الخصائص العباسیة

هوية الكتاب

الخصائص العباسية

لمؤلفه

الحاج محمد ابراهيم الكلباسي النجفي

الطبعة الثانية 1428 ه_ - 2007م

محرر الرقمي: محمد مبين روزبهاني

ص: 1

اشارة

الطبعة الثانية 1428 ه_ - 2007م

ص: 2

الإهداء

إليك يا معلّم البرّ والخير والكرم والتقوى .

إليك يا مدرّس الوفاء والصفاء والشهامة والإباء.

إليك يا ملهم المكارم والمحاسن، والأخلاق والآداب.

إليك يا ملقّن العزم واليقين، والصبر والثبات.

إليك يا من علمتنا كيف نكون في ديننا بصراء ، وفي شريعتنا علماء حكماء، ولا نكون من الهمج الرعاع، يميلون مع كل ريح ؟

إليك يا من عرفتنا كيف نعلو على التهديد والتنديد ، ونفوق الهوى والمغريات، ونزهد في المناصب ومباهج الحياة ؟

إليك يا من ألهمتنا كيف ندافع عن الحق والصدق، ونضحي من أجل الله ودينه، وكتاب الله وأحكامه، ورسول الله وأهل بيته ؟

إليك يا من لقنتنا كيف نكون مع الصادقين، مع الذين اصطفاهم الله واختارهم، وزادهم بسطة في العلم والجسم، ولا نكون رؤوساً متناقرين متنافرين، وكباشاً متناطحين متشاجرين، وأئمة متناحرين متباغضين، كلُّ يجرّ النار إلى قرصه، ويدعو الناس إلى نفسه، وقد قال الله تعالى في محكم كتابه ، و مُبرم خطابه: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ وقال تعالى : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا﴾ وقال تعالى : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ وقال

تعالى : ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾؟

إليك يا قمر بني هاشم، و يا قمر العشيرة .

ص: 3

إليك يا حامل اللواء، ويا بطل العلقمي ، وياكبش الكتبية .

إليك يا حامي الظعينة، ويا ساقي عطاشا كربلاء، ويا قائد الجيش، ويا ظهر الولاية والإمامة.

إليك يا باب الحوائج ، ويا باب الإمام الحسين (علیه السّلام)، و يا أيها العبد الصالح .

إليك أيها الشهيد الصديق المؤثر المواسي، الفادي، الواقي المستجار،الساعي .

إليك يا أبا الفضل العباس يا بن أمير المؤمنين ، وابن سيّد الوصيين ، ألف تحية وسلام.

إليك يا سيدي وابن سيّدي أهدي ترجمة هذا الكتاب «الخصائص العباسية» وأملى بك قبولك إياه، على ما فيه من نقص أو ضياع، فإنها بضاعة مزجاة، وأنت ممّن يقبل اليسير، ويوفي الكيل، ويجزل العطاء، فأوف لنا الكيل، وتصدّق علينا ، إنّ الله يجزي المتصدقين .

المترجم

اول ربيع الميلاد / 1420 ه_

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

[اجازة حديث ، وشهادة اجتهاد]

لقد حصل مؤلف هذا الكتاب : «الخصائص العباسية» شيخ العلماء العاملين وسند الفقهاء الراشدين، حاوي دقايق المعقول والمنقول ، وجامع الفروع والأصول، حجة الإسلام ومرجع الخاص والعام، آية الله في الأنام، وحيد العصر، ومجتهد الزمان الحاج محمّد إبراهيم الشهير بالكلباسي النجفي، نزيل الري ، على إجازات متعددة في الفقه والحديث ، ننقل باقتراح بعض المؤمنين وثلة من رجال الدين صورة منها تخص إجازة رواية الحديث، وتعم شهادة الإجتهاد في الفقه، وذلك دعماً لما جاء في هذا الكتاب من مطالب، وسنداً لما رواه فيه من روايات أهل البيت (علیهم السّلام) وأحاديثهم الشريفة التي نقلها المؤلف الكريم في شئون مختلفة، وزوايا متفرقة من هذا الكتاب والصورة هي ما أجازه بها شيخ العلماء الأفاخم ، وسند الفقهاء الأعاظم ، سلمان زمانه، ولقمان عصره، حجة الإسلام آية الله الشيخ محمد حسين النجفي الأصفهاني الفشاركي أعلى الله مقامه، وأمضاها المولى الهمام فقيه الزمان، شمس فلك التحقيق، وقمر سماء التدقيق : آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري أعلى الله مقامه، ووقع عليها أستاذ الفقهاء والمجتهدين، وسيّد العلماء العاملين، مصدر الصلاح، ومنبع الفلاح ، محيي السنن وعلامة الزمن، آية الحق المبين، وحجّة الإسلام والمسلمين، السيد أبو الحسن الأصفهاني أعلى الله مقامه، وإليك صورة الإجازة :

ص: 5

«بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي رفع قدر العلماء، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء، وأوطأهم أجنحة ملائكة السماء، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأمناء على عباده بعد الحجج الأطهار، وصلّى الله على خازن علم الله ، ومعدن حكمة الله ، وحامل سرّ الله ، صاحب الشرع القويم ، وهادي الناس إلى صراط الله المستقيم، المبعوث على كافة الخلائق أجمعين، خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) المصطفى الأمين، وعلى آله الغر الميامين، سيّما بقيّة الله في الأرضين، إلى يوم ينصب فيه الموازين، وبعد :

فلا يخفى على أولي الرشاد والسداد من العباد، إنّ من أعظم مواهب الله سبحانه على الأنام في زمن غيبة الإمام (علیه السّلام) وجود العلماء الأعلام والفقهاء البررة الكرام، ولولاهم لاختل النظام، واضمحلت الأحكام، فإن بيدهم أزمة الأمور، ومن ميا من أنفاسهم يسهل كلّ معسور، وهم المرجع في الأحكام وبقولهم يعرف الحلال من الحرام، فكم لهم من كتب تصنيف ، وجمع وتأليف ، لإحقاق الحق ، وإبطال الباطل، وترويج الدين، وإطفاء نار الغوائل، ولذا اشتاقت نفوس إلى تحصيل العلم وطلبه على ما فيه من تعبه وكربه، فنفروا عن جمعهم، وأوطانهم، وتغرّبوا عن مسكنهم وبلدانهم وجدوا واجتهدوا في طلبه واكتسابه وانتقاء درره من أصداف أربابه ، حتّى تفقهوا في الدين، وترووا من عيون الفقاهة واليقين، فشكر الله سعيهم الجميل بثوابه الجزيل، وممّن قد جدّ وأجد، وكدّ وأكّد في تحصيل المطلب، وتكميل الطلب، حتى فاز من مراتب العلم أعلاها، وحاز في درجات العمل أرفعها وأزكاها، نتيجة العلماء الأعلام، والفقهاء الكرام، والجهابذة العظام، والحجج بين الأعلام، ودرّ يتيمة الفقهاء الفخام، العامل

ص: 6

الفاضل، الباذل الكامل، الناهج مناهج الفضل والرشاد، والدارج مدارج الرشد والسداد، والسالك مسالك التحصيل عند أرباب التحقيق، والتعميق والتدقيق، المهذب الصفي، والمولى الوفي، ذوالفهم العالي، والفكر الكافي ، البالغ بجدّه الأكيد وسعيه البليغ، إلى منتهى الرشاد، ودرجة الإجتهاد، الموفق بتوفيق خالق الخلق والعباد، ذوالمجد العلي، ذاك أخانا الوفي، الشيخ محمد إبراهيم سلّمه الله تعالى، ابن العالم الفاضل، الكامل الناسك السالك، فخر العلماء العظام، وشيخ المشايخ الكرام، أبو المكارم، وحاوي المفاخر، مولانا الجليل، الآقا ميرزا عبدالرحيم دام ظله العالي، فإنّه زيد فضله العالي، بالغ فيما هو المراد من العلم والإجتهاد، وفائز بأسنى مراتب الرشاد والإرشاد، وأعلى منازل الصلاح والسداد، وقد وهبه الله تعالى القدرة على الإستنباط ، وقوة الإجتهاد، واستفادة الأحكام من الأخبار المروية المعتمدة ، المبنية عليها عمل العلماء الأعلام، في المؤلفات والمصنفات ، فشكر الله سعيه الجميل ، وأعطاه الله التوفيق لصرف عمره الشريف في هذا المقام الرفيع، والعزّ المنيع، ولا زال مؤيداً مسدّداً، موفّقاً للجمع والتدوين، وكتابة رسائل مبنية على التحقيق والتدقيق، فأعطاه الله مزيد التوفيق وأعانه على ما وجب عليه من الشكر الله جلّ جلاله بما منحه وأولاه، وخصه وأبلاه ، فإنّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثم إنه زيد فضله استجاز منّي لحسن ظنّه بي، فأجزته تبركاً للإنتظام في سلك الرواة الأعلام، ومبلغي الأحكام، أن يروي عني كلما صحت لي روايته، ووضحت لي درايته من كتب الأخبار، التي عليها المدار في الأعصار والأمصار ، كالكافي والتهذيب والفقيه والإستبصار، وما أرويه عن مشايخي الكرام، وأساتيذي العظام، عليهم رضوان الله الملك العلام، ومنهم: الشيخ الجليل، والعامل الكامل ، والمحقق المدقق، والفقيه الوحيد، والنبيه السديد، شيخ العلماء

ص: 7

والفقهاء، مرجع الأنام في الأقطار والأمصار ومن عليه الإعتماد في الإجازات والتصديقات، البحر القمقام، وعلم الأعلام والعابد الناسك في بقعة خامس أصحاب الكساء، شيخنا وشيخ العلماء والمتعلمين، مولانا الشيخ زين العابدين المازندراني الأصل، الحايري المسكن والمعبد والمدرس، والمسجد والمرجع ، طيب الله رمسه، عن شيخه الأجل صاحب جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن، عن أستاذه العماد السيد جواد عن بحر العلوم، عن أستاذه ذي الفضل الباهر الآقا محمّد باقر، عن والده الأكمل الأفضل محمّد أكمل ، عن المجلسي، عن والده التقي النقي ، مولانا محمّد تقي ، عن بهاء الملة والدين، باسناده المزبورة في الأربعين ، المتصلة بالأئمّة الطاهرين، وأوصيته بملاحظة التقوى، ونهي النفس عن الهوى، ومراقبة الوقوف على الإحتياط في العمل والفتوى ، وبيان الحلال والحرام عند الشبهات، فإنّه المنجي لسالكه عن ورطة الهلكات، وأن لا ينساني من صالح الدعوات في حياتي ومماتي عند مظانّ الإجابات، وعقيب الصلوات، كما لا أنساه إنشاء الله تعالى، وكتبت هذه الورقة مستخيراً من الله تعالى وليّ كلّ حسنة، وذلك في الليلة الحادية عشرة من ربيع الثاني من سنة / 1335 هجرية وأنا العبد الجاني محمد حسين بن محمّد جعفر الفشاركي غفر الله له ولآبائه ولأمهاته، ولجميع المؤمنين والمؤمنات بمحمّد وآله الطاهرين».

«بسم الله الرّحمن الرّحيم

قد صدر من أهله في محلّه ، الأحقر : أبو الحسن الموسوي الأصفهاني.

محل الخاتم الشريف

قد صدر من أهله في محلّه ، الأحقر : عبد الكريم الحائري.

محل الخاتم الشريف

ص: 8

[المدخل]

الحمد لله الذي خص بالبلاء عباده الأصفياء، وشرح صدورنا بمعرفة الأولياء، ونوّر قلوبنا بمحبة الأزكياء، وزكّى نفوسنا بالرقة والرّجاء، وهذب آماقنا بالدموع والبكاء، والصلاة والسلام على محمّد أشرف الأنبياء، وآله النجباء النقباء، سيما خامس أصحاب الكساء، وأنصاره المجاهدين النبلاء الذين لم يرضوا دونه إلا ببذل الأرواح والدماء، خصوصاً مولانا أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المعروف بالإيثار والوفاء، وحامل لواء الإمام الحسين (علیه السّلام) في يوم عاشوراء، وصاحب الشجاعة والغيرة والجود والسخاء، ولعنة الله على أعدائهم بدوام الأرض والسماء.

[الخصائص العباسية لماذا ؟]

يقول غريق بحر المعاصي «محمد إبراهيم الكلباسي»: لما رأيت آثار الشيخوخة قد ظهرت عليّ ، وعلامات الضعف والنقاهة قد بدت في، فقواي الجسميّة نحو الإنحطاط، وشمس عمري تقرب من الأفول والغروب، ولم أر في ديوان عملي عملاً صالحاً مقبولاً، ولا فيما سلف منى أثراً خالصاً مفيداً، فكدت آيس لولا أن تداركتني رحمة ربّي، وإذا بي أتذكر ما روي متواتراً عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم): «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا...». ولكن كيف لي الركوب في سفينتهم ؟ وأنّى لي الكون معهم صلوات الله عليهم أجمعين ؟ بلا وجاهة ولا لياقة منّي ، ولا وسيلة ولا وساطة من ذي وجاهة وكفاءة ، هذا وهم نور الله في الأرض ، وحجج الله على الخلق، وأصحاب البسط والقبض، ووديعة

ص: 9

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخلفاؤه من بعده فينا، فخطر على بالي قوله تعالى ﴿فاتوا البيوت من أبوابها﴾ ورأيت أن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو باب الإمام الحسين (علیه السّلام)، ومن استطيع بوسيلته التمسّك بحجزة خامس أهل الكساء، وريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وألج عبره إلى سفينة نجاة أهل البيت (علیهم السّلام)، فكما أنّ الإمام عليّاً أمير المؤمنين (علیه السّلام) باب مدينة علم الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فكذلك أبو الفضل (علیه السّلام) باب عناية أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولذلك قرّرت مع قلة بضاعتي وضعف بياني أن أطرق باب الإمام الحسين بيراعي النحيف، وجهدي الضعيف ، فأكتب في فضائل أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ومناقبه، ما تيسر لي انتقاؤه من كتب شتّى، وما سمح لي التوفيق بجمع ما تفرق من خصائصه الكبرى، وأنا أعترف بقصوري وعجزي عن درك ساحل يمّه الوارف ونيل قليل ممّا يحويه بحر وجوده الجارف وبلوغ وصف شيء مما يحمله من فضائل ومكارم ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كلّه ، والميسور لا يترك بالمعسور، فرتبته على مقدمة، وخصائص، وخاتمة، وسمّيته : الخصائص العباسية وأهديته على وضاعته إلى كبير سماحته، راجياً من جنابه القبول، والعفو عن التقصير والقصور، والوساطة لي عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)بالدخول إلى سفينتهم - علماً بأن سفينة الإمام الحسنين (علیه السّلام) أوسع وأسرع - والنجاة في زمرتهم، فإنّه لا نجاة إلا بهم، ولا خلاص إلا عن طريقهم، ولا سعادة إلا باتباع مسيرتهم وأخلاقهم، وانتهاج نهجهم وتعاليمهم، ورجائي منه القبول والوساطة، فإنّه خير مرجوّ ومأمول للوساطة والشفاعة.

ص: 10

المقدمة

[حب أهل البيت ومودتهم]

إنّ محبّة أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومودتهم ، التي فرضها الله تعالى على عباده في كتابه ومحكم آياته، وجعلها اجراً لنبوة سيد رسله وخاتم أنبيائه، كما تشمل الأئمة المعصومين (علیهم السّلام) تشمل ذراريهم الذين ساروا في طريقهم واتبعوا نهجهم، وخاصة مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) الذي أطاع إمامه، وضحى بنفسه من أجله، وقدّم دمه وقاءاً لدمه، ففي مجمع اليبان عن ابن عباس قال: «إنّه لما نزلت هذه الآية : قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى قالوا يا رسول الله ! من هؤلاء القربي الذين أمر الله بموالاتهم ؟ قال : علي، وفاطمة ، وولدهما».

وفي الخصال عن علي (علیه السّلام) قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من لم يحبّ عترتي ، فهو لإحدى ثلاث: إما منافق، وإما لزنية، وإما حملت به أمه في غير طهر».

وقال الفخر الرازي صاحب التفسير المعروف في ذيل تفسير الآية المباركة : ﴿قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربي﴾ أقول: «آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين (علیهم السّلام) كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أشد التعلقات ، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر».

ص: 11

[حديث الحب والبغض]

وأتبرك بنقل هذا الحديث الشريف الذي نقله صاحب تفسير الكشّاف، والفخر، وغيرهما عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنّة ، ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يُزفّ إلى الجنّة كما تُزفّ العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنة والجماعة.

ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيش من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة».

وجاء في تفسير البيضاوي نقلاً عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي ، وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطّلب ولم يجازه فأنا أجازيه».

[الذرية الطاهرة]

هذا وقد ذكرت في كتابي «التذكرة العظيمية» ستين حديثاً ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وآله (علیهم السّلام) في فضائل الذريّة، ومناقب السادة من بني الزهراء

ص: 12

و علي (علیهما السّلام)، وفي فرض محبّتهم وولايتهم على الناس، وقد طبع هذا الكتاب وانتشر عام «1346» هجرية قمرية، وهنا أذكر بعض الأحاديث الأخرى تبرّكاً وتيمناً، مكتفياً ومعتبراً بها .

منها ما جاء في كتاب: «مودة القربى» لشهاب الدين العلوي أحد أعاظم علماء العامة نقلاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «أحبّوا الله لما أرفدكم من نعمه ، وأحبّوني لحبّ الله ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي».

ومنها : أنه قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أنا أوّل الناس شأناً، ثم علي، ثم ذريتي، ثمّ محبّونا ، يدخلون الجنة بغير حساب، لا يسالن عن ذنبهم بعد المعرفة والمحبة».

ومنها ما رواه ابن مسعود عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «حبّ آل محمد يوم واحد خير من عبادة سنة، ومن مات على حبّهم دخل الجنّة».

ومنها : ما رواه أبو محمد القمّي نزيل الري في كتابه: «المسلسلات» عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «من آذى شعرة منّي فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله ملأ السماء والأرض» ويعني (صلی الله علیه و آله و سلم) بالشعرة : من له قرابة إليه (صلی الله علیه و آله و سلم) تجعله من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولو ولو بمنزلة شعرة من جسمه (صلی الله علیه و آله و سلم).

ومنها : ما جاء في كتاب: «الصواعق المحرقة» عن الطبراني نقلاً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «إنّ الله حرمات ثلاث فمن حفظها حفظ الله له دينه ودنياه، ألا وهي: وهي حرمة الإسلام وحرمتي ، وحرمة رحمي وقرباي».

[خلاصة الكلام]

وحاصل الكلام : أنّ هذه الأحاديث الشريفة والتي ذكرناها وغيرها مما لم نذكرها وما أكثرها تفيد وجوب محبّة عترة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومودة ذريته، وهو يشمل ذراريهم الذين انتهجوا نهجهم، وساروا بسسيرتهم، وخاصة أولئك الذين

ص: 13

أظهر الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، أو وصيه الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السّلام)، أو كريمته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أو واحداً من الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام)، علاقته به، ومحبته له، مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وهو الذي كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يجلسه في حضنه وينثر على وجناته وخده وهامته، ويده قبلاته الحارّة من الحبّ والرحمة، ولثماته المستعره من الحزن والأسى، ممزوجة بدموعه الساخنة، وعبراته السائلة ، وكأنه (علیه السّلام) ينبيء ببكائه ذلك عمّا سيجري على ولده هذا في نصرة إمامه، من أعداء الإنسانية، ويرى ما سيصيبه في سبيل الله من بني أمية الغاشمة الظالمة ، التي عزمت - لولا إرادة الله - على إبادة أهل البيت ودفن التوحيد والنبوة .

وهو الذي كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام)- على ما روي - تقول في حق أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ما تقوله من المدح والثناء، وتعتبره ولدها وتدعوه إبناً لها، ترى في يديه المقطوعتين في سبيل الله ونصرة ولدها الإمام الحسين (علیه السّلام) كفاية الشافعة أُمّة أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في يوم القيامة.

وهو الذي كان أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) يخاطبه بقوله في غير مرّة: «بنفسي أنت يا أخي» ممّا يدل على عظيم مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند أخيه وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام).

ومن المعلوم: أنّ من قد حاز على ما حازه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من محبة المعصومين (علیهم السّلام) له ، والزلفة عندهم، والحظوة لديهم ، حتى أحبّه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأحبّه أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وأحبته حبيبة الرسول فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأحبّته ابنتها الكبرى السيدة زينب (عليها السلام)، وأحبّه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) والإمام الحسين الشهيد (علیه السّلام) وباقي الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام) ، فكيف لا يكون في مقامه

ص: 14

يستدعي وجوب محبّته على سائر الناس أجمعين ؟؟

وها نحن بدورنا المتواضع، وبضاعتنا المزجاة، نقدم وبإخلاص، ما تكنّه قلوبنا لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) لاهلها من حبّ وولاء، ومودّة وعُلقة ، مظهرين ذلك بذكر ما يتسنّى لنا من فضائل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومناقبه، وسرد بعض ما امتاز به (علیه السّلام) من مميزات وانفرد به من خصائص، راجين عفوه عنا وقبوله منّا ، فإنّه من ، أهل بيت لا يخيب آملهم، ولا يُحرم راجيهم ، إنشاء الله تعالى، وإليك تلكم الخصائص :

ص: 15

الخصيصة الأولى: «النسب الناصع»

لا شك في أن الإنتماء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالنسب يعد فخراً للإنسان وشرفاً، كيف لا ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هو فخر البشرية وشرفها، وعزّ الإنسانية وسؤددها، فكيف بمن انتمى إليه عن قرب، ومتّ إليه بصلة غير بعيدة ؟ وذلك مثل العباس بن علي (علیهما السّلام)، الذي ولد مباشرة وبلافصل لنفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصيه الأمين الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام) الذي قال في حقه القرآن الحكيم: ﴿وأنفسنا وأنفسكم﴾ وقال في شأنه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) : «من كنت مولاه فهذا على مولاه أي من كنت سيّده وأولى به من نفسه - بنص القرآن الحكيم -، فهذا عليّ سيّده من بعدي وأولى به من نفسه بنص القرآن الحكيم ، وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما اجتبيته ولكن الله اجتباه».

[الرجل الذي لا يعرفه أحد]

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على ما رواه الفريقان - أنه قال : «إنّ لأخي عليّ بن أبي طالب (علیه السّلام) فضائل لا تحصى كثرة ، وإنّ الجن والإنس لا يقدرون على إحصائها».

ص: 16

وعن کتاب: «مشارق الأنوار»: «إنّ أباذر خرج يوماً من عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فمر به في بعض الطريق عمر بن الخطاب وكان عمر في طريقه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فسأل أباذر عمّن كان عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

فقال له أبو ذر كان عنده الرجل لم أعرفه .

فلما جاء عمر ودخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) رأى عنده على بن ابيطالب (علیه السّلام)، فتنمر في قلبه من أبي ذر ونقم عليه ، ثم التفت إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال وهو يشكو أباذر: يا رسول الله ! ألست القائل في حق أبي ذر : ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ؟

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): نعم لقد قلت ذلك في حقه، وإنه لكذلك .

فقال عمر : لقد سمعت اليوم منه كذبة، وذلك أني التقيت به وكان قد خرج لتوه من عندك، فسألته عمّن كان من الرجال لديكم ؟ فأجابني : بأنه كان عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) رجل لم أعرفه، مع أنه يعرف عليّ بن أبيطالب جيّداً، فيكف يقول : لم أعرفه ؟

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في جواب عمر : لقد صدق أبوذر ، إن عليّاً (علیه السّلام) لم يعرفه أحد إلا الله وأنا» وقد ذكر هذه الرواية الفريقان أيضاً.

[ليلة القربة]

وعن كتاب : «ينابيع المودة» للشيخ سليمان البلخي الحنفي عن سعيد بن جبير أنه قال : «قلت لابن عباس (رضی الله عنه): أسألك عن اختلاف الناس في علي (رضی الله عنه)؟

قال : يابن جبير ! تسألني عمّن كان له ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة وهي: «ليلة القربة في قليب بدر» فلقد سلّم عليه في تلك الليلة وحدها ثلاثة

ص: 17

آلاف من الملائكة من عند ربّهم ؟

ثم أضاف قائلاً: تسألني عن وصی رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وصاحب حوضه وصيّ وصاحب لوائه فى المحشر ؟ والذي نفس عبدالله بن العباس بيده لو كانت بحار الدنيا مداداً ، وأشجارها أقلاماً، وأهلها كتاباً، فكتبوا مناقب على بن أبيطالب (علیه السّلام) وفضائله ما أحصوها».

وعن أبي ذر : «إنّ عليّاً (علیه السّلام) قال في احتجاجه على أصحاب الشورى: هل فيكم من سلّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة وفيهم جبرئيل و ميكائيل وإسرافيل ليلة قليب بدر ، لما جئت بالماء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، غيري ؟ قالوا: لا».

[سقاء بدر]

هذا وقد ذكر المحدّث الجليل، والثقة النبيل صاحب التأليفات القيّمة، والتصانيف المفيدة ، الشيخ عباس القمي (رحمه الله علیه) في كتابه الثمين: «مفاتيح الجنان» هذه القصة قائلاً: «جاء في روايات عديدة : إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لأصحابه ليلة بدر : من منكم يمضي في هذه الليلة إلى البئر فيستقي لنا ؟ فصمتوا ولم يقدم منهم أحد على ذلك ، فأخذ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) قربة وانطلق يبغي الماء، وكانت ليلة ظلماء باردة ذات رياح حتى ورد البئر وكان عميقاً مظلماً ، فلم يجد دلواً يستقي به ، فنزل في البئر وملأ القربة وارتقى وأخذ في الرجوع، فعصفت عليه عاصفة جلس على الأرض لشدّتها حتى سكنت، فنهض واستأنف المسير، وإذا بعاصفة كالأولى تعترض طريقه فتُجلسه على الأرض، فلمّا هدأت العاصفة قام يواصل مسيره ، وإذا بعاصفة ثالثة تعصف عليه ، فجلس على الأرض للمرّة الثالثة ،

ص: 18

فلمّا زالت عنه قام وسلك طريقه ، حتى إذا بلغ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) سأله قائلاً : يا أبا الحسن لماذا أبطأت ؟

فأجاب علي (علیه السّلام): يا رسول الله ! عصفت عليّ عواصف ثلاث زعزعتني، فمكنت لكي تزول.

فقال : وهل علمت ما هي تلك العواصف يا علي ؟

فقال على (علیه السّلام): وما كانت تلك يا رسول الله ؟

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): كانت العاصفة الأولى جبرئيل ومعه ألف ملك سلّم عليك واله وس وسلّموا ، والثانية كانت ميكائيل ومعه ألف ملك سلّم عليك وسلموا، والثالثة كانت إسرافيل ومعه ألف ملك سلّم عليك وسلّموا ، وكلّهم قد هبطوا مدداً لنا».

وإلى هذا المعنى أشار السيد الحميري في قصيدته قائلاً :

أقسم بالله وآلائه *** والمرء عمّا قال مسئول

إنّ علي بن أبيطالب *** على التُّقى والبرّ مجبول

إلى أن قال:

ذاك الذي سلّم في ليلة *** عليه ميكال وجبريل

ميكال في ألف وجبريل في *** ألف ويتلوهم سرافيل

ليلة بدرٍ بدر مدداً أنزلوا *** كأنّهم طير أبابيل

[سقاء كربلاء]

نعم: كما أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام) استقى للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم بدر، فكذلك ابنه العباس بن علي (علیهما السّلام) استقى لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) يوم كربلاء، لكن بقارق كبير وهو : أنّ الإمام علي بن ابيطالب (علیه السّلام)

ص: 19

سلّم عليه جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وآلاف من الملائكة المقرّبين، وحيّوه بتحيّات طيبة مباركة من عند الله تبارك وتعالى، بينما ولده العباس بن علي (علیهما السّلام) أحاط به آلاف النبالة الموكلين بالمشرعة يرشقونه بالسهام والنبال، ويمنعونه من الماء، ويحولون بينه وبين إيصال القربة إلى الخيام وهم يسمعون صراخ الأطفال العطاشى، وعويل النساء الظمأى، هذا والفصل صيف قائظ ، والطقس حارّ شديد الحرارة والشمس وهاجة تصهرهم بأشعتها المحرقة ، وترشقهم بشررها القاتل ومع ذلك لم يرحموا أهل بيت نبيّهم ، ولم يدعوا الماء يصل إلى خيامهم، فقد كمنوا وراء النخيل وغدروا بالسقاء، واستهدفوا القربة وأراقوا الماء ، وملائكة الرحمان تلعنهم وتلعن طاغيتهم يزيد ، وتقدّس روح السقاء وتحبّيه بتحيّة الرحمان : ﴿سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾.

[إذعان وإعتراف]

وجاء في كتاب: «الأنوار البهيّة» ما نصة حكي عن الشافعي أنه قيل له : ما تقول في علي (علیه السّلام)؟ قال : ما نقول في حق من أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين؟».

وقال مثل ذلك ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدمة شرحه على النهج عند القول في نسب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام) وذكر لمع يسيرة من ،فضائله ، قال : «فأما فضائله (علیه السّلام) فإنها قد بلغت من العظم والجلالة، والإنتشار والإشتهار، مبلغاً يسمج يسمج معه التعرّض لذكرها، والتصدّي لتفصيلها ، إلى أن قال: وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان ،فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق

ص: 20

الأرض وغربها ، واجتهدوا بكلّ حيلة فى إطفاء نوره والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له ولعنوه على جميع المنابر ، وتوعّدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسموّاً، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عَرفُه وكلّما كتم تضوّع نَشرُه ، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيرة».

ثم أضاف: «وما أقول في رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة وتنتهى إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عُذرها، وسابق مضمارها، ومجلّي حَلبتها ، كلّ من بزغ فيها بعده، فمنه أخذ، وله اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ...».

نعم، من كان هذا والده وأبوه ، فحق له أن يرث منه الشرف والسموّ، والرفعة والعلوّ ، وأن يستلهم منه الأخلاق والآداب، والمحاسن والمكارم. والفضائل والمناقب، فهنيئاً لأبي الفضل العباس الفضل العباس (علیه السّلام) حسبه الوضاء، ونسبه الناصع المبارك.

ص: 21

الخصیصة الثانیة: «الرّحم الطاهر»

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «الجنة تحت أقدام الأمهات» . وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «تزوجوا في الحجز الصالح، فإنّ العرق دساس». وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «اختاروا لنطفكم». وعن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «إنّما المرأة قلادة فانظر ما تنقلّد» ومن ثم قال الإمام أمير المؤمنين علي (علیه السّلام) لأخيه عقيل وكان نسابة، عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: «أنظر لى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوجها، فتلد لي غلاماً فارساً، وفي خبر لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين، ويواسيه في طفّ كربلاء».

فقال له عقيل : تزوّج يا أمير المؤمنين أم البنين الوحيدية الكلابية، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها، فتزوجها علي (علیه السّلام)...».

وكان اسم أمّ البنين فاطمة الوحيدية الكلابية، وأمها ثمامة بنت سهيل بن عامر ، وكانت ثمامة هذه أديبة أريبة، وعاقلة لبيبة ، فأدبت ابنتها أمّ البنين بآداب العرب، وعلّمتها ما ينبغي للبنت الرشيدة تعلمها من الأخلاق والآداب الحميدة. وأبوها أبو المحل واسمه حرام وفي بعض النسخ: حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، من شجعان العرب وفرسانهم. ودعيت أمّ البنين بالوحيدية والكلابية، نسبة إلى الوحيد بن كعب، وكلاب بن ربيعة، وكان أهلها من سادات العرب وأشرافهم، وزعمائهم وأبطالهم المشهورين.

ص: 22

[لماذا التشاور مع عقيل؟]

وهنا سؤال يفرض نفسه ليقول : أليس الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) باب مدينة علم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) والعارف بأهل زمانه، بل والأعرف بهم من كل أحد ؟ فكيف يسأل في أمر الزواج من مثل أخيه عقيل ؟

والجواب : صحيح أنه (علیه السّلام) أعلم الناس بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالأمور، وأعرف الناس بأنساب الناس، ولكنّه (علیه السّلام) فعل ذلك لأمور لا تخلو عن حكمة ولعلّ من أهمها ما يلى:

1- أنه (علیه السّلام) أراد أن يعلمنا بذلك كيف نبني أمورنا - صغيرها وكبيرها، إجتماعيّها وشخصيّها ، إقتصاديّها وسياستها - على التحاور والتشاور ونسير فيها على علم ومعرفة ونشارك الناس في عقولهم وتجاربهم، فنتجنّب بذلك مفاسد الأنانية والإستبداد بالرأي، وما يتبعها من مساوىء ومهالك، وخاصة في مثل أمر الزواج، الذي هو أهم لبنة في تكوين الأسرة، وإنجاب الذرية والأولاد، وبناء المجتمع الصالح.

2 - لعله أراد (علیه السّلام) بذلك التجاهر والإعلان عن هذه السنّة المباركة التي سنّها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهى سنّة الزواج، حيث ورد الأمر بإعلانها والإشهاد عليها .

3 - لعله كان المرسوم في ذلك الزمان، والمعتاد في تلك الأيام، وهو: استنابة الآخرين في أمر الزواج، وعدم الإقدام من الزوج شخصياً عليه.

4 - لعله (علیه السّلام) أراد بذلك تعليم الأمة إرجاع الأمور إلى الخبراء من أهل الفن. وبيان أهمية التخصص ومكانة المتخصصين في المجتمع الإسلامي، ففي كلّ أمرٍ يرى الإسلام الرجوع فيه إلى أهل فنّه وخبرته ، ففي أمر الزواج إلى العارف

ص: 23

بالأنساب، وفي العمران إلى المهندس العالم بالعمارة، وفي التجارة إلى الخبير في أمرها، وفي الدين إلى المرجع الديني ، وفي الحكومة والقيادة إلى من اختاره الله حاكماً وقائداً من الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام) زمن حضورهم، وشورى المراجع الفقهاء زمن غيبتهم (علیهم السّلام) وهكذا .

5 - لعله أراد (علیه السّلام) بذلك إظهار شخصيّة عقيل، وإثبات تخصصه في مجال الأنساب، حتّى يكون من يمدحه عقيل في نسبه - من أمثال حزام وأمّ البنين - مرفوع الرأس بين الناس ومعتمداً، ومن يذمّه عقيل في نسبه - من أمثال معاوية وهند - سنداً لخزيهم في الناس ومستنداً.

6 - لعلّه (علیه السّلام) أراد بذلك الإخبار عن قضيّة كربلاء، والإشارة إلى فاجعة عاشوراء: من شهادة الإمام الحسين (علیه السّلام) ومظلوميّة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وجناية بني أمية في حق أهل بيت نبيهم، وقتل ذريته، وسبي حريمه، حتى لا يدع مجالاً لأحد أن يدعي بعد ذلك عدم علم الإمام الحسين (علیه السّلام) بشهادته من نهضته الإصلاحيّة، وأنه خرج يطلب الحكومة والسلطان - والعياذ بالله - وليؤكد للناس أنه (علیه السّلام) إنما يخرج ليُحيي بشهادته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينقذ بذلك الإسلام، والأمة الإسلامية.

[الام المباركة]

نعم كانت أمّ البنين كما أرادها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) - وبشهادة عقيل - من أصل كريم، وفرع قويم، ومن خيرة النساء الفاضلات، المعتقدات بحق أهل البيت (علیهم السّلام)، وكانت مخلصة في ولائها لهم، ممحضة في مودتهم ومحبتهم، حتى حضت عندهم بالجاه الوجيه، والمحل الرفيع، والمقام المنيع.

ص: 24

ولقد زارتها السيّدة زينب الكبرى (عليها السلام)- على ما نقل من مجموعة الشهيد الأوّل - بعد وصولها إلى المدينة ، أي : عند عودتها من سفرة كربلاء المفجعة، وذلك لتعزيها بأولادها الأربعة الذين استشهدوا بين يدي إمامهم الإمام الحسين (علیه السّلام) في كربلاء ، كما كانت تزورها أيام العيد أيضاً، وهذا ممّا يدلّ على علوّ مقام هذه الأم المباركة أمّ البنين ، وسموّ منزلتها عند أهل البيت (علیهم السّلام).

كيف لا وقد كانت أمّ البنين بمنزلة الأم للسيّدة زينب (عليها السلام) وأختها أم كلثوم وشقيقيها الإمامين الحسن والحسين (علیهم السّلام)، فإنها حين جاءت إلى بيت الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) عاملت أبناء الزهراء (عليها السلام) معاملة الأم الحنون، وكانت لهم كما نكون الأمّ العطوفة لأولادها، بل وأكثر، فإنّها كانت ترى نفسها فخورة بخدمتهم (علیهم السّلام)، ولذا كانت تقدّمهم على أولادها، وتعتني بهم أكثر مما تعتني بأبنائها، وترى القيام بشأنهم واجباً عليها ، وفريضة كتبها الله في ذمتها ، فإنهم قربى الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الذين أوجب الله تعالى على العباد مودّتهم ومحبتهم، وتبجيلهم وإكرامهم .

حتّى روي أنها لما زفت إلى بيت الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) صادفت الإمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام) مريضين، فأخذت تمرّضهما، وتقوم برعايتهما ، وتلاطفهما في القول، وتطيّب لهما في الكلام، حتى عوفيا من مرضهما، وبرئا من علّتهما.

ثمّ إنّها - على ما قيل - طلبت من الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يدعوها أحد بعد ذلك باسمها: «فاطمة» مخافة أن يتذكر أبناء الزهراء (عليها السلام) أمّهم ، فيتجدّد لهم حزنهم، ويعود عليهم مصابهم، ويتذكّروا غصصهم وأشجانهم، وإنّما أرادت منه (علیه السّلام) أن يدعوها بكنيتها «أم البنين» وكذلك فعل (علیه السّلام).

ص: 25

[مقام أم البنين عند الله]

ثمّ إنّه على أثر إخلاص السيّدة أمّ البنين في ودّها ومحبتها بالنسبة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذريته الطيبين، وما قدمته من عناية ورعاية لأبناء الزهراء (عليها السلام)، وما عرفته لهم من الحقوق التي فرضها الله تعالى لهم على عباده من السمع والطاعة، والتبجيل والتكريم، خصها الله تعالى بمقام شامخ وجعلها باباً من أبواب الحوائج ، كما خص ولدها العباس (علیه السّلام) بذلك أيضاً، حيث جعله (علیه السّلام) باباً للحوائج ، وملجأ فى المهمّات والمصاعب، فما رجاها طالب حاجة ، أو قصدها صاحب هم وغم ونذر الله تعالى أن يهدي لروحها شيئاً من الدعاء والصلاة ، والبرّ ، والخيرات ، إلا وقضى الله تعالى له حاجته، وفرّج عنه همه وغمّه ، كلّ ذلك إكراماً من الله تعالى للسيّدة أمّ البنين سلام الله عليها مقابل اخلاصها ووفائها.

[أم البنين وإرهاصات الولادة]

قيل : إنّ والد أم البنين حزام بن خالد بن ربيعة كان في سفر له مع جماعة من قومه، فرأى ذات ليلة في منامه كأنه جالس في أرض خصبة، وقد انعزل ناحية وبيده دُرّة يقلبها وهو متعجب من صفائها وتلألئها ، وإذا بفارس قد أقبل إليه من صدر البريّة وقال له بعد السلام والتحيّة ، وهو يشير إلى الدرّة : بكم تبيع هذه ؟

فقال له حزام: إنّي لم أعرف قيمتها ولكن أنت بكم تشتريها ؟

فقال الفارس : إنّي أيضاً لم أعرف قيمتها ولكن أقترح عليك أن تهديها إلى من هو جدير بأن يُهدى إليه، وحقيق بأن يتحف بها ، وأنا أضمن لك عنده شيئاً هو أغلى من الدراهم والدنانير.

ص: 26

فقال له :حزام وما هو ذلك الشيء الأغلى من الدراهم والدنانير ؟

قال الفارس : أضمن لك الحظوة عنده، والزلفى لديه، والشرف والسؤدد أبد الآبدين.

فقال حزام أو تضمن لي ذلك ؟

قال الفارس وبكل صلابة : نعم أضمن لك ذلك .

فقال :حزام وتكون أنت الواسطة والكفيل أيضاً في ذلك ؟

قال الفارس وبكل قوة : نعم وأكون أنا الواسطة والكفيل لو فوّضتني أمرها وخوّلتني فيها ، فأعطاه حزام إيّاها وفوّضه في أمرها .

فلمّا انتبه حزام من نومه قصّ رؤياه على من كان معه من قومه فقال له أحدهم : إن صدقت رؤياك فإنّك ترزق بنتاً، ويخطبها منك أحد العظماء، وتنال عنده بسببها الشرف والسؤدد.

فلما رجع حزام من سفره وكانت زوجته ثمامة حاملاً بفاطمة أم البنين رآها قد وضعت بها ، فبشروه بذلك فتهلل وجهه فرحاً، وسرّ سروراً كبيراً، وقال في نفسه : قد صدقت الرؤيا .

فلما قيل له : ما نسميها ؟ أجاب : سمّوها فاطمة، وكنوها أم البنين .

ثم نشأت الوليدة نشأة صالحة في أحضان أمها ثمامة، وعلى يدي أبيها حزام، وتأدبت في بيت الوالدين بآداب العرب، وأخلاق الصالحين الأبرار وشيم النبلاء الأحرار، حتى بلغت مبلغاً لائقاً تأهلت به للزواج، وتمكنت من إدارة الشؤون البيتية والعائليّة ، وذلك بعد أن ارتفعت إلى مستوى عال من الأدب والكمال، بحيث استطاعت عبره لأن تكون زوجة لأشرف خلق الله تعالى بعد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأمّاً لذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 27

[عقيل يخطب للإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)]

نعم لمّا طرح الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) على أخيه عقيل أمر الزواج وطلب مشورته فيه إقترح عليه عقيل أن يتزوج بفاطمة الوحيدية الكلابية ذات الأسرة العريقة ، والمنزلة الرفيعة، والأصالة والنجابة ، والشجاعة والشهامة، وما أن وافق الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) على اقتراح أخيه، وقبل منه مشورته، إلا وأخذ عقيل يهيّىء مقدّمات هذا الزواج المبارك، ويعدّ له مستلزماته، فقام بخطبة فاطمة الكلابية من أبيها حزام .

كان مسكن حزام حينئذ خارج المدينة، فقصده عقيل بكل رجاء وأمل، ونزل بكلّ عزّ وشرف على حزام في مضيفه هناك، فرحّب به حزام، ونحر له واستضافه بكل حفاوة، وأكرمه غاية الإكرام، وكانت العادة حينئذ جارية على أنهم كانوا لا يسألون الضيف عن حاجته إلا بعد ثلاثة أيام من استضافته، فلمّا صار اليوم الرابع أقبل حزام وجلس إلى جانب عقيل وقال له بكل إحترام وتبجيل: هل لك يا أخى من حاجة فتقضى ، أو ملمة فتمضى، من مال أو رجال وعدد أو عُدة، فإنا نحن رهن إشارتكم، ومن المؤتمرين بأوامركم ؟

فأجابه عقيل شاكراً عواطفه وشعوره الطيب قائلاً: جئتك بالشرف الشامخ، والمجد الباذخ .

فقال حزام مستفسراً: وما هو ذلك يابن عم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

قال عقيل : جئتك خاطباً .

فقال حزام وبكل حرارة : من ولمن ؟

فأجابه عقيل وبكامل الصدق والصراحة : جئتك لأخطب ابنتك الحرّة

ص: 28

فاطمة أم البنين ، إلى يعسوب الدين، وقائد الغر المحجلين ، وإمام المتقين، وسيّد الوصيّين، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب بن أبيطالب بن عبدالمطلب بن عبد مناف صلوات الله عليهم أجمعين .

عندها هش حزام وبش والتفت إلى عقيل وهو لا يتمالك نفسه فرحاً وسروراً وقال : على الرّحب والسعة، والإقبال والدعة، فلقد جئتنا بخير الدنيا والآخرة، وجلبت لنا الشرف الرفيع، والمجد المنيع، ونحن نتشرف بهذه المصاهرة، ونفتخر بهذه الوصلة، فمن مثل على بن أبيطالب أمير المؤمنين ، ووصيّ رسول ربّ العالمين ، وحجّة الله على الخلق أجمعين، إمام الإنس والجنّة ، قسيم النّار والجنّة ؟ ولكن يا ابن عم رسول الله ! أين نحن منه ؟ وأين ابنتنا من جنابه ؟ فبالإضافة إلى أننا أناس عاديون، نحن أناس قرويون ، وإن ابنتنا من أهل القرى والبادية، وهل تصلح قروية ريفية، لإمام مكي مدني ؟

وما أن أتم حزام كلامه حتى ابتدره عقيل قائلاً: إعلم يا أبا المحل ! - وأبو المحل كنية حزام - بأنّ أخى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يعلم كل ما قلته، ولا يخفى عليه شيء ممّا بيّنته ، وإنه مع ذلك يرغب في مصاهرتكم، ويحبّ أن يتزوّج منكم وقد رضي بأن تكون ابنتكم زوجة له ، وربة بيته، وأمّاً حنوناً لأولاده.

عندها قال حزام: إذن يا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أمهلني حتى أستشير أمها في ذلك، وأسألها عن صلاحيّة ابنتها وأهليتها للزواج، فإنّ الأمّ أعلم بحال ابنتها من الأب، وأعرف منه بأخلاق ابنتها وآدابها، حتى إذا أشارت على بالقبول، عرضت على ابنتي فاطمة، أمر زواجها لأعرف موافقتها ورضاها بذلك.

ص: 29

[حزام يستشير ثمامة]

فقال له عقيل : لك ذلك يا أخا بني هوازن .

لما أذن عقيل لحزام في الإستشارة قام حزام وأقبل إلى البيت، وعندما دخله إذا به يرى ابنته فاطمة جالسة بين يدي أمها ثمامها لترجيل شعرها ، فالأمّ تشمط رأس ابنتها ، وتسرّح شعرها، والبنت تحدّث أُمها، وتستأذنها في أن تقص عليها رؤياً كانت قد رأتها وهى تقول: أماه لقد رأيت في منامي البارحة رؤيا عجيبة، أحب أن أقصها عليك يا أماه.

فقالت الأمّ لابنتها بحرارة وبكل عطف وحنان: خيراً رأيت يا بنيّة، نعم قصيها على .

وهنا وقف حزام في مكان لا يراه أحد منهما وأخذ يستمع رؤيا ابنته، فسمعها تقول : يا أماه رأيت في منامي البارحة كأني جالسة في روضة غنّاء، ذات أشجار مثمرة ، وأنهار جارية، وكان الوقت ليلاً لكن ليلة مقمرة، حيث السماء صاحية، والنجوم ساطعة، والقمر تامّاً، وقد أرسل القمر أضواءه الفضية على الروضة، وأكسبها جمالاً فائضاً، وبهجة رائعة، وكنت أنا في تلك اللحظات أفكر في عظمة الله ، خالق السماء والأرض، ومبدع الشمس والقمر ، فبينا أنا كذلك وإذا بالقمر قد انقض من كبد السماء، وهوى نحو الأرض، ووقع في حجري، وهو يتلألأ نوراً يغشى الأبصار ، ويبهر العيون، فتعجبت من ذلك كثيراً ، ولكن زاد تعجبي عندما رأيت ثلاثة نجوم زواهر تنقض من السماء نحو الأرض وتسقط في حجري أيضاً، وهي تتلألأ نوراً، وتشع سناً وضوءاً، وإذا بهاتف يهتف بي حينئذ ويقول :

ص: 30

بشراك فاطمة بالسادة الغرر *** ثلاثة أنجم والزاهر القمر

أبوهم سيد في الخلق قاطبة *** بعد الرسول كذا قد جاء في الخبر

ثمّ أضافت قائلة : فما أن سمعتُ ذلك حتى انتبهت من نومي وأنا فزعة، ثمّ قالت: هذه يا أماه كانت رؤياي التي رأيتها البارحة في منامي فما هو تأويلها و تفسیرها ؟

فقالت لها أمها وهى تفسّر لها رؤياها: خيراً يا بنية رؤياكِ، فإنّها تنبىء عن أنك ستصبحين زوجة لرجل له عند الله جاه عظيم، وشأن رفيع، وقدر كبير، سيّد في قومه ، مطاع في عشيرته ، عظيم عند النّاس، كبير عند الله ، وترزقين منه أربعة أولاد، أوّلهم أكبرهم قدراً، وأعظمهم منزلة ، يكون كالقمر، ويكون الثلاثة الباقون بالنسبة إليه كالنجوم الزواهر.

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله :

صدقت به رؤيا رأتها فاطم *** قبل القرآن بمن به عرف التقى

قمراً رأت ينقض من كبد السما *** يهوي بأحضان الحصانة مشرقا

تقفوه من أبهى النجوم ثلاثة *** يغدو الزمان لحسنهم متشوقا

[الرؤيا الصادقة]

وهنا عندما تمّ حديث الأم وبنتها، ظهر عليهما حزام وحياهما بالسّلام، وقال مبتسم الثغر ، مبتهج القلب : لقد تحققت رؤياك يا بنيّة، فهذا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عقيل بن أبي طالب (علیه السّلام) جاء يخطبك منا .

فوجئت الأم وابنتها بهذا النيأ السارّ الذى جاء مفسّراً للرؤيا ومطابقاً لها، فطأطأت البنت رأسها حياءاً، وغضت طرفها خجلاً، بينما رفعت الأم رأسها

ص: 31

والتفتت إلى حزام وهي تقول : لمن یخطبها؟

قال حزام: لفال الکتائب، ومظهر العجائب فارس المشارق والمغارب، أسد الله الغالب، علي بن أبيطالب (علیه السّلام).

فقالت الأم بلهفة واشتياق: وما الذي أجبت به عقيلاً يا حزام ؟

قال حزام: إستمهلته حتى استشيرك في الأمر، وأرى رأيك في ذلك، ثم أضاف: فما ترين يا ثمامة ؟ هل ترين ابنتنا مؤهّلة للزواج، وكفوءة لأن تكون زوجة لوصي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، والحجة على خلق الله الإمام أمير المؤمنين، وإمام المتقين على بن أبي طالب (علیه السّلام)؟

فأجابت الأم وبكلّ بهجة وإعجاب : نعم يا حزام، إن ابنتنا وبحمد الله عاقلة نبيهة، وأديبة ،أريبة ، لقد رأيت فيها الكفائة منذ صغرها، وأحسست منها التفوّق والنبوغ من أيامها الأولى، فأدبتها بآداب العرب، وربيتها تربية الصالحين، وأعددتها إعداداً تأهّلت عبره لأن تكون زوجة صالحة، وأمّاً عطوفاً، وربة بيت مديرة ،ومدبّرة ، فأرجو الله أن تكون عند حسن ظنّنا ، وأن تبيض بسيرتها الحسنة عند الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وجوهنا .

عندها تهلل وجه حزام، وأقبل على ابنته يسألها عن رأيها، ويستعلم موافقتها ورضاها بالزواج من الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، ثم بقي بعد أن عرض عليها أمر الزواج يترقب رأيها، وينتظر جوابها لكن ما كان جواب البنت اللبيبة عن رضاها بهذا الزواج المبارك إلا سكوتها ، فإنّ السكوت علامة الرضا عندها طار الأب فرحاً، وغادر البيت مسرعاً، واتجه إلى المضيف ليلتقي بعقيل الذي تركه هناك ينتظره، ويترقب جوابه حتّى يبشره بالموافقة والقبول .

ص: 32

[مهر السنة]

فلما دخل حزام المضيف تلقاه عقيل متسائلاً وهو يقول : ما ورائك يا أبا المحل ؟

فأجابه حزام: يا ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)! كل الخير إنشاء الله تعالى، لقد رضينا بأن تكون ابنتنا خادمة متواضعة فى بيت النبوة والإمامة، إن قبلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بذلك ؟

فقال له عقيل: يا أبا المحل لا تقل خادمة متواضعة ولكن قل زوجة وفيّة، وقرينة كريمة ، ثمّ واصل عقيل كلامه وقال : لابد للمرأة من صداق فهل لكم اقتراح فيه ؟

قال حزام : لا ، وإنّما نفوّض ذلك يا ابن عم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) إليك .

فقال عقيل وهو يشكره على ذلك: إعلم يا أبا المحل ! إنّ أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)لا يتجاوزون في صداق بناتهم ونسائهم ما سنه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من الصداق لبناته ونسائه وهو: خمسمائة درهم.

فقال له حزام: ونحن أيضاً لا ينبغي لنا أن نتجاوز ما سنّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من المهر والصداق، رضينا وسلّمنا .

ثمّ نهض حزام لإبلاغ الأمر إلى عياله، وذلك بعد أن استأذن من عقيل واسترخصه، فتوجه نحو البيت، فلمّا دخله إلتفت إلى زوجته ثمامة وابنته فاطمة وقال لهما بكلّ بهجة وسرور: البشارة البشارة، لقد رضي عقيل بن أبيطالب ابنتنا فاطمة لأخيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) على مهر السنة، وهو خمسمائة درهم، فإنّه الصداق الذي سنّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأزواجه وبناته.

ص: 33

فسجدت ثمامة شكراً الله تعالى وهي تقول : الحمد لله الذي شرفنا بهذه المصاهرة، وكرّمنا بوصلة وصى رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أقبلت على ابنتها فاطمة تقبلها ، كما وأخذت تهنأها بهذه الكرامة التي أكرمها الله بها، والشرف الذي تشرّفت به، وتوصيها بحسن الأخلاق والسيرة، وتحتها على خدمة زوجها وخدمة أولاده ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك بكل إخلاص، وكامل الجد والجهد.

[إعلان الخطبة]

ثمّ إنّ حزام خرج بعد ذلك ودعى عشيرته وقومه من بني كلاب وبني عامر ، ليحضروا مجلس الخطبة ، فلمّا حضروا قام فيهم عقيل خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام) ثم قال : أما بعد: فاعلموا يا بني كلاب! ويا بني عامر بن صعصعة ! إنّ الله قد منّ علينا إذ بعث فينا رسولاً من أنفسنا محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم) فجائنا بدين الله القويم، الذي ارتضاه الله لنا، إذ يقول تعالى : ﴿إنّ الدين عند الله الإسلام﴾ ويقول تعالى : ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ وأمرنا بنبذ البغضاء والشحناء، وأوجب علينا التعارف وصلة الأرحام ، إذ يقول تعالى : ﴿يا أيها النّاس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير﴾ وحرّم علينا الزنا والسفاح، وأحلّ لنا الزواج والنكاح، إذ يقول تعالى : ﴿و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾. وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «تناكحوا تناسلوا، فإنّي مباءٍ بكم الأمم» وهذا وصيّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن عم نبيكم، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب بن عبد المطلب بن هاشم (علیه السّلام)، قد أحب مصاهرتكم، وخطب

ص: 34

إليكم كريمتكم فاطمة أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة ، على كتاب الله ، وسنّة رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد قال الله تعالى : ﴿فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، ثم جلس.

عندها قام حزام بن خالد وقال بعد الحمد والثناء على الله تعالى، والصّلاة والسّلام على رسوله محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) و آله الطاهرين : أما بعد : فيا قوم قد سمعتم ما قاله ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) العقيل بن أبيطالب: من ذكر نبينا محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ودين الإسلام القويم، وإنّي أشهدكم، وأشهد الله أني أدين بدين هذا النبي الكريم، وأطيعه فيما نهى عنه وأمر به، وقد ارتضيت وصيّه أمير المؤمنين علي بن ابيطالب (علیه السّلام) لابنتي فاطمة بعلاً، وارتضيتها له سكناً، وأنتم عشيرتي وقومي فما تقولون في هذا الأمر؟

فقالوا في جوابه : ما تريد أن نقول في وصيّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابن عمّ نبيكم ؟ إنه أكرم النّاس نسباً وحسباً، وأعظمهم شرفاً وسؤدداً، ولنا الفخر والشرف بالإنتساب إليه، والوصلة معه ، فنعم ما صنعت ، وخير ما فعلت .

[في بيت الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)]

ثمّ إنّه بعد إتمام الخطبة، وإجراء صيغة العقد، وإرسال الصداق والهدايا و تجهيز الجهاز واللوازم زفّت فاطمة أمّ البنين إلى زوجها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وكان ذلك طبعاً بعد شهادة الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإنّ السيدة أم البنين - على ما يراه بعض المؤرخين كانت هي أوّل من تزوّجها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بعد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أو إنها كانت الثانية بعد تزوّجه (علیه السّلام) أوّلاً

ص: 35

بأمامة بنت زينب بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على ما يراه بعض آخر من المؤرخين.

وكيف كان : فإنّ أمّ البنين لما جاءت في بيت الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كانت له ولأولاده (علیهم السّلام) كما رجاها أبوها ،حزام وأمها ثمامة، وكما وصفها عقيل بن أبيطالب (علیه السّلام)، فإنّها عاشت معه (علیه السّلام) زوجة وفيّة ، وقرينة كريمة وربة بيت مدبّرة وأمّاً حنوناً لأولاده (علیه السّلام): ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

ثمّ إنّها أنجبت له (علیه السّلام) بنيناً أربعة ، أولهم وأفضلهم : قمر العشيرة أبو الفضل العباس ، وثانيهم : عبدالله ، وثالثهم جعفر، ورابعهم : عثمان، وتحقق صدق كنيتها : أمّ البنين، بهؤلاء الأشبال الأربعة، بل الأسود البواسل، حيث أنهم وخاصة بو الفضل العباس (علیه السّلام)، قد ورثوا الشجاعة من أبيهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ، ومن أمّهم فاطمة الوحيدية الكلابية، التي كانت قد ورثت الشجاعة من آبائها وأسلافها الفرسان الشجعان.

كما أنّهم ورثوا منهما المحاسن والمكارم، والفضائل والمناقب، والصدق والوفاء، والمحبّة والولاء، فقد كانوا لأخيهم الإمام الحسين (علیه السّلام) مطيعين موالين، وفي حبّهم له من المخلصين الصادقين، وبإمامته من المعترفين المقرّين، ولم يرضوا بأقل من أن يضحوا بأنفسهم من أجله، وبأرواحهم دون روحه .

وبالفعل فإنّهم رغم المغريات والتطميع بإمارة جيش بني أمية، ومواثيق الأمان التي عرضت عليهم من قبل ابن زياد، لم يتركوا أخاهم الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولم ينصرفوا عنه، بل قاتلوا دونه حتى قتلوا فداءاً له، وتضرّ جوا بدمائهم وقاءاً لدمه، وذلك كله بفضل وفاء أمّهم أم البنين ، وإخلاصها لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذريته ، حيث كانت تعلّمهم كيف يضحوا من أجل إمامهم الحسين (علیه السّلام)، وكيف يقوه بأنفسهم ، ويُفدوه بأرواحهم، ويُرخصرا دمائهم الغالية وقاءاً لدمه الطاهر، وذلك من حين طفولتهم ، ونعومة أظفارهم، فقد دوبت في تعليمهم وتربيتهم على ذلك وتنشئتهم عليه .

ص: 36

[الزواج الأمثل]

لقد كان في طريقة زواج الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وكيفية إنتخابه لأم البنين واختياره إيَّاها زوجة له، وأمّاً لأولاده، درس للمسلمين، وعبرة لهم، حتى يكونوا في أمر الزواج على بصيرة، ويقدموا على ذلك عن تحقيق ومشورة، فإنّ الزواج هو اللبنة الأولى في بنيان الأسرة، والحجر الأساس لتشييد أركانها ، وبصلاح الأسرة يصلح المجتمع، والعكس بالعكس، ولذلك اعتنى الإسلام بالزواج وبالزوجين وخاصة المرأة ما لم يعتن بها وبشؤنها دين من الأديان السماوية، ولا مبدأ من المبادىء الأرضية، والإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إنما جسد بزواجه هذا ما جاء في القرآن الحكيم، والسنّة الكريمة، والأحاديث الشريفة، من الحثّ على التحقيق والتدقيق في أمر الزواج ، وانتخاب ذوي البيوتات والشرف، والإيمان والتقوى ، واجتناب ما خبث ولَؤُم، فقد روي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قام خطيباً وقال : «أيّها النّاس ! إيّاكم وخضراء الدّمن ، قيل : يا رسول الله ! وما خضراء الدمن ؟ قال (صلی الله علیه و آله و سلم): المرأة الحسناء في منبت السوء».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ذروا الحسناء العاقر ، وعليكم بالسوداء الولود فإنّي مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «إعلموا أن المرأة السوداء إذا كانت ولوداً، أحب إلي من الحسناء العاقر».

وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من ولد يكون علي رباً، ومن مال يكون على ضياعاً، ومن زوجة تشيبني قبل أوان مشيبي».

ص: 37

[الزوجة الصالحة]

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ألا أخبركم بخير نسائكم ؟ قالوا : بلى . قال : إن خير نسائكم : الولود، الودود ، الستيرة العفيفة ، العزيزة في أهلها ، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها ، الحصان عن غيره، التي تسمع قوله، وتطيع أمره ، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تتبدل له تبدل الرجل (أي : لم تترك الزينة له)».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً : «تزوجوا للرزق ، فإنّ لهنّ البركة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «ألا أخبركم بشر نسائكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله أخبرنا . قال : إن شرّ نسائكم : الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم، الحقود،التي لا تتورّع عن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها زوجها، الحصان معه إذا حضر ، التي لا تسمع قوله ، ولا تطيع أمره ، فإذا خلا بها تمنّعت تمنع الصعبة عند ركوبها ، ولا تقبل له عذرا ، ولا تغفر له ذنبا».

وقال أمير المؤمنين (علیه السّلام): «تزوّج عيناء، سمراء عجزاء مربوعة، فإن كرهتها فعلى الصداق».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال: «من أراد الباءة فليتزوج بامرأة قريبة من الأرض، بعيدة ما بين المنكبين، سمراء اللون، فإن لم يحظ بها فعلى مهرها».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال : «عقول النساء في جمالهن، وجمال الرجال في عقولهم، وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا أراد أن يتزوج امرأة بعث إليها من ينظر إليها ، وقال : شمّ ليتها ، فإن طاب ليتها طاب ،عرفها ، وإن درم كعبها عظم كعثبها».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال : «يظهر فى آخر الزمان واقتراب القيامة، وهو شرّ الأزمنة، نسوة متبرّجات، كاشفات، عاريات من الدين، داخلات في الفتن،

ص: 38

مائلات إلى الشهوات، مسرعات إلى اللذات، مستحلات للمحرمات، في جهنّم خالدات».

وقال علي بن الحسين (علیه السّلام): «إذا أراد أحدكم أن يتزوّج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها ، فإنّ الشعر أحد الجمالين».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «خير نسائكم : الطيّبة الريح، الطيبة الطعام، التي إن أنفقت ، أنفقت بمعروف، وإن أمسكت، أمسكت بمعروف، فتلك من عمّال الله، وعامل الله لا يخيب ولا يندم».

وقال أبو عبد الله الصادق (علیه السّلام): «خير نسائكم : التي إن غضبت ، أو أغضبت ، قالت لزوجها : يدي في يدك ، لا أكتحل بغمض حتى ترضى عنّي».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «من بركة المرأة قلّة مؤونتها ، وتيسير ولادتها، ومن شؤمها شدّة مؤنتها، وتعسير ولادتها».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا، هنّ أجمل من الحور العين».

وعنه (علیه السّلام)أيضاً قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أفضل نساء أمتي : أصبحهن وجها، وأقلّهنّ مهراً».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال: «الحياء عشرة أجزاء، تسعة في النساء، وواحد في الرّجال ، فإذا خفضت المرأة ذهب جزء من حيائها ، وإذا تزوّجت ذهب جزء، وإذا افترعت ذهب جزء، وإذا ولدت ذهب جزء، وبقي لها خمسة أجزاء، فإن فجرت ذهب حياؤها كلّه، وإعفّت بقي لها خمسة أجزاء».

وعن داود الكرخي قال : «قلت لأبي عبد الله (علیه السّلام): إن صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوّج، فقال : أنظر أين تضع نفسك ، ومن ، تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك وأمانتك، فإن كنت لابدّ فاعلاً،

ص: 39

فبكراً تنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق».

ولقد أوصت بنت الحارث ابنتها حين زفّت إلى زوجها قائلة: يا بنية! احملي عنّي - إلى بيت زوجك - عشر خصال تكن لك ذخراً وذكراً:

1 - الصحبة بالقناعة.

2 - والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.

3 - والتعهد لموقع عينه والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلّا أطيب ريح .

4 - والتعهد لوقت طعامه .

5 - والهدوء عنه عند منامه .

6 - والإحتفاظ ببيت ماله والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله.

7 - ولا تفشي له سرّاً.

8- ولا تعصى له أمراً.

9 - ثمّ اتقي الفرح أمامه إن كان ترحاً ، والإكتئاب عنده إن كان فرحاً.

10 - وكوني أشدّ ما تكونين له إعظاماً يكن أشدّ ما يكون لك إكراماً، وأشدّ ما تكونين له موافقة يكن أطول ما يكون لك مرافقة .

[الزوج الصالح]

عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً، و خياركم خياركم لنسائهم».

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام) : «حبّ النّساء من أخلاق الأنبياء».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «ما أظن رجلاً يزداد في هذا الأمر (أي: التشيّع وأتباع

ص: 40

طريقة أهل البيت (علیهم السّلام) خيراً، إلا إزداد حباً للنساء».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً : «العبد كلما إزداد في النساء حباً، إزداد في الإيمان فضلاً»

وقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : «من زوج كريمته من فاسق، فقد قطع رحمه».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من شرب الخمر بعد ما حرمها الله فليس بأهل أن يُزوّج إذا خطب».

وعن الإمام الرضا (علیه السّلام) انه قال : «إياك أن تزوّج شارب الخمر، فإن زوجته فكأنما قد إلى الزنا».

وقال أبو عبد الله (علیه السّلام): «لا تتزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا، ولا تزوّجوا الرّجل المستعلن بالزنا، إلا أن تعرفوا منهم التوبة».

وعن الحسين بن بشار قال: «كتبت إلى أبي الحسن (علیه السّلام): أنّ لي ذا قرابة قد خطب إليّ وفي خُلقه سوء ؟ قال : لا تزوّجه إن كان سيّر سيّىء الخلق».

وعن الحسين بن بشار أيضاً قال : «كتبت إلى أبي جعفر (علیه السّلام) في رجل خطب إليّ ؟ فكتب (علیه السّلام) : من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته، كائناً من كان فزوجوه، ﴿إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾ ».

«وكتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر في أمر بناته : أنه لا يجد أحداً مثله ؟

فكتب إليه أبو جعفر (علیه السّلام) : فهمت ما ذكرت من أمر بناتك وأنك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك يرحمك الله ، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : إذا جاءكم من ترضون خُلقه فزوجوه ﴿إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير﴾».

وروي أنه جاء رجل إلى الإمام الحسن (علیه السّلام) يستشيره في تزويج ابنته ؟ فقال (علیه السّلام): زوّجها من رجل تقى، فإنّه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها .

ص: 41

[المؤمن كفو المؤمن]

قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّما أنا بشر مثلكم ، أتزوّج فيكم وأزوجكم، إلا فاطمة (عليها السلام) فإن تزويجها نزل من السماء».

وروي: أنه نظر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى أولاد علي وجعفر فقال : بناتنا لبنينا، وبنونا لبناتنا».

وقال أبو عبد الله الصادق (علیه السّلام): المؤمنون بعضهم أكفاء بعض».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «الكفو : أن يكون عفيفاً وعنده يسار».

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنكحت زيد بن حارثة زينب بنت جحش، وأنكحت المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب، ليعلموا أن أشرف الشرف الإسلام».

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام) قال: «إذا تزوّج الرّجل المرأة لمالها أو جمالها ، لم يرزق ذلك، فإن تزوّجها لدينها رزقه الله عزّوجل مالها وجمالها».

وقال علي بن الحسين (علیهما السّلام): «من تزوّج الله عزّ وجلّ، ولصلة الرحم، توجه الله تاج الملك».

وعن أبي عبد الله الصادق (علیه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (علیه السّلام): أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما».

وعن أبي جعفر (علیه السّلام) قال : «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ما يمنع المؤمن أن يتخذ : أهلاً ، لعل الله أن يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلا الله».

وعن أبي الحسن (علیه السّلام) قال: «جاء رجل إلى أبي جعفر (علیه السّلام) فقال (علیه السّلام) له : هل لك من زوجة ؟ قال : لا ، فقال أبو جعفر (علیه السّلام): لا أحب أن لي الدنيا وما فيها، وأن

ص: 42

أبيت ليلة وليس لي زوجة، ثمّ قال : إن ركعتين يصليهما متزوّج أفضل من رجل عزب يقوم ليله، ويصوم نهاره».

وعن الإمام الرّضا (علیه السّلام): «إنّ امرأة سألت أبا جعفر الباقر (علیه السّلام) فقالت : إنى متبتلة . فقال لها : وما التبتل عندك ؟ قالت : لا أريد التزويج أبداً. قال : ولِمَ؟ قالت : ألتمس في ذلك الفضل ، فقال : انصرفي ، فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة (عليها السلام) أحق به منك ، إنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل».

وعن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «من زوّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها، وتشدّ من عضده، ويستريح إليها ، زوّجه الله من الحور العين».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما بني بناء في الإسلام أحب إلى الله من التزويج».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من سرّة أن يلقى الله طاهراً مطهراً، فليلقه بزوجة صالحة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «تزوجوا النّساء فإنّهنّ يأتين بالمال».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من كان له ما يتزوّج به فلم يتزوّج فليس منا».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «التمسوا الرزق بالنكاح».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أراذل موتاكم العزاب».

وعن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) أنه قال : «أكثروا الخير بالنساء».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال : «تزوجوا ، ولا تطلقوا فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش».

[الزوجان الكفوءان]

عن كتاب الوافي عن أبي حمزة الثمالي ما مضمونه قال : كنت عند الإمام الباقر (علیه السّلام) إذ دخل عليه رجل ، فرحّب به الإمام (علیه السّلام) وأقبل عليه يتفقد عن حاله: فقال له الرّجل: يابن رسول الله ! لقد خطبت من فلان وهو أحد مواليكم ابنته،

ص: 43

فردني، وأعرض عني، واستحقرني، نظراً لذمامتي وغربتي، فدخلني من ذلك ما ضقت به ذرعاً، حتّى أنّى تمنّيت موتى على أثره.

فقال (علیه السّلام) له : لا بأس عليك أنت رسولي إلى منجح بن رماح لتقول له : إنّ محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبيطالب يقول لك : زوّجني ابنتك ولا تردني.

فقام ذلك الرّجل مسرعاً، وتوجّه إلى بيت منجح بن رماح ليبلغه رسالة الإمام الباقر (علیه السّلام) في أمر زواجه .

قال أبو حمزة عندها التفت الإمام الباقر (علیه السّلام) إلينا وقال : «جاء رجل من اليمامة واسمه : جويبر إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يريد الإسلام، فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً ،ذميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان فتكفّله رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقام برعايته وهو ملازم للمسجد، حتى إذا كثر عدد المسلمين الملازمين للمسجد نزل الوحي بإخراجهم عن المسجد، وبسدّ الأبواب المفتوحة على المسجد إلا باب بيت علي وفاطمة (عليها السلام)، ففعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما أمره ،الوحي من سد الأبواب وإخراج من كان يلازم المسجد وينام فيه ، وبنى لهم خارج المسجد صفّة يلجأون إليها، وكان (صلی الله علیه و آله و سلم) يقوم بنفسه برعايتهم وكفالتهم، ويتفقد أحوالهم كلّ صباح ومساء، والمسلمون يقتدون به (صلی الله علیه و آله و سلم) في العطف عليهم.

وذات مرّة إلتفت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى جويبر وقال له : ألا تحبّ أن تتزوّج امرأة تحصن بها فرجك، وتكون عوناً لك على دنياك وآخرتك ؟

فقال جويبر بلهفة مشوبة بيأس : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ومن ترغب في ؟ فوالله مالي من حسب ولا نسب، ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب في الزواج مني ؟

ص: 44

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم) بعطف وحزم: يا جويبر ! إنّ الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهليّة شريفاً، ورفع بالإسلام من كان في الجاهليّة وضيعا، وأباد نخوة الجاهليّة وغرورها ، وأزال بالإسلام التفاخر بالآباء والعشائر، قال الله تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ .

ثم قال (صلی الله علیه و آله و سلم): فإنّ النّاس اليوم كلّهم : أبيضهم وأسودهم، قرشيّهم ونبطيّهم ، عربيهم وعجميهم من آدم وإنّ آدم خلقه الله عزوجل من طين، وإن أحب الناس إلى الله عزّوجلّ يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وإنّي يا جويبر لم أعرف أحداً من المسلمين يكون أفضل منك إلا من كان هو أكثر منك تقوى وطاعة الله تعالى.

ثم قال (صلی الله علیه و آله و سلم): إنطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنّه من أشرف بنى بياضة حسباً فيهم وقل له : إنّي رسول من رسول الله إليك لا بلغك قوله إليك بتزويجي ابنتك الدلفاء.

فأقبل جويبر مسرعاً واستأذن من زياد فى الدخول عليه، وكان عنده جماعة من قومه، فدخل وقال بعد السّلام والتحيّة: إني رسول من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إليك في حاجة، فهل أبوح لك بها علانية، أم أسر بها إليك خفية ؟

فقال زياد: بل قلها علانية، فإنّها شرف لي وفخر .

فقال جويبر : إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لي أن أقول لك : زوّجني ابنتك الدلفاء.

وهنا فوجىء زياد من وقع الرسالة ومضمونها ، وذلك لأنها كانت على خلاف عاداتهم في الجاهلية، فالتفت إليه وقال له متلكثاً ومتعجباً أحقاً أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعثك إلى بهذه الرسالة ؟

فقال جويبر بلا تردد ولا تأمل: نعم، فإنّي لا أكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال زياد : إنا لا نزوّج بناتنا إلا من الأكفاء من بين الأنصار، فارجع حتى

ص: 45

أتشرف عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأعتدر منه على ذلك.

فرجع جويبر وهو يقول : والله ليس هذا حكم القرآن ولا سيرة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فسمعت كلامه الدلفاء وهي في مخدعها : فأرسلت إلى أبيها تدعوه، فلمّا جاء قالت له : يا أبه ما خبر جويبر ؟

فقص عليها أبوها قصته وما كان من جوابه له.

فقالت له : والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأرسل إليه من يردّه إلينا .

فأرسل زياد إلى جويبر من يردّه، فلمّا جاء قال له : مرحباً بك اطمئن حتى أعود إليك.

ثم أتى زياد إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال بعد التحية والسّلام : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ! لقد جاءني جويبر برسالة لم أطمئن بها منه، فاستمهلته حتّى أتشرف بخدمتكم وأقول : بأنا لا نزوّج إلا الأكفاء من بين الأنصار.

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): يا زياد إنّ جويبر مؤمن، والمؤمن كفو المؤمن، والمسلم كفو المسلم ، فزوجه یا زیاد ولا ترغب عنه .

فرجع زياد وقصّ على ابنته الدلفاء ما سمعه من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حق جویبر ورسالته في الزواج منها .

عندها التفتت الدلفاء إلى أبيها وقالت له : يا أبه إيّاك وأن تخالف أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فتنقلب كافراً.

فلمّا رأى زياد موقف ابنته المشرّف من أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) خرج من عندها وأخذ بيد جويبر وأدخله على من كان عنده من قومه، وزوجه ابنته على دين الله وسنة رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وضمن له المهر ، ثم هيّأ لها جهاز العرس وأثاثه،

ص: 46

ووهب لجويبر بيتاً مؤثثاً، وملابس فاخرة، وزفّوا العروس إلى بيته، فلما وقع نظر جويبر على ما أنعم الله عليه من زوجة وبيت وأثاث، إعتزلها يعبد الله إلى الصباح ثلاث ليال سويّاً ولم يمسسها .

فاطلعت النسوة باعتزاله فأخبرن أبوها ، فشكاه إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

فقال جويبر : أردت أن اشكر الله تعالى على ما أنعم به عليّ، غير إني سأرضيها وأرضيهم الليلة إنشاء الله تعالى، وهكذا فعل ، ثم استشهد جويبر في إحدى حروب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

[من حق الزوجين]

قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله».

وفي تفسير أبي الفتوح نقلاً عن ميمونة زوجة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «خيار الرّجال من أمتي خيارهم لنسائهم ، وخير النّساء من أُمّتي خيرهنّ لأزواجهن».

وروي أنه جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: «إن لي زوجة إذا دخلتُ تلقتنى ، وإذا خرجتُ شيعتنى ، وإذا رأتني مهموماً قالت : ما يهمك ؟ إن كنت تهتمّ لرزقك فقد تكفّل به غيرك ، وإن كنت تهتم بأمر آخرتك فزادك الله همّاً. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : بشرها بالجنّة وقل لها : إنّك عاملة من عمّال الله ، ولك في كلّ يوم أجر سبعين شهيداً».

وعن جابر قال : «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنّة شاءت».

ص: 47

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما امرأة أعانت زوجها في على الحج ، والجهاد، أو طلب العلم، أعطاها الله من الثواب ما يعطى امرأة أيوب (علیه السّلام)».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما امرأة أدخلت على زوجها أمر النفقة وكلّفته ما لا يطيق، لا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً، إلا أن تتوب وترجع، وتطلب منه طاقته».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) : «لو أنّ جميع ما في الأرض من ذهب وفضة، حملته المرأة إلى بيت زوجها، ثم ضربت على رأس زوجها يوماً من الأيام تقول : من أنت ؟ إنّما المال مالي، حبط عملها ولو كانت من أعبد النّاس، إلا أن تتوب وترجع وتعتذر إلى زوجها».

وعن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال : سمعت رسول الله يقول : أيما امرأة هجرت زوجها وهي ظالمة، حشرت يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون في الدرك الأسفل من النّار، إلا أن تتوب وترجع».

وقال سلمان: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول : أيما امرأة منّت على زوجها بمالها فتقول : إنّما تأكل أنت من مالي لو أنها تصدّقت بذلك المال في سبيل الله لا يقبل الله منها إلا أن يرضى عنها زوجها».

وعن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «من تزوّج امرأة ولم ينو أن يوفّيها صداقها ، فهو عند الله زان».

[تعاليم أسرية]

قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): من صبر على سوء خلق امرأته، أعطاه الله من الأجر ما أعطى أيوب (علیه السّلام) على بلائه، ومن صبرت على سوء خلق زوجها أعطاها الله مثل ثواب آسية بنت مزاحم».

ص: 48

وقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما امرأة آذت زوجها بلسانها لم يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً، ولا حسنة من عملها، حتّى ترضيه، وإن صامت نهارها وقامت ليلها وأعتقت الرّقاب، وحملت على جياد الخيل في سبيل الله، فكانت أوّل من يرد النّار، وكذلك الرّجل إذا كان لها ظالماً».

وقال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما امرأة لم ترفق بزوجها، وحملته على ما لا يقدر عليه، وما لا يطيق، لم يقبل منها حسنة، وتلقى الله وهو عليها غضبان».

