استراحة ثالثة في رمضان : في السيرة واللغة والأدب ومكارم الأخلاق

هوية الكتاب

استراحة ثالثة في رمضان

في السيرة واللغة والأدب ومكارم الأخلاق

ا. د صلاح مهدي الفرطوسي

محرر الرقمي: محمد رضا راهجو

ص: 1

اشارة

ص: 2

المقدمة

مر زمن جاوز ثماني سنوات على صدور الاستراحة الثانية، وهذه ثالثة بالعنوان نفسه؛ وكنت أمني النفس خلالها أن أكتب استراحة كلّ سنة أستعرض فيها جوانب من سيرتي، وأخر عن هذا الصديق أو ذاك، ممن ارتبطت جوانب من ذكرياتي معه، أو كانت له يد طوقتني بعرفان؛ وأشكر فيها أيضًا من كرمني من المؤسسات أو الصحب، وأشيد أيما إشادة فيها بكليتي في بغداد والكوفة على ما طوقتاني به من تكريم يتجاوز قدري بكثير لتسمية عمادتهما قاعتين باسمي الأولى في كلية التربية الأساسية بجامعة الكوفة، والثانية في كلية التربية - ابن رشد بجامعة بغداد، وما تبع ذلك من احتفاء لا يدانيه شكر للقائمين عليهما، وليس عندي ما أقدمه لهم إلّا الدعاء الصادق، فقد أسعدوا الشيخ في خريف عمره سعادة لا تعدلها سعادة، وطوقاه بمعروف يتجاوز قدره.

ولا تختلف هذه الاستراحة عن سابقتيها كثيرًا، ففيها وقفة حول رحيل المصطفى صلى الله عليه وآله وهول وقعه على أخيه عليه السلام، وأخرى عن أحد صحابته رضوان الله عليهم، وشكر وتقدير لمقدمة السيد النبيل الحسني التي نوه بها بالجهد الذي بذلته في تحقيق كتاب نهج البلاغة، وأشاد بقيمة المخطوطات التي اعتمدت عليها في التحقيق ومن دواعي الامتنان أيضًا أن هذا السيد النبيل كان سببًا في طبع الكتاب طباعة لا تدانيها طباعة أي كتاب من كتبي السابقة، والشكر

ص: 3

موصول لأمانة العتبة الحسينية ممثلة بالعلامة الكبير الشيخ مهدي الكربلائي سدده الله، ولقد دعوت له ولمن ساعدني في إخراج ذلك العمل الذي أخذ سنيات من عمري جاوزت الست.

وهذه الاستراحة فيها مقالات تناولت أيضًا مباحث في اللغة والأدب والسيرة، وأخر نوهت فيها ببعض جهود الأصدقاء العلمية والأدبية التي تستحق التنويه ونشرت بعضها في إحدى الصحف العراقية.

وفي الاستراحة أيضًا وقفة مع الراحل الكبير رئيس مجمع دمشق الأستاذ الدكتور شاكر الفحام الذي كان سببًا في اختياري لعضوية مجمع دمشق، وفيها بعض الرسائل التي أبردتها له طيب الله ثراه، ومشاركتي في أربعينيته بعد رحيله إلى دار البقاء.

وفيها أيضًا مقالات حبرها بعض الأخوة العلماء أشادت بجهدي المعرفي، وكذا احتفاء بعض المؤسسات بمكانتي العلمية والثقافية ودوري في خدمة مدينة أمير المؤمنين عليه السلام وما كتبته عنه وعن ضريحه المقدس، وعن ثوية الكوفة ومن دفن فيها، وغيرها.

فيها أيضًا أحاديث عن ذكرياتي قبل رحلة التغرب سنة 1993م وما بعدها من العراق إلى الأردن إلى اليمن إلى السودان إلى ليبيا إلى النيجر إلى البوسنة والهرسك، ثم الاستقرار في هولندا أستاذًا بالجامعة الإسلامية في روتردام، ومن ثم العودة إلى

ص: 4

العراق، وما واكب تلك الأيام الشديدة الطول من نكد وخوف ووجل، ومن حلو وحامض قد لا أنصح بقراءتها لما فيها من أيام أشد سوادًا من حنك الغراب.

وهي بمجموعها تسلط بعض الضوء على مسيرتي العلمية والثقافية والاجتماعية والأسرية، وما مرّ بي خلالها من محطات فرح أزاحت من ذاكرتي كثيرًا من نكد الأيام، يمتدّ بعضها إلى مراحل تعود إلى أوائل سبعينيات القرن المنصرم.

وهذه الاستراحة مدينة بالشكر أيضًا لابن عمي العزيز خادم أمير المؤمنين عليه السلام الأستاذ حيدر الفرطوسي، الذي بذل جهدًا كبيرًا في إخراجها بالصورة التي عليها، والشكر موصول لابن أخي القارئ المهندس علي الطريحي للمساعدات التي قدمها لي أثناء طباعة الاستراحة.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل خاتمتي على خير، ويتجاوز عن سيئاتي التي أثقلت كاهلي، ويمدني بالصحة ، ويأخذ بيدي إلى طريق الخير والصلاح، إنه على كل شيء قدير .

ص: 5

تقديم

بقلم الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري رئيس الجامعة الإسلامية السابق بالنيجر

مع الدكتور صلاح الفرطوسي

الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري واحد من كبار مفكري المغرب ومؤلفيهم، ومن أشد المدافعين عن العربية فيه، وله مؤلفات كثيرة في هذا الصدد. كان مديرًا لمؤسسة علال الفاسي للفكر والثقافة، ومستشارًا لوزارة الثقافة المغربية، حاز على جوائز عدة منها جائزة الملك فيصل وجائزة الألسكو في الشارقة، وجائزة المغرب لثلاث مرّات، وألف أكثر من ثلاثين كتابًا في اللغة والثقافة والأدب.

تعود معرفتي به إلى سنة 1981 ، إذ شرفت بمزاملته في كلية الآداب بجامعة محمد بن عبد الله بالمحروسة فاس؛ وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على معرفتي به فإن حبل الوصل لم ينقطع فيما بيننا، وله أياد كريمة عليّ طيلة إقامتي في المغرب، وبعد خروجي منه؛ وجمعتني الأقدار به في الجامعة الإسلامية بالنيجر أيضًا مدة سنتين يوم كان رئيسًا لها . ويوم هبت رياح الطائفية علي أثناء وجودي في الجامعة دافع عنّي دفاعًا صادقًا وكاد يستقيل من الجامعة بسببي.

ص: 6

تقديم بقلم الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري

كتب إلى تلميذتي زهراء يوم سألته عن علاقتنا رسالة قال فيها:

تعرفت إلى أخي الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي في السنوات الأولى من ثمانينيات القرن الماضي، جاء إلينا مع ثلة من خيرة أساتذة الجامعات العراقية في إطار التعاون الجامعي العلمي والثقافي الذي كان على أشدّه بين بلدينا المغرب والعراق في ذلك الوقت، واستقر به المقام مع أسرته الصغيرة بمدينة فاس، متفرّعًا للعمل بكلية الآداب من جامعة محمد بن عبد الله؛ فوجدني يومها قبل أن أُلحق مستشارًا بوزارة الثقافة بجانبه أستاذًا مساعدًا في هذه الكلية التي سبق لي أن كنت واحدًا من خريجيها في مرحلتي الإجازة والماجستير.

مصادفة عجيبة تلك التي جمعتني بعالم شاب قادم لتوه من عاصمة العباسيين، وموئل المجد العربي ! وكرسي الخلافة الإسلامية يوم كانت في أوج قوتها وازدهارها، على أرض مدينة عريقة أيضًا أسسها رجل من بني أبي طالب جاء ملاحقا من بني العباس.

وبغداد لم تكن جديدة ولا عصيّة على حينذاك، زرتها أول مرّة ورأيتها رؤية العين سنة 1977م، في عزّ الصيف وذروة القيظ وعرفتها قبل ذلك معرفة الدارس المتعمق في تاريخها الحضاري والثقافي، فانطبعت في ذهني صورتها المتألقة بكل تفاصيلها الزاهية من خلال بحثي في حياة شخصية ذات شهرة وتأثير كبيرين في التاريخ العلمي الأندلسي حين جعلتها محور رسالتي للماجستير بعنوان: (أبو علي القالي وأثره في الدراسات اللغوية والأدبية بالأندلس).

ص: 7

كان هذا القالي معروفًا بالبغدادي إذ جاء إليها من من ازجرد، وأقام فيها وحصد ما حصد من معارفها ،وعلومها ثم قدم منها إلى قرطبة مركز الإشعاع الثقافي الكبير في منطقة الغرب الإسلامي، فكانت له فيها منزلة عظيمة خالدة وتلاميذ كثيرون في مجالات اللغة والأدب. وشاءت الصدفة أن يكون صلاح القادم من بغداد أيضًا قد تعاطى مثلي دراسة التراث اللغوي الأندلسي الذي يرجع الفضل في تجديد أسسه وإعلاء صرحه إلى الشيخ البغدادي وتلاميذه من بعده.

جاء صلاح إلى فاس وفي يده نسخة مطبوعة من تحقيقه لكتاب المثلث لابن السيد البطليوسي، وهو من الشخصيات اللغوية المشهورة في تاريخ الأندلس، وقد تناولته في كتابي عن أبي علي القالي باعتباره من تلاميذه غير المباشرين ، وكان كتابي هذا قد لقي صدى كبيرًا في المغرب، وكان بحثًا مباركًا أعطى نباتا زكيا، وتفرعت أصله بحوث ومقالات شتّى في موضوعات من التراث اللغوي الأندلسي أصبحت مجالاً مشتركا بيني وبين الدكتور الفرطوسي، فقد كنت نشرت سنة 1977م ثلاثة بحوث أصليّة في ثلاثة أعداد متوالية من مجلة المناهل المغربية ذات المكانة العلمية المرموقة، الأول بعنوان: (استدراك الغلط الواقع بكتاب العين)، عرفت فيه بهذا الكتاب الذي ألفه أبو بكر الزبيدي، وكان من قبل في عداد المفقودات والثاني بعنوان كتاب السماء والعالم قدمت فيه هذا النص المعجمي المغمور الذي ألفه تلميذ آخر للقالي، وهو محمد بن أبان بن سيد القرطبي، ونشرت نتفة صغيرة منه، ولم يكن أحد من قبل قد درسه وحقق نسبته لصاحبه. والثالث

ص: 8

بعنوان: كتاب الأمالي وأثره في الحياة الثقافية بالأندلس). وفي سنة 1984م صدر لي بالرباط كتاب: (المعجم العربي بالأندلس)، وهو في الأصل بحث نشرته من قبل بمجلة عالم الفكر الكويتية سنة 1981م؛ وهذه الموضوعات والنصوص هي نفسها التي أخذت حظا وافرًا من اهتمام صلاح وأمضى في بحثها ودراستها وقتا غير قصير. وما كنت أحسب يومًا أنها ستكون نقطة جدب قوية تجعلني في صلب دائرة اهتمام أخي صلاح، ويتحول الاهتمام والإعجاب المتبادل والمجال العلمي المشترك إلى صداقة صافية من النبع، وأخوة صادرة من القلب إلى القلب، ربطتها حبال متينة مضى على فتلها إلى اليوم قرابة أربعين عاما.

كنا باستمرار تعاون كبير في هذا الحقل العلمي المشترك، ولم يغادر فاس إلا وقد ملأ وطابه بما أراد واشتهى من محبوء خزائنها ودفائنها فضلا عما استنسخه من دور المخطوطات المغربية الأخرى كالخزانة العامة في الرباط والخزانة الملكية فيها، وقطع أشواطا في تحقيق مختصر العين للزبيدي الذي طبعه في بغداد بعد ذلك، وفي نيته الاشتغال بالأجزاء الموجودة منه واستدراك الغلط الذي طبعه المجمع العلمي بمقدمته التي كنت نشرتها من قبل، وإخراج ما حفظه الزمان من كتاب السماء والعالم، وغيرها من النصوص التي حصل على نسخ من مخطوطاتها المغربية؛ ولم يرجع إلى بغداد من تلك الإعارة الجامعية التي استمرت بضع سنوات إلا وقد ربط علاقات جيدة مع عدد من مثقفي المغرب وعلمائه وصحفه ومجلاته ومجالسه العلمية والأدبية رغم قصر المدة، وبالمناسبة فللرجل قدرة خارقة على استقطاب الناس من

ص: 9

حوله واختراق قلوبهم، والظفر بمحبتهم وصداقتهم بأسلوبه السهل الممتنع، وفي ظرف قياسي وجيز.

تلك ميزة تأكدت لي في مناسبات كثيرة وخلال مدة صداقتنا الطويلة، والمهم أنه صار من كتاب جريدة العلم الشهيرة بالمغرب ومجلة المناهل التي نشرت له بحثين في عددين متتابعين (198327،28م) عنوان الأول: (مشاركة علماء العربية في مباحث نشأة اللغة)، وعنوان الثاني: (اللغة العربية بين الرواية والتقعيد).

رجع صاحبي بعد ذلك إلى موقع عمله الأصلي بجامعة بغداد، ولكن لقاءاتي به استمرت سنوات أخر فقد أصبح ترددي على عاصمة الرشيد امرًا معتادًا كل سنة تقريبًا، وكان لأخي صلاح ولزمرة أخرى من زملائي أصدقائي الفضلاء العراقيين الذين عملوا في سلك التدريس في الجامعات المغربية كالدكتور محمد البكاء والدكتورة ابتسام مرهون الصفار وزوجها الفاضل بدري محمد فهد وحسام النعيمي وطه محسن وغيرهم كثير، فضل لا ينسى في ربط علاقاتي بثلة من خيرة مثقفي العراق وأساتذتها وعلمائها، خالطتهم وعرفت الكثير منهم، فوجدته من أطيب الناس خلقًا وأعلاهم كرمًا وأكثرهم علمًا وأدباً وتواضعًا وحبًّا للمغاربة منقطع النظير.

ثم شاءت الأقدار مرة ثانية أن تجمعنا جمعًا آخر مباركًا على صعيد (أرض محايدة) كما سماها صلاح في أحد نصوصه الممتازة، وهي رحاب الجامعة الإسلامية

ص: 10

بالنيجر التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، كنت سبقته إليها بمدة وجيزة والتحق بي قادمًا إليها من ليبيا الشقيقة، التي لم يلبث بها سوى بضعة أشهر.

كان الأستاذ صلاح قد غادر العراق في منفى اختياري أيام الحصار السود الغاشمة على العراق بعد حرب الخليج الأولى، فاتجه مع أهله إلى مدينة تعزّ في اليمن ليستقر قليلا في جامعتها، وكانت بيننا مراسلات لا تنقطع، وذات يوم كتب إليّ من هذه المدينة متحدثًا عن أحواله وغربته وبعده عن وطنه وأحبابه وأهله رغم الحفاوة التي أحاطه بها أهل اليمن الكرام البررة، وهم من أطيب الناس خلقا ودماثة، عرفت ذلك من اختلاطي بهم وزيارتي لبلدهم العريق المضياف في شهر سبتمبر من سنة 1981 م ، وقد كتبت مذكرات نشرتها في حلقات عن تلك الرحلة 1981م، الميمونة المليئة بأجمل الذكريات. لكن الظروف التي ألجأته إلى ترك وطنه على كره ومضض كانت جراحها قد أثخنته وآلامها أقضت مضجعه فصادفت تلك الرسالة ما في نفسي من الضيق والانزعاج مما صار عليه وضعي في المغرب في تلك الفترة بالذات؛ فأجبته بأبيات أشكو فيها همنا المشترك تحت عنوان: من حديث المغرب للمشرق) ، فكانت على إيقاع (تعزّ) التي جاءت منها رسالته الحزينة المؤثرة.

قلت في تلك الأبيات:

إيها المخلص المحب سلمت ***لحبيب و وصلته فتعزّى

أنت في غربة فقدت بلادا ***وبلادي فقدت فيها معزا

أنت في مهبط اليمان وإني *** المحيط يهزني الموج هزا

ص: 11

أنت في مشرق جناح مهيض ***و جناحي بمغرب يترزا

فكلانا مثخن بجراح ***وكلانا قلوبه تنزی

لا تخل أن في بلادنا نفسًا ***لم تزلزل ولم تهن وتهزا

لا تخل أن في العروبة رأسا ***ظل شامخاً دونما أن يجزا

لا تخل أن في العروبة فردًا ***لم يجد أن في ضميره وخزا

لا تخل أن بعضنا كاد ينجو ***فكلانا لز فى المصائب لزا

ومنذ صدور هذه الأبيات صار صلاح لا يكتب لي رسالة إلّا وهي ممهورة بتوقيعه الذي يتضمن هذه اللازمة (المخلص المحب صلاح).

ضاق صدر الطائر الجريح المهاجر ، فغادر جامعة تعز متجها صوب الخرطوم، لكنه لم يمكث بها سوى أيام، ثم عزم على القيام بأكبر مغامرة في حياته جازف فيها بنفسه وزوجته وبناته الخمس ؛ وأية مغامرة أشدّ خطرًا من قطع الصحراء الإفريقية الكبرى برا من أقصى الشرق إلى الغرب والغوص في لجة رمالها من السودان إلى ليبيا في بضعة أيام لا يرافقه فيها إلا نفر قليل من المغامرين مثله على متن سيارة واحدة؛ وحين أخبرني بهذه القصة ونحن في مجلسنا بمدينة نيامي ، وقف شعر رأسي من هول ما أسمع وقفزت من مكاني لا أصدق ما يقول، ولكن المغامرة حصلت بالفعل، ولولا ألطافُ الله لكان قد حدث له من المكاره ما لا يحمد، ولكن الله سلّم، وبالمناسبة فصلاح لديه ميول عجيبة للمغامرة بكل شيء وفقدان كل شيء في حالة الضيق والاكتئاب الحاد التي لا يقدرها إلّا من عاناها، واكتوى بلهيبها . وهو في

ص: 12

الأول والآخر معذور على كل حال، ففي مثل تلك اللحظات من ارتفاع الضغط النفسي، والألم الداخلي الذي يعتصر القلب اعتصارًا، ويمزق ما بقي من الأعصاب تمزيقا يفقد الإنسان ولاسيما المرهف الإحساس طعم العيش والرغبة في الحياة ويحجب عنه كل شيء يمكن أن يُرى أو يُحسّ أو يُعاش، أو يستحق قيمة، ولا يبقى أمامه إلا المغامرة بكلّ شيء.

ولكنّي مع ذلك كله، وفي غير هذه اللحظات القاسية التي تمرّ مرور العواصف العاتية لا تبقي ولا تذر، كنت أجد فيه كثيرًا مما يحسد عليه، سعة في الصدر، وفسحة كبيرة من الأمل، وأناة وصبر وقوة تحمل، وروح دعابة وسخرية وابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه؛ رغم كلّ ما ترسّب في أعماق القلب من هم ثقيل ومرارة من ظلم الحياة لا يطاق. كان هذان العنصران المتلازمان من اليأس والأمل يعيشان بداخله في صراع مستمرّ إلى أن يأذن الله بالفرج، فكان الانتصار لأحدهما على الآخر.

حين استقرّ بطرابلس علم بوجودي في نيامي عاصمة النيجر، فكتب إلي عن رغبته في الالتحاق بي. في البداية حذرته من هذه المغامرة الجديدة، ولاسيما أنه لم تكن بالبلد الذي أقيم به يومذاك مدارس تناسب تعليم بناته على الطريقة التي يريدها، ونمط الحياة وإيقاعه هناك مختلفان عما ألفه وتعوده في بلاده، وأنا أعرف ما كان فيه من رغَدٍ وطيب العيش في بغداد، ولكنه أصر، وإلحاحه لا يُصدّ ولا يردّ؛ فكان اللقاء الجميل، والحق أني كنت سعيدًا بؤنسه وقربه ومساعدته، وسر عان ما صارت حول صلاح دائرة واسعة من المحبين والأصدقاء، ومن الحاسدين

ص: 13

والحاقدين والواشين أيضًا. وكعادته في الكرم والسماح، فتح بابه وقدم طعامه وشرابه لكل وافد من أول النهار إلى آخر الليل، وكانت مجالسه لا تمل، حديث شائق وروح رائقة، وذكريات حبلها طويل، ومعرفة واسعة بالحياة، ولسان فصيح وصدر منشرح على كثرة ما هو مكبوت في النفس من أحزان وآلام؛ فلم يكن أحد من مجالسيه يسشعر في حضوره شيئًا مما يلاقيه من المعاناة والقنوط ووطأة الغربة وذلك بفضل ما رزقه الله من قوة الاحتمال وقليلا ما يجود بها الرحمن إلّا على القليلين من عباده الصابرين.

وفي نيامي لم تشغله إدارته للمعهد العالي للتربية وتكوين الأساتذة، ولا دروسه وأشرافه على تحرير مجلة حوليات الجامعة ولا صعوبة الطقس وجفاء الطبيعة عن مشروعه العلمي الذي سار فيه، فهناك أيضًا أعاد فتح دفاتره وكتبه واستأنف نشاطه العلمي المعهود، وعاود الاشتغال بتحقيق استدراك الغلط الواقع في كتاب العين الذي ذكرته من قبل، ونشر في العدد الثاني سنة 1996 من حوليات الجامعة مقالة ضافية بعنوان موقف القالي من كتاب العين في سبع وعشرين صفحة.

لكن الطائر الجريح المهاجر لم يستقرّ به المقام في نيامي أكثر من سنتين تقريباً، إذ سرعان ما طرأت ظروف غير متوقعة كدرت صفو عيشنا جميعًا، فعاد للتحليق من جديد وكانت وجهته غربية فاستقرّ هذه المرّة بمدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، وكانت قد خرجت لتوها من حرب طاحنة ماحقة شنّت عليها لمدة ثلاث سنوات متلاحقة، ولكن حبّ المسلمين في تلك البلاد للغة القرآن وتعلقهم

ص: 14

بدينهم وتراثهم وطيبتهم وحسن ضيافتهم ، وشغف الرجل بالاستمرار في خدمة هذه اللغة الشريفة والتعريف بثقافتها وعلومها وآدابها، كل ذلك تعاون على توفير جو هادئ ومناسب لإقامة الرحالة المعلم؛ وهناك عاد مرة أخرى لنشر دفاتره وصحائفه، ووجد طريقا سالكة لطبع بعض التي وصل إلي منها بالبريد فيه بعض ما سبق نشره من مقالات قصيرة، وضمنه بعض من ذكرياته وسيرته، وكتاب آخر بعنوان نصوص معجمية فريدة، ضمّ نتفا من كتاب السماء والعالم لمحمد بن أبان القرطبي الذي ذكرته سلفًا، والمثلث لأبي جعفر القزاز القيرواني وذيل الحيوان للسيوطي.

ثم غابت عنِّي أخبار الأخ الصديق مدّة، بعد أن غادر البوسنة والهرسك نحو فضاء آخر من أوروبا، إلى أن جاءت لحظة الفرحة الغامرة التي طالما انتظرها بشوق عظيم، فعاد إلى العراق كما عاد غيره من آلاف المثقفين والجامعيين الذين عاشوا سنوات المعاناة القاسية في الشتات، فألقى عصا تيساره مجاورًا عتبات جدنا الأكبر سيدنا الإمام علي عليه السلام في حاضرة الكوفة التي بها عبق التاريخ يفوح من كل أركانها ومآثرها وصوامعها وقبابها ومشاهد ساداتها وأوليائها، وعاد لمواصلة حياته العلمية المستقرة في ربوع وطنه وبين أهله وأصحابه وعشيرته بعد غياب مجحف ظالم ورحلة شاقة دامت أكثر من عشر سنوات جاب خلالها أطراف الأرض، شرّق وغرب وأجنب وأشمل.

ص: 15

فهنيئًا له العود الحميد ودام له السعد السعيد ورزقه الله الصحة والعافية والعمر المديد.

كتبه : عبد العلي الودغيري بالرباط في : 2018/6/26

ص: 16

رحيل المصطفى وهول وقعه على أخيه

صلوات الله وسلامه عليهما

لا يستطيع أحد أن يقدر هول الأيام الأخيرة وسويعاتها على أبي الحسنين عليه السلام والمصاب الجلل الذي كان ينوء به حين شعر بقرب رحيل أخيه المصطفى صلى الله عليه وآله؛ لقد رأيته وعيناه في أم رأسه يجاهد كي يمسك بتلابيب أعصابه، وهو يرى أخاه يجود بنفسه، فيتمثل عمره عليه السلام منذ طفولته المبكرة هكذا ينسل بين أصابعه منها ولا يستطيع الإمساك به.

وهبه كان عليّا فإن مصابه ذاك ليس كأي مصاب، وعجيب عدم تساؤل جميع رواة أخبار رحيل المصطفى، أو سيرة المرتضى عن المرتضى صلوات الله وسلامه عليهما هل صلى خلف أحد في مسجد أخيه صلى الله عليه وسلَّم أيام مرضه؟ وهل رآه أحد من قبل يصلي في بيته، أو في غيره، وهو بالمدينة!؟، فلماذا تخلف عن خلف أبي بكر في صلاته إن كان النبيُّ قد أمر بها؟ لا أظن أن الإمام عليه السلام كان بعيدًا عن مسجده الشَّريف، فليس غير جدار يغلب على الظن أنه من جريد النخل، وليس غير باب يدخل منها إلى المسجد ويخرج.

ومن الصعب أن نتصور أنه فارق أخاه لحظة واحدة في تلك الأيام إلا لأمر لا يستطيع دفعه، ولعله لم يذق طعم نوم أو طعام فيها إلَّا لماما .

ص: 17

لقد كان في شغل عن دنيا القوم التي بدأ الاحتراب عليها قبل حين، بل يراودني يقين أن المصطفى صلى الله عليه وآله ما كان يطيق فرقة أخيه ولو لدقيقة واحدة، فما زال هناك ما يوصيه به ويحدثه عنه، لذا فإنه حينما أحس صلى الله عليه وآله وسلّم بدنو أجله - ولعل الإمام في ساعتها ذهب إلى ما لا يقدر على منع نفسه من إليه – طلبه بإلحاح شديد، فليس غيره يجدر أن يحضر كي يسمع كلماته الأخيرة؛ قال ابن سعد في طبقاته 2 / 263: أخبرنا محمد بن عمر حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ( ادعوا لي أخي ؛ قال: فدعي له علي فقال: ادن منّي، فدنوت منه فاستند إلى فلم يزل مستندا إلي وإنه ليكلمني حتى إن بعض ريق النبي صلى الله عليه وسلم لَيُصيبني، ثم نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وثَقِلَ في حجري فصحت يا عباس أدركني فإني هالك فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه)، وتقرأ قريبًا من هذا في كتاب فضائل أمير المؤمنين لأحمد 389 برقم 296 عن أمّ أقسمت أن المرتضى كان أقرب الناس عهدًا برسول الله صلوات الله سلمة يوم وسلامه عليهما، ولك أن تنظره عنها في مستدرك الحاكم 3 / 138 - 139 أيضًا.

ورواية ابن سعد السابقة تأخذ منحى إضافيًا في إرشاد المفيد، فالرسول حينما دعا، قالت السيدة عائشة : ادعوا له أبا بكر، فلما دعي أعرض عنه النبي، فقالت السيدة حفصة: ادعوا له عمر، فلما حضر أعرض عنه النبي، ولما أعاد الطلب ثالثة، قالت السيدة أم سلمة: ادعوا له عليا إنه لا يريد غيره.

ص: 18

وأنت تستطيع أن تقدر مدى تعلق المصطفى بأخيه سلام الله عليهما حتى الرمق الأخير؛ ولا أدري كيف نستطيع أن نتصور متى استطاع الإمام سلّ صورة ذلك الوداع الأخير من عينيه؟!، يراودني يقين أنه لم يستطع سلّها لا في ساعات ليل ولا في ساعات نهار، ولعل الصورة كانت على أوضح ما تكون حين ضربه ابن ملجم لعنة الله عليه على هامته ففطرها، ولعلّ تلك السويعات على شدة إيلامها كانت من أحب ساعات الدنيا إليه، ولا أشكُّ في أن أمير المؤمنين يوم قرب موعد التحاقه بأخيه كان يراه صلى الله عليه وآله كما لم يكن قد رآه من قبل، فتعجل الرحيل إليه، فكتبه الله له عليه السلام .

وروى الشيخ اليوسفي في موسوعته 689/3 عن إرشاد المفيد 1/ 185 وغيره من مصادره أنَّ النبيَّ في سويعاته تلك التفت إلى عمه العباس وسأله إن كان بإمكانه تقبل وصيَّته؛ فاعتذر بسبب شيخوخته وتقدم سنه، وبسبب ثقل وصيته صلوات الله عليه، وحينما سأل أخاه لم يتردد عن قبولها؛ فدعا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بسيفه ودرعه وجميع لامته وعصابة كان يشدها على بطنه إذا خرج إلى الحرب فدفعها إليه، ونزع خاتمه من يده، وطلب منه أن يضعه بإصبعه، ولا شك أنَّ ذلك الخاتم لم يفارق يده إلى أن التحق به صلوات الله وسلامه عليهما، ورويت روايات أخر حول إخبار النبي أخاه وعمَّه عن موقف القوم منهم بعد رحيله.

ص: 19

الرحيل:

وفي الوقت الذي كان أصحاب السقيفة في شغل عن رسول الله، كان المرتضى وأهله صلوات الله وسلامه عليهم في شغل عنهم، فقد تولّى عليه السلام من الأمر أصعبه، وساعده فيه ابن عمه قثم بن العباس ، وأبوه العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وانضم إليهم أوس بن الخولي - وهو من البدريين بعد أن نشد الإمام عليه السلام حظ الأنصار من رسول الله صلى الله عليه وآله .

و مما رواه ابن هشام في سيرته 4 / 370 قوله : (قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثاء... فأسنده علي بن أبي طالب إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه هما اللذان يصبان الماء وعلي يغسله وقد أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وعلي يقول : بأبي أنت وأمي، ما أطيبك حياً وميتا، ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما يرى من الميت.

والذي لا شكّ فيه أن القيام بأمر النبي كله يوم حضر أجله صلوات الله وسلامه عليه لم يكن بمبادرة من علي عليه السلام فحسب وإنما كان بوصاة منه صلى الله عليه وآله وسلّم فقد روى الصدوق بسنده عن ابن عباس كما ذكر اليوسفي في موسوعته أنَّه لما مرض النبيُّ سأله عمار بن ياسر وهو وسط أصحابه عن الذي يقوم

ص: 20

بتغسيله إن نزل القضاء، فقال: ذاك علي بن أبي طالب أنَّه لا يهم بعضو من أعضائي إلا أعانته الملائكة على ذلك، ثمَّ سأله عمار عن الذي يصلّي عليه فالتفت إلى أخيه صلوات الله وسلامه عليهما وقال: إذا رأيت روحي فارقت جسدي فاغسلني ونقٌ غسلي، وكفِّنِّي في طمري هذين، أو في بياض مصر وبرد يمان، ولا تغال في كفني، واحملوني حتى تضعوني على شفير ،قبري، فأول من يصلي علي الجبّار جل جلاله من فوق عرشه، ثم جبريل وميكائيل وإسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله عزّ وجل، ثمَّ الحافُّون بالعرش، ثم سكان أهل سماء فسماء، ثم جلّ أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون، يومون إيماء ، ويسلّمون تسليما، لا يؤذوني بصوت نادبة ولا رنّة».

وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد طلب من أخيه أن يغسله من ماء عين (غرس)، وهي بقباء كان يستطيب ماءها كما روى ابن سعد في الطبقات 2/ 280 وياقوت في معجم بلدانه 4 / 218.

أما القوم فكانوا في شغل عن المسجى حين جاءت ساعة القضاء، إذ انشغلوا في مولد عظيم، لأن جذوة الإيمان في نفوس غالبية أصحابه قد عراها الوهن والضعف، يقول ابن إسحاق: (فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه أقبل الناس على جهاز رسول الله لأن السؤال المحير هو أقبلوا يفعلون ماذا !؟ وأي جهاز شاركوا فيه؟ والرواية وطلعت رؤوس المطامع كرؤوس الشياطين من كل جانب، وعجيب أن كما هي أمامك ليس فيها من مشارك في ذلك الجهاز غير من ذكرنا.

ص: 21

وقد رويت روايات عدة بشأن غسله وتكفينه ودفنه صلوات الله وسلامه عليه، كان المرتضى عليه السلام فيها هو المتولي أمره في جميعها.

أما بشأن تكفينه فقد قال ابن هشام في السيرة 4/ 372 نقلاً عن ابن إسحاق: (فلما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيه إدراجًا، كما حدثني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي والزهري عن علي بن الحسين.

أما وداعه صلى الله عليه وآله وسلّم والصلاة عليه إلى مثواه الأخير فلم تشارك فيه أمَّة من المهاجرين والأنصار ، لانشغالهم بذلك المولد عن وداعه أو الصلاة عليه كما ذكر توفيق أبو علم في كتابه عن الإمام 77-78، نقلاً عن الشيخ المفيد.

ولا أحدثك ولا غيري يستطيع وصف حال أبي السبطين عليه السلام، وهو يلي كل هذا، ولعلّ فيما رواه محمد بن حبيب الذي نقله ابن أبي الحديد في شرح النهج 30/13 ما يقرّب لك الصورة ، قال : (فلم) كشف الإزار عن وجهه بعد غَسْلِهِ انحنى عليه فقبله مرارًا؛ وبكى طويلاً وقال: بأبي أنت وأمي! طبت حيا وطبت ميتا! انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء ! خصَّصت حتى صِرتَ مُسَلَّيًا عمَّن سواك ؛ وعممت حتى صارت المصيبة فيك سواء!، ولولا أنَّك أمرتَ بالصَّبْرِ ، ونَهَيْتَ عن الجزع، لأنفَذْنا عليكَ ماء الشُّؤُونِ؛ ولكن أتى ما لا يُدْفَع ! أشكو إليك كمدا وإدبار مخالفين، وداء الفتنة، فإنها

ص: 22

قد استعرت نارها، وداؤها الداء الأعظم! بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمكَ)، وهي في النهج 528 - 529 قريبة من هذا بشيء من الاختلاف.

أما اليعقوبي في تاريخه 1 / 444 فذكر رواية لا أراها تبتعد عن الواقع في رزيَّة أهل البيت بمصابهم الجلل ذاك كرَّمهم بها الله سبحانه وتعالى، وخفَّف شيئًا من وقعه قال: وغسله علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناولان الماء، وسمعوا صوتًا من البيت يسمعون الصَّوت ولا يرون الشخص؛ قال : السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمُوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * لَتُبْلَونَ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إِنَّ في الله خلفًا من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، عظم الله أجوركم، والسلام ورحمة الله وبركاته. فقيل لجعفر بن محمد من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل).

دفن المصطفى ومن شارك فيه

روی ابن سعد روايات أخر بشأن غسله وتكفينه ودفنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيما ذكرناه ونذكره كفايةٌ يُجْمِل ، ومن طلب الاستزادة فله في كتب السيرة والتاريخ وغيرها ما لا يضيف شيئًا كثيرًا إلى ما ذكرناه

ص: 23

روى بسنده في طبقاته 262/2-263 عن جابر بن عبد الله الأنصاري: (إن كعب الأحبار قام زمن عمر بن الخطاب، فقال ونحن جلوس عند عمر أمير المؤمنين: ما كان آخر ما تكلّم به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؟ فقال عمر: سَلْ عليّاً ؛ قال : أين هو ؟ قال: هو هنا؛ فسأله فقال علي: أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة! فقال كعب كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أُمروا وعليه يُبعثون؛ قال: فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال: سل عليًّا؛ قال: فسأله فقال: كنتُ أنا أغسله، وكان عبّاس جالسًا، وكان أسامة وشقران يختلفان إلي بالماء). وروى في طبقاته 263/2 أيضًا عن الشعبي قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه في حجر عليّ، وغسله علي والفضل محتضنه وأسامة يناول الفضل الماء.

وكان عروة بن الزبير وهو معروف في تحامله على الإمام عليه السلام قد حدَّث السيدة عائشة أن رسول الله توفي في حجرها، ولكن ابن سعد في طبقاته 263/2 قال بسنده أن أبا غطفان قال: سألت ابن عباس أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ورأسه في حجرِ أحد؟ قال: توفي وهو لمستند إلى صدر علي قلتُ: فإن عروة حدثني عن عائشة أنها قالت تُوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بين سَحْري ونَحْرِي! فقال ابن عباس : أتعقِلُ ؟ والله لتُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لمستند إلى صدر عليّ، وهو الذي غسله وأخي الفضل بن عباس، وأبى

ص: 24

أبي أن يحضر ، وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نستتر فكان عند الستر).

وروى أيضًا تحت عنوان ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وتسمية من غسله روايات عدة في الطبقات 277/2-281 كلُّها توثّق أن الإمام عليه السلام هو الذي تولى غسله، وحجبه الفضل وأسامة في رواية، وفي أخرى: (والعباس قاعد والفضل محتضنه وعلي يغسله وأسامة يختلف)، وفي أخرى (العباس وعلي والفضل، قال الفضل بن دكين في حديثه والعباس يسترهم)، وفي أخرى (العباس وعلي والفضل وصالح مولى رسول الله، وفي أخرى عن يزيد بن بلال قال: قال علي: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ألا يغسله أحد غيري، فإنه لا أحد یری عورتي إلا طُمِسَت عيناه، قال علي فكان الفضل وأسامة يناولاني الماء من وراء معي ثلاثون الستر، وهما معصوبا العين، قال علي: فما تناولت عضوًا إِلا كأنها يُقَلَّبه رجلاً حتى فرغت من غسله)، وأخرى: علي والفضل وسامة بن زيد وشقران، وولي غسل سَفِلَته علي والفضل محتضنه، وكان العباس وأسامة بن زيد وشقران يصبون الماء، وأخرى ( علي والفضل وأمروا العباس أن يحضر عند غسله فأبى فقال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستتر)، وغيرها.

واختُلِفَ في يوم رحيله ويوم دفنه صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر الطبري في تاريخه 266/3-267، من طبعة الأعلمي بسنده عن فقهاء أهل الحجاز، قالوا: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نصف النهار يوم الاثنين، لليلتين مضتا من

ص: 25

شهر ربيع الأوّل... وقال الواقدي توفي يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ودفن من الغد نصف النهار حين زاغت الشمس، وذلك يوم الثلاثاء)، وقال في 76/3: (فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم : إنما دفن بعد وفاته بثلاثة أيام).

وروى ابن سعد في طبقاته 272/2 عن محمد بن قيس أنه توفي يوم لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وروى أيضًا في 273/2 بسنده عن عائشة أنه توفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، وذكر ابن هشام في السيرة 374/4 أن ابن إسحاق حدَّث بسندِهِ عن علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف عائشة قالت: (ما الليل من ليلة الأربعاء. قال محمد بن إسحاق : وقد حدثتني فاطمة هذا الحديث).

وأخبر ابن سعد في طبقاته 2/ 273 عن عثمان بن محمد الأخنسي: إن وفاته 273/2 كانت في يوم الاثنين حين زاغت الشمس ودفن يوم الأربعاء، وأخبر أيضًا عن أُبيّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فمكث يوم الاثنين والثلاثاء حتّى دفن يوم الأربعاء)، وروى اليعقوبي في تاريخه 1/ 445: أنه توفّي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ريع الأول، ودفن في ليلة الأربعاء، وتابعه ابن الأثير في كامله 332 ، وأشار في طبقاته 274/2 إلى ما يرجح تأخر دفنه صلوات الله وسلامه عليه في رواية عن البهي، وأخرى عن القاسم بن محمد؛ ووردت عنده في طبقاته 2/ 273 رواية بسندها حدثه فيها (عبد الله بن محمد

ص: 26

بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي قالوا توفي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء)، وكذا ذكر في رواية أخرى عن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن لبيبة عن جده ، وإلى ذلك ذهب أيضًا مالك في ما بلغه، وذكر رواية أخرى عن عكرمة ذكر فيها أنه توفي يوم الاثنين فجلس بقية يومه وليلته (يوم ومن الغد حتى دفن من الليل).

وذكر اليوسفي في موسوعته 702/3 أن وفاته صلى الله عليه وآله وسلم كانت لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من هجرته، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وذكر أيضًا رواية عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قبض في يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وذكر أيضًا: (وعن ابن الخشاب رواه الإربلّي عن الباقر موقوفًا عليه، قال: (وهو ما رواه الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن فقهاء الحجاز قالوا قبض رسول الله نصف نهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول).

وذكر اليعقوبي في تاريخه 445/1: نزل قبره علي بن أبي طالب والعباس ابن عبد المطّلب، وقيل الفضل بن العباس وشقران مولى رسول الله، ونادت الأنصار: اجعلوا لنا في رسول الله نصيبًا في وفاته كما كان لنا في حياته! فقال علي ينزل رجل منكم. فأنزلوا أوس بن خَوَلي أحد بني الحبلى، وكان حفر قبره أبو طلحة بن سهل الأنصاري.

ص: 27

أما ابن هشام فقد روى في السيرة 374/4 - 375 عن ابن إسحاق الذي قال: (وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أوس بن الخولي لعلي بن أبي طالب : يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له انزل فنزل مع القوم، وذكر مثل هذا ابن الأثير في كامله .333/2

وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه آخر من نزل في قبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ولكن ابن هشام ذكر في السيرة 377367/4 عن ابن إسحاق بسنده عن مقسم عن مولاه عبد الله بن الحارث قال: (اعتمرت مع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه في زمان عمر أو زمان عثمان فنزل على أخته أم هانئ بنت غسله أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع ، فسكب له غسل، فاغتسل، فلما فرغ من دخل عليه نفر من أهل العراق، فقالوا: يا أبا حسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه قال: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أجل عن ذلك جئناك نسألك، قال: كذب أحدث الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس)، وذكر ذلك بإيجاز ابن الأثير في كامله 2/ 333، بل إن ابن سعد ذكر في طبقاته 303/2 ذكر أن المغيرة بن شعبة ألقى في قبر النبي صلوات الله عليه ) بعد أن خرجوا خاتمه لينزل فيه فقال علي بن أبي طالب إنما ألقيت خاتمك لكي تنزل فيه فيقال: نزل في قبر النبي

ص: 28

صلى الله عليه وسلَّم، والذي نفسي بيده لا تنزل فيه أبدا! ومنعه) وذكر أيضًا (قال علي بن أبي طالب: لا يتحدّث الناس أنك نزلت فيه، ولا يتحدث الناس أن خاتمك في قبر النبي صلى الله عليه وسلَّم، وقد رأى موقعه فتناوله فدفعه إليه).

وروى في طبقاته 302/2 بسنده عن علي بن الحسين عليه السلام في معرض السؤال عن الذين نزلوا في قبره صلوات الله وسلامه عليه فقال: علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وأوس بن الخولي.

ومن آيات الوفاء للراحل العظيم ما ذكره ابن سعد في طبقاته 319/2 بسنده (عن عبد الواحد بن أبي عون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي أمر علي صائحًا يصيح: من كان له عند رسول الله عِدة أو دين فليأتني! فكان يبعث كل عام عند العقبة يوم النحر من يصيح بذلك حتى توفي علي، ثم كان الحسن بن علي يفعل ذلك حتى توفي، ثم كان الحسين يفعل ذلك، وانقطع ذلك بعده، رضوان الله عليهم وسلامه. قال ابن أبي عون فلا يأتي أحد من خلق الله إلى علي بحق ولا باطل إلا أعطاه).

ص: 29

الاحتفاء بدستور أمير المؤمنين ونهجه بمنظمة اليونسكو

بباريس في يوم الفلسفة العالمي

التقرير الذي أعددته عن المناسبة لوزير الثقافة الأسبق الدكتور سعدون الدليمي

فإن من دواعي اعتزازي أن وزارة الثقافة كلفني بتمثيلها في المناسبة التي عقدتها منظمة اليونسكو للاحتفاء بدستور الإمام علي ونهجه في يوم الفلسفة العالمي. وقد أعددت تقريرًا قدمته للوزارة بغية عرضه على السيد الوزير لما قدم في ذلك اليوم من بحوث ومداخلات بتلك المناسبة.

الأخ العزيز الأستاذ سعدون الدليمي المحترم.

فقد كان بهاءُ على أمير المؤمنين عليه السلام ودستوره الخالد الذي لم تشهد له الخليقة مثيلاً يشع بنوره في يوم الخميس الموافق 2014/11/20م وسط حفل أقامته منظمة اليونسكو بباريس احتشد بكبار العلماء والمفكرين والمثقفين والصحفيين من المشرقين في واحدة من أكبر قاعات المنظمة؛ ليس لهم من حديث إلّا نهج عليَّ، وما بذله من جهد لتحقيق قيم العدالة الإنسانية؛ وإلّا دستوره الذي مازال موضع دراسة كبار المفكرين والكتاب في العالم ودهشتهم.

ص: 30

ومن دواعي اعتزاز مدينته (النجف الأشرف أنها المرة الأولى التي يعترف بمكانتها عالميًا، كونها بوابة الحكمة ومدينة السلام والتسامح والحوار؛ ولم يكن من السهل الاحتفاء بذلك النور لولا جهود صادقة بذلت خلال سنتين ونيف لإقناع القائمين على الأمر بأهمية دور الإمام عليه السلام في إشاعة المثل الإنسانية التي مازالت البشرية تسعى لتحقيقها ..

افتتح طاولة الحوار مدير مكتب العراق لدى اليونسكو بكلمة تحدث فيها عن أهمية المناسبة، والجهد المبذول في إعدادها ، وشكر المنظمة على ترحيبها بها، وعلى سعيها المخلص في الإعداد والتنظيم، وأوصل الشكر إلى وزارة الثقافة العراقية على دعمها المادي والمعنوي، ورحب بالحاضرين، وأشاد بالمشاركين ومكانتهم العلمية؛ ثم قدّم السيدة ألفريدو بيريز أرميان مساعد المدير العام للثقافة باليونسكو، التي رعت الندوة، وشكرت القائمين عليها، وأشادت بأهميتها في إغناء الفكر العالي، ونوهت بالإمام وفكره ومشروعه الإنساني الفريد، وبأهمية مدينته؛ وقد استقبلت كلمتها بكثير من الترحيب؛ ثم قدم مدير المكتب للحاضرين من بعد سفير ممثلية العراق الدائم في اليونسكو السيد محمود الملا خلف الذي ألقى كلمة قيمة كلها زهو بباب مدينة العلم، وبدستوره الذي مازال يحير العقول، ثم شكر من يستحق الشكر في المنظمة؛ كمعاون المدير العام، ومدير مكتب العراق والعاملين به، وأشاد أيضًا بدور وزارة الثقافة العراقية التي ما كان لهذه المناسبة أن تتحقق لولا دعمها، حرصها على قيامها، وأثنى على سفراء الدول الإسلامية والعربية، والحضور النوعي

ص: 31

الممتاز لحضورهم هذه المناسبة، وخص الباحثين الذين تجشموا عناء السفر من دول شتى بالشكر والتقدير والثناء .

احتفت مقالات المتداخلين بمحطات من عدل علي عليه السلام، وقف الباحثون عليها بعجالة لبيان مدى سماحة الإسلام الداعي إلى نشر ثقافة التسامح والوسطية والتقريب وتبني مبدأ الدفاع عن الآخر، ومنحه الحرية في الدين أو المعتقد، ومساواته بغيره مسلمًا كان أو كتابيًا استقاها الباحثون من نهج الإمام وبعد نظره، وتدور بمجملها حول ترغيبه عليه السلام بالدائم الذي يكفل الخلود، والتزامه بالقيم التي تهدف إلى إسعاد الإنسان ،ورقيه وإشاعته مبدأ الرحمة والعدل في مجتمعه، وحثه على مبدأ الوسطية والمساواة والتسامح، والتزامه بمبدأي أخوة الإسلام وأخوة الخلق، والمساواة في القصاص والحقوق والواجبات، واهتمامه بالعامة قبل الخاصة والتزامه بتوزيع الثروة على الجميع بغض النظر عن مكانتهم أو قوميتهم وحثه على نشر العلم وتعلمه، وحول وسائل الإصلاح التي اتبعها، ومبادئ إنصاف المظلومين وإعادة الحقوق إلى أصحابها وكيفية اختيار القضاة والولاة، وحول وصاياه لهم وتحذيرهم من بطانة السوء، ومحاسبة من يعتدي منهم على خلق الله أو يخون أمانته، وغير ذلك من قيم دستوره الذي مثل أبهى صور الإسلام.

أدار الجلسة الأولى الدكتور ياسر طباع من جامعة ممفيس بأمريكا الذي أحسن إدارتها وذلك بإلزام المتداخلين بالوقت المحدد.

ص: 32

كانت جامعة الكوفة حاضرة في ذلك الحفل البهي، فقد مثلت باثنين من أساتذتها الدكتور وليد عبد الحميد فرج الله عميد كلية الفقه، وكانت مداخلته القيمة بعنوان (قراءة) في مشروع الإمام علي للتعايش الإنساني)، والدكتور صلاح مهدي الفرطوسي استشاري برنامج التعاون الثقافي، وممثل الوزارة في ذلك الملتقى كانت مداخلة بعنوان (صور من الحكم العادل زمن الإمام عليه السلام).

وتحدث السيد حسين عبيد الفريجي، وهو كاتب وباحث إسلامي من العراق عن سياسة الحوار والسلم والتسامح عند الإمام علي، تلته الدكتورة طاهرة قطب أستاذة بجامعة شيكاغو، وكانت مداخلتها بعنوان (دعوة الإمام علي للسلام والتعددية). أما آخر المتحدثين في الجلسة الأولى فكان الدكتور عبد صافايا الأستاذ جامعة بوردو بفرنسا، وكانت مداخلته بعنوان (علي بن أبي طالب صوت الإنسانية). ثم اختتمت الجلسة التي استمرت حتى الساعة الرابعة عصرًا بمناقشات نوهت واستوضحت وأغنت.

وبعد استراحة قصيرة بدأت الجلسة الثانية التي أدارها الأستاذ ياسر طباع أيضًا، وكانت أول المداخلات فيها بعنوان (فكر علي بن أبي طالب الإنسانية اللاهوتية للجميع)، قدمها الدكتور بول هيك الأستاذ المشارك بجامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة، تلتها مداخلة بعنوان (السياسات الاجتماعية والاقتصادية للإمام علي: دروس في التكيف بين المسلمين) قدمها الأستاذ كريم دوجلاس كرو باحث الزمالة الأقدم بمعهد الدراسات الإسلامية المتقدمة بكوالامبور بماليزيا، تلتها مداخلة

ص: 33

الدكتور حيدر سعيد مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية بعمان، وكانت بعنوان ( علي في سرديات المظلومين). وهناك مداخلات تلتها مناقشات وأسئلة وردود دامت حتى الساعة السادسة مساءً.

ثم انتقل الحضور إلى قاعة أخرى من قاعات اليونسكو، أقام فيها الأستاذ محمود الملا خلف سفير العراق لدى اليونسكو حفل عشاء على شرف المدعوين احتفاء بالمناسبة وبكتاب ( النجف بوابة الحكمة بطبعتيه العربية والإنجليزية وهو من منشورات اليونسكو بدعم من وزارة الثقافة العراقية، فشكر المنظمة على جهدها في إحياء المناسبة بيوم الفلسفة العالمي، وشكر الحاضرين من سفراء وعلماء وكتاب وباحثين وإعلاميين على حضورهم وأشاد بمشاركات الباحثين، وهنأ المؤلفين ياسر طباع، وصابرينا ميرفان والمصور العالمي إرك بونيير بمناسبة صدور كتابهم. ثم ألقى كل من السيدة صابرينا ،ميرفان والمصور العالمي إريك بونيير، والدكتور ياسر طباع كلمة أشادت بدعم وزارة الثقافة ومنظمة اليونسكو، وباحتفاء النجفيين بهم وتقديمهم ما يمكن تقديمه لهم من مساعدات، وكان من لطف السيد ياسر تنويهه بكتاب الدكتور صلاح الفرطوسي الموسوم ب-(مرقد أمير المؤمنين وضريحه)، واعتماده في كثير من جوانب كتابهم عليه.

ثم ألقى الدكتور صلاح الفرطوسي الذي كلفته وزارة الثقافة العراقية بتمثيلها كلمة مشاعرية أعرب فيها عن شكره وامتنانه لكل الجهود الخيرة التي شاركت بالنجاح الباهر الذي تحقق ممثلة بإدارة اليونسكو، ومكتب العراق، وسفير العراق

ص: 34

بالمنظمة، ووزارة الثقافة العراقية وبالحضور النوعي الذي رافق المتداخلين من الصباح حتى المساء ، وكان لها أعمق الأثر في نفوس الحاضرين.

كان جديرًا بالشكر والثناء أيضًا إدارة العلاقات الثقافية العامة ممثلة بمديرها العام السيد عقيل المندلاوي الجندي المجهول الذي خطط وسعى وتابع منذ سنتين ونيف مع لفيف من موظفي إدارته لتنفيذ مشروع التعاون مع منظمة الأمم المتحدة للحفاظ على التراث الثقافي للنجف وتعزيز حضورها الدولي)، ووقف أيضًا من وراء إقامة هذه الندوة التي لابد أن تكون من ورائها ندوات تشيد بعدالة الإسلام وسماحته وبتراث العراق الخالد وحضارته.

ص: 35

أبو سريحة، حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله

حق لكوفة علي عليه السلام أن تزاحم جميع الأمصار الإسلامية فتزحمها بسبب كثرة من نزل فيها من الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضوان الله عليهم، وبسبب ما قدمته للحضارة الإنسانية على مرّ زهو تاريخها من علماء وقراء وفقهاء ومفكرين وأدباء وشعراء، لا يحصيهم إحصاء ولا يبلغ شأوهم بالغ.

وعلى الرغم من تقلبات عصورها ما بين نور وتنوير وظلم وإظلام، وتكالب الزمان عليها، والأحداث الجسام التي مرت عليها بعضها سود جبين تاريخها، وبعضها الآخر أخذ بيد آلاف مؤلفة من أبنائها إلى أعلى عليين، فإنها تبقى لوحدها المدينة العروس التي يحق لها الاحتفاء بتراث علي إمام المتقين عليه السلام فقد حفظت جلَّ خطبه ومكاتباته ووصاياه وحكمه، ولولاها ما وصل إلينا شيء من ذلك السيل الهادر من درره الخالدات على الرغم من الحصار الأسود الذي فرض على فكره وسيرته ودوره في تثبيت دعائم الإسلام عليه السلام أثناء حكم الأمويين والعباسيين.

مدينته التي اتخذها عاصمة لخلافته الحقة، وفيها مرقده المبارك ومراقد آلاف من أصحابه ومن تبعه رضوان الله عليهم.

ص: 36

والحديث عنها يأخذ بيد محبها إلى عوالم من السحر والمجد الخالد للإسلام، فمنها انطلقت جحافل الفتح إلى أقصى الشرق، وعلى يد فرسانها النجباء سقطت إمبراطورية فارس وغيرها من دول الشرق، ورفرفت راية الله أكبر خفاقة على تلك الربوع، وانخرطت شعوب كثيرة بكاملها في الإسلام ومن فكر أمير المؤمنين عليه السلام عرف العالم كيف يكون الحكم العادل.

واختص بعض الصحابة رضوان الله عليهم برسول الله صلى الله عليه وآله، منهم أبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر والمقداد وغيرهم عشرات، وبعد رحيله صلى الله عليه وآله اختصّوا بأخيه عليه السلام

ومن فرسان أيام الفتح النجباء الذين نعرض سيرته بإيجاز بمناسبة يوم الأغر أبو سَرِيحة حذيفة الغفاري، الذي نعت في أغلب كتب الحديث والرجال والتاريخ ب- «صاحب رسول الله»(1)، ولا شك أن هذا الوسام لم يتقلده اعتباطًا، فهناك كثر من صحابته صلى الله عليه وآله من العقبيين والبدريين وغيرهم لم ينعت بهذا النعت؛ ولابد أنّ من وراء الأكمة ما وراءها أغفله التاريخ وطواه كما طوى غيره من الأخبار والأحداث.

ص: 37


1- أسد الغابة ،2 / 92 و تاریخ دمشق 253/12-254 برقم 1230 ، الحديث 222/5 وغيرها.

وهو عند أصحاب السير حذيفة بن أسيد بن خالد بن الأغوز بن واقعة بنحرام بن غفار بن مليل أبو سَرِيحة الغفاري،(1) ولم أقف في المصادر التي رجعت إليها على ذريَّة له غير ولد اسمه خفّاف، ذكر أنه كان يروي عنه (2)، ولعل سريحة هذه التي يكنّى بها ابنة له، ولكن لم أقف لها على ذكر .

وبسبب من التراكم الطائفي الذي واكب تاريخ الكوفة خاصة على مرّ العهود ضاعت أحداث في غياهب الزمن المدلهم الذي مرّ بها، وغابت معالم شخصيات كبرى بحيث لا يعرف إلَّا القليل عن أخبارهم، منهم أبو سريحة هذا؛ إذ لا نعرف إلَّا بعض النتف العابرة من سيرته، فلا يدرى متى ولد ومتى أسلم ومتى التحق بالركب النبوي الشريف غير أننا نقف على إشارات في كتب السيرة والتاريخ تذهب إلى أن الحديبة كانت أول مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه ممن بايعه تحت الشجرة(3).

ص: 38


1- طبقات ابن سعد ،24/6 ، والإصابة ،38/2 ، وصحيح ابن حبان 257/15/15، وأسد الغابة 389/10. ، وإكمال الكمال 2 / 414 ، والوافي بالوفيات 253/11، وهو في معجم رجال الحديث 222/5 ، أبو سرعة بن أمية، وجاء في تاريخ دمشق 253/12 بعد ذكر نسبه، ويقال حذيفة بن أمية، وورد في تهذيب الكمال 495/5 برقم 1145 عن البرقي الأغوز : بالزاي
2- إكمال الكمال 4142 .
3- طبقات ابن سعد 24/6 ، والإصابة 2/ 38 برقم 1694 ، وغيرهما.

وذكره ابن سعد مع من نزل الكوفة من الصحابة وقال هو بكنيته أشهر. وقال أيضًا كانت الحديبية أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1)وإلى ذلك ذهب أغلب من ترجم له(2) ؛ وروي أن ابنه خفاف كان يروي عنه، ووثق ابن عساكر وغيره استيطانه الكوفة(3). وهو من حضّار يوم الغدير الأغر كما سيأتي، وحضوره ذلك اليوم يعني أنه ممن حجّ مع رسول الله صلى الله عليه وآله.

وهو قديم الإسلام فيما أحسب، لان الإسلام انتشر في ربوع غفار على يد أبي ذر الغفاري الذي تذهب بعض المصادر إلى أنه رابع أو خامس من أسلم(4)، وأن الذي أخذه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله كي يشهد الشهادتين علي بن أبي طالب عليه السلام (5)وتذهب روايات أيضًا إلى أن أبا ذر بعد إسلامه عاد إلى غفار باقتراح من النبي صلى الله عليه وآله، وببركته أسلم نصف الغفاريين في يوم واحد، والغالب أن إسلام أبي سريحة كان على يده، ولاسيما أنه ممن روى عنه رضوان الله عليهما.

وصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله هذا رويت عنه أحاديث كثيرة، كما ورد في بعض كتب التراجم وكتب الحديث، وممن روى عنه أبو الطفيل بن عامر بن واثلة وعامر الشعبي ومعبد بن خالد الجذلي والربيع بن عميلة الفزاري، وحبيب

ص: 39


1- طبقات ابن سعد 24/6 ، تهذيب الكمال 495/5.
2- الوافي بالوفيات 253/11 ، وتهذيب الكمال 2/ 414 .
3- تاریخ دمشق 12/ 255 بالرقم السابق
4- فتح الباري 7/ 133 ، وعمدة القاري 17 / 3 ، والغدير 309/8
5- أمالي الصدوق 567 .

بن حماز (1)، وهلال بن أبي حصين، وأبو حذيفة الأنصاري(2). ومما روي عنه رضوان الله عليه أنه قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، والدابة، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس فتبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث «قالوا (3) وباتجاه حديث الساعة روي عنه أيضًا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط إذا سقطت منها واحدة توالت خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم، وفتح يأجوج ومأجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها(4)

ومما روي عنه أيضًا أنه قال: «ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين قرّب أحدهما فقال: الله اللهم منك ولك هذا محمد وأهل بيته، ثم قرب الآخر فقال: بسم الله اللهم منك ولك هذا عمَّن وحدك من أمتي»(5)

ص: 40


1- تاریخ دمشق 255/12 .
2- تهذيب الكمال 5/ 495 برقم 1145 .
3- صحيح ابن حبان ،257/15 ، والديباج على صحيح مسلم ،228/6 ، وأسد الغابة .389/1
4- السابق 266/28 .
5- الدراية 49/2

ومناسبة ذكرى حديث الولاية وحديث الثقلين هو الذي دفعني للكتابة عنه رضوان الله عليه ولو على عجالة للمشاركة بالاحتفاء بذلك اليوم العظيم (1)ولكن لم تكتب لي المشاركة بسبب سفري للعلاج خارج العراق، فقد روي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : «أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا (علي) مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، أما حديث الثقلين عنه فهو : وإني سائلكم حين تردون علي على الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟ الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله، وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كسفينة نوح في لجة البحر، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها ،غرق ألا هل بلغت ألا هل بلغت؟ قالها ثلاثا » (2)

والرواية عنه عند ابن كثير عن ابن عساكر لها مقدمة وهي: « لما قفل رسول الله من حجة الوداع نهى أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهن ، ثم بعث إليهن فصلى تحتهن ثم قام فقال : " أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عمر الذي قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب

ص: 41


1- كنت قد تحدثت من قبل في كتابي الموسوم ب- (وما أدراك ما علي) 409/1-423 عن خطبة الغدير.
2- أمالي الشيخ الطوسي 459 .

وإني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت فجزاك الله خيرًا، قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وأن ناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك ، قال : اللهم أشهد .. ثم ذكر بقية الرواية، وقد روى ابن كثير الحديث بسنده عن ابن عساكر (1)أيضًا وهو عنده عن عامر بن ليلى بن ضمرة أيضًا (2).

وذكر سلمة بن كهيل أيضًا أنه قال: سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم - شك شعبة - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، أخرجه أبو عمر وأبو نعيم وأبو موسى(3)والحديث مشهور عنه عند جملة من المحدثين.

وأبو طفيل هو عامر بن واثلة بن عبد الله ابن عمرو الليثي الكناني الصحابي آخر من رأى في الدنيا النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع؛ وكان من شيعة علي روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استلامه الركن (4) وهو مبعوث محمد بن

ص: 42


1- البداية والنهاية 386/7 .
2- أسد الغابة 93/3 .
3- أسد الغابة .208/5
4- النجوم الزاهرة 243/1 .

الحنفية إلى شيعة الكوفة زمن المختار حينما حاصره ابن الزبير مع ابن عباس لامتناعهما عن بيعته (1).

ومما رواه أبو سريحة أيضًا حديث سد الأبواب، إذ قال: «لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لم يكن لهم بيوت وكانوا يبيتون في المسجد؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تبيتوا في المسجد، فتحتلموا ". ثمّ إنّ القوم بنوا بيوتاً حول المسجد، وجعلوا أبوابها إلى المسجد. ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم معاذ بن جبل، فنادى أبا بكر فقال : إنّ رسول الله يأمرك أن تسدّ بابك الذي في المسجد، ولتخرج منه، فقال: سمعاً وطاعة. ثمّ أرسل إلى حمزة فسدّ بابه، وقال: سمعاً وطاعة الله ولرسوله، وعليّ متردد لا يدري أهو فيمن يقيم أو فيمن يخرج، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بنى له بيتًا في المسجد بين أبياته. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " اسكن طاهراً مطهراً " فبلغ حمزة قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أخرجتنا وتمسك غلماناً من بني عبد المطلب! فقال له: لو كان الأمر لي ما جعلت دونكم من أحد. والله ما أعطاه إياه إلا الله، وإنك لعلى خير من الله»(2)

ص: 43


1- طبقات ابن سعد 5 / 101
2- مناقب علي بن أبي طالب وما أنزل من القرآن في علي 144، والبحار 31/39، البرهان في تفسير القرآن 46/3 .

ومن مروياته قوله صلى الله عليه وآله :« من آذى المسلمين في طرقاتهم وجبت عليه لعنتهم»(1) ومن الأحاديث المشهورة عنه أيضًا قول رسول الله صلى الله عليه وآله: «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.(2)

وروي عن أبي طفيل أيضًا أنه قال: كان ابن مسعود إذا خطبنا بالكوفة، قال: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه ؛ قال : فأتيت حذيفة بن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: عجبا لرفع ابن أم أسيد من عبد الشقي من شقي في بطن أمه ؛ قال : فقال لي حذيفة وما تعجبك من ذلك يا أبا الطفيل ألا أخبرك من هذا بالشفاء؟ ورفع الحديث: " إن ملكا موكلا بالرحم بضعا وأربعين ليلة إذا أراد الله أن يخلق ما يشاء بإذن الله فيقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ويكتب الملك، ثم يقول : أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي ربك ويكتب الملك ثم يقول: أي رب أجله؟ فيقضي ربك ويكتب الملك ثم تطوى، ما زاد ولا نقص(3).

