شماره کتابشناسی ملی : ع 443
سرشناسه : سیوطی، جلال الدین عبدالرحمن بن ابی بکر
عنوان و نام پديدآور: الاتقان في علم القرآن[نسخه خطی]جلال الدین عبدالرحمن بن ابی بکر سیوطی
وضعیت استنساخ : 1040ق.
آغاز ، انجام ، انجامه : آغاز نسخه: بسمله، قال سیدنا و مولانا و شیخنا الشیخ الامام العالم العلامه ...
انجام نسخه: و حسن توفیقه و صلواته و سلامه علی اشرف خلقه و تاج رسله محمد و علی اله و صحبه و الحمدلله وحده
: معرفی کتاب: این کتاب "احکام التنزیل" است و نویسنده در مقدمه آن می گوید در علوم دین خاصه حدیث زحمت فراوان کشیده شده ولی درباره قرآن چنین رنجی برده نشده است گرچه ابوعبدالله محبی الدین کافنجی و علم الدین بلقینی را درین زمینه کارهائیست ولی هیچیک از آنها وافی بمقصود نیستند لذا بر آن شدم که کتابی درین زمینه بپردازم و در امور ششگانه زیر بحث کنم 1- مواطن النزول و اوقات و وقایع آن، 2- سند و آن شش نوع است، 3- اداآ، 4- الفاط، 5- معانی متعلقه باحکام، 6- معانی متعلق بالفاظ. او پس از این توضیح یکایک امور ششگانه را بر می شمارد
مشخصات ظاهري : 261 برگ، 23 سطر کامل، اندازه سطور 190x105
يادداشت مشخصات ظاهری : نوع کاغذ: ترمه
خط: نستعلیق
تزئینات جلد: تیماج قرمز، مقوائی، لولادار
تزئینات متن: سرفصلها با مرکب قرمز، روی بعضی کلمات و جملات با مرکب قرمز خطکشی شده
يادداشت کلی : تاريخ تاليف:قرن 9ق.
زبان: عربى
تعداد جلد: 2
ناشر: دار الكتاب العربى
مكان چاپ: بيروت
ص: 1
ص: 2
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
إنّ الحمد للّه، نحمده و نستعينه، و نعوذ باللّه من شرور أنفسنا، و من سيئات أعمالنا.
من يهده اللّه فلا مضلّ له، و من يضلل فلا هادي له.
و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له.
و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران: 102].
يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) [النساء: 1].
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنّ أصدق الحديث كلام اللّه، و خير الهدي هدي محمد - صلّى اللّه عليه و سلّم -، و شرّ الأمور محدثاتها، و كلّ محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة في النار.
لقد بعث اللّه سبحانه و تعالى إلى هذه الدنيا نبينا محمدا - صلّى اللّه عليه و سلّم - على فترة من الرسل، و ضلال من الناس، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، و من الضلال إلى الهدى، و من الشقاء إلى الرخاء.
و لقد أيد اللّه نبيّه - صلّى اللّه عليه و سلّم - بالمعجزات الباهرة، و الآيات الساطعة التي تدل على صدقه و صدق دعوته، و من أهم تلك المعجزات التي أعزّ اللّه بها نبيّه، و هذه الأمة، كتاب اللّه، و كلامه المنزل على قلب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم...
فكان هذا القرآن هو الروح التي بعث اللّه به هذه الأمة من رقدتها و وهدتها، و انتشلها
ص: 5
من الموت إلى الحياة السعيدة الرغيدة. قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لاَ الْإِيمانُ [الشورى: 52].
و ما كادت العرب تسمع كلام اللّه، و ما كاد هذا القرآن يلامس آذانهم و يقرع أسماعهم حتى أخذ لبّهم، و أثّر فيهم تأثيرا عجيبا، و ملك عليهم قلوبهم، حتى الأعداء من المشركين أدركوا أنه ليس بكلام بشر، و لا يشبه كلام شيء يعرفونه، فوصفوه بالسحر، و هذا دليل على أن هذا القرآن أخذ عقولهم، و بهرها.
أما المسلمون، الذين أضاء اللّه قلوبهم بالإيمان، و شرح اللّه صدورهم بالإسلام، اقبلوا على كتاب ربهم، و كلام خالقهم، دراسة و تمحيصا، و حفظا، و عملا...
سعد المسلمون بهذا الكتاب الكريم، الذي جعل اللّه فيه الهدى و النور، و الشفاء لما في الصدور، و أيقنوا أنه لا شرف إلاّ و القرآن سبيل إليه، و لا خير إلاّ و في آياته دليل عليه، فراحوا يثورون القرآن ليقفوا على ما فيه من مواعظ و عبر، و أخذوا يتدبرون آياته ليأخذوا من مضامينها ما فيه سعادة الدنيا و خير الآخرة(1).
و لذلك تناول المسلمون القرآن بالدراسة و البحث، فأفادت منه العلوم بمختلف أنواعها و أصنافها.
و ألّفت في علومه كتب و مؤلفات عديدة، في التفسير و القراءات و الرسم القرآني، و استنباط الأحكام، و الإعجاز، و الناسخ و المنسوخ، و أسباب النزول، و الغريب، و المبهمات، و الفضائل، و القصص، و غير ذلك.
و بتعدد المؤلفات و ازدهارها في كل نوع من أنواع علوم القرآن احتاج المسلمون إلى جمع شتات هذه العلوم، فاعتصروا منها علما جديدا يكون جامعا لها، و هو ما يطلق عليه «علوم القرآن» بالمعنى الاصطلاحي.
فعلوم القرآن - كفن مدوّن - مباحث تتعلّق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله و ترتيبه و جمعه و كتابته و قراءته و تفسيره و إعجازه و ناسخه و منسوخه.
و أنّ من أفضل و أجمع ما كتب في علوم القرآن هو كتاب «الاتقان في علوم القرآن» للإمام جلال الدين السيوطي، فقد أبدع فيه، و ملأه من درر هذه العلوم أفضلها و أغلاها، فكان درة مضيئة في هذا الباب.
فلذلك أحببت أن أقوم بتحقيقه، لإخراجه بثوب يليق به من التحقيق، و تدقيق النص، و طباعته طباعة لائقة به، نظرا لعدم وجود أي طبعه من هذا الكتاب - و للأسف الشديد - محققةر.
ص: 6
تحقيقا علميا(1).
و لقد كنت أقدم رجلا و أؤخّر أخرى نظرا لكبر حجم هذا الكتاب، و غزارة محتوياته، و كثرة أحاديثه و آثاره، فاستعنت باللّه العلي القدير و شمّرت عن ساعد الجد، فاستغرق معي من التحقيق ما يقارب السنتين و النصف من العمل المتواصل.
اسأل اللّه أن يتقبل منا هذا الجهد، و أن يعفو عن زلاتنا، و يتجاوز عن أخطائنا، و أي يجعله في ميزان حسناتنا يوم نلقاه. انه ولي ذلك و هو السميع العليم.
و كتب راجي عفو ربه و رضوانه أبو عبد الرحمن فواز أحمد زمرلي طرابلس الشام في العاشر من شهر اللّه صفر الخير 1416 هجريةي.
ص: 7
إنّ كتاب «الاتقان في علوم القرآن» للإمام السيوطي يعتبر بحق و بجدارة موسوعة، و دائرة معارف في علوم القرآن.
قد جمع مادته من مئات المراجع و المصادر، في وقت عزت أدوات الكتابة، و صعب الحصول على الورق و المصنفات إلاّ بشق الأنفس.
و قد قام باختيار عصارة هذه المصادر، فرتبها و دوّنها في هذا الكتاب الذي لا يستغني عنه المفسّر، و الأصولي، و طالب علم.
فهو الحلقة الذهبية في سلسلة كتب الدراسات القرآنية، أحسنها تصنيفا و تأليفا، و أكثرها استيعابا و شمولا، جمع فيه من أشتات الفوائد، و منشور المسائل ما لم يجتمع في كتاب.
و لقد أوضح السيوطي في مقدمة الكتاب، و في ثناياه عن منهجه في هذا الكتاب، و مما قاله في المقدمة: «ثم خطر لي بعد ذلك أن أؤلّف كتابا مبسوطا، و مجموعا مضبوطا، أسلك فيه طريق الإحصاء، و أمشي فيه على منهاج الاستقصاء» اه.
فبيّن السيوطي رحمه اللّه تعالى أنه سلك في كتابه الاتقان مسلك البسط، و طريق الإحصاء، و منهج الاستقصاء.
فلقد جمع ما جمعه الأوائل، و زاد عليهم من الفوائد و الفرائد، و القواعد و الشوارد، ما يشنف الآذان، كما يقول هو نفسه في مقدمة كتاب الاتقان.
و يلاحظ في هذا الكتاب أنّ السيوطي سلك فيه مسلك سرد القواعد و الأصول في كل نوع من أنواع كتابه، و لم يقصد استيعاب الفروع و الجزئيات، مع أنه تعرض لكثير من الفروع و الجزئيات، إلا أنه لم يقصد استيعاب ذلك.
فيقول هو نفسه عن هذا 574/1: «و المقصود في جمع أنواع الكتاب إنما هو ذكر
ص: 8
القواعد و الأصول، لا استيعاب الفروع و الجزئيات» اه.
و لم يتعرض في كتابه الاتقان للشبهات الواردة حول بعض أنواع علوم القرآن، كالنسخ و غيره، بل تعرض لمهمات المسائل، و ترك كثيرا من تفصيل الرد على المبطلين.
و في ذلك يقول 220/1: «فإنّ كتابنا موضوع للمهمات، لا لمثل هذه البطالات».
لقد أوضح السيوطي نفسه سبب تأليفه لكتاب الاتقان، و للمراحل التي مرّ بها قبل تأليفه، و لنترك اليراع له - رحمه اللّه تعالى - ليخبرنا عن ذلك، فيقول: «و لقد كنت في زمان الطلب أتعجّب من المتقدمين إذ لم يدوّنوا كتابا في أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث، فسمعت شيخنا أستاذ الأستاذين، و إنسان عين الناظرين، خلاصته الوجود، علاّمة الزمان، فخر العصر، و عني الأوان أبا عبد اللّه محيي الدين الكافيجي - مدّ اللّه في أجله، و أسبغ عليه ظلّه يقول: قد دوّنت في علوم التفسير كتابا لم أسبق إليه.
فكتبته عنه فإذا هو صغير الحجم جدا، و حاصل ما فيه بابان:
الأول: في ذكر معنى التفسير و التأويل و القرآن و السورة و الآية.
و الثاني: في شروط القول فيه بالرأي.
و بعدها خاتمة في آداب العالم و المتعلّم.
فلم يشف لي غليلا، و لم يهدني إلى المقصود سبيلا.
ثم أوقفني شيخنا شيخ مشايخ الإسلام قاضي القضاة و خلاصة الأنام حامل لواء المذهب المطلبيّ علم الدّين البلقيني - رحمه اللّه تعالى -، على كتاب في ذلك لأخيه قاضي القضاة جلال الدين. سمّاه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» فرأيته تأليفا لطيفا، و مجموعا ظريفا، ذا ترتيب و تقرير، و تنويع و تحبير. قال في خطبته:
قد اشتهرت عن الإمام الشافعيّ - رضي اللّه عنه - مخاطبة لبعض خلفاء بني العبّاس، فيها ذكر بعض أنواع القرآن، يحصل منها لمقصدنا الاقتباس. و قد صنّف في علوم الحديث جماعة في القديم و الحديث، و تلك الأنواع في سنده دون متنه، أو في مسنديه و أهل فنّه، و أنواع القراءات شاملة و علومه كاملة. فأردت أن أذكر في هذا التصنيف ما وصل إلى علمي، ممّا حواه القرآن الشريف، من أنواع علمه المنيف، و ينحصر في أمور:
الأول: مواطن النزول و أوقاته و وقائعه، و في ذلك اثنا عشر نوعا: المكيّ، المدنيّ، السفريّ، الحضريّ، الليليّ، النهاريّ، الصيفي، الشتائي، الفراشي، و النومي، أسباب النزول، أوّل ما نزل، آخر ما نزل.
ص: 9
الأمر الثاني: السّند، و هو ستة أنواع: المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، الرّواة، الحفّاظ.
الأمر الثالث: الأداء، و هو ستة أنواع: الوقف، الابتداء، الإمالة، المدّ، تخفيف الهمزة، الإدغام.
الأمر الرابع: الألفاظ، و هو سبعة أنواع: الغريب، المعرّب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه.
الأمر الخامس: المعاني المتعلّقة بالأحكام، و هو أربعة عشر نوعا: العامّ الباقي على عمومه، العامّ المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خصّ فيه الكتاب السّنة، ما خصّصت فيه السنّة الكتاب، المجمل، المبيّن، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيّد، الناسخ و المنسوخ، نوع من الناسخ و المنسوخ، و هو ما عمل به من الأحكام مدّة معيّنة و العامل به واحد من المكلفين.
الأمر السادس: المعاني المتعلّقة بالألفاظ، و هو خمسة أنواع: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر.
و بذلك تكمّلت الأنواع خمسين. و من الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب، المبهمات.
فهذا نهاية ما حصر من الأنواع.
هذا آخر ما ذكره القاضي جلال الدين في الخطبة، ثم تكلّم في كلّ نوع منها بكلام مختصر يحتاج إلى تحرير و تتمّات و زوائد مهمّات. فصنّفت في ذلك كتابا سميّته: «التحبير في علوم التفسير» ضمّمته ما ذكر البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، و أضفت إليه فوائد سمحت القريحة بنقلها، و قلت في خطبته:
أما بعد: فإنّ العلوم و إن كثر عددها، و انتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحر قعره لا يدرك، و نهايتها طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك، و هذا يفتح لعالم بعد آخر من الأبواب ما لم يتطرّق إليه من المتقدمين الأسباب.
و إنّ مما أهمل المتقدمون تدوينه حتى تحلّى في آخر الزمان بأحسن زينة، علم التفسير الذي هو كمصطلح الحديث، فلم يدوّنه أحد لا في القديم و لا في الحديث، حتى جاء شيخ الإسلام و عمدة الأنام، علاّمة العصر، قاضي القضاة جلال الدين البلقينيّ - رحمه اللّه تعالى -، فعمل فيه كتابه: «مواقع العلوم من مواقع النجوم». فنقّحه و هذّبه، و قسّم أنواعه و رتّبه، و لم يسبق إلى هذه المرتبة، فإنّه جعله نيّفا و خمسين نوعا منقسمة إلى ستة أقسام، و تكلّم في كلّ نوع منها بالمتين من الكلام، فكان كما قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدّمة نهايته:
ص: 10
كلّ مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، و مبتدع لأمر لم يتقدّم فيه عليه، فإنّه يكون قليلا ثم يكثر، و صغيرا ثم يكبر.
فظهر لي استخراج أنواع لم يسبق إليها، و زيادة مهمّات لم يستوف الكلام عليها، فجرّدت الهمّة إلى وضع كتاب في هذا العلم، و أجمع به - إن شاء اللّه تعالى - شوارده، و أضمّ إليه فوائده، و أنظم في سلكه فرائده؛ لأكون في إيجاد هذا العلم ثاني اثنين، و واحدا في جمع الشتيت منه كألف أو كألفين، و مصيّرا فنّي التفسير و الحديث في استكمال التقاسيم إلفين. و إذ برز نور كمامه و فاح، و طلع بدر كماله و لاح، و أذّن فجره بالصّباح، و نادى داعيه بالفلاح، سميته ب «التحبير في علوم التفسير». و هذه فهرست الأنواع بعد المقدّمة:
النوع الأول و الثاني: المكّي و المدنيّ.
الثالث و الرابع: الحضريّ و السّفريّ.
الخامس و السادس: النهاريّ و الليليّ.
السابع و الثامن: الصّيفيّ و الشتائيّ.
التاسع و العاشر: الفراشي و النّوميّ.
الحادي عشر: أسباب النّزول.
الثاني عشر: أوّل ما نزل.
الثالث عشر: آخر ما نزل.
الرابع عشر: ما عرف وقت نزوله.
الخامس عشر: ما أنزل فيه و لم ينزل على أحد من الأنبياء.
السادس عشر: ما أنزل منه على الأنبياء.
السّابع عشر: ما تكرّر نزوله.
الثامن عشر: ما نزل مفرّقا.
التاسع عشر: ما نزل جمعا.
العشرون: كيفية إنزاله.
و هذه كلها متعلّقة بالنزول.
الحادي و العشرون: المتواتر.
الثاني و العشرون: الآحاد.
الثالث و العشرون: الشاذّ.
ص: 11
الرابع و العشرون: قراءات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
الخامس و السادس و العشرون: الرواة و الحفاظ.
السابع و العشرون: كيفيّة التّحمّل.
الثامن و العشرون: العالي و النّازل.
التاسع و العشرون: المسلسل.
و هذه متعلّقة بالسّند.
الثلاثون: الابتداء.
الحادي و الثلاثون: الوقف.
الثاني و الثلاثون: الإمالة.
الثالث و الثلاثون: المد.
الرابع و الثلاثون: تخفيف الهمزة.
الخامس و الثلاثون: الإدغام.
السادس و الثلاثون: الإخفاء.
السابع و الثلاثون: الإقلاب.
الثامن و الثلاثون: مخارج الحروف.
و هذه متعلقة بالأداء.
التاسع و الثلاثون: الغريب.
الأربعون: المعرّب.
الحادي و الأربعون: المجاز.
الثاني و الأربعون: المشترك.
الثالث و الأربعون: المترادف.
الرابع و الخامس و الأربعون: المحكم و المتشابه.
السادس و الأربعون: المشكل.
السابع و الثامن و الأربعون: المجمل و المبيّن.
التاسع و الأربعون: الاستعارة.
الخمسون: التشبيه.
الحادي و الثاني و الخمسون: الكناية و التعريض.
الثالث و الخمسون: العالم الباقي على عمومه.
الرابع و الخمسون: العامّ المخصوص.
الخامس و الخمسون: العامّ الذي أريد به الخصوص.
ص: 12
السادس و الخمسون: ما خصّ فيه الكتاب السنّة.
السابع و الخمسون: ما خصت فيه السّنة الكتاب.
الثامن و الخمسون: المؤوّل.
التاسع و الخمسون: المفهوم.
الستون و الحادي و الستون: المطلق و المقيّد.
الثاني و الثالث و الستون: الناسخ و المنسوخ.
الرابع و الستون: ما عمل به واحد ثم نسخ.
الخامس و الستون: ما كان واجبا على واحد.
السادس و السابع و الثامن و الستون: الإيجاز و الإطناب و المساواة.
التاسع و الستون: الأشباه.
السبعون و الحادي و السبعون: الفصل و الوصل.
الثاني و السبعون: القصر.
الثالث و السبعون: الاحتباك.
الرابع و السبعون: القول بالموجب.
الخامس و السادس و السابع و السبعون: المطابقة و المناسبة و المجانسة.
الثامن و التاسع و السبعون: التورية و الاستخدام.
الثمانون: اللّف و النّشر.
الحادي و الثمانون: الالتفات.
الثاني و الثمانون: الفواصل و الغايات.
الثالث و الرابع و الخامس و الثمانون: أفضل القرآن و فاضله و مفضوله.
السادس و الثمانون: مفردات القرآن.
السابع و الثمانون: الأمثال.
الثامن و التاسع و الثمانون: آداب القارئ و المقرئ.
التسعون: آداب المفسر.
الحادي و التسعون: من يقبل تفسيره و من يردّ.
الثاني و التسعون: غرائب التفسير.
الثالث و التسعون: معرفة المفسرين.
الرابع و التسعون: كتابة القرآن.
الخامس و التسعون: تسمية السور.
السادس و التسعون: ترتيب الآي و السّور.
ص: 13
السابع و الثامن و التاسع و التسعون: الأسماء و الكنى و الألقاب.
المائة: المبهمات.
الأول بعد المائة: أسماء من نزل فيهم القرآن.
الثاني بعد المائة: التاريخ.
و هذا آخر ما ذكرته في خطبة «التحبير». و قد تمّ هذا الكتاب و للّه الحمد من سنة اثنتين و سبعين، و كتبه من هو في طبقة أشياخي من أولي التحقيق.
ثم خطر لي بعد ذلك أن أؤلّف كتابا مبسوطا، و مجموعا مضبوطا، أسلك فيه طريق الإحصاء، و أمشي فيه على منهاج الاستقصاء. هذا كلّه و أنا أظن أني متفرّد بذلك، غير مسبوق بالخوض في هذه المسالك، فبينا أنا أجيل في ذلك فكرا، أقدّم رجلا و أؤخّر أخرى، إذ بلغني أنّ الشيخ الإمام بدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي، أحد متأخّري أصحابنا الشافعيين، ألّف كتابا في ذلك حافلا، يسمى «البرهان في علوم القرآن»، فتطلّبته حتى وقفت عليه، فوجدته، قال في خطبته.
لمّا كانت علوم القرآن لا تحصى، و معانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن.
و مما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع النّاس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث؛ فاستخرت اللّه تعالى - و له الحمد - في وضع كتاب في ذلك، جامع لما تكلم الناس في فنونه، و خاضوا في نكته و عيونه، و ضمّنته من المعاني الأنيقة و الحكم الرشيقة ما بهر القلوب عجبا، ليكون مفتاحا لأبوابه، عنوانا على كتابه، معينا للمفسر على حقائقه، مطلعا على بعض أسراره و دقائقه، و سمّيته: «البرهان في علوم القرآن» و هذه فهرست أنواعه:
النوع الأوّل: معرفة سبب النزول.
الثاني: معرفة المناسبة بين الآيات.
الثالث: معرفة الفواصل.
الرابع: معرفة الوجوه و النظائر.
الخامس: علم المتشابه.
السادس: علم المبهمات.
السابع: في أسرار الفواتح.
الثامن: في خواتم السور.
التاسع: في معرفة المكيّ و المدني.
العاشر: في معرفة أوّل ما نزل.
الحادي عشر: معرفة على كم لغة نزل.
ص: 14
الثاني عشر: في كيفية إنزاله.
الثالث عشر: في بيان جمعه و من حفظه من الصحابة.
الرابع عشر: معرفة تقسيمه.
الخامس عشر: معرفة أسمائه.
السادس عشر: معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز.
السابع عشر: معرفة ما فيه من غير لغة العرب.
الثامن عشر: معرفة غريبه.
التاسع عشر: معرفة التصريف.
العشرون: معرفة الأحكام.
الحادي و العشرون: معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن و أفصح.
الثاني و العشرون: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص.
الثالث و العشرون: معرفة توجيه القرآن.
الرابع و العشرون: معرفة الوقف.
الخامس و العشرون: علم مرسوم الخط.
السادس و العشرون: معرفة فضائله.
السابع و العشرون: معرفة خواصه.
الثامن و العشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟.
التاسع و العشرون: في آداب تلاوته.
الثلاثون: في أنه هل يجوز في التصانيف و الرسائل و الخطب استعمال بعض آيات القرآن؟ الحادي و الثلاثون: معرفة الأمثال الكامنة فيه.
الثاني و الثلاثون: معرفة أحكامه.
الثالث و الثلاثون: معرفة جدله.
الرابع و الثلاثون: معرفة ناسخه و منسوخه.
الخامس و الثلاثون: معرفة موهم المختلف.
السادس و الثلاثون: معرفة المحكم من المتشابه.
السابع و الثلاثون: في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات.
الثامن و الثلاثون: معرفة إعجازه.
التاسع و الثلاثون: معرفة وجوب متواتره.
الأربعون: في بيان معاضدة السنّة الكتاب.
ص: 15
الحادي و الأربعون: معرفة تفسيره.
الثاني و الأربعون: معرفة وجوه المخاطبات.
الثالث و الأربعون: بيان حقيقته و مجازه.
الرابع و الأربعون: في الكنايات و التعريض.
الخامس و الأربعون: في أقسام معنى الكلام.
السادس و الأربعون: في ذكر ما تيسر من أساليب القرآن.
السابع و الأربعون: في معرفة الأدوات.
و اعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلاّ و لو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يحكم أمره، و لكن اقتصرنا من كلّ نوع على أصوله، و الرّمز إلى بعض فصوله؛ فإنّ الصناعة طويلة و العمر قصير، و ما ذا عسى أن يبلغ لسان التقصير.
هذا آخر كلام الزركشي في خطبته.
و لما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، و حمدت اللّه كثيرا، و قوي العزم على إبراز ما أضمرته، و شددت الحزم في إنشاء التّصنيف الّذي قصدته، فوضعت هذا الكتاب العليّ الشأن، الجليّ البرهان، الكثير الفوائد و الإتقان، و رتبت انواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، و أدمجت بعض الأنواع في بعض، و فصّلت ما حقّه أن يبان، و زدته على ما فيه من الفوائد و الفرائد، و القواعد و الشوارد، ما يشنّف الآذان، و سميته: «الإتقان في علوم القرآن». و سترى في كلّ نوع منه - إن شاء اللّه تعالى - ما يصلح أن يكون بالتصنيف مفردا، و ستروى من مناهله العذبة ريّا لا ظمأ بعده أبدا. و قد جعلته مقدّمة للتفسير الكبير الذي شرعت فيه. و سميته ب «مجمع البحرين، و مطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية، و تقرير الدراية».
لقد استقى السيوطي مادة كتابه من مئات الكتب و المراجع في شتى العلوم، و لقد فكّرت أن أتتبعها، و لكن الهمة قصرت، و قد ذكر في مقدمة كتابه أهم تلك المراجع، و ترك تسمية الكثير منها، فقال رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه الإتقان: «و هذه أسماء الكتب التي نظرتها على هذا الكتاب، و لخصته منها:
تفسير ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و أبي الشيخ بن حيّان، و الفريابيّ، و عبد الرزّاق، و ابن المنذر، و سعيد بن منصور - و هو جزء من سننه -، و الحاكم - و هو جزء من مستدركه -، و تفسير الحافظ عماد الدين بن كثير، و فضائله القرآن لأبي عبيد، و فضائل
ص: 16
القرآن لابن الضّريس، و فضائل القرآن لابن أبي شيبة، المصاحف لابن أبي داود، المصاحف لابن أشتة، الردّ على من خالف مصحف عثمان لأبي بكر بن الأنباري، أخلاق حملة القرآن للآخريّ، التبيان في آداب حملة القرآن للنّوويّ، شرح البخاريّ لابن حجر.
جمال القرّاء للسّخاويّ، النّشر و التقريب لابن الجزريّ، الكامل للهذليّ، الإرشاد في القراءات العشر للواسطيّ، الشواذّ لابن غلبون، الوقف و الابتداء لابن الأنباري و للسجاونديّ و للنحاس، و للدّاني و للعمانيّ و لابن النكزاويّ، قرّة العين في الفتح و الإمالة بين اللّفظين لابن القاصح.
مفردات القرآن للراغب، غريب القرآن لابن قتيبة و للعزيزي، الوجوه و النظائر للنيسابوريّ و لابن عبد الصمد، الواحد و الجمع في القرآن لأبي الحسن الأخفش الأوسط، الزّاهر لابن الأنباريّ، شرح التسهيل و الارتشاف لأبي حيّان، المغني لابن هشام، الجنى الدانيّ في حروف المعاني لابن أمّ قاسم، إعراب القرآن لأبي البقاء و للسمين و للسّفاقسي و لمنتخب الدين، المحتسب في توجيه الشواذّ لابن جنّي، الخصائص له، الخاطريّات له، ذو القدّ له، أمالي ابن الحاجب، المعرّب للجواليقيّ، مشكل القرآن لابن قتيبة، اللغات التي نزل بها القرآن لأبي القاسم محمد بن عبد اللّه، الغرائب و العجائب للكرمانيّ، قواعد في التفسير لابن تيميّة.
أحكام القرآن لإسماعيل القاضي، و لبكر بن العلاء، و لأبي بكر الرازي، و للكيا الهراسيّ، و لابن العربيّ، و لابن الفرس، و لابن خويز منداد. الناسخ و المنسوخ لمكي، و لابن الحصار، و للسّعيديّ، و لأبي جعفر النحاس، و لابن العربي، و لأبي داود السجستاني، و لأبي عبيد القاسم بن سلاّم، و لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميميّ. الإمام في أدلة الأحكام للشيخ عز الدين بن عبد السلام.
إعجاز القرآن للخطابيّ، و للرمّاني، و لابن سراقة، و للقاضي أبي بكر الباقلانيّ، و لعبد القاهر الجرجانيّ، و للإمام فخر الدين، و لابن أبي الإصبع - و اسمه البرهان - و للزّملكانيّ - و اسمه البرهان أيضا - و مختصره له - و اسمه المجيد - مجاز القرآن لابن عبد السلام، الإيجاز
ص: 17
في المجاز لابن القيّم، نهاية التأميل في أسرار التنزيل للزّملكانيّ، التّبيان في البيان له، المنهج المفيد في أحكام التوكيد له، بدائع القرآن لابن أبي الإصبع، التحبير له، الخواطر السوانح في أسرار الفواتح له، أسرار التنزيل للشرف البارزيّ، الأقصى القريب للتنوخيّ، منهاج البلغاء لحازم، العمدة لابن رشيق، الصناعتين للعسكريّ، المصباح لبدر الدين بن مالك، التبيان للطّيبيّ، الكنايات للجرجاني، الإغريض في الفرق بين الكناية و التعريض للشيخ تقي الدين السبكيّ، الاقتناص في الفرق بين الحصر و الاختصاص له، عروس الأفراح لولده بهاء الدين، روض الأفهام في أقسام الاستفهام للشيخ شمس الدين بن الصائغ، نشر العبير في إقامة الظاهر مقام الضمير له، المقدّمة في سرّ الألفاظ المقدّمة له، إحكام الراي في أحكام الآي له، مناسبات ترتيب السور لأبي جعفر بن الزّبير، فواصل الآيات للطّوفيّ، المثل السائر لابن الأثير، الفلك الدائر على المثل السائر، كنز البراعة لابن الأثير، شرح بديع قدامة للموفق للموفق عبد اللطيف.
البرهان في متشابه القرآن للكرماني، درّة التنزيل و غرّة التأويل في المتشابه لأبي عبد اللّه الرازي، كشف المعاني عن متشابه المثاني للقاضي بدر الدين بن جماعة، أمثال القرآن للماورديّ، أقسام القرآن لابن القيّم، جواهر القرآن للغزاليّ، التعريف و الإعلام فيما وقع في القرآن من الأسماء و الأعلام للسّهيليّ، الذّيل عليه لابن عساكر، التّبيان في مبهمات القرآن للقاضي بدر الدين بن جماعة، أسماء من نزل فيهم القرآن لإسماعيل الضرير، ذات الرّشد في عدد الآي و شرحها للموصليّ، شرح آيات الصفات لابن اللّبّان، الدرّ النظيم في منافع القرآن العظيم لليافعيّ.
المقنع للدّانيّ، شرح الرّائية للسخاويّ، شرحها لابن جبارة.
بدائع الفوائد لابن القيم، كنز الفوائد للشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، الغرر و الدّرر للشريف المرتضى، تذكرة البدر بن الصاحب، جامع الفنون لابن شبيب الحنبليّ، النّفيس لابن الجوزيّ، البستان لأبي الليث السمرقنديّ.
الكشّاف و حاشيته للطيبيّ، تفسير الإمام فخر الدين، تفسير الأصبهاني و الحوفيّ، و أبي حيّان، و ابن عطية، و القشيريّ، و المرسي، و ابن الجوزي، و ابن عقيل، و ابن رزين،
ص: 18
و الواحديّ، و الكواشيّ، و الماوردي، و سليم الرازيّ، و إمام الحرمين، و ابن برّجان، و ابن بزيزة، و ابن المنيّر، أمالي الرافعيّ على الفاتحة، مقدّمة تفسير ابن النقيب». اه
و من المصنفات في علوم القرآن:
1 - فنون الأفنان في علوم القرآن، لابن الجوزي. و هو مطبوع.
2 - البرهان في مشكلات القرآن لأبي المعالي عزيزي بن عبد الملك، المعروف بشيذلة.
3 - جمال القراء، و كمال الإقراء، للشيخ علم الدين السخاوي. و هو مطبوع.
4 - التيسير في قواعد علم التفسير، للإمام محمد بن سليمان الكافيجي، و هو مطبوع.
5 - المرشد الوجير إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز، لأبي شامة المقدسي، و هو مطبوع.
قال السيوطي: و من المصنفات في مثل هذا النمط، و ليس في الحقيقة مثله و لا قريبا منه، و إنما هي طائفة يسيرة - و نبذة قصيرة... فذكر هذه المؤلفات.
ثم قال:
و كلها بالنسبة إلى نوع من هذا الكتاب - يقصد «الاتقان» - كحبة رمل في جنب رمل عالج، و نقطة قطر في حيال بحر زاخر.
6 - مواقع العلوم من مواقع النجوم، لجلال الدين البلقيني.
7 - البرهان في علوم القرآن، للزركشي، و هو مطبوع.
8 - و ابن عطية وضع مقدمة نفيسة في علوم القرآن، لتفسيره المحرر الوجيز و هو مطبوع.
و المقدمة - أيضا - مطبوعة بمفردها.
9 - و لكتاب المباني، مقدمة نفيسة - أيضا - تطرّق مؤلفها إلى أبحاث في علوم القرآن، مهمة في بابها، و هي مطبوعة مع مقدمة ابن عطية، في مكتبة الخانجي بالقاهرة.
10 - و للإمام القرطبي المفسّر كتاب تطرّق فيه إلى بعض أبحاث القرآن و فضائله، و هو مطبوع. بتحقيقنا باسم «التذكار في أفضل الأذكار».
11 - و للإمام النووي «التبيان في آداب حملة القرآن» بحث فيه بعض المواضيع المتعلقة بعلوم القرآن.
12 - و من الكتب المهمة في هذا الباب - كتاب فضائل القرآن، للقاسم بن سلام و هو مطبوع.
13 - و لابن الضريس كتاب في فضائل القرآن بحث فيه بعض أنواع علوم القرآن و هو مطبوع.
14 - و للإمام الحسين بن علي الرجراجي الشوتاوي، كتاب حافلا في علوم القرآن، أسماه «الفوائد الجميلة، على الآيات الجليلة، في علوم القرآن و فضائله»، و هو مطبوع بجامعة سبها - ليبيا.
ص: 19
15 - ثم جاء السيوطي فنهل من هذه المؤلفات، و رتّبها، و نسقها، فألّف كتابا رائعا حافلا حوى على درر جميع المؤلفات التي سبقته، و زاد عليها و كتابه «الاتقان في علوم القرآن» من أورع و أوسع ما ألّف في هذا الفن.
و لقد استقر الأمر بعد السيوطي، و ألّف في أنواع عديدة من أنواع علوم القرآن، مثل أسباب النزول، و الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و غريب القرآن، و غير ذلك.
و لقد كثرت المؤلفات الحديثة في علوم القرآن، و لكن كتاب «الاتقان» يبقى الأصل لجلّ هذه المؤلفات الحديثة، و لم يأت مؤلفوها بشيء علمي جديد، إلا ما ندر، و اللّه الموفق و هو الهادي للصواب.
ص: 20
طبع «الإتقان في علوم القرآن» طبعات قديمة و عديدة، و طبع بهامشها كتاب «إعجاز القرآن»، ثم طبع بعناية طه عبد الرءوف سعد، فقام بتخريج آياته الكثيرة، و طباعته في ثلاثة مجلدات، مراعيا أسلوب الطباعة الحديثة.
و لكن الكتاب خلا عن التحقيق العلمي، و التعليق إلاّ فيما ندر.
ثم قامت دار ابن كثير بطباعة الكتاب في مجلدين كبيرين، و لكنه امتلأ - بهذا التحقيق - بالأخطاء المطبعية، و النقص، و من تلك الأخطاء:
ص 22 /سطر 5 /: القاسم بن رسلان، و الصواب: بن سلام.
ص 26 /سطر 11 /: عثمان بن سعيد الرازي: و الصواب: الدارمي.
ص 31 /سطر 2 /: عمرو بن هارون: و الصواب: عمر بن هارون.
ص 34 /السطر الأخير من المتن/ /: عن الفضل: و الصواب: عن الفضيل.
ص 36 /سطر 11 /: نقص ما يقارب السطرين.
ص 42 /أول الصفحة/: نقص ما يقارب ثلاثة أسطر.
ص 66 /سطر 9 /: روى الطبراني و أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس.
و الصواب: روى الطبراني عن أبي مريم الغساني.
ص 67 /سطر 9 /: من حديث: لقد. و الصواب: من حديث عمر: لقد.
ص 67 /سطر 14 /: ليلة الجن بحراء. و الصواب ليلة الحية بحراء.
ص 77 /سطر 18 /: عن سلمة، الصواب: أبي سلمة.
ص 111 /سطر 17 /: نقص ما يقارب أربعة أسطر.
ص 176 /سطر 3 /: و في مسند عبيد من حديث: انها. و الصواب: أو في مسند عبد بن حميد من حديث ابن عباس مرفوعا.
ص 183 /سطر 9 /: حدثنا عون، و الصواب عوف.
ص: 21
ص 238 /سطر 4 /: و أوعيه و الصواب أو أوعبه.
ص 258 /سطر 15 /: نقص: قلت:
ص 326 /سطر 2 /: عبد اللّه بن عمر، و الصواب: عمرو.
ص 326 /سطر 8 /: عن سعيد بن المنذر، و الصواب: سعد.
ص 342 /سطر 5 /: فتحوّل إلي، و الصواب. فتحول، إلاّ، ص 344 /سطر 15 /: زاد لفظة: مسألة. و هو خطأ.
ص 342 /سطر 20-21 /: إليّ مجاهد و عبد ابن أبي أمامة: و الصواب: مجاهد و عبدة بن أبي لبابة.
ص 349 /سطر 8 /: أرجى، و الصواب: أرخى.
ص 417 /سطر 12 /: لا حيل: و الصواب: لا جبل.
ص 418 /سطر 11 /: نقص (عن).
ص 442 /سطر 15 /: هو الحبل، و الصواب: هو الجبل.
و هناك الكثير الكثير من هذه الأخطاء و النقص.
أما عن الهوامش فحدّث و لا حرج.
فكم من قراءة متواترة قال عنها: إنها شاذة. انظر ص 544 حيث اعتبر أنّ القراءة شاذة و هي متواترة.
و كم من تعليق خطّأ فيه الصحيح، و صحّح الخطأ. انظر 505/1، حيث قال: إنّ الآية لا تصلح مثالا لزيادة الباء، و السيوطي قد صرّح بأنها على قراءة النصب. و انظر تعليقنا حول ذلك.
و هذا غيض من فيض قد أعرضت عن ذكر أكثره.
فلذلك عكفت على تصحيح متن الكتاب، و تصويبه، و ذلك بالرجوع إلى مصادر السيوطي، أو إلى الكتب التي نقل منها السيوطي مادة كتابه.
و سيجد القارئ العزيز الفرق الواضح بين طبعتنا، و سائر الطبعات بفطنته و ذكائه.
و سيدرك ما عانيناه لإخراج النص سليما من التحريف و النقص، و ما عانيناه في عزو الأقوال إلى أصحابها، و تخريج الأحاديث و الآثار، و الحكم عليها. بالصورة التي أرجو أن تكون لائقة بهذا السفر الجليل الهام، و تليق بهذا الامام الهمام رحمه اللّه تعالى.
ص: 22
ترجمة الحافظ جلال الدين السيوطي(1)
نسبه و كنيته:
هو جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن الكمال أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن عثمان بن محمد بن خضر بن أيوب بن محمد بن الشيخ همام الدين الخضيري(2) السيوطي الشافعي(3).
كانت ولادته ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع و أربعين و ثمانمائة هجرية (849) ه.
أما عقيدة السيوطي فكان مفوضا أشعريا صوفيا، كما يظهر من كتاباته، و له قصيدة في التفويض:
فوّض أحاديث الصفات و لا تشبّه أو تعطّل
إن رمت الاّ أخوض في تحقيق معضلة فأول
إنّ المفوض سالم مما تكلّفه المؤول
و كانت نشأته برعاية أحد المشايخ الصوفية من أصدقاء أبيه، و كان من مريدي الصوفية، و دافع عنها في مؤلفاته. و للأسف إنه لم يدافع إلاّ عن المطعون في عقائدهم و سلوكهم من الذين أجمع أهل العلم على كفرهم و زندقتهم، كابن عربي، و ابن الفارض. كما جاء في
ص: 23
رسالتيه «تنبيه الغبي إلى تبرئة ابن عربي» و «قمع المعارض في نصرة ابن الفارض»(1).
و كان كما يدعي له اعتقاد في علم الباطن كما يقول هنا: «إنه بعد التضلع من علوم الظاهر اشتغل بتحصيل علم الباطن و الاستفادة من أهلها بالصحبة و الخدمة و السلوك و حسن الاعتقاد و الإخلاص و التخلية من الرذائل و التحلية بالفضائل (طريقة الصوفية).
و قيل: إنه رجع عن معتقده الصوفي و هاجمه. و من اعتقاده الذي ألب عليه العلماء في عصره أنه ادعى رؤية الرسول في اليقظة(2) و المنام، و له رسالة في ذلك، و هي: «إمكان رؤية النبي و الملك في اليقظة» و هذا لم يحصل لصحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم - بعده، و هم أفضل الخلق حتى يحصل لمن هو دونهم، إنما هي تخيلات شيطانية ركبت كثيرا من الزهاد و العلماء في العصور السابقة و الحاضرة حتى اعتقدوا بأنهم يرون الرسل و الملائكة، و هذا مسلك الطرق الصوفية في غالبه، و من يتتلمذ على أيديهم.
نشأ السيوطي يتيما، فقد توفي والده و له من العمر خمس سنوات و سبعة أشهر، و أسندت وصايته إلى جماعة منهم الكمال بن الهمام، فقرره في وظيفة الشيخونية، و قد وصل في القراءة إلى سورة التحريم، و لكن اللّه - عزّ و جلّ - هيأ له من أسباب النجاح في الحياة ما جعله آية في العلم و نابغة من نوابغه، أغرم به منذ صغره، فقد حباه اللّه تعالى بمزيد من النبوغ المبكر، و أنبته نباتا حسنا في وسط علمي عريق(3)، ثم حفظ القرآن و له من العمر ثمان سنوات، و تأثّر السيوطي بهذه البيئة، فقد أحضره والده مجلس الحافظ ابن حجر و هو في الثالثة، و شرع في الاشتغال بالعلم من ابتداء ربيع الأول سنة أربع و ستين و ثمانمائة، فقرأ على الشمس السيرامي صحيح مسلم إلاّ قليلا منه، و منهاج النووي و منهاج البيضاوي و الشفا و ألفية ابن مالك فما أتمها إلاّ و قد صنف، و أجازه بالعربية و قرأ عليه من التسهيل، و سمع عليه الكثير من ابن المصنف و التوضيح و شرح الشذور و المغني في أصول فقه الحنفية، و شرح العقائد للتفتازاني، و قرأ على الشمس المرزباني الحنفي الكافية و شروحها للمصنف، و مقدمة ايساغوجي و شرحها للكافي، و سمع عليه من المتوسط و الشافية و شرحها لجاربردي و من ألفية العراقي.
ص: 24
و لزمه حتى مات سنة سبع و ستين، و قرأ في الفرائض و الحساب على علامة زمانه الشهاب الشارمساحي، ثم دروس العلم للبلقيني، و من شوال سنة خمس و ستين فقرأ عليه ما لا يحصى، و لزم دروس محقّ الديار المصرية سيف الدين محمد بن محمد الحنفي، و دروس العلامة التقي الشمني، و دروس الكافيجي، و قرأ على العز الكناني، و في الميقات على مجد الدين بن السباع و العز بن محمد الميقاتي، و في الطب على محمد بن إبراهيم الدواني لما قدم القاهرة من الروم و قرأ على التقي الحصكفي، و الشمس البابي و غيرهم و حضر مجالس الجلال المحلى و زين الدين رضوان القعبي(1).
أخذ السيوطي العلم عن ستمائة شيخ، هكذا رواه تلميذه الشعراني في طبقاته الصغرى، و قد ذكر تلميذه الداودي في ترجمته أسماء شيوخه إجازة و قراءة و سماعا مرتبين على حروف المعجم فبلغت عدتهم إحدى و خمسون نفسا.
و كان أبرز شيوخ السيوطي الذين لازمهم أكبر مدة من الزمن و تلقى عنهم العلم:
1 - تقي الدين الشمني الحنفي سنة 872 ه.
لازمه السيوطي أربع سنوات في الحديث و العربية... و سمع عليه المطول و التوضيح و المغني و حاشيته عليه و شرح العقائد للتفتازاني، كما ذكرناه آنفا و قرأ عليه من الحديث كثيرا، و من علومه و شرحه على نظم النخبة الوالدة(2).
2 - العلامة محي الدين الكافيجي الحنفي المولود سنة 788 ه.
قال السيوطي: لزمته أربع عشر سنة فما جئته من مرة و إلاّ سمعت منه التحقيقات و العجائب ما لم أسمعه قبل ذلك. توفي ليلة الجمعة رابع جمادى الأول 879 ه.
3 - شرف الدين المناوي:
لزم السيوطي درسه فقرأ عليه قطعة من المنهاج و سمعه عليه كاملا في التقسيم، و سمع عليه الكثير من شرح البهجة للعراقي، و من تفسير البيضاوي و غيره، و لزمه إلى أن مات.
و هذا و لم يقتصر السيوطي على الأخذ من الرجال، بل أخذ العلم كذلك عن عدد من النسوة اللائي اشتهرن بالعلم و الصلاح في ذلك مثل:
ص: 25
- أمة العزيز بنت محمد الأبناس.
- فاطمة بنت جار اللّه بن صالح الطبري.
- صفية بنت ياقوت المكية.
- رقية بنت عبد القوي بن محمد الجاوي.
و غيرهنّ من شهيرات عصره ممن نشأت في بيوت العلم و الورع و التقوى. و للسيوطي معجم كبير بأسماء شيوخه (حاطب ليل و جازف سيل) و (معجم صغير) يسمى المنتقى، و معجم في مروياته يسمى (زاد المسير في الفهرست الصغير) و يبلغ عدد شيوخه الذين ذكرهم في معجمه خمسين شيخا، و إذا كان السيوطي - رحمه اللّه تعالى - قد تتلمذ على هذا الحشد الكبير من الأئمة الأجلاء مما كان له كبير الأثر في حياته العلمية حتى أصبح إماما حافظا جليلا، فكذلك تخرّج بالسيوطي جمع كبير من الأئمة الذين تتلمذوا على يديه و نهلوا من معينه الصالح منهم:
1 - شمس الدين محمد الداودي المصري الشافعي، و قيل: المالكي، الإمام العلامة المحدث الحافظ كان شيخ أهل الحديث في عصره، أثنى عليه المسند جار اللّه بن فهد و البدر الغزي و غيرهما.
و قال ابن طولون: وضع ذيلا على طبقات الشافعية للتاج السبكي، و قال النجم الغزي:
جمع ترجمة شيخه الحافظ السيوطي في مجلد ضخم، و رأيت على ظهر الترجمة المذكورة بخط بعض فضلاء مصر: إنّ مؤلفها توفي قبل الزوال من يوم الأربعاء 28 من شوال سنة 945 ه(1) و له ذيل على لب الألباب في الأنساب للسيوطي، و طبقات المفسرين(2).
2 - شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن علي بن محمد الشهير بابن طولون الدمشقي الصلحي الحنفي الإمام العلامة المسند المؤرخ، أخذ عن السيوطي إجازة مكاتبة في جماعة المصريين و آخرين من أهل الحجاز، كان ماهرا في النحو، علاّمة في الفقه، مشهورا بالحديث، و ولي تدريس الحنفية بمدرسة الحنفية.
3 - الإمام الحافظ محدث الديار المصرية المسند الصالح الزاهد شمس الدين محمد بن يوسف علي بن يوسف الشامي، كان عالما صالحا متقنا في العلوم، و ألف السيرة النبوية المشهورة التي جمعها من ألف كتاب، كان حلو المنطق مهيب النظر كثير الصيام، له من
ص: 26
المؤلفات: عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان، و الجامع الوجيز الخادم للغات القرآن العزيز. و مرشد السالك إلى ألفية ابن مالك و النكت، توفي يوم الاثنين 14 شعبان 942 ه(1).
4 - شمس الدين بن محمد أحمد الشهير بابن العجيمي المقدسي الشافعي الصوفي، العلاّمة المحدّث الواعظ، أخذ عن مشايخ الإسلام البرهان بن أبي شريف، و الجلال السيوطي و القاضي زكريا، و الشمس السخاوي، و ناصر الدين بن زريق، توجه إلى الروم و حصل له به الإقبال، و عاد و تردّد إلى دمشق مرارا و وعظ بالجامع الأموي، قرأ على محدّث حلب الشيخ زين الدين بن السماع و غيره ثلاثيات البخاري توفي ببيت المقدس في رمضان 938 ه(2).
و قد كان لهؤلاء و غيرهم ممن تتلمذوا على السيوطي مكانة علمية عظيمة و قدموا للمكتبة الإسلامية عديدا من المصنفات النافعة في جميع الفنون الحديثية و غير الحديثية، و كانت كثرة تلاميذ السيوطي من أهم العوامل التي ساعدت على حفظ تراثه و نقله إلينا.
نشأ السيوطي بين الكتب حتى إنه لقّب بابن الكتب، و ترك له أبوه مكتبة زاخرة بالمصنفات و كان يتردّد منذ صغره على المدرسة المحمودية، و بها مكتبة و قد أنشئت هذه المدرسة سنة 797 ه، و تنسب إلى محمد بن علي الأستادار، و قال المقريزي:
و كان بها من الكتب الإسلامية من كلّ فن، و هذه المدرسة من أحسن المدارس في وقتها، و قال الحافظ ابن حجر: إن الكتب التي بها كثيرة جدا، و من أنفس الكتب الموجودة بالقاهرة، اشتراها محمود الأستادار من أحد العلماء و وقفها و اشترط أن لا يخرج منها شيء من مدرسته، و كان بها نحو أربعة آلاف مجلد، و فهرسها ابن حجر، و السيوطي له فيها فهرسا يسمى: (بذل المجهود في خزانة محمود)(3).
يتميز النشاط الذي أبداه السيوطي في التأليف بالتنوّع، إذ تناول فروع المعرفة بالدراسة و الكتابة، و قد عوّضت مصنفاته الكثيرة المسلمين عن الكتب التي فقدوها في الحروب و الاضطرابات، فاشتملت على علوم القرآن و الفقه و الحديث و الأدب و التاريخ و المعارف العامة.
قال السيوطي: (رزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير و الحديث و الفقه و النحو و المعاني
ص: 27
و البيان و البديع، و قال: إن العلوم التي اطلعت عليها و لم يقف عليها أحد من مشايخي فضلا عمن دونهم.
صنّف السيوطي العلوم على حسب مقدرته على دراستها، فقال: و دون هذه العلوم التي اطلعت عليها في المعرفة أصول الفقه و الجدل و الصرف و دونهما الإنشاء و الترسل و الفرائض، و دونهما القراءات و لم آخذهما عن شيخ، و دونهما الطب، و أما الحساب فأعسر شيء علي، و أبعده عن ذهني، و إذا نظرت في مسألة أجد في حلّها صعوبة كبيرة أو على حدّ تعبيره: كأنما أحاول جبلا أحمله(1).
ظلّ السيوطي يواصل الدراسة و التحصيل حتى تفقّه في علوم عصره، و أجيز بتدريس العربية، و هو نحو السابعة عشر من عمره، و أجيز بالتصدي لتدريس الفقه و الفتيا و هو في نحو السابعة و العشرين.
لقد بلغ السيوطي هذه المنزلة العلمية الرفيعة منذ صغره بفضل نشأته العلمية، كما أنه من بيت علم، فبرع في علوم الدين و اللغة و التاريخ، و لم يكتف بالدراسة في القاهرة، بل سافر إلى كثير من الأمصار كما بينّا ذلك آنفا، و قد تجمّعت لديه في أثناء هذه الرحلات براءات و إجازات كثيرة بالتدريس(2).
و السيوطي قد كملت عنده أدوات الاجتهاد و حصل علومه، و ذكر ذلك عن نفسه في «حسن المحاضرة»(3)، و في «الردّ على من أخلد إلى الأرض» و في «طرز العمامة» و في «مسلك الحنفا» قال: (لو شئت أن أكتب في كلّ مسألة مصنفا بأقوالها و أدلتها النقلية و القياسية و مداركها و نقوضها، و أجوبتها، و الموازنة بين اختلاف المذاهب فيها، لقدرت على ذلك، من فضل اللّه تعالى، لا بحولي و لا بقوتي).
و كان سريع الكتابة و حاضر البديهة، و قد أفتى في النوازل، و خرج الحوادث على أصول الإمام الشافعي، و ألّف في أكثر الفنون و أجاد، و سارت فتاواه و مؤلفاته مسير الشمس في النهار.
و رزق القبول من علماء الأمصار، و اختصر مؤلفات كثيرة و كبيرة و لمجموعة من العلماء الذين سبقوه في هذا المجال و الباع، و الحق أنه لو لا هذه الاختصارات في كلّ العصور من قبل علماء الإسلام لمن سبقهم لاندرست مؤلفات كثيرة قيمة في جميع فنون الإسلام، و التي عادة تفقد في الحروب و الاضطرابات، و منهج السيوطي في الاختصار كمنهج شيخه ابن حجر في2.
ص: 28
اختصاراته لأطراف المزي و عيره.
و من أهم الكتب التي اختصرها السيوطي (معجم البلدان) لياقوت الحموي، و (الأحكام السلطانية) للماوردي، و (طبقات الحفاظ) للذهبي، و (إحياء علوم الدين) للغزالي، و (طبقات ابن سعد) و (أسد الغابة) لابن الأثير و (البداية و النهاية) لابن كثير الدمشقي، و (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة).
و كان السيوطي شديد الغضب، تكلفه الغضبة الواحدة رسالة أو أكثر يكتبها في يوم أو ليلة ليرويها على من أغضبه أو خالفه أو سخر منه، و في ذلك يقول: و خالفني أهل عصري في خمسين مسألة، فألّفت في كلّ مسألة مؤلفا بيّنت فيه وجه الحق(1).
و للسيوطي طريقة في التأليف فريدة في بابها، إذ يقدّم في أول الكتاب منهجه الذي يسير عليه في الكتاب الأمر الذي ينير الطريق للقارئ، و نلاحظ أنّ منهجه في تعليل المسألة يبرز فيه الأقوال التي جاءت فيها، و الردود التي وردت باسم صاحبها في كتابه، مما يدل على عمقه و تثبته، و حرصه على دراسة الموضوع من كلّ ناحية، و لقد نهج على طريقة مثلى في التأليف، فكان يقول: و بذلك قال شيخنا كذا، و قال آخر في كتابه كذا، و قال ثالث، و قال رابع، و بذلك يعرض جميع الآراء التي قيلت في المسألة الواحدة.
كان السيوطي بالإضافة إلى ذلك شاعرا فله رحمه اللّه كثيرا من الشعر أكثره متوسط، و جيده كثير، و غالبه في الفوائد العلمية و الأحكام الشرعية، و هو في هذه الناحية شبيه بابن حجر العسقلاني وجهتها حياتهما العلمية بعيدا عن الأدب الذي هو فراج لنفسيهما، فكانا يعاودانه الفينة بعد الفينة و كل منهما تتراءى على شعره المسحة العلمية(2).
و من شعره الكثير ما جاء في رثاء شيخه البلقيني، و كانت في خمسين بيتا:
رزء عظيم به تستنزل العبر و حادث جل فيه الخطب و الغبر
رزء مصاب جميع المسلمين به و قلبهم من مكلوم و منكسر
ثم قال:
تبكيه عين أولي الإسلام مجتهدا و يضحك الفاجر المسرور و الغمر
من قام بالدين في دنياه و تنشده و قام بالعلم لا بالولد و يقتصر
و قال:
لا تقابل الجهلا بالذي أتوا تفلحم.
ص: 29
إن ترد تسؤهم فاعف عنهم و أصفح
و قال:
أيها السائل قوما ما لهم في الخير مذهب
اترك الناس جميعا و إلى ربك فارغب(1)
و له ألفية في علم مصطلح الحديث شعرا يقول فيها:
و هذه ألفية تحكي الدرر منظومة ضمنتها علم الأثر
فائقة ألفية العراقي في الجمع و الإيجاز و اتساق
و إن يجري سابغ الإحسان لي و له و لذوي الإيمان(2)
الرحلة في طلب العلم مبدأ اتبعه المسلمون منذ عهد الرسول عليه الصلاة و السلام، فقد سار السيوطي - رحمه اللّه - إلى أمصار و أقطار كثيرة، منها بلاد الشام و الحجاز و اليمن و الهند و المغرب و التكرور (منطقة تشاد).
كما سافر إلى الفيوم و الإسكندرية و دمياط و المحلة و نحوها، فكتب عن جماعة:
كالمحيوي بن السفيه و العلاء بن الجندي الحنفي، ثم سافر إلى مكة من البحر في ربيع الآخر سنة 869 ه فحج و شرب ماء زمزم لأمور منها: أن يصل في الفقه إلى مرتبة الشيخ سراج الدين البلقيني، و في الحديث إلى مرتبة الحافظ ابن حجر، فأخذ قليلا عن المحيوي عبد القادر المالكي و جاور سنة كاملة(3).
و بالجملة فقد عاش السيوطي طوال حياته يأخذ العلم حيث وجده، و عن كلّ من يلقاه، و أكثر من السّفر و الترحال في سبيل العلم و رواية الحديث، و من ثم كثر شيوخه و أساتذته كثرة خالفت العادة و جاوزت حد المألوف(4).
كان السيوطي شديدا مع أقرانه، قاسيا كما كانوا كذلك معه، و نزاعه مع الحافظ السخاوي مشهور و معروف لا يخفى على مطلع، فقد وقع النزاع في بادئ الأمر على بعض المسائل، فامتد إلى أكبر من ذلك فجنّد كلّ تلاميذه لهذه الحرب، و لم يقتصر الأمر على
ص: 30
السيوطي و السخاوي و تلاميذها، و إنما امتدّ كذلك إلى العلماء فمال بعضهم إلى هذا، و الآخر إلى ذاك، و استمر النزاع بينهما أمدا بعيدا تظهر آثاره في الترجمة التي ساقها السخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»(1). تحامل فيها على السيوطي، و وصفه بأمور منكرة غالبها فظيع و سب شنيع و انتقاص. و قد ردّ عليه السيوطي برسائل أشهرها: «الكاوي لدماغ السخاوي»(2) و أنشد في ذلك هذه الأبيات:
قل للسخاوي: إن تعروك مشكلة علمي كبحر من الأمواج ملتطم
و الحافظ الديمي غيث الزمان فخذ غرفا من البحر أو رشفا من الديم
و كان يقود معسكر السيوطي في الرد على السخاوي الفخر الديمي و أمين الدين الأقصرائي و سراج الدين العبادي و غيرهم.
و معسكر السخاوي يقوده ابن الكركي (متوفى 922 ه) و ابن العليف: تلميذ الجوجري، و الشمس الجوجري (متوفى 926 ه) (متوفى 923 ه) و شمس الدين الباني و غيرهم(3).
فكان من جرّاء هذه الحرب أن انشغل العلماء بها عن الكتابة فيما يهم المسلمين و خاصة من السيوطي و السخاوي، فكتبوا هم و مؤيدوهم كتابات و مقامات و رسائل ليست من الدين في شيء كما ذكرت ذلك آنفا، تبادل الفريقان فيها النقائض و التهم و السباب و ذكر المثالب(4)و العرض لهذه الخصومات تفصيلا لا يتسع له المقام هنا.
إن واجب العلماء في كلّ عصر أن يترفعوا عن مثل هذه الخصومات التي قد يساء الظن في فهم المراد، و التي تشوّه سمعة أئمة جيل بأكمله(5).
و قال في موضع آخر: ما جاء بعد السبكي مثلي. الناس يدعون اجتهادا واحدا و أنا أدعي ثلاثا. إلى غير ذلك.
و قال ابن حجر الهيتمي: لما ادعى الجلال ذلك قام عليه معاصروه و رموه عن قوس واحدة(1)، و كتبوا له سؤالا فيه مسائل أطلق الأصحاب فيها وجهين و طلبوا منه إن كان عنده أدنى مراتب الاجتهاد و هو اجتهاد الفتوى، فليتكلّم على الراجح من تلك الأوجه بدليل على قواعد المجتهدين، فردّ السؤال من غير كتابة، و اعتذر بأن له اشتغالا يمنعه من النظر في ذلك.
و قال الشمس الرملي عن والده أبي العباس الرملي إنه وقف على ثمانية عشر سؤالا فقهية سئل عنه الجلال من مسائل الخلاف المنقولة فأجاب عن نحو شطرها من كلام قوم متأخرين كالزركشي و اعتذر عن الباقي بأن الترجيح لا يقدم عليه إلاّ جاهل أو فاسق.
قال الشمس: فتأملت فإذا أكثرها من المنقول المفروغ منه، فقلت: سبحان اللّه رجل ادعى الاجتهاد و خفي عليه ذلك؟ فأجبت عن ثلاثة عشر منها في مجلس واحد بكلام متين من كلام متين، و بت على عزم إكمالها فضعفت تلك الليلة(2).
فكان السيوطي قليلا ما يناظر أقرانه من العلماء، و ذلك لا دعائه أنه لا يوجد من في مرتبته من العلم و الاجتهاد المطلق في عصره حتى يناظره. و قال عن نفسه: لا أناظر إلاّ من هو مجتهد مثلي و ليس في العصر مجتهدا إلاّ أنا. و قد ذكر في بعض كتبه أمثال هذه العبارات منها: كتاب مسلك الحنفا، و حسن المحاضرة، فقد قال في مسلك الحنفا(3): إني بحمد اللّه قد اجتمع عندي الحديث و الفقه و الأصول و سائر الآلات من العربية و المعاني و البيان و غير ذلك. فأنا أعرف كيف أتكلم، و كيف أقول، و كيف استدل، و كيف أرجح، أم أنت يا أخي وفقني اللّه و إياك فلا يصلح لك ذلك لأنك لا تدري الفقه و لا الأصول و لا شيء من الآلات و الكلام في الحديث و الاستدلال به، و ليس بالهين و لا يحل الإقدام على التكلّم فيه لمن لم يجمع هذه العلوم، فاقتصر على ما آتاك اللّه، و هو أنك إذا سئلت عن حديث تقول: ورد أو لم يرد، و صححه الحفاظ أو حسّنوه أو ضعفوه، لا يحل لك الإفتاء سوى هذا القدر و خل ما عدا ذلك لأهله:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
و من المسائل الأخرى التي نوزع فيها غير الاجتهاد دعواه تجديده الدين في المائة التاسعةد.
ص: 32
و رسائله و هي: «القول بنجاة أبوي المصطفى»(1)، و سؤال الميت سبع مرات في قبره، و تحريم البروز بالبناء في شطوط الأنهار، و حنث من حلف على ما مضى ناسيا، و أن الظهر هي الصلاة الوسطى، و تعزير من روى الحديث الموضوع، و إمكان رؤية النبي و الملك يقظة، و ضبط عبارة عياض في ختم الشفا: بخصيصي بالقصر(2)، و تفضيل سيدنا أبي بكر و أنه ثابت بنص الكتاب، و عدم جواز ضرب المثل بالأنبياء فيما لا يكون في العرف كريما: كرعي الغنم.
و القول الحق أن كل واحد منهما مسرف و متحامل و لا يقبل قول المتنافسين في الآخر، و الأمر كما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: العلماء أشد تغايرا من التيوس في زوربها، و قول المتنافسين لا يقبل في بعضهم كما قرره العلماء، و جرى عليه علماء الجرح و التعديل من المحدثين.
و السيوطي أوذي - كما تقدم - من علماء عصره، و خاصة من العوام، فصبر و صفح عمن آذاه، فقد ذكر شطرا من أحواله في رسالة سماها (الفئة بأجوبة الأسئلة المائة)(3) فقال: و بعد فإني رجل حبب إلي العلم و النظر فيه، دقيقه و جليله، و الغوص على حقائقه و التطلع إلى إدراك دقائقه و الفحص على أصوله، و جبلت على ذلك فليس في منبت شعرة إلاّ و هي ممحونة بذلك(4)، و قد أوذيت على ذلك كثيرا، من الجاهلين و القاصرين، و ذلك سنة اللّه في العلماء السالفين، فلم يزالوا مبتلين بأسقاط الخلق و أراذلهم، و بمن هو من طائفتهم ممن لم يرتق إلى محلهم، و مما يؤثر عنه هذان البيتان في هذا المعنى:
طوبى لمن مات فاستراحا و نال من ربه فلاحاك.
ص: 33
و ما نحن إلاّ في قوم سوء إذا هم قد بدا و لاح
و الحق: أن السيوطي صاحب فنون، و إمام في كثير منها، و هو أحفظ للمتون من السخاوي و أبصر باستنباط الأحكام الشرعية منه، و له الباع الطويل في العربية و التفسير بالمأثور، و جمع المتون، و الاطلاع على كثير من المؤلفات التي لم يطلع عليها علماء عصره، و أنه أفاد و انتفع به في الإفتاء و الأجزاء و التأليف، و قد وقع في بعض كتابة مؤلفاته الحديثية بعض التسامح و التناقض، و ذلك لازم للمكثرين من العلماء. مثل ما وقع لأبي الفرج ابن الجوزي في مؤلفاته في الحديث، و بعض مؤلفاته وصلت إلينا محرفة، لعدم العناية من نسّاخ الأصول مثل ما ذكره عنه علامات الصحة و الضعف على الجامع الصغير مما تناقض فيه تلميذه العلقمي و غيره من العلماء... و تعددت فيه النسخ، و بعض ذلك كان اجتهادا منه و المجتهد المخطئ مأجور، و قد نسبت إليه مؤلفات هو منها بريء دست عليه من حسّاده و أضافها إليه بعض الناس لترويجها، و في مؤلفاته ما هو معدوم النظير في بابه و معلوم لمن عرف أطوار السيوطي في ممارسته للعلوم و التأليف أنه كان أول أمره ملخّصا و مختصرا، ثم استقل بالتأليف المستوعب، مع الاستمداد الحتمي من كتب السابقين، و ترى ذلك أيضا في (تدريب الراوي) فإنه يلخص فيه بعض عبارات الزين العراقي و الزركشي و البلقيني، و تارة لا يعزو ذلك إلى أحد منهم لعدم أخذه بنص، و هذه تهمة متبادلة يلصقها السيوطي بالسخاوي أيضا(1).
و أما السخاوي: فهو في علم الحديث، و علم الإسناد و ما يتعلّق بالرجال و العلل إمام لا يشاركه فيها أحد، و يعتبر صاحب فن واحد، و لذا يرجح قوله في الحديث و علومه على السيوطي، و مؤلفاته في ذلك مرجع المحققين، و هو وارث شيخه ابن حجر في ذلك(2).
ولي السيوطي وظائف عديدة منها:
أ - أجيز بتدريس العربية في مستهل سنة 866 ه.
ب - ثم تعرّض للفتوى من سنة 872 ه.
ج - أجيز بالتدريس و الإفتاء من سنة 876 ه(3).
د - درّس و أملى الحديث بجامع ابن طولون سنة 1367 م.
ه - ساعده الأمير إينال الأشقر حتى قرّره في تدريس الحديث بالشيخونية سنة 1467 م
ص: 34
بعد وفاة الفخر عثمان المقسي(1).
ز - كما تولى مشيخة التصوّف بتربة برقوق نائب أهل الشام.
و بقي السيوطي متوليا تلك الوظائف كلّها حتى ناهز الأربعين من عمره، ثم انتقل عنها إلى مشيخة الخانقاه البيرسية سنة 1486 م. و من ثم انقطع السيوطي عن التدريس و الإفتاء و الإملاء و الإسماع، و ظل طويلا على مشيخة البيرسية متمتعا بوظيفتها الوافرة منذ تولاها إلى أن غضب منه السلطان قايتباي آخر سنة 1495 م بسبب طلوعه إلى حضرته، و على رأسه الطيلسان، مخالفا بذلك التقاليد المرعية، و مع أنه عوتب على مخالفته، فإنه أصرّ على صحة موقفه، و كتب في ذلك رسالة سماها (الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان).
و بقي السيوطي على وظيفته هذه حتى وفاة قايتباي، و تولّى من بعده محمد بن قايتباي الذي لم يكن على وفاق مع السيوطي بسبب الدس و الوقيعة من أعداء السيوطي، و لكن السيوطي سرعان ما لجأ إلى الخليفة المتوكل على اللّه عبد العزيز العباسي سنة 1496 م و أبدى رغبة و استحسانا في أن يولّيه الخليفة - قاضيا كبيرا على جميع القضاة بمصر و الشام و سائر الممالك الإسلامية، و أن يجعل بيده الولاية و العزل فيهم، و لعل السيوطي كان يهدف إلى شيء آخر غير ما كان يتوقعه من عزله عن مشيخة البيرسية، و هو النيل من بعض أعدائه.
و ما أن شاع بين القضاة و الناس أن الخليفة عهد إلى السيوطي بتلك الوظيفة حتى اجتمع القضاة بالخليفة و لم يتركوه حتى عدل و اعترف بأن السيوطي هو الذي اقترحها عليه(2).
و ظل السيوطي على وظيفته بالبيرسية إلى أن أثار ضده الصوفية بسبب قطعه جعيلتهم و اغتنم أعداؤه الفرصة، و منهم الأميرة طومان بأي الدوادار فحوكم السيوطي و ثبت لدى قضائه أن طمعه أفسده، و لذا عزل و اعتكف في منزله بجزيرة الروضة(3).
كانت وفاته، رحمه اللّه في سحر ليل الجمعة 19 من جمادى الأولى سنة 911 ه في منزله بروضة المقياس.
و ليس هناك اختلاف في تحديد السنة التي توفي فيها إلاّ أنه اختلف في تحديد اليوم، هل هو التاسع عشر أو التاسع من جمادى الأولى؟ و لكن غالب الأقوال تفيد أنه يوم التاسع عشر كما ذكرنا.
ص: 35
و كان قد مرض سبعة أيام بورم شديد في ذراعه الأيسر(1) و قد أتم من العمر إحدى و ستين و عشرة أشهر و ثمانية عشر يوما، و صلّى عليه بجامع الأفاريقي تحت القلعة، و كان له مشهد عظيم، و دفن في حوش قوصون خارج باب القرافة، كما صلي عليه غائبة في دمشق بالجامع الأموي يوم الجمعة 8 رجب 911 ه.
و أما المراثي التي قيلت في السيوطي بعد وفاته ما جاء عن ابن طولون في تاريخه مرثية عبد الباسط بن خليل الحنفي قوله:
مات جلال الدين غيث الورى مجتهد العصر إمام الوجود
و حافظ السند مهدي الهدى و مرشد الضال بنفع يعود
فيا عيوني انهملي بعده و يا قلوب انفطري بالرقود
و أظلمي يا دنيا إذ حقّ ذا بل تحق أن ترعد فيك الرعود
و حقّ للضوء بأن ينطفئ و حقّ للقائم فيك القعود
و حقّ للنور بأن يختفي و لليالي البيض أن تبق سود
و حقّ للناس أن يحزنوا بل حقّ أن كلّ بنفس يجود
و حقّ للأجيال خروان تطوي السما طيا كيوم الوعود
و أن يغور الماء و الأرض بنا تميد إذ عمّ المصاب الوجود
مصيبة حلّت بنا و أورثت نار استعار الكبود
صبّرنا اللّه عليها و أولاه نعيما حلّ دار الخلود
و عمه منه بوبل الرضا و الغيث بالرحمة بين اللحود(2)ي)
ص: 36
لقد قمت بتحقيق الكتاب مقارنا بين طبعاته المختلفة، و إن كانت كلّها متشابهة، فكلّهم أخذ عن طبعه واحدة، و قمت بتصحيح الكتاب بالرجوع إلى المصادر التي استقى منها السيوطي مادة كتابه.
و لقد كان العمل شاقّا نظرا لكثرة المصادر التي رجع إليها السيوطي في جمع مادة هذا الكتاب.
و لقد توفّر لي أغلب هذه الكتب بحمد اللّه تعالى، أو الكتب التي نقلت من الأصول التي رجع إليها السيوطي رحمه اللّه تعالى.
و لقد قمت بتحقيق الكتاب بالخطوات التالية:
1 - خرجت آياته الكثيرة، و لقد أدخلت اسم السورة، و رقم الآية بين معكوفتين داخل متن الكتاب ليسهل مراجعه الآية، و تقل هوامش الكتاب، و إلا فلو وضعنا ذلك في هوامش الكتاب لثقل بالهوامش، نظرا لكثرة آياته.
2 - خرجت أحاديثه و آثاره و هي كثيرة جدا، و حكمت عليها بما تقضيه الصناعة الحديثية، مقتفيا آثار أهل العلم في ذلك.
3 - عزوت أغلب الأقوال إلى مصادرها الأصلية، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
4 - علّقت على النص بما يقتضيه من توضيح، أو بيان، أو تعليق، أو شرح، أو تصحيح.
5 - وضعت مقدمة بيّنت فيها أهمية الكتاب، و المؤلفات في هذا الفن، و ترجمت للسيوطي ترجمة واسعة توضح معالم حياته الاجتماعية و العلمية.
6 - قمت بوضع فهرس دقيق لأحاديثه، و آثاره، و لمواضيع الكتاب.
هذا فما كان من صواب فبفضل اللّه علي و منّته و ما كان من خطأ فمني و من الشيطان، و استغفر اللّه منه و أتوب إليه.
و كتبه راجي عفو ربه و رضوانه أبو عبد الرحمن فوّاز أحمد زمرلي
ص: 37
لا بد لي هنا من كلمة أؤدي فيها حق اللّه عليّ في شكر من أسدى إليّ خدمة، فأعانني في إخراج الكتاب و تخريج أحاديثه الكثيرة، و بذل الجهد المشكور في ذلك، اقتداء بقول سيد الخلق - صلّى اللّه عليه و سلّم - «من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه» و أخصّ بالشكر الأخ فاروق حسن الترك على الجهد العظيم الذي بذله في خدمة هذا الكتاب.
و لا بد من شكر القائمين على الدار العامرة التي حرصت على إخراج هذا الكتاب بصورة تليق بمكانته، و مكانة مؤلفه.
أقصد دار الكتاب العربي، الذي حرص القائمون عليه على الاعتناء بالتراث الإسلامي، و إخراج هذا الكتاب بثوب قشيب، و محقّقا تحقيقا علميا رصينا.
ص: 38
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و صلّى اللّه على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلّم.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، المحقق المدقق الحجة الحافظ المجتهد شيخ الإسلام و المسلمين، وارث علوم سيد المرسلين، جلال الدين، أوحد المجتهدين، أبو الفضل عبد الرحمن بن سيدنا الشيخ المرحوم كمال الدين، عالم المسلمين أبو المناقب أبو بكر السيوطي الشافعي:
الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب، تبصرة لأولي الألباب، و أودعه من فنون العلوم و الحكم العجب العجاب، و جعله أجلّ الكتب قدرا، و أغزرها علما، و أعذبها نظما و أبلغها في الخطاب: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ و لا مخلوق، و لا شبهة فيه و لا ارتياب.
و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ربّ الأرباب، الذي عنت لقيّوميّته الوجوه، و خضعت لعظمته الرّقاب.
و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله المبعوث من أكرم الشعوب و أشرف الشّعاب، إلى خير أمّة بأفضل كتاب، صلّى اللّه و سلّم عليه و على آله و صحبه الأنجاب، صلاة و سلاما دائمين إلى يوم المآب.
و بعد، فإنّ العلم بحر زخّار، لا يدرك له من قرار. و طود شامخ لا يسلك إلى قنّته و لا يصار، من أراد السبيل إلى استقصائه لم يبلغ إلى ذلك وصولا، و من رام الوصول إلى إحصائه لم يجد إلى ذلك سبيلا، كيف و قد قال تعالى مخاطبا لخلقه: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء: 85].
و إنّ كتابنا القرآن لهو مفجر العلوم و منبعها، و دائرة شمسها و مطلعها، أودع فيه سبحانه و تعالى علم كلّ شيء، و أبان فيه كلّ هدي و غيّ، فترى كلّ ذي فن منه يستمدّ و عليه يعتمد:
فالفقيه يستنبط منه الأحكام، و يستخرج حكم الحلال و الحرام.
و النّحويّ يبني منه قواعد إعرابه، و يرجع إليه في معرفة خطأ القول من صوابه.
و البيانيّ يهتدي به إلى حسن النظام، و يعتبر مسالك البلاغة في صوغ الكلام.
ص: 39
و فيه من القصص و الأخبار ما يذكّر أولي الأبصار، و من المواعظ و الأمثال ما يزدجر به أولو الفكر و الاعتبار، إلى غير ذلك من علوم لا يقدر قدرها إلاّ من علم حصرها.
هذا مع فصاحة لفظ و بلاغة أسلوب، تبهر العقول و تسلب القلوب. و إعجاز نظم لا يقدر عليه إلاّ علاّم الغيوب.
و لقد كنت في زمان الطلب أتعجّب من المتقدّمين إذ لم يدوّنوا كتابا في أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنّسبة إلى علم الحديث، فسمعت شيخنا أستاذ الأستاذين، و إنسان عين الناظرين، خلاصة الوجود علامة الزمان، فخر العصر و عين الأوان أبا عبد اللّه محيي الدين الكافيجيّ (1) - مدّ اللّه في أجله، و أسبغ عليه ظلّه - يقول: قد دوّنت في علوم التفسير كتابا(2) لم أسبق إليه.
فكتبته عنه فإذا هو صغير الحجم جدّا، و حاصل ما فيه بابان:
الأول: في ذكر معنى التفسير و التأويل و القرآن و السّورة و الآية.
و الثاني: في شروط القول فيه بالرأي.
و بعدهما خاتمة في آداب العالم و المتعلّم.
فلم يشف لي ذلك غليلا، و لم يهدني إلى المقصود سبيلا.
ثم أوقفني شيخنا شيخ مشايخ الإسلام قاضي القضاة و خلاصة الأنام حامل لواء المذهب المطلبيّ علم الدّين البلقيني(3) - رحمه اللّه تعالى -، على كتاب في ذلك لأخيه قاضي القضاة جلال الدين(4). سمّاه «مواقع العلوم من مواقع النجوم» فرأيته تأليفا لطيفا، و مجموعا ظريفا،ر،
ص: 40
ذا ترتيب و تقرير، و تنويع و تحبير. قال في خطبته:
قد اشتهرت عن الإمام الشافعيّ - رضي اللّه عنه - مخاطبة لبعض خلفاء بني العبّاس، فيها ذكر بعض أنواع القرآن، يحصل منها لمقصدنا الاقتباس. و قد صنّف في علوم الحديث جماعة في القديم و الحديث، و تلك الأنواع في سنده دون متنه، أو في مسنديه و أهل فنّه، و أنواع القراءات شاملة و علومه كاملة. فأردت أن أذكر في هذا التصنيف ما وصل إلى علمي، ممّا حواه القرآن الشريف، من أنواع علمه المنيف، و ينحصر في أمور:
الأول: مواطن النزول و أوقاته و وقائعه، و في ذلك اثنا عشر نوعا: المكيّ، المدنيّ، السفريّ، الحضريّ، الليليّ، النهاريّ، الصيفي، الشتائي، الفراشي، و النومي، أسباب النزول، أوّل ما نزل، آخر ما نزل.
الأمر الثاني: السّند، و هو ستة أنواع: المتواتر، الآحاد، الشاذ، قراءات النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، الرّواة، الحفّاظ.
الأمر الثالث: الأداء، و هو ستة أنواع: الوقف، الابتداء، الإمالة، المدّ، تخفيف الهمزة، الإدغام.
الأمر الرابع: الألفاظ، و هو سبعة أنواع: الغريب، المعرّب، المجاز، المشترك، المترادف، الاستعارة، التشبيه.
الأمر الخامس: المعاني المتعلّقة بالأحكام، و هو أربعة عشر نوعا: العامّ الباقي على عمومه، العامّ المخصوص، العام الذي أريد به الخصوص، ما خصّ فيه الكتاب السّنة، ما خصّصت فيه السنّة الكتاب، المجمل، المبيّن، المؤول، المفهوم، المطلق، المقيّد، الناسخ و المنسوخ، نوع من الناسخ و المنسوخ، و هو ما عمل به من الأحكام مدّة معيّنة و العامل به واحد من المكلفين.
الأمر السادس: المعاني المتعلّقة بالألفاظ، و هو خمسة أنواع: الفصل، الوصل، الإيجاز، الإطناب، القصر.
و بذلك تكمّلت الأنواع خمسين. و من الأنواع ما لا يدخل تحت الحصر: الأسماء، الكنى، الألقاب، المبهمات.
فهذا نهاية ما حصر من الأنواع.1.
ص: 41
هذا آخر ما ذكره القاضي جلال الدين في الخطبة، ثم تكلّم في كلّ نوع منها بكلام مختصر يحتاج إلى تحرير و تتمّات و زوائد مهمّات. فصنّفت في ذلك كتابا سميّته: «التحبير في علوم التفسير»(1) ضمّنته ما ذكر البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، و أضفت إليه فوائد سمحت القريحة بنقلها، و قلت في خطبته:
أما بعد: فإنّ العلوم و إن كثر عددها، و انتشر في الخافقين مددها، فغايتها بحر قعره لا يدرك، و نهايتها طود شامخ لا يستطاع إلى ذروته أن يسلك، و هذا يفتح لعالم بعد آخر من الأبواب ما لم يتطرّق إليه من المتقدمين الأسباب.
و إنّ مما أهمل المتقدمون تدوينه حتى تحلّى في آخر الزمان بأحسن زينة، علم التفسير الذي هو كمصطلح الحديث، فلم يدوّنه أحد لا في القديم و لا في الحديث، حتى جاء شيخ الإسلام و عمدة الأنام، علاّمة العصر، قاضي القضاة جلال الدين البلقينيّ - رحمه اللّه تعالى -، فعمل فيه كتابه: «مواقع العلوم من مواقع النجوم». فنقّحه و هذّبه، و قسّم أنواعه و رتّبه، و لم يسبق إلى هذه المرتبة، فإنّه جعله نيّفا و خمسين نوعا منقسمة إلى ستة أقسام، و تكلّم في كلّ نوع منها بالمتين من الكلام، فكان كما قال الإمام أبو السعادات ابن الأثير في مقدّمة نهايته(2):
كلّ مبتدئ لشيء لم يسبق إليه، و مبتدع لأمر لم يتقدّم فيه عليه، فإنّه يكون قليلا ثم يكثر، و صغيرا ثم يكبر.
فظهر لي استخراج أنواع لم يسبق إليها، و زيادة مهمّات لم يستوف الكلام عليها، فجرّدت الهمّة إلى وضع كتاب في هذا العلم، و أجمع به - إن شاء اللّه تعالى - شوارده، و أضمّ إليه فوائده، و أنظم في سلكه فرائده؛ لأكون في إيجاد هذا العلم ثاني اثنين، و واحدا في جمع الشتيت منه كألف أو كألفين، و مصيّرا فنّي التفسير و الحديث في استكمال التقاسيم إلفين. و إذ برز نور كمامه و فاح، و طلع بدر كماله و لاح، و أذّن فجره بالصّباح، و نادى داعيه بالفلاح، سميته ب «التحبير في علوم التفسير». و هذه فهرست الأنواع بعد المقدّمة:1.
ص: 42
النوع الأول و الثاني/المكّي و المدنيّ.
الثالث و الرابع/: الحضريّ و السّفريّ.
الخامس و السادس/: النهاريّ و الليليّ.
السابع و الثامن/: الصّيفيّ و الشتائيّ.
التاسع و العاشر/: الفراشي و النّوميّ.
الحادي عشر/: أسباب النّزول.
الثاني عشر/: أوّل ما نزل.
الثالث عشر/: آخر ما نزل.
الرابع عشر/: ما عرف وقت نزوله.
الخامس عشر/: ما أنزل فيه و لم ينزل على أحد من الأنبياء.
السادس عشر/: ما أنزل منه على الأنبياء.
السّابع عشر/: ما تكرّر نزوله.
الثامن عشر/: ما نزل مفرّقا.
التاسع عشر/: ما نزل جمعا.
العشرون/: كيفية إنزاله.
الحادي و العشرون/: المتواتر.
الثاني و العشرون/: الآحاد.
الثالث و العشرون/: الشاذّ.
الرابع و العشرون/: قراءات النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
الخامس و السادس و العشرون/: الرواة و الحفاظ.
السابع و العشرون/: كيفيّة التّحمّل.
الثامن و العشرون/: العالي و النّازل.
التاسع و العشرون/: المسلسل.
الثلاثون/: الابتداء.
الحادي و الثلاثون/: الوقف.
الثاني و الثلاثون/: الإمالة.
الثالث و الثلاثون/: المد.
الرابع و الثلاثون/: تخفيف الهمزة.
الخامس و الثلاثون/: الإدغام.
السادس و الثلاثون/: الإخفاء.
ص: 43
السابع و الثلاثون/: الإقلاب.
الثامن و الثلاثون/: مخارج الحروف.
التاسع و الثلاثون/: الغريب.
الأربعون/: المعرّب.
الحادي و الأربعون/: المجاز.
الثاني و الأربعون/: المشترك.
الثالث و الأربعون/: المترادف.
الرابع و الخامس و الأربعون/: المحكم و المتشابه.
السادس و الأربعون/: المشكل.
السابع و الثامن و الأربعون/: المجمل و المبيّن.
التاسع و الأربعون/: الاستعارة.
الخمسون/: التشبيه.
الحادي و الثاني و الخمسون/: الكناية و التعريض.
الثالث و الخمسون/: العام الباقي على عمومه.
الرابع و الخمسون/: العامّ المخصوص.
الخامس و الخمسون/: العامّ الذي أريد به الخصوص.
السادس و الخمسون/: ما خصّ فيه الكتاب السنّة.
السابع و الخمسون/: ما خصت فيه السّنة الكتاب.
الثامن و الخمسون/: المؤوّل.
التاسع و الخمسون/: المفهوم.
الستون و الحادي و الستون/: المطلق و المقيّد.
الثاني و الثالث و الستون/: الناسخ و المنسوخ.
الرابع و الستون/: ما عمل به واحد ثم نسخ.
الخامس و الستون/: ما كان واجبا على واحد.
السادس و السابع و الثامن و الستون/: الإيجاز و الإطناب و المساواة.
التاسع و الستون/: الأشباه.
السبعون و الحادي و السبعون/: الفصل و الوصل.
الثاني و السبعون/: القصر.
الثالث و السبعون/: الاحتباك.
الرابع و السبعون/: القول بالموجب.
ص: 44
الخامس و السادس و السابع و السبعون/: المطابقة و المناسبة و المجانسة.
الثامن و التاسع و السبعون/: التورية و الاستخدام.
الثمانون/: اللّف و النّشر.
الحادي و الثمانون/: الالتفات.
الثاني و الثمانون/: الفواصل و الغايات.
الثالث و الرابع و الخامس و الثمانون/: أفضل القرآن و فاضله و مفضوله.
السادس و الثمانون/: مفردات القرآن.
السابع و الثمانون/: الأمثال.
الثامن و التاسع و الثمانون/: آداب القارئ و المقرئ.
التسعون/: آداب المفسر.
الحادي و التسعون/: من يقبل تفسيره و من يردّ.
الثاني و التسعون/: غرائب التفسير.
الثالث و التسعون/: معرفة المفسرين.
الرابع و التسعون/: كتابة القرآن.
الخامس و التسعون/: تسمية السور.
السادس و التسعون/: ترتيب الآي و السّور.
السابع و الثامن و التاسع و التسعون/: الأسماء و الكنى و الألقاب.
المائة/: المبهمات.
الأول بعد المائة/: أسماء من نزل فيهم القرآن.
الثاني بعد المائة/: التاريخ.
و هذا آخر ما ذكرته في خطبة «التحبير». و قد تمّ هذا الكتاب و للّه الحمد من سنة اثنتين و سبعين، و كتبه من هو في طبقة أشياخي من أولي التحقيق.
ثم خطر لي بعد ذلك أن أؤلّف كتابا مبسوطا، و مجموعا مضبوطا، أسلك فيه طريق الإحصاء، و أمشي فيه على منهاج الاستقصاء. هذا كلّه و أنا أظن أني متفرّد بذلك، غير مسبوق بالخوض في هذه المسالك، فبينا أنا أجيل في ذلك فكرا، أقدّم رجلا و أؤخّر أخرى، إذ بلغني أنّ الشيخ الإمام بدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي(1)، أحد متأخّري أصحابنا الشافعيين،يط
ص: 45
ألّف كتابا في ذلك حافلا، يسمى «البرهان في علوم القرآن»، فتطلّبته حتى وقفت عليه، فوجدته، قال في خطبته(1).
لمّا كانت علوم القرآن لا تحصى، و معانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر الممكن.
و مما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع النّاس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث؛ فاستخرت اللّه تعالى - و له الحمد - في وضع كتاب في ذلك، جامع لما تكلم الناس في فنونه، و خاضوا في نكته و عيونه، و ضمّنته من المعاني الأنيقة و الحكم الرشيقة ما بهر القلوب عجبا، ليكون مفتاحا لأبوابه، عنوانا على كتابه، معينا للمفسر على حقائقه، مطلعا على بعض أسراره و دقائقه، و سمّيته: «البرهان في علوم القرآن» و هذه فهرست أنواعه:
النوع الأوّل/: معرفة سبب النزول.
الثاني/: معرفة المناسبة بين الآيات.
الثالث/: معرفة الفواصل.
الرابع/: معرفة الوجوه و النظائر.
الخامس/: علم المتشابه.
السادس: علم المبهمات.
السابع/: في أسرار الفواتح.
الثامن/: في خواتم السور.
التاسع/: في معرفة المكيّ و المدني.
العاشر/: في معرفة أوّل ما نزل.
الحادي عشر/: معرفة على كم لغة نزل.
الثاني عشر/: في كيفية إنزاله.
الثالث عشر/: في بيان جمعه و من حفظه من الصحابة.
الرابع عشر/: معرفة تقسيمه.
الخامس عشر/: معرفة أسمائه.
السادس عشر/: معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز.
السابع عشر: معرفة ما فيه من غير لغة العرب.
الثامن عشر: معرفة غريبه.2.
ص: 46
التاسع عشر/: معرفة التصريف.
العشرون/: معرفة الأحكام.
الحادي و العشرون/: معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن و أفصح.
الثاني و العشرون/: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص.
الثالث و العشرون/: معرفة توجيه القرآن.
الرابع و العشرون/: معرفة الوقف.
الخامس و العشرون/: علم مرسوم الخط.
السادس و العشرون/: معرفة فضائله.
السابع و العشرون/: معرفة خواصه.
الثامن و العشرون/: هل في القرآن شيء أفضل من شيء؟.
التاسع و العشرون/: في آداب تلاوته.
الثلاثون/: في أنه هل يجوز في التصانيف و الرسائل و الخطب استعمال بعض آيات القرآن؟ الحادي و الثلاثون/: معرفة الأمثال الكامنة فيه.
الثاني و الثلاثون/: معرفة أحكامه.
الثالث و الثلاثون/: معرفة جدله.
الرابع و الثلاثون/: معرفة ناسخه و منسوخه.
الخامس و الثلاثون/: معرفة موهم المختلف.
السادس و الثلاثون/: معرفة المحكم من المتشابه.
السابع و الثلاثون/: في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات.
الثامن و الثلاثون/: معرفة إعجازه.
التاسع و الثلاثون/: معرفة وجوب متواتره.
الأربعون/: في بيان معاضدة السنّة الكتاب.
الحادي و الأربعون/: معرفة تفسيره.
الثاني و الأربعون/: معرفة وجوه المخاطبات.
الثالث و الأربعون/: بيان حقيقته و مجازه.
الرابع و الأربعون/: في الكنايات و التعريض.
الخامس و الأربعون/: في أقسام معنى الكلام.
السادس و الأربعون/: في ذكر ما تيسر من أساليب القرآن.
السابع و الأربعون/: في معرفة الأدوات.
ص: 47
و اعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلاّ و لو أراد الإنسان استقصاءه لاستفرغ عمره ثم لم يحكم أمره، و لكن اقتصرنا من كلّ نوع على أصوله، و الرّمز إلى بعض فصوله؛ فإنّ الصناعة طويلة و العمر قصير، و ما ذا عسى أن يبلغ لسان التقصير.
هذا آخر كلام الزركشي في خطبته.
و لما وقفت على هذا الكتاب ازددت به سرورا، و حمدت اللّه كثيرا، و قوي العزم على إبراز ما أضمرته، و شددت الحزم في إنشاء التّصنيف الّذي قصدته، فوضعت هذا الكتاب العليّ الشأن، الجليّ البرهان، الكثير الفوائد و الإتقان، و رتبت انواعه ترتيبا أنسب من ترتيب البرهان، و أدمجت بعض الأنواع في بعض، و فصّلت ما حقّه أن يبان، و زدته على ما فيه من الفوائد و الفرائد، و القواعد و الشوارد، ما يشنّف الآذان، و سميته: «الإتقان في علوم القرآن». و سترى في كلّ نوع منه - إن شاء اللّه تعالى - ما يصلح أن يكون بالتصنيف مفردا، و ستروى من مناهله العذبة ريّا لا ظمأ بعده أبدا. و قد جعلته مقدّمة للتفسير الكبير الذي شرعت فيه. و سميته ب «مجمع البحرين، و مطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية، و تقرير الدراية.
و من اللّه أستمدّ التوفيق و الهداية، و المعونة و الرعاية، إنّه قريب مجيب، و ما توفيقي إلاّ باللّه، عليه توكلت و إليه أنيب. و هذه فهرست أنواعه:
النوع الأول/: معرفة المكيّ و المدنيّ.
الثاني/: معرفة الحضريّ و السفريّ.
الثالث/: النهاريّ و اللّيليّ.
الرابع/: الصيفيّ و الشّتائيّ.
الخامس/: الفراشيّ و النوميّ.
السادس: الأرضيّ و السمائي.
السابع/: أوّل ما نزل.
الثامن/: آخر ما نزل.
التاسع/: أسباب النزول.
العاشر/: ما نزل على لسان بعض الصحابة.
الحادي عشر/: ما تكرر نزوله.
الثاني عشر/: ما تأخّر حكمه عن نزوله و ما تأخر نزوله عن حكمه.
الثالث عشر/: معرفة ما نزل مفرّقا و ما نزل جمعا.
الرابع عشر/: ما نزل مشيّعا و ما نزل مفردا.
الخامس عشر/: ما أنزل منه على بعض الأنبياء و ما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
ص: 48
السادس عشر/: في كيفية إنزاله.
السابع عشر/: في معرفة أسمائه و أسماء سوره.
الثامن عشر/: في جمعه و ترتيبه.
التاسع عشر: في عدد سوره و آياته و كلماته و حروفه.
العشرون/: في حفّاظه و رواته.
الحادي و العشرون/: في العالي و النازل.
الثاني و العشرون/: معرفة المتواتر.
الثالث و العشرون/: في المشهور.
الرابع و العشرون/: في الآحاد.
الخامس و العشرون/: في الشاذّ.
السادس و العشرون/: الموضوع.
السابع و العشرون/: المدرج.
الثامن و العشرون/: في معرفة الوقف و الابتداء.
التاسع و العشرون/: في بيان الموصول لفظا المفصول معنى.
الثلاثون/: في الإمالة و الفتح و ما بينهما.
الحادي و الثلاثون/: في الإدغام و الإظهار و الإخفاء و الإقلاب.
الثاني و الثلاثون/: في المدّ و القصر.
الثالث و الثلاثون/: في تخفيف الهمزة.
الرابع و الثلاثون/: في كيفية تحمّله.
الخامس و الثلاثون/: في آداب تلاوته.
السادس و الثلاثون/: في معرفة غريبه.
السابع و الثلاثون/: فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز.
الثامن و الثلاثون/: فيما وقع فيه بغير لغة العرب.
التاسع و الثلاثون/: في معرفة الوجوه و النظائر.
الأربعون/: في معرفة معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر.
الحادي و الأربعون/: في معرفة إعرابه.
الثاني و الأربعون/: في قواعد مهمّة يحتاج المفسر إلى معرفتها.
الثالث و الأربعون/: في المحكم و المتشابه.
الرابع و الأربعون/: في مقدّمه و مؤخّره.
الخامس و الأربعون/: في خاصّه و عامّه.
ص: 49
السادس و الأربعون/: في مجمله و مبيّنه.
السابع و الأربعون/: في ناسخه و منسوخه.
الثامن و الأربعون/: في مشكله و موهم الاختلاف و التناقض.
التاسع و الأربعون/: في مطلقه و مقيّده.
الخمسون/: في منطوقه و مفهومه.
الحادي و الخمسون/: في وجوه مخاطباته.
الثاني و الخمسون/: في حقيقته و مجازه.
الثالث و الخمسون/: في تشبيهه و استعارته.
الرابع و الخمسون/: في كناياته و تعريضه.
الخامس و الخمسون/: في الحصر و الاختصاص.
السادس و الخمسون/: في الإيجاز و الإطناب.
السابع و الخمسون/: في الخبر و الإنشاء.
الثامن و الخمسون/: في بدائع القرآن.
التاسع و الخمسون/: في فواصل الآي.
الستون/: في فواتح السور.
الحادي و الستون/: في خواتم السور.
الثاني و الستون/: في مناسبة الآيات و السور.
الثالث و الستون/: في الآيات المشتبهات.
الرابع و الستون/: في إعجاز القرآن.
الخامس و الستون/: في العلوم المستنبطة من القرآن.
السادس و الستون/: في أمثاله.
السابع و الستون/: في أقسامه.
الثامن و الستون/: في جدله.
التاسع و الستون/: في الأسماء و الكنى و الألقاب.
السبعون/: في مبهماته.
الحادي و السبعون/: في أسماء من نزل فيهم القرآن.
الثاني و السبعون/: في فضائل القرآن.
الثالث و السبعون/: في أفضل القرآن و فاضله.
الرابع و السبعون/: في مفردات القرآن.
الخامس و السبعون/: في خواصّه.
ص: 50
السادس و السبعون/: في رسوم الخطّ و آداب كتابته.
السابع و السبعون/: في معرفة تأويله و تفسيره و بيان شرفه و الحاجة إليه.
الثامن و السبعون/: في شروط المفسّر و آدابه.
التاسع و السبعون/: في غرائب التفسير.
الثمانون/: في طبقات المفسرين.
فهذه ثمانون نوعا على سبيل الإدماج، و لو نوّعت باعتبار ما أدمجته في ضمنها لزادت على الثلاثمائة، و غالب هذه الأنواع فيها تصانيف مفردة، وقفت على كثير منها.
و من المصنفات في مثل هذا النمط، و ليس في الحقيقة مثله و لا قريبا منه، و إنما هي طائفة يسيرة و نبذة قصيرة:
«فنون الأفنان في علوم القرآن» لابن الجوزيّ.
«و جمال القرّاء» للشيخ علم الدّين السخاويّ.
«و المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالقرآن العزيز» لأبي شامة.
«و البرهان في مشكلات القرآن» لأبي المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيذلة.
و كلّها بالنسبة إلى نوع من هذا الكتاب كحبّة رمل في جنب رمل عالج، و نقطة قطر في حيال بحر زاخر.
و هذه أسماء الكتب التي نظرتها على هذا الكتاب، و لخصته منها:
تفسير ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و أبي الشيخ بن حيّان، و الفريابيّ، و عبد الرزّاق، و ابن المنذر، و سعيد بن منصور - و هو جزء من سننه -، و الحاكم - و هو جزء من مستدركه -، و تفسير الحافظ عماد الدين بن كثير، و فضائل القرآن لأبي عبيد، و فضائل القرآن لابن الضّريس، و فضائل القرآن لابن أبي شيبة، المصاحف لابن أبي داود، المصاحف لابن أشتة، الردّ على من خالف مصحف عثمان لأبي بكر بن الأنباري، أخلاق حملة القرآن للآجري، التبيان في آداب حملة القرآن للنّوويّ، شرح البخاريّ لابن حجر.
جمال القرّاء للسّخاويّ، النّشر و التقريب لابن الجزريّ، الكامل للهذليّ، الإرشاد في القراءات العشر للواسطيّ، الشواذّ لابن غلبون، الوقف و الابتداء لابن الأنباري و للسجاونديّ
ص: 51
و للنحاس، و للدّاني و للعمانيّ و لابن النكزاويّ، قرّة العين في الفتح و الإمالة بين اللّفظين لابن القاصح.
مفردات القرآن للراغب، غريب القرآن لابن قتيبة و للعزيزي، الوجوه و النظائر للنيسابوريّ و لابن عبد الصمد، الواحد و الجمع في القرآن لأبي الحسن الأخفش الأوسط، الزّاهر لابن الأنباريّ، شرح التسهيل و الارتشاف لأبي حيّان، المغني لابن هشام، الجنى الدانيّ في حروف المعاني لابن أمّ قاسم، إعراب القرآن لأبي البقاء و للسمين و للسّفاقسي و لمنتخب الدين، المحتسب في توجيه الشواذّ لابن جنّي، الخصائص له، الخاطريّات له، ذو القدّ له، أمالي ابن الحاجب، المعرّب للجواليقيّ، مشكل القرآن لابن قتيبة، اللغات التي نزل بها القرآن لأبي القاسم محمد بن عبد اللّه، الغرائب و العجائب للكرمانيّ، قواعد في التفسير لابن تيميّة.
أحكام القرآن لإسماعيل القاضي، و لبكر بن العلاء، و لأبي بكر الرازي، و للكيا الهراسيّ، و لابن العربيّ، و لابن الفرس، و لابن خويز منداد. الناسخ و المنسوخ لمكي، و لابن الحصار، و للسّعيديّ، و لأبي جعفر النحاس، و لابن العربي، و لأبي داود السجستاني، و لأبي عبيد القاسم بن سلاّم، و لأبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميميّ. الإمام في أدلة الأحكام للشيخ عز الدين بن عبد السلام.
إعجاز القرآن للخطابيّ، و للرمّاني، و لابن سراقة، و للقاضي أبي بكر الباقلانيّ، و لعبد القاهر الجرجانيّ، و للإمام فخر الدين، و لابن أبي الإصبع - و اسمه البرهان - و للزّملكانيّ - و اسمه البرهان أيضا - و مختصره له - و اسمه المجيد - مجاز القرآن لابن عبد السلام، الإيجاز في المجاز لابن القيّم، نهاية التأميل في أسرار التنزيل للزّملكانيّ، التّبيان في البيان له، المنهج المفيد في أحكام التوكيد له، بدائع القرآن لابن أبي الإصبع، التحبير له، الخواطر السوانح في أسرار الفواتح له، أسرار التنزيل للشرف البارزيّ، الأقصى القريب للتنوخيّ، منهاج البلغاء لحازم، العمدة لابن رشيق، الصناعتين للعسكريّ، المصباح لبدر الدين بن مالك، التبيان للطّيبيّ، الكنايات للجرجاني، الإغريض في الفرق بين الكناية و التعريض للشيخ تقي الدين السبكيّ، الاقتناص في الفرق بين الحصر و الاختصاص له، عروس الأفراح لولده بهاء الدين، روض الأفهام في أقسام الاستفهام للشيخ شمس الدين بن الصائغ، نشر العبير في إقامة الظاهر مقام الضمير له، المقدّمة في سرّ الألفاظ المقدّمة له، إحكام الراي في أحكام الآي له،
ص: 52
مناسبات ترتيب السور لأبي جعفر بن الزّبير، فواصل الآيات للطّوفيّ، المثل السائر لابن الأثير، الفلك الدائر على المثل السائر، كنز البراعة لابن الأثير، شرح بديع قدامة للموفق عبد اللطيف.
البرهان في متشابه القرآن للكرماني، درّة التنزيل و غرّة التأويل في المتشابه لأبي عبد اللّه الرازي(1)، كشف المعاني عن متشابه المثاني للقاضي بدر الدين بن جماعة، أمثال القرآن للماورديّ، أقسام القرآن لابن القيّم، جواهر القرآن للغزاليّ، التعريف و الإعلام فيما وقع في القرآن من الأسماء و الأعلام للسّهيليّ، الذّيل عليه لابن عساكر، التّبيان في مبهمات القرآن للقاضي بدر الدين بن جماعة، أسماء من نزل فيهم القرآن لإسماعيل الضرير، ذات الرّشد في عدد الآي و شرحها للموصليّ، شرح آيات الصفات لابن اللّبّان، الدرّ النظيم في منافع القرآن العظيم لليافعيّ.
المقنع للدّانيّ، شرح الرّائية(2) للسخاويّ، شرحها لابن جبارة.
بدائع الفوائد لابن القيم، كنز الفوائد للشيخ عزّ الدين بن عبد السلام، الغرر و الدّرر للشريف المرتضى، تذكرة البدر بن الصاحب، جامع الفنون لابن شبيب الحنبليّ، النّفيس لابن الجوزيّ، البستان لأبي الليث السمرقنديّ.
الكشّاف و حاشيته للطيبيّ، تفسير الإمام فخر الدين، تفسير الأصبهاني و الحوفيّ، و أبي حيّان، و ابن عطية، و القشيريّ، و المرسي، و ابن الجوزي، و ابن عقيل، و ابن رزين، و الواحديّ، و الكواشيّ، و الماوردي، و سليم الرازيّ، و إمام الحرمين، و ابن برّجان، و ابن بزيزة، و ابن المنيّر، أمالي الرافعيّ على الفاتحة، مقدّمة تفسير ابن النقيب». اه و هذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود.
ص: 53
النوع الأول في معرفة المكّي و المدنيّ (1)
أفرده بالتصنيف جماعة، منهم مكيّ، و العزّ الدّيرينيّ (2).
و من فوائد معرفة ذلك: العلم بالمتأخّر، فيكون ناسخا أو مخصّصا، على رأي من يرى تأخير المخصّص.
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوريّ في كتاب «التنبيه على فضل علوم القرآن(3)»: من أشرف علوم القرآن علم نزوله و جهاته، و ترتيب ما نزل بمكة و المدينة، و ما نزل بمكة و حكمه مدنيّ، و ما نزل بالمدينة و حكمه مكي، و ما نزل بمكّة في أهل المدينة، و ما نزل بالمدينة في أهل مكة، و ما يشبه نزول المكيّ في المدنيّ و ما يشبه نزول المدنيّ في المكيّ، و ما نزل بالجحفة، و ما نزل ببيت المقدس، و ما نزل بالطائف. و ما نزل بالحديبية، و ما نزل ليلا و ما نزل نهارا، و ما نزل مشيّعا و ما نزل مفردا، و الآيات المدنيات في السّور المكيّة، و الآيات المكيّات في السور المدنية، و ما حمل من مكة إلى المدينة، و ما حمل من المدينة إلى مكة، و ما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، و ما نزل مجملا، و ما نزل مفسّرا، و ما اختلفوا فيه: فقال بعضهم مدني و بعضهم مكيّ. فهذه خمسة و عشرون وجها من لم يعرفها و يميّز بينها لم يحلّ له أن يتكلّم في كتاب اللّه تعالى. انتهى.
قلت: و قد أشبعت الكلام على هذه الأوجه، فمنها ما أفردته بنوع، و منها ما تكلّمت عليه في ضمن بعض الأنواع.
و قال ابن العربيّ في كتابه «الناسخ و المنسوخ»: الّذي علمناه على الجملة من القرآن أنّ
ص: 54
منه مكيّا و مدنيّا، و سفريّا و حضريّا، و ليليّا و نهاريّا و سمائيّا و أرضيّا، و ما نزل بين السماء و الأرض، و ما نزل تحت الأرض في الغار.
و قال ابن النقيب في مقدّمة تفسيره: المنزّل من القرآن على أربعة أقسام: مكّيّ، و مدنيّ، و ما بعضه مكيّ و بعضه مدنيّ، و ما ليس بمكيّ و لا مدنيّ.
اعلم أنّ للنّاس في المكيّ و المدني اصطلاحات ثلاثة(1):
أشهرها: أنّ المكيّ ما نزل قبل الهجرة، و المدنيّ ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجّة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
أخرج عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام(2)، قال: ما نزل بمكة و ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة، فهو من المكيّ، و ما نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدنيّ.
و هذا أثر لطيف، يؤخذ منه: أنّ ما نزل في سفر الهجرة مكيّ اصطلاحا.
الثاني: أنّ المكيّ ما نزل بمكة و لو بعد الهجرة، و المدنيّ ما نزل بالمدينة. و على هذا تثبت الواسطة، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكيّ و لا مدنيّ.
و قد أخرج الطّبراني في الكبير من طريق الوليد بن مسلم، عن عفير بن معدان، عن ابن عامر، عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكّة، و المدينة، و الشام»(3).
قال الوليد: يعني: بيت المقدس. و قال الشيخ عماد الدين ابن كثير: بل تفسيره بتبوك أحسن.
ص: 55
قلت: و يدخل في مكّة ضواحيها، كالمنزّل بمنىّ و عرفات و الحديبية، و في المدينة ضواحيها، كالمنزّل ببدر و أحد و سلع.
الثالث: أنّ المكيّ ما وقع خطابا لأهل مكة، و المدنيّ ما وقع خطابا لأهل المدينة، و حمل على هذا قول ابن مسعود الآتي.
قال القاضي أبو بكر في «الانتصار»(1): إنّما يرجع في معرفة المكيّ و المدنيّ إلى حفظ الصحابة و التابعين، و لم يرد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في ذلك قول، لأنه لم يؤمر به، و لم يجعل اللّه علم ذلك من فرائض الأمّة، و إن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ و المنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نصّ الرسول. انتهى.
و قد أخرج البخاريّ: عن ابن مسعود أنّه قال: و الّذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب اللّه تعالى إلاّ و أنا أعلم فيمن نزلت، و أين نزلت(2).
و قال أيّوب: سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن، فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، و أشار إلى سلع. أخرجه أبو نعيم في الحلية(3).
و قد ورد عن ابن عباس و غيره عدّ المكيّ و المدنيّ (4). و أنا أسوق ما وقع لي من ذلك، ثم أعقبه بتحرير ما اختلف فيه.
قال ابن سعد في الطبقات: أنبأنا الواقديّ، حدّثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرميّ، سمعت ابن عباس قال: سألت أبيّ بن كعب عمّا نزل من القرآن بالمدينة؟ فقال:
نزل بها سبع و عشرون سورة، و سائرها بمكة.
و قال أبو جعفر النحاس في كتابه «الناسخ و المنسوخ(5)». حدّثني يموت بن المزرّع:
حدّثنا أبو حاتم سهل بن محمد السّجستاني، أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى: حدّثنا يونس بن حبيب: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألت مجاهدا عن تلخيص أي القرآن، المدنيّ من المكيّ، فقال: سألت ابن عباس عن ذلك، فقال:2.
ص: 56
سورة الأنعام: نزلت بمكّة جملة واحدة، فهي مكيّة إلاّ ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [151-153]. إلى تمام الآيات الثلاث، و ما تقدّم من السّور مدنيات.
و نزلت بمكّة سورة الأعراف و يونس و هود و يوسف و الرّعد و إبراهيم و الحجر و النحل.
سوى ثلاث آيات من آخرها فإنّهن نزلن بين مكة و المدينة، في منصرفه من أحد. و سورة بني إسرائيل و الكهف و مريم و طه و الأنبياء و الحجّ، سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ [19-21] إلى تمام الآيات الثلاث، فإنّهنّ نزلن بالمدينة.
و سورة المؤمنون و الفرقان و سورة الشعراء، سوى خمس آيات من أخراها نزلن بالمدينة:
وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) [224] إلى آخرها.
و سورة النمل و القصص و العنكبوت و الرّوم و لقمان، سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [27-29] إلى تمام الآيات.
و سورة السجدة، سوى ثلاث آيات: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [18 - 20]. إلى تمام الآيات الثلاث.
و سورة سبأ و فاطر و يس و الصافات و ص و الزّمر، سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشيّ قاتل حمزة: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [53] إلى تمام الثلاث آيات.
و الحواميم السبع و ق و الذّاريات و الطّور و النجم و القمر و الرحمن و الواقعة و الصف و التغابن إلاّ آيات من آخرها نزلن بالمدينة.
و الملك و ن و الحاقّة و سأل و سورة نوح و الجنّ و المزّمل إلاّ آيتين: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ [20].
و المدّثر إلى آخر القرآن إلاّ إِذا زُلْزِلَتِ و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1) فإنّهنّ مدنيّات.
و نزل بالمدينة سورة الأنفال و براءة و النور و الأحزاب و سورة محمد و الفتح و الحجرات و الحديد و ما بعدها إلى التحريم.
هكذا أخرجه بطوله، و إسناده جيّد، رجاله كلّهم ثقات من علماء العربيّة المشهورين.
و قال البيهقيّ في «دلائل النبوة»(1): أنبأنا أبو عبد اللّه الحافظ، أخبرنا أبو محمد بن زياد العدل، حدّثنا محمد بن إسحاق، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدّورقيّ، حدّثنا أحمد بن نصر بنن.
ص: 57
مالك الخزاعيّ، حدّثنا عليّ بن الحسين بن واقد، عن أبيه، حدّثني يزيد النحويّ، عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل اللّه من القرآن بمكة: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ و ن، و المزمل، و المدّثر، و تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ و إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) و وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ الْفَجْرِ ، وَ الضُّحى ، و أَ لَمْ نَشْرَحْ وَ الْعَصْرِ ، وَ الْعادِياتِ ، و اَلْكَوْثَرَ ، و أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) و أَ رَأَيْتَ و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) و أصحاب اَلْفِيلِ ، و اَلْفَلَقِ ، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1) و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) و اَلنَّجْمِ ، و عَبَسَ ، و إِنّا أَنْزَلْناهُ ، وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) ، وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) ، وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ، و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) و اَلْقارِعَةُ ، و لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) و (الهمزة)، وَ الْمُرْسَلاتِ (1) ، و ق ، و لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ السَّماءِ وَ الطّارِقِ (1) ، و اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ و ص، و الجنّ، و يس، و الفرقان، و الملائكة، و طه، و الواقعة، و طسم، و طس، و طسم، و بني إسرائيل، و التاسعة، و هود، و يوسف، و أصحاب الحجر، و الأنعام، و الصّافّات، و لقمان، و سبأ، و الزّمر، و حم المؤمن، و حم الدخان، و حم السجدة، و حم عسق، و حم الزخرف، و الجاثية، و الأحقاف، و الذّاريات، و الغاشية، و أصحاب الكهف، و النّحل، و نوح، و إبراهيم و الأنبياء، و المؤمنون، و الم السجدة، و الطّور، و تبارك، و الحاقة، و سأل، و عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) و وَ النّازِعاتِ و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ، و إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) و الرّوم، و العنكبوت.
و ما نزل بالمدينة(1): وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) ، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إِذا زُلْزِلَتِ ، و الحديد، و محمّد، و الرعد، و الرحمن، و هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ، و الطلاق، و لَمْ يَكُنِ و الحشر، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ، و النور، و الحجّ، و المنافقون، و المجادلة، و الحجرات، و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ، و الصفّ، و الجمعة، و التغابن، و الفتح، و براءة.
قال البيهقيّ (2): و التاسعة، يريد بها سورة يونس. قال: و قد سقط من هذه الرواية:
الفاتحة و الأعراف، و كهيعص، فيما نزل بمكة.
قال(3): و قد أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفّار، حدّثنا محمد بن الفضل، حدّثنا إسماعيل بن عبد اللّه بن زرارة الرّقّي، حدّثنا عبد العزيز بن عبد7.
ص: 58
الرحمن القرشيّ، حدّثنا خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: إنّ أوّل ما أنزل اللّه على نبيّه من القرآن: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فذكر معنى هذا الحديث، و ذكر السّور التي سقطت من الرواية الأولى في ذكر ما نزل بمكة، و قال: و للحديث شاهد في تفسير مقاتل و غيره مع المرسل الصّحيح الذي تقدّم.
و قال ابن الضّريس في «فضائل القرآن»(1): حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن أبي جعفر الرازي، أنبأنا عمر بن هارون، حدّثنا عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كانت إذا أنزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد اللّه فيها ما شاء، و كان أوّل ما أنزل من القرآن: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، ثم ن، ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) ، ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) ، ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ، ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ، ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ، ثم وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) ، ثم وَ الْفَجْرِ ، ثم وَ الضُّحى ، ثم أَ لَمْ نَشْرَحْ ، ثم وَ الْعَصْرِ ، ثم وَ الْعادِياتِ ، ثم إِنّا أَعْطَيْناكَ ، ثم أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) ، ثم أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ ، ثم قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ثم أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1) ، ثم قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) ، ثم وَ النَّجْمِ ، ثم عَبَسَ ، ثم إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ثم وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) ، ثم وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) ، ثم وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ، ثم لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ، ثم القارعة، ثم لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) ، ثم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ، ثم و المرسلات، ثم ق، ثم لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) ، ثم وَ السَّماءِ وَ الطّارِقِ (1) ، ثم اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ ، ثم ص، ثم الأعراف، ثم قُلْ أُوحِيَ ، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم الشعراء، ثم طس، ثم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم عسق، ثم حم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثمّ الكهف، ثم النّحل، ثم إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً ، ثم سورة إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنون، ثم تنزيل السجدة، ثم الطّور، ثم تبارك الملك، ثم الحاقّة، ثم سأل، ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) ، ثم النازعات، ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) ، ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) فهذا ما أنزل اللّه بمكة.2.
ص: 59
و أما ما أنزل بالمدينة: سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، ثم إِذا زُلْزِلَتِ ، ثم الحديد، ثم القتال، ثم الرّعد، ثمّ الرحمن، ثم الإنسان، ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ، ثم النور، ثم الحج، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ الصف، ثمّ الفتح، ثمّ المائدة، ثمّ براءة(1).
و قال أبو عبيد في «فضائل القرآن»(2): حدّثنا عبد اللّه بن صالح و معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنفال، و التوبة، و الحجّ، و النور، و الأحزاب، و اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، و الفتح، و الحديد، و المجادلة، و الحشر، و الممتحنة، و الحواريّين. يريد الصفّ. و التغابن، و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ، و الفجر، و الليل، و إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ، و لَمْ يَكُنِ ، و إِذا زُلْزِلَتِ ، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ، و سائر ذلك بمكة.
و قال أبو بكر بن الأنباري: حدّثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدّثنا حجّاج بن منهال، نبأنا هشام، عن قتادة(3)، قال: نزل في المدينة من القرآن: البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و براءة، و الرّعد، و النّحل، و الحجّ، و النور، و الأحزاب، و محمد، و الفتح، و الحجرات، و الحديد، و الرحمن، و المجادلة، و الحشر، و الممتحنة، و الصف، و الجمعة، و المنافقون، و التغابن، و الطلاق، و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ إلى رأس العشر، و إِذا زُلْزِلَتِ ، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ و سائر القرآن نزل بمكة.
و قال أبو الحسن بن الحصّار في كتابه «الناسخ و المنسوخ»: المدنيّ باتفاق عشرون سورة، و المختلف فيه اثنتا عشرة سورة، و ما عدا ذلك مكيّ باتفاق. ثم نظم في ذلك أبياتا، فقال:
يا سائلي عن كتاب اللّه مجتهدا و عن ترتّب ما يتلى من السّور
و كيف جاء بها المختار من مضر صلّى الإله على المختار من مضر
و ما تقدّم منها قبل هجرته و ما تأخّر في بدو و في حضر
ليعلم النّسخ و التخصيص مجتهد يؤيد الحكم بالتاريخ و النّظر
تعارض النّقل في أمّ الكتاب و قد تؤوّلت الحجر تنبيها لمعتبر
أمّ القرآن و في أم القرى نزلت ما كان للخمس قبل الحمد من أثر2.
ص: 60
و بعد هجرة خير النّاس قد نزلت عشرون من سور القرآن في عشر
فأربع من طوال السّبع أوّلها و خامس الخمس في الأنفال ذي العبر
و توبة اللّه إن عدّت فسادسة و سورة النور و الأحزاب ذي الذكر
و سورة لنبيّ اللّه محكمة و الفتح و الحجرات الغرّ في غرر
ثم الحديد و يتلوها مجادلة و الحشر ثم امتحان اللّه للبشر
و سورة فضح اللّه النّفاق بها و سورة الجمع تذكار لمدّكر
و للطّلاق و للتّحريم حكمهما و النّصر و الفتح تنبيها على العمر
هذا الّذي اتّفقت فيه الرّواة له و قد تعارضت الأخبار في أخر
فالرّعد مختلف فيها متى نزلت و أكثر الناس قالوا الرّعد كالقمر
و مثلها سورة الرّحمن شاهدها ممّا تضمن قول الجنّ في الخبر
و سورة للحواريّين قد علمت ثمّ التّغابن و التّطفيف ذو النذر
و ليلة القدر قد خصّت بملّتنا و لم يكن بعدها الزّلزال فاعتبر
و قل هو اللّه من أوصاف خالقنا و عوذتان ترد البأس بالقدر
و ذا الذي اختلفت فيه الرّواة له و ربما استثنيت آي من السّور
و ما سوى ذاك مكّي تنزّله فلا تكن من خلاف النّاس في حصر
فليس كلّ خلاف جاء معتبرا إلاّ خلاف له حظّ من النّظر
ص: 61
فصل في تحرير السور المختلف فيها(1):
سورة الفاتحة:
الأكثرون على أنّها مكيّة، بل ورد أنّها أول ما نزل كما سيأتي في النوع الثامن، و استدلّ لذلك بقوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87]. و قد فسّرها صلّى اللّه عليه و سلّم بالفاتحة كما في الصحيح. و سورة الحجر مكّيّة باتفاق، و قد امتنّ على رسوله فيها بها، فدلّ على تقدم نزول الفاتحة عليها، إذ يبعد أن يمتنّ عليه بما لم ينزل بعد، و بأنّه لا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، و لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، ذكره ابن عطيّة و غيره.
و قد روى الواحدي(2) من طريق العلاء بن المسيّب، عن الفضيل بن عمرو، عن عليّ ابن أبي طالب، قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش.
و اشتهر عن مجاهد القول بأنّها مدنيّة. أخرجه الفريابي في تفسيره، و أبو عبيد في الفضائل بسند صحيح عنه(3).
قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد؛ لأنّ العلماء على خلاف قوله. و قد نقل ابن عطيّة القول بذلك عن الزّهريّ و عطاء و سوادة بن زياد و عبد اللّه بن عبيد بن عمير.
و ورد عن أبي هريرة. بإسناد جيّد. قال الطّبراني في الأوسط: حدّثنا عبيد بن غنّام، نبأنا أبو بكر بن أبي شيبة، نبأنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي هريرة: أنّ إبليس
ص: 62
رنّ حين أنزلت فاتحة الكتاب، و أنزلت بالمدينة(1). و يحتمل أن الجملة الأخيرة مدرجة من قول مجاهد.
و ذهب بعضهم إلى أنّها نزلت مرّتين: مرّة بمكة و مرّة بالمدينة، مبالغة في تشريفها.
و فيها قول رابع: أنّها نزلت نصفين: نصفها بمكة و نصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقنديّ (2).
زعم النحاس(3) أنها مكية، مستندا إلى أن قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ [58] نزلت بمكّة اتفاقا في شأن مفتاح الكعبة، و ذلك مستند واه؛ لأنّه لا يلزم من نزول آية أو آيات من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكيّة، خصوصا أنّ الأرجح أنّ ما نزل بعد الهجرة مدنيّ؛ و من راجع أسباب نزول آياتها عرف الردّ عليه. و مما يرد عليه أيضا ما أخرجه البخاريّ عن عائشة قالت: ما نزلت سورة البقرة و النساء إلاّ و أنا عنده(4). و دخولها عليه كان بعد الهجرة اتفاقا. و قيل: نزلت عند الهجرة.
المشهور أنّها مكيّة، و عن ابن عباس روايتان، فتقدّم في الآثار السابقة عنها أنّها مكيّة. و أخرجه ابن مردويه من طريق العوفيّ عنه، و من طريق ابن جريج، عن عطاء عنه، و من طريق خصيف، عن مجاهد، عن ابن الزبير.
و أخرج من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس: أنّها مدنيّة، و يؤيد المشهور ما أخرجه ابن أبي حاتم(5)، من طريق الضّحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث اللّه
ص: 63
محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك. أو من أنكر ذلك منهم. فقالوا: اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا، فأنزل اللّه تعالى: أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً [يونس: 2].
تقدّم من طريق مجاهد، عن ابن عباس، و عن عليّ بن أبي طلحة: أنّها مكية، و في بقية الآثار أنّها مدنيّة.
و أخرج ابن مردويه الثاني من طريق العوفي، عن ابن عباس، و من طريق ابن جريج، عن عثمان بن عطاء عن ابن عباس و من طريق مجاهد، عن ابن الزبير و أخرج أبو الشيخ مثله عن قتادة، و أخرج الأول عن سعيد بن جبير.
و قال سعيد بن منصور في سننه: حدّثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] أ هو عبد اللّه بن سلام؟ فقال:
كيف و هذه السورة مكيّة!.
و يؤيد القول بأنّها مدنيّة: ما أخرجه الطّبرانيّ (1) و غيره عن أنس: أن قوله تعالى: اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله: وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 1308]، نزل في قصة أربد بن قيس و عامر بن الطّفيل حين قدما المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و الذي يجمع به بين الاختلاف: أنّها مكيّة إلاّ آيات منها.
تقدّم من طريق مجاهد، عن ابن عبّاس: أنّها مكيّة إلاّ الآيات التي استثناها، و في الآثار الباقية: أنّها مدنية.
و أخرج ابن مردويه من طريق العوفي، عن ابن عباس. و من طريق ابن جريج و عثمان، عن عطاء، عن ابن عباس، و من طريق مجاهد، عن ابن الزبير: أنّها مدنية.
قال ابن الفرس في «أحكام القرآن»: و قيل: إنّها مكيّة إلاّ: هذانِ خَصْمانِ الآيات.
و قيل: إلاّ عشر آيات. و قيل: مدنيّة إلاّ أربع آيات: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلى
ص: 64
عَقِيمٍ [55.52]. قاله قتادة و غيره. و قيل: كلّها مدنية، قاله الضحاك و غيره، و قيل: هي مختلطة، فيها مدنيّ و مكيّ، و هو قول الجمهور، انتهى.
و يؤيّد ما نسبه إلى الجمهور: أنّه ورد في آيات كثيرة منها أنّه نزل بالمدينة، كما حررناه في أسباب النزول(1).
قال ابن الفرس: الجمهور على أنّها مكيّة، و قال الضحاك: مدنيّة.
حكى أبو سليمان الدّمشقيّ له قولا: إنها مدنيّة، قال: و ليس بالمشهور.
حكى الجعبري قولا: إنّها مدنية، خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنّها مكية.
حكى النّسفي(2) قولا غريبا: إنّها مكية.
حكي قول شاذ إنّها مكية(3).
الجمهور على أنّها مكيّة، و هو الصواب، و يدلّ له ما رواه الترمذيّ و الحاكم، عن جابر، قال: لمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أصحابه سورة الرحمن حتى فرغ.
قال: «ما لي أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا، ما قرأت عليهم من مرّة: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) إلاّ قالوا: و لا بشيء من نعمك ربّنا نكذّب، فلك الحمد»(4). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. و قصّة الجن كانت بمكة.
و أصرح منه في الدلالة ما أخرجه أحمد في مسنده. بسند جيّد.: عن أسماء بنت أبي
ص: 65
بكر، قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يصلّي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر، و المشركون يسمعون: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)(1) و في هذا دليل على تقدم نزولها على سورة الحجر.
قال ابن الفرس: الجمهور على أنّها مدنيّة، و قال قوم: إنّها مكيّة، و لا خلاف أنّ فيها قرآنا مدنيا؛ و لكن يشبه صدرها أن يكون مكيا(1).
قلت: الأمر كما قال، ففي مسند البزّار(2) و غيره، عن عمر: أنّه دخل على أخته قبل أن يسلم، فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد، فقرأها، و كان سبب إسلامه.
و أخرج الحاكم(3) و غيره، عن ابن مسعود، قال: لم يكن شيء بين إسلامه و بين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم اللّه بها إلاّ أربع سنين: وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ [الحديد: 16].
المختار أنّها مدنيّة، و نسبه ابن الفرس إلى الجمهور و رجّحه، و يدلّ له ما أخرجه الحاكم و غيره عن عبد اللّه بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه لعملناه. فأنزل اللّه سبحانه: سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا
ص: 66
تَفْعَلُونَ (2) [الصف: 1، 2]. حتى ختمها، قال عبد اللّه: فقرأها علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى ختمها(1).
الصحيح أنّها مدنيّة، لما روى البخاريّ عن أبي هريرة قال: كنّا جلوسا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فأنزل عليه سورة الجمعة: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة: 3].
قلت: من هم يا رسول اللّه؟... الحديث(1). و معلوم أنّ إسلام أبي هريرة بعد الهجرة بمدة.
و قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا [6]. خطاب لليهود، و كانوا بالمدينة. و آخر السورة نزل في انفضاضهم حال الخطبة لمّا قدمت العير، كما في الأحاديث الصحيحة(2)، فثبت أنّها مدنيّة كلّها.
قيل: مدنيّة، و قيل: مكيّة إلاّ آخرها.
فيها قول غريب: إنّها مدنيّة.
قيل مدنيّة، و قيل: مكيّة إلاّ آية واحدة: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24].
قال ابن الفرس: قيل: إنها مكيّة، لذكر الأساطير فيها. و قيل: مدنيّة، لأنّ أهل المدينة كانوا أشدّ الناس فسادا في الكيل.
و قيل: نزلت بمكّة إلاّ قصة التطفيف. و قال قوم: نزلت بين مكّة و المدينة. انتهى.
قلت: أخرج النسائيّ و غيره. بسند صحيح. عن ابن عباس، قال: لما قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة كانوا من أخبث النّاس كيلا، فأنزل اللّه: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (3) فأحسنوا الكيل(4).
ص: 67
الجمهور على أنها مكيّة، قال ابن الفرس: و قيل: إنّها مدنيّة، لذكر صلاة العيد و زكاة الفطر فيها.
قلت: و يردّه ما أخرجه البخاريّ، عن البراء بن عازب قال: أوّل من قدم علينا من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مصعب بن عمير و ابن أمّ مكتوم. فجعلا يقرءاننا القرآن، ثم جاء عمّار و بلال و سعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، فما جاء حتى قرأت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) في سور مثلها(1).
فيها قولان، حكاهما ابن الفرس. قال أبو حيان(1): و الجمهور على أنّها مكيّة.
حكى ابن الفرس فيها أيضا قولين، و قوله: بِهذَا الْبَلَدِ * يرد القول بأنّها مدنيّة.
الأشهر أنها مكيّة، و قيل: مدنيّة، لما ورد في سبب نزولها من قصة النخلة كما(2) أخرجناه في أسباب النزول(3). و قيل: فيها مكيّ و مدنيّ.
فيها قولان، و الأكثر: أنّها مكيّة. و يستدل لكونها مدنيّة بما أخرجه الترمذيّ و الحاكم، عن الحسن بن عليّ: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم رأى بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت:
إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (4) ، و نزلت إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) الحديث(5). قال المزيّ (6): و هو حديث منكر.
ص: 68
سورة لم يكن: قال ابن الفرس: الأشهر أنّها مكية.
قلت: و يدل لمقابله ما أخرجه أحمد، عن أبي حبّة البدريّ، قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها، قال جبريل: يا رسول اللّه، إنّ ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا... الحديث(1). و قد جزم ابن كثير(2) بأنّها مدنيّة، و استدلّ به.
فيها قولان، و يستدلّ لكونها مدنيّة: بما أخرجه ابن أبي حاتم، عن أبي سعيد الخدريّ قال: لمّا نزلت: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) الآية، قلت: يا رسول اللّه، إني لراء عملي؟.. الحديث(3). و أبو سعيد لم يكن إلاّ بالمدينة، و لم يبلغ إلاّ بعد أحد.
فيها قولان، و يستدل لكونها مدنية: بما أخرجه الحاكم و غيره، عن ابن عباس: قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خيلا، فلبثت شهرا لا يأتيه منها خبر، فنزلت وَ الْعادِياتِ .. الحديث(4).
الأشهر أنها مكية.
و يدلّ لكونها مدنية. و هو المختار. ما أخرجه ابن أبي حاتم(5)، عن ابن بريدة أنّها نزلت
ص: 69
في قبلتين من قبائل الأنصار تفاخروا.. الحديث.
و أخرج عن قتادة: أنّها نزلت في اليهود(1).
و أخرج البخاري عن أبيّ بن كعب، قال: كنا نرى هذا من القرآن. يعني «لو كان لابن آدم واد من ذهب». حتى نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) (1).
و أخرج التّرمذيّ عن عليّ، قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتى نزلت(2).
و عذاب القبر لم يذكر إلاّ بالمدينة، كما في الصحيح في قصة اليهوديّة(3).
سورة أ رأيت: فيها قولان، حكاهما ابن الفرس.
الصواب أنّها مدنية(4)، و رجّحه النوويّ في شرح مسلم، لما أخرجه مسلم، عن أنس قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، فرفع رأسه متبسما، فقال: «أنزلت عليّ آنفا سورة» فقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (5) حتى ختمها... الحديث(6).
فيها قولان، لحديثين في سبب نزولها متعارضين. و جمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها، ثم ظهر لي بعد ترجيح: أنها مدنيّة، كما بيّنته في أسباب النزول(7).
ص: 70
المعوّذتان: المختار أنّهما مدنيّتان، لأنّهما نزلتا في قصة سحر لبيد بن الأعصم(1)، كما أخرجه البيهقيّ في الدلائل.
قال البيهقي في الدلائل(2): في بعض السّور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة فألحقت بها. و كذا قال ابن الحصّار: و كلّ نوع من المكّي و المدنيّ منه آيات مستثناة. قال:
إلاّ أنّ من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل.
ص: 71
و قال ابن حجر في شرح البخاريّ (1): قد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية. قال: و أما عكس ذلك، و هو نزول شيء من سورة بمكة، تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة، فلم أره إلاّ نادرا.
قلت: و ها أنا أذكر ما وقفت على استثنائه من النوعين، مستوعبا ما رأيته من ذلك على الاصطلاح الأوّل دون الثاني، و أشير إلى أدلّة الاستثناء لأجل قول ابن الحصّار السابق، و لا أذكر الأدلّة بلفظها، اختصارا و إحالة على كتابنا أسباب النزول.
الفاتحة: تقدّم قول أن نصفها نزل بالمدينة، و الظّاهر أنّه النصف الثاني، و لا دليل لهذا القول.
البقرة: استثني منها آيتان: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا [109]. و لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [272].
الأنعام: قال ابن الحصّار: استثني منها تسع آيات، و لا يصحّ به نقل، خصوصا قد ورد أنّها نزلت جملة.
قلت: قد صحّ النقل عن ابن عباس باستثناء: قُلْ تَعالَوْا الآيات الثلاث [151.
153]. كما تقدم، و البواقي: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [91]. لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصّيف، و قوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً [22.21] الآيتين، نزلتا في مسيلمة. و قوله: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [20] و قوله: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: 114].
و أخرج أبو الشيخ، عن الكلبيّ قال: نزلت الأنعام كلّها بمكة إلاّ آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، و هو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام: 91].
و قال الفريابيّ: حدّثنا سفيان، عن ليث، عن بشر، قال: الأنعام مكية إلاّ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [151] و الآية التي بعدها.
ص: 72
الأعراف: أخرج أبو الشيخ بن حيّان، عن قتادة قال: الأعراف مكيّة إلاّ آية وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [163]. و قال غيره: من هنا إلى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [172] مدنيّ.
الأنفال: استثني منها: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] قال مقاتل: نزلت بمكة.
قلت: يردّه ما صحّ عن ابن عباس: أنّ هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة، كما أخرجناه في أسباب النزول(1). و استثنى بعضهم قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ الآية [64] و صحّحه ابن العربيّ و غيره.
قلت: يؤيده ما أخرجه البزار(2)، عن ابن عباس: أنها نزلت لمّا أسلم عمر.
براءة: قال ابن الفرس: مدنيّة إلاّ آيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخرها [128.
129].
قلت: غريب، كيف و قد ورد أنها آخر ما نزل!.. و استثنى بعضهم: ما كانَ لِلنَّبِيِّ [براءة: 113]. لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة و السلام لأبي طالب: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك»(3).
يونس: استثني منها: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس: 94، 95]. و قوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ [يونس: 40] قيل: نزلت في اليهود. و قيل: من أوّلها إلى رأس أربعين مكيّ و الباقي مدنيّ. حكاه ابن الفرس و السخاويّ في «جمال القرّاء».
هود: استثني منها ثلاث آيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ [14.12] أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [17]. وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114].
قلت: دليل الثالثة ما صحّ من عدة طرق: أنّها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر(4).ير
ص: 73
يوسف: استثني منها ثلاث آيات من أوّلها، حكاه أبو حيان(1)، و هو واه جدا لا يلتفت إليه.
الرعد: أخرج أبو الشيخ(2)، عن قتادة، قال: سورة الرعد مدنية إلاّ آية، قوله: وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرعد: 31].
و على القول بأنّها مكية، يستثنى قوله: اَللّهُ يَعْلَمُ إلى قوله: شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد:
1308] كما تقدم، و الآية آخرها. فقد أخرج ابن مردويه، عن جندب قال: جاء عبد اللّه بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد، قال: أنشدكم باللّه أي قوم، أ تعلمون أني الّذي أنزلت فيه: وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43]. قالوا: اللهمّ نعم(3).
إبراهيم: أخرج أبو الشيخ(4)، عن قتادة قال: سورة إبراهيم مكيّة غير آيتين مدنيتين:
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً إلى وَ بِئْسَ الْقَرارُ [إبراهيم: 29.28].
الحجر: استثنى بعضهم منها: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً [الحجر: 87].
قلت: و ينبغي استثناء قوله: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ [الحجر: 24]. لما أخرجه التّرمذي و غيره في سبب نزولها، و أنها في صفوف الصلاة(5).
النّحل: تقدّم عن ابن عباس أنّه استثني آخرها. و سيأتي في السّفريّ ما يؤيّده. و أخرج.
ص: 74
أبو الشّيخ، عن الشعبيّ، قال: نزلت النّحل كلّها بمكّة إلاّ هؤلاء الآيات: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ [126]. إلى آخرها(1).
و أخرج عن قتادة قال: سورة النحل من قوله: وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا [النحل: 41] إلى آخرها مدني، و ما قبلها إلى آخر السورة مكي، و سيأتي في أوّل ما نزل عن جابر بن زيد: أنّ النحل نزل منها بمكة أربعون، و باقيها بالمدينة. و يردّ ذلك: ما أخرجه أحمد(2)، عن عثمان بن أبي العاص في نزول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ [النحل:
90]. و سيأتي في نوع الترتيب.
الإسراء: استثني منها: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85]. لما أخرج البخاريّ عن ابن مسعود: أنّها نزلت بالمدينة في جواب سؤال اليهود عن الرّوح(3).
و استثني منها أيضا: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ (4) إلى قوله: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81.73]، و قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ (5)، و قوله(6): وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا [الإسراء: 60]. و إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: 107] لما أخرجناه في أسباب النزول.
الكهف: استثني من أوّلها إلى جُرُزاً [8.1]. و قوله: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ [28].
و إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [107] إلى آخر السورة.
مريم: استثني منها آية السجدة، و قوله: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها [71].
طه: استثني منها: وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما [130].7.
ص: 75
قلت: ينبغي أن يستثنى آية أخرى، فقد أخرج البزار و أبو يعلى، عن أبي رافع قال:
أضاف النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ضيفا، فأرسلني إلى رجل من اليهود: أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب، فقال: لا إلاّ برهن، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبرته، فقال: «أما و اللّه إنّي لأمين في السماء أمين في الأرض». فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [طه: 131].
الأنبياء: استثني منها: أَ فَلا يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الْأَرْضَ [الأنبياء: 44].
الحج: تقدم ما يستثنى منها.
المؤمنون: استثني منها: حَتّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ ، إلى قوله: مُبْلِسُونَ [77.64].
الفرقان: استثني منها(1): وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ إلى رَحِيماً [الفرقان: 70.68].
الشعراء: استثنى ابن عباس منها: وَ الشُّعَراءُ [227.224]. إلى آخرها، كما تقدم.
زاد غيره قوله: أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) [197] . حكاه ابن الفرس.
القصص: استثني منها: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله: اَلْجاهِلِينَ [55.52]، فقد أخرج الطبرانيّ (2)، عن ابن عباس: أنّها نزلت هي و آخر الحديد في أصحاب النجاشيّ الذين قدموا و شهدوا وقعة أحد، و قوله: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ الآية [85]. لما سيأتي(3).
العنكبوت: استثني من أولها إلى: وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 11] لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها(4).7.
ص: 76
قلت: و يضمّ إليه:؟؟؟؟؟ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ [العنكبوت: 60] الآية، لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها.
لقمان: استثنى منها ابن عباس: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ [لقمان: 29.27] الآيات الثلاث كما تقدم(1).
السجدة: استثنى منها ابن عباس: أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً [السجدة: 20.18]. الآيات الثلاث كما تقدم. و زاد غيره:؟؟؟؟ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ [السجدة: 16]. و يدلّ له ما أخرجه البزار عن بلال، قال: كنّا نجلس في المسجد، و ناس من الصحابة يصلّون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت(2).
سبأ: استثني منها: وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ: 6] الآية. و روى الترمذيّ عن فروة بن نسيك المراديّ، قال: أتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: يا رسول اللّه، أ لا أقاتل من أدبر من قومي... الحديث، و فيه: و أنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول اللّه، و ما سبأ؟...
الحديث(3)..
ص: 77
قال ابن الحصّار: هذا يدلّ على أنّ هذه القصة مدنيّة؛ لأنّ مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.
قال: و يحتمل أن يكون قوله: (و أنزل) حكاية عمّا تقدّم نزوله قبل هجرته.
يس: استثني منها:؟؟؟؟؟؟ إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الآية [يس: 12]. لما أخرجه التّرمذيّ و الحاكم، عن أبي سعيد، قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه الآية. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن آثاركم تكتب». فلم ينتقلوا(1).
و استثنى بعضهم وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا الآية [يس: 47] قيل: نزلت في المنافقين.
الزّمر: استثني منها(2): قُلْ يا عِبادِيَ [الزمر: 55.53] الآيات الثلاث، كما تقدم عن ابن عباس.
و أخرج الطبرانيّ (3) من وجه آخر عنه: أنّها نزلت في وحشيّ قاتل حمزة، و زاد بعضهم:
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] الآية، ذكره السخاوي في «جمال القرّاء».
و زاد غيره: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية. [الزمر: 23] و حكاه ابن الجزريّ.
غافر: استثني منها: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ؟؟؟؟ إلى قوله: يَعْلَمُونَ؟؟؟؟ [57.56]. فقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية و غيره: أنّها نزلت في اليهود لمّا ذكروا الدجال، و أوضحته في أسباب النزول(4).
شورى: استثني؟؟؟؟ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى إلى قوله: بَصِيرٌ [27.24].
قلت: بدلالة ما أخرجه الطّبراني و الحاكم في سبب نزولها، فإنّها نزلت في الأنصار.
و قوله:؟؟؟؟ بَصِيرٌ الآية [27]، نزلت في أصحاب الصّفّة(5)..
ص: 78
و استثنى بعضهم: وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ إلى قوله:؟؟؟؟ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 41.39] حكاه ابن الفرس.
الزخرف: استثني منها: و وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا الآية [الزخرف: 45]. قيل: نزلت بالمدينة، و قيل: في السماء.
الجاثية: استثني منها قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية [الجاثية: 14]. حكاه في «جمال القرّاء» عن قتادة.
الأحقاف: استثني منها: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [الأحقاف: 10]. الآية، فقد أخرج الطّبراني(1) بسند صحيح، عن عوف بن مالك الأشجعي: أنّها نزلت بالمدينة في قصّة إسلام عبد اللّه بن سلام. و له طرق أخرى، لكن أخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: أنزلت هذه الآية بمكة، إنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة، و إنما كانت خصومة خاصم بها محمّدا صلّى اللّه عليه و سلّم. و أخرج عن الشعبيّ قال: ليس بعبد اللّه بن سلام، و هذه الآية مكية.
و استثنى بعضهم: مُتْرَفِيهِمْ [الأحقاف: 15] الآيات الأربع. و قوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ [الأحقاف: 35] الآية، حكاه في «جمال القرّاء»(2).
ق: استثني منها: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ إلى؟؟؟ لُغُوبٍ [ق: 38]. فقد أخرج الحاكم و غيره أنّها نزلت في اليهود.
النجم: استثني منها:؟؟؟؟ الَّذِينَ [النجم: 32] إلى اِتَّقى و قيل: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلّى (33) [النجم: 33] الآيات التسع.
القمر: قوله: استثني منها: لَهُمْ آيَةً الآية [القمر: 45]. هو مردود لما سيأتي في النوع الثاني عشر. و قيل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ الآيتين [55.54].
الرحمن: استثني منها: يَسْئَلُهُ [29]، حكاه في «جمال القرّاء».
الواقعة: استثني منها: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) [الواقعة: 40.39].
و قوله:؟؟؟؟ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ (75)، إلى؟؟؟ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82.75]، لما أخرجه مسلم في سبب نزولها(3).4.
ص: 79
الحديد: يستثنى منها على القول بأنها مكية آخرها.
المجادلة: استثني منها: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ الآية [المجادلة: 7]، حكاه ابن الفرس و غيره.
التغابن: يستثنى منها على أنّها مكية آخرها، لما أخرجه التّرمذيّ و الحاكم في سبب نزولها(1).
التحريم: تقدّم عن قتادة: أنّ المدنيّ منها إلى رأس العشر، و الباقي مكيّ.
تبارك: أخرج جويبر في تفسيره، عن الضّحاك، عن ابن عباس، قال: أنزلت الملك في أهل مكة إلاّ ثلاث آيات.
ن: استثني منها:؟؟؟ إِنّا بَلَوْناهُمْ ، إلى يَعْلَمُونَ [33.17]. و من؟؟؟؟ فَاصْبِرْ إلى اَلصّالِحِينَ [ن: 50.48]. فإنّه مدنيّ، حكاه السخاويّ في «جمال القراء»(2).