وعن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : «حق الرّجل على المرأة إنارة السراج، وإصلاح ، : الطعام، وأن تستقبله عند باب بيتها فترحّب به، وأن تقدّم إليه الطشت والمنديل، وأن توضئه، وأن لا تمنعه نفسها إلا من علة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «لو أن امرأة وضعت إحدى ثدييها طبيخة والأخرى مشويّة ما أدت حق زوجها، ولو أنها عصت مع ذلك زوجها طرفة عين ألقيت في الدرك الأسفل من النار، إلا أن تتوب وترجع».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «لا تؤدّي المرأة حق الله عزّوجلّ، حتّى تؤدي حق زوجها».

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام): «أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق ، لم يقبل منها صلاة حتى يرضى عنها».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «أيما امرأة قالت لزوجها : ما رأيت منك خيراً قط. فقد حبط عملها».

وقال الإمام أبو جعفر (علیه السّلام): «من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة، أعتق الله رقبته من النّار، وأوجب له الجنّة، وكتب له مائتي ألف حسنة، ومحى عنه ألف سيئة، ورفع له مائتي ألف درجة، وكتب الله عزّ وجلّ له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة».

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «ما من عبد يكسب ثمّ ينفق على عياله ، إلا أعطاه

ص: 49

الله بكل درهم ينفقه على عياله سبعمائة ضعف».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «خير الرجال من أُمّتي : الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنون عليهم ، ولا يظلمونهم، ثمّ قرأ: ﴿الرجال قوامون على النّساء بما فضل الله بعضهم على بعض...﴾.

[حقوق زوجيّة متقابلة]

لقد عد بعض علماء الأخلاق في بعض كتبهم التي كتبوها في حقوق الزوجين : إنّ للزوج على زوجته سبعة عشر حقاً، وللزوجة على زوجها ثلاثين حقاً، وذلك استناداً إلى الروايات الواردة عن المعصومين (علیهم السّلام) في بيان اجتماعيّات الإسلام والحقوق الإجتماعيّة المتقابلة ، بما فيها حق الزوجين، فلقد قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): «عيال الرجل أسراؤه وأحب العباد إلى الله عزّوجلّ أحسنهم صنيعاً إلى أسرائه» .

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) : «المرأة لعبة ، فمن اتخذها فليصنها».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ويل لإمرأة أغضبت زوجها، وطوبي لإمرأة رضى عنها زوجها».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «قول الرجل للمرأة : إني أحبك ، لا يذهب من قلبها أبداً».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «ألا وإنّ الله ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأة حتّى تختلع منه».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «إني لأتعجب ممن يضرب امرأته، وهو بالضرب أولى منها».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «لا يخدم العيال إلا صديق، أو شهيد ، أو رجل يريد الله به خير الدنيا والآخرة».

ص: 50

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «جلوس المرء عند عياله أحبّ إلى الله من اعتكاف في مسجدي هذا».

و قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ الرّجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى فم امرأته».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالأناث قبل الذكور».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «يا علي ! خدمة العيال كفّارة للكبائر، وتطفيء غضب الرّب، ومهور الحور العين، وتزيد في الحسنات والدرجات».

[أجر النّساء أكثر]

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم)- كما في تفسير أبو الفتوح الرّازي -:«... فإذا حملت المرأة كان لها في كلّ يوم وليلة أجر ألف شهيد قد قتل في سبيل والحق صابراً محتسباً وفضلها الله فى الجنّة على الحور العين فضلاً كبيراً ، كفضلي على أدناكم .

وخير نساء أمتي من ابتغت رضى زوجها واستجابت له إلى ما أراد منها ما لم يكن فيه معصية الله تبارك وتعالى.

وخير رجال أمتي من رفق بزوجته ولطف بها، وعاش معها بعطف وحنان كما تعطف الأمّ على ولدها وتحنّ إليه ، فإنّ لكلّ رجل منهم بذلك أجر مائة شهيد قد قتل في سبيل الله والحق صابراً محتسباً.

فقال عمر بن الخطّاب : كيف يكون يا رسول الله للرّجل أجر مائة شهيد ، وللمرأة أجر ألف شهيد ؟

فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): إن أجر النّساء أكثر من أجر الرّجال، وثوابهن عند الله أكبر وأتم، وإنّ الله تبارك وتعالى ليرفع برضا المرأة عن زوجها وبدعائها له درجات

ص: 51

الرّجل في الجنّة .

ثم قال (صلی الله علیه و آله و سلم): أما علمت أنه لم يكن هناك بعد الشرك بالله ذنب أعظم وبالاً على الإنسان من عصيان المرأة زوجها ومخالفته له ؟

ثمّ قال : اتقوا الله فى الضعيفين: المرأة، واليتيم، فإنّكم مسئولون عنهما ، وأنّ الله عزّوجلّ سائلكم عنهما يوم القيامة، فمن أحسن إليهما نال من الله الرحمة والرّضوان ، ومن أساء إليهما استوجب سخط الله تعالى.

ألا وإن حق الرّجل على المرأة مثل حتّى عليكم، ومن ضيّع حقي كان كمن ضيّع حق الله ، ومن ضيّع حق الله فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير».

[المرأة إذا تزيّنت وتعطّرت]

قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في كلام له : «والمرأة إذا خرجت من باب دارها متزينة متعطّرة، والزوج بذاك راض، بني لزوجها بكل قدم بيت في النّار».

وروي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه «نهى أن تتزين لغير زوجها ، فإن فعلت كان حقاً على الله أن يحرقها بالنّار».

قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أي امرأة تطيّبت وخرجت من بيتها، فهي تلعن حتّى ترجع إلى بيتها متى ما رجعت».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «اشتد غضب الله على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير له زوجها، أو غير ذي محرم منها ، فإنّها إن فعلت ذلك أحبط الله عزّوجلّ كلّ عَمل عملته».

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام) في كلام له : «وأيما امرأة تطيّبت لغير زوجها ، لم يقبل الله منها صلاة حتّى تغتسل من طيبها».

ص: 52

[الزوجة نعمة من الله تعالى]

عن الإمام علي بن الحسين (علیهما السّلام) أنه قال: «أما حق الزوجة : فأن تعلم أنّ الله جعلها لك سكناً وأنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عليك ، فتكرمها وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإنّ عليك أن ترحمها».

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام) قال : «رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته».

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال : من حسن بره بأهله، زاد الله في عمره».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال : «ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمّه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال: «سألت أمّ سلمة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن فضل النساء في خدمة أزواجهنَّ ؟ فقال : أيما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى موضع تريد به صلاحاً إلا نظر الله إليها، ومن نظر الله إليه لم يعذبه».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال: «أيما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام، إلا أغلق الله عنها سبعة أبواب النّار ، وفتح لها ثمانية أبواب الجنّة تدخل من أيها شاءت».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال: «ما من امرأة تسقي زوجها شربة ماء إلا كان خيراً لها من عبادة سنة».

وعنه (علیه السّلام) أيضاً قال : «لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته، وهي : الموافقة ليجتلب بها موافقتها ومحبتها وهواها، وحسن خلقه معها واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها، وتوسعته عليها».

وعن الإمام الكاظم (علیه السّلام): «جهاد المرأة حسن التبعل».

وعن الحسن بن الجهم قال: «رأيت أبا الحسن الكاظم (علیه السّلام) اختضب ،

ص: 53

فقلت : جعلت فداك اختضبت ؟ فقال : نعم، إنّ التهيئة ممّا يزيد في عفّة النّساء، ولقد ترك النساء العفّة بترك أزواجهنّ التهيئة، ثم قال : أيسرك أن تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة ؟ قلت : لا ، قال : فهو ذاك».

[من آداب الزواج]

للزواج في الإسلام آداب كثيرة، وسنن جمّة، وقد جاءت في روايات المعصومين (علیهم السّلام) التضمين نجاح هذا الجانب المهم من الحياة الإنسانية المتكفّل للسعادة الفرديّة والإجتماعية، بنجاحه واستمراره، ولتحصين هذا الأمر العظيم من الفشل والإنهيار المتضمّن شقاء الفرد والمجتمع ، بفشله وانهياره، وقد جمعتُ تلك الآداب والسنن في كتاب طبع عام / 1348 أشير إلى بعضها :

عن الراوندي في نوادره عن الإمام على أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «من أراد منكم التزويج فليصل ركعتين بفاتحة الكتاب ويس، فإذا فرغ من الصلاة فليحمد الله تعالى وليثن عليه وليقل : اللهم ارزقني زوجة صالحة، ودوداً، ولوداً، شكوراً ، قنوعاً، غيوراً، إن أحسنت شكرت ، وإن أسأتُ غفرتْ ، وإن ذكرتُ الله تعالى أعانتُ، وإن نسيتُ ذكرتْ ، وإن خرجت من عندها حفظت، وإن دخلتُ عليها سرتني ، وإن أمرتها أطاعتني، وإن أقسمت عليها أبرتُ قسمي ، وإن غضبتُ عليها أرضتني ، يا ذا الجلال والإكرام، هب لي ذلك ، فإنّما اسألكه ، ولا أجد إلا ما مننت وأعطيت، ثمّ قال (علیه السّلام): من فعل ذلك أعطاه الله ما سأل».

وروي عن أبي جعفر (علیه السّلام) أنه سأل أبا بصير قائلاً: «إذا تزوّج أحدكم كيف يصنع ؟ فقال ما أدري . قال : إذا هم بذلك فليصل ركعتين، وليحمد الله عزّوجلّ، وليقل: اللهم إني أريد أن أتزوّج، اللهم فقدّر لي من النّساء أحسنهنَّ خَلقاً وخُلقاً ،

ص: 54

وأعنّهنّ فرجاً وأحفظهن لي في نفسها ومالي، وأوسعهنّ رزقاً، وأعظمهنّ بركة واقض لي منها ولداً طيباً تجعله لي خلفاً صالحاً في حياتي وبعد موتي».

وروي عن ابي سعيد الخدري أنه قال : «أوصى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علي بن أبيطالب (علیه السّلام) فقال : يا علي إذا أدخلت العروس بيتك فاخلع خُفّها حين تجلس ، واغسل رجليها ، وصبّ الماء من باب دارك إلى أقصى دارك ، فإنّك إذا فعلت ذلك أخرج الله من دارك سبعين ألف لون من الفقر، وأدخل فيها سبعين ألف لون من الغنى، وسبعين ، وسبعين لوناً من البركة، وأنزل عليك سبعين رحمة ترفرف على رأس العروس، حتّى تنال بركتها كل زواية في بيتك، وتأمن العروس من الجنون والجذام والبرص أن يصيبها ما دامت في تلك الدار، وامنع العروس في أسبوعها من الألبان والخل والكزبرة والتفاح الحامض، من هذه الأربعة ...» إلى آخر الرواية الشريفة، ومضامينها المنيفة ، وإنها جديرة بالمطالعة والتدقيق، والمتابعة والتطبيق، فلتراجع في مظانّها .

[الزفاف و آدابه]

عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال : «زفّوا عرائسكم ليلاً، وأطعموا ضحى».

وعن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه أوصى عليا (علیه السّلام) بقوله: «يا علي! لا وليمة إلا في خمس: في عرس ، أو خُرس ، أو إعذار ، أو وكار ، أو ركاز .

فالعرس: التزويج والخُرس : النفاس بالولد، والإعذار: الختان، والوكار : في شراء الدّار ، والركاز : الرّجل يقدم من مكة».

وعن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال لبعض أصحابه : «إذا أدخلت عليك أهلك ، فخذ بناصيتها، واستقبل بها القبلة وقل: اللهم على كتابك تزوّجتها، وبأمانتك

ص: 55

أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها، فإن قضيت لى منها ولداً فاجعله مباركاً سوياً، ولا تجعل للشيطان فيه شركاً ولا نصيباً».

ومن كتاب النجاة المروي عن الأئمة (علیهم السّلام): «إذا قرب الزفاف يستحبّ أن الأئمة: تأمرها أن تصلي ركعتين استحباباً، وتكون على وضوء إذا أدخلت عليك ، وتصلّي أنت أيضاً مثل ذلك ، وتحمد الله وتصلّي على النبي وآله وتقول : اللهم ارزقني إلفها ، ووُدّها ، ورضاها بي، وارضني بها، واجمع بيننا بأحسن اجتماع، وأيسر ائتلاف، فإنّك تحبّ الحلال وتكره الحرام».

وعن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنه قال: «فقل إذا أردت المباشرة : اللهم ارزقني ولداً، واجعله تقياً زكيّاً، ليس في خلقه زيادة ولا نقصان، واجعل عاقبته إلى الخير ، وتسمّي الله عزّوجل عند الجماع».

وهناك للمباشرة - من حيث الوقت والمكان والحالات النفسية - أثر كبير في سعادة الجنين وشقائه، وبركة النسل وشؤمه، وقد دلّتنا الأحاديث الشريفة عليها وقاية من حزازتها، وتجنّباً عن مكارهها، فقد ورد مثلاً: أنّ النطفة لو انعقدت في الشمس على أثر المباشرة تحت أشعتها عاش ذلك الإنسان ما عاش فقيراً معدماً ، وأنه لو باشر زوجته الحامل بلا وضوء أصبح ذلك الطفل بخيلاً أعمى القلب، وهكذا فإنّه يجدر بالإنسان مطالعتها وتطبيقها في حياته الزوجية، حتّى يسعد بحياة زوجية سعيدة، ويحظى بنسل طيّب ، وخلف صالح، يخلّف للإنسان الذكر الحسن، ويعقب له التناء الجميل ، كما سعد الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في زواجه، وحظى بأولاد صالحين، مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

ص: 56

الخصيصة الثالثة: «الأسرة المباركة»

امتاز أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على غيره بانتمائه إلى أسرة كريمة وبيت مبارك، فلقد تولّد في أسرة رفيعة، وترعرع في بيت منيع، حتى أنه باعتراف التاريخ قد فاقت أسرته كل أسرة طهارة وشرفاً، وعلا بيته كل بيت مجداً وعزاً، كيف لا وهو من الأسرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن البيت الذي وصفه الله تعالى بقوله : ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغُدو والآصال رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله...﴾.

نعم لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من أسرة كريمة، وبيت شامخ، يتكوّن أعضاؤه الأوّلون ممّا يقرب من أربعين إلى خمسين عضواً، كلهم صالح مبارك ، وطيّب حميد ، لقد كان يضمّ هذا البيت بين جوانحه أشرف أهل الأرض بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأكرم خلق الله على الله عزّوجل بعد النبي الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم)، نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)بنص القرآن الكريم، وأخاه وابن عمّه وصهره، أعني : الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام)، ويضم أيضاً ريحانتي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وسيّدي شباب أهل الجنّة ، الإمامين الهمامين: الحسن والحسين (علیهما السّلام)، فهل يا ترى هناك أسرة أطيب وأطهر من هذه الأسرة، وبيت أكرم من هذا البيت المنيف ؟؟

ص: 57

لقد كان سيّد هذه الأسرة المباركة، وقمّة هذا البيت الكريم، الإمام أمير المؤمنين على بن أبيطالب (علیه السّلام) ما دام كان حيّاً ، حيث كان هو الأب العطوف والوالد الحنون لكلّ الأسرة، وكانت إلى جنبه أولاً وقبل كلّ أحد السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التي سرعان ما قضت نحبها على أيدي المبتزين لنحلتها وبلغة ابنيها فدكاً، ومضت شهيدة مظلومة في الدفاع عن حق بعلها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بعد ارتحال أبيها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذلك بعد أن أسقطوها جنينها الذي سمّاه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) محسناً .

ثمّ كان سيّد هذه الأسرة بعد الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) هو سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الأكبر الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام)، ثم من بعده الإمام الحسين (علیه السّلام). وكان قاعدة هذه الأسرة المباركة، وبقيّة أعضاء هذا البيت الكريم، يتجسّد في العباس ابن على (علیه السّلام) وأشقائه وإخوته الميامين ، ويتمثل في السيدة زينب بنت علي (عليها السلام)، وأخواتها وشقيقاتها الطّاهرات.

[أولاد أمير المؤمنين (علیه السّلام)]

نعم، لقد ذكر المؤرّخون لأمير المؤمنين (علیه السّلام) من الأولاد - ومن نساء متعدّدات - ما يتراوح عددهم بين سبعة وعشرين إلى ستة وثلاثين ولداً، بين ذكر وأنثى ، لمع من بينهم من البنين بعد الإمامين الهمامين سبطي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانتيه، وسيدي شباب أهل الجنّة : الإمام الحسن المجتبى، والإمام الحسين الشهيد (علیهما السّلام)، اسم قمر العشيرة، وبطل العلقمي ، أبو الفضل العباس (علیه السّلام) لما كان يحمله من أهليّة وكفاءة، ونبل وكرم، ومن البنات، عقيلة بني هاشم، التي ورثت اُمّها الزهراء (عليها السلام)، عصمة وطهارة ، ونبلاً وشرافة ، وبطولة وشهامة، وفصاحة

ص: 58

وبلاغة، ومصائب و آلاماً، أعني : السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)، التي نزل جبرئيل حين ولادتها (عليها السلام) على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من عند الله تعالى باسمها «زينب» وبخبر ما يجري عليها من سبي وأسر ، ومن رزايا ومصائب، والتى كانت من صغر سنّها تسكن إلى أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام) و تظمئن إليه ، و لا تفارقه ولا تنفصل عنه، وإنما كانت معه دائماً وأبداً حتى شاركته في نهضته الإصلاحية، وشاطرته بنفسها وأولادها .

كما وقد ذكر المؤرخون لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) من الأولاد ما لا يقل عن ولد واحد ، ولا يزداد على سنّة أولاد ذكور، استشهد بعضهم معه في كربلاء، وبقى بعضهم وكان عقبه من الباقين منهم .

[فضل الأولاد في الإسلام]

ولا يخفى : أنّ الإسلام قد حبّذ على التوالد والتناسل، ودعى إلى كثرة الأولاد والأحفاد، وحثّ النّاس وحرّضهم عليه، حتّى قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في جملة ما قال : «الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنّة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «نعم الولد: البنات المخدّرات».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «خير أولادكم البنات».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «إن الله على الأناث أرأف منه على الذكور».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «البنات حسنات، والبنون نعمة، فالحسنات يثاب عليها، والنعمة يُسأل عنها».

و قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «نعم الولد البنات المخدّرات من كانت عنده واحدة جعلها الله ستراً له من النّار، ومن كانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنة ، وإن كن ثلاثاً أو

ص: 59

مثلهنّ من الأخوات وضع الله عنه الجهاد والصدقة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من سعادة الرّجل : الولد الصّالح».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «من سعادة الرّجل : أن يكون له ولد يستعين بهم».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أكثروا الولد أكاثر بكم الأمم غداً».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «أطلبوا الولد فإنّ الله عزّوجلّ يرزقهم».

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام): «أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع مشفع ، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كانت لهم الحسنات، وإذا بلغوا الحُلم كتبت عليهم السيئات».

وقال (علیه السّلام): «إن الله عزّوجلّ ليرحم الرّجل لشدة حبّه لولده».

وقال الإمام الرّضا (علیه السّلام): «إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يمته حتى يريه الخلف».

وروي: «من مات بلا خلف فكأن لم يكن في النّاس، ومن مات وله خلف، فكأن لم يمت».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «قبلوا أولادكم، وفي نسخة أخرى أكثروا من قبلة أولادكم، فإنّ لكم بكل قبلة درجة في الجنّة، ما بين كل درجة خمسمائة عام».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «يلزم الوالدين من عقوق الولد ما يلزم الولد لهما من العقوق».

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام): برّ الرّجل بولده برّة بوالديه».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين ، فإن فلح وإلا فلا خير فيه».

وقال (علیه السّلام) أيضاً: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم، يُغفر لكم».

ص: 60

الخصيصة الرّابعة : «مميزات ولادته (علیه السّلام)»

لقد امتاز أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في ولادته على سائر الناس بما يمتاز به العظماء من أولياء الله في ولادتهم، حيث كانت ولادته (علیه السّلام) محفوفة بالإرهاصات، ومشحونة بالقرائن والمقدّمات، الدالة على عظم منزلة المولود عند الله تعالى، ومقامه الشامخ لديه ، فهذا الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) قبل أن يولد له العباس، بل وقبل أن يتزوّج بأمه أمّ البنين، يُنبىء عن ولادته، ويخبر عن مواصفاته، ويشير إلى ما يتحلّى به من قوة الإيمان، وطهارة النّفس، وشجاعة القلب، ورحابة الصدر ، ومكارم الأخلاق، وأنه سوف يعضد أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في مهمته، ويفديه بنفسه، ويضحي بما لديه من أجله، ويستشهد في الالام كربلاء بين يديه، وقد صرّح (علیه السّلام) بذلك كله عندما أفضى بأمره إلى أخيه عقيل بن أبيطالب (علیه السّلام) وهو يستشيره في قضيّة زواجه بعد استشهاد سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث قال له : «أنظر لى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوّجها ، فتلد لى ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين (علیه السّلام) ويواسيه في طفّ كربلاء».

هذا مضافاً إلى أنّ أنباء ما سوف يأتي ويتحقق في المستقبل : من واقعة عاشوراء، وأخبار طفٌ كربلاء، والتى من أظهرها وأبرزها: وفاء العباس (علیه السّلام)

ص: 61

ومواساته لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحراسته لخيام النّساء ومن فيها من بنات الرّسالة وودائع النبوّة ، وسقايته لأطفال أخيه، وتقديم يديه من أجل إيصال الماء إليهم ، وتعويض الله تعالى له عنهما بجناحين يطير بهما في الجنّة ، كل ذلك ممّا نزل به جبرئيل عن الله تبارك وتعالى على قلب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). وأخبر بها عليّاً (علیه السّلام) وبقيّة أهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك قبل أن يولد أبو الفضل العباس (علیه السّلام).

وعليه : فهذه نبذة من مميزات ولادة العباس (علیه السّلام) والمقدمات التي احتفت بولادته من جهة أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام).

وأمّا المميزات التي امتازت بها ولادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) من جهة أُمه أمّ البنين (عليها السلام)، فقد مرّ سابقاً الإشارة إلى شيء منها ، حيث أنّه قبل ولادة أُمّه أمّ البنين يرى أبوها حزام وهو جد أبي الفضل (علیه السّلام) لأمه ، تلك الرؤيا التي تبشره بولادة أم البنين بعد ولادة أمّ البنين وترعرعها ، وبلوغها سن الرشد ومرحلة الزواج ، ترى بنفسها تلك الرؤيا المباركة المبشرة بزواجها من رجل عظيم، والمنبئة عن حصولها على أنجال أربعة أولهم كالقمر المنير، والثلاثة الباقون كالأنجم الزهر ، وذلك كلّه قبل زواجها، بل وحتى قبل أن يخطبها عقيل من أبيها حزام للإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام). كل ذلك وغيره مما يدل على امتياز أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في ولادته، المنبىء عن عظمته، ورفيع مقامه ومنزلته عند الله تبارك وتعالى ، كامتيازه (علیه السّلام) في كل شؤنه بما امتاز به الأولياء المقربون عند الله تعالى، والشهداء السعداء ، وعباد الله الصالحون لديه عزّوجلّ.

ص: 62

[بشرى الولادة]

هذا وقد روي : أنّ قنبراً مولى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال ما مضمونه : بينما كنا ذات يوم من الأيام مع الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالمدينة، وهو يعظنا ويرشدنا، ويحذرنا من النار، ويرغبنا في الجنة، إذا بأعرابي قد أقبل نحو المسجد، فأناخ راحلته على باب المسجد ودخل متجهاً نحونا ، حتى إذا وصل إلينا سلّم علينا وخص أمير المؤمنين (علیه السّلام) بالتحيّة والسّلام وقبل يده الكريمة ووقف بين يديه وكأنه يطلب إليه حاجة، فقال له الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) برأفة وحنان : يا أخا العرب كأنك جئتنا في حاجة ، فما هي حاجتك فإنّها مقضيّة إنشاء الله تعالى؟

فقال الأعرابي : يا أمير المؤمنين أنت أعلم بها منّي.

قال قنبر : عندها إلتفت إلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقال : يا قنبر ! امض إلى المنزل وقل لمولاتك السيّدة زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) تناولك السفط الفلاني في موضع كذا وكذا .

فقلت: سمعاً وطاعة ، وحبّاً وكرامة الله تعالى ولسيدي ومولاي الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام).

قال قنبر : فقمت مسرعاً، ومضيت إلى منزل أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وطرقت الباب مرّتين ، وفي الثالثة جاءت فضة وراء الباب وقالت : من الطارق ؟

أجبتها قائلاً : أنا قنبر مولى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وخادم أهل البيت (علیهم السّلام) فقالت فضة : أهلاً ومرحباً بك، وما حاجتك يا قنبر؟

فأخبرتها بما قال لي سيدي ومولاي وما يريده.

ص: 63

فقالت فضّة : مكانك حتى آتيك به، فوقفت بالباب أنتظر مجيأها ، وإذا بي أسمع جلبة الفرح وصخب السرور يعلو من داخل المنزل، فتعجبت وانتظرت حتّى إذا رجعت إلى فضة وأنتنى بالسفط ، سألتها عن سبب ذلك .

فقالت فضّة : لقد ولد الساعة للإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) غلام أزهر كأنه فلقة قمر.

فقلت لها وقد امتلأت أنا الآخر فرحاً وسروراً: وممن هذا المولود الأغرّ ؟

قالت فضة : إنّه من أم البنين فاطمة بنت حزام الوحيدية الكلابية، ثم أضافت قائلة : وقد أوصتني سيدتي وسيّدتك : السيّدة زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن أقول لك : إذا رجعت إلى مولاي ومولاك الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فبشره بولادة هذا المولود الأغرّ، واسأله عن اسمه وكنيته ولقبه.

لا فقلت وأنا لا أمتلك نفسي بهجة وفرحاً حبّاً وكرامة، وسمعاً وطاعة، ثمّ هنّأتها وودعتها، وأقبلت بالسفط مع البشارة بالمولود الجديد، مسرعاً إلى سيدي ومولاي الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فلمّا سلّمته السفط وقفت بين يديه لأبشّره بما عندي من خبر الولادة، غير أني بقيت أترصد الفرصة المناسبة لإعلان هذا الخبر، وتقديم هذه البشارة السارة، حتى إذا فرغ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) من حاجة الأعرابي وأعطاه ذلك السقط إلتفت إليّ وقال مبادراً: ما وراءك يا قنبر، فإنّى أرى أثر البهجة والسرور طافحاً على أسارير وجهك ؟

فقلت وقد رأيت الفرصة مناسبة : نعم يا سيدي ومولاي لقد جئتك ببشارة.

فقال (علیه السّلام): وما هي تلك البشارة يا قنبر بشرك الله بالجنّة ؟

قلت : لقد ولد لك يا سيدي ومولاي غلام أغرّ .

فقال (علیه السّلام): وممّن هذا المولود الجديد ؟

ص: 64

قلت : لقد سألت ذلك فضّة عندما أخرجت إلى السفط ، فقالت : إنه من عن أمّ البنين فاطمة بنت حزام الوحيدية الكلابية ، كما وأنّها قالت لي : بأنّ سيّدتي السيدة زينب (عليها السلام) أوصتني أن أبشرك بهذا المولود - عندما أرجع إليك - وأن أسألك عن اسمه وكنيته ولقبه .

فلمّا سمع الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ذلك تهلل وجهه فرحاً وسروراً، وشكرني على هذه البشارة ، وقال : يا قنبر ! إنّ لهذا المولود شأناً كبيراً عند الله ، ومنزلة عظيمة لديه، وأسماؤه وكناه وألقابه كثيرة، وسأمضي أنا بنفسي إلى المنزل لإنجاز ما سنّه لنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) للمولود عند الولادة وبعدها من سنن الإسلام ، فهيا بنا إلى ذلك يا قنبر.

[الولادة وسُنَنَها]

ثمّ إنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) قام من مجلسه ذلك، وودع أصحابه ومن كان معه، ثمّ خرج من مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) متجهاً نحو البيت، فلمّا دخل المنزل سلّم على عادته ولاستحبابه على من كان في المنزل من أهله وأسرته، الذين كانوا بانتظار قدومه، وحياهم بتحية الإسلام ثمّ قال : إيتوني بولدي .

فقوبل (علیه السّلام) بالتحية والبشارة ، ثم جيء بولده إليه ملفوفاً في خرقة بيضاء، ومقتطاً بها، فأخذه وضمّه إلى صدره، ونثر قبلاته الحارّة على وجهه وخدّيه ، ثمّ أذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، وبعدها أخذ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يطيل النظر إليه .

وهنا تمطى المولود الجديد لأم البنين فى قماطه حتّى قطعه، وأخرج كلتا يديه من القماط، مما أثار بذلك ذكريات الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) التي كانت في

ص: 65

ذاكرته ممّا نزل بها جبرئيل فى حق هذا الوليد الجديد من عند الله تبارك وتعالى الله عليه على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأخبره بها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من كيفية شهادته في نصرة إمامه الإمام الحسين (علیه السّلام) في طف كربلاء .

عندها اغرورقت عينا الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بالدموع، وتناثرت قطرات الدمع على خديه كالدرر ، ورطّبت كريمته الشّريفة، فنظرت إليه إحدى النسوة وقالت : ما يبكيك يا أبا الحسن ونحن في هذه الساعة في فرح وسرور ، وابتهاج وحبور ؟

فالتفت إليها أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو يكفكف دموعه بيديه الكريمتين وقال لها ما مضمونه : لا تلوميني، فإنّي لما نظرت إلى هاتين اليدين وتمطيه في القماط، تذكّرت تمطّيه على جواده في كربلاء، وانفصال يديه عن جسمه يوم عاشوراء، ثم أخذ يبكي ويكثر من قوله (علیه السّلام): ما لي وليزيد ؟

[تاريخ ولادة أبي الفضل (علیه السّلام)]

هذا ولا يخفى أن ولادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)- على المشهور، وذلك حسب بعض الكتب التاريخية - كانت في المدينة المنوّرة ، وبتاريخ اليوم الرّابع من شهر شعبان المعظم سنة ست وعشرين هجرية على هاجرها آلاف التحيّة والسّلام وعلى هذا فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قمر بني هاشم، تلا في ولادته ولادة أخيه شمس الكونين : الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السّلام) من حيث اليوم والشهر ، بيوم واحد وفي نفس الشهر، ومن حيث السنين والاعوام بثلاث وعشرين سنة ، وكان - على ذلك - له من العمر حين استشهد أربعة وثلاثون عاماً .

ص: 66

الخصيصة الخامسة: «في تسميته (علیه السّلام)»

لقد سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فى الولادة سننا ندب إليها الإسلام وحبّذها ، وذلك لما فيها من زكاة ورشد للطفل، وطهارة وبركة لروحه وجسمه، وفائدة ومنفعة لدنياه وآخرته .

ففي حديث شريف عن أبي عبدالله الصادق (علیه السّلام) أنه قال : «سبع خصال في الصبى إذا ولد من السنّة:

أولاهنّ : يسمّى.

والثانية : يحلق رأسه.

والثالثة : يتصدّق بوزن شعره وَرِقاً، أو ذهباً إن قدر عليه.

والرابعة : يعق عنه.

والخامسة : يلطخ رأسه بالزعفران.

والسادسة : يطهر بالختان.

والسابعة : «يطعم الجيران من عقيقته».

وفی أحاديث مباركة أخرى تؤكّد إجراء بعض هذه السنن الإسلامية المباركة في اليوم السابع من الولادة، كالتسمية، والحلق، والختان، والعقيقة، والوليمة.

ص: 67

كما أن هناك روايات كريمة أخرى تؤكّد - في خصوص التسمية من بين بقيّة السنن - على تقديم الإسم على الولادة، وتحبّذ أن يسمّى الجنين وهو حمل في بطن أُمّه ، بل ولم تكتف تلك الروايات بالتسمية في أيام الحمل فحسب، وإنّما حبّذت أن يوضع للحمل حتى الكنية واللقب أيضاً، وذلك - على ما في الرواية - كي لا يسمّى الطفل فيما بعد ولا يكنّى وكذلك لا يلقب بما يكرهه وما هو شين عليه، وحتّى أنّه - لا سمح الله - لو سقط ذلك الحمل قبل تمامه وكماله كان له اسم يُدعى به يوم القيامة، ولهذا كان أهل البيت (علیهم السّلام) يسمون أولادهم في أيام الحمل ويكنّونهم ويلقبونهم ، كما فعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ذلك ، حيث سمّى حمل ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام) الذى أسقطه الغاصبون للخلافة : محسناً (علیه السّلام).

هذا، ولا يخفى: أنه لا منافاة بين هذه الطوائف الثلاث من الأحاديث الشّريفة ، إذ يوضع الإسم على الجنين وهو حمل في بطن أمه ، وكذلك الكنية واللقب ، ثمّ يجدّد ذلك الإسم والكنية واللقب فى اليوم الأوّل من ولادة ذلك الطّفل، أو في البوم السابع من ولادته، كما أنّ للأبوين إذا رأيا نغيير الإسم، أو الكنية، أو اللقب، من الحسن إلى الأحسن كان لهما ذلك ، وغيّرا في اليوم الأوّل أو في اليوم السابع من ولادة طفلهما.

إذن: فالتسمية وأخويها : اللقب والكنية، تكون جميعاً على الحمل في أيام حمله، ثمّ تُجدّد نفسها للطفل، أو تُبدّل إلى غيرها في اليوم الأوّل أو اليوم السابع من ولادته ، وذلك حسب إرادة الوالدين التثبيت أو التغيير.

ص: 68

[تسمية الوليد الجديد]

وكيف كان : فإنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كما كان هو أوّل من آمن برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فكذلك كان هو أوّل من سار بسيرته واتبع طريقته، ولذلك لم يكن ليتعد عن نهج رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في سنن الولادة ومستحبّاتها ، فإنّه (علیه السّلام) لما أجرى المستحبّات المأثورة على مولوده الجديد، إلتفتت إليه - على ما قيل - ابنته عقيلة بني هاشم وربيبة الوحي والعصمة ، السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) وقالت له : يا أبة ! هل اخترت لهذا المولود إسماً، وانتخبت له كنية ولقباً؟

فأجابها أبوها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بعطف وإقبال: نعم يا بنية! لقد اخترت له كل ذلك .

فقالت (عليها السلام) بلهفة وتعطش : وما هي ؟

فقال (علیه السّلام): أمّا الإسم، فاسمه : «العباس» وأما الكنية، فكنيته: «أبو الفضل» وأمّا اللقب، فلقبه : «قمر بني هاشم، وقمر العشيرة، والسقاء».

فأعجب السيّدة زينب (عليها السلام) ذلك وقالت متفائلة يا أبة أمّا إنّ اسمه «عباس» فهو علامة الشّجاعة والبسالة، وأما إن كنيته «أبو الفضل» ففيها علامة الشهامة والنّبالة ، وأمّا أنّ لقبه : «قمر بني هاشم، وقمر العشيرة» فهو علامة الجمال والكمال ، والهيبة والجلال ، ولكن يا أبة ! ما معنى أنه «السقاء» ؟

فالتفت إليها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وبعد أن توسّم في الوليد الجديد شريط المستقبل، وتصفّح في ملامح وجهه سجل الواقع القريب، وقال وهو (علیه السّلام) يستعرض على ابنته بعض ما في ذلك السجلّ من أنباء وأخبار، ويحدثها عن بعض ما فيه من حوادث وملاحم، وذلك بزفرات متواصلة، ونبرات متقطعة

ص: 69

وخافته : يا بنيّة ! إنه ساقي عطاشا كربلاء.

وما أن سمعت السيدة زينب (عليها السلام) من أبيها هذا الجواب ورأته مختنقاً بعبرته، إلا وانخطف لونها وانصدع قلبها وأجهشت بالبكاء، فلقد ذكرها أبوها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بما حدثته به أم أيمن عن جدها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من قصة كربلاء وفاجعتها الأليمة ، فلم تتمالك نفسها .

عندها رق لها أبوها أمير المؤمنين (علیه السّلام) فعطف عليها ، وأخذ يُسلّيها ويخفّف عنها وطأة الخبر المفجع ووقعة النبأ العظيم، نبأ كربلاء، وسقاية العطاشا قائلاً: بنية زينب تجلّدي واصبري، وكفكفي دموعك ، وخذي أخاك إلى أُمّه ، فإنّ له معك لموقف مشرف، وشأن عظيم.

وهنا سكنت السيّدة زينب (عليها السلام) من بكائها وهدأت من فورتها، وكفكفت دموعها، ثم تناولت أخاها الوليد من يدي أبيها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأخذت الهلال تنثر على وجهه لثماتها الحارّة ، وقبلاتها الساخنة، وأقبلت به إلى أُمّه أمّ البنين التى بقيت بانتظارها.

نعم كانت أم البنين تنتظر السيدة زينب (عليها السلام) بفارغ الصبر لتطلّع عبرها على اسم وليدها الجديد وكنيته ولقبه ، لذلك لمّا رأتها مقبلة به استقبلتها بنظراتها الحانية وقالت متسائلة: وهل انتخب مولاي الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لولدنا إسماً، واختار له كتبة ولقباً ؟

فأجابتها السيدة زينب (عليها السلام) بانطلاق وحبور : نعم يا أماه لقد انتخب له أحسنها وأجملها .

عندها قالت أمّ البنين بلهفة واشتياق : تفضّلي يا سيدتي عليّ ببيانها .

فقالت السيدة زينب (عليها السلام): أما اسمه فهو : «عباس» وأمّا كنيته فهو: «أبو الفضل» وأمّا لقبه فهو : «قمر بني هاشم».

ص: 70

وما أن سمعت أم البنين بلقب وليدها الجديد: «قمر بني هاشم» الذي لقبه به أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلا وتذكرت رؤياها التي رأتها قبل زواجها فتهلل وجهها، وانشرح صدرها ، وانطلق لسانها بالحمد والشكر على الله سبحانه وتعالى وأخذت تقول : الحمد لله الذى صدقنى الرّؤيا، وحقق لى وعده.

عندها سألتها السيدة زينب (عليها السلام) عن منامها وعن قصة رؤياها .

فقصت عليها أم البنين رؤياها التى كانت قد رأتها قبيل زواجها من الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وكيف انقض القمر من كبد السماء في حجرها.

فقالت السيدة زينب (عليها السلام) وهي تلثم أخاها الرّضيع وتقبله : نعم لقد صدقت رؤياك ، إن وليدك هذا قمر بني هاشم ، وهو أجلّ من القمر وأفضل، إنّه قمر العشيرة أبو الفضل العباس (علیه السّلام).

[التسمية برواية أخرى]

وجاء في بعض الكتب المعتبرة : إنّ أم البنين يوم وضعت حملها، وولدت أوّل أشبالها ، قمّطته بقماط أبيض، وقدّمته إلى أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، ليجري عليه سنن الولادة من التسمية وغير ذلك ، فلما أخذه أمير المؤمنين (علیه السّلام) قربه إلى فمه ومسح على عينيه وأذنيه وفمه بلسانه الشّريف - ولعله حتى يكون ممّن يرى الحق ، ويسمع الحق ، وينطق بالحق - ثمّ أذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ثمّ التفت إلى زوجته الوفيّة أمّ البنين ومن حولها وقال : ما سمّيتموه ؟ فأجابته أمّ البنين بتأدب واحترام قائلة : وما كنا لنسبقك في شيء يا أمير المؤمنين . فشكر الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) شعورها الطيب، ووفاءها الجميل ثم قال : إنّي سمّيته باسم عمّي العباس عباساً، ثمّ ضمّه إلى صدره وأخذ بيديه الصغيرتين

ص: 71

ورفعهما إلى فمه ولتمهما بقبلاته الساخنة واستعبر باكياً وهو يقول : كأني بيديه هاتين تقطعان يوم الطفّ عند مشرعة الفرات في نصرة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، فاستعبرت أُمّه ومن كان معها وفوضت أمره وأمرها إلى الله تعالى.

[استنباط واستنتاج]

لا يخفى : إنّ من قصة تقبيل الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يدي ولده الرّضيع أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يعلم - بالإضافة إلى ما فيه من بيان عظمة مقام الوليد، وشرف منزلته عند الله تعالى - أن تقبيل الإنسان يدي أولاده من باب المحبّة لهم، والشفقة عليهم جائز ، كما كان يفعل ذلك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من باب المحبّة، ومن باب التعظيم والتشريف، وبيان المقام والمنزلة، مع ابنته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام)، حيث كان يقبل يديها ، ويقوم لها من مقامه، ويجلسها في مجلسه .

كما أنه يُعلم من تقبيل أمير المؤمنين (علیه السّلام) يدي ابنه العباس (علیه السّلام) ومن تسميته باسم عمّه العباس، شدّة محبّته (علیه السّلام) لابنه هذا وكبير ،احترامه، وعُلقته بعمّه ذاك ، كيف لا وقد أوصى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعمه العباس خيراً وقال على ما روي: «لا تؤذوني في عمّي العباس».

[سؤال وجواب]

قيل : إنّه لمّا مضت أيام على ولادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، جاءت السيدة زينب (عليها السلام) إلى أبيها أمير المؤمنين (علیه السّلام) يوماً وهي تحمل أخاها العباس وقد ضمته إلى صدرها وقالت له : أبة يا أمير المؤمنين! مالي أرى قلبى متعلقاً بهذا الوليد أشدّ التعلّق ، ونفسى منشدّة إليه أكبر الإنشداد ؟

ص: 72

فأجابها أبوها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بلطف وحنان قائلاً: وكيف لا تكونين يا أبة كذلك ، وهو كفيلك وحاميك ؟

فقالت السيدة زينب (عليها السلام) بتعجب : إنّة كفيلي وحاميني ؟

فأجابها بعطف وشفقة : نعم يا بنيّة، ولكن ستفارقينه ويفارقك .

فقالت السيدة زينب (عليها السلام) باستغراب : يا أبتاه ! أيتركني هو أم أتركه أنا ؟

فقال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو يجيبها بلهفة ولوعة : بل تتركينه يا بنية وهو صريع على رمضاء كربلاء، مقطوع اليدين من الزندين، مفضوخ الهامة بعمد الحديد، ضام إلى جنب الفرات. فلم تتمالك السيدة زينب (عليها السلام) لما سمعت ذلك حتى اعولت وصاحت: وا أخاه واعباساه . وإلى هذا أشار الشاعر حيث يقول :

جاءت به الحوراء تحمله وقد *** شغفت به، وبه الفؤاد تعلقا

تحنو عليه وتنثني لأبيهما *** من كان كالأم الرؤوم وأشفقا

حلو الشمائل من رآه وفيه من *** معنى البسالة والجمال مع النّقا

سمّاه عباساً وقال ملقباً *** قمراً فقل: أسمى وأجمل رونقا

ص: 73

الخصيصة السادسة: «في بعض خصائص اسمه (علیه السّلام)»

واسمه العباس وهو اسم الأسد *** بل هو الأشجع إن في الحرب شدّ

[العباس في اللغة]

جاء في لسان العرب: «العباس: الأسد الذي تهرب منه الأسود، وبه سمّى الرجل عباساً».

وفي كتاب آخر: «العباس والعبوس، كثير العبس، وهما من أسماء الأسد».

وفي منتهى الإرب: «العباس بصيغة المبالغة يقال للشجاع المقدام، والشديد البأس، وعظيم الكرّ ، وهو بمعنى الأسد أيضاً، ولهذا عبّر عنه الأكثر - - وهو يصف العباس في ساحة الحرب - بالأسد الغضبان».

وقيل أيضاً: «العباس : بفتح العين وتشديد الباء يعني : الأسد، وهو اسم عمّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) واسم نجل أمير المؤمنين (علیه السّلام) من زوجته الوحيدية الكلابية التي تزوّجها بعد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وحيث كان العباس هذا شجاعاً ، مقداماً، یکر على الأعداء في الحروب كالأسد الغضبان سمّى بالعباس».

وعن منتخب الطريحي : «كان العباس بن علي (علیهما السّلام) كالجبل العظيم، وقلبه

ص: 74

كالطود الجسيم ، لأنه كان فارساً هماماً ، وبطلاً ضرغاماً، وكان جسوراً على الطعن والضرب، في ميدان الكفاح والحرب».

وفي مصدر آخر: «وسماه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بالعباس ، لعلمه بشجاعته وشهامته، وسطوته وصولته ، فلقد كانت الأعداء ترتجف أبدانهم، وترتعد فرائصهم، وتعبس وجوههم خوفاً من العباس (علیه السّلام) إذا برز، وكان في الحروب والغزوات يحارب الشجعان وينازلهم كالأسد الضاري حتى يجد لهم صريعاً».

وفي مقاتل الطالبيين : «كان العباس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهم، ورجلاه تخطّان في الأرض خطاً».

وفي كتاب آخر: «الذين قتلوا مع الإمام الحسين (علیه السّلام) كانوا جميعاً في أعلى درجات الشجاعة، وأرفع مراتب الشهامة، إلا أنّ العباس بن علي (علیهما السّلام) كان له من قداحها المعلى، ورتبته أنبل وأعلى، يقتبس أنوارها، ويقتطف ثمرها ونورها، وناهيك بمن كان ضلعاً من أضلاع أشجع البرية، ودوحة من الروضة العلوية، وغصناً من أغصان الشجرة المباركة، الزيتونة النورانية، أبوه الإمام أمير المؤمنين سيّد البريّة، وأخوه الإمام الحسن و الإمام الحسين (علیه السّلام) سيّدا أهل الإباء والحمية ، ولا يقاس بشجاعته إلا شجاعة أبيه وأخويه ، وقد ادّخره أبوه لينصر ولده الإمام الحسين (علیه السّلام) بمهجته ، ويواسيه بنفسه».

[من بركات اسم أبي الفضل (علیه السّلام)]

جاء في كتاب منتخب التواريخ ما مضمونه : أنّ اسم «العباس» من حيث حساب الأبجد، يساوي عدد حروف اسمه بالجُمل ما عدا الألف واللام : (133) كما أنّ عدد حروف لقبه : «باب الحسين (علیه السّلام)» بالجُمل ما عدا الألف واللام أيضاً

ص: 75

يساوي (133) ومن الختومات المجرّبة لتسهيل الحوائج وقضائها، وإنجاحها وإمضائها هو مخاطبة العباس (علیه السّلام) بعدد حروف اسمه (133) بما يلي :

«يا كاشف الكرب عن وجه أخيه الحسين عليه السلام إكشف كربي بحق أخيك الحسين عليه السلام». ولعلّه إلى هذا المعنى أشار الشاعر حيث يقول :

يوم أبو الفضل استجار به الهدى *** والشَّمس من كدر العجاج لثامها

[العباس (علیه السّلام) يجير من استجار به]

وجاء في كتاب «الكبريت الأحمر» للعلامة التحرير ، الشيخ البيرجندي أنه قال وهو يتحدّث عن نفسه، ويقص بعض خواطره: إنّه كان قد توسّل بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) إلى الله تعالى في إنجاز بعض مهمّاته، ووسطه في حلّ شيء من مشكلاته ، ولكنه لم ير أثراً من الإجابة، فرأى ذات ليلة رؤيا صادقة في منامه، أنه رأى شخصاً يقول له: كلّ من كانت له حاجة إلى الله تعالى فليقرأ هذه العبارة متوسلاً بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) إلى الله سبحانه فإنّ الله تعالى يقضي له حاجته بوجاهة أبي الفضل (علیه السّلام) عنده، والعبارة هي كالتالي:

«عبد الله أبا الفضل ! دخيلك».

قال الشيخ البيرجندي: فما توسلت إلى الله تعالى بعد ذلك بأبي الفضل (علیه السّلام) وقرأت هذه العبارة إلا وقضى الله تعالى حاجتي، وكشف عنّي همّي وغمّي، وبلغني مناي وأملي.

ص: 76

[إغاثة العباس (علیه السّلام) المستغيثين به]

ونقل عن أحد المراجع العظام نقلاً عن بعض العلماء المقيمين في قم المقدّسة أنه قال: عرضت لي مشكلة فتوسلت بإمام العصر الحجة بن الحسن العسكري (علیه السّلام) إلى الله تعالى فى حلّها ، وكنت أذهب لذلك إلى مسجد جمكران المعروف في قم المقدّسة، مضت على ذلك مدّة من الزمان ولم أر أثراً من الإجابة فانكسر قلبي ذات مرّة وأنا في الصَّلاة المستحبّة التي تصلّى في مسجد جمكران وأخذت أخاطب سيدي ومولاي الإمام الحجة (علیه السّلام) وأقول : سيدي ومولاي ! لقد توسلت بك إلى الله تعالى في حلّ مشكلتي وقضاء حاجتي، فلم أر أثراً للإجابة فهل يسوغ لي أن أتوسل بغيرك وأنت إمامي ، ومن له حق الطاعة عليّ في عنقي ؟ ثم قلت : فإنّي لا أسمح لنفسي أن أتوسل إلى سبحانه وتعالى بأحد سواك، حتى ولو كان وجيهاً عند الله مثل باب الحوائج أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ثم قال : وهنا غلبني الحزن والبكاء وانكسار القلب والخاطر، وبينما أنا كذلك إذ سمعت من يقول لى : لا بأس عليك بالتوسل إلى الله تعالى بعمنا أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ، ونحن ندلك على ما تقوله عند التوسل إلى الله تعالى به فإذا كانت لك حاجة فتوسل به إلى الله تعالى بهذه العبارة وقل:

«يا أبا الغوث أدركني».

[التوسل إلى الله بالعباس (علیه السّلام)]

ونقل عن العلّامة المازندراني صاحب كتاب معالي السبطين أنه قال : من كانت له حاجة، أو يشكو مشكلة ، فليتوسل إلى الله تعالى بأبي الفضل

ص: 77

العباس (علیه السّلام) وليكرّر هذا التوسل أياماً حتى تقضى حاجته، وترتفع مشكلته، وذلك بأن يصلّى على محمّد وآل محمّد (133) مرّة ، ثمّ يقول : يا عباس (133) مرّة، ثمّ يعود فيصلى على النبي وآله (133) مرّة ، فإن الله تعالى يقضى له حاجته، ويفرّج عنه مشكلته.

وجاء في كتاب معالي السبطين أيضاً: إن من كان في الصحراء، أو في مكان قفر لا ماء فيه، وأضرّ به العطش، وخاف الهلاك، فليتوسل إلى الله تعالى بالعباس (علیه السّلام) ولينادي : «يا أبا القربة» فإنّه يُروى من العطش، ويُرفع عنه الظمأ ، بإذن الله تعالى .

ص: 78

الخصيصة السابعة : «في نشأته (علیه السّلام)»

إرتضع أبو الفضل العباس (علیه السّلام)من أمّ وفيّة، ووالدة كريمة، منتمية إلى بيت كريم، وأسرة نجيبة ، وذات عراقة وأصالة، ومجد وسؤدد ، ألا وهي كما عرفت - فاطمة بنت حزام الوحيدية الكلابية، المكناة بأم البنين (عليها السلام)، وتربى في أحضانها ، و تروّى من إيمانها وولائها وعلمها ومعرفتها، حيث أنها كانت من الفاضلات العالمات.

كما وترعرع في حجر والد كريم، وسيّد عظيم، نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصيّه ، وخليفته من بعده ، وارث علم النبيّين ، وسيّد الوصيّين، وقائد الغرّ المحجلين إلى جنات النعيم، الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (علیه السّلام).

لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) ملازماً لأبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أيّام إقامته في المدينة المنوّرة ، ثم هاجر معه (علیه السّلام) إلى العراق وأقام معه في الكوفة ، وهو في كلّ ذلك تحت عنايته الشفيقة، ورعايته التربوية الحكيمة، فاكتسب من هذين الأبوين الكريمين كلّ مكرمة وفضيلة ، وورث منهما بالتربية والوراثة، المكارم والأخلاق الحميدة، والعلم الجمّ، والمعارف الإلهية النبيلة .

ص: 79

[قل : واحد]

ففى التاريخ أنّ أباه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) دعاه يوماً وهو بعد في سن الطّفولة وقد انطلق لسانه، وتعلّم النطق ببعض الكلمات، فأخذه وضمّة إليه ثمّ أجلسه في حجره وقال له : بني عباس ! قل : واحد .

فقال العباس (علیه السّلام): واحد .

فقال له (علیه السّلام): يا ولدي! قل : اثنين .

فأبى وامتنع من أن يقول اثنين ثم التفت إلى أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقال : إنّي يا أبة أستحيي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً.

وكان هذا الجواب هو الذي ينتظره الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) من ولده العباس (علیه السّلام)، لذلك التفت إليه وقال : أحسنت يا ولدي، بارك الله فيك، ثمّ أخذه وضمّه إلى صدره ثانية، وقبل ما بين عينيه .

[ملازمة السبطين (علیهما السّلام)]

ثمّ إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) بقى بعد أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ملازماً لأخويه السبطين، الإمامين الهمامين: الحسن والحسين (علیهما السّلام) وهما الذان قد أثنى عليهما وعلى ابن عمهما عبدالله بن جعفر حتى مثل عثمان بن عفان فإنّه قال للسائل الذي سأله فاعطاء هو خمسة دراهم فقط، وسألهم فأغدقوا عليه المال : ومن لك بمثل هؤلاء الفتية ؟ أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة.

نعم لقد لازم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بعد أبيه أخويه، ورجع معهما إلى المدينة المنوّرة وبقي في خدمتهما مدة إقامتهما فيها، وتعلّم منهما أيضاً معالم

ص: 80

الدين وأصوله ، وأحكام الإسلام وفروعه ومحاسن الأخلاق ومكارمه، حتّى إذا استشهد السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) على يدي معاوية بالسم غدراً ، صار ملازماً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وبقي معه مادام كان الإمام (علیه السّلام) في المدينة المنوّرة ، يتلقّى من علومه ويتروّى من جميل أخلاقه وآدابه ، حتى إذا خرج الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى العراق ، خرج معه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) ولازم ركابه حتى قتل بين يديه شهيداً، صابراً، محتسباً.

[نسخة طبق الأصل]

لقد امتازت نشأة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عن غيره من أولاد الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بأنه اختص من بينهم بصحبة والده وأخويه السبطين، بل وابن أخيه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أيضاً، وملازمته لهم، والتلمّذ عندهم، والتروّي من معين علمهم، وزاكي أخلاقهم، ولذلك جاء نسخة طبق الأصل، من حيث الفضائل والمكارم، والعلم والمعارف ، حتّى قال الشاعر في حقه وهو يصف مناقبه وفضائله :

وفى العباس من كرم السجايا *** كثير ليس يحصر في مقال

وفاء، نجدة، زهد، وعلم *** وإيثار، وصدق في المقال

عفاف ظاهر، حلم، وجود *** وبأس صادق عند النزال

ص: 81

الخصيصة الثامنة: «في كُنى العباس (علیه السّلام)»

الكنية من حيث اللغة هو: الإسم المصدّر بالأب مثل أبو الحسن ، أو الأم مثل : أم أيمن .

وقيل : المصدّر بالإبن أيضاً مثل : ابن الرّضا والمصدّر بالابنة أيضاً مثل: ابنة فاطمة .

وقيل : إنه يشترط في الكنية أن يكون مشعراً بالمدح أو الذم، كما أنهم جعلوا حكمة الكنية هو التعظيم ، أو التحقير، فقالوا : إنّ هناك من لا يدعونه باسمه بل بكنيته تبجيلاً وتكريماً ، كما أنّ هناك من يدعونه بكنيته توهيناً وتحقيراً.

وعلى كل حال : فقد اشتهر العباس بن علي بن أبي طالب (علیه السّلام) بكني متعدّدة ، وكلّها تحكي القناء والتعظيم، وتفصح عن المدح والتبجيل للعباس (علیه السّلام)، غير أنّ الأشهر من بين الجميع هو أبو الفضل ، ويتلوه شهرة: أبو فاضل ، ثمّ أبو القاسم ، ثمّ ابن البدوية ، ثمّ أبو القربة ، وأبو الشارة ، وأبو رأس الحار، وأبو فُرجة.

[كُناه (علیه السّلام) مشعرة بالتعظيم]

لقد سبق في تعريف الكنية ومعناها اللغوي : بأنها الإسم المصدر بالأب أو الأم، والإبن أو الإبنة، مضافاً إلى شروطها الأخرى: من إشعار المدح أو الذمّ،

ص: 82

وحكمة التعظيم أو التحقير، فإنّ هذا التعريف يوقفنا على أنّ الإسم المصدّر بواحد من الأب أو الأم والابن أو الإبنة، يُعدّ كنية، حتى وإن لم يكن لصاحب ذلك الإسم المصدّر بالأب أو الأم ابن - مثلاً - يُدعى بذلك الإسم ، أو لم يكن لصاحب ذلك الإسم المصدّر بالابن أو الإبنة أب - مثلاً - يُدعى بذلك الإسم .

[أبو الفضل ، وأبو فاضل]

«وعليه : فيكون أبو الفضل ، وكذا أبو فاضل، وهكذا غيره من كني کنی العباس» مشعراً بالمدح والثناء، وحاكياً عن التعظيم والتبجيل، وليس مستلزماً لأن يكون له ابن يُدعى بالفضل ، أو بفاضل - مثلاً - حتى وإن قيل : بأنه (علیه السّلام) كان له ابن يدعى بالفضل بن العباس (علیه السّلام).

وكيف كان : نإن كنى العباس (علیه السّلام) كلها مشعرة بالمدح والثناء عليه، كما أنّ الحكمة من وضعها له هي : تعظيمه وتبجيله (علیه السّلام) بها ، ولذلك نرى الشاعر يقول في حقه (علیه السّلام):

أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا *** أبن الفضل إلا أن تكون له أبا

وقال آخر :

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر *** وفي يوم بذل الماء أنت أبو الفضل

وأمّاً «أبو فاضل» فإنّ العرب قد تعارفوا على أن يكنوا كل من كان اسمه : (عباس) بكنية معروفة لديهم هي: «أبو فاضل» سواء كان له ابن بذلك الإسم أم لا ؟

ص: 83

[أبو القاسم]

وأما «أبو القاسم» فهو كنية سيّد المرسلين، وخاتم النبيين محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد كنّي العباس (علیه السّلام) بها تشريفاً له، وحفاوة به، وذلك كما ورد في زيارة الأربعين المنقولة عن جابر بن عبدالله الأنصاري حيث أنه وقف على قبر الفضل العباس (علیه السّلام) وقال: «السّلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عباس بن على ...» وإن قيل : بأنه كان للعباس (علیه السّلام) ابن يُدعى باسم : القاسم بن العباس (علیه السّلام).

[ابن البدوية]

وأمّا «ابن البدوية» بفتح الباء والدال ، أو سكون الدال وكسر الواو فهو إشارة إلى فروسية العباس (علیه السّلام) وشجاعته التي ورثها عن طريق امه : أم البنين (عليها السلام) له التي كانت تنحدر من قبيلة بدوية، معروفة بالشجاعة والفروسية، كما أنّ فيها إشارة إلى حسن الطباع، وكرم الأعراق، وطيب الأخلاق والآداب التي كانت تتحلى بها أم البنين ، والتي ورثتها لابنها العباس (علیه السّلام) وذلك نظراً لانتمائها إلى البادية التي تُشبع روح ساكنيها بالصفاء والوفاء، وتروّي نفوسهم بالعزة والإباء، وتقوّي عقولهم بالرّحابة والطلاقة .

[أبو القربة]

وأما «أبو القربة» بكسر القاف وسكون الراء، فهو مما جاء من ألقابه (علیه السّلام) في كتاب مزار السرائر لابن إدريس، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج، والأنوار النعمانية ، وتاريخ الخميس ، وهو كناية عن تصديه (علیه السّلام) المهمّة السقاية ، يعني :

ص: 84

سقاية الماء التى لها عند الله أجر كبير وثواب جزيل.

فقد كان العباس (علیه السّلام) المسئول عن سقاية الماء لموكب الإمام الحسين (علیه السّلام) عند خروجه من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، ومنها إلى العراق، وبالخصوص في كربلاء ، وخاصة بعد تحريم الماء من قبل يزيد بن معاوية على آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ومنعه عنهم .

كما أنّ فيها إشارة إلى مواساته (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في يوم الله عاشوراء حيث ورد المشرعة، وملأ القربة ماءاً، ولكنه لم يذق من الماء ولا قطرة، مع شدة عطشه، وكبير ظمأه، وذلك احتراماً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأطفال أخيه وبنات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) العطاشى.

كما أنّ فيها إشارة أيضاً إلى طريقة شهادته (علیه السّلام) وكيفية قتله، حيث أنه حفاظاً على القربة وماءها ، وإيصالها سالمة مع الماء إلى حرم الإمام الحسين (علیه السّلام) وأطفاله ، عكف كل همه على بلوغ هذه الأمنية، ممّا ترك لأجلها المبارزة مع الأعداء ومجابهتهم في ساحة الحرب، حتّى طمع الأعداء في قتله، وتجرأوا على الكمين له في طريقه ، وكذلك فعلوا، حيث كمنوا له في طريقه من وراء النخيل وقطعوا أوّلاً يديه ثمّ استهدفوا القربة وأراقوا ماءها ، ثمّ أردوه قتيلاً.

[أبو الشارة]

وأما «أبو الشارة» من شوَّر بالرّجل فتشوّر، أي: إذا خجّله فخجل، فهو: كناية عن كونه (علیه السّلام) صاحب الكرامات المعروفة التي تحصل عنده (علیه السّلام) من مراجعة المتخاصمين الذين انسدت عليهما طرق المصالحة والإعتراف بالحق، وأعيتهما كثرة المرافعة وتداول المنازعة وتبادل الإتهامات فيما بينهما، حيث يلجأون إلى

ص: 85

روضته (علیه السّلام) ويطلبون منه فضح المتهم منهما ، فإنّة بمجرّد ما يحلف المتهم كذباً بالعباس (علیه السّلام) ليثبت بزعمه برائته ، يشوّر العباس (علیه السّلام) به فيفضحه ويخجله، بتلجلج لسانه، وتغيّر لونه، وتربد وجهه، وكثيراً ما برفعه من الأرض وضربه بقسر عليها، وكبسه بها ، ممّا يؤدّي إلى موته أحياناً كثيرة، فإنّه لكثرة وقوع هذه الكرامات في روضته المباركة، عرف عند العامة بهذه الكنية المباركة «أبو الشارة» الّتي ترتجف من صداها فرائص الأشرار، وترتعب من ذكرها قلوبهم القاسية حتى قال فيه الشاعر :

وشاراته كالشمس في الأفق شوهدت *** لها من بنات المسجد أومت إشارات

[أبو راس الحار]

وأمّا «أبو رأس الحار» فهو كناية عن سرعة غضبه (علیه السّلام) في الله تعالى، وخاصة بالنسبة إلى المظلومين الذين يستجيرون به ويلجأون إلى روضته المباركة، ويطلبون منه أن ينتقم لهم من ظالميهم ، وأن يريهم فيهم ثأرهم و مآربهم ، فإنّه (علیه السّلام) لا يخيب أمل من استجار به وطلب منه ذلك، وإنّما يأخذ له بحقه من ظالمه سريعاً عاجلاً، وكم على ذلك من شواهد وعلامات، وفي ذلك من قصص عجيبة، وقضايا غريبة، امتلأت بذكرها الكتب المعنية بذكر هذه الكرامات الظاهرة من ضريحه الأنور، في مشهده المقدس، وتحت قبته المباركة، وفي روضته المنوّرة .

[أبو فُرجَه]

وأما «أبو فرجة» بضم الفاء وسكون الراء وفتح الجيم، فهو إشارة إلى

ص: 86

تفريجه (علیه السّلام) هم من شكى إليه همه، وتنفيسه كرب من بتّ إليه كربه ، وكشفه غمّ من أباحه ما أغمّه، وإغاثته للمستغيثين به، وإجارته للمستجيرين بضريحه، واللائذين بقبره الشّريف، وإجابته الملهوفين الذين يلجأون إلى روضته المباركة، ويلتمسون من جنابه الوساطة إلى الله تعالى في الفرج عنهم ، والكشف عما بهم، فإنه (علیه السّلام) سريعاً ما يشفع لهم، ويتوسط في أمورهم، فيفرج الله تعالى عنهم ، ويكشف ما بهم من كرب وضرّ ، وذلك كما قال شاعرهم :

كم فرج الله عنا كرب معضلة *** كرامة منه للعباس شبل علي

ورحمة الله خصّتنا بفضلهم *** عند الصعاب وعمّت فيه كل ولي

ص: 87

الخصيصة التاسعة: «في ألقاب العباس (علیه السّلام)»

اللقب على ما عرّفوه هو : ما يسمّى به الإنسان بعد اسمه العلم من لفظ يدلّ على المدح أو الذمّ، وحيث أن أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان حاوياً على جميع الخصال الحميدة ، وجامعاً لكلّ الصفات الحسنة، والخلال الخيّرة كان كلّ ما لقب به دالاً على المدح والثناء والتعظيم والتبجيل ، ولم يكن له (علیه السّلام) هنالك قطّ لقب فيه دلالة على الذم والجفاء، أو الخفّة والشقاء، وذلك لأنه (علیه السّلام) لم يكن له ثغرة في حياته، ولا منقصة في صفاته وخلاله، حتى يستطيع أحد من أعدائه ومناوئيه - مثلاً - نبزه بذلك اللقب، أو انتقاصه بتلك التغرة والفجوة ، كيف وهو ابن الإمام أمير المؤمنين على بن أبيطالب (علیه السّلام)، وأخو الإمامين الهمامين ريحانتي الرّسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وسيّدا شباب أهل الجنّة : الحسن والحسين (علیهما السّلام) ، وهو بالإضافة إلى نسبه الشّريف، ربيب أهل بيت الوحى والنبوّة ، وأديب مَن تأدبوا على يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علماً بأن الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هو أديب الله تعالى. فقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) قوله المشهور: «أدبني ربّي فأحسن تأديبي».

وعليه : فقد ظهر من ذلك كلّه أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو من ورث الفضائل والمكارم من معدنه، وتخلّق بالآداب والمحاسن من معينه ونميره، ولذلك صار مجمعاً للجمال والكمال، وأصبح منبعاً يفيض بالجود والنوال، حتّى

ص: 88

قال فيه الشّعراء قصائد المدح والثناء، ونظموا فيه قوافي الخير والإطراء وممّا جاء منظوماً فى حقه (علیه السّلام) ما قاله الشاعر :

هو البحر من أي النواحي أتيته *** فَلُجَّته المعروف والجود ساحله

وقال آخر:

هو العباس ليث بني نزار *** ومن قد كان للاجي عصاما

هزيرٌ أغلب تخذ اشتباك *** الرماح بحومة الهيجا أجاما

فمدت فوقه العُقبانُ ظلاً *** ليقربها جسومهم طعاما

أبي عند مس الضيم يمضي *** بعزم يقطع العضب الحساما

[العباس (علیه السّلام) مجمع الجمال والكمال]

نعم، إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد حوى من المكارم والمحاسن ، ومن الأخلاق والآداب، ما لا يمكن قصرها في مجال ، ولا حصرها في مقال، ولذلك جاءت ألقابه الدالة على بعض من تلك المكارم والمحاسن، والمشيرة إلى نماذج من تلك الآداب والفضائل، عديدة وكثيرة، ورفيعة ومنيعة، نذكرها أوّلاً سرداً بحسب ترتيب اشتهارها لدى النّاس، ثمّ نشرح ما تيسر لنا منها إنشاء الله تعالى فيما يأتي. وهي كالتالي:

باب الحسين (علیه السّلام).

باب الحوائج.

السقاء.

ساقي عطاشا كربلاء.

قمر بني هاشم.

ص: 89

قمر العشيرة .

حامل اللواء .

بطل العلقمي .

كبش الكتيبة .

حامي الظعينة .

سبع القنطرة .

الضّيغم .

العبد الصالح .

العابد .

الطيّار.

الشهيد .

الصديق .

الفادي .

المؤثر .

المواسي .

الحامي والمحامي .

ظهر الولاية .

قائد الجيش .

المستجار .

الواقي .

الساعي .

المستعجل.

المصفّي، وغير ذلك .

ص: 90

الخصيصة العاشرة :«في أنه (علیه السّلام) باب الحسين (علیه السّلام)»

أبا الفضل أنت الباب للسبط مثل ما *** أبوك عليّ كان باباً لأحمدا

وقد كتب على مصراعي الباب الفضي في الأيوان الذهبي من روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المباركة، أبيات من قصيدة الخطيب الشهير الأستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي منها الأبيات التالية :

هو باب الحسين ما خاب يوماً *** وافد جاء لائذاً في حماه

إنّه باب حطة ليس يخشى *** كلّ هول مستمسك في عراه

قف به داعياً وفيه توسّل *** فيه المرء يستجاب دعاه

[أنت الباب للسبط]

في البيت الأوّل من مطلع هذه الخصيصة يشير الشاعر الموالي إلى أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد احتذا حذو أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في إيمانه وأخلاقه، حيث كان من شدّة إيمان الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وكرم أخلاقه، أنّ النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يعده لكلّ عظيمة ، ويدعوه عند كلّ نازلة وملمة، وكان هو (علیه السّلام) قد وقف نفسه على خدمة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحمايته والذب عنه، حتى اشتهر عنه قوله (علیه السّلام): أنا عبد من عبيد محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وحتى قال فيه تعالى وهو يصف موقفه

ص: 91

ليلة المبيت حين نام على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) موقياً له بنفسه : ﴿ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد﴾ وغيرها من المواقف الأخرى ، وحتى قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب».

فكان (علیه السّلام) باباً للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و مصاحباً له في حلّه وترحاله، وحضره وسفره، وسلمه وحربه ، وواقيا له بنفسه وروحه وماله وولده، وقد عرف بذلك حتّى صار مَن يريد الزّلفى عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يتقرب بالإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إليه ، لن ومن يريد الحظوة لدى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يوسط الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، ومن أراد أن يقضي الله حاجته جعله بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الوسيلة إلى الله تعالى في قضاء حوائجه.

وكذلك كان ولده أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) باباً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، حيث كان من شدّة إيمان العباس (علیه السّلام) ونبل أخلاقه أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) كان يعدّه لكلّ عظيمة ، ويدعوه عند كلّ نازلة وملمة ، وكان هو (علیه السّلام) قد وقف نفسه لخدمة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحمايته والدفع عنه، حتى اشتهر قوله فى مخاطبته له : سيدي ومولاي، ولم يُعرف عنه أنه خاطبه يوماً، وذات مرّة بقوله : يا أخي إلّا في يوم واحد وذات مرّة واحدة فقط، وهي في يوم عاشوراء، وذلك حين هوى من على ظهر جواده إلى الأرض، وهي ساعة حرجة يحنّ فيها الإنسان إلى أقرب ذويه وأخص خاصته، ولحظة يتلهف الإنسان فيها إلى أن يتصفّح وجوه كلّ أقربائه وجميع حامته، وذلك لأنه يريد أن يُلقي فيها بنظراته الأخيرة على وجوههم، ويتصفّح ولآخر مرّة للوداع محياهم، ويحبّ أن يرى في النّهاية رأسه في حجرهم، وجسمه بين جموعهم وحضورهم، في هذه الساعة بالذات، وفى تلك اللحظة الحسّاسة نفسها ، سمح أبو الفضل لنفسه أن ينادي أخاه بقوله : «يا أخاه ! أدرك أخاك».

ص: 92

[موقف الإمام الحسين (علیه السّلام) من أخيه]

وهنا كان الموقف الرّشيد من الإمام الحسين (علیه السّلام)حيث لم يصل صوت أخيه المواسى إلى مسامعه الكريمة، إلا ولبى نداء أخيه، وأسرع إليه كالصقر المنقضّ ، ونزل عنده، وجعل رأسه في حجره، وأخذ يمسح الدم والتراب من على عينيه، ويناشده عمّا يشتكي منه ويؤلمه ، ويناجيه بتوجع، وتألم مشاركاً له ،آلامه ومشاطراً إياه همومه وغمومه، ففتح على همومه وغمومه، ففتح على أثر ذلك أبو الفضل العباس (علیه السّلام) يعينه في وجه أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وألقى بنظرته الأخيرة عليه وودع أخاه، وإمامه، ببسمة ارتسمت على شفتيه تحكي كل معاني الإخلاص والمحبّة، وتُنصح عن آيات الولاء والأخوّة ، فما كان من الإمام الحسين (علیه السّلام) إلا أن ردّ على أخيه الوفي جواب سلامه وتحيّاته، ولكن لا بنبرات صوته، وجهير كلامه، وإنما بزفراته وعبراته وأنينه وحنينه، وقطرات دموعه، وحرارة آهاته مما ألهب بها محيا أخيه، وأبرد به فؤاده وصدره، حتى إذا أحس بها العباس (علیه السّلام) لفظ أنفاسه الأخيرة ، فى حجر إمامه العظيم، وأحضان سيّده الكريم، قرير العين، ثلج الفؤاد .

[الأهداف من ترك العباس (علیه السّلام) في مكانه]

وكان من دأب الإمام الحسين (علیه السّلام) - وهو دأب كلّ قائد رؤوف، وإمام عطوف - أن يحمل جثث أنصاره، وأجساد ،قتلاه الذين استشهدوا في المعركة معه، إلى فسطاط أعدّه للشّهداء قرب معسكره و مخيّمه، فكان يضع بعضهم مع بعض وهو يقول كما عن غيبة النّعماني -: «قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيين».

ص: 93

لكن لما وقف الإمام الحسين (علیه السّلام) فى هذه المرّة على جسد أخيه الوفى أبى الفضل العباس (علیه السّلام) ورآه بتلك الحالة، بكى حوله ساعة، وانصرف ولم يحمله إلى الفسطاط، بل ترك جسد أخيه الشهيد في مكانه ، وغادر جنّته موذرةً ومقطعة في محل شهادته ومصرعه ، وذلك إما نزولاً إلى رغبته، وتلبية لطلبه (علیه السّلام) حيث أنه على ما روي طلب من أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) مقسماً عليه بجده (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يتركه مكانه ما دام به رمق ، وأن لا يحمله إلى فسطاط الشهداء ، لأنه قد وعد سكينة بالماء وهو بستحي منها .

أو لأنه (علیه السّلام) أشفق على أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) فأراد أن يعفيه من عناء حمله ومشقة نقله إلى الفسطاط.

أو لأنه حاول بذلك الحفاظ على عواطف النساء والأطفال، وأراد أن يخفي عنهم خبر شهادته ، المفزعة لهم ، ولو إلى لحظات، وأن يحجب جسمه المودّر المفجع لهم عن أنظارهم ولو بضع ساعات.

لأنّ الأعداء كانوا قد قطعوا جسمه الشريف إربا إرباً بحيث لم يمكن حمله - بح- بحسب الظاهر - إلى الخيام ولا نقله إلى الفسطاط.

أو أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) ترك أخاه العباس (علیه السّلام) في مكانه ولم يحمله إلى الله الفسطاط إشارة منه إلى أنّ أخاه يستحق التعظيم والتبجيل باتخاذ مرقد منفرد له ، ونصب شباك مجلّل على قبره، ورفع بنیان شامخ حول ضريحه، وتشييد روضة مباركة أطراف مرقده ، وذلك تقديراً منه لوفائه، وشكراً له على موافقه الرّشيدة تجاه إمامه، وليكون بعد شهادته كما كان أيام حياته باباً للإمام الحسين (علیه السّلام)، فيقصده الزائرون، ويؤمه الموالون والمحبّون ، ويحج إليه أرباب المسائل والحوائج ، وأصحاب الضرّ والفاقة والفقر والمسكنة أوّلاً، ويشفّعونه عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، ويوسطونه في حوائجهم إليه، ثمّ يقصدون روضة الإمام

ص: 94

الحسين (علیه السّلام) للزيارة، والإستشفاع به إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم، وبلوغ أمانتهم وآمالهم ثانياً.

[مرقد منفرد وحرم خاص]

ولعلّ الأمر الأخير كان هو الهدف من وراء ترك الإمام الحسين (علیه السّلام) أخاه العباس (علیه السّلام) في مكانه وعدم حمله إلى الفسطاط - كما عليه المحققون من كبار العلماء والفقهاء-.

ويؤيده : أنه لما جاء الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في اليوم الثالث من شهادة أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى كربلاء، وذلك بطريق المعجزة، وأراد دفن الشهداء السعداء ، ومواراة أجسادهم الطاهرة، إلتفت إلى بني أسد بعد أن وارى بنفسه جسد أبيه الطاهر ، ووارى بمعاونة بني أسد أجساد الشهداء الأبرار ، وقال : أنظروا هل بقى من أحد ؟

قالوا : نعم ، بقي بطل مطروح حول المسناة وهو موذر ومقطع إربا إرباً، وإنا كلّما حملنا جانباً منه سقط الآخر .

فقال (علیه السّلام): إمضوا بنا إليه .

فمضوا جميعاً إليه ، فلمّا رآه انكبّ عليه يلثم نحره الشريف وهو يقول: «على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم! وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته» ثمّ شق له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وقال لبني أسد : «إنّ معي من يُعينني».

وعليه : فإنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) مع إمكانه - ولو بطريق المعجزة أو

ص: 95

تعاون مع بني أسد - أن ينقل الجسد الطاهر إلى الحائر الشريف، لكنه (علیه السّلام) مع ذلك لان لم ينقل جسد عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عن مكانه، ولم يحمله إلى بقعة أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) ولا إلى روضة الشهداء من أهل بيته وأصحابه، وإنّما حفر له حيث مرقده الآن مرقداً ، وشق له ضريحاً ، وواراه فيه ، ليكون قبره الشريف ومرقده المنيف، محطّاً ومزاراً، وملاذاً ومعاذاً، وباباً للذين يفدون لزيارة الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وبوّاباً للذين يقصدونه بحوائجهم وآمالهم.

وهكذا كان، فإنّ الوافدين والزائرين، وكذلك هيئات المعزّين والمسلّين، ومواكب العزاء كموكب السلاسل والتطبير ، واللطم والتشبيه ، وغيرهم من الآمين إلى كربلاء المقدسة من ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، يقصدون أوّلاً مشهد أبى الفضل العباس (علیه السّلام) ، ويأمون روضته المباركة، ويوسّطونه لحوائجهم عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، ثم بعد ذلك يقصدون مشهد الإمام الحسين (علیه السّلام) ويتشرفون بزيارته ، ويتبركون بحرمه وروضته ثانياً وأم وأخيراً .

[إقتداء العباس (علیه السّلام) بأبيه]

نعم، إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) إقتدى بأبيه في الكرم والجود، فصار باباً لأخيه وسيّده الإمام الحسين (علیه السّلام) كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) باباً لأخيه وابن عمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، بل إن العباس (علیه السّلام) أصبح بمؤهلاته الخُلُقية، وكفاءاته الإنسانية العالية باباً لولاية الأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام)بحيث لا يمكن لأحد أن يرد إلى مدينة حبّهم وحصن ولا يتهم، إلا عن باب محبّة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وولايته، وذلك كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) باباً لنبوة ابن عمه رسول

ص: 96

الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ورسالته ، بحيث لا يمكن لأحد أن يدخل مدينة علم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و حصن معارفه ، ويكون من الموقنين بنبوته (صلی الله علیه و آله و سلم) ومن المؤمنين برسالته، إلا من باب ولاية الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وقبول ولايته وخلافته (علیه السّلام)، وذلك حسب ما اشتهر من قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «علي باب علمي، ومبين لأمتي ما ارسلت به من بعدي» وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) علي وعاء علمي، ووصيي ، وبابي الذي أوتى منه» .