ص: 44


1- تاریخ بغداد 123/5 .
2- الموضوعات 711
3- تاريخ دمشق 12/ 253 ، وتهذيب الكمال 144/9

وهو من رواة قصة سبيعة الصحابية (1) ، وموجزها أن زوجها توفي بعد حجة الوداع وهي حامل، فولدت بعد أيام، وإذن لها النبي صلى الله عليه وآله أن تتزوج، وقد وردت قصتها في مصادر عدة . (2)

ولا يبعد عن ظني أن أبا سريحة يوم جاء إلى المدينة كان برفقة صاحبه أبي ذر طيب الله ثراهما، وقد يكون رافقه حج بيت الله الحرام في غير حجته تلك مع النبي المصطفى صلى الله عليه وآله أو التقاه في البيت الحرام في موسم الحج بعد رحيل المصطفى صلى الله عليه وآله إذ روى عنه قوله: رأيت أبا ذر متعلقاً بحلقة باب الكعبة فسمعته يقول : أنا جندب من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر، (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قاتلني في الأولى وقاتل أهل بيتي في الثانية فهو من شيعة الدجال، إنما مثل أهل بيتي في أُمتي كمثل سفينة نوح في لجة البحر من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق، ألا هل بلغت؟ ألا هل

ص: 45


1- سبيعة بنت الحارث الأسلمي من المبايعات وتوفي عنها زوجها بعد نصف شهر في حجة الوداع وهي حامل، فوضعت حملها بعد أيام وأرادت أن تتزوج، فخطبها اثنان أحدهما شاب والثاني كهل يسمى أبو السنابل فرغبت بالشاب، وجاءها الثاني وقال لها: الا يحق لك الزواج إلا بعد مرور أربعة أشهر وعشرا فسألت النيّ صلى الله عليه وآله فقال لها كذب كذب أبو السنابل، حللت فأنكحي
2- لطبقات (287/8 ، والثقاة 151/3 ، وأسد الغابة 52/8 ، وغيرها.

بلغت؟ ألا هل بلغت؟ قالها ثلاثاً»(1)؛ ورواية تعلّق أبي ذر بحلقة باب الكعبة من مشاهير ما روي عنه رضوان الله تعالى عليه.

والظاهر أن أبا سريحة كان قبل السنة السادسة للهجرة في المدينة، فقد أجمع من ترجم له أنه ممن بايع تحت الشجرة ) وكانت تلك البيعة في أواخر السنة السادسة (2).

ولم أقف له على دور في خلافة أبي بكر على الرغم من قولهم: إنه روى عنه؛ ولكنه كان من فرسان فتح الشام والعراق وبلاد فارس زمن الخليفة عمر بن الخطاب؛ روى ابن كثير أنه في معركة فتح الباب رد سراقة بن عمرو إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد الغفاري، وسمى للأخرى بكير بن عبد الله الليثي. (3)وذكر المزي أنه كان ممن شهد فتح دمشق مع خالد بن الوليد، وأغار على عذراء» هو أول من دخلها (4)وكان في معركة فتح الباب على إحدى مجنبتي سراقة بن عمرو سنة اثنتين

ص: 46


1- أمالي الشيخ الطوسي ،459 ، وترجمة الإمام علي بتاريخ دمشق، والبحار 121/23، وموسوعة أحاديث أهل البيت 90/8 والكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة 315/1
2- طبقات ابن سعد 24/6 .
3- سيرة ابن هشام 2133 (31) البداية والنهاية 7/ 139 .
4- تهذيب الكمال 494/5 .

وعشرين(1). وروي أن سيفًا زعم أن عمر بن الخطاب كتب كتابا بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمر و وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وجعل على إحدىالمجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي » (2).

ويبدو أنه من المشاركين في معركة القادسية أيضًا، وإن لم أجد ما يوثق ما ذهبت إليه، فقد روي أن الخليفة عمر بن الخطاب «وَفَّى سعد بن أبي وقاص صلاة ما غلب عليه وحربه وولى الخراج النعمان وسويداً ابني عمرو بن مقرن، سويدا على ما سقت الفرات والنعمان على ما سقت دجلة، ثم استعفيا فولي عملهما حذيفة أبي أسيد، وجابر بن عمرو المزني، ثم ولي عملهما بعد حذيفة بن النعمان، وعثمان بن حنیف (3)

وذكر أنه روى عن (4)«علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق، وأبي ذر وإذا كنت قد وقفت له على حديث رواه عن أبي ذر الغفاري، وغير رواية له عن حديث الغدير فإني لم أقف له على رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام، ولا عن شهادته مشهدًا من مشاهده بعد مشاركته حدثًا من أحداثها، ولا عن لقاء به عليه السلام في الكوفة؛ ولا يدري هل كان فيها آنذاك أو

ص: 47


1- التاريخ الكبير 953 ، وتاريخ دمشق 254/12-255، وأسد الغابة 92/2،
2- البداية والنهاية 139/7 .
3- الكامل في التاريخ 519/2
4- السابق 493/5-494.

في غيرها من الأمصار؛ ولكن بحسب رواية أنه من شهود أحداث المدينة قبل مصرع الخليفة عثمان، فقدروى الشيخ المفيد: «أن بشرًا العامري وهو في طريقه من المدينة إلى الكوفة قال له عِلْجٌ : إن كتب صاحبكم صارت تمزق وتلقى في الحشوش، قال : فلقيت حذيفة فأخبرته فقال: قد فعلوا ذلك كأني بهم وقد ساروا بها - أي السيدة عائشة - والذي بعث محمدًا بالحق نبياً والأزد وضبة حفوا بها جد الله أقدامهم قال فحضرت الوقعة بالبصرة فنظرت إلى الأزد وضبة وتميم حول الجمل، ونظرت إلى الأزد وقد تقطعت أقدامهم من العراقيب وأسفل منها ) (1)

وحين ذكره الشيخ الطوسي مع من روى عن النبي صلى الله عليه وآله لم يذكره مع من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام -وهو غريب- ولكنه ذكره مع من روى عن الحسن بن علي عليه السلام (2)، وكان بحسب ما ذكره السيد الخوئي عن من حواريه، قال: وذكره البرقي، في أصحاب الحسن عليه السلام، وقد عد من حواري الحسن المجتبى عليه السلام في رواية أسباط بن سالم المتقدمة في أويس القرني (3)

ولا أستبعد أيضًا، أنه قد شارك في أحداث خلافة أمير المؤمنين، ولكن المصادر أهملت ذكره.

ص: 48


1- الجمل 188
2- رجال الشيخ 36 ، 93 .
3- معجم رجال الحديث 2225 ، وينظر أيضًا خاتمة المستدرك 247/7 .

ورواية الشيخ المفيد السابقة الذكر من بين ما تعنيه أنه لم يكن على رأي أصحاب الجمل، وكان متوقعا ما سيجري عليهم، وكأنه ينظر من وراء الحجب.

والحديث عن كونه من حواري الحسن الزكي عليه السلام يوقع بمزيد من التأمل، لأن إقامة الإمام الحسن بالكوفة بعد رحيل أبيه عليهما السلام لم تدم طويلا، ولو كانت علاقته به بتلك الصورة في الكوفة فمن باب أكثر إقناعا أن يكون من حواري أبيه، وأن يكون من المشاركين في أحداث خلافته، ولا يستبعد أن تكون علاقته بالحسن عليه السلام تمتنت من بعد في المدينة، إذ من غير المستبعد أن تتكرر زيارات ابي سريحة في موسم الحج أو في غيره إلى المدينة، وأنه كان يلتقيه عليه السلام بها.

ووثق نزوله الكوفة ووفاته بها أيضًا ابن الأثير في أسده، وابن حجر في الإصابة وقالا: وصلى عليه زيد بن أرقم. ونقل أغلب من ترجم له أنه توفي رضوان الله عليه بالكوفة سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه زيد بن أرقم وكبر عليه أربعًا، وقال: كذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله) (1) ، وإذا كانت المصادر ذهبت إلى أنه اتخذ من الكوفة سكنا؛ فإن ابن حبّان ذهب إلى انه توفي بأرمينيا». (2)

ص: 49


1- السابق 258/12 وبالرقم نفسه، وينظر أيضًا المستدرك 594/2 ، وتلخيص الحبير . 104/5
2- الثقاة 81/3

وقد يكون رضوان الله كان بالكوفة يوم دخلها أمير المؤمنين عليه السلام، أو دخلها قبله أو بعده، ولا يستبعد أيضًا أنه بقي في المدينة في فترة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام وعاد إلى الكوفة بعد رحيله عليه السلام، وقد يكون تقدمت به السن ولم يكن قادرًا على حمل السلاح لكبر سنه، إذ إنه من أصحاب أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه وقد توفي بالربذة في خلافة عثمان بن عفان، أما وفاته بإرمينيا فبعيدة.

ص: 50

مع السيد الخرسان طيب الله ثراه في مقدمته لكتاب الانتصار

للسيد المرتضى

قدَّم لي الصديق العزيز السيد العلامة المحقق محمد صادق الخرسان مشكورا نسخة من كتاب صدى (الرحيل) الذي أشرف على إعداده السيد عبد الستار الحسني، وطبعته مطبعة الرائد سنة 2019م في مائتين وأربع وستين صفحة؛ ونشر بعد رحيل السيد الفقيه محمد رضا الخرسان إلى جوار ربه رضوان الله عليه؛ واحتوى الكتاب على مقدمة، وخواطر مع رحلة الفجر تناول فيها السيد الصادق سيرة حياة والده ومكانته العلمية والاجتماعية والتربوية، وتراثه المطبوع والمخطوط؛ وهو عرض على وجازته جامع الأطوار حياة الراحل الكبير من المهد إلى اللحد؛ ثم اختار من تراثه ثلاث مقدمات قدم فيها الفقيد ثلاثة كتب تراثية قديمة؛ وهي: كتاب المناقب) للخوارزمي من تأليف أبي المؤيد الموفق بن أحمد بن محمد البكري المكي الحنفي المتوفى سنة 568ه-، وكتاب مقدمة النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) من تأليف السيد محمد بن عقيل بن عبد الله الحسيني المتوفى سنة 1350ه-، و (كتاب الانتصار للسيد المرتضى المتوفى سنة 436ه-، الذي أنا بصدده.

ونشر بعد المقدمات بعض ما أبن به الفقيد رضوان الله تعالى عليه، وهو بعنوان نشيج الغياب لما جادت به قرائح بعض الأدباء والشعراء من مشاعر ومواساة. وتبعه من بعد بثلاث إجازات حبرها للفقيد بعض الأعلام، منها إجازة بعنوان ثبت

ص: 51

الإثبات، وهي للسيد شرف الدين العاملي وقد طبعت بصيدا سنة 1949م، وتبعها بإجازة الشيخ حسين القديحي، وهي بخط يده، ثم إجازة الشيخ أغا بزرك الطهراني وختم برسالة للسيد شرف الدين رضوان الله عليه التي أرسلها للسيد الفقيد في 20 جمادى الأولى سنة 1376ه-، ردا على ،رسالته، ثم كلمة الرضا في المؤتمر الدولي لتكريم الإمام شرف الدين. وختم الكتاب بمجموعة من صور الفقيد في المناسبات المختلفة طيب الله ثراه.

فله الشكر والمنّة على ما أهدى، وعظم الله له الأجر والثواب بمصابه الجلل، إنه على كل شيء قدير. وبسبب صلة الرحم التي ربطتني بآل الخرسان عامة وبالصديق العزيز العلامة المحقق السيد صادق، رأيت أن أواسيه بفجيعته، وذلك بعرض ما حبره الفقيد في مقدمته لكتاب الانتصار للشريف المرتضى رضوان الله تعالى عليهما. وأقول: مازال لقائي بالسيد الرضا الخرسان طيب الله ثراه كأنه الساعة على الرغم من مرور سنيات على آخر مرة تشرفت فيها بزيارته، وما زرت سماحته مرة وخرجت من داره العامرة وأنا أشعر بالدهشة الممزوجة بالمتعة والإجلال والاحترام لذلك السيد الوقور، والإفادة من مجلسه المتخم بالأطايب من علم، وثقافة وأدب، وفقه، ورواية، ودروس تربية وأخلاق.

ويوم ذهب إلى جوار جده المرتضى عليه السلام لم أكن بالمدينة المقدسة حين ذاك كي أواسي أخي الصادق بمصابه، وأشارك بتشييع الفقيد إلى مثواه الأخير؛ فشعرت بفجيعة كبيرة، وأسف وحزن شديد؛ إذ خسرت المدينة برحيله عالما يصعب أن يجود

ص: 52

الدهر بمثله علمًا، ووسطية وسماحة وتواضعًا، وطيب معشر ؛ وكان فوق هذا وذاك تربويا أنفق ربيع عمره وخريفه في الاهتمام بتنشئة جيل صالح من أبناء الحوزة وطلبتها.

ولد السيد الخرسان سنة 1933م، ورحل مأسوفًا عليه سنة 2019م، عن عمر جاوز التسعة عقود كان خلالها زاهدًا بما في أيدي الناس، منصرفا إلى درسه وتدريسه ورعاية أبنائه وطلبته في النجف الأشرف؛ ولم تستطع تقلبات الأحداث التي مرّ بها أن تجرفه إلى مهاويها كما جرفت كثر غيره، واستطاع بحنكة وتدبر أن يبتعد عن مزالقها على الرغم من الترهيب والترغيب الذي تعرض له فرضوان الله عليه يوم ولد، ويوم ارتحل، ويوم يبعث حيّاً، ويكفيه عزًا فوق مجده الباذخ أن يكون من أبنائه النجباء ولده العلامة الكبير السيد محمد صادق الخرسان أطال الله بقاءه، أحد أساتذة الحوزة العلمية اليوم في مدينة إمام المتقين، وأول من صلَّى الجماعة من علماء مدينته في حَرَمِهِ عليه السلام بعد السقوط.

وقد ربطتنا أبناء جدّي الشيخ علي الفرطوسي طيب الله ثراه بالسادة آل الخرسان خؤولة نعتز بها ونفتخر، ونتمسك، ونتعلق؛ لما لهذه الأسرة الكريمة من باع طويل في خدمة مذهب أهل البيت عليهم السلام ؛ إذ عرفت فيهم الحوزة العلم والتواضع الجم، والوسطية التي تجمع ولا تفرق، والبعد عن كل ما يشين، والانصراف إلى الله جيلا بعد جيل.

ص: 53

فتح الفقيد العزيز عينيه في بيت عربي من بيوتات المدينة العلمية الأصيلة التي لا تعرف غير الدرس والتدريس فوالده السيد حسن من آيات الله في زمانه علمًا وثقافة وحرصًا على تنشئة أبناء أسرته تنشئة علمية فاضلة، وفقيها من كبار فقهاء ،عصره، وأستاذًا يشار إليه بالبنان، وكادت المرجعية الدينية تحط رحالها عنده لولا أنه اعتذر عنها وَرَعًا وخوفًا من أن ينزلق في مهاوي دنيوية عافتها نفسه الأبية الزاهدة، وقد تربى السيد الرضا أيضًا في عين البيت الذي ربَّى والده، بيت عميد أسرة آل الخرسان آنذاك السيد عبد الرسول؛ فأخذ السيد حسن ولده الرضا بما أخذه به أبوه بسيرة أجداده أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم. والحديث عن هذه الأسرة الفاضلة طويل لا يمكن عرضه في هذه العجالة التي خصصتها لموضوع بعينه.

وما إن تعدَّى السيد الرضا مرحلة الطفولة إلى الشباب حتى أحس بالمسؤولية الملقاة على عاتقه والعبء الثقيل الذي عليه أن يحمله بكل قوة وإباء وشمم بعد رحيل والده.

وأما المرتضى رضوان الله عليه فولد سنة 355ه- في عصر العصور القرن الرابع قرن الدولة الشيعية في المشرق والمغرب، عصر القمم الشامخة والانفجار الحضاري في تاريخ الإسلام المعرفي، وهو عصر النور والتنوير الذي ليس له من مثيل في تاريخ الإنسانية الزاهر، وقد قلت عنه من قبل من بين ما قلت: إنه (عصر التوهج، والانفتاح، والتحضر، والتزاوج، والتلاقح ؛ إذ أظلَّ أمة من أبرز علماء العربية

ص: 54

والإسلام، كالطبري، والهمداني واليعقوبي، والرازي والفارابي وابن النديم والصاحب، وابن دريد، وابن جني، والأزهري وأبي الفرج الأصفهاني، والهروي، والبيهقي، واللخمي، وابن رشيق والقزاز والقالي، والزبيدي، والرضي والمرتضى وغيرهم؛ وهو بلاشك عصر التفسير، والقراءات والحديث والفقه، وعلوم العربية، وعلم الكلام والرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء، والطبيعيات، والطب والصيدلة، والفلاحة والتاريخ والجغرافيا والرحلات والسير، ،والأنساب والملل والنحل، والأهواء.. وهو أيضًا عصر الزهد والتصوف ،واللهو، والمجون، والفسق والتفكك والخلاعة، والفقر، والكدية، والشطار).

وما بين ولادة المرتضى وحين رحيله سنة 436ه- رضوان الله عليه في ذلك العصر العجيب حياة حافلة بالعلم والمجد والسؤدد والعظمة؛ إذ نهل من معين أئمة عصره من مراجع الشيعة الكبار ببغداد وغيرهم، وشب نابغة لا يدانيه أحد بعد أن تجاوز شيوخه في فنون المعرفة التي كانت سائدة في زمانه.

وأزعم أن السيد حينما تصدى لعرض أطوار حياة المرتضى نور الله تربته، كان عارفًا بأنه يتصدى لأمر جلل، وعملاق من عمالقة الفكر والثقافة لإسلامية، وبحر من بحور الأدب والفقه والتفسير وعلم الكلام، وقامة عالية من قامات الشعر في ذلك العصر المتخم بالكبار . ولم يكن الرضا طيب الله ثراه غافلا عن كل هذا، ولا أظنه كان مترددًا في ولوج ذلك الصعب، فقد تأسس تأسيسا علميًا متينا، ونهل من

ص: 55

مناهل المعرفة العذاب في بيئة مدينة إمام المتقين العلمية زمن المراجع الكبار في العصر الحديث.

والنجف منذ عصر الشيخ الطوسي إلى يوم الناس الشيخ الطوسي إلى يوم الناس هذا هي بيئة التشيع في العالم فما من طالب علم أو مجتهد أو عالم أو مرجع في أقطار الدنيا إلّا حج لها، وتزود من زاد علمائها الأعلام، وكان الزحام على أشده في حلقاتها التي تبدأ عند بزوغ الفجر ولا تنتهي إلا بعد غسق من الليل.

ومما يحسب للسيد الخرسان قدرته الهائلة على لي معصم اللغة إلى جانبه ويوم قرأت ما قرأت له أصبت بالدهشة من لغته التي يصعب الوقوف على مثيل لها فيما قرأته لغالبية الباحثين من رجال الدين خاصة وأزعم أنه حينما كتب مقدمة الانتصار علا فيها على لغة كثر من الكتاب العراقيين والعرب أيضًا، ففاز بالقدح المعلَّى؛ انظر إليه كيف افتتح تلك المقدمة الرائقة الجميلة كي يحدث الدهشة في نفس قارئه ويمسك بتلابيبه حتى لا يهرب منه ؛ قال : (كنت أحسبني - وأنا أنتظم حلقات الدراسة العليا في حوزتنا - أن فرص التفرغ والتعمق العلميين ستكون أكثر سنوحًا لي، وأوفى مواصلة واستدامة، ولكن ما إن توغلت في المضمار حتى بدا لي أن الشوط أكثر طولاً مما قدَّرت وأكبر جهدًا ومعاناة مما تصورت، وأن ما أنهد إليه من تعمق في دراساتنا ليس بالأمر الذي يحسبه البعض هيِّنًا، وإن الطريق إليه معبدة سالكة، بل الأمر أخطر من أن يُلَمّ به في سنوات قابلة للتحديد بالكم...)، وهكذا شرق بقارئه بعيدًا عن المرتضى وكتابه الانتصار، كي يلفت نظر من لا علاقة له بالدراسة

ص: 56

الحوزوية إلى صعوبة الغوص في غمراتها بسبب يبسها ووعورتها، وصعوبة مباحثها، وما تحتاج إليه من صبر وجد وجلد ومثابرة في لغة مشرقة فصيحة، وبمسحة بلاغية آسرة.

ثم أخذ بيد قارئه ثانية إلى التعريف بعلم الهدى من خلال مدخل رائق أيضًا، كي لا يسارع الضجر إليه بعبارة حلوة بليغة فصيحة، فهو معجب بالمرتضى، ويريد من قارئه أن يعجب به أيضًا، ولاسيما بعد أن طغت سمعة الرضي صاحب النهج على سمعته، وسار نهجه في آفاق الدنيا، وتلاقفته أيدي الكتاب والباحثين المحققين منذ عصر الرضي إلى يوم الناس هذا، فشرح مرات كثيرة وحقق مرّات في وقت لا يقل فيه أخوه المرتضى عنه علمًا وأدبًا وشعرًا، بل قد تجاوزه، فأراد أن ينصف المرتضى الذي لم يفز بما فاز به أخوه من مجد باذخ، وسمعة شغلت الباحثين والكتاب ؛ قال : ولكنني ما إن بدأت بسبر أحوال سيدنا المرتضى، حتى أحسست بطارئ غريب كاد يدهشني ويأخذ على فكري كل منافذه فقد وجدتني أمام عملاق من عمالقة الفكر وقمة من قمم الإسلام الشامخة .. وسيرته حافلة بالكثير مما ينبغي أن يتمهل عنده الكاتب لاستخلاص العبر واستجلاء الحقائق، وآثاره هي بالطبع عصارة أفكاره التي تمخضت عنها حياته هي أيضًا ما لا يسعه المرور عليها مرورًا لا يتجاوز في حدوده مطالعة الأسماء والرموز)، ولم يكتف بهذا كي يمهد لقارئه فسحة الدخول إلى سيرة هذا الكبير قبل أن يدخل إلى كتابه الانتصار، وإنما قال: (إن جوانب العظمة في الشريف المرتضى منفسحة انفساح مدة عمره التي

ص: 57

تجاوزت الثمانية عقود، وأبعادها مترامية ترامي آثاره ومآثره)، ونقل عن ابن بسام قوله : إنه كان إمام) أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فزع علماؤها، وأخذ عنه عظماؤها، صاحب مدارسها وجامع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره، وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثاره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين مما يشهد أنه فرّع تلك الأصول، ومن أهل ذلك البيت الجليل)، كما نقل شهادات غيره .

وذكر أن السياسة أخذت مأخذها من والده الشريف أبي أحمد الحسين بين التغييب والنفي، فقد كان بحسب ما نقله السيد الخرسان سيدًا عظيما مطاعا، وكانت هيبته أشد من هيبة الخلفاء ؛ فخاف منه عضد الدولة فاستصفى أمواله بعد أن رأى شدة سطوته وبأسه وغلبته على أعدائه فقبض عليه وسجنه بقلعة شيراز وظل سجينًا منفيًّا عن بلده إلى أن مات عضد الدولة سنة 372ه-، مما أبعده عن النشأة الأولى لولديه المرتضى والرضي؛ ولكنّ الله رزق الشريفين ومنَّ عليهما بأمهما السيدة فاطمة بنت أبي محمد الحسن الناصر الصغير، وهي من عين البيت الشريف الذي انحدر منه أبوهما، وبسبب محنتها بتغييب زوجها (يممت بوجهها شطر شيخ الإمامية في عصره، وفقيههم المتكلم الشيخ المفيد طالبة منه أن يتولى تعليمها.. فلبّى الشيخ طلبها بعد أن احتفى بالزائرة الجليلة، وبالغ في احترامها، ولهذه السيدة الجليلة ألف الشيخ المفيد كتابه أحكام النساء).

ص: 58

هكذا أثار السيد الخرسان في نفس متابعه ما أثار من أحاسيس تدفعه لمواصلة الدرب معه حتى نهايته بتركيز شديد وعبارة تبتعد عن الإطالة التي لا طائل من ورائها، وأسلوب يذكرنا بفن القول الجميل. وكان لابد أن يمنح القارئ فرصة لمعرفة هذا العملاق الكبير بمسرد على إيجازه أشار فيه إلى جميع جوانب نشأته ونسبه الشريف، فقد ولد في أوج الانفجار الحضاري الكبير الذي ألمحت إليه.

ومن عجيب ذلك العصر الذي ولد فيه المرتضى أن طالب العلم لم يكن في حاجة إلى مال أو تذكرة سفر للقاء الكبار من علماء الأمة، فهو بكفالتها في حله وترحاله، يشرق ويغرب في آفاق الدنيا تلميذا وشيخا؛ وقد شهدت النجف الأشرف ما شهدته تلك العصور من كفالة طالب العلم المهاجر إليها مسكنا ومأكلًا، وما يحتاج إليه من مصاريف .

قال : (كان مولده الشريف في دار أبيه بمحلة باب المحول في الجانب الغربي من بغداد الذي يعرف اليوم بالكرخ في رجب سنة 355ه- أيام خلافة المطيع ابن المقتدر الخليفة الثالث والعشرين من خلفاء بني العباس، وقد ترى ما رأيت من جمعه ما بين الجغرافية والتاريخ بعبارة سلسة شديدة ،الإيجاز، فإن كنت لا تعرف محلة باب المحول، فهي في الجانب الغربي من بغداد وإن كنت لا تعرف هذا الجانب منها، فأنت تعرف جانب الكرخ منها، وحتى لا ينبهم تاريخ ولادته عندك، ويذكرك بعصر المرتضى قال ولد أيام خلافة المطيع ابن المقتدر الخليفة الثالث والعشرين من خلفاء بني العباس.

ص: 59

والمرتضى ليس كبقية لمولودين يوم ولد ولا كبقية العلماء الذين ذكرت أسماءهم، وإنما ولد (حيث اكتنفه المجد والفخار، وحفت به العظمة من شتى نواحيها، من أبوين كريمين ماجدين يرفل كل منهما بأثواب العزّ والسيادة)؛ ووليد مثل هذا ولد في فمه ملعقة من ذهب كما يقال قد لا ينصرف إلى ما انصرف إليه، وأنت تعلم أن كثر من أبناء العلماء الميسورين قد انحرفوا عن جادة آبائهم، وأخذتهم الدنيا إلى مراتع اللهو، وأضاعوا تاريخ آبائهم، كما أضاعوا ثرواتهم ؛ ولكن الوليد السعيد لم تغره المغريات، وإنما جاهد أن يكون عند حسن ظن ذلك الشرف، فزاحم السابقين واللاحقين، وفاز بالحسنيين.

كان المرتضى طيب الله ثراه بحسب ما قال عنه السيد الخرسان عن مصادره، وما ذكره المؤرخون من شمائله وسماته: (ربع القامة، نحيف الجسم، أبيض اللون، حسن الصورة، فصيح اللسان يتوقد ذكاء).

وحين عرض مصادر معرفته لم يكن مروره عليها عابرًا، وإنما تحدث عن شيوخه ومكانتهم العلمية بين علماء عصرهم ، وعن مؤلفاتهم وأثرها على المرتضى؛ فذكر له ستة عشر شيخًا هم من أساطين العلوم في عصرهم، اللغة والأدب ،م، فأخذ عنهم والفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام وما إلى ذلك من علوم؛ وفي مقدمتهم الشيخ المفيد شيخ الطائفة في زمانه، وأبي نصر عبد العزيز بن محمد بن نباتة السعدي الأديب الشاعر، والشيخ أبي عبد الله المرزباني الذي كان من أئمة الأدب وفنونه

ص: 60

وأبي علي الفارسي النحوي الشهير صاحب كتابي الإيضاح في النحو والحجة في علل القراءات، وغيرهم من الأعلام.

وبعد تزوّد المرتضى من زاد الكبار واستوعب ما قدموه من مفاخر مازالت الأمة تفاخر بها بدأ بنشر ما استوعبه بعد أن أضاف إليه من علمه وعبقريته ما أضاف، فأخذت عنه أمَّة من طلاب العلوم في زمانهم ممن لا يحصيهم إحصاء، وقد اكتفى السيد الخرسان طيب الله ثراه بذكر أربعة وثلاثين تلميذاهم من أعلام زمانهم، وفي مقدمتهم الشيخ الطوسي شيخ الطائفة من بعده، والشيخ النجاشي، وابن الحاجب، وأحمد النيسابوري، والقاضي أبو القاسم علي التنوخي وأبو الفتح عثمان بن جني، وغيرهم.

برع الشريف (في مختلف العلوم والفنون، وطار صيته في الأوساط العلميةوالأدبية، ولمع اسمه في سماء الثقافة العربية والإسلامية التي كانت بغداد يوم ذاك تزخر بالعديد العديد من ألوانها)، وفي أوليات القرن الخامس (كانت حياته تتسم بالعطاء الجزل والحركة النابضة، فما من شيء كان تعلمه إلا وأفاض به، وما من مسألة تطرح عليه إلا وأجاب عنها الجواب الشافي الكافي، وهو من خلال هذا كله يؤلف ويفتي ويناظر ويستمع لمشكلات الناس التي تطرح عليه ابتغاء حلها، وطلبًا لرأيه فيها ... فكان لا يفتأ عن الإفادة والاستفادة، ولا يصرفه شيء عن الاستزادة من القراءة والدرس والتدريس والتصنيف والفتيا، خصوصا وراعي نبوغه

ص: 61

ومتعاهد فقهه الشيخ المفيد مازال على قيد الحياة والسيد في عز النشاط وكامل الاستعداد والفرصة سانحة، والوقت مؤات).

تلك عبارة الفقيد السعيد، وقد تشعر بما شعرت به من أنها حينما تمر عليها تدفقت من بين أصابعه بيانًا وإيجازا ورشاقة، وقد يظن من استعجل الحكم أن السيد غالى في التعبير عن مكانة صاحبه ومنحه ما لم يكن يستحقه من عبارات الإطراء والوصف الجميل، إلا أنك ما إن تسير معه صفحات معدودات، حتى يأخذك العجب أيما مأخذ ؛ إعجاب بعبارته الآسرة، وإعجاب بتوثيق ما ذكره عن هذه العبقرية التي زاحمت كبار علماء عصره فزحمتهم؛ كما زاحمت أيضًا كثر ممن نذر جانبًا من ماله على دور العلم وطلبته؛ ولاسيما أن بغداد كانت مقصد الدارسين لكثرة علمائها الأعلام، وطلبة العلم آنذاك حين يفدون عليها من أقاصي الأرض بالآلاف لا يفكرون بزاد أو مؤونة، فقد كفلت معاشهم وسكنهم، كما كفلت مكتباتها التي لم يشهد العالم مثيلا لها أدوات بحثهم.

ولم يُغال السيد الخرسان بما نعت به صاحبه فقد كانت دور المرتضى (منتجعا لأهل العلم وطالبي الفضل والمعرفة يرتادونها للتعلم والمدارسة والرفادة، ويستريح في رحابها الوافدون عليه من شتى الجهات)؛ وبيَّن أن السنوات الست ما بين سنة 400 ولغاية سنة 406 ، كانت سني بحث وتأليف ودرس، فلم يكن فيها مطوقا بما طوق به أخوه الرضي، فكأنها سنوت تفرغ علمي، وإعداد فكري، إذ كان أخاه الرضي هو المكلف بأعباء نقابة الطالبيين، ولكن بعد رحيله انتقلت إليه، إذ لا يوجد

ص: 62

بين الطالبيين من يستطيع مزاحمته في مكانته العلمية والاجتماعية والنسب الشريف الذي حازه بكل فخر واعتداد.

على أن رحيل الرضي رضوان الله عليه يوم الأحد السادس من المحرم سنة 406 ه- كان له أعمق الأثر في نفسه، ولعل فجيعته بوقع وفاته وحزنه عليه لا تعدلها المصائب التي مرَّ بها حتى كادت روحه تتلف ولم يعد يتمالك على نفسه، ولا يقوى حتى على معاينة جنازة أخيه).

وما إن مرّ شهر على الرحيل حتى طوق بما كان مطوقا به الرضي من أعباء ولاية المظالم ونقابة النقباء الطالبيين وإمارة الحاج والحرمين، وهي أعباء لا تقوم بها العصبة، بالإضافة إلى تصديه لأعباء المرجعية الدينية بعد نكبته برحيل شيخه المفيد طيب الله ثراه الذي وافاه أجله في الثالث من شهر رمضان سنة 413ه-، وبرحيله أضيف إليه عبء جديد هو عبء المرجعية الدينية.

وكنت قبل عقود مغرماً بالسيد الرضي بعد قراءة ما حبره الدكتور زكي مبارك رحمة الله عليه عنه في كتابه عبقرية الشريف، وأنفقت من بعد خمس سنوات بالتمام والكمال في إعادة تحقيق نهجه والتعليق عليه، وإثبات تعليقات السيد الراوندي على نسخته من النهج التي عدها الفقيد عبد العزيز الطباطبائي أقدم شروح النهج.

وأشهد أن الفقيد العزيز رضوان الله عليه بما سطره عن المرتضى في تقديمه كتاب الانتصار قد يكون أول من أنصفه وحببه إلى القراء - وأنا منهم ومن بين ما قال رضوان الله عليه: (ولقد كان سيدنا المرتضى كما تحدث مؤرخوه - أكثر استيعابًا من

ص: 63

لمشكلات الأمة وقضاياها وأحفل بأمورها وأبصر في تشخيص أدوائها وعلاجاتها، وذا روح رياضية عالية، وفكر قيادي ممتاز أهلاه للاضطلاع بمسؤوليات الأمة، والتصدي لقضايا المرجعية الدينية العامة وإدارة شؤونها)، ثم عرج على ذكر مقومات نجاحه في إدارتها، مع اختيار أمثلة لتوثيقها ذهب إليه ؛ منها: زكاوة البيت وشرف الأرومة، وطهارة النفس، وإشراق الضمير، ورقة الشعور والإحاطة اللازمة والتوفر على صنوف المعرفة، ويسر الحال الذي مكنه من تحقيق ما كان يسعى إلى تحقيقه.

وقبل أن يذكر ما تركه المرتضى من إرث معرفي قال : (كان) السيد المرتضى نمطاً فدًّا في عالم المرجعية الدينية، زخرت أدوار حياته بالعطاء الوفر والخير العميم، وكان لنا من تراثه الفكري الذي أبدع فيه وجلَّى ما يدل بوضوح على ما كان عليه السيد المرتضى من تركيز علمي، وكفاءات وخبرات نادرة أغنى بثمارها المكتبة العربية والإسلامية).

خص الفقيد رضوان الله عليه كتب المرتضى المطبوعة بالتنويه لضيق وقته أثناء طباعة الانتصار؛ أما التي لم تطبع بعد أثناء شروعه بعرض كتاب الانتصار فلم يتحدث عنها، لأن الحديث عنها يطول ويتشعب لما تستلزمه طبيعة التحقيق من التثبت من أسمائها، وتمييز المفرد منها بالبحث عن المبحوث ضمنا وفي جملة؛ لأني وجدت كثيرين ممن عنوا بعدها وتبيانها أغمضوا وخلطوا واشتبهوا.. فلا يسعني الإسهاب في بيانها وتعدادها، لذلك آثرت أن أخص الحديث بخصوص المطبوع من

ص: 64

آثاره.... وإن كان لم يذكر بقية مؤلفاته فإنه لم يترك الباحثين من دون تشوف الطريق إليها ؛ قال : ( ومن أراد الاستزادة عن بقية آثاره فعليه بملاحظة ما ذكره تلميذه النجاشي في رجاله ص 192 - 193 ، وتلميذه الآخر الشيخ الطوسي في الفهرست ص 125 - 126 ، وابن شهراشوب في معالم العلماء ص 69 - 71 ، وأعيان الشيعة 195/41، والغدير 265/4-266 ، ومقدمة الأمالي 12/1-17، ومقدمة الصفار لديوان المرتضى /117/1، سوى ما يجده مبثوئًا منها في أجزاء الذريعة للطهراني حسب أوائلها وفي هذا ما يغني الباحثين ويدلهم على التراث الخالد للسيد المرتضی رضوان الله عليه.

تحدث السيد الفقيد عن اثنين وعشرين كتابًا للرضي طبعت في أزمنة متفاوتة، وأماكن مختلفة ما بين مصر والعراق وإيران ،وغيرها، فذكر لكل كتاب منها سنة طبعه ومكانه وعدد صفحاته وعدد طبعاته ومناسبته، وموضوعه؛ أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المسائل الناصريات التي استلها المرتضى من فقه جده لأمه الناصر الكبير، فشرحها واستدل على صحتها، والشافي في الإمامة الذي ناقش فيه حجج العامة، وتصدى للرد على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وغيرها.

وخص كتاب الانتصار الذي هو بصدده بدراسة معمقة؛ وضع القارئ فيها نصب عينيه، فقال: (ولكي نلجأنا والقارئ في رحاب الانتصار وننعم النظر بظلاله لابد لنا من الإلمام بأمور تعيننا على ذلك). فدرسه في أربعة محاور هي:

-الانتصار فكرة وأسلوبًا.

ص: 65

- في رحاب الانتصار وظلاله.

- الانتصار والفقه المقارن وعلم الخلاف، وما هما؟

طبعاته والحديث عن هذه الطبعة.

رأى السيد رضوان الله عليه أن المرتضى ألف كتابه الانتصار بعد سنة 420 ه- بأدلة موضوعية من خلال ما ورد في الكتاب نفسه، وتحدث بإيجاز وتركيز في القسم الأول من تقديمه الذي ألمحت إليه إلى أن مهمة الكتاب الامتناع من الظالم والاستظهار على الخصم لتجلية الحقائق الفقهية التي كادت تنطمس معالمها وتنبهم جراء المؤثرات العاطفية والتضليل اللذين كانا يمارسان على فقه الشيعة الإمامية بسبب فترات الاضطهاد والمحن المذهبية ، لأنهم انفردوا بفتاوى -بزعمهم - مما مهد عندهم بفكرة الابتداع ؛ وقد أشار رضوان الله عليه إلى كل ذلك في مقدمته إذ بين (المسائل الفقهية التي شُنّع بها على الشيعة الإمامية، وادعي عليهم بمخالفة الإجماع)، فانتصر المرتضى عليهم بالحجة الدامغة لأن ما اعترضوا عليه وافق غيرهم من العلماء المتقدمين أو المتأخرين فحلل السيد وعلل على وفق ما ذكره المرتضى رضوان الله عليه؛ ثم انتقل للحديث عن أسلوبه في الانتصار فقال: (وجدته يتميز ببساطة التعبير، وتحاشي كل المعوقات البيانية التي يمكن أن تؤثر على الغاية، وتخل بالقصد ،والغرض مع التزام تقليدي في طريقة العرض، حيث يبتدئ من مسائل الطهارة وينتهي بمسائل المواريث)، وبعد أن أوجز هذا الإيجاز الجميل تابع ما أورده الشريف في هذا الشأن، ومن بين ما ذكره أنه أحصى المسائل الفقهية التي

ص: 66

انفردت بها الإمامية مما أورده المرتضى في كتابه فكانت 252 مسألة في جزأي الكتاب، أما المسائل المظنونة فكانت 82 مسألة في الجزأين.

وتلاحظ أن العنوان يوحي أن لغة الفقيد ميالة إلى الأسلوب الأدبي الرائق الذي يبتعد عن جفاف العبارة؛ وبيّن من بين ما بينه أن كتاب الانتصار تخللته تحقيقات أدبية ولغوية وفقهية فرصدها بذكر مواضعها في الكتاب ؛ وقال أيضًا: (إن المرتضى لم يغفل رأيًا أو يقلل من قيمته وإن كان يختلف مع صاحبه مادامت الغاية تحرّي الحقيقة وإصابة الواقع، فرصد أربعة وخمسين شخصية ورد ذكرهم في الكتاب، وعزف عن ذكر الباقين منهم، وهم کثر.

وقال: إن المرتضى قد يعمد أحيانًا إلى ذكر المصدر وصاحبه، أو يكتفي بذكره، وقدم أمثلة من الكتاب على ذلك، وقال من بين ما قال أيضًا: إن المرتضى في بيان ما انفردت به الإمامية من أحكام، أو ظُنَّ انفرادهم بها بين ما يجب الإحاطة به عن طبيعة الأدلة التي اعتمدت عليها الإمامية، وعلى الرغم من توسع الفقيد في عرض هذا المبحث ودقته فيه، فإنه رآها نبذة وجيزة عن الإجماع الذي احتج به المرتضى في مسائل الانتصار في وقت أبهر قارئه بحسن عرضه في وجازة تبتعد كل البعد عن الإخلال والإسفاف ،والإطالة فكانت قراءة موضوعية يغبط عليها ويؤجر ويُدهِش.

وفي مبحث الانتصار والفقه المقارن أو علم الخلاف، وما هما؟ عرّف الفقه المقارن تعريفين؛ الأول يراد به جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيد استراحة ثالثة فى رمضان

ص: 67

واحد من دون إجراء موازنة بينها؛ والثاني: يراد به جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقويمها، والموازنة بينها بالتماس ،أدلتها، وترجيح بعضها على بعض، والأخير أقرب إلى ما سماه الباحثون القدامى بعلم الخلاف أو الخلافيات، وبعد هذا التعريف نقل الفقيد ما ذكر في هذا الاتجاه من آراء.

وبشأن أهمية الكتاب قال: ( ويلوح لي أن السيد المرتضى بعمله هذا في الانتصار يكون أول من خطا خطوة جادة بينة في إشاعة الفقه المقارن وتعميمه، بتصنيفه فيه كتابًا تنتظم فيه كل أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والعقود والإيقاعات والحدود والديات والمواريث، كما يبدو لي أنه نمط فذ من أنماط الفقه المقارن...) وفي هذه الأثناء عرج على ذكر بعض كتب الإمامية التي اهتمت بالفقه المقارن). وتمنى في نهاية عرضه طيب الله ثراه على مرجعية النجف أن تبادر إلى تحقيق هذا الكتاب وأمثاله وتيسيره لطلبة العلم، وتعميمه على المعاهد الدينية، وإلزام طلبتها بمدارسته.

وختم بحثه من بعد بالحديث عن طبعات الانتصار، فذكر أن أول طبعاته كانت سنة 1276ه-، وهي طبعة حجرية نشرها محب الخير محمد باقر بطهران، وبعد تسع وثلاثين سنة طبع ثانية بطهران طبعة حجرية أيضًا سنة 1315ه-، ولم يطبع سوى هاتين الطبعتين.

ثم أشار إلى هذه الطبعة التي تولاها الكتبي، وذكر أنها قوبلت على مصورة من الانتصار بخط أبي الحسين علي بن إبراهيم الفرهاني كتبت سنة 591ه- وقابلها

ص: 68

سماحته بالتعاون مع الشيخ الكتبي على مخطوطة في مكتبة الإمام كاشف الغطاء انتهى ناسخها من نسخها سنة 1087ه-، وبسبب كثرة هناتها، اقترح سماحته على الكتبي إهمالها ؛ وذكر أن الكتبي حرص حرصًا بالغا على تنقية هذه الطبعة من الأخطاء، مؤثرًا أن يكون تصحيح الملازم معه، إلا أن السيد كان ينقطع عنه لكثرة مشاغله.

وأزعم في ختام هذ العرض الموجز الذي لم أستطع إنصاف الباحث فيه أنه رضوان الله عليه كان أكاديميا في دراسته، التزم بشروط البحث العلمي، جادا في تقديمه، حريصًا كل الحرص على نسبة المعلومات لمصادرها الأصيلة، من دون تحيز لمصدر بعينه على آخر، وقد بلغت مصادر التقديم ستة وثمانين مصدرًا ما بين قديم وحديث. وكتب دراسته الماتعة بأسلوب جمع بين البيان والفصاحة وسديد القول، وسحر العبارة، وقد لا أكون مغاليًا إذا قلت إنها تنماز على كثير من كتابات الباحثين السلاستها وحسن صياغتها وجودة سبكها.

رحم الله الفقيد، وطيب ثراه، وأسكنه فسيح جنانه، وحشره محشر أجداده آل البيت سلام الله عليهم، وهو اليوم بجوار جده المرتضى عليه السلام. وبعد فيظهر لي على الرغم من الجهد الذي بذله الكتبي في هذه النشرة من الانتصار أنها لم تحقق على أصول خطية معتبرة، كما أن طبعاته السابقة حجرية وهي بمنزلة النسخ المخطوطة، ولكن لا تعرف على أي المخطوطات اعتمدت في طبعها، وهي قديمة من زمان الطبع الحجري.

ص: 69

وإن كان الكتاب قد طبع حديثاً فلا أظنه أخذ حقه من التحقيق العلمي الرصين؛ ولأهميته وقيمته العلمية والتاريخية تمنيت على أخي العلامة المحقق السيد محمد صادق دام عزه أن يجمع مخطوطات الانتصار، ويعيد تحقيقه على أسس التحقيق التي لا تغيب عنه، لإخراجه بأفضل صورة كي ييسره على طلبة العلم من الدارسين وعلى الباحثين في ميدان الفقه المقارن.

وبعد فهذا جهد المقل أضعه بين يدي أخي محمد صادق -على استحياء- وأدعو الله أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه، ويتجاوز عن خطايانا ويجعل خواتيمنا على خير، إنه على كل شيء قدير.

النجف الأشرف في الرابع من جمادى الأولى سنة 1442ه-

الموافق 19 كانون الأول من سنة 2020م 2020م

ص: 70

تقديم السيد العلامة المجتهد المحقق نبيل الحسني لكتاب النهج بتحقيقي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

لا أتذكر في أية مناسبة من مناسبات مؤسسة بقيع الكوفة تشرفت فيها بمعرفة السيد النبيل، ولكن الفضل كل الفضل بمعرفته يعود إلى الصديق الشفيق العلّامة الطالع السيد محمد صادق الخرسان حفظه الله وسدده، إذ كان بصحبته، وهو الذي عرفني به؛ ويوم اطلعت على جانب من مؤلفات السيد النبيل أعجبت أيها إعجاب بما نشر وألف ورأيته من المجتهدين الكبار ، وحق لمدينة كربلاء المقدسة أن تفتخر به وتعتز، وقد أهداني مشكورًا بعضها، فرأيتها كتبت بيراع عالم كبير، فأكبرت جهده الذي أدهشني أيما دهشة لعمق ما كتب وكثرة جديده، وقد احتل ما أهدانيه مكانة مرموقة في مكتبة المؤسسة؛ وكان آخرها كتاب فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة (الإمامي والزيدي والحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والإباضي)، وهو في اثني عشر جزءًا، سبقه كتابه عن الزهراء عليها السلام وهو بعنوان (فاطمة في نهج البلاغة)، وهو في أجزاء عدّة أيضًا، وكلاهما من مطبوعات مؤسسة علوم نهج البلاغة التابعة للعتبة الحسينية المقدسة.

ص: 71

وإذا كنت من قبل قد عرضت كتاب الحج وفق المذاهب الإسلامية، للصديق العزيز العلامة الشيخ محمد مهدي ،نجف، ونشر العرض في مجلة التقريب، فإني أشهد أن ما قام به هذا السيد النبيل من جهد يدل من بين ما يدل عليه على عمق معرفة لفقه المذاهب الإسلامية وتبحره فيه، وقدرة على قراءة النصوص الفقهية والاجتهاد بها. وقد رغبت بقراءة الكتابين قراءة فاحصة بغية عرضهما بما يستحق صاحبهما من تنويه وإشادة، وعقدت العزم أن يكون العرض بمناسبة إعداد الاستراحة الثالثة، ولكني وجدت الأمر ليس بالميسور القيام به في زحمة مشاغلي وانقطاعي عن الدراسة بين حين وآخر، ولاسيما أن الاستراحة لا تستوعب جادًا قد يكون ثقيلا عليها، على أني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمكنني في قريب عاجل أن أعود إليهما، ولاسيما كتاب فقه المذاهب، فهو باب من أبواب علم أمير المؤمنين عليه السلام لا أظنه فتح من قبل بهذه السعة، أسأل الله سبحانه أن يجعله في میزان حسنات السيد النبيل.

وبعد معرفتي بمكانته العلمية، وطول باعه في خدمة تراث أمير المؤمنين عليه السلام خاصة دعوته لإلقاء محاضرة في المؤسسة، فاستجاب لرغبتي حفظه الله ، وكانت تلك المحاضرة محل إعجاب الحضور وإشادتهم.

وحين علم بشروعي تحقيق كتاب النهج أهداني بعض مصورات مخطوطاته القيّمة، واقترح عليَّ بعد إنجازه طبعه في المؤسسة التي يرأسها (مؤسسة علوم نهج البلاغة)؛ فشكرته، ودعوت له أن يحتسب مبادرته في ميزان حسناته، وما هي إلا

ص: 72

أشهر معدودات ظهر الكتاب بحلة جميلة، وبمقدمة لا أستحق ما نوه بها السيد في الكتاب وصاحبه، وهي بمجملها تستحق إعادة النشر لأهميتها.

بسم الله الرحمن الرحيم

(الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها وإتمام منن ،والاها جَمَّ عن الإحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندَبَهُم لاستزادتها بالشكر لاتصالها، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنّى بالنّدْبِ إلى أمثالها ). (1)

(وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضّياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجًا بالبينات، وتحذيرًا بالآيات، وتخويفا للمثلات)(2).

وأن عترته وأهل بيته الدين أذهب الله عنهم الرجس وطهِّرَهُم تطهيرًا (هم موضع سره ولجأ أمره، وعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وموثِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُفُ كُتُبِهِ، وجِبَالُ دِيننه، بهم أقامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ، وَأَذْهَبَ ارتعادَ فَرَا تَصِهِ).

ص: 73


1- السقيفة وفدك للجوهري (ت 323ه-) 140 ، وبلاغات النساء لابن طيفور ت 380 ه- ) 15 ، ودلائل الإمامة للطبري الإمامي (ت 400 ه-) 111 .
2- نهج البلاغة للشيخ قيس العطار 80.

(وهم أساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي بهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة).

فصل اللهم عليه وعليهم صلاة تامة نامية ومتواصلة ومتصلة بعدد ما أحاط به علمك، ومنتهى رحمتك وفضلك ولطفك وإحسانك وبركاتك إنك حميد مجيد.

ولعل ارتعاش يدي يؤرق قلمي فبدا لي في عالم الوجدان متسائلًا: أتراه اعتراك ضعف القِوَى لما حلّ في البدن أو أهالك منظر لما يريك إيَّاه الزمن ؟

فخاطبته والحَرْفُ في هَاتِي مُتَلَعِثِمٌ، لم يكن مما سألت سبب، بل إنه الخوفُ من التقديم لكلام من كان للكلامِ مُحيا وتحيا، وكفى بكلام الشريف الرضي بيانًا ووصفا، فلله دره في تقديمه للنهج قائلا:

(إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرعَ الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولّدها، منه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمْثِلَتِهِ حدًا قائل ،خطیب و به استعان كلّ واعظ بليغ، وعلى ذلك فقد سبقوقصّروا، وتقدَّمَ وتأخَّروا، لأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي )

فبدا قلمي متفهما، ولحالي مُعْذرًا، ولولا ما فرضه العمل من التقديم لما يُنْشَرُ لما أجزت لِنَفْسِي الكتابة والتقديم لِعَملِ أحدِ أساتذة اللغة والساهرين على أمنها وصيانتها الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي دامت توفيقاته.

ص: 74

وما التحقيق الذي بين يدي القارئ الكريم إلا لأمرين الأول لنيل رضا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وإحراز ،فضلهما، وكيف لا وهما الواهبان للفضل في محكم التنزيل، قال عزّ شأنُه (ولَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا أَتَاهُمُ الله ورسوله وقالوا حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُلُهُ إِنَّا إلى الله رَاغِبُونَ).

وإن خيرَ ما يَتَقَرَّبُ به المتَقَرِّبونَ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله نَصْرَ أَولِيَائِهِ وإحْيَاءَ أَمْرِهِم، ونَشْرَ آثَارِهِم، ومنها المختارُ من كلامِ مَوْلَى الموحدينَ وأمير المؤمنينَ صلواتُ الله وسلامه عليه الذي جمعَهُ الشَّرِيفُ الرّضِيُّ المرضِيُّ في جِوَارِ ربّه وجده صلى الله عليه وآله.

والآخر الأمن على العربية بعد أن غَرْتُهَا ثَقَافةُ الاغْتِرَاب واستوطنتْهَا مُفْرَدات الاقتراب من العَصْرَنة ووسائلها، والحداثة ومصْطَلَحَاتِها،

والتَّعْرِيباتِ وغَرَائِبِها. فبَدَتِ الحاجَةُ إلى أمنِ اللّغةِ حاجَةً مُلِحّةً مما يَفْرُضُ على أهل الاختصاص - مع المكنة والاستطاعة - واجبًا أخْلاقِيًّا في صونها، وإزالة الدرنِ والشّوائب عنها.

وإِن خَيْرَ ما يُسْتَعانُ به على ذلك بعد كتاب الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله هو كلام أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام.

من هنا انبرى الأستاذ المحقق صلاح الفرطوسي أخذ الباري الصلاح بخطواته عازما على تحقيق كلام أمير المؤمنين في كتاب نهج البلاغة متوكلا على الله تعالى ملتمسًا منه العون في إكماله، فوُفِّق بفضل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله إلى

ص: 75

إتمامه بهذا الشكل الذي بين يدي القارئ الكريم، فلله دره وعلى الله أَجْرُهُ، وقد انماز العمل عن غيره بما يأتي:

1 - اعتماد المحقق على ست نسخ خطية بعد بذلِ الجُهَدِ في البحثِ عن نُسَخِ نهج البلاغَةِ وتتبع الأقْدَمِ والأشْهَر منها، فضلا عن اهتمام العلماء والشراح والمحققين بها، ولاسيما النسخة المختارة للتحقيق، وهي نسخة بغداد مثلما سماها المحقق، لكونِ أصلها في مكتبة المتحف العراقي بالرقم 8473.

وهي بخط النِّسْخِ الجيد، وقد نسَخَها الشَّيخُ محمد بنُ الحِسَنِ بنِ محمد بن العبّاس نازَويهِ القُمِّي سنة 556 للهجرة النبوية، وقابلها الناسخ على نسخة علي بنِ فندق صاحب شرح نهج البلاغة (معارج العلا في السنة نفسها، وقابلها أيضًا على نسخة فضل الله بن عليّ الحسني سنة 571 للهجرة النبوية.

وبهذا تكون هذه النسخة قد قُوبِلتْ من النَّاسِخِ على نسختين لنهج البلاغة، ولاسيما وإن نسخة ابن فُندق البيهقي تُعَدُّ من خيَارِ النسخ، لأنه اهتم بقراءَتِها على شُيُوخ عصْرِهِ وحفظها عنهم، مما أكسبها -أي النسخة التي اعتمدها الأستاذ المحقق – للمقابلة كانت ذات أهمية وميزة علمية لم تتوفّر في غيرها من النسخ.

2 - إن النسخ الخمس الأخر التي اعتمدها المحقق للمقابلة كانت ذات أهمية علمية، وموضع عناية العلماء والشراح والمحققين وهذا يكشف عن الجهد الاستثنائي الذي بذله في البحث والاستقصاء والدراسة لهذه النسخ، وهي على النحو الآتي:

ص: 76

1 - نسخة بخط الحسن بن يعقوب بن أحمد، وقد فرغ من نسخها في سنة 483 للهجرة النبوية، وقابلها الفقيه سهل بن أمير الرقاقي، وهي أقدم نسخة وقعت بيد المحقق.

ب نسخة بخط السيد فضل الله بن طاهر المطهر الحسيني، وقد فرغ من نسخها في سنة 494 للهجرة النبوية.

ج- نسخة بخط أبي عبد الله الحسين بن الحسن المؤدب، وقد فرغ من نسخها في سنة 499 للهجرة النبوية المباركة، وهي برواية تلميذه علي بن أحمد بن بندار.

د - نسخة بخط عبد الله بن عقيل الحائري، وقد فرغ من نسخها في سنة 673 للهجرة النبوية في الحلة الفيحاء.

ه - نسخة لم يعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها، ويرجح أنها بين القرن الخامس والسادس، وقد خصها السيد المفضال جواد الشهرستاني دامت تأييداته بدراسة مفصلة، وذلك لاهتمام جملة من العلماء الباحثين والمستشرقين بها. وقد قدم الأستاذ المحقق في مقابلة النص جهدا مضنيا ليخرج بما هو الأفضل والأوفق متثبتا في كل مفردة من مفرداتها.

3- إن البيان التفصيلي الذي قدمه المحقق في وصفه لما اعتمده من نسخ خطيّة يرشد إلى طول باعه في عمل التحقيق، وخبرته المتراكمة.

ص: 77

4 - انماز العمل بتشكيل المفردات وإخضاعها لقواعد اللغة النحوية والصرفية مما سهل على القارئ والباحث فهم معنى كلّ مفردة فضلا عن التمرين على نطقها، وهو ما يكشف عن جمالية العبارة وجزالتها، وصياغة اللُّغة ورصانتها.

5 - انماز عمل الأستاذ المحقق بوضع هوامش توضيحية لمعظم المفردات وبيان جذرها اللغوي مما أسهم في الإفادة من دلالتها والوقوفِ على معانيها، وفهم مقاصدها .

فجزى الله المحقق كلّ خير، فقد بذلَ جُهْدَهُ ، وعلى الله أجره، وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل منه ومنا ومن جميع من شارك فيه، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلواتُهُ التامات على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 78

في ذكرى رحيل المجاهد الكبير محمد بحر العلوم

كلمتي في اتحاد أدبه النجف الأشرف وكتابه

الأخوة الحضور المعزَّى، أحييكم بتحية الإسلام السلام، وأصلي على سيد الأنبياء محمد بن عبد الله وعلى آل بيته الأطهار وبعد .

فقد صعب علي أن أشارك في ذكرى مرور عام على رحيل الفارس الذي لم ينزل عن صهوة جواده قرابة ثمانية عقود، لم يكلّ فيها من السفر والترحال، شاهرا سيفه في وجه الطغيان بكل عقوده السود؛ ويوم أصبح عبءا ثقيلاً عليه قرر تصفيته بأية وسيلة، وحين أعيته الحيلة خصص عشرة آلاف دينار جائزة هي الأكبر في زمانها لمن يأتيه به حيّاً أو ميتاً.

ولم تكن حربه الضروس في وجه الطاغية ابنة يومها فقد ورثها عن أسرة اعتادت على مقارعة الظلم، وقدمت على مذبح المواطنة فلذات الأكباد وشيوخ المعرفة في زمانها.

كان ركناً مهما من أركان دائرة الرفض التي تصدرها السيد الحكيم طيب الله ثراه، بدأ دوره فيها منذ قيام الجمهورية، وتصل لحين رحيله من العراق بأعجوبة سنة تسع وستين.

ص: 79

جاب العالم من بعد رفقة عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من شرقه إلى غربه يحمل لواء الحرب على الطاغية، فكان سعيرًا ونارًا عليه، وظن أنه يستطيع لي عوده بالتهديد والوعيد وبالانتقام من أهله وعشيرته، ويستطيع ثلم سيفه، وإسكات صوته الذي دوى في جميع المحافل الدولية، ولكن الأحداث لم ترهبه واستقر الفارس بعد تجوال بمدينة الضباب، ليقاتل منها أشرس دكتاتور عرفه العالم في ذلك الزمن المر الذي ذاق الشعب العراقي فيه العلقم بسبب نزوات ذلك الطاغية الجبار، وقصر نظره الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه.

كان الفقيد طيب الله ثراه عضوًا بارزًا أو رئيسًا لجميع مؤتمرات المعارضة التي عقدت في الخارج، وهو رجل الدين الوحيد الذي وقع على وثيقة (الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق).

وأسس في لندن مع رفيقه الشهيد السيد مهدي الحكيم طيب الله ثراه (مركز أهل البيت الإسلامي العالمي، فكان معلمة بارزة من معالم المعارضة العراقية، ومحفلاً للدراسات الفكرية والحوار.

كان الرجل الذي لا يختلف عليه اثنان من رجال السياسة، وهو رجل المهمات الصعبة حينما يختلف الأخوة وكان ما أجمل مجلسه وأحلاه يهش للصغير والكبير بكل محبة وتواضع.

أما علاقتي المباشرة بالفقيد طيب الله ثراه فتعود إلى سنة 1998م، يومها كنت مغتربا بمدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، وكان لقائي الأول به عبر الهاتف

ص: 80

حول مائدة الشيخ الفرطوسي حين كنت منشغلاً بتأليف كتابي عنه لمعرفتي بأنه كان من أقرب أصدقاء الشيخ إلى نفسه، وحقيقة كان اللقاء حول هموم العراقيين بالدرجة الأولى، ثم توطدت علاقتي بالسيد أثناء عملي خبيرًا بمنظمة الإيسيسكو، وكان لمؤسسة الإمام الخوئي دور في المساعدات التي تبذلها بالتعاون مع وكنت أشكو لسماحته حول بعض الأمور فيبادلني الشكوى بمثلها.

وفي سنة 2003م أجريت حوارًا متلفزًا من باريس، وصادف أنه رحمه الله كان من المستمعين للحوار ، ولا أحدثكم عن سعادتي بمهاتفته لي بعد انتهاء الحوار وما أبداه من إعجاب به.

ويوم سقط الصنم كان سماحته من أوائل العائدين إلى العراق، وتصدر مجلس الحكم في أول تأسيسه، ثم رأسه ثانية؛ ويوم عدت إلى العراق أول ما عدت من مغترب دام قرابة عقدين كان لزاما عليّ أن أتشرف بزيارتهبديوانه في النجف الأشرف، وما إن عرفني إذ لم يكن رآني من قبل حتى هش وبش وكرم مجلسي وكرمني فوق ما أستحق، وهي سجية من سجاياه الكريمة تغمده الله بواسع رحمته.

و من كريم شمائله أنه لم يترك بيت صديق من أصدقائه القدماء، أو من أرحامه إلا وخصه بالزيارة، وكنت أندهش من اعتذاره لي كلما رآني لأنه لم يقم بزيارتي لانشغاله بأعبائه ولا أحدثكم عن سعادتي يوم شرفني وكرمني بزيارته بيتي، وكانت تلك الجلسة التي حضرها لفيف من أساتذة الجامعة وبعض الشخصيات

ص: 81

الاعتبارية من أمتع الجلسات بالنسبة لي وللحاضرين، إذ تطرق رضوان الله عليه إلى محطات من سيرته المفعمة بالأحداث.

ويوم أسستُ رفقة كوكبة طالعة مؤسسة بقيع الكوفة للحوار والدراسات الفكرية قرّ قرارنا أن يشرفها سماحته في يوم الافتتاح، وصادف يومها أن المرض قد أخذ مأخذه من جسده الشريف، وأقعده عن الحضور، فأصر على ولديه الكريمين السيدين الدكتور إبراهيم ومحمد علي تمثيله.

الأخوة الحضور المعزَّى: إن ما تركه الفقيد من إرث ثقافي يمثل جانبًا مهما من تاريخ العراق السياسي، وهو يقدم عالما موسوعيًا ومفكرًا كبيرًا، وحقَّ على أبنائه، والفقيد محل فخرهم واعتزازهم جمع تراثه وإخراجه لتسهيل رجوع الدارسين إليه.

وأنت حينما تستعرض سيرة ذلك العملاق فتى وشابا وكهلاً وشيخا عن بعد تصاب بالدهشة والحيرة من نشاطه الدؤوب في شتى المجالات؛ فهو فتى من رموز الثقافة النجفية لحين خروجه من العراق، وهو من أبرز جماعة الأدب اليقظ التي مثلتها كوكبة من شعراء النجف الكبار كمصطفى جمال الدين والشيخ الوائلي والسيد الحسين بحر العلوم وصالح الظالمي وغيرهم من شعراء شباب ذلك العصر. وهو رقم مهم بين الكتاب والمحققين في شتى جوانب معرفة زمانه، يكتب فيحسن التقاط اللؤلؤ من بحر أجاج.

وقبل إكمال رسالته للماجستير اضطر إلى ترك العراق كما سبق القول، فأكملها في كلية الإلهيات بطهران، وهي بعنوان الاجتهاد أصوله وأحكامه)، ولم يكتف بها،

ص: 82

وإنما يمم وجهه نحو مصر لنيل شهادة الدكتوراه، فسجل بكلية دار العلوم- التابعة لجامعة القاهرة - ونال منها شهادة الدكتوراه سنة 1980م عن رسالته الموسومة ب- (عيوب الإدارة في الشريعة الإسلامية). ومجمل تراثه ما بين كتاب ومحاضرة وتقديم يقدم للمعرفة فقيها وتربويا ومفكرًا ومصلحًا وأديبًا وشاعرًا ورجل فلسفة واجتماع واقتصاد، ومحققا اختار من نصوص المشرق والمغرب مختارات بالإضافة إلى نشاطه السياسي الذي لم ينقطع.

كنت على يقين أنه يملك خزيناً من الأحداث لا يملكها غيره، وكنت ألح عليه أن يبدأ بتدوين ذكرياته، وكان يصر على عدم نشرها لاحتوائها على جوانب لا يرتضي نشرها في حياته، وقد أوكل المهمة لولده إبراهيم حفظه الله ليست بالسهلة.

عظم الله أجورنا جميعًا برحيل هذه الشخصيَّة الفذة، والمواساة موصولة لأبناء مدينتنا خاصة وللعراقيين جميعًا، والشكر كل الشكر لاتحادنا الذي أتاح لنا هذه الفرصة نستذكر فيها العلامة الكبير السيد محمد بحر العلوم طيب الله ثراه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 83

الفقيد الشاعر الملحمي عبد المنعم الفرطوسي

مرّ عقدين ونيّف على طبع كتابي الموسوم ب- (الشاعر الملحمي عبد المنعم الفرطوسي بين أسطورة المكان وتداعيات الحلم في الاسكندرية، الذي انتهيت من تأليفه بمدينة سراييفو في 23 / 10 / 2000م ، ولم يقدر له الانتشار في العراق، ولا في مدينته، إلَّا من نسخ تعدّ على أطراف الأصابع، إذ إن ما طبع منه وزّع في خارجه؛ ولم تسنح لي الفرصة بإعادة طباعته، وقد يكون غاب عن ذاكرتي فلم ألتفت للأمر. ورأيت إعادة نشر أوراق منه قد تحفزني بإعادة النظر فيه إن وجدت متسعا من الوقت؛ ولاسيما بعد إتمام طبع السيد الدكتور مهند مصطفى جمال الدين ديوانه في ثلاثة أجزاء في المؤسسة العريقة (المكتبة الأدبية)، فمازال الشاعر يعيش في ذاكرتي، ولم أستطع إخراجه منها.

