهو صغير ففعل فلا كلام، وإذا قال: لا يصح أو قال: يصح ولم يفعل حتى بلغ، فحج بعد بلوغه، فهل تجزيه عن حجة الإسلام أم لا؟ نظرت في التي أفسدها، فإن كانت لو سلمت من الفساد أجزأت عن حجة الإسلام، وهو أن يبلغ قبل فوات وقت الوقوف بعرفات، فكذلك القضاء، وإن كان لو سلمت من الفساد لا تجزيه عن حجة الإسلام، بأن لم يبلغ في وقت الوقوف، فكذلك القضاء (4).
دليلنا: عموم الأخبار التي وردت على ما قدمناه.
ص: 362
مسألة 198: ضمان ما يتلفه الصبي المحرم من الصيد على الولي.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني: في ماله (1).
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في ذلك، وإنه يلزمه جميع ما يلزم المحرم (2).
مسألة 199: طواف الوداع مستحب بلا خلاف، وقد قدمنا أن طواف النساء فرض لا يتحلل من النساء إلا به، وإن ترك طواف الوداع لا يلزمه دم، وإن ترك طواف النساء لم تحل له النساء حتى يعود ويطوف، أو يأمر من يطوف عنه.
وخالف جميع الفقهاء في طواف النساء، ووافقونا في طواف الوداع.
فأما لزوم الدم بتركه، فذهب إليه أبو حنيفة، وأحد قولي الشافعي (3).
والآخر: لا دم عليه (4).
دليلنا: على وجوب طواف النساء: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، فأما لزوم الدم بترك طواف الوداع فيحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 200: من وطأ في الفرج قبل الوقوف بعرفة، فسد حجه بلا
ص: 363
خلاف: ويلزمه المضي فيها، ويجب عليه الحج عليه الحج من قابل، ويلزمه بدنه عندنا وعند الشافعي (1).
وعند أبي حنيفة: شاة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وروي عن ابن عمر، وابن عباس أنهما قالا: من وطأ قبل التحلل أفسد، وعليه ناقة (3)، ولا مخالف لهما.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا فكل من قال الوقوف بالمشعر الحرام الركن قال بما قلناه، وقد دللنا على أنه ركن (1)، فثبت ما قلناه لفساد التفرقة.
وأيضا رواية ابن عمر وابن عباس تدل على ذلك (2).
وما بعد الوقوف بالمشعر نخرجه بدليل إجماع الفرقة.
مسألة 202: من أفسد حجه وجب عليه المضي فيه، واستيفاء أفعاله، وبه قال جميع الفقهاء (3)، إلا داود، فإنه قال: يخرج بالفساد منه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، بل إجماع الأمة، وداود قد سبقه الإجماع وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك.
وأيضا قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " (5).
يتناول هذا الموضع، لأنه لم يفرق بين حجة أفسدها وبين ما لم يفسده.
وما قلناه مروي عن علي عليه السلام وابن عباس، وعمر، وأبي هريرة ولا مخالف لهم في الصحابة (6).
مسألة 203: إذا وطأ في الفرج بعد التحلل الأول لم يفسد حجه وعليه بدنة. وقال الشافعي مثل ذلك (7)، وله في لزوم الكفارة قولان:
ص: 365
أحدهما: بدنة، والآخر: شاة (1).
وقال مالك: يفسدها ما بقي منه، وعليه أن يأتي بالطواف والسعي، لأنه يمضي في فساده، ثم يقضي ذلك بعمل عمرة، ويخرج في الحل، فيأتي بذلك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا تبنى هذه المسألة على وجوب الوقوف بالمشعر، فكل من قال بذلك قال بما قلناه.
وروي عن ابن عباس أنه قال: من وطأ بعد التحلل - وفي بعضها بعد الرمي - فحجه تام، وعليه بدنة (3).
مسألة 204: إذا وطأ بعد الوطء، لزمه بكل وطء كفارة، وهي بدنة، سواء كفر عن الأول أو لم يكفر.
وقال الشافعي: إن وطأ بعد أن كفر عن الأول وجبت عليه الكفارة، قولا واحدا، وهل هي شاة أو بدنة على قولين.
وإن كان قبل أن يكفر عن الأول ففيها ثلاثة أقوال: أحدهما: لا شئ عليه، والثاني: شاة، والثالث: بدنة (4).
ص: 366
دليلنا: ظواهر الأوامر التي وردت بأن من وطأ وهو محرم فعليه كفارة، ولم يفصلوا (1).
وإن قلنا بما قاله الشافعي: أنه إن كان كفر عن الأول لزمته الكفارة، وإن كان قبل أن يكفر فعليه كفارة واحدة، كان قويا، لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 205: من أفسد حجه وجب عليه الحج من قابل. وقال الشافعي مثل ذلك في المنصوص عليه (2).
ولأصحابه قول آخر: وهو أنه على التراخي (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم التي ضمنت أن عليه الحج من قابل (4)، وطريقة الاحتياط تقتضي ذلك، ولأنا قد بينا أن حجة الإسلام على الفور (5)، وهذه حجة الإسلام.
وأيضا فلا خلاف أنه مأمور بذلك، والأمر عندنا يقتضي الفور (6)، وبهذا المذهب قال عمر، وابن عباس، وابن عمر (7).
مسألة 206: إذا وطأها وهي محرمة فالواجب كفارتان، فإن أكرهها
ص: 367
كانتا جميعا عليه، وإن طاوعته لزمته واحدة، ولزمتها الأخرى.
وقال الشافعي: كفارة واحدة يتحملها الزوج، ولم يفصل (1).
وله قول آخر: أن على كل واحد منهما كفارة (2).
وفي من يتحملها وجهان:
أحدهما: عليه وحده، والثاني: على كل واحد منهما كفارة فإن أخرجهما الزوج سقط عنها (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4)، وطريقة الاحتياط.
وقال أبو حنيفة: لا أعرف هذه التفرقة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (2)الفتاوى الهندية 1: 244، وشرح فتح القدير 2: 241، والمبسوط للسرخسي 2: 121، والنتف في الفتاوى 1: 213، والشرح الكبير 3: 322، والمغني لابن قدامة 3: 339، والهداية 1: 165، وبدائع الصنائع 2: 217، واللباب 1: 203، وفتح العزيز 7: 478.(3) وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر (4) ولا مخالف لهما.
وأيضا روي عنه عليه السلام أنه قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1)، وهذا خطأ.
مسألة 209: إذا وطأ المحرم فيما دون الفرج لا يفسد حجه، أنزل أو لم ينزل. وبه قال الشافعي (2).
وقال مالك: إذا أنزل أفسد الحج (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا إفساد الحج يحتاج إلى دليل، والأصل صحته، لأنه انعقد صحيحا، وليس على ما قالوه دليل.
مسألة 210: من أصحابنا من قال: إن إتيان البهيمة، واللواط بالرجال والنساء، وإتيانها في دبرها، كل ذلك يتعلق به فساد الحج (4).
وبه قال الشافعي (5).
ومنهم من قال: لا يتعلق الفساد إلا بالوطء في القبل من المرأة (6).
وقال أبو حنيفة: إتيان البهيمة لا يفسد، والوطء في الدبر على
ص: 370
روايتين، المعروف أنه يفسده (1).
دليلنا على الأول: طريقة الاحتياط، وعلى الثاني براءة الذمة.
مسألة 211: من أفسد عمرته كان عليه بدنة. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: شاة (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 212: القارن على تفسيرنا إذا أفسد حجه لزمه بدنة، وليس عليه دم القران.
وقال الشافعي: إذا وطأ القارن - على تفسيرهم فيمن جمع بين الحج والعمرة في الإحرام - لزمه بدنة واحدة بالوطء، ودم القران باق عليه (4).
وقال أبو حنيفة: يسقط دم القران، ويجب عليه شاتان، شاة بإفساد الحج وشاة بإفساد العمرة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وبراءة الذمة، ولأنا قد بينا فساد ما يقولونه في
ص: 371
كيفية القران (1).
مسألة 213: من وجب عليه دم في إفساد الحج فلم يجد، فعليه بقرة، فإن لم يجد فسبع شياة على الترتيب، فإن لم يجد فقيمة البدنة دراهم، ويشتري بها طعاما يتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما.
ونص الشافعي على مثل ما قلناه (2).
وفي أصحابه من قال: هو مخير (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4)، وطريقة الاحتياط.
مسألة 214: من نحر ما يحب عليه في الحل وفرق اللحم في الحرم لا يجريه. وبه قال الشافعي (5).
وقال بعض أصحابه: يجزيه (6).
دليلنا: قوله تعالى: " ثم محلها إلى البيت العتيق " (7) وهذا ما بلغه، وعليه إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 215: إذا نحر في الحرم، وفرق اللحم في الحل، لم يجزه، وبه قال
ص: 372
الشافعي قولا واحدا (1).
وكذلك الإطعام، ولا يجزيه عندنا إلا لمساكين الحرم. وبه قال الشافعي قولا واحدا (2).
وقال مالك في اللحم مثل قولنا، والإطعام: كيف شاء (3).
وقال أبو حنيفة: إذا فرق اللحم أو أطعم المساكين في غير الحرم أجزأه (4).
دليلنا: طريقة الاحتياط.
مسألة 216: من وجب عليه الهدي في إحرام الحج فلا ينحره إلا بمنى، وإن وجب عليه في إحرام العمرة فلا ينحره إلا بمكة.
وقال باقي الفقهاء: أي مكان شاء من الحرم يجزيه (5)، إلا أن الشافعي استحب مثل ما قلناه (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 217: من أفسد الحج وأراد أن يقضي، أحرم من الميقات. وبه قال
ص: 373
أبو حنيفة وقال: لا يلزمه إن كان أحرم فيما أفسد من قبل الميقات (1).
وقال الشافعي: يلزمه من الموضع الذي كان أحرم منه (2).
دليلنا: إنا قد بينا أن الإحرام قبل الميقات لا ينعقد، وهو إجماع الفرقة، وأخبارهم عامة في ذلك (3)، فلا تتقدر على مذهبنا هذه المسألة.
مسألة 218: إذا أراد قضاء العمرة التي أفسدها أحرم من الميقات.
وقال الشافعي مثل قوله في الحج، بأغلظ الأمرين (4).
وقال أبو حنيفة: يحرم من أدنى الحل، ولا يلزمه الميقات (5).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى سواء.
مسألة 219: من فاته الحج سقط عنه توابع الحج، والوقوف بعرفات، والمشعر، ومنى، والرمي، وعليه طواف وسعي، فيحصل له إحرام، وطواف، وسعي، ثم يحلق بعد ذلك، وعليه القضاء من القابل، ولا هدي عليه.
وفي أصحابنا من قال: عليه هدي.
وروي ذلك في بعض الروايات (6).
ص: 374
وبمثله قال الشافعي إلا في الحلق، فإنه على قولين إلا أنه قال: لا يصير حجه عمرة، وإن فعل أفعال العمرة، وعليه القضاء وشاة (1).
وبه قال أبو حنيفة، ومحمد إلا في فصل، وهو أنه لا هدي عليه (2).
وقال أبو يوسف تنقلب حجته عمرة، مثل ما قلناه (3).
وعن مالك ثلاث روايات:
أوليها: مثل قول الشافعي.
والثانية: يحل بعمل عمرة، وعليه الهدي دون القضاء.
والثالثة: لا يحل، بل يقيم على إحرامه، حتى إذا كان من قابل أتى بالحج، فوقف وأكمل الحج (4).
وقال المزني: يمضي في فائته، فيأتي بكل ما يأتي به الحاج إلا الوقوف (5)، فخالف الباقين في التوابع.