المزّمّل: استثني منها: وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ الآيتين [المزمل: 11.10]. حكاه الأصبهاني، و قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ [المزمل: 20] إلى آخر السورة، حكاه ابن الفرس، و يردّه:
ما أخرجه الحاكم عن عائشة: أنه نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، و ذلك حين فرض قيام الليل في أوّل الإسلام، قبل فرض الصلوات الخمس(3).
الإنسان: استثني منها: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: 24].
المرسلات: استثني منها: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) [المرسلات: 48] حكاه ابن الفرس، و غيره.
المطففين: قيل: مكيّة، إلاّ ست آيات من أولها.
البلد: قيل: مدنيّة، إلاّ أربع آيات من أولها.2.
ص: 80
الليل: قيل: مكيّة، إلاّ أولها.
أ رأيت: نزل ثلاث آيات من أولها بمكة، و الباقي بالمدينة.
أخرج الحاكم في مستدركه، و البيهقي في الدلائل، و البزّار في مسنده(1): من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه، قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا * أنزل بالمدينة، و ما كان: يا أَيُّهَا النّاسُ * فبمكة.
و أخرجه أبو عبيد في «الفضائل»(2) عن علقمة مرسلا.
و أخرج عن ميمون بن مهران، قال: ما كان في القرآن يا أَيُّهَا النّاسُ * أو يا بَنِي آدَمَ * فإنّه مكيّ، و ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا * فإنّه مدنيّ.
قال ابن عطية(3) و ابن الفرس و غيرهما: هو في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا * صحيح، و أمّا يا أَيُّهَا النّاسُ * فقد يأتي في المدنيّ.
و قال ابن الحصّار: قد اعتنى المتشاغلون بالنسخ بهذا الحديث، و اعتمدوه على ضعفه، و قد اتفق النّاس على أنّ (النساء) مدنيّة، و أولها: يا أَيُّهَا النّاسُ ، و على أنّ (الحج) مكية؛ و فيها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا [الحج: 77].
و قال غيره(4): هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر، فإنّ سورة البقرة مدنيّة، و فيها:
يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: 21]. يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ [البقرة: 168].
و سورة النساء مدنية، و أولها: يا أَيُّهَا النّاسُ .
ص: 81
و قال مكي(1): هذا إنما هو في الأكثر و ليس بعامّ و في كثير من السور المكية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .
و قال غيره(2): الأقرب حمله على أنّه خطاب، المقصود به. أو جلّ المقصود به. أهل مكة أو المدينة.
و قال القاضي(3): إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلّم، و إن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف، إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم و باسمهم و جنسهم. و يؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها و الازدياد منها. نقله الإمام فخر الدين في تفسيره.
و أخرج البيهقيّ في الدلائل، من طريق يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كلّ شيء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم و القرون فإنما نزل بمكة، و ما كان من الفرائض و السنن فإنما نزل بالمدينة(4).
و قال الجعبريّ (5): لمعرفة المكي و المدني طريقان: سماعيّ و قياسيّ:
فالسماعيّ: ما وصل إلينا نزوله بأحدهما.
و القياسيّ: كلّ سورة فيها يا أَيُّهَا النّاسُ * فقط، أو: كُلاًّ * أو: أوّلها حرف تهجّ.
سوى الزّهراوين و الرعد. أو: فيها قصة آدم و إبليس. سوى البقرة. فهي مكيّة. و كلّ سورة فيها قصص الأنبياء و الأمم الخالية مكيّة، و كلّ سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنيّة. انتهى(6).
و قال مكيّ (7): كلّ سورة فيها ذكر المنافقين فمدنيّة؛ زاد غيره: سوى العنكبوت.
و في كامل الهذليّ: كلّ سورة فيها سجدة فهي مكيّة.
و قال الديرينيّ رحمه اللّه:
و ما نزلت كلاّ بيثرب فاعلمن و لم تأت في القرآن في نصفه الأعلى
و حكمة ذلك: أنّ نصفه الأخير نزل أكثره بمكّة، و أكثرها جبابرة، فتكرّرت فيه على وجه4.
ص: 82
التهديد و التعنيف لهم، و الإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول. و ما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم و ضعفهم(1)؛ ذكره العمانيّ (2).
فائدة: أخرج الطبراني(3)، عن ابن مسعود: نزل المفصّل بمكة، فمكثنا حججا نقرؤه، لا ينزل غيره.
تنبيه: قد تبين بما ذكرناه من الأوجه التي ذكرها ابن حبيب: المكيّ و المدنيّ، و ما اختلف فيه، و ترتيب نزول ذلك، و الآيات المدنيّات في السور المكيّة و الآيات المكيّات في السورة المدنية، و بقي أوجه تتعلّق بهذا النوع ذكر هو أمثلتها فنذكره.
مثال ما نزل بمكّة و حكمه مدنيّ (4): يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى [الحجرات:
13] الآية، نزل بمكة يوم الفتح، و هي مدنيّة، لأنها نزلت بعد الهجرة. و قوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] كذلك.
قلت: و كذا قوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] في آيات أخر.
و مثال ما نزل بالمدينة و حكمه مكيّ (5): سورة الممتحنة؛ فإنّها نزلت بالمدينة مخاطبة لأهل مكة.
و قوله في النحل: وَ الَّذِينَ هاجَرُوا [النحل: 41] إلى آخرها، نزل بالمدينة مخاطبا به أهل مكة.
و صدر براءة، نزل بالمدينة خطابا لمشركي أهل مكة.
و مثال ما يشبه تنزيل المدنيّ في السور المكية(6): قوله في النجم: اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ1.
ص: 83
اَلْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم: 32]. فإنّ الفواحش كلّ ذنب فيه حدّ، و الكبائر كلّ ذنب عاقبته النار، و اللّمم ما بين الحدّين من الذنوب. و لم يكن بمكة حدّ، و لا نحوه.
و مثال ما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية(1): قوله: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) و قوله في الأنفال: وَ إِذْ قالُوا اللّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية [الأنفال: 32].
و مثال ما حمل من مكة إلى المدينة(2): سورة يوسف، و الإخلاص.
قلت: و سبّح، كما تقدم في حديث البخاري.
و مثال ما حمل من المدينة إلى مكة(3): يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة:
217]. و آية الربا، و صدر براءة، و قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] الآيات.
و مثال ما حمل إلى الحبشة(4): قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ [آل عمران:
64] الآيات.
قلت: صحّ حملها إلى الرّوم.
و ينبغي أن يمثّل لما حمل إلى الحبشة بسورة مريم، فقد صحّ أنّ جعفر بن أبي طالب قرأها على النّجاشيّ؛ و أخرجه أحمد في مسنده(5).
و أمّا ما نزل بالجحفة و الطائف و بيت المقدس و الحديبية؛ فسيأتي في النوع الذي يلي هذا، و يضمّ إليه ما نزل بمنى و عرفات و عسفان و تبوك و بدر و أحد و حراء و حمراء الأسد.ح.
ص: 84
أمثلة الحضري كثيرة.
و أما السّفري: فله أمثلة تتبّعتها.
منها: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125]. نزلت بمكة عام حجة الوداع، فأخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر، قال: لمّا طاف النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال له عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: قال: «نعم» قال: أ فلا نتّخذه مصلّى؟ فنزلت(1).
و أخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطّاب: أنّه مرّ بمقام إبراهيم فقال: يا رسول اللّه، أ ليس نقوم مقام خليل ربنا؟ قال: «بلى». قال: أ فلا نتّخذه مصلّى؟ فلم يلبث إلاّ يسيرا حتى نزلت(2).
و قال ابن الحصّار: نزلت إمّا في عمرة القضاء، أو: في غزوة الفتح، أو: في حجّة الوداع(3).
و منها: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] الآية. روى ابن جرير، عن الزهريّ أنّها نزلت في عمرة الحديبية. و عن السّديّ أنّها نزلت في حجّة الوداع.
ص: 85
و منها: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلّهِ [البقرة: 196] فأخرج ابن أبي حاتم، عن صفوان بن أميّة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم متضمّخ بالزعفران، عليه جبّة، فقال: كيف تأمرني في عمرتي؟ فنزلت، فقال: «أين السائل عن العمرة؟ ألق عنك ثيابك ثم اغتسل...» الحديث(1)..
و منها: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ [البقرة: 196] الآية. نزلت بالحديبية، كما أخرجه أحمد، عن كعب بن عجرة الذي نزلت فيه، و الواحديّ عن ابن عباس(2).
و منها: آمَنَ الرَّسُولُ... [البقرة: 285] الآية. قيل: نزلت يوم فتح مكة، و لم أقف له على دليل.
و منها: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ [البقرة: 281] الآية. نزلت بمنىّ عام حجّة الوداع، فيما أخرجه البيهقيّ في الدلائل(3).
و منها: اَلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَ الرَّسُولِ [آل عمران: 172] الآية. أخرج الطّبرانيّ بسند صحيح عن ابن عباس، أنها نزلت بحمراء الأسد(4).
و منها: آية التيمم في النساء [43] أخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك: أنّها نزلت في بعض أسفار النبيّ (5).
و منها: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58]. نزلت يوم الفتح في1.
ص: 86
جوف الكعبة، كما أخرجه سنيد في تفسيره عن ابن جريج، و أخرجه ابن مردويه عن ابن عبّاس(1).
و منها: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: 102] الآية، نزلت بعسفان بين الظهر و العصر، كما أخرجه أحمد عن أبي عياش الزّرقيّ (2).
و منها: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176]. أخرج البزّار و غيره عن حذيفة أنّها نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في مسير له(3).
و منها: أوّل المائدة، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان(4) عن أسماء بنت يزيد: أنّها نزلت بمنىّ. و أخرج في الدّلائل عن أمّ عمرو، عن عمّها: أنّها نزلت في مسير له(5).
و أخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب، قال: نزلت سورة المائدة في حجّة الوداع فيما بين مكة و المدينة(6).
و منها: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]. في الصحيح عن عمر: أنّها نزلت عشيّة عرفة يوم الجمعة عام حجّة الوداع، و له طرق كثيرة(7)، لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ، أنّها نزلت يوم غدير خمّ (8).
و أخرج مثله من حديث أبي هريرة، و فيه: أنّه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع، و كلاهما لا يصح.ي.
ص: 87
و منها: آية التيمّم فيها، في الصحيح عن عائشة أنّها نزلت بالبيداء، و هم داخلون المدينة. و في لفظ: «بالبيداء أو بذات الجيش»(1).
قال ابن عبد البرّ في التمهيد: يقال: إنّه كان في غزوة بني المصطلق، و جزم به في الاستذكار، و سبقه إلى ذلك ابن سعد و ابن حبّان، و غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع.
و استبعد ذلك بعض المتأخّرين، قال: لأنّ المريسيع من ناحية مكة بين قديد و الساحل، و هذه القصّة من ناحية خيبر؛ لقول عائشة: أنّها نزلت بالبيداء أو بذات الجيش. و هما بين المدينة و خيبر، كما جزم به النّوويّ، لكن جزم ابن التين بأن البيداء هي ذو الحليفة.
و قال أبو عبيد البكريّ: البيداء هو الشّرف الذي قدّام ذي الحليفة من طريق مكة، قال:
و ذات الجيش من المدينة على بريد.
و منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ [المائدة: 11] الآية. أخرج ابن جرير، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو ببطن نخل، في الغزوة السابعة، حين أراد بنو ثعلبة و بنو محارب أن يفتكوا به، فأطلعه اللّه على ذلك.
و منها: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة: 67]. في صحيح ابن حبّان: عن أبي هريرة: أنّها نزلت في السفر(2).
و أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه، عن جابر: أنّها نزلت في ذات الرقيع بأعلى نخل في غزوة بني أنمار.
و منها: أول الأنفال، نزلت ببدر عقب الوقعة، كما أخرجه أحمد عن سعد بن أبي وقاص(3).6.
ص: 88
و منها: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال: 9] الآية. نزلت ببدر أيضا كما أخرجه التّرمذي عن عمر(1).
و منها: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ [التوبة: 34] الآية، نزلت في بعض أسفاره، كما أخرجه أحمد عن ثوبان(2).
و منها: قوله: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً [التوبة: 42] الآيات، نزلت في غزوة تبوك، كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
و منها: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ [التوبة: 56]. نزلت في غزوة تبوك، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر(3).
و منها: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا [التوبة: 113] الآية. أخرج الطّبرانيّ و ابن مردويه، عن ابن عباس: أنّها نزلت لمّا خرج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم معتمرا و هبط من ثنيّة عسفان، فزار قبر أمّه، و استأذن في الاستغفار لها(4).
و منها: خاتمة النّحل، أخرج البيهقيّ في الدلائل و البزار: عن أبي هريرة: أنّها نزلت بأحد، و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم واقف على حمزة حين استشهد(5).
و أخرج الترمذيّ و الحاكم عن أبيّ بن كعب: أنّها نزلت يوم فتح مكة(6).ن.
ص: 89
و منها: وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء: 76]. أخرج أبو الشيخ، و البيهقيّ في الدلائل من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم: أنّها نزلت في تبوك(1).
و منها: أوّل الحجّ، أخرج التّرمذي و الحاكم: عن عمران بن حصين، قال: لما نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) إلى قوله: وَ لكِنَّ عَذابَ اللّهِ شَدِيدٌ [الحج: 2.1]. نزلت عليه هذه و هو في سفر...
الحديث(2).
و عند ابن مردويه من طريق الكلبيّ: عن أبي صالح، عن ابن عباس: أنّها نزلت في مسيره في غزوة بني المصطلق(3).
و منها: هذانِ خَصْمانِ [الحج: 19] الآيات. قال القاضي جلال الدين البلقينيّ:
الظاهر أنّها نزلت يوم بدر وقت المبارزة لما فيه من الإشارة ب هذانِ (4).
و منها: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الحج: 39] الآية، أخرج الترمذيّ عن ابن عباس، قال:ر.
ص: 90
لما أخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم، ليهلكنّ، فنزلت(1).
قال ابن الحصار: استنبط بعضهم من هذا الحديث أنّها نزلت في سفر الهجرة.
منها: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45] الآية. قال ابن حبيب: نزلت بالطائف، و لم أقف له على مستند.
و منها: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [القصص: 85] نزلت بالجحفة في سفر الهجرة، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك(2).
و منها: أوّل الروم، روى الترمذيّ عن أبي سعيد، قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) إلى قوله: بِنَصْرِ اللّهِ [الروم: 5.1]. قال الترمذيّ: غلبت الروم، يعني بالفتح(3). -
ص: 91
و منها: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] الآية. قال ابن حبيب:
نزلت في بيت المقدس ليلة الإسراء(1).
و منها: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً [محمد: 13] الآية. قال السخاويّ في جمال القراء: قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا توجّه مهاجرا إلى المدينة، وقف و نظر إلى مكة و بكى، فنزلت(2).
و منها: سورة الفتح، أخرج الحاكم عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم، قالا:
نزلت سورة الفتح بين مكة و المدينة في شأن الحديبية، من أوّلها إلى آخرها(3). و في المستدرك أيضا من حديث مجمّع بن جارية: أنّ أوّلها نزل بكراع الغميم(4). -
ص: 92
و منها: يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى [الحجرات: 13] الآية. أخرج الواحديّ، عن ابن أبي مليكة: أنّها نزلت بمكة يوم الفتح، لمّا رقي بلال على ظهر الكعبة و أذّن، فقال بعض الناس: أ هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟!(1).
و منها: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: 45] الآية، قيل: نزلت يوم بدر حكاه ابن الفرس(2).
و هو مردود، لما سيأتي في النوع الثاني عشر، ثم رأيت عن ابن عباس ما يؤيده(3).
و منها: قال النّسفي: قوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) [الواقعة: 13]، و قوله: أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) [الواقعة: 81] نزلتا في سفره صلّى اللّه عليه و سلّم إلى المدينة(4). و لم أقف له على مستند.
و منها: وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) [الواقعة: 82] أخرج ابن أبي حاتم، من طريق يعقوب بن مجاهد أبي حزرة، قال: نزلت في رجل من الأنصار في غزوة تبوك، لما نزلوا الحجر، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ألاّ يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل، ثم نزل منزلا آخر و ليس معهم ماء، فشكوا ذلك، فدعا، فأرسل اللّه سحابة، فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال رجل من المنافقين: إنّما مطرنا بنوء كذا، فنزلت(5).
و منها: آية الامتحان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] الآية. أخرج ابن جرير، عن الزهري: أنّها نزلت بأسفل الحديبية(6).ه.
ص: 93
و منها: سورة اَلْمُنافِقُونَ أخرج الترمذي عن زيد بن أرقم: أنّها نزلت ليلا في غزوة تبوك(1). و أخرج سفيان أنّها في غزوة بني المصطلق. و به جزم ابن إسحاق و غيره(2).
و منها: سورة المرسلات، أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي صلّى اللّه عليه و سلّم في غار بمنىّ إذ نزلت عليه: و المرسلات... الحديث(3).
و منها: سورة المطففين أو بعضها، حكى النّسفي و غيره: أنها نزلت في سفر الهجرة قبل دخوله صلّى اللّه عليه و سلّم المدينة(4).
و منها: أول سورة اِقْرَأْ نزل بغار حراء، كما في الصحيحين(5).
و منها: سورة الكوثر. أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير: أنّها نزلت يوم الحديبية.
و فيه نظر(6). -
ص: 94
و منها: النّصر، أخرج البزار و البيهقي في الدلائل: عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ (1) على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أوسط أيام التشريق، فعرف أنّه الوداع، فأمر بناقته القصواء، فرحلت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة(1).ة.
ص: 95
أمثلة النهاري كثيرة. قال ابن حبيب: نزل أكثر القرآن نهارا؛ و أما الليل فتتبعت له أمثلة:
منها: آية تحويل القبلة، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر: بينما النّاس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قد أنزل عليه الليلة قرآن، و قد أمر أن يستقبل القبلة(1).
و روى مسلم عن أنس: أن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] الآية. فمر رجل من بني سلمة، و هم ركوع في صلاة الفجر و قد صلّوا ركعة، فنادى: ألا إنّ القبلة قد حوّلت، فمالوا كلهم نحو القبلة(2).
لكن في الصحيحين عن البراء: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم صلّى قبل بيت المقدس ستّة عشر. أو سبعة عشر. شهرا، و كان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، و أنّه أول صلاة صلاّها العصر و صلّى معه قوم، فخرج رجل ممن صلّى معه، فمر على أهل مسجد و هم راجعون، فقال: أشهد باللّه، لقد صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت(3). فهذا يقتضي أنّها نزلت نهارا بين الظهر و العصر.
قال القاضي جلال الدين: و الأرجح بمقتضى الاستدلال نزولها بالليل؛ لأنّ قضية أهل قباء كانت في الصبح، و قباء قريبة من المدينة، فيبعد أن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أخّر البيان لهم من العصر إلى الصبح.
ص: 96
و قال ابن حجر(1): الأقوى أنّ نزولها كان نهارا، و الجواب عن حديث ابن عمر: أنّ الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة و هم بنو حارثة، و وصل وقت الصبح إلى من هو خارج المدينة، و هم بنو عمرو بن عوف أهل قباء. و قوله: (قد أنزل عليه الليلة) مجاز، من إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي و الذي يليه.
قلت: و يؤيد هذا ما أخرجه النّسائي عن أبي سعيد بن المعلّى، قال: مررنا يوما و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قاعد على المنبر، فقلت: لقد حدث أمر، فجلست، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الآية:
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ حتى فرغ منها، ثم نزل فصلّى الظهر(2).
و منها: أواخر آل عمران، أخرج ابن حبّان في صحيحه، و ابن المنذر، و ابن مردويه، و ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر عن عائشة: أن بلالا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده يبكي، فقال: يا رسول اللّه، ما يبكيك؟ قال: «و ما يمنعني أن أبكي و قد أنزل عليّ هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) [آل عمران: 190] ثم قال: «ويل لمن قرأها و لم يتفكّر»(3).
و منها: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة: 67]. أخرج التّرمذي و الحاكم، عن عائشة، قالت: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس، حتى نزلت، فأخرج رأسه من القبة، فقال: «أيّها النّاس، انصرفوا فقد عصمني اللّه»(4).
و أخرج الطّبراني عن عصمة بن مالك الخطمي، قال: كنّا نحرس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بالليل حتى نزلت، فترك الحرس(5).
و منها: سورة الأنعام، أخرج الطّبراني و أبو عبيد في فضائله، عن ابن عباس، قال:ه.
ص: 97
نزلت سورة الأنعام بمكّة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح(1).
و منها: آية الثلاثة الذين خلّفوا، ففي الصحيحين من حديث كعب: فأنزل اللّه توبتنا حين بقي الثلث الأخير من الليل(2).
و منها: سورة مريم؛ روى الطّبراني عن أبي مريم الغسّاني قال، أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: ولدت لي الليلة جارية، فقال: «و الليلة أنزلت عليّ سورة مريم، سمّها مريم»(3).
و منها: أول الحج، ذكره ابن حبيب و محمد بن بركات السعيديّ في كتابه الناسخ و المنسوخ و جزم به السخاوي في «جمال القراء». و قد يستدل له بما أخرجه ابن مردويه، عن عمران بن حصين: أنّها نزلت و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في سفر، و قد نعس بعض القوم و تفرّق بعضهم، فرفع بها صوته... الحديث(4).
و منها: آية الإذن في خروج النّسوة في الأحزاب، قال القاضي جلال الدين: و الظاهر -
ص: 98
أنها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ الآية [الأحزاب: 59]. ففي البخاري عن عائشة:
خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها. و كانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها.
فرآها عمر، فقال: يا سودة، أما و اللّه ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين. قالت:
فانكفأت راجعة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و إنّه ليتعشّى و في يده عرق، فقلت: يا رسول اللّه، خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا؛ فأوحى اللّه إليه و إن العرق في يده ما وضعه، فقال: «إنّه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ»(1).
قال القاضي جلال الدين: و إنما قلنا: إنّ ذلك كان ليلا؛ لأنّهن إنما كنّ يخرجن للحاجة ليلا، كما في الصحيح عن عائشة في حديث الإفك(2).
و منها: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] على قول ابن حبيب: إنها نزلت ليلة الإسراء.
و منها: أول الفتح، ففي البخاري من حديث: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ مما طلعت عليه الشمس، فقرأ: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) ... الحديث(3).
و منها: سورة المنافقين، كما أخرجه الترمذي، عن زيد بن أرقم(4).
و منها: سورة (المرسلات)، قال السخاوي في «جمال القراء»: روي عن ابن مسعود:
أنّها نزلت ليلة [الحية] بحراء(5).
قلت: هذا أثر لا يعرف، ثم رأيت في صحيح الإسماعيلي، و هو مستخرجه على -
ص: 99
البخاري، أنّها نزلت ليلة عرفة بغار منىّ، و هو في الصحيحين بدون قوله: ليلة عرفة. و المراد بها ليلة التاسع من ذي الحجة، فإنّها التي كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يبيتها بمنىّ.
و منها: المعوّذتان، فقد قاله ابن أشتة في المصاحف: نبأنا محمد بن يعقوب، نبأنا أبو داود، نبأنا عثمان بن أبي شيبة، نبأنا جرير، عن بيان، عن قيس، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنزلت عليّ الليلة آيات لم ير مثلهن: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1) (1).
و منه: ما نزل بين الليل و النهار في وقت الصبح، و ذلك آيات.
و منها: آية التيمم في المائدة، ففي الصحيح عن عائشة: و حضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (2)[المائدة: 6].
و منها: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ [آل عمران: 128]. ففي الصحيح: أنّها نزلت و هو في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، حين أراد أن يقنت يدعو على أبي سفيان و من ذكر معه(3).
تنبيه: فإن قلت: فما تصنع بحديث جابر مرفوعا: «أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لأن اللّه خصّني بالوحي نهارا»(4)؟ أخرجه الحاكم في تاريخه.
قلت: هذا الحديث منكر لا يحتج به.4.
ص: 100
قال الواحدي: أنزل اللّه في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي التي في أول النساء، و الأخرى في الصيف و هي التي في آخرها.
و في صحيح مسلم، عن عمر: ما راجعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في شيء ما راجعته في الكلالة، و ما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، و قال: «يا عمر، أ لا تكفيك آية الصيف الّتي في آخر سورة النساء!»(1).
و في المستدرك: عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول اللّه ما الكلالة؟ قال: «أما سمعت الآية التي نزلت في الصيف: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:
176](2)».
و قد تقدم أنّ ذلك في سفر حجة الوداع، فيعد من الصيفي ما نزل فيها كأول المائدة، و قوله: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]. وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ [البقرة: 281]. و آية الدّين و سورة النصر.
و منه: الآيات النازلة في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة الحر، أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة و عبد اللّه بن أبي بكر بن حزم: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ما كان يخرج في وجه من مغازيه إلاّ أظهر أنّه يريد غيره، غير أنّه في غزوة تبوك قال: «يأيها النّاس إنّي أريد الروم» فأعلمهم، و ذلك في زمان البأس و شدة الحر و جدب
ص: 101
البلاد، فبينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم في جهازه إذ قال للجد بن قيس: «هل لك في بنات بني الأصفر؟». قال: يا رسول اللّه، لقد علم قومي أنه ليس أحد أشد عجبا بالنساء منّي، و إني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنّني، فائذن لي. فأنزل اللّه: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي [التوبة: 49] الآية(1).
و قال رجل من المنافقين: لا تنفروا في الحر، فأنزل اللّه: قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة: 81].
و من أمثلة الشتائي: قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلى قوله: وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: 26.11]. ففي الصحيح: عن عائشة: أنّها نزلت في يوم شات(2).
و الآيات التي في غزوة الخندق من سورة الأحزاب، فقد كانت في البرد، ففي حديث حذيفة: تفرّق النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة الأحزاب إلاّ اثني عشر رجلا، فأتاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «قم فانطلق إلى عسكر الأحزاب» قلت: يا رسول اللّه، و الذي بعثك بالحق ما قمت لك إلاّ حياء، من البرد... الحديث؛ و فيه فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب: 9] إلى آخرها. أخرجه البيهقي في الدلائل(3).9.
ص: 102
من أمثلة الفراشيّ قوله: وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ [المائدة: 67] كما تقدم. و آية الثلاثة الذين خلّفوا، ففي الصحيح: أنّها نزلت و قد بقي من اللّيل ثلثه، و هو صلّى اللّه عليه و سلّم عند أمّ سلمة(1).
و استشكل الجمع بين هذا و قوله صلّى اللّه عليه و سلّم في حقّ عائشة: «ما نزل عليّ الوحي في فراش امرأة غيرها»(2).
قال القاضي جلال الدين: و لعلّ هذا كان قبل القصّة الّتي نزل الوحي فيها في فراش أمّ سلمة.
قلت: ظفرت بما يؤخذ منه الجواب الذي أحسن من هذا، فروى أبو يعلى في مسنده:
عن عائشة قالت: «أعطيت تسعا...» الحديث، و فيه: «و إن كان الوحي لينزل عليه و هو في أهله فينصرفون عنه، و إن كان لينزل عليه و أنا معه في لحافه»(3). و على هذا لا معارضة بين الحديثين كما لا يخفى.
و أما النّوميّ: فمن أمثلته سورة الكوثر، لما روى مسلم، عن أنس قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ فقال: «أنزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم اللّه الرحمن الرحيم: إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) (4).
و قال الإمام الرافعيّ في أماليه: فهم فاهمون من الحديث أنّ السورة نزلت في تلك
ص: 103
الإغفاءة، و قالوا: من الوحي ما كان يأتيه في النوم؛ لأنّ رؤيا الأنبياء وحي. قال: و هذا صحيح، لكن الأشبه أن يقال: إنّ القرآن كلّه نزل في اليقظة، و كأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزّلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي وردت فيه السورة، فقرأها عليهم، و فسّرها لهم. ثم قال: و ورد في بعض الروايات أنّه أغمي عليه، و قد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، و يقال لها: برحاء الوحي. انتهى.
قلت: الذي قاله الرافعيّ في غاية الإتجاه، و هو الذي كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه، و التأويل الأخير أصحّ من الأوّل؛ لأن قوله: «أنزل عليّ آنفا» يدفع كونها نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة، و ليس الإغفاءة نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنّه كان يؤخذ عن الدنيا.
ص: 104
تقدم قول ابن العربيّ: إنّ من القرآن سمائيّا و أرضيّا، و ما نزل بين السماء و الأرض، و ما نزل تحت الأرض في الغار.
قال: و أخبرنا أبو بكر الفهريّ، قال: أنبأنا التميميّ، أنبأنا هبة اللّه المفسّر، قال: نزل القرآن بين مكة و المدينة إلاّ ست آيات، نزلت لا في الأرض و لا في السماء؛ ثلاث في سورة الصافات: وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) [166.164] الآيات الثلاث. و واحدة في الزخرف: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [45] الآية و الآيتان من آخر سورة البقرة نزلت ليلة المعراج.
قال ابن العربيّ: و لعله أراد في الفضاء بين السماء و الأرض. قال: و أمّا ما نزل تحت الأرض فسورة المرسلات، كما في الصحيح عن ابن مسعود(1).
قلت: أمّا الآيات المتقدّمة فلم أقف على مستند لما ذكره فيها، إلاّ آخر البقرة، فيمكن أن يستدلّ بما أخرجه مسلم، عن ابن مسعود: لما أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم انتهى إلى سدرة المنتهى... الحديث، و فيه: فأعطي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منها ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، و أعطي خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لا يشرك من أمته باللّه شيئا المقحمات(2).
و في الكامل للهذليّ: آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: 286.285] إلى آخرها بقاب قوسين.
ص: 105
اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال:
أحدها: و هو الصحيح: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، روى الشيخان و غيرهما: عن عائشة قالت:
أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنّث فيه الليالي ذوات العدد، و يتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة. رضي اللّه عنها.، فتزوّده لمثلها، حتى فجأه الحقّ و هو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطّني الثانية، حتى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ.
فغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ، حتى بلغ: ما لَمْ يَعْلَمْ » [العلق: 5.1] فرجع بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ترجف بوادره... الحديث(2).
و أخرج الحاكم في المستدرك، و البيهقي في الدلائل و صححاه عن عائشة، قالت: أول سورة نزلت من القرآن اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (3).
و أخرج الطّبراني في الكبير بسند على شرط الصحيح: عن أبي رجاء العطارديّ قال:
كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا، عليه ثوبان أبيضان، فإذا تلا هذه السورة: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
ص: 106
اَلَّذِي خَلَقَ (1) [العلق: 1] قال: هذه أوّل سورة أنزلت على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم(1).
و قال سعيد بن منصور في سننه: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير، قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال له: اقرأ، قال: «و ما أقرأ؟ فو الله ما أنا بقارئ».
فقال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [العلق: 1]: فكان يقول: هو أوّل ما أنزل(2).
و قال أبو عبيد في فضائله: حدّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إنّ أوّل ما أنزل من القرآن: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] و ن وَ الْقَلَمِ [القلم: 1](3).
و أخرج ابن أشتة في كتاب «المصاحف» عن عبيد بن عمير، قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بنمط. فقال: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ» قال: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] فيروون أنها أوّل سورة أنزلت من السماء(4).
و أخرج عن الزّهريّ: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان بحراء، إذ أتى ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب:
اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) إلى: ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5.1].
القول الثاني: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدثر: 1]. روى الشيخان: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: سألت جابر بن عبد اللّه: أيّ القرآن أنزل قبل؟ قال: يأيّها المدثر، قلت: أو اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ؟ قال: أحدّثكم ما حدّثنا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّي جاورت بحراء، فلمّا قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي و خلفي، و عن يميني و شمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو. يعني جبريل. فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) (5).2.
ص: 107
و أجاب الأول عن هذا الحديث بأجوبة:
أحدها: أنّ السؤال كان عن نزول سورة كاملة، فبيّن أن سورة المدثّر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ، فإنّها أوّل ما نزل منها صدرها.
و يؤيّد هذا ما في الصحيحين. أيضا. عن أبي سلمة، عن جابر: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) .
فقوله: «الملك الذي جاءني بحراء» يدلّ على أنّ هذه القصة متأخّرة عن قصة حراء التي نزل فيها: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .
ثانيها: أنّ مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، لا أولية مطلقة.
ثالثها: أنّ المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، و عبّر بعضهم عن هذا بقوله: أول ما نزل للنبوة: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] و أول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) [المدثر:
1].
رابعها: أنّ المراد أول ما نزل بسبب متقدم، و هو ما وقع من التدثّر الناشئ عن الرعب، و أما (اقرأ) فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم. ذكره ابن حجر(1).
خامسها: أنّ جابرا استخرج ذلك باجتهاده، و ليس هو من روايته، فيقدم عليه ما روته عائشة. قاله الكرماني.
و أحسن هذه الأجوبة الأول و الأخير.
القول الثالث: سورة الفاتحة، قال في الكشاف(2): ذهب ابن عباس و مجاهد إلى أنّ أول سورة نزلت (اقرأ)، و أكثر المفسرين إلى أنّ أول سورة نزلت فاتحة الكتاب.
قال ابن حجر(3): و الّذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأوّل. و أما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلاّ عدد أقلّ من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول. و حجته: ما أخرجه البيهقي في الدلائل، و الواحديّ من طريق يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال لخديجة: «إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء، فقد8.
ص: 108
و اللّه خشيت أن يكون هذا أمرا». فقالت: معاذ اللّه، ما كان اللّه ليفعل بك، فو اللّه إنك لتؤدي الأمانة، و تصل الرّحم، و تصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، و قالت: اذهب مع محمد إلى ورقة. فانطلقا فقصّا عليه فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد! فأنطلق هاربا في الأفق»، فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد قل: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) حتى بلغ وَ لاَ الضّالِّينَ ... الحديث. هذا مرسل رجاله ثقات(1).
و قال البيهقي(2): إن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه (اقرأ) و (المدثر).
القول الرابع: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) . حكاه ابن النّقيب في مقدمة تفسيره قولا زائدا.
و أخرج الواحدي بإسناده عن عكرمة و الحسن، قالا: أوّل ما نزل من القرآن بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) و أوّل سورة اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (3).
و أخرج ابن جرير و غيره من طريق الضّحّاك، عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: يا محمّد استعذ، ثم قل: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) (4).
و عندي: أنّ هذا لا يعدّ قولا برأسه؛ فإنّه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها1.
ص: 109
فهي أول آية نزلت على الإطلاق.
و ورد في أوّل ما نزل حديث آخر: روى الشيخان عن عائشة، قالت: إنّ أوّل ما نزل سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة و النّار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام(1).
و قد استشكل هذا: بأنّ أوّل ما نزل (اقرأ) و ليس فيها ذكر الجنّة و النار. و أجيب بأنّ (من) مقدّرة، أي: من أول ما نزل. و المراد سورة المدّثر، فإنّها أوّل ما نزل بعد فترة الوحي، و في آخرها ذكر الجنة و النار، فلعلّ آخرها نزل قبل نزول بقية: (اقرأ).
أخرج الواحديّ من طريق الحسين بن واقد، قال: سمعت عليّ بن الحسين، يقول: أوّل سورة نزلت بمكة اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ . و آخر سورة نزلت بها (المؤمنون). و يقال:
(العنكبوت). و أوّل سورة نزلت بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) . و آخر سورة نزلت بها بَراءَةٌ . و أوّل سورة أعلنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بمكّة (النّجم)(1).
و في شرح البخاري لابن حجر(2): اتّفقوا على أنّ سورة البقرة أوّل سورة أنزلت بالمدينة. و في دعوى الاتفاق نظر، لقول عليّ بن الحسين المذكور.
و في تفسير النّسفيّ عن الواقديّ: إنّ أوّل سورة نزلت بالمدينة سورة (القدر).
و قال أبو بكر محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه المشهور: حدّثنا أبو العباس عبيد اللّه بن محمد بن أعين البغدادي، حدّثنا حسان بن إبراهيم الكرماني، حدّثنا أميّة الأزدي، عن جابر بن زيد، قال:
اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم ن وَ الْقَلَمِ ثم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (3) ثم يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) ثم الفاتحة، ثم تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ (1) ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ثم وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) ثم وَ الْفَجْرِ (1) ثم وَ الضُّحى (1) ثم أَ لَمْ نَشْرَحْ ثم وَ الْعَصْرِ (1) ثم الكوثر، ثم أَلْهاكُمُ ثم أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ ثم الكافرون، ثم أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، ثم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ ، ثم قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) ثم وَ النَّجْمِ ثم عَبَسَ ثم
ص: 110
إِنّا أَنْزَلْناهُ ثم وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها ، ثم البروج، ثم وَ التِّينِ ثم لِإِيلافِ ثم اَلْقارِعَةُ (1) ثم القيامة، ثم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ثم وَ الْمُرْسَلاتِ ثم ق ثم البلد، ثم الطارق، ثم اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ ثم ص ثم الأعراف، ثم الجن، ثم يس (1) ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص (1) ثم طه (1) ثم الواقعة، ثم الشعراء، ثم طس سليمان، ثم طسم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم التاسعة. يعني يونس.
ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم الصّافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزّمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم الزخرف، ثم حم الدخان، ثم حم الجاثية، ثم حم الأحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم حم عسق، ثم تنزيل السجدة، ثم الأنبياء، ثم النحل أربعين و بقيتها بالمدينة، ثم إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً ثم الطور، ثم المؤمنون، ثم تبارك، ثم الحاقة، ثم سأل، ثم عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) ثم وَ النّازِعاتِ ثم إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) ثم إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) . فذاك ما أنزل بمكة.
سورة البقرة، ثم آل عمران، ثم الأنفال، ثم الأحزاب، ثم المائدة، ثم الممتحنة، ثم إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ثم الحجّ، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم التّحريم، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم سبّح الحواريّين، ثم الفتح، ثم التوبة، و خاتمة القرآن(1).
قلت: هذا سياق غريب، و في هذا الترتيب نظر، و جابر بن زيد من علماء التابعين بالقرآن، و قد اعتمد البرهان الجعبريّ على هذا الأثر في قصيدته التي سمّاها: «تقريب المأمول في ترتيب النزول»، فقال:
مكّيّها ستّ ثمانون اعتلت نظمت على وفق النّزول لمن تلا
اقرأ و نون مزّمّل مدّثر و الحمد تبّت كوّرت الأعلى علا
ليل و فجر و الضّحى شرح و عص ر العاديات و كوثر الهاكم تلا
أ رأيت قل بالفيل مع فلق كذا ناس و قل هو نجمها عبس جلا
قدر و شمس و البروج و تينها لإيلاف قارعة قيامة أقبلا
ويل لكلّ المرسلات وقاف مع بلد و طارقها مع اقتربت كلا
صاد و أعراف و جنّ ثم يا سين و فرقان و فاطر اعتلى
كاف و طه ثلّة الشّعراء و نم ل قصّ الإسرا يونس هود و لا
قل يوسف حجر و أنعام و ذب ح ثم لقمان سبأ زمر خلا
مع غافر مع فصّلت مع زخرف و دخان جاثية و أحقاف تلا
ص: 111
ذرو و غاشية و كهف ثم شو رى و الخليل و الأنبياء نحل حلا
و مضاجع نوح و طور و الفلا ح الملك واعية و سال و عمّ لا
غرق مع انفطرت و كدح ثم رو م العنكبوت و طفّفت فتكمّلا
و بطيبة عشرون ثم ثمان الطّو لى و عمران و أنفال جلا
لأحزاب مائدة امتحان و النّسا مع زلزلت ثم الحديد تأمّلا
و محمّد و الرّعد و الرّحمن الإنس ان الطّلاق و لم يكن حشر ملا
نصر و نور ثم حجّ و المنا ف ق مع مجادلة و حجرات و لا
تحريمها مع جمعة و تغابن صفّ و فتح توبة ختمت أولى
أمّا الذي قد جاءنا سفريّه عرفيّ أكملت لكم قد كمّلا
لكن إذا قمتم فجيشيّ بدا و اسأل من أرسلنا الشآمي اقبلا
إنّ الّذي فرض انتمى جحفيّها و هو الّذي كفّ الحديبيّ انجلى
روى الحاكم في المستدرك: عن ابن عباس قال: أوّل آية نزلت في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (1)[الحج: 39].
و أخرج ابن جرير(2)، عن أبي العالية، قال: أول آية نزلت في القتال بالمدينة: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190].
و في الإكليل للحاكم(3): إنّ أوّل ما نزل في القتال: إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ [التوبة: 111].
آية الإسراء: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً... [33] أخرجه ابن جرير(4) عن الضحاك.
روى الطيالسيّ في مسنده عن ابن عمر، قال: نزل في الخمر ثلاث آيات: فأوّل شيء: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ [البقرة: 219]. فقيل: حرّمت
ص: 112
الخمر، فقالوا: يا رسول اللّه، دعنا ننتفع بها كما قال اللّه؛ فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية:
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول اللّه، لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ [المائدة: 90]. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «حرّمت الخمر»(1).
آية الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [145]، ثم آية النحل: فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً [114] إلى آخرها. و بالمدينة:
آية البقرة: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ الآية [173]. ثم آية المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية [3]. قاله ابن الحصّار.
و روى البخاريّ: عن ابن مسعود قال: أوّل سورة أنزلت فيها سجدة النجم(2).
و قال الفريابيّ: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ [التوبة: 25] قال: هي أوّل ما أنزل اللّه من سورة براءة.
و قال أيضا: حدّثنا إسرائيل، نبأنا سعيد، عن مسروق، عن أبي الضّحى قال: أوّل ما نزل من براءة: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً [التوبة: 41] ثم نزل أوّلها، ثم نزل آخرها.
و أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف، عن أبي مالك قال: كان أوّل براءة: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً سنوات، ثم أنزلت بَراءَةٌ أوّل السورة فألفت بها أربعون آية.
و أخرج أيضا من طريق داود، عن عامر في قوله: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً قال: هي أوّل آية نزلت في براءة في غزوة تبوك، فلمّا رجع من تبوك نزلت براءة، إلاّ ثمان و ثلاثين آية من أوّلها.
و أخرج من طريق سفيان و غيره، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد ابن جبير قال:
أوّل ما نزل من آل عمران: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) [138]. ثم أنزلت بقيتها يوم أحد.
ص: 113
فيه اختلاف، فروى الشيخان: عن البراء بن عازب قال: آخر آية، نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176]. و آخر سورة نزلت براءة(1).
و أخرج البخاريّ عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الرّبا(2).
و روى البيهقيّ عن عمر مثله، و المراد بها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278].
و عند أحمد و ابن ماجة، عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا(3).
و عند ابن مردويه: عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر فقال: إن من آخر القرآن نزولا آية الربا.
و أخرج النسائي من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن:
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ [البقرة: 281] الآية(4).
و أخرج ابن مردويه نحوه، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس بلفظ: آخر آية نزلت(5).
ص: 114
و أخرجه ابن جرير من طريق العوفيّ و الضحّاك، عن ابن عباس.
و قال الفريابيّ في تفسيره: حدّثنا سفيان، عن الكلبيّ، عن ابن صالح، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ الآية، و كان بين نزولها و بين موت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أحد و ثمانون يوما(1).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كلّه: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ، و عاش النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول(2).
و أخرج ابن جرير مثله عن ابن جريج(3).
و أخرج من طريق عطية، عن أبي سعيد قال: كان آخر آية: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ الآية(4).
و أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا و آية الدّين(5).
و أخرج ابن جريج من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب: أنّه بلغه أنّ أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدّين. مرسل صحيح الإسناد.
قلت: و لا منافاة عندي بين هذه الرّوايات في آية الربا: وَ اتَّقُوا يَوْماً و آية الدّين؛ لأنّ الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، و لأنها في قصة واحدة. فأخبر كلّ عن بعض ما نزل بأنه آخر، و ذلك صحيح، و قول البراء: آخر ما نزل: يَسْتَفْتُونَكَ . أي في شأن الفرائض.
و قال ابن حجر في شرح البخاريّ (6): طريق الجمع بين القولين في آية الربا: وَ اتَّقُوا يَوْماً أنّ هذه الآية هي ختام الآيات المنزّلة في الربا، إذ هي معطوفة عليهنّ، و يجمع بين8.
ص: 115
ذلك و بين قول البراء بأنّ الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلاّ منهما آخر بالنسبة لما عداهما.
و يحتمل أن تكون الآخرية في آية النّساء مقيدة بما يتعلّق بالمواريث بخلاف آية البقرة. و يحتمل عكسه، و الأوّل أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاء المستلزمة لخاتمة النزول.
انتهى.
و في المستدرك: عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 129.128]. إلى آخر السورة(1).
و روى عبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند و ابن مردويه، عن أبيّ: أنّهم جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر، و كان رجال يكتبون، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [127]. ظنّوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال لهم أبيّ بن كعب: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أقرأني بعدها آيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله: وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، و قال: هذا آخر ما نزل من القرآن، قال. فختم بما فتح به، باللّه الذي لا إله إلاّ هو، و هو قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء: 25](2).
و أخرج ابن مردويه، عن أبيّ أيضا، قال: آخر القرآن عهدا باللّه هاتان الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ و أخرجه ابن الأنباري بلفظ: أقرب القرآن بالسماء عهدا.
و أخرج أبو الشيخ في تفسيره من طريق عليّ بن زيد، عن يوسف المكيّ، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (3).ب.
ص: 116
و أخرج مسلم عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الْفَتْحُ (1) (1).
و أخرج التّرمذيّ و الحاكم: عن عائشة قالت: آخر سورة نزلت المائدة، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه... الحديث(2).
و أخرجا أيضا، عن عبد اللّه بن عمرو قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة و الفتح.
قلت: يعني: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ (3).
و في حديث عثمان المشهور: براءة من آخر القرآن نزولا.
قال البيهقي(4): يجمع بين هذه الاختلافات. إن صحت. بأنّ كلّ واحد أجاب بما عنده.
و قال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و كلّ قاله بضرب من الاجتهاد و غلبة الظنّ، و يحتمل أن كلاّ منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في اليوم الذي مات فيه أو قبل مرضه بقليل، و غيره سمع منه بعد ذلك، و إن لم يسمعه هو. و يحتمل أيضا أن تنزل هذه الآية. التي هي آخر آية تلاها الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم. مع آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيظنّ أنه آخر ما نزل في الترتيب.
انتهى.
و من غريب ما ورد في ذلك: ما أخرجه ابن جرير(5) عن معاوية بن أبي سفيان أنّه تلا هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 110] الآية، و قال: آخر آية نزلت من القرآن.
قال ابن كثير(6): هذا أثر مشكل، و لعله أراد أنّه لم ينزل بعدها آية تنسخها، و لا تغيّر حكمها، بل هي مثبتة محكمة.1.
ص: 117
قلت: و مثله ما أخرجه البخاريّ و غيره عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء: 93] هي آخر ما نزل، و ما نسخها شيء.
و عند أحمد و النّسائيّ عنه: لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء(1).
و أخرج ابن مردويه، من طريق مجاهد، عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ [آل عمران: 195]. إلى آخرها.
قلت: و ذلك أنها قالت: يا رسول اللّه، أرى اللّه يذكر الرجال و لا يذكر النساء؟ فنزلت:
وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 32]. و نزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35]، و نزلت هذه الآية، فهي آخر الثلاثة نزولا، أو آخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصّة(2).
و أخرج ابن جرير: عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «من فارق الدّنيا على الإخلاص للّه وحده و عبادته لا شريك له، و أقام الصلاة، و آتى الزكاة، فارقها و اللّه عنه راض».
قال أنس: و تصديق ذلك في كتاب اللّه في آخر ما نزل: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ... الآية [التوبة: 5](3).
قلت: يعني في آخر سورة نزلت.ة.
ص: 118
و في البرهان لإمام الحرمين: إنّ قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية [الأنعام: 145]. من آخر ما نزل.
و تعقّبه ابن الحصّار بأن السورة مكية باتّفاق، و لم يرد نقل بتأخّر هذه الآية عن نزول السورة، بل هي في محاجّة المشركين و مخاصمتهم و هم بمكّة. انتهى(1).
من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]، فإنّها نزلت بعرفة عام حجّة الوداع(2)، و ظاهرها إكمال جميع الفرائض و الأحكام قبلها، و قد صرّح بذلك جماعة منهم السّدّي(3) فقال: لم ينزل بعدها حلال و لا حرام، مع أنه وارد في آية الربا و الدّين و الكلالة أنّها نزلت بعد ذلك.
و قد استشكل ذلك ابن جرير(4) و قال: الأولى أن يتأوّل على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام و إجلاء المشركين عنه، حتى حجّه المسلمون لا يخالطهم المشركون.
ثم أيّده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان المشركون و المسلمون يحجّون جميعا، فلما نزلت براءة نفي المشركون عن البيت، و حجّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين؛ فكان ذلك من تمام النعمة. وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (5).
ص: 119
النوع التاسع معرفة سبب النزول(1)
أفرده بالتّصنيف جماعة أقدمهم علي ابن المدينيّ شيخ البخاريّ، و من أشهرها كتاب الواحديّ على ما فيه من إعواز، و قد اختصره الجعبري، فحذف أسانيده، و لم يزد عليه شيئا.
و ألّف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر كتابا مات عنه مسوّدة، فلم نقف عليه كاملا(2).
و قد ألّفت فيه كتابا حافلا موجزا محرّرا لم يؤلّف مثله في هذا النّوع، سميته: «لباب النّقول في أسباب النزول»(3).
قال الجعبري: نزول القرآن على قسمين: قسم نزل ابتداء، و قسم نزل عقب واقعة أو سؤال، و في هذا النوع مسائل:
المسألة الأولى(4): فوائد معرفة أسباب النزول
زعم زاعم أنّه لا طائل تحت هذا الفن، لجريانه مجرى التاريخ. و أخطأ في ذلك، بل له فوائد:
منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
و منها: تخصيص الحكم به عند من يرى أنّ العبرة بخصوص السبب.
و منها: أنّ اللفظ قد يكون عامّا، و يقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ و إخراجها بالاجتهاد ممنوع، كما حكى الإجماع عليه القاضي أبو بكر في التقريب، و لا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك.
ص: 120
و منها: الوقوف على المعنى و إزالة الإشكال: قال الواحديّ (1): لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها و بيان نزولها.
و قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قويّ في فهم معاني القرآن.
و قال ابن تيميّة(2): معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإنّ العلم بالسبب يورث العلم بالمسبّب.
و قد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية [آل عمران: 188]. و قال: لئن كان كلّ امرئ فرح بما أوتي، و أحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذّبا، لنعذّبنّ أجمعون، حتى بيّن له ابن عباس: أنّ الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن شيء، فكتموه إيّاه، و أخبروه بغيره، و أروه أنّهم أخبروه بما سألهم عنه، و استحمدوا بذلك إليه. أخرجه الشيخان(3).
و حكي عن عثمان بن مظعون و عمرو بن معدي كرب: أنّهما كانا يقولان: الخمر مباحة، و يحتجان بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا الآية [المائدة: 93]. و لو علما سبب نزولها لم يقولا ذلك، و هو: أنّ ناسا قالوا لمّا حرّمت الخمر: كيف بمن قتلوا في سبيل اللّه و ماتوا و كانوا يشربون الخمر و هي رجس؟ فنزلت.
أخرجه أحمد و النسائي و غيرهما(4).
و من ذلك: قوله تعالى: وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق: 4] فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة، حتى قال الظاهرية: بأن الآيسة لا عدّة عليها إذا لم ترتب. و قد بين ذلك سبب النزول، و هو أنّه لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عدد النساء، قالوا: قد بقي عدد من عدد النساء لم يذكرن: الصغار و الكبار، فنزلت. أخرجه الحاكم عن أبيّ (5). فعلم بذلك أنّ الآية خطاب لمن لم يعلم ما2.
ص: 121
حكمهنّ في العدّة، و ارتاب: هل عليهنّ عدّة أو لا؟ و هل عدّتهنّ كاللاتي في سورة البقرة أو لا؟ فمعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ إن أشكل عليكم حكمهن و جهلتم كيف يعتددن؛ فهذا حكمهنّ.
و من ذلك: قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [البقرة: 115]. فإنّا لو تركنا و مدلول اللفظ لاقتضى أن المصلّي لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا و لا حضرا، و هو خلاف الإجماع، فلما عرف سبب نزولها علم أنها في نافلة السفر، أو فيمن صلّى بالاجتهاد و بان له الخطأ؛ على اختلاف الروايات في ذلك.
و من ذلك: قوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ [البقرة: 158]، فإنّ ظاهر لفظها لا يقتضي أنّ السّعي فرض. و قد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيّته تمسّكا بذلك، و قد ردّت عائشة على عروة في فهمه ذلك بسبب نزولها، و هو أنّ الصحابة تأثّموا من السّعي بينهما لأنّه من عمل الجاهليّة، فنزلت(1).
و منها: دفع توهّم الحضر: قال الشافعيّ ما معناه في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية [الأنعام: 145]: إنّ الكفّار لما حرّموا ما أحلّ اللّه و أحلّوا ما حرّم اللّه، و كانوا على المضادّة و المحادّة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنّه قال: لا حلال إلاّ ما حرّمتموه، و لا حرام إلاّ ما أحللتموه، نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلاّ الحلاوة، و الغرض المضادّة لا النفي و الإثبات على الحقيقة، فكأنه تعالى قال:
لا حرام إلاّ ما أحللتموه، من الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به، و لم يقصد حلّ ما وراءه؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحلّ.
قال إمام الحرمين: و هذا في غاية الحسن، و لو لا سبق الشافعيّ إلى ذلك لما كنّا نستجيز مخالفة مالك في حصر المحرّمات فيما ذكرته الآية(2).
و منها: معرفة اسم النازل فيه الآية و تعيين المبهم فيها، و لقد قال مروان في عبد الرحمن بن أبي بكر: إنّه الذي أنزل فيه: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: 17] حتى ردّت1.
ص: 122
عليه عائشة و بيّنت له سبب نزولها(1).
و الأصحّ عندنا: الأوّل، و قد نزلت آيات في أسباب، و اتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها، كنزول آية الظّهار في سلمة بن صخر، و آية اللّعان في شأن هلال بن أميّة، و حدّ القذف في رماة عائشة، ثم تعدّى إلى غيرهم.
و من لم يعتبر عموم اللفظ قال: خرجت هذه الآيات و نحوها لدليل آخر، كما قصرت آيات على أسبابها اتفاقا لدليل قام على ذلك.
قال الزمخشريّ (2) في سورة الهمزة: يجوز أن يكون السّبب خاصا و الوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح؛ و ليكون ذلك جاريا مجرى التعريض.
قلت: و من الأدلّة على اعتبار عموم اللفظ: احتجاج الصحابة و غيرهم في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة، شائعا ذائعا بينهم.
قال ابن جرير(3): حدّثني محمد بن أبي معشر، أخبرنا أبي أبو معشر نجيح، سمعت سعيدا المقبريّ يذاكر محمد بن كعب القرظيّ، فقال سعيد: إنّ في بعض كتب اللّه: إنّ لله عبادا ألسنتهم أحلى من العسل، و قلوبهم أمرّ من الصّبر، لبسوا لباس مسوك الضأن من الليّن، يجترّون الدنيا بالدين. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب اللّه: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية [البقرة: 204]. فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت؟ فقال محمد بن كعب: إنّ الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد.
فإن قلت: فهذا ابن عباس، لم يعتبر عموم: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الآية. [آل عمران: 188]. بل قصرها على ما أنزلت عليه من قصّة أهل الكتاب.
ص: 123
قلت: أجيب عن ذلك بأنه لا يخفى عليه أنّ اللفظ أعمّ من السبب، لكنه بيّن أنّ المراد باللفظ خاصّ، و نظيره: تفسير النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الظّلم في قوله تعالى: وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] بالشرك من قوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] مع فهم الصحابة العموم في كلّ ظلم.
و قد ورد عن ابن عباس ما يدلّ على اعتبار العموم، فإنّه قال به في آية السرقة، مع أنها نزلت في امرأة سرقت. قال ابن أبي حاتم: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمد بن أبي حمّاد، حدّثنا أبو ثميلة بن عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي، قال: سألت ابن عباس عن قوله:
وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38]. أ خاصّ أم عام؟ قال: بل عامّ.
و قال ابن تيميّة(1): قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيّما إن كان المذكور شخصا، كقولهم: إنّ آية الظّهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس. و إن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد اللّه، و إن قوله: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 49] نزلت في بني قريظة و النّضير، و نظائر ذلك مما يذكرون أنّه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من اليهود و النصارى، أو في قوم من المؤمنين. فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أنّ حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم و لا عاقل على الإطلاق، و الناس و إن تنازعوا في اللّفظ العامّ الوارد على سبب: هل يختصّ بسببه؟ فلم يقل أحد: إن عمومات الكتاب و السنة تختص بالشخص المعيّن، و إنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعمّ ما يشبهه، و لا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، و الآية التي لها سبب معيّن: إن كانت أمرا و نهيا فهي متناولة لذلك الشخص و لغيره ممن كان بمنزلته، و إن كانت خبرا بمدح أو ذمّ، فهي متناولة لذلك الشخص و لمن كان بمنزلته. انتهى.
تنبيه: قد علمت مما ذكر: أن فرض المسألة في لفظ له عموم، أمّا آية نزلت في معيّن و لا عموم للفظها، فإنّها تقصر عليه قطعا، كقوله تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) اَلَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى (18) [الليل: 18.17] فإنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق بالإجماع؛ و قد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] على أنه أفضل النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
و وهم من ظنّ أنّ الآية عامّة في كلّ من عمل عمله، إجراء له على القاعدة؛ و هذا غلط؛ فإنّ هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ الألف و اللاّم إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد، بشرط ألاّ يكون هناك عهد. و اللاّم في1.
ص: 124
اَلْأَتْقَى ليست موصولة، لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا، و اَلْأَتْقَى ليس جمعا، بل هو مفرد، و العهد موجود، خصوصا مع ما يفيده صيغة (أفعل) من التمييز و قطع المشاركة، فبطل القول بالعموم، و تعيّن القطع بالخصوص و القصر على من نزلت فيه رضي اللّه عنه.
المسألة الثالثة: شبيه السبب الخاص مع اللفظ العام(1)
تقدّم أنّ صورة السبب قطعية الدخول في العامّ، و قد تنزل الآيات على الأسباب الخاصة و توضع مع ما يناسبها من الآي العامّة، رعاية لنظم القرآن و حسن السّياق، فيكون ذلك الخاصّ قريبا من صورة السبب في كونه قطعيّ الدخول في العامّ، كما اختار السبكي أنّه رتبة متوسطة دون السبب و فوق المجرّد، مثاله قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطّاغُوتِ [النساء: 51]. إلى آخره، فإنها إشارة إلى كعب بن الأشرف و نحوه من علماء اليهود، لمّا قدموا مكة و شاهدوا قتلى بدر، حرّضوا المشركين على الأخذ بثأرهم و محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فسألوهم: من أهدى سبيلا؟ محمد و أصحابه أم نحن؟ فقالوا: أنتم مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم المنطبق عليه، و أخذ المواثيق عليهم ألاّ يكتموه، فكان ذلك أمانة لازمة لهم، و لم يؤدّوها حيث قالوا للكفار: أنتم أهدى سبيلا، حسدا للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(2).
فقد تضمّنت هذه الآية. مع هذا القول. التوعّد عليه المفيد للأمر بمقابله، المشتمل على أداء الأمانة التي هي بيان صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، بإفادة أنّه الموصوف في كتابهم، و ذلك مناسب لقوله: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58]. فهذا عامّ في كلّ أمانة، و ذلك خاص بأمانة، هي صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالطريق السابق، و العامّ تال للخاصّ في الرسم، متراخ عنه في النزول، و المناسبة تقتضي دخول ما دلّ عليه الخاصّ في العام، و لذا قال ابن العربيّ في تفسيره: وجه النظم أنّه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قولهم: إنّ المشركين أهدى سبيلا؛ فكان ذلك خيانة منهم، فانجرّ الكلام إلى ذكر جميع الأمانات.
انتهى.
قال بعضهم: و لا يرد تأخّر نزول آية الأمانات التي قبلها بنحو ستّ سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة؛ لأنّ المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها؛
ص: 125
و الآيات كانت تنزل على أسبابها، و يأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بوضعها في المواضع التي علم من اللّه أنّها مواضعها.
المسألة الرابعة: طريق معرفة سبب النزول(1)
قال الواحدي(2): لا يحلّ القول في أسباب نزول الكتاب إلاّ بالرواية و السماع ممّن شاهدوا التنزيل، و وقفوا على الأسباب، و بحثوا عن عملها. و قد قال محمد بن سيرين(3):
سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: اتّق اللّه و قل سدادا، ذهب الذين يعلمون فيم أنزل اللّه القرآن.
و قال غيره: معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتفّ بالقضايا، و ربما لم يجزم بعضهم، فقال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، كما أخرج الأئمة الستة عن عبد اللّه بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك». فقال الأنصاريّ: يا رسول اللّه، أن كان ابن عمتك! فتلوّن وجهه...
الحديث. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلاّ نزلت في ذلك: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ (4)[النساء: 65].
قال الحاكم في علوم الحديث(5): إذا أخبر الصحابيّ الذي شهد الوحي و التنزيل عن آية من القرآن: أنّها نزلت في كذا، فإنّه حديث مسند. و مشى على هذا ابن الصلاح و غيره(6)، و مثّلوه بما أخرجه مسلم عن جابر، قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (7)[البقرة: 223].
ص: 126
و قال ابن تيميّة(1): قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، و يراد به أنّ ذلك داخل في الآية و إن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا. و قد تنازع العلماء في قول الصحابيّ: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسند، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، و غيره لا يدخله فيه، و أكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد و غيره، بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه، فإنّهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند. انتهى.
و قال الزركشيّ في البرهان(2): قد عرف من عادة الصحابة و التابعين أنّ أحدهم إذا قال:
نزلت هذه الآية في كذا، فإنّه يريد بذلك أنّها تتضمن هذا الحكم، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع.
قلت: و الّذي يتحرّر في سبب النزول أنّه: ما نزلت الآية أيّام وقوعه، ليخرج ما ذكره الواحديّ في سورة الفيل من أن سببها قصّة قدوم الحبشة به(3)، فإنّ ذلك ليس من أسباب النزول في شيء، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية، كذكر قصة قوم نوح و عاد و ثمود و بناء البيت، و نحو ذلك. و كذلك ذكره في قوله: وَ اتَّخَذَ اللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [النساء:
125] سبب اتخاذه خليلا ليس ذلك من أسباب نزول القرآن، كما لا يخفى.
تنبيه: ما تقدم أنّه من قبيل المسند من الصحابيّ: إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا، لكنه مرسل، فقد يقبل إذا صح السّند إليه، و كان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة، كمجاهد و عكرمة و سعيد بن جبير، أو اعتضد بمرسل آخر و نحو ذلك(4).
كثيرا ما يذكر المفسرون لنزول الآية أسبابا متعدّدة، و طريق الاعتماد في ذلك أن ينظر إلى العبارة الواقعة:
فإن عبّر أحدهم بقوله: نزلت في كذا، و الآخر: نزلت في كذا، و ذكر أمرا آخر، فقد
ص: 127
تقدم أنّ هذا يراد به التفسير لا ذكر سبب النزول، فلا منافاة بين قوليهما إذا كان اللفظ يتناولهما، كما سيأتي تحقيقه في النوع الثامن و السبعين.
و إن عبّر واحد بقوله: نزلت في كذا، و صرح الآخر بذكر سبب خلافه فهو المعتمد، و ذاك استنباط. و مثاله ما أخرجه البخاريّ، عن ابن عمر، قال: أنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] في إتيان النساء في أدبارهنّ (1). و تقدّم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه، فالمعتمد حديث جابر(2)؛ لأنه نقل، و قول ابن عمر استنباط منه، و قد وهّمه فيه ابن عباس، و ذكر مثل حديث جابر، كما أخرجه أبو داود و الحاكم(3).
و إن ذكر واحد سببا و آخر سببا غيره، فإن كان إسناد أحدهما صحيحا دون الآخر فالصحيح المعتمد، مثاله ما أخرجه الشيخان و غيرهما عن جندب: اشتكى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك، فأنزل اللّه:
وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) (4) [الضحى: 3.1].
و أخرج الطّبراني و ابن أبي شيبة، عن حفص بن ميسرة، عن أمه، عن أمها. و كانت خادم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. أنّ جروا دخل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فدخل تحت السرير فمات، فمكث النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: «يا خولة، ما حدث في بيت رسول اللّه؟ جبريل لا يأتيني» فقلت في نفسي: لو هيّأت البيت و كنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ترعد لحيته. و كان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرّعدة. فأنزل اللّه:4.
ص: 128
وَ الضُّحى (1) إلى قوله: فَتَرْضى (1).
و قال ابن حجر في شرح البخاري(2): قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، و في إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما في الصحيح.
و من أمثلته. أيضا. ما أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم، من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لمّا هاجر إلى المدينة، أمره اللّه أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبله بضعة عشر شهرا. و كان يحبّ قبلة إبراهيم. فكان يدعو اللّه و ينظر إلى السماء، فأنزل اللّه: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150]. فارتاب من ذلك اليهود، و قالوا ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها! فأنزل اللّه: قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ [البقرة:
115] و قال: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ (3)[البقرة: 115].
و أخرج الحاكم و غيره، عن ابن عمر، قال: نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ أن تصلّي حيثما توجهت بك راحلتك في التطوع(4).
و أخرج الترمذيّ. و ضعّفه. من حديث عامر بن ربيعة، قال: كنّا في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة؟ فصلى كلّ رجل منّا على حياله، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فنزلت(5)..
ص: 129
و أخرج الدّارقطنيّ نحوه من حديث جابر، بسند ضعيف أيضا(1).
و أخرج ابن جرير: عن مجاهد، قال: لما نزلت: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] قالوا: إلى أين؟ فنزلت. مرسل.
و أخرج عن قتادة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ أخا لكم قد مات فصلّوا عليه». فقالوا: إنه كان لا يصلّي إلى القبلة، فنزلت. معضل غريب جدّا.
فهذه خمسة أسباب مختلفة، و أضعفها الأخير لإعضاله، ثم ما قبله لإرساله، ثم ما قبله لضعف رواته، و الثاني صحيح، لكنه قال: قد أنزلت في كذا، و لم يصرح بالسبب، و الأوّل صحيح الإسناد، و صرح فيه بذكر السبب، فهو المعتمد.
و من أمثلته. أيضا: ما أخرجه ابن مردويه و ابن أبي حاتم، من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة. أو سعيد.، عن ابن عباس قال: خرج أميّة بن خلف و أبو جهل بن هشام و رجال من قريش، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقالوا: يا محمد، تعال فتمسّح بآلهتنا، و ندخل معك في دينك. و كان يحب إسلام قومه. فرقّ لهم، فأنزل اللّه: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآيات [الإسراء: 77.73].
و أخرج ابن مردويه، من طريق العوفيّ، عن ابن عباس: أنّ ثقيفا قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يهدى لها أحرزناه، ثم أسلمنا. فهمّ أن يؤجّلهم، فنزلت.
هذا يقتضي نزولها بالمدينة. و إسناده ضعيف، و الأوّل يقتضي نزولها بمكة و إسناده حسن، و له شاهد عند أبي الشيخ عن سعيد بن جبير، يرتقي إلى درجة الصحيح، فهو المعتمد.
الحال الرابع: أن يستوي الإسنادان في الصحّة، فيرجّح أحدهما بكون راويه حاضر القصة، أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات. مثاله ما أخرجه البخاريّ، عن ابن مسعود، قال:9.
ص: 130
كنت أمشي مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بالمدينة، و هو يتوكأ على عسيب، فمرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه! فقالوا: حدّثنا عن الرّوح، فقام ساعة و رفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً (1)[الإسراء: 85].
و أخرج الترمذيّ. و صححه عن ابن عباس. قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الرّوح، فسألوه، فأنزل اللّه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً الآية(2).
فهذا يقتضي أنها نزلت بمكة. و الأوّل خلافه، و قد رجّح بأنّ ما رواه البخاريّ أصح من غيره، و بأنّ ابن مسعود كان حاضر القصة.
الحال الخامس: أن يمكن نزولها عقيب السببين و الأسباب المذكورة، بألاّ تكون معلومة التباعد، كما في الآيات السابقة، فيحمل على ذلك. و مثاله: ما أخرجه البخاريّ من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ هلال بن أميّة قذف امرأته عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بشريك بن سحماء، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك». فقال: يا رسول اللّه، إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا؛ ينطلق يلتمس البينة! فأنزل عليه: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ... حتى بلغ: إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ [النور: 9.6](3).
و أخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عديّ فقال: اسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أ رأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، فقتله، أ يقتل به، أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: فعاب السائل، فأخبر عاصم عويمرا، فقال: و اللّه لآتينّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فلأسألنّه، فأتاه، فقال: «إنّه قد أنزل فيك و في صاحبتك قرآن..» الحديث(4).7.
ص: 131
جمع بينهما بأنّ أوّل ما وقع له ذلك هلال، و صادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما معا. و إلى هذا جنح النووي(1)، و سبقه الخطيب، فقال: لعلّهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد.
و أخرج البزار: عن حذيفة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لأبي بكر: «لو رأيت مع أمّ رومان رجلا ما كنت فاعلا به؟» قال: شرّا، قال: «فأنت يا عمر؟» قال: كنت أقول: لعن اللّه الأعجز، فإنّه لخبيث. فنزلت(2).
قال ابن حجر(3): لا مانع من تعدّد الأسباب.
الحال السادس: ألاّ يمكن ذلك: فيحمل على تعدّد النزول و تكرّره. مثاله: ما أخرجه الشيخان، عن المسيّب، قال: لمّا حضر أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و عنده أبو جهل و عبد اللّه بن أبي أميّة، فقال: «أي عمّ، قل: لا إله إلاّ اللّه، أحاجّ لك بها عند اللّه».
فقال أبو جهل و عبد اللّه: يا أبا طالب، أ ترغب عن ملّة عبد المطلب.
فلم يزالا يكلّمانه حتى قال: هو على ملّة عبد المطلب، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه»، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ (4) الآية [التوبة: 113].
و أخرج الترمذيّ. و حسّنه.، عن عليّ، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه و هما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك و هما مشركان! فقال: استغفر إبراهيم لأبيه و هو مشرك، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت(5).ن.
ص: 132
و أخرج الحاكم و غيره، عن ابن مسعود، قال: خرج النبي صلّى اللّه عليه و سلّم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا، ثم بكى، فقال: «إنّ القبر الذي جلست عنده قبر أمّي، و إنّي استأذنت ربّي في الدعاء لها فلم يأذن لي، فأنزل عليّ: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ (1). فنجمع بين هذه الأحاديث بتعدّد النزول.
و من أمثلته أيضا: ما أخرجه البيهقي، و البزار، عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم وقف على حمزة حين استشهد، و قد مثّل به، فقال: «لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك». فنزل جبريل و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم واقف بخواتيم سورة النحل: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] إلى آخر السورة(2).
و أخرج التّرمذيّ، و الحاكم، عن أبيّ بن كعب، قال: لمّا كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة و ستون، و من المهاجرين ستّة، منهم حمزة، فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم. فلمّا كان يوم فتح مكة أنزل اللّه: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ الآية(3).ن.
ص: 133
فظاهره تأخير نزولها إلى الفتح، و في الحديث الذي قبله نزولها بأحد.
قال ابن الحصّار: و يجمع بأنها نزلت أوّلا بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنّها مكية، ثم ثانيا بأحد، ثم ثالثا يوم الفتح، تذكيرا من اللّه لعباده. و جعل ابن كثير من هذا القسم آية الروح.
تنبيه: قد يكون في إحدى القصتين (فتلا) فيهم الراوي، فيقول: (فنزل).
مثاله: ما أخرجه الترمذي. و صححه. عن ابن عباس قال: مرّ يهوديّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال:
كيف تقول يا أبا القاسم، إذا وضع اللّه السموات على ذه، و الأرضين على ذه، و الماء على ذه، و الجبال على ذه، و سائر الخلق على ذه؟ فأنزل اللّه: وَ ما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية [الأنعام: 91](1). و الحديث في الصحيح(2) بلفظ: فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم... و هو الصواب؛ فإنّ الآية مكيّة.
و من أمثلته أيضا: ما أخرجه البخاريّ، عن أنس قال: سمع عبد اللّه بن سلام بمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلاّ نبيّ: ما أوّل أشراط الساعة؟ و ما أول طعام أهل الجنة؟ و ما ينزل الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بهنّ جبريل آنفا» قال: جبريل؟ قال: «نعم». قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة. فقرأ هذه الآية: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ (3)[البقرة: 97].
قال ابن حجر في شرح البخاريّ (4): ظاهر السياق أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ الآية ردا على قول اليهود، و لا يستلزم ذلك نزولها حينئذ. قال: و هذا هو المعتمد، فقد صحّ في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام.
تنبيه: عكس ما تقدم: أن يذكر سبب واحد في نزول الآيات المتفرقة، و لا إشكال في8.
ص: 134
ذلك، فقد ينزل في الواقعة الواحدة آيات عديدة في سور شتى.
مثاله: ما أخرجه التّرمذيّ و الحاكم: عن أمّ سلمة، أنّها قالت: يا رسول اللّه، لا أسمع اللّه ذكر النساء في الهجرة بشيء!؟ فأنزل اللّه: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ [آل عمران:
195] إلى آخر الآية(1).
و أخرج الحاكم عنها: أيضا. قالت: قلت: يا رسول اللّه تذكر الرجال و لا تذكر النساء!؟ فأنزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] و أنزلت: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى (2).
و أخرج. أيضا. عنها أنّها قالت: يغزو الرجال و لا تغزو النساء، و إنما لنا نصف الميراث؟! فأنزل اللّه: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ و أنزل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ (3).
و من أمثلته أيضا: ما أخرجه البخاريّ، من حديث زيد بن ثابت: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أملى عليه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلى وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [النساء: 95] فجاء ابن أمّ مكتوم، و قال: يا رسول اللّه، لو أستطيع الجهاد لجاهدت، و كان أعمى، فأنزل اللّه: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ (4).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن زيد بن ثابت. أيضا. قال: كنت أكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فإني لواضع القلم على أذني، إذ أمر بالقتال، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى، فقال: كيف لي يا رسول اللّه و أنا أعمى؟ فأنزلت: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ [التوبة: 91].
و من أمثلته: ما أخرجه ابن جرير، عن ابن عباس، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جالسا في ظلّ حجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان». فطلع رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: «علام تشتمني أنت و أصحابك». فانطلق الرّجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل اللّه: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا [التوبة: 74] الآية.9.
ص: 135
و أخرجه الحاكم و أحمد بهذا اللفظ، و آخره: فأنزل اللّه: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية(1) [المجادلة: 18].
تنبيه: تأمّل ما ذكرته لك في هذه المسألة، و اشدد به يديك، فإني حرّرته و استخرجته بفكري من استقراء صنيع الأئمة و متفرّقات كلامهم، و لم أسبق إليه.1.
ص: 136
هو في الحقيقة نوع من أسباب النزول، و الأصل فيه موافقات عمر، و قد أفردها بالتصنيف جماعة.
و أخرج التّرمذيّ، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ اللّه جعل الحقّ على لسان عمر و قلبه». قال ابن عمر: و ما نزل بالنّاس أمر قطّ فقالوا و قال، إلاّ نزل القرآن على نحو ما قال عمر(1).
و أخرج ابن مردويه، عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي، فينزل به القرآن.
و أخرج البخاريّ و غيره، عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربّي في ثلاث، قلت: يا رسول اللّه لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى؟ فنزلت: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
ص: 137
[البقرة: 125] و قلت: يا رسول اللّه، إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرّ و الفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. و اجتمع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهنّ:
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم: 5]، فنزلت كذلك(1).
و أخرج مسلم، عن ابن عمر، عن عمر قال: وافقت ربّي في ثلاث: في الحجاب، و في أسرى بدر، و في مقام إبراهيم(2).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن أنس، قال: قال عمر: وافقت ربّي. أو وافقني ربّي. في أربع: نزلت هذه الآية: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) الآية [المؤمنون: 12] فلما نزلت قلت: أنا: فتبارك اللّه أحسن الخالقين، فنزلت: فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14].
و أخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنّ يهوديا لقي عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا، فقال عمر: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) [البقرة: 98] فنزلت على لسان عمر(3).
و أخرج سنيد في تفسيره، عن سعيد بن جبير: أنّ سعد بن معاذ لمّا سمع ما قيل في أمر عائشة قال: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور: 16] فنزلت كذلك.
و أخرج ابن أخي ميمي في فوائده: عن سعيد بن المسيب، قال: كان رجلان من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا سمعا شيئا من ذلك، قالا: سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ : زيد بن حارثة و أبو أيوب، فنزلت كذلك.
و أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لمّا أبطأ على النساء الخبر في أحد خرجن يستخبرن، فإذا رجلان [مقتولان](4) [على دابة أو] على بعير. فقالت امرأة [من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان و فلان: أخوها و زوجها. أو زوجها و ابنها. فقالت:](5) ما فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قالوا: حيّ، قالت: فلا أبالي، يتّخذ اللّه من عباده الشهداء، فنزل القرآن على ما قالت:م.
ص: 138
وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ [آل عمران: 140](1).
و قال ابن سعد في الطبقات: أخبرنا الواقديّ، حدّثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدريّ، عن أبيه، قال: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فقطعت يده اليمنى، فأخذ اللواء بيده اليسرى، و هو يقول: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ثم قطعت يده اليسرى، فحنا على اللواء و ضمّه بعضديه إلى صدره، و هو يقول: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ [آل عمران: 144] يومئذ، حتى نزلت بعد ذلك(2).
يقرب من هذا ما ورد في القرآن على لسان غير اللّه، كالنبيّ عليه السّلام، و جبريل، و الملائكة، غير مصرّح بإضافته إليهم و لا محكيّ بالقول، كقوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ الآية، فإنّ هذا ورد على لسانه صلّى اللّه عليه و سلّم لقوله آخرها: وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104].
و قوله: أَ فَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية [الأنعام: 114] فإنّه أوردها أيضا على لسانه.
و قوله: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية [مريم: 64] وارد على لسان جبريل.
و قوله: وَ ما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) [الصافات: 166.164] وارد على لسان الملائكة.
و كذا: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (4) [الفاتحة: 4] وارد على ألسنة العباد، إلاّ أنه يمكن هنا تقدير القول، أي: قولوا، و كذا الآيتان الأوليان يصحّ أن يقدّر فيهما (قل).
بخلاف الثالثة و الرابعة.
ص: 139
النوع الحادي عشر ما تكرّر نزوله(1)
صرّح جماعة من المتقدمين و المتأخّرين بأنّ من القرآن ما تكرّر نزوله.
قال ابن الحصّار: قد يتكرّر نزول الآية تذكيرا و موعظة، و ذكر من ذلك خواتيم سورة النحل، و أوّل سورة الروم.
و ذكر ابن كثير منه آية الروح(2). و ذكر قوم منه الفاتحة(3). و ذكر بعضهم منه قوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية [التوبة: 113].
و قال الزركشيّ في البرهان(4): قد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، و تذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه. ثم ذكر منه آية الروح، و قوله: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الآية [هود:
114].
قال(5): فإنّ سورة الإسراء و هود مكّيتان، و سبب نزولهما يدلّ على أنّهما نزلتا بالمدينة؛ و لهذا أشكل ذلك على بعضهم، و لا إشكال؛ لأنها نزلت مرّة بعد مرّة.
قال: و كذلك ما ورد في سورة الإخلاص من أنّها جواب للمشركين بمكة، و جواب لأهل الكتاب المدينة. و كذلك قوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية [التوبة: 113].
قال: و الحكمة في هذا كله: أنّه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية، و قد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فيوحى إلى النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم تلك الآية بعينها؛ تذكيرا لهم بها و بأنها تتضمن هذه.
ص: 140
تنبيه قد يجعل من ذلك الأحرف التي تقرأ على وجهين فأكثر. و يدلّ له، ما أخرجه مسلم، من حديث أبيّ: «إنّ ربّي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هوّن على أمتي، فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف»(1). فهذا الحديث يدل على أن القرآن لم ينزل من أوّل وهلة، بل مرّة بعد أخرى.
و في جمال القرّاء للسخاويّ، بعد أن حكى القول بنزول الفاتحة مرتين: إن قيل: فما فائدة نزولها مرة ثانية؟ قلت: يجوز أن يكون نزلت أوّل مرّة على حرف واحد، و نزلت في الثانية ببقيّة وجوهها، نحو ملك و مالك و السّراط و الصّراط، و نحو ذلك. انتهى.
تنبيه أنكر بعضهم كون شيء من القرآن يتكرّر نزوله، كذا رأيته في كتاب «الكفيل بمعاني التنزيل» و علّله:
بأنّ تحصيل ما هو حاصل لا فائدة فيه. و هو مردود بما تقدّم من فوائده.
و بأنه يلزم منه أن يكون كلّ ما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى، فإنّ جبريل كان يعارضه كلّ سنة، و ردّ بمنع الملازمة.
و بأنّه لا معنى للإنزال إلاّ أنّ جبريل كان ينزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بقرآن لم يكن نزل به من قبل، فيقرئه إياه. و ردّ بمنع اشتراط قوله: لم يكن نزل به من قبل.
ثم قال: و لعلّهم يعنون بنزولها مرّتين: أنّ جبريل نزل حين حوّلت القبلة، فأخبر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، فظن ذلك نزولا لها مرّة أخرى، أو أقرأه قراءة أخرى لم يقرئها له بمكة، فظنّ ذلك إنزالا. انتهى.ك.
ص: 141
قال الزركشيّ في البرهان(1): قد يكون النزول سابقا على الحكم، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (15) [الأعلى: 15.14] فقد روى البيهقيّ و غيره، عن ابن عمر: أنّها نزلت في زكاة الفطر(2). و أخرج البزار نحوه مرفوعا(3).
و قال بعضهم(4): لا أدري ما وجه هذا التأويل؟ لأن السورة مكيّة، و لم يكن بمكة عيد و لا زكاة و لا صوم؟ و أجاب البغويّ (5): بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم، كما قال: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) فالسورة مكية، و قد ظهر أثر الحلّ يوم فتح مكة، حتى قال عليه السّلام: «أحلّت لي ساعة من نهار»(6). و كذلك نزل بمكة: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
ص: 142
وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: 45]. قال عمر بن الخطاب: فقلت: أيّ جمع؟ فلما كان يوم بدر و انهزمت قريش، نظرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في آثارهم مصلتا بالسيف، و يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) . فكانت ليوم بدر. أخرجه الطبراني في الأوسط(1).
و كذلك قوله: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) [ص: 11] قال قتادة: وعده اللّه. و هو يومئذ بمكة. أنه سيهزم جندا من المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر. أخرجه ابن أبي حاتم(2).
أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود في قوله: وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ قال: السيف، و الآية مكية متقدّمة على فرض القتال، و يؤيد تفسير ابن مسعود: ما أخرجه الشيخان من حديثه أيضا قال: دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مكة يوم الفتح و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون نصبا، فجعل يطعنها بعود كان في يده، و يقول: جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) [الإسراء: 81] جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) (3).
و قال ابن الحصّار: ذكر اللّه الزكاة في السور المكيات كثيرا، تصريحا و تعريضا: بأنّ اللّه سينجز وعده لرسوله، و يقيم دينه و يظهره؛ حتى تفرض الصلاة و الزكاة و سائر الشرائع، و لم تؤخذ الزكاة إلاّ بالمدينة بلا خلاف، و أورد من ذلك قوله تعالى: وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] و قوله في سورة المزمل: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ [20] و من ذلك قوله فيها: وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [المزمل: 20].
و من ذلك قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً [فصلت:
33] فقد قالت عائشة، و ابن عمر، و عكرمة، و جماعة: إنها نزلت في المؤذّنين، و الآية مكية، و لم يشرع الأذان إلاّ بالمدينة.
و من أمثلة ما تأخّر نزوله عن حكمه: آية الوضوء، ففي صحيح البخاريّ: عن عائشة، قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، و نحن داخلون المدينة، فأناخ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و نزل فثنى رأسه3.
ص: 143
في حجري راقدا، و أقبل أبو بكر، فلكزني لكزة شديدة و قال: حبست الناس في قلادة؟ ثم إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم استيقظ، و حضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إلى قوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (1)[المائدة: 6] فالآية مدنية إجماعا، و فرض الوضوء كان بمكة مع فرض الصلاة.
قال ابن عبد البرّ: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يصلّ منذ فرضت عليه الصلاة إلاّ بوضوء، و لا يدفع ذلك إلاّ جاهل أو معاند. قال: و الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدّم العمل به، ليكون فرضه متلوّا بالتنزيل.
و قال غيره: يحتمل أن يكون أوّل الآية نزل مقدّما مع فرض الوضوء، ثم نزل بقيتها.
و هو ذكر التيمم. في هذه القصة.
قلت: يردّه الإجماع على أنّ الآية مدنيّة.
و من أمثلته أيضا: آية الجمعة، فإنّها مدنيّة، و الجمعة فرضت بمكة، و قول ابن الفرس:
إنّ إقامة الجمعة لم تكن بمكة قطّ، يردّه: ما أخرجه ابن ماجة، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة، فسمع الأذان، يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه، أ رأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلّما سمعت النداء بالجمعة، لم هذا؟ قال: أيّ بنيّ، كان أوّل من صلّى بنا الجمعة قبل مقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من مكة(2).
و من أمثلته: قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التوبة: 60] الآية، فإنّها نزلت سنة تسع، و قد فرضت الزكاة قبلها في أوائل الهجرة.
قال ابن الحصّار: فقد يكون مصرفها قبل ذلك معلوما، و لم يكن فيه قرآن متلوّ، كما كان الوضوء معلوما قبل نزول الآية، ثم نزلت تلاوة القرآن تأكيدا به.ث.
ص: 144
الأول غالب القرآن. و من أمثلته في السور القصار: اِقْرَأْ أوّل ما نزل منها، إلى قوله: ما لَمْ يَعْلَمْ . و الضحى: أوّل ما نزل منها إلى قوله: فَتَرْضى كما في حديث الطّبرانيّ.
و من أمثلة الثاني سورة الفاتحة، و الإخلاص، و الكوثر، و تبّت، و لم يكن و النصر، و المعوذتان، نزلتا معا.
و منه في السّور الطوال (المرسلات) ففي المستدرك: عن ابن مسعود قال: كنّا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في غار، فنزلت عليه: وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) ، فأخذتها من فيه و إنّ فاه رطب بها، فلا أدري بأيّها ختم: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) [المرسلات: 50] أو: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48)(1) [المرسلات: 48].
و منه سورة الصف، لحديثها السابق في النوع الأوّل(2).
و منه سورة الأنعام: فقد أخرج أبو عبيد، و الطّبرانيّ، عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، حولها سبعون ألف ملك(3).
و أخرج الطّبرانيّ من طريق يوسف بن عطيّة الصفّار. و هو متروك.، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك»(4).
و أخرج البيهقي في الشّعب بسند فيه من لا يعرف: عن عليّ قال: أنزل القرآن خمسا خمسا إلاّ سورة الأنعام: فإنّها نزلت جملة في ألف، يشيّعها من كلّ سماء سبعون ملكا حتى
ص: 145
أدّوها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(1).
و أخرج أبو الشيخ عن أبيّ بن كعب، مرفوعا: «أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك»(2).
و أخرج عن مجاهد، قال: نزلت الأنعام كلّها جملة واحدة، معها خمسمائة ملك.
و أخرج عن عطاء: أنزلت الأنعام جميعا و معها سبعون ألف ملك.
فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضا.
و قال ابن الصلاح في فتاويه: الحديث الوارد في أنها نزلت جملة، رويناه من طريق أبيّ بن كعب. و في إسناده ضعف، و لم نر له إسنادا صحيحا، و قد روي ما يخالفه، فروي أنها لم تنزل جملة واحدة، بل نزلت آيات منها بالمدينة اختلفوا في عددها، فقيل: ثلاث، و قيل: غير ذلك. انتهى، و اللّه أعلم.ه.
ص: 146
النوع الرابع عشر ما نزل مشيعا و ما نزل مفردا(1)
قال ابن حبيب، و تبعه ابن النّقيب؛ من القرآن ما نزل مشيّعا، و هو سورة الأنعام، شيّعها سبعون ألف ملك، و فاتحة الكتاب، نزلت و معها ثمانون ألف ملك، و آية الكرسيّ، نزلت و معها ثلاثون ألف ملك. و سورة يس، نزلت و معها ثلاثون ألف ملك. وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45]. نزلت و معها عشرون ألف ملك، و سائر القرآن نزل به جبريل مفردا بلا تشييع.
قلت: أمّا سورة الأنعام فقد تقدّم حديثها بطرقه. و من طرقه. أيضا. ما أخرجه البيهقيّ في الشّعب و الطّبرانيّ بسند ضعيف، عن أنس مرفوعا: «نزلت سورة الأنعام و معها موكب من الملائكة يسدّ ما بين الخافقين، لم زجل بالتقديس و التسبيح و الأرض ترتجّ»(2).
و أخرج الحاكم و البيهقي من حديث جابر، قال: لمّا نزلت سورة الأنعام سبّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثم قال: «شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق»(3). قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، لكن قال الذهبيّ: فيه انقطاع، و أظنّه موضوعا.
و أما الفاتحة و سورة يس و وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا : فلم أقف على حديث فيها بذلك و لا أثر.
و أما آية الكرسيّ: فقد ورد فيها و في جميع آيات البقرة حديث، أخرج أحمد في مسنده
ص: 147
عن معقل بن يسار: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «البقرة سنام القرآن و ذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، و استخرجت اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ من تحت العرش فوصلت بها»(1).
و أخرج سعيد بن منصور في سننه، عن الضحاك بن مزاحم، قال: خواتيم سورة البقرة جاء بها جبريل، و معه من الملائكة ما شاء اللّه.
و بقي سور أخرى، منها: سورة الكهف، قال ابن الضّريس في فضائله: أخبرنا يزيد بن عبد العزيز الطيالسيّ: حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، عن إسماعيل بن رافع، قال: بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أ لا أخبركم بسورة ملء عظمتها ما بين السماء و الأرض، شيّعها سبعون ألف ملك؟ سورة الكهف»(2).
تنبيه: لينظر في التوفيق بين ما مضى و بين ما أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل بالقرآن إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ و معه أربعة من الملائكة حفظة(3).
و أخرج ابن جرير، عن الضحاك، قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم إذا بعث إليه الملك، بعث ملائكة يحرسونه من بين يديه و من خلفه، مخافة أن يتشبه الشيطان على صورة الملك.
فائدة: قال ابن الضّريس: أخبرنا محمود بن غيلان، عن يزيد بن هارون، أخبرني الوليد . يعني ابن: جميل. عن القاسم، عن أبي أمامة قال: أربع آيات نزلت من كنز العرش، لم ينزل منه شيء غيرهنّ: أمّ الكتاب، و آية الكرسيّ، و خاتمة سورة البقرة، و الكوثر(4).1.
ص: 148
قلت: أما الفاتحة: فأخرج البيهقي في الشّعب، من حديث أنس مرفوعا: «إنّ اللّه أعطاني فيما منّ به عليّ: إنّي أعطيتك فاتحة الكتاب، و هي من كنوز عرشي»(1).
و أخرج الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعا: «أعطيت فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة من تحت العرش»(2).
و أخرج ابن راهويه في مسنده عن عليّ: أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: حدّثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أنها نزلت من كنز تحت العرش.
و أمّا آخر البقرة: فأخرج الدارمي في مسنده، عن أيفع الكلاعيّ قال: قال رجل: يا رسول اللّه، أيّ آية تحبّ أن تصيبك و أمتك؟ قال: «آخر سورة البقرة، فإنّها من كنز الرحمة من تحت عرش اللّه»(3).
و أخرج أحمد و غيره من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: «اقرءوا هاتين الآيتين، فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش»(4).
و أخرج من حديث حذيفة: أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحتى.
ص: 149
العرش، لم يعطها نبي قبلي»(1).
و أخرج من حديث أبي ذرّ: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهنّ نبيّ قبلي»(2).
و له طرق كثيرة عن عمرو عليّ و ان مسعود و غيرهم(3).
و أما آية الكرسي: فتقدمت في حديث معقل بن يسار السابق.
و أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا قرأ آية الكرسي ضحك، و قال: «إنّها من كنز الرّحمن تحت العرش».
و أخرج أبو عبيد، عن عليّ قال: آية الكرسيّ أعطيها نبيّكم من كنز تحت العرش، و لم يعطها أحد قبل نبيّكم(4).ه.
ص: 150
و أما سورة الكوثر: فلم أقف فيها على حديث، و قول أبي أمامة في ذلك يجري مجرى المرفوع(1)، و قد أخرجه أبو الشيخ بن حيّان و الديلميّ و غيرهما من طريق محمد بن عبد الملك الدقيقيّ، عن يزيد بن هارون، بإسناده السابق عن أبي أمامة مرفوعا(2).ا.
ص: 151
من الثاني الفاتحة و آية الكرسيّ و خاتمة البقرة، كما تقدّم في الأحاديث قريبا.
و روى مسلم، عن ابن عباس: أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ملك، فقال: «أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة»(1).
و أخرج الطبرانيّ، عن عقبة بن عامر قال: تردّدوا في الآيتين من آخر سورة البقرة:
آمَنَ الرَّسُولُ [285] إلى خاتمتها؛ فإنّ اللّه اصطفى بها محمدا(2).
و أخرج أبو عبيد في فضائله، عن كعب قال: إنّ محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم أعطي أربع آيات لم يعطهنّ موسى، و إنّ موسى أعطي آية لم يعطها محمد. قال: و الآيات التي أعطيهنّ محمد: لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [البقرة: 284]. حتى ختم البقرة؛ فتلك ثلاث آيات، و آية الكرسي.
و الآية التي أعطيها موسى: (اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا و خلّصنا منه، من أجل أن لك الملكوت و الأيد و السلطان و الملك، و الحمد و الأرض و السماء، الدّهر الدّاهر، أبدا أبدا آمين آمين)(3).
ص: 152
و أخرج البيهقي في الشّعب، عن ابن عباس، قال: السبع الطوال لم يعطهنّ أحد إلاّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و أعطي موسى منها اثنتين(1).
و أخرج الطّبراني، عن ابن عباس مرفوعا: «أعطيت أمّتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم عند المصيبة: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156](2).
و من أمثلة الأول: ما أخرجه الحاكم، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «كلّها في صحف إبراهيم و موسى». فلما نزلت: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) فبلغ وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفّى (37) قال: «وفّى أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) إلى قوله: هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) [النجم: 56.1](3).
و قال سعيد بن منصور: حدّثنا خالد بن عبد اللّه، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هذه السورة في صحف إبراهيم و موسى.
و أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: «نسخ من صحف إبراهيم و موسى» و أخرج عن السّديّ قال: إنّ هذه السورة في صحف إبراهيم و موسى مثل ما نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قال الفريابي: نبأنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) [الأعلى: 18]. قال: هؤلاء الآيات.ب.
ص: 153
و أخرج الحاكم، من طريق القاسم، عن أبي أمامة، قال: أنزل اللّه على إبراهيم مما أنزل على محمد: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]. و قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) إلى قوله: فِيها خالِدُونَ [المؤمنون: 1-11]. و إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ الآية [الأحزاب: 35]، و التي في سأل: اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) إلى قوله: قائِمُونَ [المعارج: 23-33] فلم يف بهذه السهام إلاّ إبراهيم و محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
و أخرج البخاري عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: إنّه. يعني. النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الموصوف في التّوراة ببعض صفته في القرآن: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) [الأحزاب: 45]، و حرزا للأميّين.. الحديث(1).
و أخرج ابن الضّريس و غيره، عن كعب، قال: فتحت التوراة: ب اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) [الأنعام: 1].
و ختمت ب اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً إلى قوله: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء: 111](2).
و أخرج. أيضا. عنه، قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام: اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ، و خاتمة التوراة خاتمة هود: فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [هود: 123](3).
و أخرج من وجه آخر عنه، قال: أوّل ما أنزل في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام:
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] إلى آخرها(4).
و أخرج أبو عبيد عنه، قال: أوّل ما أنزل اللّه في التوراة عشر آيات من سورة الأنعام:
بسم اللّه الرحمن الرحيم قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ الآيات.
قال بعضهم: يعني أنّ هذه الآيات اشتملت على الآيات العشر التي كتبها اللّه لموسى فير.
ص: 154
التوراة أوّل ما كتب، و هي: توحيد اللّه، و النهي عن الشرك، و اليمين الكاذبة، و العقوق، و القتل، و الزنا، و السرقة، و الزور، و مدّ العين إلى ما في يد الغير، و الأمر بتعظيم السبت(1)رواه الدار قطني في سننه 310/1 ضمن حديث طويل. قلت: سنده ضعيف، فيه: 1 - عبد الكريم بن أبي المخارق: ضعيف. انظر التقريب 516/1، و الكاشف 181/2. 2 - سلمة بن صالح الأحمر: ضعيف. انظر لسان الميزان 69/3-70، و الكامل 330/3-331.(2).
و أخرج الدارقطنيّ من حديث بريدة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «لأعلّمنّك آية لم تنزل على نبيّ بعد سليمان غيري: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)».
و أخرج الحاكم، عن ابن ميسرة: أنّ هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية: يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) أوّل سورة الجمعة(3).
فائدة: يدخل في هذا النوع ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: البرهان الذي أري يوسف: ثلاث آيات من كتاب اللّه: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) [الانفطار: 12.10]. و قوله: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ الآية [يونس: 61] و قوله: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] زاد غيره آية أخرى: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32].
و أخرج ابن أبي حاتم أيضا، عن ابن عباس في قوله: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24]. قال: رأى آية من كتاب اللّه نهته، مثّلت له في جدار الحائط.ا.
ص: 155
النوع السادس عشر في كيفية إنزاله(1)
فيه مسائل:
قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]. و قال: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر: 1].
اختلف في كيفية إنزاله من اللوح المحفوظ على ثلاثة أقوال:
أحدها: و هو الأصحّ الأشهر: أنّه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجّما في عشرين سنة، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين؛ على حسب الخلاف في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه و سلّم بمكة بعد البعثة.
و أخرج الحاكم و البيهقيّ و غيرهما من طريق منصور، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، و كان بمواقع النجوم، و كان اللّه ينزله على رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بعضه في إثر بعض(2)، و أخرج الحاكم و البيهقيّ. أيضا. و النّسائيّ من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة، ثم قرأ: وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [الفرقان: 33].
وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) [الإسراء: 106](3).
ص: 156
و أخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه، و في آخره: فكان المشركون إذا أحدثوا شيئا أحدث اللّه لهم جوابا.
و أخرج الحاكم و ابن أبي شيبة من طريق حسّان بن حريث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(1).
أسانيدها كلّها صحيحة.
و أخرج الطّبرانيّ و البزّار من وجه آخر عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، و نزّله جبريل على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم بجواب كلام العباد و أعمالهم(2).
و أخرج ابن أبي شيبة في فضائل القرآن، من وجه آخر عنه: دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة واحدة، فوضعه في بيت العزّة، ثم جعل ينزّله تنزيلا(3).
و أخرج ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات(4) من طريق السّدّي، عن محمد، عن ابن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس أنّه سأل عطية بن الأسود فقال: أوقع في قلبي الشكّ قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] و قوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) . و هذا نزل في شوال و في ذي القعدة و في ذي الحجة و في المحرّم1.
ص: 157
و صفر و شهر ربيع؟ فقال ابن عباس: إنّه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النّجوم رسلا في الشهور و الأيام.
قال أبو شامة(1). قوله: (رسلا) أي: رفقا، (و على مواقع النجوم) أي: على مثل [مواقع النجوم، و مواقعها]: مساقطها، يريد أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على ما وقع مفرّقا يتلو بعضه بعضا، على تؤدة و رفق.
القول الثاني: أنّه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث و عشرين، أو خمس و عشرين، في كلّ ليلة ما يقدّر اللّه إنزاله في كلّ السنة، ثم نزل بعد ذلك منجّما في جميع السنة.
و هذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي(2) بحثا، فقال: يحتمل أنّه كان ينزل في كلّ ليلة قدر ما يحتاج النّاس إلى إنزاله إلى مثلها، من اللوح إلى السماء الدنيا. ثم توقّف، هل هذا أولى أو الأول! قال ابن كثير(3): و هذا الّذي جعله احتمالا نقله القرطبيّ (4)، عن مقاتل بن حيان، و حكى الإجماع على أنّه نزل جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
قلت: و ممّن قال بقول مقاتل: الحليمي(5) و الماورديّ (6)، و يوافقه قول ابن شهاب: آخر القرآن عهدا بالعرش آية الدّين(7).
القول الثالث: أنّه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة من سائر الأوقات. و به قال الشّعبيّ.
قال ابن حجر في شرح البخاري(8): و الأول هو الصحيح المعتمد، قال: و قد حكى الماورديّ (9) قولا رابعا: أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، و أنّ الحفظة نجّمته على جبريل في عشرين ليلة، و أنّ جبريل نجّمه على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في عشرين سنة. و هذا أيضا غريب،9.
ص: 158
و المعتمد أنّ جبريل كان يعارضه في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة.
و قال أبو شامة(1): كأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين: الأول و الثاني.
قلت: هذا الذي حكاه الماورديّ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضّحاك، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند اللّه، من اللّوح المحفوظ إلى السّفرة الكرام الكاتبين في السّماء الدنيا، فنجّمته السّفرة على جبريل عشرين ليلة، و نجّمه جبريل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عشرين سنة.
قيل السر في إنزاله جملة إلى السماء(2): تفخيم أمره و أمر من نزل عليه، و ذلك بإعلام سكان السموات السبع: أنّ هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قرّبناه إليهم لننزله عليهم، و لو لا أنّ الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجّما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة، كسائر الكتب المنزّلة قبله، و لكن اللّه باين بينه و بينها، فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرّقا؛ تشريفا للمنزّل عليه. ذكر ذلك أبو شامة في «المرشد الوجيز»(3).
و قال الحكيم التّرمذي(4): أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، تسليما منه للأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ ببعث محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و ذلك أنّ بعثة محمد صلّى اللّه عليه و سلّم كانت رحمة، فلمّا خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزّة في السماء الدنيا ليدخل في حدّ الدنيا، و وضعت النبوّة في قلب محمد، و جاء جبريل بالرسالة ثم الوحي، كأنّه أراد تعالى أن يسلّم هذه الرحمة التي كانت حظّ هذه الأمّة من اللّه إلى الأمة.
و قال السّخاوي في «جمال القرّاء»: في نزوله إلى السماء جملة، تكريم بني آدم و تعظيم شأنهم عند الملائكة، و تعريفهم عناية اللّه بهم و رحمته لهم؛ و لهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيّع سورة الأنعام، و زاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السّفرة الكرام و إنساخهم إياه و تلاوتهم له.
قال: و فيه. أيضا. التّسوية بين نبينا صلّى اللّه عليه و سلّم و بين موسى عليه السّلام في إنزاله كتابه جملة، و التفضيل لمحمّد في إنزاله عليه منجّما ليحفظه.
ص: 159
قال أبو شامة(1): فإن قلت: فقوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) من جملة القرآن الّذي نزل جملة أم لا؟ فإن لم يكن منه، فما نزل جملة؟ و إن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة؟.
قلت: له وجهان:
أحدهما أن يكون معنى الكلام: إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، و قضيناه و قدّرناه في الأزل. و الثاني: أنّ لفظه لفظ الماضي و معناه الاستقبال، أي: ينزله جملة في ليلة القدر.
انتهى.
قال أبو شامة(1) أيضا: الظاهر أنّ نزوله جملة إلى السماء الدّنيا قبل ظهور نبوّته صلّى اللّه عليه و سلّم، قال: و يحتمل أن يكون بعدها.
قلت: الظاهر هو الثاني، و سياق الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
و قال ابن حجر في شرح البخاري(2): قد أخرج أحمد و البيهقيّ في الشّعب، عن واثلة بن الأسقع: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان، و الإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، و الزّبور لثمان عشرة خلت منه، و القرآن لأربع و عشرين خلت منه». و في رواية: «و صحف إبراهيم لأول ليلة»(3) قال: و هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]. و لقوله: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (4) .
فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع و العشرين إلى الأرض أوّل اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .
قلت: لكن يشكل على هذا: ما اشتهر من أنه صلّى اللّه عليه و سلّم بعث في شهر ربيع. و يجاب عن هذا: بما ذكروه أنه نبّئ أوّلا بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت مدّتها ستة أشهر، ثم أوحي إليه في اليقظة. ذكره البيهقيّ و غيره.
نعم يشكل على الحديث السابق: ما أخرجه ابن أبي شيبة في فضائل القرآن عن أبي قلابة قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع و عشرين من رمضان(5).
ص: 160
قال أبو شامة(1). أيضا: فإن قيل ما السرّ في نزوله منجّما؟ و هلا نزل كسائر الكتب جملة؟.
قلنا: هذا سؤال قد تولّى اللّه جوابه، فقال تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً يعنون. كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله:
كَذلِكَ أي: أنزلناه كذلك مفرّقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] أي: لنقوّي به قلبك؛ فإنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلّ حادثة كان أقوى بالقلب، و أشدّ عناية بالمرسل إليه، و يستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، و تجدّد العهد به و بما معه من الرّسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، و لهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل(2).
و قيل(3): معنى لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي: لحفظه؛ فإنه عليه السّلام كان أمّيّا لا يقرأ و لا يكتب، ففرّق عليه ليثبت عنده حفظه، بخلاف غيره من الأنبياء، فإنّه كان كاتبا قارئا، فيمكنه حفظ الجميع(4).
و قال ابن فورك(5): قيل: أنزلت التوراة جملة؛ لأنّها نزلت على نبيّ يكتب و يقرأ، و هو موسى. و أنزل اللّه القرآن مفرّقا لأنّه أنزل غير مكتوب على نبي أمّي.
و قال(6) غيره: إنما لم ينزل جملة واحدة لأنّ منه الناسخ و المنسوخ، و لا يتأتّى ذلك إلاّ فيما أنزل مفرّقا، و منه ما هو جواب لسؤال و ما هو إنكار على قول قيل، أو فعل فعل، و قد تقدّم ذلك في قول ابن عباس: و نزّله جبريل بجواب كلام العباد و أعمالهم، و فسّر به قوله:
وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ [الفرقان: 33]. أخرجه عنه ابن أبي حاتم.
فالحاصل أنّ الآية تضمّنت حكمتين لإنزاله مفرّقا.
ما تقدّم في كلام هؤلاء. من أنّ سائر الكتب أنزلت جملة. هو مشهور في كلام
ص: 161
العلماء و على ألسنتهم، حتى كاد يكون إجماعا، و قد رأيت بعض فضلاء العصر أنكر ذلك، و قال: إنّه لا دليل عليه، بل الصواب: أنّها نزلت مفرقة كالقرآن.
و أقول: الصواب الأوّل، و من الأدلة على ذلك آية الفرقان السابقة.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قالت اليهود: يا أبا القاسم، لو لا أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى، فنزلت.
و أخرجه من وجه آخر عنه بلفظ: «قال المشركون»، و أخرج نحوه عن قتادة و السدّيّ (1).
فإن قلت: ليس في القرآن التصريح بذلك، و إنما على تقدير ثبوته، قول الكفار؟ قلت: سكوته تعالى عن الردّ عليهم في ذلك، و عدوله إلى بيان حكمته دليل على صحّته، و لو كانت الكتب كلّها نزلت مفرّقة لكان يكفي في الردّ عليهم أن يقول: إنّ ذلك سنة اللّه في الكتب التي أنزلها على الرسل السابقة، كما أجاب بمثل ذلك قولهم: وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 7]. فقال: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20]. و قولهم: أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء: 94]. فقال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف: 109]. و قولهم: كيف يكون رسولا و لا همّ له إلاّ النساء؟ فقال وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً [الرعد: 38]. إلى غير ذلك.
و من الأدلة على ذلك. أيضا. قوله تعالى في إنزال التوراة على موسى يوم الصعقة:
فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الأعراف: 145.144]، وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: 150]، وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ [الأعراف: 154]، وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف: 171]، فهذه الآيات كلّها دالّة على إتيانه التوراة جملة.
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أعطي موسى التّوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكلّ شيء و موعظة، فلمّا جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتوراة من يده فتحطّمت، فرفع اللّه منها ستة أسباع و بقي منها سبع(2).
و أخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، رفعه، قال: «الألواح الّتي3.
ص: 162
أنزلت على موسى كانت من سدر الجنّة، كان طول اللوح اثني عشر ذراعا»(1).
و أخرج النسائي و غيره عن ابن عباس. في حديث الفتون(2). قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالّذي أمر اللّه أن يبلغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، و أبوا أن يقرّوا بها حتى نتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّة، و دنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، فأقرّوا بها.
و أخرج ابن أبي حاتم، عن ثابت بن الحجاج قال: جاءتهم التوراة جملة واحدة، فكبر عليهم، فأبوا أن يأخذوها حتى ظلّل اللّه عليهم الجبل فأخذوها عند ذلك(3).
فهذه آثار صحيحة صريحة في إنزال التوراة جملة.
و يؤخذ من الأثر الأخير منها حكمة أخرى لإنزال القرآن مفرّقا، فإنّه أدعى إلى قبوله إذا نزل على التدريج، بخلاف ما لو نزل جملة واحدة، فإنه كان ينفر من قبوله كثير من النّاس، لكثرة ما فيه من الفرائض و المناهي.
و يوضّح ذلك: ما أخرجه البخاريّ، عن عائشة، قالت: إنّما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الجنة و النّار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام، و لو نزل أوّل شيء: (لا تشربوا الخمر) لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، و لو نزل: (لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزّنا أبدا(4).
ثم رأيت هذه الحكم مصرّحا بها في «الناسخ و المنسوخ» لمكيّ (5).
الّذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة و غيرها: أنّ القرآن كان ينزل بحسب الحاجة:
خمس آيات و عشرا و أكثر و أقلّ؛ و قد صحّ نزول العشر آيات في قصّة الإفك جملة، و صحّ نزول عشر آيات من أوّل (المؤمنون) جملة(6)، و صحّ نزول: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] وحدها؛ و هي بعض آية، و كذا قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أوّل الآية كما حرّرناه في أسباب النزول(7)، و ذلك بعض آية.
ص: 163
و أخرج ابن أشتة في كتاب «المصاحف» عن عكرمة في قوله: بِمَواقِعِ [الواقعة: 75].
قال: أنزل اللّه القرآن نجوما ثلاث آيات، و أربع آيات، و خمس آيات(1).
و قال النكزاويّ (2) في كتاب «الوقف»: كان القرآن ينزل مفرّقا، الآية و الآيتين و الثلاث و الأربع، و أكثر من ذلك.
و أخرجه ابن عساكر، من طريق أبي نضرة، قال: كان أبو سعيد الخدريّ يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة و خمس آيات بالعشيّ، و يخبر أنّ جبريل نزل بالقرآن خمس آيات، و خمس آيات.
و أمّا ما أخرجه البيهقيّ في الشّعب من طريق أبي خلدة [عن أبي العالية](3)، عن عمر، قال: تعلّموا القرآن خمس آيات خمس آيات؛ فإنّ جبريل كان ينزل بالقرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم خمسا خمسا(4).
و من طريق ضعيف عن عليّ، قال: أنزل القرآن خمسا خمسا إلاّ سورة الأنعام، و من حفظ خمسا خمسا لم ينسه(5).
فالجواب: أنّ معناه. إن صح. إلقاؤه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بهذا القدر حتى يحفظه، ثم يلقي إليه الباقي، لا إنزاله بهذا القدر خاصّة. و يوضح ذلك: ما أخرجه البيهقي. أيضا. عن خالد بن دينار، قال: قال لنا أبو العالية: تعلّموا القرآن خمس آيات، خمس آيات؛ فإنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان.
ص: 164
يأخذه من جبريل خمسا خمسا.
المسألة الثانية: في كيفية الإنزال و الوحي(1):
قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتّفق أهل السنّة و الجماعة على أن كلام اللّه منزّل.
و اختلفوا في معنى الإنزال:
فمنهم من قال: إظهار القراءة. و منهم من قال: إنّ اللّه تعالى ألهم كلامه جبريل و هو في السّماء، و هو عال من المكان، و علّمه قراءته، ثم جبريل أدّاه في الأرض و هو يهبط في المكان. و في التنزيل طريقان: أحدهما: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكيّة، و أخذه من جبريل. و الثاني: أنّ الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه، و الأوّل أصعب الحالين. انتهى.
و قال الطّيبيّ: لعلّ نزول القرآن على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يتلقّفه الملك من اللّه تعالى تلقّفا روحانيّا، أو يحفظه من اللّوح المحفوظ، فينزل به إلى الرّسول و يلقيه عليه.
و قال القطب الرازي في حواشي الكشاف: الإنزال لغة بمعنى الإيواء، و بمعنى تحريك الشيء من علو إلى أسفل، و كلاهما لا يتحقّق في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازيّ:
فمن قال: القرآن معنى قائم بذات اللّه تعالى، فإنزاله أن يوجد الكلمات و الحروف الدالّة على ذلك المعنى و يثبتها في اللوح المحفوظ. و من قال: القرآن هو الألفاظ، فإنزاله مجرّد إثباته في اللوح المحفوظ. و هذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن المعنيين اللّغويّين. و يمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا، بعد الإثبات في اللّوح المحفوظ. و هذا مناسب للمعنى الثاني. و المراد بإنزال الكتب على الرّسل: أن يتلقّفها الملك من اللّه تلقّفا روحانيا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ، و ينزل بها فيلقيها عليهم. انتهى.
و قال غيره(2): في المنزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه اللفظ و المعنى، و أن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ و نزل به. و ذكر بعضهم أنّ أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كلّ حرف منها بقدر جبل قاف، و أنّ تحت كلّ حرف منها معاني لا يحيط بها إلاّ اللّه.
و الثاني: أنّ جبريل إنما نزل بالمعاني خاصّة، و أنه صلّى اللّه عليه و سلّم علم تلك المعاني و عبّر عنها بلغة
ص: 165
العرب. و تمسّك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193-194](1).
و الثالث: أنّ جبريل ألقى إليه المعنى، و أنّه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب، و أن أهل السماء يقرءونه بالعربيّة، ثم إنّه نزل به كذلك بعد ذلك.
و قال البيهقي(2) في معنى قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) : يريد. و اللّه أعلم.: إنّا أسمعنا الملك و أفهمناه إيّاه و أنزلناه بما سمع. فيكون الملك منتقلا به من علو إلى أسفل.
قال أبو شامة(3): هذا المعنى مطّرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه، يحتاج إليه أهل السنّة المعتقدون قدم القرآن، و أنه صفة قائمة بذات اللّه تعالى.
قلت: و يؤيد أنّ جبريل تلقّفه سماعا من اللّه تعالى: ما أخرجه الطّبرانيّ من حديث النّواس بن سمعان مرفوعا: «إذا تكلّم اللّه بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف اللّه، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا و خرّوا سجّدا، فيكون أوّلهم يرفع رأسه جبريل، فيكلّمه اللّه من وحيه بما أراد، فينتهي به على الملائكة، فكلّما مرّ بسماء سأله أهلها: ما ذا قال ربّنا؟ قال: الحقّ. فينتهي به حيث أمر».
و أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رفعه: «إذا تكلّم اللّه بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصّفوان، فيفزعون و يرون أنه من أمر الساعة». و أصل الحديث في الصحيح(4).4.
ص: 166
و في تفسير عليّ بن سهل النيسابوريّ: قال جماعة من العلماء: نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له: بيت العزّة، فحفظه جبريل، و غشي على أهل السموات من هيبة كلام اللّه، فمرّ بهم جبريل، و قد أفاقوا، فقالوا: ما ذا قال ربّكم؟ قالوا:
الحقّ. يعني القرآن. و هو معنى قوله: حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ: 23] فأتى به جبريل إلى بيت العزّة، فأملاه على السّفرة الكتبة. يعني الملائكة. و هو معنى قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس: 16.15].
و قال الجوينيّ: كلام اللّه المنزّل قسمان:
قسم قال اللّه لجبريل: قل للنبيّ الذي أنت مرسل إليه: إنّ اللّه يقول: افعل كذا و كذا، و أمر بكذا و كذا، ففهم جبريل ما قاله ربّه، ثم نزل على ذلك النبي و قال له ما قاله ربّه، و لم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة، و اجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول: يقول الملك لا تتهاون في خدمتي و لا تترك الجند تتفرّق، و حثّهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب و لا تقصير في أداء الرسالة.
و قسم آخر قال اللّه لجبريل: اقرأ على النبيّ هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من اللّه من غير تغيير. كما يكتب الملك كتابا و يسلمه إلى أمين، و يقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغيّر منه كلمة و لا حرفا. انتهى.
قلت: القرآن هو القسم الثاني، و القسم الأول هو السنّة، كما ورد أنّ جبريل كان ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن. و من هنا جاز رواية السنة بالمعنى(1)؛ لأنّ جبريل أداه بالمعنى، و لم تجز القراءة بالمعنى؛ لأنّ جبريل أدّاه باللفظ، و لم يبح له إيحاءه بالمعنى.
و السرّ في ذلك: أنّ المقصود منه التعبّد بلفظه و الإعجاز به، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه. و أنّ تحت كلّ حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه. و التخفيف على الأمّة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين: قسم يروونه بلفظه الموحى به، و قسم يروونه بالمعنى؛ و لو جعل كلّه مما يروى باللفظ لشقّ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل و التحريف، فتأمّل.
و قد رأيت عن السلف ما يعضّد كلام الجوينيّ.
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق عقيل، عن الزّهريّ: أنه سئل عن الوحي فقال:
الوحي ما يوحي اللّه إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلّم به و يكتبه، و هو كلام اللّه.».
ص: 167
و منه ما لا يتكلّم به و لا يكتبه لأحد، و لا يأمر بكتابته، و لكنه يحدّث به الناس حديثا، و يبيّن لهم أنّ اللّه أمره أن يبيّنه للناس و يبلّغهم إياه.
و قد ذكر العلماء للوحي كيفيات:
إحداها: أن يأتيه الملك في مثل صلصلة الجرس، كما في الصحيح(1).
و في مسند أحمد، عن عبد اللّه بن عمر: سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: هل تحسّ بالوحي؟ فقال:
«أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرّة يوحى إليّ إلا ظننت أنّ نفسي تقبض»(2).
قال الخطابيّ: و المراد أنه صوت متدارك يسمعه و لا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد. و قيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، و الحكمة في تقدمه أن يفرغ سمعه للوحي، فلا يبقي فيه مكانا لغيره. و في الصحيح أن هذه الحالة أشدّ حالات الوحي عليه(3). و قيل: إنّه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد و تهديد.
الثانية: أن ينفث في روعه الكلام نفثا، كما قال صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّ روح القدس نفث في روعي». أخرجه الحاكم(4). و هذا قد يرجع إلى الحالة الأولى أو التي بعدها، بأن يأتيه في إحدى الكيفيتين و ينفث في روعه.
الثالثة: أن يأتيه في صورة الرّجل فيكلّمه، كما في الصحيح: «و أحيانا يتمثّل لي الملك
ص: 168
رجلا، فيكلّمني فأعي ما يقول»(1). زاد أبو عوانة في صحيحه: «و هو أهونه عليّ».
الرابعة: أن يأتيه الملك في النّوم، و عدّ من هذا قوم سورة الكوثر، و قد تقدّم ما فيه.
الخامسة: أن يكلّمه اللّه إمّا في اليقظة كما في ليلة الإسراء، أو في النوم، كما في حديث معاذ: «أتاني ربّي فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى..» الحديث(2). و ليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم؛ نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة لما تقدّم و بعض سورة الضحى، و أ لم نشرح؛ فقد أخرج ابن أبي حاتم من حديث عديّ بن ثابت، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم:
«سألت ربي مسألة؛ وددت أنّي لم أكن سألته، قلت: أيّ ربّ، اتّخذت إبراهيم خليلا، و كلّمت موسى تكليما؟ فقال: يا محمد، أ لم أجدك يتيما فآويت، و ضالا فهديت، و عائلا فأغنيت، و شرحت لك صدرك، و حططت عنك وزرك، و رفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلاّ ذكرت معي!»(3).
فائدة: أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبيّ، قال:ه.
ص: 169
أنزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم النبوّة و هو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلّمه الكلمة و الشيء، و لم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوّته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة(1).
قال ابن عساكر: و الحكمة في توكيل إسرافيل أنّه الموكّل بالصّور الذي فيه هلاك الخلق و قيام الساعة، و نبوّته صلّى اللّه عليه و سلّم مؤذنة بقرب الساعة و انقطاع الوحي، كما وكّل بذي القرنين ريافيل الذي يطوي الأرض، و بخالد بن سنان مالك خازن النار.
و أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن سابط، قال: «في أم الكتاب كلّ شيء هو كائن إلى يوم القيامة، فوكّل ثلاثة بحفظه إلى يوم القيامة من الملائكة، فوكّل جبريل: بالكتب و الوحي إلى الأنبياء، و بالنّصر عند الحروب، و بالمهلكات إذا أراد اللّه أن يهلك قوما، و وكّل ميكائيل بالقطر و النّبات، و وكّل ملك الموت بقبض الأنفس؛ فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم و بين ما كان في أمّ الكتاب فيجدونه سواء».
و أخرج. أيضا. عن عطاء بن السائب، قال: أوّل ما يحاسب جبريل؛ لأنّه كان أمين اللّه على رسله.
فائدة ثانية: أخرج الحاكم، و البيهقيّ، عن زيد بن ثابت: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أنزل القرآن بالتفخيم كهيئته: عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) [المرسلات: 6]. و اَلصَّدَفَيْنِ [الكهف: 96].
و أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ [الأعراف: 54] و أشباه هذا(2).ا.
ص: 170
قلت: أخرجه ابن الأنباري في كتاب «الوقف و الابتداء»، فبيّن أنّ المرفوع منه: «أنزل القرآن بالتفخيم»(1) فقط، و أنّ الباقي مدرج من كلام عمّار بن عبد الملك، أحد رواة الحديث.
فائدة أخرى: أخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان الثوريّ، قال: لم ينزل وحي إلاّ بالعربية، ثم ترجم كلّ نبيّ لقومه.
فائدة أخرى: أخرج ابن سعد، عن عائشة، قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا نزل عليه الوحي يغطّ في رأسه، و يتربّد وجهه، أي: يتغير لونه بالجريدة و يجد بردا في ثناياه، و يعرق حتّى يتحدّر منه مثل الجمان(2).5.
ص: 171
[نزول القرآن على الأحرف السبعة]
المسألة الثالثة: في الأحرف السبعة التي نزل القرآن عليها:(1)
قلت: ورد حديث «نزل القرآن على سبعة أحرف» من رواية جمع من الصحابة: أبيّ بن كعب، و أنس، و حذيفة بن اليمان، و زيد بن أرقم، و سمرة بن جندب، و سليمان بن صرد، و ابن عباس، و ابن مسعود، و عبد الرحمن بن عوف، و عثمان بن عفان، و عمر بن الخطاب، و عمر بن أبي سلمة، و عمرو بن العاص، و معاذ بن جبل، و هشام بن حكيم، و أبي بكرة، و أبي جهم، و أبي سعيد الخدريّ، و أبي طلحة الأنصاريّ، و أبي هريرة، و أبي أيوب. فهؤلاء أحد و عشرون صحابيا، و قد نص أبو عبيد على تواتره(2).
و أخرج أبو يعلى في مسنده: أنّ عثمان قال على المنبر: أذكّر اللّه رجلا، سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلّها شاف كاف» لمّا قام، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: و أنا أشهد معهم.
و سأسوق من رواتهم ما يحتاج إليه، فأقول: اختلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولا:
أحدها: أنّه من المشكل الذي لا يدرى معناه؛ لأنّ الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء، و على الكلمة، و على المعنى، و على الجهة. قاله ابن سعدان النحويّ (3).
الثاني: أنّه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير و التسهيل و السّعة، و لفظ السبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات و السبعمائة في المئين، و لا يراد العدد المعيّن. و إلى هذا جنح عياض و من تبعه.
و يردّه ما في حديث ابن عباس في الصحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أقرأني جبريل
ص: 172
على حرف، فراجعته فلم أزل أستزيده و يزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»(1).
و في حديث أبيّ عند مسلم: «إنّ ربي أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هوّن على أمتي، فأرسل إليّ: أن اقرأ على حرفين، فرددت إليه: أن هوّن على أمتي:
فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف»(2).
و في لفظ عنه عند النسائي: «إنّ جبريل و ميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني و ميكائيل عن يساري؛ فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده... حتى بلغ سبعة أحرف»(3).
و في حديث أبي بكرة عنه: «اقرأه، فنظرت إلى ميكائيل، فسكت. فعلمت أنّه قد انتهت العدّة»(4).
فهذا يدلّ على إرادة حقيقة العدد و انحصاره.
الثالث: أنّ المراد بها سبع قراءات، و تعقّب: بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلاّ القليل، مثل: وَ عَبَدَ الطّاغُوتَ [المائدة: 60]. فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء:
23].
الرابع: و أجيب بأنّ المراد أن كلّ كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، و يشكل على هذا أنّ في الكلمات ما قرئ على أكثر، و هذا يصلح أن يكون قولا رابعا.
الخامس: أنّ المراد بها الأوجه التي يقع فيها التغاير، ذكره ابن قتيبة(5) قال: -
ص: 173
فأولها: ما يتغيّر حركته و لا يزول معناه و صورته، مثل: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ [البقرة:
282] بالفتح و الرفع.
و ثانيها: ما يتغيّر بالفعل، مثل: (باعد) و باعِدْ [سبأ: 19] بلفظ الماضي و الطلب.
و ثالثها: ما يتغيّر بالنقط، مثل نُنْشِزُها [البقرة: 259] و (ننشرها).
و رابعها: ما يتغيّر بإبدال حرف قريب المخرج، مثل وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [الواقعة: 29] و (طلع).
و خامسها: ما يتغيّر بالتقديم و التأخير، مثل: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] و (سكرة الحقّ بالموت).
و سادسها: ما يتغيّر بزيادة أو نقصان، مثل وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) [الليل: 3] و اَلذَّكَرَ وَ الْأُنْثى .
و سابعها: ما يتغيّر بإبدال كلمة بأخرى، مثل كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] و (كالصوف المنفوش).
و تعقّب هذا قاسم بن ثابت، بأنّ الرّخصة وقعت، و أكثرهم يومئذ لا يكتب و لا يعرف الرسم، و إنما كانوا يعرفون الحروف و مخارجها.
و الجيب: بأنه لا يلزم من ذلك توهين ما قاله ابن قتيبة؛ لاحتمال أن يكون الانحصار المذكور في ذلك وقع اتّفاقا، و إنما اطلع عليه بالاستقراء.
[السادس]: و قال أبو الفضل الرازيّ في اللوائح(1): الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف:
الأوّل: اختلاف الأسماء من إفراد و تثنية و جمع، و تذكير و تأنيث.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض و مضارع و أمر.
الثالث: وجوه الإعراب.
الرابع: النقص و الزيادة.
الخامس: التقديم و التأخير.
السادس: الإبدال.
السابع: اختلاف اللغات كالفتح و الإمالة، و الترقيق و التفخيم، و الإدغام و الإظهار و نحو ذلك.0.
ص: 174
و هذا هو القول السادس.
[السابع]: و قال بعضهم: المراد بها كيفيّة النطق بالتلاوة من إدغام و إظهار، و تفخيم و ترقيق، و إمالة و إشباع، و مدّ و قصر، و تشديد و تخفيف، و تليين.
و هذا هو القول السابع.
[الثامن]: و قال ابن الجزريّ (1): قد تتبّعت صحيح القراءة و شاذّها و ضعيفها و منكرها، فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه، لا يخرج عنها. و ذلك:
إما في الحركات بلا تغيّر في المعنى و الصورة: نحو: بِالْبُخْلِ [النساء: 37] بأربعة و يحسب بوجهين.
أو متغيّر في المعنى فقط: نحو: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37].
و إمّا في الحروف بتغيّر المعنى لا الصورة: نحو تَبْلُوا [يونس: 30] و (تتلو).
أو عكس ذلك: نحو: اَلصِّراطَ [الفاتحة: 6] و (السراط).
أو بتغيّرهما: نحو وَ امْضُوا [الحجر: 65] (و اسعوا) و إمّا في التقديم و التأخير: نحو فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ [التوبة: 111].
أو في الزيادة و النقصان: نحو وَصّى [الشورى: 13] و (أوصى).
فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها.
قال: و أمّا نحو اختلاف الإظهار و الإدغام و الرّوم و الإشمام و التّحقيق و التسهيل و النّقل و الإبدال، فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوّع فيه اللفظ أو المعنى؛ لأنّ هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا. انتهى.
و هذا هو القول الثامن.
و من أمثلة التقديم و التأخير: قراءة الجمهور: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ [غافر: 35]. و قرأ ابن مسعود: (على قلب كلّ متكبر)(2).
التاسع: أنّ المراد سبعة أوجه من المعاني المتّفقة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل و تعال، و هلمّ و عجّل، و أسرع.4.
ص: 175
و إلى هذا ذهب سفيان بن عيينة(1)، و ابن جرير، و ابن وهب، و خلائق(2). و نسبه ابن عبد البرّ لأكثر العلماء(3).
و يدلّ له: ما أخرجه أحمد و الطّبرانيّ، من حديث أبي بكرة: «أنّ جبريل قال: يا محمد اقرأ القرآن على حرف، قال ميكائيل: استزده... حتى بلغ سبعة أحرف، قال: كلّ شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال، و أقبل و هلمّ و اذهب و أسرع و عجّل»(4). هذا اللفظ رواية أحمد، و إسناده جيد(5).
و أخرج أحمد و الطّبرانيّ. أيضا. عن ابن مسعود نحوه(6).
و عند أبي داود، عن أبيّ: «قلت: سميعا عليما عزيزا حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب»(7).
و عند أحمد، من حديث أبي هريرة: «أنزل القرآن على سبعة أحرف. عليما حكيما غفورا رحيما»(8).ت.
ص: 176
و عنده. أيضا. من حديث عمر: «أن القرآن كلّه صواب، ما لم تجعل مغفرة عذابا أو عذابا مغفرة» أسانيدها جياد(1).
قال ابن عبد البرّ(2): إنّما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها: أنها معان متّفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى و ضدّه، و لا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه و يضادّه، كالرحمة التي هي خلاف العذاب و ضدّه.
ثم أسند(3) عن أبيّ بن كعب أنّه كان يقرأ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ [البقرة: 20]:
(مرّوا فيه)، (سعوا فيه).
و كان ابن مسعود يقرأ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا [الحديد: 13]: (أمهلونا أخّرونا)(4).
قال الطحاويّ (5): و إنّما كان ذلك رخصة، لمّا كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد، لعدم علمهم بالكتابة و الضبط و إتقان الحفظ، ثم نسخ بزوال العذر و تيسّر الكتابة و الحفظ.
و كذا قال ابن عبر البر(6) و الباقلاني و آخرون.
و في فضائل أبي عبيد(7) من طريق عون بن عبد اللّه: أنّ ابن مسعود أقرأ رجلا: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) [الدخان: 44.43] فقال الرجل: طعام اليتيم، فردّها فلم يستقم بها لسانه.
فقال: أ تستطيع أن تقول: طعام الفاجر؟ قال: نعم. قال: فافعل.
العاشر: إنّ المراد سبع لغات: و إلى هذا ذهب أبو عبيد(8)، و ثعلب الأزهريّ و آخرون، و اختاره ابن عطيّة(9)، و صححه البيهقيّ في الشّعب(10).2.
ص: 177
و تعقّب: بأنّ لغات العرب أكثر من سبعة.
و أجيب: بأنّ المراد أفصحها، فجاء عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن على سبع لغات؛ منها خمس بلغة العجز من هوازن(1).
قال(2): و العجز: سعد بن بكر، و جشم بن بكر، و نصر بن معاوية، و ثقيف؛ و هؤلاء كلّهم من هوازن. و يقال لهم: عليا هوازن.
و لهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب: عليا هوازن، و سفلى تميم، يعني: بني دارم.
و أخرج أبو عبيد(3) من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبيّين:
كعب قريش و كعب خزاعة.
قيل: و كيف ذاك؟ قال: لأنّ الدار واحدة.
يعني(4): أنّ خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم.
و قال أبو حاتم السجستاني(5): نزل بلغة قريش و هذيل و تميم و الأزد و ربيعة و هوازن و سعد بن بكر. و استنكر ذلك ابن قتيبة(6)، و قال: لم ينزل القرآن إلاّ بلغة قريش. و احتج بقوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]. فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش. و بذلك جزم أبو عليّ الأهوازيّ.
و قال أبو عبيد(7): ليس المراد أنّ كلّ كلمة تقرأ على سبع لغات، بل اللغات السبع مفرّقة فيه، فبعضه بلغة قريش، و بعضه بلغة هذيل، و بعضه بلغة هوازن، و بعضه بلغة اليمن و غيرهم. قال: و بعض اللغات أسعد به من بعض، و أكثر نصيبا.
و قيل: نزل بلغة مضر خاصّة، لقول عمر: نزل القرآن بلغة مضر. و عيّن بعضهم. فيما حكاه ابن عبد البر(8). السبع من مضر أنّهم: هذيل، و كنانة، و قيس، و ضبّة، و تيم الرباب،1.
ص: 178
و أسد بن خزيمة، و قريش؛ فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات.
و نقل أبو شامة(1) عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أوّلا بلسان قريش و من جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ و الإعراب. و لم يكلّف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقّة، و لما كان فيهم من الحميّة، و لطلب تسهيل فهم المراد.
و زاد غيره: أنّ الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهّي، بأن يغيّر كلّ أحد الكلمة بمرادفها في لغته، بل المرعيّ في ذلك السماع من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
و استشكل بعضهم هذا: بأنه يلزم عليه أنّ جبريل كان يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات.
و أجيب: بأنّه إنّما يلزم هذا لو اجتمعت الأحرف السبعة في لفظ واحد، و نحن قلنا:
كان جبريل يأتي في كل عرضة بحرف، إلى أن تمت سبعة. و بعد هذا كلّه ردّ هذا القول بأنّ عمر بن الخطاب و هشام بن حكيم(2)، كلاهما قرشيّ من لغة واحدة و قبيلة واحدة، و قد اختلفت قراءتهما، و محال أن ينكر عليه عمر لغته، فدلّ على أنّ المراد بالأحرف السبعة غير اللّغات.
القول الحادي عشر: أنّ المراد سبعة أصناف.
و الأحاديث السابقة تردّه، و القائلون به اختلفوا في تعيين السّبعة، فقيل: أمر و نهي، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال(3).
و احتجّوا بما أخرجه الحاكم و البيهقيّ: عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر و آمر، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال...» الحديث(4).4.
ص: 179
و قد أجاب عنه قوم: بأنه ليس المراد بالأحرف السبعة الّتي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى؛ لأنّ سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أنّ المراد أنّ الكلمة تقرأ على وجهين و ثلاثة إلى سبعة؛ تيسيرا و تهوينا، و الشيء الواحد لا يكون حلالا و حراما في آية واحدة.
قال البيهقي(1): المراد بالسبعة الأحرف هنا الأنواع التي نزل عليها، و المراد بها في تلك الأحاديث اللغات التي يقرأ بها.
و قال غيره: من أوّل الأحرف السبعة بهذا، فهو فاسد؛ لأنّه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه، أو حلالا لا ما سواه، و لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله أو حرام كله، أو أمثال كله.
و قال ابن عطية(2): هذا القول ضعيف؛ لأنّ الإجماع على أنّ التوسعة لم تقع في تحريم حلال، و لا تحليل حرام، و لا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
و قال الماروديّ (3): هذا القول خطأ، لأنّه صلّى اللّه عليه و سلّم أشار إلى جواز القراءة بكلّ واحد من الحروف و إبدال حرف بحرف، و قد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام.
و قال أبو عليّ الأهوازيّ و أبو العلاء الهمذانيّ (4): قوله في الحديث: «زاجر و آمر» إلخ... استئناف كلام آخر، أي: هو زاجر، أي: القرآن، و لم يرد به تفسير الأحرف السبعة، و إنما توهم ذلك من جهة الاتفاق في العدد. و يؤيده: أنّ في بعض طرقه: «زجرا و أمرا...» بالنصب، أي: نزل على هذه الصفة في الأبواب السبعة.
و قال أبو شامة(5): يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف، أي: هي سبعة أبواب من أبواب الكلام و أقسامه، أي: أنزله اللّه على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.9.
ص: 180
[الثاني عشر]: و قيل: المراد بها المطلق و المقيّد، و العامّ و الخاصّ، و النّصّ و المؤوّل، و الناسخ و المنسوخ، و المجمل و المفسّر، و الاستثناء و أقسامه. حكاه شيذلة عن الفقهاء.
و هذا هو القول الثاني عشر.
[الثالث عشر]: و قيل: المراد بها الحذف و الصّلة، و التقديم و التأخير، و الاستعارة، و التكرار، و الكناية و الحقيقة و المجاز، و المجمل و المفسّر، و الظاهر و الغريب. حكاه عن أهل اللغة.
و هذا هو القول الثالث عشر.
[الرابع عشر]: و قيل: المراد بها التذكير و التأنيث، و الشّرط و الجزاء، و التصريف و الإعراب، و الأقسام و جوابها، و الجمع و الإفراد، و التصغير و التعظيم، و اختلاف الأدوات.
حكاه عن النحاة.
و هذا هو الرابع عشر.
[الخامس عشر]: و قيل: المراد بها سبعة أنواع من المعاملات: الزهد و القناعة مع اليقين و الجزم، و الخدمة مع الحياء و الكرم، و الفتوة مع الفقر و المجاهدة، و المراقبة مع الخوف و الرجاء، و التّضرّع و الاستغفار مع الرضا و الشكر، و الصبر مع المحاسبة و المحبّة، و الشوق مع المشاهدة. حكاه عن الصوفيّة.
و هذا هو الخامس عشر.
القول السادس عشر: إنّ المراد بها سبعة علوم: علم الإنشاء و الإيجاد، و علم التوحيد و التنزيه، و علم صفات الذّات، و علم صفات الفعل، و علم العفو و العذاب، و علم الحشر و الحساب، و علم النبوّات.
و قال ابن حجر(1): ذكر القرطبي(2) عن ابن حبّان: أنه بلغ الاختلاف في الأحرف السبعة إلى خمسة و ثلاثين قولا، و لم يذكر القرطبيّ منها سوى خمسة، و لم أقف على كلام ابن حبّان في هذا، بعد تتبّعي مظانّه.
قلت: قد حكاه ابن النّقيب في مقدّمة تفسيره عنه بواسطة الشرف المزنيّ المرسيّ، فقال: قال ابن حبّان: اختلف أهل العلم في معنى الأحرف السبعة على خمسة و ثلاثين قولا.
فمنهم من قال: هي زجر و أمر، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال.
الثاني: حلال و حرام، و أمر و نهي و زجر، و خبر ما هو كائن بعد، و أمثال.3.
ص: 181
الثالث: وعد و وعيد، و حلال و حرام، و مواعظ و أمثال، و احتجاج.
الرابع: أمر و نهي، و بشارة و نذارة، و أخبار، و أمثال.
الخامس: محكم و متشابه، و ناسخ و منسوخ، و خصوص و عموم، و قصص.
السادس: أمر و زجر، و ترغيب و ترهيب، و جدل و قصص، و مثل.
السابع: أمر و نهي، و حدّ و علم، و سرّ، و ظهر و بطن.
الثامن: ناسخ و منسوخ، و وعد و وعيد، و رغم و تأديب، و إنذار.
التاسع: حلال و حرام، و افتتاح و أخبار، و فضائل، و عقوبات.
العاشر: أوامر و زواجر، و أمثال و أنباء، و عتب و وعظ، و قصص.
الحادي عشر: حلال و حرام، و أمثال، و منصوص، و قصص، و إباحات.
الثاني عشر: ظهر و بطن، و فرض و ندب، و خصوص و عموم، و أمثال.
الثالث عشر: أمر و نهي، و وعد و وعيد، و إباحة، و إرشاد، و اعتبار.
الرابع عشر: مقدّم و مؤخّر، و فرائض و حدود، و مواعظ، و متشابه، و أمثال.
الخامس عشر: مفسّر و مجمل، و مقتضى و ندب و حتم، و أمثال.
السادس عشر: أمر حتم، و أمر ندب، و نهي حتم، و نهي ندب، و أخبار، و إباحات.
السابع عشر: أمر فرض، و نهي حتم، و أمر ندب، و نهي مرشد، و وعد، و وعيد، و قصص.
الثامن عشر: سبع جهات لا يتعدّاها الكلام: لفظ خاصّ أريد به الخاصّ، و لفظ عام أريد به العامّ، و لفظ عامّ أريد به الخاصّ، و لفظ خاص أريد به العامّ، و لفظ يستغنى بتنزيله عن تأويله، و لفظ لا يعلم فقهه إلاّ العلماء، و لفظ لا يعلم معناه إلاّ الراسخون.
التاسع عشر: إظهار الرّبوبيّة، و إثبات الوحدانية، و تعظيم الألوهيّة، و التعبّد للّه، و مجانبة الإشراك، و الترغيب في الثواب، و الترهيب من العقاب.
العشرون: سبع لغات، منها خمس من هوازن، و اثنتان لسائر العرب.
الحادي و العشرون: سبع لغات متفرّقة لجميع العرب، كلّ حرف منها لقبيلة مشهورة.
الثاني و العشرون: سبع لغات، أربع لعجز هوازن: سعد بن بكر، و جشم بن بكر، و نصر ابن معاوية، و ثلاث لقريش.
الثالث و العشرون: سبع لغات: لغة قريش، و لغة لليمن، و لغة لجرهم، و لغة لهوازن، و لغة لقضاعة، و لغة لتميم، و لغة لطيّئ.
الرابع و العشرون: لغة الكعبيين: كعب بن عمرو، و كعب بن لؤيّ، و لهما سبع لغات.
ص: 182
الخامس و العشرون: اللغات المختلفة لأحياء العرب في معنى واحد، مثل: هلمّ، و هات، و تعال، و أقبل.
السادس و العشرون: سبع قراءات لسبعة من الصحابة: أبي بكر، و عمر، و عثمان، و عليّ، و ابن مسعود، و ابن عباس، و أبيّ بن كعب. رضي اللّه عنهم..
السابع و العشرون: همز، و إمالة، و فتح، و كسر، و تفخيم، و مدّ، و قصر.
الثامن و العشرون: تصريف، و مصادر، و عروض، و غريب، و سجع، و لغات مختلفة كلّها في شيء واحد.
التاسع و العشرون: كلمة واحدة تعرب بسبعة أوجه، حتى يكون المعنى واحدا، و إن اختلف اللفظ فيه.
الثلاثون: أمّهات الهجاء: الألف، و الباء، و الجيم، و الدال، و الراء، و السين، و العين؛ لأنّ عليها تدور جوامع كلام العرب.
الحادي و الثلاثون: أنّها في أسماء الربّ، مثل: الغفور الرحيم، السميع البصير، العليم الحكيم.
الثاني و الثلاثون: هي آية في صفات الذات، و آية تفسيرها في آية أخرى، و آية بيانها في السنّة الصحيحة، و آية في قصّة الأنبياء و الرّسل، و آية في خلق الأشياء، و آية في وصف الجنّة، و آية في وصف النار.
الثالث و الثلاثون: آية في وصف الصانع، و آية في إثبات الوحدانيّة له، و آية في إثبات صفاته، و آية في إثبات رسله، و آية في إثبات كتبه، و آية في إثبات الإسلام، و آية في نفي الكفر.
الرابع و الثلاثون: سبع جهات من صفات الذات للّه التي لا يقع عليها التكييف.
الخامس و الثلاثون: الإيمان باللّه، و مباينة الشّرك، و إثبات الأوامر، و مجانبة الزّواجر، و الثبات على الإيمان، و تحريم ما حرم اللّه، و طاعة رسوله.
قال ابن حبّان: فهذه خمسة و ثلاثون قولا لأهل العلم و اللغة في معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف، و هي أقاويل يشبه بعضها بعضا، و كلها محتملة، و تحتمل غيرها.
و قال المرسي: هذه الوجوه أكثرها متداخلة، و لا أدري مستندها و لا عمّن نقلت، و لا أدري لم خصّ كلّ واحد منهم هذه الأحرف السبعة بما ذكر، مع أنّ كلّها موجودة في القرآن، فلا أدري معنى التخصيص، و فيها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة، و أكثرها يعارضه حديث عمر مع هشام بن حكيم الّذي في الصحيح(1)، فإنّهما لم يختلفا في تفسيره و لا أحكامه، إنما اختلفا في قراءة حروفه، و قد ظنّ كثير من العوام أنّ المراد بها القراءات السبع، و هو جهل قبيح.ا.
ص: 183
تنبيه: اختلف: هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة؟ فذهب جماعات من الفقهاء و القراء و المتكلّمين إلى ذلك، و بنوا عليه أنّه لا يجوز على الأمّة أن تهمل نقل شيء منها، و قد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر، و أجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
و ذهب جماهير العلماء من السلف و الخلف و أئمة المسلمين، إلى أنها مشتملة على ما يحتمل رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على جبريل، متضمّنة لها، لم تترك حرفا منها.