والصفحات التي أنشرها اليوم قد تعيد لذاكرة المدينة ذلك الصوت الهادر الذي كان يؤجج الحماس في حناجر مستمعيه بشعر يزلزل الأرض تحت أقدام حكام ذلك لزمان.

قلت في مقدمته: ليس هناك ما يدعوك لاتهامي بالتحيز، فأنا أعترف لك بأني لم أكن محايدًا، لأني لم أف المدينة الحلم حقها، ولم أستطع تقديم الشاعر بالصورة التي يستحقها، وأعترف لك أيضًا أن غصَّة الاغتراب الطويلة التي لم أعرفها من قبل،

ص: 84

وأدّت إلى كثرة ترحالي، والمتاعب النفسية الجمة التي مررت بها خلال عقود أتعبت ذاكرتي فلم تعد بذلك الصفاء الذي كنت أعهده بها، فقد فارقت البلاد مرغا في الشهر العاشر من سنة ثلاث وتسعين بعد أن هيأت لنفسي وأسرتي ومن أحب من أصدقائي زاوية بعيدة عن أعين الرقباء في أطراف بغداد، وتصورتها فردوسًا لا تعدله جميع مباهج الدنيا؛ ويوم اضطررت إلى تركها ليلة 1993/10/17م من حولها كالمجنون، إذ شعرت أني مفارقها إلى الأبد، وحتى يوم الناس هذا مازلت أتطلع لرؤيتها ولو من بعيد.

وما إن تجاوزت الحدود العراقية بمعجزة لا تصدق حتى وجدتني أتشوف مدينة إمام المتقين عليه السلام بقبتها الذهبية، ومئذنتيها وأزقتها وتاريخها وثوراتها و تمردها ومسارح الطفولة فيها ومناهلها العذاب وقوة شخصيتها، وحجم تأثيرها.

ورأيتني منذ ذلك التاريخ أبحث عن رمز من رموزها، أتنفس من خلاله عبق المكان والزمان؛ فكان الشاعر الكبير عبد المنعم الفرطوسي الذي ربطتني به صلة رحم مشوبة بالإعجاب والرهبة والإكبار وكان طيب الله ثراه ثاني ثلاثة تركوا بصماتهم في أعماق نفسي، فتنقل معي رفقة مدينته الحلم من العراق إلى الأردن إلى اليمن إلى السودان ومنها إلى ليبيا عبر الصحراء الإفريقية الكبرى، ثم إلى النيجر ومنها إلى فرنسا ليستقرًا معي في جمهورية البوسنة والهرسك بمدينة سراييفو الصامدة المجاهدة التي طحنتها الأحداث منذ انفصالها عن يوغسلافيا بسبب

ص: 85

تمسكها بهويتها الإسلامية؛ فأعادت لي صور الدمار التي لم تترك زاوية من زواياها فيها إلى ذاكرتي صورة الدمار الذي حلّ بمدينتي الصابرة المجاهدة يوم دكتها مدافع النظام البائد بعد ثورتها العارمة سنة 1991م، وعاد معها شاعرها المجاهد ليؤرق ليلي بمواقفه الشجاعة وزهده ومسيرته التي تدعو إلى التأمل والإعجاب والتقدير.

ويوم اضطرني المرض إلى دخول غرفة العمليات في مستشفى سراييفو العام، وجدتني أستحضر كل ما كتبته، فوجدته أشدّ برودة من تلك الغرفة المخيفة التي دخلتها؛ وقررت إن نجاني الله من مشرط الجراح العودة إلى الشاعر ومدينته مهما كانت النتائج، ومن دون تفكير بغياب أدوات البحث وصعوبة الحصول عليها في ذلك المغترب.

وما إن استطعت الإمساك بقلمي حتى انكببت على ذاكرتي المتعبة أنبشها نبشّا ثلاثة أشهر من دون كلل أو ملل أتشوف فأسترسل، وتحلق بي الذكرى، فأنسى المأكل والمشرب والأهل والعشير.

وحينما يستغلق عليّ أمر من الأمور أستنجد بهذا الصديق أو ذاك من الذين تفرقوا أيدي سبأ في أقطار الدنيا، على الرغم من صعوبة الاتصالات في ذلك الزمن فلا هواتف محمولة، ولا انترنيت.

وأزعم أن ما كتبته عن الشاعر ومدينته كتبته لي لوحدي بالدرجة الأولى، نفست فيه عن كرب وحزن وغربة فما زال الشاعر شامخا في ذاكرتي، ومازالت مدينته فردوس الدنيا على الرغم من رحيل أغلب الصحب منها، ورحيل رموزها الواحد

ص: 86

تلو الآخر من مدينتهم إلى مغتربهم أو إلى الرفيق الأعلى، وكان في مقدمتهم شاعرنا الذي فارق الدنيا سنة ثلاث وثمانين في مغتربه بدولة الإمارات العربية من دون أن ينصفه أحد ؛ وحتى الرسائل الجامعية التي كتبت عنه هنا وهناك لم تنشر جميعها بعد(1)، ولكم تمنيت أن تكون أدوات البحث بيدي في ذلك الوقت كي أنتصف له ولمدينته، على أنّي أمني النفس بالعودة إليهما ثانية.

وإيَّاك أن تحاسبني محاسبة ناقد محترف، فلست من العارفين بأسرار النقد الأدبي وخباياه ومدارسه، كما أني لست أكثر من متذوّق، ولعلّي لا أحسن العرض والتحليل، فقد انصرفت إلى الاختصاص الضيق ما بين دراسات في الصرف والمعجم وفقه اللغة منذ عقود.

على أني في مغامرتي هذه حاولت جاهدًا الابتعاد عن الانحياز والهمز واللمز، لأني أردت تقديم الحلم والرمز إلى جميع الطوائف من دون أن يكون لي موقف منها، أو من أحداث العصر التي مزّقت البلاد شرّ ممزق إلّا ما يتعلق بمسيرة الشاعر؛ يضاف إلى هذا فإن الوحدة والاغتراب منحاني فرصة لتأمّل الماضي، وتشوّف

ص: 87


1- نوقشت عن الشاعر رسالة دكتوراه بعنوان (الشاعر عبد المنعم الفرطوسي حياته وشعره في الهند قدمها الأستاذ طالب الرماحي إلى جامعة بنراس، وطبعت رسالة ماجستير في إيران بعنوان الشيخ عبد المنعم الفرطوسي حياته وأدبه للأستاذ حيدر المحلاتي، وقد تفضل علي الأستاذ محمد سعيد الطريحي فأعارني الكتاب المذكور، وهو جهد يستحق التنويه، وقد استلمته بعد رقن الكتاب ونوقشت عنه رسالة ماجستير في كلية الآداب بجامعة الكوفة في العقد الثاني من هذا القرن ، وعلمت أن رسالة تعد عن الشاعر في إحدى الجامعات البريطانية.

المستقبل، فوجدت أنّ خير وسيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تكون بالعودة إلى الحوار الهادئ، والاجتماع على ما يتفق عليه، أما ما يختلف عليه فليس شرطا أن يدخل في دائرة الحوار، بل رأيت في الاختلاف ظاهرة صحية تعمق الرؤيا وتوضحها، وتجنب البلاد والعباد مزيدًا من ويلات الطغيان والتسلّط ، وأمراض الاستعمار التي كان ماهرًا في رعايتها، فكبرت وأنجبت غيلانًا وعنقاوات، وأحرقت الزرع والحرث، وتركت عين الدنيا العراق يبابًا تنعق فيه الغربان.

وحق لي أن أرى مدينتي فردوسًا لأنّ ى مدينتي فردوسًا لأنّ من مفاخرها قاهرة المعز بأزهره، ومدينة مولاي إدريس (فاس) بجامعتها، ومدارس ،تونس الدينية، وحوزة قم بشيوخها، ومآذن في طول الدنيا وعرضها، بل رأيت أغلب من تولى الحكم في بلاد المسلمين يحاول أن يجد صلة نسب تربطه بصاحب قبتها الذهبية، لأنها تظلل كلّ قيم الحق والعدل والرحمة والمساواة ورسالات السماء التي حاول الطغيان على مرّ العهود طمسها وتهديمها واقتلاعها من جذورها بتهم معدّة لا حصر لها، بلبلت رؤية القريب وشوّهت صورتها في نظر البعيد، ولكنه كان دائما لا يحصد إلّا خزي الدهر، ولعنة التاريخ.

وكنت قد فكرت منذ رحيل الفقيد طيب الله ثراه أن أكتب لمحات عن سيرته، بسبب صلتي الخاصة به، وتأثيره علي وملازمتي له في كثير من المناسبات التي كان يشارك فيها، ودوره في إذكاء الشعور القومي والوطني، وسيرته التي تدعو إلى الإعجاب ومواقفه الصلبة من الظلم والاستبداد في الوطن العربي، وأثره في شعراء

ص: 88

مدينته، وقصيدته الهمزية (ملحمة أهل البيت) أطول قصائد الشعر العربي التي تجاوز عدد أبياتها الأربعين ألف بيت من بحر الخفيف.

وإذا كان الفقيد قد عرف وطنه العربي الكبير، وأحبّه، ودافع عن قضاياه في شعره، فإن قلة قليلة من أدبائه ونقاده على معرفة به، على الرغم من أنه أغزر شعراء العربية إنتاجًا، إذ تجاوز ما نظمه الستين ألف بيت بسبب الحصار الذي أحيط به الرجل حيا وميتا قرابة نصف قرن من حياته، وعلى مدى عقود منذ رحيله إلَّا من دراسات لم ير النور قسم منها، ولم ير الشيوع المناسب القسم الآخر.

تلقيت نعي الشيخ رضوان الله عليه سنة 1983م، وأنا في قرة العين المغرب، إذ كنت يومها موفدًا للتدريس في جامعة محمد بن عبد الله بفاس، ومما يدعو إلى الأسى والأسف أني تلقيته من القسم العربي في الإذاعة البريطانية، فقد نعاه الأستاذ حسن الكرمي في برنامجه قول على قول، إذ قال: كانت وفاة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي عندي بمقام الكارثة لما عهدت فيه من خلال أشعاره من إيمان وعقيدة ورسوخ قدم في الأدب والشعر والبلاغة وكنت قبل مدة عازما على ذكره بمناسبة الكلام عن الشعر والشعراء، وأصحاب الملحمات، وقد عاجلني القدر إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله ؛ وكنت عازمًا على زيارة الخليج وعقدت النية على زيارة المرحوم، وهو ممن يزار وتشدّ إليه الرحال وعاجلني القدر إليه في هذا أيضًا، وسأذكره إن شاء الله، وكان الأخ إبراهيم الحاج رزوقي قد أهداني مجلدات ملحمة آل البيت، فقرأتها، وعلمت منها مبلغ هذا المجهود الجبار، فرحم الله فقيدنا الغالي

ص: 89

وأنزله فسيح جناته)، وقد نشر الأستاذ محمد سعيد الطريحي هذه المداخلة في مجلة الموسم.

ومن غرائب الصدف أن مدينة الفقيد (النجف) التي تقع في أقصى المشرق العربي تلتقي مع المدينة (فاس) التي تلقيت فيها نعيه بكثير من الصفات على الرغم من وقوعها في أقصى الغرب العربي، ولو كانت هناك توأمة حقيقية بين المدن العربية لوجب أن تكون بين بين هاتين المدينتين، وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون مدينة مولاي إدريس حفيد سبط رسول الله الحسن بن علي عليهما السلام صورة من مدينة جده أسد الله وأسد رسوله علي بن أبي طالب عليه السلام...

كان تأسيس الرابطة الأدبية في النجف سنة 1932م وجهًا من وجوه الصراع الثقافي فيها؛ وعلى الرغم من موقف المتزمتين من جديد العصر، فقد كنت تستطيع أن تقرأ بأروقة المدينة وبيوتها في العقد الثالث من القرن العشرين صحف ومجلات كثيرة كالمنار والمقطم والمقتطف والهلال والمقتبس والحبل المتين، وغيرها من التي كانت تصدر في مصر ولبنان وتركيا وسوريا والهند وإيران؛ وذكر الشيخ محمد كاظم أن عشرات من الصحف والمجلة كانت تصل إلى المدينة كل أسبوع سنة 1911م).

كانت هذه المدينة الثائرة الشاعرة فريدة بين مدن العراق، فلم تشأ العيش على موائد الآخرين، لذا شهدت حركة نشر وصحافة لا تدانيها أية مدينة عربية بالمقارنة إلى مساحتها وعدد سكانها آنذاك، فظهرت فيها صحف ومجلات منذ العقد

ص: 90

الثالث من القرن العشرين؛ كالنجف والراعي والهاتف والاعتدال والغري والرابطة والإيمان ،وغيرها، وكان لمطابعها (الغري) وغيرها دور كبير في طبع مئات الكتب الأدبية والعلمية والدينية التي لا تخلو منها مكتبة عامة أو خاصة في شرق الأمة ومغربها.

ولم يكن النشر ميسورًا على كثرة كاثرة من أدباء المدينة وعلمائها، إذ لا توجد جهة تدعم الأديب، وعليه - وهو غالباً لا يملك ما يزيد على قوت يومه- أن يتكفّل طبع ،نتاجه ولو فتشت بيوت النجف العلمية لعثرت فيها على مئات الكتب الخطية التي تعود إلى هذه المرحلة، ولم يكتب لها الشيوع بسبب عدم قدرة كتابها على طبعها. وما كان بمقدور شاعرنا أيضًا طبع ديوانه الطبعة الأولى أو الثانية (1)لولا أريحية الحاج محمد سعيد شمسة رحمه الله الذي تولى تكاليف الطبعة الأولى، والأستاذ إبراهيم الحاج رزوقي الذي تولى تكاليف طبعته الثانية. ولقد ذهب عشرات الشعراء إلى جوار ربهم، ولم تطبع دواوينهم لاستحالة طباعتها على نفقتهم الخاصة بسبب ظروف معيشتهم القاسية، وعلى الرغم من ذلك فقد نجحت المطبعة النجفية في طبع مئات المؤلفات في الشعر والأدب والنقد والتاريخ، وفي الفقه وأصوله وعلم الرجال وغيرها كثير.

ص: 91


1- قامت المكتبة الأدبية بإدارة السيد مهند جمال الدين بطبع ديوانه كاملاً في ثلاثة أجزاء مؤخرًا.

في هذا المناخ المفعم بعبق التاريخ، والثورة والعلم والعلماء والشعر والشعراء في بيئة تعشق الشعر وتتمثله بمجالسها العامة والخاصة، وبين جميع طبقاتها، شبّ نحيفا طويل القامة، ترك الجدري آثاره على محياه، في بيت لا تتجاوز مساحته الستين مترًا يقع في زقاق ضيّقٍ مقطوع من أزقة محلة العمارة، ورثه هو وأخوته عن أبيه، يصعب على الشمس أن تجد طريقا إلى غرفه، تتوسطه ساحة صغيرة، ليس فيه زاوية صالحة لسكن مريح لشاعر مرهف الإحساس، رقيق المشاعر، ولو دخله اليوم أحد أحفاده لتملكه الخوف، ولأشفق على جده من ذلك البيت الغريب خارطة وموقعًا، ليس له من فضيلة إلّا قربه من الروضة المطهرة التي كان يصل إليها الشيخ من خلال أزقة ضيقة ملتوية؛ طابقه الأرضي بغرفه الصغيرة خصص لسكنه وسكن أسرته، وسردابه يقي الأسرة من لافح حرّ صيف العرق، وطابقه الثاني ليس غير غرفة كبيرة اكتظت رفوفها بمكتبته، وخصصت لضيوفه، ومازلت أتخيلها على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على آخر مرة رأيتها فيها.

شب تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه والمأساة تحيط به من كل جانب أينما يمم وجهه، في الريف أو المدينة، وسط لداته أو بعيدًا عنهم؛ شبّ واكتهل والبلاد تموج بالأحداث الجسام، والثورة فيها لا تهدأ ولا يقر لها ،قرار، شبّ وسط الجهل والفقر والتخلّف يراهما في كلّ مكان يحيط بهما الظلم والحرمان والطغيان، بالإضافة إلى فقد الأحبة من أب وأم وأبناء وأجداد.

ص: 92

شب بين لداته أو بعيدًا عنهم عفيفاً، أبيًا ليّنَ المعشر، حلو الشمائل، طاهر الرداء تقيَّاً زاهدًا، يأسرك بحديثه المفعم بالدفء، والطرفة العفيفة، والنادرة الغريبة، فيملأ عقلك وقلبك بعلمه، فإذا عاشرته ظننته خلوا من الهموم والأحزان، فيأخذك أخذ مقتدر ، وتتعلق به تعلّق الخلّ الوفي بخله، وإن تركه محدّثه هنيهة انصرف إلى أدعيته وأذكاره من دون أن يشعر به أحد.

كان مخلصًا لعقيدته وعبادته إخلاصًا لم أشهده في غيره، وفي ذات الوقت مخلصًا لوطنه وأمته بصورة تدعو إلى الزهو والفخار، فهما فردوسه الذي أراد له أن يكون ،فردوسًا، فذاق الأمرين بسبب أمله الحلم من دون أن يتململ أو يتزحزح عن مواقفه في جميع العهود التي عاصرها بلا استثناء، صدر ديوانه الأول سنة سبع وخمسين أحيل إلى المحكمة العسكرية بسبب ما ورد في قصائده الوطنية التي كانت جحيما على حكام ذلك العصر. وصودرت طبعته الثانية وسحبت من المكتبات العامة والخاصة، وحرّم تداوله في ثمانينيات القرن المنصرم، وأصبح تهمة كبيرة في أي بيت، قد تؤدي بصاحبه إلى ما يحمد عقباه.

شبّ واكتهل وشعوب الأمّة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب لا تهدأ ثورتها في وجه حكامها، فكان معها في كل حدث يتناهى إلى سمعه .

شبّ واكتهل في ظروف كان يصارعها حتى تكاد تصرعه، وبين حلم الأسرة في أن يأخذ الحفيد مكان جده ، إذ ليس بين أبنائها من يرشح إلى ذلك الحلم فيكون مرجعًا بين المراجع الكبار، ولاسيما بعد أن توسمت فيه منذ نعومة أظفاره إمارات

ص: 93

الذكاء والجد والورع وحبّ العلم ونهم القراءة ، إلى أن فقد بصره في ستينيات القرن العلمية أنجزها ولما يبلغ الأربعين، وأصبح عند كثير المنصرم ، حتى إن جميع .

من طلابه ولداته من المجتهدين في ذلك العصر؛ ولكن الظروف كانت أقسى، والنكبات كانت تتلاحق وتتلاقح ، وعلى الرغم من ذلك استمر يقاوم إلى أن فارق الحياة مغتربًا في دولة الإمارات.

وأنت تراه حملا وديعًا يثير استغرابك في مأكله ومشربه، ومشيته وجلوسه شريطة عدم الاقتراب من خطوطه الحمر التي تخص المعتقد والمواطنة، إذ لم يكن في مواقفه يعرف المهادنة أو التوفيق، بل رأيته لا يعرف من الألوان إلَّا الأبيض والأسود، ويوم حق لي الاقتراب منه أكثر من غيري من شباب أسرتي بسبب حكم السنّ والاختصاص والمودة التي تربطني به كنت أحيانًا أحاول مناقشته فإن اقتربت قليلًا من خطوطه كان يلقنني دروسًا كثيرًا ما تكون مدعاة سخرية أبناء عمومتي فلا أستطيع مواصلة الحوار معه، وقد تركت بعض ردوده آثارها في أعماق نفسي، ولاسيما هو أحد من الشفرة، وأنا مازلت ميَّالًا إلى الحوار الهادئ والوسطية والتوفيق بين جميع التيّارات على ما يتفق عليه، أما ما يختلف عليه فليس شرطا أن يدخل في دائرة الحوار، بل رأيت في الاختلاف أحيانًا ظاهرة صحية تعمق الرؤيا وتوضّحها وتجنّب البلاد والعباد ويلات الطغيان والتسلط وأمراض العصر التي أحسن الاستعمار زراعتها في نفوس الجميع، وكان ماهرًا في فلاحتها، فكبرت

ص: 94

وأنجبت غيلانا وعنقاوات أحرقت الزرع والحرث، وتركت عين الدنيا (العراق) يبابًا تنعق في الغربان

والكتاب بفصوله السبعة يقدم رؤيا قد تكون واقعية في تقديم جوانب من حياة شاعرنا ومدينته المقدسة بكل صدق وأمانة؛ ولعل الله يمكنني فأعيد طبعه كي أضيف إليه ما فاتني، ولاسيما بعد اكتمال طبع ديوانه.

رحم الله الشيخ وطيب ثراه فقد كان صادقًا مع نفسه تقيَّا عفيفا واصلا لرحمه، وفيا لأصدقائه.

ص: 95

مداخلة بمناسبة زيارة قداسة البابا إلى النجف الأشرف

أهمية الانفتاح

في خضم الأحداث التي تؤرق العالم وتهزه، وتنشر التوجس والخوف من الآخر في أوساطه وتنهش موجات الوباء والفقر والتخلف والحرمان في جسده، وتتحكم نخب فاسدة في مقدرات كثير من شعوبه يحق للنجف الأشرف لوحدها أن تحتضن كل الدعوات التي تحث على الحوار من أجل السلام، وتنادي بالوسطية، وتدعو إلى حرية الفكر والمعتقد ومناهضة التطرف؛ وتؤمن بأن ما بين البشر من قواسم مشتركة كفيل بتضييق المسافات بينهم للعيش في عالم أكثر أمنا وسلامًا وطمأنينة، وأقل فقرًا وتحكما.

فهي وريثة الكوفة التي شهدت في عهد أمير المؤمنين عليه السلام أعظم دستور عرفته البشرية في ظل أكبر تجمع للديانات التي كانت سائدة في العراق.

وهي المدينة التي لم يستطع تكالب الأحداث عليها منذ قرابة عشرة قرون أن يلوي عودها أو يكسرها، ولم تستطع القوى الغاشمة التي حاصرتها أن تثنيها عن نهجها الداعي إلى حرية الفكر على أسسه الإسلامية الصحيحة.

وهي لوحدها التي لم تخضع مؤسستها الدينية لحكم أو حكومة بسبب تحررها من التبعية والجمود على مر العهود.

ص: 96

وقد آن الأوان أن يؤسس بها مركز عالمي تتكفل بإنشائه النخب الواعية من أبناء المدينة في الداخل والخارج بالتعاون مع مؤسساتها الدينية والبحثية والأكاديمية بعيدًا عن كل ما يمكن أن يشارك في إفساده أو انحيازه لتبادل وجهات النظر في كل ما يقض مضجع الإنسانية ويؤرقها ويخيفها؛ يبحث في الوسائل التي تدعو إلى التعايش ونبذ العنف والتقارب وإشاعة قوانين العدالة الاجتماعية والمحبة والتعاون، ويحاول اكتشاف الجمال اللانهائي عند سيد الخلق الإنسان بعيدًا عن كل ما يشوه وجهه ويحوله إلى مخلوق همجي قاتل.

والحديث لم ينته بعد.

صلاح الفرطوسي

ص: 97

تقيم كلية التربية الأساسية جامعة الكوفة ملتقى الإبداع المعرفي والإنساني

تحت شعار الأستاذ الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي

مسيرة إبداع وعطاء

برعاية الأستاذ الدكتور ياسر لفتة حسون

رئيس الجامعة

وإشراف الأستاذ الدكتور حسن حميد فياض

عميد كلية التربية الأساسية

برعاية رئيس جامعة الكوفة الموقر قررت عمادة كلية التربية الأساسية إقامة مؤتمر علمي في 2023/3/15م لتكريم الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي ستشارك فيه نخبة من أساتذة الجامعات من خارج العراق وداخله لعرض نتاجه العلمي والثقافي والاجتماعي والإنساني خلال مسيرته الأكاديمية التي نافت على نصف قرن، وما بعدها.

وأفادت للجنة التي شكلتها الكلية لإدارة المؤتمر أن البحوث التي ستلقى فيه ستطبع بكتاب تكريمًا للدكتور واعترافا بجهده العلمي والثقافي والاجتماعي؛ ولا شك أن عمادة الكلية ومنتسبيها قد بذلوا جهدًا كبيرًا في الإعداد والتحضير وهو لطف منهم لا يدانيه الشكر ولا يعدله تقدير.

ص: 98

ولا أجد كلمة تتناسب مع ما حبتني به هذه الكلية ممثلة بعماداتها السابقة والحالية من رعاية وتكريم منذ شرفت بالتدريس فيها وحتى يوم الناس هذا غير دعاء بدوام السداد والسؤدد والتوفيق والرفعة لجميع القائمين عليها.

ومن بين الجهود المشاركة بحث للأستاذة الدكتورة ابتسام عبد الكريم المدني أطلعتني عليه، واستأذنتها في نشره بهذه الاستراحة، وهو دراسة علمية تناولت الجوانب النفسية التي توصلت إليها من خلال كتابي الاستراحة الأولى والثانية.

فلها كل الشكر والتقدير على ما قدمته سابقا لأستاذها، وما جاد به قلمها من رؤى علمية في بحثها القيم هذا، وهو:

قراءة في فنجان الأستاذ الدكتور ابتسام السيد عبد الكريم

دراسة السرد النفسي في كتابيه استراحة رمضانية

أ. د ابتسام السيد عبد الكريم المدني.

كلية التربية الأساسية - جامعة الكوفة

المقدمة :

الله والحمد لله والصلاة على المصطفى حبيب الله وعلى آله وسلم تسليمًا،

وبعد،

فواضح أنّ العنوان يجمع بين ما هو عاطفي وما هو علمي أمّا العاطفي فهو الفنجان الذي اخترته كي يسمح لعاطفة تلميذة شاهدت في سيرة استاذها خطوطاً

ص: 99

ورموزًا لها دلالاتها التي لا تخضع لدليل أو برهان، إنّما هو الحدس العاطفي والفهم القلبي؛ وأما العلمي فهو منهج التحليل النفسي الذي أحاول سبره في كتابين للدكتور الفرطوسي كلاهما بعنوان استراحة رمضانية الأولى بعنوان: «استراحة رمضانية في السيرة واللغة والأدب ومكارم الاخلاق ، نشر دار القلم، والنسخة خالية من ذكر اسم المدينة التي تمت الطباعة فيها ولا تاريخها، إنما يشير في مقدمة استراحته الثانية بأنّه : قد تكفلت بطباعتها المشيخة الإسلامية بالبوسنة والهرسك، ويذكر في هامش الصفحة الأولى من المقدمة أنّ الاستراحة طبعت في مطبعة الشرق الأوسط، في سراييفو، وهي من منشورات دار القلم سنة 2000م بمطبعة الشرق الأوسط . (1) أمّا الاستراحة الثانية فكان عنوانها: استراحة ثانية في رمضان - في السيرة واللغة والأدب ومكارم الأخلاق طباعة التميمي للطباعة والنشر في النجف الاشرف عام 2016م.

استلمت بمزيد من الاعتزاز دعوة استكتاب من كليتي الحبيبة: «كلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة» المؤتمر مزمع عقده في شهر آذار من عام 2023م يخص الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي؛ ولم يكن اختيار موضوع للكتابة سهلا عندما يكون المكتوب عنه «هو» الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي، ولا أريد أن أقف على الأسباب، فهو باب إن فتح فسأنسى معه موضوع البحث وأهداف

ص: 100


1- ينظر : استراحة ثانية في رمضان في السيرة واللغة والأدب ومكارم الاخلاق: هامش رقم (1) في صفحة المقدمة

المؤتمر، إنّما أكتفي بالقول: إنّ الدكتور الفرطوسي كان أستاذي في مرحلة البكالوريوس، ثم رحيل وفراق وانقطاع أخبار، ثمّ عودة ميمونة، وليس هذا فقط إنّما شرف كلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة حين انضم إلى أعضائها التدريسيين، فكيف لمشاعر من وقفت قبل ما يقرب من خمس وعشرين سنة تلميذة وتقف اليوم إلى جواره زميلة والأدهى من ذلك أني لم أقف إلى جواره زميلة فحسب، بل عميدة كليته فلا المشاعر يمكن أن توصف، ولا الكلمات يمكن أن تعبر، ولا سيما أن شخصية الفرطوسي هي التي ترسم مشاعر الآخر نحوه كيف ؟! لا أدري فها هي كلية التربية الأساسية كلّها تحبّه وتحترمه.

اخترت منهج السرد النفسي في كتابي الاستراحة، وكنت أخشى أن لا يسعفني الكتابان لجمع مادة للبحث، ولا سيما أن المنهج النفسي يعتمد على لقطات وحسب، ولكني تفاجأت بأنّي أسطر أكثر من عشرين صفحة وأنا لم أتجاوز أسطرًا من المقدمتين فاكتفيت بما كتبت أولا لضيق وقتي وآخرا لشروط البحث في المؤتمر، ولذلك أنا أدعو طلبة الدراسات العليا للكتابة في السرد النفسي عند الدكتور الفرطوسي فالمادة الموجودة في كتبه غنية وثرية.

المقربون من الدكتور الفرطوسي يتعاملون معه باللطف والطرافة، وأحسب أنّي من أكثر المقربين له، فوجدت نفسي أنتقي أسلوبًا لا يخلو من اللطف والطرافة في آن معا، فلطف الموضوع أن أتناول السرد النفسي وأقف على دفائن نفس الشيخ

ص: 101

وأبوح بها، وأما الطرافة فقد اخترت أن اعرض تلك القراءة النفسية على وفق أسلوب قارئة الفنجان .

تكوّن البحث من تمهيد وثلاثة مباحث تناول التمهيد شيئًا عن ذكرياتي مع الأستاذ، ثم تعريفا بالمنهج، أمّا المبحث الأول: فتناول ما ورائيات المفردات والعبارات، وتناول المبحث الثاني: ما ورائيات الزمان أما المبحث الثالث فتناول ما ورائيات المكان، ثم خاتمة بأهم النتائج.

وأخيرًا دعائي لأستاذي الفرطوسي بطول العمر والصحة والسلامة ومزيدًا من التألق.

والحمد لله ربّ العالمين.

التمهيد: مسوغات البحث وحدوده

يعتمد القارئ على تقسيمات افترضها المختصون بقراءة الفنجان ومفادها إنّ الرموز الموجودة في قعر الفنجان ترمز إلى البيت والأسرة؛ وأما مركز ذلك القعر وبؤرته، فإنّها رموز تخص أعماق صاحب الفنجان، وكذلك جعلوا المساحات الداخلية المحيطة به رموزًا للمجتمع المحيط بصاحبه أما حوافه العليا فهي رموز للأزمان والأوقات المهمة لذلك الصاحب.

إنّ قراءة الفنجان مهما أخذت ابعادًا خرافية أو محاولات لا دخل لها بالمجال العلمي، في النهاية تحليل لرموز يلمسها قارئ الفنجان معتمدًا على

ص: 102

أوليات معرفية، ونريد من هذه المقدمة أن نبين أنّ القراءة النفسية في هذا البحث ستعتمد على مناهج علمية معروفة ولكنها لا تترحل عن الانطباعات الحدسية والعاطفية ولا أقول إنّ هذه الانطباعات بعيدة عن العلميّة، لأنّ انطباعاتي عن الدكتور الفرطوسي إن لم تكن هي الحقيقة بعينها ، فهي أقرب إلى الحقيقة، فأنا أتكلم أستاذ فتحت عيني الجامعية الأولى وهو يعلمني بناء الكلمة الصرفي، وفي الوقت نفسه يعلمني كيف يبنى الأستاذ المربي، فكان القدوة التي نقتفي خطواتها، ولما باعد الزمن بينه وبين الوطن الحبيب لم تنطفئ في مسيرتنا جذوة الاقتداء وحين أعاده الله سبحانه وتعالى إلينا لم يجد إلّا ما رصن من بناء في قلوبنا، فوجد زرعه قد أثمر ؛ ومن تمام فضل الله سبحانه أن كانت كلية التربية الأساسية روضة مما زرع؛ إذ وجد فيها ضالته التي كان ينشدها في السر والعلن، وجد فيها نخبة من تلاميذه الأوفياء الأبرار، ووجد أيضًا من هم بمنزلة تلاميذه، فلا أبالغ إن قلت: إنّ من لم يتتلمذ من أساتذة اللغة العربية على يده فقد تتلمذ على كتبه، حيث كانت مناهجًا يدرّس في إقسام اللغة العربية في الجامعات العراقية كلّها.

ومما افتخر به أنّي حينما كنت عميدة كلية التربية الأساسية وصلني بفضل عنوان البريد الالكتروني الخاص به، وكان الوصول إلى أستاذي من الأحلام التي ما كنت أظنّ أن تتحقق، فسارعت إلى محاولة مراسلته، ومن شدة اندفاعي لتلك المراسلة ظننت أنّ الكتابة له سهلة، وإذا بي وبمجرد التهيؤ لها جمحت الكلمات وتفكك البناء الصرفي والنحوي كله؛ ماذا ؟؟!! أنا أكتب لأستاذي!! لم تكن بجنبي مرآة كي أرى لون وجهي ولكن دقات القلب تسارعت، وسرعان ما ذكرتني

ص: 103

بذلك الخفقان الذي كنت أشعر به حين أكلمه وجهًا لوجه. عادت لي لحظة لن أنساها؛ وأنا في الصف الأول في كليّة التربية - ابن رشد - الذي كانت نشوتي العلميّة فيه تصيبني بالغرور أحيانًا ظناً مني بأنّ ما سأدرسه في الكلية هو حافات العلوم، وأني سأتمكن من العبور بها إلى حافات أخر، حينها جئت إليه أتردد بين الفرح والخجل وقلت له: دكتور لقد عملتُ منجزا علميًا، ولا أكتم أن الدكتور الفرطوسي نظر لي نظرة استغراب ولا استطيع وصفها الا أنها نظرة تأديب، فقلت له متلعثمة : أستاذ لمدة أسبوع كامل أنا أجرب مخارج الأصوات للحروف العربية، وتوصلت إلى ربط كلّ حرف بمخرجه ووصفت تلك المخارج وسميتها، فكان جوابه يشبه تلك النظرة التأديبية : القضية لا بتجريب ولا بتجريبك، كتب في هذا الموضوع العلماء القدامى والمحدثون وراح يعطيني سيلا من أسماء المصادر، وكان كلُّ مصدر أحسه صفعة منه، لكنها صفعات جعلتني أهرع إلى تلك المصادر، ومن يومها عرفت ما مقدار علم طالب في السنة الأولى من دراسته الجامعية، ومن يومها عرفت أنّي كلما تعلمتُ شيئاً أكتشف أن أشياء لا تحصى تنتظرني.

المهم أنّي ظفرت بعنوان البريد الالكتروني للفرطوسي، ولكن كيف اجرؤ على مراسلته ؟! وماذا سأقول؟! وأخيرًا وجدت المنفذ لمخاطبته، فعنوان الإيميل كان حول كتاب دعوة منه إلى رئاسة جامعة الكوفة لاستكتاب أساتذتها في مجلة علمية يترأسها فكانت فرصتي الذهبية فكتبتُ له، وبعد معاناة احتكمت فيها إلى عقلي متسائلة: أي الاسلوبين أكرم في الكتابة له الإطناب اظهارًا للفضل والمودة أم

ص: 104

الايجاز والتكتم؟! وأخيرًا انتهيت إلى قرار الإيجاز مع الدبلوماسية العالية، ومع الأسف أنّي لم احتفظ بتلك الرسالة وحتى الإيميل الذي راسلت الأستاذ عليه وهو قديم قد أغلق، المهم أنا اتذكر من تلك الرسالة فاتحتها التي قلت فيها: «يشرفني أن أقف بين يديكم عميدة لكلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة بعد أن وقفتُ بين يديكم في كلية التربية - ابن رشد - جامعة بغداد - تلميذة».

وجاءني الرد سريعا منه وكأنه قرأ القلب ولم يقرأ السطور، وكان هذا نص رسالته:

«ابنتي الغالية السيدة النجيبة الدكتورة ابتسام حفظها الله

تحية طيبة مباركة وبعد

فلا أحدثك عن مدى فرحتي وسعادتي باستلام رسالتك الرقيقة، فقد هبطت عليّ كمائدة من السماء كلها أطايب، أعادتني من سجن العمر إلى زهوه على الرغم من كلّ نكده، والخوف الذي كان يغمر أيامه الحالكات، وقد يكتب لنا الله في البقية الباقية من أيامنا جوار أمير المؤمنين عليه السلام فتنجلي غيمة مازالت تغلف حياتي منذ مفارقتي البلاد في 17 / 10 / 1993.

أما بصدد رغبتك بالكتابة في مجلة مؤسسة دار الحكمة، فهي سعادة أخرى بالنسبة لي، ونحن لا نشترط شرطًا باستثناء الالتزام بشرائط البحث العلمي التي لا تغيب على عالمة فاضلة مثلك، وسأكون سعيدًا جدًا إن تفضلت بتشجيع مجموعة من أساتذة كليتكم والكليات الأخر بإرسال بحوثهم لنشرها فيها، لأن هدفي من

ص: 105

الموافقة على رئاسة تحريرها أولاً وآخرًا خدمة الحركة العلمية الجادة في النجف الأشرف لنشرها في الآفاق، والتعريف بها، بعد أن حوصرت عصورًا من الزمان.

وقد أزور النجف قريباً بمناسبة مهرجان ربيع الشهادة، فإن تحققت، فسأدعو نفسي على فنجان قهوة في مكتبك العامر. أما بالنسبة للعنوان فيمكنك إرسال بحثك على العنوان الذي أبردت عليه رسالتك. صادق تحياتي ومودتي إلى كل أخواني وأخواتي -ولك سادس بنياتي كل مودة وتقدير، مع صادق التمنيات بدوام السؤدد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص

أد. صلاح مهدي الفرطوسي

عضو مجمع اللغة العربية بدمشق

انا لا أستطيع الان أن أصف مشاعري بتلك الرسالة ولعل إجابتي عليها تكون أكثر مقاربة للحقيقة اذ أجبت برسالة هذا نصها:

أستاذي الكريم الذي أتشرف به دائما : الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فما كنت أدري أن القلب يمكنه أن يقفز على خريف العمر ويعود إلى ربيعه يخفق الخفق ذاته قبل حوالي 25 عاما .. وأنا أمثل أمام صفحة ستصافحها عيناكم .. نعم هي المشاعر ذاتها عندما كنت أطلب الشجاعة لمحاورتكم فتتعثر الكلمات

ص: 106

خوفًا من الإخفاق، ورغبة في كلمات التشجيع والرضا ... تماما كما كنت أصارع القلم لأكتب ما قل ودلّ على ورقة الامتحان. كتبت لكم – أستاذي في المرة السابقة وكان حبّ الإطناب في الكلام يدفعه شوق كبير ، فتطرب أناملي لفرحها وهي تتراقص بخفة على لوحة مفاتيح الكتابة لتسطر أكثر من صفحة، ولكنها سرعان ما تعود إلى رشدها وبالأنامل ذاتها تضغط على مفتاح محو الكلمات لتعود الصفحة بيضاء لقد كررت ذلك مرارًا حتى كتبت كلماتي تلك... إنّه الاحترام لأساتذة ندين لهم بكل خطوة نجاح.

أستاذي العزيز : أرسل لكم بحثي فإن نال رضاكم فهو للنشر في مجلة المؤسسة، وإن كان غير ذلك فآسفة إذ خيبت ظنكم.

إجلالي الكبير لنعتكم إياي بالابنة السادسة، ويوم من أيام أعيادي ساعة أقدّم إلى حضرتكم فنجان القهوة.

رعاكم الله وأزال عنكم كل نكد؛ وكيف تشعرون بالسجن وكل تلميذ من تلامذتكم نبضة من نبضات قلبكم تلامس تراب الوطن ؟!

تلميذتكم: ابتسام السيد عبد الكريم المدني

لو أطلقت العنان للكلمات عنه سأنسى موضوع البحث، لذلك سأتوقف عنوة عند هذا المقدار وأقول : إنّ الهدف العلمي لذكر ما ذكرته هو تسويغ للأحكام الانطباعية التي ستشرئب - لا محالة - بين الفينة والأخرى، وذلك ليعلم القارئ أن تلك الانطباعات جاءت عن معرفة بضمير الدكتور الفرطوسي ما إن لامست قدماه

ص: 107

كلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة حتى صار كتابًا مفتوحا لأحبته، نفهمه جميعا بقدر ما نحبّه وبقدر ما نُجِلّه جميعًا .

أما إذا أردت أن أعرّفه بعيدًا عن العواطف فسوف لا أتجاوز القول: إنّه الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي المعروف على المستوى العالمي، وبصورة أخص على المستوى العراقي، وبصورة أكثر خصوصية على المستوى النجفي، وبصورة أكثر خصوصية في جامعة الكوفة، وبصورة أكثر خصوصية في كلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة وحسب.

السرد النفسي :

أما دراسة السرد النفسي فلها ارتباط وثيق بقلم الكاتب أيا كان منهجه الكتابي سواء أكان يكتب في القضايا العلمية أم في القضايا الإنسانية، ولاسيما الأدبية منها، لأنّ الشخصية الإنسانية ما هي إلا مكون خاضع للأفعال والأحداث، بل لن تكون هناك سمات شخصية من غير حكاية (1) ، ولعل ذلك ما يجعل البنيويين

ص: 108


1- ينظر : مدخل الى التحليل البنيوي للقصص رولان بارت ترجمة منذر ،عياش مركز الانماء الحضاري، ط 1 : 1993: 62

يربطون الشخصية بوظيفتها النحوية التي تؤديها داخل النص ولا شيء خارجه فتنطلق من رؤاها المغلقة »(1)

تعريف البنية السردية

اختلفت الرؤى حول تعريف البنية السردية عامة والبنية السردية النفسية خاصة، فالبنية السردية عامة مفادها: النظام النظري الذي يحكم النص حتى أنه لا يمكن للمتلقي أن يشخّص جنس ذلك النص إلّا بعد تشخيص بنيته المتكونة عادة من راو ومروي ومروي له (2)حتى وإن كان النص نصًا علميًا، فالباحث هو الراوي والقضية هي المرويّة، والمستهدف من البحث هو المروي له، وبذلك يكون الخطاب السردي نسيجًا قوامه التفاعل بين مكونات البنية السردية؛(3) أما علاقة السرد بالوضع النفسي لصاحب الخطاب فهي علاقة الحبكة بين عناصر النص الواحد حيث أنّها تمثل أبعاد النظرة القائمة عند المرسل، وتمثل شخصيته الوظيفة ويظهر ذلك كله على شكل أحداث تأخذ اتجاها ذاتيًا داخليًا يقع في ذهن الشخصية المرسلة وينبثق من بواطن شعورها، وما ينتابها من حالات نفسيّة قد تكون متقلبة أو

ص: 109


1- السرد النفسي في الرواية العراقية الحديثة، شيماء حسن جبر الساعدي، أطروحة مقدمة الى الجامعة المستنصرية، كلية الآداب، 2018 : 3
2- البنية السردية في الرواية السورية - رواية سماء قريبة من بيتنا رسالة ماجستير/ محمد حسين عبد الطائي / جمهورية السودان/ جامعة النيل / 2018 : 15
3- البنية السردية في الرواية السورية - رواية سماء قريبة من بيتنا رسالة ماجستير/ محمد حسين عبد الطائي / جمهورية السودان / جامعة النيل/ 2018: 15

ثابتة، مسلطة الأضواء على حالات الوعي واللاوعي لتقدم حقائق قد تفوق على ما تقدمه الأحداث الخارجية المعلن عنها في النص. (1)

وأسلوب السرد النفسي معروف في ميادين الدراسات الأدبية، فهو يعنى بالعرض والإخبار عن كلّ ما هو نفسي، ويركّز على الشخصية صاحبة القلم عن طريق الكثافة السيكولوجية التي يصطادها الناقد بوساطة مشاعر صاحب النص وأفكاره وصراعاته النفسية، مما تتكشف بسهولة الأزمات والرغبات والحالات الشعورية واللاشعورية، وهذا ما يجعل المنهج المتبع في السرد النفسي: سيكو نصي حيث يبحث الناقد عن خفايا العالم الداخلي للشخصية المدروسة، سواء أكان ذلك عن طريق السرد الذاتي أم عن طريق عرضه للشخصيات الأخر ومعالجاته، فالكلّ يصاغ بأساليب لفظية نابعة من لغة الشخص وأسلوبه المباشر المعبر عن ذهنيته بأساليب غير لفظية، و يكون الزمان والمكان له رؤى نفسية شديدة التأثير وتكون في الغالب متأثرة بنفسيّة الشخص ورؤاه وما تعصف به من صراعات وحالات نفسية ومدركات شعورية ولا شعورية وقد تكون مضطربة أحيانا عبر علاقات متفاعلة بين الشخصية والزمن ، وبين الشخصية والمكان»(2).

ص: 110


1- ينظر السرد النفسي: 5
2- ينظر: السرد النفسي في الرواية العراقية الحديثة أطروحة تقدمت بها الطالبة شيماء حسن جبر الساعدي الى كلية الآداب الجامعة المستنصرية / 2018 صفحة ب

المبحث الأول: النفس وما وراء المفردات والعبارات.

للنفس مفاهيم قديمة بقدم تراثنا العربي الفلسفي وقد أطنب بالحديث عنها العلماء، فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن ابن سينا: 427ه-) یری أنّ النفس تستطيع أن تدرك أشياء بغير توسط الحواس الخمس، وإنّ الفكرة ما هي إلّا حركة للنفس يستعين بها على التخيّل المستحضر من المخزون المعرفي السابق(1)، ثم تتطور المعارف النفسية لتربط بينها وبين لغة الإنسان ربطا وثيقا حيث يظهر مصطلح السرد النفسي وقد عرّفه الباحثون وأصلوا له وهو عندهم كائن مستقل له بواعث شعوريّة وبواطن داخلية وإرهاصات فكرية واجتماعية تشارك في تكوين(2) التعبير اللغوي واثبات وجودها في النصوص المكتوبة.

المفردات والعبارات المشعة نفسيا في الاستراحة الأولى:

افتتح المؤلف كتابه «استراحة رمضانية في السيرة واللغة والادب ومكارم الاخلاق» بعبارة: «شاء قدر الله أن أغادر العراق بتاريخ 20 / 10 / 1993»، فاسمح لي أن أقف عند قولك: «شاء قدر الله» فَلِمَ لم تقل: «شاء الله»؟! والدلالة المعجمية تذهب إلى أن القدر: هو الأمر المحتوم الذي لا خيار لصاحبه فيه(3)، ولم تكن وحدك من استساغ هذا التعبير لبيان القهر من الخضوع، فالشعراء أيضًا

ص: 111


1- الفكر العربي / عمر فروخ / : دار العلم للملايين / بيوت / 1983 : 407 1983
2- ينظر السرد النفسي : 1
3- ينظر لسان العرب مادة «قدر»

استساغوا تلك المفردة لبيان الخضوع من غير رغبة وقد روي عن عيسى بن البدوي قوله:

كُلُّ شيء حتى أَخِيكَ مَتاعُ ***وبِقَدْرِ تَفَرُّقٌ واجْتِماعُ(1)

فمن العبارة الأولى عرفنا أنّ السفر لم يكن عن رغبة وسعادة كما يبدو للوهلة الأولى؛ ففنجانك محاط بالشوك والوحوش الضارية، وفي هكذا محيط عادة ما يُسعد الإنسان حين ينجح في الرحيل وينقذه الله من هكذا ظروف قاسية، ولا سيما أن بلدان أوربا تظهر في فنجانك وهي تنتظرك بما يزعم الزاعمون من أنها جنة الله الأرض، وسرعان ما تصدّق ظنّي بصريح عبارتك فتقول: « ولم أكن يومها راغبًا بمغادرته، أي العراق ولكن ظروفًا عاصفة اضطرتني لذلك»(2)، ثم تستعمل مفردة القدر» مرة أخرى بقولك: وقدّرت لي أن أمر ببلاد ما خطر ببالي المرور بها »(3)، فيبدو أن النفس مازالت كظيمة ومفردة (العراق) وحدها التي تلتذ بذكرها على الرغم من أنّه الحبّ والجرح في آن واحد، فانت لم تسمّ البلدان التي مررت بها ، بل حتى لم تجمعها فانت تقول : وقدرت لي أن أمر ببلاد ما خطر ببالي «المرور بها هكذا فالبلدان التي مررت بها لا تعني لك تسمياتها شيئًا، فكلها اغتراب، وكأنك لا

ص: 112


1- غريب الحديث / ابن قتيبة : 1 / 61
2- استراحة رمضانية في السيرة واللغة والادب ومكارم الاخلاق/ الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي: 5
3- م .ن : 5

يعنيك اسم من البلدان الا بلاد واحدة (العراق) وله طعم مرّ واحد هو : مغادرة العراق ولم تكن راغبا وهذا ما صرخت به في السطر الأول، نعم «صرخت به»، وانت تتوقع أنك تكتب بصمت لكن في قعر فنجانك، وهو مكان الكشف عن أعماقك كنت تصرخ بصوت قد يكون مبحوحا: «إنك غير راغب بمغادرة العراق، وهناك في قعر الفنجان أيضًا جلدت نفسك حين رأت عيناك جمال «سرايفو» ورأيت نفسك بعيدًا عن الانصاف لو لم تمتدح سرايفو، فقلت: ««أرسو أخيرًا في المدينة الوادعة سرايفو التي لمستُ في كثير من أهلها المودة والقبول مما حبّب إليّ المقام بها بعد أن اعتدت على التنقل والترحال » »(1) . هل تظن أن عقلك الباطن ستنطلي عليه رغبتك بالمجاملة ؟ أكيد ،لا، لذلك اختار لك كلمة: «أرسو» نعم هذه الكلمة المعبأة بمفهوم الترحال كانت استعارتك للرسو من السفينة، والسفينة للترحال وليس للبقاء، وفي فنجانك رمز مبتسم يقول: يظن الدكتور أنه يكتب الواقع بعقله الظاهر، ولكن الحقيقة أن عقله الباطن هو الذي يكتب الدكتور نفسه، فها نحن ننظر في مساحات محيط فنجانك الذي يرمز إلى ما يحيط بك باحثين عن سعادتك في مدينة مدحتها وقلت: «المدينة الوادعة وقلت: لمست في كثير من أهلها المودة والقبول ممّا حبّب إلي المقام بها، فها نحن نبحث عن رموز الانشراح والابتهاج ونسيان الماضي المؤلم والسعادة بالبديل الجديد؛ واذا بك تصرخ من قعر

ص: 113


1- م . ن: 5

الفنجان أي من أعماق نفسك: أنا بانتظار «الفرج كانت هذه العبارة مرآة تظهر تعابير وجهك الحقيقية لتبين أنك سرعان ما مللت المجاملة في العبارة السابقة، لقد قلتها وكأنك أخذت بلوم من يلومك على عشق العراق وجزعك لأجله، ولاسيما أنّ أشواكه لما تزل عالقة في أناملك، فها أنت لم تصطبر على وصفك سرايفو بالجمال إلّا أن تكون محطة: «بانتظار الفرج كنت عزيزي أمام جمال سرايفو طفلا يبكي أمّه الحبيبة فيعطى الحلوى فيرضى بها فقط من أجل «انتظار الفرج».

مرة أخرى تريد أن تكتب كما يقدر عقلك الظاهر فتقول: «وقد منحتني هذه السياحة فرصة للتأمل في أحوال أمتنا عربيًا واسلاميًا وانتزعتُ من نفسي . التعصب أو التحيز »(1)يا سيدي لم تستطع بهذه المفردات أن تغالب نفسك، بل لعلك كنت قبل الرحيل قد نزعت التعصب والتحيز ، أما الآن فانت أسير للتعصب والتحيز، بل أسير إلى كلّ ما تربيت عليه وترعرت فيه، فلولا التعصب لاخترت فكر البلدان التي مررتَ بها وكتبت لشباب أمتك عنها فبلادك متهمة بالرجعية، بل لاخترتَ علمانية سرايفو التي ادعيتَ أنك معجب بها ! ولو كنتَ غير متحيز لكتبتَ عن مزايا بلدان الله الواسعة التي مررت بها؟ بل أنت متعصب - أستاذي - وأنت متحيز على طريقة الدكتور صلاح الفرطوسي العراقي النجفي، فها أنت تُسقط ادعاءك بعدم التعصب والتحيز وتعلن عن هدفك من تأليف كتاب «استراحة

ص: 114


1- استراحة رمضان 5

رمضانية بقولك: وبدا لي أنّي استطيع كتابة شيء للشباب يعيد إلى ذاكرته بعض رموز أمته ويبصره بأحداثها وأسباب نهوضها وعوامل ترديها وعالمية عقيدتها، كي يشخّص الداء ويقرر الدواء(1)، فلو لم تكن متعصباً لامتك وبلدك وثقافتك لثقفتَ لحضارة الغرب الذي أنت فيه، ولاخترت رموز الديمقراطية المدعاة في تلك البلدان، ولقلتَ للشباب في أمتك ارحلوا حيث الغرب وحيث الديمقراطية يا عزيزي أنت متعصب ومتحيز ، ولكن على طريقتك الخاصة.

قراءة في محيط الفنجان الذي يرمز الى المحيط الذي

يعيش فيه

ترى هل اعتدت على العيش في سرايفو التي مدحها؟

لقد درتُ في محيط فنجانك «360 درجة»أبحث عن سعادة أو استمتاع بهذه المدينة الوادعة التي امتدحتها، فوجدتك غير سعيد ولا مستمتع، ولا تملك إلا هاجس الاغتراب بل أنت تتعذب فيه، وهذا اعترافك وليس ادعائي استمع إلى ما تقول أنت لا أحد في الأرض يتعذب عذاب المثقفين المخلصين من أبناء هذه الأمة فكل واحد يجرّ نعشه داخل روحه الشقية... »(2)؛ أنت تعلن بأنه لم يأت الفرج حين مدحت سرايفو، ولم تدهشك جبال البلقان حين نظرت إلى جمالها، بل أنت تتوجع غربة فتعلن لا بل تصرخ: «الكلّ غريب في بلاد الدنيا تائه في وحدة قاتلة مدمرة لا

ص: 115


1- م . ن: 5
2- م.ن: 98

يجد طعما للحلم ولا يغريه أي مغرٍ باستثناء حلم يؤرق ليله ويسحبه إلى بحر متلاطم بامواج الهم المرعب »(1).

ساعدك الله أيها المغرّب فقعر فنجانك الذي تتجمع فيه حياتك الخاصة في استراحتك الرمضانية الاولى عميق حتى كأنك ترتشف منه بقوة الشوق الزلزالية، فها هو مليء بالرموز والخطوط وكلّها تشير إلى أنك تعيش في ذلك العمق الفنجاني، وانت لم تستطع أن تنقطع عن جذورك، ولن تستطيع مهما كانت هما كانت سرايفو جميلة و وادعة كما ادعيت ولكن وريقاتي محدودة لذلك سألتفت بمئة وثمانين درجة لأقف مع استراحتك الثانية.

استراحة ثانية في رمضان

افتتحت استراحتك الرمضانية الثانية بقولك : «مرّ زمن جاوز العقد بكثير على صدور الاستراحة الأولى، وكانت بعنوان: "استراحة رمضانية في السيرة واللغة والادب ومكارم الاخلاق، وقد تكلفت بطباعتها المشيخة الإسلامية بالبوسنة والهرسك»(2).

ص: 116


1- م . ن: 98
2- استراحة ثانية في رمضان أ.د. صلاح مهدي الفرطوسي / ط 1 / النجف الاشرف

انا اسألك : أيّ هدوء وسكينة أنت فيه حين الكتابة؟! فهل جاء الفرج؟ نعم أنه قد، وها أنت في أحضان الوطن، لذلك أنت تكتب مقدمة هادئة خالية من العواطف الجياشة فشتان بين أجواء كتابتك لمقدمة الاستراحة الأولى وبين مقدمة الثانية بل يظهر في فنجانك أنك كنت تكتب على رائحة فنجان البن الذي تعدّه في جهاز صنع القهوة بغرفتك في الكلية الذي طالما جذبتني رائحته فأطرق باب غرفتك الفاصل بينها وبين غرفتي يوم كنتُ عميدة فتقدّم لي الفنجان بيدك؛ والحقيقة أنا لم أذكر هذا الوصف إطنابًا، إنما للإجابة عن تساؤل: أين الجمر الذي كنت تقف عليه وأنت تكتب الاستراحة الأولى ؟! ولا داعي للجواب ففنجانك يجيب: لقد انطفأ جمر الاغتراب وهذا دفء الوطن.

أستاذي: فنجانك يفصح عن سرّ قد تكتمت عليه طوال غربتك، ويبدو أنه أشد لواعج الاغتراب، انظر ماذا تقول في الاستراحة الثانية: «كان للسيرة المقدسة في هذه الاستراحة نصيب، ولبعض الصحابة آخر ... واخترت من نهج علي عليه السلام بعض حكمه، وعرضتُ أحد الكتب التي تناولت سيرته... »(1)نعم كان للسيرة النبوية المقدسة عطر الافتتاح في الاستراحة الثانية، كما هو الحال في الاستراحة الأولى، ولكن شتان بين عطر وعطر ! فالعطر المقدس كان في الاستراحة الأولى محكوم بالخنق، فجلّاد الطائفية الذي يسود العالم يخنق العطر المقدس للسيرة

ص: 117


1- استراحة ثانية : 7-8

النبوية المقدسة في استراحتك الأولى، والسيرة المقدسة ما إلّا مركب واحد متجانس ومتكامل من عطر الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم، وعطر أهل بيته عليهم السلام فأي قاهر يمكنه الفصل بين عطر الرسول والبتول، أو عطر الرسول وعلي أو عطر الرسول والسبطين عليهم الصلاة والسلام جميعًا ؟ ! ، فكان الخنق يستحوذ على قلمك يا دكتور في الاستراحة الأولى، وكان العقل الباطن يستنجد، وقد نبهنا فنجانك بأنك كنت حينها بانتظار الفرج»؛ وها أنت عندما يأتي الفرج ويندحر سوط الطائفية تتفجر بين يديك قارورة عطر محمد وآل بيته صلّى الله عليهم جميعًا ، فأول عطر تنسمته في استراحتك الثانية كان عطر الصلاة على محمد وآله حيث حُرمت من عطر الآل في الأول، وكان ذلك أوّل الغيث، فلما انهمر المطر كان المقال الأول في الاستراحة الثانية عنوانه : ( في أحضان الدفء تكلمت فيه عن أبي طالب عليه السلام بحرية وذكرتَ عليا عليه السلام بحرية، ففنجانك يظهرك حرًا من بعد أسر، إذ تنفست الصعداء بعد خنق، وكان جلّ الصعداء ذاك هو عطر علي بن ابي طالب والزهراء عليهما السلام، فها أنت يا سيدي تذكرهما ذكر من حُرمَ من ذكرهما ردحًا من الزمن، ففي مقالة الطريق إلى المدينة كنت تتحدث عن أصعب سني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقساها، ولكنك سرعان ما تأتي بظنّك الذي افتتحته بأداة الترجي فتقول : ولعل ما هوّن عليه المصاب أنّه وجد

ص: 118

بعض العوض في أمّ أبيها الزهراء البتول، وفي أخيه علي فتى الفتيان إمام المتقين سلام الله عليهما »»(1)وليس لهذه العبارة بين تلك الاسطر إلى مكانة الموسيقى الرابطة بين مقاطع الغناء، فأنت هنا تغني فاطمة وعلي عليهما السلام ولم تضف حقيقة علمية، فعقلك الباطن يتمنى أن يأتي بذكر علي في كل سطر من أسطر الكتابة، إنّها سني الحرمان.

استاذي: كنت تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتتغنى بعلي، فكيف بك عندما تتحدث عن عليّ نفسه فلا داعي أن أقول، لأن فنجانك يقول: إنّ كلّ الحقائق التي ذكرتها في روائع الحكمة في نهج البلاغة هي اغنيتك التي تغفو على أنغامها وتصحو، وهي التي تحتسي على جمالها فنجان القهوة وتدخن الغليون؛ فعلي عليه السلام هو عشقك الذي حُرمتَ منه في سرايفو، وهو الذي كنت من أجله تنتظر الفرج، وفنجانك يقول: «جاءك الفرج ففيه عنوانات كبيرة: «مرقد امير المؤمنين وضريحه» «وما أدراك ما علي و كتاب نهج البلاغة »(2) ولا أجدك بعد هذا باحثًا عن الفرج، فهو بين يديك.

ص: 119


1- م. ن: 21
2- تلك أسماء مؤلفات الدكتور الفرطوسي، وهي كتب مطبوعة.

المبحث الثاني: ما ورد الأزمنة

الزمن بمنظاره العلمي التاريخي يشير إليه الحدث، فأما أن يُعرض على شكل أرقام تشير إلى شهور معلومة وسنين ،مرقمة، وإما أن يشير إلى أحداث تكون بمثابة الأرقام التي تشير إلى الشهر والسنة فمرّة نقول: افتتحت كلية التربية الأساسية عام 2009 ، ومرة أخرى نقول : زرتك قبل تفشي مرض الكورونا، ولكن ليس هذا الزمن المقصود في هذا المبحث إنّما المقصود به الزمن السردي الذي يعرّفه روب جريبه بأنه:««عالم الحاضر المستمر هذا الحاضر الذي يجعل الاستعانة بالماضي والذاكرة أمرًا مستحيلا، إنّه عالم بلا ماض يكتفي بذاته في كلّ لحظة كلّما تقدم»»(1) ويتشكل السرد عامة والسرد النفسي خاصة من زمنين: زمن موضوعي، وزمن نفسي فالزمن الموضوعي هو الذي يؤرخ للحدث أو يصفه بينما الزمن «النفسي هو الذي يشكل بؤرة العلاقة الفاعلة بين الزمن والشخصية وحجم تأثيره وما يخلّفه تأثيره وما يخلّفه من أبعاد نفسية على الشخصيّة في حيز النص السردي إذ ينضوي الزمن النفسي على مدلولات نفسية تجعله يوصف بأنه جزء من الانفعالية والشعورية فيمثل مظهرًا نفسيًا مجردًا تتسلط عليه مؤثرات خفية وغير ظاهرة، لأنّ الذاكرة والعاطفة لهما مصدر واحد هو الشخصية المرتبطة بالمزاج والذات، وعلى هذا الأساس اعتمد الزمن النفسي الماضي والحاضر، والمستقبل» في

ص: 120


1- نحو رواية جديدة، الآن روب جرييه ترجمة مصطفی ابراهیم مصطفی دار المعارف، القاهرة، د.ت» : 135 .

اظهار خفايا العوالم الداخلية للشخصية واحساسها الداخلي بالزمن ذلك الإحساس الذي يتلون بلون الحالة الوجدانية والشعورية فيمكن المتلقي من أن يتوهم الشخصية اللحظة الواحدة زمناً ممدودًا لا حدود له، وقد يتحول داخل وعي كم من الدقائق المعدودة إلى ساعات طويلة، وقد تتصور يومًا كاملًا كأنه بضع ساعات قليلة(1)، فإحساس الشخصية بالزمن وتفاعلها معه يولّد لها نوعًا من من حس زمني نفسي متجذر في مناحي الحياة كلها، فهو في السرد ليس شرطًا نحو الأمام، بل قد يتقدم على زمن السرد وقد يتأخر عليه لذلك يعتمد المتلقي على زمنه الفعلي ليقيس (2)مسار بنية السرد النفسي ويتفنن المرسل بالتعامل مع الزمن، فمرة يكون زمنًا مسترجعا ومرة يكون زمنًا مستشرفًا.(3)

هناك سلوك خاص للمرسل يتعامل به مع الزمن، وهذا السلوك يمكن أن يعوّل عليه الدارس للسرد النفسي ، فالمرسل يمكنه أن يسرع فيه، فيمر مرورًا سريعًا على أحداث استغرقت في واقعها زمنا طويلًا، أو يربط بين مشاهد متباعدة في واقعها التاريخي فيظهرها كأنها حدثت للتو، فيحذف ما بينهما من أحداث طويلة الزمن، وقد يكون الحذف معلنا وقد يكون غير معلن، وهناك العكس من هذا

ص: 121


1- ينظر السرد النفسي في الرواية العراقية أطروحة تقدمت بها طالبة الدكتوراه شيماء حسن جبر الساعدي الجامعة المستنصرية / كلية الآداب/ بغداد/ 2018: 169
2- البنية السردية في الرواية السورية: 22
3- البنية السردية في الرواية السورية: 22 - 26

السلوك وهو سلوك الابطاء السردي، ويتضمن المشاهد الحوارية، أو الحوار مع النفس، أو الغوص داخل الذات لإخراج ما فيها من فكر ومشاعر فتصنع هنا الوقفات الوصفية، وفيها يوهم المرسل المتلقي بطول الزمن حين يدخله بمتابعة وصف لتفاصيل صغيرة قد لا تكون لها أهمية في أصل الفكرة .(1)

الراوي والرواية والمروي له أركان ثلاثة تكوّن أي نص من النصوص فلابد للنص من مؤلف يؤلفه، ولابد لذلك التأليف من نص، ولا بد من قارئ قد يكون مقصودًا بعينه او مفترضًا(2)

في كتابي الاستراحة سيكون الراوي هو الدكتور صلاح الفرطوسي، والمروي كتاب «استراحة رمضانية»، و «استراحة ثانية في رمضان، أما المروي له فمختلف بين الاستراحة الأولى والاستراحة الثانية، وهذا ما سيكشفه الفنجان وهو يتابع ما وراء الزمن.