[الباب المعنوي لا السياسي]

ومن هنا عُلم أنّ المراد من معنى كون العباس (علیه السّلام) باباً لأخيه وسيّده الإمام الحسين (علیه السّلام) كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) باباً لأخيه وابن عمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هو : أنه باب معنوي وروحي إلى مدينة المعنويّات والمعارف والروحانيات والفضائل، وإلى حصن الإيمان والتقوى، والقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإلى أوليائه (علیهم السّلام)، وليس هو بالمعنى اللغوي المتعارف في الأوساط السياسيّة، التي أكل عليها الدهر وشرب من الأمس الغابر إلى اليوم الحاضر، حيث قد تعارف أن يكون للملك أو الرئيس بوّاب وحاجب يمنع النّاس من الوصول إليه ، والإلتقاء به، فقد كان هذا من شأن الجاهليّة الأولى، وعاد أيضاً على ما كان عليه في الجاهليّة الثانية، وبين الجاهليّتين جاء الرسول الحبيب (صلی الله علیه و آله و سلم) بالإسلام الحكيم، والكتاب المنير، وحارب كلّ الطّواغيت وعاداتهم، وتوعدهم بالعقاب ونار الجحيم، وقد كان من عادة حكّام الجاهليّة الّتي حاربها الإسلام بشدة : التقوقع على النفس، والإنهماك في لذاتها وشهواتها، والإنفصال عن الناس وعن حوائجهم ومشاكلهم، باتخاذ البوّابين والحجبة، ثمّ تطوّروا في ذلك، فاتخذوا لأنفسهم رؤساء الديوان الملكي، أو القصر الجمهوري، أو ما أشبه ذلك،

ص: 97

من الأسماء الجديدة، والعناوين الكاذبة الخداعة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يقرّها إلّا الشّيطان والأهواء، ممّا هي بعيدة غاية البعد عن بعيدة غاية البعد عن ساحة أهل البيت (علیهم السّلام) و عن مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) إذن هو الباب المعنوي للإمام الحسين (علیه السّلام)، والبواب الرّوحي إلى مدينة المعارف والفضائل، والمكارم والأخلاق، المتجسّدة في الإمام الحسين (علیه السّلام).

ص: 98

الخصيصة الحادية عشرة : «في أنه (علیه السّلام) باب الحوائج»

باب الحوائج ما دعته مروعة *** في حاجة إلا ويقضي حاجها

بأبي أبا الفضل الذي من فضله *** السّامي تعلمتِ الورى منهاجها

زج النُّرى من عزمه فوق السما *** حتّى علت في تربة أبراجها

قطعت يداه وطالما من كفه *** ديم السّماحة أمطرت تجاجها

وقال آخر:

أبا الفضل إني جئتك اليوم سائلاً *** لتيسير ما أرجو، فأنت أخو الشبل

فلا غرو إن أسعفت مثلي بائساً *** لأنك للحاجات تدعى: أبو الفضل

[الأبواب والوسائل إلى الله]

إنّ كلّ المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام): وهم : رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابنته الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والأئمة الإثنا عشر من أهل البيت (علیهم السّلام)، وكذلك بعض خاصتهم وذويهم، هم أبواب الحوائج إلى الله تعالى، والوسائل إلى رضوانه و جنّته، وهم الأسماء الحسنى التى أمر الله تعالى أن ندعوه بها ونتوجه عبرها إليه. حيث قال سبحانه: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ وقال سبحانه: ﴿وابتغوا إليه الوسيلة﴾.

ص: 99

لكن هناك من بينهم من عُرف واشتهر بكونه باب الحوائج، أكثر من البقية، علماً بأن أولئك الذين اشتهروا بكونهم أبواب الحوائج هم أربعة أشخاص: واحد منهم من الأئمة المعصومين (علیهم السّلام)، والثلاثة الباقون من ذويهم وخاصتهم.

[أول أبواب الحوائج]

أمّا باب الحوائج من الأئمة (علیهم السّلام) فهو الإمام الكاظم موسى بن جعفر (علیه السّلام) فإنّه عرف لدى المسلمين بباب الحوائج واشتهر به ، وذلك لكثرة ما ظهر منه (علیه السّلام) و من مرقده الشريف من كرامات ومعجزات ، و من كفاية المهمّات والحاجات حتى اعترف بذلك كبار علماء العامة وأئمتهم ، ناهيك عن عامة الشيعة وخاصتهم .

فقد قال إمام الشافعيّة محمّد بن إدريس الشافعي - على ما في تاريخ بغداد - مرقد الإمام موسى الكاظم (علیه السّلام) ترياق القلوب، وشفاء الأمراض الروحيّة والقلبية.

وقال شيخ الحنابلة الحسن بن إبراهيم أبو علي الخلال كما في تاريخ بغداد أيضاً -: كلّما عرضت لي حاجة ملحة وأردت إمضاءها وإنجاحها ، زرت مقابر قريش ، وذهبت إلى حائط شونيزيّة، ووقفت على قبر باب الحوائج موسى بن جعفر (علیه السّلام)، وتوسلت به إلى الله تعالى في قضاء حاجتي ورجعت مرحوماً : غير محروم، مقضيّة حاجتي، ومرحومة عبرتي.

هذا بعض اعترافات علماء العامة، ناهيك عن علماء الخاصة فإنّ كتبهم مليئة بذلك .

ص: 100

[ثاني أبواب الحوائج]

وأمّا الثلاثة الباقون ممّن عُرفوا بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) وخاصتهم، فهم كالتالي :

1 - الطّفل الرّضيع : وهو الجندي الصغير من حيث السن، والكبير من حيث القدر والمعنى، الذي استشهد على يدي أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) في يوم عاشوراء وذلك حين أخذه إلى عسكر يزيد بن معاوية ليسقوه شربة من الماء، الذي كانوا قد منعوه على الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه وأهل بيته ، لكنّهم بدل أن يعطفوا على هذا الرّضيع ويسقوه الماء مع ما كانوا يرونه كيف يتلطّى من شدة العطش، ويلوك لسانه من حرارة الظمأ ، سقوه بكأس الموت، ورموه بسهم المنيّة، فذبحوه على يدي أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) من الوريد إلى الوريد، ومن الأذن إلى الأذن، الله وتركوه يرفرف كالطير المذبوح على يدي أبيه ، حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة في وجه أبيه بابتسامة ارتسمت على شفتيه ، كناية عن رضاه بتقديم نفسه هدية صغيرة، وفداءاً متواضعاً الله تعالى، فتقبله الله بأحسن قبوله، وجعله باباً من أبواب الحوائج إليه ، حتى عرف بباب الحوائج .

[ثالثُ أبواب الحوائج]

2 - الثاني ممن عرف بباب الحوائج من ذوي الأئمة المعصومين (علیهم السّلام) و وخاصتهم أم البنين (عليها السلام) وهي أم أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يعني : فاطمة بنت حزام الوحيدية الكلابية، وقد نالت هذا المقام عند الله تبارك وتعالى بحسن اعتقادها وإيمانها بالله ورسوله وشدّة إخلاصها وولائها لأهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد

ص: 101

نذرت نفسها ووقفت طاقاتها - لَمّا تقلّدت وسام الزوجية من ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والامام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ومن حين دخلت بيته - لخدمة ابني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانتيه ، الإمامين الهمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام)، وقدَّمتهما على نفسها وعلى أولادها وذويها ، وعلمت أولادها وُدَّهما والإخلاص في ولائهم لهما ، وربّتهم على محبّتهما ، وعلى إيثارهما وتقديمهما على أنفسهم، والتضحية والفداء من أجلهما بالرّوح والدم والغالي والرّخيص ، وأرسلتهم مع إمامهم الحسين (علیه السّلام) في خروجه من المدينة نحو مكة والعراق، وأمرتهم بنصرته والذبّ عنه ، وأوصتهم على أن لا يبخلوا بأنفسهم وبذل أرواحهم في حفظه والدفاع عنه.

وكذلك فعلوا، حيث أنّهم لم يقصِّروا في نصرة إمامهم ، ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وإنّما قدّموها فداءاً لإمامهم الحسين (علیه السّلام) ووقاءاً له، ونالوا بذلك شرف الدنيا وثواب الآخرة .

هذا وعندما جاء بشر بن حذلم ينعى الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى أهل المدينة، خرجت أم البنين فيمن خرج من النّاس، لكنّها لم تسأل بشراً عن أولادها وإنّما سألته عن سيّدها الإمام الحسين (علیه السّلام)، وكلما كان بشر يخبرها بقتل واحدٍ واحد من أولادها ، كانت تجيبه وبكل رباطة جأش ، وسكون نفس: فداءاً لسيدنا الحسين (علیه السّلام)، ثم كانت تقول له : أسألك عن سيّدي الحسين (علیه السّلام) وتخبرني عن أولادي ؟ حتّى إذا سمعت بنعي الإمام الحسين (علیه السّلام)، بكت واعولت ووقعت مغشياً عليها.

وهنا لما رأى الله تعالى كبير إخلاصها ، وعظيم حبّها وولائها، وصدق قولها وفعلها ، أثابها على ذلك بعز الدنيا ، وشرف الآخرة، وجعلها باباً من أبواب الحوائج إليه، ووسيلة من وسائل رضوانه وغفرانه، فما رجاها مؤمل حاجة، ولا صاحب مشكلة ، ووسطها إلى الله تعالى إلا وانقلب بقضاء حاجته، ونجاح مهمته، وحلّ مشكلته .

ص: 102

[رابع أبواب الحوائج]

3 - الثالث والأخير ممّن عرف بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) وخاصتهم : أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، وهو محط بحثنا، ومحور حديثنا في هذا الكتاب، وأنعم به باباً للحوائج، فقد نال هذا المقام، واتّسم بهذا الوسام ثواباً من عند الله تبارك وتعالى على عظيم عنائه وبلائه، وتقديراً له على كبير مواساته وإيثاره، حتى جاء في زيارته المعروفة ، المنقولة عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «أشهد لقد نصحت الله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي ... إلى أن يقول (علیه السّلام): فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه ...».

نعم، لقد واسى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) مواساة الا عظيمة ، وأدّى ما كان عليه من حقوق الأخوّة، ممّا استحق بها المدح من الإمام الصادق (علیه السّلام) والثناء عليه بقوله : «فنعم الأخ المواسي».

هذا وحيث كان كلّ همّ أبي الفضل (علیه السّلام) هو نصرة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) والذب عنه، وحمايته والدفع عنه ، استحق بسببه أيضاً إطراء الإمام الصادق (علیه السّلام) عليه والإعتزاز به بقوله : «فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه».

أجل لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من عظيم إيمانه بالله ورسوله وأهل بيته، وكبير تأدبه مع أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، يرى نفسه - على ما كان عليه من فضل وعلم، وشرف وسؤدد - جندياً صفراً تجاه قائد سماوي عظيم، وعبداً رقاً أمام مولى كريم.

كيف لا والإمام الحسين (علیه السّلام) حجة الله على خلقه، والإمام المنصوب من

ص: 103

عند الله تبارك وتعالى في بريته، كما نص الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بذلك عليه ، وأبو الفضل (علیه السّلام) هو من يعرف حق الحجّة ، ولذلك كان العباس (علیه السّلام) حتى في يوم عاشوراء لا يتصرّف من عند نفسه، ولا يجتهد برأيه، بل كان يتعبّد بكل الأوامر الصادرة إليه من مولاه وإمامه ، ويطبّقها تطبيقاً حرفياً بلا زيادة ولا نقصان من عنده، وقد تجلّى ذلك في موقفه عند ما جاء إلى الإمام الحسين (علیه السّلام) يستأذنه في البراز ومقاتلة القوم الظَّالمين ، الذين لم يحفظوا حرمة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذريته، ولم يراعوا شخصه الكريم بعد غيابه في أبنائه وأهل بيته لكن الإمام الحسين (علیه السّلام) أبى أن يأذن له، وقال : إن كان ولابد ، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.

[العباسي عند طلب أخيه]

امتثل أبو الفضل (علیه السّلام) كلام أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وانصرف عن مقاتلة الأعداء، وأقبل نحو الخيام وأخذ منها قربة خاوية، واتجه بها نحو العلقمي ليأتي بالماء إلى الأطفال.

أقبل العباس (علیه السّلام) حتى اقتحم الفرات ولمّا أحسّ ببرد الماء، اغترف منه غرفة بيده، وقربه إلى فمه، فقد كان عطشاناً شديد العطش، ظمآناً عظيم الظمأ، لكنّه عندما قرّب الماء من فمه، تذكّر عطش أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) فأبى أن يشرب مواساة لأخيه، وصبّ الماء على الماء، وملأ القربة وخرج من الفرات متجهاً نحو مخيّم النّساء والاطفال ، وكلّ همّه إيصال الماء إلى الأطفال العطاشى، الّذين بقوا بانتظار مجيئه عندما رأوه أخذ القربة واتجه نحو الفرات.

ص: 104

[ترك البراز من أجل الماء]

لقد ترك أبو الفضل العباس (علیه السّلام) مقاتلة القوم الذين قتلوا إخوته وأبناء إخوته ولم يشف صدره منهم ابتغاء طلب الماء وإيصاله إلى الأطفال العطاشى، هذا وهو البطل العظيم الذي ورث الشجاعة من أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) والذي لو كان همه بدل إيصال الماء، مقاتلة هؤلاء الظَّالمين، لما ترك على وجه الأرض منهم أحداً ينجو بنفسه، ولا شخصاً منهم يسلم على روحه، لكنه امتثل أمر إمامه ، واكتفى بطلب الماء عمّا فيه شفاء صدره، ودخل الماء ولم يذق منه شيئاً مع شدّة أوراه واستعار قلبه، مواساة لأخيه الإمام الحسين ، كل ذلك وهو راض بما عنده من الماء، مؤمّلاً إيصاله إلى الأطفال الذين تصاعد صراخهم من ألم العطش نحو السماء، وعلا بكاؤهم لشدّة الظمأ فى اجواء كربلاء، وحين عرف الأعداء انشغال العبّاس بالماء عن مقاتلتهم انتهزوا الفرصة، وجندوا كل طاقاتهم للتخلّص من بأسه، لأنهم كانوا يعلمون بأنه لو تفرّغ العباس لقتالهم، لأتى على آخرهم.

وكانت المصيبة الكبرى، والرزية العظمى، حين كمن له أحد الأشقياء وراء نخلة، وغدر به بضربة مفاجئة قطع بها يمينه ، ثمّ كمن له شقي آخر فقطع يساره، وكان الخَطب الأعظم ، والبلاء الجلل عندما أصيبت القربة بسهم وأريق ماؤها، عندها تحيّر أبو الفضل العباس (علیه السّلام): فلا ماء عنده حتى يوصله إلى الأطفال العطاشى الذين ينتظرون قدومه بالماء، ولا يدين عنده حتى يحارب بهما ، وحيث خابت آمال أبي الفضل (علیه السّلام)، وأيس من تحقيق أمانية، وبلوغ مآربه ، جازاه الله عن ذلك لا خلاصه ، وعوّضه بها لوفائه بأن جعله باباً للحوائج إليه في الدنيا ، فما أمّه أحد بحاجة إلا ورجع مقضياً حاجته، مستجاباً دعائه، ووهبه جناحين في الآخرة يطير بهما في الجنّة حيث يشاء، وأعطاه مقاماً هناك يغبطه به جميع الشهداء .

ص: 105

الخصيصة الثانية عشرة : «في أنه (علیه السّلام) السقاء»

ورث العباس (علیه السّلام) عمل السقاية من أجداده الطاهرين وآبائه الكرام، فقد كانت السقاية من مختصات بني هاشم دون سائر قريش ، وذلك لما كان يتصف به بنو هاشم من النّبل والشّرف ، والسّخاء والكرم ، فقد كانوا هم وحدهم الأسخياء فيما يصرفونه من أموال، ويبذلونه من طاقات في سبيل تأمين الماء، وتوفير الطعام على ضيوف الرّحمان و حجاج بيت الله الحرام، وعلى غيرهم من سائر النّاس ، وهذا ممّا اشتهر في النّاس واعترف به حتى أعداءهم، فقد قال معاوية بن أبي سفيان العدو اللدود لبنى هاشم: إذا لم يكن الهاشمي جواداً لم يشبه أصله.

وقصي بن كلاب - كما في التاريخ كان أوّل من أسس سقاية الحاج، وقام بإطعامهم، ثمّ ورثها من بعده ابنه عبد مناف، ثمّ ابنه هاشم .

وعندما أدركت هاشم الوفاة، ووافته المنية ، كان ابنه عبد المطلب بن هاشم صغيراً عند أخواله ، فقام بها عمه المطلب بن عبد مناف .

حتى إذا كبر عبد المطلب بن هاشم سلّمها عمّه إليه ، فقام بها عبد المطّلب أحسن قيام، ثمّ أتحفه الله بإظهار زمزم له، وأكرمه بها ، كما كان أكرم بها جدّه إسماعيل بن إبراهيم (علیهما السّلام) من ذي قبل .

ولما مات عبدالمطلب ورثه منه أبو طالب، ثمّ سلّمها أبو طالب لأخيه

ص: 106

العباس بن عبد المطّلب، كرامة أكرمه بها.

ثمّ إنّ العباس بن عبد المطلب سلّمها إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يوم فتح مكة لكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ردّها إليه ثانية، فقد كان من دأب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومر تعاليم دينه الحنيف ردّ كلّ مأثرة لا تتنافى مع الإسلام إلى أصحابها، وإقرارها فيهم وفي أيديهم ، فإنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يخلع أحداً من منصبه، ولم يدفعه عن حقه الذي كان له قبل الإسلام إذا لم يكن ممّا ينافي الإسلام، ورضي به النّاس.

[إستسقاء الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)]

نعم لقد سقى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الماء من أنامله ، عمّه أبا طالب ومن كان معه في قافلته التجارية إلى السّام حين كانوا في الطريق ورأوا أنّ البئر التي كانوا يستسقون منها قد أعميت وطمست .

كما وسقى (صلی الله علیه و آله و سلم) أصحابه في مرات عديدة حين أضرّ بهم العطش ولم يجدوا ماءاً طبيعياً يشربوه ، فسقاهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الماء عن طريق المعجزة ، وشربوا منه حتى رووا.

وقد استسقى أبو طالب بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حين أجدب أهل مكة وأقحطوا ، فأنزل الله تعالى عليهم الغيث وأخصيب ناديهم وباديهم حى قال أبو طالب (علیه السّلام) في ذلك :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

واستسقى هو (صلی الله علیه و آله و سلم) الأهل المدينة فما استتم دعائه حتى التفت السماء بأروقتها ، فجاء أهل البطانة يضحون يا رسول الله ! الغرق، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): حوالينا لا علينا، فانجاب السّحاب عن المدينة كالاكليل، فتبسّم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ضاحكاً حتى بدت نواجذه وقال: لله درّ أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه.

ص: 107

وهنا قام رجل من كنانة وأنشد :

لك الحمد والحمد ممّن شكر *** سُقينا بوجه النبي المطر

إلى أن قال :

وكان كما قاله عمه *** أبو طالب أبيض ذو غرر

به الله يَسْقى صوب الغمام *** وهذا العيان لذاك الخبر

[الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يسقى أهل بدر]

وهكذا كان الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقد استسقى ليلة بدر - بعد أن أحجم الجميع عنه - وأتى بالماء إلى مخيّم المسلمين ، مع ما كانت عليه الليلة من ظلام ،قاتم وبرد شديد، وكان معسكر المشركين قريباً من البئر بحيث يُخاف الوقوع في أيديهم، كما أنّ ماء البئر كان ممّا لا تناله اليد ولم يكن للبئر دلو يستقى به، فنزل الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في البئر وملأ القربة ماءاً ثم خرج منها وتوجه إلى معسكر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و في الطريق مرت به عواصف ثلاث أقعدته عن المشي، ولمّا سكنت أقبل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقص عليه خبر العواصف .

فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أما العاصفة الأولى فجبرئيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك، وأما الثانية فميكائيل فى ألف من الملائكة سلّموا عليك، وأمّا الثالثة فإسرافيل في ألف من الملائكة سلّموا عليك ، وكلّهم أنزلوا مدداً لنا .

ومنه اشتهر قول القائل : بأن لعلي (علیه السّلام) في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة وثلاثة مناقب ، وقال في معناه السيّد الحِمْيَري قصيدة عصماء جاء فيها :

ذاك الذي سلّم في ليلة *** عليه ميكال وجبريل جبريل

في ألف، وميكال في *** ألف ويتلوهم سرافيل

ليلة بدر مدداً أنزلوا *** كأنّهم طير أبابيل

ص: 108

[السقاء يوم الحديبية]

وقد استسقى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أيضاً يوم الحديبية حين نزل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأصحابه الجُحفة فلم يجد بها ماءاً، وذلك بعد ان بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالروايا سعد بن أبي وقاص فرجع مع السقاة خالياً وهو يقول: يا رسول الله لم أستطع أن أمضي وقد وقفت قدماي رعباً من القوم.

فبعث (صلی الله علیه و آله و سلم) بالروايا رجلاً آخر فرجع هو الآخر مع السقاة خالياً أيضاً وقال كما قال الأول : يا رسول الله ما استطعت أن أمضي رعباً .

فدعى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حينئذ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأرسله بالروايا، فخرج (علیه السّلام) بالسقاة ومعهم الروايا وهم لا يشكون في رجوعه خالياً كما رجع الذين من قبله ، حتى إذا ورد الحرار استقى ثم أقبل بها مع السقاة إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلما دخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالماء و رآه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والماء معه كبر الله ودعا له بخير.

[إرسال الماء إلى عثمان]

كما أن التاريخ أثبت في صفحاته استقاء علي (علیه السّلام) الماء وإرساله مع أولاده إلى عثمان وهو في الحصار الذي أوجده بنفسه على نفسه، وذلك بعد أن صُدّت السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ومنعت، وأريق الماء الذي كانت تحمله إلى عثمان .

كما وسقى جيش معاوية من الفرات لمّا استولى (علیه السّلام) على الماء ، وذلك بعد أن منعهم معاوية عنه قائلاً : أقتلوهم عطشاً.

ص: 109

استسقاء سبطى الرّسول (صلی الله علیه و آله و سلم)]

وهكذا كان الإمام الحسن المجتبى والإمام الحسين (علیهما السّلام)فقد استسقى بهما لإبانة فضلهما أبوهما الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حين أضرّ الجدب بأهل الكوفة فما أن أتمّ الإمام الحسن والإمام الحسين (علیهما السّلام) دعاء هما حتى هطلت السماء على أهل الكوفة بالماء وأبدلت جدبهم بالخصب، وقحطهم بالغيث والبركة.

[السقاية لأهل الكوفة]

هذا ولم ينس التاريخ سقاية الإمام الحسين (علیه السّلام) أهل العراق وذلك بعد مغادرته مكة والمدينة متجهاً نحو الكوفة وفى منزل شراف، حيث لمّا كان وقت السَّحَر أمر فتيانه بأن يستقوا من الماء ويكثروا، ففعلوا ذلك الماء ويكثروا ، ففعلوا ذلك وهم لا يعلمون أنه لماذا أمرهم (علیه السّلام) بالإكثار من الماء، ثم ارتحلوا، وفي الطريق إذا بهم قد التقوا بالحرّ وجيشه وكان قد أضرّ بهم العطش، وأسعر قلوبهم حرّ الشّمس، وثقل الحديد، وهنا عرف الفتية الهدف من إكثار الماء عندما قال لهم الإمام الحسين(علیه السّلام): أسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام الفتية بسقي القوم حتّى أرووهم من الماء، ثمّ أقبلوا يملئون القصاع والأواني بالماء ويدنونها من الخيل، فإذا عبّت فيها ثلاثاً وأكثر ، وارتوت منه، صبّوا بقيّة الماء عليها، وكان آخر من جاء من جيش الحرّ رجل يقال له: علي بن الطحان المحاربي، فلما رأى الإمام الحسين (علیه السّلام) ما به وبفرسه من العطش قال له : إنخ الراوية أي : الجمل المحمّل بالماء لكنّه لم يعرف ما يفعل ، فقال له : يا ابن أخي ! إنخ الجمل ، فأناخه ، فقال له : اشرب ، فجعل كلّما شرب سال الماء من السقاء، فقال له : أخنث السقاء أى: أعطفه، لكنّه

ص: 110

أيضاً لم يدر كيف يفعل ، فقام الإمام الحسين (علیه السّلام) بنفسه وخنث له السقاء وقال له : اشرب واسق فرسك ، فشرب وسقى فرسه أيضاً ورشفه ترشيفاً.

[سقاية العباس (علیه السّلام) فى الظروف الصعبة]

واقتدى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بأجداده و آبائه الطاهرين، وبأخويه الكريمين الإمامين الهمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام) في السقاية، وانتحل لنفسه وبكل اعتزاز وافتخار لقب السقاء، وكان يقوم بالسقاية في كل مناسبة وفي كلّ فرصة تتيح له القيام بها، وخاصة في كربلاء، وعلي الأخص عندما منع ابن سعد الماء عن الإمام الحسين (علیه السّلام) وأهل بيته وأصحابه، وحرّمها عليهم بأمر من يزيد وابن زياد، وكان ذلك في اليوم السابع من المحرّم الحرام عام واحد وستين للهجرة، واستمرّ ذلك التحريم حتى مساء يوم عاشوراء.

هذا مع أنّ الفصل الزماني في تلك السنة كان هو فصل الصيف، وصيف المنطقة الوسطى من العراق يكون حاراً شديد الحرارة، وجافّاً كثير الجفاف، وكان الذي يشدّد تلك الحرارة، ويضاعف ما كان موجوداً هنالك من الجفاف، استعار نار الحرب وتطاير شررها، والتهام الأسنّة والسيوف نفوس الأعزّة، وأرواح الإخوة والأحباب ، فإنّ كلّ ذلك كان ممّا يزيد في التهاب القلوب واستعارها، ويؤثر في شدّة عطشها وأوارها .

ومعلوم : أنّ السّقاية في هذه الظروف الصعبة والقاسية، كم يكون لها من أهمّيّة كبيرة، وعظمة خاصة ؟ وأنّ السّاقي والحال هذه كم يكون له من مقام رفيع، ودرجة عالية ؟ وقد نال الحظ الوافر من هذه السقاية، وحصل على السهم الأكبر من ثوابها وأجرها أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، حتى قيل كما في كتب التاريخ

ص: 111

والأخبار مثل تاريخ الخميس وسرائر ابن إدريس أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لما تعهد سقي موكب كربلاء ، وإغداق الماء عليهم في أيام محرم وعشرة عاشوراء، وخاصة أيّام تحريم الماء عليهم ومنعه عنهم، لقب باللقب الكبير، ووسم بالوسام النّبيل ، وسام: «الستّاء».

[السقاء منذ الأيام الأولى]

وروي : - على ما في ثمرات الأعواد - أنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان ذات يوم جالساً وحوله إبنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانتاه الإمامان الهمامان الحسن والحسين (علیهما السّلام)، وإلى جنبهم أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فعطش الإمام الحسين (علیه السّلام)، فعرف ذلك أبو الفضل العباس (علیه السّلام) فقام وهو إذ ذلك صبي صغير وأقبل إلى الدّار وقال لأمّه أمّ البنين يا أماه ! إنّ سيّدي ومولاي الإمام الحسين (علیه السّلام) عطشان، فهل لي إلى إيصال شربة من الماء العذب إليه من سبيل ؟

فقالت له أمّه أمّ البنين بشغف وشفقة : نعم يا ولدي، ثم قامت مسرعة وأخذت معها قدحاً وملأته بماء عذب ووضعته على رأس ولدها العباس وقالت له وبكل رأفة وحنان : إذهب به إلى سيّدك ومولاك الإمام الحسين (علیه السّلام).

فأقبل العباس (علیه السّلام) بالماء نحو الإمام الحسين (علیه السّلام) والماء يتصبب من القدح على كتفيه، فوقع عليه نظر أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ورآه قد حمل قدح الماء على رأسه والماء يتصبب من القدح على كتفيه، تذكّر وقعة كربلاء فرق له وقال وهو يخاطبه ودموعه تتقاطر على وجنتيه: ولدي عباس ! أنت ساقي عطاشا كربلاء ، فسمّي من ذلك : «السقاء».

ص: 112

الخصيصة الثالثة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) ساقي عطاشا كربلاء»

إذا كان ساقي النّاس في الحشر حيدر *** فساقی عطاشا كربلاء أبوالفضل

على أنّ ساقي الناس في الحشر قلبه *** مريع وهذا بالظما قلبه يغلي

وقال السيد جعفر الحلّي في سقاية العباس (علیه السّلام) لعطاشا كربلاء:

أو تشتكي العطش الفواطم عنده *** وبصدر صعدته الفرات المفعم

لو سدّ ذي القرنين دون وروده *** نسفته همته بما هو أعظم

ولو استقى نهر المجرّة لارتقى *** وطویل ذابله إليها سلّم

يصوّر الشاعر الموالي لأهل البيت (علیهم السّلام) السيد جعفر الحلّي في هذه الأبيات الأخيرة جدارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لحمل وسام: «ساقي عطاشا كربلاء» وتأهله للقيام بهذه المهمّة الشّريفة، ويصفه بأنه من عظيم همّته وكبير عزمه ، وشدّة غيرته ، لا يسمح لنفسه أن يرى واحدة من الفواطم تتلوّى عطشاً ، أو يسمع منها تشتكى ظماً، فإنّه يوفّر لها الماء حتى ولو كان بينه وبين الماء سداً منيعاً، كسد ذي القرنين المعروف بالقوة والإحكام، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لو استقى من نهر المجرّة - ناهيك عن نهر الفرات - لجعل رمحه الطويل سلّماً يصعد عليه ، ومدرجا يرتقي عبره إلى السماء، ليحمل منه الماء ويأتي به إليهم. وكذلك كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وأنعم به شهما غيوراً، وبطلاً مقداماً.

ص: 113

[أمران مهمان]

ثم إن في البيتين الأولين إشارة إلى أمرين مهمين يتطلبان الوقوف عندهما قليلاً، وهما كما يلي:

الأمر الأول: فيما إشارة إلى مقام السقاية وعظم مكانتها ، والمماثلة بين ساقيين أحدهما أعظم من الآخر، وأكبر درجة عند الله ، وهو الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وذلك في يوم القيامة الكبرى وعلى حوض الكوثر، والآخر هو الله ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وذلك في يوم عاشوراء يوم القيامة الصغرى وعلى نهر الفرات.

الأمر الثانى: فيهما إشارة إلى عظمة السّاقي وكبير فضله، والمقارنة بين موقفي الساقيين، أحد الموقفين أرق من الموقف الآخر وأشجى للقلوب، وهو : أنّ ساقي العطاشى في كربلاء أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان يغلي قلبه من شدّة العطش والظماء، مع أن الساقي يقتضي أن يكون راوياً هانياً، لأنه صاحب ماء ، إذ لو لم يكن له ماء فكيف يصح أن يكون ساقياً ؟ وهذا ما يبعث على تساؤل السامع عن أنه كيف يمكن أن يكون ساقياً للماء وهو فى نفس الوقت عطشاناً ويقضى ظامياً ؟ نعم ، انّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان ساقياً للماء ومع ذلك كان عطشاناً وقضى ظامياً مواساة لسيّده وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وكفى به كرماً ونبلاً ، وعزّاً وشرفاً، وقد نحله الإمام الصادق (علیه السّلام) على عمله الكبير هذا وساما بقي ولا يزال إلى يوم القيامة فخراً، ولآخرته ذخراً، وذلك حين خاطبه في زيارته المعروفة قائلاً: «فنعم الأخ المواسي».

ص: 114

[السقاية في القرآن والحديث]

هذا ولا يخفى أنّ عمل السقاية من الأعمال الشّريفة، والأفعال الحسنة الجميلة ، التى امتدحها الله ورسوله ، وندب إليها الإسلام والعقل، وحبّذها القرآن والسنّة ، قال تعالى : ﴿وأرسلنا الرّياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءاً فأسقيناكموه﴾.

وقال سبحانه: ﴿وأسقيناكم ماءاً قراتاً﴾.

وقال تعالى : ﴿وسقاهم ربهم شراباً طهورا﴾.

وقال عزّوجلّ في حق موسى لما ورد ماء مدين ورأى امرأتين تذودان وهما يريدان الإستقاء : ﴿فسقى لهما﴾.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أفضل الأعمال : إبراد الكبد الحرّى» يعني : سقي الماء.

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً : «أفضل الصدقة : إبراد كبد حارّة، وأفضل الصدقة صدقة الماء».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «من سقى عطشاناً أعطاه الله بكل قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرّحيق المختوم، وإن كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدس مع النبيين».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «إنّ الله تعالى يحبّ إبراد الكبد الحرّاء، ومن سقى كبداً حراء من بهيمة أو غيرها، لأظلّه تعالى يوم لا ظل إلا ظلّه».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «ثمان خصال من عمل بها من امتي حشره الله مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين ... واروي عطشاناً ...».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «سبعة اسباب يكتب للعبد ثوابها بعد وفاته: ... أو حفر بئراً، أو اجرى نهراً ...».

ص: 115

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً: «خمس من أتى الله بهنّ أو بواحدة منهن وجبت له الجنة : من سقى هامة صادية ...».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً لمن سئله أن يدله على عمل يدخل به الجنة : «إشتر سقاءاً جديداً ، ثم اسق بها حتى تخرقها، فإنك لا تخرقها حتى تبلغ أعلى الجنّة».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم) لأصحابه يوماً وذلك بعد أن صلّى بهم الصبح: «معاشر أصحابي ! رأيت البارحة عمّي حمزة بن عبدالمطلب، وأخي جعفر بن أبيطالب، وبين أيديهما طبق من نبق، فأكلا ساعة ثمّ تحوّل النّبق عنباً، فأكلا ساعة فتحوّل العنب رطباً، فدنوت منهما فقلت: بأبى أنتما أي الأعمال وجدتما أفضل ؟ قالا: فديناك بالآباء والأمهات، وجدنا أفضل الأعمال: الصلاة عليك ، وسقى الماء، وحبّ عليّ بن أبيطالب (علیه السّلام)» .

وعن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنه قال: «من أطعم مؤمناً جائعاً أطعمه الله من ثمار الجنّة ، ومن سقى مؤمناً ظامئاً سقاه الله من الرّحيق المختوم».

وعن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «من سقى مؤمناً شربة من ماء من حيث يقدر على الماء، أعطاه الله بكلّ شريعة سبعين ألف حسنة ، وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء، فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل».

و عن الإمام الصادق (علیه السّلام) قال : «من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة ، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيا نفساً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس أجمعين».

وعن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: «ما من مؤمن يطعم مؤمناً شبعة من طعام إلا أطعمه الله من طعام الجنّة، ولا سقاه ريه إلا سقاه الله من الرّحيق المختوم».

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «أربع من أتى بواحدة منهن دخل الجنة : من سقى هامة ظامئة ...».

ص: 116

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام) لمن كان معه في طريق مكة ، وقد رأوا رجلاً قد استلقى تحت ظلال شجرة شوك الجمال : إذهب إليه وانظر ما به لا يكون قد صرعه العطش ؟ قال الرّاوي : فذهبت إليه، وترجّلت عن مركبي، وأخذت أفحص عنه ، فإذا هو رجل نصراني قد أضرّ به العطش، فأقبلت إلى الإمام الصادق (علیه السّلام) وأخبرته بخبره، وقلت : إنّه رجل نصراني قد صرعه العطش، فقال (علیه السّلام): إذهب إليه بالماء واسقه، فإنّ لكلّ كبد حرّاء أجر.

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (علیهما السّلام) آبائه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أنه رأى ليلة المعراج في الجنّة صاحب الكلب الذي سقى الكلب ماءاً وأنقذه من أن يموت عطشاً ، يعني : الرّجل الّذت :يعنى : الرّجل الذي أدخله الله تعالى الجنّة بسبب سقيه الحيوان وإروائه من الظمأ .

وروي عنه (علیه السّلام) أيضاً : أن امرأة رأت فى الصحراء كلباً ظامئاً قد أشرف على الموت من شدة العطش، وكان هناك بئر بعيدة القعر ، قليل الماء، فدخلت البئر وملأت حذاءها ماءاً وأخذته بفمها وخرجت وسقت به ذلك الكلب حتى ارتوى ونجى من الموت، فرحم الله تعالى تلك المرأة بعملها هذا ، وعفى عنها ، وغفر لها.

وروي أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يتوضأ فمرت به هرة وأخذت تنظر إلى الماء ، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): أظنّ هذه الهرّة عطشى ثمّ قرّب الماء إليها فشربت الهرّة منه، ثم توضا (صلی الله علیه و آله و سلم) بفضلتها .

[العباس (علیه السّلام) وسقايته الأولى]

نعم، إنّ السّقاية هي عمل الأبرار والصالحين، ودأب ذوي المكانات والمروءات، ولها أجر عظيم ، وثواب جزيل، وقد نال شرفها ، وحصل على أرفع

ص: 117

وسام فيها أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، في التاريخ أنه لما كتب ابن زياد إلى ابن سعد بأن يمنع الماء عن الإمام الحسين (علیه السّلام) ويحرمه على أهل بيته ، قل الماء في الخيام و عند معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام)، فاستدعى الإمام الحسين (علیه السّلام) أخاه العباس وضمّ إليه عشرين فارساً وأرسله إلى الفرات ليشتقى لهم، والظاهر أن هذا الإستقاء كان في مساء يوم السابع من المحرّم أي: ليلة الثّامن منه ، فأقبل العباس (علیه السّلام) بهم نحو الفرات وكان الوقت ليلاً ، والظلام قد طبّق الكون، وغطّى بأجنحته السوداء كلّ مكان، وكان من بين الفرسان العشرين هلال بن نافع البجلي، وكان بينه وبين الموكل على الفرات عمرو بن الحجاج قرابة وصداقة ، فتقدّم هلال الفرسان واقتحم الفرات، فأحس به عمر و فصاح من الوارد ؟ أجاب هلال : أنا واحد من أولاد عمّك جئت لأشرب الماء، فعرفه عمرو وقال له : إشرب هنيئاً مريئاً.

هنا انتهز هلال الفرصة ليقدّم نصيحته لابن عمّه عمرو، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ، ولذلك قال له : يا عمرو أتأذن لي بشرب الماء وتمنعه من ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته وهم عطاشا ؟ هذا الكلام كيان عمرو، وأوقفه على سوء فعله وشناعة أمره ، لكنه سرعان ما غضّ عنه بصره، وأغفل عن وقعه قلبه، وأخذ يوجه موقفه غير الإنساني بقوله : صحيح كلامك ، ولكن ما أفعل والأمر ليس بيدي ، وإنما أنا مأمور وعليّ التنفيذ .

قرأ هلال عبر هذا الكلام كلّ ما يدور في نفس عمرو من تسويلات الشّيطان، وكلّ ما يحمل في ذهنه من مكائد النفس والهوى، ولذلك أعرض عن جوابه، وتوجّه نحو فرقة السقاية وقال : هلموا واملأوا أوعيتكم من الماء اقتحمت فرقة السقاية وفي مقدمتها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) الفرات، وملأوا أوعيتهم ، وذلك بعد أن انقسموا إلى فرقتين فرقة تقاتل الأعداء وتشغلهم بذلك، وفرقة يملأون أوعيتهم، حتّى إذا فرغوا من ملاً أوعيتهم واتجهوا نحو الخيام،

ص: 118

تركت الفرقة الثانية القتال، وأحاطوا بالفرقة الأولى وساروا معاً نحو المخيّم، وكان حصيلة هذه المهمّة : قتل عدة من جيش العدوّ وجرح عدة آخرين من محافظي الشّريعة ، الذين كانوا يبلغون أربعة آلاف تحت قيادة عمرو بن الحجاج، ووصول أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومن معه بالماء إلى المخيم سالمين ، وعلى أثر هذه المهمة عُرف أبو الفضل العباس (علیه السّلام) حيث أوصل الماء بسلامة إلى الخيام بالسقاء، ولقب بساقي عطاشا كربلاء.

كانت هذه السقاية التي قام بها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) هي أولى سقاياته في كربلاء بعد منع الماء عنهم وتحريمه عليهم ، ومنها عرف بالسقاء، ولكن لم تكن هي الأولى والأخيرة، وإنما كانت هناك سقايات أخرى قام بها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في كربلاء أيام ضرب الحصار عليهم، نذكر منها ما يلي :

[السقاية الثانية]

جاء في هامش «منتهى الآمال» للمحدّث القمّي عن كتاب «المحاسن والمساوي» للبيهقي في ورود الإمام الحسين (علیه السّلام) وأهل بيته وأصحابه بكربلاء ما مضمونه : إنه كان بين معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) والفرات فاصلة قريبة، فحال الأعداء بين الإمام الحسين (علیه السّلام) والماء ، ومنعوا أصحابه من الوصول إليه، وصاح الشمر فيهم قائلاً: «أنظروا إلى هذا الماء كيف يجرى كبطون الحيات لا ندعكم تذوقون منه شيئاً حتّى تردوا الحامية» عندها التفت أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) و قال : ألسنا على الحق ؟ فأجابه الإمام الحسين (علیه السّلام): بلى والله نحن على الحق ، فاستلهم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من جواب أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) الإذن في الإستقاء وطلب الماء للنساء والأطفال الذين أضرّ بهم

ص: 119

العطش في الخيام، فحمل عندها على القوم الموكلين بالفرات حملة أزالهم عن الماء ، وكشفهم عن الشّريعة ، وخلّى الطّريق بين معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وبين الفرات، بحيث تسنّى للإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه أن يشربوا من الماء ويحملوا منه معهم إلى النساء والأطفال. وكانت هذه السّقاية على الظاهر في اليوم التاسع من المحرّم وذلك بعد ورود السمر في كربلاء.

[السّقاية الثالثة]

ثمّ لمّا كان يوم عاشوراء، وبدء ابن سعد القتال، وشن الحرب على آل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكثر القتلى في صفوف الإمام الحسين (علیه السّلام) و بان الإنكسار فيهم ، عندها أخذ الإمام الحسين (علیه السّلام) ينادي إتماماً للحجة، ودفعاً للعذر : أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من ذاب يذبّ عن حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فلما ذلك أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أقبل إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) فقبل ما بين عينيه ، عينيه، واستأذنه في البراز ، فلم يأذن له، وطلب منه الإستقاء للأطفال، فودعه ممتثلاً ، أمره، وحمل القربة واتجه نحو الفرات ، فلمّا أراد أن يقتحم الشّريعة أحاطوا به ليمنعوه ، ففرّقهم وهو يقول : أنا العباس بن علي، أنا ابن أختكم الكلابية، أنا عطشان، وأهل بيت محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) عطاشا ، وهم يذادون عن الماء وهو مباح على الخنازير والكلاب، ثمّ الله دخل الفرات وملأ القربة وخرج بالماء نحو المخيّم ، فاعترضه الموكلون بالشريعة ليمنعوه من إيصال الماء إلى المخيم، فقاتلهم وهو يقول :

أنا الذي أعرف عند الزمجرة *** بابن علي المسمّى حيدرة

إن اثبتوا اليوم لنا يا كفرة

ص: 120

فقتل منهم كلّ من اعترضه، حتّى قتل مائة فارس من فرسانهم، وأوصل الماء بسلامة إلى المخيّم، ففرح الأطفال بوصول الماء إليهم وتواسوا به ولم يرووا.

وكانت هذه السقاية - على ما روي - هي السقاية الثالثة لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقد وقعت في يوم عاشوراء.

وهناك لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) سقاية رابعة، انجرّت إلى مصرعه، وأدّت إلى شهادته، وهي السقاية المعروفة له في يوم عاشوراء.

ص: 121

الخصيصة الرّابعة عشرة: «في أنه (علیه السّلام) ساقي كلّ عطشان»

لقد ثبتت فضيلة السّقاية وإرواء العطاشى لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) حتى عرف بالسقاء، واشتهر أنه ساقي عطاشى كربلاء، بل إنّه روي أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) كان قد عطش يوماً وهو في مسجد جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المدينة الهلال المنوّرة ، فأحس بعطشه (علیه السّلام) أخوه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وكان إذ ذاك صغيراً، فقام من مجلسه وهو ينوي سقي أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) ماءاً، فخرج من المسجد، ولم يقل لأحد ما يريده، ولم يطلع أحداً على ما نواه أبداً، وإنما جاء مسرعاً حتّى دخل المنزل وأخذ كأساً نظيفاً وملأه ماءاً، ثم أقبل نحو المسجد بالماء وقدّمه وبكل احترام إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، فشكره الإمام الحسين (علیه السّلام) على ذلك ودعا له بخير، ولعلّ منها لقب العباس (علیه السّلام) بالسقاء، وكني بأبي القربة كما قيل -.

[دور الماء في الحياة]

هذا ولا يخفى ما للماء من دور كبير في الحياة، وأثر بالغ في استمرارها وبقائها، وطراوتها ونظارتها، حتى قال تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه : ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حي﴾ وقال الإمام الصادق (علیه السّلام) في جواب من سأله عن طعم الماء : إنّه طعم الحياة. كما أن ابن عباس الذي استقى علمه من

ص: 122

أمير المؤمنين (علیه السّلام) وتعلم تفسیر کتاب الله تعالى منه ، استند إلى الآية الكريمة حل لغز ملك الرّوم، الذي أرسل إلى معاوية قارورة وطلب منه أن يضع فيها من كلّ شي، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في ذلك ، فقال له ابن عباس: لتُملأ له ماءاً، فإنّ الله تعالى يقول : ﴿وجعلنا من الماء كلّ شيء حي﴾ فتعجب ملك الروم واستحسنه قائلاً: لله أبوه ما أدهاء.

[الماء من أجل الإمام الحسين (علیه السّلام)]

ثمّ إنّ الله تعالى خلق ماءاً موّاجاً متلاطماً ، وذلك قبل أن يخلق سماءاً

وأرضاً، وشمساً وقمراً ، قال تعالى : ﴿وكان عرشه على الماء﴾ ثم خلق من الماء ما خلق الماء ما خلق من ذلك سماوات وأرضين، وبثّ فيهما ما بتّ من شيء كما جاء في نهج اللاغة عن أمير المؤمنين (علیه السّلام)- فالماء هو أساس الخلقة، والخلقة لأجل الإمام الحسين (علیه السّلام) و عليه : فالعالم طفيلي وجود الإمام الحسين (علیه السّلام)، وذلك إن لم يكن بالمباشرة فبالواسطة ، ألا تسمع قول جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه : «حسين منّي وأنا من حسين» وقد قال تعالى من قبل - كما في الحديث القدسي - مخاطباً رسوله الكريم محمّد عبدالله (صلی الله علیه و آله و سلم): «لولاك لما خلقت الأفلاك»، فيكون الإمام الحسين (علیه السّلام) لقول جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه ، مشمولاً لهذا الحديث الشريف.

إذن : فالحياة كلّها، والعالم كلّة خُلق من ماء ، والماء خلق من أجل الإمام الحسين (علیه السّلام)، وقد جعله جبرئيل بأمر من الله تعالى صداقاً لفاطمة الزهراء (عليها السلام)- على ما جاء في الخبر - كما وأباحه الله تعالى لكلّ النّاس فقد جعل الله الماء من المباحات العامة وجعل الناس فيه شرعاً سواءاً، وجعل أوّل ما يثيب عليه من

ص: 123

الأعمال الصّالحة في يوم القيامة هو ثواب عمل السقاية، وأجر السقاء ، وهذا كلّه يدل على خصوصية فى الماء ليس فى غيره من الأشياء، ويشير إلى امتياز في سقايته لم يكن في عمل سواه .

[مكانة أبي الفضل]

من هذا وغيره يُعلم مكانة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند الله تبارك وتعالى حيث أنه (علیه السّلام) وقف نفسه لسقاية أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأطفاله ذرّيّة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ونسائه حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وجد واجتهد في ما أوقف نفسه له حتى استشهد في هذا الطريق صابراً محتسباً، فحباه الله تقديراً له ، وإكراماً به، وسام السقاية، سقاية كلّ شيء، وليس سقاية الماء فحسب، بل منحه تعالى أن يسقي بإذنه تعالى كلّ عطشان، سواء كان عطشان ماء، أو عطشان علم ، أو عطشان مال وولد ، أو عطشان حج وعمرة ، أو عطشان زيارة وتشرّف إلى تربته وروضته (علیه السّلام)، أو زيارة أحد الأئمة المعصومين (علیهم السّلام)، أو غير ذلك، فإنّه ما توسل به إلى الله متعطّش إلى شيء من الأمور المادية أو المعنوية ، إلا وسقاه الله ممّا أراد، ورواه بما شاء، ببركة أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

[الإقتداء بالعباس (علیه السّلام) في سقايته]

وجاء في كتاب «طروس الإنشاء» للعلّامة السيد محمد نجل آية الله السيد مهدي القزويني طاب ثراه ما مضمونه : إنّ نهر الحسينية المعروف الذي كان يسقي كربلاء المقدسة وضواحيها - بعد انقطاع نهر العلقمي وجفافه - انقطع سنة

ص: 124

(1306) هجريّة قمريّة، وأصبح أهل كربلاء على أثره يعانون من قلة الماء وشحه ، ويقاسون العطش والظمأ ، فأمرت الحكومة العثمانية آنذاك بحفر نهر جديد في أراضي السيّد النقيب السيد سلمان، فامتنع السيد النقيب من الموافقة على ذلك، ولم يسمح بحفر النّهر الجديد في أراضيه ، قال السيد محمد القزويني: فاتفق أن تشرّفت بزيارة أعتاب كربلاء المقدّسة والتبرك بتربتهم وروضتهم، فاجتمع إليّ أهالي كربلاء وطلبوا منّي أن أكتب إلى السيد النقيب في خصوص الماء وما يعانونه من العطش والظماً، وأن أستحنّه في سقيهم الماء بالسماح لهم في حفر نهر جديد في أراضيه يسقي كربلاء وأهلها ، فكتبت إليه أستحنّه أن يقتدي بأبيه أمير المؤمنين (علیه السّلام) ساقي الكوثر ، وبعمه العباس ساقي العطاشى، وأستعطفه بذكر ما يعانونه أهل كربلاء من قله الماء، وما يقاسونه من عطش وظماً ، البيتين التاليين:

في كربلا لك عُصبة تشكوا الظُّما *** من فيض كفك تستمد رواءها

وأراك يا ساقي عطاشى كربلا *** وأبوك ساقي الحوض تمنع ماءها؟

فلما وصل كتابي إلى السيّد النّقيب، تأثر بما فيه، وأجاز حفر النهر الجديد في أراضيه، مفتخراً بوسام السّقاية ولقب السقاء، وارتوى أهل كربلاء من الماء، وانتفعوا بالنّهر الجديد ببركة هذا الوسام الكبير ، ولقب «السقاء» الشريف.

[من آداب السقاية وشرب الماء]

وجاء في كتاب كامل الزيارات مسنداً عن داود الرقى قال : «كنت عند أبي عبد الله (علیه السّلام) إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه

ص: 125

بدموعه، ثمّ قال لي : يا داود لعن الله قاتل الحسين (علیه السّلام) ، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (علیه السّلام) ولعن قاتله، إلا كتب الله له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة، مائة ألف نسمة، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد».

وفي الخبر أيضاً ما مضمونه : إن من كان في يوم عاشوراء عند مرقد الإمام الحسين (علیه السّلام) وسقى الناس العطاشى ماءاً، كان كمن سقى أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) الماء في يوم عاشوراء، وكان كمن حضر كربلا، لنصرة الإمام الحسين (علیه السّلام) في ذلك اليوم .

ص: 126

الخصيصة الخامسة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) قمر بني هاشم»

يا هاشماً إن الإله حباكموا *** ما ليس يبلغه اللّسان المفصل

قوم لأصلهم السيادة كلها *** قدماً وفرعهم النبي المرسل

بيض الوجوه ترى بطون أكفّهم *** تندى إذا اغبر الزمان الممحل

هذا ما قاله كعب الأنصاري شاعر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في بني هاشم عامة، وقد قال الإمام الحسين (علیه السّلام) في أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) خاصة وذلك عندما وقف عليه يوم عاشوراء ورآه مضرجا بدمه :

أيا بن أبي نصحت أخاك حتّى *** سقاك الله كأساً من رحيق

و يا قمراً منيراً كنت عوني *** على كل النوائب في المضيق

وقال السيّد جعفر الحلي في العباس (علیه السّلام) خاصة وهو يحكي لسان حال الإمام الحسين (علیه السّلام) عندما مشى إلى مصرعه قائلا:

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه *** بين النساء وبينه متقسّم

ألفاه محجوب الجمال كأنه *** بدر بمنحطم الوشيح ملتم

[هاشم وبنوه سادة البطحاء]

نعم لقد كان هاشم بن عبد مناف وبنوه سادة البطحاء وقادتها، وذلك لما

ص: 127

منحهم الله تعالى من حسن الخُلق والسّيرة ، وجمال الوجه والصورة، فلقد كان هاشم في حسن الخلق والسيرة، وكرم الأصل والأعراق بمكانة ساد بها كل العرب، فأصبح هو الأصل للسيادة، والسيادة فرع عليه، ومنه أطلق اسم «السيد» على أولاده وبنيه، وكُنّى السادة بأبناء هاشم، أو كما في عُرف الناس قد عُرفوا بأبي هاشم ، كلّ ذلك نسبة إلى هاشم جد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).

هذا كان من حيث الخُلق والسّيرة، وأمّا من حيث الوجه والصورة، فلقد كان هاشم وكذلك أبوه عبد مناف وهكذا أجداده صباح الوجوه، حسان الغرر يحملون في وجوههم إضافة إلى جمالهم وحسنهم نور النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي كان في أصلابهم، يتوارثونه خلفاً من سلف ، ويورثونه سلفاً لخلف ، حتى قيل لعبد مناف: إنّه قمر مكة وإنّه البدر ، وقيل لهاشم وإخوته أقداح النّضار، والنّضار جمع النَّضر ، وهو الذهب ، وقيل لعبد المطلب : إنه البدر ، وقيل لعبد الله والد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): إنه بدر الحرم ، وقيل لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إنه أضوء من القمر .

[النبى وأهل بيته أنوار الأرض]

ولقد جاء في وصف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و أيضاً كما في رواية عن الإمامين الهمامين : الحسن والحسين (علیهما السّلام) عن خالهما هند بن أبي هالة التميمي وكان وصافاً أنه قال : «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)فخماً مفخماً ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ...».

وكما عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا رئي في الليلة الظلماء رئي له نور كأنه شقة قمر».

وكما عن لسان عمه أبي طالب (علیه السّلام) أنه قال :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ص: 128

وكما عن لسان شاعره حسّان بن ثابت :

وأحسن منك لم تر قط عيني *** وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرءاً من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء

وقيل في صفة علي أمير المؤمنين (علیه السّلام): أزج العينين، أدمج العينين، أنجل يميل إلى السّهلة ، كأن وجهه القمر ليلة البدر حسناً .

وقيل في وصف الإمام الحسن المجتبى سبط رسول الله الأكبر: كان شبيه جده رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) خَلقاً وخُلقاً ، وسمتاً ومنطقاً .

[أشبه الخلق برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)]

وقيل في صفة الإمام الحسين الشهيد سبط رسول الله الأصغر: كان له جمال عظيم، ونور يتلألأ في جيبينه وخده، يضيء حواليه في الليلة الظلماء، وكان أشبه الناس برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

وقيل في وصفه أيضاً كما عن لسان الغلام الذي قتل أبوه في المعركة واستشهد مع من استشهد من أصحاب الحسين (علیه السّلام) حيث أنه برز إلى الأعداء وهو يرتجز ويقول :

أميري حسين ونعم الأمير *** سرور فؤاد البشير النذير

على وفاطمة والداه *** فهل تعرفون له من نظير

له طلعة مثل شمس الضّحى *** له غرّة مثل بدر منیر

وقال هلال بن نافع وهو يصف الإمام الحسين (علیه السّلام) في لحظاته الأخيرة : كنت واقفا واقفاً نحو الحسين (علیه السّلام) وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلاً قط مضمخاً بدمه أحسن منه وجهاً ولا أنور ، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله.

ص: 129

وعن مسلم الجصاص وهو يصف رأس الإمام الحسين (علیه السّلام) محمولاً على القنا في سوق الكوفة بقوله : إذا بضجة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين (علیه السّلام) وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولحيته كسواد السَّبَج قد انتصل منها الخضاب ووجهه دارة قمر طالع ، والريح تلعب بها يميناً وشمالاً.

ورثاه الكعبي بقوله :

ومجرّح ما غيّرت منه *** القنا حسناً ولا أخلقن منه جديدا

قد كان بدراً فاغتدى شمس الضحى *** مذ ألبسته يد الدماء لبودا

وقال في صفته أعداؤه - والفضل ما شهدت به الأعداء كما عن لسان یزید، العدو اللدود للإمام الحسين (علیه السّلام)، وذلك عند ما جيء بالرّؤوس إليه في الشّاء الشّام، فأخذ يقلب رأس أبي عبد الله (علیه السّلام) ويقول متشمتاً :

يا حبّذا بردك في اليدين *** ولونك الأحمر في الخدين

كأنّما حف بوردتين *** شفيت نفسي بدم الحسين

وبرواية أخرى قال :

یا حُسنه يلمع باليدين *** يلمع في طست من اللجين

كأنّما حف بوردتين *** كيف رأيت الضرب يا حسين

شفيت غلي من دم الحسين

وقال أيضاً - وكان جالساً في منظرة على جيرون - لما رأى السبايا والرؤوس على أطراف الرّماح تُهدى إلى السّام وقد أشرفوا على ثنية جيرون :

لمّا بدت تلك الرؤوس وأشرقت *** تلك الشَّموس على ربى جيروني

نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح *** فقد اقتضيت من الرسول ديوني

ص: 130

[وضاءة العباس (علیه السّلام) وصباحته]

وجاء في وصف أبي الفضل العباس (علیه السّلام) كما عن أبي الفرج الأصبهاني في مقاتل الطالبيين : وكان العباس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يقال له : قمر بني هاشم.

وقيل في صفته (علیه السّلام) أيضاً: ويقال له : قمر بني هاشم لوضائته وجمال هيئته، وأنّ أسرّة جهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضیاء.

وجاء في فرسان الهيجاء: إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) إنما دعي «قمر بني هاشم» لأنّ نور محيّاه كان يضيء كلّ ظلمة، وجمال هيئته كان يبهر كل ناظر، فإنّ نور وجه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وجمال محياه كان بدرجة من العظمة والبهاء، بحيث أنه لو اتفق أن رافق في الطريق ابن أخيه علي الأكبر، الذي كان أشبه النّاس خَلقاً وخُلقاً بجده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) اصطف أهل المدينة في طريقهما ليتفرّجوا على جمالهما، ويزوروا محيّاهما، ويتزوّدوا من نور إيمانهم ومعنوياتهما العالية .

نعم، ورث أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من آبائه وأجداده حُسن السيرة وجمال الصورة، واجتمع فيه بعد أخويه الإمامين الهمامين: الحسن والحسين (علیهما السّلام) كل آيات الحسن والجمال وعلامات الشرف والجلال ، حتّى عرف عند الجميع بقمر بني هاشم.

ص: 131

الخصيصة السادسة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) قمر العشيرة»

العشيرة هي القبيلة، وقبيلة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) من طرف الأب، لبّ قريش ومنّها ، وأشرف العرب وأكرمها ، أعني : قبيلة بني هاشم والهاشميين. كما أنّ قبيلة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) من طرف الأم هي قبيلة بني كلاب من آل الوحيد، وكانوا من أبرز القبائل العربية شرفاً، وأظهرهم مناقب، وأجمعهم للماثر الكريمة، والأخلاق النبيلة، ولذلك جاء اختيار عقيل بن أبيطالب (علیه السّلام) عندما استشاره الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في الزواج من أكرم بيوتات العرب وأشجعها، على هذه القبيلة، فاختار له منها كريمة قومها وعقيلة أسرتها : فاطمة الوحيدية الكلابية أم البنين (عليها السلام).

[العباس (علیه السّلام) مفخرة بني هاشم]

ومن الطبيعي لكلّ عشيرة وقبيلة أن تنتخب نوادر شخصياتها ، ونوابغ رجالها، لتجعلهم قدوة تقتدي بهم، وأسوة حسنة لغيرهم، وعلماً تفتخر على الآخرين بهم، ونبراساً تستلهم من نورهم، والعباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) هو من تفرّق بين القبيلتين في كل معاني الخير والجمال، والنّجاعة والشهامة والفصاحة والنباهة، لقد كان في حسن السيرة والأخلاق قمة، وفي جمال الوجه

ص: 132

والمحيا روعة، كان وجهه كالقمر ليلة البدر حيث أنه ورث الجمال من آبائه وأجداده، وفعاله كالشمس في ضاحية النّهار، حيث أنه قد تأدب على يدي أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأخويه الإمامين الهمامين : الحسن والحسين (علیهما السّلام)، ولذلك أسرع بنو هاشم عشيرته من ناحية الأب إلى الإفتخار به، والإعتزاز بشخصيّته فأطلقوا عليه وبكل كفاءة لقب : «قمر بني هاشمی» فاشتهر العباس (علیه السّلام) بهذا اللقب بين الهاشميين ثمّ فشى لقبه هذا وبكل سرعة بين النّاس.

[آل الوحيد ومفخرتهم]

وهنا لما رأى بنو كلاب من آل الوحيد، ابن أختهم العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) متفوقاً على كل أفراد عشيرتهم في الجمال والجلال، متميّزاً على كل قبيلتهم في المكارم والكمال، وهو بنبوغه هذا فخر لعشيرتهم، وعزّ لقبيلتهم، ولابد لهم من أن يعتزوا به، ويفتخروا بانتسابه إليهم، ليزدادوا بين العشائر وجهة، ويكتسبوا عن طريقه في الناس رفعة ومكانة ، ولئلا ينفرد بالإفتخار به بنو هاشم وحدهم، ويعتزوا به دونهم، جاؤوا وأطلقوا على ابن أختهم العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) لقب : «قمر العشيرة» فعرف (علیه السّلام) بعد ذلك به.

وهكذا حصل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على لقب : قمر بني هاشم، ولقب: قمر العشيرة ، فهو بكل جدارة قمر العشائر والقبائل كلّها ، بل هو قمر متلألىء في سماء الإنسانية، وآفاق البشريّة جميعها ، يضيء لهم الدرب، ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، صراط على أمير المؤمنين (علیه السّلام) والأئمة المعصومين من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويحذرهم ظلام السبل المعوجة والملتوية، سبل بني أُميّة ، وآل أبي سفيان، ومعاوية ويزيد، وكل من سار على طريقهم وسلك في سبيلهم.

ص: 133

[الجمال وحسن الفعال]

نعم إن صباحة الوجه ووضاءته من النّعم الإلهيّة على الإنسان، وقد جاء في تفسير قوله تعالى : ﴿يزيد في الخلق ما يشاء﴾ هو الوجه الحسن والصوت الحسن، والشَّعر الحسن.

وبرواية أخرى : إنّ الله جميل ويحب الجمال .

وقيل : ما أحسن لو يجمع الجمال مع حسن الفعال، يعني: بأن يجمع إنسان جمال السّيرة مع جمال الصورة.

هذا وقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من أولئك القلائل المتميزين، بل المنفردين في عالم الجمال وحسن الفعال معاً، فقد حاز (علیه السّلام) جمال السيرة في أعلى مراتبه ، كما أنه قد فاز بجمال الصورة في أرفع مراقيه أيضاً، حتى اشتهر في النّاس بقمر بني هاشم، وبقمر العشيرة.

وإلى هذا المعنى أشار العلّامة الشيخ محمد حسين الأصبهاني في قصيدته المعروفة في العبّاس (علیه السّلام) حيث يقول فيها :

وقد تجلّى بالجمال الباهر *** حتّى بدا سر الوجود الزاهر

غرته الغراء في الظهور *** تكاد أن تغلب نور الطور

رقى سماء المجد والفخار *** بالحقِّ يدعى: قمر الأقمار

بل في سماء عالم الأسماء *** كالقمر البازغ في السماء

بل عالم التكوين من شعاعه *** جل جلال الله في إبداعه

ص: 134

الخصيصة السابعة عشرة : «في أنّه (علیه السّلام) حامل اللواء»

لقد عقد الإمام الحسين (علیه السّلام) لأخيه أبي الفضل العباس لواءاً ودفعه إليه منذ خروجه من الحجاز متوجهاً إلى العراق، وكان اللواء الأعظم يوم عاشوراء بيده (علیه السّلام) ، ولذلك كلّما استأذن للبراز قال له الإمام الحسين (علیه السّلام): أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري، وقال بعض الشعراء عن لسان حال الإمام الحسين (علیه السّلام) حين وقف على أخيه العباس (علیه السّلام):

لمن اللوى أعطي ومن هو جامع *** شملي وفي ظنك الزحام يقيني

أمنازل الأقران حامل رايتي *** ورواق أخبيتي وباب شؤني

لك موقف بالطف أنسى أهله *** حرب العراق بملتقى صفين

وجاء في المناقب لابن شهر آشوب ما مضمونه : كان اللعباس السقاء، قمر بني هاشم، صاحب لواء الإمام الحسين (علیه السّلام) وأكبر إخوته.

[من مواصفات حملة الألوية]

ومن المعلوم: أنّ اللواء لا يعقد إلا لمن عرف بالشجاعة والشهامة، والنبل والشرف : لأنّ حامل اللواء هو من يريد ضمّ كلّ أفراد الجيش تحت لوائه، ودرجهم في سلكه وظلاله، فلابد أن يكون ممن يقبله الجميع ، ويرتضيه الكل، من

ص: 135

حيث الشرف والشجاعة، حتّى ينتظموا في سلكه، وينضووا تحت لوائه .

هذا مع أنّ حمل اللواء في نفسه مفخرة كبيرة، ومكرمة عظيمة، ووسام شريف، وله منزلة في نفوس الناس، ولدى جميع الأمم والشعوب، وعلى مرّ الأزمنة والعصور، كما أنّ لحامل اللواء مكانة راقية، ودرجة رفيعة، ومرتبة سامية ، لا من حيث شجاعة حامل اللواء وشهامته فحسب، بل من حيث انتظام الجيش واستماتته مقابل العدو، فإنّه مادام اللواء قائماً، والعلم مرفرفاً، يكون الجيش منتظماً ، وشمله ملتئماً، وأفراده مقاومين ورجاله مستميتين، حيث أنّ اهتزاز اللواء ورفرفته بيد حامله يعطي الأمل للمقاتلين، ويبعث في نفوسهم القوّة والشجاعة، ويرفع فيهم المعنويات القتالية العالية، ويقرّبهم من الغلبة والنصر بينما إذا سقط اللواء انكسر الجيش وانهزم وتبدّد العسكر وتفرّق ، وآل أمرهم إلى الإندحار والموت أو الأسر والسبي.

ومن أجل ذلك كله يأتي انتخاب حملة اللواء، واختيار أصحاب الألوية، من وسط الشجعان والأعيان، ومن خلال ذوي البيوتات والشرف، ومن بين المعروفين بالنبل والكرم والدين والتقوى، كما أنّ ذلك كله كان هو الذي يدعو حامل اللواء إلى أن يبذل ما في وسعه للحفاظ على سلامة اللواء، والإستماتة من أجل بقاء اللواء مرفرفاً عالياً، خفّاقاً منشوراً على رؤوس أفراد الجيش ورجاله و من أجل ذلك كلّه أيضاً نرى أنّ حملة اللواء وأصحاب الألوية في الإسلام كانوا غالباً ما يقون اللواء بأنفسهم، فلا يدعون اللواء يسقط من أيدهم مادام في أجسادهم حياة ، وفي أبدانهم رمق وفي قلوبهم ضربان، وفي شرايينهم دم ينزف، فإذا قطعت يمناهم أخذوا اللواء بيسارهم، وإذا قطعت يسراهم أخذوا اللوا بركبتيهم ، وهكذا كانوا يحمون اللواء بأنفسهم عن السقوط، حتى يسلّموه إلى كفو آخر غيرهم - كما اشتهر ذلك في حق جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) في حرب مؤتة -.

ص: 136

[مع أصحاب الرايات]

ولقد جاء في تعليمات الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فيما يخص آداب الحرب والقتال - كما في نهج البلاغة - حيث يقول (علیه السّلام): ... ورايتكم فلا تميلوها ولا تُخلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، والمانعين الذمار منكم، فإنّ الصابرين على نزول الحقائق، هم الذين يحفّون براياتهم، ويكتفونها حفافيها ، ووراءها وأمامها ، لا يتأخّرون عنها فيُسلموها ، ولا يتقدمون عنها فيُفردوها ...».

وما كان الإمام الحسين (علیه السّلام) ليتخطى تعليمات أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فيما يخص حامل اللواء، ولذلك اختار لحمل لوائه أخاه الأكبر أبا الفضل العباس (علیه السّلام)، وكان كما اختاره الإمام الحسين (علیه السّلام) كفوءاً بحمل اللواء، وأهلاً للقيام بحقه ، حيث أنه (علیه السّلام) وحفاظاً على سلامة اللواء ، وبقائه مرفرفاً خفاقاً، بقي في آخر من بقي مع الإمام الحسين (علیه السّلام) مع شدّة ضيق صدره، وكثرة أسفه وهمه من فقد إخوته وأبناء إخوته ، وعظيم اشتياقه للقاء العدوّ ومنازلتهم، وكبير تلهفه على الإنتقام منهم ومقاتلتهم ، فإنّه (علیه السّلام) مع كلّ ذلك لم يشف قلبه من الأعداء بالبراز إليهم ، امتثالاً لأمر أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) الذى كان يقول له كلما استأذنه للبراز: أنت صاحب لوائى ، وإذا مضيت تفرّق عسكري .

كما أنه لمّا استسقى لأطفال أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) الذين أضرّ بهم العطش، وذلك فى المرّة الأخيرة التي انجرّت إلى شهادته، لم يسمح لنفسه مادام له رمق بترك اللواء وسقوطه ، فإنّه لمّا قطعوا يديه : يمينه وشماله، احتفظ باللواء من السقوط بساعديه وعضديه، وألصقه بهما إلى صدره، وإنّما سقط اللواء بسقوطه (علیه السّلام) من على جواده، وذلك بعد أن رشقوه بالنبال كالمطر ، وخاصة عندما خسفوا هامته بعمد من حديد، فهوى إلى الأرض مع اللواء منادياً: يا أخي أدرك أخاك .

ص: 137

[أوّل من عُقد له اللواء]

نعم لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) حامل لواء أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) كما لا كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حامل لواء أخيه وابن عمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلقد كان لواء الحق بيد أنبياء الله وأوليائه، حيث كان أوّل من عقد اللواء وحمله هو : شيث بن آدم (علیه السّلام)- على ما قيل - ثم انتقل إلى خليل الرحمن : النبي إبراهيم (علیه السّلام)، ومنه إلى ابنه إسماعيل الذبيح (علیه السّلام)، ومنه إلى ابنه ثابت بن إسماعيل (علیه السّلام)، ومنه إلى أبنائه وأحفاده، أجداد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وآبائه ، حتى انتقل إلى قصي بن كلاب ، ومنه الي الليالي إلى عبد مناف، ثمّ ورثه منه ابنه هاشم ، ثمّ ابنه عبد المطلب، ثمّ ابنه أبو طالب، ثمّ صار اللواء إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فدفعها إلى علي أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فأصبح هو (علیه السّلام) وحامل لواء الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأصبح من بعده ابنه العباس (علیه السّلام) حامل لواء الإمام الحسين (علیه السّلام) وعرف بذلك ، أعني : عرف بأنه (علیه السّلام) حامل اللواء.

[اللواء مع الغنائم في الشام]

ولقد جاء فى التاريخ أن جيش بني أمية بقيادة ابن سعد، لمّا أغاروا على مخيّم الإمام الحسين (علیه السّلام) بعد الظهر من يوم عاشوراء ونهبوا ما فيه ، وكذلك جمعوا ما في ساحة الحرب من غنائم، وبعثوا بها إلى الشام ، كان في جملتها اللواء الّذي كان يحمله العباس (علیه السّلام)، فلما وقع عين يزيد عليه وأجال بصره فيه تعجب هو ومن كان معه ، حيث رأوا أنّ هذا اللواء لم يسلم منه مكان إلا محل قبضته وموضع اليد منه ، فسأل يزيد متعجباً وهو يقول : من كان يحمل هذا اللواء في كربلاء ؟ قالوا :

ص: 138

العباس بن علي (علیه السّلام). فلما سمع يزيد بأن حامله كان هو العباس (علیه السّلام) قام من مكانه وجلس ثلاث مرّات تعجباً من شجاعة العباس (علیه السّلام) واندهاشاً من شهامته وبطولته، ثم التفت إلى من حضره وقال : أنظروا إلى هذا العلم، فإنّه لم يسلم من الطعن والضرب إلّا مقبض اليد التي تحمله إشارة إلى أنّ سلامة المقبض دليل على شجاعة حامله وشهامته حيث كان يتلقى كلّ الضربات والرشقات ، بصبر وصمود دون أن يترك اللواء لينتكس، أو يدعه ليسقط ، ثمّ قال: أبيت اللعن يا عباس هكذا يكون وفاء الأخ لأخيه، وهذا اعتراف من العدو في حق العباس (علیه السّلام). والفضل ما شهدت به الأعداء.

[الألوية في الشعائر الحسينية]

ثم إن هذا اللواء أعنى لواء الحق الذى كان بيد الأنبياء والأولياء، وحمله أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في كربلاء ، وهو اليوم بيد إمام العصر ، وبقية الله في أرضه، الإمام المهدي الحجة بن الحسن (علیه السّلام) قد أرمز إليه بالألوية والأعلام التي تُرفع في الشعائر الحسينية، وتُنصب على الحسينيّات، وتقام بباب المجالس والمحافل الدينيّة، ويطاف بها في المواكب والمآتم الحسينية، إحياءاً لسنن الحق، وإبقاءاً على معالم الإسلام ولوائه عالياً خفاقاً على رؤس المسلمين، حتّى يأتي يوم تتوحد فيها الأعلام والألوية، وتذاب معها القوميّات والتعصبات الجاهلية، ولا يبقى لواء إلا لواء الإسلام ، ولا شعب غير شعوب المسلمين، بل يدخلون الناس كلّهم في دين الله أفواجاً ، برغبة وطواعية ، لما يرونه في الإسلام من منطق و عدل، و احترام وسواسيه ، فإلى ذلك اليوم المأمول، والأمل المنشود.

ص: 139

وهنا لا بأس بذكر هذه القطعة التاريخية، فإنّه قد جاء في التاريخ : أنّ الفاطميين كانوا يهتمون اهتماماً كبيراً بالألوية، والرايات والدرق، حتّى أنّهم خصصوا مكاناً في مصر يقال له : «خزانة البنود» اختزنوا فيها الأعلام ، والرايات، والأسلحة، والسروج ، واللجم المذهبة والمفضّضة، وكانوا ينفقون عليها في كلّ سنة ثمانين ألف دينار، ولما احترق ذلك المكان بما فيه، قدرت الخسارة الناجمة عن هذا الحريق بثمانية ملايين دينار، وكان في جملة الألوية والرايات، لواء يسمونه: «لواء الحمد».

ص: 140

الخصيصة الثامنة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) بطل العلقمي»

وهوى بجنب العلقمي فليته *** للشاربين به يداف العلقم

وقال السيّد الطحان :

جرّعتُ أعداءك يوم الوغى *** في حد ماضيك من العلقمِ

وقد بذلت النفس دون الحمى *** مجاهداً يا بطل العلقمي

الياء في العلقمي ياء النسبة والمراد به نهر علقمة، وهو نهر كان متفرّعاً من الفرات ومنشعباً منه، وكان يمرّ بأرض كربلاء وضواحيها، ويسقيها جميعاً، وعلى مقربة منه صُرع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وسقط شهيداً، وذلك حيث يكون مرقده الشريف الآن .

قيل : إن هذا النهر - أي : نهر العلقمي - كان هو النهر الوحيد الذي يجري في كربلاء أيّام نزل الإمام الحسين (علیه السّلام) وأهل بيته بها ، وقد شهد هذا النهر بطولات كثيرة من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ، بطولات روحية وجسمية معاً.

[العلقمي وبطولات العباس (علیه السّلام) الجسمية]

أما بطولات أبي الفضل العباس الجسمية التي شهدها العلقمي منه (علیه السّلام) فحدث ولا حرج، فلقد كان أوكل ابن سعد عمرو بن الحجاج مع أربعة آلاف

ص: 141

فارس على العلقمي يحموا ماءه ذريّة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ويمنعوه من الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه وأهل بيته، فاستقى العباس (علیه السّلام) منه المعسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) مرات عديدة، وذلك بعد أن فرّق جموع الموكلين به وبدّد شملهم .

ومن المعلوم أن تفريق أربعة آلاف فارس عن العلقمي ، مع أنّ مهمّة هؤلاء الفرسان كان هو الحيلولة بينه وبين كلّ وارد إليه من أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) وذلك بكل ما يملكونه من أسلحة وعتاد وجزم وعزم، هو أمر عظيم، لا يقدر عليه أحد سوى مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ، حيث كان يحمل عليهم كالليث الغضبان ولا يعبأ بالسهام التي كانت تقبل نحوه كالمطر، فكان جسمه الشريف يصبح من كثرة ما يصيبه من النبل والسهام كالقنفذ ، وهو لا يكترث بشيء من ذلك ، بل كان كلّ همه اقتحام العلقمي والدخول فيه ، وحمل الماء إلى مخيم الإمام الحسين (علیه السّلام) ومعسكره ، وكان يفعل في كل مرة ذلك وبكل جدارة.

[العلقمى وبطولات العباس (علیه السّلام) الروحية]

وأما بطولات أبي الفضل العباس (علیه السّلام) الروحية التي شهدها العلقمي من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يحدث أيضاً ولا حرج، فإنّ من يستطيع تفريق أربعة آلاف فارس، ويقدر على تبديد جمعهم، صحیح أنه دليل على بطولته الجسمية وقوته الجسدية، ولكن لولا قدرته الروحية الكبيرة ، التى لا تهاب من الإقدام على الموت، ولا ترهب من اقتحام لجج الحرب المدمرة ، لما كان يستطيع التقدّم نحو العدوّ حتى شبر واحد، ولا أن يدنو من العلقمي بمقدار أنملة، فكيف بأن يقتحمه ويملأ الوعاء منه ؟ فما ظهور بطولته الجسمية وبروز قوته الجسدية، إلّا عن دافع الروح القوية، وقدرتها المعنوية العالية.

ص: 142

ألم تسمع بخبر ابن الحنفيّة في وقعة الجمل وذلك على ما اشتهر عليه ابن الحنفيّة من البطولة والشجاعة ؟ فإنّه لمّا أمره أبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بأن يحمل على القوم، تريّث وأبطأ عن مهاجمتهم ومداهمتهم ، فلمّا استفسر (علیه السّلام) منه عن سبب تثاقله، أجاب: بأنه يتريث انقطاع رشق السهام التي تتوالى نحوه كالمطر ، فدفع (علیه السّلام) في صدره وقال له : لقد أصابك عرق من أمّك، ممّا يظهر منه أن موقف الله ابن الحنفيّة أمام رشق السهام مع قوته الجسدية الفائقة، كانت قد نتجت من ضعف الروح التي لحفته من اَمّه ، وإلا فأبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو من يُضرب بقوة روحه وعلوّ معنوياته المثل، بينما أمّ أبي الفضل العباس (علیه السّلام) هي أم البنين (عليها السلام) المعروفة له بتها العريق في الشجاعة والبطولة، والتي قد ورثت من آبائها الفروسية والشهامة وورّثته ابنها أبا الفضل العباس (علیه السّلام)، فأبو الفضل (علیه السّلام) وريث شجاعة أبيه أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأمه أم البنين (عليها السلام)، ولا كلام في شجاعة مثله (علیه السّلام) روحاً وجسداً.