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن إلزام التوابع مع الفوات يحتاج إلى دليل، وكذلك البقاء، وإسقاط القضاء يحتاج إلى دليل، وأما وجوب الهدي فطريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 220: من فاته الحج وكانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها على الفور في السنة الثانية. وبه قال الشافعي، وهو ظاهر مذهبهم (6).
ص: 375
وفي أصحابه من قال: على التراخي (1).
دليلنا: ما بيناه من أن حجة الإسلام على الفور، وأيضا فهو مأمور بهذه الحجة، والأمر عندنا على الفور (2). وطريقة الاحتياط أيضا تقتضيه، وما ذكرناه مروي عن عمر، وابن عمر (3) ولا مخالف لهما.
مسألة 221: على الرواية التي ذكرناها، أن من فاته الحج عليه الهدي، ولا يجوز تأخيره إلى القابل (4)، وهو أحد قولي الشافعي (5).
والثاني، أن له ذلك (6).
دليلنا: طريقة الاحتياط، لأنه إذا أتى به برئت ذمته بلا خلاف.
مسألة 222: من دخل مكة لحاجة لا تتكرر كالتجارة، والرسالة، وزيارة الأهل، أو كان مكيا فخرج لتجارة ثم عاد إلى وطنه، أو دخلها للمقام بها، فلا يجوز له أن يدخلها إلا بإحرام. وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة، وهو قول الشافعي في الأم (7).
ولأبي حنيفة تفصيل فقال: هذا لمن كانت داره قبل المواقيت، وأما إن كانت داره في المواقيت أو دونها فله دخولها بغير إحرام (8).
ص: 376
والقول الآخر للشافعي أن ذلك مستحب غير واجب (1) قاله في عامة كتبه، وبه قال ابن عمر، ومالك (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، والأخبار الواردة في هذا المعنى وظاهرها يقتضي الإيجاب (3).
مسألة 223: من يتكرر دخوله مكة من الحطابة والرعاة، جاز له دخولها بغير إحرام. وبه قال الشافعي (4).
وقال بعض أصحابه: إن للشافعي فيه قولا آخر، وهو أنه يلزم هؤلاء في السنة مرة (5).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 224: من يجب عليه أن لا يدخل مكة إلا محرما، فدخلها محلا، فلا قضاء عليه، وبه قال الشافعي على قوله: إنه واجب أو مستحب (6).
وقال أبو حنيفة: عليه أن يدخلها محرما، فإن دخلها محلا فعليه القضاء، ثم ينظر، فإن حج حجة الإسلام من سنته فالقياس أن عليه القضاء، لكنه يسقط
ص: 377
القضاء استحسانا، وإن لم يحج من سنته استقر عليه القضاء (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وإيجاب الاحتياط يحتاج إلى دلالة.
مسألة 225: من أسلم وقد جاوز الميقات، فعليه الرجوع إلى الميقات، والإحرام منه، فإن لم يفعل، وأحرم من موضعه، وحج، تم حجه، ولا يلزمه دم.
وبه قال أبو حنيفة والمزني (2).
وقال الشافعي: يلزمه دم قولا واحدا (3).
دليلنا: أن الأصل براءة الذمة، فمن شغلها بشئ فعليه الدلالة.
مسألة 226: إحرام الصبي عندنا جائز صحيح، وإحرام العبد صحيح بلا خلاف، ووافقنا الشافعي في إحرام الصبي (4).
فعلى هذا إذا بلغ الصبي، واعتق العبد قبل التحلل، فيه ثلاث مسائل: إما أن يكملا بعد فوات وقت الوقوف، أو بعد الوقوف وقبل فوات وقته.
فإن كملا بعد فوات وقت والوقوف، مثل أن يكملا بعد طلوع الفجر من يوم النحر، مضيا على الإحرام، وكان الحج تطوعا، ولا يجزي عن حجة الإسلام بلا خلاف.
وإن كملا قبل الوقوف، تعين إحرام كل واحد منهما بالفرض، وأجزأه عن
ص: 378
حجة الإسلام. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: الصبي يحتاج إلى تجديد إحرام، لأن إحرامه لا يصح عنده، والعبد يمضي على إحرامه تطوعا، ولا ينقلب فرضا (2).
وقال مالك: الصبي والعبد معا يمضيان في الحج، ويكون تطوعا (3).
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، فإنهم لا يختلفون في هذه المسألة، وهي منصوصة لهم، وقد ذكرناها ونصوصها في الكتاب المقدم ذكره (4).
مسألة 227: وإن كان البلوغ والعتق بعد الوقوف وقبل فوات وقته، مثل أن كملا قبل طلوع الفجر، رجعا إلى عرفات والمشعر إن أمكنهما، وإن لم يمكنهما رجعا إلى المشعر ووقفا وقد أجزأهما، فإن لم يعودا إليهما أو إلى أحدهما فلا يجزيهما عن حجة الإسلام.
وقال الشافعي: إن عادا إلى عرفات، فوقفا قبل طلوع الفجر، فالحكم فيه كما لو كملا قبل الوقوف فإنه يجزيهما، وإن لم يعودا إلى عرفات لم يجزهما عن حجة الإسلام (5).
وحكي عن ابن عباس أنه قال: يجزيهما عن حجة الإسلام (6).
ص: 379
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون في أن من أدرك المشعر فقد أدرك الحج، ومن فاته فقد فاته الحج (1).
مسألة 228: كل موضع قلنا إنه يجزيهما عن حجة الإسلام، فإن كانا متمتعين يلزمهما الدم للتمتع، وإن لم يكونا متمتعين لم يلزمهما دم.
وقال الشافعي: عليهما دم. وقال في موضع آخر: لا يبين لي أن عليهما دما (2).
وقال أبو إسحاق: على قولين (3).
وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو الطيب بن سلمة: لا دم، قولا واحدا (4).
دليلنا في المتمتع: قوله تعالى: " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " (5) ولم يفصل وغير المتمتع، فالأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 229: لا ينعقد إحرام العبد إلا بإذن سيده. وبه قال داود ومن تابعه (6).
وقال جميع الفقهاء: ينعقد، وله أن يفسخ عليه حجه، والأفضل أن
ص: 380
لا يفسخه (1).
دليلنا: قوله تعالى: " عبد مملوكا لا يقدر على شئ " (2) والإحرام من جملة ذلك، ومن أجاز فعليه الدلالة، وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم (3).
مسألة 230: العبد إذا أفسد حجه، وكان أحرم بإذن مولاه، لزمه ما يلزم الحر، ويجب على مولاه إذنه فيه إلا الفدية، فإنه بالخيار بين أن يفدي عنه، أو يأمره بالصيام.
وإن كان بغير إذنه فإحرامه باطل، لا يتصور معه الإفساد.
وقال جميع الفقهاء: إن الإفساد صحيح في الموضعين معا (4).
وقال أصحاب الشافعي: إن المنصوص أن عليه القضاء (5)، ومن أصحابه من قال: لا قضاء عليه (6).
دليلنا على وجوب القضاء: إذا كان بإذن سيده طريقة الاحتياط، وعموم الأخبار فيمن أفسد حجه أن عليه القضاء، وهي متناولة له، لأنه حكمنا بصحة إحرامه.
فأما إذا لم يكن بإذنه فقد بينا أن إحرامه باطل (7).
مسألة 231: إذا أذن له السيد في الإحرام، وأفسد، وجب عليه أن يأذن له في القضاء.
وللشافعي فيه وجهان:
ص: 381
أحدهما: له منعه منه (1). والآخر: ليس له ذلك (2).
دليلنا: إنه إذا أذن له في ذلك لزمه جميع ما يتعلق به، ومما يتعلق به قضاء ما أفسده.
مسألة 232: إذا أفسد العبد حجه، ولزمه القضاء على ما قلناه، فأعتقه السيد، كان عليه حجة الإسلام وحجة القضاء، ويجب عليه البدأة بحجة الإسلام، وبعد ذلك بحجة القضاء. وبه قال الشافعي (3).
وهكذا القول في الصبي إذا بلغ، وعليه قضاء حجه، فإنه لا يقضي قبل حجة الإسلام، فإن أتى بحجة الإسلام كان القضاء باقيا، وإن أحرم بالقضاء انعقد لحجة الإسلام وكان القضاء باقيا في ذمته. هذا إذا تحلل من حجة كان أفسدها، وتحلل منها ثم أعتق.
فأما إن أعتق قبل التحلل منها، فلا فصل بين أن يفسد بعد العتق أو قبل العتق، فإنه يمضي في فاسده، ولا تجزيه الفاسدة عن حجة الإسلام، فإذا قضي، فإن كانت لو سلمت التي أفسدها من الفساد أجزأه عن حجة الإسلام فالقضاء يجزيه عنه، مثل إن أعتق قبل فوات وقت الوقوف، ووقف بعده. وإن كانت لو سلمت لم تجزه عن حجة الإسلام فالقضاء كذلك، مثل أن يعتق بعد فوات وقت الوقوف، فيكون عليه القضاء وحجة الإسلام معا.
وهذا كله وفاق، إلا ما قاله من العتق قبل التحلل (4)، فإنا نعتبر قبل الوقوف بالمشعر، فإن كان بعده لا يتعلق به فساد الحج أصلا، فتكون حجته تامة إلا أنها لا تجزيه عن حجة الإسلام على حال.
ص: 382
دليلنا: ما قدمناه من أن من لحق المشعر فقد لحق الحج، ومن لم يلحق فقد فاته، فهذه التفريعات يقتضيها كلها.
مسألة 233: إذا أذن المولى لعبده في الإحرام، ثم بدا له، فأحرم العبد قبل أن يعلم نهيه عن ذلك، صح إحرامه، وليس له فسخه عليه.
وللشافعي فيه قولان: أحدهما: مثل ما قلناه (1)، والآخر: له ذلك، بناء على مسألة الوكيل إذا عزله قبل أن يعلم، فإن له فيه قولين (2).
دليلنا: إن هذا إحرام صحيح انعقد بإذن المولى، لأن العلم بالإذن كان حاصلا ولم يعلم النهي، فيجب أن يصح، لأن المنع من ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 234: إذا أحرم العبد بإذن سيده، لم يكن لسيده أن يحلله منه. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: له أن يحلله منه (4).
دليلنا: طريقة الاحتياط، ولأن هذا إحرام صحيح، وجواز تحليله منه يحتاج إلى دليل.
مسألة 235: من أهل بحجتين انعقد إحرامه بواحدة منهما، وكان وجود الأخرى وعدمها سواء، ولا يتعلق بها حكم، ولا يجب قضاؤها ولا الفدية.
وهكذا من أهل بعمرتين، أو بحجة ثم أدخل عليها أخرى، أو بعمرة ثم
ص: 383
أدخل عليها أخرى. والكلام فيما زاد عليه كالكلام فيه سواء. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينعقد إحرامه بحجتين وأكثر، وبعمرتين وأكثر، لكنه لا يمكنه المضي فيهما (2).
ثم اختلفوا، فقال أبو حنيفة ومحمد: يكون محرما بهما ما لم يأخذ في السير، فإذا أخذ فيه ارتفضت إحديهما وبقيت الأخرى، وعليه قضاء التي ارتفضت والهدي، قالا: ولو حصر قبل المسير تحلل منهما بهديين (3).
وقال أبو يوسف: ترتفض أحديهما عقيب الانعقاد، وعليه قضاؤها وهدي، وتبقى الأخرى يمضي فيها (4).
دليلنا: إن انعقاد واحدة مجمع عليه، وما زاد عليها ليس عليه دليل، والأصل براءة الذمة، ولأنا أجمعنا على أن المضي فيهما لا يمكن، فمن أوجب القضاء في واحدة فعليه الدلالة.
مسألة 236: الاستئجار للحج جائز، فإذا صار الرجل معضوبا جاز أن يستأجر من يحج عنه، وتصح الإجارة وتلزم، ويكون للأجير أجرته، فإذا فعل الحج عن المكتري، وقع عن المكتري، وسقط الفرض به عنه.
ص: 384
وكذلك إذا مات من عليه حج، واكترى وليه من يحج عنه، ففعل الأجير الحج. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز الإجارة على الحج، فإذا فعل كانت الإجارة باطلة، فإذا فعل الأجير ولبى عن المكتري وقع الحج عن الأجير، ويكون للمكتري ثواب النفقة، فإن بقي مع الأجير شئ كان عليه رده (2).