قال ابن الجزريّ (1): و هذا هو الذي يظهر صوابه.
و يجاب عن الأول بما ذكره ابن جرير(2): أنّ القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمّة، و إنما كان جائزا لهم و مرخّصا لهم فيه، فلما رأى الصحابة أنّ الأمّة تفترق و تختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد، اجتمعوا على ذلك اجتماعا شائعا، و هم معصومون من الضلالة، و لم يكن في ذلك ترك واجب و لا فعل حرام، و لا شك أنّ القرآن نسخ منه في العرضة الأخيرة و غيّر، فاتفق الصحابة على أن كتبوا ما تحقّقوا أنه قرآن مستقرّ في العرضة الأخيرة، و تركوا ما سوى ذلك.
أخرج ابن أشتة في «المصاحف»، و ابن أبي شيبة في فضائله، من طريق ابن سيرين، عن عبيدة السّلمانيّ، قال: القراءة التي عرضت على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرؤها النّاس اليوم.
و أخرج ابن أشتة، عن ابن سيرين قال: كان جبريل يعارض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كلّ سنة في شهر
ص: 184
رمضان مرة، فلمّا كان العام الذي قبض فيه عارضه مرّتين. فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة.
و قال البغويّ في شرح السنة: يقال: إنّ زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نسخ و ما بقي، و كتبها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قرأها عليه، و كان يقرئ الناس بها حتى مات؛ و لذلك اعتمده أبو بكر و عمر في جمعه، و ولاّه عثمان كتب المصاحف(1).9.
ص: 185
النوع السابع عشر في معرفة أسمائه و أسماء سوره(1)
قال الجاحظ: سمّى اللّه كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم على الجملة و التفصيل. سمّى جملته: قرآنا، كما سمّوا: ديوانا، و بعضه سورة كقصيدة، و بعضها آية كالبيت، و آخرها فاصلة كقافية.
و قال أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيذلة. بضم عين عزيزي. في كتاب البرهان: اعلم أنّ اللّه سمّى القرآن بخمسة و خمسين اسما:
سماه كتابا و مبينا: في قوله: حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الدخان: 2.1].
و قرآنا و كريما: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) [الواقعة: 77].
و كلاما: حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ [التوبة: 6].
و نورا: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء: 174].
و هدى و رحمة: وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57].
و فرقانا: نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان: 1].
و شفاء: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [الإسراء: 82].
و موعظة: قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: 57].
و ذكرا و مباركا: وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: 50].
و عليّا: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ [الزخرف: 4].
و حكمة: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [القمر: 5].
و حكيما: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1].
و مهيمنا: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48].
ص: 186
و حبلا: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ [آل عمران: 103].
و صراطا مستقيما: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام: 153].
و قيّما: قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2].
و قولا و فضلا: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) [الطارق: 13].
و نبأ عظيما: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) [النبأ: 2.1].
و أحسن الحديث، و متشابها، و مثاني: اَللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23].
و تنزيلا: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) [الشعراء: 192].
و روحا: أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52].
و وحيا: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45].
و عربيا: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2].
و بصائر: هذا بَصائِرُ [الأعراف: 203].
و بيانا: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ [آل عمران: 138].
و علما: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 145].
و حقا: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62].
و هديا: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [الإسراء: 9].
و عجبا: قُرْآناً عَجَباً [الجن: 1].
و تذكرة: وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ [الحاقة: 48].
و العروة الوثقى: اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة: 256].
و صدقا: وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر: 33].
و عدلا: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً [الأنعام: 115].
و أمرا: ذلِكَ أَمْرُ اللّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5].
و مناديا: سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران: 193].
و بشرى: هُدىً وَ بُشْرى [النمل: 3].
و مجيدا: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) [البروج: 21].
ص: 187
و زبورا: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء: 105].
و بشيرا و نذيرا: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً [فصلت: 4.3].
و عزيزا: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41].
و بلاغا: هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ [إبراهيم: 52].
و قصصا: أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3].
و سماه أربعة أسماء في آية واحدة: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) [عبس: 13.
14] انتهى.
فأما تسميته كتابا: فلجمعه أنواع العلوم و القصص و الأخبار على أبلغ وجه، و الكتاب لغة الجمع.
و المبين: لأنه أبان، أي: أظهر الحقّ من الباطل.
و أما القرآن: فاختلف فيه: فقال جماعة: هو اسم علم غير مشتقّ، خاص بكلام اللّه.
فهو غير مهموز، و به قرأ ابن كثير، و هو مرويّ عن الشافعيّ، أخرج البيهقيّ و الخطيب و غيرهما عنه: أنه كان يهمز قرأت، و لا يهمز القرآن و يقول: القران اسم و ليس بمهموز و لم يؤخذ من قرأت و لكنه اسم لكتاب اللّه، مثل التوراة و الإنجيل.
و قال قوم، منهم الأشعريّ: هو مشتقّ من قرنت الشيء بالشيء، إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، و سمّي به، لقران السور و الآيات و الحروف فيه.
و قال الفرّاء: هو مشتقّ من القرائن؛ لأنّ الآيات منه يصدّق بعضها بعضا، و يشابه بعضها بعضا و هي قرائن.
و على القولين هو بلا همز أيضا، و نونه أصلية.
و قال الزجاج: هذا القول سهو، و الصحيح: أنّ ترك الهمزة فيه من باب التخفيف و نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.
و اختلف القائلون بأنه مهموز: فقال قوم منهم اللّحيانيّ: هو مصدر لقرأت، كالرجحان و الغفران، سمّي به الكتاب المقروء، من باب تسمية المفعول بالمصدر.
و قال آخرون منهم الزّجاج: هو وصف على فعلان، مشتق من القرء بمعنى الجمع، و منه: قرأت الماء في الحوض، أي جمعته.
قال أبو عبيدة(1): و سمّي بذلك، لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.2.
ص: 188
و قال الراغب(1): لا يقال لكلّ جمع: قرآن، و لا لجمع كلّ كلام: قرآن. قال: و إنّما سمي قرآنا؛ لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزّلة. و قيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها.
و حكى قطرب قولا: إنّه إنّما سمّي قرآنا لأنّ القارئ يظهره و يبيّنه من فيه، أخذا من قول العرب: ما قرأت النّاقة سلا قطّ، أي: ما رمت بولد، أي: ما أسقطت ولدا، أي: ما حملت قطّ، و القرآن يلفظه القارئ من فيه و يلقيه، فسمّي قرآنا.
قلت: و المختار عندي في هذه المسألة ما نصّ عليه الشافعي(2).
و أما الكلام: فمشتق من الكلم بمعنى التأثير؛ لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم تكن عنده.
و أمّا النور: فلأنّه يدرك به غوامض الحلال و الحرام.
و أما الهدى: فلأنّ فيه الدلالة على الحقّ، و هو من باب إطلاق المصدر على الفاعل مبالغة.
و أمّا الفرقان: فلأنه فرّق بين الحق و الباطل، وجّهه بذلك مجاهد، كما أخرجه ابن أبي حاتم(3).
و أمّا الشّفاء: فلأنه يشفي من الأمراض القلبيّة: كالكفر و الجهل الغلّ، و البدنية أيضا.
و أمّا الذّكر: فلما فيه من المواعظ و أخبار الأمم الماضية، و الذّكر أيضا الشرف، قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] أي: شرف، لأنه بلغتهم.
و أمّا الحكمة: فلأنه نزل على قانون المعتبر من وضع كلّ شيء في محلّه، أو لأنّه مشتمل على الحكمة.
و أما الحكيم: فلأنّه أحكمت آياته بعجيب النظم و بديع المعاني، و أحكمت عن تطرّق التبديل و التحريف و الاختلاف و التباين.
و أمّا المهيمن: فلأنّه شاهد على جميع الكتب و الأمم السالفة.
و أمّا الحبل: فلأنّه من تمسك به وصل إلى الجنّة أو الهدى. و الحبل: السبب.
و أما الصراط المستقيم: فلأنّه طريق إلى الجنّة، قويم لا عوج فيه.
و أما المثاني: فلأنّ فيه بيان قصص الأمم الماضية، فهو ثان لما تقدمه.1.
ص: 189
و قيل: لتكرر القصص و المواعظ فيه.
و قيل: لأنه نزل مرّة بالمعنى و مرّة باللفظ و المعنى كقوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) [الأعلى: 18]، حكاه الكرمانيّ في عجائبه.
و أمّا المتشابه: فلأنّه يشبه بعضه بعضا في الحسن و الصدق.
و أما الرّوح: فلأنّه تحيا به القلوب و الأنفس.
و أما المجيد: فلشرفه.
و أما العزيز: فلأنّه يعزّ على من يروم معارضته.
و أما البلاغ: فلأنّه أبلغ به الناس ما أمروا به و نهوا عنه، أو: لأنّ فيه بلاغة و كفاية عن غيره.
قال السّلفيّ في بعض أجزائه: سمعت أبا الكرم النحويّ يقول: سمعت أبا القاسم التنوخيّ، يقول: سمعت أبا الحسن الرّمانيّ سئل: كلّ كتاب له ترجمة، فما ترجمة كتاب اللّه؟ فقال: هذا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم: 52].
و ذكر أبو شامة(1) و غيره في قوله تعالى: وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى [طه: 131] أنه القرآن.
فائدة: حكى المظفّري في تاريخه قال: لمّا جمع أبو بكر القرآن قال: سمّوه. فقال بعضهم: سمّوه إنجيلا، فكرهوه، و قال بعضهم: سمّوه سفرا، فكرهوه من يهود. فقال ابن مسعود: رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف، فسمّوه به.
قلت: أخرج ابن أشتة في كتاب «المصاحف» من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: لمّا جمعوا القرآن فكتبوه في الورق، قال أبو بكر: التمسوا له اسما، فقال بعضهم:
السّفر، و قال بعضهم: المصحف؛ فإنّ الحبشة يسمّونه المصحف. و كان أبو بكر أوّل من جمع كتاب اللّه و سمّاه المصحف. ثمّ أورده من طريق آخر عن ابن بريدة، و سيأتي في النوع الذي يلي هذا.
فائدة ثانية: أخرج ابن الضّريس و غيره، عن كعب، قال: في التوراة: «يا محمد، إني.
ص: 190
منزّل عليك توراة حديثة تفتح أعينا عميا، و آذانا صما، و قلوبا غلفا»(1).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: لمّا أخذ موسى الألواح قال: يا ربّ، إني أجد في الألواح أمّة، أناجيهم في قلوبهم، فاجعلهم أمّتي. قال: تلك أمّة أحمد(2).
ففي هذين الأثرين تسميه القرآن توراة و إنجيلا، و مع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك، و هذا كما سمّيت التوراة فرقانا في قوله: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ [البقرة:
53]، و سمّى صلّى اللّه عليه و سلّم الزّبور قرآنا في قوله: «خفّف على داود القرآن»(3).
قال القتبيّ: السورة تهمز و لا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، أي: أفضلت، من السؤر، و هو: ما بقي من الشراب في الإناء، كأنّها قطعة من القرآن، و من لم يهمزها جعلها من المعنى المتقدّم و سهّل همزها.
و منهم من يشبّهها بسور البناء: أي: القطعة منه، أي: منزلة بعد منزلة.
و قيل: من سور المدينة، لإحاطتها بآياتها و اجتماعها، كاجتماع البيوت بالبيوت، و منه السّوار لإحاطته بالساعد.
و قيل: لارتفاعها؛ لأنّها كلام اللّه، و السورة المنزلة الرفيعة(4)، قال النابغة:
أ لم تر أنّ اللّه أعطاك سورة ترى كلّ ملك حولها يتذبذب(5)
و قيل: لتركيب بعضها على بعض، من التسوّر بمعنى التصاعد و التركب، و منه: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص: 21].
ص: 191
و قال الجعبريّ: حدّ السّورة قرآن يشتمل على آية، ذي فاتحة و خاتمة، و أقلّها ثلاث آيات.
و قال غيره: السّورة الطائفة المترجمة توقيفا، أي المسمّاة باسم خاصّ بتوقيف من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قد ثبت أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث و الآثار، و لو لا خشية الإطالة لبيّنت ذلك.
و مما يدلّ لذلك: ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: كان المشركون يقولون:
سورة البقرة و سورة العنكبوت، يستهزءون بها، فنزل: إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) [الحجر:
95](1).
و قد كره بعضهم أن يقال: سورة كذا، لما رواه الطّبرانيّ و البيهقيّ عن أنس مرفوعا: «لا تقولوا سورة البقرة، و لا سورة آل عمران، و لا سورة النساء، و كذا القرآن كلّه، و لكن قولوا:
السّورة التي تذكر فيها البقرة، و التي يذكر فيها آل عمران، و كذا القرآن كلّه»(2). و إسناده ضعيف، بل ادّعى ابن الجوزيّ أنّه موضوع.
و قال البيهقيّ (3): إنّما يعرف موقوفا على ابن عمر، ثم أخرجه عنه بسند صحيح(4)، و قد صحّ إطلاق سورة البقرة و غيرها عنه صلّى اللّه عليه و سلّم، و في الصحيح: عن ابن مسعود أنه قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة(5). و من ثمّ لم يكرهه الجمهور.2.
ص: 192
قد يكون للسورة اسم واحد، و هو كثير. و قد يكون لها اسمان فأكثر، من ذلك:
الفاتحة: و قد وقفت لها على نيّف و عشرين اسما، و ذلك يدلّ على شرفها، فإنّ كثرة الأسماء دالّة على شرف المسمّى(1).
أحدها: فاتحة الكتاب: أخرج ابن جرير، من طريق ابن أبي ذئب، عن المقبريّ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «هي أمّ القرآن، و هي فاتحة الكتاب، و هي السبع المثاني»(2).
و سمّيت بذلك: لأنّه يفتتح بها في المصاحف، و في التعليم، و في القراءة في الصلاة.
و قيل: لأنّها أوّل سورة نزلت.
و قيل: لأنها أوّل سورة كتبت في اللوح المحفوظ. حكاه المرسي، و قال: إنّه يحتاج إلى نقل.
و قيل: لأنّ الحمد فاتحة كلّ كلام.
و قيل: لأنّها فاتحة كلّ كتاب. حكاه المرسيّ. و ردّ: بأنّ الذي افتتح به كلّ كتاب هو الحمد فقط لا جميع السورة، و بأنّ الظاهر: أنّ المراد بالكتاب القرآن، لا جنس الكتاب.
قال: لأنّه قد روي من أسمائها فاتحة القرآن، فيكون المراد بالكتاب و القرآن واحدا.
ثانيها: فاتحة القرآن: كما أشار إليه المرسيّ.
و ثالثها، و رابعها: أمّ الكتاب و أمّ القرآن: و قد كره ابن سيرين أن تسمّى أمّ الكتاب، و كره الحسن أن تسمّى أمّ القرآن، و وافقهما بقيّ بن مخلد؛ لأنّ أمّ الكتاب هو اللوح المحفوظ، قال تعالى: وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39]. وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ [الزخرف: 4] و آيات الحلال و الحرام، قال تعالى: آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ [آل عمران: 7]. قال المرسيّ:
و قد روي حديث لا يصحّ: «لا يقولنّ أحدكم أمّ الكتاب، و ليقل فاتحة الكتاب»(3).
قلت: هذا لا أصل له في شيء من كتب الحديث، و إنما أخرجه ابن الضّريس بهذا
ص: 193
اللفظ عن ابن سيرين، فالتبس على المرسي، و قد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك، فأخرج الدار قطني و صححه من حديث أبي هريرة مرفوعا: «إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم اللّه الرحمن الرحيم؛ إنّها أمّ القرآن و أمّ الكتاب و السبع المثاني»(1).
و اختلف: لم سمّيت بذلك؟ فقيل: لأنها يبدأ بكتابتها في المصاحف و بقراءتها في الصلاة قبل السورة، قاله أبو عبيدة في مجازه(2)، و جزم به البخاريّ في صحيحه(3).
و استشكل بأنّ ذلك يناسب تسميتها فاتحة الكتاب، لا أمّ الكتاب. و أجيب: بأنّ ذلك بالنظر إلى أن الأمّ مبتدأ الولد.
قال الماوردي(4): سمّيت بذلك لتقدّمها و تأخّر ما سواها تبعا لها؛ لأنّها أمّته، أي:
تقدّمته؛ و لهذا يقال لراية الحرب: أمّ، لتقدّمها و اتّباع الجيش لها. و يقال لما مضى من سني الإنسان: أمّ، لتقدّمها، و لمكة: أم القرى، لتقدّمها على سائر القرى.
و قيل: أمّ الشيء: أصله، و هي: أصل القرآن؛ لانطوائها على جميع أغراض القرآن و ما فيه من العلوم و الحكم، كما سيأتي تقريره في النوع الثالث و السبعين.
و قيل: سمّيت بذلك لأنّها أفضل السور، كما يقال لرئيس القوم: أمّ القوم.
و قيل: لأنّ حرمتها كحرمة القرآن كلّه.
و قيل: لأنّ مفزع أهل الإيمان إليها. كما يقال للراية أمّ؛ لأنّ مفزع العسكر إليها.
و قيل: لأنّها محكمة، و المحكمات أمّ الكتاب.
خامسها: القرآن العظيم: روى أحمد، عن أبي هريرة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لأمّ القرآن:
«هي أم القرآن، و هي السبع المثاني، و هي القرآن العظيم»(5) و سمّيت بذلك لاشتمالها على المعاني التي في القرآن.
سادسها: السبع المثاني: ورد تسميتها بذلك في الحديث المذكور، و أحاديث كثيرة.
أما تسميتها سبعا؛ فلأنها سبع آيات. أخرج الدارقطنيّ ذلك عن عليّ (6).2.
ص: 194
و قيل: فيها سبعة آداب، في كلّ آية أدب، و فيه بعد.
و قيل: لأنها خلت من سبعة أحرف: الثاء، و الجيم، و الخاء، و الزاي، و الشّين، و الظاء، و الفاء. قال المرسيّ: و هذا أضعف مما قبله؛ لأنّ الشيء إنما يسمّى بشيء وجد فيه لا بشيء فقد منه.
و أمّا المثاني: فيحتمل أن يكون مشتقا من الثناء، لما فيها من الثّناء على اللّه تعالى.
و يحتمل أن يكون من الثّنيا؛ لأنّ اللّه استثناها لهذه الأمّة.
و يحتمل أن يكون من التثنية:
قيل: لأنها تثنّى في كلّ ركعة.
و يقوّيه ما أخرجه ابن جرير. بسند حسن. عن عمر، قال: السبع المثاني: فاتحة الكتاب، تثنّى في كلّ ركعة(1).
و قيل: لأنها تثنّى بسورة أخرى.
و قيل: لأنها نزلت مرتين.
و قيل: لأنها على قسمين: ثناء و دعاء.
و قيل: لأنها كلّما قرأ العبد منها آية ثناه اللّه بالإخبار عن فعله، كما في الحديث(2).
و قيل: لأنها اجتمع فيها فصاحة المثاني و بلاغة المعاني. و قيل غير ذلك.
سابعها: الوافية: كان سفيان بن عيينة يسمّيها به؛ لأنها وافية بما في القرآن من المعاني، قاله في الكشاف(3).
و قال الثّعلبيّ: لأنها لا تقبل التّنصيف، فإنّ كلّ سورة من القرآن لو قرئ نصفها في كلّ ركعة و النصف الثاني في أخرى لجاز، بخلافها.
و قال المرسيّ: لأنها جمعت بين ما للّه و بين ما للعبد.
ثامنها: الكنز: لما تقدّم في أمّ القرآن. قاله في الكشاف(4)، و ورد تسميتها بذلك في حديث أنس السابق في النوع الرابع عشر(5).ه.
ص: 195
تاسعها: الكافية: لأنها تكفي في الصلاة عن غيرها، و لا يكفي عنها غيرها.
عاشرها: الأساس: لأنها أصل القرآن و أول سورة فيه.
حادي عشرها: النور.
ثاني عشرها، و ثالث عشرها: سورة الحمد، و سورة الشكر.
رابع عشرها، و خامس عشرها: سورة الحمد الأولى، و سورة الحمد القصرى.
سادس عشرها: و سابع عشرها، و ثامن عشرها: الرّقية، و الشفّاء و الشافية: للأحاديث الآتية في نوع الخواصّ (1).
تاسع عشرها: سورة الصلاة: لتوقّف الصلاة عليها.
[العشرون]: و قيل: إنّ من أسمائها الصلاة أيضا، لحديث: «قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين»(2) أي: السورة. قال المرسيّ: لأنها من لوازمها؛ فهو من باب تسمية الشيء باسم لازمه، و هذا الاسم العشرون.
الحادي و العشرون: سورة الدعاء: لاشتمالها عليه في قوله: اِهْدِنَا .
الثاني و العشرون: سورة السؤال: لذلك. ذكره الإمام فخر الدين.
الثالث و العشرون: سورة تعليم المسألة: قال المرسيّ: لأنّ فيها آداب السؤال، لأنها بدئت بالثناء قبله.
الرابع و العشرون: سورة المناجاة: لأنّ العبد يناجي فيها ربّه بقوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
الخامس و العشرون: سورة التفويض: لاشتمالها عليه في قوله: إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
فهذا ما وقفت عليه من أسمائها، و لم تجتمع في كتاب قبل هذا.
و من ذلك:
سورة البقرة: كان خالد بن معدان يسمّيها فسطاط القرآن، و ورد في حديث مرفوع في «مسند الفردوس» و ذلك لعظمها، و لما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها، و في حديث المستدرك تسميتها: «سنام القرآن»(3)، و سنام كلّ شيء أعلاه.2.
ص: 196
و آل عمران: روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي عطّاف، قال: اسم آل عمران في التوراة: طيبة(1).
و في صحيح مسلم: تسميتها و البقرة الزّهراوين(2).
و المائدة: تسمى. أيضا: العقود، و المنقذة.
قال ابن الفرس: لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب.
و الأنفال: أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر(3).
و براءة تسمى. أيضا. التوبة، لقوله فيها: لَقَدْ تابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة: 117] الآية.
و الفاضحة: أخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: التوبة، بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل: و منهم، و منهم... حتى ظننا ألاّ يبقى أحد منا إلاّ ذكر فيها(4).
و أخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، قال: قال عمر: ما فرغ من تنزيل براءة، حتى ظنّنا أنّه لا يبقى منا أحد إلاّ سينزل فيه(5).3.
ص: 197
و كانت تسمى الفاضحة، و سورة العذاب. أخرج الحاكم في المستدرك، عن حذيفة، قال: الّتي يسمّون سورة العذاب(1).
و أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: كان عمر بن الخطاب إذا ذكر له سورة براءة فقيل: سورة التوبة.
قال: هي إلى العذاب أقرب، ما كادت تقلع عن الناس، حتى ما كادت تبقي منهم أحدا(2).
و المقشقشة: أخرج أبو الشيخ، عن زيد بن أسلم: أنّ رجلا قال لابن عمر: سورة التوبة؟ فقال: و أيّتهنّ سورة التوبة؟ فقال: براءة، فقال: و هل فعل بالنّاس الأفاعيل إلاّ هي؟! ما كنّا ندعوها إلاّ المقشقشة.
أي: المبرئة من النفاق(3).
و المنقّرة: أخرج أبو الشيخ، عن عبيد بن عمير، قال: كانت تسمّى براءة المنقّرة، نقّرت عما في قلوب المشركين(4).
و البحوث: بفتح الباء: أخرج الحاكم، عن المقداد، أنّه قيل له: لو قعدت العام عن الغزو؟! قال: أتت علينا البحوث يعني براءة... الحديث(5).
و الحافرة: ذكره ابن الفرس؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين.
و المثيرة: أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمّى الفاضحة، فاضحة المنافقين، و كان يقال لها: المثيرة، أنبأت بمثالبهم و عوراتهم.
و حكى ابن الفرس من أسمائها المبعثرة، و أظنّه تصحيف المنقّرة، فإن صحّ كملت الأسماء عشرة. ثم رأيته كذلك. أعني المبعثرة. بخطّ السخاوي في «جمال القرّاء»، و قال:
لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين.
و ذكر فيه. أيضا. من أسمائها: المخزية، و المنكّلة، و المشردة، و المدمدة.ي.
ص: 198
(النحل): قال قتادة: تسمّى سورة النّعم، أخرجه ابن أبي حاتم.
قال: ابن الفرس: لما عدّد اللّه فيها من النّعم على عباده(1).
(الإسراء): تسمى أيضا سورة (سبحان)، و سورة بني إسرائيل(2).
(الكهف): و يقال لها: سورة أصحاب الكهف، كذا في حديث أخرجه ابن مردويه(3).
و روى البيهقيّ من حديث ابن عباس مرفوعا: أنها تدعى في التوراة الحائلة، تحول بين قارئها و بين النار. و قال: إنه منكر(4).
(طه): تسمّى أيضا سورة الكليم، ذكره السّخاويّ في جمال القرّاء(5).
(الشعراء): وقع في تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة(6).
(النمل): تسمى أيضا سورة سليمان(7).
(السجدة): تسمى. أيضا. المضاجع(8).
(فاطر): تسمّى سورة الملائكة(9).
(يس): سمّاها صلّى اللّه عليه و سلّم قلب القرآن: أخرجه الترمذيّ من حديث أنس(10).
و أخرج البيهقيّ، من حديث أبي بكر مرفوعا: «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة، تعمّ.
ص: 199
بخيري الدنيا و الآخرة، و تدعى: الدافعة و القاضية، تدفع عن صاحبها كلّ سوء و تقضي له كلّ حاجة»(1). و قال: إنّه حديث منكر.
(الزمر): تسمّى سورة الغرف(2).
(غافر): تسمّى سورة الطّول، و المؤمن(3)، لقوله تعالى فيها: وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ [غافر: 28].
(فصلت): تسمّى السجدة، و سورة المصابيح(4).
(الجاثية): تسمّى الشريعة، و سورة الدهر، حكاه الكرماني في العجائب(5).
(محمد): تسمّى القتال(6).
(ق): تسمّى سورة الباسقات(7).
(اقتربت): تسمى القمر، و أخرج البيهقيّ، عن ابن عباس: أنها تدعى في التوراة المبيّضة، تبيّض وجه صاحبها يوم تسوّد الوجوه(8). و قال: إنه منكر.
(الرحمن): سمّيت في حديث: عروس القرآن، أخرجه البيهقيّ عن علي مرفوعا(9).
(المجادلة): سمّيت في مصحف أبيّ: الظهار(10).3.
ص: 200
(الحشر): أخرج البخاريّ، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: قل: سورة بني النّضير(1).
قال ابن حجر(2): كأنّه كره تسميتها بالحشر؛ لئلا يظنّ أنّ المراد يوم القيامة، و إنما المراد به هنا إخراج بني النّضير.
(الممتحنة): قال ابن حجر(3): المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء، و قد تكسر، فعلى الأول: هو صفة المرأة التي نزلت السورة بسببها، و على الثاني: هي صفة السّورة، كما قيل لبراءة: الفاضحة(4).
و في جمال القراء: تسمّى أيضا سورة الامتحان، و سورة المودّة.
(الصفّ): تسمّى أيضا سورة الحواريين.
(الطلاق): تسمّى سورة النساء القصرى، كذا سماها ابن مسعود، أخرجه البخاريّ و غيره(5).
و قد أنكره الداوديّ، فقال: لا أرى قوله: (القصرى) محفوظا، و لا يقال في سورة من القرآن: قصرى و لا صغرى.
قال ابن حجر(6): و هو ردّ للأخبار الثابتة بلا مستند، و القصر و الطّول أمر نسبيّ. و قد أخرج البخاريّ عن زيد بن ثابت أنه قال: (طولى الطوليين)(7). و أراد بذلك سورة الأعراف.
(التحريم): يقال لها سورة: المتحرّم، و سورة: لِمَ تُحَرِّمُ (8).
(تبارك): تسمّى سورة الملك. و أخرج الحاكم و غيره، عن ابن مسعود، قال: هي في التوراة: سورة الملك، و هي: المانعة تمنع من عذاب القبر(9).جة
ص: 201
و أخرج التّرمذيّ من حديث ابن عبّاس مرفوعا: «هي المانعة، هي المنجية: تنجيه من عذاب القبر»(1).
و في مسند عبد بن حميد من حديث ابن عباس مرفوعا: «إنّها المنجية و المجادلة، تجادل يوم القيامة عند ربّها لقارئها»(2).
و في تاريخ ابن عساكر، من حديث أنس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سمّاها المنجية.
و أخرج الطّبراني، عن ابن مسعود، قال: كنّا نسميها في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم المانعة(3).
و في جمال القراء: تسمّى. أيضا.: الواقية و المنّاعة.
(سأل): تسمّى المعارج و الواقع(4).
(عمّ): يقال لها: النّبأ، و التساؤل، و المعصرات(5).
(لم يكن): تسمّى سورة أهل الكتاب، و كذلك سمّيت في مصحف أبيّ، و سورة البيّنة، و سورة القيامة، و سورة البريّة، و سورة الانفكاك(6) و ذكر ذلك في جمال القراء.
(أ رأيت): تسمّى سورة الدّين، و سورة الماعون(7).5.
ص: 202
(الكافرون): تسمى المقشقشة، أخرجه ابن أبي حاتم، عن زرارة بن أوفى(1) قال في جمال القراء: و تسمّى أيضا سورة العبادة.
قال: و (سورة النصر): تسمى سورة التوديع(2)، لما فيها من الإيماء إلى وفاته صلّى اللّه عليه و سلّم(3).
قال: و (سورة تبّت): تسمّى سورة المسد(4).
و (سورة الإخلاص): تسمّى الأساس، لاشتمالها على توحيد اللّه، و هو أساس الدين(5).
قال: و الفلق، و الناس): يقال لهما المعوّذتان، بكسر الواو، و المشقشقتان، من قولهم:
خطيب مشقشق(6).
تنبيه: قال الزركشيّ في البرهان(7): ينبغي البحث عن تعداد الأسامي، هل هو توقيفيّ، أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني: فلم يعدم الفطن أن يستخرج من كلّ سورة معاني كثيرة، تقتضي اشتقاق أسماء لها، و هو بعيد.
قال: و ينبغي النظر في اختصاص كلّ سورة بما سميت به، و لا شكّ أنّ العرب تراعي في كثير من المسمّيات أخذ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء، من خلق أو صفة تخصّه، أو يكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق، لإدراك الرائي للمسمّى. و يسمّون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، و على ذلك جرت أسماء سور القرآن، كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة قصّة البقرة المذكورة فيها و عجيب الحكمة فيها، و سمّيت سورة النّساء بهذا الاسم لما تردّد فيها شيء كثير من أحكام النساء، و تسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها، و إن كان قد ورد لفظ (الأنعام) في غيرها، إلاّ أنّ التفصيل الوارد في قوله تعالى: وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً إلى قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الأنعام:
144.142]؛ لم يرد في غيرها. كما ورد ذكر النساء في سور، إلاّ أن ما تكرّر و بسط من أحكامهنّ لم يرد في غير سورة النساء، و كذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها، فسمّيت بما يخصّها.2.
ص: 203
قال: فإن قيل: قد ورد في سورة (هود) ذكر نوح و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى، فلم خصّت باسم هود وحده مع أنّ قصة نوح فيها أوعب و أطول؟ قيل: تكرّرت هذه القصص في سورة الأعراف و سورة هود و الشعراء بأوعب ممّا وردت في غيرها، و لم يتكرّر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود كتكرّره في سورته، فإنّه تكرّر فيها في أربعة مواضع، و التّكرار من أقوى الأسباب التي ذكرنا.
قال: فإن قيل: فقد تكرّر اسم نوح فيها في ستة مواضع؟ قيل: لمّا أفردت لذكر نوح و قصته مع قومه سورة برأسها، فلم يقع فيها غير ذلك، كانت أولى بأن تسمّى باسمه من سورة تضمّنت قصته و قصة غيره. انتهى.
قلت: و لك أن تسأل فتقول: قد سمّيت سور جرت فيها قصص أنبياء بأسمائهم، كسورة نوح، و سورة هود، و سورة إبراهيم، و سورة يونس، و سورة آل عمران، و سورة طس سليمان، و سورة يوسف، و سورة محمد، و سورة مريم، و سورة لقمان، و سورة المؤمن. و قصة أقوام كذلك، كسورة بني إسرائيل، و سورة أصحاب الكهف، و سورة الحجر، و سورة سبأ، و سورة الملائكة، و سورة الجن، و سورة المنافقين، و سورة المطفّفين، و مع هذا كلّه لم يفرد لموسى سورة تسمّى به مع كثرة ذكره في القرآن، حتى قال بعضهم: كاد القرآن أن يكون كلّه موسى، و كان أولى سورة أن تسمى به سورة طه أو القصص أو الأعراف، لبسط قصته في الثلاثة ما لم يبسط في غيرها.
و كذلك قصة آدم، ذكرت في عدّة سور، و لم تسمّ به سورة، كأنّه اكتفاء بسورة الإنسان.
و كذلك قصة الذّبيح من بدائع القصص، و لم تسمّ به سورة الصافات، و قصة داود ذكرت في (ص) و لم تسمّ به، فانظر في حكمة ذلك.
على أنّي رأيت بعد ذلك في «جمال القراء» للسخاويّ: أنّ سورة (طه) تسمى سورة الكليم، و سمّاها الهذلي في [كامله] سورة موسى، و أنّ سورة (ص) تسمّى سورة داود. و رأيت في كلام الجعبريّ أنّ سورة (الصافات) تسمّى سورة الذبيح. و ذلك يحتاج إلى مستند من الأثر.
و كما سمّيت السورة الواحدة بأسماء، سميت سور باسم واحد، كالسور المسمّاة ب (الم) أو (الر)، على القول بأنّ فواتح السور أسماء لها.
فائدة في إعراب أسماء السور:
قال أبو حيان في «شرح التسهيل»:
ما سمّي منها بجملة تحكى: نحو قُلْ أُوحِيَ [الجن: 1]، و أَتى أَمْرُ اللّهِ [النحل:
ص: 204
1]، أو بفعل لا ضمير فيه أعرب إعراب ما لا ينصرف، إلاّ ما في أوله همزة وصل، فتقطع ألفه و تقلب تاؤه هاء في الوقف، و يكتب بهاء على صورة الوقف، فتقول: قرأت (اقتربة) و في الوقف (اقتربه).
أما الإعراب: فلأنها صارت أسماء، و الأسماء معربة إلاّ لموجب بناء.
و أمّا قطع همزة الوصل: فلأنّها لا تكون في الأسماء إلاّ في ألفاظ محفوظة لا يقاس عليها.
و أمّا قلب تائها هاء؛ فلأنّ ذلك حكم تاء التأنيث الّتي في الأسماء.
و أمّا كتبها هاء: فلأن الخط تابع للوقف غالبا.
و ما سمّي منها باسم:
فإن كان من حروف الهجاء. و هو حرف واحد. و أضيفت إليه سورة، فعند ابن عصفور أنه موقوف لا إعراب فيه، و عند الشّلوبين يجوز فيه وجهان: الوقف و الإعراب:
أما الأوّل. و يعبّر عنه بالحكاية.، فلأنها حروف مقطعة تحكى كما هي.
و أما الثاني فعلى جعله اسما لحروف الهجاء، و على هذا يجوز صرفه بناء على تذكير الحرف و منعه بناء على تأنيثه. و إن لم تضف إليه سورة لا لفظا و لا تقديرا فلك الوقف و الإعراب مصروفا و ممنوعا.
و إن كان أكثر من حرف: فإن وازن الأسماء الأعجمية. ك (طس) (حم). و أضيفت إليه سورة أم لا، فلك الحكاية و الإعراب ممنوعا، لموازنة قابيل و هابيل، و إن لم يوازن فإن أمكن فيه التركيب كطاسين ميم، و أضيفت إليه سورة، فلك الحكاية و الإعراب، إمّا مركبا مفتوح النون كحضرموت، أو معرب النون مضافا لما بعده مصروفا و ممنوعا على اعتقاد التذكير و التأنيث. و إن لم تضف إليه سورة، فالوقف على الحكاية. و البناء كخمسة عشر، و الإعراب ممنوعا. و إن لم يمكن التركيب فالوقف ليس إلاّ، أضيفت إليه سورة أم لا، نحو كهيعص و حم عسق. و لا يجوز إعرابه؛ لأنه لا نظير له في الأسماء المعربة، و لا تركيبه مزجا؛ لأنه لا يركب، كذلك أسماء كثيرة و جوّز يونس إعرابه ممنوعا.
و ما سمّي منها باسم غير حرف هجاء: فإن كان فيه اللام انجرّ، نحو الأنفال و الأعراف و الأنعام، و إلاّ منع الصرف إن لم يضف إليه سورة، نحو هذه هود و نوح، و قرأت هود و نوح، و إن أضفت بقي على ما كان عليه قبل، فإن كان فيه ما يوجب المنع منع، نحو قرأت سورة يونس، و إلاّ صرف نحو سورة نوح و سورة هود. انتهى ملخصا.
ص: 205
أخرج أحمد و غيره من حديث واثلة بن الأسقع: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «أعطيت مكان التوراة السّبع الطّول، و أعطيت مكان الزبور المئين، و أعطيت مكان الإنجيل المثاني، و فضّلت بالمفصّل»(1).
و سيأتي مزيد كلام في النوع الذي يلي هذا إن شاء اللّه تعالى.
و في «جمال القرّاء»: قال بعض السلف: في القرآن ميادين، و بساتين، و مقاصير، و عرائس، و ديابيج، و رياض:
فميادينه: ما افتتح ب (الم).
و بساتينه: ما افتتح ب (الر).
و مقاصيره: الحامدات.
و عرائسه: المسبّحات.
و ديابيجه: آل عمران.
و رياضه: المفصّل.
و قالوا: الطواسيم، و الطواسين، و آل حم، و الحواميم.
قلت: و أخرج الحاكم، عن ابن مسعود، قال: الحواميم ديباج القرآن(2).
قال السخاوي: و قوارع القرآن الآيات التي يتعوّذ بها و يتحصّن، سميت بذلك لأنها تقرع الشيطان و تدفعه و تقمعه، كآية الكرسي و المعوذتين و نحوها.
قلت: و في مسند أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا: «آية العزّ اَلْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء: 111](3).
ص: 206
النوع الثامن عشر في جمعه و ترتيبه(1)
قال الدّيرعاقوليّ عاقوليّ في فوائده: حدّثنا إبراهيم بن بشار، حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يكن القرآن جمع في شيء(2).
قال الخطابيّ (3): إنما لم يجمع صلّى اللّه عليه و سلّم القرآن في المصحف؛ لما كان يترقّبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلمّا انقضى نزوله بوفاته ألهم اللّه الخلفاء الراشدين ذلك، و فاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمّة، فكان ابتداء ذلك على يد الصدّيق بمشورة عمر.
و أمّا ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تكتبوا عنّي شيئا غير القرآن...» الحديث(4)، فلا ينافي ذلك؛ لأنّ الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة، و قد كان القرآن كتب كلّه في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لكن غير مجموع في موضع واحد و لا مرتّب السّور.
و قال الحاكم في المستدرك(5) جمع القرآن ثلاث مرات:
إحداها: بحضرة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال:
كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع... الحديث(6).
ص: 207
قال البيهقي(1): يشبه أن يكون أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرّقة في سورها، و جمعها فيها بإشارة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم الثانية: بحضرة أبي بكر، روى البخاريّ في صحيحه عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إليّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني، فقال:
إنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن، و إنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، و إنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ قال عمر: هو و اللّه خير، فلم يزل يراجعني حتّى شرح اللّه صدري لذلك، و رأيت في ذلك الّذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنّك شابّ عاقل، لا نتّهمك، و قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتتبّع القرآن فاجمعه.
فو اللّه لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟! قال: هو و اللّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللّه صدري للذي شرح به صدر أبي بكر و عمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب و اللّخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 129.128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه اللّه، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر(2)و أخرج ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن، عن عبد خير قال: سمعت عليّا يقول:
أعظم النّاس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة اللّه على أبي بكر، هو أوّل من جمع كتاب اللّه(3).5.
ص: 208
لكن أخرج. أيضا. من طريق ابن سيرين، قال: قال عليّ: لما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، آليت ألاّ آخذ عليّ ردائي إلاّ لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن. فجمعه(1).
قال ابن حجر(2): هذا الأثر ضعيف لانقطاعه، و بتقدير صحته، فمراده بجمعه حفظه في صدره. و ما تقدّم من رواية عبد خير عنه أصحّ، فهو المعتمد.
قلت: قد ورد من طريق آخر أخرجه ابن الضّريس في فضائله: حدّثنا بشر بن موسى، حدّثنا هوذة بن خليفة، حدّثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة، قال: لمّا كان بعد بيعة أبي بكر، قعد عليّ بن أبي طالب في بيته، فقيل لأبي بكر: قد كره بيعتك، فأرسل إليه، فقال: أكرهت بيعتي؟ قال: لا و اللّه، قال: ما أقعدك عنّي؟ قال: رأيت كتاب اللّه يزاد فيه، فحدّثت نفسي ألاّ ألبس ردائي إلاّ لصلاة حتى أجمعه. قال له أبو بكر: فإنّك نعم ما رأيت(3).
قال محمد: فقلت لعكرمة: ألّفوه كما أنزل، الأوّل فالأوّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس و الجنّ على أن يؤلّفوه ذلك التأليف ما استطاعوا(4).
و أخرجه ابن أشتة في المصاحف من وجه آخر عن ابن سيرين، و فيه: أنه كتب في مصحفه الناسخ و المنسوخ، و أنّ ابن سيرين قال: فطلبت ذلك الكتاب، و كتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه.
و أخرج ابن أبي داود من طريق الحسن: أنّ عمر سأل عن آية من كتاب اللّه فقيل: كانت مع فلان، قتل يوم اليمامة. فقال: إنا للّه. و أمر بجمع القرآن، فكان أوّل من جمعه في المصحف. إسناده منقطع.
و المراد بقوله: فكان أوّل من جمعه، أي: أشار بجمعه.
قلت: و من غريب ما ورد في أوّل من جمعه، ما أخرجه ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس، عن ابن بريدة، قال: أوّل من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه، فجمعه، ثم ائتمروا: ما يسمّونه؟ فقال بعضهم:
سمّوه السّفر، قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمّى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسمّوه المصحف. إسناده منقطع أيضا، و هو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر.
و أخرج ابن أبي داود، من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قدم عمر،6.
ص: 209
فقال: من كان تلقّى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم شيئا من القرآن فليأت به.
و كانوا يكتبون ذلك في المصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان(1).
و هذا يدلّ على أن زيدا كان لا يكتفي لمجرّد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقّاه سماعا، مع كون زيد كان يحفظ، فكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط.
و أخرج ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة، عن أبيه: أنّ أبا بكر قال لعمر و لزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب اللّه فاكتباه(2).
رجاله ثقات مع انقطاعه.
قال ابن حجر(3): و كأنّ المراد بالشاهدين الحفظ و الكتاب.
و قال السخاويّ في جمال القراء: المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو المراد أنّهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن(4).
قال أبو شامة(5): و كان غرضهم ألاّ يكتب إلاّ من عين ما كتب بين يدي النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، لا من مجرّد الحفظ.
قال: و لذلك قال في آخر سورة التوبة: لم أجدها مع غيره. أي لم أجدها مكتوبة مع غيره، لأنّه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة.
قلت: أو المراد أنهما يشهدان على أنّ ذلك ممّا عرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عام وفاته، كما يؤخذ مما تقدّم آخر النوع السادس عشر.
و قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن اللّيث بن سعد، قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلاّ بشاهدي عدل، و أنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة ابن ثابت، فقال: اكتبوها فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب. و إنّ عمر أتى بآية الرّجم، فلم يكتبها، لأنه كان وحده(6).
و قال الحارث المحاسبيّ في كتاب فهم السنن(7): كتابة القرآن ليست بمحدثة، فإنّه صلّى اللّه عليه و سلّم1.
ص: 210
كان يأمر بكتابته، و لكنه كان مفرّقا في الرقاع و الأكتاف و العسب، فإنّما أمر الصّدّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعا، و كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، و ربطها بخيط، حتى لا يضيع منها شيء.
قال: فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع و صدور الرجال؟ قيل: لأنّهم كانوا يبدون عن تأليف معجز، و نظم معروف، قد شاهدوا تلاوته من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عشرين سنة، فكان تزوير ما ليس منه مأمونا، و إنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحفه.
و قد تقدّم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب و اللّخاف، و في رواية: الرقاع، و في أخرى: و قطع الأديم، و في أخرى: و الأكتاف، و في أخرى: و الأضلاع، و في أخرى:
و الأفتاب(1).
فالعسب: جمع عسيب و هو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص و يكتبون في الطرف العريض.
و اللّخاف: بكسر اللام و بخاء معجمة خفيفة، آخره فاء: جمع لخفة. فتح اللام و سكون الخاء. و هي الحجارة الدقاق، و قال الخطابي: صفائح الحجارة.
و الرّقاع: جمع رقعة، و قد تكون من جلد أو رق أو كاغد.
و الأكتاف: جمع كتف، و هو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جفّ كتبوا عليه.
و الأقتاب: جمع قتب، هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه.
و في موطّأ ابن وهب: عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، قال:
جمع أبو بكر القرآن في قراطيس، و كان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى، حتى استعان بعمر، ففعل.
و في مغازي موسى بن عقبة: عن ابن شهاب قال: لمّا أصيب المسلمون باليمامة، فزع أبو بكر، و خاف أن يذهب من القرآن طائفة، فأقبل النّاس بما كان معهم و عندهم، حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق، فكان أبو بكر أوّل من جمع القرآن في الصحف(2).
قال ابن حجر(3): و وقع في رواية عمارة بن غزيّة: أنّ زيد بن ثابت قال: فأمرني أبو بكر فكتبته في قطع الأديم و العسب، فلما هلك أبو بكر و كان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة، فكانت عنده.9.
ص: 211
قال: و الأوّل أصحّ؛ إنما كان في الأديم و العسب أولا، قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة.
قال الحاكم(1): و الجمع الثالث هو ترتيب السور في زمن عثمان.
روى البخاريّ عن أنس: أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و أذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان:
أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، و أرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، و أمر بما سواه من القرآن في كلّ صحيفة و مصحف أن يحرق. قال زيد: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول اللّه يقرأ بها. فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف(2).
قال ابن حجر(3): و كان ذلك في سنة خمس و عشرين. قال: و غفل بعض من أدركناه فزعم أنه كان في حدود سنة ثلاثين، و لم يذكر له مستندا، انتهى.
و أخرج ابن أشتة، من طريق أيوب، عن أبي قلابة، قال: حدّثني رجل من بني عامر، يقال له: أنس بن مالك، قال: اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلّمون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: عندي تكذبون به و تلحنون فيه! فمن نأى عنّي كان أشدّ تكذيبا، و أكثر لحنا. يا أصحاب محمد، اجتمعوا فاكتبوا للنّاس إماما. فاجتمعوا فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا و تدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فلانا، فيرسل إليه و هو على رأس ثلاث من المدينة.
فيقال له: كيف أقرأك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم آية كذا و كذا؟9.
ص: 212
فيقول: كذا و كذا، فيكتبونها، و قد تركوا لذلك مكانا(1).
و أخرج ابن أبي داود، من طريق محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لمّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار، فبعثوا إلى الرّبعة الّتي في بيت عمر، فجيء بها، و كان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخّروه.
قال محمد: فظننت أنّما كانوا يؤخّرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونه على قوله(2).
و أخرج ابن أبي داود بسند صحيح، عن سويد بن غفلة، قال: قال عليّ: لا تقولوا في عثمان إلاّ خيرا، فو اللّه ما فعل في المصاحف إلاّ عن ملأ منّا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أنّ بعضهم يقول: إنّ قراءتي خير من قراءتك، و هذا يكاد يكون كفرا؟ قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة و لا اختلاف.
قلنا: نعم ما رأيت(3).
قال ابن التين و غيره: الفرق بين جمع أبي بكر و جمع عثمان(4).
أنّ جمع أبي بكر: كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
و جمع عثمان: كان لمّا كثر الاختلاف في وجوه القراءة، حتى قرءوه بلغاتهم على اتّساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتّبا لسوره، و اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجّا بأنّه نزل بلغتهم، و إن كان قد وسّع قراءته بلغة غيرهم، رفعا للحرج و المشقة في ابتداء الأمر، فرأى أنّ الحاجة إلى ذلك قد انتهت، فاقتصر على لغة واحدة.
و قال القاضي أبو بكر في الانتصار: لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، و إنّما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و إلغاء ما ليس كذلك، و أخذهم بمصحف لا تقديم فيه و لا تأخير، و لا تأويل أثبت مع تنزيل، و لا منسوخ1.
ص: 213
تلاوته كتب مع مثبت رسمه و مفروض قراءته و حفظه، خشية دخول الفساد و الشبهة على من يأتي بعد.
و قال الحارث المحاسبي(1): المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان، و ليس كذلك، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن، فأمّا السابق إلى الجمع من الجملة فهو الصدّيق، و قد قال عليّ: لو ولّيت لعملت بالمصاحف عمل عثمان بها. انتهى.
فائدة: اختلف في عدّة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق: فالمشهور أنّها خمسة.
و أخرج ابن أبي داود، من طريق حمزة الزّيات، قال: أرسل عثمان أربعة مصاحف. قال ابن أبي داود: و سمعت أبا حاتم السّجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف، فأرسل إلى مكة، و إلى الشام، و إلى اليمن، و إلى البحرين، و إلى البصرة، و إلى الكوفة، و حبس بالمدينة واحدا(2).
* فصل ترتيب الآيات توقيفي(3)
الإجماع و النصوص المترادفة على أنّ ترتيب الآيات توقيفيّ، لا شبهة في ذلك.
أما الإجماع: فنقله غير واحد، منهم الزركشي في البرهان(4)، و أبو جعفر بن الزبير في مناسباته و عبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلّى اللّه عليه و سلّم و أمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين. انتهى.
و سيأتي من نصوص العلماء ما يدل عليه.
و أمّا النصوص: فمنها حديث زيد السابق: كنا عند النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم نؤلف القرآن من الرّقاع(5).
ص: 214
و منها: ما أخرجه أحمد، و أبو داود، و التّرمذي، و النّسائي، و ابن حبّان، و الحاكم، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين، فقرنتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * و وضعتموها في السّبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم تنزل عليه السّور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السّورة التي يذكر فيها كذا و كذا. و كانت الأنفال من أوائل ما نزل في المدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا، و كانت قصّتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لم يبيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * و وضعتها في السبع الطّوال(1).
و منها: ما أخرجه أحمد بإسناد حسن، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، إذ شخص ببصره ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النحل: 90] إلى آخرها»(2).
و منها: ما أخرجه البخاريّ، عن ابن الزّبير، قال: قلت لعثمان: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً [البقرة: 240] قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها و لم تدعها؟ قال:
يا ابن أخي، لا أغيّر شيئا منه من مكانه(3).
و منها: ما رواه مسلم، عن عمر، قال: ما سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عن شيء أكثر مما سألته عن).
ص: 215
الكلالة، حتى طعن بإصبعه في صدري و قال: «تكفيك آية الصّيف الّتي في آخر سورة النساء»(1).
و منها: الأحاديث في خواتيم سورة البقرة(2).
و منها: ما رواه مسلم، عن أبي الدرداء، مرفوعا: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدّجال».
و في لفظ عنده: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف»(3).
و من النصوص الدّالة على ذلك إجمالا: ما ثبت من قراءته صلّى اللّه عليه و سلّم لسور عديدة:
كسورة البقرة و آل عمران و النّساء في حديث حذيفة(4).
و الأعراف. في صحيح البخاري. أنه قرأها في المغرب(5).
قَدْ أَفْلَحَ روى النسائيّ أنه قرأها في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى و هارون أخذته سعلة فركع(6). -
ص: 216
و الرّوم: روى الطّبراني أنّه قرأها في الصبح(1).
و الم (1) تَنْزِيلُ و هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ روى الشيخان: أنّه كان يقرؤهما في صبح الجمعة(2).
و ق في صحيح مسلم: أنه كان يقرؤها في الخطبة(3).
و اَلرَّحْمنُ في المستدرك و غيره: أنه قرأها على الجنّ (4).ب.
ص: 217
وَ النَّجْمِ في الصحيح: قرأها بمكة على الكفار و سجد في آخرها(1).
و اِقْتَرَبَتِ عند مسلم أنّه كان يقرؤها مع ق في العيد(2).
و (الجمعة) و (المنافقون): في مسلم: أنه كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة(3).
و (الصفّ) في المستدرك: عن عبد اللّه بن سلام: أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأها عليهم حين أنزلت حتى ختمها(4).
و في سور شتى من المفصّل تدلّ قراءته صلّى اللّه عليه و سلّم لها بمشهد من الصحابة: أنّ ترتيب آياتها توقيفيّ، و ما كان الصحابة ليرتبوا ترتيبا سمعوا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ على خلافه، فبلغ ذلك مبلغ التواتر.
نعم يشكل على ذلك: ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير، عن أبيه، قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة، فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و وعيتهما.
فقال عمر: و أنا أشهد، لقد سمعتهما. ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا آخر سورة من القرآن، فألحقوها في آخرها(5).9.
ص: 218
قال ابن حجر(1): ظاهر هذا أنهم كانوا يؤلّفون آيات السور باجتهادهم، و سائر الأخبار تدلّ على أنّهم لم يفعلوا شيئا من ذلك إلاّ بتوقيف.
قلت: يعارضه ما أخرجه ابن أبي داود. أيضا. من طريق أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، أنهم جمعوا القرآن، فلمّا انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة: 127] ظنوا أنّ هذا آخر ما أنزل.
فقال أبيّ: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أقرأني بعد هذا آيتين: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة:
129.128] إلى آخر السورة(2).
و قال مكّي و غيره(3): ترتيب الآيات في السور بأمر من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و لمّا لم يأمر بذلك في أوّل براءة تركت بلا بسملة.
و قال القاضي أبو بكر في الانتصار: ترتيب الآيات أمر واجب، و حكم لازم، فقد كان جبريل يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»(4).
و قال. أيضا.: الّذي نذهب إليه أنّ جميع القرآن. الّذي أنزله اللّه، و أمر بإثبات رسمه، و لم ينسخه، و لا رفع تلاوته بعد نزوله. هو هذا الذي بين الدفّتين، الذي حواه مصحف عثمان، و أنه لم ينقص منه شيء، و لا زيد فيه. و أنّ ترتيبه و نظمه ثابت على ما نظمه اللّه تعالى، و رتّبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدّم من ذلك مؤخّر و لا أخّر مقدّم، و أنّ الأمّة ضبطت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ترتيب آي كلّ سورة و مواضعها، و عرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءات و ذات التلاوة. و أنه يمكن أن يكون الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم قد رتّب سوره، و أن يكون قد وكّل ذلك إلى الأمّة بعده، و لم يتولّ ذلك بنفسه.
قال: و هذا الثاني أقرب.
و أخرج عن ابن وهب، قال: سمعت مالكا، يقول: إنّما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(5).
و قال البغويّ في شرح السنة(6): الصحابة. رضي اللّه عنهم. جمعوا بين الدّفتين القرآن الذي أنزله اللّه على رسوله، من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا، خوف ذهاب بعضه بذهاب2.
ص: 219
حفظته، فكتبوه كما سمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غير أن قدّموا شيئا أو أخّروا، أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يلقّن أصحابه و يعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبريل إيّاه على ذلك، و إعلامه عند نزول كلّ آية: أنّ هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا، فثبت أنّ سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإنّ القرآن مكتوب في اللّوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله اللّه جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرّقا عند الحاجة، و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة.
و قال ابن الحصّار: ترتيب السّور و وضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»(1) و قد حصل اليقين من النّقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و ممّا أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف.
فصل حكم ترتيب السور(2)
و أمّا ترتيب السور: فهل هو توقيفي أيضا، أو هو باجتهاد من الصحابة؟ خلاف:
فجمهور العلماء على الثاني، منهم مالك، و القاضي أبو بكر في أحد قوليه.
قال ابن فارس(3): جمع القرآن على ضربين:
أحدهما: تأليف السّور، كتقديم السّبع الطوال و تعقيبها بالمئين، فهذا هو الذي تولّته الصحابة.
و أما الجمع الآخر: و هو جمع الآيات في السور، فهو توقيفي تولاّه النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، كما أخبر به جبريل عن أمر ربّه.
و مما استدلّ به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور: فمنهم من رتّبها على النزول، و هو مصحف عليّ، كان أوّله: اقرأ، ثمّ المدثر، ثم ن، ثمّ المزّمل، ثم تبّت، ثم التكوير، و هكذا إلى آخر المكيّ و المدنيّ.
و كان أوّل مصحف ابن مسعود البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، على اختلاف شديد.
و كذا مصحف أبيّ و غيره.
ص: 220
و أخرج ابن أشتة في المصاحف من طريق إسماعيل بن عياش، عن حبّان بن يحيى، عن أبي محمد القرشيّ قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال، فجعلت سورة الأنفال و سورة التوبة في السّبع، و لم يفصل بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم.
و ذهب إلى الأوّل جماعة، منهم القاضي في أحد قوليه.
قال أبو بكر الأنباريّ (1): أنزل اللّه القرآن كلّه إلى سماء الدنيا، ثمّ فرّقه في بضع و عشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، و الآية جوابا لمستخبر، و يوقف جبريل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على موضع الآية و السورة، فاتّساق السّور كاتّساق الآيات و الحروف، كلّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فمن قدّم سورة أو أخّرها فقد أفسد نظم القرآن.
و قال الكرمانيّ في البرهان(2): ترتيب السّور هكذا هو عند اللّه في اللّوح المحفوظ على هذا الترتيب، و عليه كان صلّى اللّه عليه و سلّم يعرض على جبريل كلّ سنة ما كان يجتمع عنده منه، و عرضه عليه في السنة التي توفّي فيها مرتين(3)، و كان آخر الآيات نزولا: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ [البقرة: 281] فأمره جبريل أن يضعها بين آيتي الربا و الدّين.
و قال الطّيبيّ: أنزل القرآن أوّلا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرّقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف و النظم المثبت في اللوح المحفوظ.
قال الزركشيّ في البرهان(4): و الخلاف بين الفريقين لفظي؛ لأنّ القائل بالثاني يقول: إنّه رمز إليهم بذلك، لعلمهم بأسباب نزوله و مواقع كلماته، و لهذا قال مالك: إنّما ألّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. مع قوله بأنّ ترتيب السور باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه: هل هو بتوفيق قوليّ أو بمجرد استناد فعليّ، بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر.
و سبقه إلى ذلك أبو جعفر بن الزبير.
و قال البيهقيّ في المدخل(5): كان القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مرتّبا سوره و آياته على هذا الترتيب، إلاّ الأنفال و براءة، لحديث عثمان السابق(6). و مال ابن عطية(7) إلى: أنّ كثيرا من1.
ص: 221
السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلّى اللّه عليه و سلّم، كالسبع الطوال و الحواميم و المفصّل، و أن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
و قال أبو جعفر بن الزبير(1): الآثار تشهد بأكثر مما نصّ عليه ابن عطيّة، و يبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف، كقوله: «اقرءوا الزّهراوين: البقرة و آل عمران»(2) رواه مسلم.
و كحديث سعيد بن خالد: قرأ صلّى اللّه عليه و سلّم بالسّبع الطّوال في ركعة. رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه، و فيه: أنه عليه الصلاة و السلام كان يجمع المفصّل في ركعة.
و روى البخاريّ: عن ابن مسعود أنه قال. في بني إسرائيل، و الكهف، و مريم، و طه، و الأنبياء: إنّهنّ من العتاق الأول، و هنّ من تلادي(3). فذكرها نسقا كما استقرّ ترتيبها.
و في البخاريّ: أنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة، جمع كفّيه، ثم نفث فيهما، فقرأ: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) و المعوّذتين(4).
و قال أبو جعفر النحاس(5): المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لحديث واثلة: «أعطيت مكان التوراة السبع الطّوال...» الحديث(6).
قال: فهذا الحديث يدلّ على أنّ تأليف القرآن مأخوذ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و أنه من ذلك الوقت، و إنما جمع في المصحف على شيء واحد، لأنه قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على تأليف القرآن.
و قال ابن الحصّار: ترتيب و وضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي.ى.
ص: 222
و قال ابن حجر(1): ترتيب بعض السور على بعضها، أو معظمها، لا يمتنع أن يكون توقيفيا.
قال: و ممّا يدل على أنّ ترتيبها توقيفي: ما أخرجه أحمد و أبو داود عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفيّ قال: كنت في الوفد الّذين أسلموا من ثقيف... الحديث، و فيه: فقال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «طرأ عليّ حزبي من القرآن، فأردت ألاّ أخرج حتى أقضيه».
فسألنا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، قلنا: كيف تحزّبون القرآن؟ قالوا: نحزّبه ثلاث سور، و خمس سور، و سبع سور، و تسع سور، و إحدى عشرة، و ثلاث عشرة، و حزب المفصّل من ق حتى نختم.
قال(2): فهذا يدلّ على أن ترتيب السّور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال(3): و يحتمل أنّ الذي كان مرتّبا حينئذ حزب المفصّل خاصة، بخلاف ما عداه.
قلت: و مما يدلّ على أنه توقيفيّ كون الحواميم رتّبت ولاء و كذا الطواسين، و لم ترتّب المسبّحات ولاء، بل فصل بين سورها، و فصل بين طسم الشعراء و طسم القصص بطس مع أنها أقصر منهما، و لو كان الترتيب اجتهاديّا لذكرت المسبّحات ولاء و أخّرت طس عن القصص.
و الّذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي(4)، و هو: أنّ جميع السور ترتيبها توقيفيّ إلاّ براءة و الأنفال. و لا ينبغي أن يستدلّ بقراءته صلّى اللّه عليه و سلّم سورا ولاء على أن ترتيبها كذلك، و حينئذ فلا يرد حديث قراءته النّساء قبل آل عمران(5)؛ لأنّ ترتيب السور في القراءة ليس بواجب، فلعلّه فعل ذلك لبيان الجواز.
و أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب، عن سليمان بن بلال، قال:
سمعت ربيعة يسأل: لم قدّمت البقرة و آل عمران، و قد نزل قبلهما بضع و ثمانون سورة بمكة،ه.
ص: 223
و إنّما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدّمتا، و ألّف القرآن على علم ممّن ألّفه به و من كان معه فيه، و اجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا ممّا ينتهى إليه، و لا يسأل عنه(1).
السبع الطّوال: أولها البقرة، و آخرها براءة. كذا قال جماعة، لكن أخرج الحاكم، و النّسائيّ، و غيرهما، عن ابن عباس، قال: السّبع الطّوال: البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف(2). قال الراوي: و ذكر السابعة فنسيتها.
و في رواية صحيحة، عن ابن أبي حاتم، و غيره، عن سعيد بن جبير: أنّها يونس. و تقدّم عن ابن عباس مثله في النوع الأوّل. و في رواية عند الحاكم: أنّها الكهف(3).
و المئون: ما وليها، سميت بذلك؛ لأنّ كلّ سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها.
و المثاني: ما ولي المئين، لأنّها ثنتها، أي: كانت بعدها، فهي لها ثوان، و المئون لها أوائل.
و قال الفرّاء: هي السورة التي آيها أقلّ من مائة؛ لأنّها تثنّى أكثر ممّا يثنّى الطّوال و المئون.
و قيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر و الخبر. حكاه النّكزاويّ.
و قال في جمال القرّاء: هي السور التي ثنيت فيها القصص، و قد تطلق على القرآن كلّه و على الفاتحة كما تقدّم.
و المفصل: ما ولي المثاني من قصار السّور، سمّي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة.
و قيل: لقلّة المنسوخ منه، و لهذا يسمّى بالمحكم أيضا، كما روى البخاريّ، عن سعيد بن جبير، قال: إنّ الذي تدعونه المفصّل هو المحكم(4). و آخره سورة الناس بلا نزاع.
و اختلف في أوّله على اثني عشر قولا(5):
أحدها: ق، لحديث أوس السابق قريبا(6).
ص: 224
الثاني: الحجرات، و صحّحه النّوويّ.
الثالث: القتال، عزاه الماورديّ للأكثرين.
الرابع: الجاثية، حكاه القاضي عياض.
الخامس: الصافّات.
السادس: الصّف.
السابع: تبارك، حكى الثلاثة ابن أبي الصّيف اليمنيّ في نكته على التنبيه.
الثامن: الفتح، حكاه الكمال الذماري في شرح التنبيه.
التاسع: الرحمن، حكاه ابن السّيد في أماليه على الموطأ.
العاشر: الإنسان.
الحادي عشر: سبّح، حكاه ابن الفركاح في تعليقه عن المرزوقي.
الثاني عشر: الضحى، حكاه الخطّابي و وجهه: بأنّ القارئ يفصل بين هذه السور بالتكبير.
و عبارة الراغب في مفرداته(1): المفصّل من القرآن السّبع الأخير.
قال ابن معن: فطواله إلى عمّ، و أوساطه منها إلى الضحى، و منها إلى آخر القرآن قصاره. هذا أقرب ما قيل فيه.
أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن نافع، عن ابن عمر، أنه ذكر عنده المفصّل، فقال: و أي القرآن ليس بمفصّل؟ و لكن قولوا: قصار السّور و صغار السّور(2).
و قد استدلّ بهذا على جواز أن يقال: سورة قصيرة أو صغيرة. و قد كره ذلك جماعة منهم أبو العالية، و رخّص فيه آخرون. ذكره ابن أبي داود(3).
و أخرج عن ابن سيرين، و أبي العالية، قالا: لا تقل: سورة خفيفة، فإنّه تعالى يقول:
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل: 5] و لكن: سورة يسيرة.
ص: 225
قال ابن أشتة في كتاب المصاحف: أنبأنا محمد بن يعقوب، حدّثنا أبو داود، حدّثنا أبو جعفر الكوفيّ قال:
هذا تأليف مصحف أبيّ: الحمد، ثمّ البقرة، ثمّ النساء، ثمّ آل عمران، ثمّ الأنعام، ثمّ الأعراف، ثمّ المائدة، ثمّ يونس، ثمّ الأنفال، ثمّ براءة، ثمّ هود، ثمّ مريم، ثمّ الشعراء، ثمّ الحجّ، ثمّ الكهف، ثمّ النحل، ثمّ الأحزاب، ثمّ بني إسرائيل، ثمّ الزمر أوّلها حم، ثمّ طه، ثمّ الأنبياء، ثمّ النور، ثمّ المؤمنون، ثمّ سبأ، ثمّ العنكبوت، ثمّ المؤمن، ثمّ الرعد، ثمّ القصص، ثمّ النمل، ثمّ الصافات، ثمّ ص، ثمّ يس، ثمّ الحجر، ثمّ حم عسق، ثمّ الروم، ثمّ الحديد، ثمّ الفتح، ثمّ القتال، ثمّ الظهار، ثمّ تَبارَكَ الملك، ثمّ السجدة، ثمّ إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً ، ثمّ الأحقاف، ثمّ ق، ثمّ اَلرَّحْمنُ ، ثمّ الواقعة، ثمّ الجنّ، ثمّ النجم، ثمّ سَأَلَ سائِلٌ ، ثمّ المزمّل، ثمّ المدّثر، ثمّ اِقْتَرَبَتِ ، ثمّ حم الدخان، ثمّ لقمان، ثمّ حم الجاثية، ثمّ الطور، ثمّ الذاريات، ثمّ ن، ثمّ الحاقة، ثمّ الحشر، ثمّ الممتحنة، ثمّ المرسلات، ثمّ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) ، ثمّ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) ، ثمّ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ، ثمّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ، ثمّ النازعات، ثمّ التغابن، ثمّ عبس، ثمّ المطففين، ثمّ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ، ثمّ وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ، ثمّ اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، ثمّ الحجرات، ثمّ المنافقون، ثمّ الجمعة، ثمّ لِمَ تُحَرِّمُ ، ثمّ الفجر، ثمّ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) ، ثمّ وَ اللَّيْلِ ، ثمّ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) ، ثمّ وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) ، ثمّ وَ السَّماءِ وَ الطّارِقِ (1) ، ثمّ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ، ثمّ الغاشية، ثمّ الصّف، ثمّ سورة أهل الكتاب و هي لَمْ يَكُنِ ، ثمّ الضّحى، ثمّ أَ لَمْ نَشْرَحْ ، ثمّ القارعة، ثم التكاثر، ثمّ العصر، ثم سورة الخلع، ثم سورة الحفد، ثم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ، ثمّ إِذا زُلْزِلَتِ ، ثمّ العاديات، ثمّ الفيل، ثمّ لِإِيلافِ ، ثمّ أَ رَأَيْتَ ، ثمّ إِنّا أَعْطَيْناكَ ، ثمّ القدر، ثمّ الكافرون، ثمّ إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ، ثمّ تَبَّتْ ثمّ الصّمد، ثمّ الفلق، ثمّ النّاس.
قال ابن أشتة. أيضا: و أخبرنا أبو الحسن بن نافع، أنّ أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى، حدّثهم قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن سالم، حدّثنا عليّ بن مهران الطائيّ، حدّثنا جرير بن عبد الحميد، قال: تأليف مصحف عبد اللّه بن مسعود:
الطوال: البقرة، و النساء، و آل عمران، و الأعراف، و الأنعام، و المائدة، و يونس.
و المئين: براءة، و النحل، و هود، و يوسف، و الكهف، و بني إسرائيل، و الأنبياء، و طه، و المؤمنون، و الشعراء، و الصافات.
و المثاني: الأحزاب، و الحجّ، و القصص، و طس النمل، و النّور، و الأنفال، و مريم،
ص: 226
و العنكبوت، و الرّوم، و يس، و الفرقان، و الحجر، و الرعد، و سبأ، و الملائكة، و إبراهيم، و ص، و اَلَّذِينَ كَفَرُوا (1)، و لقمان، و الزّمر، و الحواميم: حم المؤمن، و الزخرف، و السجدة، و حم و عسق، و الأحقاف، و الجاثية، و الدخان، و إِنّا فَتَحْنا لَكَ ، و الحشر، و تنزيل السجدة، و الطلاق، و ن و القلم، و الحجرات، و تبارك، و التّغابن، و إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ، و الجمعة، و الصفّ، و قُلْ أُوحِيَ ، و إِنّا أَرْسَلْنا ، و المجادلة، و الممتحنة، و يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ .
و المفصّل: الرحمن، و النجم، و الطور، و الذاريات، و اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ ، و الواقعة، و النازعات، و سَأَلَ سائِلٌ ، و المدّثر، و المزمل، و المطففين، و عبس، و هَلْ أَتى ، و المرسلات، و القيامة، و عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) ، و إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) ، و إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) ، و اَلْغاشِيَةِ ، و سَبِّحِ ، و الليل، و الفجر، و البروج، و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ، و اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، و البلد، و الضّحى، و الطارق، و العاديات، و أ رأيت، و القارعة، و لَمْ يَكُنِ ، و اَلشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) ، و التّين، و وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ ، و أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ، و لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) ، و أَلْهاكُمُ ، و إِنّا أَنْزَلْناهُ ، و إِذا زُلْزِلَتِ ، و العصر، و إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ ، و الكوثر، و قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) ، و تبّت، و قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) ، و أَ لَمْ نَشْرَحْ ، و ليس فيه الحمد، و لا المعوّذتان.
ص: 227
النوع التاسع عشر في عدد سوره و آياته و كلماته و حروفه(1)
أمّا سوره: فمائة و أربع عشرة سورة بإجماع من يعتد به، و قيل: و ثلاث عشرة، بجعل الأنفال و براءة سورة واحدة.
أخرج أبو الشيخ، عن أبي روق، قال: الأنفال و براءة سورة واحدة(2).
و أخرج عن أبي رجاء، قال: سألت الحسن عن الأنفال و براءة: سورتان أم سورة؟ قال: سورتان(3). و نقل مثل قول أبي روق عن مجاهد، و أخرجه ابن أبي حاتم، عن سفيان.
و أخرج ابن أشتة، عن ابن لهيعة، قال: يقولون: إنّ براءة من يَسْئَلُونَكَ (4).
و شبهتهم اشتباه الطرفين و عدم البسملة. و يردّه تسمية النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كلاّ منهما(5).
و نقل صاحب الإقناع: أنّ البسملة ثابتة لبراءة في مصحف ابن مسعود، قال: و لا يؤخذ بهذا.
قال القشيريّ (6): الصحيح أنّ التسمية لم تكن فيها، لأنّ جبريل عليه السّلام لم ينزل بها فيها.
و في المستدرك: عن ابن عباس، قال: سألت عليّ بن أبي طالب: لم لم تكتب في براءة بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ؟ قال: لأنّها أمان، و براءة نزلت بالسيف(7).
و عن مالك: أنّ أوّلها لما سقط سقط معه البسملة؛ فقد ثبت أنّها كانت تعدل البقرة لطولها.
ص: 228
و في مصحف ابن مسعود: مائة و اثنتا عشرة سورة؛ لأنه لم يكتب المعوّذتين. و في مصحف أبيّ ست عشرة. لأنه كتب في آخره سورتي الحفد و الخلع.
أخرج أبو عبيد، عن ابن سيرين، قال: كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب و المعوّذتين، و: اللهم إنّا نستعينك..، و: اللّهم إياك نعبد..، و تركهنّ ابن مسعود، و كتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب و المعوّذتين(1).
و أخرج الطبرانيّ في الدعاء من طريق عبّاد بن يعقوب الأسديّ، عن يحيى بن يعلى الأسلميّ، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن عبد اللّه بن زرير الغافقيّ قال: قال لي عبد الملك بن مروان: لقد علمت ما حملك على حبّ أبي تراب إلاّ أنّك أعرابيّ جاف، فقلت:
و اللّه لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، و لقد علّمني منه عليّ بن أبي طالب سورتين علّمهما إياه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ما علمتهما أنت و لا أبوك: اللهمّ إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك. اللهمّ إيّاك نعبد، و لك نصلي و نسجد، و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق(2).
و أخرج البيهقيّ: من طريق سفيان الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير: أنّ عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع، فقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم، اللهمّ إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك. بسم اللّه الرحمن الرحيم اللهمّ إيّاك نعبد، و لك نصلّي و نسجد، و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك، و نخشى نقمتك، إن عذابك بالكافرين ملحق(3).2.
ص: 229
قال ابن جريج: حكمة البسملة أنّهما سورتان في مصحف بعض الصحابة.
و أخرج محمد بن نصر المروزيّ في كتاب الصلاة عن أبيّ بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين، فذكرهما، و أنّه كان يكتبهما في مصحفه.
و قال ابن الضّريس: أنبأنا أحمد بن جميل المروزيّ، عن عبد اللّه بن المبارك، أنبأنا الأجلح، عن عبد اللّه بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ و أبي موسى: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، اللهم إنّا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك الخير و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك. و فيه: اللهم إيّاك نعبد، و لك نصلي و نسجد، و إليك نسعى و نحفد، نخشى عذابك، و نرجو رحمتك، إنّ عذابك بالكفار ملحق(1).
و أخرج الطبرانيّ. بسند صحيح.، عن أبي إسحاق، قال: أمّنا أميّة بن عبد اللّه بن خالد بن أسيد بخراسان، فقرأ بهاتين السورتين: إنا نستعينك و نستغفرك(2).
و أخرج البيهقيّ، و أبو داود في المراسيل، عن خالد بن أبي عمران: أنّ جبريل نزل بذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و هو في الصّلاة مع قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ الآية [آل عمران:
128] لمّا قنت يدعو على مضر(3).
تنبيه: كذا نقل جماعة عن مصحف أبيّ أنه ستّ عشرة سورة، و الصواب أنه خمس عشرة؛ فإنّ سورة الفيل و سورة لإيلاف قريش فيه سورة واحدة، و نقل ذلك السخاويّ في جمال القراء، عن جعفر الصادق، و أبي نهيك. أيضا..
قلت: و يردّه ما أخرجه الحاكم و الطّبرانيّ من حديث أمّ هانئ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال:
«فضّل اللّه قريشا بسبع...» الحديث، و فيه: «و إنّ اللّه أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم: لإيلاف قريش»(4).
و في كامل الهذليّ، عن بعضهم أنه قال: الضحى و أَ لَمْ نَشْرَحْ سورة واحدة، نقله الإمام الرازيّ في تفسيره، عن طاوس و عمر بن عبد العزيز و غيره من المفسرين.».
ص: 230
قيل: الحكمة في تسوير القرآن سورا تحقيق كون السورة بمجرّدها معجزة و آية من آيات اللّه(1)، و الإشارة إلى أنّ كلّ سورة نمط مستقل: فسورة يوسف تترجم عن قصته، و سورة براءة تترجم عن أحوال المنافقين و أسرارهم، إلى غير ذلك. و سوّرت السّور سورا طوالا و أوساطا و قصارا، تنبيها على أنّ الطّول ليس من شرط الإعجاز، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات، و هي معجزة إعجاز سورة البقرة، ثم ظهرت لذلك حكمة في التعليم و تدريج الأطفال من السّور القصار إلى ما فوقها، تيسيرا من اللّه على عباده لحفظ كتابه.
قال الزركشيّ في البرهان(2): فإن قلت: فهلاّ كانت الكتب السالفة كذلك؟ قلت: لوجهين، أحدهما: أنّها لم تكن معجزات من جهة النظم و التّرتيب.
و الآخر: أنها تيسر للحفظ. لكن ذكر الزمخشريّ ما يخالفه، فقال في الكشاف:
الفائدة في تفصيل القرآن و تقطيعه سورا كثيرة، و كذلك أنزل اللّه التوراة و الإنجيل و الزّبور، و ما أوحاه إلى أنبيائه مسوّرة، و بوّب المصنّفون في كتبهم أبوابا موشّحة الصدور بالتراجم:
منها: أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع و أصناف كان أحسن و أفخم من أن يكون بابا واحدا.
و منها: أنّ القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر، كان أنشط له و أبعث على التحصيل منه لو استمرّ على الكتاب بطوله، و مثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفّس ذلك منه، و نشط للسير، و من ثمّ جزّأ القرآن أجزاء و أخماسا.
و منها: أنّ الحافظ إذا حذق السّورة اعتقد أنه أخذ من كتاب اللّه طائفة مستقلة بنفسها، فيعظم عنده ما حفظه. و منه حديث أنس: كان الرّجل إذا قرأ البقرة و آل عمران جدّ فينا(3).
و من ثمّ كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.
و منها: أنّ التفصيل بسبب تلاحق الأشكال و النظائر و ملاءمة بعضها لبعض، و بذلك تتلاحظ المعاني و النظم.
إلى غير ذلك من الفوائد. انتهى.
و ما ذكره الزّمخشريّ من تسوير سائر الكتب هو الصحيح أو الصواب، فقد أخرج ابن
ص: 231
أبي حاتم، عن قتادة، قال: كنّا نتحدّث أن الزّبور مائة و خمسون سورة، كلّها مواعظ و ثناء، ليس فيه حلال و لا حرام و لا فرائض، و لا حدود، و ذكروا: أنّ في الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال.
فصل في عدّ الآي(1):
أفرده جماعة من القراء بالتصنيف.
قال الجعبريّ (2): حدّ الآية قرآن مركّب من جمل و لو تقديرا، ذو مبدإ أو مقطع مندرج في سورة. و أصلها العلامة. و منه إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ [البقرة: 248]؛ لأنّها علامة للفضل و الصدق. أو الجماعة، لأنها جماعة كلمة.
و قال غيره: الآية طائفة من القرآن، منقطعة عمّا قبلها و ما بعدها.
و قيل: هي الواحدة من المعدودات في السّور، سميت به لأنها علامة على صدق من أتى بها، و على عجز المتحدّى بها.
و قيل: لأنها علامة على انقطاع ما قبلها من الكلام و انقطاعه ممّا بعدها.
قال الواحديّ: و بعض أصحابنا يجوّز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية، لو لا أنّ التوقيف ورد بما هي عليه الآن.
و قال أبو عمرو الدانيّ (3): لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلاّ قوله: مُدْهامَّتانِ (64) [الرحمن: 64].
و قال غيره: بل فيه غيرها، مثل: وَ النَّجْمِ ، وَ الضُّحى (1) ، وَ الْعَصْرِ (1) ، و كذا فواتح السور عند من عدّها.
طريق تحديد الآية التوفيق(4)
قال بعضهم: الصحيح أنّ الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة.
قال: فالآية طائفة من حروف القرآن علم بالتوقيف انقطاعها. يعني: عن الكلام الذي بعدها في أوّل القرآن، و عن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن، و عمّا قبلها و ما بعدها في غيرهما، غير مشتمل على مثل ذلك.
ص: 232
قال: و بهذا القيد خرجت السورة.
و قال الزمخشري(1): الآيات علم توقيفيّ لا مجال للقياس فيه، و لذلك عدّوا الم (1) * آية حيث وقعت، و المص (1) ، و لم يعدوا المر و الر ، و عدوا حم (1) * آية في سورها، و طه (1) و يس (1) و لم يعدّوا طس .
قلت: و مما يدلّ على أنه توقيفيّ: ما أخرجه أحمد في مسنده من طريق عاصم بن أبي النّجود، عن زرّ، عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم سورة من الثلاثين من آل (حم) قال: يعني الأحقاف و قال: كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سمّيت الثلاثين...
الحديث(2).
و قال ابن العربي(3): ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّ الفاتحة سبع آيات(4)، و سورة الملك ثلاثون آية(5). و صحّ أنّه قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران(6).
قال: و تعديد الآي من معضلات القرآن، و من آياته طويل و قصير، و منه ما ينتهي إلى تمام الكلام و منه ما يكون في أثنائه.
و قال غيره(7): سبب اختلاف السلف في عدد الآي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقف على رءوس الآي للتوقيف، فإذا علم محلّها وصل للتمام، فيحسب السامع حينئذ أنّها ليست فاصلة.
و قد أخرج ابن الضّريس، من طريق عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:
جميع آي القرآن ستة آلاف و ستمائة آية، و جميع حروف القرآن: ثلاثمائة ألف حرف، و ثلاثة و عشرون ألف حرف، و ستمائة حرف، و واحد و سبعون حرفا(8).
قال الدّاني(9): أجمعوا على أنّ عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، و منهم من قال: و مائتا آية و أربع آيات.1.
ص: 233
و قيل: و أربع عشرة.
و قيل: و تسع عشرة.
و قيل: خمس و عشرون.
و قيل: و ست و ثلاثون.
قلت: أخرج الديلميّ في مسند الفردوس من طريق الفيض بن وثيق، عن فرات بن سلمان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس مرفوعا: «درج الجنة على قدر آي القرآن، بكلّ آية درجة، فتلك ستة آلاف آية و مائتا آية و ست عشرة آية، بين كلّ درجتين مقدار ما بين السماء و الأرض».
الفيض: قال فيه ابن معين: كذاب خبيث.
و في الشّعب للبيهقي(1)، من حديث عائشة مرفوعا: «عدد درج الجنة عدد آي القرآن، فمن دخل الجنة من أهل القرآن فليس فوقه درجة»(2).
قال الحاكم: إسناده صحيح، لكنه شاذّ، و أخرجه الآجريّ في حملة القرآن من وجه آخر عنها موقوفا(3).
قال أبو عبد اللّه الموصليّ في شرح قصيدته «ذات الرشد في العدد»: اختلف في عدّ الآي أهل المدينة و مكّة و الشام و البصرة و الكوفة.
و لأهل المدينة عددان: عدد أوّل، و هو عدد أبي جعفر يزيد بن القعقاع و شيبة بن نصاح. و عدد آخر، و هو عدد إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ.
و أمّا عدد أهل مكة فهو مرويّ عن عبد اللّه بن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب.
و أمّا عدد أهل الشام: فرواه هارون بن موسى الأخفش و غيره، عن عبد اللّه بن ذكوان و أحمد بن يزيد الحلوانيّ و غيره، عن هشام بن عمّار.
و رواه ابن ذكوان و هشام، عن أيّوب بن تميم القارئ، عن يحيى بن الحارث الذّماريّ.د.
ص: 234
قال: هذا العدد الذي نعدّه عدد أهل الشام ممّا رواه المشيخة لنا عن الصحابة، و رواه عبد اللّه بن عامر اليحصبيّ لنا و غيره، عن أبي الدرداء.
و أمّا عدد أهل البصرة: فمداره على عاصم بن العجاج الجحدريّ.
و أما عدد أهل الكوفة: فهو المضاف إلى حمزة بن حبيب الزيات، و أبي الحسن الكسائي، و خلف بن هشام، قال حمزة: أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالب.
قال الموصلي: ثم سور القرآن على ثلاثة أقسام: قسم لم يختلف فيه، لا في إجمال و لا في تفصيل، و قسم اختلف فيه تفصيلا لا إجمالا، و قسم اختلف فيه إجمالا و تفصيلا.
فالأوّل: أربعون سورة: (يوسف) مائة و إحدى عشرة، (الحجر) تسع و تسعون، (النحل) مائة و ثمانية و عشرون، (الفرقان) سبع و سبعون، (الأحزاب) ثلاث و سبعون، (الفتح) تسع و عشرون، (الحجرات) و (التغابن) ثمان عشرة، (ق) خمس و أربعون، (الذّاريات) ستون، (القمر) خمس و خمسون، (الحشر) أربع و عشرون، (الممتحنة) ثلاث عشرة، (الصف) أربع عشرة، (الجمعة) و (المنافقون) و (الضحى) و (العاديات) إحدى عشرة، (التحريم) اثنتا عشرة، (ن) اثنتان و خمسون، (الإنسان) إحدى و ثلاثون، (المرسلات) خمسون، (التكوير) تسع و عشرون، (الانفطار) و (سبح) تسع عشرة، (التّطفيف) ست و ثلاثون، (البروج) اثنتان و عشرون، (الغاشية) ستّ و عشرون، (البلد) عشرون، (الليل) إحدى و عشرون، (أ لم نشرح) و (التين) و (ألهاكم) ثمان، (الهمزة) تسع، (الفيل) و (الفلق) و (تبّت) خمس، (الكافرون) ستّ، (الكوثر) و (النصر) ثلاث.
و القسم الثاني: أربع سور: (القصص) ثمان و ثمانون، عدّ أهل الكوفة: طسم (1) و الباقون بدلها: أُمَّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ [23].
العنكبوت: تسع و ستون، عدّ أهل الكوفة الم (1) ، و البصرة بدلها مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [65]، و الشام وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ [29].
الجن: ثمان و عشرون، عدّ المكي: لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَحَدٌ [22] و الباقون بدلها:
وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً [22].
العصر ثلاث، عدّ المدني الأخير: وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ [3] دون وَ الْعَصْرِ (1) و عكس الباقون.
و القسم الثالث: سبعون سورة:
الفاتحة: الجمهور سبع، فعدّ الكوفيّ و المكيّ البسملة دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و عكس
ص: 235
الباقون. و قال الحسن: ثمان، فعدّهما، و بعضهم ست فلم يعدّهما، و آخر تسع فعدّهما و إِيّاكَ نَعْبُدُ .
و يقوّي الأول: ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن خزيمة و الحاكم و الدّار قطني و غيرهم: عن أمّ سلمة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ، اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7) ، قطّعها آية آية، و عدّها عدّ الأعراب، و عدّ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية، و لم يعدّ عَلَيْهِمْ (1).
و أخرج الدارقطنيّ. بسند صحيح. عن عبد خير، قال: سئل عليّ عن السّبع المثاني.
فقال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) .
فقيل له: إنّما هي ستّ آيات؟ فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية(2).
البقرة: مائتان و ثمانون و خمس، و قيل: ستّ، و قيل: سبع.
آل عمران؛ مائتان، و قيل: إلاّ آية.
النساء: مائة و سبعون و خمس، و قيل: ستّ، و قيل: سبع.
المائدة: مائة و عشرون، و قيل: و اثنتان، و قيل: و ثلاث.
الأنعام: مائة و سبعون و خمس، و قيل: ست، و قيل: سبع.
الأعراف: مائتان و خمس، و قيل: ستّ.
الأنفال: سبعون و خمس، و قيل: ست، و قيل: سبع.
براءة: مائة و ثلاثون، و قيل: إلاّ آية.
يونس: مائة و عشر، و قيل: إلاّ آية.
هود: مائة و إحدى و عشرون، و قيل: اثنتان، و قيل: ثلاث.
الرعد: أربعون و ثلاث، و قيل: أربع، و قيل: سبع.
إبراهيم: إحدى و خمسون، و قيل: اثنتان، و قيل: أربع، و قيل: خمس.ه.
ص: 236
الإسراء: مائة و عشر، و قيل: و إحدى عشرة.
الكهف: مائة و خمس، و قيل: و ست، و قيل: و عشر، و قيل: و إحدى عشرة.
مريم: تسعون و تسع، و قيل: ثمان.
طه: مائة و ثلاثون و اثنتان، و قيل: أربع، و قيل: خمس، و قيل: و أربعون.
الأنبياء: مائة و إحدى عشرة، و قيل: و اثنتا عشرة.
الحجّ: سبعون و أربع، و قيل: خمس، و قيل: ست، و قيل: ثمان.
قد أفلح: مائة و ثمان عشرة، و قيل: تسع عشرة.
النور: ستون و اثنتان، و قيل: أربع.
الشعراء: مائتان و عشرون و ستّ، و قيل: سبع.
النمل: تسعون و اثنتان، و قيل: أربع، و قيل: خمس.
الروم: ستون، و قيل: إلاّ آية.
لقمان: ثلاثون و ثلاث، و قيل: أربع.
السجدة: ثلاثون، و قيل: إلاّ آية.
سبأ: خمسون و أربع، و قيل: خمس.
فاطر: أربعون و ست، و قيل: خمس.
يس: ثمانون و ثلاث، و قيل: اثنتان.
الصافّات: مائة و ثمانون و آية، و قيل: آيتان.
ص: ثمانون و خمس، و قيل: ستّ، و قيل: ثمان.
الزمر: سبعون و آيتان، و قيل: ثلاث، و قيل: خمس.
غافر: ثمانون و آيتان، و قيل: أربع، و قيل: خمس، و قيل: ست.
فصّلت: خمسون و اثنتان، و قيل: ثلاث، و قيل: أربع.
الشورى: خمسون، و قيل: و ثلاث.
الزّخرف: ثمانون و تسع، و قيل: ثمان.
الدخان: خمسون و ستّ، و قيل: سبع، و قيل: تسع.
الجاثية: ثلاثون و ست، و قيل: سبع.
الأحقاف: ثلاثون و أربع، و قيل: خمس.
القتال: أربعون، و قيل: إلاّ آية، و قيل: إلاّ آيتين.
الطور: أربعون و سبع، و قيل: ثمان، و قيل: تسع.
ص: 237
النجم: إحدى و ستون، و قيل: اثنتان.
الرحمن: سبعون و سبع، و قيل: ست، و قيل: ثمان.
الواقعة: تسعون و تسع، و قيل: سبع، و قيل: ست.
الحديد: ثلاثون و ثمان، و قيل: تسع.
قد سمع: اثنتان. و قيل: إحدى. و عشرون.
الطلاق: إحدى. و قيل: اثنتا. عشرة.
تبارك: ثلاثون، و قيل: إحدى و ثلاثون، بعدّ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ [9].
قال الموصليّ: و الصحيح الأول.
قال ابن شنبوذ: و لا يسوغ لأحد خلافه للأخبار الواردة في ذلك. أخرج أحمد و أصحاب السنن و حسّنه التّرمذيّ، عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها، حتى غفر له: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ (1).
و أخرج الطبراني بسند صحيح: عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «سورة في القرآن ما هي إلاّ ثلاثون آية، خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، و هي سورة تبارك»(2).
الحاقّة: إحدى. و قيل: اثنتان. و خمسون.
المعارج: أربعون و أربع، و قيل: ثلاث.
نوح: ثلاثون، و قيل: إلاّ آية، و قيل: ثلاث.
المزمّل: عشرون، و قيل: إلاّ آية، و قيل: إلاّ آيتين.
المدّثر: خمسون و خمس، و قيل: ست.
القيامة: أربعون، و قيل: إلاّ آية.
عم: أربعون، و قيل: و آية.
النازعات: أربعون و خمس، و قيل: ست.
عبس: أربعون، و قيل: و آية، و قيل: و آيتان.
الانشقاق: عشرون و ثلاث، و قيل: أربع، و قيل: خمس.
الطارق: سبع عشرة، و قيل: ستّ عشرة.ه.
ص: 238
الفجر: ثلاثون، و قيل: إلاّ آية، و قيل: اثنتان و ثلاثون.
الشمس: خمس عشرة، و قيل: ست عشرة.
اقرأ: عشرون، و قيل: إلاّ آية.
القدر: خمس، و قيل: ستّ.
لم يكن: ثمان، و قيل: تسع.
الزلزلة: تسع، و قيل: ثمان.
القارعة: ثمان، و قيل: عشر، و قيل: إحدى عشرة.
قريش: أربع، و قيل: خمس.
أ رأيت: سبع، و قيل: ستّ.
الإخلاص: أربع؛ و قيل: خمس.
الناس: سبع، و قيل: ستّ.
ضوابط(1):
البسملة: نزلت مع السورة في بعض الأحرف السبعة، من قرأ بحرف نزلت فيه عدّها، و من قرأ بغير ذلك لم يعدّها.
و عدّ أهل الكوفة الم (1) * حيث وقع آية، و كذا المص (1) ، و طه (1) ، و كهيعص (1) ، و طس ، و يس (1) ، و حم (1) ، و عدّوا حم (1) ، و عسق (2) آيتين، و من عداهم لم يعدّ شيئا من ذلك.
و أجمع أهل العدد على أنه لا يعدّ (الر) * حيث وقع آية، و كذا (المر) ، و (طس) ، و (ص) ، و (ق) ، و (ن) .
ثم منهم من علّل بالأثر و اتباع المنقول و أنه أمر لا قياس فيه، و منهم من قال: لم يعدّوا (ص) ، و (ن) و (ق) ؛ لأنها على حرف واحد، و لا (طس)، لأنها خالفت أخويها بحذف الميم، و لأنها تشبه المفرد كقابيل، و (يس) و إن كانت بهذا الوزن، لكن أوّلها ياء فأشبهت الجمع، إذ ليس لنا مفرد أوّل ياء.
و لم يعدّوا الر * بخلاف الم (1) * لأنها أشبه بالفواصل من الر ، و كذلك أجمعوا على عد يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) آية لمشاكلته الفواصل بعده، و اختلفوا في يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) .
ص: 239
قال الموصليّ: و عدّوا قوله: ثُمَّ نَظَرَ (21) [21] آية، و ليس في القرآن أقصر منها، أما مثلها ف عَمَّ ، و وَ الْفَجْرِ (1) ، وَ الضُّحى (1) .
تذنيب: نظم عليّ بن محمد الغالي أرجوزة في القرائن و الأخوات، ضمّنها السّور التي اتفقت في عدّة الآي كالفاتحة و الماعون، و كالرحمن و الأنفال، و كيوسف و الكهف و الأنبياء، و ذلك معروف مما تقدم.
فائدة الفوائد الفقهية المستنبطة من معرفة الآي و عدّها(1)
يترتب على معرفة الآية و عدّها و فواصلها أحكام فقهيّة:
منها: اعتبارها فيمن جهل الفاتحة، فإنّه يجب عليه بدلها سبع آيات.
و منها؛ اعتبارها في الخطبة، فإنّه يجب فيها قراءة آية كاملة، و لا يكفي شطرها إن لم تكن طويلة، و كذا الطويلة على ما أطلقه الجمهور، و هاهنا بحث، و هو: أنّ ما اختلف في كونه آخر آية، هل تكفي القراءة به في الخطبة؟ محلّ نظر، و لم أر من ذكره.
و منها: اعتبارها في السّورة التي تقرأ في الصلاة، أو ما يقوم مقامها، ففي الصحيح: أنّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ في الصّبح بالسّتين إلى المائة(2).
و منها: اعتبارها في قراءة قيام الليل؛ ففي أحاديث: «من قرأ بعشر آيات لم يكتب من الغافلين»(3) و: «من قرأ بخمسين آية في ليلة كتب من الحافظين»(4) و: «من قرأ بمائة آية كتب
ص: 240
من القانتين»(1) و: «من قرأ بمائتي آية كتب من الفائزين»(2) و: «من قرأ بثلاثمائة آية كتب له قنطار من الأجر»(3) و: «من قرأ بخمسمائة(4)... و سبعمائة(5)... و ألف آية(6)... أخرجها الدارمي في مسنده مفرّقة.
و منها: اعتبارها في الوقف عليها، كما سيأتي.
و قال الهذليّ في كامله: اعلم أنّ قوما جهلوا العدد و ما فيه من الفوائد، حتى قال الزعفرانيّ: العدد ليس بعلم، و إنما اشتغل به بعضهم ليروّج به سوقه. قال: و ليس كذلك، ففيه من الفوائد: معرفة الوقف، و لأنّ الإجماع انعقد على أنّ الصلاة لا تصحّ بنصف آية.
و قال جمع من العلماء: تجزئ بآية، و آخرون بثلاث آيات، و آخرون لا بدّ من سبع، و الإعجاز لا يقع بدون آية، فللعدد فائدة عظيمة في ذلك. انتهى.
كالأحاديث في الفاتحة(7)، و أربع
ص: 241
آيات من أوّل البقرة(1)، و آية الكرسي(2)، و الآيتين خاتمة البقرة(3)، و كحديث اسم اللّه الأعظم في هاتين الآيتين(4). وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) [البقرة: 163].
الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) [آل عمران: 201].
و في البخاري عن ابن عباس: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين و مائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ إلى قوله: مُهْتَدِينَ [140](5).
و في مسند أبي يعلى، عن المسور بن مخرمة، قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: يا خال، أخبرنا عن قصتكم يوم أحد؟ قال: اقرأ بعد العشرين و مائة من آل عمران تجد قصتنا: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: 121](6).
فصل عدد كلمات القرآن(7)
و عدّ قوم كلمات القرآن سبعة و سبعين ألف كلمة، و تسعمائة و أربعا و ثلاثين كلمة.
و قيل: و أربعمائة و سبع و ثلاثون، و مائتان و سبع و سبعون.
ص: 242
و قيل: غير ذلك.
قيل: و سبب الاختلاف في عدّ الكلمات(1): أنّ الكلمة لها حقيقة و مجاز و لفظ و رسم، و اعتبار كلّ منها جائز، و كل من العلماء اعتبر أحد الجوائز.
و تقدم عن ابن عباس عدّ حروفه(2)، و فيه أقوال أخر، و الاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته، و قد استوعبه ابن الجوزي في «فنون الأفنان» و عدّ الأنصاف و الأثلاث إلى الأعشار، و أوسع القول في ذلك، فراجعه منه، فإنّ كتابنا موضوع للمهمات، لا لمثل هذه البطالات.
و قال السخاوي(3): لا أعلم لعدد الكلمات و الحروف من فائدة، لأنّ ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة و النقصان، و القرآن لا يمكن فيه ذلك.
و من الأحاديث في اعتبار الحروف: ما أخرجه الترمذي، عن ابن مسعود مرفوعا: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، و لكن ألف حرف، و لام حرف، و ميم حرف»(4).
و أخرج الطّبراني: عن عمر بن الخطاب مرفوعا: «القرآن ألف ألف حرف، فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكلّ حرف زوجة من الحور العين»(5). رجاله ثقات إلاّ شيخ الطبراني محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس، تكلّم فيه الذهبي. و قد حمل ذلك على ما نسخ رسمه من القرآن. أيضا.؛ إذ الموجود الآن لا يبلغ هذا العدد.
فائدة: قال بعض القرّاء: القرآن العظيم له أنصاف باعتبارات، فنصفه بالحروف (النون)
ص: 243
من نُكْراً [الكهف: 74] في الكهف، و (الكاف) من النصف الثاني.
و نصفه بالكلمات (الدّال) من قوله: وَ الْجُلُودُ [الحج: 20] في الحج، و قوله: وَ لَهُمْ مَقامِعُ [الحج: 21] من النصف الثاني.
و نصفه بالآيات يَأْفِكُونَ من سورة الشعراء، و قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ [الشعراء: 45.
46] من النصف الثاني.
و نصفه على عداد السور آخر الحديد، و المجادلة من النصف الثاني. و هو عشرة بالأحزاب.
و قيل: إنّ النّصف بالحروف (الكاف) من نُكْراً . و قيل: (الفاء) من قوله:
وَ لْيَتَلَطَّفْ [الكهف: 19].
ص: 244
النوع العشرون في معرفة حفّاظه و رواياته(1)
روى البخاريّ عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد اللّه بن مسعود، و سالم، و معاذ، و أبيّ بن كعب»(2) أي تعلّموا منهم.
و الأربعة المذكورون: اثنان من المهاجرين، و هما المبتدأ بهما، و اثنان من الأنصار.
و سالم: هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، و معاذ: هو ابن جبل.
قال الكرماني(3): يحتمل أنه صلّى اللّه عليه و سلّم أراد الإعلام بما يكون بعده، أي أنّ هؤلاء الأربعة يبقون حتى ينفردوا بذلك.
و تعقّب بأنّهم لم ينفردوا، بل الّذين مهروا في تجويد القرآن بعد العصر النبويّ أضعاف المذكورين، و قد قتل سالم مولى أبي حذيفة في وقعة اليمامة، و مات معاذ في خلافة عمر، و مات أبيّ و ابن مسعود في خلافة عثمان، و قد تأخّر زيد بن ثابت، و انتهت إليه الرئاسة في القراءة، و عاش بعدهم زمنا طويلا.
فالظاهر: أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول، و لا يلزم من ذلك ألاّ يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الّذين يحفظون مثل الّذي حفظوه و أزيد جماعة من الصحابة.
و في الصحيح في غزوة بئر معونة: أنّ الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القرّاء، و كانوا سبعين رجلا(4).
ص: 245
و روى البخاري. أيضا. عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم؟ فقال: أربعة كلّهم من الأنصار: أبيّ بن كعب، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد.
قلت: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي(1).
و روى أيضا من طريق ثابت، عن أنس قال: مات النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و لم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، و معاذ بن جبل، و زيد بن ثابت، و أبو زيد(2).
و فيه مخالفة لحديث قتادة من وجهين:
أحدهما: التصريح بصيغة الحصر في الأربعة.
و الآخر: ذكر أبي الدرداء بدل أبيّ بن كعب، و قد استنكر جماعة من الأئمة الحصر في الأربعة(3).
و قال المازري(4): لا يلزم من قول أنس: (لم يجمعه غيرهم (أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك؛ لأنّ التقدير أنّه لا يعلم أنّ سواهم جمعه، و إلاّ فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة، و تفرّقهم في البلاد؟ و هذا لا يتمّ إلاّ إن كان لقي كلّ واحد منهم على انفراده، و أخبره عن نفسه أنّه لم يكمل له جمع في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و هذا في غاية البعد في العادة، و إذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك.
قال: و قد تمسّك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، و لا متمسّك لهم فيه، فإنّا لا نسلم حمله على ظاهره، سلمناه، و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك! سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل من الجمّ الغفير لم يحفظه كلّه ألاّ يكون حفظ مجموعه الجمّ الغفير، و ليس من شرط التواتر أن يحفظ كلّ فرد جميعه، بل إذا حفظ الكلّ و لو على التوزيع كفى.
و قال القرطبي(5): قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، و قتل في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ببئر معونة مثل هذا العدد.1.
ص: 246
قال: و إنّما خصّ أنس الأربعة بالذكر لشدّة تعلقه بهم دون غيرهم، أو: لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم.
و قال القاضي أبو بكر الباقلاني(1): الجواب عن حديث أنس من أوجه:
أحدها: أنّه لا مفهوم له، فلا يلزم ألاّ يكون غيرهم جمعه.
الثاني: المراد لم يجمعه على جميع الوجوه و القراءات الّتي نزل بها إلاّ أولئك.
الثالث: لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته و ما لم ينسخ إلاّ أولئك.
الرابع: أنّ المراد بجمعه تلقّيه من في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لا بواسطة، بخلاف غيرهم، فيحتمل أن يكون تلقّى بعضه بالواسطة.
الخامس: أنهم تصدّوا لإلقائه و تعليمه، فاشتهروا به، و خفي حال غيرهم عمن عرف حالهم، فحصر ذلك فيهم بحسب علمه، و ليس الأمر في نفس الأمر كذلك.
السادس: المراد بالجمع الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا عن ظهر قلبه.
و أما هؤلاء فجمعوه كتابة، و حفظوه عن ظهر قلب.
السابع: المراد أنّ أحدا لم يفصح بأنه جمعه. بمعنى أكمل حفظه. في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلاّ أولئك، بخلاف غيرهم، فلم يفصح بذلك؛ لأنّ أحدا منهم لم يكمّله إلاّ عند وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين نزلت آخر آية؛ فلعلّ هذه الآية الأخيرة و ما أشبهها ما حضرها إلاّ أولئك الأربعة ممّن جمع جميع القرآن قبلها، و إن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع الكثير.
الثامن: أنّ المراد بجمعه السمع و الطاعة له، و العمل بموجبه، و قد أخرج أحمد في «الزّهد» من طريق أبي الزاهريّة، أنّ رجلا أتى أبا الدرداء، فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال:
اللهمّ غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له و أطاع(2).
قال ابن حجر(3): و في غالب هذه الاحتمالات تكلّف، و لا سيما الأخير. قال: و قد ظهر لي احتمال آخر، و هو أنّ المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين، لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس و الخزرج، كما أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس قال: افتخر الحيّان:
الأوس و الخزرج، فقال الأوس: منّا أربعة: من اهتزّ له العرش سعد بن معاذ، و من عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة بن ثابت، و من غسّلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، و من حمته الدّبر عاصم بن أبي ثابت.2.
ص: 247
فقال الخزرج: منّا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم...، فذكرهم(1).
قال: و الذي يظهر من كثير من الأحاديث أنّ أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، ففي الصّحيح: أنّه بنى مسجدا بفناء داره، فكان يقرأ فيه القرآن(2).
و هو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك.
قال: و هذا ممّا لا يرتاب فيه مع شدّة حرص أبي بكر على تلقّي القرآن من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و فراغ باله له و هما بمكة، و كثرة ملازمة كلّ منهما للآخر، حتى قالت عائشة: إنّه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يأتيهم بكرة و عشيا(3). و قد صح حديث: «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه»(4). و قد قدّمه صلّى اللّه عليه و سلّم في مرضه إماما للمهاجرين و الأنصار(5)، فدلّ على أنه كان أقرأهم. انتهى.
و سبقه إلى نحو ذلك ابن كثير.
قلت: لكن أخرج ابن أشتة في المصاحف و بسند صحيح: عن محمد بن سيرين، قال:
مات أبو بكر و لم يجمع القرآن، و قتل عمر و لم يجمع القرآن.
قال ابن أشتة: قال بعضهم: يعني: لم يقرأ جميع القرآن حفظا.
و قال بعضهم: هو جمع المصاحف.
قال ابن حجر(6): و قد ورد عن عليّ، أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. أخرجه ابن أبي داود.9.
ص: 248
و أخرج النّسائي بسند صحيح: عن عبد اللّه بن عمرو، قال: و جمعت القرآن، فقرأت به كلّ ليلة، فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: «اقرأه في شهر...» الحديث(1).
و أخرج ابن أبي داود بسند حسن: عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، و عبادة بن الصامت، و أبيّ بن كعب، و أبو الدرداء، و أبو أيّوب الأنصاريّ (2).
و أخرج البيهقيّ في المدخل عن ابن سيرين، قال: جمع القرآن على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أربعة، لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، و أبيّ بن كعب، و زيد، و أبو زيد، و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء و عثمان.
و قيل: عثمان، و تميم الدّاريّ.
و أخرج هو و ابن أبي داود، عن الشعبيّ، قال: جمع القرآن في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ستة:
أبي، و زيد، و معاذ، و أبو الدرداء، و سعد بن عبيد، و أبو زيد، و مجمّع بن جارية، قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة.
و قد ذكر أبو عبيد(3) في كتاب القراءات(4) القرّاء من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فعدّ من المهاجرين: الخلفاء الأربعة، و طلحة و سعدا، و ابن مسعود و حذيفة و سالما و أبا هريرة، و عبد اللّه بن السّائب، و العبادلة و عائشة و حفصة و أمّ سلمة.
و من الأنصار: عبادة بن الصامت و معاذ الذي يكنى أبا حليمة، و مجمّع بن جارية، و فضالة بن عبيد، و مسلمة بن مخلد.
و صرح بأنّ بعضهم إنّما أكمله بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، و عدّ ابن أبي داود منهم تميما الداري و عقبة بن عامر.
و ممّن جمعه. أيضا. أبو موسى الأشعريّ، ذكره أبو عمرو الدانيّ (5).
تنبيه: أبو زيد المذكور في حديث أنس، اختلف في اسمه، فقيل: سعد بن عبيد بن النعمان، أحد بني عمرو بن عوف، و ردّ بأنه أوسيّ و أنس خزرجيّ. و قد قال: إنّه أحد عمومته،1.
ص: 249
و بأن الشعبيّ عدّه ه و أبو زيد جميعا فيمن جمع القرآن كما تقدم، فدلّ على أنه غيره(1).
و قال أبو أحمد العسكريّ: لم يجمع القرآن من الأوس غير سعد بن عبيد. و قال ابن حبيب في المحبّر: سعد بن عبيد أحد من جمع القرآن على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم(2).
و قال ابن حجر(3): قد ذكر ابن أبي داود فيمن جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة، و هو خزرجيّ يكنى أبا زيد فلعلّه هو. و ذكر أيضا سعد بن المنذر ابن أوس بن زهير، و هو خزرجيّ، لكن لم أر التّصريح بأنه يكنى أبا زيد.
قال(4): ثم وجدت عن ابن أبي داود ما رفع الإشكال، فإنّه روى بإسناد على شرط البخاريّ إلى ثمامة، عن أنس: أنّ أبا زيد الّذي جمع القرآن اسمه قيس بن السّكن. قال:
و كان رجلا منّا من بني عديّ بن النجار أحد عمومتي، و مات و لم يدع عقبا، و نحن ورثناه.
قال ابن أبي داود: حدّثنا أنس بن خالد الأنصاريّ قال: هو قيس بن السكن بن زعوراء من بني عديّ بن النجار. قال ابن أبي داود: مات قريبا من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فذهب علمه، و لم يؤخذ عنه، و كان عقبيّا بدريّا. و من الأقوال في اسمه: ثابت و أوس و معاذ.
فائدة: ظفرت بامرأة من الصحابيّات جمعت القرآن، لم يعدّها أحد ممّن تكلّم في ذلك، فأخرج ابن سعد في الطبقات: أنبأنا الفضل بن دكين، قال: حدّثنا الوليد بن عبد اللّه بن جميع، قال: حدّثتني جدّتي، عن أمّ ورقة بنت عبد اللّه بن الحارث. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يزورها، و يسمّيها الشهيدة، و كانت قد جمعت القرآن. أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حين غزا بدرا قالت له: أ تأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم و أمرّض مرضاكم، لعلّ اللّه يهدي لي شهادة؟ قال: «إن اللّه مهد لك شهادة». و كان صلّى اللّه عليه و سلّم قد أمرها أن تؤمّ أهل دارها، و كان لها مؤذّن، فغمّها غلام لها و جارية كانت دبرتهما، فقتلاها في إمارة عمر، فقال عمر: صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، كان يقول: «انطلقوا بنا نزور الشهيدة»(5).ا.
ص: 250
عثمان، و عليّ، و أبيّ، و زيد بن ثابت، و ابن مسعود، و أبو الدّرداء، و أبو موسى الأشعري. كذا ذكرهم الذهبيّ في طبقات القراء(1).
قال: و قد قرأ على أبيّ جماعة من الصّحابة، منهم أبو هريرة، و ابن عباس، و عبد اللّه بن السائب، و أخذ ابن عباس، عن زيد أيضا، و أخذ عنهم خلق من التابعين.
فممّن كان بالمدينة: ابن المسيّب، و عروة، و سالم، و عمر بن عبد العزيز، و سليمان، و عطاء ابنا يسار، و معاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ، و عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، و ابن شهاب الزهريّ، و مسلم بن جندب، و زيد بن أسلم.
و بمكة: عبيد بن عمير، و عطاء بن أبي رباح، و طاوس، و مجاهد، و عكرمة، و ابن أبي مليكة.
و بالكوفة: علقمة، و الأسود، و مسروق، و عبيدة، و عمرو بن شرحبيل، و الحارث بن قيس، و الرّبيع بن خثيم، و عمرو بن ميمون، و أبو عبد الرحمن السّلميّ، و زرّ بن حبيش، و عبيد بن نضيلة، و سعيد بن جبير، و النّخعيّ و الشّعبيّ.
و بالبصرة: أبو العالية، و أبو رجاء، و نصر بن عاصم، و يحيى بن يعمر، و الحسن، و ابن سيرين، و قتادة.
و بالشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزوميّ صاحب عثمان، و خليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء.
ص: 251
ثم تجرّد قوم، و اعتنوا بضبط القراءة أتمّ عناية، حتى صاروا أئمّة يقتدى بهم و يرحل إليهم.
فكان بالمدينة: أبو جعفر يزيد بن القعقاع، ثم شيبة بن نصاح، ثم نافع بن أبي نعيم.
و بمكة: عبد اللّه بن كثير، و حميد بن قيس الأعرج، و محمد بن محيصن.
و بالكوفة: يحيى بن وثّاب، و عاصم بن أبي النّجود، و سليمان الأعمش، ثم حمزة ثم الكسائي.
و بالبصرة: عبد اللّه بن أبي إسحاق، و عيسى بن عمر، و أبو عمرو بن العلاء، و عاصم الجحدريّ، ثم يعقوب الحضرميّ.
و بالشام: عبد اللّه بن عامر، و عطيّة بن قيس الكلابيّ، و إسماعيل بن عبد اللّه بن المهاجر، ثمّ يحيى بن الحارث الذماريّ، ثمّ شريح بن يزيد الحضرميّ.
و اشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمة السبعة:
نافع، و قد أخذ عن سبعين من التابعين، منهم أبو جعفر.
و ابن كثير، و أخذ عن عبد اللّه بن السائب الصحابيّ.
و أبو عمرو، و أخذ عن التابعين.
و ابن عامر، و أخذ عن أبي الدّرداء، و أصحاب عثمان.
و عاصم، و أخذ عن التابعين.
و حمزة، و أخذ عن عاصم و الأعمش و السّبيعيّ و منصور بن المعتمر و غيره.
و الكسائي، و أخذ عن حمزة و أبي بكر بن عيّاش.
ثم انتشرت القراءات في الأقطار، و تفرّقوا أمما بعد أمم، و اشتهر من رواة كلّ طريق من طرق السبعة راويان:
فعن نافع: قالون و ورش، عنه.
و عن أبي عمرو: الدوري و السّوسيّ، عن اليزيديّ، عنه.
و عن ابن عامر: هشام و ابن ذكوان عن أصحابه، عنه.
و عن عاصم: أبو بكر بن عيّاش، و حفص، عنه.
و عن حمزة: خلف و خلاّد، عن سليم عنه.
و عن الكسائي: الدّوري، و أبو الحارث.
ثم لمّا اتّسع الخرق و كاد الباطل يلتبس بالحق، قام جهابذة الأمة، و بالغوا في الاجتهاد،
ص: 252
و جمعوا الحروف و القراءات، و عزوا الوجوه و الروايات، و ميّزوا الصحيح و المشهور و الشاذّ بأصول أصّلوها، و أركان فصّلوها.
فأوّل من صنّف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام، ثم أحمد بن جبير الكوفيّ، ثم إسماعيل بن إسحاق المالكيّ صاحب قالون، ثم أبو جعفر بن جرير الطبري، ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، ثم أبو بكر بن مجاهد، ثم قام الناس في عصره و بعده بالتأليف في أنواعها، جامعا و مفردا، و موجزا و مسهبا، و أئمة القراءات لا تحصى.
و قد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أبو عبد اللّه الذهبي، ثم حافظ القراءات أبو الخير بن الجزري(1).ى.
ص: 253
اعلم أنّ طلب علوّ الإسناد سنّة؛ فإنّه قرب إلى اللّه تعالى؛ و قد قسّمه أهل الحديث إلى خمسة أقسام و رأيتها تأتي هنا(1).
الأول: القرب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف؛ و هو أفضل أنواع العلوّ و أجلّها.
و أعلى ما يقع للشيوخ في هذا الزمان إسناد رجاله أربعة عشر رجلا، و إنما يقع ذلك من قراءة ابن عامر: من رواية ابن ذكوان.
ثم خمسة عشر؛ و إنما يقع ذلك من قراءة عاصم: من رواية حفص، و قراءة يعقوب:
من رواية رويس.
الثاني: من أقسام العلوّ عند المحدّثين: القرب إلى إمام من أئمة الحديث: كالأعمش، و هشيم، و ابن جريج، و الأوزاعيّ، و مالك. و نظيره هنا القرب إلى إمام من الأئمة السبعة.
فأعلى ما يقع اليوم للشيوخ بالإسناد المتّصل بالتلاوة إلى نافع: اثنا عشر، و إلى عامر:
اثنا عشر.
الثالث: عند المحدّثين: العلوّ بالنسبة إلى رواية أحد الكتب الستّة: بأن يروي حديثا لو رواه من طريق كتاب من السّتة وقع أنزل ممّا لو رواه من غير طريقها، و نظيره هنا العلو بالنسبة إلى بعض الكتب المشهورة في القراءات، كالتيسير و الشاطبية. و يقع في هذا النوع الموافقات، و الإبدال، و المساواة، و المصافحات.
فالموافقة: أن تجتمع طريقه مع أحد أصحاب الكتب في شيخه، و قد يكون مع علوّ على ما لو رواه من طريقه، و قد لا يكون.
مثاله في هذا الفنّ: قراءة ابن كثير رواية البزّيّ، طريق ابن بنان، عن أبي ربيعة عنه، يرويها ابن الجزريّ من كتاب «المفتاح» لأبي منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون، و من
ص: 254
كتاب «المصباح» لأبي الكرم الشهرزوريّ، و قرأ بها كلّ من المذكورين على عبد السيد بن عتاب. فروايته لها من أحد الطريقين، تسمّى موافقة للآخر، باصطلاح أهل الحديث.
و البدل: أن يجتمع معه في شيخه فصاعدا، و قد يكون. أيضا. بعلوّ، و قد لا يكون.
مثاله: هنا قراءة أبي عمرو، رواية الدوريّ، طريق ابن مجاهد، عن أبي الزّعراء عنه.
رواها ابن الجزريّ من كتاب «التيسير»(1)، قرأ بها الدّاني على أبي القاسم عبد العزيز بن جعفر البغداديّ، و قرأ بها على أبي طاهر، عن ابن مجاهد. و من «المصباح» قرأ بها أبو الكرم، على أبي القاسم يحيى بن أحمد السبتي، و قرأ بها على أبي الحسن الحمّاميّ، و قرأ على أبي طاهر، فروايته لها من طرق «المصباح» تسمّى بدلا للدّاني في شيخ شيخه.
و المساواة: أن يكون بين الراوي و النّبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أو الصّحابي أو من دونه، إلى شيخ أحد أصحاب الكتب، كما بين أحد أصحاب الكتب و النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، أو الصحابي أو من دونه، على ما ذكر من العدد.
و المصافحة: أن يكون أكثر عددا منه بواحد؛ فكأنه لقي صاحب ذلك الكتاب، و صافحه، و أخذ عنه.
مثاله قراءة نافع؛ رواها الشاطبيّ عن أبي عبد اللّه محمد بن عليّ النّفّريّ، عن أبي عبد اللّه بن غلام الفرس، عن سليمان بن نجاح و غيره، عن أبي عمرو الداني، عن أبي الفتح فارس بن أحمد، عن عبد الباقي بن الحسن، عن إبراهيم عن عمر المقرئ، عن أبي الحسن بن بويان، عن أبي بكر بن الأشعث، عن أبي جعفر الرّبعيّ المعروف بأبي نشيط، عن قالون، عن نافع(2).
و رواها ابن الجزريّ: عن أبي بكر الخياط، عن أبي محمد البغداديّ، و غيره، عن الصائغ، عن الكمال بن فارس، عن أبي اليمن الكندي، عن أبي القاسم هبة اللّه بن أحمد الحريري، عن أبي بكر الخياط، عن الفرضي، عن ابن بويان(3).
فهذه مساواة لابن الجزريّ؛ لأنّ بينه و بين ابن بويان سبعة، و هو العدد الذي بين الشاطبيّ و بينه، و هي لمن أخذ عن ابن الجزريّ مصافحة للشاطبيّ.
و مما يشبه هذا التقسيم الذي لأهل الحديث؛ تقسيم القرّاء أحوال الإسناد، إلى قراءة و رواية و طريق و وجه.1.
ص: 255
فالخلاف: إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم، و اتفقت عليه الروايات و الطرق عنه، فهو قراءة.
و إن كان للراوي عنه فرواية.
أو لمن بعده فنازلا فطريق. أو لا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه، فوجه.
الرابع: من أقسام العلوّ: تقدّم وفاة الشيخ عن قرينه الذي أخذ عن شيخه: فالأخذ مثلا عن التاج بن مكتوم أعلى من الأخذ عن أبي المعالي بن اللّبّان، و عن ابن اللّبّان أعلى من البرهان الشاميّ، و إن اشتركوا في الأخذ عن أبي حيّان، لتقدم وفاة الأوّل على الثاني، و الثاني على الثالث.
الخامس: العلوّ بموت الشيخ لا مع التفات لأمر أخر، أو شيخ آخر متى يكون:
قال بعض المحدّثين: يوصف الإسناد بالعلوّ إذا مضى عليه من موت الشيخ خمسون سنة. و قال ابن منده: ثلاثون.
فعلى هذا، الأخذ عن أصحاب ابن الجزريّ عال من سنة ثلاث و ستين و ثمانمائة؛ لأنّ ابن الجزريّ آخر من كان سنده عاليا، و مضى عليه حينئذ من موته ثلاثون سنة.
فهذا ما حرّرته من قواعد الحديث، و خرّجت عليه قواعد القراءات، و لم أسبق إليه و للّه الحمد و المنة.
و إذا عرفت العلوّ بأقسامه، عرفت النزول، فإنه ضدّه، و حيث ذم النزول فهو ما لم ينجبر بكون رجاله أعلم و أحفظ و أتقن أو أجلّ أو أشهر أو أورع، أما إذا كان كذلك فليس بمذموم و لا مفضول.
ص: 256
النوع الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس و السابع و العشرون معرفة المتواتر، و المشهور، و الآحاد، و الشاذ، و الموضوع، و المدرج(1)
اعلم أنّ القاضي جلال الدين البلقينيّ قال: القراءة تنقسم إلى متواتر و آحاد و شاذّ.
فالمتواتر: القراءات السبعة المشهورة.
و الآحاد: قراءات الثلاثة الّتي هي تمام العشر، و يلحق بها قراءة الصحابة.
و الشاذّ: قراءات التّابعين، كالأعمش، و يحيى بن وثّاب، و ابن جبير، و نحوهم.
و هذا الكلام فيه نظر يعرف ممّا سنذكره.
و أحسن من تكلّم في هذا النوع إمام القرّاء في زمانه، شيخ شيوخنا أبو الخير بن الجزريّ، قال في أوّل كتابه «النشر»(2): كلّ قراءة وافقت العربيّة و لو بوجه، و وافقت أحد المصاحف العثمانية و لو احتمالا، و صحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها و لا يحلّ إنكارها، بل هي الأحرف السبعة الّتي نزل بها القرآن، و وجب على الناس قبولها؛ سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم، من الأئمة المقبولين. و متى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أو عمّن هو أكبر منهم.
هذا هو الصّحيح عند أئمة التحقيق من السّلف و الخلف، صرّح بذلك الدانيّ و مكيّ و المهدويّ، و أبو شامة، و هو مذهب السّلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.
قال أبو شامة في «المرشد الوجيز»(3): لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة و يطلق عليها لفظ الصحة، و أنّها أنزلت هكذا، إلاّ إذا دخلت في ذلك الضابط. و حينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، و لا يختصّ ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القرّاء، فذلك لا يخرجها عن الصحّة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا على
ص: 257
من تنسب إليه؛ فإنّ القراءة المنسوبة إلى كل قراء من السبعة و غيرهم منقسمة إلى المجمع عليه و الشاذّ، غير أنّ هؤلاء السبعة لشهرتهم و كثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم، تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم.
ثم قال ابن الجزري(1): فقولنا في الضّابط: (و لو بوجه)، نريد به وجها من وجوه النحو، سواء كان أفصح أم فصيحا، مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضرّ مثله، إذا كانت القراءات ممّا شاع و ذاع، و تلقّاه الأئمة بالإسناد الصحيح؛ إذ هو الأصل الأعظم، و الركن الأقوم.
و كم من قراءة أنكرها بعض أهل النّحو أو كثير منهم؛ و لم يعتبر إنكارهم، كإسكان:
بارِئِكُمْ [البقرة: 45] و يَأْمُرُكُمْ [البقرة: 67] و خفض: وَ الْأَرْحامَ [النساء: 1] و نصب:
لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] و الفصل بين المضافين في: قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] و غير ذلك.
قال الدّانيّ: و أئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة و الأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، و الأصحّ في النقل، و إذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية و لا فشوّ لغة؛ لأنّ القراءة سنّة متّبعة، يلزم قبولها و المصير إليها.
قلت: أخرج سعيد بن منصور في سننه، عن زيد بن ثابت قال: القراءة سنّة متّبعة(2).
قال البيهقي(3): أراد اتّباع من قبلنا في الحروف سنّة متبعة، لا يجوز مخالفة المصحف الّذي هو إمام، و لا مخالفة القراءات الّتي هي مشهورة، و إن كان غير ذلك سائغا في اللغة أو أظهر منها.
ثم قال ابن الجزريّ (4): و نعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتا في بعضها دون بعض؛ كقراءة ابن عامر: وَ قالُوا اتَّخَذَ اللّهُ [البقرة: 116] في البقرة بغير واو، وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ [آل عمران: 184] بإثبات الباء فيهما؛ فإنّ ذلك ثابت في المصحف الشاميّ،3.
ص: 258
و كقراءة ابن كثير: تجري من تحتها الأنهار [100] في آخر براءة بزيادة (من) فإنّه ثابت في المصحف المكيّ، و نحو ذلك، فإن لم تكن في شيء من المصاحف العثمانية فشاذّ، لمخالفتها الرسم المجمع عليه.
و قولنا: (و لو احتمالا) نعني به: ما وافقه و لو تقديرا ك (ملك يوم الدين)، فإنه كتب في الجميع بلا ألف، فقراءة الحذف توافقه تحقيقا، و قراءة الألف توافقه تقديرا، لحذفها في الخطّ اختصارا كما كتب: ملك الملك [آل عمران: 26].
و قد يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقا، نحو (تعلمون) بالتاء و الياء و (يغفر لكم) بالياء و النون، و نحو ذلك مما يدلّ تجرّده عن النقط و الشكل في حذفه و إثباته على فضل عظيم للصحابة رضي اللّه عنهم في علم الهجاء خاصّة، و فهم ثاقب في تحقيق كلّ علم. و انظر كيف كتبوا (الصراط) بالصاد المبدلة من السين، و عدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السّين. و إن خالفت الرسم من وجه. قد أتت على الأصل، فيعتدلان، و تكون قراءة الإشمام محتملة، و لو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك. و عدّت قراءة غير السين مخالفة للرسم و الأصل؛ و لذلك اختلف في: «بصطة» [الأعراف: 69] دون: بَصْطَةً [البقرة:
247]؛ لكون حرف البقرة كتب بالسين و الأعراف بالصاد، على أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعدّ مخالفا إذا ثبتت القراءة به، و وردت مشهورة مستفاضة؛ و لذا لم يعدّوا إثبات ياء الزوائد، و حذف ياء: فَلا تَسْئَلْنِي في الكهف [70] و واو: وَ أَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ [المنافقون: 10] و الظاء من بِضَنِينٍ [التكوير:
24]، و نحوه من مخالفة الرسم المردودة، فإنّ الخلاف في ذلك مغتفر، إذ هو قريب يرجع إلى معنى واحد، و تمشّيه صحّة القراءة و شهرتها و تلقيها بالقبول، بخلاف زيادة كلمة و نقصانها، و تقديمها و تأخيرها، حتى و لو كانت حرفا واحدا من حروف المعاني، فإنّ حكمه في حكم الكلمة، لا تسوغ مخالفة الرّسم فيه، و هذا هو الحدّ الفاصل في حقيقة اتباع الرّسم و مخالفته.
قال(1): و قولنا: (و صحّ سندها): نعني به: أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله، و هكذا حتى ينتهي؛ و تكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن، غير معدودة عندهم من الغلط، أو مما شذّ بها بعضهم.
قال(2): و قد شرط بعض المتأخّرين التّواتر في هذا الرّكن، و لم يكتف بصحّة السند، و زعم أنّ القرآن لا يثبت إلاّ بالتواتر، و أنّ ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن.1.
ص: 259
قال: و هذا ممّا لا يخفى ما فيه؛ فإنّ التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم و غيره؛ إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم وجب قبوله، و قطع بكونه قرآنا، سواء وافق الرسم أم لا. و إذا شرطنا التواتر في كلّ حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن السبعة. و قد قال أبو شامة(1): شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين و غيرهم من المقلّدين: أنّ السبع كلّها متواترة، أي كلّ فرد فرد فيما روي عنهم.
قالوا: و القطع بأنّها منزّلة من عند اللّه واجب، و نحن بهذا نقول، و لكن فيما اجتمعت على نقله عنه الطرق، و اتّفقت عليه الفرق من غير نكير له، فلا أقلّ من اشتراط ذلك إذا لم يتّفق التواتر في بعضها.
و قال الجعبريّ: الشرط واحد، و هو صحّة النقل، و يلزم الآخران، فمن أحكم معرفة حال النقلة و أمعن في العربية، و أتقن الرسم، انحلّت له هذه الشبهة.
و قال مكيّ (2): ما روي في القرآن على ثلاثة أقسام:
قسم يقرأ به و يكفر جاحده، و هو ما نقله الثّقات، و وافق العربية و خطّ المصحف.
و قسم صحّ نقله عن الآحاد، و صحّ في العربية، و خالف لفظه الخطّ فيقبل، و لا يقرأ به لأمرين: مخالفته لما أجمع عليه، و أنه لم يؤخذ بإجماع، بل بخبر الآحاد و لا يثبت به قرآن، و لا يكفر جاحده، و لبئس ما صنع إذ جحده.
و قسم نقله ثقة، و لا وجه له في العربية، أو نقله غير ثقة، فلا يقبل و إن وافق الخطّ.
و قال ابن الجزريّ (3): مثال الأوّل كثير ك ملك و مَلِكِ ، و يَخْدَعُونَ و يُخادعون. و مثال الثاني: قراءة ابن مسعود و غيره (و الذّكر و الأنثى)، و قراءة ابن عباس:
(و كان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة)، و نحو ذلك.
قال: و اختلف العلماء في القراءة بذلك، و الأكثر على المنع؛ لأنها لم تتواتر، و إن ثبتت بالنقل؛ فهي منسوخة بالعرضة الأخيرة، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني.
و مثال ما نقله غير ثقة كثير ممّا في كتب الشواذّ، ممّا غالب إسناده ضعيف؛ و كالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة الّتي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعيّ، و نقلها عنه أبو القاسم الهذليّ، و منها: (إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء) برفع (اللّه) و نصب (العلماء)،6.
ص: 260
و قد كتب الدّار قطني و جماعة بأنّ هذا الكتاب موضوع، لا أصل له.
و مثال ما نقله ثقة و لا وجه له في العربية قليل لا يكاد يوجد، و جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع: (معايش) بالهمزة.
قال(1): و بقي قسم رابع مردود أيضا، هو ما وافق العربيّة و الرسم، و لم ينقل البتّة فهذا ردّه أحقّ، و منعه أشدّ، و مرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر، و قد ذكر جواز ذلك عن أبي بكر بن مقسم، و عقد له بسبب ذلك مجلس و أجمعوا على منعه(2)، و من ثمّ امتنعت القراءة بالقياس المطلق الّذي لا أصل له يرجع إليه، و لا ركن يعتمد في الأداء عليه.
قال(3): أمّا ما له أصل كذلك، فإنّه مما يصار إلى قبول القياس عليه كقياس إدغام:
قالَ رَجُلانِ [المائدة: 23] على: قالَ رَبُّ * [الشعراء: 28.24] و نحوه مما لا يخالف نصّا و لا أصلا، و لا يردّ إجماعا، مع أنه قليل جدّا.
قلت: أتقن الإمام ابن الجزريّ هذا الفصل جدا(4)، و قد تحرّر لي منه أن القراءات أنواع:
الأوّل: المتواتر: و هو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى منتهاه، و غالب القراءات كذلك.
الثاني: المشهور: و هو ما صحّ سنده و لم يبلغ درجة التّواتر، و وافق العربيّة و الرسم، و اشتهر عند القراء، فلم يعدّه من الغلط و لا من الشذوذ، و يقرأ به، على ما ذكر ابن الجزريّ و يفهمه كلام ابن شامة السابق.
و مثاله: ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض، و أمثلة ذلك كثيرة في فرش الحروف من كتب القراءات كالذي قبله، و من أشهر ما صنّف في ذلك «التيسير» للداني(5)، و قصيدة الشاطبي(6)، و أوعبه «النشر في القراءات العشر»(7) و تقريب النّشر(8) كلاهما لابن الجزريّ.ا.
ص: 261
الثالث: الآحاد: و هو ما صحّ سنده و خالف الرّسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، و لا يقرأ به، و قد عقد التّرمذيّ في جامعه، و الحاكم في مستدركه، لذلك بابا أخرجا فيه شيئا كثيرا صحيح الإسناد(1)؛ من ذلك ما أخرجه الحاكم، من طريق عاصم الجحدريّ، عن أبي بكرة: أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ: «متكئين على رفارف خضر و عباقريّ حسان»(2).
و أخرج من حديث أبي هريرة: أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّات أعين»(3).
و أخرج عن ابن عباس أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ:
«لقد جاءكم رسول من أنفسكم»(4). بفتح الفاء.
و أخرج عن عائشة: أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ: «فروح و ريحان» يعني بضم الراء(5).
الرابع: الشاذّ: و هو ما لم يصحّ سنده، و فيه كتب مؤلفه، من ذلك قراءة: (ملك يوم الدين) بصيغة الماضي، و نصب (يوم)، و: (إياك يعبد) ببنائه للمفعول.
الخامس: الموضوع: كقراءات الخزاعيّ.
و ظهر لي سادس يشبهه من أنواع الحديث المدرج: و هو ما زيد في القراءات على وجه التفسير، كقراءة سعد بن أبي وقاص: (و له أخ أو أخت من أمّ) أخرجها سعيد بن منصور(6).
و قراءة ابن عباس: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحج) أخرجها البخاري(7). -
ص: 262
و قراءة ابن الزبير: (و لتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يستعينون باللّه على ما أصابهم)(1) قال عمرو: فما أدري: أ كانت قراءته أم فسّر؟ أخرجه سعيد بن منصور، و أخرجه ابن الأنباري و جزم بأنه تفسير.
و أخرج عن الحسن أنه كان يقرأ: (و إن منكم إلاّ واردها، الورود: الدّخول)(2).
قال ابن الأنباريّ: قوله: (الورود: الدخول) تفسير من الحسن لمعنى الورود. و غلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن.
قال ابن الجزريّ في آخر كلامه(3): و ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا و بيانا، لأنهم محققون لما تلقّوه عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس، و ربما كان بعضهم يكتبه معه.
و أما من يقول: إنّ بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى، فقد كذب. انتهى.
و سأفرد في هذا النوع. أعني المدرج. تأليفا مستقلا.
و أمّا في محله و وضعه و ترتيبه فكذلك عند محقّقي أهل السنّة، للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله؛ لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم و الصراط المستقيم، ممّا تتوفّر الدواعي على نقل جمله و تفاصيله، فما نقل آحاد و لم يتواتر، يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا(4).
و ذهب كثير من الأصوليّين: إلى أنّ التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله، و ليس بشرط في محلّه و وضعه و ترتيبه؛ بل يكثر فيها نقل الآحاد.
ص: 263
قيل: و هو الذي يقتضيه صنع الشافعيّ في إثبات البسملة من كلّ سورة(1).
و ردّ هذا المذهب بأنّ الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع، و لأنّه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرّر و ثبوت كثير مما ليس بقرآن، أمّا الأوّل فلأنّا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألاّ يتواتر كثير من المتكرّرات الواقعة في القرآن، مثل: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) [الرحمن: 13]. و أما الثاني: فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل، جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد(2).
و قال القاضي أبو بكر في «الانتصار»(3): ذهب قوم من الفقهاء و المتكلّمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة، و كره ذلك أهل الحقّ و امتنعوا منه.1.
ص: 264
و قال قوم من المتكلّمين: إنّه يسوغ إعمال الرّأي و الاجتهاد في إثبات قراءة و أوجه و أحرف؛ إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية، و إن لم يثبت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ بها. و أبى ذلك أهل الحقّ، و أنكروه و خطّئوا من قال به. انتهى.
و قد بنى المالكيّة و غيرهم ممّن قال بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل، و قرّروه بأنها لم تتواتر في أوائل السّور، و ما لم يتواتر فليس بقرآن.
و أجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر، فربّ متواتر عند قوم دون آخرين، و في وقت دون آخر، و يكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصّحابة فمن بعدهم بخطّ المصحف، مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه، كأسماء السور، و آمين، و الأعشار؛ فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز؛ لأنّ ذلك يحمل على اعتقادها، فيكونون مغرّرين بالمسلمين، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا، و هذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصحابة.
فإن قيل: لعلّها أثبتت للفصل بين السور؛ أجيب: بأنّ هذا فيه تغرير، و لا يجوز ارتكابه لمجرّد الفصل؛ و لو كانت له لكتبت بين براءة و الأنفال.
و يدلّ لكونها قرآنا منزلا: ما أخرجه أحمد و أبو داود و الحاكم و غيرهم عن أم سلمة، أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (1) ...
الحديث؛ و فيه: و عدّ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية، و لم يعدّ: عَلَيْهِمْ (2).
و أخرج ابن خزيمة و البيهقيّ في «المعرفة» بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2).
و أخرج البيهقيّ في الشعب، و ابن مردويه. بسند حسن.، من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: أغفل النّاس آية من كتاب اللّه، لم تنزل على أحد سوى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، إلاّ أن يكون سليمان بن داود: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3).3.
ص: 265
و أخرج الدارقطنيّ و الطبرانيّ في الأوسط بسند ضعيف عن بريدة قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم:
«لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية لم تنزل على نبيّ بعد سليمان غيري». ثم قال: «بأيّ شيء تفتتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟»، قلت: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال: «هي هي»(1).
و أخرج أبو داود، و الحاكم، و البيهقيّ، و البزّار، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ .
زاد البزّار: فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد ختمت و استقبلت، أو ابتدئت سورة أخرى(2).
و أخرج الحاكم من وجه آخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، فإذا نزلت علموا أنّ السورة قد انقضت. إسناده على شرط الشّيخين(3).
و أخرج الحاكم. أيضا. من وجه آخر، عن سعيد، عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا جاءه جبريل فقرأ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * علم أنّها سورة. إسناده صحيح(4).ق.
ص: 266
و أخرج البيهقيّ في الشّعب و غيره: عن ابن مسعود قال: كنّا لا نعلم فصلا بين السورتين، حتى تنزل: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1).
قال أبو شامة(2): يحتمل أن يكون ذلك وقت عرضه صلّى اللّه عليه و سلّم على جبريل، كان لا يزال يقرأ في السورة إلى أن يأمره جبريل بالتسمية، فيعلم أنّ السورة قد انقضت. و عبّر صلّى اللّه عليه و سلّم بلفظ النزول إشعارا بأنّها قرآن في جميع أوائل السور. و يحتمل أن يكون المراد أنّ جميع آيات كلّ سورة كانت تنزل قبل نزول البسملة، فإذا كملت آياتها نزل جبريل بالبسملة و استعرض السّورة، فيعلم النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أنّها قد ختمت، و لا يلحق بها شيء.
و أخرج ابن خزيمة، و البيهقيّ. بسند صحيح.، عن ابن عباس، قال: السبع المثاني:
فاتحة الكتاب.
قيل: فأين السابعة؟ قال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3).
و أخرج الدار قطني بسند صحيح: عن عليّ: أنّه سئل عن السبع المثاني، فقال:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) ، فقيل له: إنّما هي ستّ آيات، فقال: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية(4).
و أخرج الدار قطني و أبو نعيم و الحاكم في تاريخه. بسند ضعيف. عن نافع، عن ابن عمر، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (5).
و أخرج الواحديّ من وجه آخر: عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزلت بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * في كلّ سورة(6). -
ص: 267
و أخرج البيهقيّ من وجه ثالث، عن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان يقرأ في الصلاة بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و إذا ختم السورة قرأها، و يقول: ما كتبت في المصحف إلاّ لتقرأ(1).
و أخرج الدارقطنيّ. بسند صحيح.، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا قرأتم الحمد، فاقرءوا بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إنّها أم القرآن، و أمّ الكتاب و السبع المثاني، و بسم اللّه الرحمن الرحيم إحدى آياتها»(2).
و أخرج مسلم، عن أنس، قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسّما، فقال: «أنزلت عليّ آنفا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1).» الحديث(3).
فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنويّ بكونها قرآنا منزّلا في أوائل السّور.
و من المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين، قال: نقل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة و المعوّذتين من القرآن، و هو في غاية الصعوبة، لأنّا إنّ قلنا: إنّ النّقل المتواتر كان حاصلا في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر.0.
ص: 268
و إن قلنا: لم يكن حاصلا في ذلك الزمان، فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل.
قال: و إلاّ غلب على الظّن أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، و به يحصل الخلاص عن هذه العقدة(1).
و كذا قال القاضي أبو بكر: لم يصحّ عنه أنها ليست من القرآن و لا حفظ عنه. إنّما حكّها و أسقطها من مصحفه إنكارا لكتابتها، لا جحدا لكونها قرآنا؛ لأنّه كانت السنّة عنده ألاّ يكتب في المصحف إلاّ ما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بإثباته فيه، و لم يجده كتب ذلك و لا سمعه أمر به(2).
و قال النوويّ في شرح المهذّب: أجمع المسلمون على أنّ المعوذتين و الفاتحة من القرآن، و أنّ من جحد منها شيئا كفر، و ما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح(3).
و قال ابن حزم في المحلّى: هذا كذب على ابن مسعود و موضوع، و إنما صحّ عنه:
قراءة عاصم، عن زرّ، عنه، و فيها المعوّذتان و الفاتحة(4).
و قال ابن حجر في شرح البخاري(5): قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد و ابن حبّان عنه أنّه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه(6).
و أخرج عبد اللّه بن أحمد في زيادات المسند و الطبرانيّ و ابن مردويه: من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد النّخعيّ، قال: كان عبد اللّه بن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه، و يقول: إنّهما ليستا من كتاب اللّه(7).
و أخرج البزار و الطبرانيّ من وجه آخر عنه: أنّه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف و يقول: إنّما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم أن يتعوّذ بهما، و كان لا يقرأ بهما. أسانيده صحيحة(8)..
ص: 269
قال البزّار(1): لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة، و قد صحّ أنه صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ بهما في الصلاة(2).
قال ابن حجر(3): فقول من قال: إنه كذب عليه، مردود، و الطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الروايات صحيحة، و التأويل محتمل.
قال: و قد أوّله القاضي و غيره على إنكار الكتابة كما سبق.
قال: و هو تأويل حسن؛ إلاّ أنّ الرواية الصريحة الّتي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها:
(و يقول: إنهما ليستا من كتاب اللّه).
قال: و يمكن حمل لفظ: (كتاب اللّه) على المصحف، فيتمّ التأويل المذكور.
قال: لكن من تأمّل سياق الطرق المذكورة، استبعد هذا الجمع.
قال: و قد أجاب ابن الصّبّاغ، بأنه لم يستقرّ عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك، و حاصله أنّهما كانتا متواترتين في عصره؛ لكنهما لم يتواترا عنده. انتهى.
و قال ابن قتيبة في «مشكل القرآن»(4): ظنّ ابن مسعود أنّ المعوّذتين ليستا من القرآن؛ لأنه رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم يعوّذ بهما الحسن و الحسين، فأقام على ظنّه، و لا نقول: إنّه أصاب في ذلك و أخطأ المهاجرون و الأنصار.
قال: و أما إسقاطه الفاتحة من مصحفه، فليس لظنه أنّها ليست من القرآن، معاذ اللّه! و لكنّه ذهب إلى أنّ القرآن إنّما كتب و جمع بين اللوحين مخافة الشكّ و النسيان و الزيادة و النقصان، و رأى أنّ ذلك مأمون في سورة الحمد، لقصرها و وجوب تعلّمها على كلّ واحد.
قلت: و إسقاطه الفاتحة من مصحفه، أخرجه أبو عبيد بسند صحيح(5)، كما تقدم في أوائل النوع التاسع عشر.
التنبيه الثاني: قال الزركشيّ في البرهان(6): القرآن و القراءات حقيقتان متغايرتان،
فالقرآن: هو الوحي المنزّل على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم للبيان و الإعجاز، و القراءات اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في الحروف أو كيفيتها، من تخفيف و تشديد و غيرهما، و القراءات السبع متواترة عند الجمهور.
ص: 270
و قيل: بل مشهورة.