فنجان الاستراحة الأولى:

وصلنا في قراءة فنجانك إلى حافاته العليا وهو المكان الذي يحتوي على الرموز الزمانية، وحافات فنجانك العليا تقول: إنك كنت في عامك السابع والأربعين، أي: كنت بين عنفوان الشباب وبين استواء النضج الفكري، إنّه عام

ص: 122


1- البنية السردية في الرواية السورية : 28-42
2- ينظر السردية العربية - بحث في البنية السدية للموروث الحكائي العربي / د. عبد الله إبراهيم 1992م: 12

(1993م) ويبدو أنّ اليوم العشرين من شهر تشرين الأول في ذلك العام كان زمن التأسيس لمرحلة ثورة نفسية، ففنجانك يخالفك في التسمية، فهو يشي بأنّ ما تكتب ليس باستراحة كما وددت أن تكون، إنّما هو ثورة أوجاع تستعرضها على طاولة زمن تحنط بحنوط فرعوني ليصنع لوحة مأساة اسمها : ««20 / 10 / 1993 »»لتتشظى منها فجيعة رحيلك من العراق عنوة، ولذلك نسيت أن تكتب تاريخ كتابة المقدمة فتوالي الأيام والسنين في بلاد الاغتراب لا تعني لك شيئًا، فالمصيبة أكبر من ذكر أي تاريخ آخر أمام قولك: «شاء قدر الله أن اغادر العراق بتاريخ 20 / 10 / 1993، ولم أكن يومها راغبا بمغادرته»(1)

وأرجو عدم اتهامي بالمبالغة فتاريخ رحيلك تحنط ووقف معه الزمان، فكلّ شيء فيه متوقف، ولم تشفع للزمن وداعة سرايفو ولا ما أعلنت من تحبّب المقام فيها، إنّما هو تحبّب مكره أخاك لا بطل»، وكانت الحقيقة الوحيدة البارزة: انتظار الفرج حيث أوقفت كلّ عقارب الزمن بانتظار الفرج.

أوّل عنوان في استراحتك بانتظار ولادة سيد الكائنات "عسر المخاض" »»(2) فاسمح لي أن أكرّر عبارة: كنتَ تتصور انك تكتب عقلك الظاهر، ولكن الحقيقة هي : أنّ عقلك الباطن هو الذي يكتبك» فها أنت سيد اللغة العربية وقائد زمامها لم تختر من بحر اللغة إلّا كلمتي: انتظار..عسر»، نعم لأنّ الزمن

ص: 123


1- استراحة رمضانية : 5
2- الاستراحة الأولى : 7

عندك متوقف وأنت في الانتظار و الزمن يتحنط بعيني المنتظ، إنّه زمن سالك الصحراء الرملية ما يخلّص قدمًا إلّا غارت القدم الأخرى، فالرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لم يولد بعد في عنوانك، بل أنت تنتظر ولادته وتعلم أنّ فيها عسرًا، فولادته أيضًا تنتظر الفرج، كما أنت تنتظر ، والزمن عسير على الولادة كما هو عسير عليك، ولو لم تكن في قسوة ذلك الانتظار وذلك العسر لكان عنوان مقالتك: "البشارة بولادة سيد الكائنات " أو ما شابه من إعلان فرح وسرور وحبور، ولكن الزمن متحنط في بلاد الاغتراب وانت تنتظر ولادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

وأنت تخاطب سيد الكائنات صلى الله عليه وآله وسلم فتقول: «وعلم الله أن ساعة اتشوف فيها سيرتك المعجزة تعدل كلّ الركام الذي اعتقدته غاية في يوم من الأيام»»(1) نعم في فنجانك أنت «تتشوف»، والتشوف النظر الاستطالة (2)فالتشوف شوق يتوقف معه الزمن، أنت ملهوف، وزمن الاغتراب لا يتحرك، وقد سئمت تحنطه لذلك أسرعت إلى احضار الماضي لعلك تطفئ لهيب اللهفة إلى حركة الزمن، ولكنك تكتشف حين تكشف عن ذلك الماضي ما هو إلا لوحة محنطة أيضًا

ص: 124


1- الاستراحة الأولى: 12
2- ينظر لسان العرب مادة: «شوف»

تجملها بمفردتين: «ربع قرن»(1)لا اضاءة فيه إلا وجه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم فبقيت تتشوف نور وجهه صلّى الله عليه واله وسلم لعله يلهمك الصبر.

فنجان الاستراحة الثانية

واعجبا !! شتان ما بين زمن الاستراحة الأولى والاستراحة الثانية، فأول ما يظهر في استراحتك الثانية حركة زمنك، إنّك تقول أول عبارة في مقدمتك: ««مرّ زمن»»(2)يا الله !! لقد تحرك زمنك فهو يمرّ ، وسرعان ما تعرض لنا لوحة من زمنك المتحنط القديم وكأنك تعرض لوحة من تراثك لتخبرنا أن مقالات الاستراحة الأولى نشرت ما بين (1993 - 1996 ، هكذا زمن بلا وصف وبلا تعليق؛ وفي المقدمة نفسها تقول : سنوات الاغتراب الأربعة الأولى (3) فزمن الاغتراب ليس له طعم لأنّ الطعم يحتاج إلى زمن للتذوق، والاغتراب غصة ثابتة.

انت في وطنك فقط بدأت تعترف بالزمن لأنه صار كائنا حيًا تخاف عليه وتحرص فأنت تقول: هذه استراحة ثانية كتبت مقالاتها بعد سنة : 2002 » (4)لقدبدأت تؤرخ حتى للماضي، فأنت في وطنك لم تعد تخشى الاغتراب، وليس هذا فحسب فأنت بدأت تتجرأ على ذكر ختام رحلة العمر » (5) بعد أن تجنبت أية دلالة

ص: 125


1- ينظر: استراحة رمضانية: 12
2- الاستراحة الثانية: 7 80
3- الاستراحة الأولى : 5
4- الاستراحة الثانية: 7
5- الاستراحة الثانية 7

في مقالات الاستراحة الأولى على نهاية العمر، ولم يكن ذلك اغترارًا منك بالشباب إنّما هو الرعب من نهاية العمر خارج الوطن، ففي قعر الفنجان حيث المكان الذي يشير إلى أحوال البيت والمنزل تظهر صورتك وأنت تبني لنفسك - حال وصولك - بيتًا ومرقدًا وحسينية في آن معا، وكأن هذا هو الهاجس الذي أخافك في الاغتراب.

تنفس بعمق أنت في العراق وقلمك يعانق أمير المؤمنين بحرية، فها هو الهدوء يعود إليك وإن انزعجت فلا يتعدى انزعاجك تعابير الوجه - وهذا ما توصي به أحبابك دائما - فهدوؤك جعلك تعترف الآن بالزمن.

المبحث الثالث: ما ورا الأمكنة.

يشكل المكان عنصرًا حيويًا تتجسد من خلاله سائر العناصر السردية(1)فهو ليس بمعزل عن الشخصية والأحداث ووجهة النظر، بل قد يكون في مقدمة تلك العناصر، ويكون متفاعلًا معها بعلاقات متعددة وصلات متجذرة بشكل تجعل من العسير فهم النص من غير المكان داخل السرد (2) ، إذ يوحي المكان أحيانا بالضيق، وأحيانا بالاتساع استنادًا إلى انطباعات المرسل ليوحي بطبيعة ارتباطه بحيزه المكاني ويكون ذلك الانطباع نابع من شعور الشخصية وسلوكها اتجاه

ص: 126


1- لرواية الأردنية في ربع قرن ابراهيم خليل دار الكرمل للنشر بدعم من وزارة الثقافة، عمان، ط 1 ، 1994 ، ص: 121
2- بناء العالم الروائي، ص: 52 ، وينظر ايضا : بنية الشكل الروائي، ص: 26 .

المكان(1)، وهذا ما يؤهل المشروعية مصطلح: المكان النفسي الذي يمثل خزانا حقيقيًا للأفكار والمشاعر والحدس، حيث تنشأ بين الشخصية والمكان علاقة متبادلة يؤثر فيها كلّ طرف على الآخر ، فيظهر المكان معبرًا عن نفسية المرسل، ومنسجما مع رؤيته(2).

تعد اللغة العنصر الرئيس في تشكل المكان النفسي لكونها أداة تعبير تجعل من المكان كيانا ماديًا ملموسًا نابضًا بالحياة، وكيانه التخييل، ولا يمكن التعامل معه بمقاييس الجغرافية والهندسة، إنّما هو مكان لغوي يؤدي وظائف خاصة لها دلالتها النفسية، ويحمل إيحاءات سلوكية نفسية (3) ، ويتمثل المكان النفسي عن طريق اللغة، وما تقدم من قدرة على الإيحاء والتعبير عن أحاسيس الشخصية ومشاعرها إزاء المكان، فضلًا عن قدرتها بتقديم المكان في صورة يتحد فيها الزمن بالحدث وبالموقف الذاتي وبالشعور الوجداني للشخصية وبالرؤية الداخلية(4)، وهو مكان التجربة والمعاناة، وهو الذي يثير خيال القارئ فيستحضره ويلمس إشاراته

ص: 127


1- بداية النص الروائي مقاربة لآليات تشكل الدلالة مصدر سابق ص: 105 - 106 . وينظر ايضا المكان والزمان في النص الأدبي الجماليات والرؤيا، مصدر سابق، ص: 172 .
2- المصدر نفسه، ص 31.
3- جدلية المكان والزمان والانسان في الرواية الخليجية د. عبد الحميد المحادين المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001، ص: 29 . وينظر ايضا مشكلة المكان الفني: المكان : ولادته، ليوري لوتمان تقديم وترجمة سيزا ،قاسم مجلة ألف البلاغة المقارنة، ع16، 1986، ص : 102 . وينظر ايضا بداية النص الروائي مقاربة لآليات تشكل الدلالة، ص: 103 - 104 .
4- ينظر : بنية النص الروائي، ابراهيم خليل، مصدر سابق، ص: 164 .

الواضحة المفصحة عن التفاعل النفسي بين المرسل والمكان(1)، يقول: صاحب كتاب الحدس : إن الإنسان يحاول أن ينسج يومه على منوال أمسه... ولكن هذه الإيقاعات ليست كلّها في نفس الدرجة من التطور وهكذا فإنّ أكثر صور الاستقرار الروحي متانة الهوية المرادة (2)وأنت كانت هويتك متينة جدا من حيث تدري ومن حيث لا تدري لقد كررت بلا حدود بين أهلك وأحبابك: إنّك رفضت غير هويتك طوال مدة الاغتراب، ثم رضيت بها بعد العودة إلى حضن الوطن، وحاول عقلك الظاهر أن يقنعك بأنك رضيت بهوية غير هويتك لما أفجعك الحبيب «الوطن» في لقائه الأوّل، وحاولت مرارًا أن تقنع من حولك بهذا لكن فنجانك يقول غير هذا، يقول: إنك لم ترض بهوية غير هويتك إلّا بعد أن ثبت قدميك في ،العراق، واطمأنت نفسك، وبنيت بيتًا ومرقدًا وحسينية، وهذا ما يقره عقلك الباطن على لسان ،قلمك فالمكان العراق) كان هاجسك النفسي الأوّل، فها أنت أوّل مكان تذكره وفي السطر الأوّل من مقدمة الاستراحة الأولى: «العراق» نعم: هذا الحبيب الذي تحاول أن تظهر قسوتك معه هو ذاته مكان عشقك و مأساتك التي كادت تفقدك الحياة نفسها، ولكن هل تلك القسوة حقيقية ؟

ص: 128


1- السرد النفسي: 250
2- حدس اللحظة فاستنون بشلار / تعريب : رضا عزوز وعبد العزيز زمزم/ آفاق عربية / العراق : 69

بؤرة فنجانك تبوح بأسرارك؛ فأنت عزيزي- عملت ما يشبه المستحيل من أجل أن ترحل من العراق، وضحيت بالغالي والنفيس من أجل ذلك، ولكن انظر إلى عقلك الباطن كيف يشي بحقيقة مشاعرك : شاء قدر الله سبحانه وتعالى أن أغادر العراق » » (1)فمغادرة العراق كانت قهرًا، فأنت سيد اللغة ولم تختر عبارة: شاءت رحمة الله» أو «شاء لطف الله» أو على الأقل: «شاءت حكمة الله»، ولكن العقل الباطن غافل العقل الظاهر الذي أراد أن يبدي شيئًا من القناعة بهذه المغادرة واختار مفردة «القدر» ليعبر عن مدى قهرك بهذه المغادرة، فالعراق هويتك النفسية المتينة، أما «سرايفو والتي قمعت من أجلها المشاعر لتوحي بالرضا المكاني ووصفتها ب- «المدينة الوادعة و المقام المحبّب، فعقلك الباطن يفضح تلك المجاملة ليختار مع سرايفو الفعل : «أرسو» نعم إنّك لم ترض بغير العراق سكنا » أو «عيشًا » أو «قضاء أيام حياة» فهناك كثير من المفردات التي تشير إلى الاستقرار والدوام لم تخترها، إنّما قلت: «وأن أرسو أخيرًا في المدينة الوادعة سرايفو»»(2). نعم لم ترض من تلك المدينة إلّا الرسو» ، لقد استعرت الرسو من السفينة لأنها ترحل، ولا قرار لها في تلك الأرض، إنّما هو رسو مؤقت وينتهي.

ص: 129


1- الاستراحة الأولى: 5
2- الاستراحة الأولى: 5

المكان في الاستراحة الثانية

أنت في الاستراحة الثانية تخليت كثيرًا عن هموم المكان، فلم تستفتح كلامك كما فعلت في الاستراحة الأولى ، نعم ذكرت البوسنة والهرسك ولكن لم يكن المقصود منها المكان النفسي، إنّما من أجل التعريف بالمشايخ المنتمين إلى هذه الدولة والذين تكفّلوا بطباعة الاستراحة الأولى فحسب(1)، ثم يكاد يختفي عندك الاهتمام بالمكان حين يخص البلدان التي مررت بها فلم تقف على تسمياتها أو وصفها إنّها تقول: «كانت سببًا في عقد صلات رحم بيني وبين جمهور القراء في البلاد التي مررت بها »»(2)؛ نعم هكذا البلاد»، حتى لم تكلف نفسك لتجمعها: ،بلدان، لأنّ عقلك الباطن وهو الذي يغافلك للبوح بأسرارك ويسجل بعض مفرداتك ليقول كلّ الترحال يسجل في أعماقك بلاد الاغتراب كلّها لون واحد وطعم واحد حين العودة إلى أعماق المشاعر، بينما يبدأ العقل الباطن يحفل بمفردات الاستقرار والدوام لأنه لم يعد الاستقرار هاجس ألم، فأنت في عالم اللاوعي تختار الآخرة من بين اسمائها الكثيرة: دار البقاء ، ولا سيما عندما كنت تتحدث لاسم عن رحيل بعض اساتذتك فتقول: «ونوهت ببعض اساتذتي ممن رحل منهم إلى دار البقاء » (3)، فكأنك أردت أن تحارب مفردة الرحيل» التي تبعدك عن الشعور

ص: 130


1- الاستراحة الثانية: 7
2- الاستراحة الثانية: 7
3- الاستراحة الثانية 8

بالاستقرار في المكان الذي احتوى عليك عواطفك، فاخترت مفردة «البقاء» وقهرت مفردة ،الرحيل، ولكن سرعان ما تفصح عن ذلك المكان الذي ارقك واشقاك وآلمك ولكنه معشوقك الازلي الذي كلّما اطلقت لقلمك العنان في الحديث عنه امتطاه العقل الباطن ليسجل في بؤرة فنجانك مشاعرك الحقيقية، فانت تذكر البلدان اسما جغرافيًا أو وصفًا سطحيًا، ولكن لماذا هذه المشاعر المتأججة مع ذكر العراق؟ إنّك لم تكن تكتب مقالة حماسية ولا نقدية ولا سياسية، إنما كنت مسترسلا، فتقول: على أنّ بعض ما ورد في هذه الاستراحة استرجعت فيه شيئًا من ذكريات قرابة أربعة عقود وتجاربها بأسلوب وضع القارئ نصب عينيه قد يكون فيه بعض العبر » » (1) نعم؛ كنت تتكلم بهذا الهدوء فلماذا الطفرة الاسلوبية عندما تذكر العراق: ولما كان النكد رفيق العراقيين منذ استشهاد أمير المؤمنين إلى يومنا هذا فقد احتل جانبًا منها { المقصود : العبر} ولكنه ليس بكثير ولا سيما بعد أن عزفت النفس عنه؛ لأن غالبية أصحاب الشأن سدوا آذانهم عن السماع واستمرؤوا السحت الحرام حتى رأيتني ولا يسمعني أحد كمن يؤذن في مالطا »»(2)

وهل تعتقد أنّ هذه الاسطر الثائرة انت من كتبها ؟ لا يا عزيزي؛ إنّ هذه الاسطر هي من كتبتك ووشت بجراحاتك المكانية كلها ، فما النكد الذي وصفته ب-«برفيق العراقيين» ليس إلا الغول الذي اقتلعك من أحضان العراق.

ص: 131


1- الاستراحة الثانية 8
2- الاستراحة الثانية 8

وهل يمكنك أن تخبرني لماذا ربطت نكد العراقيين باستشهاد أمير المؤمنين وقد مر العراق بمراحل نكد شتى ألم يكن النكد حلّ بالعراقيين قبل تلك الشهادة؟ ألم يكن الاستشهاد المقدس قد حدث نتيجة للنكد الذي رافق العراقيين ؟ لا ليس هذا الربط إلّا نفئة من نفثات الاغتراب، ففي اغترابك كان هاجسك العراق وأمير المؤمنين في وقت واحد، بدليل انفجار حبك للأمير عليه السلام حين سنحت لك الفرصة، ولكنك لم تزل تعتلك لبان النكد فتقول : وليس كثيرًا على الله أن أشهد في ختامرحلة العمر التي شارفت على نهايتها انقشاع الغمّة عن سماء بلادنا التي كواها الظلم وأرقها الخوف وآذاها الفقر ودنسها الإرهاب وشتت كلمتها الطائفية السياسية وأشاع المفسدون فيها ما أشاعوا، إنّه على كلّ شيء قدير »»(1) فختام المقدمة كان الأمل بانقشاع الغمّة عن سماء بلادنا فمهما كان التوجع والتفجع ولكن إضافة كلمة بلاد إلى (نا) ضمير الجماعة المتكلمين كانت أيضا من فعل العقل الباطن لأنه يريد أن يؤكد بأنّ ضمير المتكلم: «الدكتور صلاح الفرطوسي قد التحم بضمير العراقيين، وقد ضمتهم سماء واحدة.

استاذي: الفنجان صغير وانت واسع فاعذرني لأني سأتوقف.

خلاصة النتائج:

ص: 132


1- الاستراحة الثانية 9

لقد افشى تحليل السرد النفسي عن مكنونات الدكتور الفرطوسي اثناء الاغتراب واثناء العودة خلاصتها :

1- إن مقالات الاستراحة الأولى ما هي إلا أوجاع وألم.

2 - حرمانه من ذكر عشقه المتجذر : العراق وآل البيت عليهم السلام أما العراق فلأن ذكره ملح الجراحات وأمّا أهل البيت فالطائفية المقيتة قد حرمته من ذلك في الاغتراب.

3- لم يروج لثقافة البلدان التي مر بها بصورة عفوية.

4- شعر بالأمان والراحة النفسية عندما شيد في العراق على تراب النجف الأشرف قرب أمير المؤمنين: بيتا وقبرًا وحسينية.

5- قبوله بالهوية الهولندية حين استقر في العراق لأنه عاد إلى ارض الوطن وشعر أنّ الهوية الأخرى لا تشكل خطر الحرمان من الوطن.

المصادر:

1 - استراحة ثانية في رمضان أ.د. صلاح مهدي الفرطوسي / ط 1 / النجف الاشرف (2016)

2 - استراحة رمضانية في السيرة واللغة والأدب ومكارم الاخلاق/ الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي سراييفو دار القلم.

ص: 133

3- بداية النص الروائي مقاربة لآليات تشكل الدلالة/ أحمد العدواني/ المركز الثقافي العربي 2011.

4 - بناء العالم الروائي / ناصر نمر محي الدين/ دار الحوار 2012 .

5 - البنية السردية في الرواية السورية - رواية سماء قريبة من بيتنا رسالة ماجستير / محمد حسين عبد الطائي جمهورية السودان/ جامعة النيل/ 2018:

6 - جدلية المكان والزمان والانسان في الرواية الخليجية / د. عبد الحميد المحادين المؤسسة العربية للدراسات والنشر / 1

7-حدس اللحظة غاستنون باشلار :تعریب رضا عزوز و عبد العزيز /زمزم / آفاق عربية / العراق.

8- الرواية الأردنية في ربع قرن ابراهيم خليل دار الكرمل للنشر بدعم من وزارة الثقافة عمان، ط 1/ 1994م.

9 - السرد النفسي في الرواية العراقية / أطروحة تقدمت بها طالبة الدكتوراه شيماء حسن جبر الساعدي الجامعة المستنصرية كلية الآداب بغداد 018 10 - السردية العربية - بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي / د. عبد الله إبراهيم / 1992م.

10 - الفكر العربي / عمر فروخ - دار العلم للملايين - بيروت - 1983م.

11- لسان العرب / ابن منظور نسخة الكترونية

ص: 134

12 مدخل الى التحليل البنيوي للقصص، رولان بارت، ترجمة منذر عياش مركز الانماء الحضاري، ط 1 : 1993.

13 - نحو رواية جديدة/ الآن روب جريبه، ترجمة: مصطفى ابراهيم مصطفى دار المعارف القاهرة.

ص: 135

3

عضوية مجمع دمشق وتأبين رئيسه

قرابة نصف قرن من الزمان على زيارتي الأولى لمجمع دمشق، لعلها كانت في خريف سنة 1973م التقيت في أثنائها أمينه الذي غاب اسمه عن ذاكرتي مع الأسف على الرغم من صلتي الحميمة به طيب الله ثراه في ذلك الحين. يومها قدمت له رسالتي للماجستير بغية طبعها التي أشرف عليها الدكتور يوسف خليف تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، وقدم لها مقدمة في غاية البهاء، أشاد فيها بتلميذه القادم من العراق أيما إشادة، وبعد مدة ليست بالقصيرة وصلتني من الفقيد رسالة يعلمني فيها أن المجمع يعنى بطبع النصوص المحققة ولا مانع عنده من طبع الرسالة، ولكن بعد حذف الدراسة منها، فشكرته وقررت طبعها في العراق، وحرصًا منّي على طبع مقدمة أستاذي زرت المجمع بعد حين كي أسترجع الأصل الذي قدمته إلى الفقيد وعندما وصلته أعلمت أن الفقيد قد انتقل إلى جوار ربه، ومنذ ذلك التاريخ لم أشأ طبعها على أمل العثور على مقدمة أستاذي وفاء لذكراه، وقد يكتب الله لي زيارة المجمع في مرة قادمة فأبحث عنها.

ولا أدري متى أبردت كتابي (استدراك الغلط الواقع في كتاب العين لأبي بكر الزبيدي) إلى المجمع من مدينة سراييفو للنظر في طبعه؛ وكنت في شك من الأمر، إذ لا يعرفني أحد من أعضائه، ولا أعرف أحدا منهم، ومن الصعب أن تطبع مؤسسة

ص: 136

أو دار نشر الباحث لا تعرفه ويبدو أن القائمين على المجمع تهمهم جودة العمل علمت بطباعته في سنة 2003م، سررت غاية السرور لطبعه في هذه المؤسسة الرصينة.

زرت المجمع سنة 2006م، لشكر رئيسه الدكتور شاكر الفحام طيب الله ثراه، واستلام النسخ المخصصة لي من الكتاب وكان أمر طباعته في المجمع محل اعتزاز وبهجة وسرور، بسبب مكانة مطبوعاته عند الباحثين.

ولم أكن التقيت الدكتور الفحام أو رأيته من قبل، ولكن اسمه لم يكن بغريب عنِّي بسبب شهرته في الأوساط الجامعية والثقافية، فقد استوزر للتربية غير مرّة، وللتعليم العالي غير مرّة أيضًا، وعين سفيرًا في الجزائر ورئيسًا لجامعة دمشق، وغيرها من المناصب، وكانت رئاسة مجمع الخالدين آخر مناصبه منذ سنة 1993م لحين انتقاله إلى الرفيق الأعلى سنة 2009م.

وفي السنة التي سبق ذكرها زرت المجمع، والتقيت الدكتور شاكر طيب الله ثراه أول مرّة، وكان قد بلغ من العمر عتيا ، وأخذت الشيخوخة منه حقها، ولكنه كان متوقد الذهن، فاستقبلني استقبالا طيباً، ولم يكن يعرفني من قبل، وحين سألني عن أوضاعي حدثته بإيجاز عن سيرتي العلمية وتنقلاتي ثم استقراري بجمهورية البوسنة والهرسك خبيرا فيها للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. فأكبر عملي، ثم سألني إن كنت أخذت مكافأة طبع كتابي، والنسخ المخصصة لي، فلما علم بعدم استلامي المكافأة والنسخ أرسل من فوره على مديرة مكتبه لجلب المكافأة

ص: 137

والنسخ، وفي أثناء تلك الجلسة سألني إن كنت أرغب بعضوية المجمع، فكدت أطير من الفرح، وطلب مني تقديم طلب للرئاسة مشفوعا بسيرتي الشخصية.

في اليوم الثاني زرته ثانية وقدمت له الطلب وشكرته على حسن استقبالي ورعايتي وودعته على أمل أن ألتقيه في مناسبة أخرى.

ومرت سنة أو أكثر على تلك الزيارة انتقلت فيها من سراييفو إلى هولندا أستاذًا بجامعة روتردام الإسلامية، وفي أحد الأيام هاتفني أخي الأستاذ محمد سعيد الطريحي من مكتب الدكتور الفحام يعلمني بصدور قرار موافقة وزير التعليم العالي على نيلي عضوية المجمع عن العراق سنة 2007م؛ ولا أحدثك عن مدى فرحتي منذ ذلك الحين إلى يومي هذا بذلك الخبر السعيد.

فأبردت بهذه المناسبة رسالة إلى الفقيد هذا نصها:

بسم الله الرحمن الرحيم

معالي العلامة المحقق الأستاذ الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حفظه الله ورعاه.

الموضوع: شكر وتقدير

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

فقد سألت الله أن يمنَّ عليكم بالصَّحة والسلامة وراحة البال ويحفظكم ويديم عزّكم ، ويبقيكم علما تعتز به الأمة وتحتفي به في كلّ مناسبة، لما بذلتموه من

ص: 138

جهد استثنائى خدمة لبلدكم وأمَّتكم، ولا أشكُ في أن أمة من طلابكم وأصدقائكم ومحبيكم يشاطروني هذه الدعوة المخلصة.

ولا أحدثكم عن مشاعر الامتنان التي غمرتني حينما سلَّمني أخي الأستاذ سعيد الطريحي نسخة من قرار وزارة التعليم العالي الموقر ذي الرقم 1 ت ع / الصادر بتاريخ 3/1/ 2007م القاضي بقبولي عضوًا مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق بناء على اقتراح مجلسه بجلسته المنعقدة بتاريخ 2007/2/7م، وهي منَّة أذكرها لمعاليكم ولجميع العلماء الأعلام الذين شاركوا بمنحي هذه الثقة العالية، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني جديرًا بها، ويشرفني أيضًا أن أشارك بجميع أنشطة المجمع وندواته العلمية في المستقبل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص المحب

أد. صلاح مهدي الفرطوسي

رئيس مجلس أمناء الجامعة الحرَّة

ولم تسنح لي الفرصة بزيارة الفقيد إلّا أني كنت أراسله بين حين وآخر، وفي ذلك الوقت كلفت برئاسة مجلس أمناء الجامعة الحرة في هولندا، فكاتبت معاليه وعرضت عليه قبول عضوية مجلس أمناء الجامعة ولا أحدثك عن سعادتي بقبوله الطلب.

ص: 139

معالي الأستاذ الدكتور شاكر الفحام

الموضوع رغبة بتشريف الجامعة الحرة في هولندا

بقبول عضوية مجلس أمنائها

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

فلا أحدثكم عن أثر لقائي بمعاليكم أثناء زيارتي العابرة للمحروسة دمشق، وما تركه من أثر عميق في نفسي كله اعتزاز وتقدير وتجلة لشخصكم الكريم، وكانت الجامعة الحرة في هولندا قد عرضت عليَّ تولي منصب رئيس مجلس أمنائها بعد عودتي من حج بيت الله الحرام، ولو لم أجد مصلحة عامة تدعو لدعمها ما فكَّرت بالانتماء إليها أصلاً، ولا فاتحت معاليكم بأمر قبول عضوية مجلس أمنائها، من المهاجرين وغيرهم بحاجة إلى مؤسسة تحقق لهم التواصل العلمي الذي يصعب عليهم الحصول عليه، يضاف إلى ذلك أن عددًا غير قليل من أصحاب الكفاءات من الذين اضطرتهم الظروف إلى هجر جامعاتهم لا يجدون فرصة لممارسة نشاطهم العلمي في هذه البلدان لأسباب ليست بخافية عليكم، وأزعم أن هذه المؤسسة إن كتب لها النجاح يمكن أن تقدم في المستقبل خدمات كثيرة للبلاد العربية وغيرها، ويمكنها أيضًا أن تقوم بدور فاعل في مسائل التقريب وحوار، والتبادل العلمي والمعرفي، وإنّ بركة قبولكم عضوية مجلس أمنائها كفيلة بدفع القائمين على إدارتها إلى مزيد من البذل والعطاء، كما أنها تدخل أنواعًا من البهجة والحبور على قلبي شخصياً بسبب شديد اعتزازي ،بمعاليكم فإن رأيتم أمرتم بإعلامي، وإن

ص: 140

كانت الأخرى فالعذر مقدم وحبل المودة موصول، وهي مناسبة أجدد لكم فيها ولأعضاء مجلس مجمعكم شكري على قبولي عضوًا مراسلاً ،فيه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المخلص المحب

أد. صلاح مهدي الفرطوسي

رئيس مجلس أمناء الجامعة

ويوم طرق سمعي رحيله إلى جوار ربه قررت حضور أربعينيته بأي شكل من الأشكال، وعلى الرغم من عضويتي مجمع دمشق فقد كان لزاما علي الحصول على التأشيرة السورية، فسافرت إلى بروكسل في بلجيكا، إذ لم تكن لسوريا سفارة في هولندا للحصول على التأشيرة.

قطعت تذكرة على الخطوط التركية، وفي حينها لم أعثر على تذكرة توصلني إلى دمشق إلّا أن أبقى في ترانزيت اسطنبول بعد العودة قرابة أربع وعشرين ساعة، فاضطررت إلى قضائها في فندق المطار، وما إن وصلت العاصمة دمشق حتى ذهبت من فوري إلى المجمع كي أعرف مكان التأبين، وعصر ذلك اليوم ذهبت إلى المكان للترحم على الراحل الكبير الذي كان سببًا في نيلي عضوية المجمع، والتقيت في القاعة بعض أعضاء المجمع، وبعض الشخصيات الاعتبارية، وفي مقدمتهم زوجة الراحل الكبير طيب الله ثراه، وأعلمتها مدى أسفي برحيله، وشديد حرصي على حضور هذه المناسبة للمشاركة في تأبينه، فلما علمت بمجيئي من هولندا أكبرت حضوري، وشكرتني غاية الشكر.

ص: 141

رسالة ماجستير للطالبة زهره عباس

صالح بعنوان:

الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي وجهوده في اللغة والتحقيق

من يمن الطالع وحسن التوفيق أن تتقدم الطالبة زهراء إلى قسم اللغة العربية بكلية التربية الأساسية لتسجيل رسالتها للماجستير بالعنوان المذكور، وهي من أفاضل طلاب الدورة الثانية لدراسة الماجستير في الكلية المذكورة، وكانت الأولى على طلبة القسم في البكالوريوس، والمبرزة بين زملائها في مرحلة الماجستير، ومن لطف القائمين على قسم اللغة العربية قبول لجنته العلمية على تسجيل ذلك الموضوع.

ولم أكن أعرف الطالبة، وما التقيت بها من قبل. ويبدو أنها كانت تسمع بالشيخ وباحتفاء كليته به واحترام أساتذتها له، وتقديرهم لدوره المعرفي، ونتاجه العلمي، وحديث طلبته عنه؛ ويوم أُحِلتُ على التقاعد أقامت الكلية حفلًا كريما لتوديعي، عبرت فيه عميدة الكلية وأساتذتها عن شديد تقديرهم لزميلهم، وكان مجلس الكلية قد قرر من قبل زمن عمادة طيبة الذكر الدكتورة ابتسام المدني تسمية القاعة الكبرى باسمي، فجزاهم الله كل خير، ومن عليهم بخير ما منّ به على عباده الصالحين.

من ذلك الحفل رسخ في ذهن الطالبة النجيبة أن تكتب عن الشيخ، وقد نالت بعد مناقشة رسالتها سنة 2020م درجة الماجستير بتقدير امتياز.

ص: 142

ومما ورد في مقدمتها:

كانت غرفة الدكتور صلاح الفرطوسي الكائنة في الجهة اليسرى من الكلية تثير فضولي وأنا في مرحلتي الأولى من الدراسة الأولية، فحاولت دخولها أكثر من مرّة، وعزمت في أخرى، وشاء عزّ وجلّ أن أدخل الماجستير الذي يختم بمشروع بحث؛ ولا أحدثكم عن حيرة الطلبة، وهم يقلبون الكتب بحثاً عن عنوان، وبينما كنت في حيرة مثلهم سمعت أن هناك حفل تكريم واحتفاء بالدكتور صلاح الفرطوسي نتيجة إحالته إلى التقاعد وفيه قرّر أساتذة الكلية دراسة جهود الدكتور صلاح الفرطوسي، فما انتظرت حتى قلت لهم: أنا من يقوم بهذه الدراسة، إذ يعدّ الدكتور الفرطوسي واحدًا . من القامات اللغوية بين علماء العراق المرموقين، يملك ناصية الأدب، وسنام المعرفة، وهبه الله تعالى قلما سيَّالًا، ونثرًا مبسوط العبارة، ولغة عذبة المورد، وهو بعد مفكر من الطراز الأول ؛ بعيد مطرح الفكر، محقق شديد التنقيب، وله بصر في مواضع الحق؛ لذا عزمت دراسة الجانب اللغوي والتحقيقي عنده، فسجلت دراسته باسمي ولا أحدثكم عن سعادتي حينها.

بعدها شرعت في قراءة كتبه التي لا تدخل ضمن حيّز دراستي كالأحنف بن قيس أعظم المعاقين في الإسلام، وخلف أسوار الكوفة، والثوية بقيع الكوفة؛ وقلبت صفحات كتبه الأخر، حتى قضيتُ نصف الوقت المقرر لإنهاء رسالتي، وقد أفدت أيما فائدة، وساعدني في ذلك طريقة عرضه الشائق، وأسلوبه السهل الممتنع، وبعدها قرأت الكتب التي في ضمن دراستي، ولا يسعني إلا القول له:

ص: 143

جزاك الله صالحة صلاح*** يعلمك كل مكرمة تتاح

وفیت ولم تزل برا كريما ***حليما لا تضيق لديه ساح

إذا نزل العفاة به اطمأنوا ***ونالوا المبتغى غضّا وراحوا

سأبقى ما بقيت أسوق مدحًا ***لشخصك أيها الماء القراح

وعفوا إن بدت مني هناة*** بلا قصد وقصر بي جناح

وقد زرت أستاذي في بيته، فكان كريم النفس كثير اللطف أمير الرهف عظيم الشأن كلماته تزيل الوهم قليله كثير ، وعلمه وفير، والوقت معه يلق-ف مداه، فلا أشعر بدخول ليل أو زال نهار الابتسامة لا تفارقه، والهدوء يركن بيته.

رسائل مملحة من الأخوة صباح عنوز وعلي السامرائي ومحمد العمور

وقد أشادت الطالبة في غير موقع من رسالتها بالشيخ ونتاجه المعرفي فجزاها الله كل خير.

رسائل مملحة.

وصلتني رسائل مملحة في مناسبات عدّة من بعض الأصدقاء، من رائق القول وجميله، هي أقرب إلى الشعر منها إلى النثر، تذكر بعصر كبار الكتاب الأولى كانت بمناسبة صدور كتابي الثوية بقيع الكوفة، أبردها لي الصديق العزيز الشاعر الناقد الأستاذ الدكتور صباح عنوز كلها شفقة ومحبة وثناء لا أستحقه أذكرها له بالشكر والعرفان مع دعوات صادقات بالسداد والسؤدد؛ كتب:

ص: 144

(الأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي قرأته مرتين، مرّة وأنا أتفرّس في وجهه الغاطس في بحر روحاني، ومرّة وأنا أنقب في كتبه، فوجدته:

يفكر فيتقن، ويخطط في منهج، ثم زرع رؤى فأثمر، تذوّقت حلاوة التحليل، وتلذذت ببراعة التعليل لغته لغة قوامها الانتماء الروحي، شكلها شفيف العبارة، ولونها شآبيب الصدق وإيماءة الإشارة. كتب عن إرث النجف الأشرف عبر مغازلة العقل والوجدان، فأفاد من ثقافته الموسوعية، فرأيته يمسك بأطواء وجداني، ويجرّني إلى الإبحار في سفين معرفته رغمًا؛ لبهجة وصفه وحركية سرده، وحلاوة نفسه المتبدّية على الورق تارة، والمدلية بي إلى كوامن أسراره تارة.

وجدته ظاهره الإنساني يشع من أفواه مقاصده، ونظرته الجميلة المتألقة تقبل التأمل في أثناء ،كلامه كلما قرأت له قرأته فكرة وجدانية دافئة صادقة تنبعث من عيون كلماته.

ما أحوج الجامعات والمؤسسات إلى هكذا رجل عاشرته في العمل الثقافي، فوجدته قلب أمّ، وحنو ،أب، وسريرة شاعر، وبراءة طفل، وكفّ كرم، وبحر جمال، إنني مولع به حدّ اشتهاء الربيع، أحبه حدّ العشق فهو أمن وملاذ، وشموخ نخلة، لأنه صلح وصلاح وفضاء، وسر بحر متمدد حد السراب، وخضرة حلم تلون القلوب الصافية حدّ النقاء حماه الله سبحانه).

أما الثانية فكانت من الزميل العزيز والصديق الوفي الأستاذ الدكتور على السامرائي بمناسبة افتتاح مؤسسة بقيع الكوفة للحوار والدراسات الفكرية،

ص: 145

والصديق السامرائي ما طوقني بلطف لا أستحقه، ورأى في ما لم أره في نفسي، وليس عندي ما أقدمه لهذا الفنان الجميل إلا الشكر والعرفان؛ كتب:

(أ. د صلاح الفرطوسي، أرى فيك أملًا يقترب، وأرى فيك ثراء علميّا، وامتدادًا فكريا ناصعًا صافيًا، وأرى فيك إنسانًا يملك قلبا يتسع للجميع، وأرى فيك خلقًا وسيرة تفرح الجميع، أيها العلم العالم المتفاني في حبّ الأمة والوطن.

اعمل فعملك سيرة حياة الجيل، بل لأجيال قادمة؛ مبارك للعراق بك يا صلاح البشرى والخير. أملنا معقود على إنجاز ترفعنا به، فأنت كما عهدتك تتسامى وتترفع عما قيل ويقال، وفقك الله في مسعاك للم الشمل، والدعوة لوحدة الكلمة والصفّ في هذا الوقت العصيب.

مبارك ،مسعاك، مبارك صوتك، مبارك علمك وحبك. سعادتي أنّ لي صاحبًا اسمه صلاح الفرطوسي.

أما الثالثة فقد وصلتني من غزّة الصامدة أبردها أخي العزيز الصديق الدكتور محمد سعيد العمور إلى تلميذتي زهراء عباس حين سألته عنِّي، فكتب:

(إن حلّ في كل ساح .... كان صلاح

له من اسمه نصيب إنه الأستاذ الدكتور الجليل والعلامة النبيل، أصيل النجف الأشرف.

ص: 146

من هبات الأقدار أن يجمعك الله ،به فهو من صنف الناس الذين يندر الزمان أن يجود بأمثالهم، وكلما سار الزمان مسيرته، وباعدت الأماكن بينك وبينه، تأكد لك أصالة النسب وجودة المعدن، ومن جاء على أصله لا تسل عنه.

في نهاية أغسطس من عام 1996م أشرق عليّ صباح أربعاء ليس ككل صباح، في أرض لم أأتلفها، وكلما حولي يوحي أنني خرجت من أقطار الأرض إلى فضاء غريب أشجار كثيرة، وبيوت متناثرة، وعيون ترمق كل غريب.

ثلاث صبيات يلعبن في فناء المنزل المجاور في هذا لصباح غريبات كغربتي المتجددة..سألت السيد فاروق مسؤول المخازن في الجامعة عنهن فقال لي : إنهن كريمات الدكتور صلاح الفرطوسي من العراق الذي ملأ الأسماع والآذان في كلية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية، وكليتها ،الجامعيّة، وتردّد اسمه كثيرًا في جامعة الزاوية التي تخرجت فيها بالماجستير.

ما تذكرت شيئًا عندما رأيت شهلاء وظفر ومينا قدر تذكري قول القائل لما رأى نخلة في قرطبة :

يا نخل أنت غريبة مثلي ***الغرب نائية عن الأهل

نشأت بأرض أنت فيها غريبة ***فمثلك بالإقصاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها الذي*** يسح وتستمري السماكين بالوبل

أيام قلائل حتى عاد الدكتور من سفره لباريس، والتقينا، وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن طويل.. فالرجل قريب من القلوب والنفوس، ما أسرع ما تألفه، فيه إخلاص

ص: 147

وتفان وتضحية في تفاصيل الحياة وهموم ! يبلغ مداه؛ إن جلست إليه صباحًا في مكتبه، أو مساء في ضيافته لا تسمع إلا لغة وشعرًا وأدبا، فإن تحدثت عن آل البيت رجالا ونساء ووقائع وأحداث تتمنّى ألا يوقفه أحد، فإن لبيانه في هذا المقام عجبًا من وحي اللسان، وأعاجيب إن سطّر بالأقلام .

في العام الذي تجاورنا فيه وتزاملنا كان الأستاذ الفرطوسي مديرًا للمعهد العالي لتكوين الأساتذة، فكان مكتبه مثابة لزملائه أعضاء هيأة التدريس من مصريين وليبيين وجزائريين ومغاربة ومورتانيين وسودانيين، وكثير من أساتذة الغرب الإفريقي من النيجر ونيجيريا وغينيا وبوركينا فاسو والسنغال وبنين، وغيرها من أقطار المسلمين.

في هذه الأجواء التي جمعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم، كان الدكتور يدير المعهد المذكور، ويرأس تحرير حولية الجامعة الإسلامية، لم أر متفان في عمله مثله على الرغم من أن الظروف المحيطة به كثيرًا ما تسبب إحباطاً. كان أبو شيماء بسّامًا حتى في ظروفه الصعبة، وخاصة ما يتعلق بتعليم كريماته، والنجاح غالبًا ما يكون له ثمن وأي ثمن...!

كان أبو شيماء صاحب ابتسامة أكسبته تجربته الحياتية والعلميّة ثراء في العلم، وقدرة على التكيف، وذوقًا رفيعًا، وأدبا جما، لا ينهر أحدًا ولا يرد سائلا، أَجَلّه كل من

ص: 148

تعامل معه واحترمه كل من اجتمع به، إن تحدث صمت الحضور لسماع ما تجود به قريحة الأستاذ في فقه اللغة أو الأدب وحتى التاريخ.

ما عرفت (ساي) تلك القرية الوادعة على ضفاف نهر النيجر السمك المسقوف إلا في بيت أبي شيماء، وكم من أخ قضى له حاجته، وكم من طالب من طلاب الجامعة قضى له خلته، وكم سعى في الخير وإصلاح ذات البين، وكم قابل الإساءة بالإحسان، والتنكّر بالغفران أياديه بيضاء بالعطاء، وتآليفه سار بها الركبان غادر مكان عمله والكلّ يحمل له ودادًا واحترامًا وعرفانا وتقديرًا . ياه... كم أنت مدرسة في الوفاء، متعك الله بالصحة والعافية ووفقك وسدد خطاك. تحياتي للسيدة العلوية ولبنات أخي ودمت بعز.

ص: 149

الحاج عبود الطفيلي يقيم لي حفلا تكريميا في متحفه

يوم أعلمني الحاج عبود الطفيلي بنيته في عقد جلسة بمتحفه النوعي لتكريمي لم أجد كلمة تفيه حقه من الشكر والتقدير؛ فمن وجهة نظري أني لا أستحق منه هذا الاهتمام ولم أر في مسيرتي العلمية ما يدعوه لتكريمي .

وإذا كانت جامعة بغداد ممثلة بكلية التربية - ابن رشد قد كرمتني واحتفت وسمّت إحدى قاعاتها باسمي ، فلأني من قدماء أساتذتها، ولي دور تربوي وعلمي بها أعتز به في أثناء تدريسي لسنوات .بها. وسبقتها جامعة الكوفة ممثلة بكلية التربية الأساسية التي كرمتني في غير مناسبة، وأعلت من شأني وسمت قاعتها الكبرى باسمي أيضًا.

أما بالنسبة لوجه النجف الشديد الإشراق الحاج عبود الطفيلي أطال الله عمره وحفظه، فهو في الأصل صديق والدي تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، وهو الذي عرفني بصلته به في إحدى مناسبات اتحاد الأدباء التي كانت لي مداخلة في إحدى جلساته وكان الاتحاد قد كرمني من قبل - وصادف جلوسي بجوار مقعده؛ وما إن عدت من المنصة حتى سلمني رسالة مملحة بخط يده ذكر فيها علاقته بوالدي وعبر فيها عن إعجابه بمسيرتي العلمية، وما قدمته من جهد معرفي لتراث أمير المؤمنين عليه السلام ومرقده المقدس ومدينته؛ ومن ذلك اليوم الذي يعود إلى

ص: 150

سنة 2013م بحسب ما أتذكر إلى يوم الناس هذا ربطتني بهذا الشيخ الجليل صلة ومودة وإعجاب شديدين لما قدمه للنجف من عطاء ممثلا بالمتحف الذي أقامه تكريمًا للمدينة ورجالاتها، ولخدمته كثر من أبناء المدينة أثناء محنهم في عهود العراق الشديدة السواد.

وبعد اطلاعي على مسيرته المليئة بالأحداث الجسام، ودوره في قيادة غرفة تجارة النجف لغير دورة، ورئاسته اتحاد الغرف التجارية في العراق، ونتاجه المعرفي زرته مرّة رفقة أخوي الدكتور العيسى والدكتور الفحام ، وقدمت له بعض مؤلفاتي، وقدم لي المتيسر من مؤلفاته التي احتوت على جوانب من سيرته التي تدعو إلى الدهشة والإكبار.

ومازالت علاقتي بالشيخ وأسرته تزداد يومًا بعد يوم، وتتوثق وتتمتن حتى أصبحنا نكاد لا نفترق .

أدار حفل التكريم الذي ازدحمت به قاعة متحف أمير المؤمنين العامرة بوجوه النجف العلمية والثقافية والدينية الأستاذ الدكتور عباس الفحام، ولم تكن إدارته مجرد إدارة بلغته الجميلة، وإنما كانت تنويها لا أستحقه منه؛ وشاركت في التنويه نخبة من أفاضل أساتذة الجامعة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور عقيل الخاقاني مساعد رئيس الجامعة الأسبق، الذي ارتجل كلمة مشاعرية كلها لطف وتقدير، تلاه الأستاذ الدكتور ميثم الحمامي عميد كلية التربية الأساسية الأسبق، الذي ربطتني به صلة كان أحد طلبة كلية التربية - ابن رشد في تسعينيات القرن المنصرم، فأشاد

ص: 151

بكلمته المرتجلة ما شاء الله أن يشيد، ومازلت أذكر لطفه ورعايته حين كنت أستاذا بكلية التربية الأساسية، وبعد إحالتي على التقاعد منها إلى يوم الناس هذا.

وتلاه من بين المتحدثين الأستاذ الدكتور باقر الكرباسي الذي غمرني بلطفه قبل أن أعود إلى العراق، فنشر في مجلة الجامعة تنويها بشخصي بمناسبة نيلي عضوية مجمع دمشق سنة 2007م، وثنّى بنشر مقالة مطولة في إحدى الصحف التي غاب اسمها عن ذاكرتي وله أياد أخر طوقني بها أذكرها له بكل العرفان والتقدير، وكانت كلمته الطيبة محل إعجاب الحاضرين، ومحل شكري وتقديري.

ثم ألقى الشاعر المبدع الأستاذ الدكتور صباح عنوز كلمة ضمنها كلمته القديمة التي سبق أن نشرتها في كتابي الموسوم ب- خلف أسوار الكوفة)، قدم لها بمقدمة جميلة عن النجف ومكانتها ودور حوزتها وأصالة سكانها ومنزلة مثقفيها وشعرائها داخل العراق وخارجه. ثم ألقى الشاعر الجميل الشيخ جعفر الشرقي قصيدة بالمناسبة، وختم الحفل الحاج عبود الطفيلي بكلمة تتجاوز حقي بكثير ، ولست ناسيًا ما قاله بحقي من تنويه كان من بين ما قاله هذا الرجل الكريم لو كان خمسة في العراق كالدكتور صلاح لانصلح ،واضعه وهو لطف منه وشفقة أسأل الله أن يجازيه عليه ويمد في عمره ، وله الشكر وكل التقدير والتجلّة مع دعوات بطول العمر ودوام السؤدد.

ص: 152

تكريم مركز الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

للبحوث للدراسات

من المؤسسات الكريمة التي قامت بتكريمي في برنامجها الذي أعدته لتكريم الوجوه النجفية التي يحسب لها ما قدمته من خدمات للمدينة المقدسة، وجهدها المعرفي بما كتبته عن أمير المؤمنين عليه السلام ،وصحابته، ودورها في الحركة الثقافية، وكان من لطف القائمين عليها اختياري أول المكرمين فيها، ومن سوء الطالع أني لم أستطع حضور يوم التكريم التكريم بسبب إصابتي بمرض الكورونا، ولكن الصديق العزيز السيد العلامة الجليل علي الجابري القائم على انشاط المركز الثقافي رفقة الصديق الشفيق هاشم الباججي أصرًا على إقامته في موعده على الرغم من عدم حضوري، وقد شارك في التكريم بكلمات تتجاوز قدري بعض الوجوه النجفية المعروفة من أساتذة وغيرهم، ثم زارني الأخ الباججي وهو محمل ببعض الهدايا القيمة التي أحسن المركز اختارها وقدمها لي في بيتي.

وكان من لطف هذه المؤسسة الرائدة أيضًا طبعها كتابي (المعجم المنتخب من ألفاظ نهج البلاغة)، وكتاب (الخزاعيان عبد الله بن بديل، وسليمان بن صرد وهما من خيار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام.

حفظ الله الأخوة القائمين على هذه المؤسسة ووفقهم لما يحبه ويرضاه وهو لطف منهم أذكره بكل كلمات الشكر والتقدير.

ص: 153

أيام أشد سواداً من حنك الغراب محنة الخروج من العراق

بدأ الفقر يضرب بيوت العراقيين بسبب الحصار الذي ضرب أطنابه على البلاد بعد غزو الكويت، وأخذت الظروف الاقتصادية مسارًا غاية في الصعوبة، بالإضافة إلى الخوف والقلق الذي عمّ أغلب بيوتهم بسبب بطش النظام، وقوة سطوته؛ وزاد من بؤسه الانهيار الكبير للعملة الذي تسارع حتى صعب رغيف الخبز على كثر من الناس، وأخذت الأسعار ترتفع ارتفاعًا جنونيًا بعد دخول قوات التحالف الحرب، وفي حينها تعرض العراقيون إلى محن أمنية واقتصادية يطول الحديث عنها، فيها من المآسي ما يشيب له الرأس.

وفي ليلة الإنذار الأمريكي بالحرب كادت بغداد تخلو من سكانها، إذ هجروها إلى مدن ظنوها ستنجو من جحيم تلك الأيام، بحثًا عن ملجأ من القصف الذي طال العراق وجميع مرافقه الحيوية، وغرقت بغداد وغيرها من مدن العراق في ظلام دامس بعد ضرب قوات التحالف جميع محطات توليد الطاقة.

كنت في حينها أتنقل رفقة أسرتي وأخواني وأخياتي ما بين النجف وكربلاء، ظناً أن القصف لا يطالهما لقدسيتهما، ولكنه طالهما بقسوة، ولم يستثن مدينة صغيرة -ني أو كبيرة مقدسة كانت أو غير مقدسة، واستمرت طائرات الحلفاء تدك مواقع

ص: 154

البلاد الحيوية، تصول وتجول في سمائه من دون أي رادع، تنشر الخوف والدمار والرعب في النفوس .

وبسبب انقطاع التيار الكهربائي لم يبق من تموين ادّخره العراقيون في ثلاجاتهم ومجمداتهم يصلح للطعام، واضطر الناس بعد يومين أو أكثر من انقطاع التيار إلى رمي ما ادخروه في مكبات الأزبال، أو تركوه للحيوانات السائبة، وبات الناس في هرج ومرج لا يدرون ما يفعلون، وأين يهربون من ذلك الجحيم الذي ليس للشعب من صالح فيه، ولا مشاركة في إشعال جذوته.

ومن طريف تلك الأيام أن أحد الأصدقاء أهداني كلبًا (وولف) جاء به من ألمانيا، ولم يستوعبه بيته كي آخذه إلى المزرعة التي كنت أنوي السكن فيها، فشكرته، وحين خرجت من بغداد تركته في حديقة الدار ، وأغلقت بابها الخارجي عليه، خوفًا من فراره، وكان أخي قد ترك حمامة في بيته اشتراها لولده؛ وحين خرج نسي إخراجه منها؛ فقررنا بعد أيام العودة إلى بغداد أنا لإطلاق سراح الكلب، وهو لإطلاق الطير؛ فدخلنا بغداد وقت الغروب وسط عاصف قاصف لا يمكن تصوره من طائرات الحلفاء التي كانت تدك بغداد من دون رحمة، وحين وصلت إلى داري في الغزالية لإطلاق الكلب توسل جاري بي، وهو فلسطيني الجنسية بإبقائه فيها، لأنه الصوت الوحيد الذي يستمعون إليه وسط جهنم تلك الأيام، وأعلمني أنه يعيش أجمل أيامه بسبب وفرة طعامه، فتركته؛ ثم اتجهنا إلى بيت أخي في حي البنوك، ودخل الدار فوجد أن الطير قد فارق الحياة، فتألم أشد الألم، ومن فورنا

ص: 155

غادرنا بغداد التي خلت من المارة وحتى من الجيش إلى النجف وسط ذلك الأتون المشتعل.

ما إن توقفت الحرب بعد اتفاق خيمة صفوان حتى عدت من فوري ثانية إلى بغداد، وكان همّي الأكبر الذهاب إلى مزرعتي الواقعة مقابل آثار زقورة عكركوف لأرى بيتي الذي لم يكتمل بناؤه فيها بعد، كي أعرف ما حلّ به وظننت أنه قد دمّر تمامًا، إذ كان موقعه يدعو إلى ريبة الطائرات في ذلك المكان الخالي من السكان؛ وحين سلكت الطريق الذي يأخذني إليه رأيت خيرًا عسكرية صفت على طوله؛ فواصلت السير رفقة الخوف والقلق الذي اعتراني جراء انتشار الجيش في ذلك المكان، وما من سيارة تسير فيه غير سيارتي الكوستر التي كنت أتنقل فيها، لشحة الحصول على وقود السيارات الصغيرة.

ولما بانت لي المزرعة اكتشفت أن الجيش قد احتلها ، وانتشر فيها، وكدت أعود من حيث أتيت، إلا أني رأيت أن قرار العودة قد يدفع إلى ريبة العساكر المنتشرين في تلك الأنحاء، واستجمعت ما بقي عندي من شجاعة ودخلت، فاستقبلني عسكري برتبة كبيرة وعرّف نفسه بلهجة صارمة أنه آمر لواء حرس جمهوري وأنهم في حاجة إلى المزرعة والبيت، وأن احتلالهم المكان كان بأمر من قيادة قوات الجيش؛ فاستقبلت صرامته بابتسامة وقلت له مرحبًا بكم؛ وفوضت أمري إلى الله.

بعد أسبوع أو أكثر من ذلك التاريخ سلكت الطريق نفسه رفقة أحد الأصدقاء، وفي نيتي عدم دخول المزرعة ثانية، ولكن فوجئت أن الخيام التي كانت

ص: 156

منصوبة في الطريق قد رفعت، وأن الجيش قد غادر المزرعة بعد إن أحرق الجنود كل الأخشاب الموجودة فيها وكثيرًا من الأشجار بسبب برودة الجو في فصل الشتاء ذاك، فحمدت الله على خروجهم.

بعد وقف إطلاق النار كانت مدن وسط العراق وجنوبه تسقط واحدة تلو الأخرى بعد ثورتها الشعبية العارمة، ثم بدأ الجيش يغزوها مدينة مدينة، ويستردها بقوة السلاح بهمجية لا تعرف الرحمة، وزحف الناس من مدينة إلى أخرى، متخذين من بساتين النخيل والقرى ملجأ يلجؤون إليه هربًا من مدافع الجيش التي صلت المدن بوابل هائل من القنابل، وبدأ القتل والإعدام يطال غالبية من بقي فيها، ولاسيما من حمل السلاح منهم واستطاعت أفواج من الهاربين الوصول إلى بغداد وغيرها من المدن والقرى للجوء إلى أقاربهم أو معارفهم، وهربت آلاف من البصرة وغيرها إلى إيران والسعودية.

بعد أيام اصطحبت صديقًا لزيارة المزرعة كنت أعيره سيارة الكوستر في غالب الأيام كي يتنقل بها، فرأيت من بعيد عددًا كبيرًا من السيارات الصغيرة والكبيرة فيها، فقلت لصاحبي لعل الجيش قد عاد ثانية؛ وما إن اقتربت حتى تبين لي أنها ليست بعسكرية، وإنما هي مدنية، فواصلت السير، وحين وصلت تكشف لي أنها تعود لأقاربي الذين فروا من قصف الجيش الذي نال محافظة النجف وضواحيها، وكانوا بمنتهى التّعب والإرهاق وسوء الحال وبؤسها.

ص: 157

ولم يكن البناء محكم الإغلاق، فلا شبابيك ولا أبواب، والبرد في تلك الأيام على أشدّه ؛ وحين سألتهم بعد الترحيب بهم عن سبب اختيارهم المكان، وهو لا يصلح للسكن؟ أجابوني بأنهم لم يجدوا مكانا يلجؤون إليه بتلك الأعداد إلا هذا المكان وقالوا: إن بيتك بمطقة الغزالية، وفيها بيوت أغلب قادة الجيش، ومدراء الأمن وهو بكل الأحوال لا يتسع لهذا العدد الكبير، ومجرد دخولنا إليه سيفتح عليك أبواب جهنم، وبعد حديث ومداولات قررت توزيعهم على بيت أخوتي في حي البنوك، وعلى بيوت بعض أقاربهم في منطقة الحرية، واصطحبت قرابة عشرة منهم بعد أن جنّ الليل إلى داري مع أطفالهم، ورجوت الشباب منهم عدم الخروج منها لأي سبب كان خوفًا عليهم وعلى نفسي بسبب حساسية المنطقة وكثرة أزلام النظام .فيها.

أُسِرَ أخو زوجتي في شمال العراق أثناء أحداثه، واصطحب الفارون من الأكراد وغيرهم إلى إيران وكانت أسرته في حزن شديد لعدم معرفتهم بمصيره، وبقي أسيرًا إلى أن أطلقت الحكومة الإيرانية سراحه بعد حين.

يضاف إلى هذا فرار بعض أخوتي وكثر من أبناء عمومتي إلى إيران والسعودية لمشاركتهم في الأحداث التي ألمت بالنجف، واستطاع الجيش إجهاضها، وفرارهم بالنسبة لي كان مبعث قلق وخوف.

وزاد من همي وهم زوجتي وأبيها كيفية نقل جدتها وعمها بقية آل بحر العلوم السيد الحسين إلى بغداد وهو زوج عمتي أيضًا، الذي نجا من الإعدام أو السجن

ص: 158

بأعجوبة بعد إلقاء القبض على جميع رجال آل ب- العلوم من العلماء ورجال الدين والشباب والأطفال والنساء، وأخذهم إلى جهة مجهولة، ونفّذ حكم الإعدام في غالبيتهم من بعد وقد أصابت إحدى صواريخ الجيش العراقي من نوع أرض أرض بيته فهدمت جزءًا منه و هشمت زجاجه ولعل نجاته تعود إلى اختيار بيت من بيوت أصدقائه لجأ إليه، وتعود أيضًا إلى أن بيته كان في خارج المدينة القديمة بمنطقة الحنانة، وكان معروفًا بانصرافه إلى بحثه ودرسه بعيدا عن ومجرياتها، وحين ألح عليه من شارك بها من أعلام رجال الدين الانخراط اشترط عليهم بعد شديد إلحاحهم عليه جلب أمر له من السيد الخوئي رضوان الله عليه يأمره بالمشاركة فيها، وكاد يلتحق بهم لولا أن أحد أبناء عمه أدركه وأخذه بالقوة إلى بيت أبيه المجاور لجامع الطوسي .

فكرنا في كيفية نقله رفقة والدته وزوجته إلى بغداد فهو لا يستطيع الخروج من بيته إذ لم يكن من الشخصيات التي يمكن أن تخفى عن أعين الرقباء الذين انتشروا في المدينة يلقون القبض على كلّ من يدعو إلى الريبة من وجهة نظرهم؛ وفي النهاية اتفقنا على نقله بسيارتي الكوستر ، فطلبت من صديقي المهندس فارس الأسدي حفظه الله الذهاب إلى موقف الحافلات المتجهة إلى النجف رفقة زوجتي وزوجة أخيها، ويحمّلها بالركاب المسافرين إلى النجف ثم يذهب من بعد إلى بيت السيد كي يصحبه إلى بغداد بعد تحميل السيارة بالركاب أيضًا، وقد اضطر السيد رضوان الله عليه إلى استبدال عِمّته بكوفية لدفع الريبة عنه من الجنود في نقاط التفتيش التي

ص: 159

انتشرت على جانبي الطريق ما بين النجف و بغداد؛ فوصل بيت أخيه في الغزالية بعد سفرة كلها خوف ووجل.

لم يفارقني هاجس القلق بسبب دخول أقربائي المزرعة، وانتقالهم من بعد إلى بيتي وبيت أخوتي؛ إذ لا شك أن العيون قد رصدتهم، وليس من المستبعد أن أدعى إلى دائرة الأمن وأستجوب وأسجن من بعد، أو أعدم بحجة التستر على الغوغائيين وأعداء النظام بزعمهم.

ولم يكن توفير الدفء والطعام لأسرتي ولذلك العدد الكبير بالأمر الهين، لقلة المحروقات وندرتها، ولانقطاع التيار الكهربائي من بغداد قاطبة، ولم يكن رغيف الخبز - وهو العماد - متوفرًا في الأسواق، وكان علي توفير مستلزمات إطعامهم؛ أما المحروقات فإنها إن تيسر الحصول عليها فتباع بأضعاف مضاعفة من سعرها قبل الحرب، وقد يسر علي أمر النفط أخو زوجتي الذي قدّم لنا برميلًا كبيرًا منه، ولا أتذكر كيف يسّرتُ بقية حاجات البيت، وكان من يمن الطالع أني كنت أملك سيارة من نوع سلبرتي جديدة بعتها قبل الحرب بأيام مما يسر علي شراء ما يحتاجه الضيوف من مؤن بأي ثمن كان وما تحتاجه أسرتي وهي ليست بالصغيرة أيضًا.

كانت النسوة يجلسن من الصباح الباكر لتهيئة الخبز على مدفأة علاء الدين النفطية حتى المساء؛ وكنت وزوجتي في خوف مما لو أن أحدهم أخبر سلطات الأمن بضيوفي، ولاسيما بعد أن نفّذ النظام حكم الإعدام بغالبية أفراد أسرتها، كما نفذ حكمه بالسجن أو الإعدام بما لا أحصيه من أقاربي.

ص: 160

ومرت أيام متخمة بالخوف والتوجس من دون أن أشعر ضيوفي بأسباب قلقي، وكانت الأخبار تأتيني من هنا وهناك حول وضعية مدن العراق، وما حلّ فيها من خراب ودمار ومن استشهد من أبنائها جراء هجوم القوات المسلحة عليها، ومن أخذ ولا يعرف له مصير، ومن أعدم في وضح النهار.

وحين أخذت الأوضاع بالاستقرار بعض الشيء، بدأت مجموعة من الشباب تتسلل شيئًا فشيئًا من الدار ، بعضهم إلى أقاربهم، وبعضهم الآخر إلى مدنهم، ولم يبق في بيتي إلا النساء والأطفال، وقد عادوا بعد أيام بحفظ الله إلى مدنهم؛ ومازالت تلك الأسر تذكر موقفي ذاك بكل امتنان وتقدير إلى يوم الناس هذا.

أحسست بعدها أنه ليس من الحكمة البقاء في بيتي بالغزالية، ولابد من إكمال بناء بيت المزرعة والانتقال إليه بأسرع وقت ممكن ؛ ولم يكن العثور على عمال فنيين لإكماله بالأمر الهين وما إن اكتملت حتى انتقلت إليها أنا وبناتي الخمسة وزوجتي من دون تفكير بما يمكن أن يحدث لنا في ذلك المكان الذي لا يجاوره ساكن واستمر هاجس الخوف يرافقني من دون إشعار زوجتي التي كانت مستسلمة إلى خوفها وأحزانها.

قرار الخروج من العراق

بدأ أغلب العراقيين يفكرون بالخروج منه بعد سنة 1991م خاصة؛ بل بدأت أفواج منهم في بداية الأحداث وبعدها الهرب إلى إيران والسعودية وسوريا والأردن وغيرها، ولاسيما بعد تنفيذ حكم الإعدام بآلاف مؤلفة من الشباب وغيرهم، وطال

ص: 161

السجن والتعذيب آلاف أخر، واستطاع الميسور الحال منهم والأكاديميون الاتجاه نحو بعض الجامعات العربية التي استوعبتهم، أو شقوا طريقهم إلى الغرب بصعوبة شديدة؛ وهكذا أصبح قرار خروجي من العراق ضروريًا بأية وسيلة كانت، ولاسيما مع شديد إلحاح زوجتي خوفًا من أن يداهمنا المحذور في أية ساعة وبسبب سكني غير المناسب، يضاف إلى هذا وذاك كثرة من أعدم وهرب زوجتي؛ وكان عليّ سلوك الطريق القانوني خوفًا من مزالق الخروج بطريقة غير مشروعة.