فأما إن مات، فإن أوصى أن يحج عنه كانت تطوعا من الثلث (3)، وإن لم توجد كان لوليه وحده أن يحج عنه، فإذا فعل، قال محمد: أجزأه إن شاء اللّه، وأراد " أجزأه " الإضافة إليه، ليبين أن غير الولي لا يملك هذا.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا الأصل جواز الإجارات في كل شئ، فمن منع في شئ دون شئ فعليه الدلالة، ولأنا اتفقنا على وجوب الحج عليه، فمن أسقطه بالموت فعليه الدلالة.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله سمع رجلا وهو يقول:
لبيك عن شبرمة فقال له: ويحك من شبرمة (4)؟! فقال له: أخ لي، أو صديقي لي، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: " حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة " (5).
ص: 385
فوجه الدلالة أنه قال: ثم حج عن برمة. وعند أبي حنيفة لا يحج عنه (1).
وروي عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى اللّه عليه وآله فقالت: إن فريضة اللّه في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: " نعم " فقالت: يا رسول اللّه فهل ينفعه ذلك؟ قال: " نعم كما لو كان عليه دين فقضيته نفعه " (2).
وهذا يدل على ما قلناه من ثلاثة أوجه:
أحدهما: إنها سألته عن النيابة عنه؟ فقال: تجوز.
والثاني: قالت: ينفعه؟ قال: نعم، فأخبرها أن الحج ينعقد وينفعه، وعندهم ينفعه ثواب النفقة.
والثالث: إنه شبهه بالدين، في أنه ينفعه ويسقط به قضاؤه عنه.
وروى عبيد اللّه بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصل منى ينحر فجاءته امرأة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد اقعد، وأدركته فريضة اللّه على عبادة في الحج، ولا يستطيع أداءها، فهل يجزي عنه أن أؤديها عنه؟ فقال: " نعم " (3).
وهذا نص. لأنها سألته عن الإجزاء عنه بالنيابة؟ فقال: نعم.
مسألة 237: إذا صحت الإجارة فلا يحتاج إلى تعيين الموضع الذي يحرم منه.
وللشافعي فيه قولان:
ص: 386
قال في الأم ونقله المزني: لا يصح إلا بأن يقوم يحرم من موضع كذا وكذا (1).
وقال في الإملاء: يحرم عنه من ميقات بلد المستأجر، وهو أصح القولين عندهم (2).
دليلنا: إنا قد بينا أن الإحرام قبل الميقات لا يجوز (3)، وإذا ثبت فلا يصح إحرامه لو شرطه عليه قبل ذلك.
ولأنه إذا ثبت الأول ثبت الآخر، لأن أحدا لا يفصل.
وأيضا روى طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: " هذه المواقيت لأهلها، ولكل آت أتى عليها من غير أهلها ممن أراد حجا أو عمره " (4).
وهذا عام في كل أحد، نائبا كان أو غير نائب.
عند شروطهم " (1) وليس في الشرع ما يمنع منه.
مسألة 239: وإذا أحرم الأجير بالحج عن المستأجر، انعقد عمن أحرم عنه، فإن أفسد الأجير الحج انقلب عن المستأجر إليه وصار محرما بحجة عن نفسه فاسدة، فعليه قضاؤها عن نفسه، والحج باق عليه للمستأجر، يلزمه أن يحج عنه فيما بعد إن كانت الحجة في الذمة، ولم يكن له فسخ هذه الإجارة، لأنه لا دليل على ذلك.
وإن كانت معينة إنفسخت الإجارة، وكان على المستأجر أن يستأجر من ينوب عنه. وبه قال الشافعي، إلا أنه قال: إن كانت الحجة في الذمة وكان المستأجر حيا له يفسخ عليه، وإن كان ميتا لم يكن للولي فسخة (2).
وقال المزني: إذا أفسدها لم تنقلب إليه، بل أفسد حج غيره، فيمضي في فاسدها عن المستأجر، وعلى الأجر بدنة، ولا قضاء على واحد منهما (3).
دليلنا: على انتقاله: أنه استأجره على أن يحج عنه حجة صحيحة شرعية، وهذه فاسده غير شرعية، فيجب أن لا يجزيه.
وأما تجويز الفسخ عليه فليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 240: إذا استأجر رجلان رجلا ليحج عنهما، لم يصح عنهما ولا عن واحد منهما بلا خلاف، ولا يصح عندنا إحرامه عن نفسه، ولا ينقلب إليه.
ص: 388
وقال الشافعي: ينقلب الإحرام إليه (1).
دليلنا: إن انقلاب ذلك إليه يحتاج إلى دليل، وأيضا فإن من شرط الإحرام النية، فإذا لم ينو عن نفسه فقد تجرد عن نيته، فإذا تجرد عن نيته فلا يجزيه.
مسألة 241: إذا أحرم الأجير عن نفسه وعن من استأجره، لم ينعقد الإحرام عنهما، ولا عن واحد منهما.
وقال الشافعي: ينعقد عنه دون المستأجر (2).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.
وقال أصحاب الشافعي: إنما أفتيا من قبل نفوسهما إلا أنهما خرجاه على مذهب الشافعي (1).
دليلنا: إن الإجارة إنما وقعت على أفعال الحج، وهذا لم يفعل شيئا منها، فيجب أن لا يستحق الأجرة، ومن أوجب له ذلك فعليه الدلالة.
ويقوى في نفسي ما قاله الصيرفي، لأنه كما استؤجر على أفعال الحج استؤجر على قطع المسافة، وهذا قد قطع قطعة منها، فيجب أن يستحق الأجرة بحسبه
مسألة 244: إذا مات أو أحصر بعد الإحرام سقطت عنه عهدة الحج، ولا يلزمه رد شئ من الأجرة. وبه قال أصحاب الشافعي (2) إن كان بعد الفراغ من الأركان، كأن تحلل بالطواف، ولم يقو على المبيت بمنى والرمي.
ومنهم من قال: يرد قولا واحدا (3).
ومنهم من قال: على قولين (4).
وإن مات بعد أن فعل بعض الأركان، وبقي البعض، قال في الأم: له من الأجرة بقدر ما عمل (5)، وعليه أصحابه (6)، وقد قيل: لا يستحق شيئا (7)، فالمسألة على قولين.
دليلنا: إجماع الفرقة، فإن هذه المسألة منصوصة لهم، لا يختلفون فيها.
مسألة 145: إذا أحرم الأجير ومات، فقد قلنا أنه سقط الحج عنه،
ص: 390
وإن كان أحرم عن نفسه فلا يجوز أن ينقلها إلى غيره.
وللشافعي فيه قولان:
قال في القديم: يجوز له البناء عليه، ويتم عنه غيره، والآخر: أنه لا يصح ذلك (1).
دليلنا: إن جواز ذلك يحتاج إلى دلالة، لأن الأصل في الشريعة أن لا تجزي عبادة إلا عن واحد، فمن أجازها عن اثنين فعليه الدلالة.
مسألة 246: إذا استأجر رجلا على أن يحج مثلا من اليمن، فأتى الأجير الميقات، ثم أحرم عن نفسه بالعمرة، فلما تحلل منها الحج عن المستأجر، فإن كانت الحجة حجها من الميقات صحت، وإن حجها من مكة وهو متمكن من الرجوع إلى الميقات لم تجزه، وإن لم يمكنه صحت حجته، ولا يلزمه دم.
وقال الشافعي مثلنا، إلا أنه قال: حجته صحيحة، قدر على الرجوع أو لم يقدر، ويلزمه دم، لإخلاله بالرجوع إلى الميقات (2).
دليلنا: إنه استأجر على أن يحج من ميقات بلده، فإذا حج من غيره فقد فعل غير ما أمر به، وإجزائه عنه يحتاج إلى دليل، فأما مع التعذر فلا خلاف فيه في جزائه، وإيجاب الدم عليه يحتاج إلى دليل.
مسألة 247: إذا استأجره ليتمتع عنه، فقرن أو أفرد، لم يجز عنه.
وقال الشافعي: إن قرن عنه أجزأه (3) على تفسيرهم في القران.
ص: 391
وهل يرد من الأجرة بقدر ما ترك منها من العمل؟ وجهان (1).
وإن أفرد عنه، فإن أتى بالحج وحده دون العمرة، فعليه أن يرد من الأجرة بقدر عمل العمرة (2).
وإن حج واعتمر بعد الحج، فإن عاد إلى الميقات فأحرم بها منه فلا شئ عليه، وإن أحرم بالعمرة من أدنى الحل فعليه دم (3).
وهل عليه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك من عمل العمرة؟ وجهان (4).
دليلنا: إن من ذكرناه لم يأت بما استأجره عليه وأتى بغيره، فمن قال إنه يجزي عنه فعليه الدلالة، وليس في الشرع ما يدل عليه.
مسألة 248: إذا استأجره للإفراد، فتمتع، فقد أجزأه.
وقال الشافعي: إن كان في كلامه ما يوجب التخيير أجزأه ولا شئ عليه، وإن لم يكن ذلك في كلامه وقعت العمرة عن الأجير، والحج عن المستأجر، وعليه دم لا خلاله بالإحرام للحج من الميقات (5).
وفي وجوب رد الأجرة بقدر ما ترك من عمل الحج طريقان (6).
دليلنا: إجماع الطائفة، فإن هذه المسألة منصوصة لهم.
دليلنا: قوله تعالى: " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه " (1).
وأيضا إجماع الفرقة دليل عليه، فإنهم لا يختلفون فيه.
مسألة 250: إذا قال: حج عني بنفقتك، أو علي ما تنفق، كانت الإجارة باطلة، فإن حج عنه لزمه أجره مثل. وبه قال الشافعي (2).
مسألة 251: من قال: أول من يحج عني فله مائة، كانت جعالة صحيحة.
وقال المزني: إجارة فاسدة (3).
دليلنا: إن هذا شرط وجزاء محض، ولا مانع يمنع من ذلك، فينبغي أن يكون صحيحا.
مسألة 252: إذا قال: حج عني أو اعتمر بمائة، كان صحيحا، فمتى حج أو اعتمر استحق مائة.
وقال الشافعي: الإجارة باطلة، لأنها مجهولة، فإن حج أو اعتمر
ص: 393
استحق أجرة المثل (1).
دليلنا: إن هذا تخيير بين الحج والعمرة بأجرة معلومة، وليس بمجهول، ولا مانع يمنع عنه، فمن ادعى المنع فعليه الدلالة.
مسألة 253: إذا قال: من يحج عني فله عبد، أو دينار، أو عشرة دراهم كان صحيحا، ويكون المستأجر مخيرا في إعطائه أيها شاء.
وقال الشافعي: العقد باطل، فإن حج استحق أجرة المثل (2).
دليلنا: ما قدمناه في المسألة الأولى سواء، من أنه تخيير وليس بمجهول، فمن ادعى ذلك فعليه الدلالة.
مسألة 254: من كان عليه حجة الإسلام وحجة النذر لم يجز له أن يحج النذر قبل حجة الإسلام، فإن خالف وحج بنية النذر لم تنقلب إلى حجة الإسلام.
وقال الشافعي: تنقلب إلى حجة الإسلام (3).
وهكذا الخلاف في الأجير إذا استأجره، وكان معضوبا ليحج عنه حجة النذر لا تنقلب إلى حجة الإسلام. وعند الشافعي تنقلب (4).
دليلنا: قول النبي صلى اللّه عليه وآله: " الأعمال بالنيات " (5) وظاهرها يقتضي مطابقة الأعمال للنيات، فمن قال: ينقلب إلى غيرها فعليه الدلالة.
ص: 394
مسألة 255: إذا استأجر ليحج عنه، أو ليعتصر م حج عنه، لم يقع ذلك عن المحجوج عنه، سواء كان حيا أو ميتا، ولا يستحق عليه شيئا من الأجرة.
وقال الشافعي: إن كان المحجوج عنه حيا وقعت عن الأجير، وإن كان ميتا وقعت عن المحجوج عنه، ولا يستحق شيئا من الأجرة على حال (1).
دليلنا: إنه ما فعل ما استأجره فيه، بل خالف ذلك، فمن ادعى أن خلافه يجزي عنه فعليه الدلالة.
مسألة 256: إذا كان عليه حجتان حجة الإسلام وحجة النذر وهو معضوب، جاز أن يستأجر رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة. وبه قال الشافعي (2).
وفي أصحابه من قال: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أن يفعل الحجتين في سنة واحدة (3).
دليلنا: إن المنع من ذلك يحتاج إلى دليل، وليس كذلك هو نفسه، لأن ذلك مجمع على المنع منه.
مسألة 257: إذا أتى المتمتع بأفعال العمرة من الطواف والسعي والحلق، ثم أحرم بالحج وأتى بأفعاله جميعا، ثم ذكر أنه طاف أحد الطوافين إما العمرة أو الحج بغير طهارة، ولا يدري أيهما هو، فعليه أن يعيد الطواف بوضوء، ويعيد بعده السعي، ولا دم عليه.