قال الزركشيّ (1): و التحقيق أنّها متواترة عن الأئمة السبعة، أمّا تواترها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ففيه نظر، فإنّ إسنادهم بهذه القراءات السبع موجود في كتب القراءات، و هي نقل الواحد عن الواحد.
قلت: في ذلك نظر لما سيأتي، و استثنى أبو شامة. كما تقدم. الألفاظ المختلف فيها عن القراء.
و استثنى ابن الحاجب: ما كان من قبيل الأداء، كالمدّ و الإمالة و تحقيق الهمزة(2).
و قال غيره: الحقّ أنّ أصل المدّ و الإمالة متواتر، و لكن التقدير غير متواتر للاختلاف في كيفيته. كذا قال الزركشيّ، قال: و أمّا أنواع تحقيق الهمزة فكلّها متواترة(3).
و قال ابن الجزريّ (4): لا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب إلى ذلك، و قد نصّ على تواتر ذلك كله أئمة الأصول كالقاضي أبو بكر و غيره، و هو الصواب؛ لأنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر هيئة أدائه؛ لأنّ اللفظ لا يقوم إلاّ به و لا يصحّ إلا بوجوده.
قال أبو شامة(5): ظنّ قوم أنّ القراءات السبع الموجودة الآن هي الّتي أريدت في الحديث، و هو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، و إنّما يظنّ ذلك بعض أهل الجهل.
و قال أبو العباس بن عمار(6): لقد نقل مسبّع هذه السبعة ما لا ينبغي له، و أشكل الأمر على العامة بإيهامه كلّ من قلّ نظره: أنّ هذه القراءات هي المذكورة في الخبر؛ وليته إذا اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة.
و وقع له. أيضا. في اقتصاره عن كلّ إمام على راويين أنّه صار من سمع قراءة راو ثالث غيرهما أبطلها، و قد تكون هي أشهر و أصحّ و أظهر، و ربّما بالغ من لا يفهم فخطّأ أو كفّر.
و قال أبو بكر بن العربيّ: ليست هذه السبعة متعيّنة للجواز حتى لا يجوز غيرها، كقراءة أبي جعفر و شيبة و الأعمش و نحوهم؛ فإنّ هؤلاء مثلهم أو فوقهم. و كذا قال غير واحد؛ منهم مكي و أبو العلاء الهمذانيّ و آخرون من أئمة القراء(7).
ص: 271
و قال أبو حيّان(1): ليس في كتاب ابن مجاهد و من تبعه من القراءات المشهورة إلاّ النّزر اليسير، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويا ثم ساق أسماءهم، و اقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيديّ، و اشتهر عن اليزيديّ عشرة أنفس، فكيف يقتصر على السّوسيّ و الدّوريّ، و ليس لهما مزية على غيرهما، لأنّ الجميع يشتركون في الضبط و الإتقان و الاشتراك في الأخذ. قال: و لا أعرف لهذا سببا إلاّ ما قضي من نقص العلم.
و قال مكيّ (2): من ظنّ أن قراءة هؤلاء القراء. كنافع و عاصم. هي الأحرف السّبعة الّتي في الحديث فقد غلط غلطا عظيما.
قال: و يلزم من هذا أنّ ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة ممّا ثبت عن الأئمة و غيرهم، و وافق خط المصحف، ألاّ يكون قرآنا، و هذا غلط عظيم؛ فإن الذين صنّفوا القراءات من الأئمة المتقدمين. كأبي عبيد القاسم بن سلاّم و أبي حاتم السجستاني و أبي جعفر الطبريّ و إسماعيل القاضي. قد ذكروا أضعاف هؤلاء، و كان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة أبي عمرو و يعقوب، و بالكوفة على قراءة حمزة و عاصم، و بالشام على قراءة ابن عامر، و بمكّة على قراءة ابن كثير، و بالمدينة على قراءة نافع، و استمرّوا على ذلك، فلمّا كان على رأس الثلاثمائة أثبت ابن مجاهد اسم الكسائيّ و حذف يعقوب.
قال: و السبب في الاقتصار على السبعة. مع أنّ في أئمة القراء من هو أجلّ منهم قدرا أو مثلهم أكثر من عددهم. أنّ الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا، فلمّا تقاصرت الهمم، اقتصروا ممّا يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه و تنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثّقة و الأمانة و طول العمر في ملازمة القراءة و الاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كلّ مصر إماما واحدا، و لم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات و لا القراءة به، كقراءة يعقوب و أبي جعفر و شيبة و غيرهم.
قال(3): و قد صنف ابن جبير المكي. قبل ابن مجاهد. كتابا في القراءات، فاقتصر على خمسة، اختار من كلّ مصر إماما؛ و إنما اقتصر على ذلك لأنّ المصاحف الّتي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار؛ و يقال: إنّه وجّه بسبعة: هذه الخمسة، و مصحفا إلى اليمن، و مصحفا إلى البحرين، لكن لمّا لم يسمع لهذين المصحفين خبر، و أراد ابن مجاهد و غيره مراعاة عدد المصاحف، استبدلوا من غير البحرين و اليمن قارئين كمل بهما العدد، فصادف ذلك موافقة العدد الّذي ورد الخبر به، فوقع ذلك لمن لم يعرف أصل المسألة؛ و لم تكن له1.
ص: 272
فطنة، فظنّ أنّ المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع.
و الأصل المعتمد عليه صحّة السند في السماع، و استقامة الوجه في العربيّة و موافقة الرسم.
و أصحّ القراءات سندا نافع و عاصم، و أفصحها أبو عمرو و الكسائي.
و قال القرّاب في الشافي(1): التمسك بقراءة سبعة من القرّاء دون غيرهم ليس فيه أثر و لا سنّة، و إنّما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر، و أوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، و ذلك لم يقل به أحد.
و قال الكواشي(2): كلّ ما صحّ سنده و استقام وجهه في العربية، و وافق خطّ المصحف الإمام، فهو من السبعة المنصوصة، و متى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذّ.
و قد اشتدّ إنكار أئمة هذا الشأن على من ظنّ انحصار القراءات المشهورة في مثل ما في «التيسير» و «الشاطبية»، و آخر من صرّح بذلك الشيخ تقيّ الدين السبكيّ، فقال في «شرح المنهاج»:(3) قال الأصحاب: تجوز القراءة في الصّلاة و غيرها بالقراءات السبع؛ و لا تجوز بالشّاذّة، و ظاهر هذا يوهم أنّ غير السبع المشهورة من الشواذّ، و قد نقل البغويّ (4) الاتفاق على القراءة بقراءة يعقوب و أبي جعفر مع السبع المشهورة؛ و هذا القول هو الصواب.
و قال: و اعلم أنّ الخارج عن السبع المشهورة على قسمين:
منه ما يخالف رسم المصحف: فهذا لا شك في أنه لا تجوز قراءته لا في الصلاة و لا في غيرها.
و منه ما لا يخالف رسم المصحف: و لم تشتهر القراءة به، و إنّما ورد من طريق غريب لا يعوّل عليها، و هذا يظهر المنع من القراءة به أيضا.
و منه ما اشتهر عن أئمة هذا الشأن القراءة به قديما و حديثا فهذا لا وجه للمنع منه، و من ذلك قراءة يعقوب و غيره.
قال: و البغويّ أولى من يعتمد عليه في ذلك؛ فإنّه مقرئ فقيه جامع للعلوم. قال:
و هكذا التفصيل في شواذ السبعة، فإنّ عنهم شيئا كثيرا شاذّا. انتهى.
و قال ولده في «منع الموانع»: إنما قلنا في «جمع الجوامع»: و السبع متواترة، ثم قلنا في1.
ص: 273
الشاذ و الصحيح: إنه ما وراء العشرة، و لم نقل: و العشر متواترة؛ لأنّ السبع لم يختلف في تواترها، فذكرنا أوّلا موضع الإجماع، ثم عطفنا عليه موضع الخلاف.
قال: على أنّ القول بأنّ القراءات الثلاث غير متواترة في غاية السقوط، و لا يصحّ القول به عمّن يعتبر قوله في الدّين، و هي لا تخالف رسم المصحف.
قال: و قد سمعت أبي يشدّد النكير على بعض القضاة، و قد بلغه أنّه منع من القراءة بها، و استأذنه بعض أصحابنا مرّة في إقراء السبع، فقال: أذنت لك أن تقرئ العشر. انتهى.
و قال في جواب سؤال سأله ابن الجزريّ (1): القراءات السبع، التي اقتصر عليها الشاطبي، و الثلاث. التي هي: قراءة أبي جعفر و يعقوب و خلف. متواترة معلومة من الدّين بالضرورة، و كلّ حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة: أنّه منزّل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لا يكابر في شيء من ذلك إلاّ جاهل.
و لهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس و عدمه على اختلاف القراءة في «لمستم» و لامَسْتُمُ [النساء: 43].
و جواز وطء الحائض عند الانقطاع قبل الغسل و عدمه، على الاختلاف في يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] و قد حكوا خلافا غريبا في الآية، إذا قرئت بقراءتين، فحكى أبو الليث السمرقندي في كتاب [البستان] قولين:
أحدهما: أنّ اللّه قال بهما جميعا.
و الثاني: أنّ اللّه قال بقراءة واحدة، إلاّ أنّه أذن أن نقرأ بقراءتين. ثم اختار توسّطا، و هو أنّه: إن كان لكلّ قراءة تفسير يغاير الآخر فقد قال بهما جميعا، و تصير القراءتان بمنزلة آيتين، مثل: حَتّى يَطْهُرْنَ و إن كان تفسيرهما واحدا ك و اَلْبُيُوتَ و «البيوت» [البقرة: 189] فإنّما قال بإحداهما، و أجاز القراءة بهما لكل قبيلة؛ على ما تعوّد لسانهم.
قال: فإن قيل: إذا قلتم إنّه قال بإحداهما، فأيّ القراءتين هي؟ قلنا: التي بلغة قريش. انتهى.
و قال بعض المتأخرين: لاختلاف القراءات و تنوعها فوائد(2):
منها: التهوين و التسهيل و التّخفيف على الأمّة.
ص: 274
و منها: إظهار فضلها و شرفها على سائر الأمم، إذ لم ينزل كتاب غيرهم إلاّ على وجه واحد.
و منها: إعظام أجرها، من حيث إنّهم يفرغون جهدهم في تحقيق ذلك و ضبطه لفظة لفظة، حتى مقادير المدّات و تفاوت الإمالات، ثم في تتبّع معاني ذلك و استنباط الحكم و الأحكام من دلالة كلّ لفظ، و إمعانهم الكشف عن التوجيه و التعليل و الترجيح.
و منها: إظهار سرّ اللّه في كتابه، و صيانته له عن التبديل و الاختلاف، مع كونه على هذه الأوجه الكثيرة.
و منها: المبالغة في إعجازه بإيجازه؛ إذ تنوّع القراءات بمنزلة الآيات، و لو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدة لم يخف ما كان فيه من التطويل، و لهذا كان قوله: وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] منزّلا لغسل الرجل، و المسح على الخفّ، و اللفظ واحد، لكن باختلاف إعرابه.
و منها: أن بعض القراءات يبيّن ما لعلّه يجهل في القراءة الأخرى، فقراءة يَطْهُرْنَ بالتشديد مبيّنة لمعنى قراءة التخفيف، و قراءة: (فامضوا إلى ذكر اللّه)، تبيّن أنّ المراد بقراءة:
فَاسْعَوْا [الجمعة: 9] الذهاب، لا المشي السريع.
و قال أبو عبيد في «فضائل القرآن»(1): المقصد من القراءة الشاذة تفسير القراءة المشهورة و تبيين معانيها، كقراءة عائشة و حفصة: (و الوسطى صلاة العصر).
و قراءة ابن مسعود: (فاقطعوا أيمانهما).
و قراءة جابر: (فإنّ اللّه من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم).
قال: فهذه الحروف و ما شاكلها قد صارت مفسّرة للقرآن، و قد كان يروى مثل هذا عن التابعين في التفسير فيستحسن، فكيف إذا روي عن كبار الصحابة، ثم صار في نفس القراءة! فهو أكثر من التفسير و أقوى؛ فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف معرفة صحّة التأويل. انتهى.
و قد اعتنيت في كتاب «أسرار التنزيل» ببيان كلّ قراءة أفادت معنى زائدا على القراءة المشهورة.
التنبيه الخامس: اختلف في العمل بالقراءة الشاذّة(2).
ص: 275
فنقل إمام الحرمين في «البرهان» عن ظاهر مذهب الشافعيّ: أنّه لا يجوز، و تبعه أبو نصر القشيري، و جزم به ابن الحاجب؛ لأنّه نقله على أنه قرآن، و لم يثبت.
و ذكر القاضيان: أبو الطيب، و الحسين، و الرّويانيّ، و الرّافعي العمل بها، تنزيلا لها منزلة خبر الآحاد. و صحّحه ابن السبكيّ في «جمع الجوامع»، و «شرح المختصر».
و قد احتجّ الأصحاب على قطع يمين السارق بقراءة ابن مسعود، و عليه أبو حنيفة أيضا.
و احتجّ على وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بقراءته (متتابعات)، و لم يحتجّ بها أصحابنا لثبوت نسخها، كما سيأتي.
و قد اعتنى به الأئمة، و أفردوا فيه كتبا، منها «الحجة» لأبي عليّ الفارسيّ (1)، و «الكشف» لمكيّ (2) و «الهداية» للمهدويّ، و «المحتسب في توجيه الشواذ» لابن جني.
قال الكواشيّ: فائدته أن يكون دليلا على حسب المدلول عليه، أو مرجّحا؛ إلاّ أنه ينبغي التنبيه على شيء: و هو أنه قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد يسقطها؛ و هذا غير مرضي، لأنّ كلاّ منهما متواتر.
و قد حكى أبو عمر الزاهد في كتاب «اليواقيت» عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف الإعرابان في القرآن لم أفضّل إعرابا على إعراب، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضّلت الأقوى.
و قال أبو جعفر النحاس: السّلامة عند أهل الدين، إذا صحت القراءتان ألاّ يقال:
ص: 276
إحداهما أجود؛ لأنهما جميعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فيأثم من قال ذلك، و كان رؤساء الصحابة ينكرون مثل هذا.
و قال أبو شامة(1): أكثر المصنّفون من التّرجيح بين قراءة مالِكِ و «ملك» حتى إن بعضهم يبالغ إلى حدّ يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى؛ و ليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين. انتهى.
و قال بعضهم(2): توجيه القراءات الشاذّة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة.
النوع الثامن و العشرون في معرفة الوقف و الابتداء(1).
أفرده بالتصنيف خلائق، و منهم: أبو جعفر النّحاس، و ابن الأنباري، و الزجّاج، و الدانيّ، و العماني، و السّجاونديّ، و غيرهم.
و هو فنّ جليل، به يعرف كيف أداء القراءة.
و الأصل فيه: ما أخرج النحاس قال: حدّثنا محمد بن جعفر الأنباريّ، حدّثنا هلال بن العلاء، عن أبيّ و عبد اللّه بن جعفر، قالا: حدّثنا عبد اللّه بن عمر الزّرقيّ، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف البكريّ، قال: سمعت عبد اللّه بن عمر يقول: لقد عشنا برهة من دهرنا، و إنّ أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، و تنزل السورة على محمد صلّى اللّه عليه و سلّم فنتعلم حلالها و حرامها، و ما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلّمون أنتم القرآن اليوم، و لقد رأينا اليوم رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره و لا زاجره، و لا ما ينبغي أن يوقف عنده منه(2).
قال النحاس: فهذا الحديث يدلّ على أنهم كانوا يتعلّمون الأوقاف كما يتعلّمون القرآن.
و قول ابن عمر: (لقد عشنا برهة من دهرنا): يدلّ على أنّ ذلك إجماع من الصحابة ثابت.
قلت: أخرج هذا الأثر البيهقي في سننه(3).
و عن عليّ في قوله تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 4] قال: الترتيل: تجويد الحروف و معرفة الوقوف(4).
قال ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف و الابتداء فيه.
ص: 278
و قال النّكزاويّ: باب الوقف عظيم القدر، جليل الخطر؛ لأنه لا يتأتّى لأحد معرفة معاني القرآن و لا استنباط الأدلّة الشرعية منه إلاّ بمعرفة الفواصل.
و في «النّشر» لابن الجزري(1): لمّا لم يمكن القارئ أن يقرأ السورة أو القصة في نفس واحد، و لم يجز التنفّس بين كلمتين حالة الوصل، بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة، وجب حينئذ اختيار وقف للتنفّس و الاستراحة، و تعيّن ارتضاء ابتداء بعده، و يتحتّم ألاّ يكون ذلك ممّا يحيل المعنى و لا يخلّ بالفهم، إذ بذلك يظهر الإعجاز، و يحصل القصد؛ و لذلك حضّ الأئمة على تعلّمه و معرفته.
و في كلام عليّ دليل على وجوب ذلك، و في كلام ابن عمر برهان على أنّ تعلّمه إجماع من الصحابة.
و صحّ. بل تواتر. عندنا تعلّمه و الاعتناء به من السّلف الصالح كأبي جعفر يزيد بن القعقاع أحد أعيان التابعين، و صاحبه الإمام نافع، و أبي عمرو، و يعقوب، و عاصم، و غيرهم من الأئمة؛ و كلامهم في ذلك معروف، و نصوصهم عليه مشهورة في الكتب.
و من ثمّ اشترط كثير من الخلف على المجيز ألاّ يجيز أحدا إلاّ بعد معرفته الوقف و الابتداء.
و صحّ عن الشعبيّ أنّه قال: إذا قرأت: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) فلا تسكت حتى تقرأ:
وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) [الرحمن: 27.26](2).
قلت: أخرجه ابن أبي حاتم.
فقال ابن الأنباري(3): الوقف على ثلاثة أوجه: تامّ، و حسن، و قبيح:
فالتامّ: الذي يحسن الوقف عليه و الابتداء بما بعده، و لا يكون بعده ما يتعلّق به، كقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، و قوله: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6].
و الحسن: هو الذي يحسن الوقف عليه و لا يحسن الابتداء بما بعده، كقوله: اَلْحَمْدُ لِلّهِ ؛ لأنّ الابتداء ب رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] لا يحسن، لكونه صفة لما قبله.
ص: 279
و القبيح: هو الذي ليس بتامّ و لا حسن، كالوقف على بِسْمِ * من قوله:
بِسْمِ اللّهِ .
قال(1): و لا يتمّ الوقف على المضاف دون المضاف إليه، و لا المنعوت دون نعته، و لا الرافع دون مرفوعه و عكسه، و لا الناصب دون منصوبه و عكسه، و لا المؤكّد دون توكيده، و لا المعطوف دون المعطوف عليه، و لا البدل دون مبدله، و لا (إنّ) أو (كان) أو (ظنّ) و أخواتها دون اسمها، و لا اسمها دون خبرها، و لا المستثنى منه دون الاستثناء، و لا الموصول دون صلته: اسميّا أو حرفيّا، و لا الفعل دون مصدره، و لا الحرف دون متعلّقه، و لا شرط دون جزائه.
و قال غيره(2): الوقف منقسم إلى أربعة أقسام: تامّ مختار، و كاف جائز، و حسن مفهوم، و قبيح متروك.
فالتّام: هو الذي لا يتعلّق بشيء ممّا بعده، فيحسن الوقف عليه و الابتداء بما بعده؛ و أكثر ما يوجد عند رءوس الآي غالبا، كقوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5].
و قد يوجد في أثنائها كقوله: وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً ؛ هنا التمام؛ لأنه انقضى كلام بلقيس، ثم قال تعالى: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34].
و كذلك: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي [الفرقان: 29] هنا التمام؛ لأنّه انقضى كلام الظالم أبيّ بن خلف، ثم قال تعالى: وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً .
و قد يوجد بعدها، كقوله: مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ [الصافات: 138.137] هنا التّمام؛ لأنّه معطوف على المعنى، أي: بالصبح و بالليل.
و مثله: يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً [الزخرف: 35.34] رأس الآية يَتَّكِؤُنَ و وَ زُخْرُفاً هو التمام؛ لأنّه معطوف على ما قبله.
و آخر كلّ قصة و ما قبل أولها، و آخر كلّ سورة، و قبل ياء النداء، و فعل الأمر، و القسم و لامه، دون القول و الشرط ما لم يتقدّم جوابه، و كانَ اللّهُ * و ما كانَ * و لَوْ لا * و لَوْ لا غالبهنّ تامّ، ما لم يتقدمهنّ قسم أو قول أو ما في معناه.
و الكافي: منقطع في اللفظ متعلّق في المعنى، فيحسن الوقف عليه و الابتداء بما بعده أيضا، نحو: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] هنا الوقف، و يبتدأ بما بعد ذلك،1.
ص: 280
و هكذا كلّ رأس آية بعدها (لام كي) و (إلا) بمعنى (لكن) و (إنّ) الشديدة المكسورة، و الاستفهام، و (بل) و (ألا) المخففة، و (السين) و (سوف) للتهديد، و (نعم) و (بئس) و (كيلا) ما لم يتقدمهن قول أو قسم.
و الحسن: هو الذي يحسن الوقف عليه، و لا يحسن الابتداء بما بعده، نحو: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) .
و القبيح: هو الذي لا يفهم منه المراد، ك اَلْحَمْدُ ، و أقبح منه الوقف على لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا و يبتدئ: إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ [المائدة: 17]؛ لأنّ المعنى مستحيل بهذا الابتداء، و من تعمّده و قصد معناه فقد كفر.
و مثله في الوقف: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللّهُ [البقرة: 258] فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ [النساء: 11].
و أقبح من هذا الوقف على المنفيّ دون حرف الإيجاب، نحو: لا إِلهَ.. إِلاَّ اللّهُ [محمد: 19]. وَ ما أَرْسَلْناكَ.. إِلاّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً [الإسراء: 105]. فإن اضطر لأجل التنفس جاز، ثم يرجع إلى ما قبله حتى يصله بما بعده، و لا حرج. انتهى.
و قال السّجاونديّ (1): الوقف على خمس مراتب: لازم، و مطلق، و جائز، و مجوّز لوجه، و مرخّص ضرورة.
1. فاللازم: ما لو وصل طرفاه غيّر المراد، نحو قوله: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] يلزم الوقف هنا؛ إذ لو وصل بقوله: يُخادِعُونَ اللّهَ [البقرة: 9] توهّم أنّ الجملة صفة لقوله:
بِمُؤْمِنِينَ ، فانتفى الخداع عنهم، و تقرّر الإيمان خالصا عن الخداع، كما تقول: ما هو بمؤمن مخادع. و القصد في الآية إثبات الخداع بعد نفي الإيمان.
و كما في قوله: لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ [البقرة: 71]، فإنّ جملة تُثِيرُ صفة ل ذَلُولٌ داخلة في حيّز النفي، أي ليست ذلولا مثيرة للأرض.
و نحو: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171]، فلو وصلها بقوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لأوهم أنه صفة لولد، و أنّ المنفيّ ولد موصوف بأنّ له ما في السموات؛ و المراد نفي الولد مطلقا.
2. و المطلق: ما يحسن الابتداء بما بعده:
كالاسم المبتدأ به: نحو: اَللّهُ يَجْتَبِي [الشورى: 13].1.
ص: 281
و الفعل المستأنف: نحو: يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النور: 55]، و سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142]، و سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 7].
و مفعول المحذوف: نحو: وَعْدَ اللّهِ [النساء: 122]، سُنَّةَ اللّهِ [الأحزاب: 38].
و الشّرط: نحو: مَنْ يَشَأِ اللّهُ يُضْلِلْهُ [الأنعام: 39].
و الاستفهام و لو مقدّرا: نحو: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا [النساء: 88]. تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا [الأنفال: 67].
و النفي: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68]. إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّ فِراراً [الأحزاب:
13] حيث لم يكن كلّ ذلك مقولا لقول سابق.
3 - و الجائز: ما يجوز فيه الوصل و الفصل، لتجاذب الموجبين من الطرفين، نحو وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] فإنّ واو العطف تقتضي الوصل، و تقديم المفعول على الفعل يقطع النظم؛ فإنّ التقدير: (و يوقنون بالآخرة).
4 - و المجوّز لوجه، نحو: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ [البقرة: 86]، لأنّ الفاء في قوله: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ [البقرة: 86] تقتضي التسبّب و الجزاء، و ذلك يوجب الوصل، و كون نظم الفعل على الاستئناف يجعل للفصل وجها.
5 - و المرخّص ضرورة: ما لا يستغني ما بعده عمّا قبله؛ لكنه يرخّص لانقطاع النفس و طول الكلام، و لا يلزمه الوصل بالعود؛ لأنّ ما بعده جملة مفهومة، كقوله: وَ السَّماءَ بِناءً [البقرة: 22] لأنّ قوله: وَ أَنْزَلَ [البقرة: 22] لا يستغني عن سياق الكلام؛ فإنّ فاعله ضمير يعود إلى ما قبله، غير أنّ الجملة مفهومة.
و أمّا ما لا يجوز الوقف عليه: فكالشرط دون جزائه، و المبتدأ دون خبره، و نحو ذلك.
و قال غيره(1): الوقف في التنزيل على ثمانية أضرب: تامّ، و شبيه به، و ناقص، و شبيه به، و حسن، و شبيه به، و قبيح، و شبيه به.
و قال ابن الجزري(2): أكثر ما ذكر الناس في أقسام الوقف غير منضبط، و لا منحصر، و أقرب ما قلته في ضبطه: إنّ الوقف ينقسم إلى اختياريّ و اضطراريّ؛ لأنّ الكلام إمّا أن يتمّ أو لا، فإن تمّ كان اختياريّا، و كونه تاما لا يخلو:
إما ألاّ يكون له تعلّق بما بعده البتّة. أي: لا من جهة اللفظ، و لا من جهة المعنى. فهو الوقف المسمى بالتام لتمامه المطلق، يوقف عليه و يبتدأ بما بعده، ثم مثّله بما تقدم في التامّ.7.
ص: 282
قال: و قد يكون الوقف تامّا في تفسير و إعراب و قراءة، غير تامّ على آخر.
نحو: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران: 7] تامّ: إن كان ما بعده مستأنفا، غير تام:
إن كان معطوفا.
و نحو فواتح السور: الوقف عليها تامّ إن أعربت مبتدأ و الخبر محذوف أو عكسه، أي:
الم هذه، أو: هذه الم، أو: مفعولا ب (قل) مقدّرا. غير تام: إن كان ما بعدها هو الخبر.
و نحو مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً [البقرة: 125] تام على قراءة: وَ اتَّخِذُوا بكسر الخاء، كاف على قراءة الفتح.
و نحو: إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1] تام على قراءة من رفع الاسم الكريم بعدها، حسن على قراءة من خفض.
و قد يتفاضل التامّ، نحو: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) [الفاتحة: 504] كلاهما تامّ؛ إلاّ أنّ الأوّل أتمّ من الثاني؛ لاشتراك الثاني فيما بعده في معنى الخطاب، بخلاف الأوّل.
و هذا هو الذي سمّاه بعضهم شبيها بالتامّ.
و منه ما يتأكّد استحسانه لبيان المعنى المقصود به، و هو الذي سمّاه السّجاونديّ باللازم.
و إن كان له تعلّق، فلا يخلو إمّا أن يكون من جهة المعنى فقط، و هو المسمّى بالكافي للاكتفاء به و استغنائه عمّا بعده، و استغناء ما بعده عنه، كقوله: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة:
3]، و قوله: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4]، و قوله: عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5].
أو يتفاضل في الكفاية كتفاضل التمام، نحو: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كاف، فَزادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً أكفى منه، بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10] أكفى منهما.
و قد يكون الوقف كافيا على تفسير و إعراب و قراءة، غير كاف على آخر، نحو قوله:
يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ [البقرة: 102] كاف إن جعلت (ما) بعده نافية، حسن إن فسّرت موصولة.
وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] كاف إن أعرب ما بعده مبتدأ خبره: عَلى هُدىً [البقرة: 5] حسن إن جعل خبر: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3]، أو خبر وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ [البقرة: 4].
وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة: 139] كاف على قراءة: أَمْ تَقُولُونَ [البقرة: 140] بالخطاب، حسن على قراءة الغيب.
يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ كاف على قراءة من رفع: فَيَغْفِرُ و وَ يُعَذِّبُ [البقرة:
284]، حسن على قراءة من جزم.
ص: 283
و إن كان التعلّق من جهة اللفظ: فهو المسمى بالحسن؛ لأنّه في نفسه حسن مفيد، يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده، للتعلّق اللفظيّ إلاّ أن يكون رأس آية، فإنّه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء؛ لمجيئه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في حديث أمّ سلمة الآتي(1).
و قد يكون الوقف حسنا على تقدير، و كافيا أو تاما على آخر، نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]: حسن إن جعل ما بعده نعتا، كاف إن جعل خبر مقدّر، أو مفعول مقدّر، على القطع، تامّ إن جعل مبتدأ خبره: أُولئِكَ .
و إن لم يتمّ الكلام: كان الوقف عليه اضطراريّا، و هو المسمّى بالقبيح، لا يجوز تعمّد الوقف عليه إلاّ لضرورة، من انقطاع نفس و نحوه، لعدم الفائدة أو لفساد المعنى، نحو:
صِراطَ الَّذِينَ [الفاتحة: 7].
و قد يكون بعضه أقبح من بعض، نحو: فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ [النساء: 11] لإيهامه أنهما مع البنت شركاء في النّصف.
و أقبح منه نحو: إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي [البقرة: 26]. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) [الماعون: 4]. لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء: 43].
فهذا حكم الوقف اختياريّا و اضطراريّا.
و أما الابتداء فلا يكون إلاّ اختياريّا؛ لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة، فلا يجوز إلاّ بمستقلّ بالمعنى موف بالمقصود، و هو في أقسامه كأقسام الوقف الأربعة، و تتفاوت تماما و كفاية و حسنا و قبحا، بحسب التمام و عدمه، و فساد المعنى و إحالته، نحو الوقف على: وَ مِنَ النّاسِ [البقرة: 8]؛ فإنّ الابتداء ب اَلنّاسِ قبيح، و آمَنّا تامّ؛ فلو وقف على: مِنَ كان الابتداء ب يَقُولُ أحسن من الابتداء ب مِنَ .
و كذا الوقف على: خَتَمَ اللّهُ [البقرة: 7] قبيح، و الابتداء ب اَللّهُ أقبح و ب خَتَمَ كاف.
و الوقف على عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ و اَلْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ [التوبة: 30] قبيح، و الابتداء بابن أقبح، و بعزير و المسيح أشدّ قبحا.
و لو وقف على: ما وَعَدَنَا اللّهُ [الأحزاب: 12] ضرورة، كان الابتداء بالجلالة قبيحا، و ب وَعَدَنَا أقبح منه و ب ما أقبح منهما.
و قد يكون الوقف حسنا و الابتداء به قبيحا، نحو: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّاكُمْ [الممتحنة: 1] الوقف عليه حسن، و الابتداء به قبيح؛ لفساد المعنى، إذ يصير تحذيرا من الإيمان باللّه.5.
ص: 284
و قد يكون الوقف قبيحا و الابتداء جيّدا، نحو: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا [يس: 52]، الوقف على هذا قبيح لفصله بين المبتدأ و خبره؛ و لأنه يوهم أنّ الإشارة إلى المرقد، و الابتداء بهذا كاف أو تامّ لاستئنافه.
الأوّل: قولهم: لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، و هكذا.
قال ابن الجزريّ (1): إنّما يريدون به الجواز الأدائي؛ و هو الذي يحسن في القراءة و يروق في التلاوة، و لا يريدون بذلك أنّه حرام و لا مكروه؛ اللّهمّ إلاّ أن يقصد بذلك تحريف القرآن و خلاف المعنى الذي أراده اللّه، فإنه يكفر فضلا عن أن يأثم.
الثاني: قال ابن الجزريّ. أيضا.(2): ليس كلّ ما يتعسّفه بعض المعربين أو يتكلّفه بعض القراء، أو يتأوّله بعض أهل الأهواء ممّا يقتضي وقفا أو ابتداء ينبغي أن يتعمّد الوقف عليه، بل ينبغي تحرّي المعني الأتمّ، و الوقف الأوجه؛ و ذلك نحو الوقف على: وَ ارْحَمْنا أَنْتَ و الابتداء مَوْلانا فَانْصُرْنا [البقرة: 286]. على معنى النداء.
و نحو: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ و يبتدئ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا [النساء: 62].
و نحو: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ [لقمان: 13] و يبتدئ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ على معنى القسم.
و نحو: وَ ما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ و يبتدئ اَللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: 81].
و نحو: فَلا جُناحَ و يبتدئ: عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] فكلّه تعسّف و تمحّل و تحريف للكلم عن مواضعه.
الثالث: يغتفر في طول الفواصل و القصص و الجمل المعترضة و نحو ذلك، و في حالة جمع القراءات، و قراءة التحقيق و التنزيل ما لا يغتفر في غيرها، فربّما أجيز الوقف و الابتداء لبعض ما ذكر، و لو كان لغير ذلك لم يبح، و هذا الذي سمّاه السّجاونديّ (3): المرخّص ضرورة، و مثّله بقوله: وَ السَّماءَ بِناءً [البقرة: 22].
قال ابن الجزريّ (4): و الأحسن تمثيله بنحو: قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 177]،
ص: 285
و بنحو: وَ النَّبِيِّينَ [البقرة: 177]، و بنحو: وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ [البقرة: 177]، و بنحو: عاهَدُوا [البقرة: 177]، و بنحو كلّ من فواصل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1].. إلى آخر القصة.
و قال صاحب «المستوفى»: النحويون يكرهون الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التامّ، فإن طال الكلام و لم يوجد فيه وقف تام، حسن الأخذ بالناقص، كقوله: قُلْ أُوحِيَ إلى قوله: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً إن كسرت بعده إن، و إن فتحتها فإلى قوله: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: 19.1].
قال: و يحسّن الوقف الناقص أمور:
منها: أن يكون لضرب من البيان، كقوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فإنّ الوقف هنا يبيّن أنّ قَيِّماً [الكهف: 2.1] منفصل عنه، و أنه حال في نيّة التقديم. و كقوله: وَ بَناتُ الْأُخْتِ [النساء: 23] ليفصل به بين التحريم النّسبي و السّببي.
و منها: أن يكون الكلام مبنيّا على الوقف، نحو: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) [الحاقة: 25-26].
قال ابن الجزري(1): و كما اغتفر الوقف لما ذكر، قد لا يغتفر و لا يحسن فيما قصر من الجمل، و إن لم يكن التعلّق لفظيا، نحو: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ، وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ [البقرة: 87] لقرب الوقف على بِالرُّسُلِ [البقرة: 87]. و على اَلْقُدُسِ [البقرة: 87].
و كذا يراعى في الوقف الازدواج، فيوصل ما يوقف على نظيره مما يوجد التمام عليه و انقطع تعلّقه بما بعده لفظا، و ذلك من أجل ازدواجه(2)، نحو: لَها ما كَسَبَتْ مع وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [البقرة: 134]. و نحو: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:
203]. مع وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . و نحو: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ مع وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [فاطر: 13]. و نحو: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ مع وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46].
الرابع: قد يجيزون الوقف على حرف و على آخر، و يكون بين الوقفين مراقبة على التضادّ؛ فإذا وقف على أحدهما امتنع الوقف على الآخر، كمن أجاز الوقف على: لا رَيْبَ فإنّه لا يجيزه على فِيهِ ، و الّذي يجيزه على فِيهِ لا يجيزه على لا رَيْبَ [البقرة: 2].1.
ص: 286
و كالوقف على: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ فإنّ بينه و بين كَما عَلَّمَهُ اللّهُ [البقرة:
282] مراقبة. و الوقف على: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ فإنّ بينه و بين وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] مراقبة.
قال ابن الجزري(1): و أوّل من نبّه على المراقبة في الوقف أبو الفضل الرازيّ، أخذه من المراقبة في العروض.
الخامس: قال ابن مجاهد(2): لا يقوم بالتّمام في الوقف إلاّ نحويّ عالم بالقراءات، عالم بالتفسير و القصص و تخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن.
و قال غيره(3): و كذا علم الفقه، و لهذا من لم يقبل شهادة القاذف و إن تاب يقف عند قوله: وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً [النور: 4] و ممن صرح بذلك النّكزاويّ، فقال في كتاب الوقف: لا بدّ للقارئ من معرفة بعض مذاهب الأئمّة المشهورين في الفقه؛ لأنّ ذلك يعين على معرفة الوقف و الابتداء؛ لأنّ في القرآن مواضع ينبغي الوقف على مذهب بعضهم، و يمتنع على مذهب آخرين.
فأما احتياجه إلى علم النحو و تقديراته: فلأنّ من جعل: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج:
78] منصوبا على الإغراء وقف على ما قبله، أما إذا أعمل فيه ما قبله فلا.
و أما احتياجه إلى القراءات: فلما تقدّم من أنّ الوقف قد يكون تامّا على قراءة، غير تامّ على أخرى.
و أمّا احتياجه إلى التفسير: فلأنّه إذا وقف على: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة: 26] كان المعنى: إنّها محرّمة عليهم هذه المدة، و إذا وقف على عَلَيْهِمْ كان المعنى إنّها محرّمة عليهم أبدا، و أنّ التيه أربعين؛ فرجع في هذا إلى التفسير. و قد تقدّم. أيضا أنّ الوقف يكون تامّا على تفسير و إعراب، غير تامّ على تفسير و إعراب آخر.
و أمّا احتياجه إلى المعنى: فضرورة؛ لأنّ معرفة مقاطع الكلام إنّما تكون بعد معرفة معناه، كقوله: وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ [يونس: 65]. فقوله: إِنَّ الْعِزَّةَ استئناف، لا مقولهم. و قوله: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا و يبتدئ أَنْتُما [القصص:
35].
قال الشيخ عز الدين(4): الأحسن الوقف على إِلَيْكُما ؛ لأنّ إضافة الغلبة إلى الآيات6.
ص: 287
أولى من إضافة عدم الوصول إليها؛ لأنّ المراد بالآيات العصا و صفاتها، و قد غلبوا بها السحرة، و لم تمنع عنهم فرعون.
و كذا الوقف على قوله: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ و يبتدئ وَ هَمَّ بِها [يوسف: 24] على أنّ المعنى: لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها؛ فقدّم جواب لَوْ لا ، و يكون همّه منتفيا(1)، فعلم بذلك أنّ معرفة المعنى أصل في ذلك كبير.
السادس: حكى ابن برهان النحويّ (2) عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة: أنه ذهب إلى أنّ تقدير الموقوف عليه من القرآن بالتامّ و الناقص و الحسن و القبيح و تسميته بذلك بدعة، و متعمد الوقوف على نحوه مبتدع، قال: لأنّ القرآن معجز، و هو كالقطعة الواحدة، فكلّه قرآن و بعضه قرآن، و كلّه تام حسن، و بعضه تامّ حسن.
السابع: لأئمة القرّاء مذاهب في الوقف و الابتداء(3):
فنافع: كان يراعي تجانسهما بحسب المعنى.
و ابن كثير و حمزة: حيث ينقطع النّفس، و استثنى ابن كثير: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران: 7]. وَ ما يُشْعِرُكُمْ [الأنعام: 109]. إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] فتعمّد الوقف عليها.
و عاصم و الكسائي: حيث تمّ الكلام.
و أبو عمرو: يتعمّد رءوس الآي، و يقول: هو أحبّ إليّ، فقد قال بعضهم: إنّ الوقف عليه سنة.
و قال البيهقيّ في «الشّعب»(4) و آخرون: الأفضل الوقف على رءوس الآيات، و إن تعلّقت بما بعدها، اتباعا لهدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و سنّته.
روى أبو داود و غيره: عن أمّ سلمة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية، يقول:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم يقف. اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ثم يقف. اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ثم يقف(5).
الثامن: الوقف و القطع و السّكت(6). عبارات يطلقها المتقدّمون غالبا مرادا بها الوقف.
و المتأخّرون فرّقوا فقالوا:1.
ص: 288
القطع: عبارة عن قطع القراءة رأسا، فهو كالانتهاء، فالقارئ به كالمعرض عن القراءة، و المنتقل إلى حالة أخرى غيرها، و هو الذي يستعاذ بعده للقراءة المستأنفة، و لا يكون إلاّ على رأس آية، لأنّ رءوس الآي في نفسها مقاطع.
أخرج سعيد بن منصور في سننه: حدّثنا أبو الأحوص، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل أنه قال: كانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية و يدعوا بعضها(1). إسناده صحيح. و عبد اللّه بن أبي الهذيل تابعيّ كبير، و قوله: (كانوا) يدل على أنّ الصحابة كانوا يكرهون ذلك.
و الوقف: عبارة عن قطع الصّوت عن الكلمة زمنا يتنفّس فيه عادة، بنيّة استئناف القراءة لا بنيّة الإعراض، و يكون في رءوس الآي و أوساطها، و لا يأتي في وسط الكلمة، و لا فيما اتصل رسما.
و السكت: عبارة عن قطع الصوت زمنا، هو دون زمن الوقف عادة، من غير تنفس.
و اختلاف ألفاظ الأئمة في التأدية عنه مما يدلّ على طوله و قصره: فعن حمزة في السكت على الساكن قبل الهمزة سكتة يسيرة. و قال الأشناني: قصيرة، و عن الكسائيّ: سكتة مختلسة من غير إشباع. و قال ابن غلبون: وقفة يسيرة، و قال مكيّ: وقفة خفيفة. و قال ابن شريح: وقيفة.
و عن قتيبة: من غير قطع نفس. و قال الدّانيّ: سكتة لطيفة من غير قطع. و قال الجعبريّ: قطع الصوت زمنا قليلا أقصر من زمن إخراج النّفس لأنّه إن طال صار وقفا. في عبارات أخر(2).
قال ابن الجزريّ (3): و الصحيح أنّه مقيّد بالسّماع و النقل، و لا يجوز إلاّ فيما صحت الرواية به، لمعنى مقصود بذاته. و قيل: يجوز في رءوس الآي مطلقا حالة الوصل، لقصد البيان. و حمل بعضهم الحديث الوارد على ذلك.
1. كلّ ما في القرآن من (الّذي) و (الذين): يجوز فيه الوصل بما قبله نعتا، و القطع على أنه خبر، إلاّ في سبعة مواضع، فإنّه يتعين الابتداء بها:
اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ في [البقرة: 121]. اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ فيها [البقرة: 146]. و في الأنعام أيضا [20]. اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا في [البقرة: 275].
ص: 289
اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا في براءة: [20]. اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ في الفرقان: [34]. اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ في غافر: [7].
و في الكشاف(1) في قوله: اَلَّذِي يُوَسْوِسُ [الناس: 5]. يجوز أن يقف القارئ على الموصوف و يبتدئ ب اَلَّذِي إن حملته على القطع، بخلاف ما إذا جعلته صفة.
و قال الرّمّاني(2): الصّفة إن كانت للاختصاص امتنع الوقف على موصوفها دونها، و إن كانت للمدح جاز، لأنّ عاملها في المدح غير عامل الموصوف.
2. الوقف على المستثنى منه دون المستثنى: إن كان منقطعا فيه مذاهب: الجواز مطلقا، لأنه في معنى مبتدأ حذف خبره للدّلالة عليه.
و المنع مطلقا: لاحتياجه إلى ما قبله لفظا؛ لأنه لم يعهد استعمال (إلاّ) و ما في معناها إلاّ متصلة بما قبلها، و معنى، لأنّ ما قبلها مشعر بتمام الكلام في المعنى، إذ قولك: (ما في الدار أحد) هو الّذي صحّح؛ (إلاّ الحمار) و لو قلت: (إلا الحمار) على انفراده كان خطأ.
و الثالث: التفصيل: فإن صرّح بالخبر جاز؛ لاستقلال الجملة و استغنائها عمّا قبلها، و إن لم يصرّح به فلا؛ لافتقارها. قاله ابن الحاجب في أماليه.
3. الوقف على الجملة الندائية جائز: كما نقله ابن الحاجب عن المحقّقين؛ لأنها مستقلة و ما بعدها جملة أخرى، و إن كانت الأولى تتعلّق بها(3).
4. كلّ ما في القرآن من القول: لا يجوز الوقف عليه؛ لأنّ ما بعده حكايته. قاله الجوينيّ في تفسيره(4).
5. (كلاّ) في القرآن في ثلاثة و ثلاثين موضعا(5):
منها سبعة للردع اتفاقا، فيوقف عليها، و ذلك:
عَهْداً * كَلاّ في مريم: [79.78]. عِزًّا كَلاّ في [مريم: 82.81]. أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلاّ في [الشعراء: 125.14]. إِنّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلاّ في [الشعراء: 62.61].
شُرَكاءَ كَلاّ في [سبأ: 27]. أَنْ أَزِيدَ كَلاّ في [المدّثر: 16.15]. أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاّ8.
ص: 290
في [القيامة: 11.10].
و الباقي: منها ما هو بمعنى حقا قطعا، فلا يوقف عليه. و منها ما احتمل الأمرين ففيه الوجهان.
و قال مكيّ (1): هي أربعة أقسام:
الأوّل: ما يحسن الوقف فيه عليها على معنى الرّدع و هو الاختيار: و يجوز الابتداء بها على معنى (حقا). و ذلك أحد عشر موضعا:
اثنان في مريم، و في قَدْ أَفْلَحَ و سبأ، و اثنان في المعارج، و اثنان في المدّثر: أَنْ أَزِيدَ كَلاّ [16.15]. مُنَشَّرَةً * كَلاّ [53.52]. و في المطففين: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلاّ [14.13]. و في الفجر: أَهانَنِ كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) [17.16]. و في الهمزة:
أَخْلَدَهُ كَلاّ [4.3].
الثاني: ما يحسن الوقف عليها و لا يجوز الابتداء بها: و هو موضعان: في الشعراء: أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلاّ [15.14]. إِنّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلاّ [62.61].
الثالث: ما لا يحسن الوقف عليها و لا يجوز الابتداء بها: بل توصل بما قبلها، و بما بعدها و هو موضعان: في عمّ و التّكاثر: ثُمَّ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ (5) [النبأ: 5]. ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) [التكاثر: 4].
الرابع: ما لا يحسن الوقف عليها، و لكن يبتدأ بها: و هو الثمانية عشر الباقية.
6. (بلى) في القرآن في اثنين و عشرين موضعا(2)، و هي ثلاثة أقسام:
الأوّل: ما لا يجوز الوقف عليها إجماعا؛ لتعلق ما بعدها بما قبلها: و هو سبعة مواضع:
في الأنعام [30]: بَلى وَ رَبِّنا .
في النحل [38]: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا .
في سبأ [3]: قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ .
في الزمر [59]: بَلى قَدْ جاءَتْكَ .
في الأحقاف [34]: بَلى وَ رَبِّنا .
في التغابن [76]: قُلْ بَلى وَ رَبِّي .
في القيامة [4]: بَلى قادِرِينَ .5.
ص: 291
الثاني: ما فيه خلاف، و الاختيار المنع: و ذلك خمسة مواضع:
في البقرة [26]: بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .
في الزمر [71]: بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ .
في الزخرف [80]: بَلى وَ رُسُلُنا .
في الحديد [14]: قالُوا بَلى .
في تبارك [9]: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا .
الثالث: ما الاختيار جواز الوقف عليها: و هو العشرة الباقية.
7. «نعم» في القرآن في أربعة مواضع(1):
في الأعراف [44]: قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ . و المختار الوقف عليها؛ لأن ما بعدها غير متعلّق بما قبلها؛ إذ ليس من قول أهل النار. و البواقي فيها، و في الشعراء [42]: قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) .
و في الصافات [18]: قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) . و المختار لا يوقف عليها؛ لتعلّق ما بعدها بما قبلها؛ لاتّصاله بالقول.
ضابط: قال ابن الجزري في «النّشر»(2): كلّ ما أجازوا الوقف عليه أجازوا الابتداء بما بعده.
للوقف في كلام العرب أوجه متعدّدة، و المستعمل منها عند أئمة القراءة تسعة:
السّكون، و الرّوم، و الاشمام، و الابدال، و النقل، و الادغام، و الحذف، و الإثبات، و الإلحاق.
فأما السكون: فهو الأصل في الوقف على الكلمة المحرّكة، وصلا؛ لأنّ معنى الوقف التّرك و القطع؛ و لأنه ضدّ الابتداء، فكما لا يبتدأ بساكن لا يوقف على متحرّك. و هو اختيار كثير من القراء.
و أما الرّوم: فهو عند القرّاء عبارة عن النطق ببعض الحركة، و قال بعضهم: تضعيف الصوت بالحركة حتى يذهب معظمها. قال ابن الجزري(3): و كلا القولين واحد. و يختص
ص: 292
بالمرفوع و المجزوم و المضموم و المكسور. بخلاف المفتوح؛ لأنّ الفتحة خفيفة، إذا خرج بعضها خرج سائرها، فلا تقبل التبعيض.
و أمّا الإشمام: فهو عبارة عن الإشارة إلى الحركة من غير تصويت. و قيل: أن تجعل شفتيك على صورتها. و كلاهما واحد.
و يختص بالضمّة، سواء كانت حركة إعراب أم بناء إذا كانت لازمة، أمّا العارضة، و ميم الجمع عند من ضمّ، و هاء التأنيث: فلا روم في ذلك و لا إشمام.
و قيّد ابن الجزري(1) هاء التأنيث بما يوقف عليها بالهاء، بخلاف ما يوقف عليها بالتاء للرسم.
ثم إنّ الوقف بالرّوم و الإشمام ورد عن أبي عمرو و الكوفيين نصّا، و لم يأت عن الباقين فيه شيء، و استحبه أهل الأداء في قراءتهم أيضا.
و فائدته: بيان الحركة الّتي تثبت في الوصل للحرف الموقوف عليه؛ ليظهر للسامع أو الناظر كيف تلك الحركة الموقوف عليها.
و أما الابدال: ففي الاسم المنصوب المنوّن، يوقف عليه بالألف بدلا من التنوين. و مثله (إذن). و في الاسم المفرد المؤنث بالتاء، يوقف عليه بالهاء بدلا منها. و فيما آخره همزة متطرّفة بعد حركة أو ألف، فإنّه يوقف عليه عند حمزة بإبدالها حرف مدّ من جنس ما قبلها.
ثم إن كان ألفا جاز حذفها نحو اِقْرَأْ [العلق: 1]. و نَبِّئْ [الحجر: 49]. و يَبْدَؤُا [الروم: 11]. و إِنِ امْرُؤٌ [النساء: 176]. و مِنْ شاطِئِ [القصص: 3]. و يَشاءَ [التكوير: 29]. و مِنَ السَّماءِ [البقرة: 22]. و مِنْ ماءٍ [النور: 45].
و أمّا النقل: ففيما آخره همزة بعد ساكن، فإنّه يوقف عليه عند حمزة بنقل حركتها إليه، فتحرّك بها ثم تحذف هي، سواء:
أ كان الساكن صحيحا، نحو: دِفْ ءٌ [النحل: 5]. مِلْ ءُ [آل عمران: 91]. يَنْظُرُ الْمَرْءُ [عم: 40]. لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ [الحجر: 44]. بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال:
24]. بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ [البقرة: 102]. يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ [النمل: 25]. و لا ثامن لها.
أم ياء أو واوا أصليّتين، سواء كانتا حرف مدّ، نحو: اَلْمُسِيءُ ، وَ جِيءَ [الزمر: 69]. و يُضِيءُ [النور: 35]. أَنْ تَبَوَّء ا [المائدة: 29]. لَتَنُوأُ [القصص: 76].
وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران: 30]. أم لين، نحو: شَيْ ءٍ ، قَوْمَ سَوْءٍ [الأنبياء:
77]. مَثَلُ السَّوْءِ [النحل: 60].2.
ص: 293
و أما الإدغام: ففيما آخره همز بعد ياء أو واو زائدتين، فإنّه يوقف عليه. عند حمزة أيضا بالإدغام، بعد إبدال الهمز من جنس ما قبله، نحو: اَلنَّسِيءُ [التوبة: 37]، و بَرِيءٌ [التوبة: 3]، و قُرُوءٍ [البقرة: 228].
و أما الحذف: ففي الياءات الزوائد عند من يثبتها وصلا، و يحذفها وقفا. و ياءات الزوائد و هي التي لم ترسم. مائة و إحدى و عشرون، منها: خمس و ثلاثون في حشو الآي، و الباقي في رءوس الآي.
فنافع و أبو عمرو و حمزة و الكسائي و أبو جعفر: يثبتونها في الوصل دون الوقف.
و ابن كثير و يعقوب: يثبتان في الحالين.
و ابن عامر و عاصم و خلف: يحذفون في الحالين.
و ربّما خرج بعضهم عن أصله في بعضها.
و أما الإثبات: ففي الياءات المحذوفات وصلا عند من يثبتها وقفا، نحو: هادٍ * و والٍ و واقٍ * و باقٍ .
و أما الإلحاق: فما يلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من يلحقها في:
عَمَّ و فِيمَ * و بِمَ و لِمَ * و مِمَّ .
و النون المشدّدة من جمع الإناث، نحو: هُنَّ * و مِثْلَهُنَّ .
و النون المفتوحة، نحو: اَلْعالَمِينَ * و اَلَّذِينَ * و اَلْمُفْلِحُونَ .
و المشدّد المبنيّ، نحو: أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ [النمل: 31]. و خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75].
و بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22]. و لَدَيَّ [النمل: 10].
قاعدة(1): أجمعوا على لزوم اتّباع رسم المصاحف العثمانية في الوقف إبدالا و إثباتا، و حذفا و وصلا و قطعا. إلاّ أنّه ورد عنهم اختلاف في أشياء بأعيانها، كالوقف بالهاء على ما كتب بالتاء، و بإلحاق الهاء فيما تقدّم و غيره، و بإثبات الياء في مواضع لم ترسم بها، و الواو في: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ [القمر: 6]. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [العلق: 18]. و وَ يَمْحُ اللّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24]. و الألف في: أيّه المؤمنون [النور:
31]. أيّه الساحر [الزخرف: 49]. أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31].
و تحذف النون في: وَ كَأَيِّنْ * حيث وقع، فإن أبا عمرو يقف عليه بالياء و يوصل أَيًّا ما في [الإسراء: 110]. و ما ل. في [النساء: 78]. و الكهف: [49]. و الفرقان:
[7]. و سأل: [36]. و قطع: وَيْكَأَنَّ ... وَيْكَأَنَّهُ [القصص: 82]. أَلاّ يَسْجُدُوا [النمل: 25]. و من القرّاء من يتّبع الرسم في الجميع.1.
ص: 294
هو نوع مهمّ جدير أن يفرد بالتصنيف؛ و هو أصل كبير في الوقف؛ و لهذا جعلته عقبه.
و به يحصل حلّ إشكالات و كشف معضلات كثيرة:
من ذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها إلى قوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 189.
190]؛ فإنّ الآية في قصة آدم و حواء كما يفهمه السياق؛ و صرّح به في حديث أخرجه أحمد و الترمذيّ. و حسّنه. و الحاكم. و صححه. من طريق الحسن عن سمرة مرفوعا(1).
و أخرجه ابن أبي حاتم و غيره بسند صحيح عن ابن عباس(2).
لكن آخر الآية مشكل، حيث نسب الإشراك إلى آدم و حواء، و آدم نبيّ مكلّم، و الأنبياء معصومون من الشّرك قبل النبوّة و بعدها إجماعا، و قد جرّ ذلك بعضهم إلى حمل الآية على غير آدم و حواء، و أنّها في رجل و زوجته كانا من أهل الملك، و تعدّى إلى تعليل الحديث و الحكم بنكارته(3).
ص: 295
و ما زلت في وقفة من ذلك حتى رأيت ابن أبي حاتم قال: أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدّثنا أحمد بن مفضّل، حدّثنا أسباط، عن السديّ في قوله: فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ قال: هذه فصل من آية آدم، خاصة في آلهة العرب(1).
و قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، سمعت صدقة بن عبد اللّه بن كثير المكيّ، يحدّث عن السّديّ قال: هذا من الموصول المفصول(2).
و قال ابن أبي حاتم: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمد بن أبي حمّاد، حدّثنا مهران، عن سفيان، عن السّديّ، عن أبي مالك قال: هذه مفصولة، إطاعة في الولد فَتَعالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ هذه لقوم محمد(3).
فانحلّت عني هذه العقدة، و انجلت لي هذه المعضلة، و اتّضح بذلك أنّ آخر قصة آدم و حواء فِيما آتاهُما و أنّ ما بعده تخلّص إلى قصة العرب، و إشراكهم الأصنام.
و يوضّح ذلك تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية، و لو كانت القصّة واحدة لقال: (عمّا يشركان) كقوله: دَعَوَا اللّهَ رَبَّهُما ... فَلَمّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الأعراف: 190.189]، و كذلك الضمائر في قوله بعده: أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً [الأعراف:
191]، و ما بعده إلى آخر الآيات. و حسن التخلّص و الاستطراد من أساليب القرآن.
و من ذلك قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ [آل عمران: 7] الآية، فإنه على تقدير الوصل يكون، (الراسخون يعلمون تأويله) و على تقدير الفصل بخلافه.
و قد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي الشعثاء، و أبي نهيك، قالا: إنكم تصلون هذه الآية و هي مقطوعة(4).
و يؤيّد ذلك كون الآية دلت على ذم متّبعي المتشابه و وصفهم بالزيغ.
و من ذلك قوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101]؛ فإنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ القصر مشروط بالخوف، و أنّه لا قصر مع الأمن، و قد قال به لظاهر الآية جماعة منهم عائشة، لكن بيّن سبب2.
ص: 296
النزول أنّ هذا من الموصول المفصول. فأخرج ابن جرير(1) من حديث عليّ: سأل قوم من التّجار(2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلّي؟ فأنزل اللّه: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: 101] ثم انقطع الوحي، فلمّا كان بعد ذلك بحول، غزا النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، فصلّى الظهر.
فقال المشركون: لقد أمكنكم محمّد و أصحابه من ظهورهم، هلاّ شدّدتم عليهم.
فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها. فأنزل اللّه بين الصلاتين: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله: عَذاباً مُهِيناً [النساء: 101] فنزلت صلاة الخوف.
فتبيّن بهذا الحديث أنّ قوله: و إِنْ خِفْتُمْ شرط فيما بعده، و هو صلاة الخوف لا في صلاة القصر، و قد قال ابن جرير(3). هذا تأويل في الآية حسن؛ لو لم تكن في الآية إِذا .
قال ابن الفرس: و يصح مع إِذا على جعل الواو زائدة.
قلت: يعني و يكون من اعتراض الشرط على الشرط، و أحسن منه أن تجعل إِذا زائدة، بناء على قول من يجيز زيادتها.
و قال ابن الجوزيّ في كتابه التفسير(4): قد تأتي العرب بكلمة إلى جانب كلمة أخرى كأنّها معها، و هي غير متصلة بها، و في القرآن: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الأعراف: 110] هذا قول الملأ، فقال فرعون: فَما ذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 110].
و مثله: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ انتهى كلامها، فقال يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52.51].2.
ص: 297
و مثله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً هذا منتهى قولها، فقال تعالى: وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34].
و مثله: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا انتهى قول الكفار، فقالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ .
و أخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في هذه الآية قال: آية من كتاب اللّه أولها أهل الضلالة و آخرها أهل الهدى، قالوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] هذا قول أهل النفاق، و قال أهل الهدى حين بعثوا من قبورهم: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (1).
و أخرج عن مجاهد في قوله: وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] قال: و ما يدريكم أنهم يؤمنون إذا جاءت؟ ثم استقبل بخبر فقال: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (2).5.
ص: 298
النوع الثلاثون في الإمالة و الفتح و ما بينهما(1)
أفرده بالتّصنيف جماعة من القرّاء منهم ابن القاصح، عمل كتابه: «قرّة العين في الفتح و الإمالة و بين اللفظين».
قال الداني(2): الفتح و الإمالة لغتان مشهورتان، فاشيتان على ألسنة الفصحاء من العرب الّذين نزل القرآن بلغتهم: فالفتح لغة أهل الحجاز، و الإمالة لغة عامّة أهل نجد من تميم و أسد و قيس.
قال: و الأصل فيها حديث حذيفة مرفوعا: «اقرءوا القرآن بلحون العرب و أصواتها، و إياكم و أصوات أهل الفسق و أهل الكتابين»(3).
قال: فالإمالة لا شكّ من الأحرف السبعة، و من لحون العرب و أصواتها.
و قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون أنّ الألف و الياء في القراءة سواء.
قال: يعني بالألف و الياء التفخيم و الإمالة(4).
ص: 299
و أخرج في «تاريخ القرّاء» من طريق أبي عاصم الضرير الكوفيّ، عن محمد بن عبيد اللّه، عن عاصم، عن زرّ بن حبيش قال: قرأ رجل على عبد اللّه بن مسعود طه (1) و لم يكسر، فقال عبد اللّه (طه) و كسر الطاء و الهاء، فقال الرجل: (طه) و لم يكسر.
فقال عبد اللّه: (طه) و كسر الطاء و الهاء.
فقال الرجل: طه (1) و لم يكسر، فقال عبد اللّه: «طه» و كسر ثم قال: هكذا علّمني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم(1).
قال ابن الجزري(2): هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، و رجاله ثقات إلاّ محمد بن عبيد اللّه، و هو العرزميّ، فإنّه ضعيف عند أهل الحديث، و كان رجلا صالحا، لكن ذهبت كتبه، فكان يحدّث من حفظه! فأتي عليه من ذلك.
قلت: و حديثه هذا أخرجه ابن مردويه في تفسيره، و زاد في آخره: و كذا نزل بها جبريل.
و في جمال القراء، عن صفوان بن عسّال: أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ: يا يَحْيى [مريم: 12].
فقيل له: يا رسول اللّه، تميل و ليس هي لغة قريش؟ فقال: «هي لغة الأخوال بني سعد».
و أخرج ابن أشتة، عن أبي حاتم قال: احتجّ الكوفيّون في الإمالة بأنّهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات، فاتّبعوا الخط و أمالوا، ليقربوا من الياءات.
الإمالة: أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة، و بالألف نحو الياء كثيرا، و هو المحض. و يقال له أيضا: الإضجاع و البطح و الكسر قليلا، و هو بين اللفظين. و يقال له أيضا: التقليل و التلطيف، و بين بين.
فهي قسمان: شديدة و متوسطة، و كلاهما جائز في القراءة، و الشديدة يجتنب معها القلب الخالص، و الإشباع المبالغ فيه، و المتوسطة بين الفتح المتوسط و الإمالة الشديدة.
قال الدّاني(3): و علماؤنا مختلفون أيّهما أوجه و أولى؟ و أنا أختار الإمالة الوسطى التي2.
ص: 300
هي بين بين؛ لأنّ الغرض من الإمالة حاصل بها، و هو الاعلام بأنّ أصل الألف الياء، و التنبيه على انقلابها إلى الياء في موضع، أو مشاكلتها للكسر المجاور لها أو الياء.
و أما الفتح: فهو فتح القارئ فاه بلفظ الحرف، و يقال له: التفخيم، و هو شديد و متوسط.
فالشديد هو نهاية فتح الشخص فاه بذلك الحرف، و لا يجوز في القرآن، بل هو معدوم في لغة العرب.
و المتوسط ما بين الفتح الشديد و الإمالة المتوسطة. قال الدّاني: و هذا هو الذي يستعمله أصحاب الفتح من القرّاء.
و اختلفوا: هل الإمالة فرع عن الفتح، أو كلّ منهما أصل برأسه؟ و وجه الأوّل: أنّ الإمالة لا تكون إلاّ لسبب، فإن فقد لزم الفتح، و إن وجد جاز الفتح و الإمالة، فما من كلمة تمال إلاّ في العرب من يفتحها، فدلّ اطراد الفتح على أصالته و فرعيّتها.
و الكلام في الإمالة من خمسة أوجه(1):
أسبابها، و وجوهها، و فائدتها، و من يميل، و ما يمال.
و أمّا أسبابها: فذكرها القراء عشرة، قال ابن الجزريّ (2): و هي ترجع إلى شيئين:
أحدهما الكسرة، و الثاني الياء؛ و كلّ منهما يكون متقدّما على محلّ الإمالة من الكلمة أو متأخرا عنه، و يكون أيضا مقدّرا في محلّ الإمالة.
و قد تكون الكسرة و الياء غير موجودتين في اللفظ و لا مقدّرتين في محل الإمالة، و لكنّهما ممّا يعرض في بعض تصاريف الكلمة.
و قد تمال الألف أو الفتحة لأجل ألف أخرى أو فتحة أخرى ممالة، و تسمّى هذه: إمالة لأجل إمالة، و قد تمال الألف تشبيها بالألف الممالة.
قال ابن الجزري(3): و تمال. أيضا. بسبب كثرة الاستعمال، و للفرق بين الاسم و الحرف، فتبلغ الأسباب اثني عشر سببا.
فأمّا الإمالة لأجل الكسرة السابقة: فشرطها أن يكون الفاصل بينها و بين الألف حرفا واحدا، نحو كتاب و حساب. و هذا الفاصل إنّما حصل باعتبار الألف.
ص: 301
و أما الفتحة الممالة فلا فاصل بينها و بين الكسرة. أو حرفين أوّلهما ساكن نحو إنسان، أو مفتوحين و الثاني هاء لخفائها.
و أما الياء السابقة: فإمّا ملاصقة للألف كالحياة، و الأيامى، أو مفصولة بحرفين أحدهما الهاء كيدها.
و أمّا الكسرة المتأخّرة: فسواء كانت لازمة نحو عابد، أم عارضة نحو من الناس، و في النار. و أمّا الياء المتأخرة فنحو: مبايع. و أمّا الكسرة المقدرة فنحو؛ خاف، إذ الأصل (خوف).
و أما الياء المقدرة: فنحو: يخشى، و الهدى، و أبي، و الثّرى، فإنّ الألف في كلّ ذلك منقلبة عن ياء، تحركت و انفتح ما قبلها.
و أما الكسرة العارضة في بعض أحوال الكلمة: فنحو: طاب، و جاء، و شاء، و زاد؛ لأن الفاء تكسر من ذلك مع ضمير الرفع المتحرّك.
و أما الياء العارضة كذلك، نحو: تلا، و غزا، فإن ألفهما عن واو، و إنّما أميلت لانقلابها ياء في تلي و غزي.
و أمّا الإمالة لأجل الإمالة، فكإمالة الكسائي الألف بعد النون من: إِنّا لِلّهِ [البقرة:
156] لإمالة الألف من لِلّهِ . و لم يمل وَ إِنّا إِلَيْهِ لعدم ذلك بعده. و جعل من ذلك إمالة: الضحى، و القرى، و ضحاها، و تلاها.
و أمّا الإمالة لأجل الشبه: فإمالة ألف التأنيث في نحو: الحسنى، و ألف: موسى، و عيسى لشبهها بألف الهدى.
و أمّا الإمالة لكثرة الاستعمال. فكإمالة اَلنّاسِ * في الأحوال الثلاث، على ما رواه صاحب «المبهج».
و أمّا الإمالة للفرق بين الاسم و الحرف؛ فكإمالة الفواتح. كما قال سيبويه: إنّ إمالة باء و تاء في حروف المعجم؛ لأنها أسماء ما يلفظ به، فليست مثل: (ما)، و (لا)، و غيرهما من الحروف.
و أما وجوهها: فأربعة، ترجع إلى الأسباب المذكورة. أصلها اثنان: المناسبة و الإشعار.
فأمّا المناسبة: فقسم واحد، و هو فيما أميل لسبب موجود في اللّفظ، و فيما أميل لإمالة غيره، فإنّهم أرادوا أن يكون عمل اللسان و مجاورة النطق بالحرف الممال و لسبب الإمالة من وجه واحد، و على نمط واحد.
و أما الإشعار: فثلاثة أقسام: إشعار بالأصل، و إشعار بما يعرض في الكلمة في بعض المواضع، و إشعار بالشّبه المشعر بالأصل.
ص: 302
و أمّا فائدتها: فسهولة اللفظ، و ذلك: أنّ اللسان يرتفع بالفتح و ينحدر بالإمالة، و الإنحدار أخفّ على اللسان من الارتفاع، فلهذا أمال من أمال. و أمّا من فتح: فإنه راعى كون الفتح أمتن أو الأصل.
أمّا من أمال: فكلّ القراء العشرة إلاّ ابن كثير، فإنّه لم يمل شيئا في جميع القرآن.
و أمّا ما يمال: فموضع استيعابه كتب القراءات، و الكتب المؤلّفة في الإمالة.
و نذكر هنا ما يدخل تحت ضابط:
فحمزة و الكسائيّ و خلف:
أمالوا كلّ ألف منقلبة عن ياء، حيث وقعت في القرآن، في اسم أو فعل: كالهدى، و الهوى، و الفتى، و العمى، و الزنا، و أتى، و أبى، و سعى، و يخشى، و يرضى، و اجتبى، و اشترى، و مثوى، و مأوى، و أدنى، و أزكى.
و كلّ ألف تأنيث على (فعلى) بضم الفاء أو كسرها أو فتحها، كطوبى، و بشرى، و قصوى، و القربى، و الأنثى، و الدنيا، و إحدى، و ذكرى، و سيما، و ضيزى، و موتى، و مرضى، و السلوى، و التقوى. و ألحقوا بذلك موسى، و عيسى، و يحيى.
و كلّ ما كان على وزن (فعالى) بالضم أو الفتح: كسكارى، و كسالى، و أسارى، و يتامى، و نصارى، و الأيامى.
و كلّ ما رسم في المصاحف بالياء، نحو (بلى)، و (متى)، و (يا أسفى)، و (يا ويلتي)، و (يا حسرتى)، و (أنّى) للاستفهام. و استثني من ذلك: حتى، و إلى، و على، ولدى، و ما زكى؛ فلم تمل بحال.
و كذلك: أمالوا من الواوي ما كسر أوّله أو ضمّ، و هو (الرّبا) كيف وقع، و (الضحى) كيف جاء، و القوى و العلى.
و أمالوا رءوس الآي من إحدى عشرة سورة جاءت على نسق، و هي: طه، و النّجم، و سأل، و القيامة، و النازعات، و عبس، و الأعلى، و الشمس، و الليل، و الضحى، و العلق.
و وافق على هذه السّور أبو عمرو و ورش.
و أمال أبو عمرو كلّ ما كان فيه راء بعدها ألف بأيّ وزن كان: كذكرى، و بشرى، و أسرى، و أراه، و اشترى، و يرى، و القرى، و النصارى، و أسارى، و سكارى، و وافق على ألفات (فعلى) كيف أتت.
و أمال أبو عمرو و الكسائي كلّ ألف بعدها راء متطرفة، مجرورة، نحو: الدار، و النار، و القهار، و الغفار، و النهار، و الديار، و الكفار، و الأبكار، و بقنطار، و أبصارهم، و أوبارها، و أشعارها، و حمارك، سواء كانت الألف أصلية أم زائدة.
ص: 303
و أمال حمزة الألف من عين الفعل الماضي من عشرة أفعال، و هي: زاد، و شاء، و جاء، و خاب، و ران، و خاف، و زاغ، و طاب، و ضاق، و حاق حيث وقعت، و كيف جاءت.
و أمال الكسائي هاء التأنيث و ما قبلها وقفا مطلقا بعد خمسة عشر حرفا، يجمعها قولك:
(فجثت زينب لذود شمس). فالفاء كخليفة و رأفة، و الجيم كوليجة و لجّة، و الثاء كثلاثة و خبيثة، و التاء كبغتة و الميتة، و الزاي كبارزة و أعزة، و الياء كخشية و شيبة، و النون كسنّة و جنّة، و الباء كحبة و التوبة، و اللام كليلة و ثلّة، و الذال كلذّة و الموقوذة، و الواو كقسوة و المروة، و الدال كبلدة و عدّة، و الشين كالفاحشة و عيشة، و الميم كرحمة و نعمة، و السين كالخامسة و خمسة.
و بفتح مطلقا بعد عشرة أحرف، و هي: جاع، و حروف الاستعلاء (قط خص ضغط).
و الأربعة الباقية و هي (أكهر) إن كان قبل كل منها ياء ساكنة، أو كسرة متصلة أو منفصلة بساكن يميل، و إلاّ بفتح.
و بقي أحرف فيها خلف و تفصيل، و لا ضابط يجمعها؛ فلتنظر من كتب الفنّ.
و أمّا فواتح السور(1):
فأمال الر * في السور الخمسة: حمزة و الكسائيّ و خلف و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر، و بين بين ورش.
و أمال الهاء من فاتحة (مريم) و (طه): أبو عمرو و الكسائيّ و أبو بكر.
و أمال حمزة و خلف (طه) دون (مريم).
و أمال الياء من أول (مريم): من أمال (الر) إلاّ أبا عمرو على المشهور عنه. و من أوّل يس (1) : الثلاثة الأوّلون و أبو بكر.
و أمال هؤلاء الأربعة الطاء من طه (1) و طسم (1) * و طس و الحاء من حم (1) * في السور السّبع، و وافقهم في الحاء ابن ذكوان.
خاتمة كره قوم الإمالة لحديث: «نزل القرآن بالتفخيم»(2).
و أجيب عنه بأوجه:
أحدها: أنه نزل بذلك ثم رخّص في الإمالة.
ص: 304
ثانيها: أنّ معناه: أنه يقرأ على قراءة الرجال، لا يخضع الصوت فيه ككلام النساء.
ثالثها: أنّ معناه: أنزل بالشدّة و الغلظة على المشركين، قال في «جمال القراء»: و هو بعيد في تفسير الخبر؛ لأنّه نزل. أيضا. بالرحمة و الرأفة.
رابعها: أنّ معناه: بالتعظيم و التبجيل، أيّ: عظّموه، و بجّلوه، فحضّ بذلك على تعظيم القرآن و تبجيله.
خامسها: أنّ المراد بالتفخيم تحريك أوساط الكلم بالضمّ و الكسر في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها و أفخم.
قال الدانيّ: و كذا جاء مفسّرا عن ابن عباس. ثم قال: حدّثنا ابن خاقان، حدّثنا أحمد ابن محمد، حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا القاسم، سمعت الكسائي يخبر عن سلمان، عن الزهريّ قال: قال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل و التفخيم، نحو قوله: (الجمعة) و أشابه ذلك من التثقيل، ثم أورد حديث الحاكم عن زيد بن ثابت مرفوعا: «نزل القرآن بالتفخيم»(1).
و قال محمد بن مقاتل أحد رواته: سمعت عمّارا يقول: عُذْراً أَوْ نُذْراً [المرسلات:
6]. اَلصَّدَفَيْنِ [الكهف: 96] يعني: بتحريك الأوسط في ذلك(2).
قال: و يؤيده قول أبي عبيدة: أهل الحجاز يفخّمون الكلام كلّه إلاّ حرفا واحدا: (عشرة) فإنّهم يجزمونه، و أهل نجد يتركون التفخيم في الكلام؛ إلاّ هذا الحرف، فإنّهم يقولون:
(عشرة) بالكسر(3).
قال الدانيّ: فهذا الوجه أولى في تفسير الخبر(4).5.
ص: 305
النوع الحادي و الثلاثون في الإدغام و الإظهار و الإخفاء و الإقلاب(1)
أفرد ذلك بالتصنيف جماعة من القراء.
الإدغام: هو اللّفظ بحرفين حرفا كالثاني، مشدّدا. و ينقسم إلى كبير و صغير:
فالكبير: ما كان أول الحرفين فيه متحركا؛ سواء كانا مثلين، أم جنسين، أم متقاربين.
و سمّي كبيرا لكثرة وقوعه؛ إذ الحركة أكثر من السكون.
و قيل: لتأثيرة في إسكان المتحرّك قبل إدغامه.
و قيل: لما فيه من الصعوبة.
و قيل: لشموله نوعي المثلين و الجنسين و المتقاربين.
و المشهور بنسبته إليه من الأئمة العشرة هو: أبو عمرو بن العلاء، و ورد عن جماعة خارج العشرة: كالحسن البصريّ، و الأعمش، و ابن محيصن، و غيرهم.
و وجه: طلب التخفيف.
و كثير من المصنّفين في القراءات لم يذكروه البتّة كأبي عبيد في كتابه(2)، و ابن مجاهد في سبعته(3)، و مكيّ في تبصرته(4)، و الطّلمنكيّ في روضته، و ابن سفيان في هاديه، و ابن شريح في كافيه، و المهدوي في هدايته(5) و غيرهم(6).
قال في تقريب النشر(7): و نعني بالمتماثلين: ما اتّفقا مخرجا و صفة. و المتجانسين: ما اتّفقا مخرجا و اختلفا صفة.
ص: 306
و المتقاربين: ما تقاربا مخرجا أو صفة.
فأمّا المدغم من المتماثلين فوقع في سبعة عشر حرفا: و هي الباء، و التاء، و الثاء، و الحاء، و الراء، و السين، و العين، و الغين، و الفاء، و القاف، و الكاف، و اللام، و الميم، و النون، و الواو، و الهاء، و الياء. نحو: اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ [النساء: 105]. اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما [المائدة: 106]. حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191]. اَلنِّكاحِ حَتّى [البقرة:
235]. شَهْرُ رَمَضانَ [البقرة: 185]. اَلنّاسَ سُكارى [الحج: 2]. يَشْفَعُ عِنْدَهُ [البقرة: 255]. يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ [آل عمران: 85]. فَاخْتُلِفَ فِيهِ * [البقرة: 213]. أَفاقَ قالَ [الأعراف: 143]. إِنَّكِ كُنْتِ [يوسف: 29]. لا قِبَلَ لَهُمْ [النمل: 37].
اَلرَّحِيمِ مالِكِ [الفاتحة: 4.3]. وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ [البقرة: 30]. فَهُوَ وَلِيُّهُمُ [النحل:
63]. فِيهِ هُدىً [البقرة: 2]. يَأْتِيَ يَوْمٌ [البقرة: 254].
و شرطه(1):
1. أن يلتقي المثلان خطّا؛ فلا يدغم في نحو: أَنَا نَذِيرٌ [العنكبوت: 50] من أجل وجود الألف خطا.
2. و أن يكونا من كلمتين، فإن التقيا من كلمة فلا يدغم، إلاّ في حرفين نحو:
مَناسِكَكُمْ في [البقرة: 200]، و ما سَلَكَكُمْ في [المدثر: 42].
3. و ألاّ يكون الأول تاء ضميرا لمتكلّم أو خطابا، فلا يدغم، نحو: كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40]، أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ [يونس: 42].
4. و لا مشدّدا، فلا يدغم نحو: مَسَّ سَقَرَ [القمر: 48]، رَبِّ بِما [الحجر: 39].
5. و لا منوّنا، فلا يدغم نحو: غَفُورٌ رَحِيمٌ ، سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
و أما المدغم من المتجانسين و المتقاربين فهو ستة عشر حرفا، يجمعها: (رض سنشدّ حجتك بذلّ قثم).
و شرطه:
1. ألاّ يكون الأول مشدّدا، نحو: أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200].
2. و لا منوّنا نحو: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: 6].
3. و لا تاء ضمير، نحو: خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء: 61].9.
ص: 307
فالباء تدغم في الميم في: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ * فقط.
و التاء في عشرة أحرف:
الثّاء: بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ [البقرة: 92].
و الجيم: اَلصّالِحاتِ جَنّاتٍ [إبراهيم: 23].
و الذال: اَلسَّيِّئاتِ ذلِكَ [هود: 114].
و الزاي: اَلْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر: 73].
و السين: اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ [النساء: 57] و لم يدغم وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً [البقرة:
247]. للجزم مع خفة الفتحة..
و الشين: بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 4].
و الصاد: وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38].
و الضاد: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) [العاديات: 1].
و الطاء: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114].
و الظاء: اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي [النساء: 97].
و الثاء في خمسة أحرف:
التاء: حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65].
و الذال: وَ الْحَرْثِ ذلِكَ [آل عمران: 14].
و السين: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ [النمل: 16].
و الشين: حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: 35].
و الضاد: حَدِيثُ ضَيْفِ [الذاريات: 24].
و الجيم في حرفين:
الشين: أَخْرَجَ شَطْأَهُ [الفتح: 29].
و التاء: ذِي الْمَعارِجِ تَعْرُجُ [المعارج: 3].
و الحاء في العين في: زُحْزِحَ عَنِ النّارِ [آل عمران: 185] فقط.
و الدال في عشرة أحرف:
التاء: اَلْمَساجِدِ تِلْكَ [البقرة: 187]. بَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: 91].
ص: 308
و الثاء: يُرِيدُ ثَوابَ [النساء: 134].
و الجيم: داوُدُ جالُوتَ [البقرة: 251].
و الذال: وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ [المائدة: 97].
و الزاي: يَكادُ زَيْتُها [النور: 35].
و السين: اَلْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ [إبراهيم: 50.49].
و الشين: وَ شَهِدَ شاهِدٌ [يوسف: 26].
و الصاد: نَفْقِدُ صُواعَ [يوسف: 72].
و الضاد: مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ [يونس: 21].
و الظاء: يُرِيدُ ظُلْماً [غافر: 31].
و لا تدغم مفتوحة بعد ساكن إلاّ في التاء لقوّة التجانس.
و الذال في السين: في قوله: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ [الكهف: 61].
و الصاد: في قوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً [الجن: 3].
و الراء في اللام: نحو: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78]. اَلْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ [البقرة:
286.285]. وَ النَّهارِ لَآياتٍ [آل عمران: 190]. فإن فتحت و سكن ما قبلها لم تدغم، نحو:
وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: 8].
و السين في الزاي: في قوله: وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) [التكوير: 7]. و الشين في قوله: اَلرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4].
و الشين في السين في: ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء: 42] فقط.
و الضاد في: لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ [النور: 62] فقط.
و القاف في الكاف إذا تحرك ما قبلها، نحو: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: 64].
و كذا إذا كانت معها في كلمة واحدة و بعدها ميم، نحو: خَلَقَكُمْ [البقرة: 21].
و الكاف في القاف إذا تحرك ما قبلها: نحو: وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ [البقرة: 30] لا إن سكن نحو: وَ تَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: 11].
و اللام في الراء إذا تحرك ما قبلها: نحو: رُسُلُ رَبِّكَ [هود: 81]، أو سكن و هي مضمومة أو مكسورة نحو: لَقَوْلُ رَسُولٍ [التكوير: 19]. إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] لا إن فتحت نحو: فَيَقُولَ رَبِّ [المنافقون: 10] إلاّ لام (قال) فإنها تدغم حيث وقعت، نحو قالَ رَبِّ [آل عمران: 38]. قالَ رَجُلانِ [المائدة: 23].
ص: 309
و الميم تسكن عند الباء إذا تحرّك ما قبلها فتخفى بغنة: نحو: بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ [الأنعام: 53]، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [البقرة: 113]، مَرْيَمَ بُهْتاناً [النساء: 156].
و هذا نوع من الإخفاء المذكور في الترجمة. و ذكر ابن الجزريّ له في أنواع الإدغام تبع فيه بعض المتقدمين، و قد قال هو في النشر(1): إنّه غير صواب.
فإن سكن ما قبلها أظهرت، نحو: إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [البقرة: 132].
و النون تدغم إذا تحرك ما قبلها في الراء و في اللام: نحو: تَأَذَّنَ رَبُّكَ [الأعراف:
167]، لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [البقرة: 55]، فإن سكن أظهرت عندهما، نحو يَخافُونَ رَبَّهُمْ [النحل:
50]. أَنْ تَكُونَ لَهُ [البقرة: 266]. إلاّ نون (نحن)، فإنها تدغم نحو: وَ نَحْنُ لَهُ [البقرة:
138]. وَ ما نَحْنُ لَكَ [هود: 53]، لكثرة ورودها و تكرار النون فيها، و لزوم حركتها و ثقلها.
الأول: وافق أبو عمرو حمزة و يعقوب في أحرف مخصوصة استوعبها ابن الجزريّ في كتابيه: «النشر» و «التقريب»(2).
الثاني: أجمع الأئمة العشرة على إدغام: ما لَكَ لا تَأْمَنّا عَلى يُوسُفَ [يوسف: 11].
و اختلفوا في اللفظ به: فقرأ أبو جعفر بإدغامه محضا بلا إشارة، و قرأ الباقون بالإشارة روما و إشماما(3).
ضابط: قال ابن الجزري(4): جميع ما أدغمه أبو عمرو من المثلين و المتقاربين إذا وصل السورة بالسورة: ألف حرف و ثلاثمائة و أربعة أحرف، لدخول آخر (القدر) ب (لم يكن). و إذا بسمل و وصل آخر السورة بالبسملة، ألف و ثلاثمائة و خمسة، لدخول آخر (الرّعد) بأول (إبراهيم)، و آخر (إبراهيم) بأوّل (الحجر)، و إذا فصل بالسكت و لم يبسمل، ألف و ثلاثمائة و ثلاثة.
و أمّا الإدغام الصغير: فهو ما كان الحرف الأوّل فيه ساكنا.
و هو واجب و ممتنع و جائز، و الّذي جرت عادة القرّاء بذكره في كتب الخلاف هو الجائز، لأنّه الذي اختلف القرّاء فيه، و هو قسمان:
الأوّل: إدغام حرف من كلمة في حروف متعددة من كلمات متفرقة، و تنحصر في: إذ،
ص: 310
و قد، و تاء التأنيث، و هل، و بل.
ف (إذ) اختلف في إدغامها و إظهارها عند ستة أحرف:
التاء: إِذْ تَبَرَّأَ [البقرة: 166].
و الجيم: إِذْ جَعَلَ [الفتح: 26].
و الدال: إِذْ دَخَلْتَ [الكهف: 39].
و الزاي: وَ إِذْ زاغَتِ [الأحزاب: 10].
و السين: إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: 12].
و الصاد: وَ إِذْ صَرَفْنا [الأحقاف: 29].
و (قد): اختلف فيها عند ثمانية أحرف:
الجيم: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ [البقرة: 92].
و الذال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا [الأعراف: 179].
و الزاي: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا [الملك: 5].
و السين: قَدْ سَأَلَها [المائدة: 102].
و الشين: قَدْ شَغَفَها [يوسف: 30].
و الصاد: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا [الإسراء: 41].
و الضاد: قَدْ ضَلُّوا [النساء: 167].
و الظاء: فَقَدْ ظَلَمَ [البقرة: 231].
و تاء التأنيث: اختلف فيها عند ستة أحرف:
الثاء: بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95].
و الجيم: نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [النساء: 56].
و الزاي: خَبَتْ زِدْناهُمْ [الإسراء: 97].
و السين: أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ [البقرة: 261].
و الصاد: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ [الحج: 40].
و الظاء: كانَتْ ظالِمَةً [الأنبياء: 11].
و لام (هل) و (بل): اختلف فيها عند ثمانية أحرف: تختصّ (بل) منها بخمسة:
ص: 311
الزاي: بَلْ زُيِّنَ [الرعد: 33].
و السين: بَلْ سَوَّلَتْ [يوسف: 18].
و الضاد: بَلْ ضَلُّوا [الأحقاف: 28].
و الطاء: بَلْ طَبَعَ [النساء: 155].
و الظاء: بَلْ ظَنَنْتُمْ [الفتح: 12].
و تختص (هل) بالثاء) هَلْ ثُوِّبَ [المطففين: 36]. و يشتركان في التاء و النون: هَلْ تَنْقِمُونَ [المائدة: 59]. بَلْ تَأْتِيهِمْ [الأنبياء: 40]. هَلْ نَحْنُ [الشعراء: 203]. بَلْ نَتَّبِعُ [البقرة: 170].
القسم الثاني: إدغام حروف قربت مخارجها، و هي سبعة عشر حرفا، اختلف فيها:
أحدها: الباء عند الفاء: في: أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ [النساء: 74]. وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ [الرعد: 5]. اِذْهَبْ فَمَنْ [الإسراء: 63]. فَاذْهَبْ فَإِنَّ [طه: 97]. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ [الحجرات: 11].
الثاني: وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ في [البقرة: 284].
الثالث: اِرْكَبْ مَعَنا في [هود: 42].
الرابع: نَخْسِفْ بِهِمُ في [سبأ: 9].
الخامس: الراء الساكنة عند اللام، نحو: يَغْفِرْ لَكُمْ [آل عمران: 31]. وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48].
السادس: اللام الساكنة في الذال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ [البقرة: 231]. حيث وقع.
السابع: الثاء في الذال في: يَلْهَثْ ذلِكَ [الأعراف: 176].
الثامن: الدال في الثاء: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ [آل عمران: 145] حيث وقع.
التاسع: الذال في التاء من: اِتَّخَذْتُمُ [البقرة: 51] و ما جاء من لفظه.
العاشر: الذال فيها من: فَنَبَذْتُها في [طه: 96].
الحادي عشر: الذال فيها أيضا في عُذْتُ بِرَبِّي في [غافر: 27]، و [الدخان: 20].
الثاني عشر: الثاء من: لَبِثْتُمْ [الإسراء: 52] و لَبِثْتَ [البقرة: 259] كيف جاءا.
و الثالث عشر: الثاء فيها في أُورِثْتُمُوها في [الأعراف: 43] و [الزخرف: 72].
الرابع عشر: الدال في الذال في: كهيعص (1) ذِكْرُ [مريم: 2.1].
الخامس عشر: النون في الواو، من يس (1) وَ الْقُرْآنِ .
ص: 312
السادس عشر: النون فيها، من ن وَ الْقَلَمِ .
السابع عشر: النون عند الميم من: طسم (1) * أوّل (الشعراء) و (القصص).
قاعدة: كلّ حرفين التقيا، أولهما ساكن. و كانا مثلين، أو جنسين. وجب إدغام الأوّل منهما، لغة و قراءة(1).
فالمثلان: نحو: اِضْرِبْ بِعَصاكَ [البقرة: 60]، رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]، وَ قَدْ دَخَلُوا [المائدة: 61]. اِذْهَبْ بِكِتابِي [النمل: 28]. وَ قُلْ لَهُمْ [النساء: 63].
وَ هُمْ مِنْ [النمل: 89]. عَنْ نَفْسٍ [البقرة: 48]. يُدْرِكْكُمُ [النساء: 78]. يُوَجِّهْهُ [النحل: 76].
و الجنسان: نحو: قالَتْ طائِفَةٌ [آل عمران: 72]، وَ قَدْ تَبَيَّنَ [العنكبوت: 38]، إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف: 39]، بَلْ رانَ [المطففين: 14]، (هل رأيتم) وَ قُلْ رَبِّ [الإسراء:
24].
ما لم يكن أوّل المثلين حرف مدّ نحو: قالُوا وَ هُمْ [الشعراء: 96]. اَلَّذِي يُوَسْوِسُ [الناس: 5].
أو أوّل الجنسين حرف حلق نحو: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ [الزخرف: 89].
فائدة: كره قوم الإدغام في القرآن، و عن حمزة أنه كرهه في الصلاة، فتحصلنا على ثلاثة أقوال.
أحكام النون الساكنة و التنوين(2)
تذنيب: يلحق بالقسمين السابقين قسم آخر اختلف في بعضه، و هو: أحكام النون الساكنة و التنوين. و لهما أحكام أربعة: إظهار، و إدغام، و إقلاب، و إخفاء.
فالإظهار: لجميع القراء عند ستة أحرف، و هي حروف الحلق: الهمزة و الهاء، و العين، و الحاء، و الغين، و الخاء، نحو: وَ يَنْأَوْنَ [الأنعام: 26]. مَنْ آمَنَ [البقرة: 62].
فَانْهارَ [التوبة: 109]. مِنْ هادٍ [الرعد: 33]. جُرُفٍ هارٍ [التوبة: 109]. أَنْعَمْتَ [الفاتحة: 7]. مِنْ عَمَلٍ [يونس: 61]. عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7]. وَ انْحَرْ [الكوثر: 2].
مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]. فَسَيُنْغِضُونَ [الإسراء: 51]. مِنْ غِلٍّ [الأعراف: 43].
إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]. وَ الْمُنْخَنِقَةُ [المائدة: 3]. مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 197]. قَوْمٌ
ص: 313
خَصِمُونَ [الزخرف: 58].
و بعضهم يخفي عند الخاء و الغين.
و الإدغام: في ستّة:
حرفان بلا غنّة: و هما اللام و الراء، نحو: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24]. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2]. مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5]. ثَمَرَةٍ رِزْقاً [البقرة: 25].
و أربعة بغنّة: و هي: النون، و الميم، و الياء، و الواو، نحو: عَنْ نَفْسٍ [البقرة: 48].
حِطَّةٌ نَغْفِرْ [البقرة: 58]. مِنْ مالٍ [المؤمنون: 55]. مَثَلاً ما [البقرة: 26]. مِنْ والٍ [الرعد: 11]. وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ [البقرة: 19]. مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8]. وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ [البقرة: 19].
و الإقلاب: عند حرف واحد، و هو الباء: أَنْبِئْهُمْ [البقرة: 33]. مِنْ بَعْدِهِمْ [البقرة: 253]. صُمٌّ بُكْمٌ [البقرة: 18] بقلب النون و التنوين عند الباء ميما خاصة، فتخفى بغنّة.
و الإخفاء: عند باقي الحروف، و هي خمسة عشر: التاء، و الثاء، و الجيم، و الدال، و الذال، و الزاي، و السين، و الشين، و الصاد، و الضاد، و الطاء، و الظاء، و الفاء، و القاف، و الكاف، نحو: كُنْتُمْ [البقرة: 23]. وَ مَنْ تابَ [هود: 112]. جَنّاتٍ تَجْرِي [البقرة: 25]. بِالْأُنْثى [البقرة: 178]. مِنْ ثَمَرَةٍ [البقرة: 25]. قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:
5]. أَنْجَيْتَنا [يونس: 22]. إِنْ جَعَلَ [القصص: 71]. خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء: 49].
أَنْداداً [البقرة: 22]. أَنْ دَعَوْا [مريم: 91]. وَ كَأْساً دِهاقاً (34) [النبأ: 34]. أَ أَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6]. مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: 31]. وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ [الإسراء: 3.2]. تَنْزِيلٌ مِنَ [فصلت: 2]. مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44]. صَعِيداً زَلَقاً [الكهف: 40]. اَلْإِنْسانُ [النساء: 28]. مِنْ سُوءٍ [يوسف: 51]. وَ رَجُلاً سَلَماً [الزمر: 29] أَنْشَرَهُ [عبس: 22].
إِنْ شاءَ [البقرة: 70]. غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 30]. وَ الْأَنْصارِ [التوبة: 100].
أَنْ صَدُّوكُمْ [المائدة: 2]. جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 33]. مَنْضُودٍ [هود: 82].
مَنْ ضَلَّ [المائدة: 105]. وَ كُلاًّ ضَرَبْنا [الفرقان: 39]. اَلْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران: 14].
مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2]. صَعِيداً طَيِّباً [النساء: 43]. يَنْظُرُونَ [البقرة: 210]. مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22]. ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء: 57]. فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63]. مِنْ فَضْلِهِ [البقرة: 90]. خالِداً فِيها [النساء: 14]. اِنْقَلَبُوا [يوسف: 62]. مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: 26]. سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50]. اَلْمُنْكَرِ [آل عمران: 104]. مِنْ كُتُبٍ [آل عمران: 81]. كِتابٌ كَرِيمٌ [النمل: 29].
و الإخفاء حالة بين الإدغام و الإظهار، و لا بدّ من الغنّة معه.
ص: 314
النوع الثاني و الثلاثون في المد و القصر(1)
أفرده جماعة من القراء بالتصنيف.
و الأصل في المدّ: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه: حدّثنا شهاب بن خراش، حدثني مسعود بن يزيد الكنديّ، قال: كان ابن مسعود يقرئ رجلا، فقرأ الرجل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ [التوبة: 60] مرسلة.
فقال ابن مسعود: ما هكذا أقرأنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
فقال: كيف أقرأكها يا أبا عبد الرحمن؟.
فقال: أقرأنيها: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ فمدّ. و هذا حديث جليل حجّة، و نصّ في الباب، رجال إسناده ثقات، أخرجه الطبرانيّ في الكبير(2).
المدّ: عبارة عن زيادة مطّ في حرف المدّ على المدّ الطبيعي؛ و هو الذي لا تقوم ذات حرف المدّ دونه.
و القصر: ترك تلك الزيادة، و إبقاء المدّ الطبيعيّ على حاله.
و حرف المدّ (الألف) مطلقا، و (الواو) الساكنة المضموم ما قبلها، و (الياء) الساكنة المكسور ما قبلها.
و سببه: لفظيّ و معنويّ:
فاللفظي: إما همز أو سكون:
فالهمز: يكون بعد حرف المدّ و قبله.
و الثاني: نحو آدم، و رأى، و إيمان، و خاطئين، و أوتوا، و الموءودة.
و الأول إن كان معه في كلمة واحدة، فهو: المتّصل، نحو: أُولئِكَ * شاءَ اللّهُ * و اَلسُّواى [الروم: 10]، و مِنْ سُوءٍ [آل عمران: 30]، و يُضِيءُ [النور: 35].
ص: 315
و إن كان حرف المدّ آخر كلمة و الهمز أول أخرى فهو: المنفصل، نحو: بِما أُنْزِلَ * يا أَيُّهَا * قالُوا آمَنّا * وَ أَمْرُهُ إِلَى اللّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ ، بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ .
و وجه المدّ لأجل الهمز: أنّ حرف المدّ خفيّ، و الهمز صعب، فزيد في الخفيّ ليتمكن من النطق بالصعب.
و السكون: إمّا لازم: و هو الذي لا يتغيّر في حاليه: نحو: اَلضّالِّينَ * و دَابَّةٍ [البقرة: 164]. و الم (1) * و أَ تُحاجُّونِّي [الأنعام: 80].
أو عارض: و هو الذي يعرض للوقف و نحوه: نحو: اَلْعِبادِ [يس: 30].
و اَلْحِسابِ [البقرة: 202]. و نَسْتَعِينُ و اَلرَّحِيمِ * و يُوقِنُونَ [البقرة: 4] حالة الوقف، و فِيهِ هُدىً [البقرة: 2]. و وَ قالَ لَهُمْ [البقرة: 247]، و يَقُولُ رَبَّنا [البقرة: 200] حالة الإدغام.
و وجه المدّ للسكون: التمكّن من الجمع بين الساكنين، فكأنّه قام مقام حركة.
و قد أجمع القراء على مدّ نوعي المتّصل، و ذي الساكن اللاّزم، و إن اختلفوا في مقداره.
و اختلفوا في مدّ النوعين الآخرين: و هما المنفصل، و ذو الساكن العارض، و في قصرهما.
فأمّا المتصل: فاتّفق الجمهور على مدّه قدرا واحدا مشبعا من غير إفحاش. و ذهب آخرون إلى تفاضله كتفاضل المنفصل، فالطوليّ لحمزة و ورش، و دونها لعاصم، و دونها لابن عامر و الكسائي و خلف، و دونها لأبي عمرو و الباقين.
و ذهب بعضهم إلى أنه مرتبتان فقط: الطوليّ لمن ذكر، و الوسطي لمن بقي.
و أما ذو الساكن: و يقال له: مدّ العدل؛ لأنه يعدل حركة: فالجمهور. أيضا. على مدّه مشبعا قدرا واحدا من غير إفراط. و ذهب بعضهم إلى تفاوته.
و أما المنفصل: و يقال له: مدّ الفصل؛ لأنه يفصل بين الكلمتين، و مدّ البسط؛ لأنه يبسط بين الكلمتين، و مدّ الاعتبار؛ لاعتبار الكلمتين من كلمة، و مدّ حرف بحرف، أي: مدّ كلمة بكلمة، و المدّ الجائز، من أجل الخلاف في مدّه و قصره. فقد اختلفت العبارات في مقدار مدّه اختلافا لا يمكن ضبطه.
و الحاصل أنّ له سبع مراتب:
الأولى: القصر، و هو حذف المدّ العرضيّ، و إبقاء ذات حرف المدّ على ما فيها من غير زيادة، و هي في المنفصل خاصّة لأبي جعفر و ابن كثير، و لأبي عمرو عند الجمهور(1).1.
ص: 316
الثانية: فويق القصر قليلا، و قدّرت بألفين. و بعضهم بألف و نصف. و هي لأبي عمرو، في المتصل و المنفصل عند صاحب التيسير(1).
الثالثة: فويقها قليلا، و هي التوسّط عند الجميع، و قدّرت بثلاث ألفات، و قيل: بألفين و نصف، و قيل: بألفين، على أنّ ما قبلها بألف و نصف و هي لابن عامر و الكسائي في الضربين، عند صاحب «التيسير»(2).
الرابعة: فويقها قليلا، و قدّرت بأربع ألفات، و قيل: بثلاث و نصف، و قيل: بثلاث، على الخلاف فيما قبلها؛ و هي لعاصم في الضربين عند صاحب «التيسير»(3).
الخامسة: فويقها قليلا، و قدّرت بخمس ألفات، و بأربع و نصف، و بأربع على الخلاف.
و هي فيها لحمزة و ورش عنده(4).
السادسة: فوق ذلك، و قدّرها الهذليّ بخمس ألفات على تقدير الخامسة بأربع، و ذكر أنها لحمزة(5).
السابعة: الإفراط، قدّرها الهذليّ بستّ، و ذكرها لورش(6).
قال ابن الجزريّ (7): و هذا الاختلاف في تقدير المراتب بالألفات لا تحقيق وراءه، بل هو لفظيّ؛ لأن المرتبة الدنيا. و هي القصر. إذا زيد عليها أدنى زيادة صارت ثانية، ثم كذلك حتى تنتهي إلى القصوى.
و أما العارض: فيجوز فيه. لكلّ من القراء. كلّ من الأوجه الثلاثة: المدّ، و التوسط، و القصر، و هي أوجه تخيير.
و أما السبب المعنويّ: فهو قصد المبالغة في النفي، و هو سبب قويّ مقصود عند العرب، و إن كان أضعف من اللفظيّ عند القراء.
و منه مدّ التعظيم في نحو: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [البقرة: 163]. لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ [الصافات: 35]. لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ [الأنبياء: 87]. و قد ورد عن أصحاب القصر في المنفصل لهذا المعنى، و يسمّى مدّ المبالغة.7.
ص: 317
قال ابن مهران في كتاب «المدّات»(1): إنما سمّي مدّ المبالغة؛ لأنه طلب للمبالغة في نفي إلهيّة سوى اللّه تعالى.
قال: و هذا مذهب معروف عند العرب؛ لأنها تمدّ عند الدعاء و عند الاستغاثة، و عند المبالغة في نفي شيء، و يمدّون ما لا أصل له بهذه العلّة.
قال ابن الجزريّ (2): و قد ورد عن حمزة مدّ المبالغة للنفي في (لا) التي للتبرئة، نحو:
لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]. لا شِيَةَ فِيها [البقرة: 71]. فَلا مَرَدَّ لَهُ [الروم: 43]. لا جَرَمَ [هود: 22] و قدره في ذلك وسط، لا يبلغ الإشباع لضعف سببه. نصّ عليه ابن القصاع.
و قد يجتمع السببان: اللفظيّ و المعنويّ، في نحو: لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ [الصافات: 35].
و لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256]. و فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173]. فيمدّ لحمزة مدّا مشبعا على أصله في المدّ لأجل الهمز، و يلغى المعنوي، إعمالا للأقوى و إلغاء للأضعف.
قاعدة: إذا تغير سبب المدّ جاز المدّ مراعاة للأصل، و القصر نظرا للفظ، سواء كان السبب همزا أو سكونا، سواء تغيّر الهمز ببين بين، أو بإبدال، أو حذف؛ و المدّ أولى فيما بقي لتغيّر أثره، نحو: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ [البقرة: 31]. في قراءة قالون و البزيّ، و القصر فيما ذهب أثره نحوها في قراءة أبي عمرو.
قاعدة: متى اجتمع سببان قويّ و ضعيف عمل بالقويّ، و ألغي الضعيف إجماعا، و يتخرّج عليها فروع:
منها: الفرع السابق في اجتماع اللفظيّ و المعنويّ.
و منها: نحو: وَ جاؤُ أَباهُمْ [يوسف: 16]. و رَأى أَيْدِيَهُمْ [هود: 70]. إذا قرئ لورش لا يجوز فيه القصر و لا التوسط بل الإشباع؛ عملا بأقوى السببين، و هو المدّ لأجل الهمز بعده، فإن وقف على جاؤُ * أو رَأى * جازت الأوجه الثلاثة، بسبب تقدم الهمز على حرف المدّ و ذهاب سببيّة الهمز بعده.
فائدة: قال أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوريّ: مدّات القرآن على عشرة أوجه:
مدّ الحجز: في نحو: أَ أَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6]. أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ [المائدة: 116].
أَ إِذا مِتْنا [المؤمنون: 82]. أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ [القمر: 25]، لأنه أدخل بين الهمزتين1.
ص: 318
حاجزا خففهما، لاستثقال العرب جمعهما، و قدره ألف تامّة بالإجماع، فحصول الحجز بذلك.
و مدّ العدل: في كلّ حرف مشدّد و قبله حرف مدّ و لين، نحو: اَلضّالِّينَ * لأنه يعدل حركة؛ أي: يقوم مقامها في الحجز بين الساكنين.
و مدّ التمكين: في نحو: أُولئِكَ ، و وَ الْمَلائِكَةِ * و سائر المدّات الّتي تليها همزة، لأنه جلب ليتمكن به من تحقيقها و إخراجها من مخرجها.
و مدّ البسط: و يسمّى أيضا مدّ الفصل: في نحو: بِما أُنْزِلَ ؛ لأنه يبسط بين كلمتين، و يفصل به بين كلمتين متصلتين.
و مدّ الرّوم: في نحو: ها أَنْتُمْ ؛ لأنهم يرومون الهمزة من أَنْتُمْ * و لا يحقّقونها و لا يتركونها أصلا، و لكن يليّنونها؛ و يشيرون إليها. و هذا على مذهب من لا يهمز ها أَنْتُمْ ، و قدره ألف و نصف.
و مدّ الفرق: في نحو: آلْآنَ ؛ لأنه يفرق به بين الاستفهام و الخبر، و قدره ألف تامة بالإجماع. فإن كان بين ألف المدّ حرف مشدّد زيد ألف أخرى ليتمكن به من تحقيق الهمزة، نحو: وَ الذّاكِرِينَ اللّهَ [الأحزاب: 35].
و مدّ البنية: في نحو: ماءً * و دُعاءً * و وَ نِداءً و زكرياء؛ لأن الاسم بني على المدّ، فرقا بينه و بين المقصور.
و مدّ المبالغة: في نحو: لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ .
و مدّ البدل من الهمزة: في نحو: آدَمَ * و آخَرَ * و آمَنَ ، و قدره ألف تامّة بالإجماع.
و مدّ الأصل في الأفعال الممدودة، نحو: جاءَ * و شاءَ ، و الفرق بينه و بين مدّ البنية أنّ تلك الأسماء بنيت على المدّ، فرقا بينها و بين المقصور، و هذه مدّات في أصول أفعال أحدثت لمعان. انتهى.
ص: 319
النوع الثالث و الثلاثون في تخفيف الهمز(1)
فيه تصانيف مفردة:
اعلم أنّ الهمز لما كان أثقل الحروف نطقا، و أبعدها مخرجا، تنوّع العرب في تخفيفه بأنواع التخفيف، و كانت قريش و أهل الحجاز أكثرهم له تخفيفا؛ و لذلك أكثر ما يرد تخفيفه من طرقهم؛ كابن كثير من رواية ابن فليح، و كنافع من رواية ورش، و كأبي عمرو؛ فإنّ مادة قراءته عن أهل الحجاز.
و قد أخرج ابن عديّ من طريق موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما همز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و لا أبو بكر و لا عمر، و لا الخلفاء، و إنّما الهمز بدعة ابتدعوها من بعدهم(2).
قال أبو شامة: هذا حديث لا يحتجّ به، و موسى بن عبيدة الرّبذيّ ضعيف عند أئمة الحديث.
قلت: و كذا الحديث الّذي أخرجه الحاكم في المستدرك، من طريق حمران بن أعين، عن أبي الأسود الدؤليّ، عن أبي ذرّ، قال: جاء أعرابيّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فقال: يا نبيء اللّه.
فقال: «لست بنبيء اللّه، و لكني نبيّ اللّه»(3).
قال الذهبي: حديث منكر، و حمران رافضيّ ليس بثقة.
و أحكام الهمز كثيرة لا يحصيها أقلّ من مجلّد، و الذي نورده هنا: أن تخفيفه أربعة أنواع:
ص: 320
أحدها: النقل لحركته إلى الساكن قبله: فيسقط. نحو: قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون: 1]. بفتح الدال، و به قرأ نافع من طريق ورش، و ذلك حيث كان الساكن صحيحا آخرا و الهمزة أولا.
و استثنى أصحاب يعقوب عن ورش: كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ [الحاقة: 20.19]. فسكّنوا الهاء و خففوا الهمزة، و أما الباقون فخفّفوا و سكنوا في جميع القرآن.
و ثانيها: الإبدال: بأن تبدل الهمزة الساكنة حرف مدّ من جنس حركة ما قبلها. فتبدل ألفا بعد الفتح، نحو: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ [طه: 132]. واوا بعد الضمّ، نحو: يُؤْمِنُونَ . و ياء بعد الكسر، نحو: (جيت) [البقرة: 71]. و به يقرأ أبو عمرو، و سواء كانت الهمزة فاء أم عينا أم لاما، إلاّ أن يكون سكونها جزما، نحو: ننسأها [البقرة: 106]، أو بناء، نحو: أرجئه (1)، أو يكون ترك الهمز فيه أثقل، و هو: وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ في [الأحزاب: 51]، أو يوقع في الالتباس، و هو:
وَ رِءْياً في [مريم: 74]. فإن تحرّكت فلا خلاف عنه في التحقيق نحو: يَؤُدُهُ [البقرة:
255].
ثالثها: التسهيل بينها و بين حركتها:
فإن اتفق الهمزتان في الفتح: سهّل الثانية الحرميّان و أبو عمرو و هشام، و أبدلها ورش ألفا، و ابن كثير لا يدخل قبلها ألفا، و قالون و هشام و أبو عمرو يدخلونها، و الباقون من السبعة يحقّقون.
و إن اختلفا بالفتح و الكسر: سهّل الحرميّان و أبو عمرو الثانية، و أدخل قالون و أبو عمرو قبلها ألفا، و الباقون يحققون.
أو بالفتح و الضم، و ذلك في: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ [آل عمران: 15]. أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [ص: 8]. أؤلقي [القمر: 25] فقط، فالثلاثة يسهّلون، و قالون يدخل ألفا، و الباقون يحقّقون.
قال الدانيّ: و قد أشار الصّحابة إلى التسهيل بكتابة الثانية واوا.
رابعها: الإسقاط بلا نقل: و به قرأ أبو عمرو، إذا اتفقا في الحركة و كانا في كلمتين، فإن اتفقا كسرا نحو: هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ [البقرة: 31] جعل ورش و قنبل: الثانية كياء ساكنة.
و قالون و البزيّ: الأولى كياء مكسورة، و أسقطها أبو عمرو، و الباقون يحقّقون.
و إن اتفقا فتحا، نحو: جاءَ أَجَلُهُمْ [الأعراف: 34] جعل ورش و قنبل الثانية كمدّة، و أسقط الثلاثة الأولى، و الباقون يحقّقون.
أو ضما، و هو: أَوْلِياءُ أُولئِكَ [الأحقاف: 32] فقط أسقطها أبو عمرو، و جعلها قالون و البزيّ كواو مضمومة، و الآخران يجعلان الثانية كواو ساكنة، و الباقون يحقّقون.
ثم اختلفوا في الساقط: هل هو الأولى أو الثانية؟ الأول عن أبي عمرو، و الثاني عن الخليل من النحاة.
و تظهر فائدة الخلاف في المدّ، فإن كان الساقط الأولى فهو منفصل، أو الثانية فهو متّصل.
ص: 321
النوع الرابع و الثلاثون في كيفية تحمّله(1)
اعلم أنّ حفظ القرآن فرض كفاية على الأمّة؛ صرّح به الجرجانيّ في الشافي و العباديّ و غيرهما.
قال الجويني: و المعنى فيه ألاّ ينقطع عدد التواتر فيه، فلا يتطرّق إليه التبديل و التحريف، فإن قام بذلك قوم يبلغون هذا العدد سقط عن الباقين، و إلاّ أثم الكلّ.
و تعليمه. أيضا. فرض كفاية، و هو أفضل القرب. ففي الصحيح: «خيركم من تعلّم القرآن و علّمه»(2).
و أوجه التحمّل عند أهل الحديث(3): السماع من لفظ الشيخ، و القراءة عليه، و السماع عليه بقراءة غيره، و المناولة، و الإجازة، و المكاتبة، و الوصية، و الإعلام، و الوجادة. فأمّا غير الأوّلين فلا يأتي هنا، لما يعلم ممّا سنذكره.
و أما القراءة على الشيخ: فهي المستعملة سلفا و خلفا.
و أما السماع من لفظ الشيخ: فيحتمل أن يقال به هنا؛ لأنّ الصحابة. رضي اللّه عنهم.
إنّما أخذوا القرآن من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، لكن لم يأخذ به أحد من القرّاء، و المنع فيه ظاهر؛ لأنّ المقصود هنا كيفيّة الأداء، و ليس كلّ من سمع من لفظ الشيخ يقدر على الأداء كهيئته، بخلاف الحديث، فإنّ المقصود فيه المعنى أو اللفظ لا بالهيئات المعتبرة في أداء القرآن، و أمّا الصّحابة فكانت فصاحتهم و طباعهم السليمة تقتضي قدرتهم على الأداء، كما سمعوه من النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم؛ لأنّه نزل بلغتهم.
و ممّا يدل للقراءة على الشيخ، عرض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم على جبريل في رمضان كلّ عام(4).
ص: 322
و يحكى: أن الشيخ شمس الدين بن الجزريّ لمّا قدم القاهرة و ازدحمت عليه الخلق، لم يتسع وقته لقراءة الجميع، فكان يقرأ عليهم الآية، ثم يعيدونها عليه دفعة واحدة، فلم يكتف بقراءته.
و تجوز القراءة على الشيخ؛ و لو كان غيره يقرأ عليه في تلك الحالة، إذا كان بحيث لا يخفى عليه حالهم. و قد كان الشيخ علم الدين السخاويّ يقرأ عليه اثنان و ثلاثة في أماكن مختلفة، و يردّ على كلّ منهم، و كذا لو كان الشيخ مشتغلا بشغل آخر كنسخ و مطالعة.
و أما القراءة من الحفظ: فالظاهر أنها ليست بشرط، بل يكفي و لو من المصحف.
فصل كيفيات القراءة ثلاث(1)
أحدها: التحقيق: و هو إعطاء كلّ حرف حقّه من إشباع المدّ، و تحقيق الهمزة، و إتمام الحركات، و اعتماد الإظهار، و التشديدات، و بيان الحروف، و تفكيكها، و إخراج بعضها من بعض: بالسكت، و الترتيل، و التّؤدة، و ملاحظة الجائز من الوقوف: بلا قصر و لا اختلاس، و لا إسكان محرّك و لا إدغامه؛ و هو يكون لرياضة الألسن و تقويم الألفاظ.
و يستحبّ الأخذ به على المتعلّمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حدّ الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، و تكرير الرّاءات، و تحريك السّواكن، و تطنين النّونات بالمبالغة في الغنّات، كما قال حمزة لبعض من سمعه يبالغ في ذلك: أما علمت أنّ ما فوق البياض برص، و ما فوق الجعودة قطط و ما فوق القراءة ليس بقراءة؟(2).
و كذا يحترز من الفصل بين حروف الكلمة، كمن يقف على التاء من نَسْتَعِينُ وقفة لطيفة، مدّعيا أنه يرتّل. و هذا النوع من القراءة مذهب حمزة و ورش، و قد أخرج فيه الدانيّ حديثا في كتاب التجويد مسلسلا إلى أبيّ بن كعب: أنه قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم التحقيق. و قال: إنّه غريب مستقيم الإسناد.
الثانية: الحدر(3): بفتح الحاء و سكون الدال المهملتين؛ و هو إدراج القراءة و سرعتها و تخفيفها بالقصر و التسكين، و الاختلاس و البدل و الإدغام الكبير، و تخفيف الهمزة، و نحو ذلك ممّا صحت به الرواية، مع مراعاة إقامة الإعراب و تقويم اللفظ، و تمكّن الحروف بدون بتر حروف المدّ، و اختلاس أكثر الحركات، و ذهاب صوت الغنّة، و التفريط إلى غاية لا تصحّ بها
ص: 323
القراءة، و لا توصف بها التلاوة. و هذا النوع مذهب ابن كثير و أبي جعفر، و من قصر المنفصل كأبي عمرو و يعقوب.
الثالثة: التدوير: و هو التوسط بين المقامين من التحقيق و الحدر. و هو الذي ورد عن أكثر الأئمة ممن مدّ المنفصل، و لم يبلغ فيه الإشباع، و هو مذهب سائر القراء، و هو المختار عند أكثر أهل الأداء.
تنبيه(1): سيأتي في النوع الذي يلي هذا استحباب الترتيل في القراءة. و الفرق بينه و بين التحقيق: فيما ذكره بعضهم. أن التحقيق يكون للرياضة و التعليم و التمرين، و الترتيل يكون للتدبّر و التفكر و الاستنباط، فكلّ تحقيق ترتيل، و ليس كلّ ترتيل تحقيقا.
و قد أفرده جماعة كثيرون بالتصنيف؛ و منهم الدّانيّ و غيره(2)، أخرج عن ابن مسعود أنّه قال: (جوّدوا القرآن)(3).
قال القرّاء(4): التجويد حلية القراءة، و هو إعطاء الحروف حقوقها و ترتيبها، و ردّ الحرف إلى مخرجه و أصله، و تلطيف النّطق به على كمال هيئته، من غير إسراف و لا تعسّف و لا إفراط و لا تكلّف. و إلى ذلك أشار صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد»(5). يعني ابن مسعود، و كان رضي اللّه عنه قد أعطي حظا عظيما في تجويد القرآن.
و لا شك أنّ الأمة. كما هم متعبّدون بفهم معاني القرآن و إقامة حدوده. هم متعبّدون بتصحيح ألفاظه و إقامة حروفه على الصّفة المتلقاة من أئمة القراء، المتصلة بالحضرة النبويّة.
و قد عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنا، فقسّموا اللحن إلى جليّ و خفي(6)، فاللحن
ص: 324
خلل يطرأ على الألفاظ فيخلّ، إلاّ أنّ الجليّ يخلّ إخلالا ظاهرا، يشترك في معرفته علماء القراءة و غيرهم. و هو الخطأ في الإعراب، و الخفيّ يخلّ إخلالا يختصّ بمعرفته علماء القراءة و أئمة الأداء، الذين تلقّوه من أفواه العلماء، و ضبطوه من ألفاظ أهل الأداء.
قال ابن الجزريّ (1): و لا أعلم لبلوغ النهاية في التجويد مثل رياضة الألسن و التكرار على اللّفظ المتلقّى من فم المحسن.
و قاعدته: ترجع إلى معرفة كيفيّة الوقف و الإمالة و الإدغام و أحكام الهمز و الترقيق و التفخيم و مخارج الحروف؛ و قد تقدمت الأربعة الأول. و أمّا الترقيق: فالحروف المستفلة كلّها مرقّقة، لا يجوز تفخيمها، إلاّ اللاّم من اسم اللّه بعد فتحة أو ضمة إجماعا، أو بعد حروف الإطباق في رواية، إلاّ الرّاء المضمومة أو المفتوحة مطلقا، أو الساكنة في بعض الأحوال. و الحروف المستعلية كلّها مفخّمة لا يستثنى منها شيء في حال من الأحوال.
و أمّا مخارج الحروف(2): فالصحيح عند القرّاء و متقدّمي النحاة كالخليل أنّها سبعة عشر.
و قال كثير من الفريقين: ستّة عشر، فأسقطوا مخرج الحروف الجوفيّة، و هي حروف المدّ و اللّين، و جعلوا مخرج الألف من أقصى الحلق، و الواو من مخرج المتحركة، و كذا الياء.
و قال قوم: أربعة عشر، فأسقطوا مخرج النّون و اللاّم و الرّاء، و جعلوها من مخرج واحد.
قال ابن الحاجب: و كلّ ذلك تقريب، و إلاّ فكلّ حرف مخرج على حدة.
قال القرّاء: و اختبار مخرج الحرف محقّقا: أن تلفظ بهمزة الوصل و تأتي بالحرف بعده ساكنا أو مشددا، و هو أبين، ملاحظا فيه صفات ذلك الحرف:
المخرج الأوّل: الجوف للألف، و الواو و الياء الساكنتين بعد حركة تجانسهما.
الثاني: أقصى الحلق، للهمزة و الهاء.
الثالث: وسطه، للعين و الحاء المهملتين.
الرابع: أدناه للفم، للغين و الخاء.
الخامس: أقصى اللسان ممّا يلي الحلق، و ما فوقه من الحنك للقاف.
السادس: أقصاه من أسفل مخرج القاف قليلا، و ما يليه من الحنك للكاف.
السابع: وسطه، بينه و بين وسط الحنك، الجيم و الشين و الياء.5.
ص: 325
الثامن: للضاد المعجمة، من أوّل حافّة اللسان و ما يليه من الأضراس من الجانب الأيسر، و قيل: الأيمن.
التاسع: اللاّم من حافّة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه، و ما بينها و بين ما يليها من الحنك الأعلى.
العاشر: للنون من طرفه، أسفل اللاّم قليلا.
الحادي عشر: للراء من مخرج النون، لكنها أدخل في ظهر اللسان.
الثاني عشر: للطاء و الدال و التاء من طرف اللسان و أصول الثنايا العليا مصعدا إلى جهة الحنك.
الثالث عشر: الحرف الصفير: الصاد و السين و الزّاي، من بين طرف اللسان و فويق الثنايا السفلى.
الرابع عشر: للظاء و الثاء و الذال، من بين طرفه، و أطراف الثنايا العليا.
الخامس عشر: للفاء، من باطن الشفة السفلى و أطراف الثنايا العليا.
السادس عشر: للباء و الميم و الواو غير المدّيّة بين الشفتين.
السابع عشر: الخيشوم للغنّة في الإدغام و النون و الميم الساكنة.
قال في النشر(1): فالهمزة و الهاء اشتركا مخرجا و انفتاحا و استفالا، و انفردت الهمزة بالجهر و الشدّة، و العين و الحاء اشتركا كذلك، و انفردت الحاء بالهمس و الرخاوة الخالصة.
و الغين و الخاء اشتركا مخرجا و رخاوة و استعلاء و انفتاحا، و انفردت الغين بالجهر. و الجيم و الشين و الياء اشتركت مخرجا و انفتاحا و استفالا، و انفردت الجيم بالشدّ، و اشتركت مع الياء في الجهر، و انفردت الشين بالهمس و التفشي، و اشتركت مع الياء في الرّخاوة. و الضاد و الظاء اشتركا صفة جهرا و رخاوة و استعلاء و إطباقا، و افترقا مخرجا، و انفردت الضّاد بالاستطالة.
و الطاء و الدال و التاء اشتركت مخرجا و شدّة، و انفردت الطاء بالإطباق و الاستعلاء، و اشتركت مع الدال في الجهر، و انفردت التاء بالهمس، و اشتركت مع الدال في الانفتاح و الاستفال.
و الظاء و الذال و الثاء اشتركت مخرجا و رخاوة، و انفردت الظّاء بالاستعلاء و الإطباق، و اشتركت مع الذال في الجهر، و انفردت الثاء بالهمس، و اشتركت مع الذال انفتاحا و استفالا. و الصاد و الزاي و السين اشتركت مخرجا و رخاوة و صفيرا، و انفردت الصاد بالإطباق و الاستعلاء و اشتركت مع السين في الهمس، و انفردت الزّاي بالجهر، و اشتركت مع السين في الانفتاح و الاستفال.5.
ص: 326
فإذا أحكم القارئ النّطق بكلّ حرف على حدته موفّى حقّه، فليعمل نفسه بإحكامه حالة التركيب، لأنه ينشأ عن التركيب ما لم يكن حالة الإفراد، بحسب ما يجاورها من مجانس و مقارب، و قويّ و ضعيف، و مفخّم، و مرقّق، فيجذب القويّ الضعيف، و يغلب المفخّم المرقّق، و يصعب على اللسان النطق بذلك على حقّه إلاّ بالرياضة الشديدة، فمن أحكم صحّة التلفّظ حالة التركيب، حصل حقيقة التجويد.
و من قصيدة الشيخ علم الدين في التجويد، و من خطه نقلت(1):
لا تحسب التّجويد مدّا مفرطا أو مدّ ما لا مدّ فيه لوان
أو أن تشدّد بعد مدّ همزة أو أن تلوك الحرف كالسّكران
أو أن تفوه بهمزة متهوّعا فيفرّ سامعها من الغثيان
للحرف ميزان فلا تك طاغيا فيه و لا تك مخسر الميزان
فإذا همزت فجىء به متلطّفا من غير ما بهر و غير توان
و امدد حروف المدّ عند مسكّن أو همزة حسنا أخا إحسان
فائدة: قال في «جمال القراء»(2): قد ابتدع النّاس في قراءة القرآن أصوات الغناء، و يقال: إن أوّل ما غنّي به من القرآن قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: 79]. نقلوا ذلك من تغنّيهم بقول الشاعر(3).
أمّا القطاة فإني سوف أنعتها نعتا يوافق عندي بعض ما فيها
و قد قال صلّى اللّه عليه و سلّم في هؤلاء: «مفتونة قلوبهم و قلوب من يعجبهم شأنهم»(4).
و ممّا ابتدعوه شيء سمّوه: الترعيد، و هو: أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد أو ألم.
و آخر سموه: الترقيص؛ و هو: أن يروم السّكوت على الساكن، ثم ينفر مع الحركة كأنه في عدو أو هرولة.
و آخر يسمّى: التطريب، و هو: أن يترنّم بالقرآن و يتنغّم به، فيمدّ في غير مواضع المدّ، و يزيد في المدّ على ما لا ينبغي.
و آخر يسمى: التّحزين؛ و هو أن يأتي على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع و خضوع.».
ص: 327
و من ذلك نوع أحدثه هؤلاء الذين يجتمعون فيقرئون كلّهم بصوت واحد، فيقولون في قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ * (أفل تعقلون) بحذف الألف، و (قال آمنا) بحذف الواو، و يمدّون ما لا يمدّ، ليستقيم لهم الطريق التي سلكوها، و ينبغي أن يسمّى: التحريف. انتهى.
فصل في كيفية الأخذ بإفراد القراءات و جمعها(1)
الذي كان عليه السلف أخذ كلّ ختمة برواية، لا يجمعون رواية إلى غيرها إلاّ أثناء المائة الخامسة، فظهر جمع القراءات في الختمة الواحدة، و استقرّ عليه العمل، و لم يكونوا يسمحون به إلاّ لمن أفرد القراءات، و أتقن طرقها، و قرأ لكلّ قارئ بختمة على حدة؛ بل إذا كان للشيخ راويان قرءوا لكلّ راو بختمة، ثم يجمعون له، و هكذا.
و تساهل قوم، فسمحوا أن يقرأ لكلّ قارئ من السبعة بختمة، سوى نافع و حمزة، فإنّهم كانوا يأخذون بختمة لقالون، ثم ختمة لورش، ثم ختمة لخلف، ثم ختمة لخلاّد، و لا يسمح أحد بالجمع إلاّ بعد ذلك، نعم إذا رأوا شخصا أفرد و جمع على شيخ معتبر، و أجيز و تأهّل، و أراد أن يجمع القراءات في ختمة، لا يكلّفونه الإفراد؛ لعلمهم بوصوله إلى حدّ المعرفة و الإتقان.
ثم لهم في الجمع مذهبان:
أحدهما: الجمع بالحرف، بأن يشرع في القراءة، فإذا مرّ بكلمة فيها خلف أعادها بمفردها، حتى يستوفي ما فيها، ثم يقف عليها إن صلحت للوقف، و إلاّ وصلها بآخر وجه حتّى ينتهي إلى الوقف. و إن كان الخلف يتعلّق بكلمتين كالمدّ المنفصل وقف على الثانية، و استوعب الخلاف، و انتقل إلى ما بعدها. و هذا مذهب المصريين، و هو أوثق في الاستيفاء و أخفّ على الآخذ، لكنه يخرج عن رونق القراءة و حسن التلاوة.
الثاني: الجمع بالوقف، بأن يشرع بقراءة من قدّمه حتى ينتهي إلى وقف، ثم يعود إلى القارئ الذي بعده إلى ذلك الوقف، ثم يعود، و هكذا حتى يفرغ، و هذا مذهب الشاميين، و هو أشدّ استحضارا، و أشدّ استظهارا، و أطول زمنا، و أجود مكانا.
و كان بعضهم يجمع بالآية على هذا الرسم.
و ذكر أبو الحسن القيجاطيّ في قصيدته و شرحها: لجامع القراءات شروطا سبعة، حاصلها خمسة(2):
ص: 328
أحدها: حسن الوقف.
ثانيها: حسن الابتداء.
ثالثها: حسن الأداء.
رابعها: عدم التركيب؛ فإذا قرأ لقارئ لا ينتقل إلى قراءة غيره حتى يتمّ ما فيها، فإن فعل لم يدعه الشيخ بل يشير إليه بيده؛ فإن لم يتفطّن، قال: لم تصل، فإن لم يتفطّن مكث حتى يتذكّر، فإن عجز ذكر له.
الخامس: رعاية الترتيب في القراءة و الابتداء بما بدأ به المؤلّفون في كتبهم، فيبدأ بنافع قبل ابن كثير، و بقالون قبل ورش.
قال ابن الجزري(1): و الصواب أنّ هذا ليس بشرط بل مستحب، بل الذين أدركناهم من الأستاذين لا يعدّون الماهر إلاّ من يلتزم تقديم شخص بعينه.
و بعضهم كان يراعي في الجمع التّناسب: فيبدأ بالقصر، ثم بالرتبة التي فوقه، و هكذا إلى آخر مراتب المدّ. و يبدأ بالمشبع، ثم بما دونه إلى القصر. و إنّما يسلك ذلك مع شيخ بارع عظيم الاستحضار، أمّا غيره فيسلك معه ترتيب واحد.
قال: و على الجامع أن ينظر ما في الأحرف من الخلاف أصولا و فرشا، فما أمكن فيه التداخل اكتفى منه بوجه، و ما لم يمكن فيه نظر: فإن أمكن عطفه على ما قبله بكلمة أو كلمتين أو بأكثر من غير تخليط و لا تركيب اعتمده، و إن لم يحسن عطفه رجع إلى موضع ابتدائه حتى يستوعب الأوجه كلها، من غير إهمال و لا تركيب و لا إعادة ما دخل: فإن الأوّل ممنوع، و الثاني مكروه، و الثالث معيب.
و أمّا القراءة بالتلفيق، و خلط قراءة بأخرى: فسيأتي بسطه في النوع الذي يلي هذا.
و أما القراءات و الروايات و الطرق و الأوجه: فليس للقارئ أن يدع منها شيئا أو يخلّ به؛ فإنّه خلل في إكمال الرواية، إلاّ الأوجه، فإنّها على سبيل التخيير، فأيّ وجه أتى به أجزأه في تلك الرواية.
و أما: قدر ما يقرأ حال الأخذ: فقد كان الصدر الأوّل لا يزيدون على عشر آيات لكائن من كان، و أمّا من بعدهم فرأوه بحسب قوّة الآخذ.
قال ابن الجزريّ: الذي استقرّ عليه العمل الأخذ في الإفراد بجزء من أجزاء مائة و عشرين، و في الجمع بجزء من أجزاء مائتين و أربعين، و لم يحدّ له آخرون حدّا، و هو اختيار السخاويّ.2.
ص: 329
و قد لخّصت هذا النوع، و رتّبت فيه متفرقات كلام أئمة القراءات، و هو نوع مهمّ يحتاج إليه القارئ، كاحتياج المحدّث إلى مثله من علم الحديث.
فائدة: ادّعى ابن خير الإجماع على أنه ليس لأحد أن ينقل حديثا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، ما لم يكن له به رواية، و لو بالإجازة. فهل يكون حكم القرآن كذلك؛ فليس لأحد أن ينقل آية أو يقرأها ما لم يقرأها على شيخ؟ لم أر في ذلك نقلا، و لذلك وجه من حيث إنّ الاحتياط في أداء ألفاظ القرآن أشدّ منه في ألفاظ الحديث. و لعدم اشتراطه فيه وجه؛ من حيث إن اشتراط ذلك في الحديث إنما هو لخوف أن يدخل في الحديث ما ليس منه، أو يتقوّل على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ما لم يقله، و القرآن محفوظ متلقّى متداول ميسّر، و هذا هو الظاهر.
فائدة ثانية: الإجازة من الشيخ غير شرط في جواز التصدّي للإقراء و الإفادة، فمن علم من نفسه الأهليّة جاز له ذلك و إن لم يجزه أحد، و على ذلك السلف الأوّلون و الصدر الصالح، و كذلك في كلّ علم، و في الإقراء و الإفتاء؛ خلافا لما يتوهمه الأغبياء من اعتقاد كونها شرطا. و إنما اصطلح الناس على الإجازة؛ لأنّ أهلية الشخص لا يعلمها غالبا من يريد الأخذ عنه من المبتدئين و نحوهم؛ لقصور مقامهم عن ذلك، و البحث عن الأهليّة قبل الأخذ شرط، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز بالأهلية.
فائدة ثالثة: ما اعتاده كثير من مشايخ القرّاء. من امتناعهم من الإجازة إلاّ بأخذ مال في مقابلها. لا يجوز إجماعا، بل إن علم أهليّته وجب عليه الإجازة، أو عدمها حرم عليه، و ليست الإجازة ممّا يقابل بالمال، فلا يجوز أخذه عنها، و لا الأجرة عليها.
و في فتاوى الصدر موهوب الجزريّ من أصحابنا: أنّه سئل عن شيخ طلب من الطالب شيئا على إجازته، فهل للطالب رفعه إلى الحاكم و إجباره على الإجازة؟ فأجاب: لا تجب الإجازة على الشيخ، و لا يجوز أخذ الأجرة عليها.
و سئل أيضا: عن رجل أجازه الشيخ بالإقراء، ثم بان أنّه لا دين له، و خاف الشيخ من تفريطه، فهل له النزول عن الإجازة؟ فأجاب: لا تبطل الإجازة بكونه غير ديّن.
و أما أخذ الأجرة على التعليم فجائز(1): ففي البخاريّ: «إنّ أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه»(2).).
ص: 330
و قيل: إن تعيّن عليه لم يجز، و اختاره الحليميّ.
و قيل: لا يجوز مطلقا، و عليه أبو حنيفة؛ لحديث أبي داود عن عبادة بن الصامت: أنه علّم رجلا من أهل الصّفّة القرآن، فأهدى له قوسا، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «إن سرّك أن تطوّق بها طوقا من نار فاقبلها»(1).
و أجاب من جوّزه بأنّ في إسناده مقالا، و لأنه تبرّع بتعليمه، فلم يستحقّ شيئا، ثم أهدى إليه على سبيل العوض، فلم يجز له الأخذ، بخلاف من يعقد معه إجارة قبل التعليم.
و في «البستان» لأبي الليث: التعليم على ثلاثة أوجه:
أحدها: للحسبة، و لا يأخذ به عوضا.
و الثاني: أن يعلّم بالأجرة.
و الثالث: أن يعلّم بغير شرط، فإذا أهدي إليه قبل.
فالأوّل مأجور و عليه عمل الأنبياء.
و الثاني مختلف فيه: و الأرجح الجواز.
و الثالث يجوز إجماعا؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان معلّما للخلق، و كان يقبل الهديّة.
فائدة رابعة: كان ابن بصحان إذا ردّ على القارئ شيئا فاته فلم يعرفه، كتبه عليه عنده، فإذا أكمل الختمة و طلب الإجازة، سأله عن تلك المواضع، فإن عرفها أجازه، و إلاّ تركه يجمع ختمة أخرى.
فائدة أخرى: على مريد تحقيق القراءات و إحكام تلاوة الحروف: أن يحفظ كتابا كاملا يستحضر به اختلاف القراءة، و تمييز الخلاف الواجب من الخلاف الجائز.
فائدة أخرى: قال ابن الصلاح في فتاويه: قراءة القرآن كرامة أكرم اللّه بها البشر، فقد ورد أنّ الملائكة لم يعطوا ذلك، و أنّها حريصة لذلك على استماعه من الإنس.م.
ص: 331
النوع الخامس و الثلاثون في آداب تلاوته و تاليه(1)
أفرده بالتّصنيف جماعة(2)، منهم النوويّ في «التبيان». و قد ذكر فيه. و في شرح المهذّب، و في الأذكار. جملة من الآداب، و أنا ألخّصها هنا، و أزيد عليها أضعافها، و أفصّلها مسألة مسألة ليسهل تناولها.
قال تعالى مثنيا على من كان ذلك دأبه: يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللَّيْلِ [آل عمران: 113].
و في الصحيحين من حديث ابن عمر: «لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه اللّه القرآن، فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار...»(3).
و روى التّرمذي، من حديث ابن مسعود: «من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها»(4).
و أخرج من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: «يقول الرّبّ سبحانه و تعالى: من شغله
ص: 332
القرآن و ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، و فضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه على سائر خلقه»(1).
و أخرج مسلم من حديث أبي أمامة: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه»(2). -
ص: 333
و أخرج البيهقيّ من حديث عائشة: «البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتراءى لأهل السماء كما تتراءى النجوم لأهل الأرض»(1).
و أخرج من حديث أنس: «نوّروا منازلكم بالصلاة و قراءة القرآن»(2).
و أخرج من حديث النعمان بن بشير: «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن»(3).
و أخرج من حديث سمرة بن جندب: «كلّ مؤدب يحبّ أن تؤتى مأدبته، و مأدبة اللّه القرآن فلا تهجروه»(4).
و أخرج من حديث عبيدة المكيّ مرفوعا و موقوفا: «يا أهل القرآن، لا تتوسّدوا القرآن، و اتلوه حقّ تلاوته آناء الليل و النهار، و أفشوه، و تدبّروا ما فيه لعلكم تفلحون»5. -
ص: 334
و قد كان للسلف في قدر القراءة عادات(1): فأكثر ما ورد في كثرة القراءة: من كان يختم في اليوم و الليلة ثماني ختمات: أربعا في الليل، و أربعا في النهار.
و يليه: من كان يختم في اليوم و الليلة أربعا.
و يليه ثلاثا.
و يليه ختمتين.
و يليه ختمة.
و قد ذمّت عائشة ذلك، فأخرج ابن أبي داود: عن مسلم بن مخراق، قال: قلت لعائشة: إنّ رجالا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثا؟ فقالت: قرءوا و لم يقرءوا، كنت أقوم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة التمام، فيقرأ بالبقرة و آل عمران و النساء، فلا يمرّ بآية فيها استبشار إلاّ دعا و رغب، و لا بآية فيها تخويف إلاّ دعا و استعاذ(2).
و يلي ذلك من كان يختم في ليلتين.
و يليه من كان يختم في كلّ ثلاث، و هو حسن.
و كره جماعات الختم في أقلّ من ذلك: لما روى أبو داود و التّرمذيّ. و صحّحه. من حديث عبد اللّه بن عمرو مرفوعا: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث»(3).
و أخرج ابن أبي داود و سعيد بن منصور، عن ابن مسعود موقوفا قال: «لا تقرءوا القرآن في أقلّ من ثلاث»(4).
و أخرج أبو عبيد، عن معاذ بن جبل: أنه كان يكره أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث(5). -
ص: 335
و أخرج أحمد و أبو عبيد عن سعد بن المنذر. و ليس له غيره. قال: قلت: يا رسول اللّه، أقرأ القرآن في ثلاث؟ قال: «نعم، إن استطعت»(1).
و يليه: من ختم في أربع، ثم في خمس، ثم في ست، ثم في سبع، و هذا أوسط الأمور و أحسنها، و هو فعل الأكثرين من الصحابة و غيرهم.
أخرج الشيخان عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «اقرأ القرآن في شهر». قلت: إني أجد قوّة، قال: «اقرأه في عشر» قلت: إني أجد قوّة، قال: «اقرأه في سبع، و لا تزد على ذلك»(2).
و أخرج أبو عبيد و غيره، من طريق واسع بن حبّان، عن قيس بن أبي صعصعة. و ليس له غيره. أنه قال: يا رسول اللّه، في كم أقرأ القرآن؟ قال: «في خمسة عشر».
قلت: إنّي أجدني أقوى من ذلك.
قال: «اقرأه في جمعة»(3).
و يلي ذلك: من ختم في ثمان، ثم في عشر، ثم في شهر، ثم في شهرين.
أخرج ابن أبي داود، عن مكحول قال: كان أقوياء أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرءون القرآن في سبع، و بعضهم في شهر، و بعضهم في شهرين، و بعضهم في أكثر من ذلك.ه.
ص: 336
و قال أبو الليث في «البستان»: ينبغي للقارئ أن يختم في السنة مرّتين، إن لم يقدر على الزيادة.
و قد روى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة، أنه قال: من قرأ القرآن في كلّ سنة مرتين، فقد أدّى حقّه؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم عرض على جبريل في السّنة التي قبض فيها مرتين.
و قال غيره: يكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما بلا عذر، نص عليه أحمد؛ لأنّ عبد اللّه بن عمرو سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: في كم نختم القرآن؟ قال: «في أربعين يوما» رواه أبو داود(1).
و قال النوويّ في «الأذكار»(2): المختار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف و معارف، فليقتصر على قدر يحصل له معه كمال فهم ما يقرأ، و كذلك من كان مشغولا بنشر العلم، أو فصل الحكومات، أو غير ذلك من مهمّات الدّين و المصالح العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، و لا فوات كماله؛ و إن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه، من غير خروج إلى حدّ الملل أو الهذرمة في القراءة.
صرّح به النوويّ في الروضة و غيرها، لحديث أبي داود و غيره:
«عرضت عليّ ذنوب أمّتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن. أو آية. أوتيها رجل ثم نسيها»(3).
ص: 337
و روى أيضا حديث: «من قرأ القرآن ثم نسيه لقي اللّه يوم القيامة أجذم»(1).
و في الصحيحين: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشدّ تفلّتا من الإبل في عقلها»(2).
و قد كان صلّى اللّه عليه و سلّم يكره أن يذكر اللّه إلاّ على طهر، كما ثبت في الحديث(3).
ص: 338
قال إمام الحرمين: و لا تكره القراءة للمحدث؛ لأنه صحّ أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان يقرأ مع الحدث(1).
قال في شرح المهذّب: و إذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حتى يستقيم خروجها. و أما الجنب، و الحائض، فتحرم عليهما القراءة، نعم يجوز لهما النظر في المصحف و إمراره على القلب، و أمّا متنجّس الفم فتكره له القراءة.
و قيل: تحرم، كمسّ المصحف باليد النّجسة.
مسألة: و تسنّ القراءة في مكان نظيف، و أفضله المسجد: و كره قوم القراءة في الحمّام و الطريق.
قال النوويّ: و مذهبنا لا تكره فيهما. قال: و كرّهها الشّعبيّ في الحشّ، و بيت الرّحا و هي تدور، قال: و هو مقتضى مذهبنا.
مسألة: و يستحب أن يجلس مستقبلا متخشعا بسكينة و وقار، مطرقا رأسه.
مسألة: و يسنّ أن يستاك تعظيما و تطهيرا: و قد روى ابن ماجة عن عليّ موقوفا، و البزار بسند جيّد عنه مرفوعا: «إنّ أفواهكم طرق للقرآن، فطيّبوها بالسّواك»(2). -
ص: 339
قلت: و لو قطع القراءة و عاد عن قرب، فمقتضى استحباب التعوّذ إعادة السواك أيضا.
مسألة: و يسنّ التعوّذ قبل القراءة: قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) [النحل: 98] أي: أردت قراءته.
و ذهب قوم إلى أنّه يتعوّذ بعدها، لظاهر الآية، و قوم إلى وجوبها لظاهر الأمر.
قال النووي(1): فلو مرّ على قوم سلّم عليهم و عاد إلى القراءة، فإن أعاد التعوّذ كان حسنا. قال: و صفته المختارة: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) و كان جماعة من السلف يزيدون: (السميع العليم). انتهى.
و عن حمزة: أستعيذ و نستعيذ و استعذت، و اختاره صاحب الهداية من الحنفيّة، لمطابقة لفظ القرآن.4.
ص: 340
و عن حميد بن قيس: (أعوذ باللّه القادر، من الشيطان الغادر).
و عن أبي السمال: (أعوذ باللّه القويّ، من الشيطان الغويّ).
و عن قوم: (أعوذ باللّه العظيم. من الشيطان الرجيم).
و عن آخرين: (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. إنّ اللّه هو السميع العليم).
و فيها ألفاظ أخر.
قال الحلوانيّ في جامعه: ليس للاستعاذة حدّ ينتهى إليه، من شاء زاد و من شاء نقص.
و في النشر لابن الجزريّ (1): المختار عند أئمّة القراءة الجهر بها، و قيل: يسرّ مطلقا، و قيل: فيما عدا الفاتحة.
قال: و قد أطلقوا اختيار الجهر، و قيّده أبو شامة بقيد لا بد منه، و هو: أن يكون بحضرة من يسمعه.
قال: لأن الجهر بالتعوّذ إظهار شعار القراءة، كالجهر بالتلبية و تكبيرات العيد. و من فوائده: أنّ السامع ينصت للقراءة من أوّلها، لا يفوته منها شيء، و إذا أخفى التعوّذ لم يعلم السامع بها إلاّ بعد أن فاته من المقروء شيء؛ و هذا المعنى هو الفارق بين القراءة في الصلاة و خارجها.
قال(2): و اختلف المتأخرون في المراد بإخفائها: فالجمهور: على أنّ المراد به الإسرار، فلا بدّ من التلفظ و إسماع نفسه.
و قيل: الكتمان، بأن يذكرها بقلبه بلا تلفّظ.