تقدمت بطلب منحي إجازة من دون راتب مدة سنة إلى عمادة كلية التربية بجامعة بغداد، ولم أكن فردًا في مثل ذلك الطلب، وإن كان ليس بالهين الحصول عليه فوافق العميد الطيب عليه، وأحاله إلى رئاسة الجامعة للموافقة، وكانت تربطني علاقة حميمة بالدكتور محمد مجيد السعيد رحمه الله تمتد إلى أيام دراستنا في السبعينيات بالقاهرة، ثم تجاورنا من بعد في الغزالية، وكنا بعد الحرب اتخذنا قرارًا بالسفر إلى تونس رفقة صديقنا الدكتور كمال الكبيسي الذي كان رئيسًا لقسم التشريح بكلية الطب، ولكن الأمور سارت على غير الطريق الذي رسمناه إذ صدر أمر لمحمد مجيد سعيد بشغل منصب رئاسة جامعة صدام للعلوم الإنسانية، وهذا استحالة خروجه رفقة أسرته من العراق كما يستحيل عليه الاعتذار من المنصب، وكنا نتزاور مرة أو مرتين كل أسبوع، ونتداول في أمورنا، وأمور مستقبل العراق الذي بدا لنا حالك السواد. وحين علم بقراري بالهجرة نصحني أن أبيع

ص: 162

مكتبتي للجامعة، وهي وقد كانت له تجربة ضاعت فيها مكتبته. فوافقت، وشكل لجنة من الجامعة لتقدير كبيرة، إذ لا يمكن لبيت أن يستوعبها وستتلف كما رأى قيمتها .

أحال العميد الطيب الذكر كتاب الإجازة إلى رئيس الجامعة كما سبق القول، وضمنه موافقته، وبتدخل كريم من الصديق الفقيد محمد مجيد تيسر حصول موافقة رئيس الجامعة.

تقدمت من بعد بطلب إلى وزير التعليم العالي لاستحصال موافقته على سفري؛ وبسبب علاقتي الحميمة جدا بصديقي الراحل العزيز المحامي العلامة المحقق هلال ناجي رحمه الله سلمت له الطلب لاستحصال موافقة الوزير وهو زوج أخته، ولكنه زارني بعد أيام وأعلمني بعدم موافقته.

تقدمت شخصيًا هذه المرة بطلب جديد إلى الوزير أطلب مقابلته مشفوعا بموافقة رئيس الجامعة، وقابلته مقابلة منحني الله في أثنائها التماسك، إذ حدثته بلغة جميلة كان لها تأثيرها عليه أقنعته بالموافقة، فعدت إلى البيت مسرورًا وأولمت في ليلتها وليمة كبيرة لأصدقائي بالمزرعة لتوديعهم، وفي أثنائها همس في أذني صديقي الحميم الراحل عبد الحسين الفتلي رحمه الله وقال لي إن دائرة السفر سوف لن توافق على سفرك ، إذ إنك ممنوع من السفر رفقة مجموعة من أساتذة الجامعة يتجاوز عددهم الثلاثمائة بقرار من ديوان رئاسة الجمهورية، ولابد من استحصال موافقة الديوان كي تسافر فلم أصدق ما قاله، ولكن أسقط ما في يدي.

ص: 163

ص: 164

ص: 165

ص: 166

ص: 167

أذهب لزيارته للتعبير عن شكري -له فاستقبلني استقبالًا طيبًا وأصدر لي جواز السفر في 93/10/17م.

وفي اليوم ذاته زرت أستاذي الدكتور محسن غياض رحمه الله لتوديعه بسبب شديد علاقتي به، ومن طريف ما أذكره له أنه زار غرفتنا في الكلية في أحد الأيام، وفيها من أصدقائنا الراحلين علي عباس علوان وكاظم بحر المرجان، ويجاورنا في غرفة أخرى الدكتور خليل بنيان حسون أطال الله ،عمره، وهو من أقرب أصدقائه إلى نفسه قاطبة، وما إن جلس الدكتور محسن بعد أن التحق الدكتور خليل بغرفتنا حتى أخرج من جيبه عملة ورقية من الدنانير وأرباعها وأنصافها أغلبها ممزقة، وبدأ ،بعدها، ونحن في استغراب من تصرفه ذاك، ثم قال لي: خذ هذه النقود واعطني مائة دينار بدلا منها، فأخذتها من دون تعليق وسلمته عشرة أوراق جديدة فئة من عشرة دنانير، فالتفت إلى الزملاء وقال لهم هكذا ينبغي تربية طلابكم؛ ولي مع هذا الأستاذ العزيز تغمده الله بواسع رحمته ذكريات لا أستطيع نسيانها تمتد من الثانية من دراستي الجامعية إلى سنة خمس وتسعين حين التقيته آخر مرة بالعاصمة تونس .

حدثني أستاذي محسن حين زرته بانبهار عن شجاعتي، وعن وقع مقابلتي الوزير في الوسط الجامعي وأثرها، وكان يسكن بجواره أستاذه الحلّي وهو من الأسماء المعروفة في زمانه، ولكن اسمه غاب عن ذاكرتي، وطلب مني السلام عليه، إذ علم بموقفي مع الوزير وأكبره، وما إن عرفني الرجل حتى قال: ولدي أريد أن

ص: 168

أقبل رأسك، إذ بموقفك الشجاع ذاك كسرت حاجز الخوف من نفوس أساتذة ،الجامعات وسيبقى موقفك محل تقدير وإعجاب ودهشة، وقد كان لكلماته تلك أعمق الأثر في نفسي، ولاسيما أنه أستاذ أستاذي، فشكرته، وكدت أقبل يده، ولكنه قبل رأسي.

عصر ذلك اليوم أو في مسائه زارني الصديق العزيز الدكتور محمد كاظم البكاء أطال الله عمره، وطلب مني سرعة السفر لأن الجواز الذي صدر مخالف للقانون، ذلك لأن المنع لم يأت من الوزارة وإنما صدر من ديوان رئاسة الجمهورية، ولا حق للوزارة برفعه.

عصر اليوم التالي جمعت أمتعتي وكانت داري تغص بأصدقائي وأقاربي الذين حضروا لتوديعي، وكنت أدور حول بيتي مذهولاً، إذ لم أكن أود الخروج من العراق لولا تلك الظروف القاهرة التي أحاطت بي وقلت لزوجتي بلهجة متخمة بالحزن (أخرجتني من داري ليلا سود الله وجهك، وأنا أشعر بالألم والحسرة لقرب مغادرتي الوطن.

ذلك كان الفصل الأول من هذه المحنة أما الفصل الثاني: فإني ذهبت إلى موقف السيارات، وركبت حافلة أجرة كي تقلني إلى الأردن، وكان من الأوامر التي صدرت في تلك الأيام أنه لا يجوز للمسافر أخذ أكثر من مائة دولار معه، كما لا يجوز له اصطحاب أي كتاب بسبب بيع آلاف الكتب التي شحنت من العراق إلى الأردن.

ص: 169

وصلت نقطة الحدود وهاجس عودتي بسبب منع السفر من الديوان صاحبني من ساعة خروجي من بغداد إلى نقطة الحدود وما إن نظر ضابط الجوازات بحاسبته حتى أعلمني بأني ممنوع من السفر، وحين أعلمته أن الجواز قد صدر قبل يومين قال لي ينبغي أن تصلني برقية برفع المنع ولكنها لم تصل، ثم هداه الله، وقال: سأتصل بالجوازات لمعرفة سبب إصدار الجواز قبل رفع المنع. كان الوقت قد قارب الغروب؛ واتصل الرجل بالدائرة ولم يحصل على ردّ بسبب عطل الهاتف، وقال لي: انتظر لعل الخط يعود، والتفت لي سائق المركبة بعد انتهاء إجراءات ختم جوازات ركابه، وقال: سنذهب إلى إدارة الجمارك، فإن تيسر أمرك التحقت بنا، وإن كانت الأخرى تركت حقيبتك فيها.

فوضت أمري إلى الله، وراودني يقين إني سأعود من حيث أتيت؛ وبعد هنيهة من الوقت دخل ضابط آخر تشاكل مع الضابط الذي أنتظر اتصاله بالدائرة، وكادا يتماسكان بالأيدي، فزاد يأسي من السفر، ولكن الرجل هداه الله واتصل ثانية، وكانت معجزة الله أن خط الهاتف قد أصلح، وكانت المعجزة الثانية الأكبر أني استمعت إليه يكلم مدير جوازات الموظفين الذي أصدر جواز السفر (عبد النبي)، فحكى له الأمر، وأعلمه أنه لم يستلم برقية رفع المنع ، وعجيبة أقدار الله في تسهيل الأمور أن الذي رفع الهاتف في تلك الساعة المتأخرة هو الذي أصدر جواز السفر في ساعة ليس فيها من موظف بعد انتهاء الدوام الرسمي بساعات، ولو كان غيره لطلب منه منع سفري، وقال له عبد النبي بلهجة قاطعة بعد أخذ وردّ وكأنه

ص: 170

استشعر ما أنا فيه من خوف ويأس : دع الدكتور يسافر وسأرسل لك قرار رفع المنع غدًا، فختم جواز سفري في 20/ 10 / 1993 ، فتنفست الصعداء وحمدت الله الذي يسّر عسيرًا من الصعب جدًّا أن يتيسر.

وكنت قد أبلغت زوجتي عدم تسليم الأمر الوزاري لأي أحد إلا بعد تأكدها من خروجي من العراق؛ وفعلا زارها الصديق الدكتور عمران الكبيسي بعد خروجي من العراق، وطلب منها صورة الأمر الوزاري، فأعطته الكتاب، واستطاع استحصال موافقة الوزير به وذهب إلى مديرية الجوازات لاستخراج جواز سفر ،له فأعلمه ضابط الجوازات بضرورة الحصول على موافقة ديوان رئاسة الوزراء، فقال له : إنكم أصدرتم جواز سفر للدكتور الفرطوسي بمثل هذا الأمر، فأعلموه أن الإصدار لم يكن صحيحًا، وهو خطأ حوسب عليه من أصدره.

وأخو الدكتور عمران اللواء مدير عام الأمور الطبية العسكرية، واستطاع بوساطته مقابلة مدير الأمن العام بسهولة كما أخبرني، ومن طريف ما حدثني به الدكتور عمران أنه قال لمدير الأمن صلاح الفرطوسي شيعي نجفي وأنا سني كبيسي، وأخي اللواء مدير عام الأمور الطبية العسكرية فكيف يسافر ذاك بمثل هذا الكتاب وأمنع أنا من السفر كيف يكون هذا قال: فضحك مدير الأمن، وبعد ثلاثة أشهر رفع المنع عنه، والتحق بي في مدينة تعز.

وصلت نقطة الجمارك في اللحظة الأخيرة، ففتش الموظف المختص حقيبتي فلما نظر إلى الكتب التي فيها، قال لي ما هذه الكتب؟! ألا تعلم أنه لا يسمح بإخراج

ص: 171

كتاب واحد من العراق، فأجبته بابتسامة مصطنعة : هي مؤلفاتي التي سأدرس بها. فقال لي وكأنه صاحب منة كبيرة عليّ: سأسمح لك على مسؤوليتي، ثم جاء السؤال الثاني وهو الأصعب عن المبلغ الذي بحوزتي؟! وكنت أحذر هذا السؤال غاية الحذر، إذ كان معي قرابة الألفي دولار أو أكثر لا أتذكر فأجبته بأنّ ما يكفيني للوصول إلى اليمن، فسكت ولم يعقب ففرج الله عسيرا علي ثانية، وأمرني برفع حقيبتي من دون تفتيش دقيق.

هنا تنفست الصعداء وشكرت الله الذي يسر يومًا من الصعب أن يتيسر في ذلك الزمن الحالك السواد. واتجهت الحافلة بنا إلى العاصمة عمان.

كان اثنان من أخوتي رفقة زوجاتهم وأطفالهم قد قررا الخروج من العراق من طريق أوربا الشرقية قبل خروجي، ولكن أعيدا إلى تركيا بعد أيام قضياها بالترانزيت لعدم حصولهما على تأشيرة دخول، فعادا إلى الأردن بغية السفر منها إلى ليبيا بسبب وجود أختهما وابن عمهما فيها، فتقدما إلى السفارة التونسية بطلب الحصول على تأشيرة سفر للذهاب منها برا إلى ليبيا لأنها كانت في حصار ولا يوجد طيران مباشر إليها، وبقيا في الأردن قرابة أسبوعين بانتظار وصول التأشيرة، حتى كاد ما معهما من مال أن ينفذ ؛ فاصطحبتهما إلى السفارة وطلبت مقابلة السفير الذي استقبلني بكل احترام وترحاب، وشرحت له قصة تأخر تأشيرتهما، وأن ما معهما من مال قد لا يكفيهما إن تأخر وصولها، ومن الصعب عليهما العودة إلى العراق؛ فطلب القنصل وسأله عن سبب تأخير التأشيرة ، وإذا بطلبهما مازال باستعلامات السفارة

ص: 172

ولم يأخذ طريقه إلى غرفة القنصل فوبخ القنصل موظف الاستعلامات أمامي على هذا الإهمال. وحصل من بعد أحدهم على التأشيرة، أما الآخر فوصل لسا طريق الصحراء من طريق السودان.

اتجهت من بعد إلى جامعة مؤتة علي أجد فرصة عمل لي فيها، فأكون قريبا من العراق، وكان فيها صديق لأحد معارفي قريب إلى موضع القرار بالجامعة؛ زرته و قدمت له طلب الرغبة في العمل بالجامعة، فاستقبلني الرجل خير استقبال، وبعد مراجعات أعلمني أن فرصة العمل مستحيلة في الوقت الحالي وستكون بعد ثلاثة أشهر، وعلي البقاء في الأردن خلال هذه المدة، فشكرته، وطلب مني الرجل الكريم المبيت في داره بإلحاح شديد فاعتذرت ،له فاصطحبني إلى موقف الحافلات، ولم نجد فيه حافلة تنقلني إلى العاصمة، وكان من كرمه أن أجر لي سيارة خاصة ودفع أجرتها للسائق ومقدارها عشرة دنانير.

اتجهت في اليوم الثاني صباحًا إلى مكاتب الخطوط الجوية لحجز تذكرة إلى صنعاء، فلم أعثر على تذكرة في الوقت المناسب، ولم أترك مكتبًا إلا وطرقت بابه من دون فائدة، فقصدت مديرية الخطوط الأردنية، فاستقبلتني مديرته بترحاب ولطف، بعد أن قدمت نفسي لها، فتعاطفت مع طلبي وحاولت جاهدة، ولكنها لم تفلح، وفي النهاية اتصلت بمدير حجز المطار، فأعلمها أن الطائرة التي أريد السفر عليها ليس فيها أي مكان، فإن تأخر أحد ركابها ساعدته بركوبها.

ص: 173

وصلت إلى المطار يراودني يأس من السفر بتلك الليلة، وبعد انتظار مرهق للأعصاب تبين أن أحد ركاب الدرجة الأولى قد تأخر، وتبين أيضًا أن ثلاثة أشخاص يرغبون في السفر على ذلك المقعد ، وهم على استعداد لدفع فرق مبلغ التذكرة، فأشار لي بعينه أن أدخل فدخلت وأنا غير مصدق، وكانت المرة الأولى في حياتي على كثرة أسفاري السفر على مقعد بالدرجة الأولى بتذكرة سياحية من دون دفع مبلغ فارق التذكرة.

وكنت قبل السفر اتصلت بصديقين في صنعاء - رحلا إلى جوار ربهما من بعد كثيرًا ما أحسنت إليهما أثناء دراستنا بجامعة القاهرة لاستقبالي بالمطار لأني لا أدري أين سأذهب، ولكني لم أعثر على أحد منهما، فتأثرت غاية التأثر من موقفهما، واستأجرت سيارة من المطار، وطلبت منه أخذي إلى أحد الفنادق، ومن عجيبات تلك الأيام أنا مررنا على أغلب فنادق العاصمة من ذات الخمس نجوم إلى ذات النجمة الواحدة، فلم نعثر على مكان فيها، وفي الأخير عثرنا على غرفة فيها ستة أسرة في فندق متواضع جدا استأجرتها بأسرتها ونمت فيها لوحدي، وكان التعب قد أخذ مأخذه منّي؛ واكتفى السائق الطيب بطلب مبلغ معقول جدا لحبه للعراقيين على الرغم من أنّ جولته تجاوزت الثلاث ساعات.

بعد حديث يطول شرحه عينت أستاذا بجامعة تعز، بنصيحة والحاح من صديقي الدكتور عبد الوهاب راوح الذي أصبح من بعد وزيرا للشباب.

ص: 174

بقيت أمامي عقبة كأداء وهي وصول زوجتي وبناتي الخمسة إلى اليمن. تقدمت زوجتي - وهي طبيبة أسنان - بطلب السفر بعنوان ربة بيت يصحبها أخوها، وفي ذلك الوقت كان من المستحيل سفر الأطباء خارج العراق، ولكن الله يسر، ومن غرائب تلك الساعات الحرجة التي مرت عليها اكتشاف ضابط الجوازات أن صغرى بناتي التي لم تتجاوز الثالثة من عمرها ورود اسمها في سجل الممنوعين من السفر؛ فرفعها خالها إلى مدير الجوازات، فلما رآها ضحك لعجيب تشابه الأسماء، وأصدر جواز السفر لزوجتي رفقة البنات من دون ذكر اسم أبيهنّ في جواز سفرها - ولعدم ذكر اسمي مع أسماء بناتي حكاية واجهتها من بعد في نقطة الحدود السودانية الليبية - ولم يفارق زوجتي القلق خوفًا من اكتشاف ادعائها بأنها ربة بيت، ولو اكتشفت يكون السجن مصيرها لا محالة. ولكن الله سبحانه يسّر ذلك العسير أيضًا، واجتمع شملنا ثانية بعد قلق وخوف لا يعلمه إلا الله.

اشتغلت زوجتي في عيادة مركب أسنان بمدينة تعز، وأشهد أنها بناء على طلبي لم تتقاض ريالًا واحدًا من أي مراجع عراقي فحصته طيلة إقامتنا باليمن.

أما حكاية مغادرتي اليمن إلى ليبيا، فقد نشرتها في الاستراحة الأولى، وسأعيد نشرها ثانية في هذه الاستراحة، لأن الأولى لم يقدر لها دخول العراق إذ طبعت أثناء إقامتي في مدينة سراييفو سنة 1977م.

ص: 175

من حكايات الغربة التي لا تنسى

الطريق إلى فندق النهر العظيم

أشهد أني دخلت مع المغامرين من الباب الذي دخلوا منه، ولكن اسمي لم يسجل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية في سفرة قطعتها في سيارتي بسبعة أيام من مدينة فاس بالمغرب إلى بغداد في أوائل صيف سنة 1982م؛ طويت الليل بالنهار فيها أحيانًا، وأعتقد أني أول عربي قطع تلك المسافة بمثل ذلك الزمن، وكررتها سنة 1994م يوم انسقت إلى أخرى ما دارت في خلدي مع زوجة وخمس بنات لا يتجاوز عمر كبير تهن العاشرة بكثير.

ولم يكن الأمر حبًا بالمغامرة هذه المرّة ولا توقا إليها، ولا بحثا عن المعرفة ولا تشوفا لها، وإنما كانت بسبب من الأنا والغرور والقلق وحب الذات والعنجهية الفارغة؛ وإذا كنت أبدو يوم وضعت قدمي على أول الطريق متماسكا فمن الصعب أن أصف لك الخوف الذي مررت به في الطريق إلى التنفيذ.

كان قرار خوض بحر الرمال من السودان إلى ليبيا عبر الصحراء الإفريقية قرارًا أهوج أملته حالة نفسية في غاية المرارة، وظروف لم تخطر بالحسبان.

بعد أن قضيت أسبوعين في الخرطوم عروس النهر الخالد السمراء، تبين لي الصعب الاستمرار في العيش بها على الرغم من حفاوة الأخوة السودانيين التي يعرفها شعبنا العربي، وطيبتهم وحسن استقبالهم وعلى الرغم من التقدير

ص: 176

الذي لا أستحقه الذي حبتني به جامعة النيلين التي عرضت علي العمل أستاذا للدراسات العليا بمرتب يعدّ كبيرًا في ذلك الوقت، ووفرت لي السكن والنقل والتأمين الصحي؛ وذلك بسبب مشكلات الطاقة التي كان يعاني منها الشعب السوداني آنذاك و ما كانت تلك المشكلات تغير من قرار بقائي في المكان الذي أحببته قبل أن أراه وسيبقى في سويداء القلب وإنسان العين؛ لولا مزاج أسرتي الذي لم ينسجم مع تلك الأجواء، بل لقد ترك فراقي له صدمًا في النفس وجرحا في القلب من هذه الأمة ذات المثل السامية ودين مكارم الأخلاق كيف هان عليها مهما كانت الأسباب أن تعرض أشقاءها أحفاد مؤذن الرسول صلى الله عليه وآله لمثل هذه المحن التي يتعرضون لها، ومازلت أتساءل في سِري كيف تكون أزمة للطاقة في الوطن العربي، أو العالم الإسلامي وهو مصدر الطاقة في العالم !؟

قررت السفر إلى ليبيا، إذ كانت جامعة السابع من أبريل فيها قد تعاقدت معي بشهادة من صديقي العزيز الدكتور حازم الحلّي قبل سفري إلى السودان، فاتجهت إلى شركات الطيران بغية السفر إلى تونس التي منحتني سفارتها في اليمن تأشيرة دخول _ ومنها بر إلى ليبيا ولكن جميع خطوط الطيران العربية اعتذرت من نقلي لا لشيء إلا لأنني عراقي، وعلي أن أحصل على تأشيرة مرور من الدولة التي تهبط بها الطائرة في الطريق، إذ لا يوجد طيران مباشر إلى تونس من السودان وعليك أن تصدق أني لم أستطع الحصول على تأشيرة المرور هذه. وهي محنة ليتني كنت وحدي فيها، فهناك عشرات الآلاف من العراقيين تعرضوا لمثلها؛ بل أضطر

ص: 177

قسم كبير منهم إلى ارتكاب أنواع الحماقات وساروا في طرق غير مشروعة لتجاوز محنة الوصول إلى مبتغاهم، ومن عجائب تلك الأيام أن الخطوط الفرنسية وافقت على نزولي بمطارها مرورًا إلى تونس ولكن المبلغ الذي كان بحوزتي لم يغط ثمن تذاكر السفر، مما اضطرني في النهاية إلى الاستعلام عن الطريق الصحراوي، فليس باستطاعتي العودة إلى اليمن للتدريس في جامعة صنعاء لأنني بذلت المستحيل، واعتذرت للمسؤولين فيها بشتى الأعذار كي تقبل استقالتي؛ فبأي وجه أعود ثانية، و لا سيما أن أمة من الأصدقاء حاولت ثني عزمي عن الاستقالة في ذلك الوقت.

وبين الترغيب ولترهيب نويت ركوب الصعب، ولقد حز في نفسي كيف أن حكامنا وإعلامنا لا يستطيع حتى الساعة أن يفرق بين موقف سياسي وآخر إنساني. لم أكن وحدي الذي اتخذ هذا القرار فقد شاركني فيه ثلاثة الأستاذة من العراقيين بعد أن رأوا إصراري ، ومن عجائب الصدف وغرائبها أننا كنا نمثل العراق أصدق تمثيل، عربًا وأكرادًا، مسلمين ومسيحيين سنة وشيعة شمال العراق وجنوبه ووسطه، وأشياء أخر.

ولم يكن الحصول على تذكرة سفر إلى دنكلة ولاية السودان الشمالية في الطيران السوداني الداخلي ،بهيّن وقد مررنا على جميع مكاتب الخطوط من دون جدوى، فأقرب المواعيد تضطرنا إلى البقاء في الخرطوم قرابة أسبوعين، وبعد يأس مررنا على آخر المكاتب، وإذا بشابة سودانية مليحة، تحدثت معها بلطف، فقالت سأحاول

ص: 178

بكل جهد تيسير أمر سفركم، وكان أمر الحصول على تسعة مقاعد يزيد من صعوبة الأمر، وفي عصر ذلك اليوم زارتنا تلك السيدة الطيبة إلى الفندق، وقد حجزت لنا أماكن في الطائرة المتجهة إلى دنقلة، وأعلمتني أن نصف المقاعد كانت لموظفي الطائرة، وأنهم سيتناوبون على الجلوس طيلة الرحلة، فشكرتها صادقا وأكبرت عملها ودعوت لها.

في اليوم التالي وصلنا ظهرًا إلى ولاية ( دنقلة) بطائرة أكل الدهر عليها وشرب من نوع ترايدنت كانت من طائرات العراق في ستينيات القرن الماضي. وأمر طيراننا فيها يحتاج لوحده إلى صفحات كثيرة.

وولاية (دنقلة) أكبر ولايات الشمال السوداني، كانت من قبل دولة لإحدى الممالك قبل الإسلام، وقد عقد عبد الله بن أبي السرح والي مصر في زمن الخليفة عثمان بن عفاف اتفاقية مع حكامها من بين بنودها السماح للمسلمين العرب بالمرور في الشمال السوداني إلى جنوبه مما أدى إلى استقرار عدد كبير من المسلمين في تلك الولاية، كما استوطنها الفراعنة من قبل أيضًا؛ ومازالت بعض آثارهم في جنوبها، أيضًا محطة اتصال بين شمال القارة الشرقي وجنوبها، يشطرها نهر النيل العظيم ،شطرين، أما جانبها الغربي فهو امتداد للصحراء الإفريقية الكبرى، وعلى الرغم من أهمية هذه الولاية، فإنك لا تعثر في مركزها على أية طريق معبدة في ذلك الوقت، إلَّا من طريق لا يتجاوز طوله كيلومترات محدودة، يبدأ من المطار وينتهي بنصف الطريق إلى مركز الولاية.

ص: 179

استقر بنا المقام في فندق المنار السعيد، وإكراما لأسرتي أنزلتني إدارته في غرفة العرائس التي قضينا فيها أسبوعا لا أحدثك عن سعادة أسرتي به، كانت أسراب البعوض تأتيك من كل مكان ليلاً، ولا تفارقنا أسراب الذباب نهارًا، وكان الحرفي ذلك الصيف لا يطاق، أما ساعات الليل فإنها بالنسبة لأطفالي جحيم يصعب ،وصفه، وإذا كان جلدي قد دبغته الأيام دباغة جيدة، فان جلود أطفالي لم تتعود إلا على كريم اللباس وطيب المناخ.

كانت الطاقة تنقطع كل يوم أكثر من أربع عشرة ساعة، ولا نستطيع أن نسمح للأطفال بمغادرة الغرفة ليلا خوفا عليهم من الإصابة بالملاريا، كما لا نستطيع البقاء فيها بسبب شدة الحر عند انقطاع التيار الكهربائي. وزاد من قنوطي أن زوجتي أصيبت بحالة من الهستيريا من شدة خوفها على أطفالها من الملاريا و الحمى الصفراء، لذا كانت تمطرنا مطرًا بقاتل الحشرات وشفقة عليها لم أكن أعارضها؛ وهي أيام محفورة في ذاكرة أسرتي لا تدانيها قسوة حتى أيام الحرب الخليج، إذ كنا في تلك الأيام وسط مولد كبير بين الأخوة والأقرباء،؛ أما اليوم فليس من أحد معهم غيري، وفوق هذا فان الخوف يركبهم مما عزمت عليه ولا يستطيعون التصريح أو الاعتراض؛ ولم أر زوجتي باكية من تعب أو عوز أو خوف إلا هذه المرة على الرغم من عشرات القرارات الحمقاء التي اتخذتها وهي ترافقني رحلة الحياة، إذ إنها على يقين من عدم تراجعي مهما حاولت ثني عزمي أو إقناعي .

ص: 180

ولم يكن انتظارنا حبّاً بالبقاء في المدينة الطيب أهلها، وإنما بسبب تأخر وصول حافلة قيل عن سائقها وعنها ما يدفع على الاطمئنان، كما أن سائقها يتكفل بالمياه لركاب حافلته طيلة أيام الرحلة التي لا يعرف عددها، أما بقية الحافلات فلا تتكفل بالماء، و لما كنا سبعة أنفار فإننا بحاجة إلى مالا يقل عن خمسمائة لتر من المياه أو أكثر لهذه السفرة الماتعة !.

لم أكن أستطيع التحديق بعيني زوجتي فقد فارقت اليمن مجبرة، ولم تطاوعني نفسي بالعودة من حيث أتيت، إذ رأيتها بعقل ناقص شماتة لا يعدلها حتى الموت، ولم أبق في السودان بعد أن تهيأت لي فرصة مناسبة.

وصلت الحافلة بعد أربعة أيام من وصولنا إلى دنقلة، وكنا في استقبالها، ووجدتها محكمة من نوع مرسيدس حديثة الصنع بعشر عجلات معدلة تشبه عجلات السيارات العسكرية العملاقة وهي تابعة لشركة روبيانا نسبة إلى إحدى الواحات الليبية، واستراحت نفس الأطفال برؤيتها، وبدأ وقع الحياة يدب فيه الدفء من جديد، واستمرت تجهيزات عودتها ثلاثة أيام، تجهزنا خلالها بطعام الطريق الذي لا يمكن القطع بعدد أيامه، وكله من الطعام الجاف لأن الشمس المحرقة كفيلة بإتلاف أي طعام طري في ساعات.

بتاريخ 1994/12م أشرنا جوازات سفرنا في إدارة جوازات الولاية، وبعد ظهر اليوم التالي تمت إجراءات التفتيش وتحركت الحافلة على بركة الله وكانت فرحة الأطفال لا توصف وكأنهم في سفرة سياحية.

ص: 181

أما أنا فقد شعرت بخوف شديد على مصير أسرتي لو أصبت بمكروه، ولا سيما أني كنت أكتمهم كل خبر عن أحداث الطريق المروعة، وكنت أفتح أذني في الأيام السابقة على كل قصة أسمعها عن الطريق من الأخوة السودانيين عن هذا وذاك أدركتهم منيتهم في الطريق بسبب وعكة بسيطة ، أو بسبب حاجة إلى علاج، أو ما إلى ذلك، أو عن سيارات غرزت في الرمال، أو فقد سائقها الطريق الصحيح، وعلى الرغم من أني قد أشرت على زوجتي أن تشتري ما تراه مناسبًا من الأدوية لأطفالها ولأمراضي المزمنة _ لأنني بصدر لا يرجى له الشفاء بسبب تليف في الرئتين،كما أني كنت مصابًا بقرحة في المعدة وبنقص الكولسترول في الدم وبفتق قديم أصبت به بسبب مشاركتي البنائين في بناء بيتي الذي تركته، كما أني مصاب بأشياء في الكبد لا أعرفها _ فإني كنت أسمع دقات قلبي، وأكاد أشعر به ينخلع قبل أن تتحرك الحافلة.

كان داخلي خاويا لا يمت إلى الشجاعة بصلة، ولولا الخوف من السقوط في نظر زوجتي وأطفالي لقررت العودة من حيث أتيت في تلك الساعة. وقبل تحرك الحافلة انفردت بأحد الأصدقاء من الذين توسمت فيهم النجابة، وهو من الأخوة المسيحيين على الرغم من أنه كان لا يستطيع كبت مخاوفه وكلما حاول الفرار بجلده في الأيام السابقة كان يراني بتلك البطولة الحمقاء والعنجهية الفارغة، فیتقوى على نفسه و يستسلم انفردت به وقلت له: أريد أن أوصيك وصية فهل تستطيع أن تلتزم بتنفيذها، ولا أحدثك عن الصاعقة التي أصيب بها حينما قلت

ص: 182

له: أخي الكريم إني أثق بك ثقة تامة، إن مبلغا من المال بحوزة زوجتي يكفي لإعادتها إلى وطنها هي وأطفالها وأرجو أن ترافقهم إلى الأردن إن أصابني أي مكروه في الطريق، ولم أستطع أن أهدئ من روعه إلا والسيارة تتهيأ للحركة.

سارت الحافلة على بركة الله ساعات بسرعة معقولة، كان الشباب الذين استقلوا المقاعد الخلفية في هرج ومرج وضحك ومماحكة مع شاب جزائري مبعد من السودان يرتدي ملابس بلا ،لون، وهو حاد المزاج، وزاد من حدة مزاجه مماحكة إخوانه السودانيين له، فبدأ يزبد ويرعد ويهدد، وقبيل المغرب بنصف ساعة نزلنا جميعا، واستطلعت المكان، فلم أر فيه أي أثر للحياة، بل أي أثر لأي كائن حي مر هناك، ومازلت حتى لساعة أفكر كيف استطاع السائق معرفة الطريق، إذ لا توجد حشرة أو ناموسة أو ذبابة أو أية دابة من دواب الأرض، ولا توجد نبتة من نبات الصحراء جافة أو خضراء ، ولا يوجد أي أثر لحافلة مرت من هذا الطريق من قبل، لا شيء إلا الرمال الصفر.

أخرجنا كانون الفحم وأوقدنا النار، وحينما أخرجنا ما اشتريناه لطعام الطريق وجدناه قد تحول إلى لون أخر بسبب ذرات الرمال التي لا أدري كيف استطاعت النفاذ إلى كل شيء...... طبخت زوجتي خليطاً لا تقل نسبة الرمال فيه عن نسبة الرز والبطاطا وعصير الطماطم، ولكنه كان من ألذ الطعام، وما إن انتهينا من صلاة المغرب والعشاء حتى واصل السائق الآخر السير في ظلام دامس، وبعد ساعتين أو أكثر توقف وأحسست بحركة غريبة من طاقم السيارة وبعض ركابها،

ص: 183

وعلى ضوء المصابيح اليدوية أفرغ الطاقم أغلب الهواء من عجلات الحافلة العشر فتساءلت عن السبب فقيل لي : إن السيارة ستدخل في الرمال، وسألتهم، ولكن ما هذا الذي كنا نسير عليه ؟ فقالوا لي: إنه رمل من نوع آخر يشبه البحيرة تغوص عجلات الحافلة فيه، ثم تحركت الحافلة وبحركتها اندفعت قلوبنا إلى حلا قيمنا، وقطعت مئتي متر أو أكثر، ولكن السائق توقف وكرّ راجعًا، سألت أحدهم عن السبب؟ فقال: لو استمر في السير فإن الحافلة قد تغرز في الرمال ولا يستطيع السائق إخراجها. لفّ السائق لفة طويلة، واختار طريقًا أخر شعرنا أن أرواحنا أقرب ما تكون إلى الله ، وبعد أكثر من نصف ساعة توقف ثانية ونزل هو وطاقمه، ونزلنا معهم بقلوب وجلة ورأينا الطاقم يعود إلى نفخ عجلات الحافلة وإصلاح ما عطب منها ؛ وقد استمر هذا الأمر مرات كثيرة يصعب عدّها.

احتل بعض الأطفال أرضية المقاعد بعد أن غلبهم النعاس، أما البقية فناموا على الكراسي، وتوقف السائق بعد الساعة الواحدة واتخذت من الرمال الهشّة تحت السيارة فراشًا لأنه أدفأ مكان في برد الصحراء الشديد ليلًا، ولم يساورني أي خوف من دبيب الأرض بعد أن تأكد عندي خلوها من حياة غيرنا.

قبل الساعة السادسة صباحًا لم يبق من نائم وصلينا الصبح، وأوقدنا الفحم بالكانون، وعملنا الشاي، وشرب الأطفال وأكلوا قطعا من الخبز والبسكويت، وبعض الفاكهة التي مازالت طرية، وفي الساعة السابعة أو بعدها تحركت السيارة على بركة الله.

ص: 184

تناولنا وجبة الغداء في الحافلة وهي تسير، لأن الجو لاهب في خارجها وتحولت الجلبة في الخلف إلى صياح أحيانا؛ وما إن توقفت الحافلة قبل الغروب بساعة أو أكثر ونزلنا ، ورأيت الشاب الجزائري يركض وتركض خلفه مجموعة من الشباب، فأمسكوا به و عقلوه كما يعقل البعير ، فسألتهم عن السبب؟ فقالوا: إنه قرر قتل أحدنا بسبب مزاحنا معه، ثم تركوه لوحده معقولا ولا أحد يستطيع الاقتراب منه لشدَّة ثورته، وبعد اكتمال إعداد الطعام اقتربت منه، وبعد لأي أقنعته أن يعدل عن قراره في القتل، ثم أقنعت الشباب بحل وثاقه وعلمت منه أنه من خريجي كلية الحقوق، وقد سُفّر من السودان ، ثم أقنعته بعد حوار طويل أن يشاركنا طعامنا. وأن يلبس بعض ملابسي لكي يتحد لكي يتحسن وضعه النفسي، وطلبت من الأخوة السودانيين ترك المزاح م- معه.

بعد أربعة أيام بلياليها توقفت الحافلة خلالها عشرات المرات لتفريغ الهواء وملئه أو لتغيير حشوة عجلة معطوبة، أو ما إلى ذلك من أعمال الصيانة.... ساعات لا نهاية لها من الشعور بالخوف والقلق و الحر الشديد والبرد القارص توقفت الحافلة في آخر نقطة سودانية عند الغروب، ومرت عليَّ ليلة من أبرد الليالي، وفي الصباح وجدنا في تلك النقطة عين ماء فرحنا بها فرحًا شديدًا لا يوصف فغسلنا ما يمكن من حاجات الطريق الذي لا ندري متى سينتهى ولا أحد يجيبك إجابة قاطعة غسله عن وقت الوصول، وقضينا ثلاث ساعات أو أكثر في تفتيش رأيناه عقيما في غاية

ص: 185

الإزعاج أدى إلى ثورتنا في وجه ضابط الحدود، وكأن الرجل أحس بانزعاجنا جميعا فأنهى الإجراءات بسرعة مشوبة بالحياء، واعتذر لنا فشكرناه .

عاودت الحافلة السَّير؛ وكنا نرى أحيانًا سيارة أو سيارتين من بعيد في كل يوم ذاهبة أو عائدة، وكان ذلك يبعث الطمأنينة في النفس... وفي صبيحة اليوم التالي لاحت لنا من بعيد جبال شاهقة فسألت عنها ؟ فقيل لي : إنها نقطة العوينات أو الحدود الليبية. هللنا وكبرنا وتخيلنا أنها آخر متاعب الرحلة....

وفي الساعة الثامنة توقف السائق، وأوصانا بعدم الاعتراض على أي إجراء يصدر من شرطة الحدود، وعلينا الالتزام بالنظام، ويحسن بنا ألا نتكلم واستغربنا منه، فأعلمنا أن الشرطة بإمكانهم منع السيارة من دخول الحدود؛ ثم واصل السير، وفي الساعة التاسعة من صباح يوم 1994/8/19م توقف في مدخل نقطة ،الحدود، ثم طلب منا النزول والوقوف بجانب الحافلة.... اتجه نحونا ضابط برتبة نقيب، سلّم علينا وهنأنا بسلامة الوصول وعرفنا بنفسه _ أنا الضابط عبد الجليل _ وطلب منا التوجه إلى أحد البيوت المحمولة (كرفان) لإنهاء إجراءات الجوازات وحين جاء دوري سألني الضابط المختص عن صلتي بالأطفال والمرأة التي هم برفقتها، فقلت له: إنها زوجتي وأطفالي ولا أحدثك عن مفاجأتي حين سألني عن عقد الزواج، أو ما يثبت أنهم أطفالي، لأن أسماءهم في جواز زوجتي مجردة من ذكر اسم الأب، ولم يكن معي عقد زواج كما لم تكن معي شهادات نفوس إذإنها في حقائب سفرنا على ظهر الحافلة، وقد يصعب الوصول إليها، فقلت للضابط مبتسما :

ص: 186

إن شهاداتهم الدراسية في الحقيبة فوق الحافلة و إن أحببت تركتهن لك خمس بنات يأكلن وجهك في هذه الصحراء، فضحك وختم جواز السفر، ولا أخفيك سرا فإني كنت أسمع دقات قلبي.

انتقلت الحافلة إلى مكان ليس ببعيد عن مكانها السابق ووقفنا بجانبها بانتظار إجراءات التفتيش المعهودة في نقاط حدودنا العربية والإسلامية، وجاء عبد الجليل ليقول لنا : ( العشية)؛ وهذا يعني أن التفتيش سيكون عصر ذلك اليوم، وعاد عبد الجليل من حيث أتى، ولم يعترض أحد على قراره، وتذكرت كيف أنَّا كنا نمر بدول أوربية عدّة أحيانا ولا يوقفنا أحد، و لا يفكر بتفتيشنا، وها نحن نأتي من طريق الصحراء فنقضي أكثر من عشرين ساعة بين ختم جوازات السفر و التفتيش. ،إن كلمة (العشية) تعنى أننا سنتأخر أكثر من عشر ساعات في ذلك الصيف الشديد الحرارة، تخيلت أننا سنصل خلالها إلى الطريق المعبدة، ولم ننبس ببنت شفة، بل أصبنا في ذهول إذ لا ندري ماذا نعمل في تلك الساعات بذلك الجو اللاهب، وبعد نصف ساعة تقدم السائق _ الذي رأيته أعظم سائق صادفته في حياتي_ واختار من الركاب كنت أحدهم، وطلب منا الذهاب إلى عبد الجليل لعله لرجائنا بتفتيش الحافلة و لولا الحياء لاعتذرت من هذا التكليف خوفًا من أن تثار مسألة الزوجة و الأطفال وعلاقتي بهم ثانية واتجهنا إلى مكانه بجانب أحد (الكرفانات) يتوسط مجموعة من شرطة الحدود و الجوازات، سلمنا، فرد السلام وقبل أن نتكلم قال لي : أنت عراقي؟ قلت: نعم وأنا أتكلّف الابتسام، ثم التفت إلى

ص: 187

من معي وطلب منهما العودة من حيث أتوا وطلب مني الجلوس، شعرت بشيء من الخوف لأنني أتوقع كل شيء من شرطة عالمنا الإسلامي و العربي، وعندي من قصصهم ما يملأ كتابًا؛ وما إن جلست حتى رحب بي الجميع ترحيبًا حارًا، وقدم لي الرجل الشاي و التمر وبعض الخبز، وطلب مني مشاركتهم إفطارهم فاطمأنت نفسي، وبدأنا نتحدث عن الحصار وويلاته ومصائبه، ثم سألوني جميعا، كيف تغامر بأطفالك وأنت أستاذ جامعي في مثل هذه الطريق ؟ ولقد بان التأثر على وجوههم جميعًا حينما بينت لهم ظروف سفرنا. قال لي عبد الجليل هكذا في البلاد العربية تعاقب الشعوب بجريرة حكامها أو بمواقفهم السياسية، ثم قال: لعلك جئت ترجوني أن أفتش الحافلة؟ فابتسمت وقبل أن أتكلم قال : إن سبب ليس معهن أي رجل، وأنا أنتظر أمرًا بالسماح لهن بالدخول ولكن إكراما لك وللأخوة العراقيين معك سوف لن أفتش الحافلة، وسآمر السائق بالدخول قال: مرحبا بكم في الجماهيرية.

اتجهت الحافلة إلى مقهى لا يبتعد كثيرًا عن إدارة الحدود لقضاء سويعات الظهيرة فيها، إذ لا يوجد مكان غيرها، وبعد دقائق من وقوفها جاءني أحد الشرطة بسيارتها يحمل بيديه كل أنواع البسكويت و العصير و الحلوى التي تباع في المحل ،الوحيد، وقال لي: إنها هدية من عبد الجليل وإخوانه للأطفال، وسنكون سعداء إن قاسمتنا وجبة الغداء، كانت التفاتة طيبة لن أنساها، ولقد كتبت عنها وذكرتها في غير مناسبة، وبقي عبد الجليل في ذاكرتي مثالاً بل رمزًا للإنسان العربي الطيب،

ص: 188

وبرهانا على وحدة الأمة عربيًا وإسلاميا ، قضيت فترة الظهيرة بينهم حدثوني خلالها عن العوينات وجبالها وعيونها وتاريخها وآثار كهوفها وإنسانها الموغل في أعماق التاريخ ..... وودعتهم في حدود الساعة الثالثة والنصف؛ إذ أعلن السائق بدء المرحلة الأخيرة من الرحلة.

كانت المسافة من العوينات إلى الكفرة لا تتجاوز الثلاثمائة وخمسين كلم، قدرت أننا سنقطعها بست ساعات على أكثر تقدير، ولم أكن أعلم أنها الأخطر بسبب بحيرات الرمال في الطريق، لقد توقف السائق مرّات كثيرة يصعب عدها، وفي كل مرة كانت العجلات تفرّغ من الهواء تقريبًا لكي تصبح كخف البعير، فلا تغوص في الرمال؛ ومرات عدة كان يدخل مسافة ثم يكرّ راجعًا إلى الوراء لاختيار مدخل آخر، و وواصلت الحافة السير دون توقف وشعرت بتعب شديد فاق كل مخاوفي إزعاجات أطفالي الذين كدهم الإعياء والسأم من الطريق والطعام الجشب الذي لم يعتادوا عليه، ولا سيما أن ما بقي منه يصعب تجرعه . مددت قامتي تحت الكراسي وسط صرخات الصغيرة واحتجاجاتها التي لا تنتهي، وأسئلتها التي لا أجد لها إجابة، ورحت في إغفاءة حسدني عليها كل من حولي من الركاب، ولم أصحو إلا في الساعة السادسة صباحًا بعد أن توقفت الحافلة لأداء الصلاة؛ و ما إن تحركت حتى بدأنا نتشوف شبح مدينة الكفرة، وبعد ساعة لمحنا أشباحًا تتراقص خلناها الكفرة. توقف السائق بجانب المقهى الوحيد الذي رأيناه قائما في الطريق من دنقلا إلى الكفرة، استرحنا فيه نصف ساعة، وقد سعد الأطفال بحلوياته البسيطة، ثم واصل

ص: 189

السائق السير، ولا أحدثك عن التهليل والتكبير و الفرح الغامر الذي تفجر داخل الحافلة واختلط بالضحك والدموع، والشكر الله على السلامة.

توقفت السيارة في المكان المخصص لها في مدينة الكفرة تلك المدينة التي تقعد على أكبر بحيرة مياه جوفية في العالم.

استأجرنا سيارة أجرة وسألناه عن أحسن فنادق المدينة فقال: أنه فندق النهر العظيم.

ولا أجد كلمة أصف لك فيها مشاعر أطفالي وزوجتي حينما وجدوا أنفسهم هذه المرة وسط حديقة غناء فيها بعض الألعاب وفي بيت حقيقي مستقل مجهز بكل وسائل الراحة، مع الدجاج المشوي والخبز الطازج، ولعلها الأيام الأربعة الوحيدة التي أعدها أيام راحة واستجمام قضيتها مع أسرتي منذ خروجي من العراق بتاريخ 17 / 10 / 1993م وحتى وصولنا إلى الكفرة، ومازال للحديث بقية، لعلي أعود إليه في مناسبة أخرى.

سراييفو في 1/9/ 1999م

الرحلة إلى النيجر

التدريس في الجامعة الإسلاميّة

وصلتني رسالة مملحة من السيد حيدر سنة 2021م، وهو أحد طلبتي في الجامعة الإسلامية بالنيجر للعام الدراسي 1996 - 1997م أعلمني فيها أنه أصبح

ص: 190

مديرًا لأحدى المدارس الثانوية بجمهورية غينيا، وحدثني عن محبته واحترامه وتقدير طلبتي الشخصي المتواضع، وعن سنوات قضاها يبحث عن عنواني للتواصل معي؛ فأعادت لي رسالته صور ظننتها انطمست في ذاكرتي، بلكنت أود طي بعض صفحاتها الشديدة السواد.

وحيدر هو أحد طلاب الجامعة المميزين، إذ كان نابها مسموع الكلمة في الوسط الطلابي الخليط من جنسيات دول الغرب الأفريقي، قوي الشخصية مهاب الجانب بينهم، وهو رئيس لاتحاد الطلاب الغينيين.

وما كان الغرب الإفريقي باستثناء شماله العربي يدخل في دائرة اهتماماتي من قبل؛ ولم أكن حتى سنة خمس وتسعين من القرن المنصرم على معرفة بغالبية دوله، ولاسيما دولة النيجر التي كنت أظنها نيجيريا بسبب شهرة الأخيرة، نعم كنت أعرف أسماء كثير من دوله معرفة سطحية لا تسمن ولا تشبع من جوع، ولكن الأقدار فعلت فعلتها وأبحرت بي بسفينة التغرب إلى جمهورية النيجر ؛ وقدر لي العيش سنتين في تلك الأصقاع التي ما أدراك ما هي.

وقد تكون تلك البلاد أفقر بلاد الدنيا، أو من أفقرها. فطعام غالبية سكانها بذور الدخن المطحون المخلوط بالماء مع قليل من السكر أو الحليب إن توفر لهم. والناس يتفاوتون تفاوتاً عجيباً ما بين قلة قليلة جدًّا متخمة، وكثرة كاثرة لا تملك قوت يومها وهو الدخن والزراعة فيها تسقى بأدوات بدائية على الرغم من مرور نهر النيجر العظيم فيها أطول أنهار أفريقيا بعد نهر النيل - إذ إن أغلب المزارعين لا

ص: 191

يستطيعون استعمال المكننة المائية لري مزارعهم لارتفاع أسعار المحروقات فيها، وهي لا تتناسب مع مواردهم لسيطرة الشركات الفرنسية على البترول فيها. وأمطارها موسمية مناسبة لزراعة الدخن لا غير الذي هو عماد طعامهم.

وعدم وجود ساحل لهذه الدولة على المحيط شارك في زيادة فقرها وشعبها يهتم بتربية الأبقار والأغنام، ولكن أبقارها هي الأخرى في غاية الضعف لأنها تقطع مسافات طويلة للوصول إلى النهر ، وما إن ترده وتعود حتى يتبخر من أجسامها الذي شربته.

ومما تتفرد به هذه الدولة الفقيرة ندرة السرقات فيها، ويتحدثون أن السارق حين يمسك متلبسًا يقتل قبل وصوله إلى مركز الشرطة.

وغالبية أرضها صحراء قاحلة هي جزء من الصحراء الإفريقية الكبرى؛ وسكانها خليط من أقوام مختلفة من الهوسة والفلاتي والعرب والطوارق؛ وغالبيتهم من المسلمين الذين يتعبدون بالمذهب المالكي، وتنتشر بينهم الطرق الصوفية، وقد دخلهم الإسلام بالدرجة الأولى من طريق التجار المغاربة، من دون حرب أو قتال. وتعد مدينة (ساي) التي تقع على نهر النيجر، التي تأسست فيها أثناء خلافة صوكوتو مركز التصوف الذي انتشر في البلاد أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقلة قليلة من سكانها هم من من النصارى.

وفي منتصف السبعينيات تأسست الجامعة الإسلامية فيها، بتمويل من البنك الإسلامي للتنمية، وإشراف من المنظمة الإسلامية، ومشاركة من الجمعيات

ص: 192

الإسلامية كويتية والسعودية والإماراتية وغيرها، وتغطي تلك المؤسسات ميزانيتها السنوية بالإضافة إلى مساعدات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.

وسبب اختيار مدينة ساي على الرغم من بعدها عن العاصمة نيامي يعود إلى إرثها التاريخي إذ تأسس الإسلام فيها وانتشر منها.

حططت رحالي في النيجر ، كانت (ساي) عبارة عن مدينة صغيرة جدا لا توحي بماضيها، وبناء الجامعة في تلك البقعة البعيدة عن العاصمة كلف منتسبيها كثيرًا من الجهد والعناء، كما كلف إدارتها مبالغ ليست بالقليلة أيضًا، إذ تبعد قرابة خمسين كيلومترًا عن العاصمة نيامي.

وبدأ التشيع والوهابية يأخذان مكانهما في تلك البلاد، بسبب تأثرهم في الشمال النيجيري الذي بدأ التشيع ينتشر فيه، كما بدأت الوهابية بالانتشار بسبب حرص المنتمين لها على نشره في إفريقيا وبدأت طرق الصوفية المنتشرة في ليبيا والجزائر تأخذ مكانها بينهم أيضًا، وتزاحم الطريقة اليجانية المغربية.

تبلغ مساحة النيجر 1270000 كلم، وعدد سكانها 17129076نسمة، ونسبة المسلمين فيها أكثر من 90 100 . والإسلام قديم فيها، إذ انتشر بين الطوارق خاصة بعد الفتح الإسلامي للشمال الإفريقي، والطوارق يعتقدون أنهم من نسل الفاتح عقبة بن نافع، ولكنه لم يكتسب مكانته إلّا في القرنين الثامن عشر والتاسع

ص: 193

عشر بعد أن تأسست فيها خلافة صكتو، والحديث عن هذه الدولة وشعبها الطيب طويل لست بصدد ،سرده، أو التوسع فيه.

كانت النفس في سنوات التغرب بعد خروجي من العراق تضيق في أي بلاد أحل بها، بسبب انتظاري فرج الله كي عود إلى وطني، حيث جامعتي في بغداد، وحيث الأهل والعشير في النجف الأشرف وغيرها، وما إن أحط رحالي في دولة حتى أجدني أرغب بالخروج منها على الرغم من أني كنت أترك ورائي ذكرًا حسنًا وسمعة طيبة بين زملائي ومرؤوسي وطلبتي.

ومن عجيبات الصدف التي مهدت لرحلتي الجديدة افتتاح معرض للكتاب بمدينة طرابلس، فزرته ووجدت فيه عشر نسخ من الجزء الثاني من كتابي مختصر العين لأبي بكر الزبيدي، فاشتريتها كلها ، وأبردت نسخة منها إلى صديقي العلامة الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري الذي ظننته مازال يدرس في جامعة محمد الخامس في مدينة الرباط ؛ وبعد شهر قد يزيد ولا ينقص وصلتني منه رسالة من النيجر حدثني فيها عن الظروف التي أرسلته رئيسًا للجامعة الإسلامية فيها، وما إن أعلمته برغبتي بالتعاون معه حتى وافق من فوره، ولكنه بصرني بأحوال المعيشة في تلك البلاد. وهكذا شددت رحالي إلى هذه الدولة من دون أن أحسب حسابًا لمجريات الحياة فيها . وثم أوصيا لمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة باختياري خبيرًا لها بالنيجر ؛ فتمت الموافقة بعد اطلاع مديرها طيب الذكر الدكتور عبد العزيز

ص: 194

التويجري على سيرتي العلمية، وهكذا وجدتي أيمم العلمية، وهكذا وجدتي أيمم وجهي إلى العاصمة نيامي عن طريق الرباط.

حين وصلت إلى مطار العاصمة نيامي استقبلتني فيه مجموعة من الجامعة، واصطحبتني إلى أحد فنادقها. وفي الطريق إليه بدا لي أن العاصمة شبه مظلمة، وكذلك المطار، إلا من مصابيح متفرقة هنا وهناك، وحين سألت عن السبب قيل لي : إن الدولة لا تستطيع تغطية تكاليف الكهرباء لقلة مواردها وشدة فقر ميزانيتها.

في الصباح توجهت إلى مبنى رئاسة الجامعة لمقابلة رئيسها الذي استقبلني بكل حفاوة وتكريم وسعادة ودعاني إلى داره على مائدة عشاء استذكرنا خلالها أيامنا الخوالي يوم كنت أستاذًا في جامعة محمد بن عبد الله بفاس التي قضيت فيها ثلاث سنوات ما بين 1981 - 1984م ، وكان أستاذا مساعدًا فيها آنذاك؛ وقد ربطتني به وبأسرته في حينها علاقة حميمة استمر أثرها إلى يوم الناس هذا، ويوم أصبح الرجل مستشارًا لوزارة الثقافة المغربية ساعدني في تصوير بعض مخطوطات خزانة القرويين بفاس، إذ كان تصوير أي مخطوط من مكتبات المغرب يتطلب موافقة خطية من وزير الثقافة، وهو أمر ليس من السهل أن يتيسر للباحثين.

وقد زار العراق بعد عودتي من المغرب غير مرة أثناء انعقاد مؤتمرات المربد بتوصية مني . محسن الموسوي الذي كان يشغل إدارة آفاق عربية. بل دعوته في إحدى زياراته للإلقاء محاضرة على طلبة الدراسات العليا بكليتي.

ص: 195

وعلى مائدة العشاء وما بعدها حدثني عن سيرته العلمية والشخصية بعد مفارقتي المغرب، وعن الظروف التي ساقته لرئاسة تلك الجامعة، وعن وضع الجامعة المالي الصعب. وبعد تلك الدعوة لم نكن نفترق في مناسبة وغير مناسبة في أو في بيته أو في مقر الجامعة الذي كان يبعد عن بنايتها قرابة خمسين كيلومترًا، وبعد ثلاثة أيام من إقامتي بالفندق أعلمته أني سأتكفل بأجور إقامتي حتى لا أثقل على الجامعة.

وما إن مرّ أسبوع على التحاقي حتى عرض علي إدارة المعهد العالي للتربية وتكوين الأساتذة الذي أسس حديثاً لاستقبال حملة البكالوريوس من طلبة الغرب الإفريقي، ولم يفتتح بعد، ولم أكن أرغب بإدارة أي منصب في هذه الجامعة أو في غيرها، في العراق أو في خارجه لحين إحالتي على التقاعد، ولكني في سنوات التغرب كنت أوافق مجبرًا على ما يعرض عليّ ، فوافقت بعد تردد لشعوري أن الرجل أن أكون قريبًا منه ، ولم يكتف بذلك وإنما أسند إلي تحرير العدد الأول من حريص مجلتها الحولية ( مجلة حوليات الجامعة الإسلامية بالنيجر.

ومنحتني وزارة التربية النيجيرية دار سكن مناسب في العاصمة، كما تنازل رئيس الجامعة عن بيته في الجامعة كي أسكن فيه عندما أكون فيها لأداء وظيفتي فكنت أسكن أربعة أيام بمبنى الجامعة الواقعة بمدينة ساي التي كانت في أيامها الغابرة عاصمةً للخلافة الإسلامية كما سبق القول، وثلاثة أيام في العاصمة لأن زوجتي وجدت عملًا في عيادة الأسنان الوحيدة فيها. ويوم قرر رئيس الجامعة

ص: 196

استبدال سيارته بأخرى اشتريت السيارة القديمة بأقساط ميسرة بعد أن وقع مزادها علي.

ومرت السنة الأولى طيبة لم يعكر صفوها أي معكر، وكانت الوفود التي تصل إلى الجامعة تبدأ من غرفتي ثم تنتقل للقاء الطلاب، وللإدلاء بما جاءت من أجله إلى القاعة التي كنت سببًا في تأسيسها؛ ويوم موعد انعقاد مجلس الأمناء كان رئيس المجلس والأعضاء يبدؤون من غرفتي أيضًا، فأرحب بهم، وأقدم لهم واجبات الضيافة، بل كنت أحتفي بكل من يصل إلى الجامعة محاضرًا أو موفدًا أو مشاركًا في الندوات من الخارج فأستقبله وأقوم بضيافته؛ وكان بعض الضيوف من الأساتذة المحاضرين خاصة يسكنون في القسم الداخلي المخصص لسكن الأساتذة، ولا أظن أحدًا طرق باب الجامعة من خارجها إلا قمت بضيافته ومساعدته والترحيب به على أحسن وجه.

كان لزامًا عليّ بحسب العقد المبرم فيما بيني وبين المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) أن أزودهم بتقرير شهري عما قمت به من أعمال، ويبدو أن تقاريري كانت محل إعجاب المدير العام الدكتور التويجري إذ كان يحيلها على أقسام المنظمة للاقتداء بها بحسب ما أعلمني مدير مكتبه من بعد يوم زار التويجري الجامعة الإسلامية في روتردام بعد سنتين من استقالتي من كنت أمثلها بدولة البوسنة والهرسك، وكانت زيارته جامعة روتردام بسبب صلتي الحميمة به، وبسبب تلك الصلة المنظمة حين سمي كرسي الإيسيسكو في أوربا باسم الجامعة،

ص: 197

وقد استقبلته عند زيارته بما يستحقه من ترحاب وتنويه، وشرفني بزيارة بيتي في مدينة سخيدام بهولندا على مائدة غداء رفقة بعض الدبلوماسيين العرب وغيرهم، ومازالت صلتي حميمة بالرجل لم تنقطع ؛ ويوم نشرت كتابي (الانتصاف لكتاب العين) سنة 2013م بعد عودتي إلى العراق بخمس سنوات وشحته بإهداء له، هو: ( إلى المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز التويجري تقديرًا لدوره في التقريب والحوار وإعجابًا بفكره وعرفانا بسابق فضله، ويعود ه الحقيقي إلى أن المنظمة مرت سنة 1999م بضائقة مادية اضطرت بسببها إلى الاستغناء عن كل خبرائها في الخارج باستثنائي، وقد جدد المدير العام عقدي مصحوبًا برسالة أشاد فيها أيما إشادة بمكانتي وسيرتي ومنزلتي العلمية، على الرغم من أني لم ألتقيه من قبل .

قلت مرت السنة الأولى من عملي على أحسن ما يرام، وقد اخترت نائبًا مغربي الأصل لإدارة المعهد باقتراح من رئيس الجامعة، وقد استطاع هذا الرجل قبل تعييني بالمنصب أن يقنعني بحسن سيرته واهتمامه هو وأسرته بي على الرغم من كثرة شکواه من رئيس الجامعة.

وبحسب ما أعرفه عن ما أعرفه عن نفسي فإني حسن النية بالآخرين، وأميل إلى الإصلاح في أي مكان أحل فيه، وأثناء عملي بالجامعة جاهدت إلى إعادة الصفاء بين أسرة الجامعة، وتحسين علاقتها برئيسها من دون إخباره بما أقوم به، أو ما يدور من أحاديث عنه بين أساتذتها.

ص: 198

كنت الشخص الثاني في الجامعة يلجأ إلي كادرها في أي أمر يعترضهم، فأحاول إقناع رئيسها بتذليله إن كان لا يتعارض مع التعليمات؛ ويوم أقيمت الندوة الفكرية العالمية فيها كان رئيس الجامعة في حيرة من أمره بشأن إسكان المدعوين وذلك للظروف المالية الحرجة التي تمر بها الجامعة وغلاء فنادق العاصمة الفاحش؛ فأقنعته بترميم الأجنحة الفارغة المخصصة لسكن الأساتذة العزاب لإسكان بعض الضيوف فيها، أما الشخصيات الاعتبارية فيمكن أن يحجز لهم في أحد الفنادق؛ وقد أدرت أغلب جلسات المؤتمر على خير ما يرام، ونجح نجاحًا كبيرًا كان سببًا بتعاون فكري مع غير جامعة ومؤسسة ثقافية عربية، ونشرت المحاضرات التي ألقيت في العدد الثاني من المجلة، بل عُقدت ندوات تربوية أخر رأستها، وقد ربطتني علاقات طيبة بمندوبيها .

وفي أثناء السنة الأولى أيضًا ربطتني علاقات حميمة مع الجالية العربية، وسفراء الدول العربية بالنيجر ، وكذا سفير النيجر بليبيا، وبالقائمين على فرع منظمة الدعوة الإسلامية بها، وكنت سببًا بدعوة بعض أساتذتها للتدريس بالجامعة أو حضور نشاطاتها الثقافية من دون تكليف الجامعة بمصاريف مادية، ويوم عاد مدير فرع المنظمة إلى ليبيا بسبب انتهاء مدة عقده أقنعت أحد أساتذة المنظمة أن يحلّ مكانه ويدرس في الوقت نفسه بالجامعة، وهو من خيرة الأساتذة الليبيين علمًا وثقافة وسلوكًا ومازالت تربطني بالرجل الطيب الدكتور مسعود الوزاني علاقة

ص: 199

حميمة إلى يومي هذا، وقد اضطر بسبب بسبب وضعه الصحي والأحداث التي ألمت بليبيا مفارقتها والسكن في إيطاليا.

كان طلبة المعهد بعد انتهاء الفصل الدراسي الأول يطبقون في المدارس الثانوية بالنيجر، وكنت أقوم رفقة المعاون بزياراتهم في المدارس لتقويم مسيرتهم والتوثق من التزامهم بساعات الدرس ، ومرت تلك السنة على أفضل ما يرام، لم يعكرها أي معكر كما سبق القول.

حلت السنة الدراسية الثانية، وفي أثنائها زارني مدير الإدارة يعلمني أن أحد الأخوة السودانيين وصل إلى الجامعة وهو لا يملك أجرة عودته إلى العاصمة، ويطلب مني إقناع رئيس الجامعة بالتعاقد معه، وحين علمت بوضعيته الحرجة هدأته، واتصلت من فوري بمدير الإسكان لتهيئة مكان مناسب لإسكانه، كما اتصلت بمدير المطعم لتمكين الرجل من وجبات طعام مناسبة ، كل هذا قبل إعلام رئيس الجامعة، ومن فوري ذهبت إلى رئاسة الجامعة لإقناع الدكتور الودغيري بالتعاقد مع الرجل بسبب بسبب الحاجة إلى خدماته في المعهد الذي كانت شهادته تعادل شهادة الماجستير، فوافق بعد حوار وتعاقد معه مدة فصل دراسي قابل للتجديد، وكنت سعيدًا أيها سعادة بما قدمته للرجل بسبب حميمية علاقتي بالشعب السوداني.

وكان معاوني بسبب خبرته في التفتيش هو المسؤول الأول على زيارة الطلاب في مدارسهم ومتابعتهم، وظننت أن الرجل يقوم بواجبه لثقتي به، وتبين لي أنه لم يقم بزيارة أحدهم في ذلك الفصل.