[المواساة : بطولة معنوية]

أضف إلى كلّ ذلك بطولته الروحية الأخرى، التي هي أعظم كل البطولات الروحية، وأكبر كلّ القدرات المعنوية، التي شهدها العلقمي من أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ألا وهي بطولة المواساة، وقدرة التغلب على النفس ، وزمّ جماحها إلى الماء، وتلهفها إلى شربه ، فإنّ إنساناً مثل أبي الفضل (علیه السّلام) قد كابد شح الماء وقلّته، وأعطى حصته من الماء لأطفال أخيه العطاشى، وعانا من ثقل الحديد ومطاردة الأعداء ، وقاسى حرّ الشمس وحرّ الحرب، حتى أصبح فؤاده كالجمر، وقلبه كالبركان، قد دخل العلقمي وأحسّ ببرده، فكان من الطبيعي له ، وبدافع حس العطش الكبير، والظمأ الشديد، وعبر حركة طبيعية، أن تمتد يداه إلى الماء

ص: 143

وتغترف منه غرفة لتقربه من فمه حتى يُطفئ بها فورة العطش، ويُخمد عبرها اوار الظمأ ، وكان هذه الغرفة من الماء وتعقيبها بثانية وثالثة واستساغتها ، لكن حاشا لمثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ربيب أمير المؤمنين (علیه السّلام) والمتر عرع في حجر أم البنين ، أن ينزل إلى ما تتطلبه طبيعته الجسدية، ويسف إلى مستوى غرائزه الجسمية، وقد تعلّم من أبيه وأمه كيف يحلّق في سماء الفضيلة، ويعلو في أجواء المعنويات الروحية، وكيف يكبح جماح نفسه ويغلب فورة هواه، ولذلك عندما قرب الماء من فمه وتذكّر عطش أخيه الإمام الحسين الله صب الماء على الماء ، وملأ القربة ماءاً وخرج من العلقمي متجهاً نحو الخيام وهو يخاطب نفسه ويقول:

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين

[جفاف العلقمي واندثاره]

نعم، لقد شهد العلقمي هذه البطولات الروحية والجسمية من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأعجب بها ، كما أعجب بصاحبها الأبي، وراعيها الوفي، أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وراح يهتز له سروراً، ويموج به مرحاً، ويتبختر اعتزازاً وافتخاراً، لكنّه لمّا شهد مصرع هذا الشهم النفل ، واغتيال هذا الطاهر المبارك، على مقربة من شواطئه وسواحله وضفافه وحافته، وهو ضامئ عطشان، وذلك على أيدي الغدرة الفجرة ، والخونة الكفرة، أصيب بخيبة أمل كبير ، وفجع بمن كان قد اعتز به وافتخر، وبقي متحيراً لا يدري ما يفعل، ولا يعرف كيف يتصرّف في ردّ فعل منه على هذه الأمور الصعبة التي وقعت بجواره، والظروف القاسية التي جرت على

ص: 144

مرأى منه ومسمع ؟ حتى إذا وقف على ضفافه الإمام الصادق (علیه السّلام) وخاطبه قائلاً : «إلى الآن تجري - يا علقمي - وقد حرم جدّي منك؟». وبرواية معالي السبطين أنه وقف عليه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) عند رجوعه من الشام وخاطبه بقوله : منعت ماءك - يا علقمي - عن أبي عبد الله (علیه السّلام) وتجري ؟». فاستحيى العلقمي من ذلك وعرف من مخاطبة الإمام الصادق (علیه السّلام) أو مخاطبة الإمام السجاد (علیه السّلام) له كيف يتعامل مع الواقع المرّ الذي شهده والمنظر المفجع الذي رآه فغار من حينه، وجفّ الماء، وصار العلقمي بعد ذلك أثراً تاريخياً مسطوراً في كتب التاريخ ومدوّناً في ذاكرة الأيام، حيث صار العباس (علیه السّلام) يُنسب في بطولته وشجاعته إلى هذا النهر ، ويعرف من بعد ذلك ببطل العلقمي .

ولنعم ما قيل في هذا المعنى:

يا من إذا ذكرت لديه كربلا *** لطم الخدود ودمعه قد أهملا

مهما تمرّ على الفرات فقل: ألا *** بُعداً لشطك يا فرات فمرّ لا

تحلو فإنّك لا هني ولا مري

أيُذاد نسل الطاهرين أباً وجد *** عن ورد ماء قد أبيح لمن ورد

لو كنت يا ماء الفرات من الشهد *** أيسوغ لي منك الورود وعنك قد

صُدّ الإمام سليل ساقي الكوثر

ص: 145

الخصيصة التاسعة عشرة: «في أنه (علیه السّلام) كبش الكتيبة»

عباس كبش كتيبتي وكنانتي *** وسري قومي بل أعز حصوني

وقال الأزري في رثائه للعباس (علیه السّلام):

اليوم بان عن الكتائب كبشها *** اليوم فلّ عن البنود نظامها

الكبش يطلق على البطل الشجاع الذي يعجز عن مقاومته الأبطال والشجعان، علماً بأنّ الشجاعة هى : قوّة القلب، ورباطة الجأش ، فقد روي روي أن كسرى أنو شيروان سأل الحكيم «بوذرجمهر» عن الشجاعة ما هي ؟ فأجاب : إنّها قوة القلب. فقال له كسرى لم لا تقول : إنها قوة اليد ؟ فأجاب: إن قوة اليد فرع على قوة القلب .

كما يطلق الكبش أيضاً على مقدّم الجيش أميراً كان أو ملكاً، ويطلق أيضاً على سيّد القوم وقائدهم، والكتيبة يعني الجيش.

وفي العرف : إنّ الكبش لا يُطلق في الحرب على أحد إلا على من تكاملت فيه معاني البطولة، واجتمعت فيه خصال الرجولة والفروسية، ولذلك لم يطلقوا هذا اللقب في الإسلام على أحد قبل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) إلا على الأشتر : مالك بن الحارث النخعي، صاحب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حيث كانوا يطلقون عليه لقب : كبش العراق، وقد عرف به.

ص: 146

[كبش الكتيبة وسام عظيم]

ثمّ إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو الذي فاز بهذا اللقب الكبير : كبش الكتيبة ، من بين أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) وأهل بيته الذين استشهدوا معه في يوم عاشوراء، ولقد وسمه به اخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) ومنحه إياه تقديراً له على شجاعته وبطولته ، وتبجيلاً إيّاة على شهامته ومراجله، فلقد كان ظهراً للإمام الحسين (علیه السّلام) على أعدائه، وأمناً لأطفاله ونسائه، ورعباً في قلوب مناوئيه والمجتمعين على قتاله فإنّ جيش ابن سعد كانوا يهابونه مهابة الكلب الأجرب من الأسد الغاضب ، ويخافون منه خوف الثعلب الجبان من الليث الغضبان.

وما قصة عرض الأمان عليه الذي جاء به الشمر من عند ابن زياد، ولعبة إغرائه بالمال، وعرض إمارة جيش ابن زياد عليه ، إلاّ خوفاً من سيفه وصارمه، وذعراً من صولاته وسطواته، وتخلّصاً من شدّته وبأسه، فلقد كانوا عرفوه من صفّين ، وها بوه منها ، لما أبدى فيها من شجاعة وشهامة ، وصلابة وبسالة ، فكانوا لا ينامون ولا يهدأون خوفاً من قوة ساعده، وفتك صمصامه ، حتى قيل فيه:

قسماً بصارمه الصقيل وإنني *** في غير صاعقة السما لا أُقسم

لولا القضا لمحا الوجود بسيفه *** والله يقضى ما يشاء ويحكم

[مصرع كبش الكتيبة]

ولذلك لمّا صُرع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) واستشهد صابراً مظلوماً ، اشتدّ الحال على الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وقال حين وقف على مصرعه معبراً عن ذلك : الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوّي ، وأما حال المعسكرين : معسكر

ص: 147

الإمام الحسين (علیه السّلام) من نساء وأطفال، ومعسكر ابن سعد من خيّالة ورجالة، فقد أصبح كما قال الأزري فيهم :

اليوم نامت أعين بك لم تنم *** وتسهَّدت أخرى فعز منامها

يعني : إنّ أعين الأعداء التي كانت قد بقيت ساهرة خوفاً من سيف أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، و صارمه ، وذعراً من صولته وسطوته، قد أمنت بعد مصرعه ونامت هانئة بعد مقتله، بينما حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والأطفال والنساء، الذين كانوا يعتزون بوجود أبي الفضل (علیه السّلام)، ويفتخرون بأنه في معسكرهم، وينامون آمنين لأنّ لا عيني أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ساهرة في حمايتهم ، ويرقدون مطمئنين لأن قلب أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يقظان لحراستهم أصبحوا بعد قتله خائفين، وعلى أثر مصرعه وَجليْن، قد تسهدت عيونهم وقلقت قلوبهم، فعزّ منامهم، وسهرت جفونهم واستسلموا للأسر والسبي، وتوقعوا السلب والنهب ، وقد وقع كل ذلك بعد استشهاد كبش الكتيبة أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

[إني كبش كتيبتك]

ثمّ إنّه جاء في بعض كتب المقاتل : إنّه لمّا أقبل الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ورآه بتلك الحالة، وقال فيه ما يقوله الأخ الشفيق في فراق أخيه العزيز، أراد أن يحمله بعدها إلى المخيم، فقال له العباس (علیه السّلام): وما تريد أن تفعل يا أخي ؟ فقال (علیه السّلام): أريد أن أحملك إلى المخيم، فقال العباس (علیه السّلام): سألتك بحق جدك رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لما تركتني في مكاني هذا. فقال (علیه السّلام): ولماذا يا أخي يا أبا الفضل ؟ فقال أبو الفضل (علیه السّلام): إني مستح من ابنتك سكينة ، فقد وعدتها بالماء ولم آنها به، ثمّ إنّي كبش كتيبتك، فإذا رآني أصحابك

ص: 148

مقتولاً ، فلربما قل ،عزمهم، ووهنت إرادتهم، فقال له أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) وهو يشكره على موقفه الجميل، وشعوره الطيب: جزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حياً وميتاً.

وهكذا كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) فلقد نصر أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في حياته، ولم يقصر عن نصرته حتى بعد مصرعه و استشهاده، وكلامه المذكور آنفاً إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على كبير وفائه، وعظيم اخلاصه وتأدبه مع أخيه وسيده أبي عبدالله الحسين (علیه السّلام) وأهل بيته، كما أنه يدل على مهارته بفنون الحرب، وخبرته بتعاليم القتال والمجابهة، ممّا يدلّ كلّ ذلك على أنه (علیه السّلام) قد نال بجدارة و وسام: كبش الكتيبة، أو: كبش كتيبة الإمام الحسين (علیه السّلام).

ص: 149

الخصيصة العشرون : «في أنه (علیه السّلام) حامي الظعينة»

حامى الظعينة أين منه ربيعة *** أم أين من عليا أبيه مكدم

في كتفه اليسرى السقاء يقله *** وبكفّه اليمنى الحسام المخذم

مثل السحابة للفواطم ريه *** ويصيب حاصبه العدوّ فيرجم

الظعينة هي المرأة في الهودج ، وجمع الظعينة هو : ظعائن وظُعُن، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو حامي الظعينة، وحامي الظعن، وحامي ظعينة كربلاء ، له وحامي ظعينة الإمام الحسين (علیه السّلام)، بل حامي عن الرسالة والنبوة ، كما كان أخوه الإمام أبو عبدالله الحسين (علیه السّلام) حامي الشريعة وأحكامها، وحافظ الكتاب وحدوده، ومن أحكام الشريعة، وحدود الكتاب : حماية الظُّعن وكفالة الظعينة ، فكان الإمام الحسين (علیه السّلام) كباقي الأئمة من أهل البيت (علیهم السّلام) هو حافظ أساس هذا الحكم الإسلامي الإنساني، وحامي أصله وفرعه، وقد وكل أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لهذه المهمة الإنسانية والإسلامية وهي حماية الغن، حتى يقوم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بحماية موكب النساء والأطفال ذراري رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وحريمه ، الذين اصطحبهم معه في سفره إلى العراق، فقام بها أحسن قيام، وأداها أجمل أداء، حتّى عُرف منها بهذا اللقب الكريم، ووسم بهذا الوسام العظيم: حامي الظعينة .

ص: 150

إنّ الغيرة الإسلاميّة والإنسانية، والكرامة النفسيّة والإجتماعيّة، تحت الإنسان إلى حماية نسائه وأطفاله، وتحضّه على توفير الأمن والأمان لهم، وتدعوه إلى حياطتهم ورعايتهم، وذلك في كل مكان وزمان، في السفر والحضر وفي الحل والترحال، وفي النزول والركوب، ومن أولى برعاية هذا الخلق النبيل من مؤسس الأخلاق ومهذبه ، ومعلّم الإنسانية ومزكيها، ومبلغ الإسلام وحاميه، الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام)، ولذلك كانوا (علیهم السّلام) إذا أرادوا الهلالي بنسائهم وأطفالهم السفر ، أركبوهم في هوادج مغطاة بأغطية، ومسدّلة بستور حتى يأمنوا من نظر الأجانب ، ويحفظوا من الحرّ والبرد، وكذلك فعل الإمام الحسين (علیه السّلام) حين خرج بنسائه وأطفاله من مدينة جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) متجهاً نحو مكة المكرمة ومنها إلى العراق، وأوكل بذلك أخاه الأغر، وعضيده الوفي أبا الفضل العباس (علیه السّلام)، وكان موكب النساء على أثر ذلك قرير العين ، هادىء البال ، مطمئن النفس والقلب ، إذ على رأسه سيّده الإمام الحسين (علیه السّلام) وفي حمايته أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وسائر أبطال بنى هاشم.

[مع ربيعة بن مكدم]

وفي البيت الأوّل الذي جعلناه مطلع هذه الخصيصة، يقول ناظمها السيد جعفر الحلّي وهو يخاطب أبا الفضل العباس (علیه السّلام): لقد نال أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وبكل جدارة لقب حامي الظعينة، وتفوّق في تضحيته من أجل ظعائن الرسالة والإمامة على جميع أقرانه ممّن ضُرب به المثل في هذا المجال : كربيعة بن مكدم الكناني، وكان ربيعة واحداً من بني فراس بن غنم ، حيث عرف بحامي الظُّعن حيّاً وميتاً ، وأثنى عليه الشعراء، وتغنّوا بموقفه الشجاع فخراً واعتزازاً، وترنّموا بكبير

ص: 151

شهامته ، وشدّت غيرته على عنه، في كلّ موطن وموقف ، وكان من قصته على ما حكي من مجمع الأمثال عن أبي عبيدة : إنّ نبيشة بن حبيب السلمي خرج غازياً، فلقي طعناً من كنانة بالكديد، فأراد أن يحتويها ، فمانعه ربيعة بن مكدم في فوارس ، وكان غلاماً له ذؤابة، فشدَّ نبيشة فطعنه في عضده، فأتى ربيعة أمّه وقال :

شدّي عَلَيَّ العصبَ أُمَّ سيّار *** فقد رزنت فارساً كالدينار

فأجابته أمه قائلة :

إنا بني ربيعة بن مالك *** نُزرء في خيارنا كذلك

مابين مقتول وبين هالك

ثمّ ضمّدت له جراحه وعصبته ، فلمّا أراد أن يذهب إلى القوم استسقاها ماءاً فقالت له أمّه : إذهب فقاتل القوم، فإنّ الماء لا يفوتك ، فرجع وكر على القوم فكشفهم، ورجع إلى الظعن وقال لهنّ : إنّي ميّت من هذه الطعنة، ولكن سأحميكن ميتاً كما حميتكنّ حيّاً، وذلك بأن أقف بفرسي على العقبة وأتكىء على رمحي، فإذا فاضت نفسي كان الرمح عمادي، فالنجاء النجاء، فإنّي أردّ بعملى هذا وجوه القوم ساعة من النهار ، فقطعت الظعن العقبة، ووقف هو بإزاء القوم على فرسه متكاً على رمحه، ونزف منه الدم إلى أن فاضت روحه ومات وهو يتمنّى أن يأتي إليه من يحمله إلى أهله ويجعله بينهم لكن خاب أمله ومات وهو معتمد على رمحه كانه حيّ، والقوم بإزائه يحجمون عن الإقدام عليه، فلمّا طال وقوفه في مكانه ورأوه لا يزول عنه رموا فرسه، فقمص الفرس وسقط ربيعة لوجهه على الأرض، فعلموا أنه ميت، فتوجّه القوم عندها في طلب الظُّعن، فلم يلحقوهنّ، ومن هذه القصّة اشتهر: أنه لم يُعرف قتيل حمى الظعائن مثل ربيعة بن مكدم.

ص: 152

بين ربيعة والعباس (علیه السّلام)]

ولكن أين ربيعة بن مكدم من أبي الفضل العباس (علیه السّلام)؟ إن ربيعة لو كان حيّاً لافتخر بغيرة العباس على ظعائنه، ولاندهش من شدّة غيرته، وعظيم حيطته ورعايته لظعائنه، إنّ ربيعة لمّا طعن راح يلتجىء إلى أمه كي تضمد جرحه و تعصبه ، فتقوم أُمّه بتشجعيه وبعث الحميّة فيه . بينما العباس الا لما قطعوا يمينه أخذ يرتجز ويقول ما يبعث الغيرة في نفس كلّ سامع، والحمية في قلب كلّ إنسان حرّ ، إنّه كان يقول : يمناي لديني ولإمامي - الذين علماني حماية الظُّعن والغيرة على الأهل والعيال وخاصة على مثل ربيبات الرسالة والإمامة - الفداء والوقاء . نعم، إنّ ربيعة بن مكدم يطلب الماء من أمّه ليروّي به عطشه، فتصرفه اُمّه عن شرب الماء وتوقفه على أن حماية الظعن أهم من انشغالك بشرب الماء وهنّ

معرضات للخطر، بينما أبو الفضل العباس يدخل العلقمي فاتحاً للماء، ويقتحمه مستولياً عليه، ويدني الماء من فمه، ويقربه إلى فيه بلا أي مانع ولا رادع ودون ، أيّ انشغال به أو تتبّط له على الأمر الأهم، الذي هو حماية ظعائن الرسالة والإمامة، فإنّه مع أنّ الماء فى متناوله ورحابه والشرب جائزاً له ومباحاً عليه، أعرض عن شرب الماء مواساة لأخيه وسيّده الإمام الحسين ولظعائن النبوّة والولاية، وصرف نفسه عن الإلتذاذ بشرب الماء مع شدّة عطشه، وعظيم ظمئه، ليشتغل بالأهم من ذلك ألا وهو حماية الظعن والسقاية لهنّ.

إنّ ربيعة يقف بفرسه على العقبة، ويتكيء على رمحه، حتى إذا نزف دمه ومات يبقى معتمداً على رمحه، إنّه أراد بذلك ردّ وجوه القوم عن الظعائن ساعة من النهار، ثمّ لمّا رموا فرسه وقمص الفرس سقط على وجهه إلى الأرض ميّتاً،

ص: 153

فعل ربيعة كلّ ذلك ولكنّه كان يتمنّى عند سقوطه أن يأتي إليه من يحمله إلى أهله، ويجعله بين أسرة، وينقذه من غربته ووحدته، بينما أبو الفضل العباس (علیه السّلام) لما سقط من على ظهر جواده وأتاه أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) كالصقر المنقض، وأراد أن يحمله إلى المخيّم ، يأبى عليه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) ذلك، ويُقسمه بحق جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يدعه في مكانه، حتى لا تندهش الظعائن بقتله، ولا تنذعر ربيبات الرسالة والإمامة بنبأ استشهاده، وحتى لا يستسبع العدو لفقده، ولا يتجاسر على اقتحام المخيم بعد موته، ولو ساعة من النهار، أي: بمقدار ما بقي خبر شهادته مخفياً عليهن وعليهم .

[الإمام الحسين (علیه السّلام) وحماية الظعائن]

وهكذا، فاق أبو الفضل العباس (علیه السّلام) كلّ أقرانه فى هذه المكرمة النبيلة، وزاد عليهم جميعاً في التضحية من أجلها، والفداء في حمايتها، حياً وميتاً، حتى صار هو وحده الجدير بهذ اللقب الكريم : حامي الظعينة .

نعم إن الإمام الحسين (علیه السّلام) و هو الإمام المنصوص عليه من عند الله تبارك وتعالى، والإمام المنصوص عليه هو إمام في كل المحاسن والمكارم، ومنها مكرمة حماية الظعن، ولذلك يكون الإمام الحسين (علیه السّلام) هو السباق حتى في هذه المكرمة، ويكفى له دليلاً موقفه (علیه السّلام) بعد سقوطه من على ظهر جواده في يوم عاشوراء، حيث أنه (علیه السّلام) بقي بعدها مدّة طريح الأرض ، وقد أعياه نزف الدم والقوم يهابون الدنو منه ، والإقتراب إليه ، وقد اختلفوا بينهم في حياته وموته ، فمن قائل أنه قد مات، ومن قائل : إنّه لم يمت وإنّما عمل هذا مكيدة ، فقال شمر بن ذي الجوشن : أقصد وا مخيمه، فإن كان حيّاً لم تدعه غيرته الهاشمية أن يسكت عنكم،

ص: 154

فقصدوا الخيام فتصارخت النسوة وعلا أصواتهن، فأراد الإمام الحسين (علیه السّلام) النهوض إليهم فلم يستطع ، فنادى بهم: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان ! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إذ كنتم أعراباً .

فناداه شمر وقال: ما تقول يا ابن فاطمة ؟

قال : أقول : أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا متاتكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّاً .

فقال شمر : لك هذا، ثمّ صاح بالقوم : إليكم عن حرم الرجل، فاقصدوه في نفسه ، فلعمري لهو كفو كريم ، فقصده القوم وعطفوا عليه.

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الحسيني حيث يقول :

قال اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي *** قد حان حينى وقد لاحت لوائحه

فالإمام الحسين (علیه السّلام) إذن هو مؤسس هذه المكارم والمضحي من أجلها، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو خير من اقتدى بأخيه وإمامه ، الإمام الحسين (علیه السّلام) وفاز السبق في هذه المكرمة، ونال وسام: حامي الظعينة، وحامي الظعن، وحامي ظعينة الإمام الحسين (علیه السّلام) بجدارة.

ص: 155

الخصيصة الواحدة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) المعروف بسبع القنطرة»

السَّبْع : يقال للأسد ولكلّ حيوان مقدام فتاك، ويطلق على الرجل الشجاع البالغ في الشجاعة والإقدام.

والقنطرة : يقال للجسر ولكلّ ما يبنى على الماء من أنهار وجداول للعبور.

وسبع القنطرة : يعني : الرجل الشجاع الذي حمى الجسر من عبور الأعداء عليه ، وأثبت من نفسه جدارة الحراسة للجسر ، وسجّل عليه مواقف بطولية مشرفة .

[كيف عرف (علیه السّلام) بهذه الخصيصة ؟]

وإنما عرف أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بسبع القنطرة، لأنه - على ما روي - قد أبدى من نفسه في حرب النهروان - والنهروان بلد من بغداد بأربعة فراسخ - جدارة - عالية في حراسة القطنرة والجسر الذي كان قد أوكله أبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) مع مجموعة من الفرسان بحفظه يوم النهروان من الخوارج، وسجّل عليه مواقف شجاعة، وبطولات هاشمية ومشرّفة، فإنّه لم يدع بشجاعته وبسالته جيش الخوراج أن يعبروا من عليه، ولا أن يجتازوه إلى حيث يريدون ، بل صمد أمامهم بسيفه وصارمه، وصدّهم عمّا كانوا ينوونه بعزمه وبأسه، ولذلك لما دخل وقت

ص: 156

الصلاة وطلب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ماءاً يتوضأ به، أقبل فارس والإمام (علیه السّلام) يتوضأ وقال : يا أمير المؤمنين لقد عبر القوم، ويقصد بهم : الخوارج وإنهم عبروا القنطرة التي أوكل بها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ابنه العباس (علیه السّلام) مع مجموعة من الفرسان .

فلم يرفع الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إليه رأسه ، ولم يلتفت إليه ، وذلك وثوقاً منه بشجاعة ولده المقدام أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، الذي أوكله بحفظ القنطرة من سيطرة الأعداء، وأمره بحراستها من عبورهم عليها وتجاوزهم عنها .

هذا مضافاً إلى ما أخبره به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الله في شأن الخوارج، وما يؤول إليه أمرهم وفتنتهم ، وما أطلعه (صلی الله علیه و آله و سلم) على جزئيات قضيّتهم ، وكيفية مقاتلتهم له ، ومواقع نزولهم وركوبهم، وسوء عواقبهم ومصارعهم.

على أثر ذلك كلّه أجاب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لذلك الفارس بقوله : إنهم ما عبروا، ولا يعبرونه، ولا يفلت منهم إلا دون العشرة، ولا يقتل منكم إلا دون العشرة ، ثمّ قال (علیه السّلام) يؤكد ذلك : والله ما كذبت ولا كذبت .

فتعجّب النّاس من كلام الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لذلك الفارس، وكان هنالك مع الإمام رجل وهو في شك من أمره ، فقال : إن صح ما قال : فلا أحتاج بعده إلى دليل غيره، فبينما هم كذلك إذ أقبل فارس فقال : يا أمير المؤمنين ! القوم على ما ذکرت ، لم يعبروا القنطرة .

[مع خوارج نهروان]

ثمّ إنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) صلّى بالنّاس صلاة الظهر، وأمرهم بالمسير إليهم وهم دون القنطرة، ثمّ حمل (علیه السّلام) عليهم بأصحابه حملة رجل واحد - وذلك

ص: 157

بعد أن أتم (علیه السّلام) الحجّة عليهم واستنابهم ممّا جنوه من قتل عبدالله بن خبّاب، وبقر بطن زوجته وإخراج طفلها وقتله، فرجع منهم ثمانية آلاف، وبقي أربعة آلاف لم يتوبوا ، وقالوا له : لنقتلنّك كما قتلناه - فحمل (علیه السّلام) عليهم، واختلطوا، فلم يكن إلا ساعة حتّى قُتلوا بأجمعهم ، ولم يفلت منهم إلّا تسعة أنفس.

فرجلان هربا إلى خراسان وإلى أرض سجستان وبهما نسلهما.

ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يسمّى : السن.

ورجلان صارا إلى بلاد عمّان وفيها نسلهما إلى الآن.

ورجلان صارا إلى بلاد اليمن.

ورجل آخر هرب إلى البرّ ثمّ بعد ذلك دخل الكوفة وهو : عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

كما أنه لم يقتل من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) تسعة.

فكان كما أخبر به أمير المؤمنين (علیه السّلام) تماماً، من دون زيادة ولا نقصان .

ص: 158

الخصيصة الثانية والعشرون: «في أنه (علیه السّلام)المعروف بالضيغم»

حتّى إذا اشتبك النزال وصرّحت *** صيد الرّجال بما تجنّ وتكتم

وقع العذاب على جيوش أميّة *** من باسل هو في الوقائع معلم

ما راعهم إلا تقدّم ضيغم *** غيران يعجم لفظه ويدمدم

الضيغم هو الأسد، ويقال للرجل الشجاع البالغ في الشهامة والشجاعة، والبطولة والإقدام، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) عرف بين الناس بالضيغم لكبير شهامته، وعظيم شجاعته، وشدّة بأسه ، وخفّة ساعده ، فقد كان إذا قابله العدو وواجهه ، ضربه بضربة قاضية تأتي على حياته، ولكن من سرعة الضربة، وخفّة الساعد، وحدة السيف، وقوّة ،القبضة، كان لا يلتفت المضروب إلى ما جرى عليه، فلو أنه (علیه السّلام) كان قد ضرب رقبته، بقي رأسه ثابتاً على جنته ، فإذا فرّ لينجو بنفسه ، وتحرّك ، سبقه الرّأس متقدّماً على الجنّة، وسقط ومات، وقد وصف السيد جعفر الحلّي هذا المعنى من شجاعة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في قصيدته حيث يقول :

ما كرّ ذو بأس له متقدّماً *** إلا وفرّ ورأسه المتقدم

[مع أبي أيوب الهمداني]

وجاء في كتاب صفّين لنصر بن مزاحم، عن أبي روق الهمداني، عن أبيه،

ص: 159

عن عمّ له يدعى بأبي أيوب ، قال : حمل يومئذ أبو أيوب على صفوف أهل الشام، ثم رجع ، فوافق رجلاً صادراً قد حمل على صفوف أهل العراق ثم رجع، فاختلفا بضربتين، فنفحه أبو أيوب فأبان عنقه، فثبت رأسه على جسده كما هو، وكذب الناس أن يكون أبو أيوب قد ضربه ، وأرابهم أمره، حتى إذا دخل في صفوف أهل الشام وقع ميتاً وندر رأسه ، فقال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام): والله لأنا من ثبات رأس الرّجل أشدّ تعجباً منّي لضربته وإن كان إليها ينتهي وصف الضارب، وغدا أبو أيوب إلى القتال، فقال له على (علیه السّلام): أنت كما قال القائل :

وعلّمنا الضرب آباؤنا *** وسوف نعلّمه أيضاً بنينا

[من مواقف العباس (علیه السّلام) في صفين]

ولقد جاء في كتاب الكبريت الأحمر وغيره بأنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد اشترك مع أبيه أمير المؤمنين (علیه السّلام) في حرب صفين، وأبدى من نفسه مواقف بطولية مشرّفة ، أثبتت جدارته لمنازلة الأبطال ومقارعة الأقران ، ولعلّه منها ومن أمثالها عُرف عند الناس بالضيغم واشتهر لديهم به ومن تلك المواقف الشجاعة : موقف احتلال الفرات وإزاحة جيش معاوية عن الماء، فإنّ معاوية كان قد سيطر على الفرات ووكّل به آلاف المقاتلين ليمنعوه عن معسكر الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حتى أضرّ العطش بجيش الإمام (علیه السّلام)، عند ذلك ألقى الإمام (علیه السّلام) خطبة حماسية على ، أصحابه حرّضهم فيها على احتلال الفرات، ثمّ انتدب لهذا الأمر سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الإمام الحسين (علیه السّلام) فحمل الإمام الحسين (علیه السّلام) مع جماعة من الفرسان وكان يعضده أخوه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) حتى احتلوا الفرات وأزاحوا جيش معاوية عنه، وارتووا من الماء، ثمّ إنّهم لم يقابلوا معاوية بالمثل، وإنّما أباحوا الماء لهم ، ولم يمنعوهم عنه.

ص: 160

[العباس (علیه السّلام) بين الصفين]

ومن تلك المواقف الشجاعة لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) في صفين : خروجه مبارزاً بين الصَّفّين وعلى وجهه ،نقاب، فها به الناس وخافوا منه ، فانتدب له معاوية أبا الشعثاء، فكبر على أبي الشعثاء ذلك وأنف من الخروج إليه وقال : إن أهل الشام يعدّونني بألف فارس، فلا يليق بي أن أخرج إليه، ولكن سوف أبعث إليه أحد أولادي وكانوا سبعة، وكلّما خرج إليه واحد منهم قتله، حتى أتى عليهم جميعاً، فغضب أبو الشعثاء غضباً شديداً، وامتلأ على هذا الشاب غيضاً وحنقاً، وقال : لأخرجنّ إليه ولأنكلن بقتله والديه ، ثم خرج يشتد نحوه، حتى إذا اقترب منه حمل عليه، فابتدره أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بضربة قاضية، أتت عليه، وألحقته بأولاده السبعة.

عندها خافه جيش معاوية وهابوه، ولم يجرأ أحد منهم بعد ذلك على مقارعته وقتاله، ولا على مبارزته ومنازلته ، ممّا اضطرّ للرجوع إلى وحدته ومقرّه .

هذا من جهة جيش معاوية، وأما من جهة جيش الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فقد تعجبوا من شجاعة هذا الشاب وشهامته، وتلهفوا إلى معرفته والتطلع عليه ، ولذلك عند ما رجع هذا الساب إلى مقرّه، أقبل إليه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو يحبّذه ويستحسنه ، ثمّ أزال النقاب عن وجهه، فإذا هو ولده قمر بني هاشم أبو الفضل العباس (علیه السّلام).

ص: 161

الخصيصة الثالثة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالعبد الصالح»

لعلّ أسمى المنازل، وأرفع المقامات، وأرقى الأوسمة، وأكبر النياشين، لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) هو وسام ونيشان: «العبد الصالح» الذي وسمه به الإمام الصادق (علیه السّلام) وذلك في زيارته المعروفة التي نقلها عنه أبو حمزة الثمالي، والتي لا جاء فيها : «السلام عليك أيها العبد الصالح، المطيع الله ، ولرسوله ، ولأمير المؤمنين، والحسن ، والحسين صلّى الله عليهم وسلّم» فإنّ تركيب كلمة : العبد ، مع كلمة : الصالح، والتعبير به عن الإمام الصادق (علیه السّلام) في حق أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ينبيء لا عن عظيم إيمان أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بالله، وشدّة عبوديته له ، وكبير إخلاصه و تسليمه لأمر الله، وجميل هديه وصلاحه في نفسه، إذ العبودية لله تعالى هي في نفسها منزلة المعصومين من الأنبياء والأوصياء، وما مدح الله أنبياءه إلا بأنهم عباده ، كما لم يعتز الأنبياء والأولياء إلا بكونهم عباد الله، فإذا قرنت العبودية لله بالصلاح والهدى، ازدادت نضارة وجمالاً، وعلوّاً وارتفاعاً.

[عباد الله الصالحون في القرآن]

قال تعالى في خصوص «عباده الصالحين» مبشراً لهم من بين الناس كلهم بوراثة الأرض ، والتمكين منها ، وإقامة العدل والقسط فيها : ﴿ولقد كتبنا في الزبور

ص: 162

من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ قال الإمام أبو جعفر (علیه السّلام) كما في شرح الآيات الباهرة: هم آل محمّد صلوات الله عليهم.

وفي تفسير قوله تعالى : ﴿إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم﴾ قال الإمام العسكري (علیه السّلام) عن آبائه (علیهم السّلام): أي : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ومَنْ يطع الله والرّسول فاولئك مع الين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا﴾ وفي شرح الآيات الباهرة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : أمّا النبيّون: فأنا، وأما الصدّيقون: فأخي علي ، وأما الشهداء: فعمّي حمزة، وأما الصالحون: فابنتي فاطمة وأولادها الحسن والحسين (علیهم السّلام).

[استنتاج واستنباط]

فعباد الله الصالحون في الآية الأولى كما عن الإمام أبي جعفر (علیه السّلام) - هم آل محمّد صلوات الله عليهم، وإذا كان كذلك ، فإعطاء الإمام الصادق (علیه السّلام) لعمه أبى الفضل العباس (علیه السّلام) وسام : «العبد الصالح» إدخال له (علیه السّلام) في آل محمد صلوات الله عليهم ، كما أنّ عباد الله الصالحين في الآية الثانية - حسب ما جاء في تفسيرها عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)- : هم ابنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأولادها: الإمامين الهمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام)، ومنح الإمام الصادق (علیه السّلام) عمّه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) نیشان: «العبد الصالح» ، حشر له (علیه السّلام) في أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام).

الا وليس ذلك بعجيب ، ألم يرو عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : القريب من قرّبته المودة ؟ ومَنْ أكبر مودّة من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لإماميه وسيديه، سبطي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانتيه : الإمام الحسن والإمام الحسين (علیهما السّلام)؟

ص: 163

ألم يُنقل عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها كانت تدعو العباس (عليها السلام) ابناً لها، وتعدّه في زمرة أولادها ، وذلك تقديراً لإخلاصه (علیه السّلام) ومودته، وشكراً له على تضحيته وحسن بلائه ؟

وممّا يُذكر شاهداً على ذلك : قصة ذلك الزائر المعروف بالصلاح والسداد، والخير والتقوى، الذي كان يزور الإمام الحسين (علیه السّلام) في كل يوم مرتين أو ثلاث مرّات، ولا يزور أبا الفضل العباس (علیه السّلام) إلا مرّة واحدة في كل عشرة أيام. فإنه - بحسب نقل أحد العلماء الثقاة - رأى ذات ليلة في المنام فاطمة الزهراء (عليها السلام) فتقدّم إليها وسلّم عليها ، فأعرضت عنه ولم تعبأ به ، فتأثر من ذلك وأحس بالتقصير من نفسه، وأخذ يعتذر منها قائلاً: إنّي أعترف بالتقصير ولكن أريد يا سيدتي ، أن تعرفيني بتقصيري حتى اجتنبه ولا يتكرّر عندي، فقالت (عليها السلام): إن تقصيرك هو الإقلال من زيارة ولدي فأجاب وبكل انشراح قائلاً: إني أزوره يا سيدتي في كلّ يوم أكثر من مرّة، وأحياناً تصل زيارتي إلى ثلاث مرّات، ولست تاركاً لزيارته (علیه السّلام)، فقالت (عليها السلام): صحيح إنّك تزور ولدي الإمام الحسين (علیه السّلام) كذلك ، ولكنك لا تزور ولدي العباس (علیه السّلام) قليلاً.

نعم ، كان كل ذلك وليس هو ببعيد ، فقد تواتر عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال في حق سلمان الفارسي: «سلمان منا أهل البيت» وتواتر عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) النهي عن تسمية سلمان باسم «سلمان الفارسي» وأمر بأن يسمّوه باسم «سلمان المحمدي» وإذا كان مثل ذلك في حق سلمان تقديراً لمحبته وولائه، وشكراً له حسن فعاله وعظيم بلائه، فليس هو عن أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بغريب مع عظيم بلاء أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يوم عاشوراء، وكبير عنائه في الله تعالى، وجميل تضحيته من أجل سيده وإمامه وأخيه الإمام أبي عبد الله الحسين (علیه السّلام).

ص: 164

[الإمام الكاظم (علیه السّلام) ووسام : «العبد الصالح»]

وممّا يدلّ على أنّ وسام «العبد الصالح» لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) ادخال له : في آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وحشر له في أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، هو : منح الله تعالى الإمام الكاظم موسى بن جعفر (علیه السّلام)- الذي هو من آل محمّد صلوات الله عليهم بنص رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وهو أيضاً من أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من حيث النسب - وسام العبد الصالح كما في تلك القصة المعروفة، المنقولة في المناقب عن كتاب الأنوار، وهي أنّ هارون العباسي كان يحاول : بشتى الوسائل والطرق أن ينال من شخصيّة الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) وأن يخدش سمعته، فكان يتذرّع بكلِّ الحِيَل والمكائد لإلقاء التهمة على الإمام (علیه السّلام)، ويسعى في الإفتراء عليه، حتى يتمكن من قتله والإنتقام منه علانية، وذات مرّة فكّر في حيلة جديدة وهي : أن ينفذ إلى الإمام جارية له كانت ذات جمال ووضاءة بعنوان : أنها تخدمه في السجن ، ليتسنّى له أن يتهمه عبرها ، ويفتري عليه بواسطتها.

فلمّا أنْ جاء بها السجّان إلى الإمام (علیه السّلام) رفض قبولها منه وقال له : قل لهارون: ﴿بل أنتم بهديتكم تفرحون﴾ إنه لا حاجة لى فى هذه ولا فى أمثالها.

فلما رجع السجان إلى هارون وأخبره بالخبر استطار هارون غضباً وغيضاً وقال : ارجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ، ولا برضاك أخذناك ، ثم اترك الجارية عنده وانصرف .

فعل السجّان كلّ ما أمره به هارون وترك الجارية في السجن عند الإمام (علیه السّلام) ورجع.

ص: 165

عندها قام هارون من مجلسه وأنفذ الخادم إليه ، ليتجسس عن حالها، ويستعلم أخبارها، ولكن ما راع الخادم إلا أن رأى الجارية قد وقعت على الأرض ساجدة لربّها ، لا ترفع رأسها من سجدتها ، وهي في سجودها تكرّر تقديس ربّها وتنزيهه وتقول : قدوس قدوس، سبحانك سبحانك ، فهرع الخادم إلى هارون ورفع إليه خبرها .

وهنا حيث رأى هارون عكس ما كان يتوقعه من مكيدته هذه، فإنّه كان يحاول بها النيل من الإمام (علیه السّلام) والتذرّع عبرها لإلصاق التهمة به والإنتقام منه وقتله (علیه السّلام)، بينما قد انقلبت مكيدته إلى منقبة للإمام (علیه السّلام) و ورفعة لشخصيّته ومقامه، ولذا تشبّث بكيل التهمة المتعارفة لدى فراعنة كلّ زمان ، وهو القذف بالسحر، فالتفت إلى من كان عنده وقال : سحرها والله موسى بن جعفر بسحره.

[تحوّل وانقلاب]

ثمّ قال هارون: عَلَيَّ بالجارية، فأتي بها وهي ترعد شاخصة ببصرها نحو السماء، فانتهرها هارون قائلاً: ما شأنك؟

قالت: شأني الشأن البديع، إنّي كنت واقفة عند «العبد الصالح» وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلما انصرف عن صلاته التفتُ إليه وهو يسبّح الله ويقدسه وقلت يا سيّدي هل لك حاجة أعطيكها ؟

فقال لي متسائلاً: وما حاجتي إليك ؟

قلت : إنّي أدخلت عليك لحوائجك .

فقال وقد أشار بيده إلى جانب من السجن : فما بال هؤلاء ؟

قالت: التفتُ إلى جانب الإشارة ونظرت فإذا روضة مزهرة غنّاء، لا أبلغ

ص: 166

آخرها من أوّلها بنظري، ولا أوّلها من آخرها فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصايف، لم أر مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل، والدرّ والياقوت، وفى أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كلّ الطعام، فخررت ساجدة لله تعالى، خاشعة لعظمته مسلّمة لأمره ، معترفة بما أنعم به على أوليائه وما أتحفهم به من عظيم كرامته ، وكنت في حالتي هذه حتى أقامني هذا الخادم، فرأيت نفسي حيث كنت .

فغضب هارون عندما سمع ذلك منها وازداد عليها غيظاً وحنقاً، ثمّ أخذ يحاول التمويه لما قالته، والتشويه للحقائق الذي أبدته، والتغطية على السامعين، لذلك قال لها وبكلّ غلظة : يا خبيثة لعلّك سجدتِ، فنمت فرأيتِ ما قصصتيه علينا في منامك، وما ذلك إلا أضغاث أحلام، فقالت وهي منبهرة بما رأته من الواقع، ومتأثرة به : لا والله ما رأيت كلّ ذلك إلا قبل سجودي، وإنما سجدت لمّا رأيت ما رأيت.

عندها اغتاظ هارون من كلامها بشدّة ، وقال : أقبض إليك هذه الخبيثة، واحبسها حتّى لا يسمع أحد منها هذا الكلام.

قال الخادم: فأخذتُ الجارية وحبستها ، فأقبلت الجارية في الصلاة، وكانت إذا سئلت عن قصتها وقيل لها في ذلك أجابت قائلة : هكذا رأيت «العبد الصالح» (علیه السّلام).

قال : فسئلتها عن قولها: «العبد الصالح».

فقالت : إنّي لمّا عاينت من الأمر ما عاينت، ورأيت ما رأيت، نادتني الجواري يا فلانة: أبعدي عن «العبد الصالح» حتى ندخل عليه، فنحن له دونك . ثمّ قال : فما زالت كذلك حتى ماتت قبل الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) بأيام يسيرة .

ولا يبعد أن هارون أمر بدس السم إليها كما أمر بدس السم إلى الإمام الكاظم موسى بن جعفر (علیه السّلام).

ص: 167

[السّلام على العباس (علیه السّلام) في الصلاة]

إذن فكما أنّ الإمام موسى بن جعفر (علیه السّلام) الذي هو من أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهو من آل محمّد صلوات الله عليهم، يدعى عند الله باسم : «العبد الصالح» فكذلك يكون أبو الفضل العباس (علیه السّلام) عندما دعاه الإمام الصادق (علیه السّلام) باسم : «العبد الصالح»، وإذا كان كذلك شمل أبا الفضل العباس (علیه السّلام) التحية والسلام المخصوص في تسليم الصلاة، حيث نقول في التسليم الثاني : أي بعد التسليم على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بقولنا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، نقول بعدها : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقولنا هذا في تسليم الصلاة يشمل - وبكل كفاءة - ابا الفضل العباس (علیه السّلام) أيضاً ، فكلّ مصلِّ مسلم هو في الواقع يدعو لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) ويسلّم عليه في صلاته، وذلك في كل يوم خمس مرات على الأقلّ، وهذا حظ عظيم لا يناله إلّا من هو أهل له كأبي الفضل العباس (علیه السّلام).

ص: 168

الخصيصة الرابعة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالعابد»

قال الله تعالى: ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾

وقال الإمام الصادق (علیه السّلام): «أفضل طبائع العقل العبادة».

وروى الصدوق في ثواب الأعمال في حق أبي الفضل العباس (علیه السّلام): بأنه كان يُبصَر بين عينيه أثر السجود، وروى أيضاً خبر ورود الرؤس ورأس أبي الفضل العباس (علیه السّلام) إلى الكوفة مسنداً عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة - صاحب أمير المؤمنين (علیه السّلام) وحواريه - أنه قال : قدم علينا رجل من بني دارم ممن شهد قتل الإمام الحسين (علیه السّلام) وحضر وقعة كربلاء، وهو مسوّد الوجه، وكان قبل ذلك رجلاً جميلاً شديد البياض ، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك ، فما هو السبب في ذلك ؟ فقال : بتلكؤ وانفعال : لقد قتلت في كربلاء رجلاً من أصحاب الإمام الحسين أبيض بين عينيه أثر السجود، وجئت برأسه إلى ابن زياد في الكوفة، وهو يعني من الّذي قتله : أبا الفضل العباس (علیه السّلام) الذي كان بين عينيه من كثرة العبادة الله تعالى آثار الهلال العبادة والسجود. قال القاسم : لقد رأيته على فرس له وقد علّق الرأس بلبانها وهو يصيب ركبتها ، فقلت عندها لأبي : لو أنه رفع الرّأس قليلاً حتى لا تصيبه الفرس بيديها، فقال لي أبي : يا بني ما أصيب به هو أشدّ لقد حدثني قائلاً: أنه ما نام ليلة منذ أن قتل العباس بن علي (علیه السّلام) إلا وأتاه في منامه وأخذ بضبعه وقاده منطلقاً به إلى

ص: 169

جهنّم وقذف به فيها، حتّى يصبح. قال القاسم : فسمعت امرأة بذلك الذي قاله لي أبي، وكانت جارة لذلك الرّجل، فقالت مؤيّدة قول أبي : إنّ الرّجل ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه وصراخه، قال القاسم : فقمت في مجموعة من شباب الحي وأتينا امرأة ذلك الرّجل وسئلناها عن أمر زوجها ، فقالت : إنّه قد فضح نفسه، وأبدى سرّه ، وقد صدقكم.

[سمة العابد : الحرية والتحرّر]

سمة العبيد من الخضوع عليهم *** لله إن ضمتهم الأسحار

فإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم *** بيض الصوارم أنّهم أحرار

هذان البيتان من قصيدة للسيد حيدر الحلّي يصف فيها الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه، وفي طليعة أصحابه هو أخوه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) كما هو واضح .

ونظم الدمستاني قصيدة أيضاً في وصف الإمام الحسين (علیه السّلام) والشهداء معه وفي مقدّمة الشهداء أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقد جاء فيها :

ألا ترى أولياء الله كيف قَلَتْ **** طيب الكرى في الدياجي منهم المُقَلُ

يدعون ربهموا في فك عنقهموا *** من رقّ ذنبهموا والدمع ينهمل

نُحْفُ الجسوم لا يُدرى إذا ركعوا *** قسي نبل هموا أم ركَّعٌ نُبل

خمص البطون طوى ، ذبل الشفاه ظمئ *** عُمشُ العيون بكاً ما عبّها كُحُلُ

يقال مرضى وما بالقوم من مرض *** أو خولطوا خبلاً حاشاهموا الخبل

تعادل الخوف فيهم والرجاء فلم *** يفرّط بهم طمع يوماً ولا وجل

إن ينطقوا ذكروا ، أو يسكتوا شكروا *** أو يغضبوا غفروا، أو يُقطعوا وصلوا

ص: 170

[توضيح وتبيين]

نعم، لقد أجاد السيد حيدر الحلّي في بيتيه وأبدع وكذلك أبدع الدمستاني وأجاد، غير أنّ وصف الإمام الحسين (علیه السّلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسائر أصحابه في قصيدة الدمستاني اقتباس من خطبة المتقين التي خطبها أمير المؤمنين (علیه السّلام) في التعريف بالمتقين ، بينما وصف الإمام الحسين (علیه السّلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسائر الشهداء في البيتين من قصيدة السيد حيدر الحلّي تصوير لمعنىً جميل ورد به الكتاب والنصّ الشريف ، وهو : أنّ العبوديّة الله تعالى تساوي الحريّة من كلّ ما هو سوى الله تعالى، فالعابد هو حرّ بمعنى الكلمة ، لأنه بعبادته لله تعالى يستلهم الكرامة والإباء، ويستوحي الحرية وعزّة النفس، والإنسان الحرّ لا يخضع لشيء من التهديد والتطميع، ولا يركع أمام الهوى والمغريات، ولا يكسره م يحدق به من البلايا والرزايا، وما يحيط به من المصائب والشدائد وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) حيث انه كان هو العابد الناصح، والناسك المخلص، فإنّه كان كذلك أيضاً ، إذ هو إلى جنب عبوديته لله تعالى، وظهور آثار السجود على جبهته، وسيماء الصالحين في وجهه، كان فوق التطميع والتهديد، وأرفع من الإغراء والتسويل، وموقفه المشرّف في كربلاء تجاه الإغراء من عرض الأمان والوعد بالجاه والمقام، هو خير دليل على ذلك .

[بين الرهبانية والمادية]

ثمّ لا يخفى : أنه ليس في الإسلام رهبانية صرفة كما ابتدعها النصارى، ولا ماديّة صرفة كما اخترعها اليهود، وإنّما الإسلام دين المعنويات والماديات معاً،

ص: 171

ودين الروح والجسم مجتمعين، ودين الدنيا والآخرة مقترنتين، والنبي الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته الأطهار قد جمعوهما معاً ، فكانوا في وقت واحد رهباناً وساسة، وعبّاداً وقادة وزهّاداً ، وسادة، وكان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) خير من اقتدى بهم صلوات الله عليهم في هذه الصفة، وانتهج نهجهم في هذه الخصلة، فكان راهباً بالليل، يبيت الله تعالى قائماً وراكعاً وساجداً .و. تعالى قائماً وراكعاً وساجداً، ويقضي ليله في عبادة ربّه، حتى بان على جبهته من شدّة عبادته الله تعالى، وكثرة سجوده لربّه، آثار العبادة وصار مصداقاً لقوله تعالى : ﴿سيماهم في وجوههم من أثر السجود﴾، وفي نفس الوقت كان أسداً في النّهار، وقائداً في جيش أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحاملاً للوائه العظيم منذ بداية نهضته (علیه السّلام) وحتى استشهاده هو في يوم عاشوراء وعلى أرض كربلاء ، فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو العابد المتهجد بالليل والأسد الباسل والمحنّك العاقل ، فى النهار.

هذا وقد قال الشيخ المفيد في إرشاده في أخبار ليلة العاشر من المحرم : إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) قام ليله كله، يصلّي، ويستغفر، ويدعو، ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك، يصلّون، ويدعون، ويستغفرون، ومن المعلوم أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان في طليعة أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) في كل خير كل خير ومكرمة ، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) في ليلة عاشوراء مضافاً إلى قيامه بحراسة المخيم، كان في طليعة المتعبدين الله تعالى والراكعين والساجدين له من بين أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام).

وقال السيد بن طاووس في كتابه المعروف: (اللهوف) مثل ما قاله الشيخ المفيد في كتابه المزبور : الإرشاد، إنّه قال : وبات الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدوى النحل، بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فعبر إليهم والتحق بهم في تلك الليلة من معسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً على أثر ذلك ،

ص: 172

وجاهدوا يوم عاشوراء بين يدي الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى استشهدوا، ومن الواضح : أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو في مقدمة الأصحاب في السبق إلى الفضائل والمكارم ، وفي مقدّمة من كان مع الإمام الحسين (علیه السّلام) من أهل بيته أيضاً.

[العابد هو : المطيع]

ولقد ذكرنا فيما سبق أنه جاء في زيارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المروية عن الإمام الصادق (علیه السّلام) بسند معتبر ما يثبت ما يثبت لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) هذا الوسام المنيف ، ويحرز له هذا النيشان الشريف، وذلك حيث يقول (علیه السّلام): «السلام عليك أيّها العبد الصالح فإنّ الإمام الصادق (علیه السّلام) الذي بيده موازين السماء، ولا يمنح أحداً ما لا يستحق ، قد منح عمّه العباس (علیه السّلام) وسام العبودية لله تعالى مقروناً بوصف الصدق والصلاح ، وليس وساماً مجرّداً عن هذه الصفة، فإنّ العبودية المحبوبة عند الله تعالى، والممدوحة عند رسوله وأوصيائه، هي العبودية المقرونة بالصدق والصلاح ، ثمّ يفسّر الإمام الصادق (علیه السّلام) معنى العبودية المقرونة بالصلاح التي أثبتها الهلال لعمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بقوله : «المطيع الله ولرسوله ، ولأمير المؤمنين ، والحسن، والحسين، صلّى الله عليهم وسلّم» فإنّ العبادة الخالصة، والعبوديّة الصادقة، هي: الإطاعة الله تعالى، ولرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وللأئمة الطاهرين من أهل بيت الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) المثل الأعلى، والنموذج الأفضل، في مضمار العبادة، ومعنى الطاعة، فهو إذن بحق وجدارة : العابد والمطيع .

[الوحي ووسام : العبودية]

العبودية لله تعالى، حيث تربط العبد بخالقه وتقطعه عمّن سواه، وتفطمه عن

ص: 173

العبودية لغير الله من الهوى والشهوات، والطواغيت والشياطين ، هي أكبر الأوسمة، وأعلى النياشين، التي يمكن لإنسان أن ينالها منحة من السماء، وهديه من خالق الإنسان، ولذلك نرى أنّ الله سبحانه وتعالى منح هذا الوسام، وأهدى هذا النيشان إلى الصفوة من خلقه والخيرة من بريّته، ألا وهم الأنبياء (علیهم السّلام)، وعلى رأسهم الرّسول الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي خلق الله الكون لأجله، وبرء الخلق في محبته ومحبة أهل بيته (علیهم السّلام) فقال في محكم كتابه الكريم، ومبرم خطابه العظيم واصفاً معراج رسوله الحبيب المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم): ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا﴾.

وقال تعالى واصفاً عبادة نبيه الكريم واجتماع الجن للإسلام على يديه : ﴿وإنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا عليه لبدا﴾ كما وأمرنا أن نقول في تشهد الصلاة :

«وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله مقدّمين العبودية على الرسالة.

وقال تعالى في حق سائر أنبيائه : ﴿كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر﴾.

وقال عزّ من قائل: ﴿واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار﴾.

وقال سبحانه: ﴿واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أواب﴾.

وقال تعالى : ﴿ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنّه أوّاب﴾.

وقال سبحانه: ﴿واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربة أنّي مسني الشَّيطان بنُصْبٍ وعذاب﴾

وقال تعالى عن لسان عيسى بن مريم (علیه السّلام): ﴿قال إنّي عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً﴾ وغير ذلك مما يدل على ان وسام العبودية خاص بالانبياء والاوصياء، ومن حذا حذوهم كأبي الفضل العباس (علیه السّلام).

ص: 174

الخصيصة الخامسة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالطيّار»

الطيّار : صيغة مبالغة من : طار يطير طيراناً، ويصطلح اليوم على قائد الطائرة ومديرها ، فيقال لقائد الطائرة والمحترف لسياقتها في هذا الزمان : الطيار ولكن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أطلق اسم: الطيّار ، على ابن عمه جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) كما أنّ ابنه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أطلق اسم: الطيار، على عمه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فعرف على أثرهما كلّ من جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) وأبي الفضل العباس (علیه السّلام) بالطيّار ، وذلك لشَبَه كبير بينهما في التضحية وكيفية الشهادة في سبيل الله ، بحيث استحقا بسببه النيل على وسام: الطيّار.

[الطيار الأوّل]

أما جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) فهو ابن عم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأخو الإمام أمير المؤمنين على بن ابيطالب (علیه السّلام)، ورأس المهاجرين إلى الحبشة الذين استطاعوا من إدخال الإسلام إليها وجذب النجاشي إلى الإسلام، وقصته في التاريخ مندرجة وواضحة، وهو الذي لمّا قدم من الحبشة كان قد تم فتح خيبر على يدي أخيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فالتزمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وجعل يقبل بين عينيه ويقول : ما أدري بأيهما أشدّ فرحاً؟ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ؟ وهو الذي

ص: 175

بعثه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى مؤتة لحرب هرقل ملك الرم، ودفع الراية إليه واستعمل على الجيش معه : زيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وقال : إن قتل جعفر فزيد بن حارثة على الناس، وإن قتل زيد فعبد الله بن رواحة ، وإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون أحدهم.

قال رجل من اليهود : إن كان محمّد نبيّاً كما يقول سيقتل هؤلاء الثلاثة ، لأنه ما بعث نبي سريّة وقال : إن قتل فلان فبعده فلان إلا وقُتل ، وكان كذلك فقد قتل هؤلاء الثلاثة ونالوا درجة الشهادة جميعاً.

[من أنباء مؤتة]

قال جابر : فلمّا كان اليوم الذي وقع فيه القتال، صلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بنا الفجر، ثم صعد المنبر فقال - وهو يرى بأمر الله ساحة الحرب : قد التقى إخوانكم مع المشركين ، فأقبل يحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال :.... قد أخذ الرّاية جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، وتقدم للحرب بها ، ثم بكى (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال : قطعت يده، وقد أخذ الراية بيده الأخرى، ثم قال : قطعت يده الأخرى، وقد ضمّ اللواء إلى صدره، إلى أن أخبر بشهادته ، فبكى (صلی الله علیه و آله و سلم) عندها وبكى جميع من حضر من المسلمين ولم يكن علي (علیه السّلام) حاضراً ، فعند ذلك دخل علي (علیه السّلام) في المسجد، فلما بصر به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : إن عليّاً لا يطيق أن يسمع خبر أخيه، فانصتوا واسكتوا، فسكتوا، فلما دخل علي ونظر في وجوه الناس قال متسائلاً: يا رسول الله ! هل لك علم بأخي جعفر ؟ فبكى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال : آجرك الله يا أبا الحسن في جعفر ، لقد قتل، فبكى أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون، الآن انقصم ظهري.

ص: 176

[في دار جعفر]

ثم نزل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعى بعبد الله بن جعفر وأجلسه في حجره وجعل يمسح على رأسه فقالت أمه أسماء بنت عميس: يا رسول الله ! إنّك لتمسح على رأسه كأنه يتيم ؟ فقال (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد دمعت عيناه : لقد استشهد جعفر، وقد قطعت يداه قبل أن يقتل فبكت أسماء ، فقال (صلی الله علیه و آله و سلم) لها : لا تبكي، فإنّ جبرئيل أخبرني أنّ الله تعالى قد أبدله من يديه جناحين من زمرد أخضر، فهو يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء. فهدأت أسماء لما سمعت ذلك وسكنت، ثمّ قالت يا رسول الله ! لو أعلمت الناس بذلك، فعجب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من عقلها ، فقام ورقى المنبر والحزن يُعرف عليه وقال : إن المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، إلّا أنّ جعفراً قد استشهد ، وجعل له جناحان يطير بهما في الجنة . ثم نزل (صلی الله علیه و آله و سلم) ودخل بيته، وقال لفاطمة (عليها السلام)- بعد أن أمرها أن تتخذ طعاماً لأسماء بنت عميس ثلاثة أيام - يا فاطمة اذهبي فابكِ على ابن عمّك، فإن لم تدعي بشكل فما قلت فقد صدقتِ . فاجتمعت النسوة يساعدن أسماء بالبكاء على جعفر، وفاطمة (عليها السلام) تقول : واعماه . فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): على مثل جعفر فلتبك الباكية ، وكان (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد ذلك إذا دخل بيته كثر بكاؤه على جعفر حتى تقطر لحيته وهو يقول : اللهم إن جعفراً قد قدم إليك إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلّفت أحداً من عبادك في ذريته.

وجعفر الطيار هذا قد أثنى عليه بعد الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، أمير المؤمنين (علیه السّلام) وسائر الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام) ففي نهج البلاغة وفي كتاب للإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلى معاوية جاء فيه: «إنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ، ولكلّ

ص: 177

فضل، حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم ، قيل له : الطيار في الجنّة ، وذو الجناحين».

[الطيار الثاني]

وأما العباس ابن أمير المؤمنين (علیهما السّلام) فهو أخو الإمام الحسين (علیه السّلام) وابن والده الام ، وكافل أهل بيته ، وحامل لوائه، وقائد جيشه، وكبش كتيبته، وحامي ظُعَنه، عطاشا حرمه، وأنفس ذخائره الأخ الناصح، والشفيق المدافع، وساقي والمحامي الناصر، والوفي المناجز، أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، الذي لم يستطع صبراً على البقاء بعد أن رأى أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) وحيداً فريداً، قد قتل جميع أصحابه وأهل بيته ، فأقبل أوّلاً نحو القوم فوعظهم وأرشدهم ، فلمّا لم ير أثراً فيهم أقبل نحو أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) بتواضع وتأدب ، وطلب منه الرخصة للقتال قائلاً: هل من رخصة ؟ فلم يأذن له الإمام الحسين (علیه السّلام) وقال له وهو يبكي بكاءاً شديداً : يا أخي! أنت صاحب لوائي، والعلامة من عسكري . فقال العباس (علیه السّلام) بالتماس وانكسار: قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثاري منهم ، فأمره الإمام الحسين (علیه السّلام) أن يطلب الماء للأطفال ، فركب العباس (علیه السّلام) جواده وأخذ القربة واتجه نحو المشرعة ، فأحاط به أربعة آلاف، ورموه بالنبال، فلم يعباً بهم ابن أمير المؤمنين أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بل حمل عليهم وكشفهم عن المشرعة وحده، ونزل إلى الفرات وملك الماء، ولواء الحمد يرف منشوراً بيده، ويلوح خفاقاً على رأسه، وروى بعض : بأنّ الموكلين بالشريعة واصلوا حملاتهم على أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ست مرّات، وكان في كلّ مرّة يحمل عليهم فيكشفهم، حتّى أبعدهم في المرة الأخيرة عن المشرعة كثيراً ودخل الماء.

ص: 178

[الفرات في تصرّف العباس (علیه السّلام)]

استولى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) استيلاء أ كاملاً على الماء، ولم يجرأ أحد من اولئك الموكلين بالماء بعد انكشافهم على أن يذوده عنه ، أو يصدّه عن الشرب، أو عن أن يملأ القربة ماءاً ، ولذلك أقبل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وبكل تؤدة واطمئنان ، ودون ما أيّ خوف واضطراب على اغتراف غرفة من الماء، ليروّي بها عطشه، ويطفى عبرها حرّ كبده، لكنّه لمّا قرّب الماء من فمه تذكّر عطش أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، كما وتذكّر وصيّة أبيه أمير المؤمنين وقوله له : بني عباس ! إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء، وأخوك الإمام الحسين (علیه السّلام) عطشان، لذا صبّ الماء على الماء وهو يقول : والله لا أذوق الماء وسيدي الإمام الحسين (علیه السّلام) عطشاناً ، ثم خاطب بنفسه :

يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون *** وتشربين بارد المعين

تالله ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين

تم ملأ القربة ماءاً وركب جواده وتوجّه نحو المخيم، فقطعوا عليه الطريق، فوقع فيهم يحصد رؤسهم، ويختطف أرواحهم، حتى كشفهم عن الطريق وهو يقول :

لا أرهب الموت إذا الموت زقا *** حتى أوارى في المصاليت لقى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا *** إنّي أنا العباس أغدوا بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

ص: 179

[من أساليب العدوّ الجبان]

عرف العدوّ عجزه وعدم قدرته على مقابلة العباس بن علي (علیه السّلام) وجهاً لوجه، وخاف من جهة ثانية وصول الماء إلى مخيّم الإمام الحسين (علیه السّلام)، فأخذ يفكر في صدّه بالوسائل الجبانة، ويتذرّع للتخلّص منه بما يتذرّع به الجبناء اللئام، ففكّر في نصب الكمين له ، والإرصاد لقتله غدراً وغيلة، وانتخب لتنفيذ هذه الخطة الجبانة أشدّ الأعداء قساوة، وأكثرهم شراسة وضراوة، ألا وهو : زيد بن الرقاد الجهني، فكمن له زيد من وراء نخلة وعاونه الحكيم بن الطفيل السنبسي ، فضربه على يمينه فقطعها ، فأخذ السيف بشماله وجعل يضرب فيهم ويقول :

والله إن قطعتموا يميني *** إنّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الأمين

ثم كمن له الحكيم بن الطفيل من وراء نخلة فضربه على شماله فبراها فضمّ اللواء إلى صدره وهو يقول :

يا نفس لا تخشي من الكفار *** وأبشري برحمة الجبّار

مع النبي السيد المختار *** قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا رب حرّ النار

[الأعداء يمثلون بالعباس (علیه السّلام)]

عند ذلك أمن الأعداء سطوة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وبأسه ، ولم يرهبوا بعده من سيفه ورمحه ، ولا من ضربه وطعنه .

«وهل يملك الموتور قائم سيفه *** ليدفع عنه الضيم وهو بلا كف»

ص: 180

فتكاثروا عليه من كل جانب، ينتقمون منه، ويُمثلون به، وأتته السهام كالمطر ، فأصاب القربة سهم وأريق ماؤها ، وجاء سهم فأصاب صدره، وسهم آخر فأصاب عينه، وحمل عليه رجل فقطع رجله اليمنى، ثمّ حمل عليه آخر فقطع رجله اليسرى، ثمّ حمل عليه ثالث وضربه بعمد من حديد على رأسه ففلق هامته، وهوى (علیه السّلام) عندها من على ظهر جواده إلى الأرض، وهو ينادي: يا أخاه أدرك الا أخاك، فأتاه الإمام الحسين (علیه السّلام) ، فلما رآه بتلك الحالة انحنى عليه وبكى بكاءاً عالياً وقال : وا أخاه! وا عباساه! الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوّي، ثمّ أنشأ يقول :

تعديتمُ يا شرّ قوم ببغيكم *** وخالفتم دين النبي محمد

أما كان خيرُ الرسل أوصاكم بنا *** أما نحن من نجل النبي المسدّدِ

أما كانت الزهراء أمي دونكم *** أما كان من خير البرية أحمد

لعنتم وأخزيتم بما قد جنيتم *** فسوف تلاقوا حَرَّ نار توقدِ

وفي رواية : إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما جاء إلى مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ورآة بتلك الحالة جلس عنده ، وأخذ رأسه ووضعه في حجره، وأخرج السهم من عينه ، ثمّ مسح الدم والتراب عن عينيه، وكان (علیه السّلام) به رمق ، ففتح عينيه في وجه أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وبكى ، فقال له الإمام الحسين (علیه السّلام) بلوعة ورحمة : ما يُبكيك يا أخي با أبا الفضل ؟ فقال (علیه السّلام) بصوت منقطع ضعيف : وكيف لا أبكي، وقد جئتني ورفعت رأسي عن التراب وجعلته في حجرك ، ولكن بعد ساعة من يأتي إليك ليرفع رأسك عن التراب ويضعه في حجره، ويمسح الدم والتراب عن وجهك ؟ وبينا هو يكلّمه وإذا به شهق شهقة وفارقت الدنيا روحه الطيّبة ، عندها بكى الإمام الحسين (علیه السّلام) ونادى: وا أخاه ! وا عباساه !

ص: 181

[العباسية (علیه السّلام) وإصابة السهم عينه]

نقل عن المرحوم آية الله السيّد محمّد إبراهيم القزويني إنه كان يؤم الناس بصلاة الجماعة في صحن الروضة المقدسة لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) وكان يرقى المنبر بعد انقضاء صلاة الجماعة، الخطيب الشهير والواعظ المعروف آنذاك. سماحة الشيخ محمّد علي الخراساني، وفي ليلة من الليالي تعرض سماحة الشيخ الخراساني في منبره لطريقة استشهاد أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وذكر بالخصوص منها اصابة السهم عينه الكريمة، فبكى المرحوم آية الله السيد القزويني على أثر حكاية سماحة الشيخ الخراساني هذا المصاب بكاءاً شديداً، وتأثر من ذلك تأثراً كبيراً، فلما نزل سماحة الشيخ الخراساني من المنبر قال له آية الله السيد القزويني: شيخنا ! أرجوا من سماحتكم أن لا تذكروا في منبركم مثل هذه المصائب العظيمة ، والرزايا المفجعة والمشجية ، التى يظنّ أنّه لا سند قوي لها ولا أصل ثابت يمدّها ظاهراً .

ولكن المرحوم آية الله السيّد القزويني نفسه، التقى سماحة الشيخ الخراساني في اليوم الثاني، وأخذ يعتذر من سماحة الشيخ ، ويطلب عفوه من اعتراضه عليه يوم أمس، فلمّا سأله سماحة الشيخ الخراساني عن سبب الإعتذار، أجاب قائلاً : لقد رأيت البارحة في منامي أبا الفضل العباس (علیه السّلام)، فتشرفت بخدمته، وفزت بلقائه، وسعدت بتنبيهه (علیه السّلام) إياي ، فإنه (علیه السّلام) التفت إلي مشيراً إلى ما جرى بيني وبينك بالأمس وقال مخاطباً إياي : أيها السيد كيف اعترضت على الشيخ الخراساني فيما ذكره من المصاب مع أنك لم تكن حاضراً واقعة كربلاء، ولم تكن شاهداً ما جرى على يوم عاشوراء ؟ إعلم أيها السيد ! إنهم لما قطعوا يدي

ص: 182

غدراً وغيلة، وظلماً وعدواناً، رشقوني بالسهام كرشق المطر، ورموني بالنبال النار الشّرر، فأصاب عيني سهم منها ، ونبت في حدقتها، فحاولت اخراجه رمي وإزاحته عن عيني، وحيث أنه لا يدلي حرّكت رأسي بشدّة، ليقع السهم منها ، ولكن كلّما حرّكت رأسى لم يخرج السهم ، وإنّما وقعت العمامة من رأسي، عندها رفعت ركبتي وقرّبت رأسي حتى أخرج السهم بركبتي ، فإذا بي أفاجأ بضربة عمدو من حديد على رأسي، أدّت بي إلى أن أهوى من على ظهر جوادي إلى الأرض..

قال السيّد : عندها بكيت واشتدّ بكائى وعل أثره انتبهت من نومي حزيناً، وعلمت أني كنت مشتبهاً في اعتراضي، مخطئاً في انتقادي، وأنا الآن أستغفر الله وأتوب إليه ممّا صدر منّي .

[الإمام الحسين (علیه السّلام) بعد مقتل العباس (علیه السّلام)]

ثمّ إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) قام من عند مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ورجع إلى المخيّم منكسراً كثيباً، حزيناً باكياً، وهو يكفكف دموعه بكمه، ويكتم آثار الحزن عن وجهه كى لا تراه النساء، ولا تعرف ما اعتراه، وقد تدافعت الرّجال على مخيّمه، فنادى بصوت عال يسمعه الجميع، ويعيه الكلّ، قائلاً: أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من مجير يجيرنا ؟ أما من طالب حق ينصرنا ؟ أما من خائف من النار فيذبّ عنّا ؟ فأتته ابنته سكينة، وأخذت بعنان جواده وقالت متسائلة: يا أين عمّى العباس ؟ أراه قد أبطأ علينا بالماء ؟ فقال لها وقد تمالك نفسه ؟ بنية ! استرجعي واصبري فإنّ عمّك قد قتل، فسمعته السيدة زينب (عليها السلام) فلم تملك نفسها حتّى صرخت و نادت وا أخاه وا عباساه واضيعتنا بعدك، فبكيت النسوة وبكى الإمام الحسين (علیه السّلام) معهن ، ونادى مواسياً لهنّ : وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل !

ص: 183

نادى وقد ملأ البوادي صيحة *** صم الصخور لهولها تتألم

أأخي من يحمي بنات محمّدٍ *** إذ صرن يسترحمن من لا يرحم

ماخلت بعدك أن تشل سواعدي *** وتكف باصرتي وظهري يقصمُ

هذا حسامك مَن يذلّ به العِدى *** ولواك هذا من به يتقدّم

هونت يابن أبي مصارع فتيتي *** والجرح يسكنه الذي هو أألم

فأكب منحنياً عليه ودمعه *** صبغ البسيط كأنما هو عندم

قد رام يسلثمه فلم ير موضعاً *** لم يدمه عض السلاح فيلثم

[بين الطيارين : العباس وجعفر (علیهما السّلام)]

نعم، لقد شارك أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في شهادته، عمّه جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، وشابهه من حيث قطع يمينه وشماله قبل قتله، ولكن زاد ابن الأخ على عمّه : أن قطع العدوّ الحاقد، رجلي أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ورضخوا هامته بعمد من حديد، وقطعوه بسوفهم إربا إرباً، ولذلك كان الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين السجاد (علیه السّلام) كلّما تذكّر عمّه العباس بكى، وتذكّر به عمّه جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) وبكى عليه أيضاً، وذات مرّة كما في أمالي الصدوق عن أبي حمزة الثمالي - وقع نظره (علیه السّلام) على عبيد الله بن العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام) ، فاستعبر ثمّ قال: «ما من يوم أشدّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من يوم قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب ، أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة ، قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب (علیه السّلام) ، ولا يوم كيوم الحسين (علیه السّلام) از دلف إليه فيه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة، كلُّ يتقرب إلى الله بدمه، وهو يذكرهم بالله فلا يتعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً، ثمّ قال: رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر، وأبلى،

ص: 184

وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة ، كما جعل الجعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».

ومن المعلوم أنّ كلمة «جميع » في قول الإمام زين العابدين (علیه السّلام): «يغبطه بها جميع الشهداء» عامة وشاملة، فتشمل غير المعصومين عامة حتى مثل حمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبيطالب، فإنّهم جميعاً يغبطون العباس بن علي (علیه السّلام) على منزلته ومقامه عند الله في القيامة، وما ذلك إلا لعظيم بلائه، وشديد محنته، وكبير رزيّته، حيث أن جيش بني أمية في كربلاء، نكلوا به، ومثلوا بجسمه وهو حي، وذلك حنقاً منهم عليه ، وحقداً وغيظاً منهم له، وانتقاماً من شجاعته وشهامته ، فإنّهم من قساوتهم وضراوتهم، لم يكتفوا باغتياله والغدر به بقطع يمينه ویساره ، وإنّما قطعوا رجله اليمنى، وبتروا رجله اليسرى، ورضخوا هامته، وقطعوه إرباً إرباً، بعد أن رشقوه بالسهام حتى صار جلده كالقنفذ من كثرة النبال التي نبتت في جسمه.

[من أدلّة قساوة بني أمية]

ويدلّ على قساوة جيش بني أمية، وأنهم نكلوا بالعباس (علیه السّلام) ومثلوا به وهو حي، وقطعوه إربا إرباً وهر بعد به رمق، أمور كثيرة تشير إلى واحدة منها وهي كالتالي:

جاء في التاريخ أنّ مرقد أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أصابه ذات مرة خسف، واحتيج إلى التعمير والترميم ، وكان ذلك في زمان العلامة السيّد محمّد مهدي بحر العلوم المتوفى أوائل القرن الثالث عشر الهجري القمري، والذي كان هو واحد من

ص: 185

كبار علماء الشيعة ، وكان كثيراً ما يتشرف بزيارة الإمام المهدي صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشيف وله المقام المرموق عند أهل البيت وشيعتهم ، فأخبروا العلامة بذلك ، فانتدب العلامة أحد المعمارين الماهرين لترميم المرقد الشيف، وجاء معه إلى روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ونزلا معاً في السرداب الذي يقع فيه القبر الطاهر ، فلما وقع عين المعمار على القبر المبارك ورآه من حيث الحجم والمساحة أقل من الحجم والمساحة المتعارفة لبقية قبور الناس المتوسطين فى الطول والقامة ، بينما يلزم أن يكون قبر العباس (علیه السّلام) مع ما اشتهر عن العباسي (علیه السّلام) من طول القامة ورشادة الهيكل والهندام، أن يكون في الحجم والمساحة أكبر وأطول من بقية القبور المتعارفة، فتولّد في ذهن المعمار سؤال حول هذا الموضوع الذي أثار تعجبه وحيرته، فالتفت إلى العلامة السيد بحر العلوم وقال له : أتأذن لي يا سيدي في السؤال عن موضوع بدر إلى ذهني وأشغل بالي منذ رأيت قبر العباس بن علي (علیه السّلام)؟ فقال له العلامة وبكل رحابة : نعم تفضّل واطرح سؤالك . فقال المعمار والتعجب ظاهر على ملامح وجهه ونبرات صوته: إنّ كلّ ما سمعناه وقرأناه عن أبي الفضل العباس (علیه السّلام) هو : أنه كان رشيداً، طويل القامة، بحيث أنّه إذا ركب الفرس المطهم بقيت رجلاه تخطّان في الأرض خطّاً، وهذا لا يتلائم مع صغر القبر وقصر مساحته طولاً، وإنّما يستدعى امتداد مساحة القبر في الطول ، بصورة أكثر من القبور المتعارفة، ثمّ أضاف قائلاً: فما هو يا سيّدنا حلّ ما سمعناه وقرأناه وهذا الذي نراه بأم أعيننا ؟ طرح المعمار سؤاله على العلامة وبقي ينتظر الجواب على ذلك، لكنه فوجىء حيث انه لم يسمع من العلامة جواباً سوى رجعات صوت بكائه وزفرات حنينه ،وأنينه ، فندم المعمار من سؤاله وأخذ يعتذر من العلامة على إزعاجه وإيكائه ، فأجابه العلامة بعد بكاء طويل : إن ما سمعته وقرأته عن رشادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) و طول قامته فهو صحيح، غير أنّ

ص: 186

جيش بني أمية القساة نكلوا بالعباس (علیه السّلام) ومثلوا به، وبتروا يديه ورجليه، وقطعوه بسيوفهم إربا إرباً ، وسؤالك هذا عن صغر قبره ذكّرني بما جرى عليه من المصائب والبلايا ، ونبهني على عظيم مصاب الإمام زين العابدين (علیه السّلام) الذي جمع الشّريفتين أشلاء عمّه العباس (علیه السّلام) ودفنه بنفسه الكريمة في هذا القبر الذي شقه له بيديه، فلم أتمالك نفسى وأخذتني العبرة وأجهشت بالبكاء.