وقال الشافعي: يلزم بأغلظ الأمرين، فنفرض إن كان من طواف العمرة يعيد الطواف والسعي، وصار قارنا بإدخال الحج عليها، وعليه دمان،
ص: 395
وإن كان من طواف الحج فعليه أن يعيد الطواف والسعي، وعليه دم (1).
دليلنا: إن إعادة الطواف والسعي مجمع عليه، وإلزام الدم يحتاج إلى دليل، والأصل براءة الذمة.
مسألة 258: إذا قتل المحرم صيدا لزمه الجزاء، سواء كان ذاكرا للإحرام عامدا إلى قتل الصيد، أو كان ناسيا للإحرام مخطئا في قتل الصيد، أو كان ذاكرا للإحرام مخطئا في قتل الصيد، أو ناسيا للإحرام عامدا في القتل. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وعامة أهل العلم (2).
وقال مجاهد: إنما يجب الجزاء في قتل الصيد إذا كان ناسيا للإحرام، أو مخطئا في قتل الصيد، فأما إذا كان عامدا فيهما فلا جزاء عليه (3).
وقال داود: إنما يجب الجزاء على العامد دون الخاطئ (4).
دليلنا على الفريقين: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وعلى مجاهد قوله تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " (5).
وعلى داود مثل ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله إذ قال: " في الضبع كبش إذا أصابه المحرم " (6) ولم يفرق.
ص: 396
مسألة 259: إذا عاد إلى قتل الصيد، وجب عليه الجزاء ثانيا. وبه قال عامة أهل العلم (1).
وروي في كثير من أخبارنا أنه إذا عاد لا يجب عليه الجزاء، وهو ممن ينتقم اللّه منه (2)، وهو الذي ذكرته في النهاية (3)، وبه قال داود (4).
دليلنا: على الأول قوله تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " (5) ولم يفرق بين الأول والثاني، وقوله بعد ذلك: " ومن عاد فينتقم اللّه منه " (6) لا يوجب إسقاط الجزاء، لأنه لا يمتنع أن يكون بالمعاودة ينتقم اللّه منه وإن لزمه الجزاء.
وإذا قلنا بالثاني، فطريقته الأخبار التي ذكرناها في الكتاب (7)، ويمكن أن يستدل بقوله: " ومن عاد فينتقم اللّه منه " (8) ولم يوجب الجزاء، ويقوي ذلك أن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
مسألة 260: إذا قتل صيدا، فهو مخير بين ثلاثة أشياء، بين أن يخرج مثله من النعم، وبين أن يقوم مثله دراهم ويشتري به طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما.
وإن كان الصيد لا مثل له فهو مخير بين شيئين، بين أن يقوم الصيد ويشتري بثمنه طعاما ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوما، ولا يجوز
ص: 397
إخراج القيمة بحال. وبه قال الشافعي (1).
ووافق في جميع ذلك مالك إلا في فصل واحد، وهو أن عندنا إذا أراد شراء الطعام قوم المثل، وعنده قوم الصيد، ويشتري بثمنه طعاما (2).
وفي أصحابنا من قال على الترتيب (3).
وقال أبو حنيفة: الصيد مضمون بقيمته، سواء كان له مثل أو لم يكن له مثل، إلا أنه إذا قومه فهو مخير بين أن يشتري بالقيمة من النعم ويخرجه، ولا يجوز أن يشتري من النعم إلا ما يجوز في الضحايا، وهو الجذع من الضأن، والثني من كل شئ، وبين أن يشتري بالقيمة طعاما ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوما (4).
وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يشتري بالقيمة شيئا من النعم ما يجوز في الضحايا وما لا يجوز له (5).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (6) فأوجب في الصيد مثلا موصوفا من النعم.
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " في الضبع كبش إذا أصابه المحرم " (7) وعليه إجماع الفرقة.
ص: 398
مسألة 261: ما له مثل، منصوص عليه عندنا، وقد فصلناه في النهاية وتهذيب الأحكام وغيرهما (1).
وقال الشافعي: ما قضت الصحابة فيه بالمثل، مثل البدنة في النعامة، والبقرة في حمار الوحش، والشاة في الظبي والغزال، فإنه يرجع إلى قولهم فيه، وما لم يقضوا فيه بشئ فيرجع إلى قول عدلين (2).
وهل أن يكون أحدهما القاتل أم لا؟ لأصحابه قولان (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (4) وعليه عملهم، فإن فرضنا أن يحدث ما لا نص فيه، رجعنا فيه إلى قول عدلين على ما يقتضيه ظاهر القرآن (5).
وقال مالك: يجب في الصغار الكبار (1).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (2) ومثل الصغير صغير، وعليه إجماع الفرقة، وطريقة براءة الذمة تدل عليه.
مسألة 263: إذا قتل صيدا أعور أو مكسورا فالأفضل أن يخرج الصحيح من الجزاء، وإن أخرج مثله كان جائزا. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك: يفديه بصحيح (4).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (5) ومثل الأعور يكون أعور، ومثل المكسور مكسور.
مسألة 264: إذا قتل ذكرا جاز أن يفديه بأنثى، وإن قتل أنثى جاز أن يفديها بذكر، وإن فدا كل واحد منهما بمثله كان أفضل. وبه قال الشافعي وأصحابه إلا في فداء الأنثى بالذكر، فإن في أصحابه من قال: لا يجوز أن يفدي الأنثى بالذكر (6).
ص: 400
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في ذلك، وقوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (1) ونحن نعلم أنه أراد المثل من الخلقة، لأن الصفات الأخر لا تراعى، ألا ترى أن اللون وغيره من الصفات لا تراعى، فعلم أن المراد ما قلناه.
مسألة 265: إذا جرح المحرم صيدا، فإنه يضمن ذلك الجرح على قدره.
وبه قال كافة العلماء (2).
وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه لا يضمن جرح الصيد، ولا إتلاف أبعاضه.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 266: إذا لزمه أرش الجراح، قوم الصيد صحيحا ومعيبا، فإن كان ما بينهما مثلا عشر، الزم عشر مثله. وبه قال المزني (3).
وقال الشافعي: يلزمه عشر قيمة المثل (4).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (5) والمثل لا يدخل في القيمة بالاتفاق بيننا وبين الشافعي.
مسألة 267: إذا حرج صيدا، فغاب عن عينه، لزمه الجزاء على الكمال.
وبه قال مالك (6).
ص: 401
وقال الشافعي: لا يلزمه الجزاء على الكمال، ويقوم بين كونه صحيحا مجروحا، والدم جار، والزم ما بينهما (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم، وهذه منصوصة لهم (2) وطريقة الاحتياط تقتضي ما قلناه.
مسألة 268: جزاء الصيد على التخيير بين أخراج المثل، أو بيعه وشراء الطعام والتصدق به، وبن الصوم عن كل مد يوما. وبه قال جميع الفقهاء (3).
وروي عن ابن عباس وابن سيرين أنهما قالا: وجوب الجزاء على الترتيب، فلا يجوز أن يطعم مع القدرة على إخراج، ولا يجوز أن يصوم مع القدرة على الإطعام (4).
وحكى أبو ثور عن الشافعي أنه قال في القديم مثل هذا (5).
وذهب إليه قوم من أصحابنا (6).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل - إلى قوله - أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " (7) و (أو)
ص: 402
للتخيير بلا خلاف بين أهل اللسان، فمن ادعى الترتيب فعليه الدلالة.
مسألة 269: المثل الذي يقوم هو الجزاء. وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: يقوم الصيد المقتول (2).
دليلنا: قوله تعالى: " فجزاء مثل ما قتل من النعم " (3) والقراءة بالخفض توجب أن يكون الجزاء بدلا عن المثل من النعم، لأن تقديرها لمثل ما قتل من النعم.
مسألة 270: ما له مثل يلزم قيمته وقت الإخراج دون حال الاتلاف، وما لا مثل له يلزم قيمته حال الإتلاف دون حال الإخراج، وهو الصحيح من مذهب الشافعي (4).
ومنهم من قال: ما لا مثل له على قولين:
أحدهما: الاعتبار بحال الإخراج (5)، والثاني: مثل ما قلناه (6).
دليلنا: إن حال الإتلاف وجب عليه قيمته، فالاعتبار بذلك دون حال الإخراج، لأن القيمة قد استقرت في ذمته.
مسألة 271: لحم الصيد حرام على المحرم، سواء صاده هو أو غيره، قتله
ص: 403
هو أو غيره، أذن فيه أو لم يأذن، أعان عليه أو لم يعن، وعلى كل حال. وهو مذهب جماعة من الفقهاء ذكروهم غير معينين.
وقال الشافي: ما يقتله بنفسه أو بأمره أو يشير إليه أو يدل عليه أو يعطي سلاحا لإنسان يقتله به، محرم عليه أكله، سواء كانت الدلالة عليه يستغنى عنها أو لا يستغنى. وكذلك ما اصطيد له بعلمه أو بغير علمه فلا يحل أكله (1).
وما اصطاده غيره ولا أثر له فيه، ولا صيد لأجله، فمباح له أكله (2).
وقال أبو حنيفة: إنه يحرم عليه ما صاده بنفسه، وماله فيه أثر لا يستغنى عنه، بأن يدل عليه ولا يعلم مكانه، أو دفع إليه سلاحا يحتاج إليه.
فأما إذا دل عليه دلالة ظاهرة لا يحتاج إليه، أو دفع سلاحا لا يحتاج إليه، أو أشار إليه ويستغنى عنها، فلا يحرم عليه، وكذلك ما صيد لأجله لا يحرم عليه (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، ويمكن أن يستدل بقوله تعالى:
" وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " (4) والمراد به المصيد عند أهل التفسير.
مسألة 272: المحرم إذا ذبح صيدا فهو ميتة، لا يجوز لأحد أكله، وبه
ص: 404
قال أبو حنيفة، والشافعي في الجديد (1).
وقال في القديم، والإملاء: ليس بميتة، ولكن لا يجوز له أكله (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 273: المحرم أو المحل إذا ذبحا صيدا في الحرم كان ميتة لا يجوز لأحد أكله. وفي أصحاب الشافعي من قال فيه قولان (3)، ومنهم من قال:
إن هذا ميتة قولا واحدا (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 274: إذا أكل من صيد قتله لزمه قيمته. وبه قال أبو حنيفة (5).
وقال الشافعي: إذا أكل من لحم الصيد الذي قتله لم يلزمه بذلك شئ (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 275: إذا دل على الصيد، فقتله المدلول، لزم الدال الفداء،
ص: 405
وكذلك المدلول إن كان محرما، أو في الحرم، سواء كانت دلالة ظاهرة أو باطنة.
فإن أعاره سلاحا قتل به صيدا، فلا نص لأصحابنا فيه، والأصل براءة الذمة.
وقال الشافعي: لا يضمن جميع ذلك (1).
وقال أبو حنيفة: يجب عليه الجزاء إذا دل على صيد دلالة باطنة، وإذا أعاره سلاحا لا يستغني عنه، وأما إذا دل عليه دلالة ظاهرة، أو أعاره سلاحا يستغني عنه، فلا جزاء (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 276: إذا أمسك محرم صيدا، فجاء محرم آخر فقتله، لزم كل واحد منهما الفداء كاملا.