ص: 200

كان الرجل السوداني الذي قدمت له ما قدمت قد انقطع فجأة عن زيارتي وتحول إلى حية رقطاء يكتب عني تقارير لرئيس الجامعة يتهمني فيها بالتكبر ويعلمه بتقصير الإدارة بعملها، فاتصل بي الدكتور الودغيري يعاتبني، فأجبته هدوء واعتذرت له إن كنت مقطّرًا، وأعلمته أن ما حدث هو بسبب تقصير معاوني لأنه المسؤول عنه؛ وأصابني العجب من موقف السوداني السيء بعد كل الذي قدمته له، وما إن عدت إلى غرفتي حتى وجدتها مناسبة كي أتخلص من إسار الإدارة الذي لم أكن راغبا فيه أصلا، فكتبت رسالة في غاية الدبلوماسية لصاحبي أطلب فيها إعفائي من إدارة المعهد وبعد استلامه طلبي بعث إلي يعتذر عن المكالمة ويطلب منّي بإلحاح سحب طلبي، وشعرت من حينها أن شرخًا حدث في علاقتنا الإدارية، ومرت الأيام ثقيلة بالنسبة لي، واستطاع معاوني المغربي التسلق بسرعة إلى رئيس الجامعة في وقت كان لا يترك مناسبة إلّا غمزه فيها ، بل تغيرت علاقته تغيرًا ملحوظًا فجأة أيضًا فأهملته، واستطاع بثعلبيته تعميق الشرخ الذي حدث بيني وبين رئيس الجامعة.

يوم جاء موعد احتفال الطلبة بمناسبة قرب انتهاء العام الدراسي حضره الرئيس وبقية التدريسيين والإداريين وألقيت فيه بعض الكلمات، وبعض القصائد منها قصيدة للطالب حيدر السابق الذكر ظننتها تشيد برئيس الجامعة وما قام به من أعمال لتطويرها، وتفاجأ الحضور أن القصيدة كانت كلها إشادة بي، وليس فيها أي ذكر لرئيس الجامعة وما إن انتهى الطالب من إلقاء قصيدته حتى خرج رئيس

ص: 201

الجامعة من استراحة ثالثة في رمضان الاحتفال، ولا أشك في أن قصيدة الطالب تلك قد أثرت سلبًا على نفسيته، ولم تكن مناسبة وسط ذلك الجمع ، وقد لمت الطلب لوما شديدًا عليها كان يشرف على إدارة الامتحانات مدرس أردني، حذرني منه رئيس الجامعة ومن آخر فلسطيني من اليوم الأول الذي التقيته، وذكر لي نيته بإلغاء عقدهما في أقرب فرصة، ولكني بنية سليمة تشوفت ما يحدث لهما حين يلغى عقدهما إذ إنهما من الحاصلين على شهادة الماجستير من جامعة محمد بن سعود، وهي لا تؤهلهما للعمل في غير هذه الجامعة، وعلى كل حال أقنعت رئيس الجامعة بتجديد عقدهما لتلك السنة.

وبعد أداء امتحانات نهاية العام وخروج النتائج ضج طلبة الجامعة بسبب كثرة الأخطاء التي وقعت فيها، وأعلنوا الإضراب وامتنعوا عن أداء بقية الامتحانات؛ ووصلني خبر أنهم قرروا حرق الجامعة وقتل مدير الامتحانات؛ فاتصلت برئيس الجامعة، وأوضحت له خطورة الموقف، وسألته إن كان يرغب أن أتدخل لحل الإشكال، فوافق على مسعاي. فتداولت الأمر مع الدكتور سعيد النُّوتي، وهو أحد الأساتذة المصريين النجباء، وكان من المقربين إلي وإلى الطلاب، بل لم ينقطع حبل المودة بيننا حتى الآن، وطلبت منه جمع رؤساء اتحادات طلبة الغرب الإفريقي المنتمين للجامعة، ودعوتهم إلى داري، فذهب إلى القسم الداخلي وأيقظهم من النوم وجاء بهم في ساعة متأخرة، فناقشت الأمر معهم لمعرفة طلباتهم، وأقنعتهم إن الجامعة ليست ملكا لأحد، وإنما هي ملك أجيال طلاب الغرب الإفريقي، وأن

ص: 202

الأستاذ الذي وقع في الخطأ يمكن تدارك خطأه بالعودة إلى دفاتر الامتحانات وسجلاتها لمعرفة مواطن الخطأ لتلافيها، ، عليهم تشكيل لجنة برئاستي وعضوية من يختارونه من الأساتذة، فشكلت اللجنة واعتبرت اليوم الذي يلي اللقاء عطلة لأنه تجاوز الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وجميع طلبة الجامعة كانوا بانتظار ما اتفق عليه رؤساء اتحاداتهم معي.

بعد انتهاء اللقاء اتصلت برئيس الجامعة، وأعلمته بحل الإشكال، فشكرني على مسعاي، كما شكر صاحبي الأستاذ المصري الدكتور سعيد النوتي الذي ساعدني بجمع الطلاب في بيتي ومناقشة قرارهم في الإضراب وغيره.

استمرت اللجنة في المراجعة أيامًا معدودات، وكانت النتيجة تستحق إضراب الطلبة بسبب كثرة الأخطاء التي تجاوزت نصف النتائج بكثير، وكأن مدير الامتحانات لم ينظر في أي دفتر من الدفاتر ولا أدري كيف نقل الدرجات إلى السجل العام بسبب كثرة الأخطاء الواردة فيها.

بعدها اتخذ رئيس الجامعة قرارًا بإعفاء ثلاثة من التدريسيين، فلم يجدد عقد السوداني الذي بدأ يحث التدريسيين على تأسيس نقابة لهم تطالب بحقوقهم قبل أن يمدد عقده بحسب الإجراءات التي يسير عليها قانون الجامعة، وكأن الله أوقعه في شر أعماله، وانتقم لي منه كما ألغى عقد مدير الامتحانات وصاحبه الفلسطيني لجنسية.

ص: 203

فما كان من الأردني إلا أن كتب رسالة بعثها بالفاكس إلى جميع المؤسسات الإسلامية الداعمة للجامعة، وفي مقدمتها نسخة للمدير العام لمنظمة الإيسيكو، وأخرى للأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وثالثة إلى رئيس مجلس أمناء الجامعة، ورابعة إلى رئيس البنك الإسلامي يشكو فيها رئيس الجامعة ويتهمه بتهم باطلة، ويشكوني أيضًا بتهم أنا براء منها إذ ذكر فيها أن براء منها إذ ذكر فيها أن رئيس الجامعة تعاقد عراقي شيعي جاء لتحويل عقائد الطلبة إلى المذهب الجعفري، وأنه يلتقي بالسفير الإيراني بغية قبول الطلبة الخريجين في إيران أو نقلهم قبل تخرجهم إليها، وأنني ورئيس الجامعة نرتاد الأماكن المشبوهة، وما إلى ذلك من تهم، وكلانا براء منها. وقد استلمت نسخة من تلك الرسالة كما استلمها غيري من التدريسيين، وفي طريقي إلى ليبيا عبر المغرب اتصلت برئيس الجامعة، ونزلت في ضيافته ثلاثة أيام، وسلمته نسخة من تلك الرسالة الظالمة، بعدها اعتذرت له بسبب انشغالي بأمر الحصول على تأشيرة تونس للذهاب عبرها بالسيارة إلى ليبيا التي كانت محاصرة آنذاك، ونزلت في أحد الفنادق بوسط العاصمة الرباط.

عدت إلى الجامعة بعد انتهاء العطلة الصيفية، ودعوت الكادر التدريسي أسألهم عن موقفهم من تلك الرسالة الظالمة، فاجتمعوا وحبروا رسالة أبردوها بالفاكس أيضًا إلى جميع الجهات التي راسلها ذلك الأستاذ تنصف رئيس الجامعة وتنصفني، ومازلت أحتفظ بين أوراقي بالرسالتين، ولكني لا أتذكر بأي مخبأ خبيتهما.

ص: 204

وبعد ابتداء العام الدراسي وحلول إجازة نصف العام سافر رئيس الجامعة إلى السعودية للقاء رئيس مجلس الأمناء، فأبلغه بلهجة قاطعة بضرورة إلغاء عقدي، إذ كيف يأتي بأستاذ شيعي للتدريس بها، ويمنحه تلك المكانة الإدارية فيها؛ فشرح له ما قمت به من أعمال ركزت مكانة الجامعة في الوسط الثقافي الأكاديمي العربي الإسلامي، وأنه كان مثالاً للأستاذ الجامعي الملتزم علمًا وخلقا وإدارة، فلم يقتنع، وطلب منه إذا شاء تكريمي والاحتفاء بي وإنهاء عقدي، فامتنع رئيس الجامعة وقدم له استقالته إذا أصر على رأيه بحسب ما أعلمني الدكتور الودغيري، ولكن رئيس المجلس رفض الاستقالة وأصر على طلبه، وقد حدثني بكل ذلك الدكتور عند عودته، وأراني صورة استقالته، وأعاد رئيس مجلس الأمناء طلبه ثانية، في زيارة رئيس الجامعة الثانية للسعودية، ولكن الرجل الطيب لم يوافق على إنهاء عقدي مرة ثانية، فكان لزاما عليّ أن أجد وسيلة للخروج من النيجر.

كانت تربطني علاقة طيبة مع الدكتور المختار ولد أباه الذي رئس الجامعة من قبل، وكان أيضًا أمينًا مساعدًا لمنظمة المؤتمر الإسلامي من قبل، وأصبح من بعد مستشارًا لجلالة الملك الحسن الثاني، فكاتبته فردّ علي برسالة طلب مني فيها التريث باتخاذ أي قرار، وأنه سيلتقي رئيس مجلس أمناء الجامعة ويحسم الأمر معه، وفي ذلك الوقت كانت تربطني أيضًا علاقة طيبة بالأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد وهو من النيجر، فالتقيته وشرحت له موقف رئيس مجلس

ص: 205

الأمناء من أمر بقائي بالجامعة، وطلبت منه التدخل لنقلي إلى جهة أخرى، فطلب مني التأني وأنه سيتدخل لحسم الأمر.

حين وصول أعضاء مجلس الأمناء إلى الجامعة لم أخرج من غرفتي للترحيب بالأمين ومن معه على غير عادتي تعبيرًا عن احتجاجي من موقفه الظالم ، وعلى الرغم من شديد إلحاح مدير مكتبي على الخروج فإني لم أخرج.

ولكن بعد انتهاء جلسة المجلس دخل على الدكتور ولد أباه، وهو عضو في المجلس وحدثني عن موقف مرّ به في موريتانيا إذ كان وزيرًا فيها، وحين حدث الانقلاب تعرض لمحاكمة، وطلب منه أصدقاؤه عدم مناقشة القاضي فيما يدلي به وهم يضمنون له البراءة وقال لي: إنه وحامد الغابد أقنعا رئيس مجلس الأمناء بالتراجع عن قراره، وهو يطلب منّي الاستماع لما يقوله لي حين ألتقيه من دون تعليق على ما يقول.

بعد انتهاء الاجتماع أرسل علي الشيخ ناصر حمدان رئيس مجلس الأمناء، فسلمت عليه سلاما جافًا، وطلب مني أن ألتقيه في الفندق عصر ذلك اليوم بعد لقائه برئيس الجمهورية.

ذهبت في الوقت المحدد إلى الفندق، وكان هو في زيارة لرئيس جهورية النيجر العادة. وبعد مرور ساعتين من الانتظار وصل إلى الفندق وأراد أن يختصر المقابلة بحجة قرب موعد سفره، وقال لي: يمكنك أن تبقى في الجامعة شريطة عدم بحسب تدخلك بأمور مذهبية أو طائفية. فقلت له بلهجة قاطعة لا تعرف الدبلوماسية ، أنا

ص: 206

أنتظر وصولك منذ أشهر، ولابد أن أتحدث معك حتى لو تأخرت طائرتك، وحال وصلي إلى غرفته قفلت بابها، كي لا يتدخل أحد فيقطع حديثي معه، وأعلمني أنه لم يصل بعد، فأعلمته أني لم أصل أيضًا، فصلينا، وبعد انتهاء الصلاة قلت له من غير مقدمات: أما تستح على نفسك تطارد أسرة كل ذنبهم أنهم ليسوا على مذهبك، وكأنهم من غير المسلمين، ثم هل تتصور أن سبل العيش قد أغلقت في بابي وأنا من أساتذة الجامعات المعروفين، يضاف إلى هذا أن بإمكاني السفر إلى إنكلترا لو شئت، ولاسيما أن قرباء زوجتي ومنهم السيد محمد بحر العلوم فيها، وقلت له من بين ما :قلت يسمونك الشيخ ناصر حمدان، وأنت رئيس إحدى المصارف الإسلامية نفسك داعية إسلاميّا فهل إسلامك هذا لك فعل ما فعلته بي من تشويه لسمعتي وإصرار على فسخ عقدي مع الجامعة، وكأني حين يفسخ عقدي سأموت من الجوع، وكأني ارتكبت جرمًا كبيرًا على الرغم من الأعمال التي قدمتها للجامعة بالتعاون مع رئيسها ترى هل أخبرك أحد من أساتذتها أو موظفيها أو طلبتها غير ذلك الشرير الذي أنقذته من القتل بأني تدخلت بأمر من أمور عبادتهم، أو قصرت معهم ، وبعد حديث طويل شديد اللهجة لا تستوعبه ذاكرتي إذا مر عليه قرابة أربعة عقود نزل من عليائه وقال لي بلهجته الإماراتية، إنه سبق أن كان سفيرًا لدولة الإمارات في العراق وإنه يحب العراقيين، وأنه على علاقة طيبة بالسيد بحر العلوم، وأن لي منتهى الحرية بالتصرف في الجامعة كما أشاء.

ص: 207

في هذه الأثناء طرقت الباب ففتحتها، وإذا برئيس الجامعة يحمل محضر اجتماع مجلس الأمناء لتوقيعه، ومن دون مقدمات قال له الشيخ ناصر بلهجة طريفة : هذا العراقي كاد يقتلني؛ دعه يبقى ويفعل ما يريد، هنا نزع الرجل الطيب رئيس الجامعة خاتمه، وقال له: ألم أقل لك إن هذا الرجل صُنع من ذهب، وكلما دعكته ازداد بريقًا ولمعانا . هنا قلت لهما: إن نفسي عافت هذه البلاد، ولا شك أنّي خارج منها.

كتبت رسالة مطولة إلى الدكتور التويجري المدير العام منظمة الإيسيسكو أعلمه فيها برغبتي بالانتقال من النيجر لأسباب خاصة، إلى أي بلد تقترحه المنظمة، أو التفضل بقبول استقالتي، وانتظرت الرد أكثر من شهر كان ثقيلا عليّ وعلى أسرتي، وبعد أن شارفت على اليأس من ردّ المنظمة حملت نفسي إلى المغرب مقر المنظمة كي أعرف نتيجة الأمر، وتبين لي أن المدير العام المساعد عمر توري، تقديرًا لنجاحي وشديد إعجابه بي من دون أن يراني يرغب بنقلي إلى دولة تجاد، ففيها فرع للمنظمة، ولمديرها ميزانية خاصة، ومخصصات مجزية، وكنت في حينها اتخذت قرارًا بمفارقة إفريقيا إلى الأبد، فشكرت الرجل الطيب على تقديره، وأعلمته بقراري، فاقترح علي الذهاب إلى البوسنة والهرسك، ولم أكن في حينها أعرف شيئًا عنها باستثناء الحرب الجائرة التي كانت دائرة فيها فوافقت من فوري وللحديث عن البوسنة والوصول إليها مناسبة أخرى.

ص: 208

رئيسة بلدية سخيدام في هولندا تحتفي بكتابي مرقد أمير المؤمنين

الصورة

أربع سنوات عجاف مرّت على أسرتي قبل حصولهم على الإقامة الدائمية والجنسيّة الهولندية؛ كانت زوجتي في أثنائها تنزل كل يوم من شقتها إلى الطابق الأرضي كي تفتح صندوق البريد لعلها تعثر على كتاب من إدارة الإقامة يعلمها بالموافقة على حصولهم الجنسية الهولندية أو الموافقة على إقامتهم، وفي أثنائها كان عليها أيضًا أن تذهب كل أسبوع إلى مركز الشرطة كي توقع الحضور فيه، وما كان بمقدورها مغادرة المدينة إلى مدينة أخرى إلا بموافقة رسمية.

ص: 209

كانت الأيام تمرّ عليهم ثقيلة متخمة بالقلق خوفًا من صدور قرار بعدم الموافقة على إقامتهم، وترحيلهم إلى شمال العراق لأنه آمن بزعمهم، وهكذا كانت الأيام تتبعها الأشهر، وهم بانتظار النتيجة.

ويوم صدر قرار الملكة بمنحهم الجنسية حلّت فرحة كبيرة في البيت لم تعدلها أية فرحة منذ خروجنا من العراق إلى اليوم الناس ذاك لا لأن الأسرة كانت في ذلك الحين حريصة على الجنسية، وإنما لأنّ الأوضاع في العراق كانت لا تطاق، ولا نستطيع التأمين على حياتنا، ولاسيما أن عشرات المعدومين والمسجونين والهاربين من جور النظام من أسرتينا.

وفي تلك الأيام كان يحتفى بالحاصلين على الجنسية، إذ تستقبلهم رئيسة البلدية باسم الملكة لتبليغهم بقرارها ، وتهنئتهم ، ورئيسة البلدية بمنزلة المحافظ في بلادنا. أما أنا ففي ذلك الحين كنت مقيمًا إقامة عمل بجوازي العراقي، ولا أظن آخر أقام في تلك البلاد بجوازه العراقي غيري.

واصطحبتهم في اليوم المعلوم إلى بهو البلدية لمقابلة الرئيسة. فالتقينا فيه مجموعة من الحاصلين على الجنسية قد سبقونا، وطلب منا من بعد الانتقال إلى صالة أخرى استقبلتنا فيها تلك السيدة مرحبة أجمل ترحيب وأعلمت الحاضرين أنهم أصبحوا يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها الهولنديون بما في ذلك حق الترشح لمجالس المحافظات، أو للمجلس النيابي، وعليهم الواجبات نفسها التي يلتزم بها الهولنديون.

ص: 210

وصادف قبل مدة صدور كتابي الموسومين ب- ( مرقد أمير المؤمنين وضريحه، وما أدراك ما علي)، فرأيتها مناسبة أعرف الرئيسة بأننا من الأسر العلمية المعروفة في ،العراق، ومن سكنة أقدس مدنه، وأن أمير المؤمنين عليه السلام أعدل حاكم عرفته البشرية بحسب قرار الأمم المتحدة، وكان الدكتور وائل الخطيب ابن سفير العراق السابق الدكتور حسين الخطيب حفظه الله قد ترجم موجزًا للكتابين إلى اللغة الهولندية؛ فطلبت مقابلتها رسميًّا لتقديم الشكر بمناسبة حصول عائلتي على الجنسية، ولتقديم هدية لها في هذه المناسبة؛ وأرسلت لها رفقة الطلب الترجمة الموجزة عن الكتابين اللذين يمثلان وجه الإسلام وتاريخه ووسطيته ودور الإمام علي عليه السلام في تثبيته ونشره؛ وتحدد موعد المقابلة، واصطحبت أسرتي وبرفقتي المهندس علي الطريحي الذي أصبح من بعد زوج ابنتي رفقة أبيه القاضي محمد جواد الطريحي لتمكُن عليّ من اللغة الهولندية، إذ لم نكن قد تمكنا منها.

كانت الهدية عبارة عن صندوق مصنوع بالرّيازة الخاتمية الممتازة التي اشتهرت بها مدينة أصفهان، وحلّيت واجهته بجملة (وما أدراك ما علي)، حروفها من العاج، ووضعتُ في داخله نسخة من كتاب المرقد.

استقبلتنا تلك السيدة بترحاب شديد ودار حديث عن الإسلام ومثله وقيمه الذي لم تكن تعرف عنه أي شيء، وتظن أنه ليس غير الطواف حول الكعبة، الذي لا تعرف له أي سبب، وذكرت أنها بعد اطلاعها على الرسالة عرفت من شيئًا ليس بقليل عن الإسلام.

ص: 211

حين قدمت لها الصندوق، أخرجت منه كتاب المرقد فتصفحته، ونظرت بانبهار الصوره، فحدثناها عن المرقد وصاحبه بكثير من الإيجاز، ورافقتها في تلك الجلسة إحدى عضوات البلدية.

سرت رئيسة البلدية سرورًا بالغا بالهدية، ولكنها قالت: لا أستطيع استلامها لأن قيمتها تتجاوز الخمسين يورو، والقانون لا يسمح لها استلام هدية بهذا الثمن وقالت: سآمر بصناعة صندوق زجاجي توضع فيه هديتكم في صالة كبار الزوار للاطلاع عليها ؛ وبسرِّي لم أصدق ما ذكرته ، ولكن بعد مرور قرابة عام مررت على تلك الصالة فرأيت الصندوق الزجاجي وفي وسطه صندوقنا وقد وضع بصورة تبين قيمته الماديّة، وفي وسطه فتح الكتاب على صفحة فيها مرقد الإمام علي عليه السلام.

أما عضوة البلدية التي كانت بصحبتها، فطلبت مني زيارتنا في بيتنا، فرحبت بها، وفي أثناء الزيارة حدثتني عن شديد إعجابها بالصندوق، وبصاحب المرقد، وطلبت مني نسخة منه ومن الكتاب إن كانت متوفرة لدي، كي تضعها في صالتها، فقدمتهما لها مرفوقا بالترجمة التي سبق ذكرها.

ولا يهمني اليوم ا أمر الصندوق وما فعلوه ،له وإنما الذي يهمني اعتذار رئيسة البلدية عن قبوله، وهي بمزلة المحافظ في بلداننا لأن ثمنه يتجاوز الخمسين يورو. ترى وفي فمي غصة هل يمكن أن نقف على مثل هذا السلوك الوظيفي في وطننا الإسلامي الكبير !!؟

ص: 212

أ.د صلاح مهدي الفرطوسي

إشادة بقلم الأديب الطالع الأستاذ مهدي الشعلان

ونشرها في كتابه نجوم ثقافية في سمه نجفية ربطتني بالأخ الشعلان نائب الأمين العام لاتحاد الكتاب والمؤلفين في النجف الأشرف علاقة طيبة تعود إلى سنة 2013 م ، إذ التقيته أول مرّة في الاتحاد بمناسبة حفل التكريم الذي أقامه لي كوني من الوجوه النجفية التي خدمت المدينة بصدق وإخلاص.

والحديث عن الاتحاد العام لأدباء والكتاب في النجف يحتاج إلى وقفة مطولة لدوره الواضح في نشر الثقافة النجفية منذ تأسيسه قبل قرابة أربعة عقود، وإلى يوم الناس هذا، وأنت حينما تستعرض نشاطه خلال تلك العقود ستأخذك دهشة مشوبة بالإعجاب والتقدير لما قام به أعضاؤه من نشاط ؛ وإذا كان قد زاحم اتحادات الأدباء في محافظات العراق في نشاطه فزحمها، فإنّ دوره لا يقل أهمية عن دور الاتحاد العام في بغداد، أو البصرة، أما كتابه وأدباؤه وشعراؤه فهم الطليعة بين كتاب العراق وأدبائه.

والتقيت الأخ الشعلان من بعد في مكتب عميدة كلية التربية الأساسية طيبة الذكر الأستاذة الدكتورة ابتسام عبد الكريم المدني، وهي من طلبتي الذين درستهم في كلية التربية بجامعة بغداد، ولهذه السيدة أياد لا أنساها طوقتني بها طيلة خدمتي بتلك الكلية الطالعة؛ فأبدى لي الرجل شديد إعجابه بشخصي؛ ثم بعد سنة أو سنتين زارني مشكورًا في بيتي، وقدم لي نسخة من كتابه (نجوم ثقافية في سماء

ص: 213

نجفية سلط الضوء فيه على مجموعة من أدباء المدينة وبعض أساتذة جامعة الكوفة، ممن كان لهم دور في الحياة الثقافية ومشاركة مذكورة في خدمة المدينة. وخصني بالكتاب المذكور بمملحة تجاوزت قدري عرض فيها جوانب من سيرتي الشخصية، فله الشكر والتقدير والمنّة، هي:

نجمنا لهذه الحلقة ابن بار لتسامح هذه المدينة ووسطيتها واعتدالها، ولد سنة 1946م في النجف، وكان عاشقا لها، درس جانبًا من مراحله الأولى فيها، وأكمل دراسة الثانوية في إعدادية كربلاء، وتخرج سنة 1963م متفوقا على أقرانه ليبدأ مشواره الثاني، وكان يتوق دخول قسم التاريخ في كلية التربية ببغداد ظناً منه أن الدكتور مصطفى جواد يدرس فيه، وعندما قيل له: إن جواد يدرس في قسم اللغة العربية غيّر رأيه، ودخل في ذلك القسم ليتعلم على يد هذا اللغوي الجهبذ، وفعلًا تحقق له ما يريد، وكان محظوظا بين زملائه الذين أصبحوا فيما بعد من ألمع أساتذة العراق وأدبائه، ومنهم الشاعر الراحل الكبير محمد علي الخفاجي الذي ظلم في حياته، ويكفيه فخرًا أنه كتب مسرحية عن الحسين عليه السلام فكافأته الدولة آنذاك بنقله من التعليم إلى دائرة الضريبة العامة ببغداد.

ستقولون لي بعد هذه المقدمة: تشوقنا إلى معرفة اسمه، فأجيبكم بكل محبة عنه هو البروفيسور صلاح الفرطوسي لكي نرحل معه ونطلع على تجربته التي امتدت لأكثر من نصف قرن في رحلة متألقة مع الهم الفكري والأكاديمي.

ص: 214

في سنة 1969م ذهب إلى مصر الكنانة لدراسة الماجستير بكلية الآداب - جامعة القاهرة، فحصل عليها بتقدير جيد جدًّا، وكان المشرف على رسالته أفضل من كتب عن الشعر في الكوفة في زمانه، وهو طيب الذكر الفقيد الدكتور يوسف خليف رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة آنذاك.

فعاد إلى بلده وهو يشعر بالفخر لأنه حصل على هذه الشهادة في اللغة العربية أسوة بأقرانه النجفيين كالدكتور محمد حسين الصغير والدكتور زهير غازي زاهد والشيخ أحمد الوائلي ،وغيرهم، ويذكر في تجلياته بأن ليلة عودته إلى بغداد لا تفارق ذاكرته، إذ إن الرئيس المصري الراحل أنور السادات قرر فجأة زيارة إسرائيل، وفي الليلة تلك أمر بجمع جاليات دول ما يسمّى بالممانعة وتسفيرهم إلى بلدانهم، وكان الدكتور الفرطوسي قد أكمل رسالة الدكتوراه ولم يناقشها بعد.

في أوائل سنة 1979م حصل على الدكتوراه في اللغة العربية من جامعة بغداد بتقدير امتياز، فعين في السنة نفسها مدرسًا بقسم اللغة العربية في كلية التربية، ولكن طبول الحرب الشرسة دقت أبواب بغداد عام 1980 ، فغادر العراق بأعجوبة إلى المغرب ليعمل أستاذًا في جامعة محمد بن عبد الله بمدينة فاس، ومن ثم أستاذا بجامعة صنعاء في اليمن، ومن بعدها في جامعة السابع من أبريل بالزاوية في ليبيا، ثم الجامعة الإسلامية بالنيجر، ومن بعد في كلية الفلسفة بجامعة سراييفو في دولة البوسنة والهرسك، ثم إلى جامعة روتردام الإسلامية بهولندا.

ص: 215

في رحلته إلى المغرب أضاف إلى المكتبة العربية شيئًا كثيرًا، وصور منها مخطوطات عدّة، وتعرف على رموز الثقافة المغربية يذكر منهم محمد العربي الخطابي وعبد السلام الهراس وعبد العلي الودغيري وغيرهم كثر.

عاد إلى كليته ببغداد سنة 1984م ، ثم رحل إلى مغتربه ثانية سنة 1993م بعد أن اشتد الخناق على أصحاب الكفاءات، وتعرض البلد إلى حصار دولي ليبدأ خلال هذه الحقبة التي امتدت إلى عام 2008م، رحلة ملئت بالعطاء الفكري الثر، ثم عاد إلى العراق بعد غربة دامت أكثر من خمسة عشر عامًا، وتبرك في يوم عودته الأول بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام، ثم زار أمانة العتبة العلوية المقدسة، وقدّم لأمينها العام وأعضاء مجلس إدارتها نسخًا من كتابيه (مرقد أمير المؤمنين وضريحه، وما أدراك ما علي) ووضع نسختي الكتابين في صندوق ثمين صنع في أصفهان خصيصًا كي يقدمه لصاحب المرقد عليه السلام، وقد بادر السيد مهدي الحسيني الأمين العام للعتبة بوضع هذه الهدية في خزانة داخل شباك المرقد وما كان الفرطوسي يحلم بمثل هذا التكريم.

ثم توالى التكريم والاحتفاء به حيث قرر مجلس كلية التربية الأساسية في جامعة الكوفة تسمية قاعة الكلية باسمه اعترافًا بخدماته التي شملت جميع نواحي العلم، وعندما يذكر هذا التكريم يقول : كل الذي قدمته قليل بحق مدينتي ووطني وطلبتي؛ لا أدري ماذا أسميه غير أنه من تواضع العلماء، وكان غاية الفرح بهذا

ص: 216

التكريم، ويسجل لهذه الكلية بأنها كسرت المألوف، واحتفت بالأحياء على عكس المتعارف عليه وذلك بتكريم الراحلين.

وكان للعميدة العلوية الدكتورة ابتسام عبد الكريم المدني دور كريم في إقناعه بتمديد خدمته الجامعية بعد دخوله سن السبعين ليصبح إلى يومنا هذا أستاذا بها، وهو يثمن هذا الدور، إذ كان محباً لطلبته، ويقول: إنهم أبنائي أسعد لسعادتهم، وأفرح بتقدمهم وتفوقهم.

ومن حسن طالعه أن كليته القديمة ابن رشد كرمته أيضًا في حفل بهي بتسمية إحدى قاعاتها باسمه ويعدها مكرمة كبيرة يذكرها لعمادتها ممثلة بتلميذه البار الدكتور علاوي.

كان يعتز كثيرًا بالمشاركة بتأسيس الجامعة الحرة في هولندا، وقد اختير رئيسًا لمجلس أمنائها، وكان الحدث الأكبر في حياته يوم اختياره عضوًا العربية بدمشق، ، فأقامت الجامعة الحرة في تمام الساعة السابعة من مساء يوم السبت الموافق 2007/6/30م حفلاً بهيًّا حضره جمهور من أبناء الجالية وبعض من أعضاء الهيأة الدبلوماسية، كما حضره المستشرق الكبير الدكتور كونسفلد وغيره وحضره أيضًا بعض الفنانين العراقيين في مقدمتهم الفنان الجميل حمودي الحارثي وقد كرم الدكتور الفرطوسي في هذه المناسبة الفنان الحارثي والدكتور كونسفلد وغيرهما.

ص: 217

والفرطوسي عالم زاده التواضع ومحبته ووفائه للجميع، كنت أتمنى قبل عام أن أكتب عنه لكن الفرصة سنحت لي بنفس ما تمنيت عندما التقيته مؤخرًا في اتحاد الأدباء في النجف الأشرف ليقدم سيرته الإبداعية باختصار شعرنا جميعًا بحلاوتها، وأنا أشكر أخي الدكتور باقر الكرباسي والهيئة الإدارية على هذه الاستضافة التي حفزتني لكي أفي بوعدي وأكتب أعنه هذه السطور، وبقي أن أقول: ملح هذه الرحلة هي تآليفه التي تجاوزت العشرات ومن أهمها: محاضرات في علم الصرف، والثوية بقيع الكوفة، واستراحة ثانية في رمضان وما أدراك ما علي، والأحنف بن قيس والشاعر الملحمي عبد المنعم الفرطوسي، ورجال من بقيع الكوفة، والمثلث لابن السيد البطليوسي ونصوص معجمية فريدة ومختصر العين لأبي بكر الزبيدي، وغيرها من الكتب التي نورت المكتبة العراقية والعربية والعالمية.

لقد تميز أيضًا بكتابة الرسائل إلى الأصدقاء التي عبر فيها عن عتابه لبعضهم، ووفائه للبعض الآخر في كتابه استراحة ثانية في رمضان وهو في السيرة واللغة والأدب ومكارم الأخلاق، وفي رسالة له وصفها بالمملحة إلى صديقه العزيز عباس الفحام بمناسبة صدور كتابه دراسات في الشعر العربي) أثنى فيها على منهجيته في البحث، وخاصة عند تناوله السخرية في الشعر، إذ وقف على قصيدة للجواهري وقف عليها القراء والنقاد وقوفًا عابرًا من قبل، وهي قصيدة طرطرا التي مطلعها:

أي طرطرا تطرطري تقدمي تأخري

ص: 218

ورأى فيها أن السخرية تلك تجد فيها حركة من التموجات المتعارضة البنية في المديح والهجاء والسخرية، وقد كان لتعليقه على كتاب المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم علي بن أبي طالب سلطة الحق الذي قال عنه: إنه فاز به على جائزة الشهادة، وكتب عنه مقالة سنة 2004م بعد سقوط النظام في صحيفة الزمان وكانت شهادة صادقة نقلها محقق الكتاب الأستاذ جعفر الروازق ونشرها عام 2 م مقدمة لكتابه الذي حقق فيه الكتاب المذكور.

والفرطوسي يتمتع بعلاقة تاريخية مع الكاتب الشهيد الذي بدأ يساريًا موسوعيًا، وتحول في بداية الثمانينيات إلى مشروع كتابة إسلامية جريئة وتنويرية أعطت للفكر الإسلامي حيوية وانفتاح على الأفكار الإنسانية الأخرى، وقد كانت أربعة كتب خصصها عن الخلفاء الراشدين وانتهت بحكومة أمير المؤمنين عليه السلام بكتاب علي سلطة الحق الذي توجه شهيدًا بعد أن اقترف النظام جريمة إعدامه (الكتاب الذي أعدم بسببه طبع في بيروت قبل اقتياد الكاتب رفقة أخيه محسن الموسوي إلى الأمن العامة، والكتب التي أشار إليها الكاتب كتبت في سجن الأمن العامة ولها قصة تذكرنا بظلام تلك الأيام.

----------------------

وفي رسالة تهنئة أخرى للفقيد الأستاذ محمد حسين الأعرجي بمناسبة صدور كتابه الأمثال المولدة كان يرى أن الأعرجي من ألمع أبناء جيل السبعينيات، وأكثرهم حركة ونشاطًا، وقدرة على الرد والمطاولة، والسبب في جلادته وإيمانه القاطع بما يراه الأحداث المريرة التي كانت تمرّ بها جامعات العراق، وما تتعرض له من

ص: 219

مضايقات، وكاد يفقد رأسه في ذلك الزمن لولا مغادرته العراق بأعجوبة إلى الجزائر للتدريس فيها.

عزيزي القارئ : وصلنا إلى نهاية هذه السطور عن نجم أضاء سماء مدينتنا الثقافية ... ولسفير النجف والعراق في المحافل العربية والدولية الذي كان منشدًا بارعًا في سمفونية لغة العرب البروفيسور صلاح الفرطوسي، تحية كبيرة له، ومثلها بالحب إلى جريدتنا الغراء وهيأة تحريرها ضمير النجف دليل النجف التي استمرت في هذا المشروع الرائد الذي يذكر بهذه النجوم المضيئة في سماء مدينتنا الثقافية.

-------------------------

ص: 220

إشادة ثانية بقلم الأستاذ علي عباس التميمي

نشر الباحث الأديب الجاد الأستاذ عليعباس التميمي سنة 2021 كتابًا بعنوان (أعلام في ذاكرتي عرض فيه بأسلوب شيق سير مجموعة طيبة من العلماء والأدباء من الذين يمثلون وجه الثقافة النجفية، وبلغة فصيحة هي بنت عصره، وتناول فيه أيضًا سير مجموعة من خارج المحيط النجفي، وقد نال الكتاب إعجاب الأدباء والمفكرين في النجف الأشرف وغيرها.

وخصنى فيه بمملحة لا أستحقها، هي:

الأستاذ الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي

عرفت الأستاذ الفرطوسي عن قرب في كلية التربية الأساسية بجامعة الكوفة قبل سنوات خلت، وكانت وسيلة التعريف به الأستاذة الفاضلة الدكتورة ابتسام عبد الكريم المدني، وتعزّزت تلك العلاقة فالتقينا في بعض المنتديات الثقافية الأدبية، وأهدى لي بعض مؤلفاته.

ولد الدكتور الفرطوسي في النجف الأشرف في كانون الثاني من عام 1946م، و درس في مدارسها، ثم أكمل البكالوريوس في كلية التربية بجامعة بغداد، ليعين مدرسًا في المدارس الثانوية.

ص: 221

سافر من بعد إلى القاهرة ليكمل دراسة الماجستير في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1979م، فنقلت خدماته إلى وزارة التعليم العالي، وعين تدريسيا في كلية التربية بجامعة بغداد.

انتقل للتدريس في جامعة محمد بن عبد الله للمدة من سنة 1981 ولغاية سنة 1984م، وحصل فيها على مرتبة الأستاذية، ثم عاد من بعد إلى كليته.

انتقل من بعد أستاذ بجامعة صنعاء في اليمن وأستاذا مشاركًا في إحدى الجامعات الليبية، ثم أستاذا في الجامعة الإسلامية بالنيجر، وفيها شارك بتأسيس المعهد العالي للتربية، وتولّى إدارته، وفي أثنائها عين خبيرًا للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، ثم نقلت خدماته إلى البوسنة والهرسك خبيرا للمنظمة في المؤسسات التعليمية، وأستاذا بكلية الفلسفة بجامعة سراييفو. انتقل من بعد إلى هولندا للتدريس بالجامعة الإسلامية في روتردام، وفيها عين مديرًا للمعهد الإسلامي، وعميدًا لكلية الآداب والحضارات...

ص: 222

عطش النجف للمهندس تحسين عمارة التنويه

كتاب يستحق العرض والتنويه

قلت في غير مناسبة : إن المدن في العالم يستحيل أن تؤسس بعيدًا عن مصادر المياه، لأنها عماد الحياة الذي لا بد منه لاستمرارها ، ولكنّ عظمة الثاوي بتربة الغري عليه السلام يسّرت عليها النشأة في تلك الصحراء القاحلة مئات من السنين على غير ماء؛ وقد عانى سكانها الأمرين بسبب شحته.

كان الماء ينقل إليها على ظهور الدواب من شط الكوفة، على الرغم من طول المسافة وصعوبتها، ولكن المدينة المقدسة استطاعت مقاومة تلك الظروف العصية، واستمرت شامخة تجود بعطائها العلمي والمعرفي على المدن الإسلامية، وتمونها بمئات العلماء الذين نشروا علوم أهل بيت محمد عليهم السلام. وزخرت بطلابها الذين قصدوها للدراسة من خارج العراق وداخله وتكفلت بمؤونتهم وسكنهم، ووسائل در سهم على الرغم من ظروفها الاقتصادية الشديدة القسوة.

وكان لهجرة شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله عليه إليها، وسكنه قرب مرقد أمير المؤمنين عليه السلام أكبر الأثر في زهوها العلمي، إذ التحق به من طلاب العلوم الدينية جحافل من المدن الشيعية في العراق وإيران والسعودية والبحرين وغيرها، وحين رحل آلت المرجعية الدينية إلى ولده الحسن الذي لم يقل عنه شأنا

ص: 223

ودورًا رضوان الله عليهما؛ وقد عانى طلبتها بسبب شحة الماء الأمرين كما عانى غيرهم من سكانها إذ إن ماء آبارها ملح أجاج لا يصلح إلى شراب أو غسل.

زاحمت هذه المدينة المقدسة كبريات مدن العراق فيما كتب عنها منذ تأسيسها الفعلي زمن عضد الدولة البويهي سنة تسع ستين وثلاثمائة للهجرة على حد التقريب إلى يوم الناس هذا، إذ أخذت بعد عمارته الضريح المقدس وما رافقها من بنى تحتية وفوقية شكل مدينة آهلة بالسكان، وخاصة بعد محاولته جلب الماء إليها بطريقة هندسية غاية في الذكاء والعبقرية بالنسبة لزمانها ، فالنجف هضبة ترتفع عن نهر الفرات كثيرًا، وقد فشلت جميع المحاولات في إيصال الماء إليها، ولكن مهندسي عضد الدولة ابتكروا طريقة غاية في الذكاء وذلك بحفر قناتين تخترق الأرض من باطنها، وتستمر فتخترق النجف من أسفلها، ويصبّ الباقي من مياهها في بحر النجف لتسهيل جريان الماء، وعلى الرغم من الجهود الهائلة التي بذلت فإن الماء العذب لم يصل إلى المدينة، وقد تحدثت عنها بحسب ما أسعفتني به المصادر في كتابي مرقد أمير المؤمنين وضريحه 194 بشيء من التفصيل.

وأُلّفت عن النجف وعن الأحداث التي جرت عليها، وعن أشهر علمائها الأعلام ورجالاتها ومحلاتها حول الضريح المقدس، وعن موقعها التاريخي، وقدسيتها، وعن الضريح المبارك الذي ثوى به إمام المتقين عليه السلام كتب تصعب على الإحصاء بعضها انفرد بالحديث عنها ، وبعضها الآخر ذكرها استطرادًا أثناء الحديث عن المرقد المقدس وتاريخه، والأطوار التي مر به ومرت بها، وكان

ص: 224

من فضل الله ويمنه أن ألفت كتاباً بعنوان قبر أمير المؤمنين وضريحه الذي قامت بطبعه مشكورة مؤسسة المؤرخ العربي، وأعادت طبعه العتبة العلوية المباركة مشكورة بعنوان مرقد أمير المؤمنين وضريحه تعرضت فيه استطرادًا إلى جغرافية النجف وتاريخها والأطوار التي مرت بها، وتاريخ المرقد المقدس وما دار حوله من روايات من يوم أشهره للناس الإمام جعفر الصادق عليه السلام سنة 132ه- إلى سنة 2010م، كما تحدثت عن أطوار عمارته والهدايا المقدسة التي قدمت له على مرّ التاريخ، ومحاولات إيصال الماء إلى مدينته.

وكتبت قبل هذا العرض المتواضع عرضًا لكتاب (الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي للعلامة المؤرخ الأستاذ الدكتور حسن الحكيم الذي ذكر شيئًا غير قليل عن النجف فيه، وصدرت لي قبل هذا أيضًا بعض الكتب التي تناولت من دفن في توية ،الكوفة، وهناك أخر نشرت أو في طريقها إلى النشر، وذلك بسبب شديد تعلقي بالمدينة وصاحبها عليه السلام.

وفي أثناء إقامتي بهولندا زار بيتي في النجف الصديق العزيز المهندس تحسين عمارة، وحين لم يجدني ترك لي نسخة من كتابه القيم ( عطش النجف أمانة في مؤسسة بقيع الكوفة التي شرفت بتأسيسها، وضمنه إهداء لا أستحقه، وقد ربطتني بهذا البيت الطيب (آل عمارة ) علاقات مودة تعود إلى عقود سابقة.

وما إن وقع الكتاب في يدي بعد عودتي إلى النجف حتى هالني الجهد الذي بذله الأستاذ المهندس تحسين في تأليفه، إذ وجدته فريدًا في بابه، لا يزاحمه أي كتاب ألف

ص: 225

عن النجف على الرغم من كثرة ما ألف عنها، إذ كتب بقلم باحث موسوعي، فهو جغرافي، ومؤرخ ، وصحفي وفوق هذا وذاك مهندس تمرس بمهنته وأحبها منذ تخرجه في كلية الهندسة بجامعة بغداد للعام الدراسي 1974 - 1975م؛ وبعد مشوار وظيفي استمر لعقود جمع فيه بين الهندسة والتاريخ والإعلام تفرغ لأهم مشاريعه من وجهة نظري الذي لا أشك في أنه قد أخذ من الجهد لإنجازه ما لا تقوم ب العصبة، واختار له عنوانًا لم يسبقه إليه أحد أيضًا وهو (عطش النجف)، وقد أصاب في الاختيار إذ مرت المدينة بقرون وهي تشعر بالظمأ الشديد، وما اغتسل سكانها غسلًا يزيل كامل الدرن عن أجسادهم فيما أحسب إلّا بعد تأسيس الماء والكهرباء فيها سنة 1943م، إذ كان الماء الذي يستحمون به أو مشروعي يغسلون أوانيهم وملابسهم به ملح يستخرج من آبارهم في غالب الأحيان.

وقد يكون بحث العلامة السيد سامي البدري الذي نشره في مجلة تراث النجف سنة 2009 200م قد أشار إلى بعض ما أشار إليه الصديق العزيز المهندس تحسين، أشار كثر غيره أيضًا ، أفدت من جهودهم.

نشر الكتاب سنة 2020م، وفات الباحث ذكر مكان طبعه، ويقع في جزأين، الأول منه في ستين وثلاثمائة صفحة، والثاني منه في أربعين وأربعمائة صفحة، مقسم بجزأيه على ثلاثة عشر فصلا وملحقين . والنظر في مجمل مصادره ومراجعه يبين لك الجهد الهائل الذي بذله المؤلف في تأليف هذا الكتاب، إذ بلغت مصادره العربية سبعة وثمانين ومائة مصدر، يضاف إليها ما راجعه من كتب فارسية وانكليزية

ص: 226

وفرنسية، ونظر أيضًا في إحدى عشرة رسالة جامعية، يضاف إلى ذلك أيضًا أنه راجع كثيرًا من التقارير والدراسات والدوريات والمجلات والأحاديث والرسائل والمقابلات كما اطلع على أغلب ما نشر عن الموضوع في الإنترنيت؛ وقد يكون ما رجع إليه من مصادر لم يستفد الكتاب منها لا يقل عن الذي ذكر في ثبته.

وزينه بإهداء يستحق التنويه ككتابه هذا، وهو: (إلى أرواح من عانوا من العطش والحرمان؛ لأن جميع من عاش في هذه البقعة المقدسة قد عانى من العطش والحرمان منذ سكنت المدينة لحين وصول الماء إليها . قدّم الكتاب للقراء الباحث الجاد الأستاذ الدكتور صادق المخزومي الذي أحسن عرضه والتنويه به.

ضمن الباحث كتابه بجزأيه عشرات الخرائط ذات العلاقة؛ بعضها خطها بقلمه، وهي الغالبة، وبعضها الآخر نقلها عن مصادره، وكان لتلك الخرائط أثرها في رفع قيمة الكتاب العلمية، فقد يسّر على دارسيه معرفة مجاري نهر الفرات، ومجاري المياه إلى النجف في عصورها المختلفة، ومثل هذا فيما أعلم لم يقع في كتاب ألف عنها قديمًا وحديثًا، نعم قد نقف على بعض الخرائط في هذا الكتاب أو ذاك، ولكن ليس بهذه الكثرة وتلك الدقة الهندسية؛ وفي الكتاب أيضًا صور تاريخية يصعب وصول الباحثين إليها لشخصيات ومشاريع وأماكن مختلفة.

ولا شك أن الباحث بدأ مشروعه قبل سنة 2019م بسنوات، كما ورد في تاريخ مقدمة الكتاب، فمعروف أن المقدمات تكتب عادة بعد انتهاء الباحث من إنجاز

ص: 227

عمله ومراجعته غير مرّة. والكتاب بخرائطه تلك، ومعلوماته القيمة التي بثت في فصوله يستحق صاحبه الشكر والتنويه، وسيبقى بالتأكيد مصدرًا حيا لجميع الدراسات التي ستكتب عن النجف لاحقا.

يقع الكتاب بجزأيه في ثلاثة عشر فصلا كما سبق ذكر ذلك- تجمع ما بين الحس الهندسي والجغرافي والصحفي والتاريخي والأدبي، وكتب بأسلوب ابتعد عن جفاف العبارة الهندسية ودلل على عمق ثقافة الباحث وتنوعها، وتمرسه بالكتابة من قبل.

أما الجزء الأول من الكتاب فهو في سبعة فصول جمعت ما بين الكتابة التاريخية والهندسية، إذ ضمّ عشرات الخرائط والصور التوضيحية كلها تدور في فلك الموضوع الذي ألف من أجله.

كان فصل الكتاب الأول بعنوان طوبوغرافية النجف وجيولوجيتها، ووقع في ثلاثة عشر مبحثاً؛ من مبحث أسماء النجف إلى مبحث الزلازل على مقياس رختر، وأزعم أن هذه المباحث على الرغم من إيحائها بأن غير واحد من الباحثين تعرض لها، فإنها كتبت هذه المرة بأسلوب علمي لم أقف إلا على القليل منه فيما نظرت إليه كتب، وهي ليست بالقليلة؛ ففيه معلومات قيمة عن الأرض، وكيفية البحث عن المياه فيها، وعن معرفة العرب بعلم المياه، وعن علم الجيولوجيا قديمًا وحديثًا، وعن الملامح الجيولوجية لأرض النجف، كل ذلك في سرد علمي عميق يأخذ بيد

ص: 228

الدارس الجاد إلى قراءته، وإنعام النظر فيه وهي بحوث تمهد من بعد بما سيورده الباحث في فصول كتابه اللاحقة.

وكان الفصل الثاني منه بعنوان مصادر المياه، ووقع في ثلاثة مباحث الأول: عن الأمطار، والثاني: عن نهر الفرات، والثالث عن السدود التي أنشئت عليه، وقد ضمنه مجموعة من الصور الملونة والخرائط التوضيحية، وهو مبحث في غاية الأهمية إذ تحدث عن هذا النهر منذ دخوله العراق لحين التقائه بنهر دجلة في مدينة القرنة بجنوب العراق. ثم ذكر الوديان التي تصب فيه والجداول التي تخرج منه، وقبل هذا تحدث عن تغير مجرى هذا الرافد العظيم في العصور المختلفة، كما تحدث عن الملاحة فيه، ودعمه بصور قديمة وحديثة وخرائط وجداول، وأطال الوقوف على السدود التي أنشئت عليه في تركيا وسوريا، وأثر ذلك على كمية المياه التي تصل منه إلى العراق، كما تحدث عن السدود التي أنشئت عليه في العراق. وإن كانت غالبية تلك المباحث لا علاقة لها بموضوعه، ولكنها لذوي البصيرة تمهد له.

ومن طريف ما ذكره في هذا الفصل، مبحث أسماء المطر الذي ذكرني بما سطره اللغوي ابن سيده الأندلسي عن أسمائه في معجمه الكبير الموسوم ب- (المخصص) ولم يرد له ذكر في قائمة مصادره على الرغم من كثرتها، وقد لا يكون لهذا المبحث مكان في هذا الكتاب، ولكنه طريف.

كان الفصل الثالث بعنوان مجرى الفرات في العصور الجيولوجية المختلفة، ومجرى بحر النجف، ووقع في ثلاثة مباحث أيضًا، الأول منها عن المجرى،

ص: 229

وثانيها: عن النجف في طور الفرات الأول، وثالثها: عن وقد توزع هذا على سبعة مباحث وقعت في ثلاث وأربعين صفحة أزعم أن غالبية ما ورد فيها كان جديدًا عليّ، ففيه من الملاحظة الشخصية شيء كثير، ومن خرائط الهندسة والصور الحية شيء أخر ، وذَكَرَ من أسمائه القديمة اثني عشر اسما، وعرض أسباب كثرتها، ثم خصص مبحثًا لتاريخ هذا المنخفض وأطوار نهر الفرات، ودرسه في سبعة مباحث ومن مباحث هذا الفصل الماتعة مبحث الوديان في منطقة النجف، إذ ذكر سبعة أودية قد لا أكون عرفتها من قبل، ودعم دراسته على عادته بخرائط وصور قد لا أكون تخيلتها من قبل.

ومن المباحث التي تستحق التنويه في هذا الفصل أيضًا ذكره عيون ماء هذا المنخفض وآباره التي بلغت تسعا وخمسين عينًا بأسمائها المختلفة بعضها نسبها لشخصيات نجفية، وبعضها الآخر لم ينسبها، ولكنه حدّد مواقعها. وعرضُ هذا لفصل يحتاج غالبه إلى إعجاب وتنويه، فأنت واجد فيه من لباب البحث الجاد ما يدعو إلى الانبهار. وإذا كانت مباحث هذا الفصل والفصلين السابقين لا علاقة لها بالعنوان بصورة مباشرة فإنها تمهد لموضوعه الذي سيأتي من بعد.

كان عنوان الفصل الرابع مجرى كوثى؛ وقد رجح عندي من قبل أن تسمية الكوفة ترتبط بجانب روحي عقدي، فقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن قريش، فقال نحن نبط من كوثى، وما ذهب إليه عليه السلام فيه ربط بجد هوجد رسول الله صلى الله عليه وآله إبراهيم الخليل ومن السهل تصور التغيير

ص: 230

الذي حصل في التسمية فالثاء كثيرًا ما تقلب فاء في لهجات العربية حتى يوم الناس هذا، ومثلها الألف أيضًا مازالت تقلب تاء مربوطة وتسهّل فيقال ليله وسلمه في ليلى وسلمى وما ماثلهما، فكوثى هي كوثه، وكوثه، هي كوفة.

كان هذا الفصل كالفصول السابقة عبارة عن بحث تاريخي ارتضاه الباحث؛ فيه دراسة عن مجرى نهر الفرات قبل أن يغير مجراه وأخرى عن أطلال المدن القديمة التي كانت عليه.

وأما المبحث الثاني منه فهو بعنوان حوادث النجف، وقسمه على دراستين، تناول في الأولى طوفان سفينة نوح، ورسوها في النجف، وهو ما وثقه السيد سامي البدري في بحثه الموسوم ب- ( مرسى سفينة نوح الذي نشره في مجلة تراث النجف وعرض في الثانية هجرة النبي إبراهيم عليه السلام وموقع بانيقيا، فذكر فيه ما ورد من آراء عند قدماء المؤرخين العرب وعند الرحالة والمحدثين حول هذا الموقع، ودعمه بخرائط وصور وكان من بين مباحثه الجديرة بالنظر أيضًا ما ذكره حول مسار خندق سابور الذي يسمى ب-كري سعدة.

وما حدث في منطقة النجف الكبرى من مباحث هذا الفصل المهمة، حديثه عن الحيرة وسكانها، وذكر أن نزوح بعض قبائل العرب إلى العراق كان في القرن الثالث الميلادي، وتحدث عن أنهارها، وعن أولى محاولات إيصال الماء إلى النجف، ولا يراد بها المدينة، وذكر أن أول المحاولات تعود إلى سنة 525-528 للميلاد زمن الحارث بن حجر الكندي.

ص: 231

ص: 232

ص: 233

مباحث تبدأ من القرن التاسع عشر وتنتهي بالقرن الحالي، ووقع في ستة مباحث كلها جديرة بالتنويه زوقها أيضًا ببعض الخرائط والصور، وختمه بأهم الحوادث المهمة التي مرت على النجف الأشرف في هذا الطور، لا يستغني عنها كل باحث يتناول تاريخ النجف في هذه الحقبة.

وبحث في الفصل التاسع تأثير إيصال الماء إلى النجف، وحصره بمنطقة الفرات الأوسط، ووقع في ثلاثة مباحث تناولت ما حدث لنهر الحلة من تغيرات، وذكر السدود التي أقيمت عليه والمدن التي تأسست والتي اندثرت، وأهوار النهر ومستنقعاته؛ وأزعم أن هذه المباحث كلها تخبر عن جهد كبير يستحق التنويه والإعجاب؛ ولكني وددت أن يكون هذا الفصل ضمن فصول الجزء الأول، بل وددت أن يعيد الباحث في طبعة الكتاب الثانية تقسيم فصوله ومباحثه بحيث يكون الجزء الثاني خاصًا بمحاولات إيصال الماء إلى النجف.

في الفصل العاشر من الكتاب عرض الكاتب مشاريع إيصال الماء إلى النجف في القرن العشرين، ووقع في ستة مباحث من أيام الدولة العثمانية إلى مشاريع الحكومة في النصف الثاني من القرن العشرين، وزين الفصل أيضًا بصور عقود، ووثائق، وصورة يوم افتتاح مشروع كري سعدة وصور نساء يغسلن الملابس على قناة أسد الله، وصورة المدينة القديمة أيام حصارها، وكتب رسمية وما إلى ذلك مما يصعب وصول الباحثين إليه. وذكر أسماء مديري بلدية النجف من سنة 1979م ولغاية سنة 2020م، وختمه بأهم الحوادث التي سنة 1901مولغاية 1999م، وكلها يحتاج الدارسون معرفتها وهي نزهة أيضًا للقراء لم يطلع الباحثون على أغلب صورها.

ص: 234

خص المؤلف الفصل الحادي عشر لآبار النجف، ووقع في أربعة مباحث تناول فيها آبار المنخفض وآبار البادية وآبار المدينة القديمة، وقد يكون مبحث الآبار داخل المدينة بالنسبة لي من مباحث الكتاب المهمة جدا ولاشك أني عائد إليه إذا قدر لي إعادة طبع كتابي مرقد أمير المؤمنين وضريحه.

كان الفصل الثاني عشر بعنوان الماء والشريعة والقانون، ولا أظن مكانه مناسبًا في هذا الجزء، وتلاه الفصل الثالث عشر ، جمع فيه الكاتب ما نظمه الشعراء من شعر حول ماء النجف، وختم الكتاب بملاحق تناولت الماء في الصحن الشريف، والصناعات والمهن المرتبطة به.

إنه كتاب أخذني أخذ مقتدر تمنيت أن تقوم جامعة الكوفة خاصة بإعادة طباعته لأهميته، بالنسبة لأقسام الجغرافيا في الكليات الإنسانية، ولقسمي الفرع المدني والمعماري في كلية الهندسة لشديد أهميته لطلبة الدراسات العليا الذين يختصون بالكتابة عن النجف، وإن لم تتحقق هذه الأمنية فأتمنى على المؤسسات المعنية في النجف وتاريخها أن تقوم بهذه المبادرة.

أشد على يدك أخي تحسين، فقد قدمت عملًا للباحثين لا تقوم به العصبة مجتمعة، وسيبقى كتابك هذا من وجهة نظري المتواضعة مصدرًا للدارسين لقرون فبارك الله فيك وحفظك ومن عليك بخير ما منّ به على عباده الصالحين، فقد خدمة مدينة إمام المتقين عليه السلام خدمة لن تنساها لك.

ص: 235

رؤى وأفكار للأستاذ الدكتور عبد الرزاق العيسى

تنويه وتقديم الكاتب:

مازال لقائي الأول بطيب الذكر الدكتور عبد الرزاق العيسى في بيت الله الحرام كأَنَّه الساعة على الرغم من مرور أكثر من عقدين عليه، ولم أكن على معرفة بالرجل حين ذاك، ولكنه كان ملء السمع والبصر في الوسط الأكاديمي العراقي. وكان ذكره الطيب محل تقدير وتنويه أيضًا في أوساطنا بهولندا.

وكتب الله لي سبحانه حج بيته الحرام في أواخر سنة 2007م، وعلمت من بعض حجيج مدينتنا النجف الأشرف الذين التقيتهم أن الرجل وُفِّقَ للحج في ذلك العام أيضًا، فحرصت على زيارته كي أتعرف على هذه الشخصية الوطنية التي شاركت بحفظ ممتلكات جامعة الكوفة من السلب والنهب والتخريب أيام الغزو الأمريكي سنة 2003م، ومثله قلة من أبناء العراق الغيارى الذين عرضوا أنفسهم للموت في سبيل الحفاظ على الأملاك العامة.

ولا أحدثك عن مدى دهشتي حين التقيت الرجل، إذ رأيته بعين بصيرة منصفة ليس كمن عرفت من رؤساء جامعات العراق من قبل، فقد استقبلني ببساطة متناهية، وبحفاوة تتجاوز قدري وكأني من أصدقائه الذين فارقهم منذ زمن بعيد، وما إن أخذت مقعدي حتى بدأنا نتقاسم هموم الوطن وأحزانه، وشعرت أن الرجل يرغب أيضًا أن يبثني بعض ،همومه وما عاناه من تعب كي يحافظ على جامعته

ص: 236

ويرتقي بها، ولاسيما أنها امتداد للصرح العلمي الشامخ مدينة إمام المتقين عليه السلام .

كانت أغلب أحاديثنا تدور حول مسيرة جامعة الكوفة، وكيف استطاع رفقة ثلة من الخيرين إنقاذها من النهب والدمار أيام غياب الوعي، وعن الجهد الذي بذله في سنيات عمله بها منذ تكليفه برئاسة قسم الكيمياء سنة 1980م لحين اختياره رئيسًا له سنة 2006م ، وعن الطموح الذي تطلع إليه في أن يرتقي بها إلى مصاف الجامعات العالمية، وهو أمر ليس بهين في ظروف اتسمت بالابتعاد عن الوعي والمواطنة الحقة على الرغم من الشعارات التي تتحدث عن الديمقراطية والتطور والحرص، وهي شعارات مازال يرافقها نهب للمال العام، وتدخل هذا أو ذاك من مسؤولي الدولة لتحقيق مآرب شخصية لا علاقة لها بالمواطنة.

وحدثته أيضًا عن مسيرة الجامعات في هولندا وعن ميزانية الدولة التي خصصت سبعة وثلاثين مليار يورو لمساعدات التعليم والبحث العلمي، وهو الرقم الأكبر في ميزانيتها وكنت في حينها قد كُلّفت برئاسة مجلس أمناء الجامعة الحرة التي تأسست هناك، ورأيت أن أدعوه لعضويته كي نستفيد من خبراته في النواحي العلمية والإدارية بعد أن حدثته عن أهداف تأسيسها، وعن الجاليتين العراقية والعربية ومشكلاتهما وحاجتهما إلى إعادة التكوين بسبب ظروف إلى الابتعاد عن جذورهم وثقافتهم.

ص: 237

كانت سعادتي غامرة بموافقته، ولاسيما أن من بين أعضاء المجلس رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق الفقيد الدكتور شاكر الفحام والمستشار الديني والقضائي لأمير دولة الإمارات العربية السيد علي الهاشمي، ورئيس جامعة الإسكندرية، ورئيس جامعة البصرة الفقيد الدكتور علي عباس علوان، والدكتور محسن الموسوي والدكتور محمد جواد الطريحي والباحث محمد سعيد الطريحي، وغيرهم، ووجوده بين تلك الكوكبة العلمية يمنحها قبولاً والتزاماً، إلا أن الظروف حالت من دون استمراري بهذا المنصب فاعتذرت عنه بسبب خلاف دب في أهدافه التي اتفقت عليها.

كنت أرقب الرجل بعد تلك الزيارة عن بعد، وأكبر عمله، وأدهش بما حققه من منجزات في مقدمتها متابعة الإشراف على مباني الجامعة التي توزعت كلياتها من قبل هنا وهناك في أرجاء المدينة، ويوم زرته أول مرة عند عودتي إلى النجف الأشرف، كانت بناية رئاسة الجامعة تدعو إلى الأسف، وما هي إلا سنية حتى أصبحت هذه المؤسسة العلمية تزاحم جميع جامعاتنا في أبنيتها الحديثة، وكلياتها الشامخة التي كادت تتضاعف بمرور أيام رئاسته.

ولم تأخذه الإدارة إلى متاعبها فينشغل بها فحسب، وإنما كان طموحه أكبر من ذلك بكثير، فقد اهتم بجوانبها العلمية حتى ارتقى بها إلى أن تكون الجامعة الأولى في العراق، وأن يقع الاختيار عليه كأفضل رئيس بين الرؤساء.

ص: 238

وقدر لي أن أعود إلى عملي في العراق، فقدمت طلبًا للوزارة أعرب فيه عن رغبتي بالانتقال من جامعة بغداد إلى جامعة الكوفة، ويا لسعادتي بعودتي تلك في 6/1/2011 ، كي أكون بقرب ذلك الرجل الذي يعرف أقدار الرجال، ويقدر وطنيتهم وإمكاناتهم ويحرص على الاستفادة من العلمية ومكانتهم .

خبراتهم؛ وعند تقديمي طلب الانتقال وافق عليه من فوره، ويوم عدت لم أشعر أن حاجز المنصب يفصلني عنه، فكنت ألتقيه في مناسبات للتداول معه في هذا الأمر أو ذاك، ولاسيما بعد أن رأيته يحسن الإصغاء، ويملك قدرة على اتخاذ القرار الصائب في حينه. كانت عودتي في أخريات العام الدراسي، وما إن حلت عطلة الصيف استأذنته للعودة إلى هولندا لترتيب أوضاع أسرتي، فودعني بلطفه وسماحته حتى المعهودة.

وما إن حططت رحالي بها حتى صدمت صدمة عنيفة بخبر تنحيته عن رئاسة الجامعة، ولا أشك في أن ذلك القرار كان من أسوأ القرارات التي اتخذتها وزارة التعليم العالي، وليس من سبب وراء اتخاذه إلا صرامة الرجل في وجه من يريد الإساءة إلى القيم الأكاديمية التي يصبو إلى تحقيقها، وإلى وقوفه في وجه الفساد بصورة لا تعرف المهادنة أو اللين.

واستنكرتُ القرار بالسر والعلن في مناسبات عدة من دون تهيب، إذ كنت أتحدث حول أمر لا يتعلق بشخصه ولا عن علاقتي به، ولكن مرد استنكاري كان

ص: 239

حول كيف ينتخب رجل كأحسن رئيس بين رؤساء الجامعات، ثم ينحى عن مكانه بعد قرابة شهرين من ،اختياره فتحرم الجامعة من شخصية قيادية عن مثيلها في ،العراق، وكان تنحيه نكبة مُنِيَ بها كل المخلصين من عارفي فضله واستقامته.

انتقل الرجل إلى بغداد مستشارًا لوزارة التعليم العالي، ثم أرسلته الوزارة ملحقا ثقافيًا إلى بريطانيا، وما إن نشط في تلك الأصقاع التي يعرفها معرفة عين، حتى تدخلت الأصابع الخفية ثانية فنقلته إلى الأردن.