[مع بني أسد]

نعم، إن صغر قبر أبي الفضل العباس (علیه السّلام) مع ما روي من رشادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وطول قامته يذكّر بدناءة بني أمية وخستهم، حيث قطّعوه بسيوفهم إربا إربا ، ويشير إلى عظيم محنة العباس (علیه السّلام) و جليل رُزئه، كما ويوحي بثقل المصاب وشديد وطئته على الإمام زين العابدين (علیه السّلام) الذي جاء إلى دفن الأجساد الطاهرة، دفن أبيه وأعمامه وإخوته وأهل بيته وأصحاب أبيه ، وذلك بعد ثلاثة أيام من شهادتهم، حيث ان جيش بني أمية رحلوا من كربلاء ولم يدفنوا أبدان الشهداء، ولم يسمحوا لأحد بدفنها، فلمّا كان اليوم الثالث وأمن الناس شرّ بنى اُميّة أمية وابن زياد أقبل بنو أسد نساءاً ورجالاً ليدفنوا أجساد الشهداء، فلم يعرفوا الأبدان لمن هى، لأنّ بني أمية كانوا قد احتزوا الرؤس من الأبدان وأخذوها معهم هديّة إلى الكوفة ومنها إلى الشام إلى الطاغية يزيد بن معاوية، وبيناهم كذلك إذ أقبل عليهم - عن طريق الإعجاز - الإمام زين العابدين (علیه السّلام)، فأخذ (علیه السّلام) يعرفهم بالشهداء واحداً واحداً ، وقام بنو أسد يساعدونه (علیه السّلام) على دفنها، وذلك بعد أن ارتفع صوتهم بالبكاء والعويل وسالت دموعهم على خدودهم كلّ مسیل و نشرت النسوة الأسديّات الشعور، ولطمن الخدود.

ص: 187

[طوبى لأرض كربلاء]

ثم مشى الإمام زين العابدين (علیه السّلام) إلى جسد أبيه ، فاعتنقه وبكى بكاءاً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلاً من التراب، فبان قبر محفور، وضريح مشقوق، فبسط كفّيه تحت ظهره وقال: «بسم الله ، وفي سبيل الله ، الله ، وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه ، وقال لهم : «إنّ معي من يعينني».

ولمّا أقره في لحده، وضع خده على منحره المقدس وقال: «طوبي لأرض تضمّنت جسدك الطاهر ، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمسهد، والحزن سرمد ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك السلام يا ابن رسول الله، ورحمة الله وبركاته».

ثمّ كتب على تراب القبر بسبابته : «هذا قبر الحسين بن علي بن أبيطالب، الذي قتلوه عطشاناً غريباً».

[عند جسد العباس (علیه السّلام)]

ثمّ إنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) التفت إلى بني أسد وقال : أنظروا هل بقي أحد ؟ فقالوا: نعم ، بقي بطل مطروح حول المسنّاة ، فإنّ هناك على مقربة من العلقمي جسداً آخر لم يدفن بعد، وهو جسد موذر ومقطع بالسيوف إربا إرباً، بحيث كلما حملنا جانباً منه سقط الآخر ، فبكى (علیه السّلام) لما سمع قولهم وقال بأنين وزفير أتعرفون يا بني أسد جسد من هذا ؟ إنه جسد عمّي العباس (علیه السّلام)، ثم مشى إليه، فلما وقع نظره عليه ألقى بنفسه على جسده يلثم نحره الطاهر وهو يقول:

ص: 188

«على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته» وشق له ضريحاً وانزله وحده كما فعل بأبيه ، وقال لبني أسد: «إنّ معي من يُعينني».

[المعصوم لا يلي أمره إلّا المعصوم]

لقد انتخب الإمام زين العابدين (علیه السّلام) لمواراة أجساد الشهداء اليوم الثالث من مقتل أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) ومن معه ، وجاء بطريق المعجزة في ذلك اليوم إلى كربلاء - لأنه (علیه السّلام) كان في تلك الأيام بحسب الظاهر مسجوناً مع بقية الأسرى في اللي سجن ابن زياد بالكوفة - وإنّما انتخب اليوم الثالث وجاء فيه إلى كربلاء لعلمه بمجيء بني أسد نساءاً ورجالاً إلى مصارع الشهداء في هذا اليوم وهم يحاولون مواراة الأجساد الطاهرة ودفنها، فيكونون خير أعوان له على هذه المهمّة العظيمة، وأحسن شهود يشهدون هذا الواجب الشرعى المفروض .

وبالفعل فقد استعان الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في دفن الشهداء الأبرار، ومواراة أجسادهم الطاهرة ببني أسد ، ما عدا جسد أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وجثمان عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) حيث قال(علیه السّلام) البني أسد : «إنّ معي من يعينني» و انفرد هو بتجهيزهما ، وقام لوحده بمواراتهما.

وهذا من الإمام زين العابدين (علیه السّلام) بالنسبة إلى أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام) واضح لا غبار عليه، وذلك لان المعصوم لا يواريه إلا المعصوم ، فالإمام الحسين (علیه السّلام) معصوم، والإمام السجاد (علیه السّلام) معصوم مثله، فیلي امره منفرداً، ويقوم بتجهيزه ومواراته لوحده، ولكن هذا بالنسبة إلى عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقيامه لوحده بتجهيزه، وانفراده بمواراة جسده الطاهر مع انه ليس من المعصومين، ينبيء عن

ص: 189

عظيم مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وعلو رتبته عند الله تعالى، ورفيع منزلته، وعلوّ شأنه عند أهل البيت (علیهم السّلام) حتى أنه يجعله في مصاف المعصومين، وفي مستوى أهل البيت (علیهم السّلام) الطاهرين المطهرين، وأنعم بأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنه أهل لذلك ، فلقد أثبت من خلال سيرته الطيّبة، وسلوكه الجميل، ومواقفه الإنسانية المشرّفة ، جدارته لهذا المقام المنيف، وأهليّته لهذه المنزلة الرفيعة، ألا وهي: ولاية الإمام المعصوم أمره، وتوليه تجهيزه ومواراته وانفراده بكل ذلك قائلاً لبني أسد : «إنّ معي من يعينني».

كما أنه يدلّ على تأهله لذلك - من ذي قبل - مشاركته أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في تغسيل أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) ، فإنّ الإمام الحسن (صلی الله علیه و آله و سلم) معصوم ولا يغسله إلّا معصوم وهو الإمام الحسين (علیه السّلام) ، فمشاركة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومشاطرته أخاه في هذه المهمة العظيمة خير دليل على مكانة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومقامه الشامخ عند الله ورسوله والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين .

ولعله من أجل ذلك كلّه قال مرجع عصره، وفقيه دهره : الشيخ محمد طه نجف في كتابه (الإتقان): «العباس بن أمير المؤمنين علي بن ابيطالب (علیه السّلام) أبو الفضل ، هو أجلّ من أن يذكر في هذا المقام، بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام».

ص: 190

الخصيصة السادسة والعشرون: «في أنّه (علیه السّلام) المعروف بالشهيد»

الشهيد : هو المقتول فى سبيل الله .

والشهيد هو الحي أي : هو عند ربه حيّ يُرزق.

وقيل : سمّي الشهيد شهيداً، لأنّ الله وملائكته شهود له بالجنّة، والشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة، فأفضلهم من قتل في سبيل الله ، ميزوا عن الخلق بالفضل، وبيّن الله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله فضله .

وقيل : سمّي الشهيد شهيداً، لأنه حتي لم يمت كأنه شاهد ، أي : حاضر .

وقيل : لأنّ ملائكة الرحمة تشهده.

وقيل : لقيامه بشهادة الحق فى أمر الله حتّى قتل .

وقيل : لأنه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل ، وقيل : غير ذلك .

[السماء ووسام : الشهيد]

وكيف كان: فإنّ من عُرف من قبل السماء بالشهيد، وتزيّن بوسام سماوي رفيع المستوى باسم الشهيد وتوفق لحمل نيشان الشهادة من بين الشهداء جميعاً،هم اثنان :

ص: 191

أحدهما من أئمة أهل البيت (علیهم السّلام)، المعصومين، وهو سيّد الشهداء، وأبو الأحرار ، سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانته، وسيد شباب أهل الجنّة، الإمام الحسين (علیه السّلام) ، فإنّه هو الذي عُرف من بين الأئمة الأطهار من أهل البيت (علیهم السّلام) بالإمام الشهيد، مع أنّ الأئمة الأطهار من أهل البيت (علیهم السّلام)، بل المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام)، ما عدا الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عجل الله تعالى ظهوره ، كلّهم استشهدوا في سبيل الله تعالى كما في الخبر المأثور: ما منّا إلّا مقتول أو مسموم فكلهم (علیهم السّلام) شهداء ، إلا أنّ الذي أطلق عليه اسم «الشهيد» من بينهم هو الإمام الحسين (علیه السّلام)، فقد روي أن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال له : «أنت شهيد هذه الأمة».

ثانيهما : من ذوي أهل البيت وخاصة الأئمة الأطهار، وحامة المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام)، وتالي تلوهم والمحلّق في أجوائهم ومصافهم، وهو حامل لواء الإمام الحسين (علیه السّلام) وكبش كتيبته ، والمواسي له بنفسه، والمضحي من أجله، بطل العلقمي ، أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فلقد مرّ : أن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) كان كلما تذكر عمه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قال في حقه : «... وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة» ومرّ أيضاً من أنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) عندما جاء لمواراة جسد عمّه الطاهر أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بكى وألقى بنفسه عليه وأخذ يلثم نحره الشريف وهو يقول : على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته فإطلاق الشهيد» من الإمام زين العابدين (علیه السّلام) على عمه أبي الفضل العباس هو : وسام سماوي رفيع المستوى وسم به عمّه، لأنّ المعصوم (علیه السّلام) هو الذي بيده معايير السماء وموازين الوحي، وقد فوّض إليه تعالى له جعل الحكم على المواضيع ، وإعطاء الحق لذوي الحقوق، ومنح الأوسمة السماوية لمستحقيها ، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو من استحق وسام «الشهيد» منحة

ص: 192

من السماء، لعظيم بلائه في الله ، وشدّة إخلاصه الله ، وكبير ولائه لأولياء الله ، فمنحه (علیه السّلام) وسام «الشهيد» وذلك ليس مجرّداً، وإنّما مقروناً بكلمة «محتسب» أي : الشهيد الّذي نوى بشهادته وجه الله تعالى ورجى ثوابه وأجره، كما أنه ليس مجرّد «الشهيد المحتسب» بل الشهيد المحتسب الذي يغبطه على منزلته، وعلوّ درجته ، يوم القيامة ، جميع الشهداء.

[العباس (علیه السّلام) الشهيد المظلوم]

وكذلك كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فإن مواقفه المشرّفة في كربلاء، وفي يوم عاشوراء وغيرها لهي خير دليل على ما قاله الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في حق عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وأجلى برهان على جدارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بنيل هذا الوسام المنيف وسام: «الشهيد المحتسب».

كما وقد وسمه الإمام الصادق (علیه السّلام) بهذا الوسام العظيم أيضاً، وذلك حين خاطبه في زيارته المعروفة بقوله : «أشهد أنك قتلت مظلوماً وقد مرّ تفسير الشهيد: بأنه المقتول في سبيل الله ، والإمام الصادق (علیه السّلام) يشهد لعمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بأنه المقتول في سبيل الله ، فابوالفضل (علیه السّلام) إذن بشهادة الإمام الصادق (علیه السّلام) هو : شهيد ، وليس مجرد شهید فحسب، بل هو شهيد مظلوم لأنه كما مرّ : لم يأذن له أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) في البراز إلى الميدان ومقاتلة الأعداء، وإنّما أذن له في الإستسقاء، وطلب الماء للأطفال فقط، ومعلوم: أن الذي مهمته طلب الماء والإستسقاء، ليس كالّذي يهمّه القتال ومنازلة الأبطال، فإنّ من يهمه القتال يتفرّغ له، بينما من يهمّه الإستسقاء وطلب الماء يتفرّغ للإستسقاء دون القتال، فلم يكن أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في كربلاء مقاتلاً حتّى يشف صدره من

ص: 193

الأعداء، ويذهب غيظ قلبه بالإنتقام منهم، بل كان سقاءاً، وقتل من أجل الإستسقاء، فقتل مظلوماً.

أضف إلى ذلك : أنّ الأعداء من دناءتهم وخستهم لم يبارزوه وجها لوجه، وإنّما اغتالوه فى كمين لهم ، فقتلوه غيلة وغدراً، ومن قساوتهم وغلظتم لم يكتفوا بقتله بضربة وضربتين ، وإنّما قطّعوه بسيوفهم إربا إرباً، بعد أن بتروا يديه وأبانوا رجليه، وأصابوا عينه وخسفوا رأسه، وقتلوه مظلوماً، فصدق عليه : أنه الشهيد المظلوم ، كما شهد له الإمام الصادق (علیه السّلام) بذلك .

[الفارس إذا سقط من فرسه]

وجاء في كتاب «مقتل الحسين (علیه السّلام)» للمقرّم : أنّ العالم الفاضل، والخطيب البارع ، الشيخ كاظم السبتي (رحمه الله علیه) قال لي ذات مرّة : أتاني بعض العلماء الثقاة وقال لي : إنِّي رسول من قبل العباس (علیه السّلام) إليك ، فقد رأيته (علیه السّلام) في المنام يعتب عليك ويقول : إنّ الشيخ كاظم السبتي لم يذكر مصيبتي ، ولم يتعرّض لها . فقلت له : يا سيّدي ما زلت أسمعه يذكر مصائبك ويندبك بها ، فقال (علیه السّلام) : أعني هذه المصيبة، فإنّه لم يذكرها ، ولم يتعرّض لها ، قل له يذكر هذه المصيبة للناس ويقول لهم : «إنّ ا الفارس إذا سقط من فرسه ، يتلقى الأرض بيديه ، فإذا كانت السهام نابتة في صدره ويداه مقطوعتان، فبماذا يتلقّى الأرض ؟».

وهذا أيضاً ممّا يدلّ على شدّة مظلوميّة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وكبير مصيبته ، وعظيم رزيّته، والمظلوم اضافة الى وجوب نصرته ، واعانته على ظالمه يستحب البكاء عليه وله - على ما في فقه الزهراء (عليها السلام)- كما ويستحب مشاركة المفجوعين به في بكائهم له، وذلك لتضمّنه تأييداً للمظوم ونصرة له، وقد بكي

ص: 194

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأن وحنّ لبكاء عمّته صفيّة على أخيها حمزة وأنينها له، وحنينها عليه، وفي فضل زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام) ورد : «... إنّ فاطمة (عليها السلام) إذا نظرت إليهم ومعها ألف نبي، وألف صديق، وألف شهيد، ومن الكروبيين ألف ألف، يُسعدونها بالبكاء وإنّها تشهق شهقة ، فلا يبقى في السماوات ملك إلا بكى رحمة لصوتها ...».

«مقام الشهيد وأجر الشهادة]

وهنا لا بأس بالإشارة إلى بعض ما لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسائر الشهداء عامة من الفضل عند الله تبارك وتعالى ، قال تعالى : ﴿إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله﴾.

وقال سبحانه: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يُرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأنّ الله لا يُضيع أجر المؤمنين﴾.

وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أشرف الموت قتل الشهادة».

و عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «فوق كلّ بربر ، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله عزّوجل فليس فوقه بر».

وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ أوّل من قاتل في سبيل الله : إبراهيم الخليل (علیه السّلام) حيث أسرت الروم لوطاً (علیه السّلام) فنفر إبراهيم (علیه السّلام) واستنقذه من أيديهم».

وعنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة دمع في جوف الليل من خشية الله».

وعنه (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «وأجود الناس من جاد بنفسه وماله في سبيل الله».

ص: 195

وعن علي صلوات الله عليه أنه قال: «أوّل من جاهد في سبيل الله إبراهيم (صلی الله علیه و آله و سلم)، أغارت الروم على ناحية فيها لوط (علیه السّلام) فأسروه ، فبلغ ذلك إبراهيم لعل الله صلّى الله عليه ، فنفر فاستنقذه من أيديهم، وهو أوّل من عمل الرايات، عليه أفضل السلام».

وفي تهذيب الشيخ الطوسي مسنداً عن علي بن الحسين (علیه السّلام) عن آبائه (علیهم السّلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «للشهيد خصال من الله :

الأولى: أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب .

والثانية : يقع رأسه في حجر زوجته من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان : مرحباً بك ، ويقول هو مثل ذلك لهما .

والثالثة : يكسى من كسوة الجنّة.

والرابعة : تبتدره خزنة الجنّة بكل ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه .

والخامسة : أن يرى منزله .

والسادسة : يقال لروحه : إسرح في الجنّة حيث شئت.

والسابعة : أن ينظر إلى وجه الله ، وإنّها لراحة لكل نبي وشهيد».

ص: 196

الخصيصة السابعة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) الصديق»

الصديق هو : الدائم التصديق، ويكون الّذي يُصدِّق قوله بالعمل، وقيل: الصديق هو : المبالغ في الصدق ، وقيل : كلّ من صَدَّق بكل أمر الله لا يتخالجه في شيء منه شك، وصدّق النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو صديق ، وهو قول الله عزّوجلّ: ﴿هم الصدّيقون والشهداء عند ربهم﴾.

هذا معنى الصديق من حيث اللغة وعلماء العربية ، وأما مَنْ هو الصدّيق من حيث الإصطلاح القرآني، والسنة النبوية، وأحاديث أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فهو على ما يلي:

قال الله تعالى : ﴿والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربِّهم لهم أجرهم ونورهم﴾.

وقال سبحانه : ﴿ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقا﴾.

وفي الخصال مسنداً عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «الصدّيقون ثلاثة: علي بن أبيطالب (علیه السّلام) ، وحبيب النجار، ومؤمن آل فرعون».

وفي عيون الأخبار مسنداً عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «لكل أمة صديق وفاروق، وصديق هذه الأمة وفارقوها : علي بن أبيطالب (علیه السّلام)» .

ص: 197

وفي روضة الكافي عن أمير المؤمنين (علیه السّلام) قال في خطبته المعروفة بخطبة الوسيلة: «وإنّي النبأ العظيم، والصديق الأكبر».

وفي شرح الآيات الباهرة مسنداً عن الإمام الصادق (علیه السّلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیهم السّلام) أنه قال في كلام طويل: «والميت من شيعتنا : صديق شهيد، صدّق بأمرنا ، وأحبّ فينا ، وأبغض فينا ، يريد بذلك وجه الله ، مؤمن بالله وبرسله، قال الله : ﴿والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم﴾.

وفي محاسن البرقي مسنداً عن الإمام الحسين (علیه السّلام) أنه قال: «ما من شيعتنا إلا صديق شهيد».

وفي مزار ابن قولويه في زيارة عن الإمام الصادق (علیه السّلام) بسند معتبر يعلّمنا أن نزور بها عمّه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) يقول فيها : «السلام عليك أيها الولىّ الصالح ، الناصح الصدّيق».

وفى زيارة أخرى يقول: «أشهد لك بالتسليم والتصديق».

[العباس (علیه السّلام) هو الصدّيق لغة واصطلاحاً]

فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو الصديق من حيث اللغة، لأنه (علیه السّلام) كان هو الدائم التصديق الله ولرسوله ولإمامه : الإمام الحسين (علیه السّلام). وهو الذي كان عمله يصدّق قوله ، وهو أيضاً كان المبالغ في الصدق، وأنه كان الذي لم يختلج في قلبه شك في كلّ ما امر الله به .

وهو الصديق من حيث الإصطلاح أيضاً، لأنه (علیه السّلام) كان النموذج الأفضل، والمصداق الأمثل - بعد الأئمة الأطهار (علیهم السّلام)- لمن آمن بالله ورسوله ، وأطاع الله

ص: 198

ورسوله ، كما كان هو (علیه السّلام) أيضاً في مقدّمة الشيعة وطليعتهم، والسباق في متابعة أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) ومشايعتهم، لأن الشيعي هو من شايع عليّاً (علیه السّلام) والأئمة من بنيه الذين سمّاهم القرآن بأهل البيت (علیهم السّلام) والتزم متابعتهم والسير على هداهم، وكيف لا يكون أبو الفضل العباس الله كذلك ، وهو ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأخو الإمامين الهمامين: الحسن والحسين (علیهما السّلام)، وقد تلقى تربيته الأخلاقية والعلميّة الراقية في أحضانهم ومدرستهم، ونال شهادته الثقافية والإنسانية العالية على أيديهم وبتأييدهم ؟

إذن فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو الصديق بالمعنى العام الذي جاء للصديق في اللغة والاصطلاح، وذلك على ما عرفت.

وهو أيضاً الصدّيق» بالمعنى الخاص للصدّيق ، فقد شهد الإمام الصادق (علیه السّلام) - كما في الزيارة المأثورة عنه - بالصدّيق في خصوص أبي الفضل العباس (علیه السّلام) حيث يقول مخاطباً إيّاه : «السلام عليك أيها الولي الصالح ، الناصح الصدّيق» وفي زيارته الأخرى قال (علیه السّلام): «أشهد لك بالتسليم والتصديق» ويقول في مكان آخر من الزيارة وهو يخاطبه أيضاً : «السلام عليك أيها العبد الصالح، المطيع الله، ولرسوله، ولأمير المؤمنين، والحسن، والحسين، صلّى الله عليهم وسلّم».

ففي الزيارة الاولى شهادة صريحه بكون ابي الفضل العباس (علیه السّلام) هو الصديق ، كما ان في الفقرة الأولى من الزيارة الثانية شهادة خاصة لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) بالتسليم والتصديق، فهو الصديق لغة لمكان لفظه التصديق، وفي الفقرة الثانية من الزيارة شهادة خاصة لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) بالإطاعة الله ولرسوله ولأوصيائه (علیهم السّلام)، فهو الصديق اصطلاحاً أيضاً، لأن الصديق كما مر في اصطلاح القرآن والسنة النبوية وأحاديث أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هو : المطيع الله ولرسوله ولأوصيائه (علیهم السّلام).

ص: 199

[الحائزون على وسام : الصديق]

نعم، وسام «الصدّيق» بالخصوص، منح لشخصين من هذه الأمة هما کالتالي:

1 - الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فقد سماه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بالصديق، ومنحه هذا الوسام العظيم، وذلك على ما عرفت في تفسير قوله تعالى: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله اولئك هم الصدّيقون..﴾ وقوله سبحانه : ﴿ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين﴾ حيث قال (صلی الله علیه و آله و سلم): «الصدّيقون ثلاثة : علي بن أبيطالب، وحبيب النجار ، ومؤمن آل فرعون». وقال (صلی الله علیه و آله و سلم): «لكل أمة صديق وفاروق، وصديق هذه الأمة وفاروقها عليّ بن أبيطالب (علیه السّلام)» . وقال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فى خطبة الوسيلة : «وإنّى النبأ العظيم ، والصدّيق الأكبر» فالفائز الأوّل على وسام: الصديق، بل وسام: الصديق الأكبر هو الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام).

2 - أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، حيث قد شهد له الإمام الصادق (علیه السّلام) على ما عرفت في زيارته (علیه السّلام) بالتسلم والتصديق ، ومنحه هذا الوسام الرفيع، وأعطاه هذا النيشان المنيع، أعني : وسام «الصدّيق» ونيشانه ، فيكون على هذا أبو الفضل العباس (علیه السّلام) الفائز الثاني الذي حاز على وسام «الصدّيق» ونیشانه ، فهو إذن «الصدّيق» حقاً.

ص: 200

الخصيصة الثامنة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) الفادي»

روي عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنه قال في حق عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) كلاماً جاء فيه: «رحم الله على العباس، فلقد آثر، وأبلى، وفدى أخاه بنفسه». والكلام هنا في تقدية العباس (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) بنفسه، حيث منه عُرف (علیه السّلام) بالفادي، علماً بأنّ الفادي من حيث المعنى اللغوي هو : مَن يقدّم ماله ، أو يقدّم نفسه ودمه فداءاً لغيره، حتّى يخلّصه به، ويقيه عبره من الأسر أو القتل، فكأنه يشتري بذلك حياة غيره، ويخلّصه من الخطر المحدق به.

[الفداء العظيم]

قال الله تعالى في قصة إبراهيم الخليل (علیه السّلام) عندما أمره بذبح ابنه إسماعيل الذبيح (علیه السّلام) ثمّ عفى عن ذلك : ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾ فلقد جاء في عيون الأخبار مسنداً عن الإمام الرضا (علیه السّلام) أنه قال : «لما أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح مكان ابنه اسماعيل، الكبش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم (علیه السّلام) أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده ، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب .

ص: 201

فأوحى الله عزّوجلّ إليه : يا إبراهيم ! مَنْ أحبّ خلقي إليك ؟

قال : يا ربّ ! ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ من حبيبك محمد (صلی الله علیه و آله و سلم).

فأوحى الله إليه : يا إبراهيم ! أفهو أحب إليك أو نفسك ؟

قال : بل هو أحبّ إلى من نفسي.

قال : فولده أحب إليك أو ولدك ؟

قال : بل ولده.

قال : فذبح ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك ، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟

قال : يا رب ! بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي .

قال : يا إبراهيم ! إن طائفة تزعم أنها من أمة محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ستقتل الحسين (علیه السّلام) ابنه من بعده، ظلماً وعدواناً، كما يذبح الكبش ، ويستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم لذلك، وتوجع قلبه ، وأقبل يبكي، فأوحى الله تعالى إليه : يا إبراهيم ! قد قبلت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك، بجزعك على لحسين (علیه السّلام) وقتله ، وأو جبْتُ لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، وذلك قول الله عزّوجل: ﴿وفديناه بذبح عظيم﴾، فالفادي هنا في هذه القصّة هو : إبراهيم الخليل (علیه السّلام)، والفداء هو الكبش الذي أتى به جبرئيل (علیه السّلام) من الجنة ، والمَفدي هو : إسماعيل الذبيح (علیه السّلام)، فيكون إبراهيم الخليل (علیه السّلام) قد اشترى حياة ابنه إسماعيل الذبيح (علیه السّلام) بتفدية الكبش عنه .

ولكن في قصة كربلاء كان الفادي هو : أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، والفداء هو : نفسه الزكية، ودمه الشريف، والمفدي هو : الإمام الحسين (علیه السّلام)، فيكون أبو الفضل العباس (علیه السّلام) قد اشترى حياة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) بتقدية نفسه وبذل دمه عنه .

ص: 202

[العباس لا يُشبه أباه]

ولقد أشبه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) في تقدية أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) بنفسه.

الله أباه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حيث فدى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أخاه وابن عمه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفسه، وذلك في ليلة المبيت، فقد روى الشيخ الطوسي في أماليه مسنداً عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (علیه السّلام) في قول الله عزّوجلّ : ﴿ومر النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله﴾ أنه قال : نزلت في على (علیه السّلام) حين بات على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). وفي شرح الآيات الباهرة وغيره من كتب التفسير : «إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لما أراد الهجرة، خلّف علياً (علیه السّلام) الفضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه قائلاً: أخبرك يا على ! إن الله يمتحن أولياء، على قدر إيمانهم ومنازلهم في دينه، فأشدّ الناس بلاءاً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يابن العم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (علیه السّلام) والذبيح إسماعيل (علیه السّلام) ، فصبرا صبراً، فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين . ثمّ ضمّه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى صدره وبكى وجداً به، وبكى على (علیه السّلام) جشعاً لفراق رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم أوصاه بوصاياه، وأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشائين ، ثم خرج (صلی الله علیه و آله و سلم) في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره. نام علي (علیه السّلام) على فراش رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) موطناً نفسه على القتل، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل : إني أخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته ؟ فاختار كلّ منهما الحياة، فأوحى الله عزّوجلّ إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ بن أبيطالب (علیه السّلام) اخیت بينه وبين محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثر

ص: 203

بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل يقول : بخّ بخّ، من مثلك يا على بن أبيطالب ؟ يباهي الله بك الملائكة ، فأنزل الله عزّوجلّ على رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي بن أبيطالب (علیه السّلام): ﴿ومن الناس من يشري : نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد﴾.

[الفادي بزعم المسيحيين]

يزعم المسيحيون أنّ «الفادي» هو المسيح عيسى بن مريم (علیه السّلام)، فإنّهم يقولون : «الفادي» لقب السيّد المسيح الذي فدى البشر بدمه الكريم، ثم يرتبون على زعمهم هذا غفران كلّ ما يرتكبونه من ذنوب وخطايا، ويبرّرون به جميع جرائمهم وجناياتهم، بحجّة أنّ المسيح كفّرها عنهم، وهذا غير تام من وجوه:

1 - ان المسيح (علیه السّلام) لم يُصلب ولم يقتل، وإنّما رفعه الله تعالى إليه ، كما في القرآن الكريم : ﴿وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه مالهم به من علم إلا اتباع الظنّ وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً﴾ وفي تفسير مجمع البيان عن ابن عباس أنه قال: «لمّا مسخ الله تعالى الذين سبّوا عيسى وأمه بدعائه، بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه، فجمع اليهود، فاتفقوا على قتله، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم ، ويعينه عليهم ، وذلك معنى قوله تعالى: ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ فاجتمع اليهود حول عيسى، فجعلوا يسألونه فيقول لهم : يا معشر اليهود ! إن الله تعالى يبغضكم، فساروا إليه ليقتلوه ، فأدخله جبرائيل فى خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها ، فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه

ص: 204

اسمه: طيطانوس، ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنّوا أنه يقاتله في الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى ، فلما خرج على أصحابه، قتلوه وصلبوه ، وقيل : ألقى عليه شبه وجه عيسى ، ولم يلق عليه شبه جسده، فقال بعض القوم : إنّ الوجه وجه عيسى، والجسد جسد طيطانوس، وقال بعضهم : إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى ؟ وإن كان هذا عيسى، فأين طيطانوس ؟ فاشتبه الأمر عليهم ومع هذا الترديد والتشكيك من الذين تولوا القتل والصلب لا يثبت كون المقتول والمصلوب هو عيسى (علیه السّلام) وإن تواتروا وأجمعوا عليه، وهو واضح لا غبار عليه، فالقصّة إذن من أساسها متزلزلة ومشكوكة ، فلا يعتمد عليها ، إذ لا أساس رصين لها رأساً.

2 - إن المسيح (علیه السّلام) بعد إخبار الله تعالى بعدم قتله، لم يكن فادياً، وإذا كان كذلك لم يصدق عليه لقب «الفادي» فبطل مزاعم المسيحيين.

3 - إنّ «الفادي» على زعم المسيحيّين بالمعنى الذي يصوّرونه للسيّد المسيح (علیه السّلام) وهو إسفاف بالسيد المسيح (علیه السّلام) و هبوط به من مستواه الرفيع ومقامه المنيع الذي هو هداية البشر، إلى مستوى تكفير خطايا البشر ، الذي يكون هو خير مبرّر لارتكاب البشر كل ما يشتهيه من جرائم و جنايات، وما يهواه من خطايا وذنوب، والذي من جملتها ، بل ومن أكبرها وأعظمها جناية هو : الإسفاف بالسيّد المسيح (علیه السّلام) إلى مستوى تكفير خطايا البشر وتبريرها .

[الفادي لدى المسلمين]

بينما «الفادي» عند المسلمين هو : الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حيث فدى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفسه ، ثمّ من بعده ابنه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) الذي فدى أخاه

ص: 205

الإمام الحسين (علیه السّلام) بنفسه.

وما كان فداء «الفادي» الأوّل إلا لخلاص رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من الأعداء، وبقائه سالماً قادراً على تبليغ رسالات الله وهداية الناس إلى الله تعالى، وإلى دينه الحنيف ، كما أنه لم يكن فداء «الفادي» الثانى إلا وقاءاً لا بن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الّذي فدى دين الله بنفسه، وقدّم دمه لإنقاذه وإبقائه، والحفاظ على أتعاب جده (صلی الله علیه و آله و سلم)، فأيقظ به عقول البشر وضمائرهم، وأرهف عبره شعورهم وعواطفهم، ليدلهم على الله ، ويهديهم إلى دينه القويم ، وصراطه المستقيم، وذلك كما قال فيه الإمام الصادق (علیه السّلام) عند زيارته (علیه السّلام): «وبذل مهجته فيك، ليستنقد عبادك من الجهالة ، وحيرة الضلالة»

[المقارنة بين الفاديين]

ومن المعلوم : أنّ هناك فرقاً كبيراً وواضحاً بين أن يكون «الفادى» مكفّراً الذنوب البشر بدمه الكريم، كما يزعمه المسيحيون بالنسبة إلى السيد المسيح (علیه السّلام)، وبين أن يكون «الفادي» مضيئاً لدرب التائهين من البشر، وهادياً لهم إلى الطريق القويم ، ودالاً إيَّاهم على الصراط المستقيم، ومنقذاً لهم من ظلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والثقافة، ومن حيرة الباطل والضلالة إلى مرفأ الحق والهداية، وذلك على ما يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وابنه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنّ «الفادي» بالمعنى الأول الذي يزعمه المسيحيون بالنسبة إلى السيد المسيح (علیه السّلام) إضافة إلى أنه إسفاف بالسيد المسيح (علیه السّلام) من مستواه الرفيع إلى هوّة الحضيض هو : ترويج للظلم والجرم، والذنوب والخطايا، وتشجيع للجناة والظالمين، والعصاة والمذنبين، وتبرير لأعمالهم

ص: 206

السيّئة، وأفعالهم القبيحة ، أليس من يعلم بأنّ سيّئاته وقبائحه مكفّرة، يتمادى في ظلمه وجوره وينغمر في السيّئات والقبايح ؟

بينما «الفادي» بالمعنى الثاني الذي يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وابنه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنه إضافة إلى إعطاء الإمام وابنه ام ما يستحقانه من المقام الذي خصهما الله تعالى به هو : ترويج للعدل والإحسان، والمثل والقيم ، وتشجيع للمحسنين والمقسطين، والمؤثرين والمواسين، وترغيب في الأعمال الصالحة، والأفعال الحسنة ، أليس من يرى إمامه ، أو يرى ابن إمامه ، يفدي نفسه للهدى والحق ، ويبذل دمه لنصرة دين الله ، ويضحى بكل ما لديه لأجل هداية الناس إلى نور العلم والعدل، والخير والتقوى، يرغب في الخير والتقوى، ويضحي من أجل تعميم القسط والعدل، وتعزيز المثل والقيم ؟

ص: 207

الخصيصة التاسعة والعشرون: «في أنه (علیه السّلام) المؤثر»

المُؤثِر من الإيثار وهو : تقديم الغير وتفضيله على النفس، وفي التنزيل قال الله تعالى عن لسان إخوة يوسف : ﴿لقد آثرك الله علينا﴾ أي : فضّلك وقدّمك، وآثرتُ فلاناً على نفسي، أي: قدّمته وفضلته، وآثرتك إيثاراً، أي: قدّمتك وفضلتك تفضيلاً، وهو مقابل الإستئثار ، يقال : إستأثر بالشيء على غيره، أي: خص به نفسه واستبد به ورجل أثر أو أثر أي : يستأثر على أصحابه ويفضّل نفسه عليهم في نصيبه، والإستئثار هو الإنفراد بالشيء.

وبعبارة أخرى: الإيثار هو تقديم الغير على النفس، المعبّر عنه بالرؤية الإجتماعية ومحبّة الآخرين، بينما الإستئثار هو تقديم النفس على الغير، المعبّر عنه بالأنانية والإستبداد الفردي.

[بين الأنانية وحبّ النفس]

أمّا الأثرة والإستثثار المسمّى بالأنانية : فهو من الصفات الرديئة ، والخصال الذميمة ، النابعة من حبّ النفس المفرط، وعبادة الذات المذموم ، فإنّ حبّ النفس - بما هو هو - غريزة أصيلة في الإنسان، وصفة عريقة فيه، وقد أودعها الله تعالى فيه عن مصلحة وحكمة ، لأن إليها يعود نشاط العمران على ظهر المعمورة، وإليها

ص: 208

يرجع السير الحثيث والإتساع المستمر في دائرة الحياة من التقدم العلمي، والتطور الصناعي والإختراعات والإكتشافات التي طوّرت الحياة ، كما أنها أيضاً السبب لطلب الآخرة وإحرازها، والزحزحة عن النار والفوز بالجنة .

إذن : فغريزة حبّ النفس - بما هي - من لوازم سعادة الإنسان وتقدّم الحياة وتطوّرها، وإنّما الخطر يكمن وراء تضخّم هذه الغريزة وتجبّرها، وخروجها عن حدّ الإعتدال الذي اأراده الله تعالى لها إلى ما حرّمه الله تعالى عليها من الأنانية وعبادة الذات، التي قد تصل أحياناً إلى ادّعاء الربوبية كفرعون الذي كان يقول : ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ ، وكيزيد الّذي كان ينشد : لا خبر جاء ولا وحی نزل».

فإنّ عبادة الذات والعيش في إفرازاتها، حتى لو كانت تلك الإفرازات حريراً كالتي تفرزها دودة القز، منتهية إلى الإختناق الروحي، ومؤدية إلى الموت المعنوي، فإنّ الأناني ميت في النّاس حتى وإن بلغ في الدنيا قمة المُلك والسلطان، وإنّ الأنانيين في كل زمان فتنة ساحقة، ولعنة ماحقة، تحترق في سعيرها المُثل والقيم، وتذوب في جحيمها الفضائل والمكارم وتتبخّر في مرضاتها مصالح الآخرين افراداً وجماعات. وقد وصف الله تعالى الفارين من معركة أحد والتاركين رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وحده بين الأعداء، وصفاً يكشف عن داء الأنانية المتغلغل في نفوسهم، وعن مرض عبادة الذات المتعرّق في قلوبهم، حيث يقول تعالى : ﴿وطائفة قد أهمتهم أنفسهم﴾.

[الأنانيون وخطرهم على الدين والمجتمع]

والأنانيون عندما يسلّطون أفكارهم الضيقة على الدين الإسلامي الحنيف، يمسخون نصوصه، ويحرفون أصوله، ويفهمونه ثواباً بلا عمل، وثمرة بلا غرس،

ص: 209

أو عقاباً على الآخرين وحدهم، ونكالاً على الناس سواهم، دون أن يمسهم منه لفح ، أو يصيبهم منه أذى، وذلك لأنّ الأنانيين محصورون في حدود أنفسهم وإثرتهم ، ومقصورون على رؤية مصالحهم الفردية، ومنافعهم الذاتية، لا يفهمون من القرآن إلا ما يشتهون و من الإسلام إلا ما يلبّي أهوائهم ومصالحهم، وإنّ هذا لخطر كبير يهدد كيان الأمّة وينذر بفناء الدين والدنيا معاً، ممّا يؤكّد على معالجة الاثرة منذ الطفولة المبكرة، حتى تنبت الناشئة وهي تنظر إلى نفسها وإلى غيرها بنظرة معتدلة، ورؤية متزنة ، لا جنف فيها ولا قصور.

و من هنا يظهر سرّ التأكيد الشديد فى الإسلام على تعديل هذه الغريزة ويُعلم سبب الإهتمام الكبير من أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) على تأطيرها وتحجيمها، وتزكيتها وتهذيبها ، ففي نهج البلاغة يقول الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، في وصيّة له لابنه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام): «يا بني ! اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها ، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحبُّ أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وقل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك». وجاء فيما كتبه لعامله محمد بن أبي بكر : «أحبَّ لعامّة رعيّتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، فإنّ ذلك أوجب للحجة وأصلح للرعيّة».

فالإسلام يحدّر الناس من الأنانية ويدعوهم إلى الإعتدال، بل إلى الإيثار وتقديم الآخرين على أنفسهم ، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو أول ممتثل لما يدعو إليه الإسلام بعد الأئمة المعصومين (علیهم السّلام) في كل مجال وخاصة في مجال الايثار، وترك الاثرة .

ص: 210

[الإيثار فى القرآن والحديث]

هذا بالنسبة إلى الإستئثار ، وأما بالنسبة إلى الإيثار : فهو من الصفات الحسنة، والخصال الطيّبة ، ومن مكارم الأخلاق ، ومعالي الآداب، فإنّ الإنسان قد يجود بشيء وهو غني عنه ، فهذا هو الجود الممدوح ، وقد يجود بشيء وهو محتاج إليه ، وهذا أفضل من الأوّل وهو : الإيثار، ولا يتحلّى بالإيثار إلا الأوحدي من الناس، كما أنه لا يتصف به إلا ذو حظ عظيم، وقد زخر الكتاب، وكذلك فاضت السنّة النبوية ، وأحاديث أئمة أهل البيت (علیهم السّلام) بمدح الإيثار والتأكيد عليه ، والثناء على من تحلّى به واتخذه خُلقاً له ، ووعدت على ذلك الثواب الكبير. والأجر الجزيل ، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ويُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾.

[نؤثر به ضيفنا]

جاء في شرح الآيات الباهرة في تفسير هذه الآية المباركة مسنداً: «إنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى بيوت ،أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلا الماء ، فقالوا (صلی الله علیه و آله و سلم) : من لهذا الرجل الليلة ؟ فقال علي بن أبي طالب (علیه السّلام): أنا يا رسول الله ، وأتى فاطمة (عليها السلام) فقال لها : عندكِ يا بنت رسول الله شيء ؟ فقالت : ما عندنا إلا قوت الصبية، ولكنا نؤثر به ضيفنا، فقال علي (علیه السّلام): يا ابنة محمد نومي الصبية واطفئي السراج، فلما أصبح غدا على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فنزلت هذه الآية: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾.

ص: 211

[جبرئيل أنبأني بذلك]

وقال في شرح الآيات الباهرة مسنداً أيضاً : بينا علي (علیه السّلام) عند فاطمة (عليها السلام) إذ قالت : إذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً ، فقال : نعم ، فأتى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأعطاه ديناراً وقال له : يا علي إذهب فابتغ به لأهلك طعاماً، فخرج من عنده فلقيه المقداد بن الأسود، وقاما ما شاء الله أن يقوما وذكر له حاجته، فأعطاه الدينار وانطلق إلى المسجد فوضع رأسه فنام ، فانتظره رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فلم يأت ، ثم انتظره فلم يأت ، فخرج يدور في المسجد فإذا هو بعلي (علیه السّلام) نائم في المسجد، فحركه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقعد ، فقال : يا على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله ! خرجت من عندك فلقيني المقداد بن الأسود، فذكر لي ما شاء الله أن يذكر ، فأعطيته الدينار ، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أما إن جبرئيل قد أنبأني بذلك، وقد أنزل الله فيك كتاباً: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾.

[أنت يعسوب المؤمنين]

وفي شرح الآيات الباهرة أيضاً عن أبي جعفر (علیه السّلام) مسنداً قال: «اوتی المسنداً رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بمال وحلل، وأصحابه حوله جلوس، فقسمه عليهم حتى لم يبق منه حلّة ولا دينار ، فلما فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين وكان غائباً، فلمّا راه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال : أيكم يعطي هذا نصيبه ويؤثره على نفسه؟ فسمعه علي (علیه السّلام) فقال : نصيبي، فأعطاه إياه، فأخذه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فأعطاه الرّجل، ثمّ قال : يا على! ان الله جعلك سبّاقاً للخير ، سخاءاً بنفسك عن المال ، أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة، والظلمة هم الذين يحسدونك ، ويبغون عليك ، ويمنعونك حقك بعدي».

ص: 212

[أبشر يا علي!]

وفي الآيات الباهرة أيضاً مسنداً عن أبي جعفر (علیه السّلام) قال : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لجالس ذات يوم وأصحابه جلوس حوله، فجاء علي (علیه السّلام) وعليه سمل ثوب منخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فنظر إليه ساعة، ثمّ قرأ: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علمي : أما إنك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية، وسيّدهم وإمامهم، ثم قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لعلى (علیه السّلام) : أين خلعتك التي كسوتكها يا على ؟ فقال : يا رسول الله ! إنّ بعض أصحابك أتاني يشكو عريه وعري أهل بيته ، فرحمته وآثرته بها على نفسي، وعرفت أنّ الله سيكسونى خيراً منها . فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): صدقت ، أما إنّ جبرئيل فقد أتاني يحدّثني أنّ الله اتخذ لك مكانها في الجنّة حلّة خضراء من استبرق، وضيقها من ياقوت و زبرجد، فنعم الجواز جواز ربّك بسخاوة نفسك، وصبرك على سملتك هذه المنخرقة، فابشر يا علي . فانصرف عليّ (علیه السّلام) فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

نعم ، هناك روايات كثيرة في فضل الإيثار، ومدح المؤثرين، منها: قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما امرىء اشتهى شهوة فردّ شهوته ، وآثر على نفسه (أي: آثر الله على نفسه) غُفر له».

وسئل عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أيُّ الصدقة أفضل ؟ فقال (علیه السّلام): «جُهد المُقِلّ، أما سمعت قول الله عزّوجلّ : ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾».

ص: 213

[سيّد المؤثرين وإمامهم]

فسيّد المؤثرين وإمامهم بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من المعصومين هو : الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام).

ثمّ إنّ سيّد المؤثرين وإمامهم بعد المعصومين (علیهم السّلام) هو : أبو الفضل العباس (علیه السّلام) كما قال في حقه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) وذلك في قوله المعروف: «رحم الله عمّي العباس فلقد آثر أي آثر الله، وآثر دين الله ، وآثر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي كان ، الإمام الحسين (علیه السّلام) على نفسه ، وإخوته، وكلّ ما يملكه من غال ورخيص وكما قال في حقه الإمام الصادق (علیه السّلام) وذلك في زيارته المأثورة عنه حيث جاء فيها: «أشهد أنك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود» أي : أعطى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) كل ما في وسعه وغاية ما يملكه من جد وجهد، من بذل نفسه وإخوته ، وكلّ طاقاته وإمكاناته، ليشتري به صيانة دين الله ، وسلامة حياة إمامه ، الممثل لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بين الناس في الأرض ، والإمتداد الحقيقي له (صلی الله علیه و آله و سلم) في الأنام، الإمام الحسين (علیه السّلام) ولو كان ذلك في مقابل بقائه (علیه السّلام) حياً بلحظات قليلة .

[نماذج من إيثار أبي الفضل العباس (علیه السّلام)]

نعم، لقد آثر أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) على نفسه منذ أيامه الأولى، فكان لا يجلس بين يدي أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) إلا بعد أن يأذن له (علیه السّلام) بالجلوس، ثمّ إذا جلس بعد الإذن له، جلس جلسة العبد بين يدي مولاه، والرق أمام سيده.

وكان من إيثار أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أنه كان يدعو أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام)

ص: 214

دائماً بمثل كلمة : سيدي، ومولاي، ويا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وما أشبه ذلك ، ولم يُعهد منه أن يدعو أخاه بكلمة : أخي ، وصنوي ، وما أشبه ذلك أبداً، إلّا في موضع واحد وهو : حين مصرعه (علیه السّلام).

وكان من إيثار أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أيضاً أنه إذا حصل على شيء آثر به أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) وقدمه على نفسه، فقد قدّم له ذات مرّة وهو في سنيه الأولى عنقود من العنب الشهي، فأخذه واتجه نحو باب الدار مسرعاً، فسألوه عما بريد، فأجاب : أريد أن أقدم هذا العنقود من العنب الشهي إلى سيدي ومولاي الإمام الحسين (علیه السّلام)، وكذلك فعل .

ومن إيثار أبي الفضل العباس الا :أيضاً: خروجه مع الإمام الحسين (علیه السّلام) من المدينة يحميه بنفسه ويقى أهل بيته بدمه، ويحمل لواءه بيده، ويذبّ عنه طول ، سفرته، بدءاً بالمدينة المنوّرة ، ومروراً بمكة المكرّمة ، ومنازل الطريق بين الحجاز والعراق ، وانتهاءاً بكربلاء، على ما كان في السفر في ذلك الزمان من مشاق ومتاعب بصورة عامة، وما كان في تلك السفرة من تهديدات ومخاوف بصورة خاصة ، فلقد كانت التحرّكات المشبوهة لبني أُميّة تغطي المنطقة، والرصد الأموي بجواسيسه وعيونه يعقب قافلة الإمام الحسين (علیه السّلام) ويراقبه من كتب ، وقد أشار الإمام الحسين (علیه السّلام) عند خروجه إلى ذلك، فإنّه لما خرج من المدينة قرأ قوله تعالى: ﴿وخرج منها خائفاً يترقب﴾.

[من قمم الإيثار]

ولقد ارتقى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) و قلة الإيثار، وبلغ قمته، وذلك حينما وصل موكب الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى كربلاء، وخاصة في الأيّام الأخيرة، التي كانت

ص: 215

تقترب من يوم عاشوراء، وبالذات في الأيام التي منع بنو أمية فيها الماء وحرموه على موكب الإمام الحسين (علیه السّلام) حيث كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) يؤثر أطفال اخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) بحصته من الماء.

وعلى الأخص في اليوم الذي ورد فيه كزمان إلى كربلاء ومعه أمان من عبيد الله بن زياد للعباس (علیه السّلام) وإخوته ، وكزمان هذا كان مولى لعبد الله بن أبى المحل بن حزام وكانت أمّ البنين عمته ، فإنّ ابن ابي المحل هذا كان قد قدم إلى ابن زياد وتوسّط من نفسه لأبناء عمّته عنده، وأخذ لهم منه الأمان، وبعث به مع مولى له إليهم ، فلما قدم كزمان برسالة الأمان إلى كربلاء قدمها إلى أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقال : هذا أمان من ابن زياد بعثه إليكم خالكم عبد الله ، فقالوا له : أبلغ خالنا السلام وقل له : لا حاجة لنا في أمان ابن زياد، فإن أمان الله خير من أمان ابن سمية.

وعلى الخصوص في يوم تاسوعاء، وذلك حين ورد الشمر إلى كربلاء ومعه أيضاً أمان من ابن زياد للعباس (علیه السّلام) وإخوته ، وكذلك كان معه ما فيه تطميع لهم بإمارة الجيش وإغراء لهم برُتب عسكريّة، وأوسمة ونياشين قيادية رفيعة المستوى، وغير ذلك من مغريات، فأقبل حتى وقف على معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) ونادى : أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته ؟ فأعرضوا عنه ولم يجيبوه ، فقال لهم الإمام الحسين (علیه السّلام): أجيبوه ولو كان فاسقاً، فقاموا إليه وقالوا له : وما تريد يا شمر ؟ فقال الشمر مراوغاً ومكايداً لهم: يا بني أختي ! أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، ثم وعدهم ومناهم وطمعهم وأغراهم.

فقال له العباس (علیه السّلام) وبكل صلابة وقوّة ، ليقطع عنه مكره وخداعه، ويردّ عليه كيده ونفاقه : لعنك الله ولعن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء، وأولاد اللعناء ؟

ص: 216

فعرف الشمر فشله في مراوغته، وخيبته في نفاقه، فلم يتكلم معهم بشيء ورجع خائباً مغضباً.

[العباس (علیه السّلام) يؤثر إمامه على ولديه]

وخصوصاً إيثار أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في يوم عاشوراء وذلك في موارد الاهلي عديدة ، منها : تقديم ولديه : محمّداً وعبدالله بين يدي الإمام الحسين (علیه السّلام) وإيثاره عليهما، وفدائهما له، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لما رأى أنه لا يملك شيئاً يؤثر به أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) ويقدمه فداءاً له، سوى نفسه، وولديه، وإخوته، حاول الله أولاً أن يؤثر بولديه ويقدّمهما فداءا الله بين يدي أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وذلك لأنّ للأولاد في قلب الإنسان من المحبّة والعلقة ما لم يكن لأحد غيرهم . فالأولاد أعزّ شيء على قلب الإنسان وأغلا شيء عنده وفي الحديث الشريف: «أولادنا ، أكبادنا» وفي حكمة الشعر والنظم : «أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض» ومعلوم: إن فقد الأولاد، والإصابة بهم، من أعظم المصائب، وأشدّ الفجايع على قلب الأب ، وكلّما كان المصاب أكبر ، والفجيعة أعظم، وخاصة إذا كان في سبيل الله ونصرة الحق، كان الأجر أكبر، والثواب أعظم، ولذلك قدرتِ الروايات وعدت لفقد الأولاد والمصاب بهم من الأجر ما لم تقدّره فى فقد أحد والمصاب به، وأراد أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أن ينال هذا الثواب العظيم ، ويحصل على هذا الأجر الكبير . قبل أن يفوز هو بالشهادة ، فقدّم ولده وفلذة كبده : محمّداً على نقل بعض ، وولديه : محمّداً وعبدالله وعبد الله ، على نقل بعض آخر فداءاً بين يدي أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وواسئ في هذه المصيبة الكبرى، والفجيعة العظمى ، وهي مصيبة فقد الأولاد أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام)، و أخته السيدة زينب (عليها السلام)، كما أنه شاطر أخته السيدة زينب (عليها السلام) في كتمان هذه المصيبة وعدم الإعلان بها ، فإنّ السيّدة زينب (عليها السلام) لما قدّمت

ص: 217

ولديها ، وفلذتي كبدها : عوناً ومحمّداً ، فداءاً بين يدي أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام) احتسبتهما الله ، فلم تحضر مصرعهما ، ولم تجهر بالبكاء عليهما ، ولم تذكرهما في شيء من مراثيها ، ولم تنوّه باسمهما ، ولم تتطرّق لشيء يخصهما ، أو يذكّر بشهادتهما ، كلّ ذلك تجلّداً منها وصبراً، وتفانياً ومواساةً، كي لا تمنّ على أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام) بهما ، ولا يمس أخاها الضرّ من أجلهما ، وكذلك كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بالنسبة إلى شهادة ولديه بين يدي أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) حيث شاطر أخته السيدة زينب (عليها السلام) في ذلك .

[إيثار العباس (علیه السّلام) إمامه على إخوته]

ومنها : تقديم إخوته الثلاثة لأمه وأبيه، بين يدي الإمام الحسين (علیه السّلام)، وإيثاره عليهم ، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لما رأى كثرة القتلى من أهله قال لإخوته ا من أمه وأبيه وهم عبدالله ، وعثمان، وجعفر : تقدموا يا بني أُمّي حتى أراكم نصحتم الله ولرسوله ، والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال : تقدّم با أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك، فكان أوّل من قتل من إخوته، وفي الأخبار الطوال : إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قال لإخوته : تقدموا بنفسي أنتم وحاموا عن سيّدكم حتى تموتوا ،دونه، فتقدّموا جميعاً وقتلوا.

وكم كان صعباً على قلب أبي الفضل العباس (علیه السّلام) العطوف الذي زق العاطفة من أبيه، معدن العاطفة والحنان وإمام الرّأفة والرحمة، الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أن يرى مصارع إخوته من أمه وأبيه ويقف على أجسادهم المضرجة بالدماء، وأشلائهم المقطّعة بالسّيوف ؟ ولكن الذي كان يهوّن الخطب، ويسهل المصاب عليه ، هو : أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان يرى أن من واجبه الديني والأخلاقي أن يؤثر أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) على نفسه، وعلى إخوته ، وعلى كل ما كان يحوطه برعايته من غال ورخيص، فإنّ الله تعالى قد جعل رسوله الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم) أولى

ص: 218

بالمؤمنين من أنفسهم ، وجعل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأمر من الله علياً (علیه السّلام) والأئمة الأحد عشر من بنيه (علیهم السّلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وعلى المؤمنين أن يقدموهم على أنفسهم وأهليهم ، وأن يؤثروهم على أولادهم وإخوتهم وذويهم وعشيرتهم، وكذلك فعل أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، ولا يبعد أن يكون قد أوصاه أبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) بذلك ، وأوكل أمر إخوته من أمه وأبيه إليه ليحتسبهم، تحريضاً و تأكيداً .

[العباس (علیه السّلام) والإيثار الأخير]

ومنها : أنه لما رأى مصارع إخوته وذويه ، ونظر إلى كثرة القتلى منهم، ضاق صدره، وسئم الحياة، فجاء إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) يطلب منه الإجازة ويستأذنه للبراز، ويريد منه السماح والإذن في الإنتقام من الأعداء، فلم يأذن له الإمام الحسين (علیه السّلام) ولم يرخصه بذلك، وطلب منه أن يستقى للأطفال والرضعان ماءاً، فآثر أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إرادة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) على إرادته، وقدم طلب إمامه على طلبه، فترك النزال والقتال، وراح يستقى للنساء والأطفال مستقبلاً مصاعب هذه المهمة برحابة صدر ، وسعة باع، ولولا الختل وغدر الأعداء لأنجز أبو الفضل العباس (علیه السّلام) مهمته هذه بنجاح كما أنجز التي كانت قبلها بنجاح ايضا ولما استطاع العدوّ أن يحول بينه وبين إيصال الماء إلى الخيام، فإنّ العدوّ الجبان كان قد كمن له فى هذه المرّة من وراء النخلة ، واغتاله جبناً ولوْماً، حتّى استشهد سلام الله عليه دون أن يوصل الماء إلى المخيّم، مؤثراً أخاه على نفسه، وباذلاً دمه فى نصرته، كما قال فيه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) «رحم العباس ، فلقد آثر، وأبلى ، وفدى أخاه بنفسه».

ص: 219

الخصيصة الثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) المواسي»

أحق الناس أنْ يُبكى عليه *** فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده على *** أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء *** وجاد له على ظماً بماء

وقال آخر:

لم يذق الفرات أسوة به ***ميمماً بمائه نحو الخيا

لم ير في الدين يبل غلّة *** وصنوه فيه الظما قد ألهبا

والمرتضي أوصى إليه في ابنه *** وصيّة صدّته عن أن يشربا

لذاك قد أسنده لدينه *** وعن يقين فيه لن يضطربا

هذا من الشرع يرى فعلته *** ومن صراط أحمد ما ارتكبا

ومثله الحسين لما ملك الماء *** فقيل رحله قد نُهبا

أَمَّ الخيام نافضاً لمائه *** إذ عظم الأمر به واعصوصَبا

فكان للعباس فيه أسوة *** إذ فاض شهما غير مفلول الشبا

وقال الشيخ جعفر بن نما الحلّي وهو يصف مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام):

حقيق بالبكاء عليه حزناً *** أبو الفضل الذي واسى أخاه

وجاهد كل كفار ظلوم *** وقابل من ضلالهموا هداه

ص: 220

فداه بنفسه لله حتى *** تفرّق من شجاعته عداه

وجا دله على ظماً بماء *** وكان رضا أخيه مبتغاه

وقال آخر:

لا تنس للعباس حسن مقامه *** بالطفّ عند الغارة الشعواء

واسا أخاه بها وجاد بنفسه *** فى سقى أطفال له ونساء

ردّ الألوف على الألوف معارضاً *** حد السيوف بجبهة غراء

وقال الشيخ محسن أبو الحب في مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في قصيدة يحكي بها لسان حال العلقمي و مصرع العباس (علیه السّلام) با جنبه :

جزى الله عنّي في المواساة عمّهم *** أبا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لقد كان سيفاً صاغه بيمينه *** عليّ فلم يحتج شباه إلى الصقل

إذا عد أبناء النبي محمد *** رآه أخاهم من رآه بلا فضل

ولم أر ضام حوله الماء قبله *** ولم يرو منه وهو ذا مهجةٍ تغلي

وما خطبه إلا الوفاء وقل ما *** يُرى هكذا خلاً وفيّاً مع الخل

[وسام : المواساة]

وممّا يشهد لمواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أن جاء في زيارته المعروفة ، المأثورة عن الإمام الصادق (علیه السّلام): «أشهد لقد نصحت الله ولرسوله، ولأخيك ، فنعم الأخ المواسي»، وهذا وسام - وأكرم به من وسام وسم به الإمام الصادق (علیه السّلام) عمه أبا الفضل العباس (علیه السّلام).

ولم يكن الإمام الصادق (علیه السّلام) هو وحده الذي منح عمه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هذا الوسام، بل اقتدى الإمام الهادي (علیه السّلام) بأبيه : الإمام الصادق (علیه السّلام) ووسم عمه

ص: 221

العباس (علیه السّلام) بهذا الوسام أيضاً، وذلك في الزيارة الصادرة عن الناحية المقدسة سنة مائتين واثنتين وخمسين هجرية، حيث جاء فيها : «السلام على أبي الفضل العباس، المواسى أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الواقي له ، الساعي إليه بمائه ، المقطوعة يداه».

ومن المعلوم : إن حصول أبي الفضل العباس (علیه السّلام) على وسام : «المواساة» من قِبَل إمامين همامين، معصومين مسدّدين، من قِبَل الله تبارك وتعالى لهو خير دليل على بصيرة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في دينه، ومعرفته بحق إمامه، وإخلاصه في مواساته له .

[الوصية بالمواساة ، والوفاء بها]

بل كانت مواساة أبي الفضل (علیه السّلام) وفاءاً لما عاهد عليه أباه أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وتنفيذاً لوصيته الله التى أوصاه بها ليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، وذلك في اللحظات الأخيرة التي ودّع بها أمير المؤمنين ل(علیه السّلام) أهل بيته وذويه، وأولاده وبنيه ، فلقد جاء في التاريخ كما عن معالي السبطين وغيره : «إنّه لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام اربعين هجرية ، أي : في الليلة الأخيرة من الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أخذ الإمام يودّع أهل بيته، ويوصيهم بوصاياه، فالتفت إلى ولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام) من بين اولاده، وقربه من نفسه، وضمه إلى صدره وقال له : ولدي عباس ! وستقرّ عيني بك في يوم القيامة ، ولدي إذا كان يوم عاشوراء، ودخلت الماء، وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء وأن تذوق منه قطرة، وأخوك الحسين (علیه السّلام) عطشان». ولذا عندما قرّب أبو الفضل العباس (علیه السّلام) الماء من فمه، بعد فمه، بعد أن ملك المشرعة تذكّر عطش أخيه، وجال في ذهنه وصية أبيه ، فرمی الماء على الماء، وملأ القربة وخرج عطشاناً مواساة ووفاءاً.

ص: 222

[مواساة العباس (علیه السّلام) للسيدة زينب (عليها السلام)]

كما أنّ مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) كان وفاءاً منه لما عاهد عليه أباه أمير المؤمنين (علیه السّلام) في حق أخته المبجّلة عقيلة بني هاشم، السيدة زينب (عليها السلام) وذلك ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان أيضاً ، أي : فى ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حيث كان (علیه السّلام) قد خاصته وذويه ، وأولاده وبنيه للوداع فقد ورد : أن السيدة زينب (عليها السلام) لما رأت أباها أمير المؤمنين (علیه السّلام) قد جمع معهم ، أولاده وأهل بيته ساعة الإحتضار، وأخذ يودّعهم، ويوصيهم، ويعين الوصي والإمام من بعده عليهم، تقدّمت إليه وقالت بكل حزن وأسى على ما كانت تراه بأبيها وعلى ما أخبرها به من وقعة كربلاء: أريد يا أبناء وأنت بعد في الحياة أن تختار لي من إخوتي من يواسيني في رخائي وشدّتي، ويكفلني في سفري وحضري .

فقال لها أمير المؤمنين (علیه السّلام) بكل عطف وحنان: هؤلاء إخوتك ورجال أهل بيتك، فاختاري منهم من تريدين، فإنهم أكفاء لما ترومين .

فقالت (عليها السلام) وببصيرة كاملة : يا أبتاه! إن الحسن والحسين (علیهما السّلام) أئمتي وسادتي، وعَلَيّ أن أخدمهما وأقوم بحمايتهما ، وأن أواسيهما وأوثرهما على نفسي، ولكنّي أريد من إخوتي من يخدمني ويواسيني، ويقوم بحمايتي وكفالتي .

فقال (علیه السّلام) لها وهو يرق على حالها ومصابها بأبيها : اختاري منهم من شئت .

فأجالت السيدة زينب (عليها السلام) ببصرها على إخوتها حتّى إذا وقع نظرها على أخيها أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لم تتجاوزه إلى غيره، وإنّما التفتت إلى أبيها أمير المؤمنين (علیه السّلام) واشارت بيدها إلى أخيها أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقالت : يا

ص: 223

أبتاه ! أريد أخي هذا.

عندها التفت الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلى ولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأشار عليه بالدنو منه ، فلما دنا منه أخذ بيده ووضع يد السيدة زينب (عليها السلام) في يده وقال : ولدي عباس ! عليك بأختك هذه، فإنّها بقيّه أمها الزهراء (عليها السلام) فلا تقصر في خدمتها ورعايتها ولا تتوان في حفظها وحمايتها .

فقال أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وقد تحادرت دموعه على خديه يا أبتاه لأنعمنك عيناً، ولأكونن عند حسن ظنك، فإني سأبذل قصارى جهدي، وغاية جدّي ومجهودي في حفظها وحراستها، وأرعى حرمتها وحقها.

وهنا أخذ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يطيل النظر إلى ولده العباس (علیه السّلام) وإلى ابنته السيدة زينب (عليها السلام) ويبكى من موقفهما وموافقتهما، وكأنه يستعرض ما سيجري عليهما ويتذكر ما سيصيبهما من الشهادة والأسر في كربلاء.

فكان أبو الفضل العباس (علیه السّلام)ونعم الأخ المواسي ليس لأخيه فحسب، بل لأخته أيضاً : فإنّه هو الذي واسى أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في عطشه ، فلم يشرب الماء مع الحصول عليه والوصول إليه، كما أنه واسى في نفس الوقت أخته المكرّمة عقيلة بني هاشم، السيّدة زينب (عليها السلام) عطشها و ظمأها أيضاً، إضافة إلى وفائه بالعهد لهما ، وتنفيذه وصيّه أبيه بالنسبة إليهما صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

[أبوذر يواسى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)]

وجاء في تفسير عليّ بن إبراهيم عند تفسير سورة التوبة في واقعة تبوك، وغيره من الكتب الأخرى : إنّ أباذر تخلّف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في غزوة تبوك ثلاثة أيام وذلك لأنّ جمله كان أعجف، وقد وقف عليه في بعض الطريق، فلمّا

ص: 224

أبطأ عليه تركه وأخذ متاعه وثيابه، فحمله على ظهره، ولحق برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ماشياً، فأدركه بعد ثلاثة أيام كاملة وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد نزل في بعض منازله، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقالوا : يا رسول الله إنّ هذا الرّجل يمشي على الطريق وحده ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): كن أباذر ، فلما تأمله القوم :قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): أدركوه بالماء فإنّه عطشان، فأدركوه بالماء، ووافئ أبو ذر رسول الله ومعه إداوة فيها ماء ، فقال له : يا أباذر معك ماء وعطشت ؟ فقال : نعم يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ، إنتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء، فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم). فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): رحمك الله يا أباذر ! أنت المطرود عن حرمي بعدي لمحبتك لأهل بيتي تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك ، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك ، أولئك رفقائي في جنة الخلد التي المتقون.

[الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)يشكر أباذر]

نعم ، إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يشكر أباذر على مواساته ، ويدعو له بقوله : رحمك الله يا أباذر، ويخبره بما يجري عليه من بعده في سبيل الله ومحبّة رسوله وأهل بيته صلوات الله عليهم ويبشره والذين يقومون بتجهيزه بالجنّة ، كل ذلك جزاءاً له على مواساته، وتقديراً له على إنسانيته، ومن المعلوم أن شكر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أباذر إنّما هو شكر الله على لسان رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فإنّ الرّسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

ص: 225

وقد شكر الله تعالى مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) ولكن لا على لسان رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذ لم يكن الرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في الحياة ، بل على لسان وصيّ رسوله الإمام الصادق (علیه السّلام) وذلك في الزيارة المعروفة، المأثورة عنه (علیه السّلام) في حق عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) حيث جاء فيها : «السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع الله ولرسوله ولأمير المؤمنين إلى أن يقول (علیه السّلام): أشهد وأشهد الله : أنك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله ، المناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه الذابون عن أحبّائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء، ، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء ، وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره» وفي مكان آخر من الزيارة: «السلام عليك يا أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين إلى أن يقول : أشهد لقد نصحت الله ولرسوله و لأخوك ، فنعم الأخ المواسي».

وعلى لسان الإمام علي بن محمد الهادي (علیه السّلام)، وذلك حيث يقول (علیه السّلام) في زيارة الناحية المقدسة على ما مرّ : «السلام على أبي الفضل العباس، المواسي أخاه بنفسه».

بل إنّ الله تعالى قد شكر العباس ابن علي (علیه السّلام) على لسان رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) بلا واسطة، وذلك لما قد تواتر عند الفريقين من قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في حق الإمام الحسين (علیه السّلام): «حسين منّي وأنا من حسين » فيكون مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) هو مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قد شكر - على ما عرفت - أباذر على مواساته ، فهو لمواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) الذي كان أعظم من مواساة أبي ذر أكثر شكراً، وأكبر تقديراً.

ص: 226

[المواساة : سيّد الأعمال]

هذا وقد جاء فيما أوصى به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عليا (علیه السّلام)- على ما في كتاب الخصال - أن قال له : «يا علي! سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك ، ومواساتك الأخ في الله عزّوجلّ، وذكرك الله تبارك وتعالى على كل حال».

وفي أمالي الطوسي الحذاء مسنداً قال : «قال أبو عبد الله (علیه السّلام) : ألا أخبرك بأشدّ ما افترض الله على خلقه ؟ إنصافك النّاس من أنفسهم، ومواساة الإخوان في الله عزّوجلّ، وذكر الله على كل حال، فإن عرضت له طاعة الله عمل بها، وإن عرضت له معصية تركها».

وفي الكافي عن الحسن البزاز قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السّلام): ألا أخبرك بأشدّ ما فرض الله على خلقه ؟ قلت : بلى . قال (علیه السّلام): إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كلّ موطن، أما إنّي لا أقول : سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ، وإن كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعة أو على معصية».

[الوفاء من سمات المؤمنين]

كما أنّ صدق الوعد ، والوفاء بالعهد هو أيضاً من الخصال الحميدة، والصفات الكريمة ، التي مدحها الله تعالى في كتابه وجعلها من صفات المؤمنين وعلاماتهم ، ومدح الملتزمين بها فقال : ﴿واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد﴾. وفي الخصال عن أبي مالك مسنداً قال: قلت لعلي بن الحسين (علیه السّلام): أخبرني بجميع شرايع الدين قال (علیه السّلام): قول الحق ، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد».

ص: 227

وفي الخصال أيضاً عن أبي عبد الله (علیه السّلام) مسنداً قال : «ثلاث لم يجل الله لأحد من الناس فيهنّ رخصة : برّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وأداء الأمانة إلى البر والفاجر».

وفي الخصال أيضاً عن الإمام الرضا عن آبائه (علیهم السّلام) قال: «قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّتهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يفخلفهم ، فهو ممّن كملت مروءته، وظهرت عدالته ، ووجبت إخوته ، وحرمت غبته».

وفي كشف الغمّة مسنداً عن الإمام الرضا عن آبائه، عن علي (علیهم السّلام)قال : «سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول : عدة المؤمنين نذر لا كفّارة له».

وفى مشكاة الأنوار عن الإمام الرضا (علیه السّلام) أنه قال: «إنا أهل البيت نرى ما وعدنا علينا ديناً كما صنع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)».

وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو فرع هذا البيت الطاهر، الذي يرى ما وعده ديناً عليه ، ويعلم أنّ العهد حق للغير في ذمته ، ولابد من الوفاء به والأداء إليه .

[من وفاء أبي الفضل (علیه السّلام)]

ومن هنا يُعلم صحة ما جاء في بعض المقاتل من أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما جاء ووقف على مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأراد أن يحمله إلى المخيّم حيث فسطاط الشهداء، أقسم عليه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بحق جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يتركه في مكانه، معتذراً عن ذلك : بأنه قد وعد سكينة بالماء وهو يستحي منها ، حيث لم يستطع على الوفاء لها .

ويُعلم أيضاً صحة ما روي من أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لم يكن ليدعو يوماً

ص: 228

أخاه الإمام الحسيني (علیه السّلام) بكلمة : «يا أخي» أو «يا صنوي» أو «يا ابن والدية» أو ما أشبه ذلك ، وإنما كان يدعوه دائماً وأبداً بكلمة: «سيدي ومولاي أو : يا ابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أو ما أشبه ذلك ، وفاءاً منه لإمامه، وتأدباً منه مع من جعله الله ، تعالى أولى به من نفسه إلا في مكان واحد دعى أخاه بكلمة : «يا أخي» وهو حين هوى من على ظهر جواده إلى الأرض.

وينقل أيضاً: إن ملكة الهند توسلت في حاجة لها بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) ونذرت إن قضى الله لها حاجتها أن تطلى مناثر الروضة العباسية المباركة بالذهب، فقضى الله لها حاجتها ببركة ابي الفضل العباس (علیه السّلام) ، فعزمت على أن تبرّ نذرها وتفي بعهدها، فأخذت معها ذهباً كثيراً، واصطحبت في سفرها مهندسين ماهرين بارعين واتّهجت نحو المشاهد المشرّفة، والأعتاب المقدّسة.

حتى إذا وصلت الملكة بموكبها إلى كربلاء المقدّسة، وحاولت أن تبدأ عمليّة تطلية المنائر بالذهب، إذ قد تم إعداد كلّ شيء ، واستعد المهندسون والعمّال لأن يبدأوا عملهم في الصباح المبكر من يوم غد ، لكن في نفس الليلة التي كان من المفروض أن يبدأ عمل التذهيب في صبيحتها ، رأى سادن الروضة العباسية المباركة، أبا الفضل العباس (علیه السّلام) في منامه، وهو يقول له ما معناه : إني لا أرضى بتذهيب منائر ،روضتي، فإنّ منائر روضة سيّدي الإمام الحسين (علیه السّلام) مذهبة ، ويلزم الاحتفاظ بالفرق بين روضة العبد وروضة سيّده.

وفي الصباح المبكّر وقبل أن يبدأ المهندسون عملهم، أقبل سادن الروضة العباسية المباركة، وأخبرهم بما قاله أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، وأدّى رسالته إليهم ، فكفّوا عن العمل، وصرفوا الذهب الذي جاءت به ملكة الهند بحساب أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في مورد آخر، وبقي إلى يومنا هذا الفرق الذي أراده ابوالفضل العباس المنائر روضته، فارقاً مع مناثر روضة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام).

ص: 229

نعم ، إنّ تأدّب أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ووفائه لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) لم يكن مقصوراً على أيام حياته، بل بقي مستمراً حتى بعد شهادته (علیه السّلام) ، علماً بأنّ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، فكيف بشهيد يغبطه جميع الشهداء يوم القيامة مثل أبي الفضل العباس (علیه السّلام)؟ ومعه فلا عجب إذن من هذه القصة وأمثالها ، ممّا يدلّ على وفاء أبي الفضل العباس (علیه السّلام) و حسن ادبه مع أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وكبير وفائه مع شيعته ومحبّيه ، وروّاده وزائريه والأمين له والوافدين عليه .

ص: 230

الخصيصة الواحدة والثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) الحامي والمحامي»

يقال : حاميت عنه محاماة . أي منعته من العدو، ودافعت عنه، فالحامي والمحامي هو الذي يمنع الإنسان من عدوّه ويدافع عنه، وابوالفضل العباس (علیه السّلام) كان خير حام ومحام لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى أنه جاء في زيارة أبي الفضل العباس المأثورة عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أجمل الثناء على أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأفضل المدح والدعاء له لحمايته عن أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) ونصرته له ، وذلك حيث يقول (علیه السّلام): «فنعم الصابر المجاهد، المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه».

وقال السيد جعفر الحلّي عن لسان الإمام الحسين (علیه السّلام) وهو يندب أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لما وقف على مصرعه :

أأخي من يحمى بنات محمد *** إن صرن يسترحمن من لا يرحم؟

ما خلت بعدك أن تُشل سواعدي *** وتكفّ باصرتي وظهري يُقصم

وقال آخر:

أولست تسمع ما تقول سكينة *** عمّاه يوم الأسر من يحميني؟

إذن ، فالعباس (علیه السّلام) هو من شهد له الإمام الصادق (علیه السّلام) والتاريخ، وأقرّ له الشعراء والأدباء بالحماية عن أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) والدفاع عنه، ولا بأس

ص: 231

بأن نذكر هنا بعض تلك المواقف التي بدت فيها حماية أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومحاماته عن أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) جلية وواضحة :

[العباس (علیه السّلام) على باب الوليد]

لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بمواقفه المحمودة، وسيرته الطيبة، قد احتل لنفسه في قلب أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) مكاناً مرموقاً، ومنزلة رفيعة، بحيث صار مورد اعتماده و محل ثقته، ومن يعوّل عليه، ويطمئن إلى نجدته وحمايته، حتّى أنه لمّامات معاوية وكتب يزيد إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، بأن يأخذ الإمام الحسين (علیه السّلام) بالبيعة له ، وإن أبى ضرب عنقه وأرسل برأسه إليه، أنفذ الوليد إلى الإمام الحسين (علیه السّلام) في الليل واستدعاه ، فعرف الإمام الحسين (علیه السّلام) ما يريد ، فدعى ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه - ولا شك أنه كان على رأسهم أخوه الوفي أبو الفضل العباس (علیه السّلام) - وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم : إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلّفني فيه أمراً لا اجيب إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي ، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا، فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي.

وكان كما قال (علیه السّلام)، فإن الوليد دعاه إلى بيعة يزيد فامتنع الإمام الحسين (علیه السّلام) من ذلك وقال : إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة بنا فتح الله ، وبنا يختم ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النفس المحرّمة، ومعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة ؟

وكان مروان حاضراً، فأشار على الوليد بحبس الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى

ص: 232

يبايع أو يضرب عنقه، وأغلظ الوليد في كلامه له (علیه السّلام) ، فعلا صوت الإمام الحسين (علیه السّلام) مع مروان والوليد فهجم على الوليد قصره كلّ من كان مع الإمام الحسين (علیه السّلام) بالباب وقد شهروا أسلحتهم وأحاطوا بالإمام الحسين (علیه السّلام) يحمونه ويحامون عنه وأخرجوه إلى منزله.

ومن المعلوم : أنّ الأخ الحامي، والصنو المحامي، أعني : أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان بلا شك هو قائد هؤلاء الثلاثين الذين دخلوا على الوليد لحماية الإمام الحسين (علیه السّلام) و والدفاع عنه .

[موقف العباس (علیه السّلام) ليلة عاشوراء]

ثمّ إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما جمع أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرم وخطب فيهم خطبة أخبرهم فيها بأنّ القوم لا يطلبون سواه، وأنهم لو أصابوه لذهلوا عن غيره، أذن لهم بالإنصراف عنه قائلاً: «ألا وإني أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم». فكان أوّل من قام وأجاب ، وبدأ القوم بالكلام، هو أخوه أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنه أجاب جواب الحامي الوفي، والمحامي الناقد البصير، جواباً فتح على الآخرين كيف يجيبون إمامهم : الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى يرضى الله عنهم ورسوله، وعرفهم كيف يقفون من إمامهم : الإمام الحسين (علیه السّلام) وموقف النصح والوفاء والنبل والشرف، لينالوا عزّ الدنيا وكرامة الآخرة، إنّه قام فقال : «لم نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبداً» وقام الآخرون وقالوا ما يشبه هذا الكلام، فأجابهم الإمام الحسين (علیه السّلام) وهو

ص: 233

يشكرهم على معرفتهم وشعورهم الطيب ، ويثني على إيمانهم وإخلاصهم البالغ، بقوله : «إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً». وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو أوّل من فاز بهذا الوسام ، وناله بكفاءة.