قال(3): و إذا قطع القراءة إعراضا أو بكلام أجنبيّ. و لو ردّ السلام. استأنفها، أو يتعلّق بالقراءة فلا.
قال(4): و هل هي سنة كفاية أو عين، حتى لو قرأ جماعة جملة، فهل يكفي استعاذة واحد منهم كالتسمية على الأكل أو لا؟ لم أر فيه نصّا، و الظاهر الثاني؛ لأنّ المقصود اعتصام القارئ و التجاؤه باللّه من شرّ الشيطان، فلا يكون تعوّذ واحد كافيا عن آخر. انتهى كلام ابن الجزري.
مسألة: و ليحافظ على قراءة البسملة أول كلّ سورة غير براءة(5): لأنّ أكثر العلماء على5.
ص: 341
أنها آية، فإذا أخلّ بها كان تاركا لبعض الختمة عند الأكثرين، فإن قرأ من أثناء سورة استحبّت له أيضا، نصّ عليه الشافعيّ فيما نقله العباديّ.
قال القراء: و يتأكّد عند قراءة نحو: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ [فصلت: 47]. و وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ [الأنعام: 141] لما في ذكر ذلك بعد الاستعاذة من البشاعة، و إيهام رجوع الضمير إلى الشيطان.
قال ابن الجزري(1): الابتداء بالآي وسط براءة، قلّ من تعرّض له، و قد صرّح بالبسملة فيه أبو الحسن السخاوي، و ردّ عليه الجعبري.
مسألة: لا تحتاج قراءة القرآن إلى نيّة كسائر الأذكار، إلاّ إذا نذرها خارج الصلاة، فلا بدّ من نية النّذر أو الفرض؛ و لو عيّن الزمان، فلو تركها لم تجز. نقله القموليّ في الجواهر.
مسألة: يسنّ الترتيل في قراءة القرآن: قال تعالى: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل: 4].
و روى أبو داود و غيره عن أمّ سلمة: أنّها نعتت قراءة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: قراءة مفسّرة، حرفا حرفا(2).
و في البخاريّ عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: كانت مدّا، ثم قرأ:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، يمدّ اَللّهِ ، و يمدّ اَلرَّحْمنِ ، و يمدّ اَلرَّحِيمِ (3).
و في الصحيحين عن ابن مسعود: أنّ رجلا قال له: إني أقرأ المفصّل في ركعة واحدة، فقال: هذّا كهذّ الشّعر، إنّ قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و لكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع(4).
و أخرج الآجريّ في «حملة القرآن» عن ابن مسعود قال: لا تنثروه نثر الدّقل، و لا تهذّوه هذا الشّعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكون همّ أحدكم آخر السورة(5).
و أخرج من حديث ابن عمرو مرفوعا: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق في الدرجات،4.
ص: 342
و رتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها»(1).
قال في شرح المهذب: و اتّفقوا على كراهة الإفراط في الإسراع.
قالوا: و قراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة جزءين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل.
قالوا: و استحباب الترتيل للتدبّر، و لأنّه أقرب إلى الإجلال و التوقير، و أشدّ تأثيرا في القلب، و لهذا يستحبّ للأعجميّ الذي لا يفهم معناه. انتهى.
و في النشر(2): اختلف؛ هل الأفضل الترتيل و قلّة القراءة أو السّرعة مع كثرتها؟ و أحسن بعض أئمتنا فقال: إنّ ثواب قراءة الترتيل أجلّ قدرا، و ثواب الكثرة أكثر عددا، لأنّ بكل حرف عشر حسنات.
و في البرهان للزركشي(3): كمال الترتيل تفخيم ألفاظه و الإبانة عن حروفه، و ألا يدغم حرف في حرف. و قيل: هذا أقله، و أكمله أن يقرأه على منازله، فإن قرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدّد، أو تعظيما لفظ به على التعظيم.
مسألة: و تسنّ القراءة بالتدبر و التفهّم(4): فهو المقصود الأعظم و المطلوب الأهمّ، و به تنشرح الصدور، و تستنير القلوب، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص:
29]، و قال: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82].
و صفة ذلك: أن يشغل قلبه بالتفكر في معنى ما يلفظ به، فيعرف معنى كلّ آية، و يتأمّل الأوامر و النّواهي، و يعتقد قبول ذلك؛ فإن كان ممّا قصر عنه فيما مضى اعتذر و استغفر، و إذا مرّ بآية رحمة استبشر و سأل، أو عذاب أشفق و تعوّذ، أو تنزيه نزّه و عظّم، أو دعاء تضرّع و طلب.
أخرج مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها؛ يقرأ مترسّلا، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، و إذا مرّ بسؤال سأل، و إذا مرّ بتعوّذ تعوّذ(5).ه.
ص: 343
و روى أبو داود و النّسائي و غيرهما، عن عوف بن مالك قال: قمت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم ليلة، فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمرّ بآية رحمة إلاّ وقف و سأل، و لا يمرّ بآية عذاب إلاّ وقف و تعوّذ(1).
و أخرج أبو داود و التّرمذيّ حديث: «من قرأ: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) ، فانتهى إلى آخرها، فليقل: بلى و أنا على ذلك من الشاهدين، و من قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) ، فانتهى إلى آخرها: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) فليقل: بلى، و من قرأ: وَ الْمُرْسَلاتِ فبلغ:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) فليقل: آمنا باللّه»2. -
ص: 344
و أخرج أحمد و أبو داود عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) قال: «سبحان ربّي الأعلى»(1).
و أخرج التّرمذيّ و الحاكم، عن جابر قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أوّلها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجنّ، فكانوا أحسن مردودا منكم، كنت كلّما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) قالوا:
و لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب، فلك الحمد»(2).
و أخرج ابن مردويه و الديلميّ و ابن أبي الدنيا في الدعاء. و غيرهم. بسند ضعيف جدّا،م.
ص: 345
عن جابر: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ الآية، فقال: «اللهم أمرت بالدعاء، و تكفّلت بالإجابة، لبيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد و النعمة لك، و الملك لا شريك لك، أشهد أنّك فرد أحد صمد، لم تلد و لم تولد و لم يكن لك كفؤا أحد، و أشهد أنّ وعدك حقّ، و لقاءك حقّ، و الجنّة حقّ، و النار حقّ، و الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّك تبعث من في القبور»(1).
و أخرج أبو داود و غيره، عن وائل بن حجر: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قرأ: وَ لاَ الضّالِّينَ ، فقال: «آمين» يمدّ بها صوته(2). -
ص: 346
و أخرجه الطبراني(1) بلفظ قال: «آمين» ثلاث مرات، و أخرجه البيهقيّ (2) بلفظ: قال:
«ربّ اغفر لي آمين».
و أخرج أبو عبيد، عن أبي ميسرة: أنّ جبريل لقّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عند خاتمة البقرة «آمين»(3).
و أخرج عن معاذ بن جبل: أنّه كان إذا ختم سورة البقرة قال: آمين(4).م.
ص: 347
قال النوويّ: و من الآداب إذا قرأ نحو: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ [التوبة: 30].
وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64]. أن يخفّض بها صوته. كذا كان النّخعيّ يفعل.
مسألة: لا بأس بتكرير الآية و ترديدها: روى النسائيّ و غيره عن أبي ذرّ: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قام بآية يردّدها حتى أصبح: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية(1).
مسألة: يستحبّ البكاء عند قراءة القرآن، و التّباكي لمن لا يقدر عليه، و الحزن و الخشوع: قال تعالى: وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ [الإسراء: 109].
و في الصحيحين: حديث قراءة ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و فيه: «فإذا عيناه تذرفان»(2).
و في الشّعب للبيهقيّ عن سعد بن مالك مرفوعا: «إنّ هذا القرآن نزل بحزن و كآبة فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»(3). -
ص: 348
و فيه من مرسل عبد الملك بن عمير: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّي قارئ عليكم سورة، -
ص: 349
فمن بكى فله الجنّة، فإن لم تبكوا فتباكوا»(1).
و في مسند أبي يعلى حديث: «اقرءوا القرآن بالحزن، فإنّه نزل بالحزن»(2).
و عند الطبرانيّ: «أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن يتحزّن به»(3).
قال في شرح المهذب: و طريقه في تحصيل البكاء أن يتأمّل ما يقرأ من التهديد و الوعيد الشديد، و المواثيق و العهود، ثم يفكّر في تقصيره فيها، فإن لم يحضره عند ذلك حزن و بكاء فليبك على فقد ذلك، فإنّه من المصائب.
مسألة: يسنّ تحسين الصوت بالقراءة و تزيينها: لحديث ابن حبّان و غيره: «زيّنوا القرآن بأصواتكم»(4). -
ص: 350
و في لفظ عند الدارميّ: «حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا»(1).
و أخرج البزار و غيره حديث: «حسن الصوت زينة القرآن»(2).
و فيه أحاديث صحيحة كثيرة.
فإن لم يكن حسن الصوت حسّنه ما استطاع، بحيث لا يخرج إلى حدّ التمطيط.
و أما القراءة بالألحان(3): فنصّ الشافعيّ في المختصر أنّه لا بأس بها، و عن رواية الربيع الجيزيّ: أنّها مكروهة(4).
قال الرافعيّ: قال الجمهور: ليست على قولين، بل المكروه أن يفرط في المدّ، و في إشباع الحركات، حتى يتولّد من الفتحة، ألف، و من الضمة واو، و من الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الإدغام، فإن لم ينته إلى هذا الحدّ فلا كراهة.
قال في زوائد الروضة: و الصحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ و يأثم المستمع؛ لأنه عدل به عن نهجه القويم. قال: و هذا مراد الشافعيّ بالكراهة.
قلت: و فيه حديث: «اقرءوا القرآن بلحون العرب و أصواتها، و إياكم و لحون أهل الكتابين و أهل الفسق، فإنّه سيجيء أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء و الرهبانية، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم و قلوب من يعجبهم شأنهم». أخرجه الطبرانيّ و البيهقي(5).9.
ص: 351
قال النووي(1): و يستحبّ طلب القراءة من حسن الصوت و الإصغاء إليها، للحديث الصحيح، و لا بأس باجتماع الجماعة في القراءة و لا بإدارتها، و هي: أن يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعدها.
مسألة: يستحبّ قراءته بالتفخيم: لحديث الحاكم: «نزل القرآن بالتفخيم»(2). قال الحليميّ: و معناه أنه يقرؤه على قراءة الرجال، و لا يخضّع الصوت فيه ككلام النساء.
قال: و لا يدخل في هذا كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء. و قد يجوز أن يكون القرآن نزل بالتفخيم فرخّص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته.
مسألة: وردت أحاديث تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة، و أحاديث تقتضي الإسرار و خفض الصوت(3).
فمن الأوّل: حديث الصحيحين: «ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصوت، يتغنّى بالقرآن، يجهر به»(4).
و من الثاني: حديث أبي داود و الترمذي و النسائي: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، و المسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة»(5).
قال النوويّ (6): و الجمع بينهما: أنّ الإخفاء أفضل، حيث خاف الرياء، أو تأذّى مصلّون أو نيام بجهره، و الجهر أفضل في غير ذلك؛ لأنّ العمل فيه أكثر، و لأنّ فائدته تتعدّى إلى السامعين، و لأنّه يوقظ قلب القارئ، و يجمع همّه إلى الفكر، و يصرف سمعه إليه، و يطرد النوم، و يزيد في النّشاط. و يدلّ لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح، عن أبي سعيد:1.
ص: 352
اعتكف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف السّتر، و قال: «ألا إنّ كلّكم مناج لربّه، فلا يؤذينّ بعضكم بعضا و لا يرفع بعضكم على بعضكم في القراءة»(1). -
ص: 353
لأنّ النّظر فيه عبادة مطلوبة(1):
قال النوويّ (2): هكذا قاله أصحابنا و السلف أيضا، و لم أر فيه خلافا. قال: و لو قيل إنه يختلف باختلاف الأشخاص، فيختار القراءة فيه لمن استوى خشوعه و تدبره في حالتي القراءة فيه و من الحفظ. و يختار القراءة من الحفظ. لمن يكمل بذلك خشوعه، و يزيد على خشوعه و تدبّره لو قرأ من المصحف؛ لكان هذا قولا حسنا.
قلت: و من أدلّة القراءة في المصحف ما أخرجه الطّبرانيّ و البيهقيّ في الشّعب من
ص: 354
حديث أوس الثقفيّ مرفوعا: «قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة، و قراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة»(1).
و أخرج أبو عبيد بسند ضعيف: «فضل قراءة القرآن نظرا، على من يقرؤه ظاهرا، كفضل الفريضة على النافلة»(2).
و أخرج البيهقيّ عن ابن مسعود مرفوعا: «من سرّه أن يحبّ اللّه و رسوله فليقرأ في المصحف»، و قال: إنّه منكر(3).
و أخرج بسند حسن موقوفا: «أديموا النّظر في المصحف»(4).
و حكى الزركشي في «البرهان»(5) ما بحثه النووي قولا، و حكى معه قولا ثالثا: إنّ القراءة من الحفظ أفضل مطلقا، و إن ابن عبد السلام اختاره؛ لأنّ فيه من التدبر ما لا يحصل بالقراءة في المصحف.
مسألة: قال في «التبيان»(6): إذا أرتج على القارئ فلم يدر ما بعد الموضع الذي انتهى إليه، فسأل عنه غيره، فينبغي أن يتأدّب بما جاء عن ابن مسعود و النّخعي و بشير بن أبي مسعود، قالوا: إذا سأل أحدكم أخاه عن آية، فليقرأ ما قبلها ثم يسكت، و لا يقول كيف كذا1.
ص: 355
و كذا، فإنّه يلبّس عليه(1). انتهى.
و قال ابن مجاهد: إذا شك القارئ في حرف: هل هو بالتاء أو بالياء؟ فليقرأه بالياء فإنّ القرآن مذكّر. و إن شك في حرف: هل هو مهموز أو غير مهموز؟ فليترك الهمز، و إن شكّ في حرف: هل يكون موصولا أو مقطوعا؟ فليقرأ بالوصل، و إن شكّ في حرف: هل هو ممدود أو مقصور؟ فليقرأ بالقصر، و إن شكّ في حرف: هل هو مفتوح أو مكسور؟ فليقرأ بالفتح؛ لأنّ الأوّل غير لحن في موضع، و الثاني لحن في بعض المواضع.
قلت: أخرج عبد الرزاق، عن ابن مسعود، قال: إذا اختلفتم في ياء و تاء فاجعلوها ياء، ذكّروا القرآن(2).
ففهم منه ثعلب أنّ ما احتمل تذكيره و تأنيثه كان تذكيره أجود.
و ردّ: بأنه يمتنع إرادة تذكير غير الحقيقي التأنيث لكثرة ما في القرآن منه بالتأنيث، نحو اَلنّارُ وَعَدَهَا اللّهُ [الحج: 72]. وَ الْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ (29) [القيامة: 29]. قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ [إبراهيم: 11]. و إذا امتنع إرادة غير الحقيقي فالحقيقي أولى.
قالوا: و لا يستقيم إرادة أنّ ما احتمل التذكير و التأنيث غلب فيه التذكير، كقوله تعالى:
وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10]. أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7]. فأنّث مع جواز التذكير، قال تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20]. مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: 80].
قالوا: فليس المراد ما فهم، بل المراد ب (ذكروا) الموعظة و الدعاء، كما قال تعالى:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ [ق: 45] إلاّ أنّه حذف الجار، و المقصود: ذكّروا الناس بالقرآن، أي ابعثوهم على حفظه كيلا ينسوه.
قلت: أوّل الأثر يأبى هذا الحمل.
و قال الواحديّ: الأمر ما ذهب إليه ثعلب، و المراد أنّه إذا احتمل اللفظ التذكير و التأنيث و لم يحتج في التذكير إلى مخالفة المصحف ذكّر، نحو: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ [البقرة: 48].
قال: و يدلّ على إرادة هذا أن أصحاب عبد اللّه. من قراء الكوفة كحمزة و الكسائي. ذهبوا إلى هذا، فقرءوا ما كان من هذا القبيل بالتذكير، نحو: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [النور: 24].
و هذا في غير الحقيقيّ.ه.
ص: 356
مسألة: يكره قطع القراءة لمكالمة أحد: قال: الحليميّ(1): لأنّ كلام اللّه لا ينبغي أن يؤثر عليه كلام غيره.
و أيّده البيهقيّ (1) بما في الصحيح: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتى يفرغ منه(2).
و يكره أيضا الضحك و العبث و النظر إلى ما يلهي.
مسألة: لا يجوز قراءة القرآن بالعجميّة مطلقا(3): سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة أم خارجها. و عن أبي حنيفة أنّه يجوز مطلقا، و عن أبي يوسف و محمد: لمن لا يحسن العربية، لكن في شارح البزدويّ: أنّ أبا حنيفة رجع عن ذلك.
و وجه المنع: أنه يذهب إعجازه المقصود منه.
و عن القفّال من أصحابنا: إنّ القراءة بالفارسية لا تتصوّر، قيل له: فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن؟ قال: ليس كذلك، لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد اللّه و يعجز عن البعض، أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد اللّه تعالى، لأنّ الترجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها، و ذلك غير ممكن، بخلاف التفسير.
مسألة: لا تجوز القراءة بالشّاذ(4):
نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك، لكن ذكر الموهوب الجزريّ جوازها في غير الصلاة، قياسا على رواية الحديث بالمعنى.
مسألة: الأولى أن يقرأ على ترتيب المصحف(5): قال في شرح المهذب: لأنّ ترتيبه لحكمة، فلا يتركها إلاّ فيما ورد فيه الشرع، كصلاة صبح يوم الجمعة ب الم (6) تَنْزِيلُ و هَلْ أَتى و نظائره، فلو فرق السّور أو عكسها جاز و ترك الأفضل.
قال: و أمّا قراءة السورة من آخرها إلى أوّلها فمتّفق على منعه، لأنه يذهب بعض نوع الإعجاز، و يزيل حكمة الترتيب.
قلت: و فيه أثر، أخرج الطبرانيّ بسند جيّد، عن ابن مسعود: أنّه سئل عن رجل يقرأ
ص: 357
القرآن منكوسا، قال: ذاك منكوس القلب(1).
و أما خلط سورة بسورة: فعدّ الحليميّ (2) تركه من الآداب، لما أخرجه أبو عبيد، عن سعيد بن المسيّب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مرّ ببلال و هو يقرأ من هذه السورة و من هذه السورة، فقال: «يا بلال، مررت بك و أنت تقرأ من هذه السورة و من هذه السورة».
قال: أخلط الطيّب بالطيّب.
فقال: «اقرأ السورة على وجهها. أو قال. على نحوها». مرسل صحيح، و هو عند أبي داود موصول عن أبي هريرة بدون آخره(3).
و أخرجه أبو عبيد من وجه آخر، عن عمر مولى غفرة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم قال لبلال: «إذا قرأت السورة فانفذها»(4).
و قال: حدّثنا معاذ عن ابن عون قال: سألت ابن سيرين عن الرّجل يقرأ من السورة آيتين، ثم يدعها و يأخذ في غيرها؟ قال: ليتّق أحدكم أن يأثم إثما كبيرا و هو لا يشعر(5).0.
ص: 358
و أخرج عن ابن مسعود قال: إذا ابتدأت في سورة، فأردت أن تتحوّل منها إلى غيرها فتحوّل، إلا قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) . فإذا ابتدأت فيها فلا تتحوّل منها حتى تختمها(1).
و أخرج عن ابن أبي الهذيل قال: كانوا يكرهون أن يقرءوا بعض الآية و يدعوا بعضها(2).، قال أبو عبيد(3): الأمر عندنا على كراهة قراءة الآيات المختلفة، كما أنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على بلال، و كما كرهه ابن سيرين.
و أما حديث عبد اللّه: فوجهه عندي أن يبتدئ الرجل في السورة يريد إتمامها، ثم يبدو له في أخرى، فأما من ابتدأ القراءة و هو يريد التنقّل من آية إلى آية، و ترك التأليف لآي القرآن، فإنما يفعله من لا علم له؛ لأنّ اللّه لو شاء لأنزله على ذلك. انتهى.
و قد نقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كلّ سورة.
قال البيهقي(4): و أحسن ما يحتجّ به أن يقال: إنّ هذا التأليف لكتاب اللّه مأخوذ من جهة النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، و أخذه عن جبريل، فالأولى للقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول، و قد قال ابن سيرين: تأليف اللّه خير من تأليفكم.
مسألة: قال الحليمي(5): يسن استيفاء كلّ حرف أثبته قارئ، ليكون قد أتى على جميع ما هو قرآن:
و قال ابن الصلاح و النووي(6): إذا ابتدأ بقراءة أحد من القرّاء فينبغي ألا يزاد على تلك القراءة ما دام الكلام مرتبطا، فإذا انقضى ارتباطه، فله أن يقرأ بقراءة أخرى. و الأولى دوامه على الأولى في هذا المجلس.
و قال غيرهما: بالمنع مطلقا.
قال ابن الجزريّ (7): و الصواب أن يقال:1.
ص: 359
إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى منع ذلك منع تحريم، كمن يقرأ: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37]. برفعهما أو نصبهما، أخذ رفع آدَمُ من قراءة غير ابن كثير، و رفع كَلِماتٍ من قراءته، و نحو ذلك مما لا يجوز في العربية و اللغة.
و ما لم يكن كذلك فرّق فيه بين مقام الرّواية و غيرها: فإن كان على سبيل الرّواية حرم أيضا، لأنه كذب في الرواية و تخليط، و إن كان على سبيل التلاوة جاز.
مسألة: يسنّ الاستماع لقراءة القرآن و ترك اللغط و الحديث بحضور القراءة: قال تعالى:
وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) [الأعراف: 204].
مسألة: يسنّ السجود عند قراءة آية السجدة(1): و هي أربع عشرة: في الأعراف و الرعد، و النحل، و الإسراء، و مريم، و في الحجّ سجدتان، و الفرقان، و النّمل، و الم تَنْزِيلُ ، و فصّلت، و النجم، و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) ، و اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، و أما ص فمستحبّة.
و ليست من عزائم السجود: أي: متأكداته. و زاد بعضهم آخر الحجر. نقله ابن الفرس في أحكامه.
قال النوويّ (2): الأوقات المختارة للقراءة أفضلها ما كان في الصلاة، ثم الليل، ثم نصفه الأخير: و هي بين المغرب و العشاء محبوبة، و أفضل النّهار بعد الصبح. و لا تكره في شيء من الأوقات لمعنى فيه. و أما ما رواه ابن أبي داود، عن معاذ بن رفاعة، عن مشايخه:
أنهم كرهوا القراءة بعد العصر. و قالوا: هو دراسة يهود. فغير مقبول، و لا أصل له.
و يختار من الأيام يوم عرفة، ثم الجمعة، ثم الاثنين، و الخميس. و من الأعشار العشر الأخير من رمضان، و الأوّل من ذي الحجة، و من الشهور رمضان(3).
و يختار لابتدائه ليلة الجمعة، و لختمه ليلة الخميس، فقد روى ابن أبي داود، عن عثمان بن عفان: أنّه كان يفعل ذلك.
و الأفضل الختم أوّل النهار أو أوّل الليل؛ لما رواه الدارميّ بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص قال: إذا وافق ختم القرآن أوّل الليل صلّت عليه الملائكة حتى يصبح، و إن وافق ختمه أوّل النهار صلّت عليه الملائكة حتى يمسي(4).
ص: 360
قال في الإحياء: و يكون الختم أول النهار في ركعتي الفجر، و أوّل الليل في ركعتي سنة المغرب.
و عن ابن المبارك، يستحبّ الختم في الشتاء أول الليل، و في الصيف أول النهار.
مسألة: يسنّ صوم يوم الختم(1): أخرجه ابن أبي داود، عن جماعة من التابعين.
و أن يحضر أهله و أصدقاؤه: أخرج الطّبرانيّ، عن أنس: أنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله و دعا(2).
و أخرج ابن أبي داود، عن الحكم بن عتيبة، قال: أرسل إليّ مجاهد و عبدة بن أبي لبابة، و قالا: إنا أرسلنا إليك لأنّا أردنا أن نختم القرآن، و الدعاء يستجاب عند ختم القرآن(3).
و أخرج عن مجاهد، قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن، و يقول: عنده تنزل الرحمة(4).
مسألة: يستحبّ التكبير من الضحى إلى آخر القرآن(5): و هي قراءة المكيّين.
أخرج البيهقيّ في الشّعب و ابن خزيمة من طريق ابن أبي بزّة، سمعت عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد اللّه المكيّ، فلما بلغت الضحى، قال: كبّر حتى تختم، فإنّي قرأت على عبد اللّه بن كثير، فأمرني بذلك و قال: قرأت على مجاهد فأمرني بذلك، و أخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك(6). -
ص: 361
و أخبر ابن عباس أنه قرأ على أبيّ بن كعب، فأمره بذلك. كذا أخرجناه موقوفا.
ثم أخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن ابن بزّة مرفوعا.
و أخرجه من هذا الوجه. أعني المرفوع. الحاكم في مستدركه. و صححه. و له طرق كثيرة عن البزّيّ.
و عن موسى بن هارون قال: قال لي البزّيّ: قال لي محمد بن إدريس الشافعيّ: إن تركت التكبير فقدت سنة من سنن نبيك.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير(1): و هذا يقتضي تصحيحه للحديث.
و روى أبو العلاء الهمدانيّ، عن البزّي: أنّ الأصل في ذلك: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم انقطع عنه الوحي، فقال المشركون: قلا محمّدا ربّه، فنزلت سورة الضحى، فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. قال ابن كثير(2): و لم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة و لا ضعف.
و قال الحليميّ (3): نكتة التكبير التشبيه للقراءة بصوم رمضان: إذا أكمل عدته يكبّر، فكذا هنا يكبّر إذا أكمل عدّة السورة. قال: و صفته أن يقف بعد كلّ سورة وقفة، و يقول: اللّه أكبر.
و كذا قال سليم الرازي من أصحابنا في تفسيره: يكبّر بين كلّ سورتين تكبيرة، و لا يصل آخر السورة بالتكبير، بل يفصل بينهما بسكتة. قال: و من لا يكبّر من القراء، حجّتهم أنّ في ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن، بأن يداوم عليه فيتوهم أنه منه.
و في «النشر»(4): اختلف القراء في ابتدائه، هل هو من أوّل الضحى أو من آخرها؟ و في انتهائه: هل هو أوّل سورة الناس أو آخرها؟ و في وصله بأوّلها أو آخرها و قطعه، و الخلاف في الكلّ مبنيّ على أصل، و هو أنه: هل هو لأوّل السورة أو لآخرها.
و في لفظه: فقيل: اللّه أكبر، و قيل: لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر. و سواء في التكبير في الصلاة و خارجها. صرح به السّخاويّ و أبو شامة.3.
ص: 362
مسألة: يسنّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقب الختم: لحديث الترمذيّ و غيره: «أحبّ الأعمال إلى اللّه الحالّ المرتحل، الّذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، كلّما حلّ ارتحل»(1).
و أخرج الدارميّ بسند حسن: عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم كان إذا قرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ (1) افتتح من الحمد، ثم قرأ من البقرة إلى: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، ثم دعا بدعاء الختمة، ثم قام(2).
مسألة: عن الإمام أحمد: أنه منع من تكرير سورة الإخلاص عند الختم: لكن عمل الناس على خلافه. قال بعضهم: و الحكمة فيه ما ورد أنّها تعدل ثلث القرآن(3)، فيحصل بذلك ختمة.
فإن قيل: فكان ينبغي أن تقرأ أربعا ليحصل له ختمتان!ن.
ص: 364
قلنا: المقصود أن يكون على يقين من حصول ختمة، إمّا التي قرأها و إمّا التي حصل ثوابها بتكرير السورة. انتهى.
قلت: و حاصل ذلك يرجع إلى جبر ما لعله حصل في القراءة من خلل. و كما قاس الحليمي(1) التكبير عند الختم على التكبير عند إكمال رمضان، فينبغي أن يقاس تكرير سورة الإخلاص على اتباع رمضان بستّ من شوّال.
مسألة: يكره اتّخاذ القرآن معيشة يتكسّب بها: و أخرج الآجريّ من حديث عمران بن الحصين مرفوعا: «من قرأ القرآن فليسأل اللّه به، فإنّه سيأتي قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به»(2).
و روى البخاريّ في تاريخه الكبير بسند صالح حديث: «من قرأ القرآن عند ظالم ليرفع منه، لعن بكل حرف عشر لعنات»(3).
مسألة: يكره أن يقول: نسيت آية كذا، بل أنسيتها: لحديث الصحيحين في النهي عن ذلك(4).-.
ص: 365
مسألة: الأئمة الثلاثة على وصول ثواب القراءة للميّت: و مذهبنا خلافه، لقوله تعالى:
وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى (39) [النجم: 39].
فصل في الاقتباس و ما جرى مجراه(1):
الاقتباس: تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن، لا على أنه منه. بألاّ يقال فيه: قال اللّه تعالى، و نحوه، فإنّ ذلك حينئذ لا يكون اقتباسا.
و قد اشتهر عن المالكيّة تحريمه و تشديد النكير على فاعله.
و أما أهل مذهبنا: فلم يتعرّض له المتقدّمون و لا أكثر المتأخّرين، مع شيوع الاقتباس في أعصارهم و استعمال الشعراء له قديما و حديثا.
و قد تعرّض له جماعة من المتأخرين؛ فسئل عنه الشيخ عز الدين عبد السلام فأجازه.
و استدلّ له بما ورد عنه صلّى اللّه عليه و سلّم من قوله في الصلاة و غيرها: وجّهت وجهي»(2) إلى آخره و قوله:
«اللّهم فالق الإصباح و جاعل الليل سكنا و الشمس و القمر حسبانا، اقض عني الدّين، و أغنني من الفقر»(3).
و في سياق كلام لأبي بكر: وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (4).
و في آخر حديث لابن عمر: «قد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة»(5). انتهى.
و هذا كلّه إنّما يدلّ على جوازه في مقام المواعظ و الثناء و الدعاء، و في النثر، لا دلالة فيه على جوازه في الشعر، و بينهما فرق، فإنّ القاضي أبا بكر من المالكيّة صرح بأنّ تضمينه في الشعر مكروه و في النثر جائز.
ص: 366
و استعمله أيضا في النثر القاضي عياض في مواضع من خطبة الشفا(1).
و قال الشرف إسماعيل بن المقرئ اليمنيّ صاحب «مختصر الروضة» في شرح بديعيّته: ما كان منه في الخطب و المواعظ و مدحه صلّى اللّه عليه و سلّم و صحبه و لو في النظم فهو مقبول، و غيره مردود.
و في شرح بديعية ابن حجّة: الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول. و مباح. و مردود.
فالأول: ما كان في الخطب و المواعظ و العهود.
و الثاني: ما كان في القول و الرسائل و القصص.
و الثالث: على ضربين:
أحدهما: ما نسبه اللّه إلى نفسه، و نعوذ باللّه ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنه وقّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله: إنّ إلينا إيابهم، ثمّ إنّ علينا حسابهم.
و الآخر تضمين آية في معنى هزل، و نعوذ باللّه من ذلك، كقوله:
أرخى إلى عشاقه طرفة (هيهات هيهات لما توعدون)
و ردفه ينطق من خلفه (لمثل ذا فليعمل العاملون)
قلت: و هذا التقسيم حسن جدا، و به أقول.
و ذكر الشيخ تاج الدين بن السّبكيّ في طبقاته في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن الطاهر التميميّ البغداديّ من كبار الشافعية و أجلاّئهم؛ أنّ من شعره قوله:
يا من عدى ثم اعتدى ثم اقترت ثم انتهى ثمّ ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول اللّه في آياته: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
و قال: استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثل هذا الاقتباس في شعره له فائدة، فإنه جليل القدر، و الناس ينهون عن هذا، و ربما أدّى بحث بعضهم إلى أنه يجوز.
و قيل: إنّ ذلك إنّما يفعله من الشعراء الّذين هم في كلّ واد يهيمون، و يثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي. و هذا الأستاذ أبو منصور من أئمة الدّين، و قد فعل هذا و أسند عنه هذين البيتين الأستاذ أبو القاسم بن عساكر.
قلت: ليس هذان البيتان من الاقتباس لتصريحه بقول اللّه، و قد قدّمنا أنّ ذلك خارج عنه.
و أما أخوه الشيخ بهاء الدين، فقال في «عروس الأفراح»: الورع اجتناب ذلك كلّه، و أن ينزّه عن مثله كلام اللّه و رسوله.
قلت: رأيت استعمال الاقتباس لأئمة أجلاّء، منهم الإمام أبو القاسم الرافعيّ، قال، و أنشده في أماليه، و رواه عنه أئمة كبار:1.
ص: 367
الملك للّه الّذي عنت الوجو ه له و ذلّت عنده الأرباب
متفرّد بالملك و السلطان قد خسر الذين تجاذبوه و خابوا
دعهم و زعم الملك يوم غرورهم فسيعلمون غدا من الكذاب!
و روى البيهقيّ في شعب الإيمان عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدنا أحمد بن يزيد لنفسه:
سل اللّه من فضله و اتّقه فإنّ التقى خير ما تكتسب
و من يتّق اللّه يصنع له و يرزقه من حيث لا يحتسب
و يقرب من الاقتباس شيئان:
أحدهما: قراءة القرآن يراد بها الكلام. قال النوويّ في التبيان(1): ذكر ابن أبي داود في هذا اختلافا، فروى عن النّخعي: أنه كان يكره أن يتأوّل القرآن لشيء يعرض من أمر الدنيا.
و أخرج عن عمر بن الخطاب: أنه قرأ في صلاة المغرب بمكة: وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ ، ثم رفع صوته، فقال: وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (2) .
و أخرج عن حكيم بن سعيد: أن رجلا من المحكّمة أتى عليّا و هو في صلاة الصبح.
فقال: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65]. فأجابه في الصلاة: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) [الروم: 60]. انتهى.
و قال غيره: يكره ضرب الأمثال من القرآن، صرّح به من أصحابنا العماد البيهقيّ تلميذ البغويّ. كما نقله ابن الصلاح في فوائد رحلته(3).
الثاني: التوجيه بالألفاظ القرآنية في الشعر و غيره، و هو جائز بلا شك، و روينا عن الشريف تقيّ الدين الحسينيّ أنه لمّا نظم قوله:
مجاز حقيقتها فاعبروا و لا تعمروا هوّنوها تهن
و ما حسن بيت له زخرف تراه إذا زلزلت لم يكن!
خشي أن يكون ارتكب حراما، لاستعماله هذه الألفاظ القرآنيّة في الشّعر، فجاء إلى شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن دقيق العيد يسأله عن ذلك، فأنشده إياهما، فقال له: قل: (و ما حسن كهف)، فقال: يا سيّدي أفدتني و أفتيتني.
خاتمة: قال الزركشيّ في «البرهان»(3): لا يجوز تعدّي أمثلة القرآن، و لذلك أنكر على1.
ص: 368
الحريريّ (1) قوله: (فأدخلني بيتا أحرج من التابوت، و أوهى من بيت العنكبوت).
و أيّ معنى أبلغ من معنى أكّده اللّه من ستّة أوجه؛ حيث قال: وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41]. فأدخل إِنَّ و بنى أفعل التفضيل، و بناه من الوهن، و أضافه إلى الجمع، و عرّف الجمع باللام، و أتى في خبر إِنَّ باللام.
لكن استشكل هذا بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26]. و قد ضرب النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم المثل بما دون البعوضة، فقال: «لو كانت الدّنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة...»(2).
قلت: قد قال قوم في الآية: إنّ معنى قوله: فَما فَوْقَها في الخسّة، و عبّر بعضهم عن هذا بقوله: معناه: (فما دونها) فزال الإشكال.).
ص: 369
بسم اللّه الرحمن الرحيم
أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون، منهم أبو عبيدة(1)، و أبو عمر الزاهد، و ابن دريد.
و من أشهرها كتاب العزيزيّ (2)؛ فقد أقام في تأليفه خمس عشرة سنة يحرّره، هو و شيخه أبو بكر بن الأنباريّ.
و من أحسنها المفردات للرّاغب(3). و لأبي حيّان في ذلك تأليف مختصر في كرّاسين(4).
قال ابن الصّلاح(5): و حيث رأيت في كتب التفسير: (قال أهل المعاني) فالمراد به مصنّفو الكتب في معاني القرآن، كالزّجّاج، و الفرّاء، و الأخفش، و ابن الأنباريّ. انتهى.
و ينبغي الاعتناء به، فقد أخرج البيهقيّ من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أعربوا القرآن، و التمسوا غرائبه»(6).
و أخرج مثله عن عمر(7)، و ابن عمر(8)، و ابن مسعود(9) موقوفا.
ص: 370
و أخرج من حديث ابن عمر مرفوعا: «من قرأ القرآن فأعربه، كان له بكلّ حرف عشرون حسنة، و من قرأه بغير إعراب كان له بكلّ حرف عشر حسنات»(1). -
ص: 371
المراد بإعرابه(1): معرفة معاني ألفاظه، و ليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النّحاة؛ و هو ما يقابل اللّحن؛ لأنّ القراءة مع فقده ليست قراءة، و لا ثواب فيها.
و على الخائض في ذلك التّثبّت و الرّجوع إلى كتب أهل الفنّ، و عدم الخوض بالظنّ؛ فهذه الصحابة. و هم العرب العرباء، و أصحاب اللّغة الفصحى، و من نزل القرآن عليهم و بلغتهم - توقّفوا في ألفاظ لم يعرفوا معناها، فلم يقولوا فيها شيئا(2).
فأخرج أبو عبيد في الفضائل، عن إبراهيم التّيميّ: أنّ أبا بكر الصديق سئل عن قوله:
وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) [عبس: 31] فقال: أيّ سماء تظلّني، أو أيّ أرض تقلّني، إن أنا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم(3).
و أخرج عن أنس: أنّ عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) . فقال:
هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر(4). -
ص: 372
و أخرج من طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها(1).
و أخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير: أنّه سئل عن قوله: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا [مريم:
13]؟ فقال: سألت عنها ابن عبّاس، فلم يجب فيها شيئا(2).
و أخرج من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لا و اللّه، ما أدري ما وَ حَناناً (3).
و أخرج الفريابيّ: حدّثنا إسرائيل، حدّثنا سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلّ القرآن أعلمه إلاّ أربعا: غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] وَ حَناناً [مريم: 13] و لَأَوّاهٌ [التوبة: 114] و وَ الرَّقِيمِ [الكهف: 9](4).
و أخرج ابن أبي حاتم عن، قتادة قال: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] حتى سمعت قول بنت ذي يزن: (تعال أفاتحك) تقول: تعال أخاصمك(5).
و أخرج من طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: ما أدري ما الغسلين! و لكنّي أظنّه الزّقّوم(6).
و حروفا؛ فالحروف لقلّتها تكلّم النحاة على معانيها، فيؤخذ ذلك من كتبهم، و أمّا الأسماء و الأفعال فتؤخذ من كتب علم اللغة، و أكبرها كتاب ابن السّيد.
و منها: التهذيب للأزهريّ، و المحكم لابن سيده، و الجامع للقزّاز، و الصّحاح للجوهريّ، و البارع للفارابيّ، و مجمع البحرين للصاغاني.
و من الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطيّة، و ابن طريف، و السّرقسطيّ. و من أجمعها كتاب ابن القطّاع.
قلت: و أولى ما يرجع إليه في ذلك ما ثبت عن ابن عباس و أصحابه الآخذين عنه؛ فإنّه ورد عنهم ما يستوعب تفسير غريب القرآن، بالأسانيد الثابتة الصحيحة.
و ها أنا أسوق هنا ما ورد من ذلك عن ابن عباس، من طريق ابن أبي طلحة خاصة؛ فإنّها من أصحّ الطّرق عنه، و عليها اعتمد البخاريّ في صحيحه، مرتبا على السّور.
قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبي:
و قال ابن جرير: حدّثنا المثنّى: قالا: حدّثنا أبو صالح عبد اللّه بن صالح: حدّثني معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس(1)، في قوله تعالى:
يُؤْمِنُونَ [البقرة: 3] قال: يصدّقون. يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] يتمادون. مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25] من القذر و الأذى. اَلْخاشِعِينَ [البقرة: 45] المصدّقين بما أنزل اللّه. وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ [البقرة: 49] نعمة. وَ فُومِها [البقرة: 61] الحنطة. إِلاّ أَمانِيَّ [البقرة: 78] أحاديث. قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88] في غطاء. ما نَنْسَخْ [البقرة: 106] نبدّل. أَوْ نُنْسِها [البقرة: 106] نتركها فلا نبدّلها. مَثابَةً [البقرة: 125] يثوبون إليه، ثمّ يرجعون.
حَنِيفاً [البقرة: 135] حاجّا. شَطْرَهُ [البقرة: 144] نحوه. فَلا جُناحَ [البقرة: 158] فلا حرج. خُطُواتِ الشَّيْطانِ [البقرة: 208] عمله. أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ [البقرة: 173] ذبح للطواغيت. وَ ابْنَ السَّبِيلِ [البقرة: 177] الضيف الذي ينزل بالمسلمين. إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] مالا. جَنَفاً [البقرة: 182] إثما. حُدُودَ اللّهِ [البقرة: 229] طاعة اللّه. لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] شرك. فَمَنْ فَرَضَ [البقرة: 197] أحرم. قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:
219] ما لا يتبيّن في أموالكم. لَأَعْنَتَكُمْ [البقرة: 220] لأحرجكم و ضيّق عليكم. ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا [البقرة: 236] المسّ: الجماع، و الفريضة: الصداق. فِيهِ سَكِينَةٌ1.
ص: 374
[البقرة: 248] رحمة. سِنَةٌ [البقرة: 255] نعاس. وَ لا يَؤُدُهُ [البقرة: 255] يثقل عليه.
كَمَثَلِ صَفْوانٍ [البقرة: 264] حجر صلد ليس عليه شيء.
مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55]. مميتك رِبِّيُّونَ [آل عمران: 146] جموع.
حُوباً كَبِيراً [النساء: 2] إثما عظيما. نِحْلَةً [النساء: 4] مهرا. وَ ابْتَلُوا الْيَتامى [النساء: 6] اختبروا. آنَسْتُمْ [النساء: 6] عرفتم. رُشْداً [النساء: 6] صلاحا.
كَلالَةً [النساء: 12] من لم يترك والدا و لا ولدا. وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ [النساء: 19] تقهروهنّ. وَ الْمُحْصَناتُ [النساء: 24] كلّ ذات زوج. طَوْلاً [النساء: 25] سعة.
مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [النساء: 25] عفائف غير زوان في السر و العلانية. وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء: 25] أخلاء. فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] تزوّجن. اَلْعَنَتَ [النساء: 25] الزّنا. مَوالِيَ [النساء: 33] عصبة. قَوّامُونَ [النساء: 34] أمراء. قانِتاتٌ [النساء:
34] مطيعات. وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى [النساء: 36] الذي بينك و بينه قرابة. وَ الْجارِ الْجُنُبِ [النساء: 36] الذي ليس بينك و بينه قرابة. وَ الصّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36] الرفيق.
فَتِيلاً [النساء: 49] الذي في الشقّ الذي في بطن النواة. بِالْجِبْتِ [النساء: 51] الشّرك.
نَقِيراً [النساء: 53] النقطة التي في ظهر النواة. وَ أُولِي الْأَمْرِ [النساء: 59] أهل الفقه و الدين. ثُباتٍ [النساء: 71] عصبا سربا متفرّقين. مُقِيتاً [النساء: 85] حفيظا.
أَرْكَسَهُمْ [النساء: 88] أوقعهم. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] ضاقت. أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] العذر. مُراغَماً [النساء: 100] التحوّل من الأرض إلى الأرض. وَ سَعَةً [النساء: 100] الرزق. مَوْقُوتاً [النساء: 103] مفروضا. تَأْلَمُونَ [النساء: 104] توجعون.
خَلْقَ اللّهِ [النساء: 119] دين اللّه. نُشُوزاً [النساء: 128] بغضا. كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:
129] لا هي أيّم و لا هي ذات زوج. وَ إِنْ تَلْوُوا [النساء: 135] ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها. وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً [النساء: 156] يعني رموها بالزنا.
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ما أحلّ و ما حرّم و ما فرض و ما حدّ في القرآن كله.
يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة: 2] يحملنّكم. شَنَآنُ [المائدة: 2] عداوة. عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى [المائدة: 2] البر ما أمرت به و التقوى ما نهيت عنه. وَ الْمُنْخَنِقَةُ [المائدة: 3] التي تخنق فتموت. وَ الْمَوْقُوذَةُ [المائدة: 3] التي تضرب بالخشب فتموت. وَ الْمُتَرَدِّيَةُ [المائدة: 3] التي تتردى من الجبل. وَ النَّطِيحَةُ [المائدة: 3] الشاة التي تنطح الشاة. وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة: 3] ما أخذ. إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة: 3] ذبحتم و به روح. بِالْأَزْلامِ [المائدة: 3] القداح. غَيْرَ مُتَجانِفٍ [المائدة: 3] متعدّ لإثم. مِنَ الْجَوارِحِ [المائدة: 4] الكلاب و الفهود و الصقور و أشباهها. مُكَلِّبِينَ [المائدة: 4] ضواري. وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5]
ص: 375
ذبائحهم. فَافْرُقْ [المائدة: 25] فافصل. وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة: 41] ضلالته.
وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] أمينا؛ القرآن أمين على كلّ كتاب قبله. شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً [المائدة: 48] سبيلا و سنة. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة: 54] رحماء. مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] يعنون: بخيل أمسك ما عنده، تعالى اللّه عن ذلك. بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] هي الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرا ذبحوه فأكله الرّجال دون النساء، و إن كانت أنثى جدعوا أذنيها. و أمّا السّائبة فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهرا، و لا يحلبون لها لبنا، و لا يجزّون لها وبرا، و لا يحملون عليها شيئا. و أمّا الوصيلة فالشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا السّابع، فإن كان ذكرا أو أنثى و هو ميّت اشترك فيه الرّجال و النّساء، و إن كانت أنثى و ذكرا في بطن استحيوها و قالوا: وصلته أخته، فحرّمته علينا. و أمّا الحام فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئا، و لا يجزّون له وبرا، و لا يمنعونه من حمى رعي، و لا من حوض يشرب منه، و إن كان الحوض لغير صاحبه.
مِدْراراً [الأنعام: 6] يتبع بعضها بعضا. وَ يَنْأَوْنَ [الأنعام: 26] يتباعدون. فَلَمّا نَسُوا [الأنعام: 44] تركوا. مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] آيسون. يَصْدِفُونَ [الأنعام: 46] يعدلون. يَدْعُونَ [الأنعام: 52] يعبدون. جَرَحْتُمْ [الأنعام: 60] كسبتم من الإثم.
يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] يضيّعون. شِيَعاً [الأنعام: 65] أهواء مختلفة. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام: 67] حقيقة. أَنْ تُبْسَلَ [الأنعام: 70] تفضح. باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الأنعام: 93] البسط: الضرب. فالِقُ الْإِصْباحِ [الأنعام: 96] ضوء الشمس بالنهار و ضوء القمر بالليل.
حُسْباناً [الأنعام: 96] عدد الأيام و الشهور و السّنين. قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الأنعام: 99] قصار النخل اللاصقة عروقها بالأرض. وَ خَرَقُوا لَهُ [الأنعام: 100] تخرّصوا. قُبُلاً [الأنعام:
111] معاينة. مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] ضالا فهديناه. عَلى مَكانَتِكُمْ [الأنعام: 135] ناحيتكم. وَ حَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] حرام. حَمُولَةً [الأنعام: 142] الإبل و الخيل و البغال و الحمير، و كل شيء يحمل عليه. وَ فَرْشاً [الأنعام: 142] الغنم. مَسْفُوحاً [الأنعام: 145] مهراقا. ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما [الأنعام: 146] ما علق بها من الشحم.
اَلْحَوايا [الأنعام: 146] المبعر. مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام: 151] الفقر. عَنْ دِراسَتِهِمْ [الأنعام: 156] تلاوتهم. وَ صَدَفَ عَنْها [الأنعام: 157] أعرض.
مَذْؤُماً [الأعراف: 18] ملوما. وَ رِيشاً [الأعراف: 26] مالا. حَثِيثاً [الأعراف:
54] سريعا. رِجْسٌ [الأعراف: 71] سخط. بِكُلِّ صِراطٍ [الأعراف: 86] الطريق.
رَبَّنَا افْتَحْ [الأعراف: 89] اقض. آسى [الأعراف: 93] أحزن. حَتّى عَفَوْا
ص: 376
[الأعراف: 95] كثروا. وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ [الأعراف: 127] يترك عبادتك. اَلطُّوفانَ [الأعراف: 133] المطر. مُتَبَّرٌ [الأعراف: 139] خسران. أَسِفاً [الأعراف: 150] الحزين.
إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ [الأعراف: 155] إن هو إلاّ عذابك. وَ عَزَّرُوهُ [الأعراف: 157] حموه و وقّروه. ذَرَأْنا [الأعراف: 179] خلقنا. فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160] انفجرت. وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف: 171] رفعناه. كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: 187] لطيف بها. (الطائف) اللمّة. لَوْ لا اجْتَبَيْتَها [الأعراف: 203] لو لا أحدثتها، لو لا تلقّنتها فأنشأتها.
كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12] الأطراف. جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19] المدد.
فُرْقاناً [الأنفال: 29] مخرجا. لِيُثْبِتُوكَ [الأنفال: 30] ليوثقوك. يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] يوم بدر، فرق اللّه فيه بين الحق و الباطل. فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال: 57] نكّل بهم من بعدهم. مِنْ وَلايَتِهِمْ [الأنفال: 72] ميراثهم.
يُضاهِؤُنَ [التوبة: 30] يشبهون. كَافَّةً [التوبة: 36] جميعا. لِيُواطِؤُا [التوبة: 37] يشبّهوا. وَ لا تَفْتِنِّي [التوبة: 49] و لا تخرجني. إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:
52] فتح أو شهادة. أَوْ مَغاراتٍ [التوبة: 57] الغيران في الجبل. مُدَّخَلاً [التوبة: 57] السّرب. هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] يسمع من كلّ أحد. وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] أذهب الرّفق عنهم. وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ [التوبة: 99] استغفاره. سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] رحمة.
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 110] شكّ. إِلاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة: 110] يعني:
الموت. لَأَوّاهٌ [التوبة: 114] الأوّاه: المؤمن التوّاب. مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] عصبة.
أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] سبق لهم السعادة في الذكر الأول. وَ لا أَدْراكُمْ [يونس: 16] أعلمكم. وَ تَرْهَقُهُمْ [يونس: 27] تغشاهم. مِنْ عاصِمٍ [يونس: 27] مانع.
إِذْ تُفِيضُونَ [يونس: 61] تفعلون. وَ ما يَعْزُبُ [يونس: 61] يغيب.
يَثْنُونَ [هود: 5] يكنون. حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ [هود: 5] يغطّون رءوسهم. لا جَرَمَ [هود: 22] بلى. وَ أَخْبَتُوا [هود: 23] خافوا. وَ فارَ التَّنُّورُ [هود: 40] نبع.
أَقْلِعِي [هود: 44] اسكني. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا [68] يعيشوا. حَنِيذٍ [هود: 69] نضيج.
سِيءَ بِهِمْ [هود: 77] ساء ظنا بقومه. وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود: 77] بأضيافه. عَصِيبٌ [هود: 77] شديد. يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ [هود: 78] يسرعون. بِقِطْعٍ [هود: 81] سواد.
مُسَوَّمَةً [هود: 83] معلمة. عَلى مَكانَتِكُمْ [هود: 93] ناحيتكم. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ [هود: 102] موجع. زَفِيرٌ [هود: 106] صوت شديد. وَ شَهِيقٌ [هود: 106] صوت ضعيف. غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] غير منقطع. وَ لا تَرْكَنُوا [هود: 113] تذهبوا.
ص: 377
شَغَفَها [يوسف: 30] غلبها. مُتَّكَأً [يوسف: 31] مجلسا. أَكْبَرْنَهُ [يوسف:
31] أعظمنه. فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: 32] امتنع. بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] حين. مِمّا تُحْصِنُونَ [يوسف: 48] تخزنون. يَعْصِرُونَ [يوسف: 49] الأعناب و الدهن. حَصْحَصَ [يوسف: 51] تبيّن. زَعِيمٌ [يوسف: 72] كفيل. لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف: 95] خطئك.
صِنْوانٌ [الرعد: 4] مجتمع. وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7]. مُعَقِّباتٌ [الرعد:
11] الملائكة يحفظونه من أمر اللّه بإذنه. بِقَدَرِها [الرعد: 17] على قدر طاقتها. وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ [الرعد: 25] سوء العاقبة. طُوبى لَهُمْ [الرعد: 29] فرح و قرّة عين. أَ فَلَمْ يَيْأَسِ [الرعد: 31] يعلم.
مُهْطِعِينَ [إبراهيم: 43] ناظرين. فِي الْأَصْفادِ [إبراهيم: 49] في وثاق. مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] النحاس المذاب.
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2] يتمنى. مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] موحّدين. فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 10] أمم. مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ [الحجر: 19] معلوم. مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] طين رطب. أَغْوَيْتَنِي [الحجر: 39] أضللتني. فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: 94] فأمضه.
بِالرُّوحِ [النحل: 2] بالوحي. فِيها دِفْ ءٌ [النحل: 5] الثياب. وَ مِنْها جائِرٌ [النحل: 9] الأهواء المختلفة. تُسِيمُونَ [النحل: 10] ترعون. مَواخِرَ [النحل: 14] جواري. تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل: 27] تخالفون. يَتَفَيَّؤُا [النحل: 48] يتميل.
وَ حَفَدَةً [النحل: 72] الأصهار. عَنِ الْفَحْشاءِ [النحل: 90] الزّنا. يَعِظُكُمْ [النحل:
90] يوصيكم. هِيَ أَرْبى [النحل: 92] أكثر.
وَ قَضَيْنا [الإسراء: 4] أعلمنا. فَجاسُوا [الإسراء: 5] فمشوا. حَصِيراً [الإسراء:
8] سجنا. فَصَّلْناهُ [الإسراء: 12] بيّناه. أَمَرْنا مُتْرَفِيها [الإسراء: 16] سلّطنا شرارها.
فَدَمَّرْناها [الإسراء: 16] أهلكناها. وَ قَضى رَبُّكَ [الإسراء: 23] أمر. وَ لا تَقْفُ [الإسراء: 36] و لا تقل. وَ رُفاتاً [الإسراء: 49] غبارا. فَسَيُنْغِضُونَ [الإسراء: 51] يهزّون.
بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] بأمره. لَأَحْتَنِكَنَّ [الإسراء: 62] لأستولين. يُزْجِي [الإسراء:
66] يجري. قاصِفاً [الإسراء: 69] عاصفا. تَبِيعاً [الإسراء: 69] نظيرا. زَهُوقاً [الإسراء: 81] ذاهبا. يَؤُساً [الإسراء: 83] قنوطا. شاكِلَتِهِ [الإسراء: 84] ناحيته.
كِسَفاً [الإسراء: 92] قطعا. مَثْبُوراً [الإسراء: 102] ملعونا. فَرَقْناهُ [الإسراء: 106] فصّلناه.
ص: 378
عِوَجاً [الكهف: 1] ملتبسا. قَيِّماً [الكهف: 2] عدلا. وَ الرَّقِيمِ [الكهف: 9] الكتاب. تَزاوَرُ [الكهف: 17] تميل. تَقْرِضُهُمْ [الكهف: 17] تذرهم. بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18] بالفناء. وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ [الكهف: 28] لا تتعدّاهم إلى غيرهم.
كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] عكر الزيت. وَ الْباقِياتُ الصّالِحاتُ [الكهف: 46] ذكر اللّه.
مَوْبِقاً [الكهف: 52] مهلكا. مَوْئِلاً [الكهف: 58] ملجا. حُقُباً [الكهف: 60] دهرا.
مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً [الكهف: 84] علما. فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: 86] حارّة. زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف: 96] قطع الحديد. بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف: 96] الجبلين.
سَوِيًّا [مريم: 10] من غير خرس. وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا [مريم: 13] رحمة من عندنا.
سَرِيًّا [مريم: 24] هو عيسى. جَبّاراً شَقِيًّا [مريم: 32] عصيا. وَ اهْجُرْنِي [مريم: 46] اجتنبني. بِي حَفِيًّا [مريم: 47] لطيفا. لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 50] الثناء الحسن.
غَيًّا [مريم: 59] خسرانا. لَغْواً [مريم: 62] باطلا. أَثاثاً [مريم: 74] مالا. ضِدًّا [مريم: 82] أعوانا. تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] تغويهم إغواء. نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم: 84] أنفاسهم التي يتنفّسون في الدّنيا. وِرْداً [مريم: 86] عطاشا. عَهْداً [مريم: 87] شهادة ألاّ إله إلاّ اللّه. إِدًّا [مريم: 89] عظيما. هَدًّا [مريم: 90] هدما. رِكْزاً [مريم: 98] صوتا.
بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ المبارك، و اسمه طُوىً [طه: 12]. أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] لا أظهر عليها أحدا غيري. سِيرَتَهَا [طه: 21] حالتها. وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً [طه: 40] اختبرناك اختبارا. وَ لا تَنِيا [طه: 42] لا تبطئا. أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] خلق لكل شيء روحة، ثم هداه لمنكحه و مطعمه و مشربه و مسكنه. لا يَضِلُّ [طه: 52] لا يخطئ. تارَةً [طه: 55] مرّة. فَيُسْحِتَكُمْ [طه: 61] فيهلككم. وَ السَّلْوى [طه: 80] طائر شبيه بالسّماني. وَ لا تَطْغَوْا [طه: 81] تظلموا. فَقَدْ هَوى [طه: 81] شقي. بِمَلْكِنا [طه:
87] بأمرنا. ظَلْتَ عَلَيْهِ [طه: 97] أقمت. لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ [طه: 97] لنذرينّه في البحر. وَ ساءَ [طه: 101] بئس. يَتَخافَتُونَ [طه: 103] يتساررون. قاعاً [طه: 106] مستويا. صَفْصَفاً [طه: 106] لا نبات فيه. عِوَجاً [طه: 107] واديا. أَمْتاً [طه:
107] رابية. وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ [طه: 108] سكتت. هَمْساً [طه: 108] الصوت الخفي.
وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ [طه: 111] ذلّت. فَلا يَخافُ ظُلْماً [طه: 112] أن يظلم فيزداد في سيئاته.
فَلَكٍ [الأنبياء: 33] دوران. يُسَبِّحُونَ [الأنبياء: 33] يجرون. نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الأنبياء: 44] تنقص أهلها و بركتها. جُذاذاً [الأنبياء: 58] حطاما. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87] أن لن يأخذه العذاب الذي أصابه. مِنْ كُلِّ حَدَبٍ [الأنبياء:
96] شرف. يَنْسِلُونَ [الأنبياء: 96] يقبلون. حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] شجر.
ص: 379
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] كطيّ الصحيفة على الكتاب.
بَهِيجٍ [الحج: 5] حسن. ثانِيَ عِطْفِهِ [الحج: 9] مستكبرا في نفسه. وَ هُدُوا [الحج: 24] ألهموا. تَفَثَهُمْ [الحج: 29] وضع إحرامهم من حلق الرأس و لبس الثياب و قصّ الأظفار و نحو ذلك. مَنْسَكاً [الحج: 34] عيدا. اَلْقانِعَ [الحج: 36] المتعفّف.
وَ الْمُعْتَرَّ [الحج: 36] السائل. إِذا تَمَنّى [الحج: 52] حدّث. فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:
52] حديثه. يَسْطُونَ [الحج: 72] يبطشون.
خاشِعُونَ [المؤمنون: 2] خائفون ساكنون. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] هو الزيت. هَيْهاتَ هَيْهاتَ [المؤمنون: 36] بعيد بعيد. تَتْرا [المؤمنون: 44] يتبع بعضها بعضا. وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 36] خائفين. يَجْأَرُونَ [المؤمنون: 64] يستغيثون.
تَنْكِصُونَ [المؤمنون: 66] تدبرون. سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 67] تسمرون حول البيت و تقولون هجرا. عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ [المؤمنون: 74] عن الحق عادلون. تُسْحَرُونَ [المؤمنون: 89] تكذبون. كالِحُونَ [المؤمنون: 104] عابسون.
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] الحرائر. ما زَكى مِنْكُمْ [النور: 21] ما اهتدى. وَ لا يَأْتَلِ [النور: 22] لا يقسم. دِينَهُمُ [النور: 25] حسابهم. تَسْتَأْنِسُوا [النور: 27] تستأذنوا. وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ [النور: 31] لا تبدي خلاخيلها و معضديها و نحرها و شعرها إلاّ لزوجها. غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ [النور: 31] المغفل الذي لا يشتهي النساء.
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33] إن علمتم لهم حيلة. وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ [النور: 33] ضعوا عنهم من مكاتبتهم. فَتَياتِكُمْ [النور: 33] إمائكم. اَلْبِغاءِ [النور: 33] الزّنا. نُورُ السَّماواتِ [النور: 35] هادي أهل السموات. مَثَلُ نُورِهِ [النور: 35] هداه في قلب المؤمن. كَمِشْكاةٍ [النور: 35] موضع الفتيلة. فِي بُيُوتٍ [النور: 36] المساجد. أَنْ تُرْفَعَ [النور: 36] تكرّم. وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور: 36] يتلى فيها كتابه. يُسَبِّحُ [النور: 36] يصلي. بِالْغُدُوِّ [النور: 36] صلاة الغداة. وَ الْآصالِ [النور: 36] صلاة العصر. بِقِيعَةٍ [النور: 39] أرض مستوية. تَحِيَّةً [النور: 61] السلام.
ثُبُوراً [الفرقان: 13] ويلا. بُوراً [الفرقان: 18] هلكى. هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان:
23] الماء المهراق. ساكِناً [الفرقان: 45] دائما. قَبْضاً يَسِيراً [الفرقان: 46] سريعا.
جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو:
من النهار أدركه بالليل. وَ عِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان: 63] المؤمنون. هَوْناً [الفرقان: 63] بالطاعة و العفاف و التواضع. لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان: 77] إيمانكم.
كَالطَّوْدِ [الشعراء: 63] كالجبل. فَكُبْكِبُوا [الشعراء: 94] جمعوا. رِيعٍ
ص: 380
[الشعراء: 128] شرف. لَعَلَّكُمْ [الشعراء: 129] كأنّكم. خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 137] دين الأولين. هَضِيمٌ [الشعراء: 148] معشبة. فارِهِينَ [الشعراء: 149] حاذقين. اَلْأَيْكَةِ [الشعراء: 176] الغيضة. وَ الْجِبِلَّةَ [الشعراء: 184] الخلق. فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء:
225] في كل لغو يخوضون.
بُورِكَ [النمل: 8] قدّس. أَوْزِعْنِي [النمل: 19] اجعلني. يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ [النمل:
25] يعلم كلّ خفيّة في السماء و الأرض. طائِرُكُمْ [النمل: 47] مصائبكم. اِدّارَكَ عِلْمُهُمْ [النمل: 66] غاب علمهم. رَدِفَ [النمل: 72] قرب. يُوزَعُونَ [النمل: 83] يدفعون.
داخِرِينَ [النمل: 87] صاغرين. جامِدَةً [النمل: 88] قائمة. أَتْقَنَ [النمل: 88] أحكم.
جَذْوَةٍ [القصص: 29] شهاب. سَرْمَداً [القصص: 71] دائما. لَتَنُوأُ [القصص: 76] تثقل.
وَ تَخْلُقُونَ [العنكبوت: 17] تصنعون. إِفْكاً [العنكبوت: 17] كذبا.
أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم: 3] طرف الشام. وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] أيسر.
يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] يتفرقون.
وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ [لقمان: 18] لا تتكبّر فتحقر عباد اللّه و تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. اَلْغَرُورُ [لقمان: 33] الشيطان.
إِنّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] تركناكم. مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى [السجدة: 21] مصائب الدنيا و أسقامها و بلائها.
سَلَقُوكُمْ [الأحزاب: 19] استقبلوكم. تُرْجِي [الأحزاب: 51] تؤخر. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب: 60] لنسلطنّك عليهم. اَلْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] الفرائض. جَهُولاً [الأحزاب: 72] غرّا بأمر اللّه.
إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ [سبأ: 14] الأرضة. مِنْسَأَتَهُ [سبأ: 14] عصاه. سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16] الشديد. خَمْطٍ [سبأ: 16] الأراك. حَتّى إِذا فُزِّعَ [سبأ: 23] جلّي. اَلْفَتّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ: 26] القاضي. فَلا فَوْتَ [سبأ: 51] فلا نجاة. وَ أَنّى لَهُمُ التَّناوُشُ [سبأ:
52] فكيف لهم بالرّدّ.
اَلْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] ذكر اللّه. وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ [فاطر: 10] أداء الفرائض.
مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13] الجلد الذي يكون على ظهر النواة. فِيها لُغُوبٌ [فاطر: 35] إعياء.
يا حَسْرَةً [يس: 30] ويل. كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] أصل العذق العتيق.
ص: 381
اَلْمَشْحُونِ [يس: 41] الممتلئ. مِنَ الْأَجْداثِ [يس: 51] القبور. فاكِهُونَ [يس: 55] فرحون.
فَاهْدُوهُمْ [الصافات: 23] وجّهوهم. لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] صداع. بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] اللؤلؤ المكنون. سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] وسط الجحيم.
أَلْفَوْا آباءَهُمْ [الصافات: 69] و جدوا. وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) [الصافات: 78] لسان صدق للأنبياء كلّهم. مِنْ شِيعَتِهِ [الصافات: 83] أهل دينه. بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:
102] العمل. وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103] صرعه. فَنَبَذْناهُ [الصافات: 145] ألقيناه.
بِالْعَراءِ [الصافات: 145] بالساحل. بِفاتِنِينَ [الصافات: 162] مضلّين.
وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] ليس حين فرار. اِخْتِلاقٌ [ص: 7] تخريص. فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [ص: 10] السماء. مِنْ فَواقٍ [ص: 15] ترداد. عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] العذاب. فَطَفِقَ مَسْحاً [ص: 33] جعل يمسح. جَسَداً [ص: 34] شيطانا. رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: 36] مطيعة له حيث أراد. ضِغْثاً [ص: 44] حزمة. أُولِي الْأَيْدِي [ص:
45] القوّة. وَ الْأَبْصارِ [ص: 45] الفقه في الدين. قاصِراتُ الطَّرْفِ [ص: 52] عن غير أزواجهن. أَتْرابٌ [ص: 52] مستويات. وَ غَسّاقٌ [ص: 57] الزمهرير. أَزْواجٌ [ص:
58] ألوان من العذاب.
يُكَوِّرُ اللَّيْلَ [الزمر: 5] يحمل. لَمِنَ السّاخِرِينَ [الزمر: 56] المخرّفين. مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 58] المهتدين.
ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] السعة و الغنى. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ [غافر: 31] حال. فِي تَبابٍ [غافر: 37] خسران. اُدْعُونِي [غافر: 60] وحّدوني.
فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] بينا لهم.
رَواكِدَ [الشورى: 33] وقوفا. أَوْ يُوبِقْهُنَّ [الشورى: 34] يهلكهنّ.
وَ ما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 13] مطيقين. وَ مَعارِجَ [الزخرف: 33] الدّرج.
وَ زُخْرُفاً [الزخرف: 35] الذهب. وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ [الزخرف: 44] شرف. تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70] تكرمون.
وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً [الدخان: 24] سمتا.
وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ [الجاثية: 23] في سابق علمه.
فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26] لم نمكنكم فيه.
ص: 382
مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 15] متغيّر.
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ [الحجرات: 1] لا تقولوا خلاف الكتاب و السّنّة. وَ لا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 12] هو أن تتبع عورات المؤمن.
اَلْمَجِيدِ [ق: 1] الكريم. مَرِيجٍ [ق: 5] مختلف. وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] طوال. فِي لَبْسٍ [ق: 15] شك. مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] عرق العنق.
قُتِلَ الْخَرّاصُونَ (10) [الذاريات: 10] يعني المرتابون. فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ [الذاريات:
11] في ضلالتهم يتمادون. يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] يعذّبون. ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] ينامون. فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] صيحة. فَصَكَّتْ وَجْهَها [الذاريات: 29] لطمت.
فَتَوَلّى بِرُكْنِهِ [الذاريات: 39] بقوته. بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] بقوة. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] الشديد. ذَنُوباً [الذاريات: 59] دلوا.
وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) [الطور: 6] المحبوس. يَوْمَ تَمُورُ [الطور: 9] تحرّك. يَوْمَ يُدَعُّونَ [الطور: 13] يدفعون. فَكِهِينَ [الطور: 18] معجبين. وَ ما أَلَتْناهُمْ [الطور:
21] ما نقصناهم. وَ لا تَأْثِيمٌ [الطور: 23] كذب. رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] الموت.
اَلْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 37] المسلّطون الجبارون.
ذُو مِرَّةٍ [النجم: 6] منظر حسن. أَغْنى وَ أَقْنى [النجم: 48] أعطى و أرضى.
اَلْآزِفَةُ [النجم: 57] من أسماء يوم القيامة. سامِدُونَ [النجم: 61] لاهون.
وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ [الرحمن: 6] النجم ما ينبسط على الأرض، و الشجر: ما ينبت على ساق. لِلْأَنامِ [الرحمن: 10] الخلق. ذُو الْعَصْفِ [الرحمن: 12] التبن. وَ الرَّيْحانُ [الرحمن: 12] خضرة الزرع. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما [الرحمن: 13] بأيّ نعمة اللّه. مِنْ مارِجٍ [الرحمن: 15] خالص النار. مَرَجَ [الرحمن: 19] أرسل. بَرْزَخٌ [الرحمن: 20] حاجز.
ذُو الْجَلالِ [الرحمن: 27] ذو العظمة و الكبرياء. سَنَفْرُغُ لَكُمْ [الرحمن: 31] هذا وعيد من اللّه لعباده، و ليس باللّه شغل. لا تَنْفُذُونَ [الرحمن: 33] لا تخرجون من سلطان.
شُواظٌ [الرحمن: 35] لهب النار. وَ نُحاسٌ [الرحمن: 35] دخان النار. وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ [الرحمن: 54] ثمار. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ [الرحمن: 56] يدن منهنّ. نَضّاخَتانِ [الرحمن: 66] فائضتان. رَفْرَفٍ خُضْرٍ [الرحمن: 76] المجالس.
مُتْرَفِينَ [الواقعة: 45] منعّمين. لِلْمُقْوِينَ [الواقعة: 73] المسافرين. غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة: 86] محاسبين. فَرَوْحٌ [الواقعة: 89] راحة أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] نخلقها.
ص: 383
لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] لا تسلطهم علينا فيفتنونا. وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ [الممتحنة: 12] لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم.
قاتَلَهُمُ اللّهُ [المنافقون: 4] لعنهم؛ و كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن. و أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] تصدّقوا.
وَ مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] ينجيه من كلّ كرب في الدنيا و الآخرة.
عَتَتْ [الطلاق: 8] عصت.
تَمَيَّزُ [الملك: 8] تتفرّق. فَسُحْقاً [الملك: 11] بعدا.
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] لو ترخص لهم فيرخصون. زَنِيمٍ [القلم: 13] ظلوم. قالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم: 28] أعدلهم. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة. وَ هُوَ مَكْظُومٌ [القلم: 48] مغموم. مَذْمُومٌ [القلم:
49] ملوم. لَيُزْلِقُونَكَ [القلم: 51] ينفذونك.
لَمّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] كثر. أُذُنٌ واعِيَةٌ [الحاقة: 12] حافظة. إِنِّي ظَنَنْتُ [الحاقة: 20] أيقنت. مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] صديد. اَلْخاطِؤُنَ [الحاقة: 37] أهل النار.
ذِي الْمَعارِجِ [المعارج: 3] العلوّ و الفواضل.
سُبُلاً [نوح: 20] طرقا. فِجاجاً [نوح: 20] مختلفة.
جَدُّ رَبِّنا [الجن: 3] فعله و أمره و قدرته. فَلا يَخافُ بَخْساً [الجن: 13] نقصا من حسناته. وَ لا رَهَقاً [الجن: 13] زيادة في سيئاته.
كَثِيباً مَهِيلاً [المزّمّل: 14] الرمل السائل. وَبِيلاً [المزّمّل: 16] شديدا.
يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 9] شديد. لَوّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) [المدثر: 29] معرضة.
فَإِذا قَرَأْناهُ [القيامة: 18] بيّناه. فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] اعمل به. وَ الْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ (29) [القيامة: 29] آخر يوم من أيام الدنيا و أول يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشّدّة بالشدّة. سُدىً [القيامة: 36] هملا.
أَمْشاجٍ [الإنسان: 2] مختلفة الألوان. مُسْتَطِيراً [الإنسان: 7] فاشيا. عَبُوساً [الإنسان: 10] ضيقا. قَمْطَرِيراً [الإنسان: 10] طويلا.
كِفاتاً [المرسلات: 25] كنا. رَواسِيَ [المرسلات: 27] جبالا. شامِخاتٍ [المرسلات: 27] مشرفات. ماءً فُراتاً [المرسلات: 27] عذبا.
سِراجاً وَهّاجاً [النبأ: 13] مضيئا. مِنَ الْمُعْصِراتِ [النبأ: 14] السحاب. ثَجّاجاً
ص: 384
[النبأ: 14] منصبّا. أَلْفافاً [النبأ: 16] مجتمعة. جَزاءً وِفاقاً (26) [النبأ: 26] وفق أعمالهم. مَفازاً [النبأ: 31] متنزها. وَ كَواعِبَ [النبأ: 33] نواهد. يَقُومُ الرُّوحُ [النبأ: 38] ملك من أعظم الملائكة خلقا. وَ قالَ صَواباً [النبأ: 38] لا إله إلاّ اللّه.
اَلرّادِفَةُ [النازعات: 7] النفخة الثانية. واجِفَةٌ [النازعات: 8] خائفة. فِي الْحافِرَةِ [النازعات: 10] الحياة. سَمْكَها [النازعات: 28] بناها. وَ أَغْطَشَ [النازعات: 29] أظلم.
سَفَرَةٍ [عبس: 15] كتبة. وَ قَضْباً [عبس: 28] القتّ. وَ فاكِهَةً [عبس: 31] الثمار الرطبة. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) [عبس: 38] مشرقة.
كُوِّرَتْ [التكوير: 1] أظلمت. اِنْكَدَرَتْ [التكوير: 2] تغيّرت. إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 17] أدبر.
فُجِّرَتْ [الانفطار: 3] بعضها في بعض. بُعْثِرَتْ [الانفطار: 4] بحثت.
لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] الجنة.
لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: 14] لن يبعث. بِما يُوعُونَ [الانشقاق: 23] يسرّون.
اَلْوَدُودُ [البروج: 14] الحبيب.
لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] حقّ. بِالْهَزْلِ [الطارق: 14] بالباطل.
غُثاءً [الأعلى: 5] هشيما. أَحْوى [الأعلى: 5] أسود. مَنْ تَزَكّى [الأعلى: 14] من الشرك. وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ [الأعلى: 15] وحّد اللّه. فَصَلّى [الأعلى: 15] الصلوات الخمس.
اَلْغاشِيَةِ و اَلطَّامَّةُ و اَلصَّاخَّةُ و اَلْحَاقَّةُ (1) و بِالْقارِعَةِ من أسماء يوم القيامة.
مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] شجر ذو شوك. وَ نَمارِقُ [الغاشية: 15] المرافق.
بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] بجبّار.
لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] يسمع و يرى. جَمًّا [الفجر: 20] شديدا. وَ أَنّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 23] كيف له.
اَلنَّجْدَيْنِ [البلد: 10] الضلالة و الهدى.
طَحاها [الشمس: 6] قسمها. فُجُورَها وَ تَقْواها [الشمس: 8] بيّن الخير و الشرّ. وَ لا يَخافُ عُقْباها (15) [الشمس: 15] لا يخاف من أحد تابعة.
سَجى [الضحى: 2] ذهب. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) [الضحى: 3] ما تركك و ما أبغضك.
ص: 385
فَانْصَبْ [الشرح: 7] في الدعاء.
إِيلافِهِمْ [قريش: 2] لزومهم.
شانِئَكَ [الكوثر: 3] عدوّك.
اَلصَّمَدُ [الإخلاص: 2] السيد الذي كمل في سؤدده.
اَلْفَلَقِ [الفلق: 1] الخلق.
هذا لفظ ابن عباس، أخرجه ابن جرير و ابن أبي حاتم في تفسيرهما مفرقا، فجمعته، و هو و إن لم يستوعب غريب القرآن فقد أتى على جملة صالحة منه.
و هذه ألفاظ لم تذكر في هذه الرواية سقتها من نسخة الضحاك عنه: قال ابن أبي حاتم:
حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا منجاب بن الحارث ح:
و قال ابن جرير: حدّثت عن المنجاب، حدّثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضّحاك، عن ابن عباس في قوله تعالى:
اَلْحَمْدُ لِلّهِ [الفاتحة: 2] قال: الشكر للّه. رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] قال:
الخلق كلّه.
لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] المؤمنين الذين يتقون الشرك و يعملون بطاعتي. وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة: 3] إتمام الركوع و السجود و التلاوة و الخشوع و الإقبال عليها. مَرَضٌ [البقرة: 10] نفاق. عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10] نكال موجع. يَكْذِبُونَ [البقرة: 10] يبدّلون و يحرّفون. اَلسُّفَهاءُ [البقرة: 13] الجهّال. طُغْيانِهِمْ [البقرة: 15] كفرهم. كَصَيِّبٍ [البقرة: 19] المطر. أَنْداداً [البقرة: 22] أشباها. (التقديس) التطهير. رَغَداً [البقرة: 35] سعة المعيشة. وَ لا تَلْبِسُوا [البقرة: 42] تخلطوا. أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] يضرّون.
وَ قُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58] قولوا: هذا الامر حق كما قيل لكم. اَلطُّورَ [البقرة: 63] ما أنبت من الجبال، و ما لم ينبت فليس بطور. خاسِئِينَ [البقرة: 65] ذليلين. نَكالاً [البقرة: 66] عقوبة. لِما بَيْنَ يَدَيْها [البقرة: 66] من بعدهم. وَ ما خَلْفَها [البقرة: 66] الذين بقوا معهم. وَ مَوْعِظَةً [البقرة: 66] تذكرة. بِما فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 76] بما أكرمكم به. بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87] الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى.
قانِتُونَ [البقرة: 116] مطيعون. اَلْقَواعِدَ [البقرة: 127] أساس البيت. صِبْغَةَ اللّهِ [البقرة: 138] دين اللّه. أَ تُحَاجُّونَنا [البقرة: 139] أ تخاصموننا. يُنْظَرُونَ [البقرة: 162] يؤخّرون. أَلَدُّ الْخِصامِ [البقرة: 204] شديد الخصومة. فِي السِّلْمِ [البقرة: 208] في الطاعة. كَافَّةً [البقرة: 208] جميعا.
ص: 386
كَدَأْبِ [آل عمران: 11] كصنع. بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] بالعدل.
اَلْأَكْمَهَ [آل عمران: 49] الذي يولد و هو أعمى. رَبّانِيِّينَ [آل عمران: 79] علماء فقهاء. وَ لا تَهِنُوا [آل عمران: 139] و لا تضعفوا.
وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: 46] يقولون: اسمع لا سمعت. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ [النساء:
46] تحريفا بالكذب. إِلاّ إِناثاً [النساء: 117] موتى.
وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة: 12] أعنتموهم. لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ [المائدة: 80] قال: أمرتهم.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام: 23] حجّتهم. بِمُعْجِزِينَ [الأنعام: 134] السابقين.
قَوْماً عَمِينَ [الأعراف: 64] كفّارا. بَصْطَةً [الأعراف: 69] شدّة. وَ لا تَبْخَسُوا [الأعراف: 85] لا تظلموا. وَ الْقُمَّلَ [الأعراف: 133] الجراد الذي ليس له أجنحة.
يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] يبنون. مُتَبَّرٌ [الأعراف: 139] هالك. فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الأعراف: 145] بجدّ و حزم. إِصْرَهُمْ [الأعراف: 157] عهدهم و مواثيقهم. مُرْساها [الأعراف: 187] منتهاها. خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] أنفق الفضل. وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199] بالمعروف.
وَجِلَتْ [الأنفال: 2] فرقت. اَلْبُكْمُ [الأنفال: 22] الخرس. فُرْقاناً [الأنفال:
29] نصرا. بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا [الأنفال: 42] شاطئ الوادي.
إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً [التوبة: 8] الإلّ: القرابة، و الذمّة: العهد. أَنّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:
30] كيف يكذبون. ذلِكَ الدِّينُ [التوبة: 36] القضاء. عَرَضاً [التوبة: 42] غنيمة.
اَلشُّقَّةُ [التوبة: 42] المسير. فَثَبَّطَهُمْ [التوبة: 46] حبسهم. مَلْجَأً [التوبة: 57] الحرز في الجبل. أَوْ مَغاراتٍ [التوبة: 57] الأسراب في الأرض المخيفة. أَوْ مُدَّخَلاً [التوبة: 57] المأوى. وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة: 60] السعاة. نَسُوا اللّهَ [التوبة: 67] تركوا طاعة اللّه. فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] تركهم من ثوابه و كرامته. بِخَلاقِهِمْ [التوبة: 69] بدينهم. اَلْمُعَذِّرُونَ [التوبة: 90] أهل العذر. مَخْمَصَةٌ [التوبة: 120] مجاعة. غِلْظَةً [التوبة: 123] شدّة. يُفْتَنُونَ [التوبة: 126] يبتلون. عَزِيزٌ [التوبة: 128] شديد. ما عَنِتُّمْ [التوبة: 128] ما شقّ عليكم.
ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ [يونس: 71] انهضوا إليّ. وَ لا تُنْظِرُونِ [يونس: 71] تؤخّرون.
حَقَّتْ [يونس: 23] سبقت.
وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها [هود: 6] يأتيها رزقها حيث كانت مُنِيبٌ [هود: 75] المقبل إلى
ص: 387
طاعة اللّه. وَ لا يَلْتَفِتْ [هود: 81] يتخلّف. وَ لا تَعْثَوْا [هود: 85] تسعوا.
هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] تهيّأت لك، و كان يقرؤها مهموزة. وَ أَعْتَدَتْ [يوسف:
31] هيّأت. عَلَى الْعَرْشِ [يوسف: 100] السرير. هذِهِ سَبِيلِي [يوسف: 108] دعوتي.
اَلْمَثُلاتُ [الرعد: 6] ما أصاب القرون الماضية من العذاب. اَلْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ [الرعد: 9] السرّ و العلانية. شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 13] شديد المكر و العداوة.
عَلى تَخَوُّفٍ [النحل: 47] نقص من أعمالهم. وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ألهمها.
وَ أَضَلُّ سَبِيلاً [الإسراء: 72] أبعد حجّة. قَبِيلاً [الإسراء: 92] عيانا.
وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً [الإسراء: 110] اطلب بين الإعلان و الجهر، و بين التخافت و الخفض، طريقا لا جهرا شديدا و لا خفضا لا يسمع أذنيك.
رُطَباً جَنِيًّا [مريم: 25] طريّا.
أَنْ يَفْرُطَ [طه: 45] يعجل. يَطْغى [طه: 45] يعتدي. لا تَظْمَؤُا [طه: 119] لا تعطش. وَ لا تَضْحى [طه: 119] لا يصيبك حرّ.
إِلى رَبْوَةٍ [المؤمنون: 50] المكان المرتفع. ذاتِ قَرارٍ [المؤمنون: 50] خصب.
وَ مَعِينٍ [المؤمنون: 50] ماء طاهر. أُمَّتُكُمْ [المؤمنون: 52] دينكم.
تَبارَكَ [الفرقان: 1] تفاعل من البركة.
كَرَّةً [الشعراء: 102] رجعة.
خاوِيَةً [النمل: 52] سقط أعلاها على أسفلها. فَلَهُ خَيْرٌ [النمل: 89] ثواب.
يُبْلِسُ [الروم: 12] ييأس.
جُدَدٌ [فاطر: 27] طرائق.
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] طريق النار. وَ قِفُوهُمْ [الصافات: 24] احبسوهم.
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات: 24] محاسبون. ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) [الصافات: 25] تمانعون.
مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 26] مستنجدون. وَ هُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] مسيء مذنب.
فُصِّلَتْ [فصلت: 3] بيّنت. وَ الْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] عيبوه.
مُهْطِعِينَ [القمر: 8] مقبلين.
وَ بُسَّتِ [الواقعة: 5] فتت. وَ لا يُنْزِفُونَ [الواقعة: 19] لا يقيئون كما يقيء صاحب
ص: 388
خمر الدنيا. اَلْحِنْثِ الْعَظِيمِ [الواقعة: 46] الشّرك.
اَلْمُهَيْمِنُ [الحشر: 23] الشاهد. اَلْعَزِيزُ [الحشر: 23] المقتدر على ما يشاء.
اَلْحَكِيمُ [الحشر: 24] المحكم لما أراد.
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون: 4] نخل.
مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] تشقّق. وَ هُوَ حَسِيرٌ [الملك: 4] كليل ضعيف.
لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً [نوح: 13] لا تخافون له عظمة.
جَدُّ رَبِّنا [الجن: 3] عظمته.
أَتانَا الْيَقِينُ [المدثر: 47] الموت.
يَتَمَطّى [القيامة: 33] يختال.
أَتْراباً [النبأ: 33] في سنّ واحد، ثلاث و ثلاثين سنة.
مُرْساها [النازعات: 42] منتهاها.
مَتاعاً لَكُمْ [عبس: 32] منفعة.
مَمْنُونٍ [الانشقاق: 25] منقوص.
قال أبو بكر بن الأنباري: قد جاء عن الصحابة و التابعين. كثيرا. الاحتجاج على غريب القرآن و مشكله بالشّعر. و أنكر جماعة. لا علم لهم. على النحويّين ذلك، و قالوا: إذا فعلتم ذلك جعلتم الشّعر أصلا للقرآن. و قالوا: و كيف يجوز أن يحتجّ بالشّعر على القرآن، و هو مذموم في القرآن و الحديث؟؟!! قال: و ليس الأمر كما زعموه من أنّا جعلنا الشّعر أصلا للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشّعر؛ لأنّ اللّه تعالى قال: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 3]. و قال:
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الشعراء: 195].
و قال ابن عباس: الشّعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن. الّذي أنزله اللّه بلغة العرب. رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
ص: 389
ثم أخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنّ الشّعر ديوان العرب(1).
و قال أبو عبيد في فضائله: حدّثنا هشيم؛ عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة؛ عن ابن عباس: أنّه كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر(2).
قال أبو عبيد(3): يعني كان يستشهد به على التفسير.
قلت: قد روينا عن ابن عباس كثيرا من ذلك؛ و أوعب ما رويناه عنه مسائل نافع بن الأزرق؛ و قد أخرج بعضها ابن الأنباريّ في كتاب «الوقف» و الطّبراني في معجمه الكبير(4)، و قد رأيت أن أسوقها هنا بتمامها لتستفاد:
أخبرني أبو عبد اللّه محمد بن علي الصالحي بقراءتي عليه، عن أبي إسحاق التنوخي، عن القاسم بن عساكر: أنبأنا أبو نصر محمد بن عبد اللّه الشيرازي: أنبأنا أبو المظفر محمد بن أسعد العراقي: أنبأنا أبو علي محمد بن سعيد بن نبهان الكاتب: أنبأنا أبو علي بن شاذان:
حدّثنا أبو الحسين عبد الصمد بن علي بن محمد بن مكرم المعروف بابن الطسّيّ: حدّثنا أبو سهل السريّ بن سهل الجنديسابوري: حدّثنا يحيى بن أبي عبيدة بحر بن فروخ المكي: أنبأنا سعيد بن أبي سعيد: أنبأنا عيسى بن دأب، عن حميد الأعرج و عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد، عن أبيه قال: بينا عبد اللّه بن عباس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب اللّه فتفسرها لنا، و تأتينا بمصادقه من كلام العرب، فإن اللّه تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربيّ مبين. فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما. فقال نافع:
أخبرني عن قول اللّه تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) [المعارج: 37] قال:
العزون: حلق الرّفاق.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ة.
ص: 390
قال: نعم أما سمعت عبيد بن الأبرص و هو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا(1)
قال: أخبرني عن قوله: وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35] قال: الوسيلة:
الحاجة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة و هو يقول:
إنّ الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحّلي و تخضّبي(2)
قال: أخبرني عن قوله: شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً [المائدة: 48] قال: الشرعة: الدين، و المنهاج: الطريق.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و هو يقول:
لقد نطق المأمون بالصّدق و الهدى و بيّن للإسلام دينا و منهجا(3)
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ [الأنعام: 99] قال: نضجه و بلاغه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إذا ما مشت وسط النساء تأوّدت كما اهتزّ غصن ناعم النّبت يانع
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ رِيشاً [الأعراف: 26] قال: الريش المال.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر(4) يقول:
فرشني بخير طالما قد بريتني و خير الموالي من يريش و لا يبري
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) [البلد: 4] قال: في اعتدال و استقامة.6.
ص: 391
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة و هو يقول:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا و قام الخصوم في كبد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ [النور: 43] قال: السنّا الضوء.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث، يقول:
يدعو إلى الحقّ لا يبغي به بدلا يجلو بضوء سناه داجي الظّلم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ حَفَدَةً [النحل: 72] قال: ولد الولد، و هم الأعوان.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
حفد الولائد حولهنّ و أسلمت بأكفهن أزمّة الأحمال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا [مريم: 13]. قال: رحمة من عندنا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد: 31] قال: أ فلم يعلم، بلغة بني مالك.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت مالك بن عوف يقول:
لقد يئس الأقوام أنّي أنا ابنه و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مَثْبُوراً [الإسراء: 102]. قال: ملعونا محبوسا من الخير.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبد اللّه بن الزبعرى يقول:
إذ أتاني الشّيطان في سنة النّو م و من مال ميله مثبورا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ [مريم: 23]. قال: ألجأها.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت حسّان بن ثابت يقول:
إذ شددنا شدّة صادقة فأجأناكم إلى سفح الجبل
ص: 392
قال: أخبرني عن قوله تعالى: نَدِيًّا [مريم: 73]؟ قال: النّادي المجلس.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
يومان يوم مقامات و أندية و يوم سير إلى الأعداء تأويب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَثاثاً وَ رِءْياً [مريم: 74]؟ قال: الأثاث المتاع، و الرئي من الشراب.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
كأنّ على الحمول غداة ولّوا من الرئي الكريم من الأثاث
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) [طه: 106]؟ قال: القاع: الأملس، و الصفصف: المستوي.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
بملمومة شهباء لو قذفوا بها شماريخ من رضوى إذن عاد صفصفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119) [طه: 119]؟ قال: لا تعرق فيها من شدّة حرّ الشمس.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
رأت رجلا أمّا إذا الشّمس عارضت فيضحى و أمّا بالعشيّ فيخصر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَهُ خُوارٌ [الأعراف: 148]؟ قال: له صياح.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
كأنّ بني معاوية بن بكر إلى الإسلام صائحة تخور
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي [طه: 42]؟ قال: لا تضعفا عن أمري.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ص: 393
إنّي و جدّك ما ونيت و لم أزل أبغي الفكاك له بكلّ سبيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ [الحج: 36]؟ قال: القانع الذي يقنع بما أعطي، و المعترّ: الذي يعترض الأبواب.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
على مكثريهم حقّ معترّ بابهم و عند المقلّين السّماحة و البذل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45]؟ قال: مشيّد بالجص و الآجرّ.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عديّ بن زيد يقول:
شاده مرمرا و جلّله كلسا فللطير في ذراه و كور
قال: أخبرني عن قوله تعالى: شُواظٌ [الرحمن: 35]؟ قال: الشّواظ: اللهب الذي لا دخان له.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أميّة بن أبي الصلت:
يظلّ يشبّ كيرا بعد كير و ينفخ دائبا لهب الشّواظ
قال: أخبرني عن قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1]؟ قال: فازوا و سعدوا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
فاعقلي إن كنت لمّا تعقلي و لقد أفلح من كان عقل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران: 13]؟ قال: يقوّي.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حسان بن ثابت:
برجال لستمو أمثالهم أيّدوا جبريل نصرا فنزل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ نُحاسٌ [الرحمن: 35]؟ قال: هو الدّخان الذي لا لهب فيه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟
ص: 394
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
يضيء كضوء سراج السّليط لم يجعل اللّه فيه نحاسا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَمْشاجٍ [الإنسان: 2]؟ قال: اختلاط ماء الرجل و ماء المرأة إذا وقع في الرّحم.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي ذؤيب:
كأنّ الرّيش و الفوق منه خلال النّصل خالطه مشيج
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ فُومِها [البقرة: 61]؟ قال: الحنطة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي محجن الثّقفيّ:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد قدم المدينة عن زراعة فوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61) [النجم: 61]؟ قال: السّمود اللهو و الباطل.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول هزيلة بنت بكر، و هي تبكي قوم عاد:
ليت عادا قبلوا الحق و لم يبدوا جحودا
قيل فقم فانظر إليهم ثم دع عنك السّمودا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47]؟ قال: ليس فيها نتن و لا كراهية كخمر الدنيا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
ربّ كأس شربت لا غول فيها و سقيت النّديم منها مزاجا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) [الانشقاق: 18]؟ قال: اتّساقه: اجتماعه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
إنّ لنا قلائصا نقانقا مستوسقات لو تجدن سائقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 39]؟
ص: 395
قال: باقون، لا يخرجون منها أبدا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عديّ بن زيد:
فهل من خالد إمّا هلكنا و هل بالموت يا للناس عار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ [سبأ: 13]؟ قال: كالحياض.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
كالجوابي لا تني مترعة لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]؟ قال: الفجور و الزنى.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
حافظ للفرج راض بالتّقى ليس ممن قلبه فيه مرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات: 11]؟ قال: الملتزق.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول النابغة:
فلا يحسبون الخير لا شرّ بعده و لا يحسبون الشّرّ ضربة لازب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَنْداداً [البقرة: 22]؟ قال: الأشباه و الأمثال.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
أحمد اللّه فلا ندّ له بيديه الخير ما شاء فعل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 67]؟ قال: الخلط بماء الحميم و الغساق.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ص: 396
قال: أخبرني عن قوله تعالى: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16]؟ قال: القطّ الجزاء.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
و لا الملك النّعمان يوم لقيته بنعمته يعطي القطوط و يطلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26]؟ قال: الحمأ السواد، و المسنون: المصوّر.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب:
أغرّ كأنّ البدر شقة وجهه جلا الغيم عنه ضوءه فتبدّدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْبائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28]؟ قال: البائس الّذي لا يجد شيئا من شدّة الحال.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة:
يغشاهم البائس المدقع و الضّيف و جار مجاور جنب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ماءً غَدَقاً [الجن: 16]؟ قال: كثيرا جاريا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تدني كراديس ملتفا حدائقها كالنّبت جادت بها أنهارها غدقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِشِهابٍ قَبَسٍ [النمل: 7]؟ قال: شعلة من نار يقتبسون منه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
همّ عراني فبتّ أدفعه دون سهادي كشعلة القبس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10]
ص: 397
قال: الأليم: الوجيع.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
نام من كان خليّا من ألم و بقيت اللّيل طولا لم أنم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ [المائدة: 46]؟ قال: أتبعنا على آثار الأنبياء، أي: بعثنا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عديّ بن زيد:
يوم قفّت عيرهم من عيرنا و احتمال الحيّ في الصّبح فلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِذا تَرَدّى [الليل: 11]؟ قال: إذا مات و تردّى في النار.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عديّ بن زيد:
خطفته منيّة فتردّى و هو في الملك يأمل التّعميرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ [القمر: 54]؟ قال: النّهر: السّعة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَضَعَها لِلْأَنامِ [الرحمن: 10]؟ قال: الخلق.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا ممّ نحن فإنّنا عصافير من هذي الأنام المسحّر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: 14]؟ قال: أن لن يرجع، بلغة الحبشة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
و ما المرء إلاّ كالشّهاب و ضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ص: 398
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا [النساء: 3]؟ قال: أجدر ألا تميلوا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إنّا تبعنا رسول اللّه و اطّرحوا قول النّبيّ و عالوا في الموازين
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ هُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142]؟ قال: المسيء المذنب.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أميّة بن أبي الصلت:
من الآفات ليس لها بأهل و لكنّ المسيء هو المليم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران: 152]؟ قال: تقتلونهم.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
و منّا الّذي لاقى بسيف محمّد فحسّ به الأعداء عرض العساكر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ما أَلْفَيْنا [البقرة: 170].
قال: يعني وجدنا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
فحسّبوه فألفوه كما زعمت تسعا و تسعين لم تنقص و لم تزد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: جَنَفاً [البقرة: 182]؟ قال: الجور و الميل في الوصيّة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
و أمّك يا نعمان في أخواتها تأتين ما يأتينه جنفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ [الأنعام: 42]؟ قال: البأساء الخصب، و الضرّاء: الجدب.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زيد بن عمرو:
ص: 399
إن الإله عزيز واسع حكم بكفّه الضّر و البأساء و النّعم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِلاّ رَمْزاً [آل عمران: 41]؟ قال: الإشارة باليد و الإيماء بالرأس.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ما في السّماء من الرحمن مرتمز إلاّ إليه و ما في الأرض من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185]؟ قال: سعد و نجا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عبد اللّه بن رواحة:
و عسى أن أفوز ثمّت ألقى حجة أتّقي بها الفتّانا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ [آل عمران: 64]؟ قال: عدل.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلاقينا فقاضينا سواء و لكن جرّ عن حال بحال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: 119].
قال: السفينة. الموقرة.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى تركناهم أذلّ من الصّراط
قال: أخبرني عن قوله تعالى: زَنِيمٍ [القلم: 13]؟ قال: ولد الزنى.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
زنيم تداعته الرّجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع
قال: أخبرني عن قوله تعالى: طَرائِقَ قِدَداً [الجن: 11]؟ قال: المنقطعة في كلّ وجه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟
ص: 400
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
و لقد قلت و زيد حاسر يوم ولّت خيل زيد قددا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق: 1]؟ قال: الصبح إذا انفلق من ظلمة الليل.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
الفارج الهمّ مسدولا عساكره كما يفرّج غمّ الظّلمة الفلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنْ خَلاقٍ [البقرة: 102]؟ قال: نصيب.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أميّة بن أبي الصلت:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلاّ سرابيل من قطر و أغلال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة: 116]؟ قال: مقرّون.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عديّ بن زيد:
قانتا للّه يرجو عفوه يوم لا يكفر عبد ما ادّخر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: جَدُّ رَبِّنا [الجن: 3]؟ قال: عظمة ربّنا.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أميّة بن أبي الصلت:
لك الحمد و النّعماء و الملك ربّنا فلا شيء أعلى منك جدا و أمجد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44]؟ قال: الآن الذي انتهى طبخه و حرّه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
و يخضب لحية غدرت و خانت بأحمى من نجيع الجوف آن
قال: أخبرني عن قوله تعالى: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [الأحزاب: 19]؟
ص: 401
قال: الطّعن باللسان.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
فيهم الخصب و السّماحة و النّجدة فيهم و الخاطب المسلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ أَكْدى [النجم: 34]؟ قال: كدّره بمنّه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
و أعطى قليلا ثمّ أكدى بمنّه و من ينشر المعروف في النّاس يحمد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا وَزَرَ [القيامة: 11]؟ قال: الوزر: الملجأ.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عمرو بن كلثوم:
لعمرك ما إن له صخرة لعمرك ما إن له من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: قَضى نَحْبَهُ [الأحزاب: 23]؟ قال: أجله الّذي قدّر له.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
أ لا تسألان ما ذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال و باطل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ذُو مِرَّةٍ [النجم: 6]؟ قال: ذو شدّة في أمر اللّه.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
و هنا قرى ذي مرّة حازم قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْمُعْصِراتِ [النبأ: 14]؟ قال: السّحاب يعصر بعضها بعضا، فيخرج الماء من بين السّحابتين.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول النابغة:
تجرّ بها الأرواح من بين شمأل و بين صباها المعصرات الدّوامس
ص: 402
قال: أخبرني عن قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ [القصص: 35]؟ قال: العضد المعين الناصر.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول النابغة:
في ذمّة من أبي قابوس منقذة للخائفين و من ليست له عضد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِي الْغابِرِينَ [الشعراء: 171]؟ قال: في الباقين.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
ذهبوا و خلفني المخلّف فيهم فكأنني في الغابرين غريب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَلا تَأْسَ [المائدة: 26]؟ قال: لا تحزن.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى و تجمّل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَصْدِفُونَ [الأنعام: 46]؟ قال: يعرضون عن الحقّ.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي سفيان:
عجبت لحلم اللّه عنّا و قد بدا له صدفنا عن كلّ حقّ منزّل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَنْ تُبْسَلَ [الأنعام: 70]؟ قال: تحبس.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير:
و فارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فقلبي مبسل غلقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَلَمّا أَفَلَتْ [الأنعام: 78]؟ قال: زالت الشمس عن كبد السماء.
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟
ص: 403
قال: نعم، أما سمعت قول كعب بن مالك:
فتغيّر القمر المنير لفقده و الشمس قد كسفت و كادت تأفل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كَالصَّرِيمِ [القلم: 20]؟ قال: الذّاهب. أما سمعت قول الشاعر:
غدوت عليه غدوة فوجدته قعودا لديه بالصريم عواذله
قال: أخبرني عن قوله تعالى: تَفْتَؤُا [يوسف: 85]؟ قال: لا تزال، أما سمعت قول الشاعر:
لعمرك ما تفتا تذكر خالدا و قد غاله ما غال تبّع من قبل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31]؟ قال: مخافة الفقر، أما سمعت قول الشاعر:
و إنّي على الإملاق يا قوم ماجد أعدّ لأضيافي الشّواء المضهّبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حَدائِقَ [النمل: 60]؟ قال: البساتين، أما سمعت قول الشاعر:
بلاد سقاها اللّه أمّا سهولها فقضب و درّ مغدق و حدائق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مُقِيتاً [النساء: 85].
قال: قادرا مقتدرا، أما سمعت قول أحيحة الأنصاريّ:
و ذي ضغن كففت النفس عنه و كنت على مساءته مقيتا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ [البقرة: 255]؟ قال: لا يثقله، أما سمعت قول الشاعر:
يعطي المئين و لا يئوده حملها محض الضّرائب ماجد الأخلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: سَرِيًّا [مريم: 24]؟ قال: النّهر الصغير، أما سمعت قول الشاعر:
سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السريّ تمدّه الأنهار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ كَأْساً دِهاقاً (34) [النبأ: 34]؟ قال: ملأى، أما سمعت قول الشاعر:
أتانا عامر يرجو قرانا فأترعنا له كأسا دهاقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَكَنُودٌ [العاديات: 6]؟
ص: 404
قال: كفور للنّعم، و هو الذي يأكل وحده، و يمنع رفده، و يجيع عبده. أما سمعت قول الشاعر:
شكرت له يوم العكاظ نواله و لم أك للمعروف ثمّ كنودا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ [الإسراء: 51]؟ قال: يحرّكون رءوسهم استهزاء، أما سمعت قول الشاعر:
أ تنغض لي يوم الفخار و قد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يُهْرَعُونَ [هود: 78]؟ قال: يقبلون إليه بالغضب، أما سمعت قول الشاعر:
أتونا يهرعون و هم أسارى نسوقهم على رغم الأنوف
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود: 99]؟ قال: بئس اللعنة بعد اللّعنة، أما سمعت قول الشاعر:
لا تقذفنّي بركن لا كفاء له و إن تأثّفك الأعداء بالرّفد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101]؟ قال: تخسير، أما سمعت قول بشر بن أبي خازم:
هم جدعوا الأنوف فأوعبوها و هم تركوا بني سعد تبابا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هود: 81] ما القطع؟ قال: آخر الليل سحرا، قال مالك بن كنانة:
و نائحة تقوم بقطع ليل على رجل أصابته شعوب
أي: داهية.
قال: أخبرني عن قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]؟ قال: تهيّأت لك، أما سمعت قول أحيحة الأنصاريّ:
به أحمي المضاف إذا دعاني إذا ما قيل للأبطال هيتا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77]؟ قال: شديد، أما سمعت قول الشاعر:
هم ضربوا قوانس خيل حجر بجنب الرّده في يوم عصيب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مُؤْصَدَةٌ [الهمزة: 8]؟ قال: مطبقة، أما سمعت قول الشاعر:
ص: 405
تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي و من دوننا أبواب صنعاء مؤصدة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38]؟ قال: لا يفترون و لا يملّون، أما سمعت قول الشاعر:
من الخوف لا ذو سأمة من عبادة و لا هو من طول التعبّد يجهد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: طَيْراً أَبابِيلَ [الفيل: 3]؟ قال: ذاهبة و جائية، تنقل الحجارة بمناقيرها و أرجلها، فتبلبل عليهم فوق رءوسهم، أما سمعت قول الشاعر:
و بالفوارس من ورقاء قد علموا أحلاس خيل على جرد أبابيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191]؟ قال: وجدتموهم، أما سمعت قول حسان:
فإمّا تثقفنّ بني لؤيّ جذيمة إنّ قتلهم دواء
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) [العاديات: 4]؟ قال: النّقع ما يسطع من حوافر الخيل، أما سمعت قول حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النّقع موعدها كداء
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55]؟ قال: وسط الجحيم، أما سمعت قول الشاعر:
رماها بسهم فاستوى في سوائها و كان قبولا للهوى ذي الطّوارق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: سِدْرٍ مَخْضُودٍ [الواقعة: 28]؟ قال: الذي ليس له شوك، أما سمعت قول أميّة بن أبي الصلت:
إنّ الحدائق في الجنان ظليلة فيها الكواعب سدرها مخضود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: طَلْعُها هَضِيمٌ [الشعراء: 148]؟ قال: منضم بعضه إلى بعض، أما سمعت قول امرئ القيس:
دار لبيضاء العوارض طفلة مهضومة الكشحين ريّا المعصم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: قَوْلاً سَدِيداً [الأحزاب: 70]؟ قال: قولا عدلا حقّا، أما سمعت قول حمزة:
أمين على ما استودع اللّه قلبه فإن قال قولا كان فيه مسدّدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً [التوبة: 8]؟ قال: الإلّ القرابة، و الذمّة العهد، أما سمعت قول الشاعر:
ص: 406
جزى اللّه إلاّ كان بيني و بينهم جزاء ظلوم لا يؤخّر عاجلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: خامِدِينَ [الأنبياء: 15]؟ قال: ميّتين، أما سمعت قول لبيد:
حلّوا ثيابهم على عوراتهم فهم بأفنية البيوت خمود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف: 96]؟ قال: قطع الحديد. أما سمعت قول كعب بن مالك:
تلظّى عليهم حين أن شدّ حميها بزبر الحديد و الحجارة ساجر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَسُحْقاً [الملك: 11]؟ قال: بعدا، أما سمعت قول حسان:
ألا من مبلغ عنّي أبيّا فقد ألقيت في سحق السّعير
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِلاّ فِي غُرُورٍ [الملك: 20]؟ قال: في باطل، أما سمعت قول حسّان:
تمنّتك الأماني من بعيد و قول الكفر يرجع في غرور
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ حَصُوراً [آل عمران: 39]؟ قال: الّذي لا يأتي النساء، أما سمعت قول الشاعر:
و حصور عن الخنا يأمر النّا س بفعل الخيرات و التّشمير
قال: أخبرني عن قوله تعالى: عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان: 10]؟ قال: الذي ينقبض وجهه من شدّة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
و لا يوم الحساب و كان يوما عبوسا في الشّدائد قمطريرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42]؟ قال: عن شدّة الآخرة، أما سمعت قول الشاعر:
قد قامت بنا الحرب على ساق قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِيابَهُمْ [الغاشية: 25]؟ قال: الإياب: المرجع؛ أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
و كلّ ذي غيبة يئوب و غائب الموت لا يئوب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حُوباً [النساء: 2]؟ قال: إثما، بلغة الحبشة.
ص: 407
قال: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
فإنّي و ما كلفتموني من أمركم ليعلم من أمسى أعقّ و أحوبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْعَنَتَ [النساء: 25]؟ قال: الإثم، أما سمعت قول الشاعر:
رأيتك تبتغي عنتي و تسعى مع السّاعي عليّ بغير ذحل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَتِيلاً [النساء: 49]؟ قال: التي تكون في شق النواة، أما سمعت قول النابغة:
يجمع الجيش ذا الألوف و يغزو ثمّ لا يرزأ الأعادي فتيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13]؟ قال: الجلدة البيضاء الّتي على النواة، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
لم أنل منهم فسيطا و لا زبدا و لا فوفة و لا قطميرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَرْكَسَهُمْ [النساء: 88]؟ قال: حبسهم، أما سمعت قول أمية:
أركسوا في جهنّم إنهم كا نوا عتاة يقولون كذبا و زورا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها [الإسراء: 16]؟ قال: سلّطنا، أما سمعت قول لبيد:
إن يغبطوا ييسروا و إن أمروا يوما يصيروا للهلك و الفقد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101]؟ قال: يضلّكم بالعذاب و الجهد، بلغة هوازن، أما سمعت قول الشاعر:
كلّ امرئ من عباد اللّه مضطهد ببطن مكة مقهور و مفتون
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا [الأعراف: 92]؟ قال: كأن لم يكونوا، أما سمعت قول لبيد:
و غنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنّفس اللجوج خلود
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْعَذابِ الْهُونِ [الأنعام: 93]؟ قال: الهوان، أما سمعت قول الشاعر:
إنّا وجدنا بلاد اللّه واسعة تنجي من الذّلّ و المخزاة و الهون
ص: 408
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء: 124]؟ قال: النقير: ما في شق النواة، و منه تنبت النخلة، أما سمعت قول الشاعر:
و ليس الناس بعدك في نقير و ليسوا غير أصداء و هام
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا فارِضٌ [البقرة: 68]؟ قال: الهرمة، أما سمعت قول الشاعر:
لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا يساق إليه ما يقوم على رجل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187]؟ قال: بياض النهار من سواد الليل؛ و هو الصبح إذا انفلق، أما سمعت قول أمية:
الخيط الأبيض ضوء الصّبح منفلق و الخيط الأسود لون الليل مكموم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ [90]؟ قال: باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا، أما سمعت قول الشاعر:
يعطى بها ثمنا فيمنعها و يقول صاحبها أ لا تشري
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حُسْباناً مِنَ السَّماءِ [الكهف: 40]؟ قال: نار من السماء، أما سمعت قول حسّان:
بقيّة معشر صبّت عليهم شآبيب من الحسبان شهب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ [طه: 111]؟ قال: استسلمت و خضعت، أما سمعت قول الشاعر:
ليبك عليك كلّ عان بكربة و آل قصيّ من مقلّ و ذي وفر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه: 124]؟ قال: الضنك الضيق الشديد، أما سمعت قول الشاعر:
و الخيل قد لحقت بها في مأزق ضنك نواحيه شديد المقدم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ (27) [الحج: 27]؟ قال: طريق، أما سمعت قول الشاعر:
و حازوا العيال و سدّوا الفجاج فأجساد عاد لها آئدان
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7]؟ قال: ذات طرائق، و الخلق الحسن، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
ص: 409
هم يضربون حبيك البيض إذ لحقوا لا ينكصون إذا ما استلحموا و حموا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حَرَضاً [يوسف: 85]؟ قال: الدنف الهالك من شدّة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
أمن ذكر ليلى أن نأت غربة بها كأنّك جمّ للأطبّاء محرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2]؟ قال: يدفعه عن حقّه، أما سمعت قول أبي طالب:
يقسّم حقّا لليتيم و لم يكن يدعّ لدى أيسارهنّ الأصاغرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اَلسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18]؟ قال: منصدع من خوف يوم القيامة، أما سمعت قول الشاعر:
ظباهنّ حتّى أعوض اللّيل دونها أفاطير و سميّ رواه جدورها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]؟ قال: يحبس أوّلهم على آخرهم، حتى تنام الطير، أما سمعت قول الشاعر:
وزعت رعيلها بأقب نهد إذا ما القوم شدّوا بعد خمس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ [الإسراء: 97]؟ قال: الخبو الّذي يطفأ مرّة و يسعّر أخرى، أما سمعت قول الشاعر:
و النار تخبو عن آذانهم و أضرمها إذا ابتدروا سعيرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كَالْمُهْلِ [الكهف: 29]؟ قال: كدرديّ الزيت، أما سمعت قول الشاعر:
تبارى بها العيس السّموم كأنّها تبطنت الأقراب من عرق مهلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَخْذاً وَبِيلاً [المزمل: 16]؟ قال: شديدا ليس له ملجأ، أما سمعت قول الشاعر:
و خزي الحياة و خزي الممات و كلاّ أراه طعاما وبيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36]؟ قال: هربوا بلغة اليمن، أما سمعت قول عديّ بن زيد:
نقبوا في البلاد من حذر المو ت و جالوا في الأرض أيّ مجال
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِلاّ هَمْساً [طه: 108]؟ قال: الوطء الخفيّ و الكلام الخفيّ، أما سمعت قول الشاعر:
ص: 410
فباتوا يدلجون و بات يسري بصير بالدّجا هاد هموس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مُقْمَحُونَ [يس: 8]؟ قال: المقمح: الشامخ بأنفه، المنكس رأسه، أما سمعت قول الشاعر:
و نحن على جوانبها قعود نغضّ الطرف كالإبل القماح
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق: 5]؟ المريج الباطل، أما سمعت قول الشاعر:
فراعت فابتدرت بها حشاها فخرّ كأنّه خوط مريج
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71]؟ قال: الحتم: الواجب، أما سمعت قول أميّة:
عبادك يخطئون و أنت ربّ بكفّيك المنايا و الحتوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ أَكْوابٍ [الزخرف: 71]؟ قال: القلال التي لا عرى لها، أما سمعت قول الهذليّ:
فلم ينطق الدّيك حتى ملأت كئوب الدّنان له فاستدارا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات: 47]؟ قال: لا يسكرون، أما سمعت قول عبد اللّه بن رواحة:
ثم لا ينزفون عنها و لكن يذهب الهمّ عنهم و الغليل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كانَ غَراماً [الفرقان: 65]؟ قال: ملازما شديدا كلزوم الغريم الغريم، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
و يوم النّسار و يوم الجفا ر كانا عذابا و كانا غراما
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ التَّرائِبِ [الطارق: 7]؟ قال: هو موضع القلادة من المرأة، أما سمعت قول الشاعر:
و الزّعفران على ترائبها شرقا به اللّبّات و النّحر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح: 12]؟ قال: هلكى بلغة عمان، و هم من اليمن، أما سمعت قول الشاعر:
فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكمو و كافوا به فالكفر بور لصانعه
قال: أخبرني عن قوله تعالى: نَفَشَتْ [الأنبياء: 78]؟ قال: النفش الرّعي بالليل، أما سمعت قول لبيد:
ص: 411
بدّلن بعد النّفش الوجيفا و بعد طول الجرّة الصّريفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَلَدُّ الْخِصامِ [204]؟ قال: الجدل المخاصم في الباطل، أما سمعت قول مهلهل:
إن تحت الأحجار حزما و جودا و خصيما ألدّ ذا معلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69]؟ قال: النضيج ممّا يشوى بالحجارة، أما سمعت قول الشاعر:
لهم راح وقار المسك فيهم و شاويهم إذا شاءوا حنيذا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مِنَ الْأَجْداثِ [يس: 51]؟ قال: القبور، أما سمعت قول ابن رواحة:
حينا يقولون إذا مرّوا على جدثي أرشده يا ربّ من عان و قد رشدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: هَلُوعاً [المعارج: 19]؟ قال: ضجرا جزوعا، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
لا مانعا لليتيم نحلته و لا مكبّا لخلقه هلعا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3]؟ قال: ليس بحين فرار، أما سمعت قول الأعشى:
تذكّرت ليلى حين لات تذكّر و قد بنت منها و المناص بعيد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ دُسُرٍ [القمر: 13]؟ قال: الدّسر الذي تخرز به السفينة، أما سمعت قول الشاعر:
سفينة نوتيّ قد أحكم صنعها منحتة الألواح منسوجة الدّسر
قال: أخبرني عن قوله تعالى: رِكْزاً [مريم: 98]؟ قال: حسّا، أما سمعت قول الشاعر:
و قد توجّس ركزا مقفر ندس بنبأة الصّوت ما في سمعه كذب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: باسِرَةٌ [القيامة: 24]؟ قال: كالحة، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
صبحنا تميما غداة النّسا ر شهباء ملمومة باسرة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ضِيزى [النجم: 22]؟ قال: جائرة، أما سمعت قول امرئ القيس:
ص: 412
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يعدلون الرأس بالذّنب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259]؟ قال: لم تغيّره السنون، أما سمعت قول الشاعر:
طاب منه الطّعم و الرّيح معا لن تراه متغيّرا من أسن
قال: أخبرني عن قوله تعالى: خَتّارٍ [لقمان: 32].
قال: الغدار الظلوم الغشوم، أما سمعت قول الشاعر:
لقد علمت و استيقنت ذات نفسها بألاّ تخاف الدّهر صرمي و لا ختري
قال: أخبرني عن قوله تعالى: عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ: 12]؟ قال: الصّفر، أما سمعت قول الشاعر:
فألقى في مراجل من حديد قدور القطر ليس من البراة
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أُكُلٍ خَمْطٍ [سبأ: 16]؟ قال: الأراك، أما سمعت قول الشاعر:
و ما مغزل فرد تراعي بعينها أغنّ غضيض الطّرف من خلل الخمط
قال: أخبرني عن قوله تعالى: اِشْمَأَزَّتْ [الزمر: 45]؟ قال: نفرت، أما سمعت قول عمرو بن كلثوم:
إذا عضّ الثّقاف بها اشمأزّت و ولّته عشوزنة زبونا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: جُدَدٌ [فاطر: 27]؟ قال: طرائق، أما سمعت قول الشاعر:
قد غادر النّسع في صفحاتها جددا كأنّها طرق لاحت على أكم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: أَغْنى وَ أَقْنى [النجم: 48]؟ قال: أغنى من الفقر، و أقنى من الغنى فقنع به، أما سمعت قول عنترة العبسي:
فاقني حياءك لا أبا لك و اعلمي أنّي امرؤ سأموت إن لم أقتل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا يَلِتْكُمْ [الحجرات: 14]؟ قال: لا ينقصكم، بلغة بني عبس، أما سمعت قول الحطيئة العبسيّ:
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة جهد الرّسالة لا ألتا و لا كذبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ أَبًّا [عبس: 31]؟ قال: الأبّ ما تعتلف منه الدواب، أما سمعت قول الشاعر:
ص: 413
ترى به الأبّ و اليقطين مختلطا على الشّريعة يجري تحتها الغرب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235]؟ قال: السّر الجماع، أما سمعت قول امرئ القيس:
أ لا زعمت بسباسة اليوم أنّني كبرت و ألاّ يحسن السّرّ أمثالي
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10]؟ قال: ترعون، أما سمعت قول الأعشى:
و مشى القوم بالعماد إلى الدّر حاء و أعيا المسيم أين المساق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً [نوح: 13]؟ قال: لا تخشون للّه عظمة، أما سمعت قول أبي ذؤيب:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها و خالفها في بيت نوب عواسل
قال: أخبرني عن قوله تعالى: ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16]؟ قال: ذا حاجة و جهد، أما سمعت قول الشاعر:
تربت يد لك ثمّ قلّ نوالها و ترفعت عنك السّماء سجالها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مُهْطِعِينَ [إبراهيم: 43]؟ قال: مذعنين خاضعين، أما سمعت قول تبّع:
تعبّدني نمر بن سعد و قد درى و نمر بن سعد لي مدين و مهطع
قال: أخبرني عن قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65]؟ قال: ولدا، أما سمعت قول الشاعر:
أما السّميّ فأنت منه مكثر و المال فيه تغتدي و تروح
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يُصْهَرُ [الحج: 20]؟ قال: يذاب، أما سمعت قول الشاعر:
سخنت صهارته فظل عثانه في سيطل كفيت به يتردّد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [القصص: 76]؟ قال: لتثقل، أما سمعت قول امرئ القيس:
تمشي فتثقلها عجيزتها مشي الضّعيف ينوء بالوسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: 12]؟ قال: أطراف الأصابع، أما سمعت قول عنترة:
ص: 414
فنعم فوارس الهيجاء قومي إذا علقوا الأسنّة بالبنان
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِعْصارٌ [البقرة: 266]؟ قال: الريح الشديدة، أما سمعت قول الشاعر:
فله في آثارهنّ خوار و حفيف كأنّه إعصار
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مُراغَماً [النساء: 100]؟ قال: منفسحا، بلغة هذيل، أما سمعت قول الشاعر:
و أترك أرض جهرة إنّ عندي رجاء في المراغم و التّعادي
قال: أخبرني عن قوله تعالى: صَلْداً [البقرة: 264]؟ قال: أملس، أما سمعت قول أبي طالب:
و إني لقرم و ابن قرم لهاشم لآباء صدق مجدهم معقل صلد
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم: 3]؟ قال: غير منقوص، أما سمعت قول زهير:
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا يعطي بذلك ممنونا و لا نزقا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: جابُوا الصَّخْرَ [الفجر: 9]؟ قال: نقبوا الحجارة في الجبال، فاتخذوها بيوتا، أما سمعت قول أمية:
و شقّ أبصارنا كيما نعيش بها و جاب للسّمع أصماخا و آذانا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20]؟ قال: كثيرا، أما سمعت قول أمية:
إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّا و أىّ عبد لك لا ألمّا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: غاسِقٍ [الفلق: 3]؟ قال: الظلمة، أما سمعت قول زهير:
ظلّت تجوب يداها و هي لاهية حتى إذا جنح الإظلام و الغسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10]؟ قال: النفاق، أما سمعت قول الشاعر:
أجامل أقواما حياء و قد أرى صدورهم تغلي عليّ مراضها
قال: أخبرني عن قوله تعالى: يَعْمَهُونَ [البقرة: 15]؟ قال: يلعبون و يترددون، أما سمعت قول الأعشى:
ص: 415
أراني قد عمهت و شاب رأسي و هذا اللّعب شين بالكبير
قال: أخبرني عن قوله تعالى: إِلى بارِئِكُمْ [البقرة: 54]؟ قال: خالقكم، أما سمعت قول تبّع:
شهدت على أحمد أنّه رسول من اللّه بارئ النّسم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]؟ قال: لا شكّ فيه، أما سمعت قول ابن الزّبعري:
ليس في الحقّ يا أمامة ريب إنّما الرّيب ما يقول الكذوب
قال: أخبرني عن قوله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7]؟ قال: طبع عليها، أما سمعت قول الأعشى:
و صهباء طاف يهود بها فأبرزها و عليها ختم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: صَفْوانٍ [البقرة: 264]؟ قال: الحجر الأملس، أما سمعت قول أوس بن حجر:
على ظهر صفوان كأنّ متونه عللن بدهن يزلق المتنزّلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: فِيها صِرٌّ [آل عمران: 117]؟ قال: برد، أما سمعت قول نابغة:
لا يبرمون إذا ما الأرض جلّلها صرّ الشتاء من الإمحال كالأدم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: 121]؟ قال: توطّن المؤمنين، أما سمعت قول الأعشى:
و ما بوّأ الرّحمن بيتك منزلا بأجياد غربي الصّفا و المحرّم
قال: أخبرني عن قوله تعالى: رِبِّيُّونَ [آل عمران: 146]؟ قال: جموع كثيرة، أما سمعت قول حسّان:
و إذا معشر تجافوا عن القصد حملنا عليهم ربّيّا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: مَخْمَصَةٍ [المائدة: 3]؟ قال: مجاعة، أما سمعت قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم و جاراتكم سغب يبتن خمائصا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام: 113]؟ قال: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، أما سمعت قول لبيد:
ص: 416
و إني لآت ما أتيت و إنني لما اقترفت نفسي عليّ لراهب
هذا آخر مسائل نافع بن الأزرق، و قد حذفت منها يسيرا نحو بضعة عشر سؤالا، أسئلة مشهورة، و أخرج الأئمة أفرادا منها بأسانيد مختلفة إلى ابن عباس.
و أخرج أبو بكر بن الأنباري في كتاب «الوقف و الابتداء» منها قطعة، و هي المعلم عليها بالحمرة صورة (ك). قال: حدّثنا بشر بن أنس، أنبأنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، أنبأنا أبو صالح هدبة بن مجاهد، أنبأنا مجاهد بن شجاع، أنبأنا محمد بن زياد اليشكريّ، عن ميمون بن مهران قال: دخل نافع بن الأزرق المسجد... فذكره.
و أخرج الطبرانيّ في معجمه الكبير منها قطعة، و هي المعلم عليها صورة (ط) من طريق جويبر، عن الضحّاك بن مزاحم، قال: خرج نافع بن الأزرق... فذكره.
ص: 417
تقدّم الخلاف في ذلك في النّوع السادس عشر؛ و نورد هنا أمثلة ذلك، و قد رأيت فيه تأليفا مفردا.
أخرج أبو عبيد، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61) [النجم: 61] قال: الغناء، و هي يمانية(1).
و أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: هي بالحميريّة(2).
و أخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: كنّا لا ندري ما الأرائك؟ حتى لقينا رجل من أهل اليمن، فأخبرنا أنّ الأريكة عندهم: الحجلة فيها السرير(3).
و أخرج، عن الضحاك، في قوله تعالى: وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) [القيامة: 15] قال:
ستوره بلغة أهل اليمن(4).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، في قوله تعالى: لا وَزَرَ [القيامة: 11] قال: لا جبل، و هي بلغة أهل اليمن(5).
و أخرج عن عكرمة، في قوله تعالى: وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ [الدخان: 54]. قال: هي لغة يمانية؛ و ذلك أنّ أهل اليمن يقولون: زوّجنا فلانا بفلانة.
قال الرّاغب في مفرداته(6): و لم يجيء في القرآن: (زوّجناهم حورا) كما يقال: زوجته
ص: 418
امرأة، تنبيها أنّ ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا بالمناكحة.
و أخرج عن الحسن، في قوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً [الأنبياء: 17] قال: اللّهو.
بلسان اليمن.: المرأة(1).
و أخرج عن محمد بن عليّ في قوله تعالى: وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ [هود: 42] قال: هي.
بلغة طيّئ. ابن امرأته.
قلت: و قد قرئ: (و نادى نوح ابنها)(2).
أخرج عن الضحاك في قوله تعالى: أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] قال: عنبا بلغة أهل عمان، يسمّون العنب خمرا(3).
و أخرج عن ابن عباس في قوله تعالى: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات: 125] قال: ربّا بلغة أهل اليمن.
و أخرج عن قتادة قال: بعلا: ربّا، بلغة أزدشنوءة(4).
و أخرج أبو بكر بن الأنباريّ في كتاب «الوقف» عن ابن عباس قال: الوزر: ولد الولد، بلغة هذيل.7.
ص: 419
و أخرج فيه، عن ابن الكلبيّ، قال: المرجان: صغار اللؤلؤ، بلغة اليمن(1).
و أخرج في كتاب «الردّ على من خالف مصحف عثمان» عن مجاهد قال: الصّوّاع:
الطّرجهالة، بلغة حمير.
و أخرج فيه عن أبي صالح، في قوله تعالى: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد: 31] قال: أ فلم يعلموا، بلغة هوازن. و قال الفرّاء: قال الكلبيّ: بلغة النّخع(2).
و في مسائل نافع بن الأزرق(3) لابن عباس: يَفْتِنَكُمُ [النساء: 101] يضلكم، بلغة هوازن.
و فيها: بُوراً [الفرقان: 18] هلكى، بلغة عمان.
و فيها: فَنَقَّبُوا [ق: 36] هربوا، بلغة اليمن.
و فيها: لا يَلِتْكُمْ [الحجرات: 14] لا ينقصكم، بلغة بني عبس.
و فيها: مُراغَماً [النساء: 100] منفسحا، بلغة هذيل.
و أخرج سعيد بن منصور في سننه، عن عمرو بن شرحبيل في قوله تعالى: سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16]. المسنّاة بلغة أهل اليمن(4).
و أخرج جويبر في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً [الإسراء: 58]. قال: مكتوبا، و هي لغة حميرية، يسمون الكتاب (أسطورا)(5).
و قال أبو القاسم. في الكتاب الذي ألفه في هذا النوع. في القرآن:
بلغة كنانة: اَلسُّفَهاءُ [البقرة: 13] الجهال. خاسِئِينَ [البقرة: 65] صاغرين.
شَطْرَهُ [البقرة: 144] تلقاءه لا خَلاقَ [آل عمران: 77] لا نصيب. وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] أحرارا. قَبِيلاً [الإسراء: 92] عيانا. بِمُعْجِزِينَ [الأنعام: 134] سابقين.
يَعْزُبُ [يونس: 61] يغيب. وَ لا تَرْكَنُوا [هود: 113] و لا تميلوا. فِي فَجْوَةٍ [الكهف:
17] ناحية. مَوْئِلاً [الكهف: 58] ملجأ. مُبْلِسُونَ [الأنعام: 44] آيسون. دُحُوراً [الصافات: 9] طردا. اَلْخَرّاصُونَ [الذاريات: 10] الكذّابون. أَسْفاراً [الجمعة: 5] كتبا.
أُقِّتَتْ [المرسلات: 11] جمعت. لَكَنُودٌ [العاديات: 6] كفور للنعم.5.
ص: 420
و بلغة هذيل: وَ الرُّجْزَ [المدثر: 5] العذاب. شَرَوْا [البقرة: 102] باعوا. عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة: 227] حققوا. صَلْداً [البقرة: 264] نقيّا. آناءِ اللَّيْلِ [طه: 130] ساعاته. مِنْ فَوْرِهِمْ [آل عمران: 125] وجههم. مِدْراراً [الأنعام: 6] متتابعا. فُرْقاناً [الأنفال: 29] مخرجا. حَرِّضِ [الأنفال: 65] حضّ. عَيْلَةً [التوبة: 28] فاقة.
وَلِيجَةً [التوبة: 16] بطانة. اِنْفِرُوا [التوبة: 38] اغزوا. اَلسّائِحُونَ [التوبة: 112] الصائمون. اَلْعَنَتَ [النساء: 25] الإثم. بِبَدَنِكَ [يونس: 92] بدرعك. غُمَّةً [يونس: 71] شبهة. لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] زوالها. شاكِلَتِهِ [الإسراء: 84] ناحيته.
رَجْماً [الكهف: 22] ظنا. مُلْتَحَداً [الكهف: 27] ملجأ. يَرْجُوا اللّهَ * [الكهف: 110] يخاف. هَضْماً [طه: 112] نقصا. هامِدَةً [الحج: 5] مغبرّة. وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان: 19] أسرع. اَلْأَجْداثِ [يس: 51] القبور. ثاقِبٌ [الصافات: 10] مضيء.
بالَهُمْ [القتال: 1] حالهم. يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] ينامون. ذَنُوباً [الذاريات: 59] عذابا. وَ دُسُرٍ [القمر: 13] المسامير. مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] عيب. أَرْجائِها [الحاقة:
17] نواحيها. أَطْواراً [نوح: 14] ألوانا. بَرْداً [النبأ: 24] نوما. واجِفَةٌ [النازعات: 8] خائفة. مَسْغَبَةٍ [البلد: 14] مجاعة. اَلْمُبَذِّرِينَ [الإسراء: 27] المسرفين.
و بلغة حمير: أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: 122] أن تجبنا. عُثِرَ [المائدة: 107] اطّلع.
فِي سَفاهَةٍ [الأعراف: 66] جنون. فَزَيَّلْنا [يونس: 28] فميّزنا. مَرْجُوًّا [هود: 62] حقيرا. اَلسِّقايَةَ [يوسف: 70] الإناء. مَسْنُونٍ [الحجر: 26] منتن. لَبِإِمامٍ [يس:
12] كتاب. فَسَيُنْغِضُونَ [الإسراء: 51] يحرّكون. حُسْباناً [الكهف: 40] بردا. مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مريم: 8] نحولا. مَآرِبُ [طه: 18] حاجات. خَرْجاً [الكهف: 94] جعلا. غَراماً [الفرقان: 65] بلاء. اَلصَّرْحَ [النمل: 44] البيت. أَنْكَرَ الْأَصْواتِ [لقمان: 19] أقبحها. يَتِرَكُمْ [محمد: 35] ينقصكم. مَدِينِينَ [الواقعة: 86] محاسبين.
رابِيَةً [الحاقة: 10] شديدة. وَبِيلاً [المزمل: 16] شديدا.
بلغة جرهم: بِجَبّارٍ [ق: 45] بمسلط. مَرَضٌ [الأحزاب: 60] زنا. اَلْقِطْرِ [سبأ: 12] النحاس. مَحْشُورَةً [ص: 19] مجموعة. مَعْكُوفاً [الفتح: 25] محبوسا.
فَباؤُ [البقرة: 90] استوجبوا. شِقاقٍ [البقرة: 137] ضلال. خَيْراً [البقرة: 180] مالا. كَدَأْبِ [آل عمران: 11] كأشباه. تَعُولُوا [النساء: 3] تميلوا. لَمْ يَغْنَوْا [الأعراف: 92] لم يتمتعوا. فَشَرِّدْ [الأنفال: 57] نكّل. أَراذِلُنا [هود: 27] سفلتنا.
عَصِيبٌ [هود: 77] شديد. لَفِيفاً [الإسراء: 104] جميعا. مَحْسُوراً [الإسراء: 29] منقطعا. حَدَبٍ [الأنبياء: 96] جانب. (الخلال): السحاب. اَلْوَدْقَ [النور: 43] المطر. لَشِرْذِمَةٌ [الشعراء: 54] عصابة. رِيعٍ [الشعراء: 128] طريق. يَنْسِلُونَ
ص: 421
[الأنبياء: 96] يخرجون. لَشَوْباً [الصافات: 67] مزجا. اَلْحُبُكِ [الذاريات: 7] الطرائق.
بِسُورٍ [الحديد: 13] الحائط.
و بلغة أزدشنوءة: لا شِيَةَ [البقرة: 71] لا وضح. (العضل): الحبس. أُمَّةٍ [هود:
8] سنين. اَلرَّسِّ [الفرقان: 38] البئر. كاظِمِينَ [غافر: 18] مكروبين. غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] الحارّ الّذي تناهى حرّه. لَوّاحَةٌ [المدثر: 29] حرّاقة.
و بلغة مذحج: رَفَثَ [البقرة: 197] جماع. مُقِيتاً [النساء: 85] مقتدرا. بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ [الرعد: 33] بكذب. بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18] الفناء. حُقُباً [الكهف: 60] دهرا. و اَلْخُرْطُومِ [القلم: 16] الأنف.
و بلغة خثعم: تُسِيمُونَ [النحل: 10] ترعون. مَرِيجٍ [ق: 5] منتشر. صَغَتْ [التحريم: 4] مالت. هَلُوعاً [المعارج: 19] ضجورا. شَطَطاً [الكهف: 14] كذبا.
و بلغة قيس عيلان: نِحْلَةً [النساء: 4] فريضة. حَرَجاً [النساء: 65] ضيّقا.
لَخاسِرُونَ [الأعراف: 90] مضيّعون. تُفَنِّدُونِ [يوسف: 94] تستهزئون. صَياصِيهِمْ [الأحزاب: 26] حصونهم. تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70] تنعمون. رَجِيمٍ [الحجر: 17] ملعون. يَلِتْكُمْ [الحجرات: 14] ينقصكم.
و بلغة سعد العشيرة: وَ حَفَدَةً [النحل: 72] أختان. كَلٌّ [النحل: 76] عيال.
و بلغة كندة: فِجاجاً [الأنبياء: 31] طرقا. وَ بُسَّتِ [الواقعة: 5] فتتت. تَبْتَئِسْ [هود: 36] تحزن.
و بلغة عذرة: اِخْسَؤُا [المؤمنون: 108] اخزوا.
رِبِّيُّونَ [آل عمران: 146] رجال. دَمَّرْنا [الأعراف: 137] أهلكنا. لُغُوبٌ [فاطر:
35] إعياء. مِنْسَأَتَهُ [سبأ: 14] عصاه.
و بلغة غسّان: وَ طَفِقا [الأعراف: 22] عمدا. بَئِيسٍ [الأعراف: 165] شديد.
سِيءَ بِهِمْ [هود: 77] كرههم.
و بلغة مزينة: لا تَغْلُوا [النساء: 171] لا تزيدوا.
و بلغة لخم: إِمْلاقٍ [الأنعام: 151] جوع. وَ لَتَعْلُنَّ [الإسراء: 4] و لتقهرنّ.
و بلغة جذام: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الإسراء: 5] تخلّلوا الأزقة.
و بلغة بني حنيفة: بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] العهود. (الجناح): اليد. و اَلرَّهْبِ [القصص: 32] الفزع.
و بلغة اليمامة: حَصِرَتْ [النساء: 90] ضاقت.
ص: 422
و بلغة سبأ: تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء: 27] تخطئوا خطأ بيّنا. تَبَّرْنا [الفرقان:
39] أهلكنا.
و بلغة سليم: نَكَصَ [الأنفال: 48] رجع.
و بلغة عمارة: اَلصّاعِقَةُ [البقرة: 55] الموت.
و بلغة طيء: يَنْعِقُ [البقرة: 171] يصيح. رَغَداً [البقرة: 35] خصبا. سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] خسرها. يس (1) [يس: 1] يا إنسان.
و بلغة خزاعة: أَفِيضُوا [البقرة: 199] انفروا، و الإفضاء: الجماع.
و بلغة عمان: خَبالاً [آل عمران: 118] غيّا. نَفَقاً [الأنعام: 35] سربا. حَيْثُ أَصابَ [ص: 36] أراد.
و بلغة تميم: أُمَّةٍ [يوسف: 45] نسيان. بَغْياً [البقرة: 213] حسدا.
و بلغة أنمار: طائِرَهُ [الإسراء: 13] عمله. وَ أَغْطَشَ [النازعات: 29] أظلم.
و بلغة الأشعريين: لَأَحْتَنِكَنَّ [الإسراء: 62] لأستأصلنّ. تارَةً [طه: 55] مرة.
اِشْمَأَزَّتْ [الزمر: 45] مالت و نفرت.
و بلغة الأوس: لِينَةٍ [الحشر: 5] النخل.
و بلغة الخزرج: يَنْفَضُّوا [المنافقون: 7] يذهبوا.
و بلغة مدين: فَافْرُقْ [المائدة: 25] فاقض.
انتهى ما ذكره أبو القاسم ملخّصا.
و قال أبو بكر الواسطيّ في كتابه: «الإرشاد في القراءات العشر»: في القرآن من اللّغات خمسون لغة: لغة قريش، و هذيل، و كنانة، و خثعم، و الخزرج، و أشعر، و نمير، و قيس عيلان، و جرهم، و اليمن، و أزد شنوءة، و كندة، و تميم، و حمير، و مدين، و لخم، و سعد العشيرة، و حضرموت، و سدوس، و العمالقة، و أنمار، و غسان، و مذحج، و خزاعة، و غطفان، و سبأ، و عمان، و بنو حنيفة، و ثعلبة، و طيّ ء، و عامر بن صعصعة، و أوس، و مزينة، و ثقيف، و جذام و بليّ، و عذرة، و هوازن، و النّمر، و اليمامة.
و من غير العربية: الفرس، و الرّوم، و النّبط، و الحبشة، و البربر، و السّريانية، و العبرانية، و القبط. ثم ذكر في أمثلة ذلك غالب ما تقدم عن أبي القاسم، و زاد:
اَلرِّجْزُ [الأعراف: 134] العذاب، بلغة بليّ. طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ [الأعراف: 201] نخسة، بلغة ثقيف. بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21] الرمال، بلغة ثعلبة.
ص: 423
و قال ابن الجوزيّ في «فنون الأفنان»: في القرآن بلغة همذان:
وَ رَيْحانٌ [الواقعة: 12] الرزق. و العيناء: البيضاء. و العبقريّ: الطنافس.
و بلغة نصر بن معاوية: الختار: الغدار.
و بلغة عامر بن صعصعة: الحفدة: الخدم.
و بلغة ثقيف: العول: الميل.
و بلغة عكّ: (الصّور: القرن.
و قال ابن عبد البرّ في «التمهيد»(1): قول من قال: نزل بلغة قريش معناه عندي الأغلب؛ لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات. من تحقيق الهمزة و نحوها، و قريش لا تهمز.
و قال الشيخ جمال الدين بن مالك(2): أنزل اللّه القرآن بلغة الحجازيين إلاّ قليلا، فإنه نزل بلغة التميميين، كالإدغام في: وَ مَنْ يُشَاقِّ اللّهَ [الحشر: 4]، و في مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54]. فإنّ إدغام المجزوم لغة تميم، و لهذا قلّ، و الفكّ لغة الحجاز؛ و لهذا كثر، نحو وَ لْيُمْلِلِ [البقرة: 282]. يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [آل عمران: 31]. اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) [طه: 31]. وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي [طه: 81].
قال: و قد أجمع القراء على نصب: إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ [النساء: 157]؛ لأنّ لغة الحجازيين التزام النصب في المنقطع، كما أجمعوا على نصب: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31]؛ لأنّ لغتهم إعمال (ما).
و زعم الزمخشريّ (3) في قوله: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ [النمل: 65]، أنه استثناء منقطع جاء على لغة بني تميم.
فائدة: قال الواسطيّ: ليس في القرآن حرف غريب من لغة قريش غير ثلاثة أحرف، لأنّ كلام قريش سهل ليّن واضح، و كلام العرب وحشيّ غريب، فليس في القرآن إلاّ ثلاثة أحرف غريبة: فَسَيُنْغِضُونَ [الإسراء: 51] و هو تحريك الرأس. مُقِيتاً [النساء: 85] مقتدرا.
فَشَرِّدْ بِهِمْ [الأنفال: 57] سمع.3.
ص: 424
قد أفردت في هذا النوع كتابا سمّيته: «المهذب فيما وقع في القرآن من المعرّب» و ها أنا ألخّص هنا فوائده فأقول:
فالأكثرون. و منهم الإمام الشافعيّ و ابن جرير و أبو عبيدة و القاضي أبو بكر و ابن فارس.
على عدم وقوعه فيه؛ لقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2]. و قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ [فصلت: 44]، و قد شدّد الشافعيّ النكير على القائل بذلك.
و قال أبو عبيدة(1): إنّما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أنّ فيه غير العربيّة فقد أعظم القول، و من زعم أن كِذّاباً * [النبأ: 35.28] بالنّبطيّة، فقد أكبر القول.
و قال ابن فارس(2): لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهّم متوهّم: أنّ العرب إنّما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
و قال ابن جرير(3): ما ورد عن ابن عباس و غيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنّها بالفارسية أو الحبشية أو النّبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلّمت بها العرب و الفرس و الحبشة بلفظ واحد.
ص: 425
و قال غيره: بل كان للعرب العاربة الّتي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلّقت من لغاتهم ألفاظا غيّرت بعضها بالنّقص من حروفها، و استعملتها في أشعارها و محاوراتها؛ حتى جرت مجرى العربيّ الفصيح، و وقع بها البيان، و على هذا الحدّ نزل بها القرآن.
و قال آخرون: كلّ هذه الألفاظ عربيّة صرفة، و لكن لغة العرب متّسعة جدّا، و لا يبعد أن تخفى على الأكابر الجلّة، و قد خفي على ابن عباس معنى فاطِرِ * و (فاتح).
قال الشافعيّ في الرسالة(1): لا يحيط باللغة إلاّ نبيّ.
و قال أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك: إنّما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب، لأنّها أوسع اللغات، و أكثرها ألفاظا، و يجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ.
و ذهب آخرون إلى وقوعه فيه، و أجابوا عن قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2] بأنّ الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيّا، و القصيدة الفارسيّة لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية. و عن قوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ [فصلت: 44] بأنّ المعنى من السياق:
(أ كلام أعجميّ و مخاطب عربيّ!) و استدلّوا باتفاق النحاة على أنّ منع صرف نحو [إبراهيم] للعلميّة و العجمة. و ردّ هذا الاستدلال بأنّ الأعلام ليست محلّ خلاف، فالكلام في غيرها موجّه: بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس.
و أقوى ما رأيته للوقوع. و هو اختياري. ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعيّ الجليل، قال: في القرآن من كلّ لسان(2).
و روي مثله عن سعيد بن جبير و وهب بن منبّه(3).
فهذه إشارة إلى أنّ حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأوّلين و الآخرين، و نبأ كلّ شيء، فلا بدّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات و الألسن ليتمّ إحاطته بكلّ شيء، فاختير له من كلّ لغة أعذبها و أخفها و أكثرها استعمالا للعرب. ثم رأيت ابن النقيب صرّح بذلك، فقال: من خصائص القرآن على سائر كتب اللّه تعالى المنزّلة أنّها نزلت بلغة القوم الّذين أنزلت عليهم، و لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، و القرآن احتوى على جميع لغات العرب، و أنزل فيه بلغات غيرهم من الرّوم و الفرس و الحبشة شيء كثير. انتهى.
و أيضا: فالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم مرسل إلى كل أمة، و قد قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ5.
ص: 426
بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]، فلا بدّ و أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كلّ قوم، و إن كان أصله بلغة قومه هو.
و قد رأيت الخويّي ذكر لوقوع المعرّب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل: إنّ وَ إِسْتَبْرَقٍ * ليس بعربيّ، و غير العربي من الألفاظ دون العربيّ في الفصاحة و البلاغة؟ فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم و أرادوا أن يتركوا هذه اللفظة و يأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك، و ذلك لأنّ اللّه تعالى إذا حثّ عباده على الطاعة، فإن لم يرغبهم بالوعد الجميل و يخوّفهم بالعذاب الوبيل لا يكون حثّه على وجه الحكمة، فالوعد و الوعيد نظرا إلى الفصاحة واجب.