كنت ألتقي الرجل حين يأتي إلى النجف للاطمئنان على أوضاع أسرته، وللقاء الأحبة من أصدقائه فكنا نتجاذب أطراف الحديث في إمكانية إصلاح ما يمكن إصلاحه في مسيرة التعليم العالي، وحول هموم الوطن والمواطن، وحول التردي الحاصل في كل مرافق الدولة، وكنت أقرأ ما ينشره من مقالات حول التعليم مقر إقامته بالأردن.

وقدر له أن يعود ثانية إلى الوزارة مستشارًا، وشهد له البعيد قبل القريب بما همة ونشاط وصواب رأي داخل الوزارة، حتى أصبح من المقربين جدا يمتلكه من إلى وزيرها.

وحين احتدم العراق لأسباب ليست بخافية على أحد شكل دولة رئيس الوزراء لجنة سرية فريدة من نوعها معروفة بنزاهتها وحياديتها، لاختيار الشخصيات المناسبة للمناصب القيادية واختير عبد الرزاق كي يكون من بين أعضائها، وقد

ص: 240

بذلت تلك اللجنة من الجهد ما تشكر عليه، ولكن حالت ظروف من دون تحقيق ما كانت تصبو إليه.

كنت أراه الأجدر في شغل منصب وزارة التعليم العالي لخبرته الطويلة وتدرجه في العمل الأكاديمي، وقد تحقق ما تمنيته إذ وقع اختيار تلك اللجنة عليه، إلا أنه لم يكن مندفعا لشغله؛ أما أسرته فأشهد أنها لم تكن راضية مطلقا، فقد عانت من تفرغ الرجل التام لعمله العلمي والإداري منذ سنة 2003م، وقد أكون من شهود هذا بسبب صلتي بالرجل وأسرته، وقد يكون لي دور في موافقته وتهوين الأمر على أسرته لأني كنت وما أزال مؤمناً أن إصلاح التعليم في العراق هو إصلاح للبلاد من الهوة السحيقة التي تردّت بها.

وما هي إلا أشهر قليلة حتى اكتشف دولة رئيس الوزراء حرص الرجل وصواب رأيه وعفته وبياض يده فأقنعه باستلام وزارة المالية أيضًا بالإضافة إلى وزارتي التعليم والعلوم.

كنت ومازلت أشفق عليه أيما إشفاق، وكنت رفقة ثلة طيبة من أصدقائه نشعر بالعبء الكبير الذي ينوء به، وكنا نطلب منه ما يتجاوز طاقته للإسراع بإصلاح ما يمكن إصلاحه، ولاسيما في المناصب القيادية، بل نلح في الطلب أحيانًا من دون وجل، أو مصلحة شخصية، أو موقف من هذا أو ذاك، وكان بهدوئه وسعة صدره وسماحته وخبرته يؤملنا بأن التغيير حاصل لا محالة، ولكن يحتاج إلى وقت وصبر.

ص: 241

ومن ينظر للأمور بعين الإنصاف يقدر ما أحدثه الرجل من تغيير إداري وأكاديمي وعلمي في المدة القصيرة التي مرت على استيزاره

ولأنه عبد الرزاق مثال العفة والنزاهة والحرص والمواطنة الصالحة كتبت ما كتبت.

الكتاب:

أذكر من بين ما أذكره صدور كتاب ترجم إلى العربية في ثمانينيات القرن المنصرم لعله بعنوان (أمة معرضة للخطر) تحدث مؤلفه فيه عن تراجع مسيرة التعليم بأمريكا وأثره على مستقبلها ومعلوم أن البون شاسع فيما بين التعليم ببلادنا وبلادهم، وما وصلوا إليه وما وصلنا إليه، فإذا كانت تلك الأمة معرضة للخطر من وجهة نظر المؤلف، فكيف بحال بلادنا، ثم كيف يمكن إصلاح خراب عم كل المرافق، وعلى كل حال فإن الكتاب كان هاجس من اطلع عليه، وكانت عندي في حينها رُؤى نشرتها، ولكن لم يهتم بها أحد، تدور حول إخراج وزارة التعليم العالي من لعبة السياسة وتأثيرها السلبي على مسيرتها، وحول كيفية اختيار كوادرها العلمية، من رئاسات الأقسام إلى الوزارة.

والمدة التي قضيتها متغربًا في هولندا رأيت عجبًا في كيفية توزيع ميزانية الدولة السنوية على وزاراتها، إذ احتل التعليم، بل قل مساعدات التعليم الرقم الأول في القائمة كما سبق القول، وكان الرقم الأخير من حصة وزارة الدفاع وهكذا

ص: 242

استطاعت هذه الدولة الصغيرة أن تحتل مكانة متقدمة بين دول العالم في كل نواحي الحياة، وقد منحني ذلك التغرب فرصة للتأمل والتمني، وهي حسرات.

والرجل الذي أخذ بيد مرافق جامعة الكوفة إلى تلك المكانة المتقدمة لم يفارقه أمر النهوض بوزارة التعليم العالي والجامعات حين خرج منها، فكان همه الأكبر إيجاد الوسائل التي تنهض بهما؛ ويبدو أن دراسته في إنكلترا، وتجربة العمل فيها التي لم تدم طويلاً منحته فرصة للتأمل والاطلاع على أنظمة الجامعات هناك، وما استجد بها وأسباب ،رقيها، كما أن زياراته الجامعات مختلفة منحته فرصةً أخرى، إذ إن الرجل لم يقتصر عمله على متابعة طلبة البعثات ومحاولة تذليل العقبات من طريقهم فحسب، وإنما كان في زياراته يراقب مجريات الأمور لمعرفة أسباب التقدم ميدانيا، ويشارك في المؤتمرات العلمية التي تعقد في هذه الجامعة أو تلك، فاكتسب خبرة مضافة إلى خبراته القديمة، وأزعم أن كتابه (رؤى وأفكار) كان بعضه من تلك الأيام، وإن نشرت بحوثه بعد انتقاله إلى الأردن، وهو من بعد لو أخذ بما احتواه من أفكار لقامت للعراق قائمة بعد كبوته التي استمرت من أخريات سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن.

احتوى الكتاب على ثمان وثلاثين مقالة تدور حول مسيرة التعليم العالي في العراق منذ تأسيس كلية الحقوق به في أوليات القرن الماضي وحتى يوم الله هذا، وما واكب مسيرته من تقدم وتعثر. وتناول الجانب الأكبر منها كيفية إصلاحه كي يلتحق بركب العالمية، وهو أمر يمكن تحقيقه إذا حسنت النيات ووجد الدعم

ص: 243

المناسب له، وتخلص من تدخل بعض المتنفذين في شؤونه، وأحسن اختيار كوادره العلمية والتربوية. ولاشك أن هذا الطموح تسبقه خطوات تتطلب إصلاح مسيرة التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي سيرًا على الخطى التي اتبعتها الدول المتقدمة، وتتطلب أيضًا إيجاد قاعدة صناعية وتجارية تستطيع احتواء آلاف الخريجين.

قلت لك: إن الكتاب احتوى على ثمان وثلاثين مقالة في مجملها تدور حول كيفية الإصلاح، وأنت حينما تنعم النظر فيها سترى من بين ما تراه رؤى خاصةً حول البحث العلمي الذي هو أساس التمايز ، وعماد تقدم البلدان، وأخرى خاصة بضمان الجودة، وثالثة خاصة بالإفادة من تجارب الدول المتقدمة، وأخرى تدور حول وضع معايير لتصنيف الجامعات لدفعها إلى الارتقاء نحو الأجود، وأخرى حول وضع خطط استراتيجية تسير عليها الوزارة لتحقيق التقدم المنشود، وأخرى تدور حول الإرادة الوطنية وأثرها في الإصلاح، ثم ما ينبغي اتخاذه من خطوات لترصين التعليم ،وغيرها وكلها تحتاج إلى إنعام نظر ودقة ملاحظة، وقدرة على التطبيق. وقد صاغ تلك الرؤى صياغة علمية عميقة مدعمة بجداول تفصيلية أحيانًا ورأى أن كل ذلك يمكن أن يتحقق من خلال إرادة وطنية حقيقية للإصلاح مبنية على الخبرة الرصينة. ويحسب له أنه مازال يحاول على الرغم من القيود التي تطوق معصمه في كثير من الأحيان.

أنا على يقين أن الكتاب سيبقى هاجس كل الوطنيين من الأكاديميين الذين يكلفون بإدارة مرافق التعليم العالي، ويرومون الارتقاء بها حاضرًا ومستقبلاً.

ص: 244

ومباحثه ليست كمثل غالبية المباحث التي تنشر في صحيفة أو في موقع تواصل، لأنه مخاض مخلص من العمل العلمي المبني على التجربة الميدانية والملاحظة والتخطيط الذي قارب أربعة عقود.

مملحة للصديق العزيز الشاعر وهاب شريف

وبعد :

فهذه وريقات كتبتها على عجالة تعبيرًا عن صادق شكري وتقديري لأريحيتكم في إهدائي نسخة من ديوانكم الشاخص، وهو لطف لا أستحقه منكم، ولك أن تهملها أو تنشرها على علاتها أو تغير فيها ما شئت تغييره، مع صادق المودة وجميل الذكر.

ما ازدحم الشعراء والكتاب بمحفل للشعر والكتابة كازدحامهم في مدينة إمام المتقين عليه السلام خلال نهايات القرن التاسع عشر إلى نهايات العقد الثامن من القرن العشرين خاصة، إذ جاوز عدد الشعراء المائتي شاعر بكثير؛ أما الكتاب بمختلف اتجاهاتهم فمن الصعب أن يحصى عددهم.

و ازدهرت مطابع النجف على طول هذه الفترة ازدهارًا لم تشهده بقية مدن العراق باستثناء بغداد، وطبعت فيها كتب ودواوين كثيرة لكتاب وشعراء ورجال دين وأكاديميين.

ص: 245

والشعراء في مدينتنا أجيال كل جيل سَابَقَ الآخر في جزالة لغته، وجمال إيقاعه وألوان صوره وطول قصائده وطول قصائده، وكثرة مجازاته، وبراعة منشديه؛ وهم طبقات من شاعر ليس في شعره إلا الوزن والقافية إلى آخر تضج قصائده بألوان من فنون البلاغة التي تأسر الألباب وتلهب المشاعر، واختلف ما بين قصيد رومانسي إلى آخر اجتماعي تحتمه مناسبات المدينة، إلى شعر سياسي يلهب المشاعر كأن بعضه أزيز الرصاص، وهي كثيرة.

وهم أجيال أيضًا، من جيل الشاعر الفقيه السيد محمد سعيد الحبوبي الذي عدّ من شعراء الفترة المظلمة على الرغم من عذوبة شعره، وجمال موشحاته ورصانة لغته إلى جيل شعراء الرابطة الأدبية كعلي الشرقي والشبيبيين واليعقوبي، وغيرهم كثر الذين اتسم شعرهم بروح التجديد سيرًا على هدى شعراء المهجر وغيرهم، ثم تلاهم الجواهري شاعر القرن الذي مازال بجميل إيقاعه وجزالته وفصاحة لغته وحسن سبكه، وجمال إنشاده فريدًا بين شعراء الوطن العربي.

ثم تلاهم جيل مثله الشيوخ علي الصغير ومحمد حسين الصغير، وعبد المنعم الفرطوسي، وهم بحق شعراء المناسبة في زمانهم، وغيرهم كثر، وكلهم من شعراء كانت لها مكانتها في النجف الأشرف وخارجه؛ وأعقبهم آخر الرابطة الأدبية التي مثله البرقعاوي وعبد الزهراء عاتي والمحتصر ، وزهير زاهد والحسين بحر العلوم وصالح الظالمي وأحمد الوائلي ومصطفى جمال الدين الذي مازال تأثيره بعد إنشاده قصيدة بغداد في ستينيات القرن المنصرف يشنف الآذان بعذوبة شعره، وجمال

ص: 246

إلقائه، وحسن سبكه وجزالة لغته وغيرهم. وقد مثلت هذه الأجيال القصيدة العمودية بألوانها المختلفة، وغلبت على أكثرها المناسبة فأفقدت بعضها الحس الفني الرفيع.

وشهدت المدينة أيضًا منتديات كثيرة وأسر لها طابعها الشعري كأسرة الأدب اليقظ التي أسسها وانتمى إليها بعض الشعراء الكبار الذين واكبوا حركات التجديد، ولكن بمسميات مختلفة.

وفي أواخر النصف الأول من القرن العشرين ظهرت حركة الشعر الحر إلى الوجود، وتنازع قصب الريادة فيها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة والتحق بهم من بعد عبد الوهاب البياتي، وشاذل طاقة وغيرهم، وكلهم تخرجوا في دار المعلمين العالية ببغداد؛ وبدأ هذا اللون يأخذ مكانته بين شعراء الوطن العربي وفي أوساط الدارسين والمثقفين وكتبت عنه وعن رواده دراسات رصينة داخل العراق وخارجه، وبدأ يزاحم القصيدة العمودية مزاحمة شديدة، ومن رحم هذه الحركة تخرج جيل من الشعراء يصعب إحصاؤهم، وقد أثر شعر رواد هذا الاتجاه تأثيرًا كبير في الحركة الشعرية داخل العراق وخارجه، وبرز شعراء في البلاد العربية لهم مكانتهم وسوقهم ولاسيما في مصر كأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمد إبراهيم أبو سنة وغيرهم، وحقق نزار قباني في بلاد الشام وغيرها شهرة كبيرة ولاسيما في أوساط الشباب، وسار شعره على ألسنتهم، وغيرهم

ص: 247

كثر. وراج سوق هذا النوع من القصيد رواجًا كبيرًا في البلاد العربية وفي أوساط الشعراء الشباب في النجف وبغداد خاصة.

والنجف الأشرف ليست كغيرها من المدن إذ إنها تعشق الشعر وتتمثله في مجالسها ونواديها، وتتغنى به جميع طبقاتها المثقفة منها والشعبية، بل مازالت جميلًا للشعر بين مدن البلاد الناطقة بالعربية إلى يوم الناس هذا.

ثم بدأت سوق الشعر ولاسيما العمودي منه التي كانت في عنفوان ازدهارها إلى أواخر الستينات تكسد شيئًا فشيئًا في الأوساط الثقافية خاصة، ولم تعد القصائد الطوال التي كانت تنشد في المناسبات العامة تجد مكانة بسبب حصار العصر وما أنتجه من مخترعات أثرت تأثيرًا كبيرًا على أذواق الناس. وما إن هلّ القرن الواحد والعشرين حتى بدأت السوق بالكساد على الرغم من كثرة المنظوم، لانشغال الناس بجميع طبقاتهم انشغالا عجيبًا بتلك المخترعات؛ وما عاد كثر من شباب الجامعات وغيرهم يهتمون بهذا الفن الجميل لشدة تأثير إيقاع العصر عليهم، وتفشي الأمية بين كثر منهم بسبب تراجع التعليم في جامعاتهم، حتى ما عاد لفنون الثقافة عامة مكانة كبيرة بينهم.

ولكن هذا لم يمنع من بروز بعض الشعراء الكبار في هذه المدينة خاصة، بل مازال اتحاد الأدباء فيها يقاوم ويقوم بدوره في تقديم أصوات لا تقل مكانة عن منزلة شعراء الأجيال الماضية، فحققت شهرة معقولة في الوسط الثقافي على الرغم مما أحاط بها من أمية وحصار.

ص: 248

ولا أتذكر متى استمعت أول مرّة إلى الشاعر الموهوب وهاب شريف، ولعل ذلك كان قبل عقد ونيّف في إحدى مناسبات اتحاد الأدباء التي قل حضوري فيها بسبب أحكام العمر، وشديد اهتمامي بتاريخ الكوفة ورجالاتها من صحابة وتابعين خلال القرن الأول الهجري؛ ولكن صوت الشريف الآسر بقي إيقاعه ماثلاً في ذاكرتي بين كثر من الأصوات التي استمعت إليها الجمال صوره وحسن سبكه وجزالة لغته، وكثرة كناياته،

وجميل إنشاده، وقد غلبت الرمزية على بعض قصائده، ولكنها لم تفقدها روعته وتأثيره، وقد عبّرت له عن إعجابي به في غير مناسبة. وعلى الرغم من صغر سنه نسبة إلى الشعراء الرواد والجيل اللاحق منهم إذ ولد سنة إحدى وستين من القرن المنصرم فقد حقق حضورًا كبيرًا في مجالات عدّة، وذلك لتعدد مواهبه فهو شاعر وصحفي ،وقاص، وقد انماز في كل تلك الفنون على كثير من أقرانه. وأصدر خلال العقود الأربعة الماضية دواوين عدّة، وكان محل اهتمام الكتاب والنقاد والأكاديميين والدارسين وإعجابهم، فكتبت عنه دراسات وأبحاث، وفاز بجوائز كثيرة.

ويوم أهداني ديوانه الذي وسمه ب- (طبعا أحبكَ) أخذني أخذ مقتدر من قصيدته الأولى التي سمى الديوان باسمها إلى آخر قصيدة فيه على الرغم من ابتعادي عن سماع الشعر أو قراءته إلا من قصائد قديمة مسجلة تهفو إليها النفس وتعيدها إلى زمن الصبا والشباب للجواهري ومصطفى جمال الدين ونزار قباني وعبد الصبور شاهين ومحمود حجازي، وأمل دنقل، وغيرهم بحسب صلتي

ص: 249

القديمة ببعضهم أستمع إليها في أوقات مختلفة للترفيه عن النفس حين تضيق، وما أكثر ساعات الضيق في بلادنا التي شاعت فيها أخلاق لم نعرفها من قبل، ومما يدمي القلب أن غالبيتنا شارك فيما وصلت إليه، وما عاد الأمل يراودنا في إصلاح خرابها الذي تجاوز المدى حتى أصبحت طبقتها السياسية مضرب مثل، ومحل تندر، وهو حديث شجون عن جميع مرافق البلاد الثقافية والاجتماعية والصناعية والزراعية وغيرها.

وقرّ في نفسي وأنا أقرأ ديوانه أنه من بين الشباب الذين حملوا هم مدينتهم وخراب بلادهم بين جنباتهم، فأشابه ذلك قبل أوان مشيبه، ولاسيما أن موهبته حدث برزت منذ أكثر من عقدين من القرن العشرين الشديد الإظلام ويوم الاقلاب الكبير بسقوط الصنم تأمل خيرًا كما تأمل غيره من أبناء البلاد المخلصين، بل كنا نأمل أن يصبح العراق في المقدمة بين مدن العالم وعواصمه، ولكنها كانت أحلام ذهبت أدراج الرياح، فركبه اليأس والحزن كما ركبانا، وانعكس ذلك على أغلب قصائده.

وطبعة ديوانه الثالثة من إصدارات بيت الشعر في النجف الأشرف سنة 2022م وهو كبير يقع في أربعمائة وتسع صفحات، وقصائده فيه نظمها ما بين سنة 1980 202م، ونشرها من قبل في مجموعاته الشعرية السابقة كما ذكر - وهي كثيرة، ولكنها لم تأخذ مكانتها من الشهرة المطلوبة لشاعر كبير مثله، لانصراف غالبية الناس عن الثقافة وفنونها، ولم تأخذ دواوينه حيزها بين مطبوعات وزارة الثقافة

ص: 250

التي ركنت دائرة الشؤون الثقافية فيها إلى سبات عميق بعد أن كانت مطبوعاتها تتجاوز الخمسمائة مطبوع شهريًا في ثمانينيات القرن المنصرم بالإضافة إلى المجلات الرصينة التي كانت تصدرها .

وقد احتوى الديوان على قصائد كثيرة، كأنها في مجملها أغنية حزينة للوطن وللذات المتعبة في أسلوب شعري تغلب عليه مسحة الأسى والحزن والألم والرمزية.

والغموض من سمات شعر العصر عند جميع شعراء البلاد العربية من مشرقها إلى مغربها، ذلك بسبب تأثره بالشعر المترجم الفرنسي والإنجليزي، وبالأحداث السياسية الجائرة التي مرت به والظلم الذي شاع في أوساطه، وقد شارك ذلك في تكميم أفواه الشعراء فانحازوا إلى هذه الظاهرة هروبًا من سطوة الحكام وجورهم وتقليدًا للشعر المترجم ، ولم يكن وهاب بمعزل عن هذه الظاهرة.

وقد لا أكون مغاليًا إذا قلت: إن كثيرًا من قصائد ديون شاعرنا تندرج في إطار السهل الفصيح في لغتها ولكن يرافقها عمق ليس من السهل سبر غواره بسبب كثرة كناياته وصوره التي تشوبها الرمزية في أغلب قصائده كما سبق القول. وعلى الرغم من أن قصائد الديوان من الشعر العمودي إلا أن الشاعر أراد لها أن تأخذ سمة الشعر الحر في ترتيب أبياتها .

ولا أدعي أني قرأت جميع قصائد ديوانه، ولكني أجزم أني قرأت شيئًا غير قليل منها، ووقفت وقفة تأمل وإعجاب مع بعضها ك- (طبعا أحبك، وتبين أنهم غرقوا

ص: 251

فماتوا، وعلى قد عقلي، وأي حلم تبتغيه وليس بالإمكان ألا يراها، وأنا ما علي، ونعم مازلت أحيا، وشفتاك ،أشهى، ووحدي أزخرف، ومولاي خذ لحيتي)، وغيرها ليس بقليل، وهذا الذي قرأت على الرغم من عجالتي وانشغال قلمي الذي دفعني إلى الإشادة بالديوان وصاحبه.

ورأيتني أتوجه بدعوة إلى نقادنا لدراسة هذه الديوان وغيره من مجموعات الشاعر، إذ إني لست من نقاد الشعر حتى تكون لي كلمة فيه لبعد اختصاصي عن ميدان النقد الحديث، ولكني على يقين إني من متذوقي الشعر الجميل قديمه وحديثه ولقد أخذت على أخي الشريف أنه لم يذكر تاريخا لقصائده تلك كي يعرف الدارسون تطور القصيدة عنده في مراحلها المختلفة، والواقع الذي مرّت به، ولاسيما أنه نظمها في حقبة افترشت قرابة أربعة عقود وتزيد، كما أنه لم يذكر مناسبات نظمها؛ وهي في غاية الأهمية للدارسين؛ وأقترح عليه أيضًا - إن شاء- أن يضيف إلى ما ذكرت في طبعة الديوان الرابعة مقدمات نثرية لقصائده تفتح كوّة لقارئه تساعده على مشاركته فيما يصبو إليه فيها . لقد كانت نزهة ما أحوج النفس إليها، أعادتني إلى زمن الصبا والشباب يوم كان الشعر زاد مجالسنا في ستينيات القرن المنصرم بكلية التربية - جامعة بغداد التي أنجبت عشرات الشعراء في أطوارها المختلفة نتبارى به، ونحضر ندواته، ونتسابق

ص: 252

إليه، وقد أخذني وهاب أخذ مقتدر إلى ديوانه كي أبحر معه في سويعات ساعدتني

على الهروب من ضيق النفس من مآسي الماضي والحاضر الشديد العتمة.

أشكرك أخي وهاب وأشد على يدك وأدعو لك، وأتمنى عليك أن تفتح كوة من نور تستطيع الخروج فيها من العتمة التي حاصرت بها نفسك إلى فضاء جديد يعيدك ويعيدنا إلى أجواء السحر والجمال والرومانسية لعلنا نستطيع الهروب من إسار زماننا الرديء.

ص: 253

الثوية بقيع الكوفة الدکتو أكرم كسار

كتاب للأستاذ الدكتور صلاح الفرطوسي يستحق العرض

أ.د أكرم كسار

رئيس الجامعة الحرة في هولندا

والأستاذ بجامعتى الكوفة وبابل سابقا

للأستاذ الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي كتاب نشر حديثا، بعنوان الثوية بقيع الكوفة بجزأين بلغت صفحاتهما 673 ، وطبعته الأولى من إصدارات وزارة الثقافة العراقية ( مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013).

يبدأ الكتاب بمقدمة حول الكوفة ومكانتها وموقعها وعطائها وإرثها بنوره وتنويره الذي وضع لبنات مدرسة العقل فيها إمام المتقين عليه السلام، وعرّف العالم بسلطة الحقّ، وحرية الرأي، وأخوة الخلق.

تأسست الكوفة في أواخر سنة 17 ه- الموافق 638م، وقد أنجبت أمة من الشعراء والعلماء والمفكرين، وكانت مسرحًا لأعظم الحركات باختلاف أنواعها في التاريخ الإسلامي.

وكان اختيار وجودها في قلب منطقة اشتهرت بظهور أول الحضارات العالمية من حولها، وكتب لها أن تحافظ بأمانة على معطيات تلك الحضارة وتطورها، وكتبت من بعد صفحاتها اللاحقة بعقلية وفكر متميزين.

ص: 254

واختلفت الآراء في تسميتها، إلّا أن الباحث ربط التسمية بجانب ديني إذ رأى أن التسمية اشتقت من مدينة كوثى التي ولد فيها النبي أبراهيم عليه السلام، التي اشتهرت بإلهها تركال إله العالم السفلي، وله معبد كبير (زقورة) يسمى آي) نانار وما رجحه الباحث يحتاج إلى دليل.

تحدث الباحث عن قدسية المكان وسبب اختياره من كبار الصحابة، وقد أشاد بها الخليفتان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقد وجه الباحث دعوة لدراسة تاريخها بأطواره المختلفة، وتاريخ النجف الأشرف الوريثة الشرعية لها، شريطة أن تعتمد الدراسة على الموضوعية.

وبما أن النجف الأشرف من مدن الوجدان عند الدكتور الفرطوسي، وبما تنماز به من مكانة في العالم الإسلامي، وما يحصل اليوم من تداعيات، فإنه يرى أحقية هذه المدينة باحتضان جميع دعوات السلام والوسطية الداعية إلى حرية الفكر والمعتقد، ومناهضة التطرف وخلق عالم يسوده السلام والأمن والوئام والوضع لاقتصادي الأفضل، يشتق من عمق الدستور الإنساني الذي وضعه إمام المتقين عليه السلام في ظل أكبر تجمع للديانات آنذاك.

وفي الكتاب دعوات كثيرة للاستفادة من تاريخ المدينة وعطائها ومنجزاتها، وما قدمته؛ وفيه حديث عن جيوش الفتح التي انطلقت من جزيرة العرب مع الإشارة إلى خلفيات أفراده وطبيعتهم، وتصرفات بعضهم وعقلياتهم؛ ويوم تمصرت الكوفة قسمت على أساس قبلي مازلنا حتى الآن نعاني منه.

ص: 255

بعد ذلك عرج على ذكر مؤسسة الخلافة وما تعرضت له، وما حصل لها من أمور لا تنسجم مع قيم الإسلام، كالفتن التي حصلت وكان لها دور في تمزق العالم الإسلامي الذي مازال مفعوله مؤثرًا حتى يومنا هذا.

تحدث أيضًا عن رؤية الإمام عليه السلام وتحديده بشكل دقيق للأمور آنذاك في خطبته يوم بيعته، إذ قال : ألا وإنّ بَلِيَّتَكُم قد عادتْ كَهَيْاتِها يوم بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله، والذي بَعَثَهُ بالحقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةٌ ولَتُ غَرْبَلُنَّ غَرْبلَةً ، ولَتُسَاطن.. حتى يعود أسفلَكُم أَعْلاكُم، وأعْلاكُم أسفلَكُم، ولَيَسْبقَنَّ سابقُونَ كانوا قَصَّرُوا، ولَيُقَرنَّ سَبَّاقونَ كانوا سَبَقُوا، والله ما كتمت وشُمَةً، ولا كذبْتُ كِذْبَةً، ولقد نُبِّثْتُ بهذا المقام وهذا اليوم. ألا وإنّ الخطايا خيلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عليها أهْلُها، وخُلِعَتْ تُجمها . ألا وإنّ التقوى مَطَايَا ذُلُل حُمِلَ عليها أهلها، وأُعطوا أزمتها فأوردَتْهُمُ الجنّة، حقٌّ وباطِلٌ، ولكُلِّ أهل، ولَئن أمِرَ البَاطِلُ لقَديما فَعَلَ، وَلَئِن قَلَّ الحَقُّ لربّما ولعلّ، وقلّما أدبر شيءٌ فأقبل)؛ وجاهد أن يساوي بين الأمة مع رفض لسياسة الخلفاء المالية الذين سبقوه، لأن المال عنده مال الله يقسم على الرعية بالتساوي، مع محاسبة من أثرى بدون وجه حق؛ لذا بدأت المؤامرات تحاك ضدّه لأنه أراد أن تكون هذه الأمة أمة مشهد لا أمة منظر. وأرى ما رآه المؤلف أن مشروع الإمام لبناء مجتمع إسلامي متميّز بكل طوائفه وأعراقه السبب لكل الأحداث التي شهدتها الكوفة، وهو أيضًا بحسب المصالح والمكاسب السبب في تأسيس مدارسها التي بزَّت جميع مدارس الفكر التي عرفتها الإنسانية من بعد.

ص: 256

حدثنا الباحث أيضًا عن وضعية الكوفة يوم دخلها الإمام عليه السلام واتّخذها عاصمة، ومحاولته تطبيق المنهج الذي أعلن عنه، وكيف وقفت القوى التي لها مكانتها وسطوتها في مجتمعها القبلي في وجه مشروعه ولعبها دورًا كبيرًا في انقسام المجتمع بين مؤيد ومعارض بحسب المصالح والمكاسب، وردّه عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء بمن أشار عليه بشراء الذمم بقوله: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله لا أطُورُ به ما سَمَر سمير، وما أنجمَ نجم في السماء نجما، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؛ ألا وإن إعطاء في غير حقه ،وإسرافٌ، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناسِ، ويُهينه عند الله ، ولم يضع امرؤٌ مالَهُ في غير حقه، ولا عند غير أهلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ الله شُكْرَهُم، وكان لغيره ودَهُم، فإن زَلَّت به النعل يوما فاحتاج إلى معُونتهم، فَشَرُّ خليل والأَمُ خَدين).

تحدث الباحث عن عطاء الإمام الفكري والنظام الذي أسسه، إذ جعل أساسه كرامة الإنسان، ووضعه أسس علوم لم تعرفها الأمة من قبل، كعلوم التفسير والقراءة وقواعد العربية، والفقه والقضاء والإدارة والاقتصاد والسياسة النظيفة والعلوم الصرفة، وكفل للأمة حرية الرأي والمعتقد.

ويمكن ملاحظة سيرته عليه السلام على أتمّ صورة من خلال نهج البلاغة، كما يمكن الاطلاع بصورة مفصلة على جوانب أخر في كتاب الدكتور صلاح الموسوم ب

ص: 257

(وما أدراك ما علي) الذي قدّم لنا ما حلّ بالكوفة بعد رحيله عليه السلام، وما مرّ بها من أحداث وخاصة في أثناء حكم الأمويين.

والكوفة عنده لا تبعد عن الحيرة إلّا فراسخ معدودات، وقد تسمت المنطقة بعمقها الحضاري وانفتاحها وازدحامها بالأحداث عبر تاريخها وتنوع دياناتها، بالإضافة إلى موروثها الثقافي والاجتماعي، وتشهد على ذلك المواقع الأثرية المنتشرة .فيها.

ذكر الباحث أيضًا ما قيل عن الكوفة ومكانتها حتى كأنها تزاحم مكة في منزلتها، بسبب كثرة ما ورد حول فضلها من روايات وعلى الرغم من التي مرت بها بقيت نابضة بالحياة والعطاء، واستمرت في ضمير العالم قاعدة للعلوم والمعرفة، إلَّا أن شعلتها بدأت بالخفوت حتى وصلت إلى الاضمحلال، وأصبحت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عبارة عن أطلال ليس فيها إلّا مسجدها الجامع.

قدّم الباحث أيضًا وصفًا لخططها بعد نزول القبائل التي رافقت سعد بن أبي وقاص، ولكنه لم يستطع تقديم إحصاء دقيق لعدد سكانها بسبب شحة المصادر.

انتقل الباحث بعد تقديمه الوافي إلى ذكر من توفي بالكوفة ودفن فيها من الصحابة والتابعين ومن عاصرهم، وليس من السهل معرفة أعدادهم، وأقدم إشارة وقف عليها الباحث تعود إلى القرن الخامس الهجري وهي ما روي عن أبي الغنائم النرسي من أنه دفن فيها ثلاثمائة وثلاثة عشر صحابيا لا يتبين منهم إلا قبر أمير

ص: 258

المؤمنين عليه السلام، وما ذكر لا يتوافق مع عدد سكنها آنذاك، والنرسي لم يورد أي ذكر للتابعين، وذكر أن الدفن كان في جبانات اتخذت في الجانب الغربي منها، ثم انتقل الدفن منها نهائيًا إلى ثويّة الكوفة، وهي جزء من ظهر الكوفة في جانبها الغربي، والذي عليه الكوفة والحيرة بحسب ما ذكره الطبري، ويذكر أن اسمها اشتق من اسم سجن النعمان بن المنذر ، إذ إن من دخله ثوى به. واختلف في حدود اتسعت لتحتوي الفضاء ما بين الكوفة والحيرة والنجف بل تتجاوز الثوية حتى هذه المسافة إلى كربلاء.

يرى الدكتور الفرطوسي أن تسميته لها ببقيع الكوفة لأنها لا تختلف عن بقيع المدينة، إذ إن من دفن بها من الصحابة أكثر ممن دفن منهم في بقيع المدينة. ذكر الباحث أن أول من دفن فيها هو الصحابي خباب بن الأرت سنة سبع وثلاثين للهجرة ثم استمر الدفن فيها من بعد ؛ ولا يدرى متى اندرست تلك القبور.

ونتيجة للزحف العمراني بين مدينتي النجف والكوفة واتصالهما غابت عن الأنظار تلك المقبرة.

ذكر الباحث الصعوبات التي تقف أمام الدارسين في إيراد ترجمات وافية الشخصيات ذلك العصر من الصحابة لأسباب يمكن إجمالها بالآتي:

-1 تأخر تدوين التاريخ الإسلامي.

-2 طائفية الحكم وفعلتها في تشويه كثير من الصور.

-3 إبعاد العقل واعتماد العاطفة ودورها هي الأخرى في التشويه.

ص: 259

-4 صراع العلماء فيما بينهم وميولهم وتعصبهم واتهام بعضهم بعض الشخصيات بالكذب والتدليس وتناقلت رواياتهم الأجيال، وبرغم تأسيس علم الجرح والتعديل، فإنه لم يسلم من الانحياز الطائفي أيضًا، فغيبت بذلك جوانب مهمة من حقائق التاريخ.

-5 شح في المصادر يصعب معه معرفة اسم الصحابي أو التابعي، أو من كان له دور في أحداث العصر، مما أدّى إلى ضياع شخصيات لا تحصى في غياهب الزمن.

وضعنا الباحث بدائرة الأمل في متابعة من دفن من تابعي التابعين وتابعيهم بالكوفة أو في ثويتها في وقت لاحق، وكذلك فيما يتصل بمن سكن الكوفة أو رحل عنها من بعد، أو استشهد أو توفي في مكان أخر بوعد سيعود إليهم إن سمحت صحته، نسأل الله أن يكون دائما على أحسن ما يرام.

ذكرنا الباحث أن ماضيه مهما حاول التجرد وعدم الانحياز والاعتدال فإن الطبيعة تدفعه إلى الانحياز أحيانًا مهما حاول .

والتراجم التي تفضل أستاذنا بعرضها في كتابه مثلت صورًا تتسم ببهائها ورونقها بألوان تعجز العين أن تنقلها إلى العقل ليوعز لليد خط كلمات أسطرها ووصف درجات ألوانها من شجاعة وإيثار ونكران ذات وتضحية وفداء من أجل المبدأ والعقيدة من علماء ،أعلام ونساك وفقهاء وقراء بمثالية ورعهم وتقواهم وزهدهم؛ منهم من قدم نفسه على مذبح المبدأ والكلمة ، يقابلها من التراجم من

ص: 260

كانت ألونها لا تشعرك بالسرور والبهجة لزرعها الفرقة واتسامها بالوحشية وسفكها دماء الأبرياء بلا شفقة ورحمة، ومنها من انساق انسياق القطيع ليكون مطية للقتلة والسفاحين .

يقدم الباحث بهذه التراجم مادة للدارسين والباحثين للتوسع في تخصصاتهم ويساعد في إزاحة ما غطته تراكمات الزمن.

وأضم صوتي لصوته باقتراحه نصب تمثال لتلك المقبرة التي ضمت أجداث الصحابة والتابعين، ولنتذكر دائما أن دول العالم تخلق أحيانًا من اللاشيء شيئًا، ونحن لدينا كل شيء إلّا أننا مما يؤسف عليه لم نكن أمناء مع من ترك بصماته سلبًا أو إيجابًا، إذ ليس من حقنا أن نغيب أيا منهما لأن كلاهما له بصماته في مختلف مناحي الحياة.

ركز الباحث في القسم الأول من الجزء الأول بعد المقدمة الوافية على تراجم الصحابة والبالغ عددهم 176 صحابياً ممن نزل الكوفة ومات فيها، وأعرض عن ترجمة من نزل فيها وغادرها، وتوفي في خارجها، وذكر من اهتم بتراجم الصحابة من القدماء كابن سعد في طبقاته، والبراقي في بحثه تاريخ الكوفة، والأميني في بحثه الموسوم ب- من دفن في النجف من صحابة الرسول الأكرم الذي نشر ضمن موسوعة النجف الأشرف.

ووجدت أن الدكتور الفرطوسي استطاع في كثير من الصبر أن يسرج لياليه، ويطوي نهاراته مكباً على البحث والتنقيب والتدقيق والتمحيص ليتحف المهتمين

ص: 261

بهذا الإنجاز، مذيلًا كل ترجمة بمصادرها، وبترتيب تاريخي، أما من عرف بكنيته منهم، ولم يعرف اسمه فقد وضعه في نهاية بحثه هذا، ولم يغفل ذكر مصادره بعد الخاتمة، وأشاد بعدد من الباحثين ممن ساعده في تيسير مصادر بحثه، أو قام بتحمل تكاليف طباعته.

في القسم الثاني من الجزء الأول، والجزء الثاني من الكتاب ترجم للطبقة الأولى من التابعين وبلغ عددهم 781 تابعيًا غطّى من خلاله في أثناء تراجمهم أحداثًا في غاية الأهمية للباحثين والمهتمين بدراسة المجتمع الكوفي من نواحيه مع الإشارة إلى التناقضات والثورات والمجازر التي حصلت في تلك المرحلة الزمنية.

والتراجم التي قدمها الباحث لمن قبر في الكوفة يستحيل العثور عليها مجتمعة في المصادر التي عاصرها الباحثون من قبل، وتفاوتت التراجم بحسب ما وفرته المصادر المعتمدة، وربط من خلالها الأحداث التي حصلت ودور كل واحد منهم فيها مع ذكر المصادر التي اعتمدها، ومنهج كل مصدر.

جميع بعد إتمامي قراءة هذا العمل العلمي ،بجزأيه شعرت برحلة ممتعة وسعادة غامرة، وأنا أمام مؤلف وباحث له باع طويل ومتميز في التنقيب والتتبع، وقدرة على إيصال المعلومة، وقد بذل جهدًا كبيرًا لتقديم هذه المادة التي لم نطلع عليها من قبل، واعتمد على كثير من المصادر مع تحري الحقيقة والصواب، وألفيت الكتاب مفيدًا ماتعا في بابه، لم يترك الباحث شاردة ولا واردة إلا وذكرها، وغاص للوصول إلى هدفه ليضعه أمام كل من أراد الإفادة والمتتبع لابد أن يقف بكثير من التقدير

ص: 262

والاعتزاز لهذا الجهد ، وأذكر ما قاله الدكتور غازي القصيبي: (هلا استرحت فأقران الصبا هدأوا غير أنه يعلم قبل غيره أن من يمشي على القلق، ويرقد فوق أهداب المشاعر هيهات له أن يطوي أضلعه على كلمة تستعر جمرًا قبل أن يبوح بها، ولاسيما مدن الوجدان عنده.

وأحسب أن هذا شأن الدكتور الفرطوسي، الذي نأمل أن يواصل عطاءه المتميز بكل مؤلفاته التي ميزت مسيرته الإبداعية بكل عنفوان.. إنها حياة الإبداع بكل تباريحها وكبرياء جروحها التي تنزف ألقا في حياتنا ودفءًا وعطرًا، وتمطر الجوانح بالياسمين ،والخزامى لآثار طمست معالمها، وما بقي منها تناثر بين السطور من الصعب تتبعها والعثور عليها ؛ هكذا علمنا الفرطوسي مع كل مؤلف له. هذا الإنسان تحس به أكثر من باحث، وكأنه شاعر حين يكتب وجوهري يحسن اختيار الكلمة ويوظفها بعطاء فكري غني متميز وإنتاج إبداعي غزير ومتنوع.

مقدمة کتاب استدراك الغلط الواقع في كتاب العين

مقدمة المحقق

تقديم

مرّ زمن قارب أربعة عقود أو تجاوزها يوم وقعت عيني أول مرة في فهارس مخطوطات خزانة القرويين بالمحروسة فاس على كتاب استدراك الغلط الواقع في كتاب العين لأبي بكر الزبيدي، وحين سألت عنه أعلمني القائمون على الخزانة أنه من المفقود منها، فسألت الصديق العزيز العلامة الدكتور عبد العلي الودغيري

ص: 263

فأعلمني أنه يملك مصورة منه، وحين علم برغبتي بالحصول على نسخة منه سارع بتصويرها وأهدانيها جزاه الله كل خير.

ويوم عدت من المغرب الشقيق إلى العراق سنة 1984م بدأت التفكير بتحقيقه تلف على الرغم من مصورته بسبب أصاب الأصل من عوادي الزمن، وبعد إنجازه قدمته لمجمع اللغة العربية بدمشق بغية النظر في طباعته. وقد طبعه سنة 2003م ولكن تلك الطبعة نفذت منه، وما عدت ذلك القوي كي أعيد طباعته ثانية على الرغم من أنه أول كتاب في النقد اللغوي يصل إلينا.

وبسبب من أهميته للدارسين رأيت إعادة نشر مقدمته التي كتبتها قبل سنة 1999م بمدينة سراييفو في البوسنة والهرسك يوم كنت خبير المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة فيها .

وقد مرّت مسودة الكتاب على مراحل من حياتي بعد تغربي كلها نكد؛ إذ لم أتشوف أي مستقبل زاهر لبلادي، ويوم انجلت الغمة عنه ظنته سيعود جنّة تتطلع إليه الدول بالإعجاب والإكبار ولكن الذي حدث منذ سنة 2003م وإلى يوم الناس هذا يدعو إلى الأسف وشديد الحسرة والأسى لما وصل إليه من تخلف وترد وتجهيل وفقر؛ وهو الله أسأله أن يزيح الغيوم السود عنه، ويهدي قادته إلى ما فيه الخير والسداد.

ص: 264

المقدمة

أبو بكر الزبيدي محمد بن حسن بن عبد الله بن مذحج بن محمد بن عبد بن بشر الإشبيلي، أصل أجداده من حمص، والزبيدي نسبة إلى زيد بن مصعب بن سعد العشيرة ، رهط الشاعر عمرو بن معد يكرب.

كانت ولادته بإشبيلية سنة 316ه-، ولكنه تعلم بقرطبة، واختص فيها بأبي علي القالي (ت356ه-)، وهو من أنبه تلاميذه، وأشهرهم، وأكثرهم أثرًا في الحركة الثقافية التي شهدتها الأندلس في النصف الثاني من القرن الرابع والقرون التي تلته بسبب غزارة علمه وسعة روايته، وأثر مؤلفاته التي شاء الله أن تكون أول المؤلفات اللغوية والنحوية والصرفية التي تصل إلينا من مؤلفين أندلسيين، كما أن أغلبها فتح بابًا على المشرق لم يكن بهذه السعة من قبل؛ وقد سار على نهج المؤلف جمهور من علماء الفردوس المفقود من الذين تابعوا الموروث المشرقي شرحًا، ونقدًا، واستدراكًا، وتأليفًا على منواله؛ وهي متابعة اتسمت في أغلب جوانبها بالإضافة، والابتكار، ولتجديد والصراع، وذلك لإظهار شخصيتها العلمية بمظهر لا يقل عن مظهره في المشرق كابن السيد البطليوسي (ت 521 ه-) الذي ألف كتاب (المثلث) بعد أن رأى اهتمام العلماء بمثلث قطرب، والاقتضاب في شرح أدب الكتاب بعد أن رأى احتفاء الدارسين بكتاب أدب) الكتاب لابن قتيبة (ت 276ه-) ، وكابن سيده (ت 458ه-) الذي ألف كتابي (المحكم والمخصص سيرًا

ص: 265

على كتابي (العين) للخليل (ت 170 ه- ) ، و (الغريب المصنف ) لأبي عبيد (ت 224ه-)، وغيرهم.

الزبيدي باللغة والنحو والصرف والأخبار ؛ وإذا حق للأمة أن تحتفي بعلميها الرائدين الخليل وسيبويه في المشرق، فإنه يحق للأندلس أن تحتفي بالزبيدي، فكتابه الواضح في النحو) أول كتاب في بابه يصل إلينا من مؤلفات الأندلسيين، ولك أن تقول مثل هذا عن كتبه الأخر، ولن يزيده عزّاً أو شهرة تأديبه ابن الخليفة الحكم المستنصر بالله هشام المؤيد بالله (ت 403 ه- ) ، أو ولاية قضاء إشبيلية، أو إدارة خطّة الشرطة، أو احتلاله مكان الصدارة في بلاط المستنصر بعد رحيل شيخه أبي علي القالي؛ بل كل هذا شارك في تخليد الحكم راعية العلم في عصره.

وبالإضافة إلى الدراسات الكثيرة التي تناولت سيرته وأثره وآثاره، ولاسيما دراسات محققي كتبه المطبوعة، وهي (طبقات النحويين واللغويين) و (الواضح) و و (مختصر (العين و الاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية) و (لحن العامة) (مقدمة استدراك الغلط الواقع في كتاب العين، فقد درسه المستشرق الإسباني لاثارو في رسالة علمية قدمها إلى جامعة مدريد سنة 1968م بعنوان (أبو بكر الزبيدي نحوي أندلسي من القرن الرابع ؛ وقد التقيت زوجته التي كانت ترأس قسم اللغة العربية بجامعة مدريد عند زيارتها لخزانة القرويين، ثم التقيتها رفقة زوجها السيد لاثارو في منزلي بفاس في أوائل صيف سنة 1983م. وقد تكرم علي الرجل فأرسل لي ملخصًا من رسالته مترجما إلى العربية أفدت منه في تحقيق مختصر العين.

ص: 266

ودرسه أيضًا طيب الذكر الدكتور نعمة رحيم العزاوي طيب الله ثراه في رسالة علمية أيضًا قدمها إلى كلية الآداب بجامعة بغداد بعنوان (أبو بكر الزبيدي وآثاره في النحو والصرف)، وقد طبعت في مطبعة الآداب في النجف الأشرف سنة 1975م.

واهتم به اهتمامًا خاصًا من المغرب الدكتور عبد العلي الودغيري في كتابيه (أبو علي القالي وأثره في الدراسات اللغوية والأدبية بالأندلس) والكتاب في الأصل رسالة ماجستير أيضًا، وقد طبع في مطبعة فضالة بالمغرب سنة 1983م، و (المعجم العربي بالأندلس) الذي طبع في مطبعة المعارف الجديدة سنة 1984م.

أما مؤلف الزبيدي استدراك الغلط الواقع في كتاب العين) الذي نحتفي به فقد بعد سنة 362ه-، وهو أول كتاب يصل إلينا في النقد المعجمي، ويقدم فكرة النقد اللغوي وما وصل إليه في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري بالأندلس.

ودارت حول كتاب العين في المشرق قديمًا دراسات كثيرة أذكر منها كتاب (المدخل إلى كتاب (العين للنضر بن شميل وكتاب (الاستدراك لما أغفله الخليل في المهمل والمستعمل لأبي تراب، وكتاب الاستدراك لما أغفله الخليل لابن المرا وكتاب (ما أغفله الخليل في كتاب العين وما ذكر أنه مهمل وهو مستعمل وقد أهمله للكرماني، وكتاب الرد على الخليل وإصلاح ما في كتاب العين والمحال والتصحيف للمفضل بن سلمة، وكتاب (الرد على المفضل في نقضه على الخليل ) لنفطويه، وكتاب (الرد على المفضل بن سلمة فيما نسبه من الخلل إليه لابن

ص: 267

درستويه وكتاب (التوسط لابن حفص الذي جمع فيه ردود ابن دريد على كتاب الذي المفضل السابق الذكر ؛ وكتاب ( الاستدراك على كتاب (العين للخارزنجي أفاد منه كلّ من الأزهري في تهذيبه، والصاحب في محيطه.

وكل هذه المؤلفات السابقة الذكر لا يوجد ما يشير إلى وصولها إلينا، ولا توجد إشارة إلى اطلاع الزبيدي على أحدها، والقالي الذي نقل كثيرًا من التراث المشرقي إلى الأندلس لم أجد ما يشير إلى نقله واحدا منها، وقد أشار الدكتور الودغيري إلى مثل هذا، وعلى هذا نستطيع أن نقدر القيمة التاريخية والعلمية لكتاب (استراك الغلط الواقع في كتاب العين، وكان الفضل في التعريف به وتحقيق مقدمته لأخي الدكتور الودغيري.

وأزعم أن الزبيدي في تأليفه كتاب (المستدرك من الزيادة في البارع على كتاب العين) الذي لم يطبع بعد، و (مختصر (العين) و (استدراك الغلط الواقع في كتاب العين من جهة، وكتاب (الاستدراك على سيبويه في كتاب الأبنية من جهة أخرى استطاع أن يعقد مجلسًا علميًا في المشرق والمغرب لم ينفضّ بعد حول أشهر كتابين في تاريخ العربية.

وإذا كان الزبيدي قد رحل يوم الخميس مستهل جمادى الأولى أو الآخرة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة للهجرة المشرفة إلى جوار ربه، فإنه مازال يحتل مكانة طيبة في الدراسات اللغوية.

ص: 268

وقد رأيت كدرًا كثيرًا أشاب كتاب العين فتمنيت تنقيته منه، وسعيت لذلك، وحاولت أن أنتصف له من استدراك الزبيدي عليه فدرست اعتراضاته في الاستدراك دراسة جاهدت أن تكون موضوعية في التقديم، وفي هوامش المتن أملاً في فتح الباب من جديد لمناقشة مشكلات كتاب العين الذي لم يسلم من أذى العصور، وأزعم أن أمر تنقيته ضروري، ولا أراه مستحيلًا.

وإذا كان التراث الإسلامي الضخم الذي كتبته باللغة العربية شعوب من جنسيات مختلفة تصعب على الحصر فذلك لأن الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه المحكم بها، فكتب لها الخلود والرفعة والتقديس، وحفظها من كل الدعوات التي أرادت الإساءة إليها، لأن القرآن خاتم كتب السماء هو الحافظ لها، وليس على ذلك ما حققته من انتشار بعد الإسلام.

ولم يكن إخراج كتاب الاستدراك هينا بالنسبة لي في ظروف اتسمت بالرحلة الدائمة والاغتراب والقلق الدائم؛ عزت فيها المصادر وتباعدت، وضاقت النفس في أيام منها حتى بلغت الحلقوم، فعزفت حينًا، وأقبلت في آخر، وفوق هذا تعرض البحث للضياع يوم فقدت حقيبة أوراقي وأنا في طريقي إلى دولة البوسنة والهرسك خبيرًا للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو)، ولا أحدثك عن هول تلك الصدمة المروعة التي كادت تفقدني رشدي واتزاني، إذ رأيتها من أصعب امتحانات الغربة التي مررت بها، ولولا مساعي الأخ الكريم الأستاذ حسين بانيتا ممثل دولة البوسنة في المنظمة الإسلامية لذهب مجهود ربع قرن أدراج الرياح، فجزاه

ص: 269

كل خير وبارك في مسعاه، ومازال يطوقني بأياديه الكريمة طيلة بقائي في تلك البلاد.

أما النسخة الخطية الفريدة من الكتاب التي كانت تحتفظ بها خزانة القرويين وضاعت منها فقد صورها لي عن مصورته أخي الدكتور الودغيري، وهي نسخة تالفة أصابها دمار كبير بسبب الرطوبة والآفات التي كادت تحيلها أثرًا بعد عين، وتبين لي أثناء الشروع بتحقيقها سقوط صفحات كثيرة منها، فرجوت أخي الودغيري أثناء إقامتي بالنيجر أن يعود إلى مصورته لتصوير ما فات تصويره فستجاب لرغبتي جزاه الله خير الجزاء، وقد طوقني الرجل من قبل بأياد كريمة منذ أن عرفته زميلاً كريمًا في كلية الآداب بجامعة محمد بن عبد الله بفاس في ثمانينيات القرن المنصرم، ومازالت روابط الإخاء تربطنا حتى يوم الناس هذا.

وكنت قد أعرت المصورة لتلميذي الطالع الدكتور نعيم البدري في أثناء تحضيره رسالته الموسومة ب- كتاب العين في ضوء النقد اللغوي في القرن الرابع) ليستفيد منها في بحثه، فنسخ ما استطاع قراءته منها وأهداني إياه، فأفدت كثيرًا مما نسخه جزاه الله كل خير، وقد كان هذا الرجل من أكثر طلبتي برا ورعاية لي منذ إشرافي عليه حتى مغادرتي العراق في خريف سنة 1993م. ولا أدّعي أني قدّمت الكتاب بالصورة التي أرتضيها، ولكني أراها تقدم خدمة كبيرة للدرس اللغوي فهو أول كتاب في النقد المعجمي يصل إلينا كما سبق القول.

ص: 270

وأرجو أن يكون بحث (الانتصاف) الذي قدمت فيه (الاستدراك) موضوعيًّا يشارك في تنقية كتاب العين، وأتمنى أيضًا أن أكون مصيبا في ملاحظاتي على مآخذ الزبيدي في هوامش التحقيق.

وما كان لهذا الكتاب أن يرى النور لولا التفاتة رئيس مجمع الخالدين بدمشق الفقيد العزيز الأستاذ الدكتور شاكر الفحام طيب الله ثراه، ونائبه الأستاذ الدكتور محمد إحسان النص إلى أهميته فأمرا بطبعه جزاهما الله خير الجزاء.

ولست ناسيًا شكر إخواني القائمين على الطباعة في المجمع على ما بذلوه من جهد يستحق ثناء وتقدير أخص بالذكر منهم الأستاذة حنان قناية التي حرصت على إخراج الكتاب بصورته الحالية.

ومما دفعني إلى نشهر هذه المقدمة ثانية أن نسخ المطبوع في المجمع قد نفدت، ولم يطبع الكتاب ثانية، وما وصل منه إلى الجامعات العراقية يعد على أطراف أصابع اليد الواحدة ولقد سألت الله مخلصًا أن يحتسب هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ويبارك فيه، ويجعل منه صدقة جارية إنه سميع الدعاء.

مع الأستاذ الدكتور حسن الحكيم في كتابه (الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي)

لم تكن الكوفة والنجف المدينتان المقدستان عابرتان في حياتي قبل أن أغادر العراق في 23 / 10 / 1993م، وبعد مغادرته يوم كتبت علي هجرة البلاد كما كتبت

ص: 271

على غيري من أساتذة الجامعات وغيرهم، كنت أراهما على البعد بكل جمال المدن التي مررت بها عروسان ترفلان بالسحر والجمال والمجد الباذخ، والتاريخ الحافل بالأحداث، والعلم والعلماء.

وحين أعيتني الحيلة في إبعادهما عن ذاكرتي وإبعاد بلدي معهما تركت كل شيء إلا الإبحار في عوالمهما المتناهية الأبعاد أكتب ما يجود به قلمي عنهما، وأقرأ ما يقع بين يدي من كتب تتحدث عن مجدهما، ورجالاتهما وثوراتها وتاريخهما العلمي والسياسي والاجتماعي.

ومرّ زمن جاوز خمسة عقود قد تزيد أو تنقص يوم اطلعت أول مرة على كتاب (حياة الشعر بالكوفة) لطيب الذكر شيخي الأستاذ الدكتور يوسف خليف تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، ولما عبّرت له عن إعجابي به بعد إتمام قراءته ذكر لي رحمه الله أن أستاذنا العلامة الفقيد الدكتور شوقي ضيف قال له: لقد كنت في كتابك كوفيا أكثر من الكوفيين لشديد انحياز الشيخ إلى المدينة ومجدها الغابر.

وبعد عقدين تزيد ولا تنقص وقع في يدي كتاب (الكوفة وأهلها في صدر الإسلام للفقيد الدكتور صالح أحمد العلي رئيس مجمع اللغة العربية الأسبق في ،العراق، فأفدت منه أيما فائدة للمعلومات القيمة التي سردها عنها ، كما دها عنها، كما أفدت من غيره كثر من كتب تناولت تاريخ الكوفة ورجالاتها وأطوارها التاريخية، لا يتسع المجال لسردها، وهي كثيرة.

ص: 272

وربطتني من قبل بالدكتور الحكيم علاقة مودة مشوبة بإعجاب بشخصيته ونتاجه العلمي تمتد إلى قرابة عقدين أو أكثر؛ وقد أكبرت جهده وحدبه على دراسة المدينتين المقدستين ونواحيها ورجالاتهما، مثلما أعجبت بتواضعه ونبله وخلقه الكريم، وليس ذلك بكثير عليه، فهو من أسرة علم وعلماء.

والدكتور الحكيم أيضًا من شخصيات النجف الأشرف العلمية العالية الجناب كان أول رئيس لجامعة الكوفة بعد سقوط النظام، ونال من قبل شهادة الماجستير سنة 1974م، كما نال من بعد شهادة الدكتوراه سنة 1982م، واختص بدراسة التاريخ، وبرّز فيه وزاحم أقرانه، ولاسيما دراساته عن المرقد المقدس والنجف الأشرف والمثلث الحضري وأطواره. ومنذ سنيتين أو ثلاث لا أدري أهداني حفظه الله نسخة من كتابه (الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي) فتصفحته على عجالة فأعجبت به ورأيته يستحق العرض والتنويه وانشغلت عنه ردحًا من الزمن، ولكنه لم يغب عن ذاكرتي.

والكتاب من إصدارات أمانة مسجد الكوفة والمزارات الملحقة به؛ ويحق لأمانتها أن نتقدم لها بالشكر والتقدير والتنويه لما أصدرته خلال العقد المنصرم من منشورات تناولت تاريخ الكوفة ورجالاتها، وكتاب الحكيم من منشورات دار العارف ببيروت سنة 2011م ، يقع في ثمان وثمانين وثلاثمائة صفحة؛ وحين تنظر في فهرس مصادره ومراجعه يخيل إليك أن الكاتب لم يترك بحثًا تناول الكوفة بأي جانب من جوانبها إلاّ أفاد منه حتى بلغ عدد مصادره ومراجعه سبعا وعشرين

ص: 273

وثلاثمائة ما بين مخطوط ومطبوع وبحث ودراسة وأزعم أن الكتاب تستهويك قراءته من مقدمته الرصينة التي تناول فيها خطط الكوفة.

قسم الباحث كتابه على أقسام كل قسم يحتوي على دراسات تكثر في قسم وتقل في آخر بحسب ما تستوعبه عناوينه ؛ فمبحث خطط الكوفة استوعب اثنتي عشرة دراسة تلونت ألوانًا مختلفة، فمن (مدينة) الكوفة أنموذجا لتخطيط المدن الإسلامية)، إلى الكوفة في كتاب الرجال للنجاشي؛ وبين هذه وتلك مباحث تستحق التنويه لقلة ما كتب عنها حديثًا، كمبحث خطط الكوفة في فكر الإمام الصادق عليه السلام الذي نشره الباحث من قبل وكنت أتمنى عليه أن يتعمق بدراسته هذه ويوثقها من مصادر لا تكون فيها الروايات عائمة المعالم.

ومن دراسات هذا القسم ما كتبه عن طريق الحاج الذي بحثه من يوم الحجيج، ولحين تعميره بأمر السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد، وما تلا ذلك من اهتمام ومتابعة للطريق في أطواره المختلفة حتى الحكم العثماني، ولم ينس مواقف القرامطة من الحجيج وما قاموا به من سلب قوافلهم ونهبها؛ وهي دراسة تمنيت على الباحث أيضًا أن يتعمق فيها، ويطيل الوقوف عليها كما أشرت إلى ذلك من قبل .

ولفت النظر في هذا القسم إلى تأثير الكوفة على المتنبي وشعره، وهي دراسة قل التفت إليها أحد من الدارسين من قبل فيما أعلم، ولكن ليس موقعها في هذا القسم.

ص: 274

وتحدث عن خفوت دور الكوفة السياسي بعد معاهدة صلح الحسن عليه السلام، إذ انتقلت العاصمة أثناء الحكم الأموي إلى بلاد الشام. ولكنّ أبو العباس السفاح أعاد إليها هيبتها ردحًا من الزمن ليس بطويل، وفي مسجدها الجامع خطب خطبته الأولى، إلا أن إقامته فيها لم تدم طويلاً.

ولم يفت الباحث ذكر أشهر الصحابة الذين كانوا يعلمون الناس الأحكام، ویر شدونهم إلى العقائد به. وفي هذا القسم أيضًا سلط الضوء على كتاب الرجال للنجاشي لأهمية بسبب تعرضه لذكر بعض أعلامها.

وقدّم في مبحث الحياة الاجتماعية والاقتصادية أربع دراسات تناول في الأولى منها دور القبائل اليمنية في الحياة السياسة، وخص الثانية بدور قبيلة مذحج في الكوفة، ثم انتقل من بعد إلى مشاهدات ابن بطوطة في النجف الأشرف والكوفة.

وخص دراسات المستشرقين ببحث ختمه بذكر بعض آرائهم في تحليل حركة المختار الثقفي، وقد كانت له في هذا القسم آراء تستدعي التنويه، ولكن كنت أتمنى أن يتوسع فيه ويتعمق، ويعرض ما ذكره الرحالة الآخرون أثناء مرورهم بالمدينة ومشاهداتهم عنها، بل كنت أتمنى عليه أيضًا أن يكون موقع هذا المبحث في القسم الثاني من كتابه فيكون قد عرض مكانة الكوفة عند المؤرخين العرب، ثم تكون النقلة الثانية عنها إلى دراسات المستشرقين ومشاهدات الرحالة.

القسم الرابع من كتابه لعنوان الحياة العلمية والفكرية في الكوفة، واحتوى على ستة مباحث رأيت بعضها لا يحتاج إلى إفراده بعنوان، كما وددت أن يُخرج من

ص: 275

هذا القسم مبحث الندوات الأدبية النجفية، فيفردها بقسم يطيل الوقوف عليه، ويمزج معه إن شاء مبحث الشاعر الشيخ علي البازي وغيره.

ومن أقسام الكتاب المهمة مبحث (إخباريون ومؤرخون) ترجم فيه ترجمات متفاوتة لعشر شخصيات تناولت جوانب من تاريخ الكوفة السياسي خاصة. ومن أقسام الكتاب دراسته العابرة عن القرامطة في حاضرة الكوفة، وقد تمنيت أن يطيل الوقوف عليه أيضًا، لا أن يختصره بصفحتين لا غير.

وقد تكون أقسام الكتاب الأربعة الأخيرة (فقهاء ومحدثون، وقضاة الكوفة في بغداد، وقادة وثوار ونقابة العلويين في الكوفة في العصر العباسي) من المباحث الأساسية، ولكن تفاوت العرض فيها، من قسم درس فيه سيرة ثمانية من الفقهاء والمحدثين إلى قسم سرده سردًا من دون تفصيل وهو (قضاة الكوفة)، إلى بحث ذكر فيه ثلاثة من قادة الكوفة وثوارها.

وعلى الرغم من كل ما يقال عن هنات الكتاب التي مست الشكل من حيث التقسيم في الغالب إذ تفاوتت فيه مادة العناوين تفاوتا كبيرًا من قسم جاوزت صفحاته الثمانين، إلى أقسام لم تتجاوز صفحاته الست ولكن هذه الهنة لا تمس قيمة الكتاب، حتى كأنه موسوعة تناولت تاريخ الكوفة من كل جوانبه ونواحيه. وتبقى هذه الدراسة صاحبة الفضل في أخذي أخذ مقتدر إلى جميع مباحثها، وأنا أسأل الله مخلصًا أن يطيل عمر أخي الدكتور الحكيم، ويحفظه، ويبصره كي يتحف المكتبة العربية الإسلامية بما يجود به قلمه

ص: 276

استراحة رمضانية في اليمن

هذه المقالة والتي تتبعها مرّ عليهما قرابة ثلاثة عقود، وتحديدًا في سنة 1993م،

نشرتا في صحيفة الجمهورية التي تصدر بمدينة تعز بعد خروجي من العراق في شهر أو شهرين، لا أدري ولم أكن في وضع نفسي مستقر، بعد أن فارقت الوطن على الرغم من أنفي، وقد نشرت الأولى بعنوان (بيت الأمة). وكانت تدور حول الحديث النبوي الشريف (رفع الأذى عن الطريق صدقة).

كتبت

علينا أن نتفق قبل كل شيء، فإن استطعنا فعلنا، وإلا كانت الأخرى؛ وإياك أن تشيح بوجهك عنّي، فأنا من أخبر الناس بك؛ أعرفك قبل الإسلام وبعده، وعشت معك قبل قرابة ربع قرن (1)، وعدت إليك ثانية(2) كي أنعم بشيء من الأمن والأمان الذي حرمت منه في بلدي.

أعرف أنك مغامر لا يشق له غبار، وأعرف أنك تاجر امتلك قديمًا نصف تجارة الجزيرة العربية، وشارك في النصف الثاني منها، وأعرف أن سفنك محرت عباب البحر حتى وصلت إلى أقصى الشرق. وأعرف أن جذورك ممتدة في أعماق مجاهل التاريخ، وأنك شاركت مشاركة فاعلة في تراث الإنسانية وقيمها وأعرف أنك كنت من أصلب سيوف الإسلام، وأقواها، وأشدها على الكافرين، وأعرف أنك من بعد

ص: 277


1- درست بمدينة عدن سنة 1970م.
2- عينت أستاذًا بكلية التربية بمدينة تعز التابعة لجامعة صنعاء في حينها.