[يوم عاشوراء وبطولة العباس (علیه السّلام)]

نعم، كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو الحامي الكفوء، والمحامي الشجاع، والمدافع الجريء، الذي كان يجاهد بثبات، ويدافع بعزم وبصيرة عن أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وعن أهل بيته وأسرته ، بل عن كلّ معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام)، إذ كان معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) آمناً بوجوده ، مطمئناً إلى قيادته وحمايته ، مفتخراً بنجدته وشهامته، فلقد جاء في تاريخ الطبري وغيره : إن أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) بعد الحملة الأولى التى استشهد فيها خمسون منهم كان يخرج الإثنان والثلاثة والأربعة ، وكلّ يحمى الآخر من كيد عدوّه، فكان ممّن خرج الجابريان، وقاتلا حتى قتلا، والغفاريان ، فقاتلا معاً حتى قتلا، والحرّ الرياحي ومعه زهير بن القين يحمي ظهره فقاتلا ساعة، وكان كلّما شدّ أحدهما واستلحم، شد الآخر واستنقذه ، حتى قتل الحر، وكان ممن خرج أيضاً: عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السلماني، ومجع بن عبدالله العائذي، فشدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلمّا أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كلّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الإمام الحسين (علیه السّلام) أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) فاستنقذهم بسيفه وقد جُرحوا بأجمعهم ، والشاهد هنا هو : في انتداب الإمام الحسين (علیه السّلام) أخاه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لهذه المهمة الصعبة، مهمة استنقاذ

ص: 234

المنقطعين ، والأصعب منه هو : قوّة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) على إنقاذهم من بين تلك الجموع التكدّسة، والحشود الغفيرة ، فإنه (علیه السّلام) أنقذهم على ما بهم من جراح، وأثبت بذلك حمايته لأخيه ولمن كان مع أخيه.

[العباس (علیه السّلام) واللقاء بين المعسكرين]

ثم إنّه لمّا أراد الإمام الحسين (علیه السّلام) أن يلتقي بعمر بن سعد ويتم الحجّة عليه ، أرسل إليه عمر و بن قرضة الأنصاري يطلب منه اللقاء به ليلاً بين المعسكرين، فلمّا جنّ الليل وحان وقت اللقاء خرج كلّ منهما في عشرين فارساً، حتى إذا التقيا بين المعسكرين - وكان هذا هو اللقاء الأوّل من نوعه - أمر الإمام الحسين (علیه السّلام) من معد أن يتأخر إلا أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وابنه عليّاً الأكبر (علیه السّلام)، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص و غلامه دريد عندها التفت الإمام الحسين (علیه السّلام) - وقد حفٌ أخوه الحامي له ، والمحامي عنه أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، وابنه الكمي الوفي علي الأكبر - إلى ابن سعد وقال له : ويلك يا ابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادك ؟ أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي ، فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى.

فقال عمر بن سعد : أخاف أنْ تُهدم داري.

فقال الإمام الحسين (علیه السّلام) أنا أبنيها لك.

فقال عمر : أخاف أن تؤخذ ضيعتي .

فقال الإمام الحسين (علیه السّلام) : أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز وفي رواية أنه (علیه السّلام) قال له : أعطيك البغيبغة، علماً بأنها كانت ضيعة عظيمة ، فيها عين تتدفّق كعنق البعير ، وبها نخل وزرع كثير ، وقد دفع معاوية فيها ألف ألف

ص: 235

دينار (أي مليون مثقال ذهب) ليشتريها ، فلم يبعها (علیه السّلام) منه .

وهنا عندما انقطعت اعذار ابن سعد ابدى في جواب الإمام الحسين (علیه السّلام) مقالة أبان فيها عن نفاقه الباطن ، وكفره المكتوم، مقالة تكشف عن سوء نيته بالنسبة إلى نبيه و آل نبيه صلوات الله عليهم، وتعبّر عن عدم غيرته على نبيه وعلى أهل بيته وحرمه وعقائله ومخدّراته، مقالة تبدي رضاه بسبي آل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وتخدير إمائه هو ونسائه، مع أنّ الله تعالى جعل الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السّلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأمرهم بأ يموتوا دونهم، وأن يحفظوهم بأنفسهم وأموالهم، وأهليهم ،وعشيرتم ، لقد تجاهل ابن سعد كل أوامر الله تعالى بالنسبة إلى رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيت رسوله (علیهم السّلام) وهو لم يكن ممّن يجهلها، وانبرى يقول بكل صلافة : إن لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم.

وهنا لمّا رأى الإمام الحسين (علیه السّلام) شدّة جفاء ابن سعد وعظيم صلافته و تفضيل عياله على عيال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و عيالات أهل بيته (علیهم السّلام)، وهو ممّن يعلم بوجوب حقه (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السّلام) عليه ، آيس منه ومن هدايته، وانقطع رجاؤه من انابته وأوبته إلى الحق ، فتركه وانصرف وهو يقول : مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك ، فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيراً.

فأجاب ابن سعد وقد شغف قلبة حبّ الدنيا ، وغطّى عقله وعود حكومة الري، ولو كان بثمن قتل ابن بنت نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال مستهزءاً: في الشعير كفاية عن البر. ولكن الإستهزاء بكلام المعصومين والناصحين، وعدم الإكتراث بنصائحهم ومواعظهم، لا يجرّ على الإنسان إلا الندم والحسرة ، ولا يعود عليه إلا بالضلال والخسران المبين، وكذلك كان مصير ابن سعد فقد خسر الدنيا والآخرة .

ص: 236

[الراية في حماية العباس (علیه السّلام)]

ولما كان يوم عاشوراء وعبأ الإمام الحسين (علیه السّلام) أصحابه للقتال، أعطى الراية أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وخصه بها من بين جميع أهل بيته وأصحابه، وإنّ الله هذا لبلدلّ على جدارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بحماية الراية وحفظها وكفائته في القيام بهذه المهمة، مهمّة الدفاع والحماية عن معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) ومحاماته لهم. وبعد أن عبأ الإمام الحسين (علیه السّلام) أصحابه وأعطى الراية أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) دعا براحلته فركبها ونادى بصوت عال يسمعه جلّهم قائلاً: «أيها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم عَلَيَّ ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النّصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النَّصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إلى ولا تنظرون إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصّالحين. فلما سمعن النّساء هذا من الإمام الحسين (علیه السّلام) صحن وبكين، وارتفعت أصواتهنّ ، فارسل الإمام الحسين (علیه السّلام) أخاه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وابنه على الأكبر، وقال لهما سكتاهن، فلعمري ليكثر بكاؤهن.

فأقبلا إليهنّ واسكتاهنّ، ولما سكتن ، واصل الإمام خطبته في الناس، واستمرّ في موعظته لهم .

وما كان انتخاب أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لإسكات النسوة إلا لجدارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) للقيام بهذه المهمة، ومكانته المرموقة عند النسوة، وايمانهنّ بنجدته وحمايته، ودفاعه وذبّه عنهنّ، ولذلك لما رأينه مقبلاً إليهن سكتن اطميناناً

ص: 237

إلى وجوده، وركوناً إلى حمايته لهنّ ، ومحاماته عنهن، فلمّا طلب منهنّ السكوت حذار شماتة الأعداء وهو بشخصه حاضر بينهنّ ، أطعنه وسكتن وسكن .

[إعداد العباس (علیه السّلام) لكربلاء]

وروي أن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كان ذات يوم جالساً في مسجد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بین أصحابه يحدثهم ويعظهم ويبشّرهم وينذرهم، إذ جاء أعرابي وعقل راحلته على باب المسجد ، ودخل ومعه صندوق، وأقبل نحو الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فسلّم على الإمام ووضع الصندوق بين يديه، ثمّ قبّل يدي لها الإمام وقال : جئتك يا أمير المؤمنين بهديّة.

فقال (علیه السّلام): وما هى هديتك؟

قال : هديتي في هذا الصندوق، ثمّ فتح الصندوق وإذا فيه شيء ملفوف ففلّه فإذا هو سيف عضب من السيوف الجيدة، وله حمائل جميلة، وقدمه للإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، فأخذه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وشكره على هديته، ثم أخذ يقلب السيف بيده وينظر إليه، وهو يقول لمن كان معه من أصحابه أيكم يستطيع : أن يؤدّي حق هذا السيف فيكون حقيقاً بأن أهديه له ؟ وبينا الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يكلّم أصحابه، إذ دخل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) المسجد - وهو إذ ذاك لم يبلغ الحُلُم - وأقبل نحو أبيه أمير المؤمنين (علیه السّلام) ، فسلم عليه ووقف بين يديه متأدباً وأخذ يطيل النظر إلى السيف الذي في يد أبيه فأجاب الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) سلام ولده، ثم أخذ ينظر إليه وهو يعيد مقالته ويقول : أيّكم يستطيع أن يؤدّي حق هذا السيف فيكون جديراً بأن أهديه له ؟

فقال أبو الفضل العباس (علیه السّلام): وما حق هذا السيف يا أبتاه ؟

ص: 238

فقال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام): ولدي عباس ! حق هذا السيف هو : أن تحمى به أخاك الإمام الحسين (علیه السّلام) وتحامي عنه .

فقال أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وبكل انشراح ورحابة : أنا لذلك يا أبتاه.

فقال أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد ابتهج بشجاعة ولده العباس وهش لبسالته ووفائه : نعم أنت له ثمّ أشار إليه بأن يدنو منه ، فلمّا دنى منه قلّده إياه، فطال نجاد السيف على العباس فقرّره له ، ثمّ جعل ينظر إليه ويطيل نظره وهو يبكي ودموعه تتحادر على خديه .

فقال له أصحابه وما يبكيك يا أمير المؤمنين لا أبكى الله عينيك ؟

فقال (علیه السّلام) وقد اختنق بعبرته : كأني بولدي هذا وقد أحاطت به الأعداء من كل جانب، وهو يضرب فيهم بهذا السيف يمنة ويسرة، ويحمي به أخاه الإمام الحسين الليل ويحامي عنه ، حتى تقطع يداه في نصرته، ويقصف رأسه بعمد من حديد في حمايته والدفاع عنه، ثم بكى (علیه السّلام) وبكى من كان حاضراً عنده من أصحابه.

ص: 239

الخصيصة الثانية والثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) ظهر الولاية»

لهفي له إذ رأى العباس منجدلاً *** على التراب صريعاً عافر البدن

نادى بصوت يذيب الصخر يا عضدي ** ويا معيني ويا كهفي ومؤتمني

عباس قد كنت لي عضداً أصول به *** وكنت لي جُنَّة من أمنع الجُنَنِ

عباس هذي جيوش الكفر قد زحفت *** نحوي بثارات يوم الدار تطلبني

كسرت ظهري وقلت حيلتي وبما *** لاقيتُ سُرّت ذووا الأحقاد والإحن

بذلت نفسك دوني للعدى غرضاً *** حتى قضيت نقى الثوب من درن

بقيت بعدك بين القوم منفرداً *** أقلب الطرف لا حام فيسعدني

[العباس (علیه السّلام) عضد الإمام الحسين (علیه السّلام) وظهره]

لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) عضداً وظهراً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) ، كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ومن قبله أبو طالب (علیه السّلام) عضداً وظهراً لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فقد جاء في التاريخ، وباعتراف من علماء الفريقين : أنّ عم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أعني : أبا طالب (علیه السّلام) كان ظهراً لابن أخيه في كلّ موطن وموقف وقف فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ما أكثر تلك المواقف والمواطن في التاريخ ؟ وكان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو يرى عمّه أبا طالب (علیه السّلام) ظهراً له، يواصل طريقه بكلّ جدّ، ويستمر في تبليغ رسالات ربه بكل صلابة.

ص: 240

[أبو طالب (علیه السّلام) ظهر النبوة]

ثمّ إنّه لمّا رأى المشركون أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، ورأوا أنّ عمّه أبا طالب (علیه السّلام) قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلّمه لهم ، مشي ملأ منهم إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّى بيننا وبينه.

فقال أبو طالب (علیه السّلام) في جوابهم قولاً رفيقاً ، وردّ عليهم ردّاً جميلاً، ثمّ بعث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والملأ عنده فلما دخل عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال له : يا ابن أخي! هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك أن تكف عنهم وعن شتم آلهتهم، ويدعوك وإلهك .

فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في جواب عمّه : يا عم ! أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم ؟

فقال أبو طالب (علیه السّلام) : وإلى ما تدعوهم يا ابن أخي ؟

قال : أدعوهم - يا عم ! - إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم ؟

فابتدر إليه أبو جهل من بين الملأ قائلاً: ما هي وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها ؟

وهنا أجاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هذا السؤال بعد أن جلب انتباه الملأ إليه، وعطف مشاعرهم نحوه، بقوله : تقولون : «لا إله إلا الله».

فنفروا عند ما سمعوا ذلك وقالوا : سلنا غيرها.

فلما رأى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نفورهم من الله تعالى، وعكوفهم على آلهتهم التي

ص: 241

لا تضر ولا تنفع، ولا تسمن ولا تغني من جوع، وأحس بعنادهم وتعصبهم للباطل، وتغاضيهم وجحودهم للحق، التفت إليهم وقال : لو جئتموني بالشمس حتى تضعونها في يدى ما سألتكم غيرها .

فقاموا من عنده غضاباً، وولّوا على أدبارهم نفوراً، ولكن قبل أن يتفرّقوا التفت أبو طالب (علیه السّلام) إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقال على مسمع من اولئك القوم ومرأى منهم : يا ابن أخي أدع كما أمرت ، ثم أنشأ يقول :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتّى اُوَسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد صدقت وكنتَ ثمّ أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

وهكذا كان فإنّ المشركين لم يتمكنوا من أن يصلوا بجمعهم إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى قبض أبو طالب (علیه السّلام)، فلما قبض نزل جبرئيل من عند الله تبارك وتعالى ليقول للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم): لقد فقدت من كان لك ظهراً، وعُدمت نصره ومظاهرته، فلا مكان لك بعده في مكة .

[مع أبي طالب مرة أخرى]

وفي مرة أخرى مشى الملأ من قريش إلى أبي طالب (علیه السّلام) أيضاً وقالوا له : يا أبا طالب ! إنّ لك سنّاً وشرفاً ومنزلة، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك ، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو تنازله وإياك فى ذلك ، حتّى يهلك أحد الفريقين.

وهنا لما سمع أبو طالب (علیه السّلام) مقالة القوم بعث إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلمّا أقبل

ص: 242

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التفت إليه عمه أبو طالب (علیه السّلام) وقال له : يا ابن أخي ! إن قومك جاؤني وقالوا لي كذا وكذا ، فما تقول ؟ فقال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بكل عزم وحزم يا عم ! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ثمّ استعبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فبكى ، ثم قام، فلمّا ذهب ناداه عمه أبو طالب (علیه السّلام) قائلاً : اقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلمّا أقبل التفت إليه عمّه أبو طالب وهو يُطمئنه ويحمى ظهره بقوله : قل يا ابن أخي ما أحببت فوالله لا أسلّمك لشيء أبداً .

وكان كما قاله (علیه السّلام) فإنه مادام كان فى قيد الحياة لم يُسلم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لشيء أبداً، ولم يتجرأ أحد من مشركي قريش ولا غيرهم على استئصاله وتصفيته، ولا على صدّه عن رسالته وكفّه عن تبليغها إلى الناس.

[الإمام أمير المؤمنين ظهر النبوة والرسالة]

وكان الإمام أمير المؤمنين الله يواصل خُطى أبيه أبي طالب ويسبر بسيرته، فكان (علیه السّلام) ظهراً للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في كل موطن وموقف وقف فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كما كان أبوه أبو طالب ان ظهراً له، فلقد كان هو ربیب رسول المظهراً الله قبل البعثة يعني : كان (علیه السّلام) منذ أيامه الأولى عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وفي بيته ، يتعلّم منه منه مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال، كما كان تلميذ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد البعثة ، حيث أنه (علیه السّلام) كان أوّل من آمن به وصدقه و آزره ونصره وكان يصحبه مصاحبة الظل صاحبه، ويتبعه متابعة الفصيل اثر امه . ويرى نور الوحي حين ينزل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ويسمع حسيس الملائكة، كما سمع رنّة الشيطان جزعاً من نزول الوحي ، ويشم ريح النبوة، حتّى قال له رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إنك تسمع ما أسمع ،

ص: 243

وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك لوزير، وإنّك لعلى خير .

ولقد زخر تاريخ الإسلام الناصع بمواقف الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) المشرفة، تجاه الإسلام وتجاه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث كان للإسلام عوناً وناصراً، ولرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ظهراً وحامياً ، فذلك موقفه المشرّف يوم الدار ويوم الإنذار، وتلك تضحيته العظيمة ليلة المبيت وليلة الهجرة، وذلك مقامه البطولي يوم بدر وأحد، ويوم الأحزاب وخيبر ، وتلك منزلته العظيمة يوم تبوك، ويوم نزول سورة براءة ويوم المباهلة ، ويوم غدير خم، وكثير غيرها من المواقف المشرفة التي بدت منها واضحة كون الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) مظهراً للنبي يا ، وثبت منها للتاريخ أنه (علیه السّلام) كان ظهراً للنبوة والرسالة، وأنه لولا مواقفه العظيمة تلك ، لاندرس اسم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وستنه وسيرته، ولا نمحت معالم النبوة، وآثار الرسالة والوحى.

[العباس (علیه السّلام) يواصل خُطى أبيه]

وكما كان الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) يواصل خُطى أبيه أبي طالب (علیه السّلام)، ويسير بسیرته بالنسبة إلى حماية النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) و مظاهرته له ، فكذلك كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) يواصل خُطى أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ويسير بسيرته بالنسبة إلى حماية الإمام الحسين (علیه السّلام) وكونه ظهراً له، وكيف لا يكون أبو الفضل العباس (علیه السّلام) ظهراً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وقد وُلد - على ما مر - من أجل ذلك ؟ فإنّ أباه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كما عرفت كان قد اقترح على أخيه عقيل بن أبي طالب (علیه السّلام) أن يشير عليه بالزواج من امرءة ولدتها الفحولة من العرب أي: بأن تكون من بيت معروف بالشجاعة والفروسية والنبل والكرامة، حتّى تلد له ولد غيوراً وشجاعاً ، يكون عضداً وظهراً للإمام الحسين (علیه السّلام)، فأشار عليه عقيل

ص: 244

بالزواج من فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابية ، المكناة بأم البنين (علیه السّلام)، فتزوجها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) فولدت له بنين أربعة أولهم وأكبرهم ، العباس بن أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وإنما سماه أبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) باسم : العباس مع أن العباس من حيث اللغة هو : الأسد الذي تهرب منه الأسود خوفاً وذعراً، ليكون حافزاً له على الشجاعة والشهامة، ومذكراً له بالبطولة والبسالة، فيكون اسماً على مسمّى ويقوم بنصرة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) في كل موطن وموقف، وخاصة في موقف كربلاء ويوم الطف .

ومعلوم أن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) الذي كان - على ما عرفت - يفكر في إعداد من يكون ظهراً للإمام الحسين (علیه السّلام) وذلك قبل ولادة ابنه العباس (علیه السّلام)، بل وقبل أن يتزوج من أم العباس : أم البنين (عليها السلام)، كم كان يسعى بعد أن ولد له العباس في أن يؤدبه ويربيه على إكبار أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، ويمهده ويعده ليكون للإمام الحسين (علیه السّلام) عضداً وظهراً، ويعلمه ويوصيه بأن لا تؤثر فيه المغريات، ولا تستهويه الأطماع ، وأن لا يؤثر على أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) شيئاً ، ولا يقدّم على حماية أخيه ونصرته أحداً .

فكان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو خير تلميذ لأفضل أستاذ هو خير تلميذ لأفضل أستاذ فى هذا المجال حيث أنه (علیه السّلام) طبق كلّ ما تعلمه من أستاذه تطبيقاً حرفياً، ونفذ كل وصاياه تنفيذاً دقيقاً وصحيحاً ، ولم يتخلّف عمّا تلقاه من تعليم ووصايا قيد شعرة ، ولم يبتعد عنها بمقدار أنملة، وإنّما أدّى كلّ ما كان عليه تجاه أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وكان له وبأحسن ما يكون، وأفضل ما يمكن عضداً وظهراً، فكان بذلك ظهراً للولاية والإمامة ، كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)ظهراً للنبوة والرسالة.

ص: 245

[حديث زهير لأبي الفضل (علیه السّلام)]

ولقد مرّ أنّ شمر بن ذي الجوشن قد طمع في أن يستهوي أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ويغريه بالأمان الذي عرضه عليه ، والمنصب الذي جاء به من ابن زياد إليه، ليدخله فيما دخل فيه هو من ظلمات الظالمين وعبوديتهم ، ظاناً بأنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام)ممّن يستبدل النور بالظلام، والحق بالباطل، والهدى بالضلال والآخرة ،بالدنيا ، ولكن ما راعه إلا ان رأى أبا الفضل العباس (علیه السّلام)- حين عرض عليه الأمان، ومنّاه بالجاه والمقام - يزمجر في وجهه زمجرة الأسد الباسل ، ويزأر على مزاعمه وأباطيله زئير الليث الغضبان ، ويرمي شباكه وخداعه بشرر أنفاسه الغاضبة رمي البركان قواصف النيران، وقواذف الجحيم، ويصرخ بوجهه معلنا عن كلمته الخالدة ، ومقالته الشامخة : ألا لعنك الله يا شمر ولعن عن أمانك ، أتؤمننا وابن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لاأمان له ؟ وتأمرنا بأن نترك من خلقنا الله لأجله، وأن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء ؟ ثم عرض عليه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أن ينتقل هو إلى معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وله جائزة عند جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فأعرض الشمر بوجهه عن أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وعما طرحه عليه ، وتضاءل ذلاً وصغاراً، ورجع بخسّة وخفّة ، وهو يجرّ ذيول الخيبة والفشل، والمذلة والهوان .

ورجع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) مع إخوته مرفوعي الرّأس إلى معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام)، وأخبروا سيدهم وإمامهم الحسين (علیه السّلام) بالخبر، فقام عندها زهير بن القين من بين معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وأقبل نحو أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وجلس إليه ، وأخذ يحدّثه حديثاً تاريخياً صادقاً، ويذكّره بقصة حقيقية واقعية، وهو

ص: 246

يشكره ويمدحه على موقفه البطولي من الشمر وأمانه، ويحضّه ويشجعه على نصرة الإمام الحسين (علیه السّلام) والذب عنه، ويقول له : ألا أحدثك بحديث وعيته ؟

قال له العباس (علیه السّلام): بلى حدثني به.

قال زهير إعلم يا أبا الفضل ! إنّ أباك أمير المؤمنين (علیه السّلام) لما أراد أن يتزوج بأمّك أمّ البنين طلب من أخيه عقيل بن أبيطالب (علیه السّلام) وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ، أن يختار له امرأة ولدته الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم ، ليتزوّجها فتلد له غلاماً ، فارساً شجاعاً ، وشهماً مقداماً ، ينصر الإمام الحسين (علیه السّلام) بطفٌ كربلاء ، ويكون له عضداً و ظهراً ، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك .

[السيدة زينب (عليها السلام) تلتقى أخاها العباس (علیه السّلام)]

كان هذا كما سبق - هو حديث زهير للعباس (علیه السّلام) و تشجيعه لأبي الفضل (علیه السّلام) على حمايته لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحراسته أخواته عقائل بني هاشم وبنات الرسالة، وهناك خبر آخر يقول : إنّ السيّدة زينب (عليها السلام) التقت أخاها أبا الفضل العباس الا بعد ذلك أيضاً، فتقدمت إليه تشجّعه على موقفه المشرّف من أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وتحرّضه على الصمود في موقفه ذلك ، والثبات على نصرة إمامه والذب عنه وهي في نفس الوقت تشكره وتثني عليه وعلى وفائه ومواساته وثباته ، وشجاعته، كما أنها (عليها السلام) أخذت تذكّره بما كان من اهتمام أبيها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) بهذا اليوم، وبقضية كربلاء ، وقلقه (علیه السّلام) مما يجري فيها على ولده السبط من شدائد ومصاعب، وعلى بناته عقائل بني هاشم من رزايا ومصائب، وتخبره أيضاً عن أن أباها (عليها السلام) قد تزوّج على أثر ذلك بامرأة من أشجع

ص: 247

العرب، حتّى تلد له غلاماً شجاعاً يكون عضداً لأخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) و ظهراً له وعوناً، فكان هو يعني : أبا الفضل العباس (علیه السّلام) نتيجة ذلك الزواج وثمرته، وعليه : فيكون هو الذي قد أعدّه أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لهذا اليوم، وادّخره لنصرة الإمام الحسين (علیه السّلام) و حماية عقائله، ثم إنها (عليها السلام) عقبت كلامها ذلك بقولها له : أخي يا أبا الفضل! الخيام خيامك ، والنساء إخوتك ، فلا تقصر عنّا بنصرتك .

[العباس يُعلن مظاهرته]

وهنا لما سمع أبو الفضل العباس (علیه السلام) كلام زهير وما قصه به عليه، كما في الخبر الأوّل، وكذلك سمع ما قالته له السيّدة زينب (عليها السلام) وحدثته به كما في الخبر الثاني، ثارت غيرته الهاشمية، وتفجّرت همّته العلوية، فتمطى في ركابه حتى قطعه ، ثمّ التفت إلى زهير - على الخبر الأول - وقال له وبكل عزم وحزم، وشدّة وصلابة : تشجّعني يا زهير في هذا اليوم ! فوالله لأرينّك شيئاً ما رأيته ، كما أنه (علیه السلام) التفت إلى اخته عقيلة الرسالة والإمامة السيدة زينب (عليها السلام) وقال لها ما يطمئنها ويشدّ قلبها ويُسكنُ روعها وخوفها .

وهكذا كان أبو الفضل العباس (علیه السلام)، فلقد أرى زهيراً وغير زهير ما لم يروه في حياتهم، وأتى بما لم يسمعوا به في التاريخ الغابر ولا التاريخ المعاصر، بل ولا يمكن أن يُسمع بمثله في المستقبل والزمان الآتي، إنّه وقف لأخيه الإمام الحسين (علیه السلام) مواقف بطولية رائعة، أعلن فيها مظاهرته العملية والقولية لأخيه الإمام الحسين (علیه السلام) ولأهل بيته (علیهم السّلام)، حتى أصبح معسكر الإمام الحسين (علیه السلام) آمناً مطمئناً إلى مظاهرته وحمايته، وأصبح معسكر يزيد خائفاً ساهراً، وقلقاً مضطرباً من شدة بأسه ، وكبير عزمه وهمته ، إنه كان في مجابهة الأعداء كفوءاً، وفي كشف

ص: 248

الموكلين بالشريعة جسوراً، وكان كلّما طلب الماء واستقى الأطفال أخيه وذرارى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) نفى عسكر الشّريعة عن الفرات مع كونهم آلافاً مؤلّفة حتى قيل إنّهم كانوا عشرة آلاف فكان في ذلك كما قال الشاعر في حقه :

يلقى الرماح بنحره فكأنّما *** في ظنّه عود من الرّيحان

ويرى السيوف وصوت وقع حديدها *** عرساً تجلّيها عليه غواني

وكان في مقارعته لهم ومنازلته إياهم وذلك كلّما أراد استنقاذ أحد، أو كشفهم عن المعسكر الإمام الحسين (علیه السلام) كما قال الآخر في حقه :

وقع العذاب على جويش أمية ***من باسل هو في الوقايع معلم

ما راعهم إلا تقحم ضيغم *** غيران يعجم لفظه ويُدمدم

عبست وجوه القوم خوف الموت *** والعباس فيهم ضاحك متبسّم

قلب اليمين على الشمال وغاص في *** الأوساط يحصد في الرؤس ويحطم

قسماً بصارمه الصقيل وإنني *** في غير صاعقة السّما لا أقسم

لولا القضا لمحى الوجود بسيفه *** والله يقضي ما يشاء ويحكم

وعلّق على ذلك في معالي السبطين قائلاً : لعمر الله لو لم يكن ما جرى على اللوح من أن يستشهد أبو الفضل العباس (علیه السلام) في يوم عاشوراء، فينكسر بفقده ظهر الإمام الحسين (علیه السلام) وينال درجة الشهادة، لأفنى العباس بسيفه معسكر يزيد، ولمحى بصارمه جيش بني أمية جميعاً.

[تحريض العباس (علیه السلام) الهاشميين على المظاهرة]

وجاء في معالي السبطين عن بعض الكتب، حديث جميل عن مظاهرة أبي الفضل العباس (علیه السلام) لأخيه الإمام الحسين (علیه السلام) وذلك عن لسان السيدة زينب (عليها السلام)،

ص: 249

فإنّها روت قائلة : لمّا كانت ليلة عاشوراء خرجتُ من خيمتي لأتفقد أخي الإمام الحسين (علیه السلام) وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده وهو يناجي ربه السلام ويتلو القرآن، فقلت في نفسي : أفي مثل هذه الليلة يُترك أخي وحده؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم على ذلك، فأتيتُ إلى خيمة أخي أبي الفضل العباس (علیه السلام) فسمعت منها همهمة و دمدمة، فوقفتُ على ظهرها ونظرت فيها ، فوجدتُ بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة وبينهم أخي أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (علیهما السّلام) وقد جثى على ركبتيه كالأسد على فريسته وهو يخطب فيهم خطبة ما سمعت مثلها إلا من أخى الإمام الحسين (علیه السلام) ، فأصغيتُ إليه فسمعته يقول في آخرها يا إخوتي ويا بني إخوتي ! ويا بني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟ وما أنتم عاملون ؟ فقالوا في جوابه قولة رجل واحد: نحن رهن إشارتك، وتحت قيادتك ، والأمر إليك فانظر ماذا ترى ؟ فقال أبو الفضل العباس (علیه السلام) وهو يشكرهم على شعورهم ويثني على معرفتهم : إنا نعد من أهل البيت، وهؤلاء الأصحاب يعدّون قوماً غرباء، والحمل الثقيل لا يقوم إلا بأهله، فإذا كان الصباح فعلينا أن نكون أوّل من يبرز للقتال ومجابهة الأعداء، ولا ندع الأصحاب يتقدّمون علينا في هذا المجال، ويسبقونا في هذه المهمة الشريفة، وحتّى لا يقول أحد من الناس : بأنهم قدموا أصحابهم وأنصارهم للقتل ، فلما قتلوا بأجمعهم عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة، ولما وصل أبو الفضل العباس (علیه السلام) في كلامه إلى هذا الموضع قام بنو هاشم وسلوا سيوفهم وهزوها في وجه أبي الفضل العباس (علیه السلام) تأييداً له وهم يقولون : الرأي رأيك، ونحن على ما أنت عليه . فشكرهم أبو الفضل العباس (علیه السلام) على ذلك وأثنى عليهم .

ص: 250

[مع حبيب بن مظاهر]

قالت السيّدة زينب (عليها السلام): فلما رأيت كبير اهتمامهم، وشدة عزمهم سكن ،قلبي، واطمأنت نفسي ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الإمام الحسين (علیه السلام) وأخبره بذلك فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة، فاقتربت منها ووقفت بظهرها ونظرت فيها فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم مجتمعين كالحلقة وبينهم حبيب بن مظاهر يقول لهم : يا أصحابي لم جئتم إلى هذا المكان ؟ تكلّموا وأوضحوا كلامكم رحمكم الله، فقالوا بأجمعهم : جئنا لننصر ابن بنت نبيّنا غريب فاطمة (عليها السلام)، فقال لهم : لم تركتم حلا ئلكم وطلّقتم نساءكم ؟ فقالوا : لذلك . فقال : فإذا كان الصباح فما أنتم فاعلون ؟ قالوا : الرأي رأيك ، والأمر إليك ، فانظر ماذا ترى ؟ قال : أرى أنه إذا جاء الصبح وبدأ القتال أن نكون أوّل من يبرز بين يدي الإمام الحسين (علیه السلام) ولا ندع هاشمياً يتقدّمنا ، فإنّه من الصعب علينا أن نرى هاشميّاً مضرّجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، ولئلا يقول النّاس : إنّهم قدّموا ساداتهم للقتال وبخلوا عليهم بأنفسهم وأرواحهم، وهنا قام الأصحاب وسلّوا سيوفهم وهزّوها في وجه حبيب وهم يهتفون فى تأييده قائلين : الرأي رأيك يا حبيب ، نحن على ما أنت عليه ، فشكرهم حبيب وأثنى عليهم .

قالت السيدة زينب (عليها السلام): ففرحت من ثباتهم وعزمهم ، ولكن خنقتني العبرة فانصرفت عنهم وأنا باكية، وإذا أنا بأخي الإمام الحسين (علیه السلام) قد اعترضني ، فسكت و تبسّمت ، فقال (علیه السلام): أخيّه زينب ! فقلت لبّيك يا أخي يا أبا عبدالله ! فقال الله أخيّه أراك متبسّمة مع أني ما رأيتك منذ خروجنا من المدينة متبسمة فما هو سبب تبسّمك ؟ قلت : يا أخي! رأيت من إخوتي وبني هاشم والأصحاب كذا وكذا وقصصت عليه خبرهم ، فقال (علیه السلام): إعلمي يا أخيه ! إنّ هؤلاء أعواني وأنصاري من عالم الذر، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 251

الخصيصة الثالثة والثلاثون: «في أنه (علیه السلام) قائد الجيش»

القائد من القود ، والقَوْد نقيض السَّوْق ، يقال : قاد البعير أي: جرّه خلفه، وفي الحديث - كما عن لسان العرب - قريش قادة ذادة : أي : يقودون الجيوش، وقادة جمع قائد ، وروي : إن قصيّاً قسم مكارمه ، فأعطى قَوْد الجيوش عبد مناف، ثم ورثها من بعده ابنه هاشم، ثمّ عبد المطلب، ثمّ أبو طالب، ثمّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم أمير المؤمنين على بن أبي طالب (علیه السّلام).

هذا وقد جاء في كتاب الخصال أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لعلي (علیه السّلام): «يا علي ! سألت ربي فيك خمس خصال ... خامستها : أن يجعلك قائد أمتي إلى الجنة، فأعطاني».

وفي نوادر الراوندي مسنداً عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «والمجاهدون في الله تعالى قوّاد أهل الجنّة».

وفي كتاب الإختصاص عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) أنه قال: «وأنا قائد المؤمنين إلى الجنّة».

وفي خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأنها قالت في وصف كتاب الله القرآن الكريم: «قائد إلى الرّضوان اتباعه».

وفي كتاب فقه الزهراء (عليها السلام): «يجب أن يكون القائد بحيث يقود أتباعه إلى الرضوان، وإلى السعادة».

ص: 252

وكذلك كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنّه كان قائد جيش الإمام الحسين (علیه السّلام) وعميد عسكره، وقد قاد كلّ أفراد جيشه ببصيرة ومعرفة ، وفى ظل إمامة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) المنصوص على إمامته من جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى حيث رضوان الله ، والسعادة الأبدية، فأوردهم جنان الخلد ، ونعيم الأبد ، وأكسبهم عزّة الدارين ، وشرف الدنيا والآخرة .

[العباس (علیه السّلام) وقيادة الجيش والقافلة]

نعم، إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما أصبح في يوم عاشوراء، وعباً أصحابه للقتال والمنازلة - بعد أن صلّى بهم صلاة الغداة - أعطى الراية لأخيه أبي الفضل العباس له وذلك بعد ان كان قد عقدها له في يوم خروجه من مدينة جده رسول فقد جعله بها قائداً لقافلته يومذاك ، وجعله بها في يوم عاشوراء قائداً على جيشه، وعميداً لعسكره ، فلمّا شبّ القتال بين الفريقين، وألهب نيرانها قائد ، الذي لم تؤثر فيه مواعظ الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه، جيش يزيد عمر بن سعد ، وباع آخرته بدنيا غيره، فإنه تقدّم ورمى بسهم نحو معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وقال : اشهدوا لى عند الأمير بأنى أوّل من رمى، ثم تبعه جيشه ورموا معسكر الأمام الحسين (علیه السّلام) بالسهام كالمطر ، فإنّه لمّا نشب القتال، وشب نيرانها ، أثبت أبو الفضل العباس (علیه السّلام) نبوغه في فنون الحرب، وتفوقه في إنجاز مهمة القائد وتأهله لادارة المعسكر والجيش وأمور القيادة.

كما وأثبت كفاءته لهذا المنصب الرفيع ، وجدارته بإدارة هذا المقام المنيع ، كيف لا وقد تدرّب في معسكر أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وتعلّم على يديه فنون الحرب، وأساليب القتال والمنازلة ؟ ولذلك استطاع أن يقف بجيشه القليل أمام جيش العدوّ الكثير، وقفة الأسد الباسل أمام هجمة الثعالب الجبانة، فقد كانت

ص: 253

النسبة بين جيش الإمام الحسين (علیه السّلام) بقيادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وبين جيش يزيد بقيادة ابن سعد، سعد، - ، أقل من نسبة الواحد إلى الالف - حسب بعض المصادر - ومع ذلك استطاع جيش الإمام الحسين (علیه السّلام) بقيادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) الرشيدة ، وإدارته الحكيمة، الصمود أمام ذلك السيل الجارف، والتصدّي لتلك الجموع الغفيرة ، والتحدّى لها والاستهانة بها، والتوطين على مقارعتها ومنازلتها بما لا نظير له في تاريخ الحروب ولا سابق له في ميادين النضال والكفاح، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) منذ الصباح المبكر من يوم عاشوراء، وحتى لحظة الشهادة، وساعة الوداع والرحيل، لم يهدأ لحظة ولم يسكن آناً، وإنّما كان في سعي دائم وحركة دائبة، وكفاح مستمرّ، ونضال ،متواصل بين إنقاذ الجرحى من محاصرة الأعداء ، وبين صد هجوم العدوّ على مخيّم النساء، وبين الدفاع عن معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) ومطاردة المهاجمين والمتسلّلين، وبين الإستقاء وإيصال الماء إلى العطاشى والظمآنين، وفي كل ذلك رافعاً اللواء بكفّه، مجابها العدو ببأسه وصموده، مروّعاً لهم بشجاعته وشهامته، حتى سلب العدوّ الأمن والأمان، والراحة والإطمئنان.

[من آثار حسن القيادة]

ثمّ إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام)- وعلى أثر حسن قيادته - لما رأى قلّة الأنصار، وندرة أفراد معسكر أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، قدم إخوته من أمه وأبيه للشهادة بين يدي الإمام الحسين (علیه السّلام)، واحتسبهم في الله لينال بذلك ثواب الصابرين، وأجر الناصحين المخلصين.

ثواب الصابرين لصبره على مصابهم وافتجاعه بهم.

ص: 254

وأجر الناصحين لنصحه إيّاهم بالشهادة بين يدي إمامهم الإمام الحسين (علیه السّلام) ونيلهم بذلك الفوز فى الدنيا والآخرة .

ثم إنه (علیه السّلام) لما أراد الرّخصة لنفسه، والإذن من سيّده وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام) للمبارزة والقتال، لم يأذن له الإمام الحسين (علیه السّلام) معللا ذلك بقوله له : «أنت صاحب لوائي، ومجمع عددي، والعلامة من عسكري» وهذا التصريح من الإمام الحسين (علیه السّلام) يثبت لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) أنه كان قائد جيش الإمام الحسين (علیه السّلام) في يوم عاشوراء، وعميد عسكره.

وكذلك يدل عليه ما جاء في بعض الروايات: من أن الإمام الحسين (علیه السّلام) لما : حضر عند مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأراد حمله إلى الفسطاط المعدّ للشهداء - وذلك بحسب الرواية - التفت أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وهو في لحظاته الأخيرة ، إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأقسم عليه بحق جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يتركه في مكانه، ولا يحمله إلى المخيم حيث فسطاط الشهداء، معبراً عذره عن ذلك بصوت ضعيف ونبرات متقطّعة قائلاً: أنا كبش كتيبتك ، ومجمع عددك ، والعلامة من عسكرك .

عندها تركه الإمام الحسين (علیه السّلام) في مكانه وجزاه خيراً وقال له : جزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حياً وميتاً .

وهذا الإعتذار من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لعدم حمله إلى فسطاط الشهداء، قد تشابه تماماً مع تعليل الإمام الحسين (علیه السّلام) في عدم الإذن له بالبراز ومقاتلة الأعداء، وأقلّ ما يدلّ عليه هذا هو : قيادة أبي الفضل العباس الجيش الإمام الحسين (علیه السّلام)، وأنعم به قائداً.

نعم لقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) قائد جيش الإمام الحسين (علیه السّلام) وعميد عسكره، وكان من حسن قيادته العسكرية ، وجميل فنونه الحربيّة، أن زرع

ص: 255

الخوف والذعر في قلب معسكر يزيد وجيش بني اُميّة، و بعثر جمعهم، وفرّق جماعتهم، فلقد ضرب الأعناق، وحصد الرّؤوس، وأطار الأيدي والأرجل وترك جيش العدو العنيد بأرقامه الكبيرة، وأعداده الغفيرة ، وأفواجه الضخمة، يموج بعضه في بعض ، وذلك على قلّة أفراد جيشه (علیه السّلام)، وندرة تعداد عسكره.

كما أنه (علیه السّلام) أبقى الراية مرفوعة، واللواء مرفرفاً خفاقاً، حتى اللحظات الأخيرة من حياة الجيش وبقاء أفراده، فإنّه مادام كان هناك في معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) فرداً من أفراد الجيش حيّاً، وجندياً من جنود المعسكر الحسيني مدافعاً، أبقى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) اللواء عالياً مرفرفاً، والراية الشامخة خفّاقة، تروّع الأعداء وتخوّفهم، وتؤمن الأحباء وتطمئنهم، فإن الراية - بحسب الأعراف العسكرية - ما دامت تخفق واللواء مادام يرفرف يبقى العدوّ خائفاً مرعوباً، ونائياً بعيداً، لا يتجرأ على الإقتراب والمداهمة، أو الإكتساح والإبادة، المتعقبة للسلب والنهب ، ثمّ الأسر والسبي.

ومن أجل تحقيق ذلك كلّه، أي: من أجل أن لا يقترب الأعداء من مخيّم الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وأن لا يتجرّوا على مداهمة خيام النساء والأطفال، وأن لا يفكّروا في اكتساح معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وإبادته جميعاً، ليتسنى لهم السلب والنهب ثمّ الأسر والسبى ، حافظ أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على إبقاء الراية عالية مرفرفة، واللواء منشوراً خفاقاً، ما كان به رمق، ومادام قلبه ينبض بالحياة، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ بالإضافة إلى قوة إيمان أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وشدة إخلاصه ، يدلّ على كفاءة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لقيادة جيش الإمام الحسين (علیه السّلام)، وجدارته بحمل لوائه، والتزامه برایته (علیه السّلام)، وكفى به فخراً وشرفاً، وعزة وكرامة

ص: 256

الخصيصة الرابعة والثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) المستجار»

أجار الرّجل إجارة: خَفَرَه وأمنه، وأغاثه وأنقذه واستجار به: إستغاث به والتجأ إليه. واستجاره: سأله أن يجيره، وفي التنزيل العزيز: ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجزه حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه﴾ قال الزجاج: المعنى : إن طلب منك أحد من أهل الحرب أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره، أي: أمنه، وعرّفه ما يجب عليه أن يعرفه من أمر الله تعالى الذي يتبين به الإسلام ، ثمّ أبلغه مأمنه لئلا يصاب بسوء قبل انتهائه إلى مأمنه .

وكيف كان : فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد حصل على وسام «المستجار» للدور الذي كان له (علیه السّلام) في معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وخاصة في يوم عاشوراء، فلقد استجار به جميع أفراد الجيش الذين كانوا تحت قيادته (علیه السّلام)، ولجأ إليه كلّ من كان في معسكر أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، بل استجار به وبحسب الظاهر حتى أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) .

[العباس (علیه السّلام) الركن الوثيق]

ففي معالي السبطين أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) بكى على أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بعد مصرعه وأنشأ يقول:

ص: 257

أخي يا نور عيني يا شقيقي *** فلي قد كنت كالركن الوثيق

أيا ابن أبي نصحت أخاك حتى *** سقاك الله كأساً من رحيق

أيا قمراً منيراً كنت عوني *** على كل النوائب في المضيق

فبعدك لا تطيب لنا حياة *** ستجمع في الغداة على الحقيق

ألا لله شكواني وصبري *** وما ألقاه من ظماً وضيق

[العطشان الذي جاد بالماء]

وفي جلاء العيون نسب السيّد عبدالله الشبّر الأبيات التالية إلى الإمام الحسين (علیه السّلام) وذلك عندما وقف على مصرع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) فإنه بكي وأنشأ يقول :

أحقُّ النَّاسِ أنْ يُبكى عليه *** فتئ أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده عليّ *** أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء *** وجاد له على عطش بماء

[أبو الفضل (علیه السّلام) ووسام المستجار]

وفي معالي السبطين عن منتخب التواريخ: إنّ الشيخ الأزري رحمة الله عليه لما كان ينظم في أبي الفضل العباس (علیه السّلام) قصيدته الهائية المعروفة، والتي فاقت في قوتها معلّقة لبيد ، ووصل في نظمه إلى قوله : «يوم أبو الفضل استجار به الهدى» يعني: إنّ يوم عاشوراء يوم استجار الإمام الحسين (علیه السّلام) فيه بأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، توقف في ذلك ، وفكر في نفسه بأنه لا يكون قد غالى بذلك في حق أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وقال بما لا يناسب مقام الإمام الحسين (علیه السّلام)، وعلى

ص: 258

أثره تصوّر أنّ هذا المصراع من البيت لعله لا يكون مقبولاً عند الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولذلك توقف في نظم مصراعه الآخر ولم يكمل البيت محاولاً تعديله أو حذفه فلمّا جنّه الليل ونام رأى في منامه الإمام الحسين (علیه السّلام) وهو يثني على مصراعه الذي نظمه ويقول له : لنعم ما قلت يا أزري وأحسنت وأجدت ، ثم أضاف (علیه السّلام) قائلاً : نعم لقد استجرت بأخي أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يوم عاشوراء، وذلك حين اشتدّ الضرّ وعظم البلاء، ثمّ قال له : أفلا أكملت البيت وأتممته وقلت بعده: «والشمس من كدر العجاج لثامها» يعني : إنّي استجرت به حين اغبرت الأرض والسماء، من كثرة العجاج وشدّة الغبار المثار من وقع الخيل وهجوم الأعداء حتى صارت حجاباً للشمس ولثاماً لها ، واحتجبت بذلك عن الأبصار.

وبعبارة أخرى: أراد الإمام الحسين (علیه السّلام) أن يستجير بأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في ذلك اليوم العصيب، يوم عاشوراء الرهيب، ليمنح أخاه وسام: «المجير والمستجار» لأنه (علیه السّلام) رآه أهلاً لذلك، وعرفه جديراً بهذا التقدير والإمتنان.

[الرسول ومسألة الإستجارة]

وفي التاريخ أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد استجار بأحد شخصيّات مكة يدعى : المطعم بن عدي، وذلك بعد فقده عمّه أبا طالب (علیه السّلام)، فإنه لما مات عم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أبو طالب (علیه السّلام) اشتدّ بلاء قريش على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فخرج إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة مولاه، رجاء أن يؤووه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، فاجتمع بهم في ناديهم ودعاهم إلى الله ، فلم يرفيهم من يجيبه، أو يؤويه وينصره، ونالوه مع ذلك بأشدّ الأذى ، ونالوا منه ما لم ينل منه قومه . فأقام (صلی الله علیه و آله و سلم) بينهم عشرة أيام لا

ص: 259

يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلّمه، فما كان جوابهم إلا أن قالوا له : أخرج من بلادنا، واغروا به سفهاءهم يرمونه بالحجارة حتى شجّوا رأسه وأدموا رجليه فخرج (صلی الله علیه و آله و سلم) من الطائف متجهاً إلى مكة ونزل في الطريق بنخلة وأقام بها أياماً، فقال له زيد بن حارثة : كيف تدخل مكة وتعود إلى قريش وقد أخرجوك منها؟ فقال (صلی الله علیه و آله و سلم): يا زيد ! إنّ الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر نبيه ، ومظهر دينه ، ثم انتهى (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى مكة فأرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي ليقول له : أدخل في جوارك ؟ فقال : نعم، ودعا بنيه وقومه فقال : ألبسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإنّي قد أجزتُ محمّداً. فدخل رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومعه زید بن حارثة ، حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى يا معشر قريش ! إنّي قد أجزتُ محمّداً، فلا يهيجه منكم أحد، فانتهى رسول الله إلى الركن فاستلمه، وصلّى ركعتين، وانصرف إلى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (صلی الله علیه و آله و سلم). وفي مكة عاد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى تبليغ رسالات ربه كما كان عليه من قبل وهو في إجارة المطعم بن عدي وحمايته، فإذا كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قد استجار بأحد شخصيّات مكة وهو : المطعم بن عدي، في هذه القصة، فإنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) قد استجار بأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فأنعم بأبي الفضل (علیه السّلام) مجيراً ومستجاراً.

[المُجير لكل من استجار به]

نعم لقد أصبح أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بعد أن استجار به أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) ومنحه وسام «المستجار» مستجاراً لكلّ ملهوف ومكروب ، ومجيراً لكلّ ضعيف ومغلوب ، فليس هناك من استجار به في مهم، إلا وتيسر له مهمه ، ولا

ص: 260

استغاث به مستغيث في ملمّة إلا وانجلى عنه ملمّته، ولا التجأ إليه خائف إلا وأمن ، ولا أَمَّهُ مؤمّل حاجة إلا وبلغ أمله وقضيت له حاجته.

وتاريخ مرقد أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ويوميات روضته المباركة، بل ساعاتها ولحظاتها مليئة بهذه الكرامات، وحافلة بهذه العنايات والألطاف، وقد نظم الشعراء قصائد مطوّلة وكثيرة في هذا المجال نشير إلى مقطع منها للسيّد صالح الحلي الله قال وهو يصف استشفاء احد المؤمنين يدعى باسم «سعید» به (علیه السّلام) وحصوله على الشفاء الكامل :

بأبي الفضل استجرنا *** فحبانا منه منحه

وطلبنا أن يداوي *** ألم القلب وجرحه

فكسا الله سعيداً *** بعد سقم ثوب صحه

بدّل الرّحمن منه *** قرحة القلب بفرحة

ص: 261

الخصيصة الخامسة والثلاثون: «في أنّه (علیه السّلام) الواقي»

وقاه يقيه وقاية أي صانه ومنعه من الأذى. وقيت الشيء أقيه : إذا صنته وسترته عن الأذى، وفي التنزيل العزيز: ﴿فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم﴾ أي : كفاهم الله ، ومنع منهم أهوال يوم القيامة وشدائده، وفي الكتاب الحكيم : ﴿ما لهم من الله من واق﴾ أي من دافع، ووقاه الله أي حفظه ، والتوقية : الكلاءة والحفظ .

إذن: فالواقي من حيث اللغة هو: من يقوم بعملية الحفظ والوقاية، والمنع والصيانة، ويشتغل بالدفع والكفاية، والاغاثة والإعانة، وفي ثواب الواقي روایات نذكر بعضها :

ففي الحديث الشريف عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: «من أغاث أخاه المؤمن، حتّى يخرجه من هم وكربة ،وورطة كتب الله له عشر حسنات، ورفع له عشر درجات، وأعطاه ثواب عتق عشر نسمات ، ودفع عنه عشر نقمات، وأعد له يوم القيامة عشر شفاعات».

وعن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «عونك الضعيف من أفضل الصدقة».

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال: «ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً، إلا كان أفضل من صيام شهر ، واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر

ص: 262

على نصرته، إلا نصره الله فى الدنيا والآخرة».

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أيضاً قال : «نزعك القذاة، عن وجه أخيك، عشر حسنات، وتبسمك في وجهه حسنة، وأوّل من يدخل الجنة أهل المعروف».

وعن أبي عبد الله (علیه السّلام) أيضاً أنه قال: «من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهئان عند جهده، فنفس كربته ، أو أعانه على نجاح حاجته، كانت له بذلك اثنتان وسبعون رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله».

وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) قد فاز بما بشرت به هذه الروايات من أجر وثواب الا لما إذ كان هو «الواقي» بنفسه ودمه بالنسبة إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وذلك بكل ما الكلمة «الواقي» من معنى، كما كان أبوه أمير المؤمنين (علیه السّلام) هو «الواقي» بكل ما للكلمة من معنى أيضاً بالنسبة إلى أخيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى أنه نزلت في حقه آية صلى الله عليه وسلم الذكر الحكيم وهي تشهد له بالوقاية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليلة المبيت، وتثني عليه قائلة : ﴿ومن النّاسِ مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد﴾.

[«الواقي» وسام أبي الفضل (علیه السّلام)]

نعم، لقد حصل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على أثر إخلاصه في حفظ معسكر الإمام الحسين وكلاءة مخيّم النساء والأطفال بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذريته الاطيبين، وصيانة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذرّيّته ودينه على وسام: «الواقي» وكفى به شرفاً وعزّاً، وفخراً وكرامة.

فلقد جاء في إحدى زياراته (علیه السّلام) المروية عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أن قال : تقف عند مرقده الشريف وتقول : «السلام عليك أيها الولي الصالح، الناصح الصدّيق ، أشهد أنك آمنت بالله، ونصرت ابن رسول الله ، ودعوت إلى سبيل الله ،

ص: 263

وواسيت بنفسك، وبذلت مهجتك، فعليك من الله السلام التام . ثمّ قال : تنكب على القبر المنيف وتقول : بأبي وأمي يا ناصر دين الله ، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين ، السلام عليك يا ناصر الحسين الصديق السلام عليك يا شهيد بن الشهيد ، السلام عليك منّي أبداً ما بقيت، وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم». فإنّه يستفاد من هذه الزيارة أن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد حصل على أوسمة رفيعة، و نياشين عالية، وهي تتضمّن على وسام: «الواقي».

ولقد جاء في الزيارة الصادرة عن الناحية المقدسة سنة مائتين واثنتين وخمسين هجرية المنقولة في البحار عن كتاب الإقبال مسنداً عن الإمام الهادي (علیه السّلام) المشتملة على أسماء الشهداء وبعض أحوالهم ما يلي: «السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي» وهنا كما رأيت تصريح من الناحية المقدسة بمنح أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسام : «الواقي» وقد ناله (علیه السّلام) بكفائة وجدارة.

ثمّ إنّ هناك أوسمة قيمة أخرى نالها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بجدراة وكفائة ، حتى صار يُعرف بها ويُدعى إليها، مثل: «الساعي» و«المستعجل» و «المصفّي» وغير ذلك نشير إليها باختصار :

«الساعي»

سعى يسعى سعاية : إذا عمل، ومضى في مهمة ومشى فيها، وباشر انجازها وتحصيلها ، والساعي هو من يقوم بذلك، ولقد عُرف أبو الفضل العباس (علیه السّلام): بالساعي ، السعيه (علیه السّلام) في إنجاز مهمّة الإستقاء وطلب الماء لمعسكر الإمام الحسين (علیه السّلام)، وخاصة لأهل بيته وعيالاته بنات رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذريته ، ولسعيه (علیه السّلام) في حماية أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وحماية أهل بيته وذويه، وأصحابه

ص: 264

وأنصاره ، بل ولسعيه في دين الله وكتابه والذبّ عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذريته، ونصرة الحق ومعالمه، حتّى وسمه الإمام الهادي علي بن محمد (علیه السّلام) في زيارة الناحية المقدسة، المنقولة في البحار والمشتملة على أسماء الشهداء، بوسام «الساعي» وذلك حيث يقول (علیه السّلام) فيها : السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي».

وخاطبه قبل ذلك الإمام الصادق (علیه السّلام) في زيارته المعروفة قائلاً: «أشهد أنك لم تهن، ولم تنكل ، وأنك مضيت على بصيرة من أمرك» كناية عن شدّة سعي أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وعظيم وفائه بعهده مع سيّده وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وكبير الليل معرفته بالله ورسوله وولاية أئمّة الحق ، ونفوذ بصيرته بأمور دينه ودنياه، و آخرته وعقباه، فهنيئاً لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسام «الساعي» فإنّه قد ناله بجدارة وكفائة ، ولوذعية والمعيّة .

[أجر الساعي وثوابه]

وهناك روايات تعرّضت لبيان ثواب الساعي وأجر الماشي في حوائج الناس، فكيف الساعي بين يدي ،إمامه والماشي في قضاء حوائجه، وإنجاز مهماته ، كأبي الفضل العباس (علیه السّلام)؟ ونحن نشير إلى بعضها :

في الكافي مسنداً عن أبي عبدالله (علیه السّلام) أنه قال: «من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله ، كتب الله عزّوجلّ له ألف ألف حسنة، يغفر فيها لأقاربه وجيرانه ، وإخوانه و معارفه ...».

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي الحسن (علیه السّلام) أنه قال: «إنّ الله عباداً في

ص: 265

الأرض يسعون في حوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً فرّح الله قلبه يوم القيامة».

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي جعفر (علیه السّلام) أنه قال: «من مشى في حاجة أخيه المسلم، أظلّه الله بخسمة وسبعين ألف ملك ، ولم يرفع قدماً إلا كتب الله له حسنة، وحطّ عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله عزّ وجلّ له بها أجر حاج ومعتمر».

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي عبد الله (علیه السّلام) قال : «لأن أمشي في حاجة أخ لى مسلم، أحبّ إلى من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة».

وفي الإختصاص عن الصادق (علیه السّلام) أنه قال: «مشي المسلم في حاجة المسلم خير من سبعين طوافا بالبيت الحرام».

وفي الكافي مسنداً عن أبي عبدالله (علیه السّلام) قال: «ما من مؤمن يمشي لأخيه المسلم في حاجة إلّا كتب الله عزّ وجلّ له بكل خطوة حسنة، وحطّ بها عنه سيئة ، ورفع له بها درجة، وزيد بعد ذلك عشر حسنات، وشفّع في عشر حاجات».

«المستعجل»

العَجَل والعَجَلَة : السرعة خلاف البطء، وفي التنزيل العزيز: ﴿ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقُضي إليهم أجلهم﴾ أي : لو عجل الله للناس الشرّ إذا دعوا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم، واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الخير والرحمة لقضي إليهم أجلهم أي ماتوا وهلكوا ولكنّ الله تعالى لا يعجل لهم الهلاك، بل يمهلهم حتى يتوبوا. وقد دعي أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بالمستعجل وعرف به، لأنه (علیه السّلام) يسرع في إغاثة الملهوف، وإعانة

ص: 266

الضعيف، وإسعاف المحتاجين والزمنى، فإنّه ما توسّل به إلى الله تعالى أحد، ولا استشفع به متشفّع، ولا أمله مؤمل ، إلا ورجع بقضاء حاجته، وقبول شفاعته، وتحقيق آماله وأمانيه ، حتى دعي (علیه السّلام) على أثر ذلك باسم «المستعجل» وعرف به.

«المصفّي»

صفا يصفو صفاءاً : إذا خلص من الكدر ، ونقي ممّا لا خير فيه، واستصفيت الشيء : إذا استخلصته، وأصفى الشاعر : إذا انقطع شعره ونفد، واستصفى ماله : إذا أخذه كلّه .

وكيف كان : فإنّ «المصفّي» الذي هو اسم فاعل من صفّى يصفّي تصفية، يقال لمن يقوم بعملية التصفية والتنقية، والقطع والحسم، والإستخلاص والأخذ، وحيث أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) عُرف باستخلاص قضيّة المتنازعين عند مراجعتهما إليه من الكدر ، وإنقاء نزاعهما من الشبهة ، وأخذ الظالم الجاحد للحق من المتنازعين أخذاً شديداً يقطع به مادة النّزاع، دُعي باسم : «المصفّي».

نعم إنّه اشتهر في الناس وخاصة عند أهل القرى والأرياف القاطنين في العراق بأنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو خير من يقطع مادة النزاع ويحسمها من أصلها ، وذلك بأخذ الظالم ، والإنتقام من الجاحد للحق ، والمنكر له من المتنازعين، ولذلك إذا حدث لهم نزاع وتشاجر ، ولم يرضخ الظالم من المتنازعين للحق ، ولم يعترف به ويخضع له، جاؤوا بالقضية إلى أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ، فيأتون إلى روضته المباركة، ويدخلون حرمه الشريف ، ويطلبون من المتّهم في القضية الذي يصرّ على الجحود والإنكار أن يحلف بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) على برائته، فالمتهم حينئذ يرى نفسه أمام الواقع الصريح الذي لا مفرّ منه، والحق الواضح الذي لا غبار عليه، فهو إما بريء في نفسه، أو ظالم منكر

ص: 267

للحق، وبكل صورة سوف ينقطع النزاع وينحسم ، وذلك لأنه إن كان بريئاً حلف ولم يمسّه سوء ، فيُعلم أنه كان بريئاً ممّا اتهم به ، وإن كان واقعاً غير بريء فهو إمّا أن يحلف أو لا يحلف، فإن تعقل واشترى خزي الدنيا عن عذاب الآخرة لم يحلف خوفاً من أبي الفضل العباس (علیه السّلام) فيعترف بالحق ويرضخ له ، وإن جازف بنفسه وباعها بخزى الدنيا وعذاب الآخرة حلف، فيؤخذ بذنبه، ويعاقب على جنايته، وينتقم منه، وأحياناً كثيرة يقضى عليه من طريق الغيب، لكرامة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) على الله ، ومنزلته عنده ، انتصافاً للمظلوم المعتدى عليه، وانتقاماً من الظالم الجاحد للحق.

هذا إن كان «المصفّي» على وزن اسم الفاعل، وإن كان على وزن اسم المفعول وقلنا: «المصفّى» فإن معناه : الخالص والمخلص والمستخلص، أي: إنّ الله تبارك وتعالى قد استخلص أبا الفضل العباس (علیه السّلام) واتخذه خالصاً له، وجعله من عباده المخلصين، وهو مقام رفيع، ووسام عظيم، لا يناله إلا ذو حظ عظيم ، كأبي الفضل العباس (علیه السّلام).

ص: 268

الخصيصة السادسة والثلاثون :«في أنه (علیه السّلام) سفير أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)»

السفير هو الرسول المصلح الذي يمثل أحد طرفي القضيّة الدائرة بين فئتين، ويقوم بينهما بعمليّة السفارة والوساطة، والتنسيق والوفاق.

ومعلوم أنه كلّما كانت القضية الدائرة بين الطرفين، أكبر أهميّة وحساسية، وأعظم دوراً وفاعلية، كما لو كانت حيوية ومصيرية، كانت السفارة فيها أصعب وأعقد، وكان السفير فيها أكبر مسئولية وأعظم عباً وحملاً. فيلزم أن يكون السفير بمستوى القضيّة ، بل فوق مستواها.

إذن فالقضايا المصيرية المهمة تتطلب سفيراً أميناً كريماً، وعالماً، حازماً، : وشجاعاً شهماً، وأبيّاً وفيّاً، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو من قد تجمّعت فيه كل خصال السفير الناجح والرسول الصالح، ولم يكن هناك في كربلاء أحد أجدر منه وأفضل، ولذلك اختاره أخوه الإمام الحسين (علیه السّلام) لمهمة السفارة بينه وبين جيش بني اُميّة عِندما زحف الجيش بقيادة ابن سعد نحو مخيم الإمام الحسين (علیه السّلام) مساء يوم التاسع من محرم الحرام سنة إحدى وستين للهجرة .

[تاسوعاء وأهم واقعة فيها]

لقد سجّل التاريخ في صفحاته ، ودوّنت كتب المقاتل في طيّاتها، وقائع

ص: 269

مهمة وقعت في اليوم التاسع من محرّم الحرام، ذلك اليوم العصيب المسمّى بيوم تاسوعاء، وسمّي تاسوعاء لأنه - على ما قيل - اسم لليوم التاسع من السنة ، إذ شهر محرّم الحرام أوّل شهور السنة ، وتاسعه تاسع أيام السنة ، ويقال لليوم التاسع منها تاسوعاء ، ولليوم العاشر منها عاشوراء .

وعليه : فلعل الواقعة التالية من بين وقائع يوم تاسوعاء التي سوف نتعرّض لذكرها قريباً إنشاء الله تعالى تكون من أهم تلك الوقائع وقعاً، وأعظم تلك القضايا عظة ودرساً، وعبرة وحكمة ، وذلك لأنها كشفت عن علوّ مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) الا عند الله ورسوله، وعن كبير منزلته ومكانته لدى أخيه وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وذلك عندما زحف الجيش الأموي نحو المخيم الحسيني حيث خاطبه الإمام الحسين (علیه السّلام) بقوله : «يا عباس ! إركب بنفسي ن يا أخي، حتى تلقاهم وتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم؟».

كما أنّ هذه الواقعة كشفت عن تولّي أبي الفضل العباس (علیه السّلام) منصب السفير وأداء مهمّة السفارة عن أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وإحراز كفائته لها ، وجدارته بها، فقد أثبت كونه سفيراً ناجحاً ورسولاً موفقاً، استطاع عبر سفارته تحقيق ما قام بالسفارة من أجله، وتمكّن بوساطته إنجاز ما توسط له من مهامه .

كما ان هذه الواقعة كشفت أيضاً عن اهتمام رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام) بالقرآن وتلاوته ، والصلاة وإقامتها والدعاء وإكثاره والإستغفار وملازمته، واللجاء إلى الله تعالى والانابة اليه وتبليغ رسالات الله إلى الناس والإستمرار فيه والتوجيه إلى المعنويات والدار الآخرة والإصرار عليها والتضحية من أجل الله ودينه والإستقامة فيها، وإلى غير ذلك من الدروس والعظات، والعبر والحكم الكامنة في طيّات هذه الواقعة المهمة، التي اتفقتللإمام الحسين (علیه السّلام) في كربلاء، وفي يوم تاسوعاء، من سنة إحدى وستين هجرية

ص: 270

على هاجرها آلاف التحيّة والسّلام. والواقعة هي على ما جاءت في معالي السبطين كالتالي:

[إطلالة تاسوعاء]

أطلّ يوم تاسوعاء بوقائعه المؤلمة ، وحوادته المفجعة على الإمام الحسين (علیه السّلام) ، ونشرت الشمس أشعتها الباهتة والكتيبة من شدّة الرزايا والمصائب على ربوع كربلاء ، فقد حوصر في هذا اليوم كما عن الإمام الصادق (علیه السّلام)- الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه رضي الله عنهم بكربلاء ، واجتمع عليه خيل أهل الشام وأناخوا عليه ، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد، بتوافر الخيل وكثرتها ، واستضعفوا فيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه، وأيقنوا أنّه لا يأتي الإمام الحسين (علیه السّلام) ناصر ، ولا يمده أهل العراق بعدة وعدد ثم بكى الإمام الصادق (علیه السّلام) وقال : بأبي المستضعف الغريب.

نعم، في هذا اليوم اجتمعت عدة أهل الشام وكثر جمعهم، وتوافرت كثرتهم، ونزل شمر بن ذي الجوشن على ما روى الصدوق عليه الرّحمة في أربعة آلاف ومعه كتاب من عبيد الله بن زياد.

وفي القمقام: قال سعد بن عبيدة : كنا في حرّ شديد في ذلك اليوم، وقد دخلنا الماء مع عمر بن سعد للنزهة والتبريد ، وبينا نحن كذلك إذ جاء إلى ابن سعد رجل وأسر إليه ما نقص علينا نزهتنا واستجمامنا ، إنه همس في أذنه قائلاً: إن ابن زياد قد بعث إليك شمر بن ذي الجوشن ليرى ما أنت صانعه مع الإمام الحسين فإن رآك متوقفاً في قتاله ومنازلته ضرب عنقك، وتصدى هو بنفسه لقيادة الجيش وإمارة العسكر، فانظر في أمرك، وأعد له عدتك.

ص: 271

وما أن علم ابن سعد بالخبر حتى خرج من الماء وتعجل في حرب الإمام الحسين (علیه السّلام)، فركب من ساعته ونادى فى معسكره بأعلى صوته مراوغاً ومخادعاً بقوله : يا خيل الله اركبي وبالجنّة ابشري، معلناً بذلك عن بدأ القتال، وانطلاق الحرب والمناوشة وزحف الجيش نحو معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) و مخيّمه، فركبوا وزحفوا نحوه (علیه السّلام) وكان الوقت بعد العصر من يوم تاسوعاء.

[زحف الجيش الأموي]

اقترب الجيش الأموي الزاحف إلى معسكر جيش بني هاشم الرابض، وذلك في حين كان سيد المعسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) جالساً أمام خيمته، محتبياً ،بسيفه خافقاً برأسه على ركبتيه، فسمعت السيدة زينب (عليها السلام) الصيحة والهيجة ، فأسرعت نحو أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام) لتعلمه بالخطر، الذي أصبح يهدّدهم، فلمّا رأت أخاها بتلك الحالة بعيداً عن الخطر المحدق به دنت منه وقالت أخي يا أبا عبدالله ! أخي يا أخي! أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت منا ؟ عندها رفع الإمام الحسين (علیه السّلام) رأسه، واستوى جالساً ، وقال : أخيه زينب كنت قد غفوت الساعة فرأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في غفوتي ونومي وهو يقول لي : إنك تروح إلينا.

وفي اللهوف : قال (علیه السّلام): إني رأيت الساعة جدي محمداً (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأبي عليّاً ، وأُمّي فاطمة، وأخي الحسن، وهم يقولون لي: يا حسين ! إنك رائح إلينا عن : قريب، وفي بعض الروايات : إنك رائح إلينا غداً .

وما أن سمعت السيدة زينب (عليها السلام) رؤيا أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام)، حتى بكت وأعولت ، ولطمت وجهها وخدها ، وصرخت وصاحت: واويلاه .

فقال لها الإمام الحسين (علیه السّلام) بشفقة ورحمة وهو يسكتها ويسكنها: ليس

ص: 272

الويل لك يا أخيه ، بل لأعدائك، أسكتي رحمك الله كي لا يشمت القوم بنا، فسكتت (عليها السلام) وسكنت .

[السفارة بين الجيشين]

وهنا تقدم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأخبره بأنّ الجيش الأموى قد زحف نحوهم قائلاً: يا أخى ! قد أتانا القوم وزحفوا نحونا.

فنهض الإمام الحسين (علیه السّلام) ، ثم قال : يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي! حتى تلقاهم وتقول لهم : ما لكم ؟ وما بدا لكم ؟ وتسألهم عما جاء بهم ؟

فركب أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وأتى القوم في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر ، فجاء حتّى إذا وقف عليهم قال : ما بدا لكم ؟ و ما تريدون ؟

فأجابوه بقولهم : قد جاءنا أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه، أو ناجزكم.

فقال لهم أبو الفضل العباس (علیه السّلام): إذن مكانكم، لا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله (علیه السّلام) فأعرض عليه ما ذكرتم وأخبره بما قلتم .

كان لكلام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) هذا، وقعاً شديداً على قلوب القوم، وتأثيراً كبيراً فى إرعاب نفيسهم ، حيث أنّهم لم يتجرّوا بعده على مواصلة زحفهم نحو معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام)، وإنّما أحجموا ووقفوا وهم يقولون : نعم ، ألقه واعلمه بالخبر، ثمّ القنا بما يقول لك ، واعلمنا به.

فرجع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) يخبره الخبر ، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويكلّمونهم

ص: 273

[حبيب وزهير يعظان القوم]

ثم التفت حبيب بن مظاهر إلى زهير بن القين وقال له : يا زهير! كلّم القوم إن شئت، وإن شئت كلّمتهم أنا .

قال زهير : يا حبيب! أنت بدأت بهذا ، فكن أنت الذي تكلّمهم .

فتقدّم حبيب بن مظاهر وخاطب القوم بقوله : أما والله ! لبنس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته، وأهل بيته وعباد أهل هذا المصر ، المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً .

فقاطعه عزرة بن قيس قائلاً : إنك يا حبيب لتزكي نفسك ما استطعت .

فأجابه زهير بقوله: يا عزرة: إنّ الله قد زكّاها وهداها ، فاتق الله يا عزرة وخفه ، فإنّى لك من الناصحين، أنشد الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية .

فقال له عزرة شامتاً به وطاعناً فيه : يا زهير ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت إنما كنت أنت عثمانياً.

فأجابه زهير قائلاً: أفلست تستدلّ بموقفي هذا على أني منهم ؟ ثم أضاف: أما والله ما كتبت إليه كتاباً قطّ ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظاً لما ضيّعتم من حق الله ، وحق رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 274

[السفير الناجح والسفارة الموفقة]

وبينما كان زهير يناقش عزرة، وحبيب ينصح القوم ويعظهم ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إذ وصل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إلى أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وأخبره بما قاله القوم ، فقال له الإمام الحسين (علیه السّلام): ارجع يا أخي إليهم ، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنا العشيّة، لعانا نصلّي لربنا الليلة، وندعوه ، ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والإستغفار.

فمضى أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إلى القوم واستمهلهم تلك الليلة، وكانت ليلة جمعة، فتوقف عمر بن سعد في ذلك ، وفي المنتخب: إنه التفت إلى شمر بن ذي الجوشن وقاله له ما تقول يابن ذي الجوشن ؟

فقال شمر بن ذي الجوشن : أما أنا فلو كان الأمر إليّ وكنت أنا الأمير ، ما كنت أمهلهم ، ولا أنظر هم ساعة، فكيف بليلة ؟

فقاطعهم عمرو بن الحجاج الزبيدي قائلاً: ويلكم ! والله لو أنهم كانوا من الترك والديلم، وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد ؟

وهنا التفت ابن الأشعث: قيس إليه وقال له : لا تجبهم إلى ما سألوك ، فلعمري ليصبحُنّك بالقتال غدوة.

فردّ على قيس مجيباً له بقوله : والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرتهم العشيّة .

ثم استقر رأيهم أخيراً على أن يمهلوهم تلك الليلة. فرجع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من عند القوم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد ، حتى إذا وصلا إلى الإمام الحسين (علیه السّلام) مقام ذلك الرسول حيث يسمع الصوت ونادى قائلاً: إنّا قد

ص: 275

أجلناكم إلى غد ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى ابن زياد، وإن أبيتم فإنّا لسنا بتاركيكم، ثم انصرف .

وفي أمالي الصدوق: إن ابن سعد أمر مناديه أن ينادي في النّاس : إنا قد أجلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم، فرجع على أثره كل من الجيشين إلى معسكرهم ومخيمهم .

وهكذا استطاع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أن يؤدّي سفارته بأحسن وجه ، وأن يقوم بوساطته خير قيام حيث أنّه لم يجد القوم بعد عرضه (علیه السّلام) عليهم إمهال ليلة، إلا النزول إلى عرضه، والسماح بإمهالهم، والقبول لإنظارهم، وتركهم وشأنهم في تلك الليلة التاريخية الحاسمة، ليلة عاشوراء المصيرية الصارمة.

[من أحداث ليلة عاشوراء]

غربت شمس تاسوعاء، ولملمت ذيولها الباهتة من الأفق، وغابت في المجهول ، ولاح سواد ليلة عاشوراء على أفق كربلاء، وأخذ الظلام يغزو كلّ ثغر ومكان، حتّى أصبح الكون مظلماً وكأنه قد طُبّق بأجنحة حالكة سوداء، وستور قاتمة دكناء، ولاذ كلٌّ إلى وكره ومأمنه، ومأواه ومستراحه غير ابن بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته وأصحابه، وعقائل بني هاشم وذراري رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فإنهم قد جنّ عليهم الليل، وغطاهم سواده وظلامه، ولا وكر لهم ولا مأمن، ولا مستراح ولا مأوى.

نعم، في هذه الليلة التاريخية الصعبة، والظروف القاسية المُرّة، لم يرتبك الإمام الحسين (علیه السّلام) أو ينشغل عما يهم أمر دينه ودنياه، وحاشاء أن يرتبك وينشغل فإنه (علیه السّلام) إمام معصوم، قد أذهب الله عنه الرجس وطهره تطهيراً، بل إنّه كما كان

ص: 276

يفكّر فى أمر آخرته ، كان يفكّر فى أمر دنياه أيضاً ، وهذا هو ما أكّد عليه الإسلام وطبقه الإمام الحسين (علیه السّلام) في أصعب ظروفه تعليماً لنا وحجّة علينا .

ولذلك فإنّه (علیه السّلام) قسم ليلته تلك : ليلة عاشوراء الرهيبة، إلى ثلاثة أقسام:

[القسم الأوّل : الاجتماع بالأصحاب]

1 - خصص الإمام الحسين (علیه السّلام) قسماً من ليلة عاشوراء للإجتماع بأصحابه، واختبارهم ، ورفع البيعة عنهم ، وإتمام الحجّة عليهم بقوله لهم : يا قوم اعلموا أنكم خرجتم معي، لعلمكم أني أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر، لأنه استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، والآن ليس لهم قصد سوى قتلى، وقتل من يجاهد بين يدي، وسبى حريمى بعد سلبهم، وأخشى أنّكم ما تعلمون، أو تعلمون وتستحيون والخدع عندنا أهل البيت محرّمة، فمن كره منكم ذلك فلينصرف، فإنّ الليل ستير ، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير ومن واسانا بنفسه، كان معنا في الجنان نجياً من غضب الرّحمن ، وقد قال جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): ولدي الحسين يقتل بطفٌ كربلاء غريباً وحيداً، عطشاناً فريداً. فمن نصره فقد نصرني، ونصر ولده الحجّة عجّل الله تعالی فرجه ولو نصرت بلسانه ، فهو في حزبنا يوم القيامة».

وما أن أتمّ الإمام الحسين (علیه السّلام) كلامه إلا وتفرّق كثير ممن كان قد جاء مع الإمام الحسين (علیه السّلام) لطلب الدنيا، ولم يبق معه لطلب الدنيا ، ولم يبق معه إلا نيف وسبعون رجلاً ممّن صحبه (علیه السّلام) لطلب الآخرة، إضافة إلى من كان معه (علیه السّلام) من أهل بيته ، بيته، وإخوته ، وشبّان بنی هاشم.

وفي رواية أخرى أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) خطب ليلة عاشوراء في أهل بيته

ص: 277

وفيمن بقي معه من أصحابه، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله وأهل بيته الطاهرين: «أما بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيراً، ألا وإنِّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء ، ألا وإني قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم حرج مني ولا ذمام هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً». وهنا لما أتم الإمام الحسين (علیه السّلام) كلامه ، قام إليه بنو هاشم وعلى رأسهم والناطق عنهم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وقال : «لم نفعل ذلك يا ابن رسول الله ! لنبقى بعدك ؟ لا أرانا الله ذلك أبدأ » ثمّ قام الأصحاب وقال كلّ منهم كلاماً أظهر فيه وفاؤه بعهده، وافتخاره بالشهادة بين يديه (علیه السّلام).

فجزاهم الإمام الحسين (علیه السّلام) خيراً ، وانصرف إلى مضربه وخيمته.

وكان من نتائج هذا الإجتماع والإختبار : أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما التقى بأخته عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السلام) وسألته عن وفاء أصحابه له قائلة : أخي يا أبا عبدالله ! هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم، فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة ، واصطكاك الأسنة ؟ فأجابها الإمام الحسين (علیه السّلام) مطمئناً لها ، ومشفقاً عليها ، وهو يبكي ويقول : أما والله لقد لهزتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلا الأشوسُ الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني، استيناس الطفل بلبن أمه .