ثم إنّ الوعد بما يرغب فيه العقلاء، و ذلك منحصر في أمور: الأماكن الطيبة، ثم المآكل الشهيّة، ثم المشارب الهنيّة، ثم الملابس الرفيعة، ثم المناكح اللذيذة، ثم ما بعده ممّا يختلف فيه الطباع، فإذن ذكر الأماكن الطيبة و الوعد به لازم عند الفصيح، و لو تركه لقال من أمر بالعبادة و وعد عليها بالأكل و الشرب: إنّ الأكل و الشرب لا ألتذّ به إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فإذن ذكر اللّه الجنّة و مساكن طيبة فيها، و كان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، و أرفع الملابس في الدّنيا الحرير، و أما الذهب فليس ممّا ينسج منه ثوب.
ثم إنّ الثوب الذي من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن و الثقل، و ربّما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن، و أمّا الحرير: فكلّما كان ثوبه أثقل كان أرفع؛ فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثخن، و لا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحثّ و الدعاء.
ثم هذا الواجب الذّكر:
إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، أو لا يذكر بمثل هذا؛ و لا شكّ أنّ الذّكر باللفظ الواحد الصريح أولى؛ لأنه أوجز و أظهر في الإفادة؛ و ذلك إِسْتَبْرَقٍ * فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ و يأتي بلفظ آخر لم يمكنه؛ لأنّ ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، و لا يجد العربيّ لفظا واحدا يدلّ عليه؛ لأنّ الثّياب من الحرير عرفها العرب من الفرس، و لم يكن لهم بها عهد، و لا وضع في اللغة العربية للدّيباج الثخين اسم، و إنما عرّبوا ما سمعوا من العجم و استغنوا به عن الوضع، لقلّة وجوده عندهم و ندرة تلفّظهم به.
و أما إن ذكره بلفظين فأكثر: فإنه يكون قد أخلّ بالبلاغة؛ لأنّ ذكر لفظين لمعنى يمكن ذكره بلفظ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ إِسْتَبْرَقٍ * يجب على كلّ فصيح أن يتكلّم به في موضعه، و لا يجد ما يقوم مقامه، و أيّ فصاحة أبلغ من ألا يوجد غيره مثله!. انتهى.
و قال أبو عبيد القاسم بن سلام(1)، بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء و المنع عن2.
ص: 427
أهل العربية: و الصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا؛ و ذلك: أنّ هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعرّبتها بألسنتها و حولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن و قد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنّها عربية فهو صادق، و من قال: أعجمية فصادق.
و مال إلى هذا القول الجواليقيّ و ابن الجوزيّ و آخرون.
و هذا سرد الألفاظ الواردة في القرآن من ذلك، مرتبة على حروف المعجم:
وَ أَبارِيقَ : [الواقعة: 18]: حكى الثعالبيّ في فقه اللغة: أنّها فارسية، و قال الجواليقيّ:
الإبريق فارسيّ معرب، و معناه طريق الماء، أو صبّ الماء على هينة.
(أبّ): قال بعضهم: هو الحشيش بلغة أهل الغرب، حكاه شيذلة.
اِبْلَعِي : أخرج ابن أبي حاتم، عن وهب بن منبّه، في قوله تعالى: اِبْلَعِي ماءَكِ [هود: 44]. قال: بالحبشية (ازدرديه).
و أخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه قال: اشربي، بلغة الهند.
أَخْلَدَ : [الأعراف: 176]: قال الواسطيّ في الإرشاد: أخلد إلى الأرض، ركن بالعبرية.
اَلْأَرائِكِ [الكهف: 31]. حكى ابن الجوزيّ في «فنون الأفنان» أنّها السّرر بالحبشية.
آزَرَ : عدّ في المعرّب على قول من قال: إنه ليس بعلم لأبي إبراهيم و لا للصنم.
و قال ابن أبي حاتم: ذكر عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يقرأ: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: 74] يعني بالرفع، قال: بلغني أنها أعوج و أنّها أشدّ كلمة قالها إبراهيم لأبيه.
و قال بعضهم: هي بلغتهم: يا مخطئ.
(أسباط): حكى أبو الليث في تفسيره(1): أنّها بلغتهم كالقبائل بلغة العرب.
(إستبرق): أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك: أنه الديباج الغليظ، بلغة العجم.
(أسفار): قال الواسطيّ في «الإرشاد»: هي الكتب بالسريانية، و أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك، قال: هي الكتب بالنّبطية.
إِصْرِي : [آل عمران: 81]: قال أبو القاسم في لغات القرآن: معناه: عهدي بالنبطية.
وَ أَكْوابٍ : [الزخرف: 71] حكى ابن الجوزيّ (2): أنّها الأكواز بالنّبطيّة. و أخرج ابن1.
ص: 428
جرير(1) عن الضحاك: أنّها بالنبطية جرار ليست لها عرى.
(إل): قال ابن جني: ذكروا أنه اسم اللّه تعالى بالنّبطيّة.
أَلِيمٌ : [البقرة: 10]: حكى ابن الجوزيّ (2): أنّه الموجع بالزنجيّة. و قال شيذلة:
بالعبرانية.
إِناهُ : [الأحزاب: 53]: نضجه بلسان أهل المغرب، ذكره شيذلة. و قال أبو القاسم:
بلغة البربر، و قال في قوله تعالى: حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] هو الذي انتهى حرّه بها. و في قوله تعالى: مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 5] أي: حارّة، بها.
أَوّاهٌ : [التوبة: 114]: أخرج أبو الشيخ بن حيّان من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس قال: الأوّاه: الموقن بلسان الحبشة. و أخرج ابن أبي حاتم مثله عن مجاهد و عكرمة. و أخرج عن عمرو بن شرحبيل قال: الرحيم بلسان الحبشة، و قال الواسطيّ: الأوّاه: الدعاء بالعبرية(3).
أَوّابٌ : [ص: 17]: أخرج ابن أبي حاتم، عن عمرو بن شرحبيل قال: الأوّاب:
المسبّح بلسان الحبشة.
و أخرج ابن جرير عنه في قوله تعالى: أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] قال: سبّحي بلسان الحبشة(4).
اَلْمِلَّةِ الْآخِرَةِ : [ص: 7]: قال شيذلة: الجاهلية الأولى؛ أي: الآخرة في الملّة الآخرة، أي: الأولى بالقبطية، و القبط يسمّون الآخرة الأولى و الأولى الآخرة. و حكاه الزركشي في البرهان(5).
بَطائِنُها : [الرحمن: 54] قال شيذلة في قوله تعالى: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن:
54] أي: ظواهرها بالقبطية. و حكاه الزركشي(6).
بَعِيرٍ : [يوسف: 65] أخرج الفريابيّ، عن مجاهد، في قوله تعالى: كَيْلَ بَعِيرٍ1.
ص: 429
[يوسف: 65] أي: كيل حمار. و عن مقاتل: إنّ البعير كلّ ما يحمل عليه بالعبرانية.
بِيَعٌ : [الحج: 40]: قال الجواليقي في كتاب «المعرب»: البيعة و الكنيسة جعلهما بعض العلماء فارسيّين معرّبين.
(تنّور): ذكر الجواليقي و الثعالبيّ أنه فارسي معرب.
تَتْبِيراً : أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً [الإسراء: 7] قال: تبّره بالنّبطية.
(تحت): قال أبو القاسم في «لغات القرآن» في قوله تعالى: فَناداها مِنْ تَحْتِها [مريم:
24] أي: بطنها، بالنّبطية. و نقل الكرماني في العجائب مثله عن مؤرّخ.
بِالْجِبْتِ : [النساء: 51] أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: الجبت: اسم الشيطان بالحبشيّة. و أخرج عن ابن حميد، عن عكرمة، قال: الجبت بلسان الحبشة الشيطان.
و أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: الجبت: الساحر، بلسان الحبشة(1).
جَهَنَّمُ : قيل: أعجميّة، و قيل: فارسية و عبرانيّة، أصلها (كهنام).
(حرم): أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: و حرم: وجب بالحبشية(2).
حَصَبُ : أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله تعالى: حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98]. قال: حطب جهنم، بالزنجية.
حِطَّةٌ [البقرة: 58] قيل: معناه: قولوا صوابا، بلغتهم.
(حواريون): أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: اَلْحَوارِيُّونَ [آل عمران: 52] الغسّالون بالنّبطية، و أصله (هواري).
(حوب): تقدّم في مسائل نافع بن الأزرق عن ابن عباس، أنه قال حُوباً [النساء: 2] إثما بلغة الحبشة.
(دارست): معناه قارأت بلغة اليهود.
(درّيّ): [النور: 35]: معناه المضيء بالحبشية، حكاه شيذلة و أبو القاسم.].
ص: 430
(دينار): ذكر الجواليقي و غيره أنه فارسيّ.
وَ راعِنا : [البقرة: 104] أخرج أبو نعيم في «دلائل النبوة» عن ابن عباس قال: راعنا سبّ بلسان اليهود(1).
(ربانيّون): قال الجواليقي: قال أبو عبيدة(2): العرب لا تعرف الربّانيّين، و إنما عرفها الفقهاء و أهل العلم. قال: و أحسب الكلمة ليست بعربيّة و إنما هي عبرانية أو سريانية، و جزم القاسم بأنّها سريانية.
رِبِّيُّونَ : [آل عمران: 146] ذكر أبو حاتم أحمد بن حمدان اللّغوي في كتاب «الزينة» أنّها سريانية(3).
بِالرَّحْمنِ : ذهب المبرّد و ثعلب إلى أنه عبراني، و أصله بالخاء المعجمة(4).
اَلرَّسِّ : [الفرقان: 38]: في «العجائب» للكرمانيّ: إنه عجميّ، و معناه البئر.
وَ الرَّقِيمِ : [الكهف: 9] قيل: إنّه اللوح بالرّومية، حكاه شيذلة. و قال أبو القاسم: هو الكتاب بها. و قال الواسطيّ: هو الدواة بها.
رَمْزاً : [آل عمران: 41] عدّه ابن الجوزي في «فنون الأفنان»(5) من المعرّب. و قال الواسطيّ: هو تحريك الشفتين بالعبريّة.
رَهْواً : قال أبو القاسم في قوله تعالى: وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً [الدخان: 24] أي:
سهلا دمثا، بلغة النّبط. و قال الواسطيّ: أي ساكنا بالسريانيّة.
اَلرُّومُ : [الروم: 2]: قال الجواليقيّ: هو أعجميّ، اسم لهذا الجيل من الناس.
(زنجبيل): ذكر الجواليقيّ و الثعالبي أنه فارسيّ.
اَلسِّجِلِّ : [الأنبياء: 104] أخرج ابن مردويه من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال: السجلّ بلغة الحبشة الرجل(6). و في «المحتسب» لابن جني: السّجلّ: الكتاب. قال قوم: هو فارسي معرب.9.
ص: 431
سِجِّيلٍ : [هود: 82] أخرج الفريابيّ، عن مجاهد، قال: سجّيل بالفارسية، أوّلها حجارة و آخرها طين(1).
سِجِّينٍ : [المطففين: 7] ذكر أبو حاتم في كتاب «الزينة» أنّه غير عربيّ.
(سرادق): قال الجواليقي: فارسيّ معرّب، و أصله سرادر، و هو الدهليز. و قال غيره:
الصّواب أنّه بالفارسيّة سرابرده، أي: ستر الدار.
(سريّ): أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى: سَرِيًّا [مريم: 24]. قال:
نهرا، بالسريانية. و عن سعيد بن جبير: بالنبطيّة، و حكى شيذلة: أنه باليونانية(2).
سَفَرَةٍ : أخرج ابن أبي حاتم: من طريق ابن جريح، عن ابن عباس في قوله تعالى:
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) [عبس: 15] قال: بالنّبطية القرّاء.
سَقَرَ : [القمر: 48]: ذكر الجواليقي أنّها أعجمية.
سُجَّداً : قال الواسطي في قوله تعالى: وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً [الأعراف: 161] أي: مقنّعي الرءوس، بالسريانية.
(سكر): أخرج ابن مردويه، من طريق العوفيّ، عن ابن عباس قال: السّكر: بلسان الحبشة الخلّ.
(سلسبيل): حكى الجواليقي أنه عجمي.
سَنا : [النور: 43] عدّه الحافظ ابن حجر في نظمه، و لم أقف عليه لغيره.
سُنْدُسٍ : [الكهف: 31] قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسيّة(3)، و قال الليث(4): لم يختلف أهل اللغة و المفسرون في أنّه معرّب. و قال شيذلة: هو بالهندية.
سَيِّدَها : قال الواسطيّ في قوله تعالى: وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ [يوسف: 25] أي: زوجها بلسان القبط. قال أبو عمرو: لا أعرفها في لغة العرب.
سِينِينَ : [التين: 2] أخرج ابن أبي حاتم، و ابن جرير عن عكرمة قال: سينين الحسن بلسان الحبشة(5).2.
ص: 432
سَيْناءَ : [المؤمنون: 20] أخرج ابن أبي حاتم، عن الضّحاك، قال: سيناء بالنّبطية الحسن(1).
شَطْرَ : أخرج ابن أبي حاتم، عن رفيع في قوله تعالى: شَطْرَ الْمَسْجِدِ [البقرة:
144]، قال: تلقاء، بلسان الحبش(2).
شَهْرُ : [البقرة: 185] قال الجواليقيّ: ذكر بعض أهل اللغة أنه بالسريانية.
اَلصِّراطَ : حكى النقّاش و ابن الجوزيّ أنه الطريق بلغة الرّوم، ثم رأيته في كتاب «الزّينة» لأبي حاتم.
فَصُرْهُنَّ : أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ [البقرة:
260] قال: هي نبطيّة، فشقّقهنّ. و أخرج مثله عن الضحاك(3).
و أخرج ابن المنذر، عن وهب بن منبّه، قال: ما من اللغة شيء إلاّ منها في القرآن شيء. قيل: و ما فيه من الرومية؟ قال: فَصُرْهُنَّ يقول: قطّعهنّ (4).
صَلَواتٌ : [الحج: 40]. قال الجواليقيّ: هي بالعبرانية كنائس اليهود، و أصلها (صلوتا). و أخرج ابن أبي حاتم نحوه، عن الضحاك(5).
طه (1) : أخرج الحاكم في المستدرك، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى طه (1) قال: هو كقولك: يا محمد، بلسان الحبش(6).
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: طه (1) بالنّبطيّة. و أخرج عن سعيد بن جبير قال: طه (1) يا رجل بالنّبطيّة. و أخرج عن عكرمة قال: طه (1) يا رجل بلسان الحبشة(7).
(الطاغوت): [البقرة: 256] هو الكاهن بالحبشية.
وَ طَفِقا : [الأعراف: 22] قال بعضهم: معناه قصدا بالروميّة، و حكاه شيذلة.
طُوبى : [الرعد: 29] أخرج أبو الشيخ، عن سعيد بن جبير قال: بالهندية.0.
ص: 433
طُورِ : [المؤمنون: 20] أخرج الفريابيّ، عن مجاهد قال: الطور: الجبل بالسريانية(1)، و أخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك: أنه بالنّبطيّة(2).
طُوىً : [طه: 12] في العجائب للكرماني: قيل: هو معرب، معناه ليلا، و قيل: هو رجل بالعبرانية.
عَبَدْتُّمْ : قال أبو القاسم في قوله تعالى: عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 22]:
معناه: قتلت بلغة النبط.
عَدْنٍ : [التوبة: 72]: أخرج ابن جرير، عن ابن عباس: أنه سأل كعبا عن قوله تعالى: جَنّاتِ عَدْنٍ [التوبة: 72] قال: جنّات كروم و أعناب بالسريانية(3)، و من تفسير جويبر: أنه بالرّومية.
اَلْعَرِمِ : [سبأ: 16] أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: العرم بالحبشيّة، و هي المسنّاة التي يجمع فيها الماء ثم ينبثق(4).
(غسّاق): قال الجواليقيّ و الواسطيّ: هو البارد المنتن بلسان الترك. و أخرج ابن جرير، عن عبد اللّه بن بريدة، قال: الغسّاق: المنتن، و هو بالطخاريّة(5).
وَ غِيضَ : [هود: 44]: قال أبو القاسم: غيض: نقص، بلغة الحبشة.
اَلْفِرْدَوْسِ : أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: الفردوس بستان بالرّومية.
و أخرج عن السديّ قال: الكرم بالنّبطيّة. و أصله (فرداسا).
(فوم): قال الواسطيّ: هو الحنطة بالعبريّة.
قَراطِيسَ : [الأنعام: 91]: قال الجواليقيّ: يقال: إن القرطاس أصله غير عربيّ.9.
ص: 434
(قسط): أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] العدل، الروميّة(1).
(قسطاس): أخرج الفريابيّ، عن مجاهد، قال: القسطاس: العدل بالروميّة.
و أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: بِالْقِسْطاسِ [الإسراء: 35] بلغة الروم: الميزان(2).
قَسْوَرَةٍ : [المدثر: 51] أخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: الأسد، يقال له بالحبشيّة: قسورة(3).
قِطَّنا : [ص: 16] قال أبو القاسم: معناه كتابنا، بالنّبطية.
(قفل): حكى الجواليقيّ عن بعضهم: أنه فارسي معرب.
(قمّل): قال الواسطيّ: هو الدّبا بلسان العبرية و السريانية، قال أبو عمرو: لا أعرفه في لغة أحد من العرب.
بِقِنْطارٍ : [آل عمران: 75] ذكر الثعالبيّ في فقه اللغة: أنه بالرومية اثنا عشر ألف أوقية. و قال الخليل: زعموا أنه بالسريانيّة ملء جلد ثور ذهبا أو فضة. و قال بعضهم: إنّه بلغة بربر ألف مثقال.
و قال ابن قتيبة: قيل: إنه ثمانية آلاف مثقال، بلسان أهل إفريقية.
اَلْقَيُّومُ : [البقرة: 255] قال الواسطيّ: هو الذي لا ينام بالسريانية.
(كافور): ذكر الجواليقيّ و غيره أنه فارسي معرّب(4).
كَفَّرَ : قال ابن الجوزي: كفّر عنّا معناه: امح عنّا بالنّبطية. و أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجونيّ في قوله تعالى: كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [محمد: 2] قال: بالعبرانية محا عنهم.
كِفْلَيْنِ : أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: كفلين: ضعفين بالحبشية(5).1.
ص: 435
كَنْزٌ : [الكهف: 82] ذكر الجواليقيّ أنه فارسي معرب.
كُوِّرَتْ : [التكوير: 1] أخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير: كورت: غوّرت. و هي بالفارسية(1).
لِينَةٍ : [الحشر: 5] في «الإرشاد» للواسطي؛ هي النّخلة. و قال الكلبيّ: لا أعلمها إلاّ بلسان يهود يثرب.
مُتَّكَأً : [يوسف: 31] أخرج ابن أبي حاتم، عن سلمة بن تمام الشقريّ قال: متّكأ بلسان الحبش، يسمّون التّرنج متّكأ(2).
(مجوس): ذكر الجواليقيّ أنه أعجمي.
(مرجان): حكى الجواليقيّ عن بعض أهل اللغة أنه أعجمي.
(مسك): [المطففين: 26] ذكر الثعالبي أنه فارسي.
(مشكاة): أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: (المشكاة) [النور: 35] الكوّة، بلغة الحبشة.
مَقالِيدُ [الزمر: 63] أخرج الفريابيّ، عن مجاهد، قال: مقاليد: مفاتيح بالفارسية(3).
و قال ابن دريد و الجواليقيّ: الإقليد و المقليد: المفتاح، فارسيّ معرب(4).
مَرْقُومٌ : قال الواسطيّ في قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) [المطففين: 9] أي:
مكتوب، بلسان العبرية.
مُزْجاةٍ : [يوسف: 88] قال الواسطيّ: مزجاة قليلة، بلسان العجم، و قيل: بلسان القبط.
مَلَكُوتَ : أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله تعالى: مَلَكُوتَ :
[الأنعام: 75] قال: هو الملك، و لكنه بكلام النّبطيّة: (ملكوتا)(5).
و أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، و قال الواسطيّ في «الإرشاد»: هو الملك بلسان النّبط.3.
ص: 436
مَناصٍ : [ص: 3] قال: أبو القاسم: معناه فرار بالنبطيّة.
(منسأة): أخرج ابن جرير، عن السّديّ قال: المنسأة العصا بلسان الحبشة(1).
مُنْفَطِرٌ : أخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله تعالى: اَلسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] قال: ممتلئة به، بلسان الحبشة(2).
(مهل): قيل: هو عكر الزيت بلسان أهل المغرب، حكاه شيذلة. و قال أبو القاسم:
بلغة البرير.
ناشِئَةَ : [المزمل: 6]: أخرج الحاكم في مستدركه، عن ابن مسعود، قال: ناشئة الليل قيام الليل بالحبشية. و أخرج البيهقيّ، عن ابن عباس مثله.
ن : حكى الكرمانيّ في «العجائب»، عن الضحاك: أنّه فارسيّ، أصله أنون.
و معناه: اصنع ما شئت.
هُدْنا : [الأعراف: 156] قيل: معناه تبنا بالعبرانيّة، حكاه شيذلة و غيره.
(هود): قال الجواليقيّ: الهود اليهود، أعجمي.
(هون): أخرج ابن أبي حاتم، عن ميمون بن مهران، في قوله تعالى: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] قال: حكماء بالسّريانية. و أخرج عن الضّحاك مثله، و أخرج عن أبي عمران الجونيّ أنه بالعبرانية(3).
هَيْتَ لَكَ : [يوسف: 23] أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: هيت لك، هلمّ لك بالقبطيّة(4). و قال الحسن: هي بالسريانية كذلك، أخرجه ابن جرير(5). و قال عكرمة:
هي بالحورانية، كذلك أخرجه أبو الشيخ. و قال أبو زيد الأنصاريّ: هي بالعبرانية، و أصله (هيتلج) أي: تعاله.
(وراء): قيل: معناه أمام بالنبطيّة، و حكاه شيذلة و أبو القاسم، و ذكر الجواليقي أنّها غير عربية.
وَرْدَةً : [الرحمن: 37] ذكر الجواليقي أنّها غير عربية.7.
ص: 437
وَزَرَ : [القيامة: 11] قال أبو القاسم: هو الجبل و الملجأ، بالنّبطيّة.
(ياقوت): ذكر الجواليقيّ و الثّعالبيّ و آخرون أنه فارسي.
يَحُورَ : [الانشقاق: 14]. قال: بلغة الحبشة (يرجع). و أخرج مثله عن عكرمة، و تقدّم في أسئلة نافع بن الأزرق عن ابن عباس.
يس (1) : أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس(1)، في قوله تعالى: يس (1) قال: يا إنسان بالحبشية. و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال: يس (1) يا رجل بلغة الحبشة.
يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] قال ابن الجوزيّ: معناه يضجّون بالحبشية.
يُصْهَرُ [الحج: 20] قيل: معناه ينضج، بلسان أهل المغرب، حكاه شيذلة.
اَلْيَمِّ [طه: 39] قال ابن قتيبة: اليمّ البحر بالسريانية، و قال ابن الجوزيّ: بالعبرانية، و قال شيذلة: بالقبطية.
اَلْيَهُودُ [البقرة: 113] قال الجواليقيّ: أعجمي معرّب، منسوبون إلى يهوذا بن يعقوب، فعرّب بإهمال الدال.
فهذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعرّبة بعد الفحص الشديد سنين، و لم تجتمع قبل في كتاب قبل هذا.
و قد نظم القاضي تاج الدين بن السبكي منها سبعة و عشرين لفظا في أبيات، و ذيل عليها الحافظ أبو الفضل ابن حجر بأبيات فيها أربعة و عشرون لفظا، و ذيّلت عليها بالباقي، و هو بضع و ستون فتمّت أكثر من مائة لفظة.
فقال ابن السبكيّ:
السّلسبيل و طه كوّرت بيع روم و طوبى و سجّيل و كافور
و الزّنجبيل و مشكاة سرادق مع إستبرق صلوات سندس طور
كذا قراطيس ربانيّهم و غسّا ق و دينار و القسطاس مشهور
كذاك قسورة و اليمّ ناشئة و يؤت كفلين مذكور و مسطور
له مقاليد فردوس يعدّ كذا فيما حكى ابن دريد منه تنّور
و قال ابن حجر:
و زدت حرم و مهل و السّجلّ كذا السّريّ و الأبّ ثم الجبت مذكور0.
ص: 438
و قطّنا و إناه ثم متكأ دارست يصهر منه فهو مصهور
و هيت و السّكر الأوّاه مع حصب و أوبي معه و الطاغوت مسطور
صرهنّ إصري و غيض الماء مع وزر ثمّ الرقيم مناص و السّنا النّور
و قلت أيضا:
و زدت يس و الرّحمن مع ملكو ت ثم سينين شطر البيت مشهور
ثم الصّراط و دريّ يحور و مر جان و يمّ مع القنطار مذكور
و راعنا طفقا هدنا ابلعي و و را ء و الأرائك و الأكواب مأثور
هود و قسط كفّر رمزه سقر هون يصدّون و المنساة مسطور
شهر مجوس و أقفال يهود حوا ريّون كنز و سجّين و تتبير
بعير آزر حوب وردة عرم إلّ و من تحتها عبّدت و الصّور
و لينة فومها رهو و أخلد مز جاة و سيّدها القيّوم موقور
و قمّل ثم أسفار عنى كتبا و سجّدا ثم ربّيّون تكثير
و حطّة و طوى و الرّس نون كذا عدن و منفطر الأسباط مذكور
مسك أباريق ياقوت رووا فهنا ما فات من عدد الألفاظ محصور
و بعضهم عد الأولى مع بطائنها و الآخرة لمعاني الضد مقصور.
ص: 439
النوع التاسع و الثلاثون في معرفة الوجوه و النّظائر(1)
صنّف فيها قديما مقاتل بن سليمان، و من المتأخّرين ابن الجوزيّ، و ابن الدامغاني، و أبو الحسين محمد بن عبد الصمد المصري، و ابن فارس، و آخرون(2).
فالوجوه: للفظ المشترك الّذي يستعمل في عدّة معان كلفظ الأمّة. و قد أفردت في هذا الفن كتابا سميته: [معترك الأقران في مشترك القرآن].
و النظائر كالألفاظ المتواطئة.
و قيل: النّظائر في اللفظ، و الوجوه في المعاني.
و ضعّف؛ لأنه لو أريد هذا لكان الجمع في الألفاظ المشتركة، و هم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي معناه واحد في مواضع كثيرة، فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام، و النّظائر نوعا آخر.
و قد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن؛ حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها و أكثر و أقلّ، و لا يوجد ذلك في كلام البشر.
و ذكر مقاتل في صدر كتابه حديثا مرفوعا: «لا يكون الرّجل فقيها كلّ الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة»(3).
قلت: هذا أخرجه ابن سعد و غيره عن أبي الدرداء موقوفا، و لفظه: «لا يفقه الرجل كلّ الفقه». و قد فسّره بعضهم بأنّ المراد: أن يرى اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة، فيحمله عليها إذا كانت غير متضادّة، و لا يقتصر به على معنى واحد.
ص: 440
و أشار آخرون إلى أنّ المراد به استعمال الإشارات الباطنة، و عدم الاقتصار على التفسير الظاهر.
و قد أخرجه ابن عساكر في تاريخه، من طريق حمّاد بن زيد، عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء، قال: إنّك لن تفقه كلّ الفقه حتى ترى للقرآن وجوها.
قال حمّاد: فقلت لأيّوب: أ رأيت قوله: حتى ترى للقرآن وجوها، أ هو أن يرى له وجوها فيهاب الإقدام عليه؟ قال: نعم، هو هذا.
و أخرج ابن سعد، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أنّ عليّ بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج، فقال: اذهب إليهم فخاصمهم، و لا تحاجّهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، و لكن خاصمهم بالسنة.
و أخرج من وجه آخر أنّ ابن عباس قال له: يا أمير المؤمنين، فأنا أعلم بكتاب اللّه منهم، في بيوتنا نزل. قال: صدقت، و لكن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول و يقولون، و لكن خاصمهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا. فخرج إليهم فخاصمهم بالسّنن فلم تبق بأيديهم حجّة.
من ذلك: الهدى، يأتي على سبعة عشر وجها(1):
بمعنى الثبات: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) [الفاتحة: 6].
و البيان: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5].
و الدين: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللّهِ [آل عمران: 73].
و الإيمان: وَ يَزِيدُ اللّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم: 76].
و الدعاء: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7]، وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: 73].
و بمعنى الرّسل و الكتب: فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: 38].
و المعرفة: وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16].
و بمعنى النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى [البقرة: 159].
و بمعنى القرآن: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم: 23].
و التوراة: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى [غافر: 53].
ص: 441
و الاسترجاع: وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 157].
و الحجة: لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ [البقرة: 258]، بعد قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] أي: لا يهديهم حجة.
و التوحيد: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ [القصص: 57].
و السنة: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 22].
و الإصلاح: وَ أَنَّ اللّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يوسف: 52].
و الإلهام: أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50]، أي: ألهمهم المعاش.
و التوبة: إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: 156].
و الإرشاد: أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [القصص: 22].
و من ذلك: السوء، يأتي على أوجه(1):
الشدة: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ [البقرة: 49].
و العقر: وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الأعراف: 73].
و الزنى: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً [يوسف: 25]، ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28].
و البرص: بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص: 32].
و العذاب: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ [النحل: 27].
و الشّرك: ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل: 28].
و الشتم: لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء: 148]. وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة: 2].
و الذنب: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [النساء: 17].
و بمعنى بئس: وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ [الرعد: 25].
و الضّرّ: وَ يَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62] وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188].
و القتل و الهزيمة: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران: 174].
و من ذلك: الصلاة، تأتي على أوجه(2):8.
ص: 442
الصلوات الخمس: وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة: 3].
و صلاة العصر: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ [المائدة: 106].
و صلاة الجمعة: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ [الجمعة: 9].
و الجنازة: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة: 84].
و الدعاء: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة: 103].
و الدين: أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87].
و القراءة: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء: 110].
و الرحمة و الاستغفار: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56].
و مواضع الصلاة: وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ [الحج: 40]، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء: 43].
و من ذلك: الرحمة(1)، وردت على أوجه:
الإسلام: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران: 74].
و الإيمان: وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ [هود: 28].
و الجنة: فَفِي رَحْمَتِ اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 107].
و المطر: بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57].
و النعمة: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ [النور: 10].
و النبوّة: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [ص: 9]، أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32].
و القرآن: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ [يونس: 58].
و الرزق: خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي [الإسراء: 100].
و النّصر و الفتح: إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17].
و العافية: أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ [الزمر: 38].
و المودة: رَأْفَةً وَ رَحْمَةً [الحديد: 27]، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
و السعة: تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ [البقرة: 178].
و المغفرة: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12].8.
ص: 443
و العصمة: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ [هود: 43].
و من ذلك الفتنة، وردت على أوجه(1):
الشرك: وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191]، حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال: 39].
و الإضلال: اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران: 7].
و القتل: أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101].
و الصّدّ: وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ [المائدة: 49].
و الضلالة: وَ مَنْ يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة: 41].
و المعذرة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام: 23].
و القضاء: إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ [الأعراف: 155].
و الإثم: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49].
و المرض: يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ [التوبة: 126].
و العبرة: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً [يونس: 85].
و الاختبار: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 3].
و العذاب: جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللّهِ [العنكبوت: 10].
و الإحراق: يَوْمَ هُمْ عَلَى النّارِ يُفْتَنُونَ (13) [الذاريات: 13].
و الجنون: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) [القلم: 6].
و من ذلك: الرّوح، ورد على أوجه(2):
الأمر: وَ رُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171].
و الوحي: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ [النحل: 2].
و القرآن: أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52].
و الرّحمة: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22].
ص: 444
و الحياة: فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ [الواقعة: 89].
و جبريل: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مريم: 17] نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193].
و ملك عظيم: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ [النبأ: 38].
و جيش من الملائكة: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها [القدر: 4].
و روح البدن: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85].
* و من ذلك: القضاء، ورد على أوجه(1):
الفراغ: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [البقرة: 200].
و الأمر: وَ إِذا قَضى أَمْراً [آل عمران: 7].
و الأجل: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ [الأحزاب: 23].
و الفصل: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 58].
و المضيّ: لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً [الأنفال: 42].
و الهلاك: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: 11].
و الوجوب: و قُضِيَ الْأَمْرُ [يوسف: 41].
و الإبرام: فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها [يوسف: 68].
و الإعلام: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الإسراء: 4].
و الوصية: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء: 23].
و الموت: فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15].
و النزول: فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ: 14].
و الخلق: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12].
و الفعل: كَلاّ لَمّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) [عبس: 23].
و العهد: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص: 44].
* و من ذلك: الذكر، ورد على أوجه(2):
ذكر اللسان: فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة: 200].
ص: 445
و ذكر القلب: ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: 135].
و الحفظ: وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ [البقرة: 63].
و الطاعة و الجزاء: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152].
و الصلوات الخمس: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ [البقرة 239].
و العظة: فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ [الأعراف: 165]، وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى [الذاريات: 55].
و البيان: أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 69].
و الحديث: اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42] أي: حدّثه بحالي.
و القرآن: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي [طه: 124]، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ [الأنبياء: 2].
و التوراة: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43].
و الخبر: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف: 83].
و الشرف: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [الزخرف: 44].
و العيب: أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 36].
و اللوح المحفوظ: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105].
و الثناء: وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21].
و الوحي: فَالتّالِياتِ ذِكْراً (3) [الصافات: 3].
و الرسول: ذِكْراً رَسُولاً [الطلاق: 10-11].
و الصلاة: وَ لَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45].
و صلاة الجمعة: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ [الجمعة: 9].
و صلاة العصر: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي [ص: 32].
* و من ذلك: الدعاء، ورد على أوجه(1):
العبادة: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ [يونس: 106].
و الاستعانة: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ [البقرة: 23].
و السؤال: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
و القول: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللّهُمَّ [يونس: 10].
ص: 446
و النداء: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ [الإسراء: 52].
و التسمية: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63].
* و من ذلك: الإحصان، ورد على أوجه(1):
العفة: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4].
و التزوّج: فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25].
و الحرّية: نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25].
قال ابن فارس في كتاب «الأفراد»: كلّ ما في القرآن من ذكر (الأسف) فمعناه الحزن، إلاّ: فَلَمّا آسَفُونا [الزخرف: 55] فمعناه أغضبونا.
و كلّ ما فيه من ذكر (البروج) فهي الكواكب إلاّ: وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:
78]، فهي القصور الطوال الحصينة.
و كلّ ما فيه من ذكر (البر و البحر) فالمراد بالبحر الماء، و بالبر التراب اليابس، إلاّ:
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الروم: 41] فالمراد به البرية و العمران.
و كلّ ما فيه من (بخس) فهو النقص، إلاّ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: 20] أي: حرام.
و كلّ ما فيه من (البعل) فهو الزوج إلا: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً [الصافات: 125] فهو: الصنم.
و كلّ ما فيه من (البكم) فالخرس عن الكلام بالإيمان، إلاّ: عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا في الإسراء: [97]، و أَحَدُهُما أَبْكَمُ في النحل [76]، فالمراد به عدم القدرة على الكلام مطلقا.
و كلّ ما فيه (جثيّا) فمعناه جميعا، إلا: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: 28] فمعناه تجثو على ركبها.
و كلّ ما فيه من (حسبان) فهو العدد، إلا: حُسْباناً مِنَ السَّماءِ في الكهف [40] فهو العذاب.
و كلّ ما فيه (حسرة) فالندامة، إلا: لِيَجْعَلَ اللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:
156] فمعناه الحزن.
ص: 447
و كلّ ما فيه من (الدحض) فالباطل، إلاّ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: 141] فمعناه من المقروعين.
و كلّ ما فيه من (رجز) فالعذاب إلا: وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر: 5]، فالمراد به الصنم.
و كلّ ما فيه من (ريب) فالشك، إلاّ: رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30]، يعني: حوادث الدهر.
و كلّ ما فيه من (الرجم) فهو القتل، إلاّ لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: 46]، فمعناه: لأشتمنّك و: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22] أي: ظنا.
و كلّ ما فيه من (الزور) فالكذب مع الشرك، إلاّ: مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً [المجادلة:
2]؛ فإنه كذب غير الشرك.
و كلّ ما فيه من (زكاة) فهو المال، إلا وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً [مريم: 13] أي: طهرة.
و كلّ ما فيه من (الزيغ) فالميل، إلا: وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ [الأحزاب: 10] أي:
شخصت.
و كلّ ما فيه من (سخر) فالاستهزاء، إلا: سُخْرِيًّا في الزخرف: [32] فهو من التسخير و الاستخدام.
و كلّ (سكينة) فيه طمأنينة، إلاّ التي في قصة طالوت فهو شيء كرأس الهرة له جناحان.
و كلّ (سعير) فيه فهو النار و الوقود، إلا: لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ [القمر: 47] فهو العناء.
و كلّ (شيطان) فيه فإبليس و جنوده، إلا: وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة: 14].
و كلّ (شهيد) فيه غير القتلى فمن يشهد في أمور الناس، إلا: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ [البقرة: 23] فهو شركاؤكم.
و كلّ ما فيه من (أصحاب النار) فأهلها، إلا: وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النّارِ إِلاّ مَلائِكَةً [المدثر:
31] فالمراد خزنتها.
و كلّ (صلاة) فيه عبادة و رحمة، إلا: وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ [الحج: 40] فهي الأماكن.
و كلّ (صمم) فيه، ففي سماع الإيمان و القرآن خاصة، إلاّ الذي في الإسراء.
و كلّ (عذاب) فيه فالتعذيب، إلا: وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما [النور: 2] فهو الضرب.
و كلّ (قنوت) فيه طاعة، إلا كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة: 116] [الروم: 26] فمعناه:
مقرّبون.
ص: 448
و كلّ (كنز) فيه مال، إلاّ الذي في الكهف فهو صحيفة علم.
و كلّ (مصباح) فيه كوكب، إلاّ الذي في النور فالسراج.
و كلّ (نكاح) فيه تزوّج، إلا: حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: 6] فهو الحلم.
و كلّ (نبأ) فيه خبر، إلا: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ [القصص: 60] فهي الحجج.
و كلّ (ورود) فيه دخول، إلا: وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] يعني: هجم عليه و لم يدخله.
و كلّ ما فيه من: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها [البقرة: 286] فالمراد من العمل، إلاّ التي في الطلاق فالمراد من النفقة.
و كلّ (يأس) فيه قنوط، إلاّ التي في الرعد فمن العلم.
و كلّ (صبر) فيه محمود إلا: لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الفرقان: 42]، وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6].
هذا آخر ما ذكره ابن فارس:
و قال غيره: كلّ (صوم) فيه فمن العبادة، إلا: نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً [مريم: 26] أي:
صمتا.
و كلّ ما فيه من (الظلمات و النور) فالمراد الكفر و الإيمان، إلاّ التي في أول الأنعام، فالمراد ظلمة الليل و نور النهار.
و كلّ (إنفاق) فيه فهو الصدقة، إلا: فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا [الممتحنة: 11]، فالمراد به المهر.
و قال الدانيّ: كلّ ما فيه من (الحضور). بالضاد. فهو من المشاهدة إلاّ موضعا واحدا، فإنه بالظاء من الاحتظار و هو المنع، و هو قوله تعالى: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر: 31].
و قال ابن خالويه: ليس في القرآن (بعد) بمعنى (قبل) إلاّ حرف واحد: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105].
قال مغلطاي في كتاب «الميسر»: قد وجدنا حرفا آخر و هو قوله تعالى: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات: 30].
قال أبو موسى في كتاب «المغيث»: معناه هنا: قبل؛ لأنه تعالى خلق الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء، فعلى هذا خلق الأرض قبل خلق السماء. انتهى.
قلت: قد تعرّض النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم و الصحابة و التابعون لشيء من هذا النوع.
ص: 449
فأخرج الإمام أحمد في مسنده، و ابن أبي حاتم، و غيرهما من طريق درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كلّ حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة»(1). هذا إسناده جيّد و ابن حبّان يصححه.
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن (أليم) فهو الموجع(2).
و أخرج من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن (قتل) فهو لعن.
و أخرج من طريق الضّحّاك، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في كتاب اللّه من (الرجز) يعني به العذاب(3).
و قال الفريابيّ: حدّثنا قيس، عن عمّار الدهنيّ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كلّ (تسبيح) في القرآن صلاة، و كلّ (سلطان) في القرآن حجّة(4).
و أخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن (الدين) فهو الحساب(5).
و أخرج ابن الأنباريّ في كتاب «الوقف و الابتداء» من طريق السّدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: كلّ ريب شك إلاّ مكانا واحدا في الطور، رَيْبَ الْمَنُونِ [الآية: 30]، يعني:
حوادث الأمور(6).4.
ص: 450
و أخرج ابن أبي حاتم و غيره، عن أبي بن كعب، قال: كلّ شيء في القرآن من (الرّياح) فهي رحمة، و كلّ شيء فيه من (الريح) فهو عذاب.
و أخرج عن الضحاك، قال: كلّ (كأس) ذكره اللّه في القرآن إنما عنى به الخمر(1).
و أخرج عنه قال: كلّ شيء في القرآن (فاطر) فهو خالق(2).
و أخرج عن سعيد بن جبير، قال: كلّ شيء في القرآن (إفك) فهو كذب(3).
و أخرج عن أبي العالية قال: كل آية في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام، و النهي عن المنكر فهو عبادة الأوثان.
و أخرج عن أبي العالية، قال: كلّ آية في القرآن يذكر فيها (حفظ الفرج) فهو من الزنى، إلاّ قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] فالمراد ألاّ يراها أحد(4).
و أخرج عن مجاهد قال: كلّ شيء في القرآن (إن الإنسان كفور) إنما يعني به الكفّار.
و أخرج عن عمر بن عبد العزيز قال: كلّ شيء في القرآن (خلود) فإنه لا توبة له.
و أخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: كلّ شيء في القرآن (يقدر) فمعناه يقلّ.
و أخرج عنه قال: (التزكي) في القرآن كلّه الإسلام.
و أخرج عن أبي مالك قال: (وراء) في القرآن (أمام) كلّه، غير حرفين فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ [المؤمنون: 7]، يعني: سوى ذلك، وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ، [النساء: 24]، يعني:
سوى ذلكم.
و أخرج عن أبي بكر بن عياش، قال: ما كان (كسفا) فهو عذاب، و ما كان (كسفا) فهو قطع السحاب(5).
و أخرج عن عكرمة، قال: ما صنع اللّه فهو (السّدّ)، و ما صنع الناس فهو (السّدّ).
و أخرج ابن جرير، عن أبي روق، قال: كلّ شيء في القرآن (جعل) فهو خلق.
و أخرج عن مجاهد قال: (المباشرة) في كلّ كتاب اللّه الجماع(6).7.
ص: 451
و أخرج عن ابن زيد، قال: كلّ شيء في القرآن (فاسق) فهو كاذب، إلا قليلا.
و أخرج ابن المنذر، عن السّدّي، قال: ما كان في القرآن حَنِيفاً * مسلما، و ما كان في القرآن حُنَفاءَ * مسلمين حجّاجا.
و أخرج عن سعيد بن جبير قال: (العفو) في القرآن على ثلاثة أنحاء: نحو تجاوز عن الذنب، و نحو في القصد في النفقة: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] و نحو في الإحسان فيما بين الناس: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة:
237].
و في صحيح البخاريّ: قال سفيان بن عيينة: ما سمّى اللّه المطر في القرآن إلاّ عذابا، و تسمّيه العرب الغيث(1).
قلت: استثني من ذلك: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ [النساء: 102]، فإنّ المراد به الغيث قطعا.
و قال أبو عبيدة(2): إذا كان في العذاب فهو أمطرت، و إذا كان في الرحمة فهو مطرت.
فرع: أخرج أبو الشيخ، عن الضحّاك، قال: قال لي ابن عباس: احفظ عني: كلّ شيء في القرآن: وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [التوبة: 74] فهو للمشركين، فأما المؤمنون: فما أكثر أنصارهم و شفعاءهم.
و أخرج سعيد بن منصور، عن مجاهد، قال: كلّ طعام في القرآن فهو نصف صاع(3).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن وهب بن منبّه، قال: كلّ شيء في القرآن (قليل) و: (إلاّ قليل) فهو دون العشرة.
و أخرج عن مسروق، قال: ما كان في القرآن عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الأنعام: 92]، حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [البقرة: 238]، فهو على مواقيتها(4).
و أخرج عن سفيان بن عيينة، قال: كلّ شيء في القرآن: وَ ما يُدْرِيكَ * فلم يخبر به.
وَ ما أَدْراكَ * فقد أخبر به.
و أخرج عنه قال: كلّ (مكر) في القرآن فهو عمل.2.
ص: 452
و أخرج عن مجاهد، قال: ما كان في القرآن (قتل، لعن) فإنما عني به الكافر.
و قال الراغب في «مفرداته»(1): قيل: كلّ شيء ذكره اللّه بقوله: وَ ما أَدْراكَ * فسّره، و كلّ شيء ذكره بقوله: وَ ما يُدْرِيكَ * تركه. و قد ذكر: وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) [المطففين:
8]، وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) [المطففين: 19]، ثمّ فسّر الكتاب، لا السّجّين و لا العليّون.
و في ذلك نكتة لطيفة. انتهى. و لم يذكرها.
و بقيت أشياء تأتي في النوع الذي يلي هذا إن شاء اللّه تعالى.2.
ص: 453
و أعني بالأدوات الحروف و ما شاكلها من الأسماء و الأفعال و الظروف. اعلم أنّ معرفة ذلك من المهمّات المطلوبة لاختلاف مواقعها، و لهذا يختلف الكلام و الاستنباط بحسبها، كما في قوله تعالى: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] فاستعملت (على) في جانب الحق، و (في) في جانب الضلال؛ لأنّ صاحب الحق كأنه مستعل يصرّف نظره كيف شاء، و صاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجه.
و قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ [الكهف: 19] عطف على الجمل الأول بالفاء و الأخيرة بالواو، لما انقطع نظام الترتّب؛ لأن التلطّف غير مرتّب على الإتيان بالطعام، كما كان الإتيان به مترتّبا على النظر فيه، و النظر فيه مترتبا على التّوجّه في طلبه، و التوجّه في طلبه مترتّبا على قطع الجدال في المسألة عن مدة اللّبث و تسليم العلم له تعالى.
و قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ [التوبة: 60] الآية.. عدل عن اللام إلى (في) في الأربعة الأخيرة إيذانا إلى أنهم أكثر استحقاقا للمتصدّق عليهم بمن سبق ذكره بالأمّ؛ لأنّ (في) للوعاء، فنبّه باستعمالها على أنهم أحقّاء بأن يجعلوا مظنّة لوضع الصدقات فيهم، كما يوضع الشيء في وعائه مستقرا فيه.
و قال الفارسيّ (1): إنما قال: وَ فِي الرِّقابِ ، و لم يقل: و للرقاب، ليدلّ على أنّ العبد لا يملك.
و عن ابن عباس قال: الحمد للّه الذي قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] و لم يقل: في صلاتهم.
و سيأتي ذكر كثير من أشباه ذلك.
ص: 454
و هذا سردها مرتبة على حروف المعجم، و قد أفرد هذا النوع بالتصنيف خلائق من المتقدمين كالهرويّ في الأزهية، و المتأخرين كابن أمّ قاسم في الجنى الداني.
* الهمزة(1):
تأتي على وجهين:
أحدهما: الاستفهام، و حقيقته طلب الإفهام، و هي أصل أدواته، و من ثم اختصت بأمور:
أحدها: جواز حذفها، كما سيأتي في النوع السادس و الخمسين.
ثانيها: أنها ترد لطلب التصوّر و التصديق، بخلاف (هل)، فإنها للتصديق خاصة، و سائر الأدوات للتصوّر خاصة.
ثالثها: أنّها تدخل على الإثبات، نحو: أَ كانَ لِلنّاسِ عَجَباً [يونس: 2]. آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ [الأنعام: 143]، و على النفي، نحو أَ لَمْ نَشْرَحْ [الشرح: 1]. و تفيد حينئذ معنيين:
أحدهما: التّذكّر و التنبيه كالمثال المذكور، و كقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45].
و الآخر: التعجّب من الأمر العظيم، كقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 243] و في كلا الحالين هي تحذير، نحو: أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) [المرسلات: 16].
رابعها: تقديمها على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً [البقرة: 100]، أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: 97]. أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ [يونس: 51]. و سائر أخواتها يتأخر عنه، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو:
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ [المزمل: 17]. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) [التكوير: 26]. فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام:
95]. فَهَلْ يُهْلَكُ [الأحقاف: 35]. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ [الأنعام: 81]. فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ [النساء: 88].
خامسها: أنه لا يستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه، بخلاف (هل) فإنّه لما لا يترجح عنده فيه نفي و لا إثبات. حكاه أبو حيّان عن بعضهم.
سادسها: أنّها تدخل على الشرط، نحو: أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الأنبياء: 34].
أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ [آل عمران: 144] بخلاف غيرها.
و تخرج عن الاستفهام الحقيقي، فتأتي لمعان تذكر في النوع السابع و الخمسون.
ص: 455
فائدة: إذا دخلت على (رأيت) امتنع أن تكون من رؤية البصر أو القلب، و صار بمعنى (أخبرني) و قد تبدل (هاء)، و خرّج على ذلك قراءة قنبل ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ [آل عمران: 66] بالقصر، و قد تقع في القسم، و منه ما قرئ [المائدة: 106]: وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ بالتنوين آللّهُ * بالمدّ.
الثاني من وجهي الهمزة: أن تكون حرفا ينادى به القريب، و جعل منه الفراء قوله تعالى:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً [الزمر: 9] على قراءة تخفيف الميم، أي: يا صاحب هذه الصفات.
قال هشام: و يبعده أنه ليس في التنزيل نداء بغير يا، و يقرّبه سلامته من دعوى المجاز، إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته، و من دعوى كثرة الحذف، إذ التقدير عند من جعلها للاستفهام: أمن هو قانت خير أم هذا الكافر. أي: المخاطب بقوله: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً [الزمر: 8] فحذف شيئان: معادل الهمزة و الخبر.
* أحد(1):
قال أبو حاتم في كتاب «الزينة» (2): هو اسم أكمل من الواحد، أ لا ترى أنّك إذا قلت:
فلان لا يقوم له واحد، جاز في المعنى أن يقوم اثنان فأكثر، بخلاف قولك: لا يقوم له أحد.
و في الأحد خصوصيّة ليست في الواحد؛ تقول: ليس في الدار واحد، فيجوز أن يكون من الدوابّ و الطير و الوحش و الإنس، فيعمّ الناس و غيرهم، بخلاف ليس في الدار أحد، فإنّه مخصوص بالآدميين دون غيرهم.
قال: و يأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الأوّل و بمعنى الواحد، فيستعمل في الإثبات و في النفي، نحو: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1] أي: واحد، و أوّل: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ [الكهف: 19]، و بخلافهما فلا يستعمل إلاّ في النفي، تقول: ما جاءني من أحد، و منه: أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) [البلد: 5] و أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ [البلد: 7] فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [الحاقة: 47]. وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ [التوبة: 84]، و واحد يستعمل فيها مطلقا.
و أحد يستوي فيه المذكر و المؤنث، قال تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] بخلاف الواحد، فلا يقال: كواحد من النساء، بل كواحدة، و أحد يصلح في الإفراد و الجمع.
قلت: و لهذا وصف قوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 47] بخلاف الواحد.
ص: 456
و الأحد له جمع من لفظه، و هو الأحدون و الآحاد، و ليس للواحد جمع من لفظه، فلا يقال: واحدون، بل اثنان و ثلاثة.
و الأحد ممتنع الدخول في الضرب و العدد و القسمة و في شيء من الحساب، بخلاف الواحد. انتهى ملخصا. و قد تحصّل من كلامه بينهما سبعة فروق.
و في «أسرار التنزيل» للبارزيّ في سورة الإخلاص: فإن قيل: المشهور في كلام العرب أنّ الأحد يستعمل بعد النفي، و الواحد بعد الإثبات، فكيف جاء (أحد) هنا بعد الإثبات؟ قلنا: قد اختار أبو عبيد(1) أنهما بمعنى واحد، و حينئذ فلا يختصّ أحدهما بمكان دون الآخر، و إن غلب استعمال (أحد) في النفي، و يجوز أن يكون العدول هنا عن الغالب رعاية للفواصل. انتهى.
و قال الراغب في «مفردات القرآن»(2): أحد يستعمل على ضربين: أحدهما في النفي فقط، و الآخر في الإثبات.
فالأول لاستغراق جنس الناطقين، و يتناول الكثير و القليل، و لذلك صحّ أن يقال: ما من أحد فاضلين. كقوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 47].
و الثاني، على ثلاثة أوجه:
الأول: المستعمل في العدد مع العشرات نحو أحد عشر، أحد و عشرين.
و الثاني: المستعمل مضافا إليه بمعنى الأول، نحو: أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [يوسف: 41].
و الثالث: المستعمل وصفا مطلقا، و يختص بوصف اللّه تعالى، نحو: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1]، و أصله وحد، إلاّ أنّ وحدا يستعمل في غيره. انتهى.
* إذ(3):
ترد على أوجه:
أحدها: أن تكون اسما للزمن الماضي و هو الغالب، ثم قال الجمهور: لا تكون إلاّ ظرفا، نحو: فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: 40]، أو مضافا إليها الظرف نحو: إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران: 8]، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ [الزلزلة: 4]، وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) [الواقعة: 84].
ص: 457
و قال غيرهم: تكون مفعولا به، نحو: وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً [الأعراف: 86] و كذا المذكورة في أوائل القصص كلها مفعول به بتقدير: (اذكر).
و بدلا منه، نحو: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ [مريم: 16]؛ فإذ بدل اشتمال من مريم، على حدّ البدل في: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ [البقرة: 217]، اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ [المائدة: 20]، أي: اذكروا النعمة التي هي الجعل المذكور، فهي بدل كلّ من كلّ، و الجمهور يجعلونها في الأول ظرفا لمفعول محذوف، أي: و اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم قليلا. و في الثاني ظرفا لمضاف إلى المفعول محذوف، أي: و اذكر قصة مريم، و يؤيد ذلك التصريح به في: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً [آل عمران: 103].
و ذكر الزمخشريّ أنّها تكون مبتدأ، و خرج عليه قراءة بعضهم: (لمن منّ اللّه على المؤمنين) قال: التقدير: (منّه إذ بعث)، فإذا في محلّ رفع، كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما، أي: لمن منّ اللّه على المؤمنين وقت بعثه. انتهى. قال ابن هشام: و لا نعلم بذلك قائلا.
و ذكر كثير أنّها تخرج عن المضيّ إلى الاستقبال، نحو يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) [الزلزلة: 4]، و الجمهور أنكروا ذلك، و جعلوا الآية من باب: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99]، أعني من تنزيل المستقبل الواجب الوقوع منزلة الماضي الواقع.
و احتج المثبتون. منهم ابن مالك. بقوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: 70، 71] فإنّ (يعلمون) مستقبل لفظا و معنى، لدخول حرف التنفيس عليه، و قد عمل في (إذ) فيلزم أن تكون بمنزلة (إذا).
و ذكر بعضهم أنّها تأتي في الحال، نحو: وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61] أي: حين تفيضون فيه.
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم من طريق السّدّي، عن أبي مالك قال: ما كان في القرآن (إن) بكسر الألف فلم يكن، و ما كان (إذ) فقد كان.
الوجه الثاني: أن تكون للتعليل، نحو وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) [الزخرف: 39] أي: و لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب، لأجل ظلمكم في الدنيا.
(1) الكشاف 504/2-505.
ص: 458
و هل هي حرف بمنزلة لام العلة، أو ظرف بمعنى وقت، و التعليل مستفاد من قوة الكلام لا من اللفظ؟ قولان، المنسوب إلى سيبويه الأول.
و على الثاني: في الآية (إشكال؛ لأن (إذ) لا تبدل من اليوم لاختلاف الزمانين، و لا تكون ظرفا ل (ينفع)؛ لأنه لا يعمل في ظرفين، و لا ل (مشتركون)؛ لأن معمول خبر (إنّ) و أخواتها لا يتقدم عليها، و لأنّ معمول الصّلة لا يتقدم على الموصول، و لأنّ اشتراكهم في الآخرة، لا في زمن ظلمهم.
و ممّا حمل على التعليل: وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:
11]. وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: 16] و أنكر الجمهور هذا القسم، و قالوا: التقدير: (بعد إذ ظلمتم).
و قال ابن جنّي: راجعت أبا عليّ مرارا في قوله تعالى: وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ الآية، مستشكلا إبدال (إذ) من (اليوم)، و آخر ما تحصّل منه: أنّ الدنيا و الآخرة متّصلتان، و أنهما في حكم اللّه سواء، فكأنّ اليوم ماض. انتهى.
الوجه الثالث: التوكيد، بأن تحمل على الزيادة. قاله أبو عبيدة، و تبعه ابن قتيبة، و حملا عليه آيات منها: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة: 30].
الرابع: التحقيق كقد، و حملت عليه الآية المذكورة. و جعل منه السّهيلي قوله: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 80]، قال ابن هشام: و ليس القولان بشيء.
تلزم (إذ) الإضافة إلى جملة: إما اسمية نحو: وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [الأنفال: 26].
أو فعلية فعلها ماض لفظا و معنى، نحو: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة: 30]. وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [التوبة: 124]. أو معنى لا لفظا نحو: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ [الأحزاب:
37]. و قد اجتمعت الثلاثة في قوله تعالى: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ [التوبة: 40]. و قد تحذف الجملة للعلم بها، و يعوّض عنها التنوين، و تكسر الذّال لالتقاء الساكنين، نحو: وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم: 4]. وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) [الواقعة: 84].
و زعم الأخفش أنّ (إذ) في ذلك معربة، لزوال افتقارها إلى الجملة، و أن الكسرة إعراب؛ لأن اليوم و الحين مضافان إليها. و ردّ بأن بناءها لوضعها على حرفين، و بأنّ الافتقار باق في المعنى، كالموصول تحذف صلته.
ص: 459
على وجهين:
أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختص بالجمل الاسمية، و لا تحتاج لجواب، و لا تقع في الابتداء، و معناها الحال لا الاستقبال، نحو: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) [طه:
20]، فَلَمّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ [يونس: 23]، وَ إِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا [يونس: 21].
قال ابن الحاجب: و معنى المفاجأة حضور الشيء معك في وصف من أوصافك الفعلية، تقول: خرجت فإذا الأسد بالباب، فمعناه: حضور الأسد معك في زمن وصفك بالخروج أو في مكان خروجك. و حضوره معك في مكان خروجك ألصق بك من حضوره في خروجك، لأن ذلك المكان يخصّك دون ذلك الزمان، و كلّما كان ألصق كانت المفاجأة فيه أقوى.
و اختلف في (إذا) هذه:
فقيل: أنّها حرف، و عليه الأخفش، و رجّحه ابن مالك.
و قيل: ظرف مكان، و عليه المبرّد و رجّحه ابن عصفور.
و قيل: ظرف زمان، و عليه الزّجاج و رجّحه الزّمخشريّ، و زعم أنّ عاملها فعل مقدّر مشتق من لفظ المفاجأة.
قال: التقدير: ثم إذا دعاكم فاجأتم الخروج في ذلك الوقت. ثمّ قال ابن هشام: و لا يعرف ذلك لغيره، و إنما يعرف ناصبها عندهم الخبر المذكور أو المقدّر، قال: و لم يقع الخبر معها في التنزيل إلاّ مصرّحا به.
الثاني: أن تكون لغير المفاجأة، فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمّنة معنى الشرط، و تختصّ بالدخول على الجمل الفعلية، و تحتاج لجواب، و تقع في الابتداء عكس الفجائية.
و الفعل بعدها: إمّا ظاهر، نحو: إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ [النصر: 1]، أو مقدر، نحو:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق: 1].
و جوابها إما فعل، نحو: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ [غافر: 78]. أو جملة اسمية مقرونة بالفاء، نحو: فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 8، 9]، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ [المؤمنون: 101]. أو فعلية طلبية كذلك، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر: 3]، أو اسمية مقرونة بإذا الفجائية، نحو: إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25]، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم: 48].
ص: 460
و قد يكون مقدّرا لدلالة ما قبله عليه، أو لدلالة المقام، و سيأتي في أنواع الحذف.
و قد تخرج (إذا) عن الظرفية، قال الأخفش في قوله تعالى: حَتّى إِذا جاؤُها [الزمر:
71]: إنّ (إذا) جرّ بحتى.
و قال ابن جنّي في قوله: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) [الواقعة: 1] الآية، فيمن نصب:
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) [الواقعة: 3]: إنّ إذا الأولى مبتدأ و الثانية خبر، و المنصوبان حالان، و كذا جملة ليس و معمولاها. و المعنى: وقت وقوع الواقعة. خافضة لقوم رافعة لآخرين. هو وقت رجّ الأرض.
و الجمهور أنكروا خروجها عن الظرفية، و قالوا في الآية الأولى: إنّ (حتّى) حرف ابتداء، داخل على الجملة بأسرها و لا عمل له، و في الثانية: إنّ (إذا) الثانية بدل من الأولى، و الأولى ظرف و جوابها محذوف لفهم المعنى، و حسّنه طول الكلام، و تقديره بعد إذا الثانية:
أي انقسمتم أقساما، و كنتم أزواجا ثلاثة.
و قد تخرج عن الاستقبال:
فترد للحال، نحو: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) [الليل: 1]، فإن الغشيان مقارن للّيل: وَ النَّهارِ إِذا تَجَلّى (2) [الليل: 2]، وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) [النجم: 1].
و للماضي، نحو: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً [الجمعة: 11]، فإن الآية نزلت بعد الرؤية و الانفضاض، و كذا قوله تعالى: وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة: 92]، حَتّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الكهف: 90]، حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف: 96].
و قد تخرج عن الشرطية، نحو: وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37]، وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) [الشورى: 39]، فإذا في الآيتين ظرف لخبر المبتدأ بعدها، و لو كانت شرطية. و الجملة الاسمية جواب. لاقترنت بالفاء.
و قول بعضهم: إنه على تقديرها، مردود بأنّها لا تحذف إلاّ لضرورة. و قول آخر: إنّ الضمير توكيد لا مبتدأ، و أنّ ما بعده الجواب، تعسّف. و قول آخر: جوابها محذوف مدلول عليه بالجملة بعدها، تكلّف من غير ضرورة.
الأول: المحققون على أنّ ناصب إذا شرطها، و الأكثرون أنه ما في جوابها من فعل أو شبهه.
الثاني: قد تستعمل إذا للاستمرار في الأحوال الماضية و الحاضرة و المستقبلة، كما يستعمل الفعل المضارع لذلك؛ و منه: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى
ص: 461
شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) [البقرة: 14]، أي هذا شأنهم أبدا، و كذا قوله تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النساء: 142].
الثالث: ذكر ابن هشام في «المغني»: (إذ ما) و لم يذكر (إذا ما) و قد ذكرها الشيخ بهاء الدين السبكيّ في [عروس الأفراح] في أدوات الشرط.
فأمّا (إذ ما) فلم تقع في القرآن، و مذهب سيبويه أنها حرف. و قال المبرّد و غيره: إنها باقية على الظرفية، و أمّا (إذا ما) فوقعت في القرآن في قوله تعالى: وَ إِذا ما غَضِبُوا [الشورى: 37]، إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التوبة: 92]، و لم أر من تعرّض لكونها باقية على الظرفية أو محوّلة إلى الحرفية. و يحتمل أن يجري فيها القولان في (إذ ما). و يحتمل أن يجزم ببقائها على الظرفية، لأنها أبعد عن التركيب، بخلاف (إذ ما).
الرابع: تختصّ (إذا) بدخولها على المتيقّن و المظنون و الكثير الوقوع، بخلاف (إن) فإنها تستعمل في المشكوك و الموهوم و النادر؛ و لهذا قال تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ثم قال: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]، فأتى بإذا في الوضوء لتكرره و كثرة أسبابه، و بإن في الجنابة لندرة وقوعها بالنسبة إلى الحدث. و قال تعالى: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا [الأعراف: 131] وَ إِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) [الروم: 36]. أتى في جانب الحسنة بإذا؛ لأنّ نعم اللّه على العباد كثيرة و مقطوع بها، و بإن في جانب السّيّئة لأنها نادرة الوقوع و مشكوك فيها.
نعم أشكل على هذه القاعدة آيتان(1): الأولى قوله تعالى: وَ لَئِنْ مُتُّمْ [آل عمران:
158]، أَ فَإِنْ ماتَ [آل عمران: 144]، فأتى بإن مع أنّ الموت محقّق الوقوع. و الأخرى قوله تعالى: وَ إِذا مَسَّ النّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) [الروم: 33] فأتى بإذا في الطرفين.
و أجاب الزمخشريّ (2) عن الأولى: بأن الموت لمّا كان مجهول الوقت أجري مجرى غير المجزوم.
و أجاب السّكّاكي عن الثانية: بأنه قصد التوبيخ و التقريع، فأتى بإذا ليكون تخويفا لهم، و إخبارا بأنهم لا بدّ أن يمسّهم شيء من العذاب، و استفيد التقليل من لفظ (المسّ) و تنكير ضُرٌّ .1.
ص: 462
و أما قوله تعالى: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) [فصلت: 51] فأجيب عنه بأن الضمير في مَسَّهُ للمعرض المتكبر، لا لمطلق الإنسان. و يكون لفظ (إذا) للتنبيه على أن مثل هذا المعرض يكون ابتلاؤه بالشّرّ مقطوعا به.
و قال الخويّي: الذي أظنّه أنّ (إذا) يجوز دخولها على المتيقّن و المشكوك، لأنها ظرف و شرط، فبالنظر إلى الشرط تدخل على المشكوك، و بالنظر إلى الظرف تدخل على المتيقّن كسائر الظروف.
الخامس: خالفت (إذا) (إن) أيضا في: إفادة العموم، قال ابن عصفور: فإذا قلت: إذا قام زيد قام عمرو، أفادت: أنّه كلما قام زيد قام عمرو. قال: هذا هو الصحيح. و في: أنّ المشروط بها إذا كان عدما يقع الجزاء في الحال، و في (إن) لا يقع حتى يتحقق اليأس من وجوده. و في: أنّ جزاءها مستعقب لشرطها على الاتصال، لا يتقدّم و لا يتأخّر، بخلاف (إن). و في: أنّ مدخولها لا تجزمه، لأنها لا تتمخض شرطا.
خاتمة: قيل: قد تأتي إذا زائدة، و خرّج عليه: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) [الانشقاق: 1]، أي: انشقت السماء، كما قال: اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ [القمر: 1].
إذا(1):
قال سيبويه: معناها الجواب و الجزاء، فقال الشلوبين(2): في كل موضع، و قال الفارسيّ: في الأكثر. و الأكثر أن تكون جوابا لأنّ أولو، ظاهرتين أو مقدّرتين.
قال الفرّاء: و حيث جاءت بعدها اللام فقبلها (لو) مقدرة إن لم تكن ظاهرة، نحو: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [المؤمنون: 91].
و هي حرف ينصب المضارع، بشرط تصديرها و استقباله، و اتصالها أو انفصالها بالقسم أو بلا النافية.
قال النحاة: و إذا وقعت بعد الواو و الفاء جاز فيها الوجهان، نحو: وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ [الإسراء: 76]، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ [النساء: 53] و قرئ. شاذّا. بالنصب فيهما.
و قال ابن هشام: التحقيق أنه إذا تقدّمها شرط و جزاء و عطفت، فإن قدّرت العطف على الجواب جزمت و بطل عمل إذا، لوقوعها حشوا. أو على الجملتين جميعا: جاز الرفع2.
ص: 463
و النصب. و كذا إذا تقدمها مبتدأ خبره فعل مرفوع، إن عطفت على الفعليّة رفعت، أو الاسمية فالوجهان.
و قال غيره: (إذا) نوعان:
الأول: أن تدل على إنشاء السببية و الشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، نحو:
أزورك غدا، فتقول: إذا أكرمك. و هي في هذا الوجه عاملة تدخل على الجمل الفعلية، فتنصب المضارع المستقبل المتصل إذا صدّرت.
و الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمقدّم، أو منبّهة على مسبّب حصل في الحال، و هي حينئذ غير عاملة؛ لأنّ المؤكدات لا يعتمد عليها، و العامل يعتمد عليه، نحو: إن تأتني إذا آتيك، و اللّه إذا لأفعلنّ. أ لا ترى أنّها لو سقطت لفهم الارتباط.
و تدخل هذه على الاسمية، فتقول: إذا أنا أكرمك. و يجوز توسّطها و تأخرها. و من هذا قوله تعالى: وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً [البقرة:
145] فهي مؤكدة للجواب، مرتبطة بما تقدم.
تنبيهان:
الأول: سمعت شيخنا العلامة الكافيجي يقول في قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) [المؤمنون: 34]: ليست إذا هذه الكلمة المعهودة، و إنما هي (إذا) الشرطية، حذفت جملتها التي تضاف إليها، و عوّض عنها بالتنوين كما في يومئذ. و كنت أستحسن هذا جدّا، و أظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك. ثم رأيت الزركشيّ قال في «البرهان»(1) بعد ذكره لإذا المعنيين السابقين:
و ذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا، و هي أن تكون مركّبة من (إذا) التي هي ظرف زمن ماض، و من جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا، لكن حذفت الجملة تخفيفا؛ و أبدل منها التنوين، كما في قولهم في حينئذ، و ليست هذه الناصبة للمضارع، و لأنّ تلك تختصّ به و لذا عملت فيه، و لا يعمل إلاّ ما يختصّ، و هذه لا تختص، بل تدخل على الماضى، كقوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ [النساء: 67]، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: 100]، إِذاً لَأَذَقْناكَ [الإسراء: 75] و على الاسم نحو: وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] قال: و هذا المعنى لم يذكره النّحاة، لكنه قياس ما قالوه في (إذ).
و في «التذكرة» لأبي حيّان: ذكر لي علم الدين القمنيّ: أنّ القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن (إذا) عوض من الجملة المحذوفة، و ليس هذا قول نحويّ.8.
ص: 464
و قال الخويّي: و أنا أظن أنه يجوز أن تقول. لمن قال: أنا آتيك: إذا أكرمك، بالرفع، على معنى: إذا أتيتني أكرمك، فحذفت أتيتني، و عوضت التنوين من الجملة، فسقطت الألف لالتقاء الساكنين. قال: و لا يقدح في ذلك اتفاق النحاة على أن الفعل في مثل ذلك منصوب بإذا؛ لأنهم يريدون بذلك ما إذا كانت حرفا ناصبا له، و لا ينفي ذلك رفع الفعل بعدها إذا أريد بها (إذا) الزمانية، معوّضا من جملتها التنوين، كما أنّ منهم من يجزم ما بعد (من) إذا جعلها شرطية، و يرفعه إذا أريد بها الموصولة. انتهى.
فهؤلاء قد حاموا حول ما حام عليه الشيخ، إلاّ أنه ليس أحد منهم من المشهورين بالنحو، و ممن يعتمد قوله فيه. نعم ذهب بعض النحاة إلى أنّ أصل (إذا) الناصبة اسم، و التقدير في: إذا أكرمك: إذا جئتني أكرمك، فحذفت الجملة و عوّض منها التنوين، و أضمرت (أن).
و ذهب آخرون إلى أنها حرف، مركّبة من (إذ) و (إن). حكى القولين ابن هشام في المغني.
التنبيه الثاني: الجمهور على أن (إذا) يوقف عليها بالألف المبدلة من النون، و عليه إجماع القراء، و جوّز قوم. منهم المبرّد و المازنيّ في غير القرآن. الوقوف عليها بالنون، كلن و إن، و ينبني على الخلاف في الوقوف عليها كتابتها: فعلى الأوّل تكتب بالألف كما رسمت في المصاحف، و على الثاني بالنّون.
و أقول: الإجماع في القرآن على الوقف عليها، و كتابتها بالألف دليل على أنها اسم منوّن لا حرف آخره نون، خصوصا أنها لم تقع فيها ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها، كما جنح إليه الشيخ و من سبق النقل عنه.
* أف(1):
كلمة تستعمل عند التضجّر و التكرّه.
و قد حكى أبو البقاء(2) في قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] قولين:
أحدهما: أنه اسم لفعل الأمر، أي كبّ و اترك.
و الثاني: أنه اسم لفعل ماض، أي كرهت و تضجّرت.
و حكى غيره ثالثا: أنه اسم لفعل مضارع، أي: أتضجر منكما.
و أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: أُفٍّ لَكُمْ [الأنبياء: 67]، فأحاله أبو البقاء على ما سبق في الإسراء، و مقتضاه تساويهما في المعنى.
ص: 465
و قال العزيزيّ في غريبه: هنا: أي: بئسا لكم.
و فسر صاحب الصحاح: أفّ بمعنى قذرا.
و قال في «الارتشاف»: أفّ: أتضجّر.
و في البسيط: معناه التضجّر، و قيل الضجر، و قيل: تضجّرت، ثم حكى فيها تسعا و ثلاثين لغة.
قلت: قرئ منها في السبع (أفّ) بالكسر بلا تنوين، و أُفٍّ بالكسر و التنوين، و (أفّ) بالفتح بلا تنوين، و في الشاذ (أفّ) بالضم منوّنا و غير منوّن، و (أفّ) بالتخفيف(1).
أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ قال: لا تقذّرهما(2).
و أخرج عن أبي مالك قال: هو الرديء من الكلام.
* أل(3):
على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون اسما موصولا بمعنى الّذي و فروعه، و هي الداخلة على أسماء الفاعلين و المفعولين، نحو: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية، اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 112] الآية.
و قيل: هي حينئذ حرف تعريف، و قيل: موصول حرفيّ.
الثاني: أن تكون حرف تعريف، و هي نوعان: عهديّة و جنسيّة.
و كلّ منهما على ثلاثة أقسام؛ فالعهدية: إما أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا، نحو: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16.15]. فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ [النور: 35] و ضابط هذه أن يسدّ الضّمير مسدّها مع مصحوبها.
أو معهودا ذهنيا: نحو: إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40]، إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18].
أو معهودا حضوريا: نحو: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3]. اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 5]. قال ابن عصفور: و كذا كلّ واقعة بعد اسم الإشارة، أو أي في النداء،
ص: 466
و إذا الفجائية، أو في اسم الزمان الحاضر نحو: الآن.
و الجنسية:
إما لاستغراق الأفراد، و هي التي تخلفها (كلّ) حقيقة، نحو: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28]، عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ [الرعد: 9]. و من دلائلها صحة الاستثناء من مدخولها، نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (1) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 3.2].
و وصفه بالجمع، نحو: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [النور: 31].
و إما لاستغراق خصائص الأفراد: و هي التي تخلفها (كلّ) مجازا، نحو: ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] أي: الكتاب الكامل في الهداية الجامع لصفات جميع الكتب المنزلة و خصائصها.
و إمّا لتعريف الماهيّة و الحقيقة و الجنس: و هي التي لا تخلفها (كلّ) لا حقيقة و لا مجازا، نحو: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ، [الأنبياء: 30] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ [الأنعام: 89].
و قيل: و الفرق بين المعرّف بأل و بين اسم الجنس النكرة هو الفرق بين المقيّد و المطلق؛ لأنّ المعرّف بها يدلّ على الحقيقة بقيد حضورها في الذهن، و اسم الجنس النكرة يدلّ على مطلق الحقيقة لا باعتبار قيد.
الثالث: أن تكون زائدة، و هي نوعان:
لازمة كالتي في الموصولات: على القول بأن تعريفها بالصلة، وكالتي في الأعلام المقارنة لنقلها كاللاّت و العزّى، أو لغلبتها: كالبيت للكعبة و المدينة لطيبة و النجم للثريّا، و هذه في الأصل للعهد.
أخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى: وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (2) [النجم: 1] قال: الثّريّا(1).
و غير لازمة: كالواقعة في الحال، و خرّج عليه قراءة بعضهم: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]، بفتح الياء(2)، أي: ذليلا؛ لأنّ الحال واجبة التنكير، إلاّ أنّ ذلك غير فصيح، فالأحسن تخريجها على حذف مضاف، أي: خروج الأذلّ، كما قدّره الزمخشري(3).
مسألة: اختلف في (أل) في اسم اللّه تعالى: فقال سيبويه: هي عوض من الهمزة4.
ص: 467
المحذوفة، بناء على أنّ أصله (إله)، دخلت (أل) فنقلت حركة الهمزة إلى اللام ثم أدغمت.
قال الفارسيّ: و يدلّ على ذلك قطع همزها و لزومها.
و قال آخرون: هي مزيدة للتعريف تفخيما و تعظيما، و أصل (إله) (لاه).
و قال قوم: هي زائدة لازمة لا للتعريف.
و قال بعضهم: أصله هاء الكتابة؛ زيدت فيه لام الملك، فصار (له) ثم زيدت (أل) تعظيما؛ و فخّموه توكيدا.
و قال الخليل و خلائق: هي من بنية الكلمة، و هو اسم علم لا اشتقاق له و لا أصل.
خاتمة: أجاز الكوفيّون و بعض البصريين و كثير من المتأخرين نيابة (أل) عن الضمير المضاف إليه، و خرّجوا على ذلك: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) [النازعات: 41] و المانعون يقدّرون (له).
و أجاز الزمخشريّ (1) نيابتها عن الظاهر أيضا، و خرج عليه وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31]، فإنّ الأصل أسماء المسمّيات.
* ألا(2):
بالفتح و التخفيف، وردت في القرآن على أوجه:
أحدها: للتنبيه، فتدلّ على تحقيق ما بعدها. قال الزمخشريّ: و لذلك قلّ وقوع الجمل بعدها إلاّ مصدّرة بنحو ما يتلقّى به القسم، و تدخل على الاسمية و الفعلية، نحو: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [البقرة: 13]، أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ [هود: 8].
قال في المغني: و يقول المعربون فيها: حرف استفتاح، فيبينون مكانها و يهملون معناها، و إفادتها التحقيق من جهة تركيبها من الهمزة و لا، و همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق: نحو: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ [القيامة: 40].
الثاني و الثالث: التحضيض و العرض، و معناهما طلب الشيء، لكن الأوّل طلب بحثّ، و الثاني طلب بلين. و تختص فيهما بالفعلية، نحو: أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا [التوبة:
13]، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) [الشعراء: 11]، أَ لا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 27]، أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ [النور: 22].
* ألاّ(3):
بالفتح و التشديد، حرف تحضيض؛ لم يقع في القرآن لهذا المعنى فيما أعلم، إلاّ أنه
ص: 468
يجوز عندي أن يخرّج عليه قوله: أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ [النمل: 25]. و أما قوله تعالى: أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ [النمل: 31] فليست هذه، بل هي كلمتان: أنّ الناصبة و لا النافية، أو (أنّ) المفسرة و لا الناهية.
* إلاّ(1):
بالكسر و التشديد على أوجه:
أحدها: الاستثناء متصلا، نحو: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً [البقرة: 249] ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ [النساء: 66]. أو منقطعا؛ نحو: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) [الفرقان: 57]، وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) [الليل: 20.19].
الثاني: بمعنى غير، فيوصف بها و بتاليها جمع منكر أو شبهه، و يعرب الاسم الواقع بعدها بإعراب غير، نحو: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]، فلا يجوز أن تكون هذه الآية للاستثناء؛ لأنّ آلِهَةٌ جمع منكّر في الإثبات، فلا عموم له، فلا يصحّ الاستثناء منه، و لأنه يصير المعنى حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم اللّه لفسدتا، و هو باطل باعتبار مفهومه.
الثالث: أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في التشريك، ذكره الأخفش و الفرّاء و أبو عبيدة، و خرّجوا عليه: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150]، لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [النمل: 11.10] أي: و لا الذين ظلموا و لا من ظلم. و تأوّلهما الجمهور على الاستثناء المنقطع.
الرابع: بمعنى (بل)، ذكره بعضهم، و خرّج عليه: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاّ تَذْكِرَةً [طه: 3.2] أي: بل تذكرة.
الخامس: بمعنى (بدل)، ذكره ابن الصائغ، و خرّج عليه آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ أي بدل اللّه أو عوضه، و به يخرج عن الإشكال المذكور في الاستثناء و في الوصف بإلاّ من جهة المفهوم.
و غلط ابن مالك، فعدّ من أقسامها نحو: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ [التوبة: 40] و ليست منها، بل هي كلمتان: (إنّ) الشرطية و (لا) النافية.
فائدة(2): قال الرّمّانيّ في تفسيره: معنى إلاّ اللازم لها الاختصاص بالشيء دون غيره، فإذا قلت: جاءني القوم إلاّ زيدا. فقد اختصصت زيدا بأنه لم يجيء، و إذا قلت: ما جاءني إلاّ
ص: 469
زيد، فقد اختصصته بالمجيء، و إذا قلت: ما جاءني زيد إلاّ راكبا، فقد اختصصته بهذه الحالة دون غيرها من المشي و العدو و نحوه.
* الآن(1):
اسم للزمن الحاضر، و قد يستعمل في غيره مجازا. و قال قوم: هي محلّ للزمانين، أي: ظرف للماضي و ظرف للمستقبل، و قد يتجوّز بها عمّا قرب من أحدهما.
و قال ابن مالك: لوقت حضر جميعه، كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو بعضه نحو:
اَلْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: 66]، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 9] قال: و ظرفيته غالبة لا لازمة.
و اختلف في (أل) التي فيه، فقيل: للتعريف الحضوريّ، و قيل: زائدة لازمة.
* إلى(2):
حرف جرّ له معان:
أشهرها: انتهاء الغاية زمانا، نحو ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187]. أو مكانا، نحو: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1].
أو غيرهما، نحو: وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل: 33]، أي: منته إليك، و لم يذكر لها الأكثرون غير هذا المعنى.
و زاد ابن مالك و غيره تبعا للكوفيين معاني أخر:
منها: المعيّة: و ذلك إذا ضممت شيئا إلى آخر في الحكم به أو عليه أو التعلّق، نحو:
مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ [آل عمران: 52]، وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6]، وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2].
قال الرّضي: و التحقيق أنها للانتهاء، أي: مضافة إلى المرافق، و إلى أموالكم.
و قال غيره: ما ورد من ذلك مؤوّل على تضمين العامل و إبقاء (إلى) على أصلها، و المعنى في الآية الأولى: من يضيف نصرته إلى نصرة اللّه؟ أو من ينصرني حال كوني ذاهبا إلى اللّه.
و منها: الظرفية كفي، نحو: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [النساء: 87] أي: فيه، هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى [النازعات: 18] أي: في أن و منها: مرادفة اللام، و جعل منه: وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: لك. و تقدّم أنه من الانتهاء.
و منها: التبيين، قال ابن مالك: و هي المبينة لفاعليّة مجرورها بعد ما يفيد حبّا أو بغضا،
ص: 470
من فعل تعجب أو اسم تفضيل، نحو: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يوسف: 33].
و منها: التوكيد، و هي الزائدة، نحو: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] في قراءة بعضهم بفتح الواو، أي: تهواهم. قاله الفرّاء. و قال غيره: هو على تضمين (تهوى) معنى (تميل).
حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري: أنّ (إلى) تستعمل اسما، فيقال: انصرفت من إليك، كما يقال: غدوت من عليه. و خرّج عليه من القرآن قوله تعالى:
وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] و به يندفع إشكال أبي حيّان فيه: بأنّ القاعدة المشهورة أنّ الفعل لا يتعدّى إلى ضمير يتّصل بنفسه أو بالحرف، و قد رفع المتصل، و هما لمدلول واحد، في غير باب ظنّ.
* اللّهمّ (1):
المشهور أنّ معناه: يا الله، حذفت ياء النداء، و عوّض عنها الميم المشدّدة في آخره.
و قيل: أصله يا الله أمنا بخير، فركب تركيب حيّهلا.
و قال أبو رجاء العطارديّ: الميم فيها تجمع سبعين اسما من أسمائه.
و قال ابن ظفر: قيل: إنها الاسم الأعظم، استدلّ لذلك: بأنّ اللّه دالّ على الذّات، و الميم دالّة على الصفات التسع و التسعين، و لهذا قال الحسن البصري: اللهمّ: تجمع الدعاء.
و قال النّضر بن شميل: من قال: اللهمّ، فقد دعا اللّه بجميع أسمائه.
* أم(2):
حرف عطف، و هي نوعان:
متصلة، و هي قسمان:
الأول: أن يتقدّم عليها همزة التسوية، نحو: وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [إبراهيم: 21] سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6].
و الثاني: أن يتقدّم عليها همزة يطلب بها و بأم التعيين، نحو: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام: 144].
و سمّيت في القسمين متّصلة؛ لأنّ ما قبلها و ما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر،
ص: 471
و تسمّى أيضا معادلة، لمعادلتها للهمزة: في إفادة التسوية في القسم الأول، و الاستفهام في الثاني.
و يفترق القسمان من أربعة أوجه:
أحدها و ثانيها: أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحقّ جوابا؛ لأنّ المعنى معها ليس على الاستفهام، و أنّ الكلام معها قابل للتصديق و التكذيب؛ لأنه خبر، و ليست تلك كذلك؛ لأنّ الاستفهام منها على حقيقته.
و الثالث و الرابع: أنّ الواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلاّ بين جملتين، و لا تكون الجملتان معها إلاّ في تأويل المفردين، و تكون الجملتان: فعليتين، و اسميتين، و مختلفتين.
نحو: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193]، و أم الأخرى تقع بين المفردين، و هو الغالب فيها، نحو: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [النازعات: 27] و بين جملتين ليسا في تأويلهما.
النوع الثاني: منقطعة، و هي ثلاثة أقسام:
مسبوقة بالخبر المحض، نحو: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السجدة: 3.2].
و مسبوقة بالهمزة لغير الاستفهام، نحو: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها [الأعراف: 195]، إذ الهمزة في ذلك للإنكار، فهي بمنزلة النفي، و المتصلة لا تقع بعده.
و مسبوقة باستفهام بغير الهمزة، نحو: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ [الرعد: 16].
و معنى أم المنقطعة. الذي لا يفارقها. الإضراب، ثم تارة تكون له مجرّدا، و تارة تضمن مع ذلك استفهاما إنكاريّا.
فمن الأول: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ [الرعد: 16]، لأنه لا يدخل الاستفهام على استفهام.
و من الثاني: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) [الطور: 39] تقديره: بل أ له البنات؟ إذ لو قدّرت الإضراب المحض لزم المحال.
الأول: قد ترد (أم) محتملة للاتصال و للانقطاع، كقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 80] قال الزمخشري(1):
ص: 472
يجوز في أم أن تكون معادلة، بمعنى: أيّ الأمرين كائن؟ على سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما، و يجوز أن تكون منقطعة.
الثاني: ذكر أبو زيد، أنّ (أم) تقع زائدة، و خرّج عليه قوله تعالى: أَ فَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ [الزخرف: 52.51]. قال: التقدير: أ فلا تبصرون أنا خير.
* أمّا(1):
بالفتح و التشديد، حرف شرط و تفصيل و توكيد.
أمّا كونها حرف شرط: فبدليل لزوم الفاء بعدها، نحو: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ [البقرة: 26]. و أما قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ [آل عمران: 106]. فعلى تقدير القول، أي فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول استغناء عنه بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف. و كذا قوله: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ [الجاثية: 31].
و أما التفصيل: فهو غالب أحوالها كما تقدم، و كقوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79]، وَ أَمَّا الْغُلامُ [الكهف: 80]، وَ أَمَّا الْجِدارُ [الكهف: 82].
و قد يترك تكرارها استغناء بأحد القسمين عن الآخر، و سيأتي في أنواع الحذف.
و أما التوكيد: فقال الزمخشريّ: فائدة أمّا في الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك، و أنه لا محالة ذاهب، و أنه بصدد الذهاب، و أنه منه عزيمة، قلت: أما زيد فذاهب، و لذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب.
و يفصل بين أمّا و الفاء: إما بمبتدإ كالآيات السابقة أو خبر، نحو: أما في الدار فزيد. أو جملة شرط، نحو: فَأَمّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ [الواقعة: 89.88]. أو اسم منصوب بالجواب، نحو: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) [الضحى: 9]. أو اسم معمول لمحذوف يفسره ما بعد الفاء، نحو: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] في قراءة بعضهم بالنصب(2).
ليس من أقسام (أمّا) التي في قوله تعالى: أَمّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84]، بل هي كلمتان: أم المنقطعة، و ما الاستفهامية.
الإبهام، نحو: وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ [التوبة: 106].
و التخيير، نحو: إِمّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف: 86]. إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65]، فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً [محمد: 4].
و التفصيل، نحو: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً [الإنسان: 3].
الأول: لا خلاف أن (إمّا) الأولى في هذه الأمثلة و نحوها غير عاطفة، و اختلف في الثانية، فالأكثرون على أنها عاطفة، و أنكره جماعة منهم ابن مالك لملازمتها غالبا الواو العاطفة. و ادّعى ابن عصفور الإجماع على ذلك، قال: و إنما ذكروها في باب العطف لمصاحبتها لحرفه. و ذهب بعضهم إلى أنها عطفت الاسم على الاسم، و الواو عطفت إمّا على إمّا، و هو غريب.
الثاني: سيأتي أنّ هذه المعاني تكون ل (أو) و الفرق بينها و بين (إمّا) أنّ (إمّا) يبنى الكلام معها من أوّل الأمر على ما جيء بها لأجله، و لذلك وجب تكرارها و (أو) يفتتح الكلام معها على الجزم، ثم يطرأ الإبهام أو غيره، و لهذا لم يتكرر.
الثالث: ليس من أقسام (إمّا) التي في قوله: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم: 26] بل هي كلمتان: (إن) الشرطية و ما الزائدة.
* إن(1):
بالكسر و التخفيف، على أوجه:
الأول: أن تكون شرطية، نحو: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ [الأنفال: 38]، و إذا دخلت على (لم) فالجزم بلم لا بها. نحو: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24]، أو: على لا، فالجزم بها لا بلا، نحو: وَ إِلاّ تَغْفِرْ لِي [هود: 47]، إِلاّ تَنْصُرُوهُ [التوبة: 40]. و الفرق أنّ (لم) عامل يلزم معموله و لا يفصل بينهما بشيء، و (إن) يجوز الفصل بينها و بين معمولها بمعموله، و (لا) لا تعمل الجزم إذا كانت نافية، فأضيف العمل إلى إن.
الثاني: أن تكون نافية، و تدخل على الاسمية و الفعلية، نحو: إِنِ الْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ [الملك: 20] إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ [المجادلة: 2] إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى [التوبة: 107] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً [النساء: 117].
ص: 474
قيل: و لا تقع إلاّ و بعدها (إلاّ) كما تقدم، أو لمّا المشددة، نحو: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق: 4]، في قراءة التشديد، و ردّ بقوله: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [يونس: 68] وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ [الأنبياء: 111].
و مما حمل على النافية قوله: إِنْ كُنّا فاعِلِينَ [الأنبياء: 17]. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81]، و على هذا فالوقف هنا. وَ لَقَدْ مَكَّنّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26]، أي: في الذي ما مكّنّاكم فيه. و قيل: هي زائدة، و يؤيد الأول قوله: مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6]، و عدل عن (ما) لئلا تتكرر فيثقل اللفظ.
قلت: و كونها للنّفي هو الوارد عن ابن عباس، كما تقدم في نوع الغريب من طريق ابن أبي طلحة.
و قد اجتمعت الشرطية و النافية في قوله: وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41].
و إذا دخلت النافية على الاسمية لم تعمل عند الجمهور، و أجاز الكسائي و المبرّد إعمالها عمل ليس، و خرّج عليه قراءة سعيد بن جبير: (إن الذين تدعون من دون اللّه عبادا أمثالكم).
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كلّ شيء في القرآن (إن) فهو إنكار.
الثالث: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتدخل على الجملتين:
ثم الأكثر إذا دخلت على الاسمية إهمالها، نحو: وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 35]. وَ إِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) [يس: 32]. إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63]، في قراءة حفص و ابن كثير.
و قد تعمل، نحو: وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ [هود: 111] في قراءة الحرميّين.
و إذا دخلت على الفعل، فالأكثر كونه ماضيا ناسخا، نحو: وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: 143] وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف: 102]. و دونه أن يكون مضارعا ناسخا، نحو: وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ [القلم: 51] وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشعراء: 186].
و حيث وجدت (إن) و بعدها (اللام المفتوحة) فهي المخففة من الثقيلة.
الرابع: أن تكون زائدة، و خرج عليه: فِيما إِنْ مَكَّنّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26].
الخامس: أن تكون للتعليل كإذ، قاله الكوفيون. و خرّجوا عليه قوله تعالى: وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 57]. لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27].
وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139]. و نحو ذلك، مما الفعل فيه محقّق الوقوع.
ص: 475
و أجاب الجمهور عن آية المشيئة: بأنه تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل، أو: بأن أصل ذلك الشرط، ثم صار يذكر للتبرّك، أو أن المعنى: لتدخلن جميعا إن شاء اللّه ألاّ يموت منكم أحد قبل الدخول. و عن سائر الآيات بأنه شرط جيء به للتهييج و الإلهاب، كما تقول لابنك: إن كنت ابني فأطعني.
السادس: أن تكون بمعنى قد، ذكره قطرب، و خرّج عليه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) [الأعلى: 9]. أي قد نفعت، و لا يصح معنى الشرط فيه، لأنه مأمور بالتذكير على كل حال.
و قال غيره: هي للشرط، و معناه: ذمّهم و استبعاد لنفع التذكير فيهم. و قيل التقدير: و إن لم تنفع، على حدّ قوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81].
فائدة: قال بعضهم: وقع في القرآن (إن) بصيغة الشرط، و هو غير مراد، في ستة مواضع:
وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور: 33]. وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل: 114]. وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ [البقرة:
283]. إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ [الطلاق: 4]. أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101].
وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: 228].
* أن(1):
بالفتح و التخفيف على أوجه:
الأول: أن تكون حرفا مصدريا ناصبا للمضارع، و يقع في موضعين:
في الابتداء: فيكون في محلّ رفع، نحو: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184]، وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237].
و بعد لفظ دالّ على معنى اليقين: فيكون في محل رفع، نحو: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ [الحديد: 16]، وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً [البقرة: 216]. و نصب، نحو: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [المائدة: 52]، وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37]، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79]. و خفض، نحو: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا [الأعراف: 129]. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [المنافقون: 10].
و (أن) هذه موصول حرفيّ، و توصل بالفعل المتصرّف، مضارعا كما مرّ، و ماضيا نحو:
لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا [القصص: 82]، وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ [الإسراء: 74].
و قد يرفع المضارع بعدها إهمالا لها، حملا على (ما) أختها، كقراءة ابن محيصن:
(لمن أراد أن يتمّ الرضاعة) [البقرة: 233].
ص: 476
الثاني: أن تكون مخففة من الثقيلة، فتقع بعد فعل اليقين أو ما نزّل منزلته، نحو: أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً [طه: 89]، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: 20]، وَ حَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ [المائدة: 71]، في قراءة الرفع.
الثالث: أن تكون مفسّرة بمنزلة أيّ، نحو: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا [المؤمنون: 27]، وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43].
و شرطها: أن تسبق بجملة، فلذلك غلط من جعل منها: وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10].
و أن يتأخّر عنها جملة.
و أن يكون في الجملة السابقة معنى القول، و منه: وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] إذ ليس المراد بالانطلاق المشي، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام، كما أنه ليس المراد المشي المتعارف بل الاستمرار على المشي.
و زعم الزمخشريّ (1) أنّ التي في قوله: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل: 68] مفسّرة، بأن قبله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ، و الوحي هنا إلهام باتّفاق، و ليس في الإلهام معنى القول، و إنما هي مصدرية، أي: باتخاذ الجبال.
و ألاّ يكون في الجملة السابقة أحرف القول.
و قال الزمخشريّ (2) في قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ [المائدة:
117]: إنه يجوز أن تكون مفسّرة للقول على تأويله بالأمر، أي: ما أمرتهم إلاّ بما أمرتني به أن اعبدوا اللّه.
قال ابن هشام: و هو حسن، و على هذا فيقال في الضابط ألا تكون فيه حروف القول إلاّ و القول مؤوّل بغيره.
قلت: و هذا من الغرائب، كونهم يشرطون أن يكون فيها معنى القول، فإذا جاء لفظه أوّلوه بما فيه معناه مع صريحه، و هو نظير ما تقدّم من جعلهم (أل) في (الآن) زائدة، مع قولهم بتضمّنها معناها.
و ألاّ يدخل عليها حرف جرّ.
الرابع: أن تكون زائدة، و الأكثر أن تقع بعد لمّا التوقيتية، نحو: وَ لَمّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً [العنكبوت: 33].7.
ص: 477
و زعم الأخفش: أنّها تنصب المضارع و هي زائدة، و خرّج عليه: وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ [البقرة: 246]. وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ [إبراهيم: 12]، قال: فهي زائدة، بدليل: وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللّهِ [المائدة: 84].
الخامس: أن تكون شرطية كالمكسورة، قاله الكوفيّون. و خرجوا عليه: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما [البقرة: 282]، أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [المائدة: 2]، صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5].
قال ابن هشام: و يرجّحه عندي تواردهما على محل واحد، و الأصل التوافق، و قد قرئ بالوجهين في الآيات المذكورة، و دخول الفاء بعدها في قوله: فَتُذَكِّرَ [البقرة: 282].
السادس: أن تكون نافية، قال بعضهم في قوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ [آل عمران: 73] أي: لا يؤتى، و الصحيح أنّها مصدرية، أي: و لا تؤمنوا أن يؤتى، أي: بإيتاء أحد.
السابع: أن تكون للتعليل، كما قاله بعضهم في قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ق: 2]، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا [الممتحنة: 1] و الصواب أنّها مصدرية، و قبلها لام العلة مقدّرة.
الثامن: أن تكون بمعنى لئلا، قاله بعضهم في قوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176]، و الصواب أنّها مصدرية، و التقدير: كراهة أن تضلّوا.
* إنّ (1):
بالكسر و التشديد، على أوجه:
أحدها: التأكيد و التحقيق، و هو الغالب، نحو: إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:
173]، إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 16].
قال عبد القاهر: و التأكيد بها أقوى من التأكيد باللام، قال: و أكثر مواقعها. بحسب الاستقراء. الجواب لسؤال ظاهر أو مقدّر، إذا كان للسائل فيه ظنّ.
و الثاني: التعليل، أثبته ابن جنّي و أهل البيان، و مثّلوه بنحو: وَ اسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل: 20]، وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103]، وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، و هو نوع من التأكيد.
الثالث: معنى نعم، أثبته الأكثرون، و خرّج عليه قوم منهم المبرّد: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63].
ص: 478
* أنّ (1):
بالفتح و التشديد، على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف تأكيد، و الأصحّ أنّها فرع المكسورة، و أنّها موصول حرفيّ تؤوّل مع اسمها و خبرها بالمصدر. فإن كان الخبر مشتقّا فالمصدر المؤوّل به من لفظه، نحو:
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [الطلاق: 12] أي: قدرته. و إن كان جامدا قدّر بالكون.
و قد استشكل كونها للتأكيد: بأنّك لو صرّحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد تأكيدا، و أجيب: بأن التأكيد للمصدر المنحلّ، و بهذا يفرق بينها و بين المكسورة لأن التأكيد في المكسورة للإسناد، و هذه لأحد الطرفين.
الثاني: أن يكون لغة في (لعلّ) و خرّج عليها: وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109]، في قراءة الفتح(2)، أي: لعلّها.
* أنّى(3):
اسم مشترك بين الاستفهام و الشرط.
فأمّا الاستفهام: فترد فيه بمعنى كيف، نحو: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها [البقرة:
259]، أَنّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30]. و من أين، نحو: أَنّى لَكِ هذا [آل عمران: 37]، أي: من أين أتى هذا: أي: من أين جاءنا.
قال في «عروس الأفراح»: و الفرق بين (أين) و (من أين) أن (أين) سؤال عن المكان الذي حلّ فيه الشيء، و (من أين) سؤال عن المكان الذي برز منه الشيء. و جعل من هذا المعنى ما قرئ شاذّا: (أنّى صببنا الماء صبّا)(4).
و بمعنى متى، و قد ذكرت المعاني الثلاثة في قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [البقرة: 223].
و أخرج ابن جرير الأول من طريق عن ابن عباس(5)، و أخرج الثاني عن الربيع بن أنس(6) و اختاره، و أخرج الثالث عن الضحّاك(7)، و أخرج قولا رابعا عن ابن عمر و غيره، أنّها بمعنى: (حيث شئتم).
ص: 479
و اختار أبو حيّان و غيره أنّها في الآية شرطيّة، و حذف جوابها لدلالة ما قبلها عليه؛ لأنها لو كانت استفهامية لاكتفت بما بعدها، كما هو شأن الاستفهامية، أن تكتفي بما بعدها؛ أي تكون كلاما يحسن السكوت عليه إن كان اسما أو فعلا.
* أو(1):
حرف عطف ترد لمعان:
الشك من المتكلم: نحو قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [المؤمنون: 113].
و الإبهام على السّامع: نحو: وَ إِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24].
و التخيير بين المعطوفين: بأنه يمتنع الجمع بينهما.
و الإباحة بألاّ يمتنع الجمع:
و مثل الثاني بقوله: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ [النور:
61]، و مثل الأول بقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196]. و قوله:
فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89].
و استشكل بأنّ الجمع في الآيتين غير ممتنع.
و أجاب ابن هشام: بأنه ممتنع بالنسبة إلى وقوع كلّ كفارة أو فدية، بل يقع واحد منهنّ كفارة أو فدية، و الباقي قربة مستقلة خارجة عن ذلك.
قلت: و أوضح من هذا التمثيل قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الآية [المائدة: 33].
على قول من جعل الخيرة في ذلك إلى الإمام، فإنه يمتنع عليه الجمع بين هذه الأمور بل يفعل منها واحدا يؤدي اجتهاده إليه.
و التفصيل بعد الإجمال: نحو: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135]، إِلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]. أي: قال بعضهم كذا و بعضهم كذا.
و الإضراب ك (بل)، و خرّج عليه: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات: 147] فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم: 9]. و قراءة بعضهم: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً [البقرة: 100]، بسكون الواو.
و مطلق الجمع كالواو: نحو لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44]، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113].
ص: 480
و التقريب: ذكره الحريري و أبو البقاء(1)، و جعل منه: وَ ما أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77].
و ردّ بأنّ التقريب مستفاد من غيرها.
و معنى (إلاّ) في الاستثناء و معنى (إلى): و هاتان ينصب المضارع بعدهما بأن مضمرة، و خرّج عليها: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:
236].
فقيل: إنه منصوب لا مجزوم بالعطف على تَمَسُّوهُنَّ ، لئلا يصير المعنى: لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء إن طلقتموهنّ في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين. مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس لزم مهر المثل، و إذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمّى؛ فكيف يصحّ دفع الجناح عند انتفاء أحد الأمرين؟! و لأنّ المطلّقات المفروض لهنّ قد ذكرن ثانيا بقوله: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الآية و ترك ذكر الممسوسات لما تقدم من المفهوم، و لو كانت تَفْرِضُوا مجزوما لكانت الممسوسات و المفروض لهنّ مستويات في الذّكر، و إذا قدّرت (أو) بمعنى (إلاّ) خرّجت المفروض لهنّ عن مشاركة الممسوسات في الذّكر، و كذا إذا قدّرت بمعنى (إلى) و تكون غاية لنفي الجناح لا لنفي المسيس.
و أجاب ابن الحاج عن الأول: بمنع كون المعنى مدّة انتفاء أحدهما، بل مدّة لم يكن واحد منهما، و ذلك بنفيهما جميعا؛ لأنه نكرة في سياق النفي الصريح.
و أجاب بعضهم عن الثاني: بأنّ ذكر المفروض لهنّ، إنما كان لتيقّن النصف لهنّ، لا لبيان أنّ لهنّ شيئا في الجملة.
و ممّا خرّج على هذا المعنى قراءة أبيّ: تقاتلونهم أو يسلموا.
الأول: لم يذكر المتقدمون ل (أو) هذه المعاني، بل قالوا: هي لأحد الشيئين أو الأشياء. قال ابن هشام: و هو التحقيق، و المعاني المذكورة مستفادة من القرائن.
الثاني: قال أبو البقاء(2): (أو) في النّهي نقيضة (أو) في الإباحة، فيجب اجتناب الأمرين، كقوله: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24]، فلا يجوز فعل أحدهما، فلو جمع بينهما كان فعلا للمنهي عنه مرتين؛ لأنّ كل واحد منهما أحدهما.
ص: 481
و قال غيره: (أو) في مثل هذا بمعنى الواو، تفيد الجمع.
و قال الطيبي: الأولى أنّها على بابها، و إنما جاء التعميم فيها من النهي الذي فيه معنى النفي، و النّكرة في سياق النّفي تعمّ؛ لأنّ المعنى قبل النهي: (تطيع آثما أو كفورا)، أي:
واحدا منهما، فإذا جاء النّهي ورد على ما كان ثابتا، فالمعنى: لا تطع واحدا منهما، فالتعميم فيهما من جهة النهي، و هي على بابها.
الثالث: لكون مبناها عدم التشريك عاد الضمير إلى مفرديها بالإفراد، بخلاف الواو، و أما قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135]. فقيل: إنها بمعنى الواو.
و قيل: المعنى إن يكن الخصمان غنيّين أو فقيرين.
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس(1): كلّ شيء في القرآن (أو) فهو مخير، فإذا كان فَمَنْ لَمْ يَجِدْ * فهو الأول فالأول.
و أخرج البيهقيّ في سننه(2)، عن ابن جريج قال: كلّ شيء في القرآن فيه (أو) فللتخيير، إلاّ قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] ليس بمخيّر فيها. قال الشافعي: و بهذا أقول(3).
أولى(4): في قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) [القيامة: 34]، و في قوله تعالى: فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: 20]، قال في الصحاح: قولهم: (أولى لك) كلمة تهديد و وعيد، قال الشاعر:
فأولى له ثمّ أولى له قال الأصمعيّ: فمعناه قاربه ما يهلكه، أي نزل به. قال الجوهريّ: و لم يقل أحد فيها أحسن ممّا قال الأصمعيّ.
و قال قوم: هو اسم فعل مبنيّ، و معناه: وليك شرّ بعد شر، و (لك) تبيين.
و قيل: هو علم للوعيد غير مصروف، و لذا لم ينوّن، و إنّ محله رفع على الابتداء و لك الخبر، و وزنه على هذا (فعلى)، و الألف للإلحاق. و قيل (افعل).
و قيل: معناه الويل لك؛ و أنه مقلوب منه، و الأصل (أويل)، فأخّر حرف العلة، و منه قول الخنساء.7.
ص: 482
هممت لنفسي بعض الهموم فأولى لنفسي أولى لها
و قيل: معناه: الذمّ لك أولى من تركه، فحذف المبتدأ لكثرة دورانه في الكلام.
و قيل: المعنى: أنت أولى و أجدر بهذا العذاب.
و قال ثعلب: (أولى لك) في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، أو: قد دانيت الهلاك، و أصله من الولي و هو القرب، و منه: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة: 123]، أي: يقربون منكم.
و قال النّحاس: العرب تقول: أولى لك، أي كدت تهلك، و كأنّ تقديره: أولى لك الهلكة.
* إي(1):
بالكسر و السكون؛ حرف جواب بمعنى نعم، فتكون لتصديق المخبر، و لإعلام المستخبر، و لوعد الطالب. قال النحاة: و لا تقع إلاّ قبل القسم.
قال ابن الحاجب: و إلاّ بعد الاستفهام، نحو: وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي [يونس: 53].
* أيّ (2):
بالفتح و التشديد، على أوجه:
الأول: أن تكون شرطية، نحو: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ [القصص:
28]، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110].
الثاني: استفهامية، نحو: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً [التوبة: 124]، و إنّما يسأل بها عمّا يميّز أحد المتشاركين في أمر يعمّهما، نحو: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] أي:
أ نحن أم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
الثالث: موصولة، نحو: لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69].
و هي في الأوجه الثلاثة معربة، و تبنى في الوجه الثالث على الضمّ إذا حذف عائدها و أضيفت كالآية المذكورة. و أعربها الأخفش في هذه الحالة أيضا، و خرّج عليه قراءة بعضهم بالنّصب(3)، و أوّل قراءة الضمّ على الحكاية، و أوّلها غيره على التعليق للفعل، و أوّلها الزمخشري(4) على أنّها خبر مبتدأ محذوف، و تقدير الكلام: لننزعنّ بعض كل شيعة، فكأنّه
ص: 483
قيل: من هذا البعض؟ فقيل: هو الذي أشدّ، ثم حذف المبتدآن المكتنفان لأيّ.
و زعم ابن الطّراوة: أنّها في الآية مقطوعة عن الإضافة مبنية؛ و أنّ هم أَشَدُّ مبتدأ و خبر، و ردّ: برسم الضمير متصلا بأي، و بالإجماع على إعرابها إذا لم تضف.
الرابع: أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل، نحو: يا أَيُّهَا النّاسُ ، يا أَيُّهَا النَّبِيُّ .
* إيّا(1):
زعم الزجّاج أنّها اسم ظاهر، و الجمهور ضمير، ثم اختلفوا فيه على أقوال:
أحدها: أنه كلّه ضمير، و هو ما اتّصل به.
و الثاني: أنه وحده ضمير، و ما بعده اسم مضاف له يفسّر ما يراد به من تكلم و غيبة و خطاب، نحو: فَإِيّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51]، بَلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ [الأنعام: 41]، إِيّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 4].
و الثالث: أنه وحده ضمير، و ما بعده حروف تفسّر المراد.
و الرابع: أنه عماد، و ما بعده هو الضمير. و قد غلط من زعم أنه مشتق.
و فيه سبع لغات قرئ بها: بتشديد الياء و تخفيفها مع الهمزة، و إبدالها ها مكسورة و مفتوحة، هذه ثمانية، يسقط منها بفتح الهاء مع التشديد.
* أيّان(2):
اسم استفهام، و إنما يستفهم به عن الزمان المستقبل، كما جزم به ابن مالك و أبو حيّان، و لم يذكر فيه خلافا.
و ذكر صاحب إيضاح المعاني مجيئها للماضي.
و قال السكاكيّ: لا تستعمل إلاّ في مواضع التفخيم، نحو: أَيّانَ مُرْساها [الأعراف:
187]، أَيّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12].
و المشهور عند النّحاة أنّها كمتى، تستعمل في التفخيم و غيره.
و قال بالأول من النّحاة عليّ بن عيسى الرّبعيّ، و تبعه صاحب «البسيط»، فقال: إنما تستعمل في الاستفهام عن الشيء المعظّم أمره.
و في الكشاف(3): قيل: إنها مشتقّة من أيّ، (فعلان) منه؛ لأنّ معناه: أيّ وقت و أيّ فعل، من آويت إليه؛ لأنّ البعض آو إلى الكلّ و متساند بدله، و هو بعيد.
و قيل: أصله أيّ آن.
ص: 484
و قيل: أيّ أوان، حذفت الهمزة من (أوان)، و الياء الثانية من (أيّ) و قلبت الواو ياء و أدغمت الساكنة فيها.
و قرئ بكسر همزتها.
* أين(1):
اسم استفهام عن المكان، نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) [التكوير: 26]. و ترد شرطا عاما في الأمكنة، و أينما أعمّ منها، نحو: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل: 76].
الباء المفردة(2): حرف جرّ له معان:
أشهرها: الإلصاق، و لم يذكر لها سيبويه غيره.
و قيل: إنه لا يفارقها، قال في شرح «اللبّ»: و هو تعلّق أحد المعنيين بالآخر.
ثم قد يكون حقيقة، نحو وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6] أي: ألصقوا المسح برءوسكم. فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6]. و قد يكون مجازا، نحو:
وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ [المطففين: 30] أي: بمكان يقربون منه.
الثاني: التعدية كالهمزة، نحو: ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17]، وَ لَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ [البقرة: 20] أي: أذهبه، كما قال: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [الأحزاب: 33].
و زعم المبرّد و السّهيليّ: أنّ بين تعدية الباء و الهمزة فرقا، و أنك إذا قلت: ذهبت بزيد، كنت مصاحبا له في الذهاب. و ردّ بالآية.
الثالث: الاستعانة، و هي الداخلة على آلة الفعل، كباء البسملة.
الرابع: السببية، و هي التي تدخل على سبب الفعل، نحو: فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54]، و يعبّر عنها أيضا بالتعليل.
الخامس: المصاحبة كمع، نحو: اِهْبِطْ بِسَلامٍ [هود: 48]، قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ [النساء: 170]، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98].
السادس: الظرفية كفي، زمانا و مكانا، نحو: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: 34] وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ [آل عمران: 123].
السابع: الاستعلاء كعلى، نحو: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ [آل عمران: 75]. أي عليه، بدليل: إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ [يوسف: 64].
ص: 485
الثامن: المجاوزة كعن، نحو: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59]، أي: عنه، بدليل:
يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ [الأحزاب: 20].
ثم قيل: تختصّ بالسؤال، و قيل: لا، نحو نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ [التحريم: 8]، أي: و عن أيمانهم. وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25]، أي: عنه.
التاسع: التبعيض كمن، نحو: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللّهِ [الإنسان: 6] أي منها.
العاشر: الغاية كإلى، نحو: وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي [يوسف: 100]، أي: إلي.
الحادي عشر: المقابلة؛ و هي الداخلة على الأعواض، نحو: اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]، و إنّما لم نقدّرها باء السببيّة. كما قال المعتزلة.؛ لأنّ المعطي بعوض قد يعطي مجّانا، و أمّا المسبّب فلا يوجد بدون السبب.
الثاني عشر: التوكيد، و هي الزائدة:
فتزاد في الفاعل وجوبا في نحو: أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ [مريم: 38]، و جوازا غالبا في نحو: وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً [النساء: 79]، فإنّ الاسم الكريم فاعل، و شَهِيداً نصب على الحال أو التمييز، و الباء زائدة، و دخلت لتأكيد الاتصال؛ لأنّ الاسم في قوله: وَ كَفى بِاللّهِ متصل بالفعل اتصال الفاعل.
قال ابن الشجري: و فعل ذلك إيذانا بأنّ الكفاية من اللّه ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة، فضوعف لفظها لتضاعف معناها. و قال الزجّاج: دخلت لتضمّن (كفى) معنى (أكتفي).
قال ابن هشام: و هو من الحسن بمكان.
و قيل: الفاعل مقدّر، و التقدير: كفى الاكتفاء باللّه، فحذف المصدر و بقي معموله دالا عليه.
و لا تزاد في فاعل (كفى) بمعنى وقى، نحو: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [البقرة: 137]، وَ كَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: 25].
و في المفعول، نحو: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195]، وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25]. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الحج: 15]، وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ [الحج: 25].
و في المبتدأ، نحو: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) [القلم: 6] أي: أيّكم. و قيل: هي ظرفية، أي: في أيّ طائفة منكم.
ص: 486
و في اسم ليس، في قراءة بعضهم: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا [البقرة: 177]، بنصب اَلْبِرَّ (1).
و في الخبر المنفيّ، نحو: وَ مَا اللّهُ بِغافِلٍ [البقرة: 74]، قيل: و الموجب، و خرّج عليه: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها [يونس: 27].
و في التوكيد، و جعل منه: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [البقرة: 228].
فائدة: اختلف في الباء، من قوله: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6]، فقيل:
للإلصاق.
و قيل: للتبعيض.
و قيل: زائدة.
و قيل: للاستعانة. و إنّ في الكلام حذفا و قلبا؛ فإنّ (مسح) يتعدّى إلى المزال عنه بنفسه، و إلى المزيل بالباء، فالأصل: امسحوا رءوسكم بالماء.
* بل(2):
حرف إضراب إذا تلاها جملة.
ثم تارة يكون معنى الإضراب الإبطال لما قبلها: نحو: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) [الأنبياء: 26]. أي: بل هم عباد. أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ [المؤمنون: 70].
و تارة يكون معناه الانتقال من غرض إلى آخر: نحو: وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا [المؤمنون: 63.62]، فما قبل بَلْ فيه على حاله، و كذا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) [الأعلى: 15.
16].
و ذكر ابن مالك في شرح كافيته: أنّها لا تقع في القرآن إلاّ على هذا الوجه، و وهمه ابن هشام، و سبق ابن مالك إلى ذلك صاحب «البسيط»، و وافقه ابن الحاجب، فقال في شرح المفصل: إبطال الأوّل و إثباته للثاني إن كان في الإثبات من باب الغلط، فلا يقع مثله في القرآن. انتهى.
أمّا إذا تلاها مفرد فهي حرف عطف، و لم تقع في القرآن كذلك.
ص: 487
* بلى(1):
حرف أصليّ الألف، و قيل: الأصل (بل) و الألف زائدة، و قيل: هي للتأنيث بدليل إمالتها.
و لها موضعان:
أحدهما: أن تكون ردّا لنفي يقع قبلها: نحو: ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى [النحل:
28] أي: عملتم السوء، لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى [النحل: 38] أي: يبعثهم، زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7]، قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمران: 75] ثم قال: بَلى [آل عمران: 76]. أي: عليهم سبيل، وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111]، ثم قال بَلى [البقرة: 112] أي: يدخلها غيرهم، وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80]. ثم قال: بَلى [البقرة: 81]، أي: تمسّهم و يخلدون فيها.
الثاني: أن تقع جوابا لاستفهام دخل على نفي فتفيد إبطاله: سواء كان الاستفهام حقيقيّا، نحو: أ ليس زيد بقائم؟ فتقول: بلى. أو توبيخا، نحو: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى [الزخرف: 80]، أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) [القيامة: 4.3]. أو تقريريا، نحو:
أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172]: قال ابن عباس و غيره: لو قالوا: نعم، كفروا.
و وجهه: أنّ نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، فكأنهم قالوا: لست ربّنا، بخلاف بلى، فإنها لإبطال النفي، فالتقدير: أنت ربّنا.
و نازع في ذلك السهيليّ و غيره: بأنّ الاستفهام التقريريّ خبر موجب، و لذلك امتنع سيبويه من جعل أم متّصلة في قوله: أَ فَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ [الزخرف: 52.51]، لأنها بعد الإيجاب، و إذا ثبت أنّه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له. انتهى.
قال ابن هشام: و يشكل عليهم أنّ (بلى) لا يجاب بها عن الإيجاب اتّفاقا.
[الحجرات: 1]. فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12]. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [ص: 22].
و لا تستعمل إلاّ فيما له مسافة، نحو: بين البلدين، أوله عدد ما: اثنان فصاعدا، نحو:
و بين الرجلين، و بين القوم، و لا يضاف إلى ما يقتضي معنى الوحدة إلاّ إذا كرّر، نحو: وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5]، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً [طه: 58].
و قرئ قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94]، بالنصب على أنه ظرف، و بالرفع على أنه اسم مصدر بمعنى الوصل.
و يحتمل الأمرين قوله تعالى: ذاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1]. و قوله: فَلَمّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما [الكهف: 61] أي: فراقهما.
* التاء(1):
حرف جر معناه القسم، يختصّ بالتعجب و باسم اللّه تعالى؛ قال في «الكشاف»(2) في قوله: وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57]: الباء أصل حرف القسم، و الواو بدل منها، و التاء بدل من الواو، و فيها زيادة معنى التعجّب، كأنه تعجّب من تسهّل الكيد على يديه و تأتّيه مع عتوّ نمروذ و قهره. انتهى.
* تبارك(3):
فعل لا يستعمل إلاّ بلفظ الماضي، و لا يستعمل إلاّ للّه(4).
* تعال(5):
فعل أمر، لا يتصرّف، و من ثمّ قيل: إنّه اسم فعل.
* ثمّ (6):
حرف يقتضي ثلاثة أمور:
التشريك في الحكم، و الترتيب، و المهلة، و في كلّ خلاف.
أما التشريك فزعم الكوفيّون و الأخفش: أنّه قد يتخلّف، بأن تقع زائدة، فلا تكون عاطفة البتّة، و خرّجوا على ذلك: حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ [التوبة: 118].
و أجيب بأن الجواب فيها مقدّر.
ص: 489
و أمّا الترتيب و المهلة فخالف قوم في اقتضائها إيّاهما، تمسّكا بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الزمر: 6]. وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوّاهُ [السجدة: 9.7]، وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) [طه: 82]. و الاهتداء سابق على ذلك، ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الأنعام: 154.153].
و أجيب: عن الكل بأنّ ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم.
قال ابن هشام: و غير هذا الجواب أنفع منه، لأنه يصحّح الترتيب فقط لا المهلة، إذ لا تراخي بين الإخبارين. و الجواب المصحّح لهما ما قيل في الأولى: إنّ العطف على مقدّر، أي: من نفس واحدة: أنشأها ثم جعل منها زوجها، و في الثانية: أنّ سَوّاهُ عطف على الجملة الأولى لا الثانية، و في الثالثة أنّ المراد: ثمّ دام على الهداية.
فائدة: أجرى الكوفيّون (ثمّ) مجرى الفاء و الواو، في جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشرط، و خرّج عليه قراءة الحسن: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء: 100] بنصب يُدْرِكْهُ .
* ثَمّ (1):
بالفتح، اسم يشار به إلى المكان البعيد، نحو: وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) [الشعراء: 64] و هو ظرف لا يتصرّف، فلذلك غلط من أعربه مفعولا ل (رأيت) في قوله: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان: 20]. و قرئ: (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ) [يونس: 46] أي: هنالك اللّه شهيد، بدليل: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ [الكهف: 44].
و قال الطبري(2) في قوله: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يونس: 51] معناه: هنالك، و ليست ثمّ العاطفة.
و هذا و هم، أشبه عليه المضمومة بالمفتوحة.
و في «التوشيح» لخطاب: (ثمّ) ظرف فيه معنى الإشارة إلى حيث؛ لأنه هو في المعنى.
أحدها: يجري مجرى صار و طفق، و لا يتعدّى، نحو: جعل زيد يقول كذا.
و الثاني: مجرى أوجد؛ فيتعدّى لمفعول واحد، نحو: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ [الأنعام: 1].
و الثالث: في إيجاد شيء و تكوينه منه، نحو: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل:
72]، وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً [النحل: 81].
و الرابع: في تصيير الشيء على حالة دون حالة، نحو: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22]، وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16].
الخامس: الحكم بالشيء على الشيء، حقا كان، نحو: وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. أو باطلا، نحو: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ [النحل: 57]. اَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) [الحجر: 91].
* حاشا(1):
اسم بمعنى التنزيه في قوله تعالى: حاشَ لِلّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف: 51]. حاشَ لِلّهِ ما هذا بَشَراً [يوسف: 31]، لا فعل و لا حرف، بدليل قراءة بعضهم: حاشَ لِلّهِ بالتنوين، كما يقال: (براءة للّه) و قراءة ابن مسعود: (حاشا الله) بالإضافة كمعاذ اللّه، و سبحان اللّه. و دخولها على اللام في قراءة السبعة، و الجار لا يدخل على الجار، و إنما ترك التنوين في قراءتهم لبنائها، لشبهها بحاشا الحرفية لفظا.
و زعم قوم أنها اسم فعل، معناه: أتبرأ و تبرّأت، لبنائها.
و ردّ بإعرابها في بعض اللغات.
و زعم المبرّد و ابن جنّي: أنها فعل، و أنّ المعنى في الآية: جانب يوسف المعصية لأجل اللّه، و هذا التأويل لا يتأتّى في الآية الأخرى.
و قال الفارسيّ: حاشا فعل من الحشا، و هو الناحية، أي: صار في ناحية، أي: بعد مما رمي به و تنحّى عنه، فلم يغشه و لم يلابسه.
و لم يقع في القرآن حاشا إلاّ استثنائية.
* حتّى(2):
حرف لانتهاء الغاية ك (إلى) لكن يفترقان في أمور:
فتنفرد حتّى بأنّها لا تجرّ إلاّ الظاهر، و إلاّ الآخر المسبوق بذي أجزاء أو الملاقي له، نحو: سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [القدر: 5].
ص: 491
و أنّها لإفادة تقضّي الفعل قبلها شيئا فشيئا.
و أنّها لا يقابل بها ابتداء الغاية.
و أنّها يقع بعدها المضارع المنصوب بأن المقدرة، و يكونان في تأويل مصدر مخفوض.
ثم لها حينئذ ثلاثة معان:
مرادفة إلى: نحو: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91]، أي: إلى رجوعه.
و مرادفة كي التعليلية: نحو: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ [البقرة: 217] و لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا [المنافقون: 7].
و تحتملهما: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ [الحجرات: 9].
و مرادفة إلاّ في الاستثناء: و جعل منه ابن مالك و غيره: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا [البقرة: 102].
مسألة: متى دلّ دليل على دخول الغاية التي بعد (إلى) و (حتى) في حكم ما قبلها، أو على عدم دخوله، فواضح أنّه يعمل به.
فالأول: نحو: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6]. وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ دلّت السنة على دخول المرافق و الكعبين في الغسل(1).
و الثاني: نحو: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] دلّ النهي عن الوصال على عدم دخول الليل في الصيام. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280]. فإنّ الغاية لو دخلت هنا لوجب الإنظار حال اليسار. أيضا.، و ذلك يؤدّي إلى عدم المطالبة و تفويت حقّ الدائن.
و إن لم يدلّ دليل على واحد منهما ففيها أربعة أقوال:
أحدها: و هو الأصحّ. تدخل مع (حتى) دون (إلى) حملا على الغالب في البابين؛ لأنّ الأكثر مع القرينة عدم الدخول مع (إلى) و الدخول مع (حتى)، فوجب الحمل عليه عند التردّد.
و الثاني: تدخل فيهما عليه.
و الثالث: لا فيهما، و استدل للقولين في استوائهما بقوله: وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس:
98]. و قرأ ابن مسعود: حتى حين.1.
ص: 492
تنبيه: ترد حتى ابتدائية: أي: حرفا يبتدأ بعده الجمل، أي: تستأنف، فتدخل على الاسمية و الفعلية المضارعية و الماضية، نحو: (حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة: 214]، بالرفع، حَتّى عَفَوْا وَ قالُوا [الأعراف: 95]، حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:
152].
و ادعى ابن مالك أنّها في الآيات جارّة ل (إذا) و ل (أن) مضمرة في الآيتين؛ و الأكثرون على خلافه.
و ترد عاطفة، و لا أعلمه في القرآن؛ لأنّ العطف بها قليل جدا، و من ثمّ أنكره الكوفيّون البتّة.
فائدة: إبدال حائها عينا لغة هذيل، و بها قرأ ابن مسعود.
* (حيث)(1):
ظرف مكان. قال الأخفش: و ترد للزّمان.
مبنية على الضّم تشبيها بالغايات؛ فإنّ الإضافة إلى الجمل كلا إضافة، و لهذا قال الزّجاج في قوله: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27]: ما بعد حيث صلة لها، و ليست بمضافة إليه، يعني: أنّها غير مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصلة لها، أي: كالزيادة، و ليست جزءا منها. و فهم الفارسيّ أنه أراد أنها موصولة فردّ عليه.
و من العرب من يعربها، و منهم من يبنيها على الكسر لالتقاء الساكنين، و على الفتح للتخفيف، و تحتملهما قراءة من قرأ: مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182] بالكسر. اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] بالفتح.
و المشهور أنها لا تتصرّف.
و جوّز قوم في الآية الأخيرة كونها مفعولا به على السعة، قالوا: و لا تكون ظرفا؛ لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان، و لأنّ المعنى: اللّه يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة، لا شيئا في المكان. و على هذا فالناصب لها (يعلم) محذوفا مدلولا عليه ب أَعْلَمُ لا به، لأنّ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إلاّ إن أوّلته بعالم.
و قال أبو حيّان(2): الظّاهر إقرارها على الظرفيّة المجازية، و تضمين أَعْلَمُ معنى ما يتعدّى إلى الظرف، فالتقدير: اللّه أنفذ علما حيث يجعل، أي هو نافذ العلم في هذا الموضع.
و قيل: تتصرّف، بالوجهين قرئ: وَ مِنّا دُونَ ذلِكَ [الجن: 11] بالرفع و النصب.
و ترد اسما بمعنى (غير) نحو: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الأنبياء: 24] أي: غيره.
و قال الزمخشريّ: معناه: أدنى مكان من الشيء.
و تستعمل للتفاوت في الحال، نحو: زيد دون عمرو، أي: في الشرف و العلم.
و اتسع فيه فاستعمل في تجاوز حدّ إلى حدّ، نحو: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 144] أي: لا تجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
* ذو(1):
اسم بمعنى صاحب، وضع للتّوصّل إلى وصف الذوات بأسماء الأجناس، كما أنّ (الذي) وضعت صلة إلى وصف المعارف بالجمل.
و لا يستعمل إلاّ مضافا.
و لا يضاف إلى ضمير و لا مشتق، و جوّزه بعضهم، و خرّج عليه قراءة ابن مسعود:
(و فوق كل ذي عالم عليم) [يوسف: 76].
و أجاب الأكثرون عنها بأنّ العالم هنا مصدر كالباطل، أو بأن ذِي زائدة.
قال السهيليّ: و الوصف ب (ذو) أبلغ من الوصف بصاحب، و الإضافة بها أشرف، فإنّ (ذو) يضاف للتابع و صاحب يضاف إلى المتبوع، تقول: أبو هريرة صاحب النبيّ، و لا تقول:
النّبي صاحب أبي هريرة. و أمّا (ذو) فإنك تقول: ذو المال، و ذو الفرس، فتجد الاسم الأول متبوعا غير تابع، و بني على هذا الفرق أنه تعالى قال في سورة الأنبياء [الآية: 87]: وَ ذَا النُّونِ فأضافه إلى النون و هو الحوت، و قال في سورة ن [الآية: 48]: وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ قال: و المعنى واحد، لكن بين اللفظين تفاوت كثير في حسن الإشارة إلى الحالتين، فإنّه حين ذكره في معرض الثناء عليه أتى بذي؛ لأنّ الإضافة بها أشرف، و بالنّون؛ لأنّ لفظه أشرف من لفظ الحوت، لوجوده في أوائل السور؛ و ليس في لفظ الحوت ما يشرفه لذلك، فأتى به و بصاحب حين ذكره في معرض النهي عن اتّباعه.
أحدها: أنّها للتقليل دائما، و عليه الأكثرون.
الثاني: للتكثير دائما، كقوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) [الحجر: 2]. فإنّه يكثر منهم تمنّي ذلك، و قال الأولون: هم مشغولون بغمرات الأهوال، فلا يفيقون بحيث يتمنّون ذلك إلاّ قليلا.
الثالث: أنها لهما على السّواء.
الرابع: للتقليل غالبا، و التكثير نادرا، و هو اختياري.
الخامس: عكسه.
السادس: لم توضع لواحد منهما، بل هي حرف إثبات، لا يدلّ على تكثير و لا تقليل، و إنّما يفهم ذلك من خارج.
السابع: للتكثير في موضع المباهاة و الافتخار، و للتقليل فيما عداه.
الثامن: لمبهم العدد، تكون تقليلا و تكثيرا، و تدخل عليها (ما) فتكفّها عن عمل الجرّ و تدخلها على الجمل. و الغالب حينئذ دخولها على الفعلية الماضي فعلها لفظا و معنى، و من دخولها على المستقبل الآية السابقة. قيل: إنه على حدّ: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99].
* السّين(1):
حرف يختصّ بالمضارع و يخلّصه للاستقبال، و يتنزّل منه منزلة الجزء، فلذا لم تعمل فيه.
و ذهب البصريون إلى أنّ مدة الاستقبال معه أضيق منها مع سوف.
و عبارة المعربين: حرف تنفيس، و معناها حرف توسّع؛ لأنها نقلت المضارع من الزمن الضيّق. و هو الحال. إلى الزمن الواسع، و هو الاستقبال.
و ذكر بعضهم أنّها قد تأتي للاستمرار لا للاستقبال، كقوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء: 91]. سَيَقُولُ السُّفَهاءُ [البقرة: 142]؛ لأنّ ذلك إنما نزل بعد قولهم: ما وَلاّهُمْ فجاءت السين إعلاما بالاستمرار لا للاستقبال.
قال ابن هشام: و هذا لا يعرفه النحويّون. بل الاستمرار مستفاد من المضارع، و السين باقية على الاستقبال، إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل.
قال: و زعم الزمخشري(2) أنّها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة؛ و لم أر من فهم وجه ذلك.
و وجّه: أنّها تفيد الوعد بحصول الفعل، فدخولها على ما يفيد الوعد أو الوعيد مقتض
ص: 495
لتوكيده و تثبيت معناه، و قد أومأ إلى ذلك في سورة البقرة: فقال: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ [البقرة:
137]: معنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة، و إن تأخّر إلى حين. و صرّح به في سورة براءة(1)، فقال في قوله: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ [التوبة: 71]: السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك.
* سوف(2):
كالسّين، و أوسع زمانا منها عند البصريّين؛ لأن كثرة الحروف تدلّ على كثرة المعنى، و مرادفة لها عند غيرهم. و تنفرد عن السين بدخول اللاّم عليها، نحو: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ [الضحى: 5].
قال أبو حيان(3): و إنما امتنع إدخال اللاّم على السين كراهة توالي الحركات في:
(لسيدحرج) ثم طرد الباقي.
قال ابن بابشاذ: و الغالب على (سوف) استعمالها في الوعيد و التهديد، و على السين استعمالها في الوعد، و قد تستعمل (سوف) في الوعد و السين في الوعيد.
* سواء(4):
تكون بمعنى (مستو) فتقصر مع الكسر، نحو: مَكاناً سُوىً [طه: 58].
و تمدّ مع الفتح، نحو: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55].
و بمعنى التّمام فكذلك، نحو: فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَواءً [فصلت: 10]، أي: تماما.
و يجوز أن يكون منه وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص: 22].
و لم ترد في القرآن بمعنى غير. و قيل: وردت، و جعل منه في البرهان: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [المائدة: 12]، و هو و هم، و أحسن منه قول الكلبي في قوله تعالى: وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً [طه: 58]: إنّها استثنائية، و المستثنى محذوف: أي: مكانا سوى هذا المكان، حكاه الكرماني في عجائبه قال: و فيه بعد، لأنها لا تستعمل غير مضافة.
وَ سُبْحانَ اللّهِ [يوسف: 108]. سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الإسراء: 1]. أو مضمر، نحو:
سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 171]، سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا [البقرة: 32]. و هو مما أميت فعله.
و في العجائب للكرمانيّ: من الغريب ما ذكره المفصّل أنه مصدر (سبّح) إذا رفع صوته بالدعاء و الذّكر. و أنشد:
قبّح الإله وجوه تغلب كلّما سبّح الحجيج و كبّروا إهلالا
أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: وَ سُبْحانَ اللّهِ قال: تنزيه اللّه نفسه عن السوء(1).
* ظنّ (2):
أصله للاعتقاد الراجح، كقوله تعالى: إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ [البقرة:
230]. و قد تستعمل بمعنى اليقين، كقوله تعالى: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة:
46].
أخرج ابن أبي حاتم و غيره، عن مجاهد قال: كلّ ظنّ في القرآن يقين؛ و هذا مشكل بكثير من الآيات لم تستعمل فيها بمعنى اليقين، كالآية الأولى.
و قال الزركشي في «البرهان»(3): الفرق بينهما في القرآن ضابطان:
أحدهما: أنه حيث وجد الظّنّ محمودا مثابا عليه فهو اليقين، و حيث وجد مذموما متوعّدا عليه بالعقاب فهو الشك.
ص: 497
و الثاني: أنّ كلّ ظنّ يتصل بعده (أن) الخفيفة فهو شك، نحو: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ [الفتح: 12]. و كلّ ظنّ يتّصل به (أنّ) المشدّدة فهو يقين، كقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) [الحاقة: 20] وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) [القيامة: 28]. و قرئ: (و أيقن أنه الفراق) و المعنى في ذلك: أنّ المشدّدة للتأكيد فدخلت على اليقين، و الخفيفة بخلافها فدخلت في الشك، و لهذا دخلت الأولى في العلم، نحو: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ [محمد: 19].
وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال: 66].
و الثانية في الحسبان، نحو: وَ حَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [المائدة: 71].
ذكر ذلك الراغب في تفسيره، و أورد على هذا الضابط: وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ [التوبة: 118].
و أجيب بأنها هنا اتّصلت بالاسم، و هو مَلْجَأَ و في الأمثلة السابقة اتّصلت بالفعل.
ذكره في البرهان(1) قال: فتمسّك بهذا الضابط؛ فهو من أسرار القرآن(2).
و قال ابن الأنباري: قال ثعلب: العرب تجعل الظنّ علما و شكا و كذبا: فإن قامت براهين العلم، فكانت أكبر من براهين الشكّ، فالظن يقين. و إن اعتدلت براهين اليقين و براهين الشكّ، فالظنّ شكّ. و إن زادت براهين الشكّ على براهين اليقين، فالظنّ كذب. قال اللّه تعالى: إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] أراد يكذبون. انتهى.
* على(3):
حرف جرّ له معان:
أشهرها: الاستعلاء حسا أو معنى، نحو: وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) [المؤمنون:
22]. كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) [الرحمن: 26]. فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة: 253].
وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: 14].
ثانيها: للمصاحبة كمع، نحو: وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] أي: مع حبّه.
وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6].
ثالثها: للابتداء كمن، نحو: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ [المطففين: 2]. أي: من الناس.
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون: 6.5] أي: منهم، بدليل: «احفظ عورتك إلاّ من زوجتك»(4).
ص: 498
رابعها: التعليل كاللام، نحو: وَ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] أي:
لهدايته إيّاكم.
خامسها: الظرفية كفي، نحو: وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [القصص: 15] أي: في حين. وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] أي: في زمن ملكه.
سادسها: معنى الباء، نحو: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ [الأعراف: 105] أي بأن، كما قرأ أبيّ.
فائدة: هي في نحو: وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان: 58]. بمعنى الإضافة و الإسناد، أي: أضف توكّلك و أسنده إليه، كذا قيل.
و عندي: أنّها فيه بمعنى باء الاستعانة. و في نحو: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:
12] لتأكيد التّفضل لا الإيجاب و الاستحقاق، و كذا في نحو: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية: 26] لتأكيد المجازاة.
قال بعضهم: و إذا ذكرت النعمة في الغالب مع الحمد لم تقترن ب (على)، و إذا أريدت النعمة أتي بها، و لهذا كان صلّى اللّه عليه و سلّم إذا رأى ما يعجبه، قال: «الحمد للّه الذي بنعمته تتمّ الصالحات». و إذا رأى ما يكره قال: «الحمد للّه على كل حال»(1).
تنبيه: ترد (على) اسما. فيما ذكره الأخفش. إذا كان مجرورها و فاعل متعلّقها ضميرين لمسمّى واحد، نحو: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37]، لما تقدمت الإشارة إليه في (إلى). و ترد فعلا من العلوّ، و منه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4].
* عن(2):
حرف جرّ له معان:
أشهرها: المجاوزة: نحو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] أي:
يجاوزونه و يبعدون عنه.
ص: 499
ثانيها: البدل: نحو: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48].
ثالثها: التعليل: نحو: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة:
114] أي: لأجل موعدة: وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] أي: لقولك.
رابعها: بمعنى على: نحو: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: 38] أي عليها.
خامسها: بمعنى من: نحو: يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الآية: 104] أي منهم؛ بدليل:
فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما [المائدة: 27].
سادسها: بمعنى بعد: نحو: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [المائدة: 13]. بدليل أنّ في آية أخرى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: 41]. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) [الانشقاق: 19] أي حالة بعد حالة.
تنبيه: ترد اسما إذا دخل عليها (من). و جعل منه ابن هشام: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17]، قال: فتقدّر معطوفة على مجرور (من) لا على (من) و مجرورها.
* عسى(1):
فعل جامد لا يتصرّف، و من ثم ادّعى قوم أنه حرف.
و معناه التّرجّي في المحبوب و الإشفاق في المكروه، و قد اجتمعتا في قوله تعالى:
وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة: 216].
قال ابن فارس: و تأتي للقرب و الدنوّ، نحو: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72].
و قال الكسائي: كلّ ما في القرآن من (عسى) على وجه الخبر فهو موحّد كالآية السابقة، و وجّه على معنى: عسى الأمر أن يكون كذا. و ما كان على الاستفهام فإنه يجمع، نحو:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ [محمد: 22]. قال أبو عبيدة: معناه هل عرفتم ذلك، و هل أخبرتموه؟.
و أخرج ابن أبي حاتم و البيهقيّ (2) و غيرهما، عن ابن عباس قال: كلّ عسى في القرآن فهي واجبة.
و قال الشافعي(3): يقال: عسى من اللّه واجبة.
ص: 500
و قال ابن الأنباريّ: عسى في القرآن واجبة إلاّ في موضعين:
أحدهما: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء: 8] يعني: بني النّضير، فما رحمهم اللّه، بل قاتلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و أوقع عليهم العقوبة.
و الثاني: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً [التحريم: 5] فلم يقع التبديل.
و أبطل بعضهم الاستثناء، و عمم القاعدة؛ لأنّ الرحمة كانت مشروطة بألاّ يعودوا، كما قال: وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 8]، و قد عادوا، فوجب عليهم العذاب، و التّبديل مشروطا بأن يطلّق و لم يطلّق، فلا يجب.
و في «الكشاف»(1): في سورة التحريم: عَسى إطماع من اللّه تعالى لعباده، و فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بلعلّ و عسى، و وقوع ذلك منهم موقع القطع و البتّ.
و الثاني: أن يكون جيء به تعليما للعباد أن يكونوا بين الخوف و الرجاء.
و في «البرهان»(2): عسى و لعلّ من اللّه واجبتان، و إن كانتا رجاء و طمعا في كلام المخلوقين؛ لأنّ الخلق هم الذين يعرض لهم الشّكوك و الظنون، و البارئ منزّه عن ذلك.
و الوجه في استعمال هذه الألفاظ: أنّ الأمور الممكنة لمّا كان الخلق يشكّون فيها و لا يقطعون على الكائن منها، و اللّه يعلم الكائن منها على الصحّة، صارت لها نسبتان: نسبة إلى اللّه تسمّى نسبة قطع و يقين، و نسبة إلى المخلوقين تسمّى نسبة شكّ و ظن، فصارت هذه الألفاظ لذلك ترد: تارة بلفظ القطع بحسب ما هي عليه عند اللّه تعالى، نحو: فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. و تارة بلفظ، الشكّ بحسب ما هي عليه عند الخلق، نحو: فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]. و نحو: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) [طه: 44]، و قد علم اللّه. حال إرسالهما. ما يفضي إليه حال فرعون؛ لكن ورد اللّفظ بصورة ما يختلج في نفس موسى و هارون من الرّجاء و الطمع. و لمّا نزل القرآن بلغة العرب جاء على مذاهبهم في ذلك، و العرب قد تخرج الكلام المتيقّن في صورة المشكوك لأغراض.
و قال ابن الدّهان: (عسى) فعل ماضي اللفظ و المعنى. لأنه طمع قد حصل في شيء مستقبل.9.
ص: 501
و قال قوم: ماضي اللّفظ مستقبل المعنى؛ لأنه إخبار عن طمع يريد أن يقع.
تنبيه: وردت في القرآن على وجهين:
أحدهما: رافعة لاسم صريح بعده فعل مضارع مقرون بأن، و الأشهر في إعرابها حينئذ أنّها فعل ماض ناقص عامل عمل كان. فالمرفوع اسمها و ما بعده الخبر. و قيل: متعدّ بمنزلة (قارب) معنى و عملا، أو قاصر بمنزلة: قرب من أن يفعل، و حذف الجارّ توسعا؛ و هو رأي سيبويه و المبرّد. و قيل: قاصر بمنزلة قرب، و أن يفعل بدل اشتمال من فاعلها.
الثاني: أن يقع بعدها (أن) و الفعل؛ فالمفهوم من كلامهم أنها حينئذ تامّة. و قال ابن مالك: عندي أنّها ناقصة أبدا، و أن وصلتها سدّت مسدّ الجزءين كما في: أَ حَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا [العنكبوت: 2].
* عند(1):
ظرف مكان تستعمل في الحضور و القرب؛ سواء كانا حسّيّين؛ نحو: فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40]. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) [النجم: 14.
15]. أو معنويّين، نحو: قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ [النمل: 40]. وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ [ص: 47]. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ [القمر: 55]. أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آل عمران: 169]. اِبْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم: 11] فالمراد بهذه الآيات قرب التشريف، و رفعة المنزلة.
و لا تستعمل إلاّ ظرفا أو مجرورة ب (من) خاصة، نحو: فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:
27]. وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ [البقرة: 89].
و تعاقبها لدى و لدن، نحو: لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18]. لَدَى الْبابِ [يوسف: 25].
وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].
و قد اجتمعتا في قوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [الكهف: 65].
و لو جيء فيهما بعند أو لدن صحّ، لكن ترك دفعا للتكرار، و إنما حسن تكرار (لدى) في: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ، لتباعد ما بينهما.
و تفارق عند ولدى لدن من ستة أوجه:
- فعند ولدى: تصلح في محل ابتداء غاية و غيرها؛ و لا يصلح لدن إلاّ في ابتداء غاية.