تستطيع أن تباهي الأمة بأنك الوحيد الذي لم يستطع الاستعمار بكل أشكاله وعهوده قبل إبرهة وبعده أن يحتل جميع أرضك، وإن استطاع دخول رقعة فسرعان ما يخرج مدحورًا منها.

أعرف أنك تحمل على كاهلك شرف القبيلة وموروثها كرما ونبلاً وشجاعة وشهامة، ولم أعجب من قبل كإعجابي بالقادة العظام الذي أنجبتهم أمتك، وشاركوا في إيصال الإسلام إلى حدود الصين، ومنهم المهلب بن أبي صفرة الذي استطاع أن يمد جذوة الحياة في أبنائه قرابة أربعة قرون، حكموا فيها دولاً كثيرة في المشرق والمغرب وشاركوا في حركة الثقافة التي انتشرت في المشرقين. وأعرف أوسمة الفخار التي نالها اليمنيون من رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن أمير المؤمنين عليه السلام، وأعرف أنك تحفظ قول النبي الكريم صلى الله عليه وآله الكلمة الطيبة صدقة، فهل لك أن تأتي معي إلى كلمة طيبة نجلس من حولها بعيدًا عن أحاديث السياسة التي شوهت كل شيء جميل في حياتنا، وما دخلت بيتا إلا وصدّعت أركانه؛ تعال معي نفترش شارعًا من شوارع مدننا الجميلة التي حباها الله بأجمل مناخ عرفته الأرض، وقد لا تعرف هذا، ولكني أعرفه، فقد طوفت في مدن لا أحصيها حتى مللت التطواف زرت مدن العالم المتقدمة منها والمتأخرة،

ودرت حول البحر الأبيض المتوسط ، ونزلت مع النيل إلى أقصى صعيده، وعرفت مدن الخليج والجزيرة، وطوفت سائحًا ودارسًا وعاملاً؛ وكثيرة المدن الجميلة التي مررت بها، إلا أن الذي لم أعثر عليه مناخ مدينتك هذه وطبيعتها الساحرة؛ وليس

ص: 278

كثيرًا عليها أن يخصص لها مقعد وزاري خاص بالسياحة يشارك تجار المدينة وأثرياؤها بتمويله لأحياء معالمها الجميلة.

ولست اليوم بصدد هذا، فهو أمر يحتاج إلى وقفة طويلة، وحملة إعلامية داخلية وخارجية، وهو إن نجح سيكون أنجح المشاريع، وآمنها وأكثرها ربحًا. أردت أن نختار شارعًا لجلستنا هذه نستطيع أن نفترش رصيفه، ولا أظنك ستعثر على متر مربع يصلح لجلستنا، بسبب أعواد القات وغيره التي تملأ الأرصفة والطرقات والأسواق.

لقد وهبنا الله نعمة تحسدنا عليها كل الديانات صدقات بالمجان من دون دفع دانق أو قيراط (رفع الأذى عن طريق المسلمين صدقة).

وكيف تكون قيمة الصدقة إذا كان الأذى الذي ترفعه أخطر من قنبلة موقوتة، وكيف يكون العقاب إذا شاركنا في زرع هذه القنابل في طرقات المسلمين. مدينتنا التي وهبها الله هذا المناخ أنعم على جراثيمها بالصحة والسلامة أيضًا، فلا حرارة تتعدى الخمسين تستطيع شيها وتقضي عليها، ولا برد تحت الصفر يستطيع تجميدها وتحييد حركتها، فهي تسرح وتمرح ، وتتناسل وتتكاثر، وتتنقل من زقاق إلى آخر، ومن بيت إلى بيت عاتية مدمرة من دون خوف.

وإياك أن تلقي حبالك على مشاريع بلدياتنا، أو على وزارة الصحة أو غيرهما أو على نشرات التوعية، فقد مللنا من تلك المشاريع التي لم تسد ثغرة في جدار هذا

ص: 279

البلاء العظيم وأتخمنا أيضًا من أحاديث الأمر بالمعروف، ونسيان النفس، والنهي عن المنكر وارتكابه.

ولست بغريب عليك فأنا من أبناء هذه الأمة أحمل خيرها وشرها، ولا تضحك إن أخبرتك بالقصة الآتية: كنت في طريقي سنة إحدى وثمانين إلى زيارة عمي في مدينة جنيف عاصمة المال والسلام، وإذا بي أسلك طريقًا جبليا لا أدريكيف سلكته، وكيف تركت الطريق السريع، وقد حددت علامة المرور السرعة فيه بخمسين كيلو مترًا في الساعة لخطورته، وكانت السماء تمطر مدرارًا، ولكن ليس في الطريق من يراقب السرعة وقدرت أن الطريق سالكة ليس فيها ما يخيف والتزمت بالسرعة قرابة نصف ساعة، لم تتجاوزني سيارة واحدة على الرغم من إمكانية التجاوز، ويبدو أن صدري ضاق من الالتزام الذي لم أعتد عليه، فمرقت سيارتي بسرعة تجاوزت المائة بكثير أحيانًا، وكنت أرمق في عيون السواق الذين أتجاوزهم نظرة تعجب واستغراب، وأنا فرح بفعلتي الشائنة، وفي نهاية الطريق أوقفتني سيارة الشرطة نزل منها شرطي فحياني وكلمني بلطف بلغة فرنسية لم أفقه منها كلمة واحدة بعد أن نظر في أوراق سيارتي، ولكنها حتمًا كانت تدور حول المخالفة التي ارتكبتها، وحين نظر في جواز سفري قرأت الدهشة على محياه، إذ كانت مهنتي فيه أستاذا جامعياً، سلمني ،أوراقي، وأعاد حديثه الذي لم أفهمه، وانصرف وانصرفت.

ص: 280

أنا على يقين أن عدد شرطة المرور في أية عاصمة عربية أكثر من عدد شرطة المرور في أية دولة أوروبية، بل في الدول الأوربية مجتمعة.

(رفع الأذى من طريق المسلمين صدقة فكيف؟ وكل واحد منا يزرع الأذى في طريق الناس، وحين نذهب إلى زيارة تلك الدول نلتزم بقوانينها، وننسى تطبيق عين القوانين في بلداننا.

ماذا لو بدأنا بأنفسنا فاهتممنا بمزابلنا من دون أمر أو متابعة من وزارتي الصحة والداخلية، وكم أتمنى حين نسير في شارع أو حين نركب إحدى وسائل النقل أن نتذكر أن هذه الأماكن ليست مقيلاً تتقيل، أو مطعمًا تأكل فيه، لأن للطعام أو الشراب آدابهما، وكم أتمنى أن أستمع إلى خطيب أو أستاذ أو أديب يتحدث بإخلاص عن صدقة رفع الأذى.

وليس ببعيد أن نجد بعد مدة رصيفا نستطيع افتراشه للتداول بمشكلة أخرى نجد لها حلاً بعيدًا عن أنظار الساسة والسياسيين، وأنا على يقين أنك سترى شمسا تشرق من جديد.

رحلتي الأولى إلى اليمن

قبل أكثر من نصف قرن كانت زيارتي الأولى إلى اليمن، وقتها كنت عضوًا في البعثة التعليمية التي أرسلها العراق للمشاركة في تعليم أبناء اليمن، وكنت أيضًا طالب دراسات عليها بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وقد نسبت للتدريس بمدينة عدن التابعة لجمهورية اليمن الجنوبية.

ص: 281

وما إن حطت الطائرة بمطارها حتى اكتشفت أني لا أحمل الأوراق الصحية المطلوبة، فتقرر حجري بمحجر صحي يقع على ساحل البحر العربي، يبعد عن العاصمة كيلومترات عدّة، وهو في الأصل ثكنة عسكرية بريطانية، واكتشفت عند وصولي إليه أنني الشخص الوحيد المحجور رفقة أربعة حراس مدججين بالسلاح، وكانت مدة الحجر ثلاثة أيام مرّت كأنها ثلاثة أعوام أو تزيد لوحشة المكان وعدم وجود وسيلة من كتاب أو صحيفة أقتل فيها الوقت الطويل.

نقلتني حافلة إلى فندق «السيفيو هوتيل» الذي أُشكن فيه زملائي رفقة عوائل المتزوجين منهم وغير المتزوجين. ولم يكن الطعام الذي يقدمه مطعم الفندق مناسبًا لأذواق العرقيين بسبب كمية الفلفل الحار الذي تضاف إليه؛ وبسب كثرة الشكوى اقترح صاحب الفندق على عوائل الجالية تولي أمر الطبخ، فاستجابت أسر، وامتنعت أخر، ولم تنجح التجربة، ولم نستطعم الطعام لحين انتقالنا إلى السكن. وبعد أسبوع أو أسبوعين نقلنا إلى حي الرشيد، وهو من الأحياء التي بنتها بريطانيا لضباطها، يتكون من مجموعة من البيوت الصغيرة بنيت على طراز عصري، كل منها يتكون من ثلاث غرف وصالة ومرافقها، وتقرر إسكان كل ثلاثة من العزاب في بيت واحد.

وزعنا من بعد على مدارس المحافظات الجنوبية، وكان تنسيبي إلى ثانوية البريقة في مدينة عدن الصغرى التي تبعد عن العاصمة قرابة عشرة كيلومترات تزيد أو تنقص.

ص: 282

ورافقني في رحلة الذهاب والعودة زميل من الأخوة الأكراد اسمه «كاكا وريا» وهو مدرس رياضيات اتسم بخلق قويم، إلا أنه كان يكثر من قول لا في أي مقترح أقترحه عليه حول طريق العودة، وكان يختار الطريق الأبعد عند العودة لمرآب السيارات.

وبعد دخولي غرفة الدرس بيومين، وقع بصري على طالب يمضغ اللبان داخل الدرس ، وهي ظاهرة لا يمكن أن تحدث في مدارس العراق في ذلك الحين، فظننت أن الطالب يستهزئ بدرسي، وثارت في ذهني عصبية حمقاء، فاقتربت من الطالب وطلبت منه القيام وبدون مقدمات ضربته بكفي على وجهه بكل قوتي، وبدأت أعنفه باللهجة العراقية وقد أصيب الطلاب بوجوم، أما الطالب فلم ينبس ببنت شفة على الرغم من كونه ممثل الطلاب في المدرسة كما علمت من بعد، وما إن انتهى الدرس حتى ذهبت إلى المدير كي أشكوه فوجدت بعض الطلاب يجلسون على مكتبه ويتحدثون معه، وجميعهم يمضغون اللبان، فعلمت أنها ظاهرة عامة يلتجئون إليها في الصباح بعد وجبة القات المسائية، فأخبرت المدير أني أتيت للسلام عليه، وفي اليوم الثاني اعتذرت للطالب وللطلاب على ما فعلته بالأمس.

وأزعم أني أحدثت حركة ثقافية تربوية أسبوعية في تلك المدرسة لم تحدث في غيرها، حضر إحدى ندواتها الملحق الثقافي الأستاذ صلاح، حفظه الله إن كان حيًّا وأسكنه فسيح الجنان إن كان ميتًا، وهو من أبناء الحلة الفيحاء كان يتمتع بخلق محمود وثقافة عالية، لا يتأخر عن تذليل أية عقبة تواجه أعضاء البعثة التعليمية. -

ص: 283

وقد طوقني بيد لا أنساها له حين أزمعت السفر إلى مصر لأداء امتحان السنة التمهيدية للماجستير، إذ وافق على سفري من دون تردد ، وقد قدم للمشاركين في إحدى الندوات التي أقمتها من مدرسين وطلاب هدايا مناسبة كانت محل تقدير وثناء، وقد ربطتني بذلك الرجل الطيب علاقة حميمة لم تنقطع لغاية الثمانين من القرن المنصرم.

ومدينة عدن ليست كبقية المدن اليمنية فهي عصرية بشوارعها ومحلاتها وأحيائها تختلف عن بقيتها جمعيها فتلك موغلة بالقدم كأنها من مدن العصور الوسطى، وهذه بنى أغلبها الإنجليز على طراز حديث.

وعلى الرغم من استقراري بالمدينة وتمتعي بجمال شوارعها وأبنيتها العصرية وأحيائها وبحرها ونواديها الجميلة كالنادي الإيطالي وغيره وكلها واقعة على البحر التي كنا نئم بعضها نهارًا ونئم بعضها ليلا، وكلها بناها الإنكليز لعساكرهم، ولأن عدن الميناء الأهم على البحر العربي.

وإذا كانت تتمتع بطقس شتاء في غاية الاعتدال فإنها حين يقبل الربيع والصيف تغمرها رطوبة عالية وحر شديد.

ويا لكثرة الأسماك بتلك المدينة وتنوعها؛ وحين كنا ننظر إلى جرف البحر نراها وهي تسبح بأعداد كثيرة؛ وقررت مرة أن اصطاد فاشتريت أدوات الصيد وذهبت إلى منطقة خالية من الأمواج، ورميت صنارتي فكان من سوء الطالع أن علقت

ص: 284

بالصنارة حيّة بطول متر أو مترين لا أتذكر فرميتها في البحر وهربت من وكأن الحية تسعى من ورائي المكان كنت أتحرق شوقا لزيارة مدن الشمال ولاسيما صنعاء منها للاطلاع على مخطوطاتها ذات السمعة العالمية، وما إن حلت إجازة نصف العام الدراسي حتى وجدتني أختار الطريق البري إلى الشمال رفقة اثنين من زملائي، ولا أتذكر تاريخ تلك الرحلة، ولكن الذي لا شك فيه أنها كانت في ربيع سنة 1970م.

كانت المحطة الأولى مدينة تعز، ولا أحدثك عن وعورة الطريق الجبلي إليها، وما إن وصلنا حتى وجدت صديق الدراسة عبد الكريم جودي أحد أعضاء البعثة التعليمية في جمهورية الشمال اليمني بانتظارنا فاصطحبنا إلى داره، وبسبب متاعب الرحلة وطولها نمت مبكرًا في تلك الليلة، وفي الصباح رافقني مضيقي في جولة بالمدينة.

ولم تكن المدينة يومها مدينة بالمفهوم الحديث، كانت صورة من صور التخلف، قديمها قديم مدننا المنتشرة في بلادنا، كالنجف في خمسينيات القرن المنصرم، وكالمدن القديمة بفاس ومراكش وتونس العاصمة.

وحديث مدينة تعز آنذاك ليس غير شارع لا يسر الناظرين، وسوق غاية في التخلف، ولم يعلق في ذهني منها سوى بساتين الموز التي لا أدري أين ذهبت حين عدت إليها سنة 1993م، وفي أي موقع كانت ومما علق في ذهني منها أيضًا قصر الإمام وسجنه، وهو متخلف أيضًا لا يشبه بيوت الحكام؛ فلا خارطة تنظم أقسامهt

ص: 285

وغرفه، وكذا أثاثه لا يمكن أن أتصوره الحاكم من بتعز قدّر الي أن أدرّس بجانب منه في كليتي الآداب والتربية على الرغم من تقادم العهد عليه.

خرجت من المدينة وأنا آسف على زيارتها مشفق على سكانها، لم أغبطها على شيء إلا على مناخها الساحر ومناظرها الخلابة التي تحيط بها، وهي بلاشك مدينة الربيع الدائم.

في اليوم الثاني ودعنا صديقي واتجهنا إلى مدينة الحديدة، وعلى عكس الطريق الذي سلكناه من عدن إلى تعز كان الطريق معبدا منها إلى الحديدة قيل إن جمهورية الصين هي التي قامت بتعبيده لهم إلى صنعاء.

وإذا كانت تعز متخلفة في عمرانها، فيبدو لي أن مدينة الحديدة آنذاك أكثر مدن الشمال ،عمرانًا، وهي ميناء الشمال، وبسبب وقوعها على مدار السرطان وانبساطها فكأن مناخها حمام تركي شديد الحرارة والرطوبة، لم نر فيها معلمًا يستحق الزيارة باستثناء الميناء، وبسبب الحرارة الشديدة قضينا ليلة في منزل أحد أعضاء البعثة التعليمية، وفي الصباح فارقناها في طريقنا إلى صنعاء.

وفي الطريق إليها، وهو جبلي، بهرني فلاحها أيما إبهار، فقد استطاع تحويل تلك الجبال القاسية إلى مدرجات زراعية زاهية غاية في الإتقان، وكنت في أثناء الطريق أتطلع إلى رؤية شجرة البنّ التي لم أرها من قبل، وظننت أن تلك المدرجات قد زرعت بها، لأني أتذكر من درس الجغرافيا أن البنّ اليمني هو من

ص: 286

أجود أنواع البن، وأن بنّ مدينة (مخا) هو أجود أنواع البن في العالم، ولما سألت عن شجرته وما شكلها أعلموني أنها قلعت من زمان وحلّت شجرة القات اللعينة التي جاءتهم من الصومال في مكانها. وأسفت لأنه شيء جميل أن يقال: إن أجود البنّ هو البن اليمني كما يقال: إن أجود العقيق هو العقيق اليمني. وعلى كل حال فإن أشيا كثيرة جميلة كنا نراها في وطننا العربي غابت عنه اليوم.

حطّت رحالي في المدينة التي أبحث عن جامعها الكبير، فوجدتها كأنها من العصر القديم تضج بعبق التاريخ وأريجه ليست كالمدينة التي حطّت رحالي بها سنة 1993م، ونزلت ضيفًا عند صديقي العزيز فائق زوين الذي كان أيضًا عضوا في البعثة التعليمية العراقية آنذاك، وفي اليوم التالي من زيارتنا رافقني صاحبي في أزقتها الضيقة التي ذكرتني بأزقة مدينتي التي قضيت فيها طفولتي، وهي الأخرى كانت منذ أكثر من سبعين سنة ليس فيها غير شارع واحد يربط مرقد أمير المؤمنين عليه السلام بمقبرة المدينة التاريخية التي عدّت من أكبر المقابر في العالم، وليس فيها من متنفس إلا سوقها الكبير ومرقد الإمام عليه السلام ومدارسها الدينية المنتشرة في أزقتها.

كان همّي الأكبر الوصول إلى الجامع الكبير، ووصلته وتعرفت فيه على الشيخ الأكوع، الذي ستقبلني هاشًا باشًا أسقط من نفسي دهشة المكان، وحياء الغريب، وحين علم برغبتي أطلعني على بعض المخطوطات المهمة المعروضة في الجامع، فصورت بالكاميرا بعض المخطوطات من بينها كتاب الواضح في العربية لأبي بكر

ص: 287

الزبيدي ت 372ه-»، وصفحات من مصحف قال لي الأكوع: إنه مصحف الخليفة عثمان، وهو أقدم المصاحف الموجودة في العالم بحسب ما ذكر، وحين تجاذبت معه أطراف الحديث عن المخطوطات حدّثني عن همه الكبير بمصير تأول إليه مخطوطات الجامع ، ثم أخذني الرجل إلى غرفة كدست فيها المخطوطات بأكياس الرزّ دونها عناية أو حفاظ عليها بطريقة علمية تقيها التلف والآفات.

بعد سنتين أو أكثر من ذلك التاريخ التقيت صديقي الفقيد الأستاذ قاسم الخطاط الذي كان مديرًا لمعهد المخطوطات التابع للجامعة العربية، وكنت في حينها أتردد على المعهد كثيرًا للاطلاع على مخطوطاته المصورة، فحدثته عن مخطوطات اليمن ووضعيتها، ومن بين ما قلته له : إن أجرة يوم واحد من أيام اجتماعات الجامعة العربية غير المجدية يمكن تكفي لإنقاذ تراثنا اليمني، وكأن كلماتي تلك وجدت صدى في نفسه وكانت دافعًا لإرسال بعثة إلى اليمن لتصوير كثير من مخطوطاتها.

اتجهت من بعد إلى أحد أماكن بيع العقيق اليمني، واشتريت كمية منه بغية إهدائها إلى أهلي وأصدقائي عند عودتي إلى العراق، وبعد يوم أو يومين حجزنا بالطائرة للعودة إلى عدن وحين وصلنا إلى المطار لا أحدثك عن وضعيته، إذ لم أر مثيلاً له في المطارات التي زرتها من قبل ومن بعد، فأمتعة المسافرين توضع في حجرة تقفل بقفل يدوي ولا أتذكر أني رأيت فيه حجرة أخرى باستثناء حجرة القائمين على المطار، أما المودعون فيودعونك إلى باب الطائرة، وكانت تذكارات بعضهم تملأ

ص: 288

كل زاوية من زوايا هيكلها، ويوم عدت ثانية إلى صنعاء سنة 1993م اختفى ذلك المطار وحلّ محله مطار عصري لا علاقة له بالمطار القديم. أما المدينة التي زرتها أول مرّة فتغيرت هي الأخرى، ولم أر فيها ما رأيته في الزيارة الأولى باستثناء سوقها الكبير وبابها وجامعها.

في اليوم الثاني من زيارتي الثانية إلى صنعاء كي أعمل في إحدى كلياتها رافقني الصديق العزيز الدكتور عبد الوهاب راوح الذي أصبح من بعد وزيرا للشباب إلى زيارة الدكتور الشاعر الناقد وجه اليمن الثقافي الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء الذي شرفت بزمالته ومعرفته أثناء دراستنا في القاهرة، وبانتظار وصوله إذا بشيخ كبير يتحدث مع أحد العاملين فسارع الدكتور راوح بتحيته والسلام عليه، وقال حين عرفني به: إنه الشيخ الأكوع الرائد اليمني والمؤرخ المعروف، فقلت له لعلي أعرفه قبل أن تعرفه فقد التقيته قبل أكثر من ربع قرن في الجامع الكبير ، فحدثني الشيخ عن قديم حبّه للعراق وللعراقيين، وافترقنا على أمل أن نلتقي ثانية، ولم نلتق. ألح علي الدكتور راوح أن أعمل بمدينة تعز، وبسبب صورتها القديمة التي انطبعت في مخيلتي وافقته على استحياء، وخجل شديد، وحين وصلت السيارة مساء إلى مشارفها تسارعت دقات قلبي خوفًا من أن تكون المدينة التي رأيتها أول مرّة، ولكني رأيتها مدينة أخرى لا تمت إلى المدينة القديمة بصلة.

ص: 289

وعلى الرغم من الحفاوة التي حظيت بها أثناء عملي فيها بكليتي الآداب والتربية، وعمل زوجتي بإحدى عيادات طب الأسنان، فإن إقامتي فيها لم تدم طويلاً، وما إن أنهيت العام الدراسي حتى طلبت إعفائي من العمل، وهي حكاية تحتاج إلى جلسة أخرى.

وقد ألتقيك ثانية للحديث عن زيارتي الثانية لليمن سنة ثلاث وتسعين من القرن المنصرم

ص: 290

من مختار الشعر العباسي

قد أكون أثقلت عليك فيما كتبته من قبل، وما سأكتبه من بعد، وأردت أن أخفف عنك كي لا تسأم من جفاف العبارة، وميل بعضها إلى خصوصية لا تعنيك من قريب ولا من بعيد.

والشعر قديمًا هو مائدة العرب التي يجتمعون من حولها، ويأنسون بها،؛ يرددونه في محافلهم وأسواقهم، ولهم حلقات ومساجلات في مساجدها وأسواقها؛ وحفلت دواوين الخلفاء والوزراء والموسرين من أبنائها بالشعر والشعراء، فهم وسيلة الإعلام في ذلك الزمن يتحدثون عن مآثر الممدوحين من شجاعة وسخاء، وعون للفقراء والمعوزين. وبسبب أوضاع الأدباء والشعراء والكتاب المعاشية كانوا يجاهدون كي يدخلوا تلك النوادي الثقافية، ولاسيما الوقوف في أبواب الخلفاء والوزراء والأمراء وغيرهم طمعا بهباتهم.

وقد اخترت لك بعض النصوص التي لا أظنها بغائبة عليك لأشهر شعراء العصر ، التي مازالت محل عناية الأدباء والنقاد، وجمهور المثقفين، منهم:

ابن الرومي

أبو الحسن علي بن العباس المعروف بابن ارومي، من أب رومي أم فارسيّة، من کبار شعراء العصر العباسي ولد ببغداد سنة 221ه- ودرس فيها وتوفي بها مسموما

ص: 291

سنة 283، وتثقف ثقافة واسعة، وعلى الرغم من ذلك لم ينل حظوة عند الخلفاء، ونُكِبَ في أسرته، إذ توفي أبناؤه الثلاثة في طفولتهم؛ وبسبب موقف العصر منه أصبح شديد التشاؤم، هجاء مقذع اللسان حتى تحاشاه الناس بسبب سلاطة ،لسانه وحدة مزاجه ومع ذلك كان الرضا، صادق المودة، يعطف على الفقراء والمساكين. عالج فنون الشعر المعروفة في زمانه من وصف وغزل ورثاء وهجاء، وما إلى ذلك؛ ومن آثاره ديوانه الضّخم ومن مختار شعره قصيدته في رثاء ولده:

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدي ***فجودا فقد أودى نظير كما عندي

بنَي الذي أهدته كفاي للثرى*** فيا عِزّة المهدى ويا حسرة المهدي

ألا قاتل الله المنايا ورميها ***من الناس حبّات القلوب على عمدِ

توخّى حِمامُ الموت أوسط صبيتي*** فلله كيف اختار واسطة العِقْدِ

على حِينَ شمتُ الخير من لمحاته*** و آنستُ من أفعاله آية الرشد

طواه الردى عنّي فأضحى مزاره ***بعيدا على قرب قريبا على بعد

لقد أنْجَزت فيه المنايا وعيدها ***وأخلفت الآمال ما كان من وعد

ص: 292

أبو تمام

حبيب بن أوس الطائي، من أشهر شعراء الدولة العباسية، أحد أمراء البيان في تاريخ الشعر العباسي؛ حقّ لبلاد الشام أن تفخر به فقد ولد بمدينة جاسم السورية سنة 188ه-، وتوفي في الموصل سنة 231ه-

من مشهور شعره قصيدته في وصف الربيع

يا صاحبي تقصيا (1)نظريكما ***تريا وجوه الأرض كيف تُصَوَّرُ

تريا نهارًا مشمِسًا قد شابَهُ ***زهرُ الرُّبَى فكأنما هو مقمِرُ

دنیا معاش للورى حتى إذا ***حل الربيع فإنما هي منظر

أضحت تصوع بطونها لظهورها ***نَورًا تكاد له القوبُ تنوّرُ

من كلّ زاهرةِ تَرَقْرَقُ بالنَّدى*** فكأنها عين إليكَ تُحَدَّرُ

تبدو ويحجبها الجميم (2)كأنّها ***عذراء تبدو تارة وتخفَّرُ

حتى غدت وَهَداتُها ونَجادُها (3)***مصفرَّةٌ محمرة فكأنّها

فِتَيْنِ في حُلل الربيع تَبَخْتَرُ ***عصبٌ تَيَمَّن في الوغى وتَمَضَّرُ (4).

من فاقع غضُ النّباتِ كأنه ***دررٌ تُشَقَّقُ قبل ثمّ تُزَعْفَرُ أو

ساطع في حمرة فكانها ***يدنو إليه من الهواء مُعَصْفِرُ

ص: 293


1- التقصي : النظر إلى أبعد مدى
2- الجميم : النبات الذي يغطي الأرض.
3- النجاد الطريق المرتفع، وعكسه الوهدة.
4- العصب: نوع من ثياب اليمن تيمن وتمضر : تكون صفراء كلون رايات اليمن، وحمراء كلون رايات مضر.

البحتري

ثلاثة من شعراء العصر العباسي حازوا قصب السبق بين شعراء العصور، أبو تمام والبحتري وأبو الطيب المتنبي، أما أبو تمام فقد ذكرناه وأما المتنبي فسنذكره لاحقًا، وأما البحتري فهو صاحبنا

وهو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي ولد في مدينة منبج سنة 205 ه-، وتوفي بها أيضًا سنة 280 ه-. تأثر بأبي تمام وشعره، وتتلمذ عليه ولكنه اختط لنفسه طريقًا آخر. له ديوان مطبوع. اتسم شعره بالسلاسة والجمال والابتعاد عن التزويق اللفظي رحل إلى العراق ومدح الخلفاء، ولكنه اختص بالمتوكل منهم، ونظم في فنون الشعر المعروفة، ولكنه أبدع في الوصف والمديح ، ثم عاد إلى الشام من بعد.

قال في قصيدة يصف فيها ذئباً لقيه في صحراء السماوة:

ولیل كأنّ الصُّبحَ في أخْرَياته ***حُشاشة نصْلِ ضمَّ إِفْرَندَه غِمده. (1)

تسربلته والذئب وسنان هاجع*** بعين ابن ليل ما له بالكرى عَهدُ . (2)

أثير القطا الكدرى عن جُثمانه ***وتألفُني فيه التَّعال-بُ والرُّبدُ(3)

ص: 294


1- الحشاشة بقية الروح، الفرند: السيف.
2- وسنان ناعس الهجوع : النوم بالليل.
3- الربد: جمع أربد، وهو المرقط .

وأطلس ملة العين يحملُ زَورَهُ ***وأضلاعه من جانبيه شوى نهد(1)

له ذنب مثل الرّشاءِ يجرُّهُ ***ومتن كمتن القوس أعوجَ مُناد(2)

طواه الطَّوَى حَتَّى استمرَّ مَرِيرُهُ ***فما فيه إلّا العظم والروح والجلد(3)

سمالي وبي من شدة الجوع ما به ***بيداء لم تُعرف بها عيشةٌ رَغْدُ

كلانا بها ذئب يحدث نفسَهُ ***يصاحبه والحد يُنْعِسُه الجد

فأوجَرْتُهُ خَرْقاءَ تَحسَبُ رِيشَهَا ***على كوكب ينقض والليل مسود(4)

فما ازداد إلّا جُرأةً وصرامة ***وأيقنت أن الأمر منه هو الجد

فأتبعتها أخرى فأضلَلْتُ نصلها ***بحيث يكون اللب والرعب والحقد

فخَرَّ وقد أوردته موردَ الردَى ***على ظما لو أنه عَذَّبَ الوِرْدُ

ص: 295


1- الأطلس : الذئب الأغبر اللون، الشَّوى: الأطراف، التُّهدُ: المرتفعة.
2- الرشا: الحبل المنأد: المنحني.
3- الطوى: الجوع.
4- أوجرته خرقاء: طعنته بسهم.

من حكميات أبي الطيب

- ذو العقل يشْقَى في النَّعيم بعقلهِ ***وأخو الجهالة في الشقاوة يَنْعَمُ

- والظلم من شيم النفوس فإن*** ذا عِفّة فلعلة لا يظلم

- ومن من لا يرعوي ***عن جهْلِهِ وخِطاب من لا يفْهَمُ

- والذُّلُّ يُظهرُ في الدَّليل مودَّةَ ***وأودُّ منه من يَوَدُّ الأرقَمُ

- ومن العداوة ما ينالك نفْعُهُ ***و من الصداقة ما يضُرُّ ويؤلم

- وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ***ومن لك بالحرّ الذي لا يحفظ اليدا

- إذا أنتَ أكرمت الكريمَ مَلَكْتَهُ ***وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

- ذُلّ من يخيط الذليل بعَيْش ***ربّ عيش أخَفُّ منه الحِمامُ

- كل حلم أتى بير اقتدار ***مجة لاجى إليها النامُ

- من يَهن يسهل الهوانُ عليهِ ***ما تجرح بميتِ إيلام

- وإذا أتتك مذمتي من ناقص*** فهيَ الشَّهادة لي بأن كَامل

- ومن نكد الدنيا على الحرّ أن ***عدوّاله ما من صداقته بد

- وليس يصِحُ في الإفهام شيء*** إذا احتاج النهار إلى دليل

- ما كلما يتمنَّى المرءُ يُدْرِكُهُ ***تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ص: 296

أبو فراس الحمداني

الحارث بن سعيد الحمداني ولد في الموصل سنة 320ه- وتوفي في حمص سيف الدولة، وأبرز قادة جيشه، وهو من شعراء الفرسان، 357ه- وهو ابن عم اتسم شعره بالحماسة والفخر والرقة والجزالة درسه أستاذنا الشاعر الدكتور هادي الحمداني ونال بدراسته شهادة الدكتوراه من جامعة مانجستر البريطانية. من أشهر ما نظم قصيدته أراك عصي الدمع شيمتك الصبر، وقد نظمها حينما أسره الروم،وغنّتها أم كلثوم بتلحينين، قال:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ***أما للهوَى نهي عليك ولا أمر

نعم أنا مشتاق وعندي لوعة ***ولكن مثلي لا يذاع له سِرُّ

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى*** وأذللت دمعًا من خلائقه الكبر(1)

تكادُ تُضيء النار بين جوانحي ***إذا هي أذْكتُها الصَّبابةُ والفكرُ

مُعَلِّلتي بالوعد والموت دونه*** إذا مِتُ ظمآنا فلا نزل القطّرُ

بَدَوْتُ وأهلي حاضرون لأنني ***أنّ دارًا لست من أهلها قَفْرُ (2)

وحاربت قومي في هواكِ وأنّهم ***وإِيَّايَ لولا حُبُّك الماء والخمرُ

وإن كان ما قال الوشاة ولم يكن ***فقد يهدمُ الإيمانُ ما شيَّد الكُفْرُ

وفيتُ وفي بعض الوفاء مذلّة*** الآنسة في الحيّ شيمتها الغذرُ

ص: 297


1- أضواني: أمرضني وأسقمني.
2- بدوت : سكنت البادية الحاضرون: سكان الحواضر .

تسائلني من أنت وهي عَلِيمَةٌ ***وهل بفتى مثلى على حالهِ نُكْرُ

وقالت: لقد أزْرَى بك الدّهر بعدنا ***فقلت : معاذ الله بل أنتِ لا الدّهر

فعادتْ إلى حُكْم الزمانِ وحُكْمِها ***لها الذَّنبُ لا تُجرى ولي العذرُ

ص: 298

أبو العلاء المعري

أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي ولد في معرة النعمان سنة 363ه- بالشام، وتوفي فيها سنة 449ه- ، ، من كبار شعراء عصره، وهو من بيت علم ورياسة، وكأنه كان نباتيّا، إذ قيل: إنه لم يأكل اللحم خمسا وأربعين سنة، وكان زاهدًا، قيل: إنه لم أبنائه من تقلبات الأحداث؛ صاحب اللزوميات، كان غزير العلم مبرزًا في الأدب والشّعر، اتسم شعره بالحكمة والجزالة والقوّة، مع ميل شديد للفلسفة، أصيب بعاهة العمى، ولقب برهين المحبسين، العمى، ومحبس الدار ،وهو شيخ المعرّة بلا منازع، رحل إلى بغداد ولكن لم تدم إقامته فيها، ومن أشهر قصائده قصيدة رنّى بها صاحبه الفقيه الحنفي أبا حمزة منها قوله:

غير مجد في ذِمَّتِي واعتقادي*** نَوْحُ باكِ ولا ترنم شادي

وشبيه صوت النعي إذا قيس ***ابكت تلكم الحمامة أو غنّت

صاح هذي قبورنا تملأ الرح*** بَ فاین القبور من اهل عاد

خفّف الوطة، ما أظن أديم الأر ***ض إلّا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهد ***هو ان الابا والاجداد

سر إن استطعت في الهواء رويدا ***لا اختيالًا على رُفاتِ العباد

ص: 299

ربّ لَحْدِ قد صار لَحْدًا مِرارًا ***ضاحِكًا من تزاحم الأضداد

ودَفِين على بقايا دَفِينِ ***في طويل الأزمان والآباد

تعب كُلُّها الحياة فما أعجب*** إِلَّا من راغب بازديادِ

إنّ حُزْنًا في ساعة الموت ***أضعافُ سُرُورٍ في ساعة الميلادِ

ودَّعَا أَيُّها الحفيَّانِ ذاك ***الشخص، إن الوداع أيسر زادِ

واغْسِلاه بالدمع إن كان طاهرا ***وادْفِناه بين الحشا والفؤاد

ص: 300

الشريف الرضي

محمد بن الحسين العلوي الهاشمي، حسيني موسوي من نسل الإمام جعفر الصَّادق عليه السلام ، جامع كتاب نهج البلاغة، ولد سنة 359ه- ورحل رضوان الله عليه سنة 406 ه-، كان نقيب الطالبيين لحين وفاته أحد أئمة علماء زمانه في الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام لقب بذي الحسبين لنسبه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ونسب أمه فاطمة بنت الحسين جمع الشرف في علمه ونسبه، من أشهر ه؛ كان أبيًا عزيز النفس اتّسم شعره بالجزالة وحسن السبك، وجمال الصَّنعة، عالج جميع أغراض الشعر في زمانه من فخر ومديح ورثاء ووصف ونسيب، وتأثر في شعره بأبي تمام والمتنبي مع عفّة، وكان وسطيًا في مؤلفاته، درس على أئمة عصره من دون تفريق بين مذهب ،وآخر قصائده في الغزل تسمى الحجازيات، ومن أشهر ما كتبه جمعه أغلب خطب الإمام ورسائله وحكمياته، قال في رثاء أمه التي كانت سببًا لما وصل إليه هو وأخوه الشريف المرتضى، وهو أصغر منه، ولكنه رحل قبله، فجزع المرتضی رضوان الله عليه جزءًا شديدًا.

أبكيكِ لو نفعَ الغَلِيلُ بكائي*** وأقولُ لو ذهب المقال بدائي

وأعُوذُ بالصَّيرِ الجميل تَعَزّيّا ***لو كان بالصَّبر الجميلِ عَزائِي

طورًا تكاثرني الهموم وتارة ***أوي إلى أكرُو متي وحيائي

كم عبرة مَرَّهْتُها بأناملي ***وسَتَرْتُها مُتَجَمْلًا برِدَائي

ما كنتُ أَذْخُرُ فِي فِدَاكِ رَغِيبة ***لو كان يرْجِعُ ميت بفدائي

ص: 301

لو كان يُدفَعُ ذا الحمام بقوة*** لتَكَدَّستْ عُصُبٌ وراءَ لوائي

فارقتُ فيكِ تَماسُكِي وتَجَملي ***ونَسِيتُ فيكِ تَعَزُّزي وإبائي

وصنعت ما ثَلَمَ الوَقَارَ صَنِيعُهُ ***مما عزَاني من جَوَى البُرْحاء

لو كان مثلُكِ كل أم بَرَّةٍ ***غَنِيَ البَنُونُ بها عن الآباء

كيف السُّلو وكلُّ موق لحظة ***أثرٌ لِفَضْلِك خالد بإزائي

ص: 302

شیخ بغداد حسین محفوظ وار جوزته عن النجف

الفقيد الدكتور حسين علي محفوظ

لا أتذكر متى التقيت طيب الذكر شيخ بغداد الأستاذ الدكتور حسين علي محفوظ طيب الله ثراه أول مرة، وفي الغالب يعود إلى سنة أربع وستين وتسعمائة وألف يومها كنت في السنة الأولى من دراستي بكلية التربية في جامعة بغداد؛ والذي أذكره أني كنت في زيارة الأحد أصدقائي في كلية الآداب التي كانت تقع مقابل مبنى كلية الحقوق السابق، وصاحبي من مدينة السماوة اسمه السيد صادق وكان يقاسمني غرفتي بمدينة الكاظميين المقدسة رفقة الصديق الراحل أركان عبد السعداوي تغمده الله بواسع رحمته؛ ولا أتذكر مناسبة الزيارة ولا يومها، وكان السيد صادق أحد طلبة قسم اللغة العربية في كلية الآداب.

ولا أتذكر أيضًا في أية غرفة التقيت فيها الفقيد المحفوظ، ولا مناسبة دخولي تلك الغرفة التي شرفت برؤيته فيها ، والغالب أنها كانت غرفة أساتذة قسم اللغة العربية، ولعل المحفوظ كان زائرا لأحد أصحابه فيها .

يومها كان الفقيد رحمه الله ملء السمع والبصر في الوسطين الأكاديمي ،والثقافي لكن الذي مازال في ذاكرتي من ذلك اللقاء حديثه حول المخطوطات وتواريخ نسخها، وأنواع ورقها، وكان الفقيد هو المتصدي للحديث عنها، وفي أثنائه قال: (إني أخاف على أناملي من أي مكروه، إذ إني أستطيع تحديد تاريخ ورق أي مخطوط بمجرد لمسه)، فتعجبت كل العجب من قوله ذاك، وعلى الرغم من

ص: 303

تمرسي بالتحقيق ولقائي بأمة من المحققين في المشرقين من بعد، فإني لم أقف على من يقول مثل قوله ذاك.

ومرّ على ذلك اللقاء العابر قرابة ثلاثة عقود، بعدها كنت ألتقيه لماما فأسلم عليه وأدعو له؛ وكان الحديث العابر بيننا يدور حول سؤاله عن عمي الفقيد شاعر أهل البيت الشيخ عبد المنعم الفرطوسي .

وفي سنة ثمان وسبعين وتسعمائة وألف كنت في غرفة أستاذي المشرف الفقيد الدكتور أحمد ناجي القيسي، كي أستلم منه رسالتي للدكتوراه قبل مناقشتها لأطلع على ملاحظاته إن كانت هناك من ملاحظات؛ وشاءت الصدف أن يكون الدكتور حسين أحد زواره، وإذا بالأستاذ القيسي يخبرني أنه ليس له من ملاحظة على الرسالة أولها إلى آخرها إلا اقتراح رفع الفصل الخاص بالدراسة الصوتية الإحصائية منها الذي أشاد به أيما إشادة أستاذي السابق طيب الذكر العلامة الأستاذ الدكتور محمود فهمي حجازي، وهو فصل كنت أعتز به أيما ،اعتزاز، وخاصة بعد إشادة الدكتور حجازي فيه، وفوق هذا فإن أحدًا من طلاب الدراسات العليا لم يسبقني إلى مثله من قبل، وقد استغرق إعداده قرابة خمسة أشهر ؛ فكدت أفقد اتزاني من رأيه ذاك، وقلت له: كيف تريدني أن رفعه وهو من صلات الرحم بيني وبين أستاذي أشاد فيها بذلك الجهد الاستثنائي الذي عدّه السابق، وأطلعته على رسالته التي جديرًا بالتنويه فقال لي: إذا لم ترفعه من الرسالة فإني سأذكر في المناقشة: إني طلبت من الطالب رفعه، ولكنه لم يستجب لطلبي.

ص: 304

قررت في وقتها عدم الأخذ برأيه مهما كانت النتائج، ولاسيما أني لم أستفد من أستاذيته ما يذكر.

هنا تدخل الفقيد المحفوظ رحمه الله، وقال له: يمكن أن يضعه ،بالرسالة فوافق الدكتور أحمد على مضض، ولعل موافقته كانت حياءً من الدكتور حسين. وموقفه ذاك مازلت أذكره له رحمه الله بكل الامتنان وجميل الدعاء، فقد أنقذني من موقف لا أحسد عليه جزاه الله خير الجزاء. وكنت ألتقيه من بعد في العامر بالكاظمية للاطمئنان على صحته، أو لسؤاله عن مسألة أو للاطلاع على کتاب نادر في مكتبته الشهيرة العامرة بالمخطوط والمطبوع.

ولم يكن الدكتور حسين أستاذًا عابرًا في الوسط الأكاديمي، ولا في الوسط الثقافي، فقد نال لقب (شيخ بغداد بجدارة بسبب تعلقه ببغداد وإرثها الحضاري، وكثرة تأليفه ومحاضراته عنها.

يضاف إلى هذا أنه انماز على أقرانه جميعهم بسبب كثرة نتاجه وتنوعه ما بين تأليف وتحقيق وبحث ورسالة بعلوم شتى، حتى تجاوزت مؤلفاته المئات، ومما يؤسف عليه أن كثيرًا منها لم يطبع بعد ، ولا أدري هل حفظت مكتبته بعد رحيله، أو بيعت إذ لم يبق لها من مريد من أسرته، بل انحصرت أسرته بولد واحد كان يدرس في لندن.

ومن بين ما أذكره عن علم الرجل ونبوغه أني حضرت له محاضرة في قاعة جامعة بغداد الكبرى بحضور وزير التعليم العالي سمير الشيخلي آنذاك، وكانت

ص: 305

حول علماء بغداد في العصور الغابرة، وقد ارتجلها ارتجالًا مع ذكر تواريخ وفيات العلماء ونتاجهم العلمي وشيوخهم والمدارس التي درسوا فيها بتفصيل يأسر العقول، وبلغة غاية في البهاء والفصاحة والبلاغة، أبهر فيها جميع الحاضرين الذين امتلأت بهم ،القاعة، ولعله في تلك المناسبة نال لقب (شيخ بغداد).

والدكتور محفوظ من مفاخر جامعة بغداد بل هو من مفاخر العراق، ولا أغالي بالقول: إنه واحد بين ثلاثة أساتذة مصطفى جواد، وجواد علي، وحسين علي محفوظ)، من الصعب على جامعات العراق أن تأتي بمثيل لهم.

وقد يكون أكثر أساتذة جامعات العراق إنتاجًا، ولك أن تنظر في سيرته العلمية بمحرك (كوكل) لتتعرف على جانب من سيرته ومن بحوثه العلمية المختلفة المسارب.

وإذا كان أستاذنا الفقيد الدكتور الكبير مصطفى جواد أكثر الثلاثة شهرةً وانتشارًا، فإن الدكتور جواد علي حقق شهرة علمية عالمية واسعة دارت حول كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام الذي مازال مصدرًا مهما لتاريخ تلك الحقبة الزمنية، ومرجعا لجميع الدراسات حولها.

كان من يمن الطالع وتوفيقه انتقال جانب من مكتبة الفقيد العزيز آية الله العظمى السيد الحسين بحر العلوم إلى ابنة أخيه زوجتي الدكتورة زهراء، ومن بين ما وقفت عليه فيها مصورة بخط الدكتور حسين الجميل بعنوان (منتهى الشرف في فضائل الكوفة والنجف )وفيها أرجوزتان الأولى بعنوان: أرجوزة في فضائل

ص: 306

النجف، وهي في ثلاثة أبيات ومائة، والثانية في أربعة وأربعين بيتا في فضائل الكوفة؛ ووفاء للفقيد وتخليدا لذكراه وما كان يكنه للمدينتين المقدستين من تقديس

رأيت نشر أرجوزته الخاصة بالنجف.

أما أرجوزته النجفية فتحتاج إلى تأمل وتنويه، إذ تحدث فيها عن فضائل النجف، وفضائل تربتها ،وقدسيتها، ومنزلة غريّها، وتسابق شيعة أهل البيت إلى الدفن فيه، استهلّها بعد مقدمة بأبيات جميلة في ذكر مقام النجف وفضائلها.

درّة الصدف في فضائل النجف

قدم الفقيد لهذه الأرجوزة بقوله:

بسم الله الرحمن الرحيم

النجف الأشرف

(مدينة العلم العظمى، ومدرسة الفقه الكبرى، وجامعة الإسلام العليا، ومرجع الفتيا والأحكام الأعلين، وموضع المجتهدين الكبار، ومنتجع الطلبة والدارسين. محلّ الأدباء البارعينَ، وَمَنْبِتُ الشُّعراء الفحولِ.

مقْصِدُ الزُوّارِ ، وحَرَمُ العابدِينَ والعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السجود. وعشّ المؤمنينَ والصَّابرين والقائمين والخاشعين والقانتين والمنفقين والمستغفرين والمصلين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، يخرّون للأذقان يبكون، ويخرّون سُجّدًا .وبكيّا. حسين علي محفوظ)

ص: 307

وقدم للأرجوزة شعرًا بقوله:

النجف حضرة عليّ عليه السلام حظيرة القدس

هنا تسجدُ الشَّمسُ عند الصباح ***ویرْكَعُ عند المساء القمر

هنا يخفضُ الفرقدانِ الجناحَ ***وتجري هنا الشمس للمستقر

تواضع للنجف النيران ***فهذي توارَتْ وهذا استتر

عنت للتراب الطهور النجومُ ***تخرُّ له سجَّدًا والشّجر

تراب تمرغ فيه الزمانُ ***نرتد خاشعة والبصر

صَعِيدٌ إذا طيرته الرياحُ ***درت سوافيه كحل البصر

تراب يروعُ حصاه الشموس ***وتزرى حجارته بالدرر

هنا حيدر خاتم الأوصياء ***هنا صفوة الله خير البشر

طوى النّاسُ واديه طول الدّهور ***وعانق فيه القضاء القدر

حسين علي محفوظ 1993/6/25م

أما الأرجوزة النجفية فهي تاريخ حافل للمرقد الشريف، ومنزلة صاحبه عليه السلام، ومكانته من رسول الله صلى الله عليه وآله، وبركة تربته، وما ورد فيها من أخبار بسبب تشرفها بجثمانه عليه السلام بأسلوب فصيح تغلب عليه الصور الفنية.

ص: 308

فالنجف أشرف المشاهد، بعد مكة والمدينة وبيت المقدس، وهي طيبة انتشر عطرها في الأقطار، وهي مدينة العلم ودارة الأدب لا تختلف في طيبها عن المدينتين المقدستين، وهي جنة لا ترتقي لمكانتها بقية البلدان، أما ترابها فقد كرمه الله بجسد أمير المؤمنين عليه السلام فانتشرت بفضلها الأخبار، كما كرمها من قبل بمراقد أنبياء الله آدم وهود وصالح عليهم السلام، وبحسب ما روي عنها فإنها أول بقعة عبد الله فيها، وهي قطعة من طور سيناء جعلها الله مساكن للأنبياء، وفي مقدمتهم إبراهيم عليه سلام الله وعلى جبلها كلّم الله نبيه موسى عليه السلام، ويستمر في ذكر فضائلها وفضل تربتها ، ثم ينتقل إلى مكانتها العلمية من يوم دخلها الشيخ الطوسي إلى يوم الناس هذا. حتى أصبحت بيت العلم والعلماء، والمراجع العظام، والمجتهدين الفضلاء الذين تقاطروا عليها جيلا بعد جيل.

وإذا كانت مرجعية النجف قد بدأت بالشيخ الطوسي، فإنها استمرت منذ يوم الناس ذاك إلى يوم الناس هذا مقصدًا لشيعة أمير المؤمنين عليه السلام يقصدونها لزيارته ودفن أمواتهم فيها، ودراسة علم آل البيت على أيدي علمائها. ويستمر الدكتور بذكر منزلتها ومكانتها وبركتها إلى نهاية أرجوزته التي أراها تختلف عن الأراجيز العلمية المعهودة.

ولم يغفل عن ذكر حرص المسلمين على الدفن في تربتها لأنهم بكرامة أمير المؤمنين لا يتعرضون لحساب منكر ونكير، ولا إلى حساب القبر .

ص: 309

ثم يعرج على ذكر المشاهد المقدسة في كربلاء والكاظمين وسامراء، ومكانتها وفضلها.

وصدق حين قال: إن جميع العتبات المقدسة ابتدأت بالنجف الأشرف وكيف لا وأبو الثاوين من أهل البيت فيها ،هم من نسله عليه السلام.

الأرجوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

لنجف الأشرفُ في البلاد ***أكر مشهد وخير وادي

زين البقاع حلية الأماكن ***وأرفع البلدان والمدائن

مدينة طيبة معطار ***تضوّعت بعَرْفها الأقطار

مدينة العلم ودارة الأدب***مركز أركان الهدى ولا عجب

عبقةُ مكة وطيب طابه ***والقدس والكوفة مستطابه

تارُجُ في روضاتها الجنان ***لا ترتقي محلّها البلدان

وليس كالمشهد من تراب *** كرمه مثوى أبي تراب

معجزة النبي خير البشر ***آیات ضوء الشمس نور القمر

نقطة فاء فوقَ أيديهم عَلَتْ*** نقطةُ باء باسمه تنزّلت

مدينة العلم علي بابها ***يفاخر السبع العلى ترابها

( ناد عليّا مظهر العجائب ***تجده عونًا لك في النوائب)

وكلُّ من يقولُ: (يا علي مَدَدْ)*** لهفان يأتيه من الله المدد

ص: 310

منزلةٌ ويا لها من منزلة ***مثابة الذكر، محل الهيلله(1)

فاحت بذكر النجف الأسفار ***وامتلأت بفضلها الأخبار

بحيدر ارتقت محلا أرفعا ***ويضجيعيه وجاريه معا

عظام آدم و نوح فيها***صالح وهود في واديها

أوّلُ بقعة عليها الله ***عبد، مامن أحد إلّا هُو

وقطعةٍ من طور سيناء الغري ***وجنّة الخلد مزار حيدر

للأنبياء جعلت مساکنُ ***وزينت بنورها الأماكن

ومسكنُ الخليل إبراهيم ***وجبل التقديس والتكل

قد كلّم الرّب عليه موسى ***وقدّس الله عليه عیسي

حمل ظهر الكوفة الولايه ***يشرقُ بالرشاد والهدايه

جواره يومًا عظيم أجر ***من ذا يفي باله من قدرِ

ومن يجاورُ المزار ليلا ***سالت عليه البركات سيلا

والنجف إحدى بقاع أربع ***خصت لدى الربّ بأسنى موضعِ

والمؤمن إن مات في بلادِ ***قيل لروحِه الحقي بالوادي

وادي السلام الطيب الطهور *** حق به من الوصيّ النُّورُ

وليس في الوادي عذاب القبر ولا سؤال منكر ونکر

ص: 311


1- الهيللة مصدر أهل، وإهلال الهلال ظهوره، والهيللة : قول لا إله إلا الله.

ولا عذابُ البرزخ الطويل*** وهو عذابٌ واصِبٌ وبيل

حرّم منها المرتضى ما حرّم ***محمد في البلد المحرَّم

فضائل كالقَطْرِ لا تُعَدُّ*** ببعض بعضها ينوء العدُّ

مناقب النجف من يحصيها ***فضائل الغريّ من يدريها

مدينةٌ طيّبه معطارُ *** يسكنها الخيار والأبرار

***

النجف الأشرف خد العذرا ***صعر للمنكر ممخرّا

ونجف الكوفة طابت مشهدا ***تخرُ فيه الشارقات سجّدا

ونجف الحيرة ظهر الكوفه ***تلألأت أساميًا معروفه

والطور والربوة والجودي ***والمشهد الأقدسُ والغري

والظهر واللسان فيه دلعا ***الصّبح لِسانه ضِياً وسطعا

والعَلَمُ الفرد مقامه العلي ***مدينة العلم وبابها علي

***

النجف الأشم ترب الشعرى ***تنهل فيه البركات قطرا

واديه والتربة والمجنّة ***جنّة عدن من رياض الجنّه

وادي السلام المؤمن المهيمن ***لروحه يحن كل مؤمنُ

فضائل النجف من يدريها ***مناقب المشهد من يحصيها

تعنو بها الأملاك والملائك *** وتخشع الأفلاك والممالك

كفى الغري أنه مثوى علي ***ومستقرّ الانبيا والرسل

ص: 312

جارتها رابعة المساجد ***وإنها أوّلة المشاهد

الرُّكَّع السجود فيها انتشروا ***والقصد الروّاد فيها حبروا

وكلّ ما يقال في وصف الغري ***ليس يفي بنقطة من أبحر

ترکت مدح الذكوات البيض ***تعمدا في روضها الأريض

والكوكب الدري في سماها ***والزاخر اللجيُّ في ثراها

العتبات مبتداها النّجفُ ***وكلُّها ذخائر وتحفُ

وحضرات القدس في العراق ***مطالع الإصباح والإشراق

جنّات عدنِ أُزلفت ذات أُكل ***تبركت بالأنبياء والرسل

وبسنا العترة آل الله ***بنورهم مختالةٌ تُباهي

النجف الأشرفُ مثوى المرتضى ***بسبحات نوره الكون أضا

والحائر الطاهر كربلاء ***تطلع منه الشمسُ والضياءُ

مدينة الحسين والعباس ***تلألأت قدسية الأساس

ومشهد الكاظم والجواد ***مشارقُ الشموس في بغداد

وسُرّ من رأى تسرُّ من را ***بالعسكريين تجلّت غُرّا

تسجد فيها الشمس يركع القمر ***يزيعُ في جلال نورها البصر

سماؤُها تنزّلتْ مدرارا ***عيونُها تفجّرتْ أنهارا

بنورِ آلِ أحمد الكون استضا ***وحبهم على الوجودِ فُرضا

عليهم الصلاة ما غيث همى ***ونزل الله من السماء ما

ص: 313

والصفوة الكرام أعلام النجف ***مفارقُ العُلى (يافيخ الشرف)

رؤوس بيت العلم دار الحكمه ***الشَّمسُ ذاتُ النّورِ تمحو الظلمه

لا سيما المراجع الأعْلَينا ***دام وريف ظلّهم علينا

والغرر المجتهدين البَرَره ***الفقهاء الأكرمين الخيره

النخبة الأعزّة الأفاضل*** الكبراء الحلة الأماثل

والعلماء الفضلاء الكملة ***الأعلياء رتبة ومنزله

ألو النهى الأئمة الأعلام*** العلماء حجج الإسلام

وهم جبال العلم أبحر الحكم*** ثواقب الضياء في داجي الظلم

مناكِبُ الفضل سواري الدين*** معالم الإيمان واليقين

تبدأ بالشيخ وبابنه العلم*** إذا قطعنا علمًا بدا علم

تطوى القرون طبقات العلما *** طوالع تنطح هامة السما

مائة بيت أنجبت بألف ***ليس يفي لهم لسان الوصف

غير الذين غرفوا من بحرها ***وزيّنُوا حليتهم بدرها

وغادروها يحملون العِلما *** وينطقون فطنة وفَهما

دامت بيوت النجف الكبيره ***ثابتة عالية أنيرة

تشرق بالوصي في الغري ***باب مدينة الهدى علي

صلى عليه الله ما غيث همی ***وزانت النجوم أقطار السم

تخدم فيه العلم والدين أسر ***ينهل في جرعائها الفضل مطر

الفخر معقود الذرى بفخرها ***تطيب أفواه الورى بذكرها

خرجت الأفاضل الأماثل ***أترعت الحياض والمناهل

ص: 314

أبحر علم وينابيع أدب ***سبائك التبر سلاسل الذهب

جبال علم وأهاض-يبُ هدى ***تنطحُ علياها السما مدى المدى

مقصد أهل الفضل والكمال ***منتج الزهاد والأبدال

الشمس ذات النور فيها تستقر ***والنور والضياء فيها ينفجر

الشمسُ ذاتُ النور والضيا النجف ***درّة بحر والسماوات صدف

هي الضياء والسنا والنّور ***شمس الضحى والقمر المنير

اللطف والرحمة فيها درا ***فسال طيّبًا تربُها درا

القطبُ في مركزها السامي استقر ***وانهل في بطحائها النور نهر

فخرت الأملاك فيها ركعا ***وسجّدًا وخُضّعًا وخُشْعا

حضرتها ضُراحُ خير البشر ***حضيرة القدس ضريح حيدر

النيران في ثراها خَضَعَا ***الفرقدان في ثواها خَشعَا

يركع في هذلك الوادي القمر ***والشمس تجري نحوها لمستقر

نهاية السؤل ومنتهى الأرب ***مرتاد أهل العلم ذروة الحقب

حبل به الكل الجميع يمسك ***والعروة الوثقى بها يستمسك

الشكر الله على الآلاء ***ملء السماوات بلا انتهاء

والحمد لله الكريم الرازق ***دد الأنفاس والخلائق

والسبح والتقديس والتمجيد زنة عرشه

ص: 315

مما نشرته في صحيفة الجمهورية اليمنية لي سنة 1994م

من أحاديث اللغويين والرواة و اللغویین

قال الرياشي: حدّثنا الأصمعي قال : أربعة أشياء قد ملأت الدنيا لا تكون إلّا باليمن: الخطر، والكنر، والعَصْبُ ، والوَرْسُ.

الخِطْرُ : صبغ أسودُ يصبعُ به الشيب، وهو نبات، قال الشّاعر

عليك الخطرُ علّك أن تدَنَّى ***إلى بيض تراثيهنَّ حُورُ

والخطر من الألفاظ المثلّثة:

فالخطر بفتح الخاء وإسكان الطاء الشّرفُ، والخَطْرُ: اهتزازُ الرمح والطعن به، والخطرُ: أن يضرب البعير بذنبه عند الهياج،

والخطرُ : مكيال ضخم. والخِطْرُ بالكسر : النظير، بمزلة الخطير، والخطّرُ : ما تعلّق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها، والخطرُ : القطيع الضخم من الإبل، والخطرُ : الذي ذكرناه أولا، وهو النبات الذي يتخضّب به.

والخُطْرُ بالضمّ: الأشرافُ من الناس، واحدهم خطير.

والكُنْدُرُ بضم الكاف والدال وإسكان النون ضربٌ من العلكِ نافع لقطع البلغم جدًّا، وهو أيضًا: الرجل الغليظ القصير، والكندر: الحمار العظيم.

ص: 316

والعَصْبُ، وقد ضبط بفتح العين والصاد في عيون الأخبار، ولعلّه بإسكان الصاد: ضرب من البرود، وهو أيضًا غيم أحمرُ يكون في الجدب، والعصب أيض وللبَهَق شرباً : الطّيّ والشّدّ، وضمّ ما تفرق من الشجر.

والوَرْسُ : نبات كالسمسم لا يكون إلا باليمن يزرع فيبقى عشرين سنة نافع للكلف طلاء .

قال الحجاج : دلوني على رجل للشُّرَطِ، فقيل: أيّ الرجال تريد؟ فقال: أريده دائمَ العبوس، طويل الجلوس، سمينَ الأمانة، أعجف الخيانة، لا يخفق في الحق على جرّة، يهون عليه سبالَ الأشراف في الشفاعة.

العَجَفُ : ذهاب السمن ، وهو أعجف، وهي عجفاء.

الجرّة: الخبزة، أو شيء خاص بالملة.

السبال : جمع سَبْلة، وهي ما على الشارب من شعر، أو طرفه، أو مجتمع الشاربين، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية كلّها.

فقيل للحجاج عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي، فأرسل إليه يستعمله، : فقال له: لست أقبلها إلّا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك، قال: يا غلام، ناد في الناس : من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة.

ص: 317

قال الشعبي: فوالله ما رأيت صاحب شرطة قط مثله، وكان إذا أُتي برجل قد نقب على قوم، وضع منقبَتَهُ في بطنه حتى تخرج من ظهره، وإذا أتي برجل قاتل بحديدة، أو شهر سلاحًا قطع يده، وإذا أُتي برجل قد أحرق على قوم منزلهم أحرقه، وإذا أُتِي برجُل يُشَكُ فيه، وقد قيل : إنه لص ولم يكن منه شيء ضربه ثلاثمائة سوط. قال الشعبي فكان ربما أقام أربعين ليلة لا يؤتى بأحد، فضم إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة.

وجلس الحجاج يقتل أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث، فقام إليه رجلٌ منهم، فقال: أيها الأمير، إنّ لي عليك حقا. قال الحجّاج وما حقك علي؟ سبّك عبد الرحمن يومًا فرددت عنك. قال الحجاج ومن يعلم ذاك ؟ قال الرجل : أنشد الله رجلًا ذاك إلّا شهد به فقام رجل من الأسرى، فقال: قد كان ذلك أيها سمع الأمير، فقال الحجاج خلوا عن الأسير، ثم قال للشاهد: فما منعك أن تنكر على عبد الرحمن كما أنكر الرجل؟ قال الشاهد للحجاج: لقديم بغضي إيّاك. قال الحجاج: ويخلى عنك لصدقه.

ص: 318

الفهرست

المقدمة ...3

تقديم بقلم الأستاذ الدكتور عبد العلي الودغيري ...7

رحيل المصطفى وهوله وقعه على أخيه ....17

الاحتفاء بدستور أمير المؤمنين ونهجه في منظمة اليونسكو ...30

أبو سريحة حذيفة بن أسيد صاحب رسول الله (ص) ...36

مع السيد الخرسان طيب الله ثراه في مقدمته لكتاب الانتصار....51

تقديم السيد نبيل الحسني لكتاب نهج البلاغة ...71

في ذكرى رحيل المجاهد محمد بحر العلوم ...79

الفقيد الشاعر الملحمي عبد المنعم الفرطوسي ...84

مداخلة بمناسبة زيارة قداسة البابا إلى النجف الأشرف ...96

قراءة في فنجان الفرطوسي للدكتورة ابتسام عبد الكريم ...99

عضوية مجمع دمشق وتأبين رئيسه ...136

رسالة ماجستير للطالبة زهراء عباس....142

رسائل مملحة من الأخوة صباح عنوز وعلي السامرائي ومحمد العمور....144

الحاج عبود الطفيلي يقيم حفلا لتكريم الدكتور الفرطوسي في متحفه ...150

أيام أشدّ سوادًا من حنك الغراب محنة الخروج من العراق ...154

من حكايات الغربة التي لا تنسى ...176

الرحلة إلى النيجر ...190

ص: 319

رئيسة بلدية سخيدام في هولندا تحتفي بكتاب مرقد أمير المؤمنين (ع) ...209

إشادة بقلم الأديب مهدي الشعلان ...213

إشادة ثانية بقلم الأديب علي عباس التميمي....221

عطش النجف كتاب للمهندس تحسين عمارة يستحق التنويه ...223

رؤى وأفكار للأستاذ الدكتور عبد الرزاق العيسى ...236

بطاقة مملحة للشاعر وهاب شريف....245

الثوية بقيع الكوفة بقلم الدكتور أكرم كسار ...

مقدمة كتاب استدراك الغلط الواقع في كتاب العين....263

مع الأستاذ الدكتور حسن الحكيم وكتابه عن الكوفة ...271

استراحة رمضانية في اليمن ...277

رحلتي الأولى إلى اليمن ...281

من مختار الشعر العباسي....291

شیخ بغداد حسین محفوظ وأرجوزته عن النجف ...303

من أحاديث الرواة واللغويين ...316

الفهرست ...320

ص: 320

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.