وقال الشافعي: جزاء واحد، وعلى من يجب فيه وجهان:
أحدهما: يجب على الذابح. والآخر: يكون بينهما الممسك والذابح (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 227: صيد الحرم مضمون بلا خلاف بين الفقهاء، إلا داود، فإنه قال: لا يضمن (4).
ص: 406
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 278: صيد الحرم إذا تجرد عن الإحرام يضمن، فإن كان القاتل محرما تضاعف الجزاء، وإن كان محلا لزمه جزاء واحد.
وقال الشافعي: صيد الحرم مثل صيد الإحرام مخير بين ثلاثة أشياء:
بين المثل، والإطعام، والصوم. وفيما لا مثل له بين الإطعام، والصيام (1).
وقال أبو حنيفة: لا مدخل للصوم في ضمان صيد الحرم (2).
دليلنا: إجماع الفرقة المحقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 279: المحل إذا صاد صيدا في الحل وأدخله الحرم، ممنوع من قتله، وإذا قتله لزمه الجزاء. وبه قال أبو حنيفة (3).
وقال الشافعي: هو ممنوع، وإذا قتله فلا جزاء عليه (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 280: الشجر الذي ينبته الآدميون في العادة إذا أنبته الآدميون أو أنبته اللّه تعالى فلا ضمان في قطعه، وأما ما أنبته اللّه تعالى في الحرم، فيجب الضمان بقطعه، وإن أنبته اللّه تعالى في الحل فقطعه آدمي وأدخله في الحرم، فأنبته، فلا ضمان على قاطعه.
وقال الشافعي: شجر الحرم مضمون على المحل والمحرم إذا كان ناميا غير
ص: 407
مؤذ، وأما اليابس والمؤذي كالعوسج وغيره فلا ضمان في قطعه (1).
وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان في قطعه، لكنه ممنوع منه (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، على التفصيل الذي ذكرناه، وأخبارهم مشروحة بذلك ذكرناها في الكتاب الكبير المذكور (3).
وعن ابن الزبير أنه قال: في الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة (1). ولا مخالف لهما.
مسألة 284: المفرد والقارن عندنا سواء وإنما يفارق القارن المفرد بسياق الهدي، فإذا ثبت ذلك، فإذا قتل الصيد لزمه جزاء واحد، وكذا الحكم في اللباس، والطيب وغير ذلك.
وقال الشافعي: يلزم القارن والمفرد جزاء واحد (1) - على تفسيره في القارن -.
وقال أبو حنيفة: يلزم القارن جزاءان (2) في جميع ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأنا بينا أن الإحرامين لا يجتمعان، وإذا ثبت ذلك زال الخلاف، لأن أبا حنيفة بنى ذلك على اجتماعهما.
وأيضا قوله تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " (3) ولم يقل: مثل: ولم يفرق.
مسألة 285: إذا اشترك جماعة في قتل صيد، لزم كل واحد منهم جزاء كامل. وبه قال التابعين الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وفي الفقهاء الثوري، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه (4).
وذهب قوم إلى أنه يلزم الجميع جزاء واحد، روي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وبه قال التابعين عطاء، والزهري، وحماد،
ص: 410
وفي الفقهاء الشافعي، وأحمد، وإسحاق (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 286: المحرم إذا قتل صيدا مملوكا لغيره لزمه الجزاء لله تعالى، والقيمة لمالكه. وبه قال أبو حنيفة والشافعي (2).
وذهب مالك، والمزني إلى أن الجزاء لا يجب في قتل الصيد المملوك بحال (3).
دليلنا: قوله تعالى: " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " (4) ولم يفصل.
وقال مالك: في حمامة الحرم شاة، وفي حمامة الحل قيمتها (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (2).
وأيضا روي ما ذكرناه عن أربعة من الصحابة: عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس (3)، وطريقة الاحتياط تقتضيه أيضا.
مسألة 290: الدجاج الحبشي ليس بصيد، ولا يجب فيه الجزاء.
وقال الشافعي: يجب فيه الجزاء (1).
وأما الأهلي فلا خلاف أنه غير مضمون.
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنها منصوصة لهم (2)، والأصل براءة الذمة يدل عليه أيضا.
مسألة 291: إذا انتقل الصيد إلى المحرم بالميراث، لا يملكه.
للشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه (3)، والآخر: يملك، وله التصرف فيه بجميع أنواع التصرف إلا بالقتل (4).
دليلنا: عموم الأخبار المانعة من تملك الصيد، والتصرف فيه (5)، وطريقة الاحتياط تقتضيه.
مسألة 292: إذا أحرم الإنسان ومعه صيد، زال ملكه عنه، ولا يزول ملكه عما يملكه في منزله وبلده.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: يزول ملكه، ولا فرق بين أن يكون في يده أو بيته. والثاني: أن ملكه لا يزول (6).
ص: 413
وقال مالك أبو حنيفة: تزول عنه اليد المشاهدة، ولا تزول عنه اليد الحكمية (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنها منصوصة لهم على التفصيل الذي قلناه (2)، والذي قلناه من زوال ملكه عما معه مجمع عليه، وما غاب عنه ليس عليه دليل.
مسألة 293: الجراد مضمون بالجزاء، فإذا قتله المحرم لزمه الحزاء. وبه قال عمر، وابن عباس، وهو مذهب الشافعي (3).
وروي عن ابن سعيد الخدري أنه قال: الجراد من صيد البحر، لا يجب به الجزاء (4).
دليلنا: قوله تعالى: " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " (5) والجراد من صيد البر مشاهدة، فإذا ثبت أنه من صيد البر، ثبت أنه مضمون إجماعا.
وروي: كف من طعام، وبه قال ابن عباس (1).
وروي عن عمر أنه قال لكعب وقد قتل جرادتين: ما جعلت على نفسك؟ فقال: درهمين، فقال: درهم خير من مائة جرادة (2).
وقال الشافعي: هو مضمون بالقيمة (3).
وعندنا في الكثير منه دم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط في الكثير تقتضيه.
مسألة 295: إذا انفرش الجراد بالطريق، ولا يمكن سلوكه إلا بقتله ووطئه، فلا جزاء على قاتله. وبه قال عطاء، وهو أحد قولي الشافعي (5).
والقول الآخر: أن عليه ذلك (6).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، وأيضا قوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وهذا لا يمكنه التخلص منه إلا بقتله، فلا شئ عليه.
مسألة 296: بيض النعام إذا كسره المحرم، فعليه أن يرسل فحولة الإبل
ص: 415
في إناثها بعدد البيض، فما ينتج كان هديا لبيت اللّه تعالى.
وإن كان بيض الحمام، فعليه أن يرسل فحولة الغنم في الإناث بعدد البيض، فما خرج كان هديا.
فإن لم يقدر على ذلك لزمه عن كل بيضة شاة، أو إطعام عشرة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، فإذا كسره في الحرم وهو محل لزمته قيمته.
وقال داود وأهل الظاهر: لا شئ عليه في البيض (1).
وقال الشافعي: البيض إذا كان من صيد مضمون كان فيه قيمته (2).
وقال مالك: يجب في البيضة عشر قيمته الصيد (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 297: إذا كسر المحرم بيضة فيها فرخ، فإن كان بيض نعام كان عليه بكارة من الإبل، وإن كان بيض قطاة فعليه بكارة من الغنم.
وقال الشافعي: عليه قيمة بيضة فيها فرخها (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 298: إذا باض الطير على فراش محرم، فنقله إلى موضعه، فنفر الطير فلم يحضنه، لزمه الجزاء.
ص: 416
وللشافعي فيه قولان:
أحدها: مثل ما قلناه (1)، والثاني: لا يلزمه شئ (2).
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في هذا المعنى (3).
مسألة 299: إذا قتل الأسد، لزمه كبش على ما رواه بعض أصحابنا (4)، فأما الذئب وغيره من السباع فلا جزاء عليه، سواء صال أو لم يصل.
وقال الشافعي: لا جزاء في ذلك بحال (5).
وقال أبو حنيفة: إذا صال السبع على المحرم فقتله لم يلزمه شئ (6)، وإن قتله من غير صول لزمه الجزاء (7).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ولا يتعلق عليها شئ إلا بدليل، وما أوجبناه من الكبش فإجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 300: الضبع لا كفارة في قتله، وكذلك السبع المتولد بين الذئب والضبع.
وقال الشافعي: فيهما الجزاء (8).
ص: 417
دليلنا: إجماع الفرقة، والأصل براءة الذمة، وأيضا الضبع عندنا محرم الأكل، وسندل عليه فيما بعد (1)، فإذا ثبت ذلك، فكل من قال بذلك قال: لا جزاء فيه.
مسألة 301: إذا أراد المحرم صيد من شبكة، أو حبالة، أو فخ وما أشبه ذلك، فمات بالتخليص لزمه الجزاء.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه. والثاني: لا جزاء عليه (2).
دليلنا: عموم الأخبار الواردة في وجوب الجزاء على من قتل الصيد معتمدا (3) ولم يفرقوا.
مسألة 302: إذا نتف المحرم ريش الطائر أو جرحه، فإن بقي ممتنعا على ما كان، بأن تحامل فأهلك، نفسه، فإن أوقع نفسه في بئر أو ماء أو صدم حائطا، فعليه ضمان ما جرحه، وإن امتنع وغاب عن العين وجب عليه ضمان كاملا.
وقال الشافعي مثل ما قلناه، إلا أنه قال: إذا غاب عن العين يقوم بين كونه صحيحا ومعيبا، فإن كان له مثل ألزم ما بين قيمتي المثل وإن لم يكن له مثل ألزم ما بين القيمتين (4).
ص: 418
دليلنا: إجماع الفرقة، فإن هذه المسألة منصوص عليها (1)، وطريقة الاحتياط تقتضيه، فإن فعل ما قلناه تبرأ ذمته بيقين.
مسألة 303: إذا جرح الصيد، فجاءه آخر فقتله، لزم كل واحد منهما الفداء.
وقال الشافعي: على الجارح القيمة ما بين كونه صحيحا ومعيبا، وعلى الثاني الجزاء (2).
وفي الصحابة من قال مثل ما قلناه، وقالوا: ليس بشئ (3).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 304: إذا جرح الصيد، فصار غير ممتنع بعد الجرح والنتف، ثم غاب عن العين، لزمه الجزاء كاملا. وبه قال أبو إسحاق من أصحاب الشافعي: (4). وبه قال باقي أصحابه: غلط في ذلك.
والمنصوص للشافعي أنه لا يلزمه ضمان جميعه، وإنما يضمن الجناية التي وجدت منه، وهو النتف والجرح (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (6)، وطريقة الاحتياط.
مسألة 305: المتولد بين ما يجب فيه الجزاء وما لا يجب، مثل السبع
ص: 419
وهو المتولد بين الضبع والذئب، والمتولد بين الحمار الوحشي والحمار الأهلي، لا يجب بقتله الجزاء.