ص: 502
- و عند ولدى: يكونان فضلة، نحو: وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ [ق: 4]. وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ [المؤمنون: 62]. ولدن لا تكون فضلة.
- و جرّ لدن بمن أكثر من نصبها، حتى إنها لم تجيء في القرآن منصوبة، و جرّ عند كثير، و جرّ لدى ممتنع.
- و عند ولدى يعربان، ولدن مبنية في لغة الأكثرين.
- و لدن قد لا تضاف، و قد تضاف للجملة؛ بخلافهما.
- و قال الراغب(1): لدن أخصّ من عند و أبلغ، لأنه يدل على ابتداء نهاية الفعل. انتهى.
و (عند) أمكن من (لدن) من وجهين: أنّها تكون ظرفا للأعيان و المعاني، بخلاف لدن.
و عند تستعمل في الحاضر و الغائب، و لا تستعمل لدن إلاّ في الحاضر، ذكرهما ابن الشجريّ و غيره.
* غير(2):
اسم ملازم للإضافة و الإبهام، فلا تتعرّف ما لم تقع بين صدّين، و من ثم جاز وصف المعرفة بها في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7].
و الأصل أن تكون وصفا للنكرة، نحو: فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ [الأعراف: 53].
و تقع حالا إن صلح موضعها (لا) و استثناء إن صلح موضعها (إلاّ) فتعرب بإعراب الاسم التالي (إلاّ) في ذلك الكلام.
و قرئ قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95] بالرفع على أنّها صفة اَلْقاعِدُونَ ، أو استثناء و أبدل، على حدّ: ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ [النساء:
66]، و بالنّصب على الاستثناء، و بالجرّ خارج السّبع، صفة للمؤمنين.
و في «المفردات» للراغب(3): غير تقال على أوجه:
الأول: أن تكون للنفي المجرّد من غير إثبات معنى به، نحو مررت برجل غير قائم:
أي: لا قائم، قال تعالى: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً [القصص: 50]، وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 18].
الثاني: بمعنى (إلا) فيستثنى بها، و توصف به النكرة، نحو: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 85]. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ [فاطر: 3].
الثالث: لنفي الصورة من غير مادتها، نحو: الماء إذا كان حارّا غيره إذا كان باردا. و منه
ص: 503
قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56].
الرابع: أن يكون ذلك متناولا لذات، نحو: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [الأنعام: 93]. أَ غَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا [الأنعام: 164]. اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: 15].
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38]. انتهى.
* الفاء(1):
ترد على أوجه:
أحدها: أن تكون عاطفة، فتفيد ثلاثة أمور:
أحدها: الترتيب، معنويا كان نحو: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15]. أو ذكريّا، و هو عطف مفصّل على مجمل، نحو: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ [البقرة: 36]. سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً [النساء: 153]. وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود: 45]. و أنكره. أي: الترتيب. الفراء، و احتج بقوله: أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4].
و أجيب بأن المعنى: أردنا إهلاكها.
ثانيها: التّعقيب، و هو في كلّ شيء بحسبه، و بذلك ينفصل عن التراخي في نحو:
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63]. خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14].
ثالثها: السببيّة غالبا، نحو: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15]. فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37]. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) [الواقعة: 54.52].
و قد تجيء لمجرد الترتيب، نحو: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات: 27.26]. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ [الذاريات: 29]. فَالزّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتّالِياتِ [الصافات: 3.2].
الوجه الثاني: أن تكون لمجرد السببيّة من غير عطف، نحو: إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ [الكوثر: 2.1]. إذ لا يعطف الإنشاء على الخبر، و عكسه.
الثالث: أن تكون رابطة للجواب حيث لا يصلح لأن يكون شرطا:
بأن كان جملة اسمية، نحو: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: 118]. وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17].
ص: 504
أو فعلية فعلها جامد، نحو: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ [الكهف: 40.39]. وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ [آل عمران: 28]. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ [البقرة: 271]. وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً [النساء: 38].
أو إنشائيّ، نحو: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31]. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام: 150].
و اجتمعت الاسمية و الإنشائية في قوله: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: 30].
أو ماض لفظا و معنى، نحو: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 77].
أو مقرون بحرف استقبال، نحو: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ [المائدة:
54]. وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران: 115].
و كما تربط الجواب بشرطه تربط شبه الجواب بشبه الشرط، نحو: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ إلى قوله: فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران: 21].
الوجه الرابع: أن تكون زائدة، و حمل عليه الزّجّاج: هذا فَلْيَذُوقُوهُ [ص: 57]. و ردّ بأن الخبر: حَمِيمٌ [ص: 57] و ما بينهما معترض.
و خرّج عليه الفارسيّ: بَلِ اللّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66]. و غيره وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إلى قوله: فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا [البقرة: 89].
الخامس: أن تكون للاستئناف، و خرج عليه: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] بالرفع(1).
* في(2)
في: حرف جر له معان:
أشهرها: الظرفية، مكانا أو زمانا، نحو: غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم: 2 - 4] حقيقة كالآية، أو مجازا، نحو: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179]. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ [يوسف: 7]. إِنّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60].
ثانيها: المصاحبة ك (مع)، نحو: اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: 38] أي: معهم. فِي تِسْعِ آياتٍ [النمل: 12].
ص: 505
ثالثها: التعليل، نحو: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32]. لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ [النور: 14] أي: لأجله.
رابعها: الاستعلاء، نحو: وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] أي: عليها.
خامسها: معنى الباء، نحو: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ [الشورى: 11] أي: بسببه.
سادسها: معنى (إلى) نحو: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: 9] أي: إليها.
سابعها: معنى (من) نحو: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [النحل: 89] أي: منهم، بدليل الآية الأخرى.
ثامنها: معنى (عن) نحو: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72] أي: عنها و عن محاسنها.
تاسعها: المقايسة، و هي الداخلة بين مفضول سابق و فاضل لاحق، نحو: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ [التوبة: 38].
عاشرها: التوكيد و هي الزائدة، نحو: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] أي: اركبوها.
* قد(1)
قد: حرف مختصّ بالفعل المتصرف الخبريّ المثبت، المجرّد من ناصب و جازم و حرف تنفيس، ماضيا كان أو مضارعا. و لها معان:
الأول: التحقيق مع الماضي، نحو: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1]. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها (9) [الشمس: 9].
و هي في الجملة الفعلية المجاب بها القسم مثل (إنّ) و اللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التوكيد.
الثاني: و التقريب مع الماضي أيضا، تقرّبه من الحال، تقول: قام زيد، فيحتمل الماضي القريب و الماضي البعيد؛ فإن قلت: قد قام، اختصّ بالقريب.
قال النحاة: و انبنى على إفادتها ذلك أحكام:
منها: منع دخولها على ليس و عسى و نعم و بئس، لأنهنّ للحال، فلا معنى لذكر ما يقرب ما هو حاصل، و لأنهنّ لا يفدن الزمان.
و منها: وجوب دخولها على الماضي الواقع حالا: إما ظاهرة، نحو: وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا [البقرة: 246] أو مقدّرة، نحو: هذِهِ
ص: 506
بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف: 65]. أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90].
و خالف في ذلك الكوفيّون و الأخفش، و قالوا: لا تحتاج لذلك، لكثرة وقوعه حالا بدون (قد).
و قال السيد الجرجانيّ و شيخنا العلامة الكافيجيّ: ما قاله البصريّون غلط، سببه اشتباه لفظ الحال عليهم، فإنّ الحال الذي تقرّبه (قد) حال الزمان، و الحال المبيّن للهيئة حال الصفات، و هما متغايران في المعنى.
المعنى الثالث: التقليل مع المضارع. قال في المغني(1): و هو ضربان: تقليل وقوع الفعل نحو: قد يصدق الكذوب. و تقليل متعلقه، نحو: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:
64] أي: أنّ ما هم عليه هو أقل معلوماته تعالى.
قال: و زعم بعضهم أنّها في هذه الآية و نحوها للتحقيق. انتهى.
و ممن قال بذلك الزمخشري(2)، قال: إنها أدخلت لتوكيد العلم، و يرجع ذلك إلى توكيد الوعيد.
الرابع: التكثير، ذكره سيبويه و غيره. و خرّج عليه الزمخشري(3) قوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] قال: أي: ربّما نرى، و معناه: تكثير الرؤية.
الخامس: التوقّع، نحو: (قد يقدم الغائب) لمن يتوقع قدومه و ينتظره، و (قد قامت الصلاة) لأنّ الجماعة منتظرون ذلك. و حمل عليه بعضهم: قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ [المجادلة: 1]؛ لأنها كانت تتوقع إجابة اللّه لدعائها.
* الكاف(4)
الكاف: حرف جرّ، له معان:
أشهرها: التشبيه: نحو: وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) [الرحمن: 24].
و التعليل: نحو: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً [البقرة: 151]. قال الأخفش: أي لأجل إرسالنا فيكم رسولا منكم فَاذْكُرُونِي [البقرة: 152]. وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة:
198] أي: لأجل هدايته إياكم. وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [القصص: 82] أي: أعجب لعدم
ص: 507
فلاحهم. اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138].
و التوكيد: و هي الزائدة، و حمل عليه الأكثرون: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [الشورى: 11] و لو كانت غير زائدة لزم إثبات المثل، و هو محال، و القصد بهذا الكلام نفيه.
قال ابن جنّي: و إنما زيدت لتوكيد نفي المثل؛ لأنّ زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا.
و قال الراغب(1): إنما جمع بين الكاف و المثل لتأكيد النفي، تنبيها على أنه لا يصح استعمال المثل و لا الكاف، فنفى بليس الأمرين جميعا.
و قال ابن فورك: ليست زائدة، و المعنى: ليس مثل مثله شيء، و إذا نفيت التماثل عن المثل، فلا مثل للّه في الحقيقة(2).
و قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: مثل تطلق و يراد بها الذات، كقولك: مثلك لا يفعل هذا، أي: أنت لا تفعله، كما قال:
و لم أقل مثلك أعني به سواك يا فردا بلا مشبه
و قد قال تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [البقرة: 137] أي: بالذي آمنتم به إياه لأنّ إيمانهم لا مثل له، فالتقدير في الآية: ليس كذاته شيء.
و قال الراغب(3): المثل هنا بمعنى الصفة، و معناه: ليس كصفته صفة؛ تنبيها على أنّه و إن كان وصف بكثير ممّا وصف به البشر، فليس تلك الصفات له على حسب ما تستعمل في البشر، و للّه المثل الأعلى.
تنبيه: ترد الكاف اسما بمعنى (مثل) فتكون في محلّ إعراب و يعود عليها الضمير.
قال الزمخشريّ (4) في قوله تعالى: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ [آل عمران: 49]: إنّ الضمير في فِيهِ للكاف في كَهَيْئَةِ أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل، فيصير كسائر الطيور. انتهى.
مسألة: الكاف في (ذلك) أي: في اسم الإشارة، و فروعه و نحوه حرف خطاب لا محل له من الإعراب. و في (إيّاك) قيل: حرف، و قيل: اسم مضاف إليه. و في (أرأيتك) قيل:
حرف، و قيل: اسم في محل رفع، و قيل: نصب، و الأوّل أرجح.1.
ص: 508
* كاد(1)
كاد: فعل ناقص، أتى منه الماضي و المضارع فقط.
له اسم مرفوع و خبر مضارع مجرد من (أن)، و معناها قارب، فنفيها نفي للمقاربة، و إثباتها إثبات للمقاربة، و اشتهر على ألسنة كثير: أن نفيها إثبات و إثباتها نفي، فقولك: كاد زيد يفعل، معناه: لم يفعل، بدليل: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73]، و ما كاد يفعل، معناه: فعل، بدليل: وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71].
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق الضّحاك، عن ابن عباس، قال: كلّ شيء في القرآن كاد، و أكاد، و يكاد فإنه لا يكون أبدا(2).
و قيل: إنها تفيد الدّلالة على وقوع الفعل بعسر.
و قيل: نفي الماضي إثبات، بدليل: وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] و نفي المضارع نفي، بدليل: لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] مع أنه لم ير شيئا.
و الصحيح الأول: أنّها كغيرها، نفيها نفي و إثباتها إثبات، فمعنى كاد يفعل: قارب الفعل و لم يفعل، و ما كاد يفعل: ما قارب الفعل فضلا عن أن يفعل، فنفي الفعل لازم من نفي المقاربة عقلا.
و أما آية: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] فهو إخبار عن حالهم في أول الأمر، فإنّهم كانوا أولا بعداء من ذبحها، و إثبات الفعل إنّما فهم من دليل آخر، و هو قوله:
فَذَبَحُوها .
و أما قوله: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء: 74] مع أنه صلّى اللّه عليه و سلّم لم يركن لا قليلا و لا كثيرا، فإنه مفهوم من جهة أنّ لَوْ لا الامتناعيّة تقتضي ذلك.
فائدة: ترد كاد بمعنى أراد، و منه: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76]، أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] و عكسه، كقوله: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] أي: يكاد.
* كان(3)
كان: فعل ناقص متصرّف، يرفع الاسم و ينصب الخبر، و معناه في الأصل المضيّ و الانقطاع، نحو: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً [التوبة: 69]. و تأتي
ص: 509
بمعنى الدوام و الاستمرار، نحو: وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 96]. وَ كُنّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ [الأنبياء: 81]، أي: لم يزل كذلك، و على هذا المعنى تتخرّج جميع الصفات الذاتية المقترنة بكان.
قال أبو بكر الرازي: (كان) في القرآن على خمسة أوجه:
بمعنى الأزل و الأبد، كقوله: وَ كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 17].
بمعنى المضيّ المنقطع، و هو الأصل في معناها، نحو: وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل: 48].
و بمعنى الحال، نحو: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ [آل عمران: 110]. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء: 103].
و بمعنى الاستقبال، نحو): وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان: 7].
و بمعنى صار، نحو: وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ [البقرة: 34]. انتهى.
قلت: أخرج ابن أبي حاتم(1)، عن السّديّ: قال عمر بن الخطاب: لو شاء اللّه لقال:
(أنتم) فكنّا كلنا، و لكن قال: كُنْتُمْ في خاصّة أصحاب محمد.
و ترد (كان) بمعنى: ينبغي، نحو: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60].
ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النور: 16].
و بمعنى حضر أو وجد، نحو: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة: 280] إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [البقرة: 282]. وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً [النساء: 40].
و ترد للتأكيد، و هي الزائدة، و جعل منه: وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 112] أي: بما يعملون.
* كأنّ (2)
كأنّ: بالتشديد، حرف للتشبيه المؤكّد؛ لأنّ الأكثر على أنه مركب من كاف التشبيه و أنّ المؤكدة.
و الأصل في (كأنّ زيدا أسد): إنّ زيدا كأسد، قدّم حرف التشبيه اهتماما به، ففتحت همزة أنّ لدخول الجار.
ص: 510
قال حازم: و إنّما تستعمل حيث يقوى الشبه، حتى يكاد الرائي يشكّ في أنّ المشبه هو المشبّه به أو غيره، و لذلك قالت بلقيس: كَأَنَّهُ هُوَ [النمل: 42].
قيل: و ترد للظنّ و الشكّ، فيما إذا كان خبرها غير جامد.
و قد تخفف، نحو: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12].
* كأيّن(1)
كأين: اسم مركب: من كاف التشبيه و أيّ المنونة، للتكثير في العدد، نحو: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [آل عمران: 146].
و فيها لغات: منها (كائن) بوزن بائع، و قرأ بها ابن كثير حيث وقعت. و كأي بوزن كعب، و قرئ بها: و كأي من نبي قتل(2).
و هي مبنية، لازمة الصدر ملازمة للإبهام، مفتقرة للتمييز، و تمييزها مجرور، ب (من) غالبا، و قال ابن عصفور: لازما.
* كذا(3)
كذا: لم ترد في القرآن إلاّ للإشارة، نحو: أَ هكَذا عَرْشُكِ [النمل: 42].
* كل(4)
كلّ: اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكّر المضاف هو إليه، نحو: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]، و المعرّف المجموع، نحو: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [مريم: 95]. كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ [آل عمران: 93]، و أجزاء المفرد المعرّف، نحو:
يَطْبَعُ اللّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ [غافر: 35] بإضافة قَلْبِ إلى مُتَكَبِّرٍ أي على كل أجزائه، و قراءة التنوين لعموم أفراد القلوب.
و ترد باعتبار ما قبلها و ما بعدها على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون نعتا لنكرة أو معرفة: فتدلّ على كماله، و تجب إضافتها إلى اسم ظاهر يماثله لفظا و معنى، نحو: وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29]. أي بسطا كل البسط، أي تامّا. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ [النساء: 129].
ثانيها: أن تكون توكيدا لمعرفة: ففائدتها العموم، و تجب إضافتها إلى ضمير راجع
ص: 511
للمؤكد، نحو: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر: 30] و أجاز الفراء و الزمخشري: قطعها حينئذ عن الإضافة لفظا، و خرّج عليه قراءة بعضهم: (إنا كلا فيها) [الزخرف: 48].
ثالثها: ألا تكون تابعة بل تالية للعوامل: فتقع مضافة إلى الظّاهر و غير مضافة، نحو:
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) [المدثر: 38]. وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ [الفرقان: 39].
و حيث أضيفت إلى منكّر: وجب في ضميرها مراعاة معناها، نحو: وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ [القمر: 52]. وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ [الإسراء: 13]. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185]. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) . وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ [الحج: 27].
أو إلى معرّف: جاز مراعاة لفظها في الإفراد و التذكير، و مراعاة معناها، و قد اجتمعا في قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [مريم: 95.93].
أو قطعت: فكذلك، نحو: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الإسراء: 84]. فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40]. وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: 87]. وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ [الأنفال: 54].
و حيث وقعت في حيّز النفي. بأن تقدّمت عليها أداته أو الفعل المنفيّ. فالنفي موجّه إلى الشمول خاصة. و يفيد بمفهومه إثبات الفعل لبعض الأفراد.
و إن وقع النفي في خبرها فهو موجّه إلى كلّ فرد؛ هكذا ذكره البيانيون.
و قد أشكل على هذه القاعدة قوله: إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] إذ يقتضي إثبات الحبّ لمن فيه أحد الوصفين.
و أجيب: بأنّ دلالة المفهوم إنما يعوّل عليها عند عدم المعارض، و هو هنا موجود، إذ دلّ الدليل على تحريم الاختيال و الفخر مطلقا.
مسألة: تتّصل (ما) بكل، نحو: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً [البقرة: 25] و هي مصدريّة، و لكنها نابت بصلتها عن ظرف زمان، كما ينوب عنه المصدر الصريح، و المعنى:
كلّ وقت، و لهذا تسمى (ما) هذه المصدريّة الظرفية، أيّ: النائبة عن الظرف؛ لا أنها ظرف في نفسها؛ فكلّ من (كلما) منصوب على الظرف لإضافته إلى شيء هو قائم مقامه، و ناصبه الفعل الذي هو جواب في المعنى.
و قد ذكر الفقهاء و الأصوليون أنّ (كلّما) للتكرار، قال أبو حيان(1): و إنما ذلك من عموم4.
ص: 512
(ما) لأنّ الظرفية مراد بها العموم، و كلّ أكّدته.
* كلا. و كلتا(1)
كلا و كلتا: اسمان مفردان لفظا مثنّيان معنى، مضافان أبدا. لفظا و معنى. إلى كلمة واحدة معرّفة دالّة على اثنين.
قال الراغب(2): و هما في التثنية ككل في الجمع، قال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ [الكهف: 33]. أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما [الإسراء: 23].
* كلاّ(3)
كلاّ: مركّبة عند ثعلب من كاف التشبيه و لا النافية، شدّدت لامها لتقوية المعنى، و لدفع توهم بقاء معنى الكلمتين.
و قال غيره: بسيطة، فقال سيبويه و الأكثرون: حرف معناه الرّدع و الزّجر، لا معنى لها عندهم إلاّ ذلك؛ حتى إنّهم يجيزون أبدا الوقف عليها و الابتداء بما بعدها؛ و حتى قال جماعة منهم: متى سمعت كلاّ في سورة فاحكم بأنّها مكيّة؛ لأنّ فيها معنى التهديد و الوعيد، و أكثر ما نزل ذلك بمكّة؛ لأنّ أكثر العتوّ كان بها.
قال ابن هشام: و فيه نظر؛ لأنه لا يظهر معنى الزّجر في نحو: ما شاءَ رَكَّبَكَ كَلاّ [الانفطار: 9.8]. يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) [المطففين: 7.6]. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاّ [القيامة: 20.19]، و قولهم: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أيّ صورة شاء اللّه، و بالبعث، و عن العجلة بالقرآن، تعسّف؛ إذ لم تتقدم في الأوليين حكاية نفي ذلك عن أحد، و لطول الفصل في الثالثة بين كلاّ و ذكر العجلة. و أيضا فإنّ أوّل ما نزل خمس آيات من أول سورة العلق، ثم نزل: كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) [العلق: 6] فجاءت في افتتاح الكلام.
و رأى آخرون أنّ معنى الرّدع و الزّجر ليس مستمرّا فيها، فزادوا معنى ثانيا يصحّ عليه أن يوقف دونها و يبتدأ بها.
ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى:
فقال الكسائي: تكون بمعنى حقّا.
ص: 513
و قال أبو حاتم: بمعنى (ألا) الاستفتاحية، قال أبو حيان: و لم يسبقه إلى ذلك أحد، و تابعه جماعة. منهم الزّجاج.
و قال النّضر بن شميل: حرف جواب بمنزلة: أيّ و نعم، و حملوا عليه: كَلاّ وَ الْقَمَرِ (32) [المدثر: 32].
و قال الفراء و ابن سعدان: بمعنى سوف، و حكاه أبو حيان في تذكرته.
قال مكيّ (1): و إذا كان بمعنى حقّا فهي اسم، و قرئ: كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم: 82]. بالتنوين، و وجّه بأنّه مصدر كلّ إذا أعيا، أي كلّوا في دعواهم و انقطعوا، أو من الكلّ و هو الثّقل، أي حملوا كلاّ.
و جوز الزمخشري(2) كونه حرف ردع نوّن، كما في: سلاسلا [الإنسان: 4].
و ردّه أبو حيان(3) بأنّ ذلك إنما صح في (سلاسلا) لأنه اسم أصله التنوين، فرجع به إلى أصله للتناسب.
قال ابن هشام: و ليس التوجيه منحصرا عند الزمخشري في ذلك، بل جوز كون التنوين بدلا من حرف الإطلاق المزيد في رأس الآية. ثم أنه وصل بنية الوقف.
* كم(4)
كم: اسم مبني لازم الصّدر، مبهم، مفتقر إلى التمييز. و ترد استفهامية. و لم تقع في القرآن. و خبرية بمعنى كثير.
و إنما تقع غالبا في مقام الافتخار و المباهاة؛ نحو: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ [النجم:
26]. وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الأعراف: 4]. وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: 11].
و عن الكسائي: أنّ أصلها (كما) فحذفت الألف مثل بم و لم، و حكاه الزجاج. و ردّه:
بأنه لو كان كذلك لكانت مفتوحة الميم.
* كي(5)
كي: حرف له معنيان:
أحدهما: التعليل، نحو: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ [الحشر: 7].
ص: 514
و الثاني: معنى أن المصدرية، نحو: لِكَيْلا تَأْسَوْا [الحديد: 23] لصحة حلول (أن) محلها، و لأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل.
* كيف(1)
كيف: اسم يرد على وجهين:
الشرط: و خرج عليه: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ [المائدة: 64]. يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6]. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: 48] و جوابها في ذلك كلّه محذوف لدلالة ما قبلها.
و الاستفهام: و هو الغالب، و يستفهم بها عن حال الشيء لا عن ذاته. قال الراغب(1):
و إنما يسأل بها عما يصح أن يقال فيه: شبيه و غير شبيه، و لهذا لا يصحّ أن يقال في اللّه:
كيف. قال: و كلّما أخبر اللّه بلفظ كَيْفَ * عن نفسه فهو استخبار، على طريق التنبيه للمخاطب أو التوبيخ، نحو: كَيْفَ تَكْفُرُونَ [البقرة: 28]. كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً [آل عمران: 86].
* اللام(2)
اللاّم: أربعة أقسام: جارة، و ناصبة، و جازمة، و مهملة غير عاملة.
فالجارة: مكسورة مع الظاهر، و أما قراءة بعضهم: (الحمد للّه) فالضمة عارضة للإتباع، مفتوحة مع الضمير إلاّ الياء. و لها معان؛ الاستحقاق: و هي الواقعة بين معنى و ذات، نحو: اَلْحَمْدُ لِلّهِ . لِلّهِ الْأَمْرُ [الروم: 4]. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (3) [المطففين: 1]. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ [البقرة: 114].
و الاختصاص: نحو: إِنَّ لَهُ أَباً [يوسف: 78]. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء: 11].
و الملك: نحو: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [البقرة: 255].
و التعليل: نحو: وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات: 8]. أي: و إنه من أجل حبّ المال لبخيل. وَ إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ [آل عمران:
81] الآية في قراءة حمزة، أي: لأجل إتياني إياكم بعض الكتاب و الحكمة، ثم لمجيء محمد
ص: 515
صلّى اللّه عليه و سلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [آل عمران: 81] ف (ما) مصدرية و اللام تعليلية. و قوله:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) [قريش: 1]. و تعلّقها ب: فَلْيَعْبُدُوا و قيل بما قبله، أي: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) [الفيل: 5، و قريش: 1] و رجّح بأنهما في مصحف أبيّ سورة واحدة.
و موافقة: (إلى)(1): نحو: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) [الزلزلة: 5]. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد: 2].
و (على)(2): نحو: وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 109]. دَعانا لِجَنْبِهِ [يونس: 12].
وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: 103]. وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7]. وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرعد:
25] أي: عليهم، كما قال الشافعيّ.
و (في): نحو: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47]. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ [الأعراف: 187]. يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: 24]. أي: في حياتي. و قيل: هي فيها للتعليل، أي: لأجل حياتي في الآخرة.
و (عند): كقراءة الجحدريّ: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ) [ق: 5].
و (بعد): نحو(3): أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78].
و (عن): نحو: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف:
11] أي: عنهم و في حقّهم. لا أنّهم خاطبوا به المؤمنين، و إلاّ لقيل: (ما سبقتمونا).
و التبليغ: و هي الجارّة لاسم السامع لقول أو ما في معناه كالإذن.
و الصيرورة: و تسمى لام العاقبة، نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً [القصص: 8] فهذا عاقبة التقاطهم لا علّته؛ إذ هي التبنّي. و منع قوم ذلك و قالوا: هي للتعليل مجازا؛ لأنّ كونه عدوا لما كان ناشئا عن الالتقاط. و إن لم يكن غرضا لهم. نزّل منزلة الغرض على طريق المجاز.
و قال أبو حيّان: الّذي عندي أنّها للتعليل حقيقة، و أنهم التقطوه ليكون لهم عدوا؛ و ذلك على حذف مضاف تقديره (لمخافة أن يكون) كقوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:
176]. أي: كراهة أن تضلّوا. انتهى.9.
ص: 516
و التأكيد: و هي الزائدة، أو المقويّة للعامل الضعيف لفرعيّة أو تأخير، نحو: رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72]. يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26]، وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ [الأنعام: 71].
فَعّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107]. إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43]. وَ كُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78].
و التبيين للفاعل أو المفعول: نحو: فَتَعْساً لَهُمْ [محمد: 8]. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) [المؤمنون: 36]. هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23].
و الناصبة: هي لام التعليل. و ادّعى الكوفيون النصب بها، و قال غيرهم: بأن مقدّرة في محلّ جرّ باللام.
و الجازمة: و هي لام الطلب، و حركتها الكسر، و سليم تفتحها، و إسكانها بعد الواو و الفاء أكثر من تحريكها، نحو: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي [البقرة: 186]. و قد تسكن بعد ثمّ، نحو: ثُمَّ لْيَقْضُوا [الحج: 29]. و سواء كان الطلب أمرا، نحو: نحو: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ [الطلاق: 7] أو دعاء، نحو: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77].
و كذا لو خرجت إلى الخبر، نحو: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ [مريم: 75]. وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12].
أو التهديد، نحو: وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29].
و جزمها فعل الغائب كثير، نحو: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:
102]. و فعل المخاطب قليل، و منه: (فبذلك فلتفرحوا) [يونس: 58]. في قراءة التاء، و فعل المتكلم أقل، و منه: وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12].
و غير العاملة أربع:
لام الابتداء: و فائدتها أمران: توكيد مضمون الجملة، و لهذا زحلقوها في باب (إنّ) عن صدر الجملة، كراهة توالي مؤكّدين. و تخليص المضارع للحال.
و تدخل في المبتدأ، نحو: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً [الحشر: 13].
و في خبر (إنّ) نحو: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [إبراهيم: 39]. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [النحل: 124]. وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) [القلم: 4]. و اسمها المؤخر، نحو: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ [الليل: 13.12].
و اللام الزائدة في خبر (أنّ) المفتوحة: كقراءة سعيد بن جبير: إلاّ أنّهم ليأكلون الطّعام [الفرقان: 20]. و المفعول، كقوله: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج: 13].
ص: 517
و لام الجواب للقسم: أو (لو) أو (لو لا) نحو تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ [يوسف: 91].
وَ تَاللّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57]. لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا [الفتح: 25]. وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251].
و اللام الموطئة: و تسمى المؤذنة، و هي الداخلة على أداة شرط، للإيذان بأنّ الجواب بعدها معها مبني على قسم مقدر، نحو: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الحشر: 12]. و خرّج عليها قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ [آل عمران: 81].
* لا(1)
لا: على أوجه:
الوجه الأول: أن تكون نافية، و هي أنواع:
أحدها: أن تعمل عمل (إنّ): و ذلك إذا أريد بها نفي الجنس على سبيل التنصيص، و تسمى حينئذ: تبرئة، و إنما يظهر نصبها إذا كان اسمها مضافا أو شبهه، و إلاّ فيركب معها، نحو: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [البقرة: 255]. لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] فإن تكررت جاز التركيب و الرفع، نحو: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ [البقرة: 197]. لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ [البقرة: 254]. لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ [الطور: 23].
ثانيها: أن تعمل عمل ليس: نحو: وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [يونس: 61].
ثالثها و رابعها: أن تكون عاطفة أو جوابية، و لم يقعا في القرآن.
خامسها: أن تكون على غير ذلك؛ فإن كان ما بعدها جملة اسمية صدرها معرفة أو نكرة و لم تعمل فيها، أو فعلا ماضيا، لفظا أو تقديرا، وجب تكرارها، نحو: لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40]. لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) [الصافات: 47]. فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلّى (31) [القيامة: 31]. أو مضارعا، لم يجب، نحو: لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ [النساء: 148]. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الشورى: 23].
و تعترض (لا) هذه بين الناصب و المنصوب، نحو: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ [النساء:
165]، و الجازم و المجزوم، نحو: إِلاّ تَفْعَلُوهُ [الأنفال: 73].
الوجه الثاني: أن تكون لطلب التّرك، فتختص بالمضارع، و تقتضي جزمه و استقباله،
ص: 518
سواء كان نهيا، نحو: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي [الممتحنة: 1]. لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ [آل عمران: 28]. وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237]، أو دعاء، نحو: لا تُؤاخِذْنا [البقرة: 286].
الوجه الثالث: التأكيد، و هي الزائدة، نحو: ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ [الأعراف: 12]. ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّ تَتَّبِعَنِ [طه: 93.92]. لِئَلاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد:
29] أي: ليعلموا. قال ابن جني: (لا) هنا مؤكدة، قائمة مقام إعادة الجملة مرة أخرى.
و اختلف في قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة: 1].
فقيل: زائدة، و فائدتها مع التوكيد التمهيد لنفي الجواب، و التقدير: (لا أقسم بيوم القيامة لا يتركون سدى). و مثله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ [النساء: 65].
و يؤيده قراءة (لأقسم)(1).
و قيل: نافية لما تقدم عندهم من إنكار البعث، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم(2).
قالوا: و إنما صحّ ذلك لأنّ القرآن كلّه كالسورة الواحدة، و لهذا يذكر الشيء في سورة و جوابه في سورة، نحو: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) [الحجر: 6].
ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) [القلم: 2].
و قيل: منفيّها أقسم، على أنه إخبار لا إنشاء، و اختاره الزمخشري(3): قال: و المعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلاّ إعظاما له؛ بدليل * فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) [الواقعة: 76.75]، فكأنّه قيل: إنّ إعظامه بالإقسام به كلا إعظام، أي: إنه يستحق إعظاما فوق ذلك.
و اختلف في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا [الأنعام: 151].
فقيل: لا نافية.
و قيل: ناهية.
و قيل: زائدة.
و في قوله تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) [الأنبياء: 95].0.
ص: 519
فقيل: زائدة.
و قيل: نافية، و المعنى: يمتنع عدم رجوعهم إلى الآخرة.
تنبيه: ترد (لا) اسما بمعنى غير، فيظهر إعرابها فيما بعدها، نحو: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ [الفاتحة: 7]. لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) [الواقعة: 33]. لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ [البقرة: 68].
فائدة: قد تحذف ألفها، و خرّج عليه ابن جني: و اتقوا فتنة لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة) [الأنفال: 25].
* لات(1)
لات: اختلف فيها:
فقال قوم: فعل ماض بمعنى نقص.
و قيل: أصلها ليس، تحركت الياء فقلبت ألفا، لانفتاح ما قبلها، و أبدلت السين تاء.
و قيل: هي كلمتان (لا) النافية زيدت عليها (التاء) لتأنيث الكلمة، و حركت لالتقاء الساكنين. و عليه الجمهور.
و قيل: هي (لا) النافية و التاء زائدة في أول الحين، و استدلّ له أبو عبيدة بأنّه وجدها في مصحف عثمان مختلطة بحين في الخط.
و اختلف في عملها:
فقال الأخفش: لا تعمل شيئا، فإن تلاها مرفوع فمبتدأ و خبر، أو منصوب فبفعل محذوف، فقوله تعالى: وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] بالرفع، أي: كائن لهم. و بالنصب، أي: لا أرى حين مناص.
و قيل: تعمل عمل (إنّ).
و قال الجمهور: تعمل عمل ليس، و على كلّ قول لا يذكر بعدها إلاّ أحد المعمولين، و لا تعمل إلاّ في لفظ الحين، قيل: أو ما رادفه.
قال الفرّاء: و قد تستعمل حرف جر لأسماء الزمان خاصّة، و خرج عليها قوله: وَ لاتَ حِينَ بالجر.
ص: 520
* لا جرم(1)
لا جرم: وردت في القرآن في خمسة مواضع متلوّة بأنّ و اسمها، و لم يجيء بعدها فعل.
و اختلف فيها: فقيل: (لا) نافية لما تقدّم، و (جرم) فعل معناه حق، و (أنّ) مع ما في حيّزه في موضع رفع.
و قيل: زائدة، و جرم معناه كسب، أي: كسب لهم عملهم الندامة، و ما في حيزها في موضع نصب.
و قيل: هما كلمتان ركبتا، و صار معناهما حقّا.
و قيل: معناهما لا بدّ، و ما بعدها في موضع نصب بإسقاط حرف الجر.
* لكنّ (2)
لكنّ: مشددة النون: حرف ينصب الاسم و يرفع الخبر، و معناه الاستدراك. و فسّر: بأن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لحكم ما قبلها، و لذلك لا بد أن يتقدمها كلام مخالف لما بعدها أو مناقض له، نحو: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا [البقرة: 102].
و قد ترد للتوكيد مجردا عن الاستدراك، قاله صاحب «البسيط». و فسّر الاستدراك برفع ما توهّم ثبوته، نحو: ما زيد شجاعا لكنه كريم، لأنّ الشجاعة و الكرم لا يكادان يفترقان.
فنفي أحدهما يوهم نفي الآخر.
و مثل التوكيد، بنحو: لو جاءني أكرمته، لكنه لم يجيء: فأكّدت ما أفادته (لو) من الامتناع.
و اختار ابن عصفور أنّها لهما معا؛ و هو المختار، كما أنّ كأنّ للتشبيه المؤكّد، و لهذا قال بعضهم: إنها مركبة من (لكن أنّ) فطرحت الهمزة للتخفيف و نون (لكن) للساكنين.
* لكن(3)
لكن: مخففة، ضربان:
أحدهما: مخفّفة من الثقيلة، و هي حرف ابتداء لا يعمل، بل لمجرد إفادة الاستدراك.
و ليست عاطفة، لاقترانها بالعاطف في قوله: وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ [الزخرف: 76].
ص: 521
و الثاني: عاطفة إذا تلاها مفرد، و هي أيضا للاستدراك، نحو: لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِما [النساء: 166]، لكِنِ الرَّسُولُ [التوبة: 88]. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [آل عمران: 198].
* لدى و لدن(1)
لدى و لدن: تقدمتا في عند.
* لعل(2)
لعلّ: حرف ينصب الاسم و يرفع الخبر، و له معان:
أشهرها: التوقّع: و هو الترجّي في المحبوب، نحو: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189].
و الإشفاق في المكروه: نحو: لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17]، و ذكر التنوخيّ أنّها تفيد تأكيد ذلك.
الثاني: التعليل: و خرج عليه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) [طه: 44].
الثالث: الاستفهام: و خرّج عليه: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق:
1]. وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى (3) [عبس: 3]. و لذا علّق: تَدْرِي .
قال في «البرهان»(3): و حكى البغوي عن الواقديّ: أنّ جميع ما في القرآن من (لعل) فإنها للتعليل، إلاّ قوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء: 129]، فإنّها للتشبيه، قال: و كونها للتشبيه غريب لم يذكره النّحاة، و وقع في صحيح البخاري(4) في قوله: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أن لعل للتشبيه، و ذكر غيره أنه للرجاء المحض، و هو بالنسبة إليهم، انتهى.
قلت: أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدي، عن أبي مالك، قال: (لعلكم) في القرآن بمعنى (كي) غير آية في الشعراء لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ يعني: كأنكم تخلدون(5).
و أخرج عن قتادة قال: كان في بعض القراءة: (و تتّخذون مصانع كأنّكم خالدون)(6).
ص: 522
* لم(1)
لم: حرف جزم لنفي المضارع و قلبه ماضيا، نحو: لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) [الإخلاص: 3]. و النصب بها لغة، حكاها اللّحياني، و خرّج عليها قراءة أَ لَمْ نَشْرَحْ .
* لمّا(2)
لمّا: على أوجه:
أحدها: أن تكون حرف جزم، فتختصّ بالمضارع و تنفيه و تقلبه ماضيا ك (لم). لكن يفترقان من أوجه:
أنها لا تقترن بأداة شرط، و نفيها مستمر إلى الحال و قريب منه، و متوقع ثبوته، قال ابن مالك في: لَمّا يَذُوقُوا عَذابِ [ص: 8]. المعنى: لم يذوقوه و ذوقه لهم متوقّع، و قال الزمخشري(3) في: وَ لَمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14]: ما في (لمّا) من معنى التوقع دالّ على أنّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
و أنّ نفيها آكد من نفي لم، فهي لنفي (قد فعل) و لم لنفي (فعل). و لهذا قال الزمخشريّ في «الفائق» تبعا لابن جني: إنها مركبة من (لم) و (ما). و إنّهم لمّا زادوا في الإثبات (قد) زادوا في النفي (ما).
و أنّ منفي (لما) جائز الحذف اختيارا. بخلاف (لم). و هي أحسن ما يخرج عليه:
وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّا [هود: 111] أي: لمّا يهملوا أو يتركوا. قاله ابن الحاجب.
قال ابن هشام: و لا أعرف وجها في الآية أشبه من هذا، و إن كانت النفوس تستبعده؛ لأنّ مثله لم يقع في التنزيل.
قال: و الحقّ ألاّ يستبعد و لكن الأولى أن يقدّر: (لما يوفّوا أعمالهم)، أي: إنهم إلى الآن لم يوفّوها و سيوفونها.
الثاني: أن تدخل على الماضي فتقتضي جملتين، وجدت الثانية عند وجود الأولى، نحو: فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الإسراء: 67]. و يقال فيها: حرف وجود لوجود. و ذهب
ص: 523
جماعة إلى أنها حينئذ ظرف بمعنى حين.
و قال ابن مالك: بمعنى إذ؛ لأنها مختصة بالماضي و بالإضافة إلى الجملة.
و جواب هذه يكون ماضيا كما تقدّم، و جملة اسمية بالفاء أو بإذا الفجائية، نحو: فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32]. فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65].
و جوّز ابن عصفور كونه مضارعا، نحو: فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا [هود: 74] و أوّله غيره ب (جادلنا).
الثالث: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الاسمية و الماضية، نحو: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق: 4]. بالتشديد، أي: (إلاّ). وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 35].
* لن(1)
لن: حرف نفي و نصب و استقبال، و النفي بها أبلغ من النفي بلا، فهي لتأكيد النفي، كما ذكره الزمخشري و ابن الخباز، حتى قال بعضهم: و إن منعه مكابرة، فهي لنفي (إني أفعل) و (لا) لنفي (أفعل) كما في (لم) و (لما).
قال بعضهم: العرب تنفي المظنون بلن، و المشكوك بلا، ذكره ابن الزّملكانيّ في «التبيان».
و ادّعى الزمخشري(2) أيضا أنها لتأبيد النفي، كقوله: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الحج: 73].
وَ لَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24].
و قال ابن مالك(3): و حمله على ذلك اعتقاده في: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143]: أنّ اللّه لا يرى.
و ردّ غيره بأنّها لو كانت للتأبيد لم يقيّد منفيها باليوم في: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26]. و لم يصح التوقيت في: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91].
و لكان ذكر (الأبد) في: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95]. تكرارا، و الأصل عدمه. و استفادة التأبيد في: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الحج: 73]. و نحوه من خارج.
ص: 524
و وافقه على إفادة التأبيد ابن عطية(1)، و قال في قوله: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143]: لو بقّينا على هذا النفي لتضمّن أنّ موسى لا يراه أبدا و لا في الآخرة، لكن ثبت في الحديث المتواتر أنّ أهل الجنة يرونه(2).
و عكس ابن الزّملكانيّ مقالة الزمخشريّ، فقال: إن (لن) لنفي ما قرب، و عدم امتداد النفي، و لا يمتد معنى النفي، قال: و سرّ ذلك أنّ الألفاظ مشاكلة للمعاني، و (لا) آخرها الألف، و الألف يمكن امتداد الصوت بها، بخلاف النون، فطابق كلّ لفظ معناه. قال: و لذلك أتى ب (لن) حيث لم يرد به النفي مطلقا، بل في الدنيا، حيث قال: لَنْ تَرانِي [الأعراف:
143]. و ب (لا) في قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103]، حيث أريد نفي الإدراك على الإطلاق، و هو مغاير للرؤية. انتهى.
قيل: و ترد (لن) للدعاء، و خرّج عليه: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ [القصص:
17]، الآية.
* لو(3)
لو: حرف شرط في المضيّ، يصرف المضارع إليه، بعكس (إن) الشرطية، و اختلف في إفادتها الامتناع و كيفيّة إفادتها إياه على أقوال:
أحدها: أنها لا تفيده بوجه، و لا تدل على امتناع الشّرط و لا امتناع الجواب، بل هي لمجرّد ربط الجواب بالشّرط، دالّة على التعليق في الماضي. كما دلّت (أن) على التعليق في المستقبل، و لم تدلّ بالإجماع على امتناع و لا ثبوت.
قال ابن هشام: و هذا القول كإنكار الضروريات، إذ فهم الامتناع منها كالبديهي؛ فإنّ كلّ من سمع: (لو فعل) فهم عدم وقوع الفعل من غير تردد؛ و لهذا جاز استدراكه، فتقول: لو
ص: 525
جاء زيد أكرمته، لكنه لم يجيء.
الثاني: و هو لسيبويه، قال: إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، أي: إنها تقتضي فعلا ماضيا كان يتوقّع ثبوته لثبوت غيره، و المتوقّع غير واقع؛ فكأنه قال: حرف يقتضي فعلا امتنع لامتناع ما كان يثبت لثبوته.
الثالث: و هو المشهور على ألسنة النحاة، و مشى عليه المعربون: أنها حرف امتناع لامتناع، أي: يدلّ على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: لو جئت لأكرمتك، دالّ على امتناع الإكرام لامتناع المجيء.
و اعترض بعدم امتناع المجيء، و اعترض بعدم امتناع الجواب في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ [لقمان: 27]. وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا [الأنفال: 23]؛ فإنّ عدم النفاد عند فقد ما ذكر، و التولي عند عدم الإسماع أولى.
و الرابع: و هو لابن مالك: أنّها حرف يقتضي امتناع ما يليه و استلزامه لتاليه، من غير تعرض لنفي التالي. قال: فقيام زيد من قولك: لو قام زيد قام عمرو، محكوم بانتفائه و بكونه مستلزما ثبوته لثبوت قيام من عمرو، و هل وقع لعمرو قيام آخر غير اللازم عن قيام زيد أو ليس له؟ لا تعرّض لذلك. قال ابن هشام: و هذه أجود العبارات.
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم، من طريق الضحاك، عن ابن عباس قال: كلّ شيء في القرآن (لو) فإنه لا يكون أبدا.
فائدة ثانية: تختص لو المذكورة بالفعل؛ و أما نحو: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء:
100] فعلى تقديره.
قال الزمخشري(1): و إذا وقعت (أنّ) بعدها وجب كون خبرها فعلا، ليكون عوضا عن الفعل المحذوف. و ردّه ابن الحاج بآية: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ [لقمان: 27]، و قال: إنما ذاك إذا كان مشتقا لا جامدا، و رده ابن مالك بقوله:
لو أنّ حيّا مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرّماح
قال ابن هشام(2): و قد وجدت آية في التنزيل وقع فيها الخبر اسما مشتقا، و لم يتنبه لها4.
ص: 526
الزمخشري، كما لم يتنبه لآية لقمان، و لا ابن الحاجب، و إلاّ لما منع من ذلك، و لا ابن مالك، و إلاّ لما استدل بالشعر، و هي قوله: يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ [الأحزاب:
20]. و وجدت آية الخبر فيها ظرف: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) [الصافات: 168].
و ردّ ذلك الزركشي في «البرهان»(1) و ابن الدّماميني بأنّ (لو) في الآية الأولى للتمنّي، و الكلام في الامتناعية، و أعجب من ذلك أنّ مقالة الزمخشري سبقه إليها السّيرافي، و هذا الاستدراك و ما استدرك به منقول قديما في شرح «الإيضاح» لابن الخباز، لكن في غير مظنّته، فقال في باب (إنّ) و أخواتها: قال السيرافيّ: لو أنّ زيدا أقام لأكرمته، لا يجوز: لو أنّ زيدا حاضر لأكرمته؛ لأنك لم تلفظ بفعل يسدّ مسد ذلك الفعل. هذا كلامه، و قد قال تعالى:
وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ [الأحزاب: 20]، فأوقع خبرها صفة. و لهم أن يفرّقوا بأن هذه للتمنّي فأجريت مجرى ليت، كما تقول: ليتهم بادون. انتهى كلامه.
و جواب (لو) إما مضارع منفي ب (لم) أو ماض مثبت، أو منفي ب (ما). و الغالب على المثبت دخول اللام عليه، نحو: لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً [الواقعة: 65]. و من تجرده: لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الواقعة: 70]. و الغالب على المنفيّ تجرده، نحو: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 112].
فائدة ثالثة: قال الزمخشري: الفرق بين قولك: لو جاءني زيد لكسوته، و لو زيد جاءني لكسوته، و لو أنّ زيدا جاءني لكسوته:
أنّ القصد في الأوّل مجرّد ربط الفعلين، و تعليق أحدهما بصاحبه لا غير، من غير تعرّض لمعنى زائد على التعلق الساذج.
و في الثاني: انضمّ إلى التعليق أحد معنيين؛ إما نفي الشك و الشبهة. و أنّ المذكور مكسوّ لا محالة، و إما بيان أنه هو المختص بذلك دون غيره، و تخرّج عليه آية: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء: 100].
و في الثالث، مع ما في الثاني: زيادة التأكيد الذي تعطيه (أنّ) و إشعار بأنّ زيدا كان حقه أن يجيء، و أنه بتركه المجيء قد أغفل حظه. و يخرج عليه وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا [الحجرات: 5] و نحوه.
فتأمّل ذلك، و خرّج عليه ما وقع في القرآن من أحد الثلاثة.
تنبيه: ترد (لو) شرطية في المستقبل؛ و هي التي يصلح موضعها (إن) نحو: وَ لَوْ كَرِهَ4.
ص: 527
اَلْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب: 52].
و مصدرية، و هي التي يصلح موضعها (أن) المفتوحة، و أكثر وقوعها بعد (ودّ) و نحوه:
نحو وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ [البقرة: 109]. يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ [البقرة: 96]. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي [المعارج: 11]. أي: الرد و التعمير و الافتداء.
و للتمني، و هي التي يصلح موضعها (ليت) نحو: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً [الشعراء: 102] و لهذا نصب الفعل في جوابها.
و للتقليل، و خرّج عليه: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135].
* لو لا(1)
لو لا: على أوجه:
أحدها: أن تكون حرف امتناع لوجود، فتدخل على الجملة الاسمية، و يكون جوابها فعلا مقرونا باللام إن كان مثبتا، نحو: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ [الصافات: 144.143]. و مجردا منها إن كان منفيّا، نحو: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور: 21] و إن وليها ضمير فحقّه أن يكون ضمير رفع، نحو: لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31].
الثاني: أن تكون بمعنى (هلاّ) فهي للتحضيض و العرض في المضارع أو ما في تأويله، نحو: لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ [النمل: 46]. لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [المنافقون: 10]، و للتوبيخ و التنديم في المضارع، نحو: لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 13]. فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ [الأحقاف: 28]. وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ [النور: 16].
فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 43]. فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) [الواقعة: 83].
فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) [الواقعة: 87.86].
الثالث: أن تكون للاستفهام، ذكره الهرويّ، و جعل منه: لَوْ لا أَخَّرْتَنِي [المنافقون:
10]. لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] و الظاهر أنّها فيهما بمعنى (هلا).
الرابع: أن تكون للنفي، ذكره الهروي أيضا، و جعل منه: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس: 98]، أي: فما آمنت قرية، أي: أهلها، عند مجيء العذاب فنفعها إيمانها.
و الجمهور: لم يثبتوا ذلك.
ص: 528
و قالوا: المراد في الآية التوبيخ على ترك الإيمان قبل مجيء العذاب، و يؤيده قراءة أبيّ (فهلا). و الاستثناء حينئذ منقطع.
فائدة: نقل عن الخليل: أنّ جميع ما في القرآن من (لو لا) فهي بمعنى (هلا) إلاّ:
فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصافات: 143]. و فيه نظر، لما تقدّم من الآيات.
و كذا قوله: لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24]. لو لا فيه امتناعية، و جوابها محذوف، أي: لهمّ بها، أو لواقعها.
و قوله: لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا [القصص: 82].
و قوله: لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [القصص: 10] أي: لأبدت به، في آيات أخر.
و قال ابن أبي حاتم: أنبأنا موسى الخطميّ، أنبأنا هارون بن أبي حاتم، أنبأنا عبد الرحمن بن حمّاد، عن أسباط، عن السّدّي، عن أبي مالك، قال: كلّ ما في القرآن (فلولا) فهو (فهلا) إلاّ حرفين: في يونس: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها [يونس: 98]، يقول: فما كانت قرية، و قوله: فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصافات: 143](1).
و بهذا يتّضح مراد الخليل، و هو أنّ مراده (لو لا) المقترنة بالفاء.
* لو ما(2)
لو ما: بمنزلة (لو لا). قال تعالى: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر: 7] و قال المالقي:
لم ترد إلاّ للتحضيض.
و قيل: هي لنفي الحال و غيره؛ و قوّاه ابن الحاج بقوله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ [هود: 8] فإنه نفي للمستقبل.
قال ابن مالك: و ترد للنفي العام المستغرق المراد به الجنس، ك (لا) التبرئة، و هو مما يغفل عنه، و خرّج عليه: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية: 6].
* ما(1)
ما: اسمية و حرفية:
فالاسمية: ترد موصولة بمعنى الذي، نحو: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللّهِ باقٍ [النحل:
96]، و يستوي فيها المذكر و المؤنث، و المفرد و المثنى و الجمع، و الغالب استعمالها فيما لا يعلم، و قد تستعمل في العالم، نحو: وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) [الشمس: 5]. وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) [الكافرون: 3] أي: اللّه.
و يجوز في ضميرها مراعاة اللفظ و المعنى، و اجتمعا في قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) [النحل: 73] و هذه معرفة، بخلاف الباقي.
و استفهامية: بمعنى: أي: شيء، و يسأل بها عن أعيان ما لا يعقل و أجناسه و صفاته، و أجناس العقلاء و أنواعهم و صفاتهم، نحو: ما هِيَ ما لَوْنُها [البقرة: 68-69]. ما وَلاّهُمْ [البقرة: 142]. وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ [طه: 17]. وَ مَا الرَّحْمنُ [الفرقان: 60].
و لا يسأل بها عن أعيان أولي العلم، خلافا لمن أجازه. و أما قول فرعون: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] فإنه قاله جهلا، و لهذا أجابه موسى بالصفات.
و يجب حذف ألفها إذا جرّت و إبقاء الفتحة دليلا عليها، فرقا بينها و بين الموصولة، نحو: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) [النبأ: 1]. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها [النازعات: 43]. لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2]. بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35].
و شرطية: نحو: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ [البقرة: 106]. وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [البقرة: 197]. فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 7] و هذه منصوبة بالفعل بعدها.
و تعجبيّة: نحو: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ [البقرة: 175]. قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس: 17] و لا ثالث لهما في القرآن إلاّ في قراءة سعيد بن جبير: ما أغرّك بربّك الكريم
ص: 530
و محلّها رفع بالابتداء، و ما بعدها خبر، و هي نكرة تامة.
و نكرة موصوفة: نحو: بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26]. نِعِمّا يَعِظُكُمْ [النساء: 58] أي: نعم شيئا يعظكم به.
و غير موصوفة نحو: فَنِعِمّا هِيَ [البقرة: 271] أي: نعم شيئا هي.
و الحرفية: ترد مصدرية:
إما زمانية: نحو: فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] أي: مدة استطاعتكم.
أو غير زمانية، نحو: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ [السجدة: 14] أي: بنسيانكم.
و نافية:
إما عاملة عمل ليس، نحو: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31]، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ [المجادلة: 2]. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 47] و لا رابع لها في القرآن.
أو غير عاملة، نحو: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ [البقرة: 272]. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16].
قال ابن الحاجب: و هي لنفي الحال، و مقتضى كلام سيبويه أنّ فيها معنى التأكيد؛ لأنه جعلها في النفي جوابا لقد في الإثبات، فكما أنّ (قد) فيها معنى التأكيد، فكذلك ما جعل جوابا لها.
و زائدة للتأكيد:
إمّا كافة، نحو: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الأنعام: 19]. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف:
110]. كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ [يونس: 27]. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2].
أو غير كافة، نحو: فَإِمّا تَرَيِنَّ [مريم: 26]. أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء: 110]. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ [القصص: 28]. فَبِما رَحْمَةٍ [آل عمران: 159]. مِمّا خَطِيئاتِهِمْ [نوح:
25]. مَثَلاً ما بَعُوضَةً [البقرة: 26].
قال الفارسيّ: جميع ما في القرآن من الشرط بعد (إمّا) مؤكد بالنون لمشابهته فعل الشرط، بدخول ما للتأكيد لفعل القسم من جهة أنّ (ما) كاللام في القسم، لما فيها من التأكيد.
و قال أبو البقاء: زيادة (ما) مؤذنة بإرادة شدة التأكيد.
فائدة: حيث وقعت (ما) قبل (ليس) أو (لم) أو (لا) أو بعد (إلاّ) فهي موصولة، نحو ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة: 116]. ما لَمْ يَعْلَمْ [الفلق: 5]. ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30].
إِلاّ ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32].
ص: 531
و حيث وقعت بعد كاف التشبيه فهي مصدريّة، و حيث وقعت بعد الباء فإنها تحتملهما، نحو: بِما كانُوا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 162].
و حيث وقعت بين فعلين سابقهما علم أو دراية أو نظر، احتملت الموصولة و الاستفهامية، نحو: وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 33]. وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ [الأحقاف: 9].
وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18].
و حيث وقعت في القرآن قبل (إلاّ) فهي نافية، إلاّ في ثلاثة عشر موضعا:
مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا [البقرة: 229]. فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ [البقرة: 237]. بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ [النساء: 19]. ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22]. وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ [المائدة: 3]. وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّ [الأنعام: 80]. وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ [الأنعام: 119]. ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاّ * في موضعي هود. فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً [يوسف: 47]، ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ [يوسف: 48]. وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ [الكهف: 16]. وَ ما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ [الحجر: 85] حيث كان.
* ما ذا(1)
ما ذا: ترد على أوجه؛ أحدها: أن تكون (ما) استفهاما و (ذا) موصولة، و هو أرجح الوجهين في: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219]، في قراءة الرفع(2)، أي: الذي ينفقونه العفو، إذ الأصل أن تجاب الاسمية بالاسمية و الفعلية بالفعلية.
الثاني: أن يكون (ما) استفهاما و (ذا) إشارة.
الثالث: أن تكون (ما ذا) كلها استفهاما على التركيب، و هو أرجح الوجهين في: ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ في قراءة النصب، أي: ينفقون العفو.
الرابع: أن يكون (ما ذا) كلّها اسم جنس بمعنى شيء، أو موصولا بمعنى الذي.
الخامس: أن تكون (ما) زائدة و (ذا) للإشارة.
السادس: أن تكون (ما) استفهاما، و (ذا) زائدة، و يجوز أن تخرج عليه.
ص: 532
* متى(1)
متى: ترد استفهاما عن الزمان، نحو: مَتى نَصْرُ اللّهِ [البقرة: 214]؛ و شرطا.
* مع(2)
مع: اسم، بدليل جرّها ب (من) في قراءة بعضهم: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ [الأنبياء: 24].
و هي فيها بمعنى (عند) و أصلها لمكان الاجتماع أو وقته، نحو: وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ [يوسف: 36]. أَرْسِلْهُ مَعَنا [يوسف: 12]. لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ [يوسف: 66].
و قد يراد به مجرّد الاجتماع و الاشتراك من غير ملاحظة المكان و الزّمان، نحو: وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ [التوبة: 119]. وَ ارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ [البقرة: 43].
و أما نحو: إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة: 12]. إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128].
وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4]. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]. فالمراد به العلم و الحفظ و المعونة مجازا.
قال الراغب(3): و المضاف إليه لفظ (مع) هو المقصود، كالآيات المذكورة.
* من(4)
من: حرف جرّ، له معان:
أشهرها: ابتداء الغاية، مكانا و زمانا و غيرهما، نحو: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1]. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [التوبة: 108]. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ [النمل: 30].
و التبعيض: بأن يسدّ (بعض) مسدّها، نحو: حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92].
و قرأ ابن مسعود: (بعض ما تحبون).
و التبيين: و كثيرا ما تقع بعد (ما) و (مهما). نحو: ما يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:
2]. ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ [الأعراف: 132] و من وقوعها بعد غيرهما: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30]. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ [الكهف: 31].
ص: 533
و التعليل: نحو: مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25]، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ [البقرة: 19].
و الفصل: بالمهملة. و هي الداخلة على ثاني المتضادّين، نحو: يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220]. حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران: 179].
و البدل: نحو: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] أي بدلها، لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ [الزخرف: 60].
و تنصيص العموم: نحو: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللّهُ [آل عمران: 62] قال في الكشاف(1): هو بمنزلة البناء على الفتح في: لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ * في إفادة معنى الاستغراق.
و معنى الباء: نحو: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] أي: به.
و على: نحو: وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] أي: عليهم.
و في: نحو: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] أي: فيه. و في الشامل عن الشافعيّ: أنّ (من) في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ بمعنى (في) بدليل قوله: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ [النساء: 92].
و عن: نحو: قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا [الأنبياء: 97] أي: عنه.
و عند، نحو: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ [آل عمران: 10] أي: عند.
و التأكيد: و هي الزائدة في النفي أو النهي أو الاستفهام، نحو: وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها [الأنعام: 59]. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3].
و أجازها قوم في الإيجاب، و خرّجوا عليه: وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:
34]. يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ [الكهف: 31]. مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43]. يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النور: 30].
فائدة: أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدّي، عن ابن عباس قال: لو أنّ إبراهيم حين دعا قال: «فاجعل أفئدة النّاس تهوي إليهم» لازدحمت عليه اليهود و النصارى، و لكنه خصّ حين قال: أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ [إبراهيم: 37]، فجعل ذلك للمؤمنين.7.
ص: 534
و أخرج عن مجاهد، قال: لو قال إبراهيم: «فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم، لزاحمتكم عليه الروم و فارس». و هذا صريح في فهم الصحابة و التابعين التبعيض من (من).
و قال بعضهم: حيث وقعت يَغْفِرْ لَكُمْ * في خطاب المؤمنين لم تذكر معها (من) كقوله في الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الأحزاب: 71.70]. و في الصفّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) إلى قوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف: 12.10].
و قال في خطاب الكفار في سورة نوح [4]: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ و كذا في سورة إبراهيم [10] و في سورة الأحقاف [31]، و ما ذاك إلاّ للتفرقة بين الخطابين؛ لئلا يسوّي بين الفريقين في الوعد، ذكره في الكشاف.
* من(1)
من: لا تقع إلاّ اسما، فترد موصولة: نحو: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ [الأنبياء: 19].
و شرطية: نحو: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123].
و استفهامية: نحو: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52].
و نكرة موصوفة: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8]، أي: فريق يقول.
و هي ك (ما) في استوائها في المذكر و المفرد و غيرهما.
و الغالب استعمالها في العالم عكس (ما). و نكتته: أنّ (ما) أكثر وقوعا في الكلام منها، و ما لا يعقل أكثر ممّن يعقل، فأعطوا ما كثرت مواضعه للكثير، و ما قلّت للقليل، للمشاكلة.
قال ابن الأنباريّ: و اختصاص (من) بالعالم و (ما) بغيره في الموصولتين دون الشرطيّتين؛ لأنّ الشرط يستدعي الفعل و لا يدخل على الأسماء.
شرط لما لا يعقل غير الزمان، كالآية المذكورة.
و فيها تأكيد، و من ثمّ قال قوم: إنّ أصلها (ما) الشرطية و (ما) الزائدة، أبدلت ألف الأولى هاء دفعا للتكرار.
* النون(1)
النّون: على أوجه:
اسم، و هي ضمير النسوة، نحو: فَلَمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ [يوسف: 31].
و حرف، و هي نوعان: نون التوكيد، و هي خفيفة و ثقيلة، نحو: لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً [يوسف: 32]. لَنَسْفَعاً بِالنّاصِيَةِ [العلق: 15]. و لم تقع الخفيفة في القرآن إلاّ في هذين الموضعين.
قلت: و ثالث في قراءة شاذة، و هي: (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) [الإسراء: 7].
و رابع: في قراءة الحسن: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24]، ذكره ابن جني في المحتسب.
و نون الوقاية، و تلحق ياء المتكلم المنصوبة بفعل، نحو: فَاعْبُدْنِي [طه: 14].
لَيَحْزُنُنِي [يوسف: 13]. أو حرف، نحو: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ [النساء: 73]. إِنَّنِي أَنَا اللّهُ [طه: 14]. و المجرورة بلدن، نحو مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف: 76]. أو من أو عن نحو: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) [الحاقة: 28]. وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39].
* التنوين(2)
التنوين: نون تثبت لفظا لا خطّا، و أقسامه كثيرة:
تنوين التمكين: و هو اللاحق للأسماء المعربة، نحو: و هُدىً وَ رَحْمَةٌ [الأعراف:
154]. وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: 50]. إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح: 1].
و تنوين التنكير: و هو اللاّحق للأسماء الأفعال فرقا بين معرفتها و نكرتها، نحو التنوين اللاحق لأفّ في قراءة من نوّنه، و هَيْهاتَ * في قراءة من نوّنها.
و تنوين المقابلة: و هو اللاحق لجمع المؤنث السالم، نحو: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ [التحريم: 5].
ص: 536
و تنوين العوض: إما عن حرف آخر (مفاعل (المعتل، نحو: وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ [الفجر: 2.1]. وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41]. أو: عن اسم مضاف إليه في كلّ و بعض و أيّ، نحو: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]. فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة:
253]. أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء: 110]. و عن الجملة المضاف إليها إذ، نحو: وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) [الواقعة: 84] أي: حين إذ بلغت الروح الحلقوم. أو إذا. على ما تقدم عن شيخنا و من نحا نحوه. نحو: وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] أي: إذا غلبتم.
و تنوين الفواصل: الذي يسمّى في غير القرآن الترنّم بدلا من حرف الإطلاق، و يكون في الاسم و الفعل و الحرف، و خرّج عليه الزمخشري و غيره: (قَوارِيرَا) [الإنسان: 15] (وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر: 4]. (كَلاّ سَيَكْفُرُونَ) [مريم: 82]، بتنوين الثّلاثة.
* نعم(1)
نعم: حرف جواب، فيكون تصديقا للمخبر و وعدا للطالب و إعلاما للمستخبر، و إبدال عينها حاء و كسرها، و اتباع النون لها في الكسر، لغات قرئ بها.
* نعم(2)
نعم: فعل لإنشاء المدح، لا يتصرف.
الهاء: اسم ضمير غائب، يستعمل في الجرّ و النصب، نحو: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ [الكهف: 37]. و حرف للغيبة و هو اللاحق لإيّا. و للسكت، نحو ما هِيَهْ [القارعة:
10]. كِتابِيَهْ [الحاقة: 19]. حِسابِيَهْ [الحاقة: 26]. سُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29]. مالِيَهْ [الحاقة: 28]. لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: 259]. و قرئ بها في أواخر آي الجمع. كما تقدّم.
وقفا.
* ها(3)
ها: ترد اسم فعل بمعنى خذ، و يجوز مدّ ألفه فيتصرف حينئذ للمثنى و الجمع، نحو:
هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19].
و اسما ضميرا للمؤنث، نحو: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) [الشمس: 8].
ص: 537
و حرف تنبيه، فتدخل على الإشارة نحو: هؤلاء، هذانِ خَصْمانِ [الحج: 19]. و هاهنا؛ و على ضمير الرفع المخبر عنه بإشارة، نحو: ها أَنْتُمْ أُولاءِ [آل عمران: 119]. و على نعت (أيّ) في النداء، نحو: يا أَيُّهَا النّاسُ * و يجوز في لغة أسد حذف ألف هذه و ضمها اتباعا، و عليه قراءة (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن: 31].
* هات(1)
هات: فعل أمر لا يتصرف، و من ثمّ ادّعى بعضهم أنه اسم فعل.
* هل(2)
هل: حرف استفهام يطلب به التصديق دون التصوّر، و لا يدخل على منفي و لا شرط، و لا أن، و لا اسم بعده فعل غالبا. و لا عاطف.
قال ابن سيده: و لا يكون الفعل معها إلاّ مستقبلا، و ردّ بقوله تعالى: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44].
و ترد بمعنى (قد) و به فسّر: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان: 1].
و بمعنى النفي، نحو: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60]. و معان أخر ستأتي في مبحث الاستفهام.
* هلمّ (3)
هلمّ: دعاء إلى الشيء، و فيه قولان:
أحدهما: أنّ أصله (ها) و (لمّ) من قولك: لممت الشيء، أي: أصلحته، فحذف الألف و ركب.
و قيل: أصله (هل أمّ)، كأنه قيل: هل لك في كذا؟ أمّه، أي: اقصده، فركّبا.
و لغة الحجاز تركه على حاله في التثنية و الجمع، و بها ورد القرآن، و لغة تميم إلحاقه العلامات.
و تدخل عليه اللام و الكاف فيكون للبعيد، نحو: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ [الأحزاب: 11].
و قد يشار به للزمان اتساعا، و خرج عليه: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس:
30]. هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ [آل عمران: 38].
* هيت(1)
هيت: اسم فعل بمعنى أسرع و بادر، قال في «المحتسب»: و فيها لغات قرئ ببعضها:
هَيْتَ [يوسف: 23]. بفتح الهاء و التاء، و (هيت) بكسر الهاء و فتح التاء، و (هيت) بفتح الهاء و كسر التاء، و (هيت) بفتح الهاء و ضمّ التاء، و قرئ: (هئت) بوزن جئت، و هو فعل بمعنى تهيّأت، و قرئ: (هيّئت) و هو فعل بمعنى أصلحت.
* هيهات(2)
هيهات: اسم فعل بمعنى (بعد). قال تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) [المؤمنون: 36]. قال الزجاج: البعد لما توعدون، قيل: و هذا غلط أوقعه فيه اللاّم، فإن تقديره بعد الأمر لما توعدون، أي لأجله. و أحسن منه أن اللام لتبيين الفاعل.
و فيها لغات، قرئ منها: بالفتح و بالضم و بالخفض، مع التنوين في الثلاثة و عدمه.
* الواو(3)
الواو: جارة و ناصبة، و غير عاملة.
فالجارة: واو القسم، نحو: وَ اللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23].
و الناصبة: واو (مع) فتنصب المفعول معه في رأي قوم، نحو: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ [يونس: 71]. و لا ثاني له في القرآن. و المضارع في جواب النفي أو الطلب عند الكوفيين، نحو وَ لَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصّابِرِينَ [آل عمران: 142].
يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ [الأنعام: 27].
واو الصرف عندهم، و معناها: أن الفعل كان يقتضي إعرابا، فصرفته عنه إلى النصب، نحو: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30]. في قراءة النصب.
و غير العاملة: أنواع:
ص: 539
أحدها: واو العطف، و هي لمطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه، نحو:
فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت: 15]. و على سابقه، نحو: أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ [الحديد: 26]. و لا حقه، نحو: يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الشورى: 3].
و تفارق سائر حروف العطف في اقترانها بإمّا، نحو: إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً [الإنسان:
3]. و ب (لا) بعد نفي، نحو: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ [سبأ: 37]. و ب (لكن).
نحو: وَ لكِنْ رَسُولَ اللّهِ [الأحزاب: 40].
و تعطف العقد على النّيّف، و العامّ على الخاصّ، و عكسه. نحو: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ [البقرة: 98]. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ [نوح: 28]. و الشيء على مرادفه، نحو: صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ [البقرة:
157]. إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّهِ [يوسف: 86]. و المجرور على الجوار، نحو:
بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6].
و قيل: ترد بمعنى (أو) و حمل عليه مالك: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ [التوبة: 60].
و للتعليل، و حمل عليه الخارزنجي الواو الداخلة على الأفعال المنصوبة.
ثانيها: واو الاستئناف، نحو: ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام: 2].
لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الحج: 5]. وَ اتَّقُوا اللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [البقرة: 282]. مَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ [الأعراف: 186].
بالرفع، إذ لو كانت عاطفة لنصب وَ نُقِرُّ و انجزم ما بعده، و نصب أَجَلٍ .
ثالثها: واو الحال الداخلة على الجملة الاسمية، نحو: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة:
30]. يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران: 154]. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف: 14].
و زعم الزمخشري(1): أنّها تدخل على الجملة الواقعة صفة، لتأكيد ثبوت الصفة للموصوف و لصوقها به، كما تدخل على الحالية، و جعل من ذلك: وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22].
رابعها: واو الثمانية، ذكرها جماعة كالحريريّ و ابن خالويه و الثعلبيّ، و زعموا أنّ العرب إذا عدّوا يدخلون الواو بعد السبعة، إيذانا بأنها عدد تام، و أنّ ما بعده مستأنف، و جعلوا من ذلك قوله: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إلى قوله: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22].9.
ص: 540
و قوله: اَلتّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله: وَ النّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112]؛ لأنه الوصف الثامن.
و قوله: مُسْلِماتٍ إلى قوله: وَ أَبْكاراً [التحريم: 5].
و الصواب: عدم ثبوتها، و أنها في الجميع للعطف.
خامسها: الزائدة، و خرّج عليه واحدة من قوله: وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نادَيْناهُ [الصافات:
104.103].
سادسها: واو ضمير الذكور في اسم أو فعل، نحو اَلْمُؤْمِنُونَ . وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55]. قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا [إبراهيم: 31].
سابعها: واو علامة المذكرين في لغة طيء، و خرج عليه: وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3]. ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [المائدة: 71].
ثامنها: الواو المبدلة من همزة الاستفهام المضموم ما قبلها، كقراءة قنبل: وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ أَ أَمِنْتُمْ [الملك: 16.15] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [الأعراف: 123].
* ويكأنّ (1)
ويكأنّ: قال الكسائيّ: كلمة تندّم و تعجّب، و أصله (و ويلك) و الكاف ضمير مجرور.
و قال الأخفش: وي اسم فعل بمعنى أعجب، و الكاف حرف خطاب، و أنّ على إضمار اللام، و المعنى: أعجب لأن اللّه.
و قال الخليل: وي وحدها، و كأنّ مستقلة للتحقيق لا للتشبيه.
و قال ابن الأنباري: يحتمل (وي كأنه) ثلاثة أوجه: أن يكون ويك حرفا، و أنه حرف، و المعنى (أ لم تر). و أن تكون كذلك، و المعنى (ويلك). و أن تكون وي حرفا للتعجب، و كأنه حرف، و وصلا خطا لكثرة الاستعمال، كما وصل: يبنؤمّ [طه: 94].
* ويل(2)
ويل: قال الأصمعيّ: ويل تقبيح، قال تعالى: وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18].
و قد يوضع موضع التحسّر و التفجّع، نحو: يا وَيْلَتَنا [الكهف: 49]. يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ [المائدة: 31].
ص: 541
أخرج الحربيّ في فوائده: من طريق إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «ويحك!» فجزعت منها، فقال لي: «يا حميراء، إنّ ويحك، أو ويسك رحمة، فلا تجزعي منها؛ و لكن اجزعي من الويل»(1).
* يا(2)
يا: حرف لنداء البعيد، حقيقة أو حكما، و هي أكثر أحرفه استعمالا، و لهذا لا يقدّر عند الحذف سواها، نحو: رَبِّ اغْفِرْ لِي [نوح: 28]. يُوسُفُ أَعْرِضْ [يوسف: 29] و لا ينادى اسم اللّه و أيّها و أيتها إلاّ بها.
قال الزمخشري: و تفيد التأكيد المؤذن بأنّ الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدّا.
و ترد للتنبيه، فتدخل على الفعل و الحرف، نحو: (ألا يا اسجدوا) [النمل: 25]. يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس: 26].
تنبيه: ها قد أتيت على شرح معاني الأدوات الواقعة في القرآن على وجه موجز مفيد، محصّل للمقصود منه، و لم أبسطه؛ لأنّ محلّ البسط و الإطناب إنما هو تصانيفنا في فن العربية و كتبنا النحوية، و المقصود في جميع أنواع هذا الكتاب إنما هو ذكر القواعد و الأصول، لا استيعاب الفروع و الجزئيّات.
ص: 542
أفرده بالتصنيف خلائق.
منهم مكيّ، و كتابه في المشكل خاصّة.
و الحوفيّ؛ و هو أوضحها.
و أبو البقاء العكبريّ؛ و هو أشهرها.
و السّمين؛ و هو أجلّها، على ما فيه من حشو و تطويل، و لخّصه السّفاقسيّ فحرّره(1).
و تفسير أبي حيان مشحون بذلك.
و من فوائد هذا النوع معرفة المعنى؛ لأنّ الإعراب يميّز المعاني و يوقف على أغراض المتكلمين.
أخرج أبو عبيد في فضائله، عن عمر بن الخطاب، قال: تعلّموا اللّحن و الفرائض و السّنن كما تعلّمون القرآن(2).
و أخرج عن يحيى بن عتيق، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، الرّجل يتعلّم العربية يلتمس بها حسن المنطق، و يقيم بها قراءته؟ قال: حسن يا ابن أخي فتعلّمها، فإنّ الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها، فيهلك فيها(3).
و على الناظر في كتاب اللّه تعالى. الكاشف عن أسراره. النّظر في الكلمة و صيغتها و محلّها، ككونها مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا، أو في مبادئ الكلام أو في جواب؛ إلى غير ذلك.
و يجب عليه مراعاة أمور:
أحدها، و هو أوّل واجب عليه: أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفردا أو مركبا قبل
ص: 543
الإعراب، فإنه فرع المعنى، و لهذا لا يجوز إعراب فواتح السور إذا قلنا بأنها من المتشابه الّذي استأثر اللّه بعلمه.
و قالوا في توجيه نصب كَلالَةً في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12]: إنه يتوقّف على المراد بها.
فإن كان اسما للميّت فهو حال، و (يورث) خبر كان أو صفة، و (كان) تامّة، أو ناقصة و (كلالة) خبر.
أو للورثة فهو على تقدير مضاف، أي: ذا كلالة؛ و هو. أيضا. حال أو خبر كما تقدم.
أو للقرابة فهو مفعول لأجله.
و قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87]: إن كان المراد بالمثاني القرآن: ف مِنَ للتبعيض، أو الفاتحة: فلبيان الجنس.
و قوله: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران: 28]. إن كان بمعنى الاتقاء فهي مصدر، أو بمعنى متّقى. أي: أمرا يجب اتّقاؤه. فمفعول به، أو جمعا. كرماة. فحال.
و قوله: غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 5]: إن أريد به الأسود من الجفاف و اليبس فهو صفة لغثاء، أو من شدة الخضرة فحال من المرعي.
قال ابن هشام: و قد زلّت أقدام كثير من المعربين راعوا في الإعراب ظاهر اللفظ، و لم ينظروا في موجب المعنى.
من ذلك قوله: أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [هود: 87]، فإنه يتبادر إلى الذهن عطف أَنْ نَفْعَلَ على أَنْ نَتْرُكَ ، و ذلك باطل؛ لأنه لم يأمرهم أن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، و إنما هو عطف على ما فهو معمول للترك، و المعنى: أن نترك أن نفعل، و موجب الوهم المذكور: أن المعرب يرى أن و الفعل مرتين، و بينهما حرف العطف.
الثاني: أن يراعي ما تقضيه الصناعة، فربما راعى المعرب وجها صحيحا، و لا ينظر في صحته في الصناعة فيخطئ.
من ذلك قول بعضهم(1): (و ثمودا فما أبقى) (2) [النجم: 51]: إنّ ثمودا مفعول مقدم، و هذا ممتنع؛ لأنّ ل (ما) النافية الصدر، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، بل هو معطوف علىة.
ص: 544
عاداً أو على تقدير: (و أهلك ثمودا).
و قول بعضهم في: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ [هود: 43]، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [يوسف: 92]: إنّ الظرف متعلّق باسم (لا) و هو باطل؛ لأنّ اسم (لا) حينئذ مطوّل، فيجب نصبه و تنوينه، و إنما هو متعلّق بمحذوف.
و قول الحوفي: إنّ الباء من قوله: فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35] متعلّقة ب (ناظرة)، و هو باطل؛ لأنّ الاستفهام له الصّدر، بل هو متعلّق بما بعده.
و كذا قول غيره في: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا [الأحزاب: 61]: إنه حال من معمول ثُقِفُوا أو أُخِذُوا باطل؛ لأنّ الشرط له الصّدر، بل هو منصوب على الذّم.
الثالث: أن يكون ملمّا بالعربيّة، لئلا يخرّج على ما لم يثبت، كقول أبي عبيدة(1) في كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ [الأنفال: 5]: إنّ الكاف قسم، حكاه مكّي و سكت عليه، فشنّع ابن الشجري عليه في سكوته. و يبطله: أنّ الكاف لم تجيء بمعنى واو القسم، و إطلاق (ما) الموصولة على اللّه و ربط الموصول بالظاهر. و هو فاعل أَخْرَجَكَ . و باب ذلك الشعر.
و أقرب ما قيل في الآية: إنها مع مجرورها خبر محذوف، أي: هذه الحال من تنفيلك الغزاة. على ما رأيت في كراهتهم لها. كحال إخراجك للحرب في كراهيتهم لها.
و كقول ابن مهران في قراءة: (إنّ البقر تّشابهت) بتشديد التاء(2): إنه من زيادة التاء في أول الماضي، و لا حقيقة لهذه القاعدة، و إنما أصل القراءة (إن البقرة تشابهت) بتاء الوحدة، ثم أدغمت في تاء (تشابهت) فهو إدغام من كلمتين.
الرابع: أن يتجنب الأمور البعيدة، و الأوجه الضعيفة، و اللغات الشاذّة. و يخرج على القريب و القويّ و الفصيح؛ فإن لم يظهر فيه إلاّ الوجه البعيد فله عذر، و إن ذكر الجميع لقصد الإغراب و التكثير فصعب شديد، أو لبيان المحتمل و تدريب الطالب فحسن في غير ألفاظ القرآن، أمّا التنزيل: فلا يجوز أن يخرّج إلاّ على ما يغلب على الظّن إرادته، فإن لم يغلب شيء فليذكر الأوجه المحتملة من غير تعسّف.
و من ثمّ خطّأ من قال في وَ قِيلِهِ [الزخرف: 88] بالجرّ أو النصب(3): إنه عطف على لفظ اَلسّاعَةِ أو محلّها، لما بينهما من التباعد، و الصواب: أنه قسم، أو مصدر (قال) مقدّرا.3.
ص: 545
و من قال في: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ [فصلت: 41]: إنّ خبره: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] و الصواب: أنه محذوف.
و من قال في: ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1]: إنّ جوابه إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ [ص: 64]. و الصواب أنّه محذوف، أي: ما الأمر كما زعموا، أو: إنه لمعجز، أو: إنك لمن المرسلين.
و من قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ [البقرة: 158]: إن الوقف على جُناحَ و عَلَيْهِ إغراء؛ لأنّ إغراء الغائب ضعيف، بخلاف القول بمثل ذلك في عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا [الأنعام: 151]؛ فإنه حسن؛ لأنّ إغراء المخاطب فصيح.
و من قال في: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [الأحزاب: 33]: إنه منصوب على الاختصاص، لضعفه بعد ضمير المخاطب، و الصواب: أنه منادى.
و من قال في: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام: 154]. بالرفع: إنّ أصله أحسنوا، فحذفت الواو اجتزاء عنها بالضمة؛ لأنّ باب ذلك الشعر، و الصواب: تقدير مبتدأ؛ أي: هو أحسن.
و من قال في: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ [آل عمران: 120] بضم الرّاء المشددة، إنه من باب:
إنك إن يصرع أخوك تصرع لأنّ ذلك خاص بالشعر، و الصواب: أنها ضمة إتباع، و هو مجزوم.
و من قال في: وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6]: إنه مجرور على الجوار؛ لأنّ الجر على الجوار في نفسه ضعيف شاذ، لم يرد منه إلاّ أحرف يسيرة، و الصواب: أنه معطوف على:
بِرُؤُسِكُمْ على أنّ المراد به مسح الخفّ.
قال ابن هشام: و قد يكون الموضع لا يتخرّج إلاّ على وجه مرجوح، فلا حرج على مخرجه، كقراءة(1)(نجّي المؤمنين) [الأنبياء: 88] قيل: الفعل ماض، و يضعّفه إسكان آخره، و إنابة ضمير المصدر عن الفاعل مع وجود المفعول به.
و قيل: مضارع، أصله (ننجي) بسكون ثانيه، و يضعّفه أن النّون لا تدغم في الجيم.
و قيل: أصله (ننجّي) بفتح ثانيه و تشديد ثالثه، فحذفت النون، و يضعّفه أن ذلك لا يجوز إلاّ في التاء.7.
ص: 546
الخامس: أن يستوفي جميع ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظّاهرة، فتقول في نحو:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) [الأعلى: 1]: و يجوز كون اَلْأَعْلَى صفة للرب أو صفة للاسم.
و في نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ [البقرة: 3.2]: يجوز كون اَلَّذِينَ تابعا، و مقطوعا إلى النصب بإضمار (أعني) أو (أمدح). و إلى الرفع بإضمار (هم).
السادس: أن يراعي الشروط المختلفة بحسب الأبواب، و متى لم يتأمّلها اختلطت عليه الأبواب و الشرائط.
و من ثمّ خطّأ الزمخشري(1) في قوله تعالى: مَلِكِ النّاسِ (2) إِلهِ النّاسِ [الناس: 3.2]: إنهما عطف بيان؛ و الصواب: أنهما نعتان، لاشتراط الاشتقاق في النعت و الجمود في عطف البيان.
و في قوله في: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النّارِ (64) [ص: 64] بنصب تَخاصُمُ : إنّه صفة للإشارة؛ لأنّ اسم الإشارة إنما ينعت بذي اللاّم الجنسية، و الصواب كونه بدلا.
و في قوله في: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ [يس: 66]، و في: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا [طه:
21]: إنّ المنصوب فيهما ظرف؛ لأنّ ظرف المكان شرطه الإبهام، و الصواب: أنه على إسقاط الجارّ توسّعا، و هو فيهما (إلى).
و في قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ [المائدة: 117]: إنّ (أن) مصدرية، و هي وصلتها عطف بيان على الهاء، لامتناع عطف البيان على الضمير كنعته.
و هذا الأمر السادس عدّه ابن هشام في المغني، و يحتمل دخوله في الأمر الثاني.
السابع: أن يراعى في كلّ تركيب ما يشاكله، فربّما خرج كلاما على شيء، و يشهد استعمال آخر في نظير ذلك الموضع بخلافه.
و من ثم خطّأ الزمخشري(2) في قوله في: وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام: 95]: إنه عطف على فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى [الأنعام: 95]، و لم يجعله معطوفا على يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95]؛ لأنّ عطف الإسم على الإسم أولى، و لكن مجيء قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم: 19]. بالفعل فيهما، يدلّ على خلاف ذلك.
و من ثم خطّأ من قال في: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]: إنّ الوقف على رَيْبَ و فِيهِ خبر هُدىً ، و يدلّ على خلاف ذلك قوله في سورة السجدة:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) [السجدة: 2].2.
ص: 547
و من قال في: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) [الشورى: 43]: إنّ الرابط الإشارة، و إن الصابر و الغافر جعلا من عزم الأمور مبالغة؛ الصواب أن الإشارة للصبر و الغفران، بدليل: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186]، و لم يقل: (إنّكم).
و من قال في نحو: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ [الأنعام: 132]: إنّ المجرور في موضع رفع، و الصواب في موضع نصب؛ لأنّ الخبر لم يجيء في التنزيل مجرّدا من الباء إلاّ و هو منصوب.
و من قال في: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّهُ [الزخرف: 87]: إن الإسم الكريم مبتدأ؛ و الصواب أنه فاعل بدليل: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9].
تنبيه: و كذا إذا جاءت قراءة أخرى في ذلك الموضع بعينه تساعد أحد الإعرابين، فينبغي أن يترجّح، كقوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: 177]، قيل: التقدير: و لكنّ ذا البرّ.
و قيل: و لكن البرّ برّ من آمن، و يؤيد الأول أنه قرئ (و لكن البارّ).
تنبيه: و قد يوجد ما يرجّح كلا من المحتملات، فينظر في أولاها، نحو: فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً [طه: 58]، ف مَوْعِداً محتمل للمصدر، و يشهد له: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ [طه: 58]. و للزمان، و يشهد له: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه: 59]، و للمكان، و يشهد له: مَكاناً سُوىً [طه: 58]. و إذا أعرب مَكاناً بدلا منه لا ظرفا ل نُخْلِفُهُ تعين ذلك.
الثامن: أن يراعى الرسم. و من ثم خطّأ من قال في: سَلْسَبِيلاً [الإنسان: 18]: إنّها جملة أمرية، أي: سل طريقا موصلة إليها؛ لأنها لو كانت كذلك لكتبت مفصولة.
و من قال في: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63]: (إنها) إنّ و اسمها، أي: إنّ القصة، و ذان مبتدأ خبره لَساحِرانِ ، و الجملة خبر إنّ. و هو باطل برسم إِنْ منفصلة، و هذا نَصَباً متصلة.
و من قال في: وَ لاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ [النساء: 18]: إنّ اللام للابتداء، و الذين مبتدأ و الجملة بعده خبره. و هو باطل؛ فإن الرسم وَ لاَ .
و من قال في: أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69]: إنّ (هم أشدّ) مبتدأ و خبر، و أيّ مقطوعة عن الإضافة. و هو باطل برسم أَيُّهُمْ متصلة.
و من قال: في وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) [المطففين: 3]: إن (هم) ضمير رفع مؤكّد للواو، و هو باطل برسم الواو فيهما بلا ألف بعدها، و الصواب: أنّه مفعول.
التاسع: أن يتأمّل عند ورود المشتبهات، و من ثمّ خطّأ من قال في أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الكهف: 12]: إنه أفعل تفضيل، و المنصوب تمييز، و هو باطل، فإنّ الأمد ليس محصيا، بل محصى، و شرط التمييز المنصوب بعد (أفعل) كونه فاعلا في المعنى، فالصواب أنه فعل، و أمدا مفعول، مثل وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً [الجن: 28].
ص: 548
التاسع: أن يتأمّل عند ورود المشتبهات، و من ثمّ خطّأ من قال في أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [الكهف: 12]: إنه أفعل تفضيل، و المنصوب تمييز، و هو باطل، فإنّ الأمد ليس محصيا، بل محصى، و شرط التمييز المنصوب بعد (أفعل) كونه فاعلا في المعنى، فالصواب أنه فعل، و أمدا مفعول، مثل وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً [الجن: 28].
العاشر: ألاّ يخرّج على خلاف الأصل، أو خلاف الظاهر لغير مقتض، و من ثمّ خطئ مكّي في قوله في: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي [البقرة: 264]: أنّ الكاف نعت لمصدر، أي: إبطالا كإبطال الذي. و الوجه كونه حالا من الواو، أي: لا تبطلوا صدقاتكم مشبهين الذي، فهذا لا حذف فيه.
الحادي عشر: أن يبحث عن الأصليّ و الزائد، نحو: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237]، فإنّه قد يتوهم أن الواو في يَعْفُونَ ضمير الجمع، فيشكل إثبات النون، و ليس كذلك؛ بل هي فيه لام الكلمة، فهي أصلية و النون ضمير النسوة، و الفعل معها مبنيّ، و وزنه: (يفعلن) بخلاف: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ [البقرة: 237] فالواو فيه ضمير الجمع، و ليست من أصل الكلمة.
الثاني عشر: أن يجتنب إطلاق لفظ الزائد في كتاب اللّه تعالى، فإنّ الزائد قد يفهم منه أنه لا معنى له، و كتاب اللّه منزّه عن ذلك، و لذا فرّ بعضهم إلى التعبير بدله بالتأكيد، و الصلة، و المقحم.
و قال ابن الخشاب: اختلف في جواز إطلاق لفظ الزائد في القرآن:
فالأكثرون على جوازه، نظرا إلى أنه نزل بلسان القوم و متعارفهم، و لأنّ الزيادة بإزاء الحذف، هذا للاختصار و التخفيف، و هذا للتوكيد و التوطئة، و منهم من أبى ذلك و قال: هذه الألفاظ المحمولة على الزيادة جاءت لفوائد و معان تخصّها، فلا أقضي عليها بالزيادة.
قال: و التحقيق أنه إن أريد بالزيادة إثبات معنى لا حاجة إليه فباطل؛ لأنه عبث، فتعيّن أنّ إلينا به حاجة؛ لكن الحاجة إلى الأشياء قد تختلف بحسب المقاصد، فليست الحاجة إلى اللفظ الذي عدّه هؤلاء زيادة كالحاجة إلى اللفظ المزيد عليه. انتهى.
و أقول: بل الحاجة إليه كالحاجة إليه سواء، بالنظر إلى مقتضى الفصاحة و البلاغة، و أنه لو ترك كان الكلام دونه. مع إفادته أصل المعنى المقصود. أبتر خاليا عن الرّونق البليغيّ، لا شبهة في ذلك. و مثل هذا يستشهد عليه بالإسناد البيانيّ الذي خالط كلام الفصحاء، و عرف مواقع استعمالهم و ذاق حلاوة ألفاظهم، و أما النحويّ الجافي فعن ذلك بمنقطع الثرى.
الأول: قد يتجاذب المعنى و الإعراب الشيء الواحد، بأن يوجد في الكلام: أنّ المعنى
ص: 549
يدعو إلى أمر و الإعراب يمنع منه، و المتمسّك به صحة المعنى، و يؤوّل لصحة المعنى الإعراب. و ذلك كقوله تعالى: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) [الطارق: 9.8]، فالظرف الذي هو يَوْمَ يقتضي المعنى أنه يتعلّق بالمصدر و هو (رجع) أي: إنه على رجعه في ذلك اليوم لقادر. و لكن الإعراب يمنع منه، لعدم جواز الفصل بين المصدر و معموله، فيجعل العامل فيه فعلا مقدّرا دلّ عليه المصدر.
و كذا: أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ [غافر: 10]، فالمعنى يقتضي تعلّق إِنَّ بالمقت. و الإعراب يمنعه، للفصل المذكور، فيقدّر له فعل يدل عليه.
الثاني: قد يقع في كلامهم: هذا تفسير معنى، و هذا تفسير إعراب، و الفرق بينهما: أن تفسير الإعراب لا بدّ فيه من ملاحظة الصناعة النحوية، و تفسير المعنى لا تضرّه مخالفة ذلك.
الثالث: قال أبو عبيد في «فضائل القرآن»: حدّثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63].
و عن قوله تعالى: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162]. و عن قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ [المائدة: 69]. فقالت: يا ابن أخي، هذا عمل الكتّاب، أخطئوا في الكتاب. هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين(1).
و قال: حدّثنا حجاج، عن هارون بن موسى، أخبرني الزّبير بن الخرّيت، عن عكرمة، قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفا من اللّحن، فقال: لا تغيّروها؛ فإنّ العرب ستغيّرها. أو قال: ستعربها. بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف. أخرجه ابن الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان و ابن أشتة في كتاب «المصاحف»(2).
ثم أخرج ابن الأنباري نحوه، من طريق عبد الأعلى بن عبد اللّه بن عامر(3)، و ابن أشتة نحوه، من طريق يحيى بن يعمر(4).
و أخرج من طريق أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ و يقول: هو لحن من الكاتب(5).ه.
ص: 550
و هذه الآثار مشكلة جدّا، و كيف يظنّ بالصحابة.
أوّلا: أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن و هم الفصحاء اللدّ، ثم كيف يظنّ بهم:
ثانيا: في القرآن الذي تلقوه من النبي. صلّى اللّه عليه و سلّم. كما أنزل و حفظوه و ضبطوه و أتقنوه؟ ثم كيف يظنّ بهم.
ثالثا: اجتماعهم كلهم على الخطأ و كتابته؟ ثم كيف يظنّ بهم.
رابعا: عدم تنبههم و رجوعهم عنه؟ ثم كيف يظنّ بعثمان أنه ينهى عن تغييره؟ ثم كيف يظنّ أنّ القراءة استمرت على مقتضى ذلك الخطأ؟ و هو مرويّ بالتواتر خلفا عن سلف؟ هذا مما يستحيل عقلا و شرعا و عادة.
و قد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أجوبة(1):
أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان؛ فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع. و لأنّ عثمان جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا و يتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ فإذا كان الذين تولّوا جمعه و كتابته لم يقيموا ذلك و هم الخيار، فكيف يقيمه غيرهم! و. أيضا. فإنه لم يكتب مصحفا واحدا، بل كتب عدة مصاحف.
فإن قيل: إنّ اللحن وقع في جميعها، فبعيد اتفاقها على ذلك، أو في بعضها فهو اعتراف بصحة البعض، و لم يذكر أحد من الناس أن اللحن كان في مصحف دون مصحف، و لم تأت المصاحف قط مختلفة إلاّ فيما هو من وجوه القراءة، و ليس ذلك بلحن.
الثاني: على تقدير صحة الرواية، إنّ ذلك محمول على الرمز و الإشارة و مواضع الحذف، نحو الكتب *، (الصابرين)، و ما أشبه ذلك.
الثالث: أنّه مؤوّل على أشياء خالف لفظها رسمها، كما كتبوا: (و لا أوضعوا) [التوبة:
47] و و لا أذبحنّه) [النمل: 21] بألف بعد لا. و جزاؤا الظالمين [المائدة: 29]. بواو و ألف.
و بأييد [الذاريات: 47] بياءين، فلو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا، و بهذا الجواب و ما قبله جزم ابن أشتة في كتاب «المصاحف».
و قال ابن الأنباري في كتاب «الرّدّ على من خالف مصحف عثمان» في الأحاديث المروية عن عثمان في ذلك: لا تقوم بها حجة؛ لأنها منقطعة غير متّصلة، و ما يشهد عقل بأنّ عثمان.
و هو إمام الأمة الذي هو إمام النّاس في وقته، و قدوتهم. يجمعهم على المصحف الذي هو الإمام فيتبيّن فيه خللا، و يشاهد في خطّه زللا فلا يصلحه، كلاّ و اللّه ما يتوهّم عليه هذا ذو إنصاف و تمييز، و لا يعتقد أنه أخّر الخطأ في الكتاب ليصلحه من بعده. و سبيل الجائين من5.
ص: 551
بعده البناء على رسمه و الوقوف عند حكمه.
و من زعم أنّ عثمان أراد بقوله: (أرى فيه لحنا) أرى في خطه لحنا، إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخطّ غير مفسد و لا محرّف من جهة تحريف الألفاظ و إفساد الإعراب، فقد أبطل و لم يصب؛ لأنّ الخط منبئ عن النطق، فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، و لم يكن عثمان ليؤخّر فسادا في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب و لا نطق. و معلوم أنه كان مواصلا لدرس القرآن، متقنا لألفاظه، موافقا على ما رسم في المصاحف المنفذة إلى الأمصار و النواحي.
ثم أيّد ذلك بما أخرجه أبو عبيد، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد اللّه بن مبارك، حدّثنا أبو وائل. شيخ من أهل اليمن. عن هانئ البربريّ. مولى عثمان. قال: كنت عند عثمان و هم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها: لم يتسن [البقرة: 259]، و فيها: (لا تبديل للخلق) [الروم: 30]، و فيها: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ [الطارق: 17] قال: فدعا بالدّواة. فمحا أحد اللاّمين، فكتب لِخَلْقِ اللّهِ و محا (فأمهل)، و كتب فَمَهِّلِ ، و كتب لَمْ يَتَسَنَّهْ ألحق فيها الهاء(1).
قال ابن الأنباري: فكيف يدّعى عليه أنه رأى فسادا فأمضاه، و هو يوقف على ما كتب، و يرفع الخلاف إليه الواقع من الناسخين؛ ليحكم بالحق، و يلزمهم إثبات الصواب و تخليده.
انتهى.
قلت: و يؤيّد هذا أيضا ما أخرجه ابن أشتة في «المصاحف» قال: حدّثنا الحسن بن عثمان، أنبأنا الربيع بن بدر، عن سوّار بن شبيب قال: سألت ابن الزّبير عن المصاحف، فقال: قام رجل إلى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اختلفوا في القرآن، فكان عمر قد همّ أن يجمع القرآن على قراءة واحدة، فطعن طعنته التي مات بها، فلما كان في خلافة عثمان قام ذلك الرّجل، فذكر له، فجمع عثمان المصاحف، ثم بعثني إلى عائشة فجئت بالصّحف، فعرضناها عليها حتى قوّمناها، ثم أمر بسائرها فشقّقت. فهذا يدل على أنهم ضبطوها و أتقنوها، و لم يتركوا فيها ما يحتاج إلى إصلاح و لا تقويم.
ثم قال ابن أشتة: أنبأنا محمد بن يعقوب، أنبأنا أبو داود سليمان بن الأشعث، أنبأنا أحمد بن مسعدة، أنبأنا إسماعيل، أخبرني الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبد اللّه بن عامر قال: لما فرغ من المصحف أتي به عثمان، فنظر فيه، فقال: أحسنتم و أجملتم، أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا(2).ه.
ص: 552
فهذا الأثر لا إشكال فيه، و به يتّضح معنى ما تقدّم، فكأنه عرض عليه عقب الفراغ من كتابته، فرأى فيه شيئا كتب على غير لسان قريش، كما وقع لهم في (التابوة) و اَلتّابُوتِ * فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش، ثم وفّى بذلك عند العرض و التقويم، و لم يترك فيه شيئا.
و لعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها، و لم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال؛ فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك، و للّه الحمد.
و بعد؛ فهذه الأجوبة لا يصلح منها شيء عن حديث عائشة:
أما الجواب بالتضعيف فلأن إسناده صحيح كما ترى.
و أما الجواب بالرمز و ما بعده، فلأن سؤال عروة عن الأحرف المذكورة لا يطابقه، فقد أجاب عنه ابن أشتة، و تبعه ابن جبارة في شرح الرّائية، بأنّ معنى قولها (أخطئوا) أي: في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه. لا أنّ الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز.
قال: و الدليل على ذلك أنّ ما لا يجوز مردود بإجماع من كلّ شيء، و إن طالت مدة وقوعه.
قال: و أما قول سعيد بن جبير: لحن من الكاتب(1): فيعني: باللّحن القراءة و اللغة، يعني أنّها لغة الذي كتبها و قراءته، و فيها قراءة أخرى.
ثم أخرج عن إبراهيم النّخعي، أنه قال: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63]، (إنّ هذين لساحران) سواء، لعلهم كتبوا الألف مكان الياء، و الواو في قوله: وَ الصّابِئُونَ مكان الياء، قال ابن أشتة: يعني أنه من إبدال حرف في الكتاب بحرف، مثل الصلاة و الزكوة و الحيوة.
و أقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القراءة بالياء فيها و الكتابة بخلافها، أما و القراءة على مقتضى الرسم فلا، و قد تكلّم أهل العربية على هذه الأحرف و وجهوها على أحسن توجيه.
أما قوله: (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ففيه أوجه(2):
أحدها: أنه جار على لغة من يجري المثنى بالألف في أحواله الثلاثة، و هي لغة مشهورة لكنانة، و قيل: لبني الحارث.
الثاني: أنّ اسم (إنّ) ضمير الشأن محذوفا، و الجملة مبتدأ و خبر، خبر إنّ.
الثالث: كذلك، إلاّ أن (ساحران) خبر مبتدإ محذوف، و التقدير: لهما ساحران.1.
ص: 553
الرابع: أنّ (إنّ) هنا بمعنى: نعم.
الخامس: أنّ (ها) ضمير القصة اسم إنّ، و (ذان لساحران) مبتدأ و خبر، و تقدّم ردّ هذا الوجه بانفصال (إن) و اتصالها في الرسم.
قلت: و ظهر لي وجه آخر، و هو: أنّ الإتيان بالألف لمناسبة (ساحران) يُرِيدانِ كما نوّن سلاسلا لمناسبة وَ أَغْلالاً [الإنسان: 4] و مِنْ سَبَإٍ لمناسبة بِنَبَإٍ [النمل: 22].
و أما قوله: وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] ففيه أيضا أوجه(1):
أحدها: أنه مقطوع إلى المدح بتقدير: (أمدح)، لأنه أبلغ.
الثاني: أنه معطوف على المجرور في يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي: و يؤمنون بالمقيمين الصلاة، و هم الأنبياء. و قيل: الملائكة، و قيل: التقدير: يؤمنون بدين المقيمين، فيكون المراد بهم المسلمين، و قيل: بإجابة المقيمين.
الثالث: أنه معطوف على (قبل) أي: و من قبل المقيمين، فحذفت (قبل) و أقيم المضاف إليه مقامه.
الرابع: أنه معطوف على الكاف في قبلكم.
الخامس: أنه معطوف على الكاف في إِلَيْكَ .
السادس: أنه معطوف على الضمير في منهما.
حكى هذه الأوجه أبو البقاء(2).
و أما قوله: وَ الصّابِئُونَ [المائدة: 69]. ففيه أيضا أوجه(3):
أحدها: أنه مبتدأ حذف خبره، أي و الصابئون كذلك.
الثاني: أنه معطوف على محل (إنّ) مع اسمها، فإنّ محلهما رفع بالابتداء.
الثالث: أنه معطوف على الفاعل في هادُوا .
الرابع: أنّ (إنّ) بمعنى نعم ف اَلَّذِينَ آمَنُوا و ما بعده، في موضع رفع، وَ الصّابِئُونَ عطف عليه.ه.
ص: 554
الخامس: أنه على إجراء صيغة الجمع مجرى المفرد، و النون حرف الإعراب. حكى هذه الأوجه أبو البقاء(1).
تذنيب: يقرب مما تقدم عن عائشة ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، و ابن أشتة في المصاحف، من طريق إسماعيل المكّي، عن أبي خلف مولى بني جمح: أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة، فقال: جئت أسألك عن آية في كتاب اللّه تعالى، كيف كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرؤها؟ قالت: أيّة آية؟ قال: وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا [المؤمنون: 60] أو «و الذين يأتون ما أتوا».
فقالت: أيّتهما أحب إليك؟ قلت: و الذي نفسي بيده لأحدهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعا.
قالت: أيّهما؟ قلت: (و الذين يأتون ما أتوا).
فقالت: أشهد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كذلك كان يقرؤها، و كذلك أنزلت، و لكن الهجاء حرّف(2).
و ما أخرجه ابن جرير، و سعيد بن منصور في سننه: من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا [النور: 27] قال: إنما هي خطأ من الكاتب، «حتى تستأذنوا و تسلموا». أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ (هو). فيما أحسب. مما أخطأت به الكتّاب(3).
و ما أخرجه ابن الأنباريّ، من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أنه قرأ (أ فلم يتبيّن الّذين آمنوا أن لو يشاء اللّه لهدى النّاس جميعا)، فقيل له: إنّها في المصحف: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ [الرعد: 31]، فقال: أظن الكاتب كتبها و هو ناعس(4).
و ما أخرجه سعيد بن منصور، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه كان يقول7.
ص: 555
في قوله تعالى: وَ قَضى رَبُّكَ [الإسراء: 23]: إنما هي (و وصّى ربّك) التزقت الواو بالصاد.
و أخرجه ابن أشتة، بلفظ: (استمدّ مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد). و أخرجه من طريق أخرى عن الضحّاك(1)، أنه قال: كيف تقرأ هذا الحرف؟ قال: وَ قَضى رَبُّكَ [الإسراء: 23] قال: ليس كذلك نقرؤها نحن، و لا ابن عباس، إنما هي (و وصّى ربّك) و كذلك كانت تقرأ و تكتب، فاستمدّ كاتبكم، فاحتمل القلم مدادا كثيرا، فالتصقت الواو بالصاد؛ ثم قرأ: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّهَ [النساء: 131]، و لو كانت (قضى) من الرب، لم يستطع أحد ردّ قضاء الرب، و لكنه وصية أوصى بها العباد.
و ما أخرجه سعيد بن منصور و غيره، من طريق عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (و لقد آتينا موسى و هارون الفرقان ضياء)، و يقول: خذوا هذه الواو و اجعلوها هنا: (و الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم) الآية.
و أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق الزّبير بن خرّيت، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
انزعوا هذه الواو فاجعلوها في: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ [غافر: 7].
و ما أخرجه ابن أشتة و ابن أبي حاتم، من طريق عطاء، عن ابن عباس في قوله تعالى:
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [النور: 35]، قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنما هي: (مثل نور المؤمن كمشكاة).
و قد أجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها بأنّ المراد أخطئوا في الاختيار، و ما هو الأولى لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن.
قال: فمعنى قول عائشة: حرّف الهجاء، ألقي إلى الكاتب هجاء غير ما كان الأولى أن يلقى إليه من الأحرف السبعة.
قال: و كذا معنى قول ابن عباس: (كتبها و هو ناعس) يعني فلم يتدبّر الوجه الذي أولى من الآخر، و كذا سائرها.
و أما ابن الأنباريّ فإنه جنح إلى تضعيف الروايات، و معارضتها بروايات أخر عن ابن عباس و غيره، بثبوت هذه الأحرف في القراءة، و الجواب الأول أولى و أقعد.
ثم قال ابن أشتة: حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدّثنا أبو داود، حدّثنا ابن الأسود، حدّثنا يحيى بن آدم، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد،ق.
ص: 556
قال: قالوا لزيد: يا أبا سعيد، أوهمت! إنما هي: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين اثنين، و من المعز اثنين اثنين، و من الإبل اثنين اثنين، و من البقر اثنين اثنين). فقال: لأنّ اللّه تعالى يقول:
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) [القيامة: 39]. فهما زوجان. كلّ واحد منهما زوج: الذكر زوج، و الأنثى زوج.
قال ابن أشتة: فهذا الخبر يدل على أنّ القوم كانوا يتخيّرون أجمع الحروف للمعاني و أسلسها على الألسنة، و أقربها في المأخذ، و أشهرها عند العرب للكتاب في المصاحف، و أنّ الأخرى كانت قراءة معروفة عند كلّهم، و كذا ما أشبه ذلك. انتهى.
فائدة: فيما قرئ بثلاثة أوجه: الإعراب، أو البناء، أو نحو ذلك.
قد رأيت تأليفا لطيفا لأحمد بن يوسف بن مالك الرّعيني، سمّاه «تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من حروف القرآن».
اَلْحَمْدُ لِلّهِ [الفاتحة: 2] قرئ بالرفع على الابتداء، و النصب على المصدر، و الكسر على إتباع الدال اللام في حركتها(1).
رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] قرئ بالجر على أنه نعت، و بالرفع على القطع بإضمار مبتدإ، و بالنصب عليه بإضمار فعل، أو على النداء(2).
اَلرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 3]. قرئ بالثلاثة.
اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60]. قرئ بسكون الشين و هي لغة تميم، و كسرها و هي لغة الحجاز، و فتحها و هي لغة بليّ (3).
بَيْنَ الْمَرْءِ [الأنفال: 24] قرئ بتثليث الميم، لغات فيه.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة: 258] قراءة الجماعة بالبناء للمفعول، و قرئ بالبناء للفاعل، بوزن ضرب و علم و حسن.
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران: 34]: قرئ بتثليث الذال.
وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ [النساء: 1]. قرئ بالنصب عطفا على لفظ الجلالة، و بالجر عطفا على ضمير بِهِ . و بالرفع على الابتداء و الخبر محذوف، أي:
و الأرحام مما يجب أن تتقوه و أن تحتاطوا لأنفسكم فيه(4).6.
ص: 557
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء: 95]، قرئ بالرفع صفة ل اَلْقاعِدُونَ و بالجر صفة ل اَلْمُؤْمِنِينَ و بالنصب على الاستثناء(1).
وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6]، قرئ بالنصب عطفا على الأيدي، و بالجر على الجوار أو غيره، و بالرفع على الابتداء و الخبر محذوف دلّ عليه ما قبله(2).
فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95]: قرئ بجر مِثْلُ بإضافة (جزاء) إليه، و برفعه و تنوين مِثْلُ صفة له، و بنصبه مفعول ب (جزاء)(3).
وَ اللّهِ رَبِّنا [الأنعام: 23]. قرئ بجر رَبِّنا نعتا أو بدلا، و بنصبه على النداء أو بإضمار أمدح، و برفعه و رفع لفظ الجلالة مبتدأ و خبر(4).
وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ [الأعراف: 127]: قرئ برفع يَذَرَكَ و نصبه، و جزمه للخفّة.
فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ [يونس: 71]. قرئ بنصب وَ شُرَكاءَكُمْ مفعولا معه، أو معطوفا، أو بتقدير (و ادعوا). و برفعه عطفا على ضمير فَأَجْمِعُوا ، أو مبتدأ خبره محذوف، و بجره عطفا على (كم) في أَمْرَكُمْ .
وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها [يوسف: 105]: قرئ بجر وَ الْأَرْضِ عطفا على ما قبله، و بنصبها من باب الاشتغال. و برفعها على الابتداء و الخبر ما بعدها.
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا [طه: 87]: قرئ بتثليث الميم(5).
وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ [الأنبياء: 95]. قرئ بلفظ الماضي بفتح الراء، و كسرها، و ضمها، و بلفظ الوصف بكسر الراء و سكونها مع فتح الحاء، و حرام بالفتح و ألف، فهذه سبع قراءات(6).
كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [النور: 35]، قرئ بتثليث الدال(7).
ياسين [يس: 1] القراءة المشهورة بسكون النون، و قرئ شاذا بالفتح للخفّة، و الكسر لالتقاء الساكنين، و بالضم على النداء(8).2.
ص: 558
سَواءً لِلسّائِلِينَ [فصلت: 10]، قرئ بالنّصب على الحال، و شاذّا بالرفع، أي: هو، و بالجر حملا على (الأيام).
وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] قرئ بنصب حِينَ و رفعه و جرّه(1).
وَ قِيلِهِ يا رَبِّ [الزخرف: 88]. قرئ بالنصب على المصدر، و بالجر، و تقدم توجيهه، و شاذا بالرفع عطفا على عِلْمُ السّاعَةِ [الزخرف: 85](2).
ق [ق: 1] القراءة المشهورة بالسكون، و قرئ شاذا بالفتح و الكسر لما مرّ أي:
للخفة، و لالتقاء الساكنين(3).
اَلْحُبُكِ [الذاريات: 7] فيه سبع قراءات: ضم الحاء و الباء، و كسرهما، و فتحهما، و ضمّ الحاء و سكون الباء، و ضمها و فتح الباء، و كسرها و سكون الباء، و كسرها و ضم الباء(4).
وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12) [الرحمن: 12]: قرئ برفع الثلاثة و نصبها و جرها(5).
وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ [الواقعة: 23.22]: قرئ برفعهما و جرهما، و نصبهما بفعل مضمر، أي: و يزوّجون(6).
فائدة: قال بعضهم: ليس في القرآن على كثرة منصوباته مفعول معه.
قلت: في القرآن عدّة مواضع، أعرب كلّ منها مفعولا معه:
أحدها، و هو أشهرها: قوله تعالى: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ [يونس: 71] أي: أجمعوا أنتم مع شركائكم أمركم؛ ذكره جماعة منهم.
الثاني: قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6]: قال الكرمانيّ في غرائب التفسير: هو مفعول معه، أي: مع أهليكم.
الثالث: قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] قال الكرمانيّ: يحتمل أن يكون قوله: وَ الْمُشْرِكِينَ مفعولا معه من اَلَّذِينَ أو من الواو في كَفَرُوا .2.
ص: 559
* النوع الثاني و الأربعون في قواعد مهمّة يحتاج المفسّر إلى معرفتها(1)
ألف ابن الأنباريّ في بيان الضمائر الواقعة في القرآن مجلدين، و أصل وضع الضمير للاختصار، و لهذا قام قوله: أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35] مقام خمسة و عشرين كلمة لو أتى بها مظهرة(2).
و كذا قوله تعالى: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ [النور: 31]، قال مكيّ (3):
ليس في كتاب اللّه آية اشتملت على ضمائر أكثر منها، فإنّ فيها خمسة و عشرين ضميرا.
و من ثمّ لا يعدل إلى المنفصل إلاّ بعد تعذّر المتصل، بأن يقع في الابتداء، نحو إِيّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5]، أو بعد (إلاّ) نحو وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [الإسراء: 23].
لا بدّ له من مرجع يعود إليه:
و يكون ملفوظا به سابقا مطابقا به: نحو: وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ [هود: 42]. وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ [طه: 121]. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40].
أو متضمنا له: نحو: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ [المائدة: 8] فإنه عائد على العدل المتضمن له اِعْدِلُوا . وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء: 8] أي: المقسوم، لدلالة القسمة عليه.
أو دالاّ عليه بالالتزام: نحو: إِنّا أَنْزَلْناهُ [القدر: 1] أي: القرآن؛ لأنّ الإنزال يدلّ عليه التزاما. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ [البقرة: 178]. فعفى يستلزم عافيا أعيد عليه الهاء من إِلَيْهِ .
ص: 560
أو متأخّرا لفظا لا رتبة مطابقا: نحو: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) [طه: 67]، وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78]، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39].
أو رتبة أيضا في باب ضمير الشأن و القصة و نعم و بئس و التنازع.
أو متأخّرا دالاّ بالالتزام: نحو: فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) [الواقعة: 83]. كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) [القيامة: 26]. أضمر الروح أو النفس لدلالة الحلقوم و التراقي عليها. حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] أي: الشمس، لدلالة الحجاب عليها.
و قد يدلّ عليه السياق فيضمر: ثقة بفهم السامع، نحو: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) [الرحمن: 26]. ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: 45] أي: الأرض أو الدنيا. وَ لِأَبَوَيْهِ [النساء: 11] أي: الميت، و لم يتقدم له ذكر.
و قد يعود على لفظ المذكور دون معناه: نحو: وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] أي: عمر معمّر آخر.
و قد يعود على بعض ما تقدم: نحو: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] إلى قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً [النساء: 11]. وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: 228]. بعد قوله:
وَ الْمُطَلَّقاتُ [البقرة: 228] فإنه خاص بالرجعيّات، و العائد عليه عامّ فيهنّ و في غيرهنّ.
و قد يعود على المعنى: كقوله في آية الكلالة: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ [النساء: 176]، و لم يتقدّم لفظ مثنى يعود عليه.
قال الأخفش: لأنّ الكلالة تقع على الواحد و الاثنين و الجمع، فثنّى الضمير الراجع إليها حملا على المعنى، كما يعود الضمير جمعا على (من) حملا على معناها.
و قد يعود على لفظ شيء: و المراد به الجنس من ذلك الشيء، قال الزمخشريّ: كقوله:
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135]، أي: بجنسي الفقير و الغني، لدلالة غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً على الجنسين، و لو رجع إلى المتكلم به لوحده.
و قد يذكر شيئان و يعاد الضمير إلى أحدهما، و الغالب كونه الثاني، نحو: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: 45]. فأعيد الضمير للصلاة. و قيل: للاستعانة المفهومة من وَ اسْتَعِينُوا . جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ [يونس: 5]. أي: القمر؛ لأنه الذي يعلم به الشهور. وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أراد (يرضوهما) (1) انظر البرهان 25/4.
ص: 561
فأفرد لأنّ الرسول هو داعي العباد و المخاطب لهم شفاها، و يلزم من رضاه رضا ربه تعالى.
و قد يثنّى الضمير و يعود على أحد المذكورين: نحو: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22) [الرحمن: 22] و إنما يخرج من أحدهما.
و قد يجيء الضمير متّصلا بشيء و هو لغيره: نحو: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) [المؤمنون: 13.12] يعني آدم، ثم قال: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً [المؤمنون: 13.12].
فهذه لولده؛ لأنّ آدم لم يخلق من نطفة.
قلت: هذا هو باب الاستخدام، و منه: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ثم قال: قَدْ سَأَلَها [المائدة: 102.101]، أي: أشياء أخر مفهومة من لفظ أَشْياءَ السابقة.
و قد يعود الضمير على ملابس ما هو له: نحو: إِلاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات: 46] أي: ضحى يومها، لا ضحى العشية نفسها؛ لأنه لا ضحى لها.
و قد يعود على غير مشاهد محسوس، و الأصل خلافه، نحو: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117]، فضمير لَهُ عائد على الأمر، و هو إذ ذاك غير موجود؛ لأنه لما كان سابقا في علم اللّه كونه، كان بمنزلة المشاهد الموجود.
و من ثمّ أخّر المفعول الأوّل في قوله: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الأنعام: 112]، ليعود الضمير عليه لقربه، إلاّ أن يكون مضافا و مضافا إليه فالأصل عوده للمضاف؛ لأنه المحدّث عنه، نحو: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34]. و قد يعود على المضاف إليه، نحو: إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً [غافر: 37].
و اختلف في أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام: 145]، فمنهم من أعاده على المضاف، و منهم من أعاده إلى المضاف إليه.
و لهذا لمّا جوّز بعضهم في: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه: 39] أنّ الضمير في الثاني للتابوت، و في الأول لموسى عابه الزمخشريّ (1)، و جعله تنافرا مخرجا للقرآن عن إعجازه، فقال: و الضمائر كلّها راجعة إلى
ص: 562
موسى، و رجوع بعضها إليه و بعضها إلى التابوت فيه هجنة؛ لما تؤدّي فيه من تنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن، و مراعاته أهمّ ما يجب على المفسّر.
و قال في: لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9]: الضمائر للّه تعالى، و المراد بتعزيره تعزير دينه و رسوله، و من فرّق الضمائر فقد أبعد.
و قد يخرج عن هذا الأصل، كما في قوله: وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:
22]، فإنّ ضمير فِيهِمْ لأصحاب الكهف، و مِنْهُمْ لليهود، قاله ثعلب و المبرد.
و مثله: وَ لَمّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً [هود: 77] قال: ابن عباس ساء ظنّا بقومه و ضاق ذرعا بأضيافه.
و قوله: إِلاّ تَنْصُرُوهُ [التوبة: 40] الآية، فيها اثنا عشر ضميرا، كلّها للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، إلاّ ضمير عَلَيْهِ فلصاحبه، كما نقله السّهيلي عن الأكثرين؛ لأنه صلّى اللّه عليه و سلّم لم تنزل عليه السكينة، و ضمير (جعل) له تعالى.
و قد يخالف بين الضّمائر حذرا من التنافر نحو: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة: 36].
الضمير للاثني عشر، ثم قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ [التوبة: 36] أتى بصيغة الجمع مخالفا لعوده على الأربعة.
ضمير الفصل: ضمير بصيغة المرفوع مطابق لما قبله؛ تكلما و خطابا و غيبة، إفرادا و غيره، و إنّما يقع بعد مبتدإ أو ما أصله المبتدأ و قبل خبر كذلك، نحو وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، وَ إِنّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) [الصافات: 165]، كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117]، تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْراً [المزمل: 20]، إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً [الكهف: 39]، هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78].
و جوّز الأخفش وقوعه بين الحال و صاحبها، و خرّج عليه قراءة: (هُنَّ أَطْهَرُ) بالنصب.
و جوّز الجرجانيّ وقوعه قبل مضارع، و جعل منه: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) [البروج:
13]، و جعل منه أبو البقاء(1)وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10].
و لا محلّ لضمير الفصل من الإعراب، و له ثلاث فوائد: الإعلام بأنّ ما بعده خبر لا تابع. و التأكيد؛ و لهذا سماه الكوفيّون دعامة لأنه يدعم به الكلام، أي يقوّى و يؤكّد، و بنى عليه بعضهم: أنه لا يجمع بينه و بينه، فلا يقال: زيد نفسه هو الفاضل. و الاختصاص.2.
ص: 563
و ذكر الزمخشري(1) الثلاثة في وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5]، فقال: فائدته الدلالة على أنّ ما بعده خبر لا صفة، و التوكيد، و إيجاب أنّ فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره.
ضمير الشأن و القصة: و يسمى ضمير المجهول، قال في المغني: خالف القياس من خمسة أوجه:
أحدها: عوده على ما بعده لزوما، إذ لا يجوز للجملة المفسرة له أن تتقدّم عليه و لا شيء منها.
و الثاني: أنّ مفسّره لا يكون إلاّ جملة.
و الثالث: أنّه لا يتبع بتابع، فلا يؤكّد و لا يعطف عليه، و لا يبدل منه.
و الرابع: أنه لا يعمل فيه إلاّ الابتداء أو ناسخه.
و الخامس: أنه ملازم للإفراد.
و من أمثلته: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1]، فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء: 97]. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46].
و فائدته: الدلالة على تعظيم المخبر عنه و تفخيمه، بأن يذكر أوّلا مبهما، ثم يفسّر.
تنبيه: قال ابن هشام: متى أمكن الحمل على غير ضمير الشأن، فلا ينبغي أن يحمل عليه، و من ثمّ ضعّف قول الزمخشريّ (2) في: إِنَّهُ يَراكُمْ [الأعراف: 27] إنّ اسم (إنّ) ضمير الشأن، و الأولى كونه ضمير الشيطان، و يؤيده قراءة وَ قَبِيلُهُ [الأعراف: 27] بالنصب، و ضمير الشأن لا يعطف عليه.
سواء كان للقلة أو للكثرة، نحو: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ [البقرة: 33]. وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228]. و ورد الإفراد في قوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25] و لم يقل (مطهرات).
و أما غير العاقل: فالغالب في جمع الكثرة الإفراد، و في القلة الجمع. و قد اجتمعا في قوله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً . إلى أن قال: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فأعاد مِنْها بصيغة الإفراد على الشهور، و هي للكثرة، ثم قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ [التوبة: 36] فأعاده جمعا على أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ و هي القلة.
و ذكر الفراء لهذه القاعدة سرا لطيفا؛ و هو: أنّ المميّز مع جمع الكثرة. و هو ما زاد على
ص: 564
العشرة. لمّا كان واحدا وحّد الضمير، و مع القلة. و هو العشرة فما دونها. لمّا كان جمعا جمع الضمير.
هذا هو الجادّة في القرآن، قال تعالى: وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ ثم قال: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] أفرد أوّلا باعتبار اللفظ، ثم جمع باعتبار المعنى. و كذا: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ [الأنعام: 25]. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49].
قال الشيخ علم الدين العراقى: و لم يجيء في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلاّ في موضع واحد؛ و هو قوله: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: 139]، فأنث (خالصا) حملا على معنى (ما) ثمّ راعى اللفظ فذكّر فقال:
مُحَرَّمٌ . انتهى.
قال ابن الحاجب في أماليه: إذا حمل على اللفظ جاز الحمل بعده على المعنى، و إذا حمل على المعنى ضعف الحمل بعده على اللفظ؛ لأنّ المعنى أقوى، فلا يبعد الرجوع إليه بعد اعتبار اللفظ، و يضعف بعد اعتبار المعنى القويّ الرجوع إلى الأضعف.
و قال ابن جنّي في «المحتسب»: لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى.
و أورد عليه قوله: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) ثم قال: حَتّى إِذا جاءَنا [الزخرف: 36.
38] فقد راجع اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى.
و قال محمود بن حمزة في كتاب «العجائب»: ذهب بعض النّحويّين إلى أنه لا يجوز الحمل على اللفظ بعد الحمل على المعنى، و قد جاء في القرآن بخلاف ذلك، و هو قوله:
خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِزْقاً [الطلاق: 11]، قال ابن خالويه في كتاب (ليس):
القاعدة في (من) و نحوه الرجوع من اللفظ إلى المعنى، و من الواحد إلى الجمع، و من المذكر إلى المؤنث، نحو: وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً [الأحزاب: 31]. مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ إلى قوله: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 112]، أجمع على هذا النحويون.
قال: و ليس في كلام العرب و لا في شيء من العربية الرجوع من المعنى إلى اللفظ إلاّ في حرف واحد استخرجه ابن مجاهد، و هو قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ [الطلاق: 11] الآية، وحّد في يُؤْمِنْ و وَ يَعْمَلْ و يُدْخِلْهُ ، ثم جمع في قوله: خالِدِينَ ثم وحّد في قوله: أَحْسَنَ اللّهُ لَهُ رِزْقاً [الطلاق:
11] فرجع بعد الجمع إلى التوحيد.
ص: 565
* قاعدة في التذكير و التأنيث(1):
التأنيث ضربان: حقيقي و غيره:
فالحقيقيّ: لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبا؛ إلاّ إن وقع فصل، و كلّما كثر الفصل حسن الحذف، و الإثبات مع الحقيقيّ أولى، ما لم يكن جمعا.
و أما غير الحقيقيّ: فالحذف فيه مع الفصل أحسن، نحو: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 275]. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران: 13] فإن كثر الفصل ازداد حسنا، نحو:
وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 67] و الإثبات أيضا حسن، نحو: وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] فجمع بينهما في سورة هود.
و أشار بعضهم إلى ترجيح الحذف. و استدلّ بأنّ اللّه قدمه على الإثبات، حيث جمع بينهما.
و يجوز الحذف أيضا مع عدم الفصل حيث الإسناد إلى ظاهره، فإن كان إلى ضميره امتنع.
و حيث وقع ضمير أو إشارة بين مبتدإ و خبر، أحدهما مذكّر و الآخر مؤنث، جاز في الضمير و الإشارة التّذكير و التأنيث، كقوله تعالى: قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 98]. فذكّر و الخبر مؤنث، لتقدّم المبتدأ و هو مذكّر. و قوله تعالى: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص: 32]. ذكّر و المشار إليه اليد و العصا، و هما مؤنثان لتذكير الخبر و هو بُرْهانانِ .
و كلّ أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير حملا على الجنس، و التأنيث حملا على الجماعة، كقوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7]. أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20]. إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا [البقرة: 70] و قرئ: (تشابهت). اَلسَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18].
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار: 1].
و جعل منه بعضهم: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يونس: 22]. وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الأنبياء: 81].
و قد سئل: ما الفرق بين قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36]. و قوله: فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف: 30].
و أجيب بأن ذلك لوجهين:
لفظيّ: و هو كثرة حروف الفاصل في الثاني، و الحذف مع كثرة الحواجز أكثر.
ص: 566
و معنويّ: و هو أنّ (من) في قوله: مَنْ حَقَّتْ راجعة إلى الجماعة، و هي مؤنثة لفظا، بدليل: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ثم قال: وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل: 36] أي: من تلك الأمم، و لو قال: (ضلّت) لتعيّنت التاء، و الكلامان واحد، و إذا كان معناهما واحدا، كان إثبات التاء أحسن من تركها؛ لأنها ثابتة فيما هو من معناه. و أمّا فَرِيقاً هَدى . الآية، فالفريق يذكّر، و لو قال: (فريق ضلّوا) لكان بغير تاء.
و قوله: حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في معناه، فجاء بغير تاء. و هذا أسلوب لطيف من أساليب العرب: أن يدعوا حكم اللفظ. الواجب في قياس لغتهم. إذا كان في مرتبة كلمة لا يجب لها ذلك الحكم.
* قاعدة في التعريف و التنكير(1):
اعلم أنّ لكلّ منهما مقاما لا يليق بالآخر:
أما التنكير فله أسباب:
أحدها: إرادة الوحدة: نحو: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [القصص: 20] أي:
رجل واحد. و ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ [الزمر: 29].
الثاني: إرادة النوع: نحو: هذا ذِكْرٌ [ص: 49] أي: نوع من الذكر. وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة: 7] أي: نوع غريب من الغشاوة لا يتعارفه الناس، بحيث غطّى ما لا يغطيه شيء من الغشاوات. وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] أي: نوع منها، و هو الازدياد في المستقبل؛ لأنّ الحرص لا يكون على الماضي و لا على الحاضر.
و يحتمل الوحدة و النّوعية معا قوله: وَ اللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] أي: كلّ نوع من أنواع الدوابّ من نوع من أنواع الماء، و كلّ فرد من أفراد الدوابّ من فرد من أفراد النّطف.
الثالث: التعظيم: بمعنى أنه أعظم من أن يعيّن و يعرّف، نحو: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [البقرة:
279] أي: بحرب أيّ حرب. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10]. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) [مريم: 15]. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) [الصافات: 109]. أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ [البقرة: 25].
الرابع: التكثير: نحو: أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الشعراء: 41] أي: وافرا جزيلا.
و يحتمل التعظيم و التكثير معا، نحو: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [فاطر: 4] أي رسل عظام ذوو عدد كثير.
ص: 567
الخامس: التّحقير: بمعنى انحطاط شأنه إلى حدّ لا يمكن أن يعرّف، نحو: إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا [الجاثية: 32] أي: ظنا حقيرا لا يعبأ به، و إلاّ لاتّبعوه؛ لأنّ ذلك ديدنهم، بدليل:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [الأنعام: 116]. مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) [عبس: 18] أي: من شيء حقير مهين، ثم بينه بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ [عبس: 19].
السادس: التقليل، نحو: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] أي: رضوان قليل منه أكبر من الجنّات؛ لأنه رأس كلّ سعادة.
قليل منك يكفيني و لكن قليلك لا يقال له قليل
و جعل منه الزمخشري(1): سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء: 1] أي: ليلا قليلا، أي: بعض ليل.
و أورد عليه: أنّ التقليل ردّ الجنس إلى فرد من أفراده، لا تنقيص فرد إلى جزء من أجزائه، و أجاب في «عروس الأفراح» بأنّا لا نسلّم أنّ الليل حقيقة في جميع الليلة، بل كلّ جزء من أجزائها يسمى ليلا.
و عد السكاكيّ من الأسباب: ألاّ يعرف من حقيقته إلاّ ذلك، و جعل منه: أن تقصد التجاهل، و أنّك لا تعرف شخصه، كقولك: هل لك في حيوان على صورة إنسان يقول: كذا؟ و عليه من تجاهل الكفار: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ [سبأ: 7] كأنهم لا يعرفونه.
و عدّ غيره منها قصد العموم، بأن كانت في سياق النفي، نحو: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]. فَلا رَفَثَ [البقرة: 197] الآية. أو الشرط، نحو: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6]. أو الامتنان، نحو: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48].
* و أما التعريف فله أسباب(1):
فبالإضمار: لأنّ المقام مقام التكلّم أو الخطاب أو الغيبة:
و بالعلميّة: لإحضاره بعينه في ذهن السامع ابتداء باسم يختصّ به، نحو: قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (2) [الإخلاص: 1]. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ [الفتح: 29].
أو لتعظيم أو إهانة، حيث علمه يقتضي ذلك، فمن التعظيم: ذكر يعقوب بلقبه إسرائيل، لما فيه من المدح و التعظيم بكونه صفوة اللّه، أو سريّ اللّه، على ما سيأتي في معناه في الألقاب. و من الإهانة: قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1]. و فيه أيضا نكتة أخرى، و هي الكناية عن كونه جهنميا.
ص: 568
و بالإشارة: لتمييزه أكمل تمييز بإحضاره في ذهن السامع حسا، نحو: هذا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: 11].
و للتعريض بغباوة السامع: حتى إنه لا يتميّز له الشيء إلاّ بإشارة الحسّ، و هذه الآية تصلح لذلك.
و لبيان حاله في القرب و البعد، فيؤتى في الأول بنحو: هذا، و في الثاني بنحو: ذلك و أولئك.
و لقصد تحقيره بالقرب، كقول الكفار: أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:
36]. أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً [الفرقان: 41]. ما ذا أَرادَ اللّهُ بِهذا مَثَلاً [البقرة: 26].
و كقوله تعالى: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ [العنكبوت: 64].
و لقصد تعظيمه بالبعد، نحو: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ذهابا إلى بعد درجته.
و للتنبيه. بعد ذكر المشار إليه بأوصاف قبله. على أنه جدير بما يرد بعده من أجلها، نحو: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) [البقرة: 5].
و بالموصولية، لكراهة ذكره بخاصّ اسمه، إما سترا عليه، أو إهانة له أو لغير ذلك، فيؤتى بالّذي و نحوها موصولة بما صدر منه من فعل أو قول، نحو: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: 17]. وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها [يوسف: 23].
و قد يكون لإرادة العموم، نحو: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت:
30] الآية. وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69]. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ [غافر: 60].
و للاختصار، نحو: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللّهُ مِمّا قالُوا [الأحزاب: 69] أي: قولهم: إنه آدر؛ إذ لو عدّد أسماء القائلين لطال؛ و ليس للعموم؛ لأنّ بني إسرائيل كلّهم لم يقولوا في حقّه ذلك.
و بالألف و اللام، للإشارة إلى معهود خارجيّ أو ذهنيّ أو حضوريّ.
و للاستغراق حقيقة أو مجازا، أو لتعريف الماهية؛ و قد مرّت أمثلتها في نوع الأدوات.
و بالإضافة، لكونها أخصر طريق، و لتعظيم المضاف، نحو: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42]. وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] أي: الأصفياء في الآيتين، كما قاله ابن عباس و غيره(1).4.
ص: 569
و لقصد العموم، نحو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] أي: كلّ أمر للّه تعالى.
فائدة: سئل عن الحكمة في تنكير أَحَدٌ و تعريف اَلصَّمَدُ من قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (1) اَللّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص: 2.1]، و ألّفت في جوابه تأليفا مودعا في الفتاوى، و حاصله أنّ في ذلك أجوبة:
أحدها: أنّه نكّر للتعظيم، و الإشارة إلى أنّ مدلوله. و هو الذات المقدسة. غير ممكن تعريفها و الإحاطة بها.
الثاني: أنه لا يجوز إدخال (أل) عليه كغير و كلّ و بعض، و هو فاسد، فقد قرئ شاذا:
قل هو اللّه الأحد اللّه الصّمد، حكى هذه القراءة أبو حاتم في كتاب الزينة عن جعفر بن محمد.
الثالث: و هو ممّا خطر لي: أنّ (هو) مبتدأ و (اللّه) خبر، و كلاهما معرفة، فاقتضى الحصر، فعرف الجزآن في اَللّهُ الصَّمَدُ (2) لإفادة الحصر، ليطابق الجملة الأولى، و استغني عن تعريف أَحَدٌ فيها لإفادة الحصر دونه، فأتي به على أصله من التنكير، على أنه خبر ثان. و إن جعل الإسم الكريم مبتدأ و (أحد) خبره: ففيه من ضمير الشأن ما فيه من التّفخيم و التعظيم، فأتي بالجملة الثانية على نحو الأولى، بتعريف الجزءين للحصر تفخيما و تعظيما.
* قاعدة أخرى تتعلق بالتعريف و التنكير(1):
إذا ذكر الاسم مرتين، فله أربعة أحوال: لأنه إمّا أن يكونا معرفتين، أو نكرتين، أو الأول نكرة و الثاني معرفة، أو بالعكس.
فإن كانا معرفتين: فالثاني هو الأول غالبا، دلالة على المعهود الذي هو الأصل في اللام أو الإضافة، نحو: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّالِّينَ (7) [الفاتحة: 7.6]. فَاعْبُدِ اللّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ [الزمر: 3.2]. وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ [الصافات:
158]. وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ . لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غافر: 37.36].
و إن كانا نكرتين: فالثاني غير الأول غالبا، و إلاّ لكان المناسب هو التعريف بناء على
ص: 570
كونه معهودا سابقا، نحو: اَللّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً [الروم: 54] فإن المراد بالضعف الأول النطفة، و بالثاني الطفولية، و بالثالث الشيخوخة.
و قال ابن الحاجب في قوله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ [سبأ: 12]: الفائدة في إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدوّ و زمن الرّواح، و الألفاظ التي تأتي مبيّنة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، و لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدّم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب العدول عن المضمر إلى الظاهر.
و قد اجتمع القسمان في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح 6.5]. فالعسر الثاني هو الأول، و اليسر الثاني غير الأول؛ و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلّم في الآية:
«لن يغلب عسر يسرين»(1).
و إن كان الأوّل نكرة و الثاني معرفة: فالثاني هو الأوّل حملا على العهد، نحو: أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16.15]. فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ2.
ص: 571
اَلزُّجاجَةُ [النور: 35]. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللّهِ [الشورى: 52، 53]. ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ [الشورى: 42.41].
و إن كان الأول معرفة و الثاني نكرة: فلا يطلق القول، بل يتوقّف على القرائن: فتارة تقوم قرينة على التّغاير، نحو: وَ يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55]. يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً [النساء: 153]. وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً [غافر: 54.53]. قال الزمخشريّ (1): المراد جميع ما أتاه من الدين و المعجزات و الشرائع، و اَلْهُدى : إرشادا.
و تارة تقوم قرينة على الاتحاد، نحو: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزمر: 27-28].
تنبيه: قال الشيخ بهاء الدين في «عروس الأفراح» و غيره: إنّ الظاهر أنّ هذه القاعدة غير محرّرة، فإنها منتقضة بآيات كثيرة:
منها في القسم الأول: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) [الرحمن: 60]: فإنّهما معرفتان و الثاني غير الأول، فإن الأول العمل و الثاني الثواب. أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي:
القاتلة بالمقتولة، و كذا سائر الآية. اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة: 178] الآية. هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ثم قال: إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ [الإنسان: 2.1] فإنّ الأوّل آدم و الثاني ولده. وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [العنكبوت:
47] فإنّ الأول القرآن، و الثاني التوراة و الإنجيل.
و منها في القسم الثاني: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84].
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217]. فإن الثاني فيهما هو الأول، و هما نكرتان.
و منها في القسم الثالث: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128].
وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3]. وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [هود: 52]. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 4]. زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: 88]. وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ [يونس: 36]. فإن الثاني فيها غير الأول.
و أقول: لا انتقاض بشيء من ذلك عند التأمّل؛ فإنّ اللام في الإحسان للجنس فيما يظهر، و حينئذ يكون في المعنى كالنّكرة.
و كذا آية النّفس و الحرّ بخلاف آية العسر؛ فإنّ (ال) فيها إما للعهد أو للاستغراق كما يفيده الحديث.3.
ص: 572
و كذا آية الظّن، لا نسلّم فيها أنّ الثاني فيها غير الأول، بل هو عينه قطعا؛ إذ ليس كلّ ظن مذموما، كيف و أحكام الشريعة ظنّيّة.
و كذا آية الصلح، لا مانع من أن يكون المراد منها الصلح المذكور، و هو الذي بين الزّوجين، و استحباب الصلح في سائر الأمور مأخوذ من السنّة و من الآية بطريق القياس، بل لا يجوز القول بعموم الآية، و أنّ كلّ صلح خير؛ لأنّ ما أحلّ حراما من الصلح أو حرّم حلالا فهو ممنوع.
و كذا آية القتال: ليس الثاني فيها عين الأول بلا شك؛ لأنّ المراد بالأوّل المسئول عنه القتال الذي وقع في سرّية ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة، لأنه سبب نزول الآية، و المراد بالثاني جنس القتال لا ذاك بعينه.
و أما آية: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: 84] فقد أجاب عنها الطيبيّ: أنها من باب التكرير، لإفادة أمر زائد، بدليل تكرير ذكر الرّب فيما قبله من قوله: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ [الزخرف: 82]. و وجه الإطناب في تنزيهه تعالى عن نسبة الولد إليه، و شرط القاعدة ألاّ يقصد التكرير.
و قد ذكر الشيخ بهاء الدين في آخر كلامه: إنّ المراد بذكر الإسم مرتين كونه مذكورا في كلام واحد أو كلامين بينهما تواصل، بأن يكون أحدهما معطوفا على الآخر، و له به تعلّق ظاهر و تناسب واضح، و أن يكونا من متكلّم واحد. و دفع بذلك إيراد آية القتال؛ لأنّ الأول فيها محكيّ عن قول السائل، و الثاني محكيّ من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
* قاعدة في الإفراد و الجمع(1):
من ذلك (السماء و الأرض)(2) حيث وقع في القرآن ذكر الأرض فإنها مفردة، و لم تجمع بخلاف السموات. لثقل جمعها و هو أرضون؛ و لهذا لما أريد ذكر جميع الأرضين قال:
وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12].
و أما السماء: فذكرت تارة بصيغة الجمع، و تارة بصيغة الإفراد، لنكت تليق بذلك المحل، كما أوضحته في «أسرار التنزيل»، و الحاصل: أنه حيث أريد العدد أتي بصيغة الجمع الدّالة على سعة العظمة و الكثرة، نحو: سَبَّحَ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ [الصف: 1] أي: جميع سكانها على كثرتهم. يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ [الجمعة: 1] أي: كلّ واحد على اختلاف عددها. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ [النمل: 65] إذ المراد نفي
ص: 573
علم الغيب عن كلّ من هو في واحدة من السموات.
و حيث أريد الجهة أتي بصيغة الإفراد، نحو: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22].
أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16] أي من فوقكم.
و من ذلك (الريح)(1) ذكرت مجموعة و مفردة، فحيث ذكرت في سياق الرحمة جمعت، أو في سياق العذاب أفردت.
أخرج ابن أبي حاتم و غيره، و عن أبيّ بن كعب، قال: كلّ شيء في القرآن من الرياح فهو رحمة، و كلّ شيء فيه من الريح فهو عذاب.
و لهذا ورد في الحديث: «اللهم اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا»(2). و ذكر في حكمة ذلك: أن رياح الرحمة مختلفة الصفات و المهبّات و المنافع، و إذا هاجت منها ريح أثير لها من مقابلها ما يكسر سورتها، فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان و النبات؛ فكانت في الرحمة رياحا. و أمّا في العذاب فإنّها تأتي من وجه واحد و لا معارض لها و لا دافع.
و قد خرج عن هذه القاعدة قوله تعالى في سورة يونس: وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] و ذلك لوجهين:
لفظيّ: و هو المقابلة في قوله: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ و ربّ شيء يجوز في المقابلة و لا يجوز استقلالا، نحو: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللّهُ [آل عمران: 54].
و معنوي: و هو أنّ تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها، فإنّ السفينة لا تسير إلاّ بريح واحدة من وجه واحد، فإن اختلف عليها الرياح كان سبب الهلاك، و المطلوب هنا ريح واحدة، و لهذا أكّد هذا المعنى بوصفها بالطيب. و على ذلك أيضا جرى قوله: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ [الشورى: 33].
و قال ابن المنيّر: إنه على القاعدة؛ لأنّ سكون الريح عذاب و شدّة على أصحاب السفن.
و من ذلك إفراد (النور) و جمع (الظلمات)(3) و إفراد (سبيل الحق)، و جمع (سبل4.
ص: 574
الباطل)(1) في قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] لأنّ طريق الحقّ واحدة، و طريق الباطل متشعّبة متعدّدة. و الظلمات بمنزلة طرق الباطل، و النور بمنزلة طريق الحقّ، بل هما هما.
و لهذا وحّد وليّ المؤمنين، و جمع أولياء الكفار. لتعدّدهم. في قوله تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257].
و من ذلك إفراد (النار)(2) حيث وقعت، و (الجنة) وقعت مجموعة و مفردة؛ لأنّ الجنان مختلفة الأنواع، فحسن جمعها، و النار مادة واحدة. و لأنّ الجنّة رحمة، و النار عذاب، فناسب جمع الأولى و إفراد الثانية، على حدّ الرياح و الريح.
و من ذلك إفراد (السمع) و جمع (البصر) لأن السمع غلب عليه المصدريّة فأفرد، بخلاف البصر: فإنه اشتهر في الجارحة؛ و لأنّ متعلّق السمع الأصوات و هي حقيقة واحدة، و متعلق البصر الألوان و الأكوان و هي حقائق مختلفة، فأشار في كل منهما إلى متعلّقه.