[القسم الثاني : التخطيط العسكري]

2 - وخصص الإمام الحسين (علیه السّلام) قسماً ثانياً من ليلة عاشوراء للتخطيط العسكري، وترسيم سُبل الذبّ والدفاع عن النفس، وصدّ هجوم القوم إذا بدأوا الحرب في الصباح عليهم، وتنظيم جبهة واحدة للمقابلة والمواجهة، وتهيئة

ص: 278

معداتهم وإصلاحها وصقلها . فقد دعا الإمام الحسين (علیه السّلام) أصحابه، وأمرهم بأن يقربوا بيوتهم بعضها من بعض، وأن يدخلوا أطناب الخيام بعضها في بعض حتى يحتوي معسكره على أقل مساحة ممكنة من الأرض.

ثمّ أمرهم بأن يحفروا خندقاً حول الخيام، وفي كل أطراف المعسكر ما عدا طرف واحد وهو طرف المواجهة، ثمّ أمر أن يملؤوه بالقصب والحطب، حتى يكون جاهزاً عند الصباح لإضرام النار فيه، فيكون بذلك خطاً دفاعياً لهم، يقيهم من هجوم الأعداء من كل الجوانب، ويحفظهم من محاصرة القوم لهم من كلّ الأطراف، وليكون دفاعهم عن أنفسهم على جبهة واحدة، ومن طرف واحد.

وقد كانت هذه الخطة خطة عسكرية ناجحة تحكي عن نبوغ مخطّطها، و حكمة طرّاحها، وتفصح عن حنكة مؤسسها ، وتجربته العسكرية العالية، ومعرفته الفائقة بفنون الحرب والقتال، فإنّ العدوّ لما بدأ القتال صباح يوم عاشوراء، دار حول الخيام وفكّر في محاصرة معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) في أوّل لحظات الحرب، والقضاء على معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) في الجولة الأولى من بدء القتال ، لكنّهم لمّا واجهوا الخندق المضطرم بالنّار حول الخيام فشلوا ورجعوا خائبين، وخسروا وعادوا أذلّة صاغرين.

نعم هكذا خطّط الإمام الحسين (علیه السّلام) لحفظ معسكره وصيانة مخيمه، وذلك بعد أن سلّم حراسة المخيّم ، ومحافظة المعسكر كلّه إلى عضده وظهره، وأخيه وصنوه، قمر العشيرة، وكبش الكتيبة، الذي كانت ترتعد فرائص الأعداء من اسمه، وترتجف قلوبهم من رسمه أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فكان (علیه السّلام) من أكبر مهامه في تلك الليلة العصيبة هو حفظ المعسكر ، وحراسة مخيّم النساء، ولعلّ لقاء السيدة زينب (عليها السلام) به ، وإيقافه على أنه الذي ادخره أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لهذه الليلة ولهذه الأيّام، وتشجيعه على نصرة أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحماية

ص: 279

أخواتها عقائل بني هاشم، وحراستهم من الأعداء، كان قد اتفق في هذه الليلة بالذات. كما أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) وكذلك الأصحاب، دخلوا بعد ذلك خيامهم، وأخذوا يعدون سيوفهم ويصلحونها، ويهيتون عتادهم ويصقولنها ، وكان الإمام الحسين (علیه السّلام) يصلح سيفه ويعالجه وهو ينعى نفسه ويقول :

عر أفٍّ یا دهر أفُّ لك لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل

وإنّما الأمر إلى الجليل *** وكل حي سالك سبيل

[القسم الثالث : الإشتغال بالعبادة والتلاوة]

3 - وخصص الإمام الحسين (علیه السّلام) قسماً ثالثاً وأخيراً من ليلة عاشوراء للعبادة والتوجه إلى الله تعالى، وذلك بالصلاة ، وبتلاوة القرآن، وبالدعاء والإستغفار، واقتدى به كلّ أصحابه وأهل بيته وفي طليعة أصحابه وأهل بيته : أخوه العبد الصالح المطيع الله ولرسوله ، أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنّه إلى جانب حراسته ، كان قد شارك الأصحاب في ابتهالهم ولجئهم إلى الله تعالى. فقاموا يصلّون، ويتلون القرآن، ويدعون ويستغفرون حتى كان لهم على أثر ذلك دويّ كدوي النّحل، فقد روى السيد ابن طاووس في لهوفه قائلاً: «وبات الإمام الحسين وأصحابه تلك الليلة، ولهم دويّ كدوي النّحل، مابين راكع وساجد وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من معسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً» يعني : التحقوا بهم وفازوا بالشهادة والجنّة مع الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه، وذلك على أثر عبادتهم وصلاتهم التي كانوا يصلونها الله تعالى، وإخلاصهم فيها ، وتوديعهم لها لإيقانهم بالشهادة والسعادة غداً، في يوم عاشوراء.

ص: 280

الخصيصة السابعة والثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) صاحب العصمة الصغرى»

العصمة في كلام العرب : المنع ، وعصمة الله عبده : أن يعصمه ويمنعه ممّا يوبقه ويهلكه ، وعصمه يعصمه عصماً : منعه ووقاه، وفي التنزيل العزيز: ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم﴾ أي : لا مانع، واعتصم فلان بالله : إذا امتنع به، والعصمة : الحفظ ، يقال : عَصمته فانعصم اعتصمتُ بالله : إذا امتنعت بلطفه من المعصية .

إذن : فالعصمة من حيث اللغة هي : الحفظ والوقاية والصون والمنع ، ومن حيث الإصطلاح هي : قوة معنويّة، وملكة روحيّة، يهبها الله لمن يشاء من عباده، يحفظه بها من العيوب والذنوب، ومن الخطأ والزلل، ويقيه عبرها من السهو والنسيان، ومن العثرات والهفوات، لكن لا على وجه يسلب منه الإختيار بل على وجه يبقى له حق الإختيار محفوظاً، وذلك لأنّ الإختيار هو من لوازم التكليف ، فإذا سُلب منه الإختيار كان معناه : سلب التكليف عنه، والحال أنّ المعصومين (علیهم السّلام) مكلفون بالتكاليف الشرعية كسائر الناس، فتكليفهم دليل على أن العصمة التى جعلها الله تعالى فيهم غير سالبة لاختيارهم.

إذا عرفنا معنى العصمة ، فلابد لنا أن نعرف بعدها أنّ العصمة على قسمين : ذاتيّة واجبة، وعرضيّة مكتسبة .

ص: 281

[العصمة الكبرى وأصحابها]

أما القسم الأوّل من العصمة، وهي العصمة الذاتية العصمة الذاتيّة الواجبة : فهي العصمة الكبرى، التي جعلها الله تعالى في ذات الأنبياء وأوصيائهم، وأوجبها لهم ، وجبلهم عليها ، وخصّهم بها ، حتى قال تعالى وهو أصدق القائلين، وأعدل المخبرين، في محکم کتابه، ومُبرم خطابه ، وهو يخبر عن نبيه الكريم، ورسوله المصطفى ، خاتم أنبيائه، وسيّد رسله، محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعن ابنة نبيّه الصديقة الكبرى: فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعن أوصياء نبيه ، الطيبين الطاهرين : أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام) والأئمّة الأحد عشر من ذريته بدءاً بالإمام المجتبى وختماً بالإمام المهدي (علیه السّلام)، ويصفهم بالعصمة في هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب القائلة : ﴿إنّما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا﴾.

وإنما جعل الله تعالى العصمة في ذات أنبيائه وأوصيائهم، وجبلهم عليها ، وأوجبها لهم وزيّنهم بها ، وخص من بينهم المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام) بأعلى درجاتها، وأرقى مراقيها ، لأنّ الله تعالى خوّل نبيه الكريم وأهل بيته الطاهرين حقه وشريعته، وفوّض إليهم ولايته ودينه، وجعلهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمر الناس بطاعتهم والإنقياد لهم ، فإذا لم يكونوا مع ذلك كله معصومين من الزلل والخطل، والسهو والنسيان ، كان معناه : إيقاع الناس في الخطأ والإشتباه، وسوقهم إلى الضلال والفساد، وحاشا لله أن يفعل ذلك، فإنّ الله تعالى حكيم، ولا يفعل الحكيم ما يخالف الحكمة .

هذا مضافاً إلى أنّ الله تبارك وتعالى جعل مهمة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أداء الرسالة وتبليغها ، وجعل مهمّة أوصيائه والأئمة (علیهم السّلام) من بعده، حفظ تلك الرسالة

ص: 282

وحراستها ، فإذا لم يسلّح الله تعالى نبيه الكريم وكذلك أوصياءه والأئمة الطاهرين من بعده بالعصمة ، لم يكن أحد منهم مصوناً من الإشتباه والنسيان، والزيادة والنقصان، وإذا احتمل في حقهم ذلك لعدم عصمتهم ، انعدمت الثقة بهم ومما جاؤا به، وسُلب الاطمينان إليهم وبما قالوه، وبذلك تبطل الشرايع والأديان، وتنسخ الإمامة والوصاية والنبوّات. ونشخ الإمامة والنبوّات، وبطلان الشرايع والأديان خلاف حكمة الله تعالى، ونقضاً لغرض الله الحكيم، فلابد إذن من كون النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأوصيائه والأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام) من بعده معصومين، من بعده معصومين، وفي أرقى مراقي العصمة ، وأرفع درجاتها، وأعلى قممها .

[الصورة التى لن تراها]

ولقد أجاد الشيخ كاظم الأزري في قصيدته التي يصف فيها عصمة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهل بيته (علیهم السّلام) حيث يقول :

معقل الخائفين من كل خوف *** أوفر العرب ذمة اوفاها

مصدر العلم ليس إلا لديه *** خبر الكائنات من مبتداها

فاض للخلق منه علم وحلم *** أخذت منهما العقول نهاها

نوهت باسمه السماوات والأرض *** كما نوهت بصبح ذكاها

وغدت تنشر الفضائل عنه *** كلّ قوم على اختلاف لغاها

طربت لاسمه الثرى فاستطالت *** فوق عُلويّة السما سفلاها

تلك نفس أعزها الله قدراً *** فارتضاها لنفسه واصطفاها

حاز من جوهر التقدّس ذاتاً *** تاهت الأنبياء في معناها

لا تُجِل في صفات أحمد فكراً *** فهي الصورة التي لن تراها

ص: 283

أيّ خَلق الله أعظم منه *** وهو الغاية التي استقصاها

قلب الخافقين ظهراً لبطن *** فرأى ذات أحمد فاجتباها

لست أنسى له منازل قدس *** قد بناها التقى فأعلا بناها

ورجالاً أعزة في بيوتٍ *** أذن الله أن يُعزّ حماها

سادة لا تريد إلا رضى الله *** كما لا يريد إلا رضاها

خصها عن كماله بالمعاني *** وبأعلى أسمائه سماها

لم يكونوا للسعرش إلا كنوزاً *** خافيات سبحان من أبداها

كم لهم ألسن عن الله تُنبي *** هي أقلام حكمة قد براها

وهم الأعين الصحيحات تهدي *** كل عين مكفوفة عيناها

علماء أئمة حكماء *** يهتدي النجم باتباع هداها

قادةٌ علمهم ورأي حجاهم *** مسمعا كلّ حكمة منظراها

ما أبالي ولو اهيلت على الأرضِ *** السماواتُ بعد نيل ولاها

[العصمة الصغرى وأربابها]

وأما القسم الثاني من العصمة، وهي العصمة العرضية المكتسبة : فهي العصمة التي نالها أولياء الله المخلصون بجدهم وجهدهم، وحصل عليها عباد الله الصالحون بتعبهم وعنائهم، وهم اولئك الذين عرفوا الله تعالى حق معرفته، وأيقنوا به عين اليقين، فأحسوه بكل وجودهم وكيانهم، ولمسوه بقلوبهم وأرواحهم ، فأمنوا به أخلص الإيمان، وأذعنوا له غاية الإذعان، وسلّموا إليه منتهى التسليم، و توكلوا عليه أصدق التوكل .

إنهم علموا بأنه تعالى مطلع عليهم فاستحيوا من أن يعصوه، وأيقنوا بأنه

ص: 284

قادر عليهم فهابوا من أن يخالفوه ، إنّهم اطمأنوا إلى أنه تعالى سيحاسبهم على ما عملوه فأحجموا إلا عن البر والإحسان، وعرفوا بأنه سيؤاخذهم على ما قالوه فسكتوا إلا عن المعروف والخير وحسبوا بأنه سيجازيهم على كل صغيرة وكبيرة، فعملوا بما أمر الله به حتى المستحبات فكيف بالواجبات والفرائض ؟ واجتنبوا عمّا نهى الله عنه حتى المكروهات فكيف بالمعاصي والمحرمات ؟

إنهم لم يفكروا في شيء إلا في عظمة الله وكبريائه، وعزّته وقدرته، وعلمه وحكمته، وحلمه ، وغضبه، ورأفته ورحمته وآثاره وصنعه، وآلائه ونعمه، فرأوه أهلاً للعبادة فعبدوه، وأهلاً للشكر فشكروه، وأهلاً للتعظيم والتقديس فعظموه وقد سوه.

إنهم عرفوا أنّ الدّنيا والهوى، والنفس والشيطان، عدوّاً لهم، فاتخذوهم عدوّاً، فرغبوا عن الدنيا، وخالفوا أهواههم، وروّضوا أنفسهم على التقوى وعصوا الشيطان، وأطاعوا الرّحمن، ونفعوا عباد الله ، وخدموا خلق الله ، وأرضوا بذلك الرّحمن ، وأرغموا أنف الشيطان.

إنّهم اطمأنوا إلى أنه تعالى طبيبهم فاتبعوا وصفته ، وحكيمهم فانتهجوا حكمته، وربّهم وخالقهم فعملوا برضاه واجتنبوا سخطه وغضبه، ورازقهم وهاديهم، فأحبوه وأخلصوا له في حبّه ، وأحبّوا من أمر الله تعالى بحبّهم ومودتهم، وأبغضوا مَنْ أوجب الله تعالى بغضهم وعداوتهم، وأطاعوا من فرض الله تعالى طاعتهم، وخالفوا من أمر الله تعالى بمخالفتهم، ونصروا الله ودينه، وكانوا مع رسوله وأهل بيته، فقدّموهم على أنفسهم، وبذلوا أرواحهم وقاءاً لهم، واستشهدوا بين أيديهم.

ص: 285

[العباس (علیه السّلام) ووسام العصمة]

وليس هذه المواصفات التي ذكرناها كلّها إلا معنى العصمة، وقد نالها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بجدارة وكفاءة ، واكتسبها لنفسه بهمّة واجتهاد واتّصف بها بكل قوة وصلابة .

أليس هو الذي أطاع الله وكان مع الصادقين مع ريحانة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وسبطه الإمام الحسين (علیه السّلام) ، و عصى الهوى والشيطان لمّا عرض عليه الإمارة والأمان ، فلعن أمانه وخداعه، وفحه ومكره ؟

وأليس هو الذي رغب عن الدنيا، وروّض نفسه على التقوى، وواسى أخاه العطشان، فلم يشرب من الماء وهو على الماء، الماء وهو على الماء، مع عظيم عطشه ، وشدّة ظمائه ، فنال بذلك وسام: «المواسي» كما جاء في زيارته (علیه السّلام): «فنعم الأخ المواسي»؟

له وأليس هو الذي قدّم دمه، وبذل نفسه في نصرة الله وكتابه، وحماية رسول الله وذريته، وطاعة إمامه ووليه، ومضى شهيداً محتسباً، حميداً طيباً، حتى قال في حقه الإمام الصادق (علیه السّلام) كما في الزيارة المأثورة عنه (علیه السّلام) وهو يلعن قاتليه : «فلعن الله أُمّة قتلتك ، ولعن الله أمّة ظلمتك ، ولعن الله أمّة استحلت منك المحارم وانتهكت حُرمة الإسلام» وهل ينتهك بقتل كلّ أحد حرمة الإسلام ؟ طبعاً : لا ، إلا من نال وسام العصمة بكفاءة ، وحصل عليها بجد وجهد ، كأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فإنّه بقتله ، وهكذا بقتل الإمام المعصوم الذي جعل الله العصمة في ذاته ، وأوجبها له في جبلته ، كالإمام الحسين (علیه السّلام) يتم انتهاك حرمة الإسلام. فهذه الفقرة من الزيارة إذن تشير إشارة ضمنيّة واضحة إلى أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو من أصحاب العصمة الصغرى، وأنه قد نال بجدارة العصمة من القسم الثاني، فهنيئاً لأبي الفضل

ص: 286

العباس (علیه السّلام) وسام : «العصمة الصغرى».

ولقد أجاد الشيخ محمّد رضا الأزري وهو يصف عصمة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وشجاعته ومواساته في قصيدته ويقول:

يوم أبو الفضل استجار به الهدى *** والشمس من كدر العجاج لثامها

والبيض فوق البيض تحسب وقعها *** زجل الرعودِ إذا اكفهر غمامها

فحمن عرينه و دمدم دونها *** ويذبُ من دون الشَّري ضرغامها

من باسل يلقى الكتيبة باسماً *** والشوسُ يرشح بالمنيّة هامها

وأشم لا يحتل دار هضيمة *** أو يستقل على النجوم رغامها

أولم تكن تدري قريش أنه *** طَلّاعُ كل ثنية مقدامها

بطل َأطَلَّ على العراق مجلّياً *** فا عصوصبت فرقاً تمور شآمها

وشأى الكرام فلا ترى من أمةٍ *** للفخر إلا ابن الوصي إمامها

هو ذاك موئلها يرى وزعيمها *** لو جلَّ حادتها ولد خصامها

وأشدها بأساً وأرجحها حجاً *** لو ناض موكبها وزاغ قوامها

من مُقدم ضرب الجبال بمثلها *** من عزمه فتزلزلت أعلامها

ولكم له من غَضبةٍ مُضريّةٍ *** قد كاد يلحق بالسحاب ضرامها

ثمّ انبرى نحو الفرات ودونه *** حلبات عادية يصِلُّ لجامها

فهنالكم ملك الشريعة وَاتَّكن *** من فوق قائم سيفه قمقامها

فأبت نقيبته الزكيّة ريها *** وحشئ ابن فاطمة يشبُّ ضَرامها

ص: 287

الخصيصة الثامنة والثلاثون: «في أنه (علیه السّلام) كان عالماً فاضلاً، وفقيهاً كاملاً»

لقد ورد في الخبر: «إنّ العباس بن على (علیه السّلام) زق العلم زقّاً» واشتهر أيضاً قولهم : «أنه كان من فقهاء أولاد الأئمة (علیهم السّلام)» وهذا يدل على أن من خصائص أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وامتيازه على معاصريه من سائر بني هاشم وغيرهم هو تفوّقه في العلم والمعرفة، والفضل والكمال ، وذلك لملازمته (علیه السّلام) لثلاثة الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) وتلمّذه عليهم ، وطلب العلم لديهم.

وكان أوّل هؤلاء المعصومين الذين لازمهم أبو الفضل (علیه السّلام) وتلمّذ عليهم هو : أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ، وهو الذي روي عنه أنه قال : «يُرخى الصبي سبعاً، ويؤدب سبعاً، ويستخدم سبعاً، وينتهي طوله في ثلاث وعشرين، وعقله في خمس وثلاثين ، وما كان بعد ذلك فبالتجارب وقال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قبل ذلك : «الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين، فإن رضيت أخلاقه لإحدى وعشرين ، وإلا فاضرب على جنبه ، فقد أعذرت إلى الله تعالى وفسّر ذلك حفيده الإمام الصادق (علیه السّلام) المروي عنه قوله : «دع ابنك يلعب سبع سنين ، ويؤدّب سبعاً، وألزمه نفسك سبع سنين ، فإن فلح وإلا فلا خير فيه» وفي رواية أخرى أنّه (علیه السّلام) قال : «احمل صبيّك حتى يأتي عليه ست سنين ، ثمّ أدبه في الكتاب ست سنين ، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين فأدبه بأدبك ، فإن قبل وصلح وإلا فخلّ سبيله» وجاء في الخبر: «العلم في - وفي نسخة : من - الصغر كالنقش في الحجر»،

ص: 288

بخلاف العلم في الكبر فإنّه ليس كذلك .

فالإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) نظراً إلى أنه هو إمام علم النفس والإجتماع الا والتربية والتعليم، والأخلاق والآداب، وقد أدرك عنده نجله أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أربعة عشر عاماً من عمره، فعلى فرض أنه تركه يلعب سبعاً، فقد أدبه سبعاً، وعلمه من علومه ما يجب أن يعلّمه فيها ، وثقفه بثقافته ما يلزم تثقيفه بها، وذلك في هذه السنوات السبع المهمّة من عمر أبي الفضل العباس (علیه السّلام).

[السنوات السبع الثانية من عمر الإنسان]

وعليه : فإنّ السبع الثانية من عمر كلّ إنسان، جعلها الله تعالى - حسب الأحاديث الشريفة الآنفة - أفضل مقطع من عمر الإنسان لتحصيل العلم والمعارف، وأنسب حصّة من حياته لنيل التهذيب والتثقيف ، كما وأعطى الله سبحانه وتعالى - بحسب الروايات المباركة المزبورة نفسها - هذه السنوات السبع أهمية كبرى، ودوراً مصيريّاً في حياة الإنسان، حيث أنها تكون قاعدة رصينة لتحليق الإنسان منها إلى سماء الفضيلة والسعادة إن اغتنمت هذه السنوات السبع في التعليم الصحيح والتثقيف المطلوب، وإلا كانت قاعدة صلبة لقذف الإنسان في هاوية الرذيلة والشقاء، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى يمن على الإنسان في هذه السنوات السبع ، وخاصة في السنة الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة من عمر الإنسان بإيقاظ غريزة حبّ التحقيق والتحرّي، وحبّ الإطلاع على الحقائق ومعرفة الواقعيّات، وحبّ التوصل إلى المعنويات والروحانيات، وحبّ الحصول على العقائد والإلهيّات، وحبّ العبادة والتديّن، كلّ ذلك استعداداً للسفر إلى السنوات السبع الثالثة من عمر الإنسان، والرّحيل إلى سن المراهقة المشحون بالرهق والتعب من حياة الإنسان.

ص: 289

[مبادرة ناشئتنا بالتربية والتعليم]

وقد نبه على حساسية هذه السنوات السبع من عمر الإنسان، وأهمية دورها في مستقبل حياة الإنسان ، نبينا الحبيب (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة من أهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام) ، حيث أوقفونا على أهمية هذه المقطع الحسّاس من عمر الإنسان، وعلمونا كيف ننتهز هذه الفرصة الذهبية من حياة أجيالنا المهيأة لتلقى التربية والتعليم والمستعدّة لمعرفة المذهب والدين، وذلك بتقديم ما يلزم من تعليم وتثقيف، وعرض ما يجب من تهذيب وتزكية، وأمرونا بالإهتمام في ذلك، والإسراع في تعليم أحداثنا وناشئتنا أحاديثهم الشريفة ، وكلماتهم الثمينة، بعد تعليمهم القرآن الحكيم وتفقيههم فيه، وحدّرونا من التساهل والتسامح في ذلك، لئلا يسبقنا المرجئة (وهم كلّ أصحاب الباطل، وجميع أنواع المنحرفين) إلى تعليم أحداثنا زخارفهم، وتثقيفهم بأباطيلهم، وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): «أيما ناشيء نشأ في العلم والعبادة حتّى يكبر ، أعطاه الله يوم القيامة ثواب اثنين وسبعين صدّيقاً». وقال الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كما في نهج البلاغة في وصيّته لابنه الإمام الحسن (علیه السّلام): «إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسوا قلبك ويشتغل لبّك.

وعليه : فإنّ الإنسان إذا لم يثقف بثقافة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام)، وهي الثقافة الصحيحة المنشودة، من أوّل شبابه، ولم يهذب بتعاليمهم الإنسانية الراقية في هذه السنوات السبع المهمة من عمره، تلاقفته الثقافات الأخرى، وقسى قلبه عن قبول الحق والإذعان له، واشتغل لبه بما يصرفه عن التوجه للحق والإشتغال بتعلمه وقبوله . وهذا هو ما يعانيه مجتمعنا الإسلامي،

ص: 290

وتئنّ منه أمتنا الإسلامية في هذا اليوم، حيث تلاقفت شبابنا الثقافات الأخرى، وخدعتهم تعاليمهم البرّاقة، وجرّتهم إلى الرّذيلة والشقاء، ثمّ قست قلوبهم على الباطل، واشتغلت البابهم عن معرفة الحق ، إلّا من عصم الله.

[السنوات السبع الثالثة في حياة الإنسان]

فالتعليم والتربية في هذه السنوات السبع - الثانية - إضافة إلى فوائدها الجمّة، هي تحصين للأجيال من الإنزلاق في المبادىء الباطلة، كما أنها هي تحصين لهم أيضاً من الإنزلاق في هاوية الجنس والإعتياد وغير ذلك، لأنّ الإنسان عندما يدخل في السنوات السبع الثالثة من عمره، تستيقظ عنده غريزة الجنس وتوابعها ، وينمو فيه الجانب الجسدي والمادي، فإذا كان قد تثقف بالثقافة الصحيحة، وأشبع روحه وفكره بالتعاليم الإنسانية العالية، استطاع أن يواكب النمو الروحى والمعنوي فيه مع النمو الجسدي والمادي، وأن يكون في توازن معقول وانسجام مقبول بين الجانب الروحي والجانب الجسمي، وأن يعيش على أثر ذلك التوازن والإنسجام فى سن المراهقة بسلام وأمان .

بينما لو لم يتدارك الإنسان - بواسطة والديه أو المسئولين - السنوات السبع الثانية من عمره ، وأهمل تثقيفها بالثقافة الصحيحة، وتساهل في إشباعها بتعاليم أهل البيت (علیهم السّلام) الأخلاقية العالية ، طغى نموّ الجانب الجسدي والمادي في الإنسان على حساب هزال الجانب الروحي والمعنوي، وهو أمر خطير جداً، وخاصة عندما يدخل الإنسان في السنوات السبع الثالثة وهي سن المراهقة من عمر الإنسان، فإنّ الجانب الجسمي والمادي ينمو فيه آنذاك نمواً كبيراً وسريعاً، ومعه لابد أن يواكبه الجانب الروحي والمعنوي أيضاً، بينما قد بقي الجانب الروحي

ص: 291

والمعنوي فيه هزيلاً وضعيفاً، فيفقد التوازن المطلوب والإنسجام اللازم بين الجانب الروحي والجانب الجسمي، فيعيش على أثره سن المراهقة بقلق واضطراب، وذلك لأنّ الجسم قد تضخّم وهو يطالبه بإشباع رغباتها من الجنس وما أشبه ولو عن طريق الإعتداء على شرف مجتمعه، وسؤدد أمته، والرّوح قد بقي هزيلاً لا يستطيع من زمّ الجسم وتأطير رغباته بالمشروع من الجنس وغير ذلك ، ومعلوم أنّ تضخّم الجسم ينتصر بتحقيق رغباته ولو بالطرق غير المشروعة على هزال الروح الداعي إلى تأطير تلك الرغبات بالطرق المشروعة، ومعنى انتصار الجسم في تحقيق رغباته بأي طريق كان هو : شقاء الإنسان والمجتمع، وسقوطه في هاوية الرذيلة والفساد وابتلاؤه بالأمراض الروحية من معاناة القلق والأرق، والتوتر والإضطراب وإلى غير ذلك ، إلى جانب الأمراض الجسدية الفتاكة أيضاً.

[تصحيح المناهج الدراسية]

هذا وقد عرف الإستعمار والمستعمرين وخاصة منهم، الذين يحقدون لأجل مصالحهم الفردية، ومنافعهم الشخصيّة، على الإسلام الحكيم، والمسلمين الأبرياء، ويتجاهلون نعمة الإسلام ورحمته وأحكامه وق-وان-ي-ه، وسماحته وسلمه ، وحبّه لكلّ النّاس وإسعافهم بكل خير مهما كانت قومياتهم ولغاتهم ، وحرصه على منافع كلّ النّاس ومصالحهم الخاصة والعامة مهما كانت مواقعهم وطبقاتهم، فإنّ الإستعمار المتجاهل لنعمة الإسلام ورحمته والمتناسي لخدمة المسلمين وفضلهم، قد خطط تخطيطاً دقيقاً، ونسّق تنسيقاً مدروساً، ودسّ في مناهجنا الدراسية مناهج فارغة من الدين، جوفاء من حيث التعاليم الأخلاقية

ص: 292

والإنسانية وخاصة في هذه السنوات السبع من حياة ناشئتنا ، وعمر أجيالنا، فأعدموهم على أثر تلك المناهج، النموّ الرّوحي والمعنوي، وجعلوهم مغلوبين أمام نموّ الجانب الجسدي والمادي، ومقهورين تجاه رغباته ومتطلباته، فأدخلوهم بذلك في معترك شاق بين الرّوح والجسد ، وأنزلوهم إلى بؤر القلق والإضطراب ، ودَرَك الرّذيلة والفساد، وسلّموهم إلى هاوية التذمّر والشّقاء، ودوّامة الفضيحة والهلاك.

أجل إنّ الإستعمار خطط ونفّذ فأفرغ مناهجنا الدراسية في بلادنا الإسلامية عبر أياديه عن التعاليم الأخلاقية العالية، والمفاهيم الدينية الراقية، مع غنى الإسلام بكلّ العلوم الراقية، واحتوائه على جميع المفاهيم العالية والإجتماعيات المطلوبة، والآداب المحبوبة ، بينما هو ملأ مناهجه الدراسية في بلاده وجعل - على ما قيل : - ستين بالمائة منها فيما يسمّونه بالتعاليم الليبرالية، وسمّوه بذلك ، لأنّ دينهم ليس فيه تعاليم اجتماعية دينية شاملة، وأربعين بالمائة منها في بقيّة العلوم الطبيعيّة من رياضيات وغيرها .

بينما مناهجنا الدراسية نحن خاوية عبر عواملهم من المواد المعنوية والروحيّة ، مصفرة عبر أياديهم من الدروس الأخلاقية والدينية، حيث النسبة المعنويّة والدينية، وكذلك القرآنية والحديثية فيها لا تصل العشرة بالمائة، إلى جانب تسعين بالمائة من المواد الأخرى التي لا تسمن ولا تغني من جوع ومعلوم أنّ هذه النسبة الضئيلة لا تشبع حاجات الرّوح ولا تسد جوعته المعنوية، أمام طغيان الجسم، وشدّة رغباته الجنسية، فينشأ جيلنا الإسلامي الناشيء خاوياً فارغاً، متواتراً متناقضاً، تتلاعب به وبأفكاره الشياطين ودعاة الثقافات الأخرى، وتتقاذف به وبمقدراته أصحاب الأطماع والأغراض، وأهل البدع والضلال، وعلينا إذا اردنا انتشال شبابنا من مهاوي السقوط، وتدارك

ص: 293

مستقبلنا ومستقبل ناشئتنا من المخاطر والمهالك ، أن نضع مناهجنا الدراسية بأيدينا ، وكما أراد الله تعالى ورسوله الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لنا ، وأمر أئمتنا الطاهرون (علیهم السّلام) به ، بتغطية كلّ المواد الدراسية بالمواد القرآنية والحديثية، والدينية والأخلاقية المروية عن الرسول الا الحبيب (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة الطاهرين من أهل بيته (علیهم السّلام) حتى نتدارك ما فاتنا، ونتلافى ما ضيّعوه عنا، وأخذوه منا ، إنشاء الله تعالى ، فإلى هذا الأمل المنشود ، والهدف المحمود بإذن الله وتوفيقه.

[العباس (علیه السّلام) وتلمذه عند الإمام أميرالمؤمنين (علیه السّلام)]

وكيف كان : فإنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) الذي أمرنا بأن تبادر ناشتتنا وشبابنا بالتعليم والتثقيف ، وننتهز الفرصة الذهبية من أعمارهم، ولا ندعها تذهب إدراج الرياح شدى، بلا تزوّد ولا استفادة كاملة منها ، والذي قال: «الأدب لقاح العقل، وذكاء القلب، وعنوان الفضل» قد بادر نجله الأغر، قمر بني هاشم، أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بالتهذيب والتزكية، والتربية والتعليم، ومعلوم أنّ من يتأدب على يد والد شفيق، وأب عطوف ، وأستاذ أديب، ومعلّم أريب، كالإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) الذي هو أديب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) هو أديب الله تعالى ، كما قال هو (صلی الله علیه و آله و سلم) : «أدبني ربي فأحسن تأديبي» كم يكون مهذباً ومؤدّباً؟ كيف لا يكون كذلك والحال أن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) الذي هو أديب أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، والإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) هو أديب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وهو أديب الله ، فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) يكون حينئذ هو الآخر أديب الله أيضاً، فإنّ أديب أديب الله، هو : أديب الله أيضاً، فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو أديب الله ، وكفاه فخراً.

ص: 294

[ملازمة العباس (علیه السّلام) لأخيه الإمام المجتبى (علیه السّلام)]

هذا وأبو الفضل العباس ال(علیه السّلام) ا قد أكمل السنوات السبع الثانية من عمره، و وقضى تلك الفترة الذهبية من عمره في التأدب على يدي أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) الذي هو أديب أديب الله تعالى أعني أنه (علیه السّلام) أديب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث قضى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) شهيداً ، ومضى حميداً سعيداً، وذلك عندما أكمل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) السنة الرابعة عشرة من عمره.

ثمّ لازم أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أخاه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) في السنوات السبع الثالثة من عمره وهو سن المراهقة، التي أمرتنا روايات أهل البيت (علیهم السّلام) بملازمة الوالد ولده، أو الاخ الاكبر اخاه الاصغر - مثلاً - الذي هو في سن المراهقة، وضمّه إلى نفسه واصطحابه معه، ليكون من جهة رقيباً عليه، وحسيباً لتصرفاته وأعماله، ومن جهة أخرى شريكاً له في أموره ووزيراً ومشاوراً له في قبضه وبسطه وحلّه وترحاله حتّى يُلبس ما تعلمه من نظريات في السنوات السبع الثانية ثوب العمل والتجسيد الخارجي في السنوات السبع الثالثة ، ويُقرن النظريات العلمية بالتجارب الخارجية.

فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد لازم في هذه السنوات السبع الثالثة أخاه المجتبى سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الأكبر، وريحانته من الدنيا . والإمام المجتبى (علیه السّلام) الذي هو من أهل البيت (علیهم السّلام) الذين علمونا أسلوب تربية الناشئة وطريقتها ، وأمرونا بملازمة الذين وصلوا سن المراهقة واصطحابهم، قد التزم بأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وضمه إليه واهتم به وأشرف عليه، ليكمل دورته العلمية النظرية وينضجها عبر مرورها بمرحلة التطبيق والعمل الخارجي، وليكون مشرفاً على

ص: 295

تصرفاته وتقلباته في الأمور ، ومُرشداً له ومسدّداً إيَّاه فيها، ومعلوم أنّ من يكون ملتزمه وموجهه سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وريحانته من الدنيا، وذلك في أهم مقطع من عمره، وأغلى فرصة ذهبية في حياته، كم يكون موفّقاً ومتفوقاً، وحميداً وسعيداً؟ وكم يصبح أديباً أريباً، وعالماً تحريراً، وفاضلاً قديراً؟

[الإمام الحسين (علیه السّلام) والتزامه أخاه العباس (علیه السّلام)]

ثم إن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) بعد أن قضى من عمره أربعة وعشرين عاماً، والتي كان في الاعوام العشرة الاخيرة منها في ملازمة أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) والتلمّذ عليه ، والتفقه لديه، فارقه على أثر استشهاده (علیه السّلام) مظلوماً مسموماً، وذلك بالسم القاتل الذي دسّه إليه معاوية بن أبي سفيان، ثمّ لازم بعد ذلك أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) ليواصل تلمذه عليه ، ويستمر في تفقهه لديه، وكان الإمام الحسين (علیه السّلام) وهو الآخر بعد أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) الذي التزم بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) وضمه إليه، وأشرف على تكميل رحلته العلمية والثقافية، واعتنى بمواصلة دورته التهذيبية والأخلاقية، حتى تخرّج أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على يدي ثلاثة من الأئمة المعصومين (علیهم السّلام) ومن معهد علوم وثقافة أهل البيت (علیهم السّلام) عالماً فاضلاً، وأديباً بارعاً ، وزكيّاً مهذباً، وإنساناً كاملاً، جامعاً للفضائل والمناقب، والمكارم والمحاسن، والأخلاق والآداب والعلم والحلم ، والمعقول والمنقول ، والتفسير والتأويل، والفصاحة والبلاغة ، وما إلى ذلك من كمال وجمال، فهنيئاً له على توفيقه وسعادته، ومباركاً عليه وسام : «العالم الفاضل، والفقيه الكامل» الذي ناله بجدارة وحصل عليه بكفائة ، ووصله بوسام: الشهادة في سبيل الله ، واختتم بها حياته العلمية، وصدّق

ص: 296

بها دورته الثقافية، حيث أمضاها بدمائه الحمراء، ووقع عليها بيديه المقطوعتين في سبيل الله، ونصرة دينه، والذب عن إمامه .

[من فصاحة أبي الفضل (علیه السّلام) وبلاغته]

عُرف أبو الفضل العباس (علیه السّلام) كبقية بني هاشم بالفصاحة والبلاغة، والسلاسة وحسن التعبير ، حتى قيل عنه (علیه السّلام) : إنه كان بليغاً في كلامه وفصيحاً في نطقه وأدائه، وقد ذكر الفاضل الدربندي فى أسراره بأنّ بعض من يدعى الشجاعة والبسالة برز في يوم عاشوراء وأخذ يهدّد أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ويندد به ، ويريد . منه الإستسلام له، وإلقاء السلاح أمامه، ويحذره شدة بأسه وطعنه، وقوة مراسه وضربه .

فسخر منه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) و من كلامه ولم يعبأ به وبشجاعته، ولم يكترث بتهديده وتنديده، وإنّما أجابه بكل قوة وصلابة، ورباطة جأش ، ومناعة طبع قائلاً: «إني أرى كلامك يا هذا كالسراب ، الذى يلوح ، فإذا قصد صار أرضاً بواراً، والذي أملته مني، بأن أستسلم لك، فذلك بعيد الحصول، صعب الوصول، وإنّي يا عدو الله ورسوله ! معوّد للقاء الأبطال، والصبر على النّزال ، ومكافحة الفرسان، وبالله المستعان.

ثمّ أضاف قائلاً: ومن كملت هذه الصفات فيه، فليس يخاف من برز إليه، ولا يهاب منازلته ومقارعته، ويلك ! أليس لي اتصال برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟ فأنا غصن متصل بشجرته، وزهرة من نَور ثمرته ، ومن كان من هذه الشجرة، فلا يدخل تحت الدمام، ولا يخاف ضرب الحسام، وأنا ابن على بن أبي طالب، لا أعجز عن مبارزة الأقران، ولا أمل من الضرب والطعان، وما أشركتُ بالله لمحة بصر ، ولا

ص: 297

خالفت رسول الله فيما أمر ، وأنا منه كالورقة من الشجرة، وعلى الأصول تنبت الفروع، فاصرف عنا ما أملت واقطع منا ما رجوت، فما أنا ممّن يأسى على الحياة ، أو يجزع من الوفاة، فخذ في الجدّ، واصرف عنك الهزل» ثمّ أنشأ يقول:

صبراً على جور الزمان القاطع *** ومنيّة ما إن لها من دافع

لا تجزعن فكل شيء هالك *** حاشئ لمثلي أن يكون بجازع

فلئن رمانا الدهر منه بأسهم *** وتفرّق من بعد شمل جامع

فلكم لنا من وقعة شابت لها *** قمم الأصاغر من ضراب قاطع ؟

ثمّ تصاولا واختلفا بضربات، وكان النصر أخيراً لأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، والموت والهلاك لذلك المغرور الخاسر .

[هل ضوء الشمس ضحيّ يُنكر ؟]

قد تبيّن ممّا مضى أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) في الفضل هو ذاك كالشمس في الضحى ينير علماً وحلماً ويضيء فقهاً وحكمة، إذ هو من حصل في العلم والفضل على أكبر شهادة علميّة يمكن تحصيلها لأحد في أحدث الجامعات العلمية الغابرة والمعاصرة والمستقبلة، كيف لا وهو خرّيج جامعة رسول الله الحبيب (صلی الله علیه و آله و سلم)، وطالب معهد الأئمّة الطاهرين من الأئمة الطاهرين من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ومتلمّذ على يدي ثلاثة أئمّة من أئمّة أهل البيت المعصومين (علیهم السّلام)؟ وهذا واضح ولا غبار عليه .

ولكن قد يتفق أن يشكّ الجاهل بمقامات أبي الفضل العباس (علیه السّلام) العلمية ، في مراتب علمية أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ويتردّد في درجات كماله وفضله، فإنّ من لا معرفة له بشهادة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) العلمية، ومداركه الثقافية العالية، قد يشكّ في مقاماته تلك ، كما يشكّ في بقية الأشياء التي يجهلها الإنسان ويعدم معرفتها.

ص: 298

كما أنه قد يشكّ في ذلك من اغتر بعلمه، وأعجب بفضله، وتصوّر في نفسه اغتراراً وجهلاً بأنه فوق الجميع علماً وفضلاً، فإنّ مثل هذا قد يشك أيضاً في مدارج علميّة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ويرتاب في مدارك فضله، ويتردّد في تفوّق مقاماته العلميّة ، وكمالاته الروحيّة والجسديّة .

ولذلك ينقل عن بعض العلماء: أنه شاهد في كربلاء المقدسة، وحوزتها العلمية المشرّفة، رجلاً من الأفاضل قد اغتر بعلمه، وأعجب بفضله، وأبعد في غلوائه ودعواه، شاهده وقد كان في منتدى من أصحابه، وجمعاً من أترابه، حيث جرى بينهم ذكر أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وما كان يحمله من المعارف الإلهية، الله والثقافة الدينيّة، التي امتاز بها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) على سائر الشهداء، فأنكر ذلك الرّجل تفوّق أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في هذا المجال، وصارحهم بأفضليته هو بالنسبة إليه، وأعلميّته منه .

وما أن صرّح هذا الرّجل المغرور بذلك حتى قوبل بإنكار من جماعته وأصحابه، واستغراب من جرأته واغتراره فأخذوا يصبون اللوم عليه وعلى ادّعائه، ويحذرونه من غروره وغلوائه، ولكن بدل أن يتنبه الرجل المغرور ويرجع عن غلوائه ودعواه، قام يبرهن على ادّعائه ذلك، بتعداد مآثره ومناقبه. وذكر علومه وفضائله، وتفصيل تهجده وتنفّله ، وتشريح عبادته وزهادته، قائلاً: إن كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) يُفضّل عليه بمثل هذه الأمور، فإنّ عنده مثلها، وإن كان يُفضّل بالشهادة قال : فإنّ الشهادة لا تعادل ما يَحْمله هو ذلك المغرور - من العلوم الدينيّة، والأصول الإسلامية وعقائدها.

وهنا انفض المجلس، وقام الجماعة من عنده منكرين عليه، ومعرضين به، بينما هو بقي متغطرساً في كبريائه، ومصرّاً على غروره وغلوائه، غير نادم على ما صدر منه ، ولا متهيّب ممّا قاله.

ص: 299

[مع الرجل المغرور]

تفرّق الجميع وذهب كلّ واحد من الجماعة والمغرور إلى منزله ومأمنه، وفي الصباح المبكر أسرع كل واحد من الجماعة ، الذي أسهر ليلتهم هم هذا الرّجل المغرور ، وأقلق فكرهم كبير ما ادعاه ذلك الرّجل المعجب بنفسه ، والمنبهر بعلمه وفضله، إلى داره، وقصدوا منزله، ليروا هل هداه الله تعالى ورجع من غيّه، لأنهم قد دعوا الله تعالى ليلتهم وسألوه هدايته ، أم لم تشمله عناية الله وبقى على غيّه ؟

فلمّا طرقوا عليه الباب قيل لهم : إنّ الرّجل بكر في زيارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وهو الآن في روضته المباركة، فأقبلوا مسرعين إلى روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ليعرفوا خبره.

فلما دخلوا الروضة المباركة إذا بالرّجل قد ربط نفسه بالضريح المقدّس عبر حبل شد طرفاً منه بعنقه والطرف الآخر بالضريح وهو تائب من تكبّره وغلوائه، ونادم على ما سلف منه ، وفرّط فيه، فأحاطوا به عند ذلك وسألوه عن أمره ؟

فأجاب قائلاً : لما تركتكم بالأمس وذهبت إلى منزلي، أخذت مضجعي في فراشي ونمت وأنا على ما فارقتكم عليه فرأيت في المنام كأني في مجلس حافل، قد ضمّ جمعاً من أهل العلم والفضل بين جوانحه، وبينما أنا كذلك إذ دخل علينا رجل وقال : تهيئوا واستعدوا لاستقبال أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، فها هو قادم إليكم ، ووافد عليكم ، فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً عظيماً، حتى دخل (علیه السّلام) والنور الإلهي يسطع من وجهه والجمال العلوي يزهو في محيّاه، فاستقبلناه بحفاوة حتى جلس (علیه السّلام) على كرسي كان قد أعد له في صدر المجلس، عندها جلس

ص: 300

الحاضرون وكأنهم على رؤسهم الطير، إجلالاً له، وهيبة منه، وقد أخذني من بين الجميع قزق كبير ورهب شديد ، لما سلف منّي في حقه (علیه السّلام).

[إرشاد وتنبيه]

ثمّ إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) بدأ يُحيي أهل المجلس واحداً واحداً، حتى إذا وصل إليَّ قال لي : ماذا تقول أنت يا فلان ؟

فكاد أن يرتج عَلَيّ القول عندما واجهني بسؤاله هذا لولا أن تداركني رحمة ربّي ، فعزمت على أن أبوح بكل ما قلته في حقه بلا زيادة ولا نقيصة، وأن أصارحه بما تصوّرته وتخيّلته بالنسبة إلى وإليه ، فقصصت عليه ما جرى بيني وبينكم من حوار في حقه، وذكرت له من الحديث والإستدلال حسب ما مضى معكم، وأنا في كلّ ذلك مستحي منه، طالب عفوه وإعذاره.

عندها التفت (علیه السّلام) إلى متبسماً وقال معذراً : لا بأس عليك، إن ندمت وتبت تاب الله عليك، ولكن كن على علم بأني لستُ كما تصوّرته وتخيلته أنت، وذلك قد تلقيت العلم من معينه ونميره وأخذت الفضل من أصله ومعدنه ، فقد تلمذت على نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأديبه، أعني : أبي ووالدي الإمام أمير المؤمنين ، وتفقهت لديه، ثم تلمذت من بعده وتفقهت على يدي أخوي الإمامين الهمامين ، سيّدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : الحسن والحسين (علیهما السّلام)، وأنا على أثر ما تلقيته من أشمّتي وسادتي (علیهم السّلام) من المعارف الإلهية، والتعاليم الإسلامية ، كنت على يقين من ديني وبصيرة من أمري.

بينما أنت بعكس ذلك كلّه، فقد أخذت أنت ممن لا يقين له، وصرت أنت الآخر على أثره أيضاً لا يقين لك، تعوّل على الأصول والقواعد المعدة للجاهل

ص: 301

بالأحكام، وتعمل بها عندما يُعوزك الوصول إلى الواقع، وأنا في غنى من ذلك كلّه ، لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي، ومعدن النبوة والإمامة.

أضف إلى ذلك أني تأدبت وتهذبت على يدي أدباء الله ، ومن زكاهم الله وهذبهم ، وطهرهم من الرّجس تطهيراً، فصرت منهم مهذباً مؤدّباً، أحمل بين جوانبي من المحاسن والمكارم ما لو قسمته على جميعكم ما أمكنكم حمل شيء منها ، ولا القيام بعبئها . بينما أنت بعكس ذلك كلّه إذ أنك تحمل بين جوانبك من الصفات الرذيلة ما يبغضك الله تعالى عليها من غرور ورياء، وجدال ومراء وغير ذلك، ثمّ ضرب (علیه السّلام) بيده الشريفة على فم الرّجل وقال مؤكّداً: قم وتب إلى الله تعالى وحاول أن تطهر نفسك ممّا يبغضه الله تعالى، ويمقتك عليها.

قال الرجل : فانتبهت عندها من نومي فزعاً مرعوباً، نادماً تائباً، معترفاً مذعناً، وأسرعت إلى روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ولذت بضريحه، متوسلاً به إلى الله تعالى ليغفر لي ، ومشفّعه إلى الله تعالى في ليعفو عنّي ويرضى عَلَيّ، فإني لما قلتُ من النادمين، وعلى ما صدر مني من التائبين المنيبين .

[أيهما أكثر علماً وفضلاً ؟]

وهنا قصة ثانية تشبه القصة الآنفة وتضاهيها ، وهي : أنه دار في مجلس فيه جماعة من أهل الفضل والعلم بحث حول أنه أيهما أكثر فضلاً وعلماً؟ هل هو أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أو سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «سلمان منا أهل البيت»؟

فأجاب أحدهم : الظاهر أنّ أكثرهما علماً وفضلاً، هو سلمان الفارسي، ثمّ قال : وذلك لأنّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لما قيل له : حدثنا سلمان الفارسي،

ص: 302

أجابهم قائلاً: «أدرك سلمان العلم الأوّل والآخر ، وهو بحر لا ينزح، وهو منا أهل البيت».

لكن سرعان ما رجع هذا القائل عن رأيه، حيث إنه لم تمض عليه إلا مدة قليلة حتى عدل من كلامه وقوله ذلك .

فلمّا سألوه عن سبب عدوله ورجوعه قال : بعد ما أبديت رأيي في أفضلية سلمان الفارسي وأعلميّته، رأيت في منامي في تلك الليلة بأني أحضر مجلساً ضخماً حافلاً بأهله، وغاصاً بروّاده، فنظرت وإذا بي ارى أبا الفضل العباس (علیه السّلام) في غاية الجلال والبهاء، جالساً في صدر المجلس، ورأيت سلمان الفارسي قائماً بين يديه يخدمه، ويأتمر بأوامره ، فلما وقع نظري عليه تذكرت ما جرى من الحديث حوله في اليقظة، وما أبديته من رأيي فيه.

وبينا أنا أفكّر في ذلك إذ بدرني سلمان الفارسي وهو يشير بيديه إليّ ويقول : يا هذا ! لقد اشتبه الأمر عليك، إنّي بحر لا ينزح بالنسبة إلى أترابي وأقراني، مثل أبي ذر ، وحذيفة، وعمّار، وابن مسعود، وأما بالنسبة إلى شبل الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) قمر بني هاشم أبي الفضل العباس (علیه السّلام) فإنّي أفتخر بأن له أكون خادماً له، وتلميذاً صغيراً عنده لكي ارتشف من علمه، وأتزوّد من فضله وكماله .

ص: 303

الخصيصة التاسعة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) كان عاملاً بعلمه»

إنّ العلم الّذى عُدَّ في الروايات المروية عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعن أهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام) أنه فريضة على كلِّ مُسلم ومسلمة .

وأنه يجب على كل فرد فرد من المسلمين بنحو الواجب العيني كالصلاة والصيام أن يتفرغ لطلبه، ويتصدى لتحصيله.

وأنّه من أهمل معرفة هذا العلم كان كمن ترك الصلاة والصيام.

هو على ما يستفاد من الروايات الشريفة، والأحاديث الكريمة مثل قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهنّ فهو «فضل» ومثل قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) «ثلاث بهنّ يكمل المسلم: التفقه في الدين، والتقدير في المعيشة، والصبر على النوائب» ومثل قول الإمام الصادق (علیه السّلام): «وجدت علوم الناس كلّها في أربع : أولها : أن تعرف ربّك ، والثانية : أن تعرف ما صنع بك ، والثالثة : أن تعرف ما أراد منك ، والرابعة : أن تعرف ما يخرجك من دينك» ومثل قوله (علیه السّلام) أيضاً: «العلم أصل كل حال سنيّ، ومنتهى كل منزلة رفيعة ، لذلك قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، أي : علم التقوى، واليقين» هو العلم بثلاثة أشياء :

ص: 304

[الأوّل ممّا يجب العلم به]

1 - العلم بأصول الدين، فإنّه يجب على كل مسلم ومسلمة الإعتقاد بأصول الدين الخمسة عن دليل وبرهان، وذلك بأن يعلم أنّ الله واحد لا شريك له ، وأنه عالم قادر، مريد مدرك ، حي قيوم، غنيّ متكلّم، صادق سرمدي ، لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه عادل لا يظلم أحداً مثقال ذرّة، وأنه أرسل الرسل لهداية البشر وأنزل معهم الكتاب لإرشاد الناس إلى الحق أوّلهم آدم (علیه السّلام) وآخرهم النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه تعالى جعل لهم أوصياء معصومين ، وأن أوصياء نبينا اثنا عشر وصيّاً، أوّلهم الإمام أمير المؤمنين على بن أبيطالب (علیه السّلام)، وآخرهم المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلما وجوراً، وأنهم جميعاً مع السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) معصومون ، قد أنزل الله تعالى فيهم : ﴿إنّما يُريد اللهُ ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا﴾ فيكون عدد المعصومين في أُمّتنا المرحومة أربعة عشر معصوماً ، وأنّ الله أعدّ للحساب ومجازاة الناس يوم القيامة في الآخرة ، ليجزي المحسنين بالجنّة، والمسيئين بالنّار، وذلك كما قال تعالى : ﴿كُلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ .

هذا ولا يخفى أنّ هذه الأصول الخمسة من التوحيد والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد في يوم القيامة من الأصول الإعتقادية التي لا تقبل التقليد، بل يجب فيها الإجتهاد، وتحصيلها عن دليل وبرهان، وعلم ويقين.

ص: 305

[الثاني ممّا يجب به العلم]

2 - العلم بفروع الدين، فإنّه يجب على كل مسلم ومسلمة العلم بأحكام فروع الدين العشرة: من الصلاة، والصيام، والخمس، والزكاة والحج ، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتولّي لأولياء الله ، والتبري من أعداء الله، بل معرفة أحكام الدين في كلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته من صغيرة وكبيرة، وكليّة وجزئية - ما عدا أصول الدين الخمسة - فإنّ كلّ ما عدا الأصول الخمسة تعدّ فروعاً للدين، وعلى كل مسلم ومسلمة معرفة ما يبتلى بها من مسائل شرعيّة، ويحتاج إليها من أحكام دينية بالنسبة إلى الفروع.

هذا ولا يخفى بأنّ في الفروع يجوز التقليد فيها ، أي : يجوز الرجوع فيها إلى مرجع جامع للشرائط، وأخذ المسائل والأحكام منه ، ولا يجب الإجتهاد فيها وتحصيلها عن دليل وبرهان وعلم ويقين كما كان يجب ذلك في أصول الدين، وهذا هو نوع تسامح من الله تبارك وتعالى للإنسان، لأن فروع الدين كثيرة وتحصيلها عن اجتهاد يستغرق كلّ وقت الإنسان، ولذلك أجاز فيه التقليد من مرجع جامع للشرائط.

[الثالث ممّا يجب العلم به]

3 - العلم بالأخلاق والآداب الفرديّة والإجتماعيّة، فإنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة العلم بالأمور التالية :

أوّلاً: العلم بكيفية تنسيق رابطته مع الله تعالى، وكتابه، ودينه، ورسله، وأوليائه .

ص: 306

ثانياً : العلم بكيفية تنسيق رابطته مع نفسه وروحه نفسه وروحه، وفكره وعقله، وعواطفه وغرائزه ، وجوارحه وأعضائه، وسائر شؤنه الفردية.

ثالثاً: العلم بكيفية معاشرته مع والديه وذويه ، وإخوته وأخواته، وزوجته وأولاده، وأصدقائه وشركاته، وأقربائه وأرحامه ، ومعلّمه وأستاذه، وحاكمه وسلطانه، وسائر أفراد المجتمع، سواء المجتمع الصغير وهو محيط الأسرة والعائلة ، أم المجتمع الكبير وهو محيط المحلة والبلدة، والدولة والعالم.

رابعاً: العلم بكيفية تعامله مع الآخرين في بيعه وشرائه، وحرفته ومهنته، وقبضه وبسطه، وحلّه وترحاله، وسفره وحضره ، وإلى غير ذلك من الأمور التي يجمعها رابط العلاقات والروابط الفرديّة والإجتماعية، ويعمّها عامل العِشرة والمعاشرات الخصوصية والعمومية .

هذا ولا يخفى أنّ هناك في مجال الأخلاق والآداب الفردية والإجتماعية، روايات وأحاديث كثيرة، تدلنا على مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ما فيها لنا غنى عن غيرها، ولعلّ من أجمعها وأشملها هي «رسالة الحقوق» المروية عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام)، فإنه يجب على كل مسلم، بل على كلّ إنسان حرّ مطالعة هذه الرسالة بدقة، ومدارستها بهمّة وعلقة ، ثمّ تطبيق ما جاء فيها تطبيقاً حرفياً في كل شؤنه الفرديّة والإجتماعية ، وروابطه ومعاشراته الخصوصية والعموميّة، علماً بأنّ تطبيقها ضامن لسعادة الفرد والمجتمع، ومتكفّل للتقدم في الحياة الخاصة والعامة، وعلينا أن نؤسّس دورات تعليمية وحلقات تمرينيّة، نعلّم فيها ناشئتنا وشبابنا كيف يمارسون تعاليم هذه الرسالة المباركة «رسالة الحقوق»، ونُدرّ بهم فيها على أنه كيف يُطبقونها في حياتهم العملية تطبيقاً حرفياً؟ وذلك إن أردنا أن نستعيد عزنا وسعادتنا ، ونسترجع كياننا وسؤددنا، إنشاء الله تعالى.

ص: 307

[أبو الفضل (علیه السّلام) وهذه العلوم الثلاثة]

سبق أن قلنا : إنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد تخرّج وهو متقن لهذه العلوم الثلاثة : أصول الدين، وفروع الدين والأخلاق والآداب وغيرها من العلوم الإسلاميّة والإنسانية الأخرى من معهد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وجامعة الأئمة من أهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام)، وعلى يدي أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، وأخويه الإمامين الهمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام)، فهو إذن عالم كامل، وفقيه فاضل، وأستاذ بارع، وعارف متضلّع بأمهات العلوم الإسلامية وأصولها، وجذور الأخلاق الإنسانية وفروعها.

هذا من جهة العلم والفضل، وأما من جهة العمل والتطبيق الخارجي، فقد كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من خصوصياته وامتيازاته أنه كان يعمل بما يعلمه ويفقهه ، ويطبّق في حياته الفرديه والإجتماعية معارفه وثقافاته تطبيقاً حرفياً ودقيقا بلا زيادة ولا نقصان .

[العلم مقرون بالعمل]

وإنما كان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) عاملاً بعلمه ، مطبقاً لمعارفه في الخارج، لأنه كان قد تعلّم أيضاً من أساتذته الميامين وأئمته المعصومين (علیهم السّلام): أنّ «العلم مقرون إلى العمل، من علم عمل، ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه».

وتعلّم أيضاً : أنّ «العالم بلا عمل كالشجر بلا ثمر».

وتعلّم أيضاً: «إنّ العلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلا ارتحل عنه».

ص: 308

وتعلّم أيضاً : أنه «مكتوب في الإنجيل : لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم، فإنّ العلم إذا لم يعمل به، لم يزدد صاحبه إلا كفراً، ولم يزدد من الله إلا بعداً».

وتعلّم أيضاً: أنّ «العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النّار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشدّ أهل النّار ندامة وحسرة : رجل دعا عبداً إلى الله، فاستجاب له ، وقبل منه ، فأطاع الله، فأدخله الله الجنّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه، وإتباعه الهوى، وطول الأمل ، أمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وطول الأمل ينسي الآخرة».

وسمع أيضاً أباه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهو يخطب في الناس على منبر الكوفة ويقول: «أيّها الناس ! إذا علمتم ، فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون ، إنّ العالم بغيره، كالجاهل الحائر الّذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم والحسرة أدوم، على هذا المنسلخ من علمه، منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، وكلاهما حائر بائر ، لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكوا فتكفروا ولا ترخصوا لأنفسكم فتدهنوا ولا تدهنوا في الحق فتخسروا، وإن من الحق أن تفقهوا ، ومن الفقه أن لا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وأغشكم لنفسه أعصاكم لربّه ، ومن يطع الله يأمن ويستبشر ، ومن يعص الله يخب ويندم».

وعرف أيضاً : أنه «لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له ، ألا إن الإيمان بعضه من بعض».

وعرف أيضاً : أنه من عمل بما علم، كفي ما لم يعلم».

وعرف أيضاً ما أخبر بن عيسى (علیه السّلام) حيث قال: «رأيت حجراً مكتوباً عليه : قلّبنى ، فقلبته ، فإذا على باطنه : من لا يعمل بما يعلم، مشوم عليه طلب ما لا يعلم،

ص: 309

و مردود عليه ما علم».

وعرف أيضاً ما قاله (علیه السّلام) : من علم وعمل فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء».

وعلم ما أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود (علیه السّلام) حيث قال له : «إنّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة، أن أخرج من قلبه حلاوة ذكري ... والعالم حقاً هو الذي ينطق عنه أعماله الصالحة، وأوراده الزاكية، وصدقه وتقواه ، لا لسانه و تصاوله ودعواه ...»

وعلم أيضاً أنّ: «العلم وديعة الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه ، فمن عمل بعلمه أدى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كتب في ديوان الخائنين».

وتعلّم أيضاً ما أوصى به أبوه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) من قوله : «لا تجعلوا علمكم جهلاً، ويقينكم شكاً، إذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقنتم فأقدموا».

وعلم أيضاً بأنّ «اشدّ النّاس عذاباً ، عالم لا ينتفع من علمه بشيء».

وعلم أيضاً: بأنّ «العلم الذي لا يُعمل به كالكنز الذي لا ينفق منه، أتعب صاحبه نفسه فى جمعه ، ولم يصل إلى نفعه».

وعلم أيضاً : بأنّ «مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به، مثل السراج يضيء للنّاس، ويُحرق نفسه».

وعرف أيضاً : أنه «ما ازداد عبد علماً، فازداد في الدنيا رغبة، إلّا ازداد من الله بعداً».

وعرف أيضاً : أنّ «كلّ علم وبال على صاحبه إلا من عمل به» وعرف أيضاً: إنّ «أشقى النّاس من هو معروف عند النّاس بعلمه ، مجهول بعمله».

ص: 310

[العباس (علیه السّلام) السباق في ميدان العمل والتطبيق]

وعليه: فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) كان من حسن تعلمه، وجميل تفقهه ، وفضل تأدّبه ، ومن إلمامه بالرّوايات الكريمة، ومعرفته بالأحاديث الشريفة هو : السباق في ميدان العمل بما تعلّمه والمقدام في ساحة التطبيق الخارجي لما تفقه فيه وأدلّ دليل على ذلك : كونه (علیه السّلام) مع الصادقين الذين أمر الله تعالى بالكون معهم، فكان (علیه السّلام) كما عرفت مع أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، ثم مع أخيه الإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام)، ثم مع أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)وبقاؤه معه حتى آخر لحظة من حياته الهلال - متحدياً كل الوعود والمغريات، من عرض الأمان، وتقديم الإمارات والمناصب ، وغير ذلك - والوقوف إلى جانبه حتى آخر قطرة من دمه معلناً عن نصرته له، والحماية عنه، حتى أريق دمه في سبيل الله ونصرة دينه وكتابه ، وحماية رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وإمامه (علیه السّلام) وسقط شهيداً مظلوماً بين يدي أخيه وإمامه : الإمام الحسين (علیه السّلام)، ونال بذلك شرف الدنيا ، وفاز بسعادة الآخرة والجنّة .

هذا مع أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) كان يحمل بين جوانبه كل مؤهلات الرئاسة ، وكان يضمّ بين جوانحه جميع معدات الزعامة والقيادة من جمال وكمال، وعلم وحلم وحسب ونسب، وعزّ وشرف وفصاحة وبلاغة وجود وكرم، وشجاعة وشهامة، وبالتالي كان فيه كل مستلزمات القائد الحكيم، والزعيم المجرّب، والرئيس المحبوب المقدام، فكان باستطاعته أن يطرح نفسه رأساً، ويدعو الناس إلى ذلك، ويكون رئيساً وزعيماً في قومه كما فعل من هو أقل منه بكثير، بل من هو بالنسبة إليه كالقطرة مقابل البحر ، والرشفة أمام اليم، والذرّة لدى المجرّة ، والهباءة عند الكون العظيم، أعني به : عبدالله بن الزبير، الذي نصب نفسه علماً ودعى الناس إلى نفسه، وكان من أمره ما كان.

ص: 311

[نموذج من التطبيق العملي لأبي الفضل (علیه السّلام)]

نعم كان باستطاعة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) - لولا التزامه بأن يعمل بما علمه، ويطبق ما عرفه تطبيقاً حرفياً دقيقاً - أن يطرح نفسه رأساً، ويدعو الناس إلى نفسه، كما فعل ابن الزبير، وكان حينئذ نسبة موفقيته فى ذلك بالنسبة إلى موفقیة ابن الزبير أكثر بكثير، وهو واضح لا غبار عليه .

ولكنّه (علیه السّلام) لم يفعل ذلك، ولم ينصب نفسه علماً للناس، ولم يدع الناس إلى نفسه.

كما أنه لم يتخذ موقف الحياد من إمامه الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولم ينعزل عن الساحة وعن مجتمعه، ولم يترك الأمر على عواهنه دون أن يقوم بما يجب عليه (علیه السّلام) تجاه ربّه ودينه، وقبال كتاب الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وازاء أخيه وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام).

بل إنه (علیه السّلام) حدد موقفه في الحياة - حسب ما أملاه عليه دينه وعقيدته، وما أوجبه عليه علمه ومعرفته - وقام بما يجب عليه بكل إخلاص وتسليم، وأدّى ما فرض عليه بأمانة ونصيحة، فعاضد أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في كل موقف ومشهد ، ودافع عنه بكلّ قوّة وقدرة، وكان معه ناصراً ،ومعيناً، وله وليّاً وحميماً وعليه حدياً وحانياً، وبه شفيقاً ورفيقاً، حتى نال وسام الشهادة بين يديه (علیه السّلام) وفاز بسعادة الدنيا وشرف الآخرة .

وبذلك علمنا (علیه السّلام) كيف نكون مع الصادقين، وكيف نضمّ أصواتنا إلى أصواتهم، وهممنا إلى هممهم حتى ينتصر الحق ، ويندحر الباطل ، ويعلو الإسلام والمذهب الحق مذهب أهل البيت (علیهم السّلام) على ما سواه، ويغطّى ربوع الأرض

ص: 312

بظلاله، ويسعد الناس بأحكامه وتعاليمه، علماً بأنّ الصادقين - على ما في مجمع البيان، عن جابر الأنصاري عن أبي جعفر (علیه السّلام)- هم آل محمّد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، فآل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والذين عينهم آل محمّد في حياتهم ومن بعدهم، مرجعاً يرجع الناس إليهم في دينهم ودنياهم، وهم اليوم الفقهاء المراجع هم الذين أمرنا الله تعالى بأن نكون معهم، ولا نتفرّق عنهم ، حق يتحقق : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وذلك لأنّ يد الله مع الجماعة ، وأن نصر الله معقود على نواصي الذين اخلصوا الله ، واتحدوا في الله ، ونصحوا لعباد الله، لا على نواصي الذين تفرّقوا وتشتتوا وتخاذلوا وتحاقدوا، ونصبوا أنفسهم عَلَماً ورأساً، ودعوا الناس إلى أنفسهم ، وصاروا بذلك رؤساً كمزرعة البصل كلّها رؤس يقتلعها الزراع في الدنيا بسهولة ، ويدّخرها الملائكة في الآخرة لشجرة الزقوم التي طلعها كأنه رؤس الشياطين بمرونة، فإنّهم بذلك لم ينالوا ما أملوا، ولم يبلغوا ما راموا، وسوف يحاسبهم التاريخ في المستقبل حساباً عسيراً مخزياً، ويعاقبهم الله في القيامة عقاباً شديداً مهناً.

[أوسمة أبي الفضل (علیه السّلام) على عمله بعلمه]

أجل لقد امتاز أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من بين أقرانه وأصحابه، في مجال العمل بعلمه، وميدان التطبيق الحرفي لمعارفه، بالسبق عليهم جميعاً، والتقدم من بينهم قاطبة، حتّى فاز عند الله بأعلى الدرجات، وحصل من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وابنته فاطمه الزهراء (عليها السلام) والأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام) على أرفع الأوسمة ، وأعظم النياشين.

ونحن نشير إلى ما تيسر لنا منها باختصار إنشاء الله تعالى، حتّى يكون

ص: 313

نبراساً لنا نستضيء بنوره، وقدوة لنا نتعلم من هديه، كيف نكون مثله (علیه السّلام) عاملين بعلمنا ، مطبّقين لمعتقداتنا ، محققين في الخارج لمعارفنا وثقافاتنا.

علماً بأن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) لم يكن نبياً ولا وصيّاً، ومع ذلك نراه قد جاز على أرقى مدارج العلم المقرون بالعمل عملاً عينياً خارجياً لما علمه، وفاز على أعلى مراقي المعرفة المحفوفة بالتطبيق العملي، تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً لما اعتقده وعرفه ونال بسبب ذلك ، المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، والمنزلة السامية لدى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) و ابنته الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والأئمة من أهل بيته الطاهرين (علیهم السّلام).

وعليه: فيكون ابو الفضل العباس (علیه السّلام) بذلك حجّة بالغة علينا ، لا نستطيع أن نقول بعدها : كيف لنا الحصول على المقام الرفيع والمنزلة السامية عند الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) مع أنا لسنا بأنبياء، ولا بأوصياء أنبياء ؟ فإنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) مع أنه لم يكن نبيّاً ولا بوصي نبي ، قد نال ما ناله من العظمة والزلفي عند الله ورسوله وعند أهل بيت رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) بسبب عمله بعلمه عملاً دقيقاً من غير زيادة ولا نقصان، ولا اجتهاد منه مقابل النص، ولا تحوير أو تحريف للواقعيات العقائدية، أو تمويه أو تشويه للحقائق العلمية، كما فعل ذلك عمر بن سعد وأمثاله حيث حرف كل الحقائق وشكك فيها للوصول إلى ولاية الري ولم يصل إليها، ولم يتهنّاً بها.

بل عمل بها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بكل أمانة وصداقة، وإذعان وتسليم .

وإليك بعض تلك الأوسمة والنياشين ، والمقامات الرفيعة، والمنازل السامية له (علیه السّلام) عند الله ورسوله وأهل بيته (علیهم السّلام) في الخصيصة الأخيرة من هذا الكتاب، وهي الخصيصة الأربعون من خصائص أبي الفضل العباس (علیه السّلام) إنشاء الله تعالى.

ص: 314

الخصيصة الأربعون: «في أنّه (علیه السّلام) الوجيه عند الله ورسوله والأئمة الطاهرين»

لقد استطاع أبو الفضل العباس (علیه السّلام) عبر إيمانه الراسخ، وعقيدته الصلبة، ونفسيته الطيبة، وأخلاقه الكريمة، وبتطبيق معارفه الربانية في الخارج تطبيقاً حرفياً دقيقاً، وتحقيق ثقافته الإسلامية فى حياته العملية تحقيقاً وافياً واضحاً، أن يحلّق فى مقام القرب والوجاهة إلى الله تعالى، ويعلو في درجات الفضل والجلال عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والأئمة الطاهرين من أهل بيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك بما لم يستطع أحد ليس هو بنبي، ولا بوصي نبي، أن يصل إلى ما وصل إليه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من الوجاهة عند الله تبارك وتعالى وعند رسوله الحبيب، وابنته الوفية، وأهل بيته الطاهرين، ونحن نذكر شيئاً منها ، ونستعرض نماذج عليها ، بعون الله تعالى وقوته ، وحوله وطوله :

[العباس (علیه السّلام) ومنزلته عند الله]

قال الله تعالى : ﴿ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّا قليل منهم، ولو أنّهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشدّ تثبيتاً وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً ومن يطع الله والرسول

ص: 315

فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً ، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً﴾.

ومن أجلى مصاديق هذه الآيات الكريمة هو : سبط رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الشهيد بكربلاء : الإمام الحسين (علیه السّلام) وأخوه أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، فلقد كتب الله تعالى على سبط رسوله الحبيب، ووصيّ وصيّه الكريم : الإمام الحسين الهجرة والقتال، والخروج على يزيد عدو الله وعدوّ رسوله، وأبلغ ما كتبه عليه عبر أمين وحيه جبرائيل، وبواسطة حبيبه الرسول المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم) إليه ، فامتثل الإمام الحسين (علیه السّلام) أمر ربه وخرج فلم يخرج معه ولم يقاتل بين يديه (علیه السّلام) إلا القليل، وكان في مقدّمة هذا القليل أبو الفضل العباس (علیه السّلام) وحيث انه (علیه السّلام) فعل ما وعظ به، وعمل بما علم، كان خيراً له وأشدّ تثبيتاً ، ونال من الله أجراً عظيماً ، وهدى صراطاً مستقياً، وحشر - كما في زيارته (علیه السّلام) أيضاً، المأثورة عن الإمام الصادق (علیه السّلام) على أثر طاعته الله ولرسوله ولإمامه - مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً ، فصدق فى حقه (علیه السّلام) وتحقق عليه قوله تعالى : ﴿ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً﴾ فطوبى لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) مقامه الرفيع عند الله تبارك وتعالى، وهنيئاً له على منزلته السامية لديه .

[مشاهد العباس (علیه السّلام) الأربعة]

كان هذا شيئاً قليلاً من جزاء الله عزّوجلّ لأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ونزراً الله يسيراً من ثواب الله تبارك وتعالى له في الآخرة، وأما جزاؤه تعالى له وأجره إياه في الدنيا، فحدث ولا حرج، فتلك روضته المباركة، وقبته السامية، ملاذاً للانذين، وأمناً للاجئين ، ومقصداً للزائرين، ومحطّاً للوافدين، وتلك كراماته الباهرة، وعناياته الخاصة ظاهرة منها للناس أجمعين.

ص: 316

أضف إلى ذلك مزاراته الثلاثة ومشاهده المباركة الأخرى، فإنها ايضاً كروضته المباركة مقصداً ومزاراً للناس، وملاذاً ومعاذاً لهم، علماً بأن تلك المزارات الثلاثة، والمشاهد المباركة الأخرى هي عبارة عمّا يلي :

[المشهد الأوّل]

1 - مشهد الرأس الشريف : جاء في كتب المقاتل : إن عمر بن سعد أمر جيشه بعد أن قتلوا ابن بنت رسولهم (صلی الله علیه و آله و سلم) ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه (علیهم السّلام) بأن يحتروا رؤسهم ويحملوها مع السبايا إلى ابن زياد ومنها إلى يزيد بن معاوية .

وكذلك فعلوا، فكانت للرؤس الطاهرة في كلّ مكان وخاصة في الشّام معجزات باهرات وكرامات ظاهرات افتضح على أثرها الأمويون، وخزي من جرائها يزيد وابن زياد، مما أدى بيزيد أن يُسلّم الرؤس الشريفة كلّها إلى الإمام زين العابدين (علیه السّلام) حتى يلحقها بالأبدان الطاهرة ويدفنها معها ، وهذا هو المعروف والمشهور، فإنّ الإمام السجاد (علیه السّلام) ردّ الرؤس الكريمة كلّها إلى كربلاء وألحقها بالأبدان الطاهرة ودفنها معها.

غير أنّ هناك بدمشق الشام وفي المقبرة المعروفة باسم: «مقبرة باب الصغير» مشهد كان قد وضع على بابه وذلك أوائل القرن الرابع عشر الهجري صخرة منحوت عليها: «هذا مدفن رأس العباس ابن علي (علیهما السّلام)..» وفي اواسط القرن الرابع عشر الهجري، انهدم هذا المشهد، فأعيد بناؤه، وازيلت تلك الصخرة من على بابه ، وبني ضريح داخل المشهد، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء.

هذا ما جاء في التاريخ، وتعرّض له كتاب أعيان الشيعة، إلا أن الظاهر القوي، والقريب غير البعيد ، هو : أنّ هذا المشهد محلّ صلب تلك الرؤس الكريمة ، لا محل دفنها .

ص: 317

[المشهد الثاني]

2 - مشهد الكفّ اليمنى : لقد قطعت يدا أبي الفضل العباس (علیه السّلام) في كربلاء غدراً وغيلة ، فإنّ العدوّ الجبان لمّا لم يتجرأ على مواجهة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) يوم عاشوراء ومقاتلته وجهاً لوجه كمن له وراء نخلة، وضربه على يده اليمنى فبترها من الزند، فاتخذ محل سقوطها بعد ذلك مشهداً ومزاراً، ويقع مقام هذا المشهد م«شهد الكفّ اليمنى» في جهة الشمال الشرقي من الروضة المباركة وذلك على حدّ محلّة باب بغداد، ومحلّة باب الخان، قريباً من باب الصحن الشريف الواقع في الجهة الشرقية، وعلى جدار المقام شباك صغير نقش في أعلاه بيتان من الرثاء باللغة الفارسية .

[المشهد الثالث]

3 - مشهد الكف اليسرى : وهي أيضاً اليد الأخرى التي قطعت في كربلاء، غدراً وغيلة، وذلك في كمين آخر، كمن له شقي ثانٍ من وراء نخلة، وضربه على يده اليسرى فقطعها من الزند أيضاً، فاتخذ ذلك الموضع بعدها مشهداً ومزاراً أيضاً، ويقع هذا المشهد مشهد الكفّ اليسرى في جهة الجنوب الشرقي من الروضة المباركة، وذلك في السوق الصغير المعروف بسوق باب العباس الصغير قريباً من باب العباس الصغير من الصحن الشريف الواقع في الجنوب الشرقي، وعلى جدار المقام شباك صغير كتب في أعلاه بالقاشاني الرثاء التالي :

سل إذا ما شئت واسمع واعلم *** ثمّ خذ مني جواب المفهم

إنّ فى هذا المقام انقطعت *** يسرة العبّاس بحر المكرم

ص: 318

هاهنا يا صاح طاحت بعدما *** طاحت اليمنى بجنب العلقمى

أجر دمع العين وابكيه أسأ *** حق أنْ يُبكي بدمع من دمِ

هذه المشاهد الثلاثة - إضافة إلى مشهد روضته المباركة، ومحل مرقده الشريف ، أربعة مشاهد ومزارات يؤمها الناس في حوائجهم ومهماتهم - هي من إمتيازات أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، ومن خصائصه التي خصه الله بها ، إكراماً له على عمله بعلمه ومعرفته، وتقديراً له على تطبيقه لمعتقداته وثقافاته في الخارج تطبيقاً حرفياً دقيقاً، فهنيئاً لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) ما ناله من عزة وكرامة، ومباركاً عليه ما منحه الله تعالى من مقام ومنزلة، ومن جاه عريض، وشرف رفيع، وعزّ منيع، وشفاعة مقبولة، ووساطة مرضيّة محمودة.