وعند جميع الفقهاء، يجب به الجزاء (1).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، ولا دليل على وجوب الجزاء بما قلناه.
مسألة 306: الجوارح من الطير كالبازي، والصقر، والشاهين، والعقاب ونحو ذلك، والسباع من البهائم كالنمر، والفهد وغير ذلك لا جزاء في قتل شئ منه.
وقد قدمنا أن في رواية أصحابنا أن في الأسد كبشا (2).
وقال الشافعي: لا جزاء في شئ منه (3).
وقال أبو حنيفة: يجب الجزاء في جميع ذلك إلا الذئب، فلا جزاء فيه، و يجب الجزاء أقل الأمرين، إما القيمة أو الشاة، ولا يلزم أكثرهما (4).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فمن علق عليها شيئا فعليه الدلالة.
وقال أبو حنيفة: ليس بمحرم (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وروي عن علي عليه السلام أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " المدينة حرام من عير (2) إلى ثور، ولا ينفر صيدها ولا يختل خلاها، ولا يعضد شجرها إلا رجلا يعلفه بعيره " (3).
مسألة 308: إذا اصطاد في المدينة، لا يجب عليه الجزاء.
وللشافي فيه قولان:
قال في القديم: عليه الجزاء، والجزاء أن يسلب ما عليه - يعني الصائد - فيكون لمن يسلبه (4).
وفيه قال آخر: أنه يكون للمساكين (5).
وقال في الجديد: لا جزاء عليه (6).
دليلنا: إن الأصل براءة الذمة، فعلى من شغلها بشئ الدليل.
ص: 421
مسألة 309: صيد وج (1) - وهو بلد باليمن - غير محرم، ولا مكروه.
قال الشافعي: هو مكروه، (2) وقال أصحابه: ظاهر هذا المذهب أنه أراد بذلك كراهية تحريم (3).
دليلنا: إن الأصل الإباحة، فمن منع منه فعليه الدلالة، وأيضا قوله تعالى: " فإذا حللتم فاصطادوا " (4) وهذا إباحة، فمع ذلك يحتاج إلى دليل.
مسألة 310: إذا بلغ قيمة مثل الصيد أكثر من ستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع، لم يلزمه أكثر من ذلك، وكذلك لا يلزمه أكثر من ستين يوما من الصوم، هذا في النعامة، وفي البقرة ثلاثين مسكينا أو ثلاثين يوما، وفي الظبي عشرة مساكين أو ثلاثة أيام، ولم يعتبر أحد من الفقهاء ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (5).
مسألة 311: إذا عجز عن صيام شهرين، وعن الإطعام، صام ثمانية عشر يوما، وفي القطاة تسعة أيام، وفي الحمام ثلاثة أيام، ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، وبراءة الذمة، وما ذكرناه
ص: 422
مجمع عليه، والزائد على ذلك ليس عليه دليل في حال العجز.
مسألة 312: ما يجب فيه المثل أو القيمة إذا قتله المحرم في الحرم تضاعف ذلك عليه، وإن قتله المحل في الحرم لزمته القيمة لا غير، ولم يفصل أحد من الفقهاء ذلك (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 313: إذا كان الصيد قاصدا إلى الحرم، يحرم اصطياده، ولم يعتبر ذلك، أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 314: روى أصحابنا أن المحرم إذا أصاب صيدا فيما بين البريد والحرم لزمه الفداء، (2) ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
من الهدي " (1).
وأيضا روى جابر قال: احصرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة (2).
مسألة 316: إذا أحصره العدو، جاز أن يذبح هديه مكانه، والأفضل أن ينفذ به إلى منى أو مكة. وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: لا يجوز له أن ينحر إلا في الحرم، سواء أحصر في الحل أو في الحرم، فإن أحصر في الحرم نحر مكانه، وإن أحصر في الحل انفذ بهديه، ويقدر له مدة يغلب على ظنه أنه يصل فيها وينحر، فإذا مضت تلك المدة تحلل، ثم ينظر، فإن كان وافق تحلله بعد نحر هديه فقد صح تحلله، ووقع موقعه ظاهرا وباطنا، وإن كان تحلل قبل أن ينحر هديه لم يصح تحلله في الباطن إلى أن ينحر هديه، فإن كان تطيب أو لبس لزمه بذلك دم (4).
دليلنا: على جواز ذلك فعل النبي صلى اللّه عليه وآله بالحديبية حيث صده المشركون، فلما قاضا سهيل بن عمرو (5) نحر وتحلل
ص: 424
مكانه، (1) والحديبية من الحل، وهذا نص.
مسألة 317: إذا أحصره العدو، جاز له التحلل، سواء كان مفردا أو قارنا أو متمتعا أو معتمرا. وبه قال جميع الفقهاء، (2) إلا مالكا، فإنه قال: إن كان معتمرا لم يكن له التحلل (3).
دليلنا: عموم الآية، وفعل النبي صلى اللّه عليه وآله بالحديبية (4).
مسألة 318: إذا كان متمكنا من البيت، ومصدودا عن الوقوف بعرفة، جاز له التحلل أيضا. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة ومالك: ليس له ذلك (6).
دليلنا: عموم الآية، وهو قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ولم يفصل.
مسألة 319: المصدود عن الحج أو العمرة، إن كانت حجة الإسلام أو عمرته، لزمه القضاء في القابل، وإن كان تطوعا لا يلزمه القضاء.
ص: 425
وقال الشافعي: لا قضاء عليه بالتحلل، فإن كانت حجة تطوع أو عمرة تطوع لم يلزمه قضاؤها بحال، وإن كانت حجة الإسلام أو عمرة الإسلام وكانت قد استقرت في ذمته قبل هذه السنة، فإذا خرج منها بالتحلل فكأنه لم يفعلها، فتكون باقية في ذمته على ما كانت عليه، وإن كانت وجبت عليه في هذه السنة، سقط وجوبها ولم تستقر في ذمته، لأنا بينا أنه لم يوجد جميع شرائط الحج (1).
فعلى قولهم التحلل بالحصر لا يوجب القضاء بحال.
وقال أبو حنيفة: إذا تحلل المحصر لزمه القضاء، وإن كان أحرم بعمرة تطوع قضاها، وإن أحرم بحجة تطوع وأحصر تحلل منه، وعليه أن يأتي بحج وعمرة.
وإن كان بينهما فأحصر، فتحلل، لزمته حجة وعمرتان، عمرة لأجل العمرة، وعمرة وحجة لأجل الحج.
ويجئ على مذهبه إذا أحرم بحجتين فإنه ينعقد بهما، وإنما يترفض عن أحدهما إذا أخذ في السير، فإن أحصر قبل أن يسير، وتحلل منهما، ويلزمه حجتان وعمرتان (2).
دليلنا: على ذلك: إن وجوب القضاء على كل حال يحتاج إلى دلالة، وما ذكرناه مقطوع به.
وأيضا فالنبي صلى اللّه عليه وآله خرج عام الحديبية في ألف وأربعمائة
ص: 426
من أصحابه محرمين بعمرة، فحصره العدو، فتحللوا، فلما كانت في السنة الثانية عاد في نفر معدودين، فلو كان القضاء قد وجب على جماعتهم لأخبرهم بذلك ولفعلوه، ولو فعلوا لنقل نقلا عاما أو خاصا.
مسألة 320: الحصر الخاص، مثل الحصر العام سواء.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه. والثاني: أنه يجب القضاء في القابل (1).
دليلنا: ما قلناه في المسألة الأولى، ولأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 321: المحصر بالعدو إذا لم يجد الهدي أو لم يقدر على شرائه لا يجوز له أن يتحلل، ويبقى الهدي في ذمته، ولا ينتقل إلى الإطعام ولا إلى الصوم.
وللشافعي فيه قولان:
أحدهما: مثل ما قلناه، أنه لا ينتقل إلى بدل.
والثاني: وهو الصحيح عندهم، أنه ينتقل إلى البدل، فإذا قال لا ينتقل، يكون في ذمته (2).
وله في جواز التحلل قولان منصوصان.
أحدهما: إنه يبقى محرما إلى أن يهدي. والثاني: وهو الأشبه أنه يتحلل، ثم يهدي إذا وجد (3).
ص: 427
وإذا قال: يجوز الانتقال، قال في مختصر الحج: ينتقل إلى صوم التعديل، (1) وقال في الأم: ينتقل إلى الإطعام، (2) وفيه قول ثالث: أنه مخير بين الإطعام والصيام (3).
دليلنا: على ما قلناه: قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " (4) وتقديره، وأردتم التحلل، فما استيسر من الهدي، ثم قال: " ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله " (5) فمنع من التحلل إلا بعد أن يبلغ الهدي محله، وهو يوم النحر، ولم يذكر البدل، ولو كان له بدل لذكره، كما أن نسك الأذى لما كان له بدل ذكره.
مسألة 322: المحصر بالمرض يجوز له التحلل، غير أنه لا يحل له النساء حتى يطوف في القابل، أو يأمر من يطوف عنه.
وبه قال أبو حنيفة، (6) إلا أنه لم يعتبر طواف النساء. وبه قال ابن مسعود (7).
وذهب قوم إلى أنه لا يجوز له التحلل، بل يبقى على إحرامه أبدا إلى أن يأتي به، فإن فاته الحج تحلل بعمرة. وبه قال مالك والشافعي وأحمد (8).
وروي ذلك عن جماعة من الصحابة كابن عباس، وابن عمر وابن
ص: 428
الزبير، ومروان، وعائشة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم، وقد ذكرناها في الكتاب الكبير و أيضا قوله تعالى: " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " (2) وذلك عام في منع العدو، والمنع بالمرض.
فإن في اللغة يقال: احصره المرض، وحصره العدو، وقال الفراء:
احصره المرض لا غير، وحصره العدو، وأحصره معا (3).
وروى عكرمة، عن حجاج بن عمرو الأنصاري (4) أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى " وفي بعضها:
" وعليه الحج من قابل " (5).
مسألة 323: يجوز للمحرم أن يشترط في حال إحرامه أنه إن عرض له عارض يحبسه أن يحل حيث حبسه من مرض، أو عدو، أو انقطاع نفقة، أو فوات وقت، وكان ذلك صحيحا يجوز له أن يتحلل إذا عرض شئ من ذلك. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، (6) وابن مسعود، وبه قال
ص: 429
الشافعي (1).
وقال بعض أصحابه: إنه لا تأثير للشرط، وليس بصحيح عندهم.
والمسألة على قول واحد في القديم، وفي الجديد على قولين، وبه قال أحمد وإسحاق (2).
وقال الزهري، ومالك، وابن عمر: الشرط لا يفيد شيئا ولا يتعلق به التحلل (3).
وقال أبو حنيفة: المريض له التحلل من غير شرط، فإن شرط سقط عنه الهدي (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، لأنه شرط لا يمنع منه الكتاب ولا السنة، فيجب أن يكون جائزا، لأن المنع منه يحتاج إلى دليل، وحديث ضباعة بنت الزبير (5) يدل على ذلك.
روت عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وآله دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إني أريد الحج، وأنا شاكية،
ص: 430
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: " احرمي واشترطي أن تحلني حيث حبستني " (1) وهذا نص
إذا شرط علی ربّه في حال الاحرام ثم حصل الشرط
مسألة 224: إذا شرط على ربه في حال الإحرام، ثم حصل الشرط وأراد التحلل، فلا بد من نية التحلل، ولا بد من الهدي.
وللشافعي فيه قولان في النية والهدي معا (2).
دليلنا: عموم الآية في وجوب الهدي على المحصر، وطريقة الاحتياط.