و من ذلك إفراد (الصديق) و جمع (الشافعين)(3) في قوله تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) [الشعراء: 101.100]. و حكمته كثرة الشفعاء في العادة، و قلّة الصديق.
قال الزمخشري: أ لا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم، نهضت جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة، و إن لم يسبق له بأكثرهم معرفة، و أما الصديق: فأعزّ من بيض الأنوق.
و من ذلك: (الألباب) لم يقع إلاّ مجموعا، لأن مفرده ثقيل لفظا.
و من ذلك مجيء (المشرق و المغرب)(4) بالإفراد و التثنية و الجمع، فحيث أفردا فاعتبارا للجهة، و حيث ثنّيا فاعتبارا لمشرق الصيف و الشتاء و مغربهما، و حيث جمعا فاعتبارا لتعدّد المطالع في كلّ فصل من فصلي السنة.
و أما وجه اختصاص كلّ موضوع بما وقع فيه: ففي سورة الرحمة وقع بالتثنية؛ لأنّ سياق السورة سياق المزدوجين، فإنه سبحانه و تعالى ذكر أوّلا نوعي الإيجاد و هما الخلق و التعليم. ثم ذكر سراجي العالم: الشمس و القمر. ثم نوعي النبات: ما كان على ساق و ما لا ساق له، و هما النجم و الشجر، ثم نوعي السماء و الأرض. ثم نوعي العدل و الظلم. ثم نوعي8.
ص: 575
الخارج من الأرض و هما: الحبوب و الرياحين. ثم نوعي المكلّفين و هما: الإنس و الجان. ثم نوعي المشرق و المغرب، ثم نوعي البحر الملح و العذب. فلهذا حسن تثنية المشرق و المغرب في هذه السورة، و جمعا في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ (40) [المعارج:
40]، و في سورة الصافات للدلالة على سعة القدرة و العظمة.
فائدة(1): حيث ورد (البارّ) مجموعا في صفة الآدميين قيل: (أبرار). و في صفة الملائكة قيل: (بررة). ذكره الراغب، و وجهه: بأن الثاني أبلغ؛ لأنه جمع بارّ، و هو أبلغ من (برّ) مفرد الأوّل.
و حيث ورد (الأخ)(2) مجموعا في النسب قيل: (إخوة). و في الصداقة قيل: (إخوان).
قاله ابن فارس و غيره. و أورد عليه في الصداقة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. و في النسب: أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ [النور: 31].
فائدة: ألّف أبو الحسن الأخفش كتابا في الإفراد و الجمع، ذكر فيه جمع ما وقع في القرآن مفردا، و مفرد ما وقع جمعا، و أكثره من الواضحات، و هذه أمثلة من خفيّ ذلك:
(المنّ): لا واحد له. (السّلوى) لم يسمع له بواحد. (النصارى) قيل: جمع نصرانيّ، و قيل: جمع نصير، كنديم و قبيل. (العوان) جمعه عون. (الهدى) لا واحد له. (الإعصار):
جمعه أعاصير. (الأنصار) واحدة نصير، كشريف و أشراف. (الأزلام) واحدها زلم، و يقال:
زلم بالضم. (مدرارا) جمعه مدارير. (أساطير) واحده أسطورة، و قيل: أسطار، جمع سطر.
(الصّور) جمع صورة، و قيل: واحد الأصوار. (فرادى) جمع أفراد، جمع فرد.
(قنوان) جمع قنو، و (صنوان) جمع صنو؛ و ليس في اللغة جمع و مثنى بصيغة واحدة إلاّ هذان، و لفظ ثالث لم يقع في القرآن، قاله ابن خالويه في كتاب (ليس).
(الحوايا) جمع حاوية، و قيل: حاوياء. (نشرا) جمع نشور. عِضِينَ [الحجر: 91].
و عِزِينَ [المعارج: 37]. جمع عضة و عزة. اَلْمَثانِي [الحجر: 87] جمع مثنى. تارَةً [الإسراء: 69]. جمعها تارات و تير. أَيْقاظاً [الكهف: 18]. جمع يقظ. اَلْأَرائِكِ * جمع أريكة. (سريّ) جمعه سريان، كخصيّ و خصيان. آناءَ اللَّيْلِ * جمع إنا. بالقصر.
كمعى، و قيل: إني كقرد، و قيل: إنوة كفرقة. (الصياصي) جمع صيصية. (منسأة) جمعها مناسئ. اَلْحَرُورُ [فاطر: 21] جمعه حرور، بالضم. وَ غَرابِيبُ [فاطر: 27] جمع غربيب. أَتْرابٌ [ص: 52] جمع ترب. (الآلاء) جمع إلى كمعى، و قيل: ألى كقفى،4.
ص: 576
و قيل: إلي كقرد، و قيل ألو. اَلتَّراقِيَ [القيامة: 26] جمع ترقوة، بفتح أوله. (الأمشاج) جمع مشيج. أَلْفافاً [النبأ: 16] جمع لف، بالكسر. اَلْعِشارُ [التكوير: 4] جمع عشر.
بِالْخُنَّسِ [التكوير: 15] جمع خانسة، و كذا اَلْكُنَّسِ [التكوير: 16]. اَلزَّبانِيَةَ [العلق: 18] جمع زبنية، و قيل: زابن، و قيل: زباني. أَشْتاتاً [النور: 61]، [الزلزلة: 6] جمع شت و شتيت. أَبابِيلَ [الفيل: 3] لا واحد له، و قيل: واحده إبّول مثل عجّول، و قيل: إبّيل مثل إكليل.
فائدة: ليس في القرآن من الألفاظ المعدولة إلاّ ألفاظ العدد: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء: 3]. [فاطر: 1] و من غيرها طُوىً [طه: 12] فيما ذكره الأخفش في الكتاب المذكور، و من الصفات: أُخَرُ في قوله تعالى: وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
قال الراغب و غيره(1): هي معدولة عن تقدير ما فيه الألف و اللاّم، و ليس له نظير في كلامهم، فإنّ (أفعل) إما أن يذكر معه (من) لفظا أو تقديرا، فلا يثنّى و لا يجمع و لا يؤنّث و تحذف منه (من) فتدخل عليه الألف و اللام، و يثنّى و يجمع، و هذه اللفظة من بين أخواتها جوّز فيها ذلك من غير الألف و اللام.
و قال الكرمانيّ في الآية المذكورة: لا يمتنع كونها معدولة عن الألف و اللام مع كونها وصفا لنكرة؛ لأنّ ذلك مقدّر من وجه، غير مقدّر من وجه.
قاعدة: مقابلة الجمع بالجمع تارة تقتضي مقابلة كلّ فرد من هذا بكل فرد من هذا، كقوله:
وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح: 7] أي استغشى كلّ منهم ثوبه.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] أي على كل من المخاطبين أمّه.
يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أي: كلاّ في أولاده.
وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] أي: كلّ واحدة ترضع ولدها.
و تارة يقتضي ثبوت الجمع لكلّ فرد من أفراد المحكوم عليه، نحو: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4]. و جعل منه الشيخ عز الدين: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ [البقرة: 25].
و تارة يحتمل الأمرين، فيحتاج إلى دليل يعيّن أحدهما.
و أمّا مقابلة الجمع بالمفرد: فالغالب ألاّ يقتضي تعميم المفرد، و قد يقتضيه، كما في1.
ص: 577
قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184]. المعنى: على كلّ واحد لكل يوم طعام مسكين، وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: 4]؛ لأنّ على كلّ واحد منهم ذلك.
* قاعدة في الألفاظ التي يظن بها الترادف، و ليست منه(1):
من ذلك (الخوف و الخشية)(2) لا يكاد اللّغوي يفرّق بينهما، و لا شكّ أنّ الخشية أعلى منه، و هي أشدّ الخوف؛ فإنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشيّة، أي: يابسة، و هو فوات بالكليّة. و الخوف من ناقة خوفاء، أي: بها داء، و هو نقص، و ليس بفوات؛ و لذلك خصّت الخشية باللّه في قوله تعالى: وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ [الرعد: 21].
و فرّق بينهما أيضا بأنّ الخشية تكون من عظم المختشى، و إن كان الخاشي قويّا، و الخوف يكون من ضعف الخائف و إن كان المخوف أمرا يسيرا. و يدلّ لذلك أنّ الخاء و الشين و الياء في تقاليبها تدلّ على العظمة، نحو شيخ للسيد الكبير، و خيش لما غلظ من اللباس، و لذا وردت الخشية غالبا في حق اللّه تعالى نحو: مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ [البقرة: 74]. إِنَّما يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28]. و أما: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]. ففيه نكتة لطيفة، فإنه في وصف الملائكة، و لما ذكر قوّتهم و شدّة خلقهم عبّر عنهم بالخوف، لبيان أنهم و إن كانوا غلاظا شدادا فهم بين يديه تعالى ضعفاء، ثم أردفه بالفوقيّة الدالة على العظمة، فجمع بين الأمرين، و لمّا كان ضعف البشر معلوما لم يحتج إلى التنبيه عليه.
و من ذلك (الشحّ و البخل)(3) و الشح هو أشدّ البخل. قال الراغب(4): الشحّ بخل مع حرص.
و فرّق العسكري(5) بين البخل و (الضنّ): بأنّ الضنّ أصله أن يكون بالعواري و البخل بالهبات؛ و لهذا يقال: هو ضنين بعلمه و لا يقال بخيل؛ لأنّ العلم بالعاريّة أشبه منه بالهبة؛ لأنّ الواهب إذا وهب شيئا خرج عن ملكه؛ بخلاف العارية، و لهذا قال تعالى: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) [التكوير: 24] و لم يقل: ببخيل.
و من (السبيل و الطريق)(6) و الأوّل أغلب وقوعا في الخير، و لا يكاد اسم الطريق يراد به
ص: 578
الخير إلاّ مقرونا بوصف أو إضافة تخلّصه لذلك، كقوله: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 30]. و قال الراغب(1): السّبيل الطريق الّتي فيها سهولة، فهو أخصّ.
و من ذلك (جاء و أتى)(2) فالأول يقال في الجواهر و الأعيان، و الثاني في المعاني و الأزمان، و لهذا ورد (جاء) في قوله: وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [يوسف: 72]. وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18]. وَ جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23]. و (أتى) في:
أَتى أَمْرُ اللّهِ [النحل: 1]. أَتاها أَمْرُنا [يونس: 24].
و أما وَ جاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] أي: أمره(3)، فإنّ المراد به أهوال القيامة المشاهدة، و كذا: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ [الأعراف: 34]؛ لأنّ الأجل كالمشاهد، و لهذا عبّر عنه بالحضور في قوله: حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: 180]. و لهذا فرّق بينهما في قوله: جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ [الحجر: 63-64]؛ لأنّ الأول العذاب و هو مشاهد مرئيّ، بخلاف الحق.
و قال الراغب(4): الإتيان: مجيء بسهولة، فهو أخصّ من مطلق المجيء، قال: و منه قيل للسائل المارّ على وجهه: أتيّ و أتاويّ.
و من ذلك (مد و أمدّ)(5) قال الراغب(6): أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب، نحو:
وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22]. و المدّ في المكروه، نحو: وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا [مريم: 79].
و من ذلك (سقى و أسقى)(7) فالأول لما لا كلفة فيه، و لهذا ذكر في شراب الجنّة، نحو وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً [الإنسان: 21]. و الثاني لما فيه كلفة، و لهذا ذكر في ماء الدنيا، نحو:
لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: 16].5.
ص: 579
و قال الراغب(1): الإسقاء أبلغ من السقي؛ لأنّ الإسقاء أن يجعل له ما يسقي منه و يشرب، و السقي أن يعطيه ما يشرب.
و من ذلك (عمل و فعل)(2) فالأول لما كان مع امتداد زمان؛ نحو: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ [سبأ: 13]. مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71]، لأن خلق الأنعام و الثّمار و الزروع بامتداد. و الثاني بخلافه، نحو: كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1]. كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ [الفجر: 6]. كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم: 45]؛ لأنها إهلاكات وقعت من غير بطء، وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل: 50] أي: في طرفة عين.
و لهذا عبّر بالأوّل في قوله: وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ [البقرة: 25] حيث كان المقصود المثابرة عليها لا الإتيان بها مرة أو بسرعة، و بالثاني في قوله: وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج:
77] حيث كان بمعنى سارعوا، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ [البقرة: 148]. و قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (3) [المؤمنون: 4] حيث كان القصد يأتون بها على سرعة من غير توان.
و من ذلك (القعود و الجلوس)(4) فالأول لما فيه لبث، بخلاف الثاني. و لهذا يقال:
قواعد البيت و لا يقال جوالسه، للزومها و لبثها، و يقال: جليس الملك، و لا يقال: قعيده؛ لأنّ مجالس الملوك يستحب فيها التخفيف.
و لهذا استعمل الأول في قوله: مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: 55]، للإشارة إلى أنّه لا زوال له، بخلاف: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ [المجادلة: 11] لأنّه يجلس فيه زمانا يسيرا.
و من ذلك (التمام و الكمال)(4) و قد اجتمعا في قوله: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3]. فقيل: الإتمام لإزالة نقصان الأصل، و الإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، و لهذا كان قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] أحسن من (تامة) فإن التمام من العدد قد علم، و إنما نفي احتمال نقص في صفاتها.
و قيل: (تمّ) يشعر بحصول نقص قبله، و (كمل) لا يشعر بذلك.
و قال العسكري(5): الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به، و التّمام اسم للجزء الذي يتمّ به الموصوف، و لهذا يقال: القافية تمام البيت، و لا يقال: كماله، و يقولون: البيت بكماله، أي باجتماعه.8.
ص: 580
و من ذلك (الإعطاء و الإيتاء)(1) قال الخويّيّ: لا يكاد اللغويون يفرّقون بينهما؛ و ظهر لي بينهما فرق ينبئ عن بلاغة كتاب اللّه، و هو: أنّ الإيتاء أقوى من الإعطاء في إثبات مفعوله، لأنّ الإعطاء له مطاوع، تقول: أعطاني فعطوت، و لا يقال في الإيتاء: آتاني فأتيت، و إنما يقال: آتاني فأخذت. و الفعل الذي له مطاوع أضعف في إثبات مفعوله من الفعل الذي لا مطاوع له؛ لأنك تقول: قطعته فانقطع، فيدلّ على أنّ فعل الفاعل كان موقوفا على قبول في المحلّ، لولاه ما ثبت المفعول، و لهذا يصحّ قطعته فما انقطع، و لا يصحّ فيما لا مطاوع له ذلك، فلا يجوز ضربته فانضرب، أو فما انضرب، و لا قتلته فانقتل، و لا فما انقتل؛ لأنّ هذه أفعال إذا صدرت من الفاعل ثبت لها المفعول في المحلّ، و الفاعل مستقلّ بالأفعال التي لا مطاوع لها، فالإيتاء أقوى من الإعطاء.
قال: و قد تفكّرت في مواضع من القرآن فوجدت ذلك مراعى، قال تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران: 26]؛ لأنّ الملك شيء عظيم لا يعطاه إلاّ من له قوّة، و كذا:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 269]. آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87] لعظم القرآن و شأنه.
و قال: إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) [الكوثر: 1]: لأنّه مورود في الموقف مرتحل عنه، قريب إلى منازل العزّ في الجنّة، فعبّر فيه بالإعطاء؛ لأنه يترك عن قرب و ينتقل إلى ما هو أعظم منه.
و كذا: يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5]، لما فيه من تكرير الإعطاء و الزيادة إلى أن يرضى كلّ الرّضا؛ و هو مفسّر. أيضا. بالشفاعة، و هي نظير الكوثر في الانتقال بعد قضاء الحاجة منه.
و كذا: أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] لتكرّر حدوث ذلك باعتبار الموجودات.
حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29]؛ لأنها موقوفة على قبول منّا، و إنما يعطونها عن كره.
فائدة: قال الراغب(2): خصّ دفع الصّدقة في القرآن بالإيتاء، نحو: وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ [البقرة: 277]. وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ [البقرة: 177].
قال(3): و كلّ موضع ذكر في وصف الكتاب (آتينا) فهو أبلغ من كلّ موضع ذكر فيه9.
ص: 581
(أوتو)؛ لأنّ (أوتوا) قد يقال إذا أوتي من لم يكن منه قبول، (و آتيناهم) يقال فيمن كان منه قبول.
و من ذلك (السنة و العام)(1) قال الراغب(2): الغالب استعمال السنة في الحول الذي فيه الشّدّة و الجدب، و لهذا يعبّر عن الجدب بالسّنة. و العام ما فيه الرّخاء و الخصب، و بهذا تظهر النكتة في قوله: أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت: 14] حيث عبّر عن المستثنى بالعام و عن المستثنى منه بالسنة.
* قاعدة في السؤال و الجواب(3):
الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال، إذا كان السؤال متوجّها، و قد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال، تنبيها على أنّه كان من حقّ السؤال أن يكون كذلك. و يسمّيه السكاكي: الأسلوب الحكيم.
و قد جيء الجواب أعمّ من السؤال للحاجة إليه في السؤال، و قد يجيء أنقص لاقتضاء الحال ذلك.
مثال ما عدل عنه: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ الْحَجِّ [البقرة: 189] سألوا عن الهلال: لم يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك، تنبيها على أنّ الأهمّ السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه. كذا قال السّكّاكيّ و متابعوه. و استرسل التفتازانيّ في الكلام إلى أن قال: لأنهم ليسوا ممّن يطّلع على دقائق الهيئة بسهولة.
و أقول: ليت شعري، من أين لهم أنّ السؤال وقع عن غير ما حصل الجواب به! و ما المانع من أن يكون إنّما وقع عن حكمة ذلك ليعلموها. فإنّ نظم الآية محتمل لذلك، كما أنه محتمل لما قالوه. و الجواب ببيان الحكمة دليل على ترجيح الاحتمال الّذي قلناه، و قرينة ترشد إلى ذلك؛ إذ الأصل في الجواب المطابقة للسؤال، و الخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل، و لم يرد بإسناد لا صحيح و لا غيره أنّ السؤال وقع على ما ذكروه؛ بل ورد ما يؤيد ما قلناه؛ فأخرج ابن جرير، عن أبي العالية قال: بلغنا أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، لم خلقت الأهلّة؟ فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ (4). فهذا صريح في أنهم سألوا عن حكمة ذلك، لا عن كيفيته من جهة الهيئة. و لا يظن ذو دين بالصحابة. الّذين هم أدقّ فهما، و أغزر علما. أنهم
ص: 582
ليسوا ممن يطّلع على دقائق الهيئة بسهولة، و قد اطلع عليها آحاد العجم الّذين أطبق الناس على أنهم أبلد أذهانا من العرب بكثير، هذا لو كان للهيئة أصل معتبر، فكيف و أكثرها فاسد لا دليل عليه؟ و قد صنفت كتابا في نقض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم الذي صعد إلى السماء، و رآها عيانا، و علم ما حوته من عجائب الملكوت بالمشاهدة، و أتاه الوحي من خالقها. و لو كان السؤال وقع عمّا ذكروه لم يمتنع أن يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم؛ كما وقع ذلك لمّا سألوا عن المجرّة و غيرها من الملكوتيات.
نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال: وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا [الشعراء: 23-24]؛ لأنّ (ما) سؤال عن الماهية و الجنس؛ و لما كان هذا السؤال في حقّ البارئ سبحانه و تعالى خطأ؛ لأنه لا جنس له فيذكر، و لا تدرك ذاته، عدل إلى الجواب بالصواب، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته، و لهذا تعجّب فرعون من عدم مطابقته للسؤال، فقال لمن حوله: أَ لا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء: 25] أي: جوابه الذي لم يطابق السؤال، فأجاب موسى بقوله: رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] المتضمّن إبطال ما يعتقدونه من ربوبية فرعون نصا، و إن كان دخل في الأول ضمنا، إغلاظا، فزاد فرعون في الاستهزاء، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا، أغلظ في الثالث بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: 28].
و مثال الزيادة في الجواب: قوله تعالى: اَللّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ [الأنعام: 64] في جواب: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ [الأنعام: 63].
و قال موسى: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي [طه: 18] في جواب:
وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) [طه: 17]. زاد في الجواب استلذاذا بخطاب اللّه تعالى.
و قول قوم إبراهيم: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [الشعراء: 71]. في جواب: ما تَعْبُدُونَ [الشعراء: 70] زادوا في الجواب، إظهارا للابتهاج بعبادتها و الاستمرار على مواظبتها، ليزداد غيظ السائل.
و مثال النقص منه: قوله تعالى: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ [يونس: 15] في جواب:
اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ، أجاب عن التبديل دون الاختراع. قال الزمخشري(1):
لأنّ التبديل في إمكان البشر دون الاختراع. فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال.
و قال غيره: التّبديل أسهل من الاختراع، و قد نفى إمكانه، فالاختراع أولى.
تنبيه: قد يعدل عن الجواب أصلا؛ إذا كان السائل قصده التعنّت، نحو: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ2.
ص: 583
اَلرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85]. قال صاحب «الافصاح»: إنما سأل اليهود تعجيزا و تغليظا، إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان و القرآن و عيسى و جبريل و ملك آخر و صنف من الملائكة، فقصد اليهود أن يسألوه، فبأيّ مسمّى أجابهم قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، و كان هذا الإجمال كيدا يردّ به كيدهم.
قاعدة: قيل: أصل الجواب أن يعاد فيه نفس السؤال: ليكون وفقه، نحو: أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ [يوسف: 90]. ف أَنَا في جوابه هو (أنت) في سؤالهم.
و كذا: أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا [آل عمران: 81] فهذا أصله، ثم إنهم أتوا عوض ذلك بحروف الجواب، اختصارا و تركا للتكرار.
و قد يحذف السؤال ثقة بفهم السامع بتقديره، نحو: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس: 34]؛ فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال و الجواب من واحد، فتعيّن أن يكون قُلِ اللّهُ جواب سؤال، كأنهم سألوا لمّا سمعوا ذلك: فمن يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قاعدة: الأصل في الجواب أن يكون مشاكلا للسؤال: فإن كان جملة اسمية فينبغي أن يكون الجواب كذلك. و يجيء كذلك في الجواب المقدّر؛ إلاّ أنّ ابن مالك قال في قولك:
زيد، في جواب: من قرأ؟ إنه من باب حذف الفعل، على جعل الجواب جملة فعلية. قال:
و إنّما قدّرته كذلك. لا مبتدأ. مع احتماله.. جريا على عادتهم في الأجوبة إذا قصدوا تمامها.
قال تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها [يس: 78-79].
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9].
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4]. فلمّا أتى بالفعلية مع فوات مشاكلة السؤال، علم أن تقدير الفعل أوّلا أولى. انتهى.
قال ابن الزّملكانيّ في «البرهان»: أطلق النحويّون القول بأنّ (زيد) في جواب: من قام؟ فاعل، على تقدير: قام زيد؛ و الذي توجبه صناعة علم البيان: أنه مبتدأ، لوجهين:
أحدهما: أنه يطابق الجملة المسئول بها في الاسمية، كما وقع التطابق في قوله:
وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30]. في الفعلية. و إنما لم يقع التطابق في قوله: ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24]؛ لأنّهم لو طابقوا لكانوا مقرّين بالإنزال؛ و هم من الإذعان به على مفاوز.
الثاني: أن اللّبس لم يقع عند السائل إلاّ فيمن فعل الفعل، فوجب أن يتقدّم الفاعل في المعنى؛ لأنه متعلّق غرض السائل، و أما الفعل فمعلوم عنده؛ و لا حاجة به إلى السؤال عنه، فحريّ أن يقع في الأواخر التي هي محلّ التكملات و الفضلات.
ص: 584
و أشكل على هذا: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] في جواب: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا [الأنبياء: 62]؛ فإنّ السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل، فإنهم لم يستفهموه عن الكسر، بل عن الكاسر، و مع ذلك صدر الجواب بالفعل(1).
و أجيب: بأنّ الجواب مقدّر دلّ عليه السياق، إذ (بل) لا تصلح أن يصدّر بها الكلام، و التقدير: (ما فعلته بل فعله).
قال الشيخ عبد القاهر: حيث كان السؤال ملفوظا به فالأكثر ترك الفعل في الجواب، و الاقتصار على الاسم وحده، و حيث كان مضمرا فالأكثر التصريح به لضعف الدلالة عليه.
و من غير الأكثر: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ * رِجالٌ [النور: 36-37] في قراءة البناء للمفعول(2).
فائدة: أخرج البزّار، عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد. صلّى اللّه عليه و سلّم . ما سألوه إلاّ عن اثنتي عشرة مسألة، كلّها في القرآن(3).
و أورده الإمام الرازي بلفظ: (أربعة عشر حرفا)، و قال: منها ثمانية في البقرة:
وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي [البقرة: 186].
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: 189].
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ [البقرة: 215].
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ [البقرة: 217].
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ [البقرة: 219].
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى [البقرة: 220].
وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219].
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة: 22].
و التاسع: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ [المائدة: 4].3.
ص: 585
و العاشر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ [الأنفال: 1].
و الحادي عشر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها (42) [النازعات: 42].
و الثاني عشر: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: 105].
و الثالث عشر: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85]. و الرابع عشر: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف: 83].
قلت: السائل عن الروح و عن ذي القرنين مشركو مكة و اليهود، كما في أسباب النزول(1)، لا الصحابة، فالخالص اثنا عشر، كما صحّت به الرواية.
فائدة: قال الراغب(2): السؤال إذا كان للتعريف تعدّى إلى المفعول الثاني، تارة بنفسه و تارة ب (عن) و هو أكثر، نحو: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85]. و إذا كان لاستدعاء مال فإنه يعدّى بنفسه أو بمن، و بنفسه أكثر، نحو: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53]. وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10]. وَ سْئَلُوا اللّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32].
* قاعدة في الخطاب بالاسم و الخطاب بالفعل(3):
الاسم يدلّ على الثبوت و الاستمرار، و الفعل يدل على التجدّد و الحدوث، و لا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر:
فمن ذلك قوله تعالى: وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الكهف: 18] قيل: (يبسط) لم يؤد الغرض؛ لأنه يؤذن بمزاولة الكلب البسط، و أنه يتجدد له شيئا بعد شيء، فباسط أشعر بثبوت الصفة.
و قوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: 3].
لو قيل: (رازقكم) لفات ما أفاده الفعل من تجدّد الرزق شيئا بعد شيء، و لهذا جاءت الحال في صورة المضارع، مع أنّ العامل الذي يفيده ماض، نحو: وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) [يوسف: 16]، إذ المراد أن يفيد صورة ما هم عليه وقت المجيء، و أنهم
ص: 586
آخذون في البكاء يجدّدونه شيئا بعد شيء؛ و هو المسمى حكاية الحال الماضية، و هذا هو سرّ الإعراض عن اسم الفاعل و المفعول.
و لهذا أيضا عبّر ب (الذين ينفقون) و لم يقل: (المنفقون)، كما قيل: (المؤمنون، و المتقون)؛ لأنّ النفقة أمر فعليّ، شأنه الانقطاع و التجدّد. بخلاف الإيمان، فإنّ له حقيقة تقوم بالقلب، يدوم مقتضاها، و كذلك التقوى و الإسلام و الصبر و الشكر و الهدى و العمى و الضلالة و البصر؛ كلّها لها مسمّيات حقيقية أو مجازية تستمرّ، و آثار تتجدّد و تنقطع، فجاءت بالاستعمالين.
و قال تعالى في سورة الأنعام: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام:
95]. قال الإمام فخر الدين: لمّا كان الاعتناء بشأن إخراج الحيّ من الميت أشدّ أتى فيه بالمضارع، ليدلّ على التجدّد، كما في قوله: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15].
الأول: المراد بالتجدّد في الماضي الحصول: و في المضارع أنّ من شأنه أن يتكرّر و يقع مرة بعد أخرى. صرّح بذلك جماعة؛ منهم الزمخشري(1) في قوله: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15].
قال الشيخ بهاء الدين السبكيّ: و بهذا يتّضح الجواب عمّا يورد من نحو (علم اللّه كذا) فإنّ علم اللّه لا يتجدد، و كذا سائر الصفات الدائمة التي يستعمل فيها الفعل.
و جوابه: أنّ معنى (علم اللّه كذا) وقع علمه في الزمن الماضي، و لا يلزم أنه لم يكن قبل ذلك، فإنّ العلم في زمن ماض أعمّ من المستمرّ على الدوام قبل ذلك الزمن و بعده و غيره، و لهذا قال تعالى حكاية عن إبراهيم: اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) [الشعراء: 78]، الآيات، فأتى بالماضي في الخلق، لأنّه مفروغ منه، و بالمضارع في الهداية و الإطعام و الإسقاء و الشفاء، لأنها متكرّرة متجدّدة تقع مرة بعد أخرى.
الثاني: مضمر الفعل فيما ذكره كمظهره: و لهذا قالوا: إنّ سلام الخليل أبلغ من سلام الملائكة حيث: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69]، فإنّ نصب سَلاماً إنما يكون على إرادة الفعل، أي: سلمنا سلاما، و هذه العبارة مؤذنة بحدوث التسليم منهم، إذ الفعل متأخّر عن وجود الفاعل. بخلاف سلام إبراهيم؛ فإنه مرتفع بالابتداء، فاقتضى الثبوت على الإطلاق، و هو أولى ممّا يعرض له الثبوت، فكأنه قصد أن يحيّيهم بأحسن مما حيّوه به.
الثالث: ما ذكرناه من دلالة الاسم على الثبوت، و الفعل على التجدّد و الحدوث، هو
ص: 587
المشهور عند أهل البيان: و قد أنكره أبو المطرّف بن عميرة في كتاب «التمويهات» على «التبيان» لابن الزّملكانيّ، و قال: إنه غريب لا مستند له، فإنّ الاسم إنما يدلّ على معناه فقط؛ أما كونه يثبت المعنى للشيء فلا. ثم أورد قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) [المؤمنون: 16.15]. و قوله: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) [المؤمنون: 58.57].
و قال ابن المنيّر: طريقة العربية تلوين الكلام، و مجيء الفعلية تارة و الاسمية أخرى من غير تكلّف لما ذكروه، و قد رأينا الجملة الفعلية تصدر من الأقوياء الخلّص، اعتمادا على أن المقصود حاصل بدون التأكيد، نحو: رَبَّنا آمَنّا [آل عمران: 53]. و لا شيء بعد آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: 285] و قد جاء التأكيد في كلام المنافقين، فقالوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة: 11].
قال ابن عطية: سبيل الواجبات الإتيان بالمصدر مرفوعا، كقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229]. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [البقرة: 178]. و سبيل المندوبات الإتيان به منصوبا، كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4]. و لهذا اختلفوا: هل كانت الوصية للزوجة واجبة؟ لاختلاف القراءة في قوله:
وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ [البقرة: 240]. بالرفع و النصب(1).
قال أبو حيّان: و الأصل في هذه التفرقة في قوله تعالى: فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: 25]، فإنّ الأول مندوب، و الثاني واجب. و النكتة في ذلك: أنّ الجملة الاسمية أثبت و آكد من الفعلية.
* قاعدة في العطف(2):
هو ثلاثة أقسام:
عطف على اللفظ، و هو الأصل، و شرطه إمكان توجّه العامل إلى المعطوف.
و عطف على المحل، و له ثلاثة شروط:
أحدها: إمكان ظهور ذلك المحل في الصحيح، فلا يجوز: مررت بزيد و عمرا، لأنه لا يجوز: مررت زيدا.
الثاني: أن يكون الموضع بحقّ الأصالة، فلا يجوز: هذا الضارب زيدا و أخيه؛ لأنّ الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله لا إضافته.
ص: 588
الثالث: وجود المحرز، أي: الطالب لذلك المحلّ، فلا يجوز: إنّ زيدا و عمرا قاعدان؛ لأنّ الطالب لرفع عمرو هو الابتداء، و هو قد زال بدخول (إن).
و خالف في هذا الشرط الكسائي، مستدلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصّابِئُونَ [المائدة: 69]. الآية.
و أجيب: بأنّ خبر (إنّ) فيها محذوف، أي: مأجورون أو آمنون. و لا تختصّ مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدا. و قد أجاز الفارسيّ في قوله: وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ [هود: 60] أن يكون يوم القيامة عطفا على محلّ هذه.
و عطف التوهم، نحو: (ليس زيد قائما و لا قاعد) بالخفض، على توهّم دخول الباء في الخبر.
و شرط جوازه: صحة دخول ذلك العامل المتوهم، و شرط حسنه كثرة دخوله هناك.
و قد وقع هذا العطف في المجرور في قول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى و لا سابق شيئا إذا كان جائيا
و في المجزوم في قراءة غير أبي عمرو(1): لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ [المنافقون: 10] خرّجه الخليل و سيبويه على أنّه عطف على التوهم؛ لأنّ معنى (لو لا أخّرتني فأصّدّق) و معنى (أخّرني أصّدّق) واحد. و قراءة قنبل(2): (إنه من يتقي و يصبر) [يوسف: 90] خرّجه الفارسي عليه؛ لأنّ (من) الموصولة فيها معنى الشرط.
و في المنصوب في قراءة حمزة و ابن عامر: وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] بفتح الباء(3)، لأنه على معنى: (و وهبنا له إسحاق و من وراء إسحاق يعقوب).
و قال بعضهم في قوله تعالى: وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ [الصافات: 7]: إنه عطف على معنى: إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا [الصافات: 6]. و هو: إنّا خلقنا الكواكب في السماء الدنيا زينة للسماء.
و قال بعضهم في قراءة: ودّوا لو تدهن فيدهنوا [القلم: 9]: إنه على معنى (أن تدهن).
و قيل في قراءة حفص: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ [غافر: 36 - 37]، بالنصب: إنه عطف على معنى (لعلّي أن أبلغ)؛ لأنّ خبر (لعلّ) يقترن بأن كثيرا.2.
ص: 589
و قيل في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ [الروم: 46]. إنه على تقدير: (ليبشركم و يذيقكم).
تنبيه: ظن ابن مالك أنّ المراد بالتوهّم الغلط، و ليس كذلك، كما نبّه عليه أبو حيان و ابن هشام، بل هو مقصد صواب، و المراد: أنه عطف على المعنى، أي: جوّز العربيّ في ذهنه ملاحظة ذلك المعنى في المعطوف عليه، فعطف ملاحظا له، لا أنه غلط في ذلك، و لهذا كان الأدب أن يقال في مثل ذلك في القرآن: إنه عطف على المعنى.
فمنعه البيانيون و ابن مالك و ابن عصفور، و نقله عن الأكثرين، و أجازه الصفّار و جماعة، مستدلّين بقوله تعالى: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا في سورة [البقرة: 25]. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ في سورة الصف [13].
و قال الزمخشريّ (1) في الأولى: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى يطلب له مشاكل، بل المراد عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة ثواب الكافرين.
و في الثانية(2): إنّ العطف على أَ فَتُؤْمِنُونَ لأنه بمعنى (آمنوا).
و ردّ بأن الخطاب به للمؤمنين، و ب (بشّر) للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و بأنّ الظاهر في أَ فَتُؤْمِنُونَ أنه تفسير للتجارة لا طلب.
و قال السكاكيّ: الأمران معطوفان على (قل) مقدّرة قيل (يأيها) و حذف القول كثير.
فالجمهور على الجواز، و بعضهم على المنع.
و قد لهج به الرازي في تفسيره كثيرا، و ردّ به على الحنفيّة القائلين بتحريم أكل متروك التسمية أخذا من قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121].
فقال: هي حجة للجواز لا للتحريم، و ذلك: أنّ الواو ليست عاطفة، لتخالف الجملتين بالاسمية و الفعلية. و لا للاستئناف؛ لأنّ أصل الواو أن تربط ما بعدها بما قبلها. فبقي أن تكون للحال، فتكون جملة مقيّدة للنهي، و المعنى: لا تأكلوا منه في حال كونه فسقا، و مفهومه جواز الأكل إذا لم يكن فسقا، و الفسق قد فسّره اللّه تعالى بقوله: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [الأنعام: 145]. فالمعنى: لا تأكلوا منه إذا سمّي عليه غير اللّه. و مفهومه: فكلوا منه إذا لم يسمّ
ص: 590
عليه غير اللّه تعالى. انتهى.
قال ابن هشام: و لو أبطل العطف بتخالف الجملتين بالإنشاء و الخبر لكان صوابا.
فالمشهور عن سيبويه المنع، و به قال المبرّد و ابن السرّاج و هشام. و جوّزه الأخفش و الكسائي و الفرّاء و الزّجّاج.
و خرّج عليه قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) [الجاثية: 3-5] فيمن نصب آياتٌ الاخيرة(1).
فجمهور البصريّين على المنع، و بعضهم و الكوفيّون على الجواز.
و خرّج عليه قراءة حمزة(2): وَ اتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ [النساء: 1].
و قال أبو حيّان في قوله تعالى: وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 217]: إنّ المسجد معطوف على ضمير بِهِ و إن لم يعد الجار.
قال: و الذي نختاره جواز ذلك، لوروده في كلام العرب كثيرا نظما و نثرا.
قال: و لسنا متعبّدين باتّباع جمهور البصريّين، بل نتبع الدليل.
ص: 591
بسم اللّه الرحمن الرحيم
* النوع الثالث و الأربعون في المحكم و المتشابه(1)
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
و قد حكى ابن حبيب النيسابوريّ في المسألة ثلاثة أقوال(2):
أحدها: أنّ القرآن كلّه محكم، لقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1].
الثاني: كلّه متشابه، لقوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23].
الثالث: و هو الصحيح: انقسامه إلى محكم و متشابه؛ للآية المصدر بها.
و الجواب عن الآيتين: أنّ المراد بإحكامه إتقانه و عدم تطرّق النقض و الاختلاف إليه.
و بتشابهه: كونه يشبه بعضه بعضا في الحقّ و الصّدق و الإعجاز.
و قال بعضهم(3): الآية لا تدلّ على الحصر في الشيئين، إذ ليس فيها شيء من طرقه، و قد قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] و المحكم لا تتوقّف معرفته على البيان، و المتشابه لا يرجى بيانه.
* و قد اختلف في تعيين المحكم و المتشابه على أقوال(4):
فقيل: المحكم ما عرف المراد منه، إمّا بالظهور و إمّا بالتأويل. و المتشابه: ما استأثر اللّه بعلمه، كقيام الساعة، و خروج الدّجّال، و الحروف المقطّعة في أوائل السّور.
ص: 592
و قيل: المحكم ما وضح معناه، و المتشابه نقيضه.
و قيل: المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجها واحدا، و المتشابه ما احتمل أوجها.
و قيل: المحكم ما كان معقول المعنى، و المتشابه: بخلافه، كأعداد الصلوات، و اختصاص الصيام برمضان دون شعبان. قاله المارودي.
و قيل: المحكم ما استقلّ بنفسه، و المتشابه: ما لا يستقل بنفسه إلاّ بردّه إلى غيره.
و قيل: المحكم ما تأويله تنزيله، و المتشابه ما لا يدرك إلاّ بالتأويل.
و قيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، و مقابله المتشابه.
و قيل: المحكم الفرائض و الوعد و الوعيد، و المتشابه: القصص و الأمثال.
أخرج ابن أبي حاتم، عن طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: المحكمات ناسخه، و حلاله، و حرامه، و حدوده، و فرائضه، و ما يؤمن به و يعمل به. و المتشابهات منسوخه، و مقدّمه، و مؤخّره، و أمثاله، و أقسامه، و ما يؤمن به و لا يعمل به(1).
و أخرج الفريابيّ: عن مجاهد قال: المحكمات: ما فيه الحلال و الحرام، و ما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضا(2).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع، قال: المحكمات: هي أوامره الزاجرة(3).
و أخرج عن إسحاق بن سويد: أنّ يحيى بن يعمر و أبا فاختة تراجعا في هذه الآية، فقال أبو فاختة: فواتح السور، و قال يحيى: الفرائض، و الأمر و النهي، و الحلال(4).
و أخرج الحاكم و غيره، عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: فَقُلْ تَعالَوْا [151] و الآيتان بعدها(5).
و أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس، في قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: من هاهنا: فَقُلْ تَعالَوْا إلى ثلاث آيات، و من هاهنا: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ [23] إلى ثلاث آيات بعدها.1.
ص: 593
و أخرج عبد بن حميد، عن الضّحاك، قال: المحكمات ما لم ينسخ منه، و المتشابهات ما قد نسخ(1).
و أخرج ابن أبي حاتم: عن مقاتل بن حيّان، قال: المتشابهات فيما بلغنا: (الم) و (المص) و (المر) و (الر)(2).
قال ابن أبي حاتم: و قد روي عن عكرمة و قتادة و غيرهما: أنّ المحكم الذي يعمل به، و المتشابه الذي يؤمن به و لا يعمل به(3).
* فصل(4)اختلف: هل المتشابه ممّا يمكن الاطلاع على علمه، أو لا يعلمه إلاّ اللّه؟
على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7]. هل هو معطوف و يَقُولُونَ حال؟ أو مبتدأ، خبره يَقُولُونَ و الواو للاستئناف؟.
و على الأول طائفة يسيرة، منهم مجاهد، و هو رواية عن ابن عباس. فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: أنا ممّن يعلم تأويله(5).
و أخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في قوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال: يعلمون تأويله و يقولون: آمنّا به(6).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن الضّحاك، قال: الرّاسخون في العلم يعلمون تأويله، و لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، و لا حلاله من حرامه، و لا محكمه من متشابهه(7).
و اختار هذا القول النوويّ؛ فقال في شرح مسلم: إنه الأصحّ؛ لأنه يبعد أن يخاطب اللّه
ص: 594
عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
و قال ابن الحاجب: إنه الظاهر.
و أما الأكثرون من الصحابة و التابعين و أتباعهم و من بعدهم. خصوصا أهل السنة. فذهبوا إلى الثاني، و هو أصحّ الروايات عن ابن عباس.
قال ابن السّمعانيّ: لم يذهب إلى القول الأوّل إلاّ شرذمة قليلة، و اختاره العتبيّ، قال:
و قد كان يعتقد مذهب أهل السنة؛ لكنه سها في هذه المسألة. قال: و لا غرو، فإنّ لكلّ جواد كبوة، و لكلّ عالم هفوة.
قلت: و يدلّ لصحة مذهب الأكثرين: ما أخرجه عبد الرزّاق في تفسيره، و الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس أنّه كان يقرأ: (و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه و يقول الرّاسخون في العلم آمنّا به»(1).
فهذا يدلّ على أنّ الواو للاستئناف؛ لأنّ هذه الرواية. و إن لم تثبت بها القراءة. فأقل درجاتها أن يكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدّم كلامه في ذلك على من دونه.
و يؤيد ذلك أنّ الآية دلّت على ذمّ متّبعي المتشابه و وصفهم بالزّيغ و ابتغاء الفتنة، و على مدح الذين فوضوا العلم إلى اللّه، و سلموا إليه كما مدح اللّه المؤمنين بالغيب.
و حكى الفرّاء: أنّ في قراءة أبيّ بن كعب أيضا: (و يقول الرّاسخون).
و أخرج ابن أبي داود في «المصاحف» من طريق الأعمش، قال في قراءة ابن مسعود:
(و إن [حقيقة] تأويله إلاّ عند اللّه و الرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به)(2).
و أخرج الشيخان و غيرهما، عن عائشة، قالت: تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ [آل عمران: 7].
قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «فإذا رأيت الذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى اللّه فاحذرهم»(3).
و أخرج الطّبرانيّ في الكبير، عن أبي مالك الأشعريّ: أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول:1.
ص: 595
«لا أخاف على أمّتي إلاّ ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، و أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه». الحديث(1).
و أخرج ابن مردويه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به، و ما تشابه فآمنوا به»(2).
و أخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، و نزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، و آمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه، و أمثال، فأحلّوا حلاله، و حرّموا حرامه، و افعلوا ما أمرتم به، و انتهوا عمّا نهيتم عنه، و اعتبروا بأمثاله، و اعملوا بمحكمه، و آمنوا بمتشابهه، و قولوا: آمنّا به كل من عند ربنا»(3).
و أخرج البيهقيّ في الشعب نحوه، من حديث أبي هريرة(4).2.
ص: 596
و أخرج ابن جرير، عن ابن عباس(1) مرفوعا: «أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال و حرام لا يعذر أحد بجهالته، و تفسير تفسره العرب، و تفسير تفسّره العلماء، و متشابه لا يعلمه إلاّ اللّه، و من ادّعى علمه سوى اللّه فهو كاذب»(2). ثم أخرجه عن وجه آخر عن ابن عباس موقوفا بنحوه(3).
و أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفيّ، عن ابن عباس، قال: نؤمن بالمحكم و ندين به، و نؤمن بالمتشابه و لا ندين به، و هو من عند اللّه كلّه(4).
و أخرج. أيضا. عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه و لا يعلمونه(5).
و أخرج. أيضا. عن أبي الشعثاء و أبي نهيك، قال: إنّكم تصلون هذه الآية و هي مقطوعة.
و أخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار: أنّ رجلا يقال له: صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، و قد أعدّ عمر عرجونا من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه.
و في رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا. فأذن له إلى أرضه، و كتب إلى أبي موسى الأشعري ألاّ يجالسه أحد من المسلمين(6).ا.
ص: 597
و أخرج الدارميّ، عن عمر بن الخطاب، قال: إنّه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسّنن، فإنّ أصحاب السنن أعلم بكتاب اللّه(1).
فهذه الأحاديث و الآثار تدلّ على أنّ المتشابه مما لا يعلمه إلاّ اللّه، و أنّ الخوض فيه مذموم، و سيأتي قريبا زيادة على ذلك.
قال الطّيبيّ: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، و المتشابه بخلافه؛ لأنّ اللفظ الذي يقبل معنى: إمّا أن يحتمل غيره أو لا، و الثاني النّص، و الأول: إما أن تكون دلالته على ذلك الغير أرجح أو لا، و الأول هو الظاهر، و الثاني: إما أن يكون مساويه أو لا، و الأوّل هو المجمل، و الثاني المؤوّل. فالمشترك: بين النّص و الظاهر هو المحكم، و المشترك بين المجمل و المؤوّل هو المتشابه.
و يؤيد هذا التقسيم: أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه، قالوا: فالواجب أن يفسّر المحكم بما يقابله. و يعضد ذلك أسلوب الآية، و هو الجمع مع التقسيم؛ لأنه تعالى فرّق ما جمع في معنى الكتاب، بأن قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، و أراد أن يضيف إلى كلّ منهما ما شاء، فقال أولا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إلى أن قال:
وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ ، و كان يمكن أن يقال: (و أما الذين في قلوبهم استقامة، فيتبعون المحكم) لكنه وضع موضع ذلك وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لإتيان لفظ الرسوخ؛ لأنه لا يحصل إلاّ بعد التثبّت العام و الاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طرق الإرشاد، و رسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق، و كفى بدعاء الراسخين في العلم رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا [آل عمران: 8]. إلى آخره... شاهدا على أنّ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مقابل لقوله:
فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ . و فيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: إِلاَّ اللّهُ تام، و إلى أن علم بعض المتشابه مختصّ باللّه تعالى، و أنّ من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث، بقوله: «فاحذروهم»(2).
و قال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيّة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم:
إذا صنّف كتابا أجمل فيه أحيانا؛ ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، و كالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.1.
ص: 598
و قيل: لو لم يبتل العقل. الذي هو أشرف البدن. لاستمرّ العالم في أبّهة العلم على التمرّد، فبذلك يستأنس إلى التذلّل بعز العبودية، و المتشابه هو موضع خضوع العقول لبارئها استسلاما و اعترافا بقصورها.
و في ختم الآية بقوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ تعريض بالزائغين، و مدح للرّاسخين، يعني: من لم يتذكّر و يتّعظ و يخالف هواه، فليس من أولي العقول، و من ثمّ قال الراسخون: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللّدنّيّ، بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفسانيّ.
و قال الخطابيّ (1): المتشابه على ضربين: أحدهما: ما إذ ردّ إلى المحكم و اعتبر به عرف معناه، و الآخر: ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، و هو الذي يتّبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله، و لا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتتنون.
و قال ابن الحصّار: قسّم اللّه آيات القرآن إلى محكم و متشابه، و أخبر عن المحكمات أنها أمّ الكتاب؛ لأنّ إليها تردّ المتشابهات، و هي التي تعتمد في فهم مراد اللّه من خلقه في كلّ ما تعبّدهم به من معرفته، و تصديق رسله، و امتثال أوامره و اجتناب نواهيه، بهذا الاعتبار كانت أمّهات. ثم أخبر عن الّذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتّبعون ما تشابه منه؛ و معنى ذلك:
أنّ من لم يكن على يقين من المحكمات، و في قلبه شكّ و استرابة، كانت راحته في تتّبع المشكلات المتشابهات، و مراد الشارع منها التقدّم إلى فهم المحكمات، و تقديم الأمّهات؛ حتى إذا حصل اليقين و رسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك. و مراد هذا الذي في قلبه زيغ التقدّم إلى المشكلات، و فهم المتشابه قبل فهم الأمّهات، و هو عكس المعقول و المعتاد و المشروع، و مثل هؤلاء مثل المشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءوا بها، و يظنّون أنّهم لو جاءتهم آيات أخر لآمنوا عندها، جهلا منهم، و ما علموا أنّ الإيمان بإذن اللّه تعالى. انتهى.
و قال الراغب في «مفردات القرآن»(2): الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب:
محكم على الإطلاق، و متشابه على الإطلاق، و محكم من وجه متشابه من وجه.
فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط، و من جهة المعنى فقط، و من جهتهما.
فالأول: ضربان:5.
ص: 599
أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة؛ إما من جهة الغرابة نحو (الأبّ) و يَزِفُّونَ [الصافات: 94]. أو الاشتراك كاليد و اليمين.
و ثانيهما: يرجع إلى جملة الكلام المركّب؛ و ذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام، نحو وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3].
و ضرب لبسطه، نحو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [الشورى: 11]. لأنه لو قيل: (ليس مثله شيء) كان أظهر للسامع.
و ضرب لنظم الكلام، نحو: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً [الكهف: 2.1]، تقديره: (أنزل على عبده الكتاب قيّما و لم يجعل له عوجا).
و المتشابه من جهة المعنى: أوصاف اللّه تعالى و أوصاف القيامة؛ فإنّ تلك الأوصاف لا تتصوّر لنا، إذا كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه، أو ليس من جنسه.
الأول: من جهة الكمية، كالعموم و الخصوص، نحو فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5].
و الثاني: من جهة الكيفية، كالوجوب و الندب، نحو: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3].
و الثالث: من جهة الزّمان، كالناسخ و المنسوخ، نحو اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران:
102].
و الرابع: من جهة المكان و الأمور التي نزلت فيها، نحو: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189]. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37]؛ فإنّ من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذّر عليه تفسير هذه الآية.
الخامس: من جهة الشّروط، التي يصحّ بها الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة و النكاح.
قال: و هذه الجملة إذا تصوّرت، علم أنّ كلّ ما ذكره المفسّرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم.
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، و خروج الدابّة، و نحو ذلك.
و ضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة و الأحكام الفلقة.
و ضرب متردّد بين الأمرين، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم و يخفى على من
ص: 600
دونهم، و هو المشار إليه بقوله صلّى اللّه عليه و سلّم لابن عباس: «اللهم فقّهه في الدين و علّمه التأويل»(1).
و إذا عرفت هذه الجهة عرفت أنّ الوقف على قوله: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ و وصله بقوله: وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ جائز، و أنّ لكلّ واحد منهما وجها حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. انتهى.
و قال الإمام فخر الدين: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بدّ فيه من دليل منفصل، و هو إمّا لفظيّ أو عقليّ:
و الأول: لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية؛ لأنه لا يكون قاطعا؛ لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة المعروفة، و انتفاؤها مظنون، و الموقوف على المظنون مظنون، و الظنّي لا يكتفى به في الأصول.
و أمّا العقليّ: فإنّما يفيد صرف اللفظ من ظاهره لكون الظاهر محالا، و أمّا إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل؛ لأنّ طريق ذلك ترجيح مجاز على مجاز، و تأويل على تأويل، و ذلك الترجيح لا يمكن إلاّ بالدليل اللفظي، و الدليل اللفظيّ في الترجيح ضعيف لا يفيد إلاّ الظّن، و الظن لا يعوّل عليه في المسائل الأصولية القطعية(2)؛ فلهذا اختار الأئمة المحقّقون من السّلف و الخلف. بعد إقامة الدليل القاطع على أنّ حمل اللفظ على ظاهره محال. ترك الخوض في تعيين التأويل. انتهى.
و حسبك بهذا الكلام من الإمام.
* فصل(3)من المتشابه آيات الصّفات،
و لابن اللّبّان فيها تصنيف مفرد، نحو: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
ص: 601
اِسْتَوى (5) [طه: 5]. كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص: 88]. وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]. وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39]. يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10].
وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67].
و جمهور أهل السنة. منهم السلف و أهل الحديث. على الإيمان بها، و تفويض معناها المراد منها إلى اللّه تعالى، و لا نفسّرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها(1).
أخرج أبو القاسم اللاّلكائيّ في «السنة»(2) عن طريق قرة بن خالد، عن الحسن، عن أمّه، عن أم سلمة في قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) قالت: الكيف غير3.
ص: 602
معقول، و الاستواء غير مجهول، و الإقرار به من الإيمان، و الجحود به كفر.
و أخرج. أيضا. عن ربيعة بن عبد الرحمن، أنه سئل عن قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (1) . فقال: الاستواء غير مجهول، و الكيف غير معقول؛ و من اللّه الرسالة، و على الرسول البلاغ المبين، و علينا التصديق(2).
و أخرج. أيضا. عن مالك: أنه سئل عن الآية؟ فقال: الكيف غير معقول، و الاستواء غير مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة(3).
و أخرج البيهقيّ عنه أنه قال: هو كما وصف نفسه، و لا يقال: كيف، و كيف عنه مرفوع(4).
و أخرج اللاّلكائيّ عن محمد بن الحسن، قال: اتفق الفقهاء كلّهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير و لا تشبيه(5).
و قال التّرمذيّ(5) في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة. مثل سفيان الثوري، و مالك، و ابن المبارك، و ابن عيينة، و وكيع و غيرهم. أنهم قالوا:
نروي هذه الأحاديث كما جاءت، و نؤمن بها. و لا يقال: كيف، و لا نفسّر و لا نتوهّم.
و ذهبت طائفة من أهل السّنّة: على أنّنا نؤوّلها على ما يليق بجلاله تعالى؛ و هذا مذهب الخلف(6). و كان إمام الحرمين يذهب إليه، ثم رجع عنه، فقال في الرسالة النظامية: الّذي نرتضيه دينا و ندين اللّه به عقدا، اتباع سلف الأمة، فإنّهم درجوا على ترك التعرّض لمعانيها(7).ة.
ص: 603
و قال ابن الصّلاح(1). على هذه الطريقة مضى صدر الأمّة و ساداتها، و إياها اختار أئمّة الفقهاء و قاداتها، و إليها دعا أئمّة الحديث و أعلامه، و لا أحد من المتكلّمين من أصحابنا يصدف عنها و يأباها.
و اختار ابن برهان(2) مذهب التأويل، قال: و منشأ الخلاف بين الفريقين: هل يجوز أن يكون في القرآن شيء لم نعلم معناه، أولا، بل يعلمه الراسخون في العلم؟ و توسّط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، أو بعيدا توقّفنا عنه، و آمنّا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه، قال: و ما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقيف، كما في قوله تعالى:
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ [الزمر: 56] فنحمله على حق اللّه و ما يجب له.
* ذكر ما وقفت عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة(3):
من ذلك صفة (الاستواء) و حاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة(4):
أحدها: حكى مقاتل و الكلبيّ، عن ابن عباس: أن (استوى) بمعنى استقرّ، و هذا إن صحّ يحتاج إلى تأويل، فإنّ الاستقرار يشعر بالتجسيم.
ثانيها: أنّ (استوى) بمعنى (استولى). و ردّ بوجهين(5):
أحدهما: أنّ اللّه تعالى مستول على الكونين و الجنة و النار و أهلها، فأيّ فائدة في تخصيص العرش؟ و الآخر: أنّ الاستيلاء إنما يكون بعد قهر و غلبة، و اللّه سبحانه و تعالى منزه عن ذلك.
أخرج اللالكائيّ في «السنّة»، عن ابن الأعرابي: أنّه سئل عن معنى (استوى) فقال: هو على عرشه كما أخبر.
فقيل: يا أبا عبد اللّه، معناه (استولى)؟
ص: 604
قال: اسكت، لا يقال: استولى على الشيء؛ إلاّ إذا كان له مضادّ، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى(1).
ثالثها: أنّه بمعنى صعد، قاله أبو عبيد، و ردّ بأنه تعالى منزّه عن الصّعود أيضا.
رابعها: أنّ التقدير: (الرحمن علا) أي: ارتفع، من العلوّ، و العرش له استوى. حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره. و ردّ بوجهين:
أحدهما: أنه جعل (على) فعلا، و هي حرف هنا باتفاق، فلو كانت فعلا لكتبت بالألف، كقوله: عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4].
و الآخر: أنه رفع (العرش) و لم يرفعه أحد من القرّاء.
خامسها: أنّ الكلام تم عند قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ ثم ابتدأ بقوله: اِسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ [طه: 6.5]. و ردّ: بأنه يزيل الآية عن نظمها و مرادها.
قلت: و لا يتأتى له في قوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54].
سادسها: أنّ معنى (استوى): أقبل على خلق العرش و عمد إلى خلقه، كقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] أي: قصد و عمد إلى خلقها. قاله الفرّاء و الأشعري و جماعة أهل المعاني. و قال إسماعيل الضرير: إنّه الصّواب.
قلت: يبعده تعديته بعلى، و لو كان كما ذكروه لتعدّى بإلى، كما في قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ .
سابعها: قال ابن اللبان: الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل، أي: قام بالعدل، كقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18]. و العدل هو استواؤه، و يرجع معناه إلى أنه:
أعطى بعزّته كلّ شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة(2).
و من ذلك: (النفس)(3) في قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ5.
ص: 605
[المائدة: 116]. و وجّه بأنه خرّج على سبيل المشاكلة مرادا به الغيب؛ لأنه مستتر كالنفس.
و قوله: وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] أي: عقوبته. و قيل: إيّاه.
و قال السّهيليّ: النّفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد، و قد استعمل من لفظة النفاسة و الشيء النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه و تعالى.
و قال ابن اللّبان: أوّلها العلماء بتأويلات:
و منها: أن النفس عبّر بها عن الذّات، قال: و هذا و إن كان سائغا في اللّغة، و لكن تعدّي الفعل إليها بفي المفيدة للظرفية محال عليه تعالى.
و قد أوّلها بعضهم بالغيب، أي: و لا أعلم ما في غيبك و سرّك، قال: و هذا حسن، لقوله في آخر الآية: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ .
و من ذلك: (الوجه)(1) و هو مؤوّل بالذات: و قال ابن اللّبان في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52]. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ [الإنسان: 9]. إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) [الليل:
20]. المراد إخلاص النيّة.
و قال غيره في قوله: فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [البقرة: 115] أي: الجهة التي أمر بالتوجّه إليها.
و من ذلك: (العين)(2) و هي مؤوّلة بالبصر أو الإدراك، بل قال بعضهم: إنّها حقيقة في ذلك، خلافا لتوهّم بعض الناس أنها مجاز، و إنما المجاز في تسمية العضو بها.
و قال ابن اللبّان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة، التي بها سبحانه ينظر للمؤمنين، و بها ينظرون إليه، قال تعالى: فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً [النمل: 13]. نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقا؛ لأنها المرادة بالعين المنسوبة إليه. و قال: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها [الأنعام: 104]. قال: فقوله: وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] أي: بآياتنا تنظر بها إلينا، و ننظر بها إليك.3.
ص: 606
قال: و يؤيّد انّ المراد بالأعين هنا الآيات كونه علّل بها الصبر لحكم ربّه صريحا في قوله: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) [الإنسان: 24.23].
قال: و قوله في سفينة نوح: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: 14] أي: بآياتنا، بدليل: وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مَجْراها وَ مُرْساها [هود: 41]. و قال: وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39] أي: على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمّك: أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] الآية. انتهى.
و قال غيره: المراد في الآيات كلاءته تعالى و حفظه.
و من ذلك: (اليد)(1) في قوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]. يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10]. مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71]. وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ [الحديد: 29]. و هي مؤولة بالقدرة.
و قال السهيليّ (2): اليد في الأصل. كالبصر. عبارة عن صفة لموصوف، و لذلك مدح سبحانه و تعالى بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ [ص: 45].
و لم يمدحهم بالجوارح؛ لأنّ المدح إنّما يتعلق بالصفات لا بالجواهر، قال: و لهذا قال الأشعريّ: إنّ اليد صفة ورد بها الشرع. و الذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلاّ أنها أخصّ و القدرة أعمّ، كالمحبّة مع الإرادة و المشيئة؛ فإنّ في اليد تشريفا لازما.
و قال البغوي(3) في قوله: بِيَدَيَّ : في تحقيق اللّه التثنية في اليد دليل على أنّها2.
ص: 607
ليست بمعنى القدرة و القوة و النعمة، و إنما هما صفتان من صفات ذاته.
و قال مجاهد: اليد هاهنا صلة و تأكيد، كقوله: وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27].
قال البغويّ: و هذا تأويل غير قويّ، لأنّها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، و كذلك في القدرة و النعمة، لا يكون لآدم في الخلق مزيّة على إبليس.
و قال ابن اللبّان: فإن قلت: فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت: اللّه أعلم بما أراد؛ و لكن الذي استثمرته من تدبّر كتابه: أنّ (اليدين) استعارة لنور قدرته القائم بصفة فضله، و لنورها القائم بصفة عدله. و نبّه على تخصيص آدم و تكريمه بأنّ جمع له في خلقه بين فضله و عدله. قال: و صاحبة الفضل هي اليمين، التي ذكرها في قوله:
وَ السَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]. سبحانه و تعالى.
و من ذلك: (الساق)(1) في قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42]، و معناه: عن شدّة و أمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
أخرج الحاكم في المستدرك(2): من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أنه سئل عن قوله:
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنّه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
اصبر عناق إنّه شرّ باق قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق
و قامت الحرب بنا على ساق قال ابن عباس: هذا يوم كرب و شدة.
و من ذلك: (الجنب) في قوله تعالى: عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ [الزمر: 56] أي: في طاعته و حقّه؛ لأنّ التفريط إنما يقع في ذلك، و لا يقع في الجنب المعهود.
و من ذلك: صفة (القرب) في قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186]. وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] أي: بالعلم.
و من ذلك: صفة (الفوقية)(3) في قوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18].ا.
ص: 608
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]. و المراد بها العلوّ من غير جهة، و قد قال فرعون:
وَ إِنّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ [الأعراف: 127] و لا شك أنه لم يرد العلوّ المكانيّ.
و من ذلك: صفة (المجيء)(1) في قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]. أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] أي: أمره؛ لأنّ الملك إنما يأتي بأمره أو بتسليطه، كما قال تعالى: وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27] فصار كما لو صرّح به.
و كذا قوله: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] أي: اذهب بربك، أي:
بتوفيقه و قوته.
و من ذلك: صفة (الحبّ)(2) في قوله: يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ [المائدة: 54]. فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [آل عمران: 31].
و صفة (الغضب)(2) في قوله: وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6].
و صفة (الرضا)(2) في قوله: رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ [المائدة: 119].
و صفة (العجب)(2) في قوله: (بل عجبت)(3) [الصافات: 12]. بضم التاء، و قوله: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5].
و صفة (الرحمة) في آيات كثيرة.
و قد قال العلماء: كلّ صفة يستحيل حقيقتها على اللّه تعالى تفسّر بلازمها.
قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية. أعني: الرحمة و الفرح، و السّرور و الغضب و الحياء و المكر و الاستهزاء. لها أوائل و لها غايات، مثاله: الغضب، فإنّ أوّله غليان دم القلب، و غايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حقّ اللّه لا يحمل على أوّله الذي هو غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار. و كذلك:
الحياء، له أول و هو انكسار يحصل في النفس، و له غرض و هو ترك الفعل، فلفظ الحياء في حقّ اللّه يحمل على ترك الفعل لا على انكسار النفس(4). انتهى. -
ص: 609
و قال الحسين بن الفضل: العجب من اللّه إنكار الشيء و تعظيمه. و سئل الجنيد عن قوله: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5]. فقال: إنّ اللّه لا يعجب من شيء، و لكن اللّه وافق رسوله، فقال: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي: هو كما تقول.
و من ذلك: لفظة (عند) في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206]. و مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52]، و معناهما الإشارة إلى التمكين و الزلفى و الرفعة.
و من ذلك: قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] أي: بعلمه، و قوله: وَ هُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام: 3].
قال البيهقيّ (1): الأصحّ أنّ معناه أنه المعبود في السموات و في الأرض، مثل قوله:
وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84].
و قال الأشعريّ: الظرف متعلّق ب يَعْلَمُ أي: عالم بما في السموات و الأرض.
و من ذلك: قوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) [الرحمن: 31] أي: سنقصد لجزائكم.
تنبيه: قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) ؛ لأنه فسّره بعده بقوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ [البروج: 13.12] تنبيها على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه و إعادته، و جميع تصرفاته في مخلوقاته.2.
ص: 610
* فصل و من المتشابه أوائل السور(1)
و المختار فيها. أيضا. أنّها من الأسرار التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.
أخرج ابن المنذر و غيره، عن الشّعبي: أنه سئل عن فواتح السّور، فقال: إنّ لكلّ كتاب سرا، و إنّ سرّ هذا القرآن فواتح السور(2).
و خاض في معناها آخرون(3)، فأخرج ابن أبي حاتم و غيره، من طريق أبي الضّحى، عن ابن عباس، في قوله: الم * قال: أنا اللّه أعلم، و في قوله: المص قال: أنا اللّه أفصل، و في قوله: الر : أنا اللّه أرى(4).
و أخرج من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: الم (1) * و حم * و ن قال: اسم مقطع(5).
و أخرج من طريق عكرمة، عن ابن عباس، قال: الر * و حم * و ن حروف الرحمن مفرّقة(6).
و أخرج أبو الشيخ: عن محمد بن كعب القرظيّ قال: الر * من الرحمن.
و أخرج عنه. أيضا. قال: المص : الألف من اللّه، و الميم من الرحمن، و الصاد من الصمد.
و أخرج. أيضا. عن الضحاك، في قوله: المص قال: أنا اللّه الصادق.
و قيل: المص معناه: المصوّر.
و قيل: الر * معناه: أنا اللّه أعلم و أرفع، حكاهما الكرماني في غرائبه.
ص: 611
و أخرج الحاكم و غيره، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس في كهيعص قال:
الكاف من كريم، و الهاء من هاد، و الياء من حكيم، و العين من عليم، و الصاد من صادق(1).
و أخرج الحاكم. أيضا. من وجه آخر: عن سعيد، عن ابن عباس، في قوله:
كهيعص قال: كاف هاد أمين عزيز صادق(2).
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدّي: عن أبي مالك، و عن أبي صالح، عن ابن عباس، و عن مرّة عن ابن مسعود و ناس من الصّحابة في قوله: كهيعص قال: هو هجاء مقطّع: الكاف من الملك، و الهاء من اللّه، و الياء و العين من العزيز، و الصاد من المصوّر(3).
و أخرج عن محمد بن كعب مثله، إلاّ أنه قال: و الصاد من الصّمد(4).
و أخرج سعيد بن منصور و ابن مردويه، من وجه آخر، عن سعيد، عن ابن عباس، في قوله: كهيعص قال: كبير، هاد، أمين، عزيز، صادق(5).
و أخرج ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله:
كهيعص قال: الكاف الكافي، و الهاء الهادي، و العين العالم، و الصاد الصادق(6).
و أخرج من طريق يوسف بن عطية، قال: سئل الكلبي عن كهيعص فحدّث عن أبي صالح، عن أم هانئ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قال: «كاف، هاد، أمين، عالم، صادق»(7).
و أخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، في قوله: كهيعص قال: يقول: أنا الكبير، الهادي، عليّ، أمين، صادق(8).4.
ص: 612
و أخرج عن محمد بن كعب، في قوله: طه قال: الطاء من ذِي الطَّوْلِ [غافر:
3](1).
و أخرج عنه. أيضا. في قوله: طسم (1) * قال: الطّاء من ذِي الطَّوْلِ و السّين من القدّوس، و الميم من الرّحمن(2).
و أخرج عن سعيد بن جبير، في قوله: حم * قال: حاء اشتقّت من الرحمن، و ميم اشتقّت من الرحيم.
و أخرج عن محمد بن كعب، في قوله: حم عسق [الشورى: 2.1] قال: الحاء و الميم من الرّحمن، و العين من العليم، و السّين من القدوس، و القاف من القاهر.
و أخرج عن مجاهد، قال: فواتح السّور كلّها هجاء مقطّع(3).
و أخرج عن سالم بن عبد اللّه، قال: الر * و حم * و ن و نحوها اسم اللّه مقطعة(4).
و أخرج عن السّدّيّ، قال: فواتح السّور أسماء من أسماء الرّب جلّ جلاله، فرقت في القرآن.
و حكى الكرمانيّ في قوله: ق إنه حرف من اسمه قادر و قاهر.
و حكى غيره في قوله: ن إنه مفتاح اسمه تعالى: نور و ناصر.
و هذه الأقوال كلها راجعة إلى قول واحد، و هو أنها: حروف مقطعة، كلّ حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى.
و الاكتفاء ببعض الكلمة معهود في العربية، قال الشاعر:
قلت لها قفي فقالت قاف أي: وقفت. و قال:
بالخير خيرات و إن شرّا فا و لا أريد الشرّ إلاّ أن تا
أراد: و إن شرا فشر و إلاّ أن تشاء. و قال:
ناداهم ألا الجموا أ لا تا قالوا جميعا كلهم ألا فان.
ص: 613
أراد: أ لا تركبون، ألا فاركبوا.
و هذا القول اختاره الزجّاج، و قال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدلّ به على الكلمة التي هو منها.
و قيل: إنها الاسم الأعظم: إلاّ أنا لا نعرف تأليفه منها. كذا نقله ابن عطية(1).
و أخرج ابن جرير. بسند صحيح.، عن ابن مسعود، قال: هو اسم اللّه الأعظم(2).
و أخرج ابن أبي حاتم، من طريق السّدّي: أنه بلغه عن ابن عباس، قال: الم * اسم من أسماء اللّه تعالى الأعظم(3).
و أخرج ابن جرير و غيره، من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: الم * و طسم * و ص و أشباهها قسم أقسم اللّه به، و هو من أسماء اللّه(4).
و هذا يصلح أن يكون قولا ثالثا، أي: أنها برمّتها أسماء للّه. و يصلح أن يكون من القول الأول و من الثاني. و على الأول مشى ابن عطية(5) و غيره.
و يؤيّده ما أخرجه ابن ماجة في تفسيره، من طريق نافع: عن أبي نعيم القارئ، عن فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب: أنّها سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: يا كهيعص اغفر لي(6).
و ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس، في قوله: كهيعص قال: يا من يجير و لا يجار عليه(7).
و أخرج عن أشهب، قال: سألت مالك بن أنس: أ ينبغي لأحد أن يتسمّى ب يس ؟.
فقال: ما أراه ينبغي، لقول اللّه: يس * وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 2.1]، يقول: هذا اسم تسمّيت به(8).5.
ص: 614
و قيل: هي أسماء للقرآن: كالفرقان و الذكر، أخرجه عبد الرزاق، عن قتادة(1). و أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ: كلّ هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن(2).
و قيل: هي أسماء للسور: نقله الماوردي و غيره عن زيد بن أسلم، و نسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر(3).
و قيل: هي فواتح للسّور: كما يقولون في أوّل القصائد (بل) و (لا بل).
أخرج ابن جرير، من طريق الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الم * و حم * و المص و ص و نحوها فواتح افتتح اللّه بها القرآن(4).
و أخرج أبو الشيخ، من طريق ابن جريج قال: قال مجاهد: الم * و المر فواتح افتتح اللّه بها القرآن.
قلت: أ لم يكن يقول: هذه هي أسماء؟ قال: لا(5).
و قيل: هذا حساب أبي جاد: لتدلّ على مدّة هذه الأمة.
و أخرج ابن إسحاق(6)، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد اللّه بن رياب قال: مرّ ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و هو يتلو فاتحة سورة البقرة: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، فأتى أخاه حييّ بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون و اللّه لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ . قال: أنت سمعته؟ قال: نعم. فمشى حيّي في أولئك النّفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: أ لم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك: الم (1) ذلِكَ ؟ فقال: «بلى». فقالوا: لقد بعث اللّه قبلك أنبياء ما نعلمه بيّن لنبي مامدة ملكه، و ما أجل أمته غيرك، الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون؛ فهذه إحدى و سبعون سنة، أ فندخل في دين نبي إنّما مدة ملكه و أجل أمّته إحدى و سبعون سنة؟! ثم قال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم:ب.
ص: 615
المص ». قال: هذه أثقل و أطول، الألف واحدة، و اللام ثلاثون؛ و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فهذه إحدى و ستون و مائة سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم؛ الر . قال: هذه أثقل و أطول؛ الألف واحدة، و اللام ثلاثون، و الراء مائتان، هذه إحدى و ثلاثون و مائتا سنة.
هل مع هذا غيره؟ قال: «نعم: المر ».
قال: هذه أثقل و أطول، هذه إحدى و سبعون و مائتان، ثم قال: لقد لبّس علينا أمرك حتى ما ندري أ قليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه و من معه:
ما يدريكم لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمد، إحدى و سبعون، و إحدى و ستون و مائة، و إحدى و ثلاثون و مائتان، و إحدى و سبعون و مائتان، فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون سنة. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7].
و أخرجه ابن جرير من هذا الطّريق، و ابن المنذر من وجه آخر، عن ابن جريج معضلا.
و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم(1): عن أبي العالية في قوله: الم (1) : قال: هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة و العشرين، دارت بها الألسن، ليس منها حرف إلاّ و هو مفتاح اسم من أسمائه تعالى، و ليس منها حرف إلاّ و هو من آلائه و بلائه، و ليس منها حرف إلاّ و هو في مدة أقوام و آجالهم، فالألف مفتاح اسمه: اللّه، و اللام مفتاح اسمه: لطيف، و الميم مفتاح اسمه: مجيد. فالألف آلاء اللّه، و اللام لطف اللّه، و الميم مجد اللّه، فالألف ستة و اللام ثلاثون و الميم أربعون.
قال الخوييّ: و قد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) [الروم: 2.1] أنّ البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة ثلاثة و ثمانين و خمسمائة، و وقع كما قاله.
و قال السهيليّ: لعلّ عدد الحروف التي في أوائل السّور. مع حذف المكرّر. للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمّة.
قال ابن حجر: و هذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس. رضي اللّه عنه.
الزّجر عن عدّ أبي جاد. و الإشارة إلى أن ذلك من جملة السّحر، و ليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة، و قد قال القاضي أبو بكر بن العربيّ في فوائد رحلته: و من الباطل علم الحروف المقطّعة في أوائل السّور.ب.
ص: 616
و قد تحصّل لي فيها عشرون قولا و أزيد، و لا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم و لا يصل منها إلى فهم.
و الذي أقوله: إنه لو لا أنّ العرب كانوا يعرفون أنّ لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أوّل من أنكر ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، بل تلا عليهم حم فصّلت و ص و غيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرّحوا بالتسليم له في البلاغة و الفصاحة، مع تشوّفهم إلى عثرة و حرصهم على زلّة، فدلّ على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه. انتهى.
و قيل: هي تنبيهات كما في النداء: عدّه ابن عطية(1) مغايرا للقول بأنّها فواتح، و الظاهر أنه بمعناه.
قال أبو عبيدة(2): الم * افتتاح كلام.
قال الخويّي: القول بأنّها تنبيهات جيّد؛ لأنّ القرآن كلام عزيز و فوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبّه، فكان من الجائز أن يكون اللّه قد علم في بعض الأوقات كون النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم في عالم البشر مشغولا، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: الم * و الر * و حم ، ليسمع النبيّ صوت جبريل فيقبل عليه، و يصغي إليه. قال: و إنما لم تستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه ك «ألا» و «أما»؛ لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، و القرآن، كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد، لتكون أبلغ في قرع سمعه. انتهى.
و قيل: إنّ العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل اللّه هذا النظم البديع ليعجبوا منه، و يكون تعجّبهم منه سببا لاستماعهم، و استماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب، و تلين الأفئدة.
و عدّ هذا جماعة قولا مستقلا، و الظاهر خلافه، و إنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال، لا قولا في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى.
و قيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدلّ على أن القرآن مؤلّف من الحروف التي هي. أ، ب، ت، ث... فجاء بعضها مقطّعا، و جاء تمامها مؤلفا، ليدلّ القوم الّذين نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها، فيكون ذلك تقريعا لهم، و دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفونها، و يبنون كلامهم منها.
و قيل: المقصود بها الإعلام بالحروف التي يتركّب منها الكلام: فذكر منها أربعة عشر حرفا، و هي نصف جميع الحروف، و ذكر من كلّ جنس نصفه:1.
ص: 617
فمن حروف الحلق: الحاء، و العين، و الهاء. و من التي فوقها القاف، و الكاف.
و من الحرفين الشفهيّين: الميم.
و من المهموسة: السين، و الحاء، و الكاف، و الصاد، و الهاء.
و من الشديدة: الهمزة، و الطاء، و القاف، و الكاف.
و من المطبقة: الطاء، و الصاد.
و من المجهورة: الهمزة، و الميم، و اللام، و العين، و الراء، و الطاء، و القاف، و الياء و النون.
و من المنفتحة: الهمزة، و الميم، و الراء، و الكاف، و الهاء، و العين، و السين، و الحاء، و القاف، و الياء، و النون.
و من المستعلية: القاف، و الصاد، و الطاء.
و من المنخفضة: الهمزة، و اللام، و الميم، و الراء، و الكاف، و الهاء، و الياء، و العين، و السين، و الحاء، و النون.
و من القلقلة: القاف، و الطاء.
ثم إنّه تعالى ذكر حروفا مفردة، حرفين حرفين، و ثلاثة ثلاثة، و أربعة، و خمسة؛ لأنّ تراكيب الكلام على هذا النّمط، و لا زيادة على الخمسة.
و قيل: هي أمارة جعلها اللّه لأهل الكتاب: أنه سينزل على محمد كتابا في أول سور منه حروف مقطعة:
هذا ما وقفت عليه من الأقوال في أوائل السّور من حيث الجملة، و في بعضها أقوال أخر؛ فقيل: إنّ طه و يس بمعنى: يا رجل، أو: يا محمد، أو: يا إنسان، و قد تقدّم في المعرب(1).
و قيل: هما اسمان من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم.
قال الكرماني في غرائبه: و يقويه في يس قراءة (ياسين) بفتح النون، و قوله: آل ياسين. و قيل: طه أي: طأ الأرض أو اطمئنّ، فيكون فعل أمر و الهاء مفعول، أو للسكت، أو مبدلة من الهمزة.
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن جبير: عن ابن عباس في قوله: طه هو كقولك: فاعل. و قيل: طه أي: يا بدر؛ لأنّ الطاء بتسعة، و الهاء بخمسة، فذلك أربعةل.
ص: 618
عشر إشارة إلى البدر؛ لأنه يتم فيها. ذكره الكرمانيّ في غرائبه(1).
و قيل في قوله: يس : أي: يا سيد المرسلين(2)، و في قوله: ص : صدق اللّه(3).
و قيل: أقسم بالصمد الصانع الصادق.
و قيل: معناه صاد يا محمد عملك(4) بالقرآن، أي: عارضه به، فهو أمر من المصاداة.
و أخرج عن الحسين قال: صاد: حادث القرآن، يعني: انظر فيه(5).
و أخرج عن سفيان بن حسين، قال: كان الحسن يقرؤها (صاد و القرآن)(6) يقول:
عارض القرآن. و قيل: ص اسم بحر عليه عرش الرحمن.
و قيل: اسم بحر يحيي به الموتى.
و قيل: معناه صاد محمد قلوب العباد حكاها الكرمانيّ كلها.
و حكى في قوله: المص أي: معناه: أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) ، و في حم * أنه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قيل: معناه حم * ما هو كائن، و في حم. عسق [الشورى: 2.1]. أنه جبل قاف. و قيل: ق جبل محيط بالأرض. أخرجه عبد الرزاق، عن مجاهد(7).
و قيل: أقسم بقوّة قلب محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
و قيل: هي القاف من قوله: وَ قُضِيَ الْأَمْرُ * دلّت على بقية الكلمة.
و قيل: معناها قف يا محمد على أداء الرسالة، و العمل بما أمرت، حكاها الكرماني.
و قيل: ن هو الحوت. أخرج الطّبرانيّ، عن ابن عباس مرفوعا: «أوّل ما خلق اللّه القلم و الحوت. قال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائن إلى يوم القيامة». ثم قرأ:
ن وَ الْقَلَمِ . فالنون الحوت، و القاف القلم(8). -
ص: 619
و قيل: هو اللوح المحفوظ.
أخرجه ابن جرير، من مرسل بن قرّة مرفوعا(1).
و قيل: هو الدواة، أخرجه عن الحسن و قتادة(2).
و قيل: هو المداد، حكاه ابن قتيبة في غريبه.
و قيل: هو القلم، حكاه الكرماني عن الجاحظ.
و قيل: هو اسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، حكاه ابن عساكر في مبهماته.
و في «المحتسب» لابن جنّي: أنّ ابن عباس قرأ (حمسق) بلا عين، و يقول: السين كلّ فرقة تكون، و القاف كل جماعة تكون.
قال ابن جنّي: و في هذه القراءة دليل على أنّ الفواتح فواصل بين السور، و لو كانت أسماء اللّه لم يجز تحريف شيء منها؛ لأنها لا تكون حينئذ أعلاما، و الأعلام تؤدى بأعيانها، و لا يحرّف شيء منها.
و قال الكرمانيّ في غرائبه في قوله تعالى: الم (1) أَ حَسِبَ النّاسُ [العنكبوت: 2.1]:
الاستفهام هنا يدلّ على انقطاع الحروف عمّا بعدها في هذه السّورة و غيرها.
أورد بعضهم(3) سؤالا، و هو أنه: هل للمحكم مزيّة على المتشابه أولا؟ فإن قلتم بالثاني: فهو خلاف الإجماع، أو بالأول: فقد نقضتم أصلكم في أنّ جميع كلام اللّه سبحانه و تعالى سواء، و أنه منزّل بالحكمة! و أجاب أبو عبد اللّه البكرآباذيّ: بأنّ المحكم كالمتشابه من وجه، و يخالفه من وجه، فيتّفقان في أنّ الاستدلال بهما لا يمكن إلاّ بعد معرفة حكمة الواضع، و أنه لا يختار القبيح.
و يختلفان في أنّ المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلاّ الوجه الواحد؛ فمن سمعه أمكنه أن
ص: 620
يستدلّ به في الحال، و المتشابه يحتاج إلى فكرة و نظر؛ ليحمله على الوجه المطابق. و لأنّ المحكم أصل، و العلم بالأصل أسبق، و لأن المحكم يعلم مفصّلا، و المتشابه لا يعلم إلاّ مجملا.
و قال بعضهم(1): إن قيل: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان و الهدى؟ قلنا: إن كان مما يمكن علمه، فله فوائد:
منها: الحثّ للعلماء على النّظر الموجب للعلم بغوامضه، و البحث عن دقائقه، فإنّ استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب.
و منها: ظهور التفاضل، و تفاوت الدّرجات؛ إذا لو كان القرآن كلّه محكما لا يحتاج إلى تأويل و نظر لاستوت منازل الخلق، و لم يظهر فضل العالم على غيره.
و إن كان مما لا يمكن علمه، فله فوائد:
منها: ابتلاء العباد بالوقوف عنده و التوقّف فيه، و التفويض و التسليم و التعبّد بالاشتغال به من جهة التّلاوة كالمنسوخ؛ و إن لم يجز العمل بما فيه و إقامة الحجّة عليهم، لأنه لما نزل بلسانهم و لغتهم. و عجزوا عن الوقوف على معناه، مع بلاغتهم و أفهامهم. دلّ على أنه نزل من عند اللّه؛ و أنّه الذي أعجزهم عن الوقوف على معناه.
و قال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، و قال: إنكم تقولون: إنّ تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة؛ ثم إنا نراه بحيث يتمسّك به صاحب كل مذهب على مذهبه:
فالجبريّ متمسّك بآيات الجبر كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً [الأنعام: 25].
و القدريّ يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض الذّم في قوله: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5]. و في موضع آخر: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88].
و منكر الرؤية متمسك بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103](2).
و مثبت الجهة متمسّك بقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]. اَلرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) [طه: 5].».
ص: 621
و النّافي متمسك بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [الشورى: 11].
ثم يسمّي كلّ واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، و الآيات المخالفة له متشابهة؛ و إنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفيّة و وجوه ضعيفة؛ فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كلّ الدّين إلى يوم القيامة هكذا؟! قال: و الجواب أنّ العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد:
منها: أنّه يوجب مزيد المشقّة في الوصول إلى المراد، و زيادة المشقة توجب مزيد الثواب.
و منها: أنه لو كان القرآن كلّه محكما لما كان مطابقا إلاّ لمذهب واحد؛ و كان بصريحه مبطلا لكلّ ما سوى ذلك المذهب، و ذلك مما ينفّر أرباب سائر المذاهب عن قوله و عن النظر فيه و الانتفاع به؛ فإذا كان مشتملا على المحكم و المتشابه طمع صاحب كلّ مذهب أن يجد فيه ما يؤيّد مذهبه، و ينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب، و يجتهد في التأمّل فيه صاحب كلّ مذهب، و إذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسّرة للمتشابهات، و بهذا الطريق يتخلّص المبطل من باطله، و يتّصل إلى الحق.
و منها: أنّ القرآن إذا كان مشتملا على المتشابه، افتقر إلى العلم بطريق التأويلات، و ترجيح بعضها على بعض، و افتقر في تعلّم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة و النّحو و المعاني و البيان و أصول الفقه. و لو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة؛ فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
و منها: أنّ القرآن مشتمل على دعوة الخواصّ و العوامّ، و طبائع العوامّ تنفر(1) في أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أوّل الأمر إثبات موجود ليس بجسم و لا متحيّز(2) و لا مشار إليه ظن أنّ هذا عدم و نفي، فوقع التعطيل؛ فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالّة على بعض ما يناسب ما توهّموه و تخيّلوه؛ و يكون ذلك مخطوطا بما يدلّ على الحقّ الصريح، فالقسم الأول. و هو الذي يخاطبون به في أول الأمر. يكون من المتشابهات، و القسم الثاني. و هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر. من المحكمات.ى.
ص: 622
و هو قسمان:
الأول: ما أشكل معناه بحسب الظاهر، فلمّا عرف أنه من باب التقديم و التأخير، اتّضح. و هو جدير أن يفرد بالتصنيف، و قد تعرّض السلف لذلك في آيات:
فأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله تعالى: وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا [التوبة: 85]. قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم و لا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة.
و أخرج عنه - أيضا - في قوله تعالى: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129) [طه: 129]. قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لو لا كلمة و أجل مسمى لكان لزاما.
و أخرج عن مجاهد في قوله تعالى: أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: 1، 2]. قال: هذا من التقديم و التأخير: أنزل على عبده الكتاب قيّما و لم يجعل له عوجا.
و أخرج عن قتادة في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55] قال(1): هذا من المقدّم و المؤخّر، أي: رافعك إليّ و متوفّيك.
و أخرج عن عكرمة في قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ [ص: 26] قال: هذا من التقديم و التأخير، يقول لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.
و أخرج ابن جرير(2)، عن ابن زيد في قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً [النساء: 83] قال: هذه الآية مقدّمة و مؤخّرة، إنما هي:
ص: 623
أذاعوا به إلاّ قليلا منهم، و لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته لم ينج قليل و لا كثير.
و أخرج(1) عن ابن عباس في قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] قال: إنهم إذا رأوا اللّه، فقد رأوه، إنما قالوا جهرة: أرنا اللّه. قال: هو مقدّم مؤخّر.
قال ابن جرير(2): يعني: أنّ سؤالهم كان جهرة.
و من ذلك قوله: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها [البقرة: 72] قال البغوي(3): هذه أول القصة، و إن كان مؤخرا في التلاوة.
و قال الواحديّ: كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة؛ و إنما أخّر في الكلام، لأنه تعالى لمّا قال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة: 67]، الآية، علم المخاطبون أنّ البقرة لا تذبح إلاّ للدلالة على قاتل خفيت عينه عليهم، فلما استقرّ علم هذا في نفوسهم أتبع بقوله: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها [البقرة: 72] فسألتم موسى، فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67].
و منه: أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان: 43] و الأصل: هواه إلهه، لأن من اتخذ إلهه هواه غير مذموم، فقدّم المفعول الثاني للعناية به.
و قوله: وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) [الأعلى: 4، 5]، على تفسير أَحْوى بالأخضر. و جعله نعتا للمرعى، أي: أخرجه أحوى، و أخّر رعاية للفاصلة.
و قوله: وَ غَرابِيبُ سُودٌ [فاطر: 27] و الأصل: سود غرابيب، لأن الغربيب الشديد السّواد.
و قوله: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها [هود: 71] أي: فبشرناها فضحكت.
و قوله: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] أي: لهم بها، و على هذا فالهمّ منفيّ عنه.
الثاني: ما ليس كذلك، و قد ألف فيه العلامة شمس الدين بن الصائغ كتابه «المقدّمة في سر الألفاظ المقدّمة». قال فيه: الحكمة الشائعة الذّائعة في ذلك الاهتمام، كما قال1.
ص: 624
سيبويه في كتابه: كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ و هم ببيانه أعنى.
قال: هذه الحكمة إجمالية، و أما تفاصيل أسباب التقديم و أسراره، فقد ظهر لي منها في الكتاب العزيز عشرة أنواع:
الأول: التبرّك: كتقديم اسم اللّه تعالى في الأمور ذات الشأن، و منه قوله تعالى:
شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] و قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] الآية.
الثاني: التعظيم: كقوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ [النساء: 69]. إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ [الأحزاب: 56]. وَ اللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62].
الثالث: التشريف: كتقديم الذكر على الأنثى، نحو: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ...
[الأحزاب: 35] الآية، و الحرّ في قوله: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] و الحيّ في قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95] الآية. وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لاَ الْأَمْواتُ [فاطر: 22]. و الخيل في قوله: وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: 8]. و السمع في قوله: وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ [البقرة: 7]. و قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ [الإسراء: 36]. و قوله: إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ [الأنعام: 46]. حكى ابن عطية عن النّقاش: أنه استدلّ بها على تفضيل السمع على البصر، و لذا وقع في وصفه تعالى:
سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 61]. بتقديم (السميع).
و من ذلك: تقديمه صلّى اللّه عليه و سلّم على نوح و من معه في قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ [الأحزاب: 7] الآية.
و تقديم الرسول في قوله: مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ [الحج: 52].
و تقديم المهاجرين في قوله: وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ [التوبة: 100].
و تقديم الإنس على الجنّ حيث ذكرا في القرآن.
و تقديم النبيّين، ثمّ الصّدّيقين، ثم الشهداء، ثمّ الصالحين في آية النساء.
و تقديم إسماعيل على إسحاق، لأنه أشرف، بكون النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم من ولده و أسنّ.
و تقديم موسى على هارون لاصطفائه بالكلام، و قدّم هارون عليه في سورة طه رعاية للفاصلة.
ص: 625
و تقديم جبريل على ميكائيل في آية البقرة، لأنه أفضل.
و تقديم العاقل على غيره في قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33) [النازعات: 33]. يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافّاتٍ [النور: 41].
و أما تقديم الأنعام في قوله: تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ [السجدة: 27] فلأنه تقدّم ذكر الزرع، فناسب تقديم الأنعام(1)، بخلاف آية (عبس)(2) فإنّه تقدّم فيها: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) [عبس: 24]، فناسب تقديم لَكُمْ .
و تقديم المؤمنين على الكفار في كلّ موضع.
و أصحاب اليمين على أصحاب الشمال.
و السماء على الأرض، و الشمس على القمر حيث وقع، إلاّ في قوله: خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15، 16] فقيل: لمراعاة الفاصلة، و قيل: لأنّ انتفاع أهل السموات العائد عليهنّ الضمير به أكثر.
و قال ابن الأنباري: يقال إنّ القمر وجهه يضيء لأهل السموات و ظهره لأهل الأرض، و لهذا قال تعالى: فِيهِنَّ . لمّا كان أكثر نوره يضيء إلى أهل السماء.
و منه: تقديم الغيب على الشهادة في قوله: عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ [الزمر: 46] لأن علمه أشرف، و أما: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى [طه: 7] فأخّر فيه رعاية للفاصلة.
الرابعة: المناسبة: و هي إمّا مناسبة المتقدّم لسياق الكلام، كقوله: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) [النحل: 6] فإنّ الجمال بالجمال، و إن كان ثابتا حالتي السّراح و الإراحة، إلاّ أنها حالة إراحتها - و هو مجيئها من المرعى آخر النهار - يكون الجمال بها أفخر، إذ هي فيه بطان، و حالة سراحها للمرعى أول النهار يكون الجمال بها دون الأول، إذ هي فيه خماص. و نظيره قوله: وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] قدّم نفي الإسراف لأن السرف في الإنفاق.6.
ص: 626
و قوله: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً [الروم: 24] لأنّ الصواعق تقع مع أول برقة، و لا يحصل المطر إلاّ بعد توالي البرقات.
و قوله: وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91] قدّمها على الابن لمّا كان السياق في ذكرها في قوله: وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الأنبياء: 91]، و لذلك قدّم الابن في قوله: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50]. و حسّنه تقدّم موسى في الآية قبله.
و منه: قوله: وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً [الأنبياء: 79] قدّم الحكم، و إن كان العلم سابقا عليه؛ لأن السياق فيه، لقوله في أول الآية: إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78].
و إما مناسبة لفظ هو من التقدّم أو التأخّر، كقوله: اَلْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ [الحديد: 3].
وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) [الحجر: 24]. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) [الواقعة: 39، 40]. لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ [الروم: 4]. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ [القصص: 70]. و أما قوله: فَلِلّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) [النجم: 25].
فلمراعاة الفاصلة، و كذا قوله: جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38].
الخامس: الحث عليه و الحضّ على القيام به: حذرا من التهاون به. كتقديم الوصية على الدين في قوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] مع أنّ الدين مقدّم عليها شرعا.
السادس: السبق: و هو إمّا في الزمان باعتبار الإيجاد بتقديم الليل على النهار، و الظلمات على النور، و آدم على نوح، و نوح على إبراهيم، و إبراهيم على موسى، و هو على عيسى، و داود على سليمان، و الملائكة على البشر في قوله: اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النّاسِ [الحج: 75]. و عاد على ثمود، و الأزواج على الذريّة في قوله: قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ [الأحزاب: 59]. و السّنة على النوم في قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ [البقرة: 255].
أو باعتبار الإنزال، كقوله: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19) [الأعلى: 19]. وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ [آل عمران: 3، 4].
أو باعتبار الوجوب و التكليف، نحو: اِرْكَعُوا وَ اسْجُدُوا [الحج: 77].
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6]. إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ [البقرة: 158].
ص: 627
و لهذا قال صلّى اللّه عليه و سلّم «نبدأ بما بدأ اللّه به»(1).
أو بالذّات، نحو: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ [النساء: 3]. ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: 7] و كذا جميع الأعداد: كلّ مرتبة هي متقدّمة على ما فوقها بالذات. و أما قوله: أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَ فُرادى [سبأ: 46] فللحثّ على الجماعة و الاجتماع على الخير.
السابع: السببية: كتقديم العزيز على الحكيم؛ لأنه عزّ فحكم. و العليم عليه؛ لأن الإحكام و الإتقان ناشئ عن العلم. و أما تقديم الحكيم عليه في سورة الأنعام. فلأنه مقام تشريع الأحكام.
و منه: تقدم العبادة على الاستعانة في سورة الفاتحة؛ لأنها سبب حصول الإعانة، و كذا قوله: يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]؛ لأن التوبة سبب الطهارة.
لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية: 7]؛ لأنّ الإفك سبب الإثم. يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]؛ لأنّ البصر داعية إلى الفرج.
الثامن: الكثرة: كقوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2]؛ لأنّ الكفار أكثر.
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية، قدّم الظالم لكثرته، ثم المقتصد، ثم السابق. و لهذا قدّم السارق على السارقة، لأن السرقة في الذكور أكثر. و الزانية على الزاني، لأن الزنى فيهنّ أكثر.
و منه تقديم الرحمة على العذاب حيث وقع في القرآن غالبا، و لهذا ورد: «إنّ رحمتي غلبت غضبي»(2).
و قوله: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] قال ابن الحاجب في أماليه: إنّما قدم الأزواج لأن المقصود الإخبار أنّ فيهم إعطاء، و وقوع ذلك-.
ص: 628
في الأزواج أكثر منه في الأولاد، و كان أقعد في المعنى المراد فقدّم. و لذلك قدّمت الأموال في قوله: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] لأنّ الأموال لا تكاد تفارقها الفتنة. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) [العلق: 6، 7] و ليست الأولاد في استلزام الفتنة مثلها، فكان تقديمها أولى.
التاسع: الترقّي من الأدنى إلى الأعلى: كقوله: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها [الأعراف: 195] الآية، بدأ بالأدنى لغرض الترقّي؛ لأنّ اليد أشرف من الرّجل، و العين أشرف من اليد، و السمع أشرف من البصر.
و من هذا النوع تأخير الأبلغ، و قد خرّج عليه تقديم الرحمن على الرحيم، و الرءوف على الرحيم، و الرسول على النبيّ، في قوله: وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا [مريم: 51]، و ذكر لذلك نكت أشهرها مراعاة الفاصلة.
العاشر: التدلّي من الأعلى إلى الأدنى: و خرّج عليه: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ [البقرة: 255]. لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً [الكهف: 49]. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172].
هذا ما ذكره ابن الصائغ، و زاد غيره أسبابا أخر:
منها: كونه أدلّ على القدرة و أعجب: كقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: 45]. الآية، و قوله: وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ [الأنبياء: 79]. قال الزمخشري(1): قدّم الجبال على الطّير؛ لأنّ تسخيرها له و تسبيحها أعجب و أدلّ على القدرة، و أدخل في الإعجاز، لأنها جماد و الطير حيوان [إلاّ أنّه غير](2) ناطق.
و منها: رعاية الفواصل: و سيأتي لذلك أمثلة كثيرة.
و منها: إفادة الحصر للاختصاص، و سيأتي في النوع الخامس و الخمسين.
تنبيه: قد يقدّم لفظ في موضع و يؤخّر في آخر، و نكتة ذلك:
إمّا لكون السّياق في كلّ موضع يقتضي ما وقع فيه، كما تقدمت الإشارة إليه.
و إما لقصد البداءة و الختم به للاعتناء بشأنه، كما في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106]. الآيات.ى.
ص: 629
و إمّا لقصد التّفنّن في الفصاحة و إخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله:
وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ [البقرة: 58]. و قوله: وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً (1)[الأعراف: 161]. و قوله: إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [المائدة: 44].
و قال في [الأنعام: 91]: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنّاسِ .6.
ص: 630
* النوع الخامس و الأربعون في عامّه و خاصّه(1)
العامّ: لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر.
و صيغته: (كلّ): مبتدأة، نحو: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) [الرحمن: 26]. أو تابعة، نحو: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) [الحجر: 30].
و (الّذي و التي): و تثنيتهما و جمعهما، نحو: وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما [الأحقاف: 17]. فإنّ المراد به كلّ من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [الأحقاف: 18]. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ [البقرة: 82]. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [يونس: 26]. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ [آل عمران: 15]. وَ اللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق: 4]. وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا [النساء: 15]. وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النساء: 16].
(أي، و ما، و من): شرطا و استفهاما و موصولا، نحو: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110]. إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98]. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123].
و (الجمع المضاف) نحو: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11].
و (المعرّف بأل) نحو: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) [المؤمنون: 1]. فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5].
و (اسم الجنس المضاف): نحو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63].
أي: كلّ أمر اللّه.
و (المعرّف بأل): نحو: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275] أي: كلّ بيع، إِنَّ الْإِنْسانَ
ص: 631
لَفِي خُسْرٍ (2) أي: كلّ إنسان، بدليل: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 3].
و (النكرة في سياق النفي و النهي): نحو: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23]. وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21]. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2]. فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197].
و (في سياق الشرط) نحو: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ [التوبة: 6]. و في (الامتنان) نحو: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48].
ص: 632
العام على ثلاثة أقسام:
* الأول: الباقي على عمومه(1):
قال القاضي جلال الدين البلقيني(2): و مثاله عزيز، إذ ما من عام إلاّ و يتخيّل فيه التخصيص؛ فقوله: يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الحج: 1].
قد يخصّ منه غير المكلّف. و: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3]. خصّ منها حالة الاضطرار، و ميتة السمك و الجراد. وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] خصّ في العرايا.
و ذكر الزركشي في «البرهان»(3) أنّه كثير في القرآن، و أورد منه: وَ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97]. إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً [يونس: 44]. وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف: 49]. وَ اللّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ (4)[فاطر: 11]. اَللّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غافر: 64].
قلت: هذه الآيات كلّها في غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد البلقينيّ أنّه عزيز في الأحكام الفرعيّة. و قد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها، و هي قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23]. الآية؛ فإنّه لا خصوص فيها.
ص: 633
و للناس بينهما فروق:
أنّ الأوّل: لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول اللفظ، و لا من جهة الحكم؛ بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها.
و الثاني: أريد عمومه و شموله لجميع الأفراد، من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم.
و منها: أنّ الأوّل مجاز قطعا، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصليّ. بخلاف الثاني: فإنّ فيه مذاهب أصحّها أنه حقيقة، و عليه أكثر الشافعية و كثير من الحنفية و جميع الحنابلة، و نقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء. و قال الشيخ أبو حامد: إنّه مذهب الشافعيّ و أصحابه، و صحّحه السبكيّ؛ لأنّ تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص، و ذلك التناول حقيقيّ اتفاقا، فليكن هذا التناول حقيقيّا أيضا.
و منها: أنّ قرينة الأوّل عقلية و الثاني لفظية.
و منها: أنّ قرينة الأول لا تنفك عنه، و قرينة الثاني قد تنفكّ عنه.
و منها: أنّ الأوّل يصحّ أن يراد به واحد اتفاقا، و في الثاني خلاف.
و من أمثلة المراد به الخصوص(1): قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران: 173]. و القائل واحد: نعيم بن مسعود الأشجعيّ أو أعرابيّ من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع؛ لقيامه مقام كثير في تثبيط المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان(2).
قال الفارسيّ (3): و مما يقوّي أنّ المراد به واحد قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ [آل عمران: 175]. فوقعت الإشارة بقوله: ذلِكَ مَتاعُ إلى واحد بعينه، و لو كان المعنى جمعا لقال: إنّما أولئكم الشّيطان: فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ.
و منها: قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ [النساء: 54]. أي: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة.
و منها: قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ [البقرة: 199]. أخرج ابني.
ص: 634
جرير(1) من طريق الضحاك: عن ابن عباس، في قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ .
قال: إبراهيم - عليه السّلام -.
و من الغريب قراءة سعيد بن جبير(2): (من حيث أفاض النّاسي) قال في «المحتسب»: يعني آدم، لقوله: فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115].
و منها: قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمران: 39] أي: جبريل، كما في قراءة ابن مسعود(3).
و أما المخصوص: فأمثلته في القرآن كثيرة جدّا، و هو أكثر من المنسوخ، إذ ما من عامّ إلاّ و قد خصّ.
ثم المخصّص له: إمّا متصل و إما منفصل:
فالمتصل: خمسة وقعت في القرآن:
أحدها: الاستثناء: نحو: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا [النور: 4، 5]. وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) إلى قوله: إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ الآية [الشعراء: 224، 227]. وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً إلى قوله: إِلاّ مَنْ تابَ [الفرقان: 68، 70].
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 24]. كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص: 88].
الثاني: الوصف: نحو: وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23].
الثالث: الشرط: نحو: وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33]. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180].
الرابع: الغاية: نحو: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله:
حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29]. وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222]. وَ لا تَحْلِقُوا1.
ص: 635
رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196]. وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الآية [البقرة: 187].
و الخامس: بدل البعض من الكلّ: نحو: وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 97].
و المنفصل: آية أخرى في محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس.
و من أمثلة ما خصّ بالقرآن(1): قوله تعالى: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 187]. خصّ بقوله: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ [الأحزاب: 49]. و بقوله: وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4].
و قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ [المائدة: 3]. خصّ من الميتة السمك بقوله:
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ [المائدة: 96]. و من الدم الجامد، بقوله: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام: 145].
و قوله: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: 20] الآية، خصّ بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229].
و قوله: اَلزّانِيَةُ وَ الزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] خصّ بقوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25].
و قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3]. خصّ بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية [النساء: 23].
و من أمثلة ما خصّ بالحديث(2): قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275] خصّ منه البيوع الفاسدة - و هي كثيرة - بالسنّة.
وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] خصّ منه العرايا بالسنّة(3).ه.
ص: 636
و آيات المواريث: خصّ منها القاتل و المخالف في الدّين بالسنّة.
و آية تحريم الميتة: خصّ منها الجراد بالسنّة(1).
و آية: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] خصّ منها الأمة بالسنّة(2).
و قوله: ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48] خصّ منه المتغيّر بالسنّة.
و قوله: وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا [المائدة: 38] خصّ منه من سرق دون ربع دينار بالسنّة.
و من أمثلة ما خصّ بالإجماع(3): آية المواريث، خصّ منها الرقيق، فلا يرث بالإجماع، ذكره مكيّ (4).
و من أمثلة ما خصّ بالقياس: آية الزنا: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] خص منها العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25]. المخصّص لعموم الآية. ذكره مكيّ (5) - أيضا -.
و من أمثلته:
قوله تعالى: حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29] خصّ عموم قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه»(6).
ص: 637
و قوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] خص عموم نهيه صلّى اللّه عليه و سلّم عن الصلاة في الأوقات المكروهة بإخراج الفرائض.
و قوله: وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها [النحل: 80] الآية، خصّ عموم قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما أبين من حي فهو ميّت»(1).
و قوله: وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة: 60]. خصّ عموم قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «لا تحلّ الصّدقة لغني و لا لذي مرّة سويّ»(2).
و قوله: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات: 9] خصّ عموم قوله صلّى اللّه عليه و سلّم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار»(3).
الأول: إذا سيق العامّ للمدح أو الذّم، فهل هو باق على عمومه؟ فيه مذاهب؟ أحدها: نعم؛ إذ لا صارف عنه، و لا تنافي بين العموم و بين المدح أو الذّم.
و الثاني: لا؛ لأنّه لم يسق للتعميم بل للمدح أو للذمّ.
و الثالث: - و هو الأصح -: التفصيل، فيعمّ إن لم يعارضه عامّ آخر لم يسق لذلك،
ص: 638
و لا يعمّ إن عارضه ذلك؛ جمعا بينهما.
مثاله - و لا معارض - قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14].
و مع المعارض: قوله تعالى: وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5، 6] فإنّه سيق للمدح، و ظاهره يعمّ الأختين بملك اليمين جمعا. و عارضه في ذلك: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء: 23]، فإنّه شامل لجمعهما بملك اليمين، و لم يسق للمدح، فحمل الأول على غير ذلك، بأن لم يرد تناوله له.
و مثاله في الذّم: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ [التوبة: 34] الآية، فإنه سيق للذّم، و ظاهره يعمّ الحلي المباح، و عارضه في ذلك حديث جابر: «ليس في الحلي زكاة»(1). فحمل الأول على غير ذلك.
الثاني: اختلف في الخطاب الخاص به صلّى اللّه عليه و سلّم، نحو: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ * يا أَيُّهَا الرَّسُولُ * هل يشمل الأمّة؟ فقيل: نعم؛ أنّ أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفا، و الأصحّ في الأصول المنع، لاختصاص الصيغة به.
الثالث: اختلف في الخطاب ب يا أَيُّهَا النّاسُ * هل يشمل الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم؟ على مذاهب:
أصحّها - و عليه الأكثرون - نعم لعموم الصّيغة له. أخرج ابن أبي حاتم عن الزّهري قال: إذا قال اللّه: «يا أيها الذين آمنوا افعلوا»، فالنبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم منهم.
و الثاني: لا؛ لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، و لما له من الخصائص.
و الثالث: إن اقترن ب: (قل) لم يشمله لظهوره في التبليغ، و ذلك قريبة عدم شموله؛ و إلاّ فيشمله.
الرابع: الأصحّ في الأصول أن الخطاب ب يا أَيُّهَا النّاسُ * يشمل الكافر و العبد لعموم اللفظ. و قيل: لا يعمّ الكافر بناء على عدم تكليفه بالفروع، و لا العبد؛ لصرف2.
ص: 639
منافعه إلى سيّده شرعا.
الخامس: اختلف في (من) هل تتناول الأنثى؟ فالأصحّ: نعم، خلافا للحنفية.
لنا قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [النساء: 124]، فالتفسير بهما دالّ على تناول (من) لهما. و قوله: وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ [الأحزاب: 31].
و اختلف في جمع المذكر السالم هل يتناولها؟ فالأصح: لا، و إنما يدخلن فيه بقرينة. أمّا المكسّر: فلا خلاف في دخولهنّ فيه.
السادس: اختلف في الخطاب ب يا أَهْلَ الْكِتابِ ، هل يشمل المؤمنين؟ فالأصحّ: لا؛ لأنّ اللفظ قاصر على من ذكر. و قيل: إن شاركوهم في المعنى شملهم و إلاّ فلا.
و اختلف في الخطاب ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا * هل يشمل أهل الكتاب؟ فقيل: لا، بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع. و قيل: نعم؛ و اختاره ابن السمعاني، قال: و قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا * خطاب تشريف لا تخصيص.
ص: 640
المجمل: ما لم تتّضح دلالته، و هو واقع في القرآن، خلافا لداود الظّاهريّ.
و في جواز بقائه مجملا أقوال: أصحها: لا يبقى المكلّف بالعمل به، بخلاف غيره.
و للإجمال أسباب:
منها: الاشتراك: نحو: وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) [التكوير: 17]، فإنه موضوع لأقبل و أدبر. ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] فإنّ القرء موضوع للحيض و الطهر. أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237] يحتمل الزوج و الوليّ، فإنّ كلا منهما بيده عقدة النكاح.
و منها: الحذف: نحو وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء: 127]. يحتمل (في) و (عن).
و منها: اختلاف مرجع الضمير: نحو: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] يحتمل عود ضمير الفاعل في يَرْفَعُهُ إلى ما عاد عليه ضمير إِلَيْهِ و هو اللّه، و يحتمل عوده إلى العمل؛ و المعنى: أنّ العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيّب.
و يحتمل عوده إلى الكلم الطّيب: أي أن الكلم الطيب - و هو التّوحيد - يرفع العمل الصالح؛ لأنّه لا يصحّ العمل إلاّ مع الإيمان.
و منها: احتمال العطف و الاستئناف: نحو: إِلاَّ اللّهُ وَ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ [آل عمران: 7].
و منها: غرابة اللفظ: نحو: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ [البقرة: 232].
و منها: عدم كثرة الاستعمال: نحو يُلْقُونَ السَّمْعَ [الشعراء: 223] أي: يسمعون.
ثانِيَ عِطْفِهِ [الحج: 9] أي: متكبرا. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف: 42] أي: نادما.
و منها: التقديم و التأخير: نحو: وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129)
ص: 641
[طه: 129]. أي: و لو لا كلمة و أجل مسمى لكان لزاما. يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: 187] أي: يسألونك عنها كأنك حفي.
و منها: قلب المنقول: نحو وَ طُورِ سِينِينَ (2) [التين: 2] أي: سيناء. عَلى إِلْياسِينَ [الصافات: 130] أي: على إلياس.
و منها: التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر: نحو: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75].
قد يقع التبيين متّصلا، نحو: مِنَ الْفَجْرِ بعد قوله: اَلْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187].
و منفصلا في آية أخرى، نحو: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] بعد قوله: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] فإنّها بيّنت أنّ المراد به الطلاق الذي تملك الرّجعة بعده، و لولاها لكان الكلّ منحصرا في الطلقتين.
و قد أخرج أحمد و أبو داود في ناسخه، و سعيد بن منصور و غيرهم، عن أبي رزين الأسديّ: قال رجل: يا رسول اللّه، أ رأيت قول اللّه: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] فأين الثالثة؟ قال: «التّسريح بإحسان»(1).
و أخرج ابن مردويه، عن أنس قال: قال رجل: يا رسول اللّه، ذكر اللّه الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229]»(2).
و قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] دالّ على جواز الرؤية، و يفسّر أنّ المراد بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] لا تحيط به، دون: (لا تراه).
ص: 642
و قد أخرج ابن جرير(1) من طريق العوفيّ، عن ابن عباس في قوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا تحيط به.
و أخرج عن عكرمة: أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أ ليس قد قال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ؟ فقال: أ لست ترى السماء؟ أ فكلها ترى؟!! و قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: 1] الآية.
فسّره قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3].
و قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة: 4] فسّره قوله: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ الآية [الانفطار: 17، 18، 19].
و قوله: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ [البقرة: 37] فسّره قوله: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] الآية.
و قوله: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً [الزخرف: 17] فسّره قوله في آية النحل [58]: بِالْأُنْثى .
و قوله: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] قال العلماء: بيان هذا العهد قوله:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي [المائدة: 12] إلى آخره، فهذا عهده. و عهدهم: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [المائدة: 12] إلى آخره.
و قوله: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] بيّنه قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [مريم: 58] الآية.
و قد يقع التبيين بالسنّة، مثل: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97]. و قد بيّنت السنّة أفعال الصلاة و الحج، و مقادير نصب الزكوات في أنواعها.
منها: آية السرقة: قيل: إنها مجملة: في اليد؛ لأنها تطلق على العضو إلى الكوع، و إلى المرفق، و إلى المنكب. و في القطع؛ لأنه يطلق على الإبانة، و على الجرح، و لا
ص: 643
ظهور لواحد من ذلك، و إبانة الشارع من الكوع تبيّن أن المراد ذلك. و قيل: لا إجمال فيها؛ لأن القطع ظاهر في الإبانة.
و منها: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6]: قيل: إنها مجملة؛ لتردّدها بين مسح الكلّ و البعض، و مسح الشارع الناصية مبيّن لذلك. و قيل: لا، و إنما هي لمطلق المسح الصادق بأقلّ ما يطلق عليه الاسم و يفيده.
و منها: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23]: قيل: مجملة لأنّ إسناد التحريم إلى العين لا يصحّ؛ لأنه إنّما يتعلّق بالفعل، فلا بدّ من تقديره، و هو محتمل لأمور لا حاجة إلى جميعها، و لا مرجّح لبعضها.
و قيل: لا، لوجود المرجّح؛ و هو العرف؛ فإنّه يقضي بأن المراد تحريم الاستمتاع بوطء أو نحوه.
و يجري ذلك في كلّ ما علّق فيه التحريم و التحليل بالأعيان.
و منها: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275]: قيل: إنها مجملة؛ لأنّ الربا الزيادة، و ما من بيع إلاّ و فيه زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحلّ و ما يحرم.
و قيل: لا؛ لأنّ البيع منقول شرعا، فحمل على عمومه ما لم يقم دليل التخصيص.
و قال الماورديّ (1): للشافعيّ في هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنّها عامّة؛ فإنّ لفظها لفظ عموم يتناول كلّ بيع، و يقتضي إباحة جميعها إلاّ ما خصّه الدليل، و هذا القول أصحّها عند الشافعي و أصحابه، لأنّه صلّى اللّه عليه و سلّم نهى عن بيوع كانوا يعتادونها، و لم يبيّن الجائز، فدلّ على أنّ الآية تناولت إباحة جميع البيوع، إلاّ ما خصّ منها، فبيّن صلّى اللّه عليه و سلّم المخصوص. قال: فعلى هذا في العموم قولان:
أحدهما: أنه عموم أريد به العموم، و إن دخله التخصيص.
و الثاني: أنه عموم أريد به الخصوص. قال: و الفرق بينهما أن البيان في الثاني متقدّم على اللفظ، و في الأول متأخّر عنه مقترن به. قال: و على القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف فيها ما لم يقم دليل تخصيص.
و القول الثاني: أنّها مجملة، لا يعقل منها صحّة بيع من فساده إلاّ ببيان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم. ثمل.
ص: 644
قال: هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نهي عنه من البيوع؟ وجهان. و هل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها؛ لأن لفظ البيع اسم لغويّ معناه معقول، لكن لما قام بإزائه من السنة ما يعارضه تدافع العمومان، و لم يتعيّن المراد إلاّ ببيان السنّة، فصار مجملا لذلك دون اللفظ، أو في اللفظ أيضا؛ لأنّه لمّا لم يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم، و كانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلا أيضا؟ وجهان. قال: و على الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع و لا فساده؛ و إن دلّت على صحة البيع من أصله، قال: و هذا هو الفرق بين العموم و المجمل؛ حيث جاز الاستدلال بظاهر العموم و لم يجز الاستدلال بظاهر المجمل.
و القول الثالث: أنّها عامّة مجملة معا، قال: و اختلف في وجه ذلك على أوجه:
أحدها: أنّ العموم في اللفظ و الإجمال في المعنى، فيكون اللفظ عاما مخصوصا، و المعنى مجملا لحقه التفسير.
و الثاني: أنّ العموم في: وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ، و الإجمال في وَ حَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275].
و الثالث: أنّه كان مجملا، فلمّا بيّنه صلّى اللّه عليه و سلّم صار عاما، فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، و في العموم بعد البيان، فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها.
و القول الرابع: أنها تناولت بيعا معهودا، و نزلت بعد أن أحلّ النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم بيوعا و حرّم بيوعا، فاللاّم للعهد؛ فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها. انتهى.
و منها: الآيات التي فيها الأسماء الشرعيّة، نحو: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43]. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]. وَ لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97]. قيل: إنها مجملة، لاحتمال الصلاة لكلّ دعاء، و الصوم لكلّ إمساك، و الحجّ لكلّ قصد. و المراد بها لا تدلّ عليه اللغة، فافتقر إلى البيان.
و قيل: لا، بل يحمل على كلّ ما ذكر إلاّ ما خصّ بدليل.
تنبيه: قال ابن الحصّار: من الناس من جعل المجمل و المحتمل بإزاء شيء واحد.
قال: و الصواب أنّ المجمل: اللفظ المبهم الذي لا يفهم المراد منه، و المحتمل: اللفظ الواقع بالوضع الأول على معنيين مفهومين فصاعدا، سواء كان حقيقة في كلّها أو بعضها.
ص: 645
قال: و الفرق بينهما: أنّ المحتمل يدلّ على أمور معروفة، و اللفظ مشترك متردّد بينهما، و المبهم: لا يدلّ على أمر معروف، مع القطع بأنّ الشارع لم يفوض لأحد بيان المجمل، بخلاف المحتمل.
ص: 646
أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون، منهم: أبو عبيد القاسم بن سلاّم، و أبو داود السجستانيّ، و أبو جعفر النحّاس، و ابن الأنباريّ، و مكيّ، و ابن العربيّ، و آخرون(1).
قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسّر كتاب اللّه إلاّ بعد أن يعرف منه الناسخ و المنسوخ(2).
و قد قال عليّ لقاصّ: أ تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت و أهلكت(3).
و في هذا النوع مسائل:
الأولى(4): يرد النسخ بمعنى الإزالة، و منه قوله: فَيَنْسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ [الحج: 52].
و بمعنى التبديل، و منه: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [النحل: 101].
و بمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد.
ص: 647
و بمعنى النقل من موضع إلى موضع، و منه: نسخت الكتاب، إذا نقلت ما فيه، حاكيا للفظه و خطّه.
قال مكّيّ (1): و هذا الوجه لا يصحّ أن يكون في القرآن، و أنكر على النحاس(2)إجازته ذلك، محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ؛ و أنه إنّما يأتي بلفظ آخر.
و قال السعيدي(3): يشهد لما قاله النحّاس قوله تعالى: إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29]. و قال: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) [الزخرف: 4].
و معلوم أنّ ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أمّ الكتاب، و هو اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 78، 79].
الثانية: النسخ مما خصّ اللّه به هذه الأمّة لحكم، منها التيسير.
و قد أجمع المسلمون على جوازه، و أنكره اليهود ظنا منهم أنه بداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، و هو باطل(4)؛ لأنه بيان مدّة الحكم كالإحياء بعد الإماتة و عكسه، و المرض بعد الصحة و عكسه، و الفقر بعد الغنى و عكسه، و ذلك لا يكون بداء، هكذا الأمر و النهي.
و اختلف العلماء:2.
ص: 648
فقيل: لا ينسخ القرآن إلاّ بقرآن(1)، لقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106] قالوا: و لا يكون مثل القرآن و خيرا منه إلاّ قرآن.
و قيل: بل ينسخ القرآن بالسنّة، لأنها أيضا من عند اللّه، قال تعالى: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (2) [النجم: 3].
و جعل منه آية الوصية الآتية.
و الثالث: إذا كانت السنّة بأمر اللّه من طريق الوحي نسخت، و إن كانت باجتهاد فلا.
حكاه ابن حبيب النيسابوريّ في تفسيره.
و قال الشافعيّ: حيث وقع نسخ القرآن بالسنّة، فمعها قرآن عاضد لها، و حيث وقع نسخ السنّة بالقرآن فمعه سنّة عاضدة له؛ ليتبيّن توافق القرآن و السنّة.
و قد بسطت فروع هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول.
الثالثة: لا يقع النسخ إلاّ في الأمر و النّهي، و لو بلفظ الخبر. أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، و منه الوعد و الوعيد. و إذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيرا من آيات الإخبار و الوعد و الوعيد(3).
الرابعة: النّسخ أقسام(3):
أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، و هو النسخ على الحقيقة، كآية النّجوى.
الثاني: ما نسخ مما كان شرعا لمن قبلنا، كآية شرع القصاص و الدّية، أو كان أمر به أمرا جمليا كنسخ التوجّه إلى بيت المقدس بالكعبة، و صوم عاشوراء برمضان، و إنما يسمّى هذا نسخا تجوّزا.
الثالث: ما أمر به لسبب، ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف و القلة بالصبر و الصفح، ثم نسخ بإيجاب القتال. و هذا في الحقيقة ليس نسخا، بل هو من قسم المنسأ،3.
ص: 649
كما قال تعالى: أَوْ نُنْسِها فالمنسأ: هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون، و في حال الضعف يكون الحكم وجوب الصّبر على الأذى، و بهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أنّ الآية في ذلك منسوخة بآية السيف، و ليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كلّ أمر يجب امتثاله في وقت ما، لعلّة تقتضي ذلك الحكم، ثمّ ينتقل بانتقال تلك العلّة إلى حكم آخر، و ليس بنسخ؛ إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله.
و قال مكيّ (1): ذكر جماعة: أنّ ما ورد في الخطاب مشعر بالتوقيت و الغاية، مثل قوله في البقرة: فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] محكم غير منسوخ؛ لأنه مؤجّل بأجل، و المؤجّل بأجل لا نسخ فيه.
الخامسة: قال بعضهم(2): سور القرآن باعتبار الناسخ و المنسوخ أقسام:
قسم ليس فيه ناسخ و لا منسوخ: و هو ثلاث و أربعون: سورة الفاتحة، و يوسف، و يس، و الحجرات، و الرحمن، و الحديد، و الصفّ، و الجمعة، و التحريم، و الملك، و الحاقة، و نوح، و الجنّ، و المرسلات، و عمّ، و النازعات، و الانفطار، و ثلاث بعدها، و الفجر و ما بعدها إلى آخر القرآن؛ إلاّ التّين و العصر، و الكافرون.
و قسم فيه الناسخ و المنسوخ: و هو خمس و عشرون: البقرة و ثلاث بعدها، و الحجّ، و النور و تالياها، و الأحزاب، و سبأ، و المؤمن، و الشورى، و الذّاريات، و الطور، و الواقعة، و المجادلة، و المزمّل، و المدّثر، و كورت، و العصر.
و قسم فيه الناسخ فقط: و هو ست: الفتح، و الحشر، و المنافقون، و التغابن، و الطّلاق، و الأعلى.
و قسم فيه المنسوخ فقط: و هو الأربعون الباقية. كذا قال، و فيه نظر يعرف مما سيأتي.
السادسة: قال مكيّ (3): الناسخ أقسام:
فرض نسخ فرضا، و لا يجوز العمل بالأوّل، كنسخ الحبس للزواني بالحدّ.
و فرض نسخ فرضا و يجوز العمل بالأوّل، كآية المصابرة.6.
ص: 650
و فرض نسخ ندبا كالقتال، كان ندبا ثم صار فرضا.
و ندب نسخ فرضا، كقيام الليل، نسخ بالقراءة في قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20].
السابعة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب(1):
أحدها: ما نسخ تلاوته و حكمه معا. قالت عائشة: كان فيما أنزل: عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هنّ مما يقرأ من القرآن. رواه الشيخان(2).
و قد تكلموا في قولها: (و هنّ مما يقرأ): فإنّ ظاهره بقاء التلاوة، و ليس كذلك(3).
و أجيب بأن المراد: قارب الوفاة، أو: أنّ التلاوة نسخت أيضا، و لم يبلغ ذلك كل الناس إلاّ بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فتوفّي و بعض الناس يقرؤها(4).
و قال أبو موسى الأشعريّ: نزلت ثم رفعت(5).
و قال مكيّ (6): هذا المثال فيه المنسوخ غير متلوّ، و الناسخ أيضا غير متلوّ، و لا أعلم له نظيرا. انتهى.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته؛ و هذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة، و هو على الحقيقة قليل جدا، و إن أكثر الناس من تعداد الآيات فيه؛ فإنّ المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربيّ بيّن ذلك و أتقنه.9.
ص: 651
و الذي أقوله: إنّ الذي أورده المكثرون أقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء و لا من التخصيص: و لا له بهما علاقة بوجه من الوجوه. و ذلك مثل قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 1]. أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ [البقرة: 254] و نحو ذلك.
قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، و ليس كذلك بل هو باق:
أمّا الأولى: فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق، و ذلك يصلح أن يفسّر:
بالزكاة، و بالإنفاق على الأهل، و بالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة و الإضافة. و ليس في الآية ما يدلّ على أنها نفقة واجبة غير الزكاة.
و الآية الثانية: يصلح حملها على الزكاة، و قد فسّرت بذلك.
و كذا قوله تعالى: أَ لَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 8] قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، و ليس كذلك؛ لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النّسخ، و إن كان معناه الأمر بالتفويض و ترك المعاقبة.
و قوله في البقرة: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] عدّه بعضهم من المنسوخ بآية السيف. و قد غلّطه ابن الحصار بأنّ الآية حكاية عمّا أخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر لا نسخ فيه، و قس على ذلك.
و قسم هو من قسم المخصوص، لا من قسم المنسوخ: و قد اعتنى ابن العربيّ بتحريره فأجاد، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [العصر: 2، 3].
وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الشعراء: 224، 227]. فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] و غير ذلك من الآيات التي خصّت باستثناء أو غاية، و قد أخطأ من أدخلها في المنسوخ.
و منه قوله: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221]. قيل إنّه نسخ بقوله:
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [المائدة: 5] و إنما هو مخصوص به.
و قسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في أوّل الإسلام و لم ينزل في القرآن: كإبطال نكاح نساء الآباء، و مشروعيّة القصاص و الدّية، و حصر الطّلاق في الثلاث. و هذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، و لكن عدم إدخاله أقرب، و هو
ص: 652
الذي رجّحه مكّيّ (1) و غيره. و وجّهوه: بأنّ ذلك لو عدّ في الناسخ لعدّ جميع القرآن منه، إذ كلّه أو أكثره رافع لما كان عليه الكفّار و أهل الكتاب. قالوا: و إنما حقّ الناسخ و المنسوخ أن تكون آية نسخت آية. انتهى.
نعم، النوع الأخير منه، و هو رافع ما كان في أوّل الإسلام، إدخاله أوجه من القسمين قبله.
إذا علمت ذلك: فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون الجمّ الغفير، مع آيات الصفح و العفو، إن قلنا: إنّ آية السيف لم تنسخها، و بقي مما يصلح لذلك عدد يسير.
و قد أفردته بأدلّته في تأليف لطيف، و ها أنا أورده هنا محرّرا:
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (2)[البقرة: 180] الآية: منسوخة، قيل: بآية المواريث، و قيل: بحديث: «ألا، لا وصية لوارث»(3)، و قيل: بالإجماع، حكاه ابن العربيّ.
قوله تعالى: وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (4)[البقرة: 184]. قيل: منسوخة بقوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185]: و قيل: محكمة، و (لا) مقدّرة.
ص: 653
و قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ (1)[البقرة: 187]؛ ناسخة لقوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183]؛ لأنّ مقتضاها الموافقة فيما كانوا عليه من تحريم الأكل و الوطء بعد النوم؛ ذكره ابن العربيّ، و حكى قولا آخر: أنّه نسخ لما كان بالسنّة.
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ (2)[البقرة: 217]: الآية منسوخة بقوله:
وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً... الآية [التوبة: 36]. أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ (3)[البقرة: 24]: إلى قوله: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ [البقرة: 240]. منسوخة بآية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً [البقرة: 234]. و الوصية منسوخة بالميراث، و السكنى: ثابتة عند قوم، منسوخة عند آخرين بحديث: «و لا سكنى»(4).
و قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ (5)[البقرة: 284]: منسوخة بقوله بعده: لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها [البقرة: 286].2.
ص: 654
و من آل عمران:
قوله تعالى: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (1)[آل عمران: 102]: قيل: إنّه منسوخ بقوله:
فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] و قيل: لا، بل هو محكم. و ليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية.
قوله تعالى: وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (2)[النساء: 33]: منسوخة بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ [الأنفال: 75].
قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ (3) الآية [النساء: 8]: قيل: منسوخة و قيل: لا، و لكن تهاون الناس في العمل بها.
قوله تعالى: وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ (4) الآية [النساء: 15]: منسوخة بآية النور.
قوله تعالى: وَ لاَ الشَّهْرَ الْحَرامَ (5)[المائدة: 2]: منسوخة بإباحة القتال فيه.
ص: 655
قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (1)[المائدة: 42]: منسوخة بقوله: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ [المائدة: 49].
و قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ (2)[المائدة: 106]: منسوخ بقوله: وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2].
قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ (3) الآية [الأنفال: 65]: منسوخة بالآية بعدها.
قوله تعالى: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً (4)[براءة: 41]: منسوخة بآيات العذر، و هو قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية [الفتح: 17]، و قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ [التوبة: 91] الآيتين، و بقوله: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122].
قوله تعالى: اَلزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً (5)[النور: 3]، منسوخة بقوله: وَ أَنْكِحُوا
ص: 656
اَلْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32].
قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (1)[النور: 58] الآية. قيل: منسوخة، و قيل: لا، و لكن تهاون الناس في العمل بها.
قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ (2) الآية [الأحزاب: 52]. منسوخة بقوله إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية [الأحزاب: 50].
قوله تعالى: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا (2) الآية [المجادلة: 12]. منسوخة بالآية بعدها.
الآخر بالصلوات الخمس.
فهذه إحدى و عشرون آية منسوخة، على خلاف في بعضها، لا يصح دعوى النسخ في غيرها.
و الأصح في آية الاستئذان و القسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة، و يضمّ إليها قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ [البقرة: 115]. على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله:
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآية [البقرة: 149]. فتمت عشرون.
و قد نظمتها في أبيات فقلت:
قد أكثر الناس في المنسوخ من عدد و أدخلوا فيه آيا ليس تنحصر
و هاك تحرير آي لا مزيد لها عشرين حرّرها الحذّاق و الكبر
آي التوجّه حيث المرء كان و أن يوصي لأهليه عند الموت محتضر
و حرمة الأكل بعد النّوم من رفث و فدية لمطيق الصّوم مشتهر
و حقّ تقواه فيما صحّ من أثر و في الحرام قتال للأولى كفروا
و الاعتداد بحول مع وصيّتها و أن يدان حديث النفس و الفكر
و الحلف و الحبس للزاني و ترك أولى كفروا شهادتهم و الصّبر و النّفر
و منع عقد لزان أو لزانية و ما على المصطفى في العقد محتظر
و دفه مهر لمن جاءت و آية نج واه كذاك قيام الليل مستطر
و زيد آية الاستئذان من ملكت و آية القسمة الفضلى لمن حضروا
فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم و بقاء التلاوة(1)؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنّ القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه و العمل به، فيتلى لكونه كلام اللّه فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
و الثاني: أنّ النسخة غالبا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرا للنعمة، و رفع المشقّة.2.
ص: 658
و أمّا ما ورد في القرآن ناسخا لما كان عليه الجاهلية، أو كان في شرع من قبلنا، أو في أوّل الإسلام، فهو أيضا قليل العدد؛ كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، و صوم عاشوراء بصوم رمضان؛ في أشياء أخر حرّرتها في كتابي المشار إليه.
قال بعضهم(1): ليس في القرآن ناسخ إلاّ و المنسوخ قبله في الترتيب، إلاّ في آيتين:
آية العدّة في البقرة، و قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ [الأحزاب: 52]. تقدّم.
و زاد بعضهم ثالثة، و هي آية الحشر في الفيء على رأي من قال: إنها منسوخة بآية الأنفال: وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنفال: 41].
و زاد قوم رابعة، و هي قوله: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199]. يعني الفضل من أموالهم، على رأي من قال: إنها منسوخة بآية الزكاة.
و قال ابن العربي(2): كلّ ما في القرآن من الصفح عن الكفار، و التولي و الإعراض و الكفّ عنهم، فهو منسوخ بآية السيف، و هي: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الآية [التوبة: 5]. نسخت مائة و أربعا و عشرين آية(3)، ثم نسخ آخرها أوّلها. انتهى. و قد تقدّم ما فيه.
و قال أيضا(4): من عجيب المنسوخ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ الآية، فإن أوّلها و آخرها، و هو: وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199]. منسوخ، و وسطها محكم؛ و هو وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ [الأعراف: 199].
و قال: من عجيبه - أيضا - آية أولها منسوخ و آخرها ناسخ، و لا نظير لها، و هي قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]. يعني بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ فهذا ناسخ لقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ .
و قال السعيديّ: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] الآية، مكثت ستة عشرة سنة حتى نسخها أوّل الفتح عام الحديبية.
ص: 659
و ذكر هبة اللّه بن سلامة الضرير(1) أنه قال في قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الإنسان: 8] الآية: إنّ المنسوخ من هذه الجملة وَ أَسِيراً و المراد بذلك أسير المشركين.
فقرئ عليه الكتاب و ابنته تسمع. فلما انتهى إلى هذا الموضع، قالت له: أخطأت يا أبت، قال: و كيف؟ قالت: أجمع المسلمون على أنّ الأسير يطعم و لا يقتل جوعا. فقال:
صدقت.
و قال شيذلة في البرهان(2): يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخا، كقوله: لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (3) [الكافرون: 6] نسخها قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5]، ثم نسخ هذه بقوله: حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29] كذا قال، و فيه نظر من وجهين:
أحدهما: ما تقدّمت الإشارة إليه.
و الآخر: أنّ قوله: حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29] مخصّص للآية لا ناسخ، نعم يمثّل له بآخر سورة المزّمّل، فإنّه ناسخ لأوّلها، منسوخ بفرض الصلوات.
و قوله: اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً [التوبة: 41] ناسخ لآيات الكفّ، منسوخ بآيات العذر.
و أخرج أبو عبيد، عن الحسن(4) و أبي ميسرة(5)، قالا: ليس في المائدة منسوخ.
و يشكل بما في المستدرك(6) عن ابن عباس: أن قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42]. منسوخ بقوله: وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ [المائدة: 49].
و أخرج أبو عبيد و غيره(6)، عن ابن عباس، قال: أوّل ما نسخ من القرآن نسخ القبلة.2.
ص: 660
و أخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه قال: أول آية نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول.
قال مكيّ (1): و على هذا فلم يقع في المكيّ ناسخ. قال: و قد ذكر أنه وقع في آيات: منها قوله تعالى في سورة غافر: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7]. فإنّه ناسخ لقوله: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5].
قلت: أحسن من هذه نسخ قيام الليل في أول سورة المزّمّل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، و ذلك بمكّة اتفاقا.
تنبيه(2): قال ابن الحصّار: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو عن صحابيّ يقول: آية كذا نسخت كذا.
قال: و قد يحكم به عند وجود التّعارض المقطوع به من علم التاريخ، ليعرف المتقدّم و المتأخر.
قال: و لا يعتمد في النسخ قول عوامّ المفسرين، بل و لا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، و لا معارضة بيّنة؛ لأن النسخ يتضمّن رفع حكم و إثبات حكم تقرر في عهده صلّى اللّه عليه و سلّم، و المعتمد فيه النقل و التأريخ دون الرأي و الاجتهاد.
قال: و الناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار الآحاد العدول؛ و من متساهل يكتفي فيه بقول مفسّر أو مجتهد. و الصواب خلاف قولهما. انتهى.
الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه: و قد أورد بعضهم(3) فيه سؤالا و هو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ و هلاّ بقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها و ثواب تلاوتها؟ و أجاب صاحب الفنون(4): بأنّ ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمّة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظنّ، من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، و المنام أدنى طريق الوحي.4.
ص: 661
و أمثلة هذا الضرب كثيرة.
قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيّوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يقولنّ أحدكم: قد أخذت القرآن كلّه، و ما يدريه ما كلّه! قد ذهب منه قرآن كثير، و لكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر(1).
و قال: حدّثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن(2).
و قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النّجود، عن زرّ بن حبيش قال: قال لي أبيّ بن كعب: كأيّ تعدّ سورة الأحزاب؟ قلت:
اثنتين و سبعين آية أو ثلاثا و سبعين آية. قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة؛ و إن كنّا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: و ما آية الرجم؟ قال: (إذا زنا الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم)(3).
و قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي أمامة بن سهل: أنّ خالته قالت: لقد أقرأنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم آية الرجم: (الشيخ و الشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللذة)(4).
و قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج: أخبرني ابن أبي حميد، عن حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ عليّ أبي - و هو ابن ثمانين سنة - في مصحف عائشة: (إنّ اللّه و ملائكته2.
ص: 662
يصلّون على النّبيّ يأيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما، و على الذين يصلون الصفوف الأول). قالت: قبل أن يغيّر عثمان المصاحف(1).
و قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالح، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إذا أوحي إليه أتيناه، فعلّمنا مما أوحي إليه. قال: فجئت ذات يوم، فقال: «إن اللّه يقول: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة و إيتاء الزكاة، و لو أن لابن آدم واديا لأحبّ أن يكون إليه الثاني؛ و لو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، و لا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، و يتوب اللّه على من تاب»(2).
و أخرج الحاكم في المستدرك: عن أبيّ بن كعب، قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: «إنّ اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ [البينة: 1]. و من بقيتها: (لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا، و إن سأل ثانيا فأعطيه سأل ثالثا، و لا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، و يتوب اللّه على من تاب.. و إنّ ذات الدين عند اللّه الحنيفية غير اليهودية و لا النصرانية، و من يعمل خيرا فلن يكفره)(3).
و قال أبو عبيد: حدّثنا حجّاج، عن حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي موسى الأشعري، قال: نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، و حفظ منها: (إن اللّه سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، و لو أنّ لابن آدم واديين من).
ص: 663
مال لتمنى واديا ثالثا، و لا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب، و يتوب اللّه على من تاب)(1).
و أخرج ابن أبي حاتم: عن أبي موسى الأشعريّ قال: كنّا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبّحات فأنسيناها، غير أبي حفظت منها: (يأيّها الّذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة)(2).
و قال أبو عبيد: حدّثنا حجّاج، عن شعبة(3)، عن الحكم بن عتيبة، عن عديّ بن عديّ قال: قال عمر كنا نقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم). ثم قال لزيد بن ثابت: أ كذلك؟ قال: نعم(4).
و قال: حدّثنا ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، حدثني ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: أ لم تجد فيما أنزل علينا: (أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)؟ فإنا لا نجدها! قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن(5).
و قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافريّ، عن أبي سفيان الكلاعي: أن مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف؟ فلم يخبروه - و عندهم أبو الكنود سعد بن مالك - فقال مسلمة: (إنّ الّذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم و أنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون * و الّذين آووهم و نصروهم و جادلوا عنهم القوم الّذين غضب اللّه عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون)(6).
و أخرج الطّبراني في الكبير. عن ابن عمر قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فكانا يقرءان بها، فقاما ذات ليلة يصلّيان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فذكرا ذلك له، فقال: «إنّها ممّا نسخ، فالهوا عنها»(7). -
ص: 664
و في الصحيحين: عن أنس - في قصة أصحاب بئر معونة الّذين قتلوا، و قنت يدعو على قاتليهم - قال أنس: و نزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: (أن بلّغوا عنا قومنا أنّا لقينا ربنا فرضي عنا و أرضانا)(1).
و في المستدرك: عن حذيفة قال: ما تقرءون ربعها. يعني: براءة(2).
قال: الحسين بن المنادي في كتابه «الناسخ و المنسوخ»(3): و مما رفع رسمه من القرآن و لم يرفع من القلوب حفظه، سورتا القنوت في الوتر، و تسمّى سورتي الخلع و الحفد.
تنبيه: حكى القاضي أبو بكر في «الانتصار»(4) عن قوم: إنكار هذا الضّرب؛ لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، و لا يجوز القطع على إنزال قرآن و نسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها.
و قال أبو بكر الرازيّ (5): نسخ الرسم و التلاوة إنما يكون بأن ينسيهم اللّه إياه، و يرفعه من أوهامهم، و يأمرهم بالإعراض عن تلاوته و كتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب اللّه القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [الأعلى: 18، 19]. و لا يعرف اليوم منها شيء. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبيّ صلّى اللّه عليه و سلّم، حتى إذا توفّي لا يكون متلوا في القرآن، أو يموت و هو متلو موجود بالرّسم، ثم ينسيه اللّه الناس، و يرفعه من أذهانهم. و غير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم. انتهى.
و قال في «البرهان»(6) في قول عمر: (لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّه لكتبتها) - يعني آية الرجم - ظاهره أنّ كتابتها جائزة، و إنما منعه قول الناس، و الجائز في2.
ص: 665
نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، فإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأنّ هذا شأن المكتوب.
و قد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر، و لم يعرّج على مقالة الناس؛ لأنّ مقالة الناس لا تصلح مانعا. و بالجملة هذه الملازمة مشكلة، و لعله كان يعتقد أنه خبر واحد، و القرآن لا يثبت به، و إن ثبت الحكم، و من هنا أنكر ابن ظفر في «الينبوع»(1) عدّ هذا مما نسخ تلاوته، قال: لأنّ خبر الواحد لا يثبت القرآن.
قال(2): و إنما هذا من المنسأ لا النسخ، و هما مما يلتبسان، و الفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه. انتهى.
و قوله: (لعله كان يعتقد أنه خبر واحد) مردود، فقد صح أنه تلقاها من النبي صلّى اللّه عليه و سلّم.
و أخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت، قال؛ كان زيد بن ثابت و سعيد بن العاص يكتبان المصحف، فمرّا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقول: «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة»، فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: أ لا ترى أنّ الشيخ إذا زنى و لم يحصن جلد، و أنّ الشّاب إذا زنى و قد أحصن رجم(3).
قال ابن حجر في شرح المنهاج(4): فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها؛ لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.
قلت: و خطر لي في ذلك نكتة حسنة، و هو أنّ سببه التخفيف على الأمّة بعدم اشتهار تلاوتها و كتابتها في المصحف، و إن كان حكمها باقيا؛ لأنه أثقل الأحكام و أشدّها، و أغلظ الحدود، و فيه الإشارة إلى ندب الستر.
و أخرج النسائيّ (5): أنّ مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: أ لا تكتبها فيه.
ص: 666
المصحف؟ قال: أ لا ترى أنّ الشابين الثيبين يرجمان! و لقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: أنا أكفيكم، فقال: يا رسول اللّه، اكتب لي آية الرجم. قال: «لا تستطيع».
قوله: (اكتب لي) أي: ائذن لي في كتابتها، أو: مكني من ذلك.
و أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن(1) عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن أسلم: أنّ عمر خطب الناس، فقال: لا تشكّوا في الرّجم، فإنّه حقّ، و لقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبي بن كعب، فقال: أ ليس أتيتني و أنا أستقرئها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فدفعت في صدري و قلت: تستقرئه آية الرجم، و هم يتسافدون تسافد الحمر؟.
قال ابن حجر(2): و فيه إشارة إلى بيان السّبب في رفع تلاوتها، و هو الاختلاف.
تنبيه: قال ابن الحصّار في هذا النوع: إن قيل: كيف يقع النسخ إلى غير بدل، و قد قال تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106]. و هذا إخبار لا يدخله خلف؟.
فالجواب: أن تقول: كلّ ما ثبت الآن في القرآن و لم ينسخ فهو بدل ممّا قد نسخت تلاوته، و كلّ ما نسخه اللّه من القرآن - مما لا نعلمه الآن - فقد أبدله بما علمناه، و تواتر إلينا لفظه و معناه.2.
ص: 667