مسألة 325: ليس للرجل أن يمنع زوجته الحرة من حجة الإسلام إذا وجبت عليها. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي في اختلاف الحديث (3).
وقال في القديم والجديد: له منعها من ذلك (4).
وقال أصحابه: والأول لا يجئ على مذهبه، وهو قول غريب (5).
دليلنا: إن الحج على الفور، فإذا ثبت ذلك فليس لأحد منعها من ذلك، لأن جواز ذلك يحتاج إلى دليل، ولأن الشافعي إنما أجاز ذلك لقوله إن الحج على التراخي.
وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله، رواه أبو هريرة، أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " لا تمنعوا إماء اللّه عن مساجد اللّه فإذا خرجن
ص: 431
فليخرجن تفلات (1) (2) وهذا عام في سائر المساجد، والمسجد الأعظم منها.
مسألة 326: ليس للمرأة أن تحرم تطوعا إلا بإذن زوجها، فإن أحرمت بغير إذنه كان له منعها منه. للشافعي في جواز إحرامها قولان (3)، وفي المنع منه قولان (4).
دليلنا: إن جواز ذلك يحتاج إلى دليل، وإذا لم يصح إحرامها فالمنع من ذلك لا يحتاج إلى دليل، لأنه فرع على ثبوته.
مسألة 327: ليس للأبوين، ولا لواحد منهما منع الولد في حجة الإسلام، أمر بلا خلاف.
وعندنا أن الأفضل أن لا يحرم إلا برضاهما في التطوع، فإن بادر وأحرم لم يكن لهما ولا لواحد منهما منعه.
وقال الشافعي: لهما منعه من ابتداء الإحرام قولا واحدا (5).
فإن بادر وأحرم كان لهما ولكل واحد منهما المنع على قولين (6).
دليلنا: إن المنع من ابتداء الإحرام، والمنع بعد الانعقاد يحتاج إلى دليل، ولا دلالة تمنع منه، والأصل براءة الذمة.
مسألة 328: شرائط وجوب الحج على المرأة هي شرائط وجوبه على
ص: 432
الرجال سواء، وهي: البلوغ، والعقل، والحرية، والزاد، والراحلة، والرجوع إلى كفاية، وتخلية الطريق، وإمكان المسير. وهي بعينها شروط الأداء.
وليس من شرط الوجوب، ولا من شرط الأداء في حجة الإسلام المحرم بل أمن الطريق، ومصاحبة قوم ثقات تكفي، فأما حجة التطوع فلا تجوز لها إلا بمحرم.
وقال الشافعي بمثل ما قلناه، وزاد إن من شرط الأداء محرما أو نساء ثقات، وأقل ذلك امرأة واحدة. وبه قال مالك، والأوزاعي (1).
وقال الشافعي بمثل ما قلناه وزاد: إذا كان الطريق مسلوكا متصلا كطريق السوق فهذا أمر لا يفتقر معه إلى محرم ولا نساء. وبه قال بعض أصحاب الشافعي (2).
وأما التطوع فقال الشافعي: لا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي رحم محرم، هذا هو المنصوص عليه (3) ومن أصحابه من قال ذلك بغير محرم كالفرض (4).
وذهب أبو حنيفة إلى أن المحرم شرط في الوجوب (5).
ص: 433
وأبى أصحابه هذا وقالوا: ليس بشرط في الوجوب، لكنه شرط في الأداء والفرض والنفل عنده سواء (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " (2) ولم يذكر محرما، وباقي الشروط مجمع عليها، أكثرها أوردناها في الكتاب المقدم ذكره (3).
مسألة 329: يجوز للمرأة أن تخرج في حجة الإسلام وإن كانت معتدة، أي عدة كانت، ومنع الفقهاء كلهم من ذلك (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وعموم الآية، فإنه لم يذكر فيها أن لا تكون معتدة، فمن منع منها في هذه الحالة فعليه الدلالة.
مسألة 330: إذا حج حجة الإسلام، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، اعتد بتلك الحجة، ولم يجب عليه غيرها.
وكذلك كل ما فعله من العبادات يعتد بها، وعليه أن يقضي جميع ما تركه قبل عوده إلى الإسلام، وسواء تركه حال إسلامه أو حال ردته. وبه قال الشافعي (5).
وقال أبو حنيفة ومالك: إذا أسلم حدث وجوب حجة الإسلام عليه، كأنه ما كان فعلها، وكلما كان فعله قبل ذلك فقد حبط عمله وبطل، و ما تركه فلا يقضيه، سواء تركه في حال إسلامه أو حال ردته، ويكون ككافر
ص: 434
أصلي أسلم يستأنف أحكام المسلمين (1).
دليلنا: إنه لا خلاف أن حجة الإسلام دفعة واحدة في العمر، وهذا قد فعلها، فمن حكم بإبطالها وإيجابها ثانيا فعليه الدلالة.
وأما وجوب القضاء فيما فات من العبادات، فطريقة الاحتياط تقتضيه.
وأيضا روى الأقرع بن حابس (2) قال: يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الحج مرة واحدة أو في كل عام؟ فقال: " بل مرة، وما زاد فهو تطوع " (3).
وهذا فعل مرة، فلم يجب عليه غيرها.
مسألة 331: إذا أحرم المسلم، ثم ارتد، لا يبطل إحرامه، فإن عاد إلى الإسلام جاز أن يبني عليه.
وللشافعي فيه وجهان.
أحدهما: يبطل كالصلاة والصيام (4). والثاني: لا يبطل (5).
دليلنا: إن إبطال ذلك يحتاج إلى دليل، وقد وقع في الأصل صحيحا بلا خلاف، ولا دلالة على ذلك.
مسألة 332: الأيام المعدودات أيام التشريق بلا خلاف، والأيام
ص: 435
المعلومات عشرة أيام من أول ذي الحجة، آخرها غروب الشمس من يوم النحر، وهو قول علي عليه السلام، وابن عباس، وابن عمر، وبه قال الشافعي (1).
وقال مالك: ثلاثة أيام يوم النحر، فجعل أول التشريق وثانيها من المعدودات والمعلومات (2).
وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام، أولها يوم وآخرها أول التشريق، فجعل أول التشريق من المعدودات والمعلومات (3).
وقال مالك: لا ذبح إلا في المعلومات (4).
وقال أبو حنيفة: الذبح جائز في غير المعلومات، وهو باقي التشريق.
وروي عن علي عليه السلام: أربعة أيام أولها يوم عرفة (5).
وقال سعيد بن جبير: المعدودات هي المعلومات (6).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإن هذه المسألة منصوصة لهم (7).
وأيضا اختلاف اسمها يدل على اختلاف أوقاتها، لأنهما لو كانا شيئا واحدا، أو اتفقا في بعض لما استحقا اسمين مختلفين، وهذا أصل الحقيقة.
ص: 436
مسألة 333: يجوز عندنا الذبح في اليوم الثالث من أيام التشريق. وبه قال الشافعي (1).
وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز، لأنه ليس من المعلومات (2).
دليلنا: إجماع الفرقة.
وروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن صيام أيام التشريق، وقال: إنها أيام أكل وشرب (3).
ويقال: وقال: " إنها أيام أكل وشرب وذكر وذبح " (4).
ثبت بذلك أن الثالث من أيام الذكر والذبح معا، وعند أبي حنيفة أن الثالث ليس من أيام الذكر ولا الذبح (5).
دليلنا: إن ما ذكرناه مجمع على إجزائه وما ذكروه ليس عليه دليل ولأنا روينا أن الهدي لا يقع إلا على البدن والنعم (1).
وأيضا قوله تعالى: " فما استيسر من الهدي " (2) لا خلاف أنه يتناول النعم دون غيرها.
مسألة 335: الدماء المتعلقة بالإحرام كدم التمتع، والقران، وجزاء الصيد، وما وجب بارتكاب محظورات الإحرام كاللباس، والطيب وغير ذلك إن أحصر جاز له أن ينحر مكانه في حل أو حرم، إذا لم يتمكن من إنفاذه بلا خلاف.
وإن لم يحصر فعندنا ما يجب بإحرام الحج على اختلاف أنواعه، لا يجوز ذبحه إلا بمنى، وما يجب بإحرام العمرة المفردة لا يجوز ذبحه إلا بمكة قبالة الكعبة بالجزورة.
وقال الشافعي: فيه ثلاث مسائل: إن نحر وفرق اللحم في الحرم أجزأه بلا خلاف بينهم، وإن نحر وفرق اللحم في الحل لم يجزه عنده خلافا لأبي حنيفة (3)، وإن نحر في الحل وفرق اللحم في الحرم، فإن كان تغير لم يجز، وإن فرقه طريا في الحرم فعلى وجهين (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، فإن ما ذكرناه لا خلاف في إجزائه، وما ذكروه ليس عليه دليل.
مسألة 336: ما يجب عليه من الدماء بالنذر، فإن قيده ببلد أو بقعة لزمه
ص: 438
في موضعه الذي عينه بلا خلاف، وإن أطلقه فلا يجوز عندنا إلا بمكة قبالة الكعبة بالجزورة، ولا يجزي إلا من النعم على ما تقدم القول فيه.
وقال الشافعي في المطلق: كدماء الحج إن كان محصرا فحيث يحل، وإن لم يكن محصرا ففيه المسائل الثلاثة (1).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم (2)، وطريقة الاحتياط.
مسألة 337: إذا ساق الهدي من الإبل أو البقر، فمن السنة أن يقلدها نعلا، ويشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وهو أن يشق المكان بحديدة حتى يسيل الدم ويشاهد ويرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، ولا مخالف لها فيه. وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي (3).
غير أن مالكا وأبا يوسف قالا: الإشعار من الجانب الأيسر (4).
وقال أبو حنيفة: يقلدها ولا يشعرها، فإن الإشعار مثله وبدعة (5).
دليلنا: إجماع الفرقة،.
وأيضا روي عن ابن عباس أن رسول اللّه عليه وآله صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنته - (وفي بعضها ببدنة) - فأشعرها من صفحة سنانها الأيمن، ثم سلت الدم عنها - (وفي بعضها ذلك الدم عنها، وفي بعضها بيده، وفي بعضها بإصبعه) - ثم أتى براحلته، فقعد عليها واستقرت به على
ص: 439
البيداء، أهل الحج (1).
وروى عروة، عن مسور بن مخرمة ومروان أنهما قالا: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره (2) وهذا في الصحيح.
مسألة 338: الغنم يستحب تقليدها. وبه قال الشافعي (3).
وقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم (4).
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
وروى جابر قال: كان هدايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله غنما مقلدة (5) وهذا في السنن.
وروى مالك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن الرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أهدى غنما مقلدة (6) وهذا في الصحيح.
ص: 440
مسألة 339: عندنا يصير محرما بأحد ثلاثة أشياء: التلبية، والتقليد، والإشعار، ولا بد في ذلك من النية.
وقال الشافعي: يصير محرما بمجرد النية، وهو قول الجماعة (1).
وروي عن ابن عمر، وابن عباس أنه يصير محرما بنفس التقليد (2).
وحكينا عن أبي حنيفة أنه لا يصير محرما بمجرد النية، وإنما ينعقد إحرامه بالتلبية أو سوق هدي (3)، مثل ما قلناه، وخالف في الأشعار.
دليلنا: إجماع الفرقة، ولأن ما ذكرناه لا خلاف فيه أنه ينعقد به الإحرام، وما قالوه ليس عليه دليل.
مسألة 340: عندنا أن من ينفذ هديا من أفق من الآفاق، يواعد أصحابه يوما يقلدونه فيه أو يشعرونه، ويجتنب هو ما يجتنبه المحرم، فإذا كان يوم وافقهم على نحره أو ذبحه يحل مما أحرم منه. وروي ذلك عن ابن عباس (4)، وخالف جميع الفقهاء في ذلك (5).
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا الأصل جواز ذلك، والمنع يحتاج إلى دليل.
مسألة 341: يجوز اشتراك سبعة في بدنة واحدة، أو بقرة واحدة أو بقرتين إذا كانوا متقربين، وكانوا أهل خوان واحد، سواء كانوا متمتعين
ص: 441
أو قارنين أو مفردين، أو بعضهم مفردا وبعضهم قارنا أو متمتعا، أو بعضهم مفترضين وبعضهم متطوعين، ولا يجوز أن يكون بعضهم يريد اللحم. وبه قال أبو حنيفة إلا أنه لم يعتبر أهل خوان واحد (1).
وقال الشافعي مثل ذلك إلا أنه أجاز أن يكون بعضهم يريد اللحم (2).
وقال مالك: لا يجوز الاشتراك إلا في موضع واحد، وهو إذا كانوا متطوعين (3).
وقد روى ذلك أصحابنا أيضا (4)، وهو الأحوط.
دليلنا: على الأول: خبر جابر، روى عطاء عن جابر قال: كنا نتمتع على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونشترك السبعة في البقرة أو البدنة (5).
وما رواه أصحابنا أكثر من أن تحصى (6).
والثاني: قد رواه أصحابنا، وطريقة الاحتياط تقتضيه (7).
ص: 442
مسألة 342: إذا ذبح الإبل، أو نحر البقر، أو الغنم لم يجزه، وكان حراما أكله.
وقال الشافعي: خالف سنة وأجزأه (1).
وقال مالك: إن ذبح الإبل لم يحل أكلها، مثل نا قلناه (2).
دليلنا: إجماع، الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 343: السنة في البدن أن تنحر وهو قائمة. وبه قال جميع الفقهاء (3).
وقال عطاء: ينحرها باركة (4).
دليلنا: قوله تعالى: " فاذكروا اسم اللّه عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها " (5).
قال ابن عباس: " صواف " أي معقولة إحدى يديها، وقوله: " وجبت جنوبها " (6) أي سقطت على جنوبها (7).
ص: 443
وقال مجاهد: سقطت على الأرض (1) وإجماع الفرقة دليل على ما قلناه.
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، وهي قائمة على ما بقي من قوائمها (2).
مسألة 344: محل النحر للحاج منى، وللمعتمر مكة، فإن خالف لا يجزيه. وبه قال مالك (3).
وقال الشافعي: السنة ما قلناه، وإن خالف أجزأه (4).
دليلنا: إن ما ذكرناه مجز بلا خلاف، وما ذكروه ليس على إجزائه دليل، وذمته مرتهنة فلا تبرأ إلا بدليل.
مسألة 345: الهدي الواجب وهو ما يلزم المحرم بارتكاب محظور من اللباس، والطيب، والوطء، وحلق الشعر، وقتل الصيد غير ذلك، أو النذر لا يحل له أن يأكل منه، ويجوز أن يأكل من هدي التمتع. وبه قال أبو حنيفة (5).
وقال الشافعي: لا يجوز الأكل من جميع ذلك، ولا من دم التمتع، لأن
ص: 444
عنده أنه دم جبران وليس بنسك (1).
وقال مالك: يأكل من الكل إلا من النذر، وجزاء الصيد، والحق (2).
دليلنا: إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط.
وللشافعي في النذر تفصيل، وظاهر مذهبه أنه مثل سائر الواجبات (3).
مسألة 346: الهدي المتطوع به يستحب أن يأكل ثلثه، ويتصدق بثلثه، ويهدي ثلثه. وبه قال الشافعي في القديم، ومختصر الحج (4).
وله قول آخر وهو: أنه يأكل نصفه، ويتصدق بالنصف (5) هذا في المستحب فأما الإجزاء فيكفي ما يقع عليه اسم الأكل قل أو كثر، ولا ينبغي أكل جميعه (6).
وقال أبو العباس: له أن يأكل الكل (7).
وقال عامة أصحاب الشافعي مثل ما قلناه، وهو قدر ما يقع عليه الاسم (8).
ص: 445
دليلنا: قوله تعالى: " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " (1) فسمى ثلاثة أجناس، فالمستحب التسوية بينهم في ذلك، وهو إجماع الفرقة.
مسألة 347: إذا أكل الكل لم يضمن شيئا. وهو قول أبي العباس (2) وقال الباقون من أصحاب الشافعي: يضمن، وهو على وجهين:
أحدهما: القدر الذي لو تصدق به أجزأه، والثاني: قدر المستحب، وهو إما النصف أو الثلث على قولين (3).
وقال أبو حامد الأسفرايني: القول قول أبي العباس، وهذا التفريع على قول الشافعي في النذر المطلق، وغلط أصحابنا فنقلوا من مسألة إلى مسألة.
دليلنا: إنه متطوع به في الأصل، فلو لم يفعله لما ضمن، فمن أوجب الضمان بعد ذلك فعليه الدلالة، لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة 348: قد ذكرنا أن ما يجب بالنذر المطلق لا يجوز له الأكل منه، سواء كان على سبيل المجازات أو واجبا. وهو مذهب قوم من أصحاب الشافعي (4).
وفي أصحابه من قال وعليه أكثرهم: أن ما وجب بالنذر المطلق المذهب أن يأكل منه (5).
وقال مالك: يأكل من الكل إلا ما وجب بالنذر، ولم يفصل ما وجب عن إتلاف صيد، وحلق شعر (6).
ص: 446
وقال أبو حنيفة: لا يأكل من الكل إلا من دم التمتع والقران (1) مثل ما قلناه.
وأصل الخلاف أن دم التمتع عندنا وعند أبي حنيفة نسك، وعند الشافعي جبران.
دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: " والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه - إلى قوله - فكلوا منها " (2) وهذا عام، فإذا ثبت جواز الأكل، ثبت أنه نسك، لأن أحدا لا يفرق.
مسألة 349: إذا ضل الهدي الواجب في الذمة، فعليه إخراج بدله، وإن عاد الضال يستحب له إخراجه أيضا، ولا يجوز له بيعه إن شاء أولا، وإن شاء آخرا.
وقال الشافعي مثل ذلك، إلا أنه قال: إن عاد الضال أخرجه أيضا (3).
دليلنا: إن إيجاب ذلك يحتاج إلى دليل، والواجب عليه أحدهما بالاتفاق.
مسألة 350: لا يجوز أن يتولى ذبح الهدي والأضحية أحد من الكفار، ولا اليهود، ولا المجوس، ولا النصارى. ووافقنا الشافعي في المجوس، وكره في اليهودي والنصراني وأجازه (4).
ص: 447
دليلنا: إن ذبيحة أهل الكتاب غير مباحة، ونحن ندل على ذلك في الذبائح، (1) فإذا ثبت ذلك فأحد لا يفرق.
مسألة 351: إذا نذر هديا بعينه زال ملكه عنه، وانقطع تصرفه فيه، ولا يجوز له بيعه وإخراج بدله. وبه قال الشافعي (2).
وقال أبو حنيفة: له إخراج بدله (3).
دليلنا: طريقة الاحتياط، ولأن البدل يحتاج إلى دليل.
وروى سالم بن عبد اللّه (4) عن أبيه قال: أهدي عمر بن الخطاب نجيبا فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال:
يا رسول اللّه إني أهديت نجيبا، فأعطيت بها ثلاثمائة دينار، فأبيعها واشتري بثمنها بدنا، فقال: " لا، انحرها " (5).
مسألة 352: إذا جن بعد إحرامه، فقتل صيدا، أو حلق شعرا، أو وطأ ما يفسد الحج، لزمه الجزاء بقتل الصيد، وليس عليه فيما عداه شئ.
وللشافعي في جميع ذلك قولان.
أحدهما: عليه الضمان. والثاني: لا ضمان عليه (6).
دليلنا: على أنه لا يلزمه فيما عدا الصيد: إن الأصل براءة الذمة، وشغلها يحتاج إلى دليل.
ص: 448
وقوله صلى اللّه عليه وآله: " رفع القلم عن ثلاثة: أحدهم المجنون حتى يفيق " (1).
وأما الصيد، فما بيناه من أن حكم العمد والنسيان سواء يوجبه (2).
مسألة 353: المستحب للمكي، والمتمتع، ولمن يحرم من دويرة أهله، إذا أراد الحج أن يحرم ويخرج إلى منى، ولا يقيم بعد إحرامه، وبه قال الشافعي (3).
وقال أبو حنيفة: المستحب أن يحرم ويقيم، فإذا أراد الخروج إلى منى خرج محرما (4).
دليلنا: عمل الطائفة، وطريقة الاحتياط، لأن ما ذكرناه لا خلاف في جوازه.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 356: قال الشافعي: يكره أن يقال لمن لم يحج: " صرورة " لقوله عليه السلام: " لا صرورة في الإسلام " (1).
ويكره أن يقال لحجة الوداع: حجة الوداع، لأن الوداع المفارقة والعزم على أن لا يعود (2).
ويكره أن يقال للمحرم وصفر معا: صفران، بل يسمى كل واحد منهما باسمه (3).
ويكره لمن طاف بالبيت أن يضع يده على فيه (4).
ويكره أن يقال: شوط، ودور، بل يقال: طواف، وطوافان (5).
ولا أعرف لأصحابنا نصا في كراهة شئ من هذه المسائل، بل ورد في أخبارهم لفظ صرورة، ولفظة شوط وأشواط، (6) والأولى أن تكون على أصل الإباحة، لأن الكراهة تحتاج إلى دليل.
مسألة 357: قال الشافعي: يستحب لمن حج أن يشرب من نبيذ السقاية، الذي لم يشتد، ولم يتغير، لأن النبي صلى اللّه عليه وآله رخص لأهل سقاية العباس ترك المبيت بمنى من أجل السقاية، وإنه يشرب النبيذ (7).
ولا أعرف لأصحابنا في هذا نصا، والأصل براءة الذمة.
ص: 450
مسألة 358: مكة أفضل من المدينة. وبه قال الشافعي، وأهل مكة، وأهل العلم أجمع (1) إلا مالكا فإنه قال: المدينة أفضل من مكة. وبه قال أهل المدينة (2).
دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم رووا أن صلاة في المسجد الحرام بعشرة آلاف صلاة (3)، وصلاة في مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله بألف صلاة، فدل ذلك على أن مكة أفضل.
وروي عن ابن عباس قال: لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من مكة التفت إليها فقال " أنت أحب البلاد إلى اللّه تعالى، وأنت أحب البلاد إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك لما خرجت " (4).
وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا
ص: 451
المسجد الحرام " (1).
وروى جابر أن النبي صلى اللّه عليه وآله قال: " صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائتي صلاة في مسجدي " (2) وما يكون بهذا الوصف يكون أفضل.
مسألة 359: يستحب لمن أراد الخروج من مكة أن يشتري بدرهم تمرا ويتصدق به (3). وما أعرف لأحد من الفقهاء ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط.
مسألة 360: يكره للمحرم أن يلبي غيره إذا ناداه، ولم أجد لأحد من الفقهاء كراهية ذلك.
دليلنا: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط، وأخبارهم ذكرناها في الكتاب المقدم ذكره (4) .
ص: 452
الصورة

ص: 453
الصورة

ص: 454
الصورة

ص: 455
الصورة

ص: 456
الصورة

ص: 457
الصورة

ص: 458
الصورة

ص: 459
الصورة

ص: 460
الصورة

ص: 461
الصورة

ص: 462
الصورة

ص: 463
الصورة

ص: 464
الصورة

ص: 465
الصورة

ص: 466
الصورة

ص: 467
الصورة

ص: 468
الصورة

ص: 469
الصورة

ص: 470
الصورة

ص: 471
الصورة

ص: 472
الصورة

ص: 473
الصورة

ص: 474
الصورة

ص: 475
الصورة

ص: 476
الصورة

ص: 477
الصورة

ص: 478
الصورة

ص: 479
الصورة

ص: 480
الصورة

ص: 481
الصورة

ص: 482
الصورة

ص: 483
الصورة

ص: 484
الصورة

ص: 485
الصورة

ص: 486
الصورة

ص: 487
الصورة

ص: 488
الصورة

ص: 489
الصورة

ص: 490
الصورة

ص: 491
الصورة

ص: 492
الصورة

ص: 493
الصورة

ص: 494
الصورة

ص: 495
الصورة

ص: 496