[منزلة العباس (علیه السّلام) عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)]

لاشك فى أن جبرائيل (علیه السّلام) لما أخبر رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الله تبارك وتعالى بشهادة سبطه الأصغر ، وريحانته فى الدنيا : الإمام الحسين (علیه السّلام)، وما يجري عليه، أخبره أيضاً عن شهادة من يستشهد معه، وخاصة عن شهادة أخيه وصنوه و حاميه والمدافع عنه، والذي أبلى في نصرته بلاءاً حسناً، وفداه بروحه ودمه، بي الفضل العباس (علیه السّلام).

ولاشكّ في أنّ اطلاع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن مواساة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أخاه وإمامه الإمام الحسين ، وتعرفه على إيثاره له، علماً بأن هذه المواساة، وهذا الايثار منه (علیه السّلام) هو نتيجة عمله بعلمه، وتطبيقه لمعرفته و معتقده بإمامه (علیه السّلام)، فإن ذلك جعل لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مكانة مرموقة، ومنزلة محمودة، مما دعى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى التصريح بفضل أبي الفضل

ص: 319

العباس (علیه السّلام) وكرامته ، والتلويح بمقامه ومنزلته عند الله وعند رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) كما صرّح بذلك في حق سبطه وريحانته الإمام الحسين (علیه السّلام)، ومن قبله في حق سبطه الأكبر وريحانته المجتبى الإمام الحسن (علیه السّلام)، ولكن لم يصلنا شيء من تصريحاته (صلی الله علیه و آله و سلم) في حق أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وللأسف، كما وصلنا والحمد لله بعض تصريحاته (صلی الله علیه و آله و سلم) في حق الإمامين الهمامين الحسن والحسين (علیهما السّلام).

ويدلّ على ذلك ما جاء في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، باب الإثنين، الحديث الواحد بعد المائة ، فإنّه (رحمه الله علیه) بعد أن يروي فيه عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) في حق عمّه العباس بن علي (علیهما السّلام) الرواية المعروفة ، ويذكر فيها : إنّ الله أبدله مكان يديه المقطوعتين جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، يقول ما نصه : والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة ، ثمّ يضيف : وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العباس بن علي (علیهما السّلام) في كتاب : «مقتل الحيسن بن علي (علیهما السّلام)» انتهى كلامه رفع الله مقامه، فإنّه كما لم يصلنا كتاب مقتل ، الشيخ الصدوق، فكذلك لم يصلنا ما جاء فيه، وما جاء في غيره من الكتب الأخرى، من فضائل أبي الفضل العباس (علیه السّلام) التي ربما نقلت في حقه عن الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم).

[العباس (علیه السّلام) في طليعة العلماء العاملين]

هذا ولكن يمكن أن يدعى أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان قد عنى أبا الفضل العباس (علیه السّلام) أيضاً في رواياته المروية عنه في مدح العلماء الأبرار، العاملين بعلمهم، والمطبقين لما عرفوه واعتقدوه من الحق في الخارج تطبيقاً عملياً دقيقاً، وذلك لأنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وهو في طليعة العلماء العاملين، فيشمله مثل

ص: 320

قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): « فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد». ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) «المتقون سادة، والفقهاء ،قادة والجلوس إليهم عبادة ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». ومثل قوله : «نعم» الرّجل الفقيه في الدين، إن أحتيج إليه نفع، وإن لم يحتج إليه نفع نفسه». ومثل قوله : «الفقهاء أمناء الرسل». ومثل قوله : «إنّ علماء شيعتنا يُحشرون فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر 1 - كثرة علومهم، 2 - جدّهم في إرشاد عباد الله ، حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور ...». ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «علماء أمتي كأنبياء بني اسرائيل». وفي رواية أخرى: «أفضل من أنبياء بني إسرائيل». ومثل قوله : «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر». ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «... وإن خير الخير خيار العلماء». ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم)(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب». ومثل قوله (صلی الله علیه و آله و سلم): «ألا أحدثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة ، الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور، فقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين يُحبّبون عباد الله إلى الله ، ويُحبّبون عباد الله إلي ، قال : يأمرونهم بما يحبّ الله ، وينهونهم عمّا يكره الله ، فإذا أطاعوهم أحبهم الله».

فكيف بأبي الفضل العباس (علیه السّلام) فإنه إضافة إلى كونه من طلايع هؤلاء العلماء العاملين، هو في مقدمة الشهداء السعداء أيضاً؟

[اشفع لمن شئت]

وهنا يمكن الإستدلال أيضاً على علوّ مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ورفيع منزلته لديه ما جاء في كتاب معالي السبطين من قول

ص: 321

رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) له : «ارجع ، أقرّ الله عينك ، فأنت باب الحوائج، واشفع لمن شئت»، وهذا الكلام من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) على ما في الكتاب المذكور يكون كما يلي:

قال صاحب معالي السبطين : سمعت بعض مَن يُعتمد عليه من الأساتيذ يقول : كان رجل من أهل الخير والصلاح يسكن كربلاء المقدسة، ويقطن في ارضها المباركة، وكان له ولد صالح قد مرض فجاء به - بعد أن أعين الأطباء علاجه ويئسوا منه - إلى روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وتوسل به إلى الله تعالى، وشفّعه فى طلب شفاء ابنه من الله عزّوجلّ، بات ليلته عند مرقده الشريف، لائذاً بضريحه المنيف وعائذاً به، وفي الصباح أقبل إليه أحد أخلائه وأصدقائه ليقول له : إني رأيت البارحة رؤيا أريد أن أقصها عليك، وهي: إني رأيت في المنام كأن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) قد تشفّع إلى الله في ولدك وطلب منه شفاء ابنك، وسأل له العافية . عندها أقبل إليه ملك من الملائكة رسولاً من عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ليقول له : يا أبا الفضل ! إنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يخصك بالسلام ويقول لك : لا تشفع في شفاء هذا الشاب ، فإنّه قد بلغ الكتاب أجله ، وقد انقطعت مدته، وتصرّمت أيامه.

فقال أبو الفضل العباس (علیه السّلام) لذلك الملك : أبلغ رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عني السلام وقل له : إنّي أستشفع بك إلى الله ، وأطلب منه بحقك شفاءه.

فمضى ذلك المَلَك ثمّ عاد إليه وقال له مثل كلامه الأوّل ، فأجابه أبو الفضل العباس (علیه السّلام) أيضاً بمثل جوابه الأول.

تكرّرت هذه العمليّة ثلاث مرّات، وفي المرّة الرابعة لما جاء الملك وأعاد الكلام، قام أبو الفضل العباس (علیه السّلام) من مجلسه، وقصد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بنفسه ، حتى إذا دخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وذلك بعد أن استأذنه في الدخول عليه، أقبل عليه وقال له بعد التحية والسلام : يا رسول الله! صلّى عليك مليك الأرض والسماء،

ص: 322

أوليس من الصحيح بأنّ الله تعالى قد منحني وسام باب الحوائج وسماني به والناس قد علموا بذلك، فقصدوني وأموني وهم يستشفعون ويتوسلون بي إلى الله عزّوجلّ، فإن لم يكن كذلك، فليسلب الله سبحانه وتعالى هذا الإسم منّي وليسحب هذا الوسام عنّي ؟

وهنا التفت إليه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مصدقاً له والإبتسامة على شفتيه، رضاً به، وقبولاً منه، وقال له : «ارجع أقرّ الله عينك، فأنت باب الحوائج، واشفع لمن شئت، وهذا الشاب المريض قد شفاه الله ببركتك».

وكان كما قصّ الرّجل رؤياه، حيث أنّ ذلك الشاب المريض، قام من مرضه، وشوفي من علته ، وعاش ما عاش بعدها بصحة وسلامة ، وعافية وكرامة، كلّ ذلك ببركة شفاعة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وساطته عند الله عزوجل.

ومن ذلك ظهر : أنّ الرؤيا كانت من المنامات الصادقة والأحلام الطيبة التى أخبرت الروايات الكريمة عنها قائلة: «بأن رؤيا المؤمن جزءاً من سبعين جزء من النبوّة» كناية عن صدقها، وتحققها في الخارج.

[الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ومنزلة العباس (علیه السّلام) عنده]

جاء في كتاب «قمر بني هاشم»: أنّ أمّ البنين (عليها السلام) رأت أمير المؤمنين (علیه السّلام) في بعض الأيام قد أجلس ولده أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وهو صغير في حضنه، وشمر عن ساعديه وكفيه الصغيرتين، وأخذ يقبلهما ويبكي فأدهشها الحال، وتعجبت من هذا الأمر، فأقبلت على الإمام أمير المؤمنين تسأله مندهشة وتقول : لا أبكى الله عينيك يا أمير المؤمنين (علیه السّلام)؟ وهل في ساعدي ولدي وكفيه ما يستدعي التأثر والبكاء ؟

ص: 323

فأوقفها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) على ما لهذا الطفل من شأن كبير عند الله ، لها ومنزلة رفيعة لديه، على ما سيقوم به من نصرة أخيه وإمامه : الإمام الحسين (علیه السّلام) في يوم عاشوراء والذبّ عنه، حتّى تقطع كلتا يديه في نصرته .

فلم تتمالك الأم الحنون نفسها من وقع هذا الخبر، حتى بكت وأعولت وشاركها من كان في الدار الزفرة والحسرة والبكاء والعويل، فهد أهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وأسكتهم ، ثم بشر أم البنين (عليها السلام) بمكانة ولدها العزيز عند الله جلّ شأنه، وأخبرنا بانه سوف يعوضه الله عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما مع الملائكة فى الجنّة ، كما جعل مثل ذلك لجعفر بن أبيطالب (علیه السّلام) أيضاً.

ومعلوم : إنّ تقبيل الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) كفيل ولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وساعديه ، ليس هو من باب الشفقة والمحبّة فقط ، بل هو من باب المقام والمنزلة أيضاً.

[سنقر عيني بك]

وجاء في كتاب معالى السبطين وغيره أيضاً: إنه لما كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة ، أي : في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وهي الليلة الأخيرة من عمر الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام)، حيث أخذ الإمام يودّع فيها أهل بيته وخاصته ، ويوصيهم بوصاياه ومواعظه، وفيها التفت إلى ولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وضمه إلى صدره وقال له : «ولدي عباس ! وستقرّ ها عيني بك في يوم القيامة، ولدي أبا الفضل إذا كان يوم عاشوراء، ودخلت الماء، وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء، وأن تذوق منه قطرة، وأخوك الحسين (علیه السّلام) عطشان».

ص: 324

والشاهد من هذا الخبر هو قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) للولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام): «وستقرّ عيني بك في يوم القيامة» فإنّ قرّة عين الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) لا يكون إلا بما يراه الإمام من علوّ مقام ولده أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند الله تبارك وتعالى ورفيع منزلته لديه.

منزلة العباس (علیه السّلام) عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)]

جاء في كتاب «اسرار الشهادة» نقلاً عن بعض كتب المقاتل : إنه إذا كان يوم القيامة، واشتد الأمر على الناس، بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بإذن من الله تعالى الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إلى ابنته الصدّيقة الكبرى، فاطمة الزهراء (عليها السلام)] لتحضر مقام الشفاعة ، فيُقبل الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) إليها ويخبرها بما قاله أبوها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويطلب منها حضور مقام الشفاعة، ثمّ يسألها قائلاً: يا فاطمة ما عندك من أسباب الشفاعة ؟ وما الذي ادّخرتيه لأجل هذا اليوم الّذي فيه الفزع الأكبر ؟ فتجيبه فاطمة (عليها السلام) بقولها له : يا أمير المؤمنين! كفانا لأجل هذا المقام اليدان المقطوعتان من ابني العباس.

وفى هذا الخبر دلالة كافية على قبول الله تعالى اليدين المقطوعتين لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) التي قطعتا في سبيله، وفي نصرة دينه ووليه، وهو يدلّ أيضاً على علوّ مقام صاحب اليدين عند الله تبارك وتعالى، وسموّ منزلته لديه، إضافة إلى علوّ مقامه عند فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث أنها دعته ابناً لها عند قولها : كفانا لأجل هذا المقام اليدان المقطوعتان من ابني العباس بعد جعلها يديه القطيعتين وسيلة للشفاعة في ذلك اليوم العظيم والموقف الرهيب.

ص: 325

[العباس (علیه السّلام) ومنزلته عند الإمام المجتبى (علیه السّلام)]

لقد خاطب الإمام الصادق (علیه السّلام) عمه العباس (علیه السّلام) في الزيارة المعروفة ، التي في علّم شيعته زيارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) بها وقال : «السلام عليك أيها العبد الصالح المطيع الله ولرسوله، ولأمير المؤمنين، والحسن والحسين، صلّى الله عليه وسلّم» فإنّ طاعة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) لأخيه الإمام المجتبى الحسن الزكي (علیه السّلام) تكشف عن مقامه عنده، ومنزلته لديه، وليس مقاماً متواضعاً ومنزلة

لا عادية، بل مقاماً رفيعاً ومنزلة سامية، وذلك لأنه (علیه السّلام) كان يطيعه عن علم تام، ومعرفة كاملة، ويقين راسخ، لأنه (علیه السّلام) كان يرى في إطاعته له إطاعة لأمر أبيه الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) حيث أوصى بنيه وجميع أهل بيته وشيعته ومحبّيه بالسمع والطاعة للإمام المجتبى الحسن الزكي (علیه السّلام) ثم بعده لأخيه الإمام الإمام الحسين (علیه السّلام).

وممّا يدل أيضاً على عظيم منزلة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند أخيه الإمام المجتبى (علیه السّلام) ورفيع مقامه لديه : إن شركه الإمام الحسين (علیه السّلام) في تجهيز الإمام المجتبى (علیه السّلام) و تغسيله له ، وتكفينه إياه ، مع أنه لا يلي تجهيز المعصوم إلا المعصوم، أو من أوصى المعصوم، أو رآه المعصوم صالحاً لأن يشارك المعصوم في تجهيزه.

والظاهر أن أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هو من قد أوصى الإمام المجتبى أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) بمشاركته له في تجهيزه ، ورآه الإمام الحسين (علیه السّلام) أيضاً صالحاً لذلك، فشركه معه في تجهيزه ، كما شرّك الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ابن عمه الفضل بن العباس بن عبدالمطلب في تجهيز رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لكن مع إلزامه بتعصيب عينيه، خشية العمى إن وقع نظره على ذلك الجسد الطاهر ، فإنّ غير المعصوم كما

ص: 326

لا يحق له تجهيز المعصوم لعدم المجانسة في العصمة والطهارة معه، فكذلك لا يحق له النظر إلى جسد المعصوم عند تجهيزه، وإلا عمي بصره، بينما أبو الفضل العباس (علیه السّلام) قد شارك أخاه الإمام الحسين (علیه السّلام) في تجهيز الإمام المجتبى ولم يذكر في التاريخ أنه عصب عينيه ، أو غض طرفه عند مشاركته له ، وهذا يدل على عظمة شأن أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وجلالة قدره.

[منزلة العباس (علیه السّلام) عند الإمام الحسين (علیه السّلام)]

وأمّا منزلة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) فحدث ولا حرج، فكم من موقف للإمام الحسين (علیه السّلام) مع أخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) كشف فيه عن علوّ مقامه عنده، وسموّ منزلته لديه.

فقد خاطبه (علیه السّلام) يوم التاسع من محرّم عندما زحف الجيش الأموي على مخيم الإمام الحسين (علیه السّلام) بقوله : «اركب بنفسي أنت يا أخي ! حتّى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم، وما الذي يريدون ؟» وهذه كلمة لها أهميتها وقدرها ، فإنّها تنبيء عن مكانة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وتخبر عن خطر منزلته لديه.

وقد خاطبه (علیه السّلام) يوم عاشوراء أيضاً، وذلك لمّا استأذنه للبراز إلى الأعداء، والقتال بين يديه بقوله : «أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري» وفي رواية أخرى قال له وهو يريد استبقاءه : «أنت العلامة من عسكري، وأنت مجمع عددنا ، فإذا مضيت يؤل جمعنا إلى الشتات، وعمارتنا تنبعث إلى الخراب».

وخاطبه في يوم عاشوراء أيضاً وذلك لمّا وقف على مصرعه، وأراد حمله إلى المخيّم فأقسم عليه العباس (علیه السّلام) بحق جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن يتركه مكانه لئلا

ص: 327

يتجرأ الأعداء عليه بقوله : «جزيت عن أخيك خيراً، فلقد نصرته حياً وميتاً».

وخاطبه أيضاً لما قام من مصرعه وهو يبكي ويكفكف دموعه بيديه بقوله : «الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوّي» وغيرها من المخاطبات الدالّة على عظيم مقام العباس (علیه السّلام) عند أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وسمو منزلته لديه .

[الإمام زين العابدين (علیه السّلام) ومنزلة العباس (علیه السّلام) عنده]

جاء في كتاب معالي السبطين : إنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) لما تفقد ولده الإمام زين العابدين (علیه السّلام) وعاده ليودعه، سأله عن عمّه العباس (علیه السّلام) ، فاختنقت عمته زينب (عليها السلام) التى كانت تمرّضه بعبرتها ، وجعلت تنظر إلى أخيها كيف يجيبه ، لأنه لم يكن يخبره لحد الآن بشهادة عمّه العباس (علیه السّلام) خوفاً من أن يشتد مرضه ؟ فقال (علیه السّلام) له وهو يرى انه لابد من اخباره ولا طريق لحجب هذا الخبر المفجع عنه : يا بني ! إنّ عمّك قد قُتل ، وقطعوا يديه على شاطىء الفرات، فبكى علي بن الحسين (علیه السّلام) بكاء شديداً حتّى غُشي عليه .

ومعلوم ان سؤال الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أوّلاً وقبل كل أحد عن عمه العباس (علیه السّلام)، وكذلك بكاؤه لمّا سمع باستشهاده حتى الإغماء، دليل عظمة مقام العباس (علیه السّلام) عند الإمام زين العابدين (علیه السّلام) ورفيع منزلته لديه .

[على الدنيا بعد العباس (علیه السّلام) العفا]

وجاء في كتب المقاتل : إنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) لما جاء لمواراة الأجساد الطاهرة، والأبدان الزاكية، ووارى بنفسه جثمان والده سيّد الشهداء: الإمام الحسين (علیه السّلام)، واستعان ببني أسد في مواراة بقية الشهداء السعداء وفرغ منها،

ص: 328

التفت إلى بني أسد وقال لهم : انظروا هل بقى من أحد ؟ قالوا: نعم، بقي بطل مطروح حول المسناة، وإنا كلما حملنا منه جانباً، سقط منه الجانب الآخر ، لكثرة ما به من ضرب السيوف، وطعن الرماح ، فبكى (علیه السّلام) من قولهم ذلك وقال : امضوا بنا إليه ، فلمّا رآه ألقى بنفسه عليه يلثم نحره الطاهر ، ويقبل يديه المقطوعتين، وهو يقول : «على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ! وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته» ثم قام (علیه السّلام) وتولّى أمره بنفسه، فشق له ضريحاً، وأنزله في مثواه وحده، ولم يشرك أحداً من بني أسد في ذلك، كما فعل بأبيه سيّد الشهداء (علیه السّلام) ولما أراد بنو أسد إعانته عليه قال لهم : يا بني أسد ! إن معي من يعينني .

وهذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على ما لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) من مقام كبير وشأن عظيم عند الإمام زين العابدين (علیه السّلام)، بل عند الله تبارك وتعالى، وعند رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) و عند الأئمة من أهل بيته (علیهم السّلام).

[رحم الله عمّي العباس (علیه السّلام)]

وجاء في كتاب أمالي الصدوق : إنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) وقع نظره يوماً على عبيد الله بن العباس بن علي (علیه السّلام)، فتذكر به عمّه أبا الفضل العباس (علیه السّلام) فاستعبر ثم قال: «ما من يوم أشدّ على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من يوم قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب (علیه السّلام) أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة، قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، ثم أضاف ولا يوم كيوم الحسين (علیه السّلام)، از دلف إليه فيه ثلاثون ألف رجل، يزعمون أنهم من هذه الأمة، كلّ يتقرّب بدمه إلى الله، وهو يذكرهم بالله، فلا يتعظون، حتّى قتلوه بغياً، وظلماً وعدواناً، ثمّ قال : رحم الله علي العباس،

ص: 329

فلقد آثر، وأبلى، وفدئ أخاه بنفسه، حتّى قطعت يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبيطالب (علیه السّلام)، وإن للعباس عند الله منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».

[بعد فاجعة الطف]

وجاء في بعض الكتب أيضاً : إنّ الإمام زين العابدين (علیه السّلام) لما رجع إلى المدينة بعد فاجعة الطف، لازم الحزن والبكاء على أبيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وعلى عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وعلى سائر شهداء كربلاء، وكان لا يجلس بعد ، ذلك في الأعياد للناس، بل كان يوم العيد يوم حزنه وبكائه، ويوم تجدّد المصاب عليه ، فأراد منه شيعته ذات مرة وبإصرار أن يجلس لهم في عيد مقبل عليهم، كما وأرسلوا نساءهم إلى مخدّرات الرسالة ليسألن منه ذلك ، فأجابهم (علیه السّلام) إلى ذلك على شرط أن لا يأتوه مهنّئين ولا مباركين له بالعيد، فلما كان يوم العيد جلس (علیه السّلام) لهم، فلمّا رأى عبيد الله بن العباس بن علي (علیه السّلام) وكان صغيراً أن ابن عمه الإمام زين العابدين (علیه السّلام) قد جلس للناس في هذا العيد ، ظنّ أنّ حزن الإمام وبكاءه قد انقضى، فأقبل إلى جدّته أمّ البنين وأراد منها أن تلبسه ثياب العيد حتى يزور بها الإمام زين العابدين (علیه السّلام) الذي جلس للناس في هذا العيد ، فقالت له أمّ البنين : نعم يا بني ! وكانت أمّ البنين قد ادخرت ثياباً للعباس (علیه السّلام) من أيام الصغر، فأخرجتها وألبسته ، فجاء عبيد الله بن العباس (علیه السّلام) فيها ودخل على الإمام زين العابدين (علیه السّلام) فلما رآه مقبلاً وقد لبس ثياب أبيه العباس (علیه السّلام) قام (علیه السّلام) من مجلسه وقد تحادرت دموعه على خدّيه ليستقبل ابن عمّه الصغير باكياً، فقيل له : لا أبكى الله عينيك يا ابن رسول الله ! ممّ بكاؤك ؟ فقال (علیه السّلام): لما وقع نظري على ابن عمّي هذا عبيد الله بن

ص: 330

العباس (علیه السّلام) المقبل عليَّ وقد لبس ثياب أبيه ، تذكرت عمّي العباس وتصوّرت أنه هو الذي يدخل عَلَيّ، فتذكرت بذلك موقفه يوم الطف فبكيت، ثمّ فتح الإمام (علیه السّلام) باعه وضمّ ابن عمه عبيد الله بن العباس (علیه السّلام) إلى صدره وقبله، ثمّ أجلسه في حجره والتفت إليه وهو يمسح على رأسه بيده الكريمة ويقول له : أظننت يا ابن العم إن حزننا على عمّك الإمام الحسين (علیه السّلام)، وعلى أبيك العباس (علیه السّلام) وسائر بني هاشم والشهداء قد انقضى ؟ هيهات يا ابن العم إنّ حزننا عليهم لا ينقضي إلى يوم القيامة، ثم : أنشأ (علیه السّلام) :يقول

نحن بنو المصطفى ذوو غصص *** يجرعها في الأنام كاظمنا

عظيمة في الأنام محنتنا *** أوّلنا بتلى وآخرنا

يفرح هذا الورى بعيدهم *** ونحن أعيادنا مآتمنا

والنّاس فى الأمن والسرور وما *** يأمن طول الزمان خائفنا

خصصنا به من الشرف الطائل بين الأنام آفتنا

يحكم فينا والحكم فيه لنا *** جاحدنا حقنا وغاصبنا

ثم بكى (علیه السّلام) وبكى من كان حاضراً معه .

[منزلة العباس (علیه السّلام) عند الإمام الباقر (علیه السّلام)]

جاء في كتب المقاتل : إنّ الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبيطالب (علیهم السّلام) المكنى بأبي جعفر، والملقب من قبل جده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن الله تبارك وتعالى بلقب : الباقر (علیه السّلام)، كان مع أبيه الإمام السجاد (علیه السّلام) وجده الإمام الحسين (علیه السّلام) قد حضر كربلاء ، ومرّ عليه يوم عاشوراء وهو ابن خمس سنين ، فكان يدرك كل الوقائع المؤلمة التي وقعت فيه، ويتحسّس جميع الأحداث المفجعة التي

ص: 331

اتفقت لهم عنده ، فكان المصاب الأليم يعصر قلبه ، والرزايا العظيمة تستدرّ دمعه وخاصة عندما سمع بمقتل عمّ أبيه : أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ذلك البطل الضرغام، الذي كان معسكر الإمام الحسين (علیه السّلام) وخاصة مخيم النساء آمناً في ظلاله ومطمئناً إلى حمايته ودفاعه، والذي بشهادته (علیه السّلام) أمن العدوّ جانب الإمام الحسين (علیه السّلام) وأيقن بالسيطرة عليه، وسهرت عيون الهاشميات وباتت خائفة من الأسر، مرعوبة من السبي وتسلّط الأعداء الجفاة عليهم.

ولذلك يمكن لنا القول : بأنّ الإمام الباقر (علیه السّلام) تقديراً لمواقف عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المشرّفة، وشكراً لمساعيه الطيّبة، وإعلاناً عن مقام عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عنده، ومنزلته لديه قد لثم يدى عمّه المقطوعتين، وقبلهما بحرقة ولوعة ، اقتداءاً بأبيه الإمام السجاد (علیه السّلام) وجده الإمام الحسين (علیه السّلام)، وذلك حين مروا وبعماته والهاشميات على مصارع القتلى وأطافوا بهم حول أجسادهم الموذُرة، وأعضائهم المقطعة.

وبذلك يكون قد قبّل يدي أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ولثمها خمسة من الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) ، وهم : الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) والإمام الحسن المجتبى (علیه السّلام) فإنهما قبلا يديه (علیه السّلام) في حال صغره، وحين كانتا مثبتتين في جسمه، والإمام الحسين (علیه السّلام)، فإنه قبلهما في صغره مثبتتين، وفي كبره مقطوعتين، والإمام السجاد (علیه السّلام) والإمام الباقر (علیه السّلام) فإنهما قبلا يديه وهما مقطوعتان عن جسمه مرميّتان على رمضاء كربلاء.

ص: 332

[الإمام الصادق (علیه السّلام) ومنزلة العباس (علیه السّلام) عنده]

لقد روي عن الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیه السّلام) الشيء الكثير لها والجمّ الغفير في حق عمّه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ، وكلّ واحد منها ينبيء عن علوّ مقامه عنده، وسموّ منزلته لديه، بل كلّ واحد منها صريح في بيان ما لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) من الجاه والجلال عند الله، وعند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعند فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعند الأئمّة من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

وقد اشتهر منها قوله (علیه السّلام) في حقه : «كان عمّنا العباس بن علي (علیه السّلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله (علیه السّلام)، وأبلى بلاءاً حسناً، ومضى شهيداً».

ويكفي أبا الفضل العباس (علیه السّلام) هذا الوسام الكريم من الإمام الصادق (علیه السّلام) الذي هو وسام من الله تعالى، لأنه (علیه السّلام) يتكلّم عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عن جبرئيل عن الله ، وقد أبان فيه عن مدى شخصية أبي الفضل العباس الكبيرة، وكشف عبره عن مغزى نفسية العياس (علیه السّلام) الرحبة ، وأفصح في طياته عن معنوياته الواسعة والصلبة.

وقد اشتهر منها أيضاً قوله (علیه السّلام) فيما علّمه شيعته وأصحابه إذا حضروا عند مرقد أبي الفضل العباس (علیه السّلام) أن يخاطبوه به من لفظ الزيارة المروية بسند صحيح متفق عليه، والتي تبتديء بتقديم التحيّة وإهداء السلام من الله وملائكته، . وأنبيائه ورسله، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين، زاكية طيبة، في كل صباح ومساء، على العباس بن أمير المؤمنين (علیهما السّلام)، وتنتهي بالدعاء والثناء، وطلب المغفرة والرضوان، ونيل الفلاح والنجاح للزائرين والوافدين، وتضم فيما

ص: 333

بين البدء والختم معانٍ شامخة، ومقامات سامية، تضاهي ما جاء من المعاني الشامخة في زيارات المعصومين (علیهم السّلام) و توازي ما روي من المقامات السامية لهم سلام الله عليهم أجمعين، فالزيارة هذه إذن صريحة في عظمة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وجلالة قدره.

[منزلة العباس (علیه السّلام) عند باقي الأئمة (علیهم السّلام)]

ثمّ إنّ باقي الأئمّة المعصومين (علیهم السّلام) من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد الإمام الصادق (علیه السّلام) او حتى الإمام المهدي (علیه السّلام) وإن لم يصلنا منهم تصريح في حق عمّهم أبي الفضل العباس (علیه السّلام) سوى ما وصلنا من الإمام الهادي (علیه السّلام) وذلك على ما في الإقبال من زيارة الناحية المقدسة الصادرة عنها سنة مائتين واثنتين وخمسين هجرية، المتعرّضة لأسماء الشهداء، والّتي يقول فيها الإمام (علیه السّلام) مخاطباً عمّه العباس (علیه السّلام) : «السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه ، الآخذ لغده من أمسه الفادي له الواقي الساعي إليه بمائه المقطوعة يداه .. وسوى ما بلغنا من الزيارة الصادرة من الناحية المقدسة لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف والتي يقول فيها الإمام (علیه السّلام) : «السلام على الأعضاء المقطّعات» إلا أنهم (علیهم السّلام) أقروا ما روي صحيحاً عن الإمام الصادق (علیه السّلام) لفظ زيارة عمّهم أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، وأمروا شيعتهم أن يزوروا عمّهم العباس (علیه السّلام) بتلك الزيارة المأثورة، فيكونون بذلك قد قبلوا ما تضمّنته الزيارة من مقام رفيع لأبي الفضل العباس (علیه السّلام)، و ما صرّحت به من مرتبته ، السامية، فيصح لنا حينئذ أن نقول : إنّ مقام أبا الفضل العباس (علیه السّلام) عند من لم يصلنا منه تصريح في حقه من الأئمة المعصومين (علیهم السّلام) هو نفس مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند من وصلنا من الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام) تصريح منه في حقه (علیه السّلام).

ص: 334

[أم البنين (عليها السلام) ومنزلة العباس (علیه السّلام) عندها]

إنّ الأم وإن عُرف بأنه يشدّها إلى ابنها محبة الأمومة، وعلاقة الحمل والرضاع، والتربية والحضانة، إلا أن أم البنين (عليها السلام) قد فاقت في محبتها لولدها العباس (علیه السّلام) على محبّة الأمومة، وسمت في علاقتها به علاقة القرابة القريبة، وذلك المعرفتها بما يحمله أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بين جوانبه من إيمان راسخ، وولاء كبير، لأخيه وإمامه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وما يضمّه بين أضلاعه من إخلاص لله تعالى ولرسوله ، ولدينه وإمامه، وما ينطوي عليهم من صفات خيّرة، وخلق كريم، حيث اجتماع كلّ ذلك في أبي الفضل العباس (علیه السّلام) والذي بشرته به إرهاصات ولادته (علیه السّلام) بل وقبل ولادته وحمله، جعلت له مكانة عظيمة لدى أمه أم البنين (عليها السلام) وأحرزت له

منزلة رفيعة لديها، ولذلك نراها (عليها السلام) تعوّده من صغره بقولها :

أعيذه بالواحد *** من عين كل حاسد

قائمهم والقاعد *** مسلمهم والجاحد

صادرهم والوارد *** مولودهم والوالد

و ترثيه بعد شهادته بقولها :

يا من راى العباس *** كرّ على جماهير النقد

نبئت ان ابنيي *** أصيب برأسه مقطوع يد

ووراه من ابناء حيدر كل ليث ذي لبد

ويلي على شبلي *** أمال برأسه ضرب العمد

لو كان سيفك في يديك *** لما دنا منه أحد

ص: 335

وقولها الآخر:

لا تدعوني ويك أم البنين *** تذكّريني بليوث العرين

كانت بنون لي أدعى بهم *** واليوم أصبحتُ ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى *** قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلاءهم *** فكلّهم أمسى صريعاً طعين

یالیت شعري أكما أخبروا *** بأن عباساً قطيع اليمين

نعم، إنّ أمّ البنين (عليها السلام) كانت هي أوّل من رثى العباس (علیه السّلام) - على ما في مقاتل الطالبيين - فإنّها كانت تخرج إلى البقيع تندب أولادها الأربعة : العباس (علیه السّلام) وإخوته : عبدالله ، وجعفر، وعثمان، أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس لسماع نديتها والبكاء معها مساعدة لها ، حتى أن مروان هذا العدو اللدود لبني هاشم، كان إذا مر بالبقيع وسمع ندبة أم البنين أقبل وجلس يبكي مع الناس لبكائها.

[منزلة العباس (علیه السّلام) عند السيدة زينب (عليها السلام)]

وأمّا منزلة العباس (علیه السّلام) عند أخته عقيلة بني هاشم السيدة زينب (عليها السلام) فقد ظهر الا منذ ولادته (علیه السّلام) ، فكانت بعد أمه أم البنين (عليها السلام) وهي كالأم الحنون له، تناغيه في المهد، وتربّيه في أحضانها، وتغذيه بعلمها ومعرفتها، وهي التي أتت به عند ولادته إلى أبيها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) ليقيم عليه سنن الولادة من الأذان والإقامة في أذنيه : اليمنى واليسرى، ومن التسمية، وجعل الكنية واللقب له، ثمّ سألت أباها عن اسمه ؟ فقال لها : إنّه عباس ، وعن كنيته ؟ فقال : إنّه أبو الفضل ، وعن لقبه ؟ فقال : إنّه قمر بني هاشم، وقمر ،العشيرة، والسقاء ، فقالت (عليها السلام): متفائلة : أمّا اسمه «عباس» فهو علامة الشجاعة والبسالة، وأمّا كنيته: «أبو الفضل» فهو آية

ص: 336

الفضل والكرامة ، وأمّا لقبه: «قمر بني هاشم، وقمر العشيرة» فهو وسام الجمال والكمال ، والصباحة والوجاهة، ولكن يا أبة ما معنى أنه السقاء ؟ فقال لها أبوها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) وقد استعبر : إنه ساقي عطاشا كربلاء، وقص عليها شيئاً لها من حوادث عاشوراء، فأجهشت السيدة زينب (عليها السلام) بالبكاء لما سمعت ذلك ، فهدأها أبوها بقوله : بنية زينب! تجلّدي واصبري، وخذي أخاك إلى أمه ، واعلمي أن له معك لموقف مشرف، وشأن عظيم.

وهذا مما زاد في مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) عند أخته السيدة زينب (عليها السلام) وأضاف في منزلته لديها ، حتى أنها (عليها السلام) طلبت من أبيها عند ارتحاله - على ما في الله بعض الكتب - بأن يتكفّلها أخوها أبو الفضل العباس (علیه السّلام) ويلتزم بحمايتها وحراستها، وخاصة في كربلاء وعند السفر إليها. فدعى (علیه السّلام) ولده أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وأخذ بيد ابنته الكبرى السيدة زينب (عليها السلام) ووضعها في يده (علیه السّلام) وقال له : بنيّ عباس ! هذه وديعة منّي إليك ، فلا تقصر في حفظها ، وصيانتها ، فقال العباس (علیه السّلام) لأبيه ودموعه تجري على خديه : لأنعمنك يا أبتاه عيناً.

وكان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) بعد ذلك يهتم بأخته الكبرى السيدة زينب (عليها السلام) أكثر من ذي قبل، ويرعاها أشدّ رعاية من الماضي، وخاصة في أسفارها التي اتفقت لها (عليها السلام) بعد ذلك، فإنّ أوّل سفرها (عليها السلام) لو كان في أيّام خلافة والدها الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) الظاهرية حيث هاجر (علیه السّلام) من المدينة إلى الكوفة، وجعلها مقرّاً الام لخلافته، فهاجرت هي (عليها السلام) إليها أيضاً. وأما أسفارها الباقية وهي عبارة عن سفرها مع أخيها الإمام المجتبى الحسن الزكي (علیه السّلام) إلى المدينة المنورة والرجوع إلى مدينة جدها (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكذلك سفرها مع أخيها الإمام الحسين (علیه السّلام) حين خروجه على يزيد بن المعاوية عدوّ الله وعدوّ رسوله من المدينة إلى مكة ومنها إلى كربلاء، فكان أبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو الذي تكفّل ركوبها ونزولها، وتعهد حراستها

ص: 337

ورعايتها، في طول الطريق، وخاصة عند نزولها في كربلاء، وعلى الأخص في الأيام الصعبة، والظروف العصيبة التي أحاطت بهم في كربلاء من كل جانب، والى يوم عاشوراء، ولذلك لما أراد الأعداء السفر بها وببقية السبايا إلى الكوفة ومنها إلى الشام وأحضروا النياق الهزّل ، الخالية عن الوطاء والعارية عن المحامل، ليركبوهم عليها ، ويعرّجوا بهم من ربوع كربلاء التفتت السيّدة زينب (عليها السلام) نحو العلقمي، وصاحت برفيع صوتها، والأسى يقطع نبراتها : أخي عباس ! أنت الذي من المدينة أركبتني وهاهنا أنزلتني ، قم الآن فركّبني ، فهاهي نياق الرحيل، تجاذبنا بالمسير.

عباس يا حامي الظعينة والحرم *** بحماك قد نامت سكينة فى الحرم

صرخت ونادت يوم إذ سقط العَلَم *** اليوم نامت أعين بك لم تنم

وتسهدت أخرى فعزّ منامها

عباس تسمع ما تقول سكينة *** عماه يوم الأسر من يحميني

[العباس (علیه السّلام) ومقامه عند محبّيه وشيعته]

لقد رفع الله مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وأعلى منزلته في الدنيا والآخرة، ولدى محبّيه وشيعته ، بل ولدى الناس أجمعين، حتّى أنّ العلامة الدربندي في أسرار الشهادة - كما عن معالى السبطين - قال وهو يصف بعض ما لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) من الجاه والمقام عند الناس : «ثمّ انظر إلى اسمه الشريف عند المخالف والمؤالف ، فإنّه قد جعل قريباً من أسماء الأئمة والحجج، ولا تمضي ساعة إلا وقد وقع الحلف باسمه الشريف، بل الرعب منه أكثر من غيره، بحيث لا يحلفون باسمه كذباً، خوفاً من الإبتلاء والإفتضاح ، وقد شاهدوا ذلك بأم أعينهم، وقصة التوسل

ص: 338

به في قضاء الحوائج معروفة، بحيث أنه لا يمضي أسبوع واحد إلا وقد علا أحدهم المنارة العباسية المباركة، وأخذ ينادي بأعلى الصوت: رفع الله راية العباس، وبيض الله وجهه ، فإنّه قد قضيت حوائجنا بتوسلنا به إلى الله تعالى، ونزولنا بفنائه، ولجوء نا ببابه، ثمّ قال : وكيفية النذورات له وكثرتها معلوم وواضح».

ويشهد لهذا التصريح المذكور في معالي السبطين، والمحكي عن أسرار الشهادة ، التاريخ الغابر والمعاصر، وكلّ من توفّق لأن يقصد أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ويتشرّف بالحضور في روضته المباركة، ويزوره في كربلاء المقدسة عن كثب، حيث أنه يشاهد كلّ هذه الأمور، قائمة في روضته المباركة على قدم وساق، ولا عجب من ذلك، إذ هو الذي منحه الله تعالى وسام: «باب الحوائج». وآلى على نفسه أن لا يردّ صاحب حاجة من بابه (علیه السّلام) خائباً، ولا مؤملاً به محروماً، بل يردّهم بحوائجهم مفلحين منجحين، وسالمين غانمين.

[العلماء إذا زاروا مرقد العباس (علیه السّلام)]

هذا وقد جاء في المأثور من زيارة أبي الفضل العباس (علیه السّلام)، المروية في المزار الكبير لابن المشهدي بسند صحيح عن الإمام الصادق (علیه السّلام): إنّ من آدابها الله هو : أن ينكبّ الزائر على مرقد أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ويقبله ويقول كذا وكذا .

وجاء في مزار الشيخ المفيد، ومزار السيد بن طاوس : إنّه عند ما يستأذن الزائر في الدخول إلى روضة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المباركة، يدخل وينكب على القبر الشريف ويقول وهو مستقبل القبلة : السلام عليك أيها العبد الصالح ...».

وفي زيارة أخرى له (علیه السّلام): «ثمّ تنكب على القبر وتقبله وتقول: «بأبي وأُمّي یا ناصر دين الله ...».

ص: 339

ومن أجل ذلك، كان العلماء الأعلام ، والمراجع العظام، إذا قصدوا أبا الفضل العباس (علیه السّلام) وتشرّفوا بزيارته في روضته المباركة، قبلوا عتبته الشريفة ولثموها عند دخولهم إليه ، كما يلثمون عتبة الإمام الحسين (علیه السّلام) ويقبلونها عند الدخول إليه والتشرف بزيارته (علیه السّلام).

وينقل عن صاحب أسرار الشهادة العلّامة الدربندي : أنه قال يوماً للشيخ الأنصاري وذلك في أيّام مرجعية الشيخ : إنّ الشيعة يرجعون إليكم، ويقتدون بكم، ويقتفون ،آثاركم، فلو كنتم عند تشرّفكم إلى زيارة الإمام الحسين (علیه السّلام) تقبلون عتبته المقدسة حين دخولكم في روضته المباركة، اقتدى الشيعة بكم في ذلك ، وفعلوا كما تفعلون، فتشتركون في ثوابهم، وتؤجرون بأجرهم.

فأجابه الشيخ الأنصاري قائلاً إنّي أقبل عتبة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) المقدسة وألثمها ، ناهيك عن أعتاب الأئمّة الطاهرين من أئمّة أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كالإمام الحسين (علیه السّلام)، ثم أضاف قائلاً: إنّي إنّما أقبل عتبة أبي الفضل العباس (علیه السّلام) و ألثمها ، لأنها موطى أقدام زوّاره الكرام ، ناهيك عن أنها عتبة باب الحوائج ، وباب الإمام الحسين (علیه السّلام)، أبي الفضل العباس ابن الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام).

هذا بعض ما لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) من الجاه العظيم، والمقام الرفيع عند الله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وعند ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعند الأئمة الطاهرين (علیهم السّلام) من أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعند أمه أم البنين (عليها السلام)، وعند أخته السيدة زينب (عليها السلام)، وعند شيعته ومحبّيه ، وأمّا حقيقة مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وواقع منزلته ، فمما لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، رزقنا الله زيارته وحشرنا الله معه في الدنيا والآخرة، آمين رب العالمين.

ص: 340

الخاتمة: في خصائص حواري الإمام الحسين (علیه السّلام)»

وليس لديه ناصر غير نيف *** وسبعين ليثاً ما هناك مزيد

سَطَتْ وأنابيب الرماح كأنها *** آجام وهم تحت الرّماح أسود

ترى لهم عند القراع تباشراً *** كأنّ لهم يوم الكريهة عيد

وما برحوا عن نصرة الدين والهدى *** إلى أن تفانى جمعهم وأبيدوا

ولنذكر بتوفيق من الله تعالى في خاتمة كتابنا هذا - الخصائص العباسية - بعض خصائص حواريّ الإمام الحسين (علیه السّلام) من أصحابه وأهل بيته الذين استشهدوا معه في كربلاء، وشيئاً ممّا امتازوا به على سائر حواري الأنبياء وأوصيائهم، من موسى وعيسى، وهارون ويوشع، إلى نبينا الحبيب، خاتم الأنبياء والمرسلين وأشرف خلق الله أجمعين محمّد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ووصيه الكريم سيّد الأوصياء وإمام المتقين الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (علیه السّلام).

هذا ولا يخفى أنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام)- على ما سبق - هو إمام حواري أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) وسيّدهم، وأفضلهم وأشرفهم، وإذا كان كذلك، فإنّه إذا تكلّمنا عن خصائص حواري الإمام الحسين (علیه السّلام) وامتيازاتهم، فقد تكلّمنا في الواقع عن خصائص أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وامتيازاته أيضاً، علماً بأنّ أبا الفضل العباس (علیه السّلام) ليس هو إمام حواري أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام) فحسب، بل هو إمام كلّ

ص: 341

الحواريين، وذلك لأنه (علیه السّلام) هو إمام حواري أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)، وحواريو الإمام الحسين (علیه السّلام) هم أفضل كلّ الحواريين من الأولين والآخرين، فيكون أبو الفضل العباس (علیه السّلام) إذن هو إمام كلّ الحواريين وأفضلهم من الأولين والآخرين، ويكون الحديث عنهم هو حديث عنه أيضاً، وحيث اتضح ذلك فلنبدأ الآن بما تيسر لنا ذكره من تلك الخصائص والإمتيازات الواردة في حقهم بإذن الله تعالى و تأییده:

[الإمتياز الأول]

1 - إنهم كانوا بعد المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام) في مقدمة الذين رضى الله اسلام عنهم ورضوا عنه، وذلك على ما جاء في ثواب الأعمال عن الإمام الصادق (علیه السّلام): من أنه أوصى بقرائة سورة «الفجر» في الصلوات الفريضة والنافلة ، وقال : إنّها سورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السّلام) من قرأها كان مع الإمام الحسين (علیه السّلام) یوم القيامة في درجته من الجنّة . وفي شرح الآيات الباهرة مسنداً عن الإمام الصادق (علیه السّلام) في حديث جاء فيه : ﴿يا أيتها النفس المطمئنة...﴾ إنما يعني بها : الحسين بن علي (علیه السّلام) فهو ذو النفس المطمئنة ، الراضية المرضيّة، وأصحابه من آل محمّد (علیهم السّلام) الراضون عن الله يوم القيامة وهو راض عنهم ، وهذه السورة نزلت في الحسين بن علي (علیه السّلام) وشيعته وشيعة آل محمّد خاصة ...».

[الإمتياز الثاني]

2 - إنهم كانوا أبرّ وأوفى جميع من صحب الأنبياء والأوصياء قاطبة، وذلك لأن الإمام الحسين (علیه السّلام) برواية الإرشاد للمفيد مسنداً عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام)

ص: 342

جمعهم غروب يوم التاسع من المحرم ، أي : في أوّل الليل من ليلة عاشوراء، ورفع عنهم بيعته ، وأذن لهم بالإنصراف ، فلم يرضوا إلا ببذل أرواحهم ،دونه ، وكان أوّل من بدأهم هو أبو الفضل العباس (علیه السّلام)، عندها قال لهم الإمام الحسين (علیه السّلام): «أما بعد ! الله و الله فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرٌ ولا أوصل من أهل بيتى ، فجزاكم الله خيراً».

[الإمتياز الثالث]

3 - إنّهم كانوا خير من نصر الله، ونصر دين الله، ونصر أنبياء. وأوصياءهم من الأوّلين والآخرين، وذلك كما في الزيارة الصادرة عن الناحية المقدسة حيث جاء فيها : «السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار».

ولعل تفوّق هؤلاء على الجميع يكون لأجل شدّة إيمانهم وإخلاصهم لإمامهم الإمام الحسين (علیه السّلام)، ولأجل أن نسبتهم إلى نسبة العدوّ كانت - حسب بعض الروايات التاريخية - نسبة الواحد إلى الألف بل أكثر، ومعه قد حصل لهم العلم بأنهم سوف يُقتلون عن آخرهم ويُقتل معهم الإمام الحسين (علیه السّلام) أيضاً، وعلموا أيضاً أنه لا ظفر ظاهري لهم على العدوّ ، كما أنهم أيقنوا بأنهم لو تركوا نصرة إمامهم، وانسحبوا عن ساحة القتال وغادروا كربلاء لم يُقتلوا، ومع ذلك نصروه وأرخصوا دماءهم وبذلوا أرواحهم في نصرته، بينما لم تجتمع هذه الأمور في غيرهم، لا من حيث شدّة الإخلاص، ولا من حيث قلّة العدد وكثرة العدو، ولا من حيث اليقين بالقتل، فإنّ غيرهم كانوا على الأقل يأملون بقاء من ينصرونه.

ص: 343

[الإمتياز الرابع]

4 - إنهم كانوا قد أثبتوا بأسمائهم وأشخاصهم، وعددهم وعدتهم، في اللوح . المحفوظ بحيث أنه لم ينقصوا ولم يزدادوا ، ولم يتغيّروا ولم يتبدلوا، ولذلك لما عُنّف ابن عباس على عدم نصرة الإمام الحسين (علیه السّلام) أجاب - كما عن مناقب ابن شهر آشوب : «إنّ أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم».

وقال المحدّث القمّي في مقتله المعروف بنفس المهموم نقلاً عن محمد بن الحنفية : أنه قال: «وإن أصحابه عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم».

[الإمتياز الخامس]

5 - إنّهم كانوا هم السباقون إلى الخير والجنّة ، بحيث إنه لم يستطع أحد من الأوّلين والآخرين اللحوق بهم وبدرجاتهم، فكيف بالسبق عليهم ؟ وذلك لأنّ في تهذيب الشيخ رواية عن الإمام الصادق (علیه السّلام) يقول فيها : مرّ الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في طريقه بكربلاء فاستعبر عندها وقال ما مضمونه هاهنا مناخ ركابهم ومصارع رجالهم ، شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم.

وروى في البحار عن خرائج الراوندي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنه قال ما معناه : هاهنا مناخ ركابهم، ومصارع عشاقهم ، شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم.

ولا يخفى : إنّ التعبير بكلمة : العشق لم يأت في الروايات المعتبرة سوى في هذه الرواية، وفي رواية أو روايتين فقط غير هذه الرواية.

ص: 344

[الإمتياز السادس]

6 - إنهم كانوا أرفع الشهداء درجة عند الله تعالى، وذلك على ما جاء في البحار عن الأمالي عن جبلة المكية أنها قالت قال لى ميثم التمار يا جبلة! إعلمي أنّ الحسين بن علي (علیه السّلام) سيّد الشهداء يوم القيامة، ولأصحابه على سائر الشهداء درجة.

ومعناه : أن حواري الإمام الحسين في أسمى درجة من الدرجات التي الله أعدّها الله تعالى للشهداء فى الجنّة لانهم يفوقونهم جميعاً بدرجة.

[الإمتياز السابع]

7 - إنّهم كانوا أعبد أهل زمانهم ، فقد روى السيد ابن طاوس في لهوفه وهو يصف حال أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) ليلة عاشوراء قائلاً وبات الإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدوي النحل، مابين راكع وقائم، وقاعد وساجد، فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.

وكذا كانت سجيّة الإمام الحسين (علیه السّلام) حتى قال في العقد الفريد : قيل لعليّ بن الحسين (علیه السّلام): ما أقل ولد أبيك ؟ فقال (علیه السّلام): العجب كيف ولدت له، فإنّه (علیه السّلام) كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرغ للنساء ؟

وقال المفيد في إرشاده وهو يذكر حوادث ليلة عاشوراء: فقام الإمام الحسين (علیه السّلام) الليل كله يصلّي ويستغفر ، ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلّون ويدعون، ويستغفرون ويتضرّعون .

ص: 345

[الإمتياز الثامن]

8 - إنهم كانوا أتقى الناس، وأقوى شاهد على تقواهم هو : استئذانهم من الإمام الحسين (علیه السّلام) في القتال بين يديه مع أنّ أنفسهم كانت تائقة للشهادة بين يديه ، والعقل يحكم بوجوب نصرة من أوجب الله على الإنسان نصرته، حيث جعله أولى بالإنسان من نفسه، ولكن مع ذلك لم يبرزوا إلا بإذن منه سلام الله عليه، فكان إذا أذن (علیه السّلام) لهم تقدموا للشهادة.

[الإمتياز التاسع]

إنهم كانوا القمّة في قوّة القلب، ورباطة الجأش ، بحيث أنّهم في ليلة عاشوراء مع أنهم كانوا قد أيقنوا بأنها هي الليلة الأخيرة من أعمارهم، وأنهم سوف يقتلون غداً بأجمعهم ، لم يقلقوا ولم يضطربوا ، بل كانوا قد اشتغلوا بفارغ البال، وسلامة الفكر، واطمئنان القلب، بالصلاة لربّهم، والعبادة لخالقهم، وتلاوة القرآن، وترديد الأذكار، والتضرع والإستغفار، وبالمزاح بعضهم مع بعض احياناً.

ولنعم ما قيل في حقهم :

أسود الوغى غاباتهم أجم القنا *** لهم في متون الصافنات مقيل

ليوث لهم بيض الصفاح مخالب *** غيوث لهم صب الدماء مسيل

[الإمتياز العاشر]

10 - إنّهم كانوا بعد المعصومين (علیهم السّلام) أعلى النّاس همة، فقد عمدوا في ليلة عاشوراء وهم يعلمون أنها آخر ليلة من حياتهم بعد أن تفرغوا فيها للعبادة

ص: 346

والصلاة والقرآن والدعاء إلى القيام بحفر شبه خندق حول معسكرهم ومخيم النساء بتعليم من الإمام الحسين (علیه السّلام) وملأوه بالحطب والقصب، حتى يشعلوه بالنار في الصباح، لئلا يستطيع العدو من محاصرتهم، وإحاطتهم من كلّ الأطراف، بل يكون القتال من جهة واحدة فقط ، وكذلك كان، فإن العدوّ لما بدأ القتال دار من خلف المعسكر ليحاصرهم ويأتي على آخرهم في أوّل جولة من الحرب، ولكنه فوجىء بالخندق المملوّ بالنّار، فتراجع خائباً خاسراً .

[الإمتياز الحادي عشر]

11 - إنهم كانوا طلايع الذين نصر الله دينه بهم ، لأنهم كانوا نُخبتهم وزيد تهم جميعاً ، ففي مروج الذهب : إن الله تعالى نصر دينه بألف رجل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً منهم أصحاب طالوت وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً منهم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في حرب بدر الكبرى، وثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً منهم أصحاب المهدي عجل الله تعالى فرجه والباقي وهم أحد وستون رجلاً أصحاب الإمام الحسين (علیه السّلام) الذين قتلوا معه في كربلاء، وقد عرفت أنهم في مقدّمة الكل ، وطلائع الجميع، وأما عدتهم فقد قال ثقة الإسلام النوري : إن ما ذكره مروج الذهب من عددهم هو خلاف المشهور بين أصحاب السير والتواريخ، فإنّ المشهور بينهم إثنان وسبعون، وليس أقل، إلا أن يقال: إن مراد مروج الذهب :

الأصحاب من غير بني هاشم.

[الإمتياز الثاني عشر]

12 - إنهم كانوا أخلص الناس في حبّهم وولائهم الله ورسوله وأهل بيته

ص: 347

وخاصة الإمام الحسين (علیه السّلام)، حتى عدّهم الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) هم المحبين الواقعيّين، والموالين الحقيقيين، وذلك في كلام له عند مروره بكربلا، ففي التهذيب عن الإمام الباقر (علیه السّلام) أنه قال : مرّ على (علیه السّلام) بكربلاء في اثنين من أصحابه، فقال وقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يشر إلى الإمام الحسين (علیه السّلام) وحواريه : «.. هاهنا مهراق دمائهم» ثم خاطب أرض كربلاء بقوله : «طوبى لك من تربة يراق فيها دماء الأحبة».

فأظلّتهم جنود كالجراد المنتشر *** مع شمر وابن سعد كل كذاب أشر

فاصطلى الجمعان نار الحرب في يوم عسر *** واستدارت في رحى الهيجاء أنصار الحين

[الإمتياز الثالث عشر]

13 - إنّهم كانوا هم الصفوة الذين اختار الله لهم أرض كربلاء المقدسة مثوى ومضجعاً وذلك إكراماً منه لأرض كربلاء المشرّفة بسبب تواضعها الله تعالى، ففي كامل الزيارات عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال : لما تفاخرت قطع الأرض بعضها على بعض، قالت أرض كربلاء بتواضع : أنا أرض الله المقدسة المباركة، الشفاء في تربتي ومائي، ولا فخر، بل أنا خاضعة وذليلة لمن فعل بي ذلك ، ولا فخر على من دوني، بل شكراً لله ، فأكرمها الله ، وزادها بتواضعها شكراً الله ، بالحسين (علیه السّلام) وأصحابه، ولنعم ما قيل في حقها :

الطفوف فطف سبعاً بمغناها *** فما لمكة مغنی مثل مفناها

أرض ولكنّما السبع الشداد لها *** دانت وطأطأ أعلاها

ص: 348

وكيف لا وهي أرض ضمنت جنة *** ما كان ذلك لا والله لولاها

فيها الحسين وفتيان له بذلوا *** في الله أيّ نفوس كان زكاها

[الإمتياز الرابع عشر]

14 - إنّهم هم الذين دعاهم سلمان الفارسي بكونهم إخوانه، ففي كتاب «نفس الرحمان» عن رجال الكشي عن المسيب بن نجيّة الفزاري روى قائلاً: إنّه لما أتانا سلمان الفارسي قادماً، تلقيناه فيمن تلقاه، فسار بنا إلى كربلاء، فلمّا وصلناها قال : هذه مصارع إخواني هذا موضع رحالهم، وهذا مناخ ركابهم، وهذا مهراق دمائهم ، يُقتل بها ابن خير النبيين ، ويقيل بها خير الآخرين.

[الإمتياز الخامس عشر]

15 - إنّهم هم سادة الشهداء يوم القيامة ، كما أنّ الإمام الحسين هو سيّد الشهداء من الأوّلين والآخرين، وذلك على ما جاء في نفس المهموم عن الشيخ ابن نما عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال : «وذكرت ما يصنع بولدي الحسين (علیه السّلام)، كأني به وقد استجار بحرمي وقبري فلا يجار ، ويرتحل إلى أرض مقتله ومصرعه أرض كرب وبلاء، فتنصره عصابة من المسلمين، اولئك سادات شهداء أمتي يوم القيامة».

[الإمتياز السادس عشر]

16 - إنهم السادات والسابقون والأنصار والمهاجرون، وذلك على ما جاء في تحفة الزائر في فقرات زيارة الشهداء المأثورة من قوله (علیه السّلام): «أنتم سادات

ص: 349

الشهداء فى الدنيا والآخرة ، وأنتم السابقون والمهاجرون والأنصار».

نعم إنّهم سادات الشهداء بعد المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام)، فلا أحد من الشهداء في درجتهم لا من الأولين ولا من الآخرين، كما أنهم بعد المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام)، وهم أول السابقون إلى رضوان الله ، وأوّل الفائزين بأرفع الدرجات التى أعدّها الله تعالى للمهاجرين في سبيل الله والأنصار لدين الله من الأوّلين والآخرين ، كيف لا: وقد سبقوا الناس أجمعين إلى إجابة إمامهم الإمام الحسن (علیه السّلام)، وهجروا أوطانهم ودنياهم، ونصروا ابن بنت نبيّهم صلوات وسلامه عليه.

[الإمتياز السابع عشر]

17 - إنهم كانوا قد ضاهوا في شهادتهم شهادة النبيين وآل النبيين، فكانوا أشبه الناس بهم في الشهادة ، وذلك لما جاء في «غيبة النعماني»: من أنّ الإمام الحسين (علیه السّلام) كان يحمل قتلاه إلى المخيم حيث فسطاط الشهداء، فكان يضع بضعهم مع بعض وهو يقول: «قَتْلة مثل قتلة النبيين وآل النبيين».

[الإمتياز الثامن عشر]

18 - إنهم كانوا قد ساووا من استشهد مع الأنبياء ، ومَنْ قُتل بين أيديهم وفي نصرتهم، ففي الخبر: إنّ الله تبارك وتعالى هو أوّل من لعن قاتل الإمام الحسين (علیه السّلام)، ثم لعنته الملائكة، ثمّ الأنبياء واحداً بعد واحد، وكانوا يوصون به عليهم أولادهم وذويهم، ويأخذون منهم الميثاق والعهد عليه، ثم لعنه داود وأمر بني إسرائيل بذلك ، ثمّ لعنه عيسى وأكثر ، فقال : يا بني إسرائيل! العنوا قاتله، وإن

ص: 350

أدركتم أيّامه فلا تجلسوا عن نصرته، فإنّ الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء، مقبل غير مدبر.

[الإمتياز التاسع عشر]

19 - إنهم يرجعون مع الإمام الحسين (علیه السّلام) في زمان الرجعة ويؤدّون عنه ويعرفونه للناس ، وذلك على ما ورد في نفتة المصدور عند قوله تعالى : ﴿ثم رددنا لكم الكرّة عليهم﴾ من خروج الإمام الحسين (علیه السّلام) في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهّبة، لكلِّ بيضة وجهان ، المؤدّون إلى الناس: إن هذا الإمام الحسين (علیه السّلام) قد خرج حتى لا يشكّ المؤمنون فيه .

[الإمتياز العشرون]

20 - إنّهم الموصوفون بالأولياء والأصفياء، والأوداء والأحباء، وإنّهم الطيبون الفائزون، كما جاء في تحفة الزائر عن الإمام الصادق (علیه السّلام) في رواية أنه قال لصفوان الجمّال وهو يعلمه كيف يزور الشهداء السعداء : ثم توجه إلى الشهداء وقل: «السلام عليكم يا أولياء الله وأحباء، السلام عليكم يا أصفياء الله وأوداء، السلام عليكم يا أنصار دين الله ... بأبى أنتم وأمّى طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم والله فوزاً عظيماً ، فياليتني كنت معكم فأفوز معكم».

[الإمتياز الواحد والعشرون]

21 - إنهم المعروفون بشيعة الله ورسوله والأئمة الطاهرين، وإنهم المهديون الطاهرون، والأبرار المتقون، وذلك على ما جاء في زيارة الأربعين المروية عن الخصائص العباسية.

ص: 351

جابر بن عبدالله الأنصاري، حيث أنه توجه نحو الشهداء وقال في زيارتهم : «السلام على الأرواح المنيخة بقبر أبي عبدالله، السلام عليكم يا شيعة الله ، وشيعة رسوله، وشيعة أمير المؤمنين والحسن والحسين، السلام عليكم يا طاهرون، السلام عليكم يا مهديون ، السلام عليكم يا أبرار ...».

[الإمتياز الثاني والعشرون]

22 - إنهم هم الذين من شدّة نورهم وتلألئهم شبههم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بنجوم السماء، ففى البحار نقلاً عن تفسير فرات عن الإمام الصادق (علیه السّلام) انه قال: «كان الحسين (علیه السّلام) مع أمه تحمله، فأخذه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وضمّة إلى صدره وقال : لعن الله قاتلك ، ولعن الله سالبك، ولعن الله المتوازرين عليك ، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك . فقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام) مستفسرة: يا أبتاه يا رسول الله ! ما الخبر ؟ فقال (صلی الله علیه و آله و سلم) في جوابها يا بنتاه يا فاطمة! لقد رأيت ابني هذا فذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم، والغدر والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء، فيتهادون إلى القتل، وإنّي أنظر إلى معسكرهم ، وإلى مواضع رحالهم و تربتهم، ولنعم ما قيل:

قوم إذا اقتحم العجاج رأيتهم *** شمساً وخلت وجوههم أقمارا

وإذا الصريخ دعاهم لملمة *** بذلوا النفوس وفارقوا الأعمارا

[الإمتياز الثالث والعشرون]

23 - إنّهم هم المقربون إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وأنه لو أدركهم لأكرمهم ، فقد جاء في البحار نقلاً عن تفسير الثعلبي : إنّ الرّبيع ابن خيثم قال لما وصله خبر

ص: 352

شهادة الإمام الحسين (علیه السّلام) ومن معه من أهل بيته وأصحابه : جئتم بها ؟ فوالله لقد قتلتم صفوةً لو أدركهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) لأعزهم وأكرمهم، ولأشفق عليهم وتلطّف بهم .

[الإمتياز الرابع والعشرون]

24 - إنهم كانوا لشدّة اشتياقهم للشهادة ، لا يجدون ألم مس السلاح والحرب، وذلك لما قد روي في خرائج الراوندي عن الإمام الباقر (علیه السّلام) عن الإمام الحسين (علیه السّلام) أنه قال لأصحابه : إن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لى : يا بني ! إنك ستساق إلى. العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيون وأوصياء النبيين، وهي أرض تدعى عمورا، وإنك ستستشهد بها ويستشهد معك جماعة من أصحابك ، لا يجدون ألم مس الحديد، ثمّ قرأ: ﴿قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾ ثم أضاف: يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم .

[الإمتياز الخامس والعشرون]

25 - إنهم كانوا الشجعان في دينهم فلا تستهويهم المغريات والأبطال في دنیاهم فلا يهابون الموت، ففي رجال الكشي روى في وصف حبيب بن مظاهر قائلاً: كان حبيب من الرجال الذين نصروا الإمام الحسين (علیه السّلام) ، وتلقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم، والبسيوف بوجوههم، وهم يعرض عليهم الأمان والأموال، فيأبون ويقولون: لا عذر لنا عند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إن قتل الإمام الحسين (علیه السّلام) وفينا عين تطرف، حتى قتلوا حوله، واستشهدوا بين يديه .

كأنّي به في ثلة من رجاله *** كما حُفِّ بالليث الأسود اللوابد

يخوض بهم بحر الوغى فكأنه *** لواردهم عذب المجاجة بارد

ص: 353

[الإمتياز السادس والعشرون]

26 - إنّهم هم الأباة الحماة الذين فضلوا الموت تحت ظلال السيوف على الحياة بذلّة، فقد جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : إنّ سيّد أهل الإباء، الذي علّم الناس الحميّة، والموت تحت ظلال السيوف اختياراً على الدنية، هو أبو عبد الله الحسين (علیه السّلام)، عرض عليه الأمان أو يستسلم ؟ فأنف من الذل وذلك كما قال :

الموت خير من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النّار

وحواريوا سيّد أهل الإباء تعلّموا منه الإباء والحمية، واختاروا الموت

تحت ظلال السيوف على الذلّة والدنية، ولنعم ما قيل فيهم :

بنفسي وآبائي نفوساً أبيّة *** يجرّعها كأس المنية مترف

وهم خير من تحت السماء بأسرهم *** وأكرم من فوق السماء وأشرف

أي : أكرم على الله من الملائكة المقرّبين عنده، وأشرف منهم لديه .

[الإمتياز السابع والعشرون]

27 - إنّهم هم المخصوصون بعد شهادتهم بتجهيز السماء لهم ، والصلاة عليهم، وذلك لما روي في البحار عن كامل الزيارات مسنداً عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) عن عمته الكبرى السيدة زينب (عليها السلام) عن أم أيمن ، عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن جبرئيل أنه قال : فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها، تولّى الله عزّوجل قبض أرواحها بيده ، وأهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة، معهم آنية من الياقوت والزمرّد مملوّة من ماء الحياة، وحُلل من الجنّة ، وطيب من طيب الجنّة ، فغسلوا جثثهم بذلك الماء، وألبسوها الحلل، وحنّطوها بذلك الطيب، وصلّى الملائكة صفاً صفاً عليهم.

ص: 354

[الإمتياز الثامن والعشرون]

28 - إنّهم المتأهلون لأن يتولّى مواراتهم ودفنهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك على ما جاء في البحار نقلاً عن أمالى الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال : أصبحت اُمّ سلمة يوماً باكية حزينة، فسألوها عن سبب حزنها وبكائها، فقالت : لقد قتل ولدي الحسين (علیه السّلام) وذلك أني رأيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام الليلة الماضية مع أني لم أره في منامي منذ ارتحاله من الدنيا، فرأيته البارحة وهو أشعث مغبر، وعلى رأسه التراب فقلت له : يا رسول الله ! مالي أراك أشعث مغبراً ؟ فقال بحزن وكآبة : قتل ولدي الحسين (علیه السّلام) وما زلت أحفر القبور له ولأصحابه.

وقد جاء في المناقب لابن شهر آشوب عن ابن عباس أنه قال : كنت نائماً في منزلي وإذا بي أسمع صرخة عظيمة ، وضجّة عالية من بيت ام سلمة، فاصغيت لها ، فإذا هي تنادي وتقول : يا بنات عبدالمطلب أعني على النياحة، وساعدنني على البكاء، فإنّ سيّدكم ومولاكم الإمام الحسين (علیه السّلام) وقد قتل.

فقيل لها : من أين علمت ذلك ؟

فقالت : رأيت الساعة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام وهو أشعث أغبر ، فقلت له : يا رسول الله ! مالي أراك أشعث أغبر ؟

فقال بحرقة ولوعة : قتل ولدي الحسين وما زلت أحفر القبور له ولأصحابه.

ثم قالت : فانتبهت فزعة ونظرت إلى القارورة التي فيها تراب كربلاء وكان قد دفعه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إليها ، وأمرها أن تحتفظ به قائلاً: إذا انقلب دماً فقد قتل ولدي الحسين (علیه السّلام)، فرأيته قد انقلب دماً .

ص: 355

[الإمتياز التاسع والعشرون]

29 - إنّهم كانوا قد رأوا منازلهم في الجنّة بأم أعينهم وهم في هذه الدنيا احياء، وذلك قبل قتلهم وشهادتهم، فقد جاء في علل الشرايع مسنداً عن الإمام الصادق (علیه السّلام): إن واحداً من أصحابه قال له متسائلاً: أخبرني يا ابن رسول الله ! عن تسابق أصحاب الإمام الحسين إلى القتل والشهادة ؟ فقال (علیه السّلام): إنهم قد كُشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنّة، فكان الرّجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى الحوراء فيعانقها ، وإلى مكانه من الجنّة فينعم به .

لهفي لركب صرعوا في كربلا *** كانت بها آجالهم متدانيه

نصروا ابن بنت نبيّهم طوبى لهم *** نالوا بنصرتهم مراتب ساميه

[الإمتياز الثلاثون]

30 - إنهم كانوا قد تأهلوا لأن يخبرهم المعصوم بنهاية ،أمرهم، وخاتمة عمرهم، ولأن يريهم منزلتهم عند الله ، ودرجتهم لديه، وذلك على ما جاء في كتاب «النفس المهموم» نقلاً عن القطب الراوندي، عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنه قال : جمع أبني (علیه السّلام) أصحابه مساء يوم تاسوعاء وقام الا فيهم خطيباً وقال : هذا الليل فاتخذوه جَمَلاً، فإنّ القوم إنما يريدونني ، ولو قتلوني لم يلتفتوا إليكم وأنتم في حِلَّ وسعة، فقالوا : والله لا يكون هذا أبداً، فقال : إنّكم تقتلون غداً كلّكم، ولا يبقى منكم رجل، فقالوا : الحمد لله الذي شرفنا بالقتل معك ، ثم رفع يديه بالدعاء وقال لهم : ارفعوا رؤسكم وانظروا، فجعلوا ينظرون إلى مواضعهم ومنازلهم من الجنّة .

ص: 356

وجاء في زيارة الناحية المقدّسة : Lوكشف الله لهم الغطاء» ولنعم ما قيل:

قوم إذا نودوا لدفع ملمة *** والخيل بين مدعس ومكردس

لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا *** يتهافتون إلى ذهاب الأنفس

[الإمتياز الواحد والثلاثون]

31 - إنهم فور استشهادهم دخلوا الجنة وعانقوا الحور العين، فقد جاء في كتاب الأمالي عن سالم : إنّه روى قائلاً : سمعت كعب الأحبار يقول : إنّ في كتابنا أنّ رجلاً من ولد محمّد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقتل، ولا يجفّف عرق دواب أصحابه، حتى يدخلون الجنّة ، فيعانقون الحور العين قال : فمرّ بنا الإمام الحسين (علیه السّلام) فقلنا له وقد أشرنا إليه : هو هذا ؟ فقال : نعم .

[الإمتياز الثاني والثلاثون]

32 - إنّهم يوم القيامة في طليعة من يدخل الجنّة بغير حساب، فقد روى في الأمالي عن هر ثمة بن أبي مسلم : أنه قال : غزونا مع الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السّلام) صفين ، فلما انصرفنا نزل بكربلاء وصلّى بها الغداة، ثم رفع إليه شيئاً من تربتها وشمّها ثمّ قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرنّ منكِ أقوام يدخلون الجنّة بغير حساب .

ومن المعلوم : إن حواري الإمام الحسين (علیه السّلام) مع إمامهم الإمام الحسين (علیه السّلام) هم في مقدّمة اولئك الذين يحشرون من أرض كربلاء إلى المحشر ويدخلون الجنة من غير وقوف ولا حساب.

هي كربلاء فقف على عرصاتها *** ودع الجفون تسخ في عبراتها

ص: 357

سلها بأي قرى تعاجلت الأولى نزلوا ضيوفاً عند قفر فلاتها

ما بالها لم تروهم من مائها حتى تروّت من دما رقباتها

[الإمتياز الثالث والثلاثون]

33 - إنّهم قد ارتووا من الماء على يدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ووصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السّلام) في يوم عاشوراء حين الشهادة ، وذلك على ما جاء في كتاب دار السلام نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي عن السدّي أنه روى قائلاً: قلت لرجل يشم منه رائحة القطران : هل أنت تبيع القطران ؟ فقال : لا والله ، إنّي لا أعرف القطران ولا أره، غير أني دهان وكنت أبيع الدهن في كربلاء لجيش ابن سعد ومعسكره، وبعد واقعة كربلاء رأيت في المنام رسول والإمام أمير المؤمنين وهما يسقيان الشهداء السعداء ماءاً، فأقبلت من شدة العطش إلى الإمام أمير المؤمنين وطلبت منه أن يسقيني، فلم يسقني، فتوجهت إلى رسول الله وأردت منه أن يسقيني، فالتفت إليّ وقال لي : ألستَ أنتَ الذي أعنت في كربلاء الأعداء على ولدي ؟ ثم أمر بأن يسقوني شربة من قطران، فسقوني، فإذا بي انتبه من نومي وأنا أختنق من ريح القطران، وإلى اليوم ريح القطران تؤذيني، ولم تفارقني بعد .

[الإمتياز الرابع والثلاثون]

34 - إنّهم تأهّلوا بسبب نصرتهم لابن بنت نبيّهم، أن يهتم بهم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويجمع دمائهم في قارورة ليشتكي مظلوميتهم إلى الله تعالى. ففي الكامل لابن الأثير، والتذكرة لابن الجوزي، عن ابن عباس أنه قال : رأيت رسول

ص: 358

الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام مساء اليوم الذي استشهد فيه الإمام الحسين (علیه السّلام) كئيباً حزيناً وفي يده قاروة مملوّة بالدم فقلت: يا رسول الله ما هذه الكآبة والحزن ؟ وما هذه القارورة والدم ؟ فأجابني قائلاً: يا ابن عباس ! هذا دم ولدي الحسين (علیه السّلام) وأصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم، ليكون سنداً لشكواي مظلوميتهم إلى الله تعالى.

فلما أصبح ابن عباس أخبر الناس بما رآه فأرخوا ذلك اليوم وكان يوم عاشوراء، فلمّا جاء الخبر بقتل الإمام الحسين (علیه السّلام) ومن معه رأوه مطابقاً لما أرّخوه .

[الإمتياز الخامس والثلاثون]

35 - إنهم كانوا متأهلين لأن يبشرهم الإمام الحسين (علیه السّلام) بالجنان الواسعة، والنعيم الدائم، شكراً منه على موقفهم، وتقديراً لهم على وفائهم. فقد روي في البحار عن معاني الأخبار عن الإمام زين العابدين (علیه السّلام) أنه قال ما معناه : إنه لما اشتد الأمر بالإمام الحسين (علیه السّلام) وأصحابه في يوم عاشوراء، وأحدقت المنايا بهم نظر الإمام الحسين (علیه السّلام) إلى أصحابه نظر إشفاق ورحمة ، وقال لهم مبشراً ومشجّعاً: صبراً يا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضراء، إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟

وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل به من قصر إلى سجن وعذاب .

ثمّ قال (علیه السّلام): إن أبي حدثني عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيهم، ما كذبت ولا كذبت.

ص: 359

[الإمتياز السادس والثلاثون]

36 - إنهم كانوا في قمة الفضائل والمكارم بحيث قد أذعن العدو لهم بذلك ولم يستطع إنكاره ، والفضل ما شهدت به الأعداء، فإنّه جاء في شرح الشافية لأبي فراس : إنّه قيل لرجل كان قد شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك ! أقتلت ذرية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

فأجاب قائلاً: عضضت بالجندل ، إنّك لو كنت قد شهدت ما شهدنا، لفعلت ما فعلنا، فلقد ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي بأنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب فى المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة، أو الإستيلاء على الملك ، فلو كففنا عنهم رويداً لأنت على نفوس العسكر بحذافيره، فماذا كنا فاعلين لا أُمّ لكم ؟

[الإمتياز السابع والثلاثون]

37 - إنهم كانوا الأحرار ،حقاً، لأنهم قد تحرّروا من هوى النفس، وعن مغريات الحياة، ومن تسويلات الشيطان، وقد قال تعالى : ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنّ الجنّة هي المأوى﴾.

ونُقل أنّ ملكاً قال لواحد من رعيّته وكان فاضلاً : لو ما تأتينا فتنال من معروفنا فإنّك رعيّتنا ؟ فقال له الفاضل: كيف ذاك وأنت رعيّة لرعيّتي ؟ فقال له الملك بتعجب مشوب بغضب : كيف أكون أنا رعيّة رعيّتك ؟ فأجابه الفاضل قائلاً: إنك أنت رعيّة الهوى، مع أنّ الهوى رعيّتي ، فإنّي سيد هواي والهوى سيدك ومولاك ، فتكون أنت رعيّة للهوى الذي هو رعيّة لي.

ص: 360

[الإمتياز الثامن والثلاثون]

38 - إنهم أدركوا بتسليمهم الله ولرسوله ولأوصيائه، مقام العبودية الحقيقية لله تعالى، وهو مقام عظيم. فقد قال الله تعالى وهو يثني على عباده المخلصين : ﴿.. عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون﴾.

وقال تعالى وهو يصف سيّد رسله، وأشرف بريته في معراجه إلى سماواته : ﴿سبحان الذي أسرى بعبدة﴾.

وقدّم في تشهد الصلاة الشهادة بعبودية النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على الشهادة برسالته، وأمرنا أن نقول بعد الشهادة الله تعالى بالوحدانيّة : ﴿وأشهد أن محمداً عبده ورسوله﴾.

فالعبودية الحقيقية الله تعالى هي : مقام عظيم، ولا يناله إلّا ذو حظ عظيم، فإنّ كنهها الحريّة والسيادة، وثمرتها العزّ والشرف، وعائدها الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة ، وقد نالها حواريوا الإمام الحسين (علیه السّلام) بكل كفائة وجدارة.

[الإمتياز التاسع والثلاثون]

39 - إنهم كانوا قد نالوا بوفائهم الإمامهم الإمام الحسين (علیه السّلام) وسام الفتوة، وهو وسام شريف، فإنّ الله تبارك وتعالى لما أراد أن يعرّفنا عن أصحاب الكهف، وعن موقفهم المشرّف ، وصفهم بالفتوة فقال عزّ من قائل: ﴿إنّهم فتية﴾ ثم قال تعالى في إدامة وصفهم : ﴿آمنوا بربهم وزدناهم هدى﴾.

وفي روضة الكافي عن الإمام الصادق (علیه السّلام) أنه قال لرجل: «ما الفتى عندكم ؟

ص: 361

فقال له : هو الشاب.

فقال (علیه السّلام): لا ، الفتى : المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً، فسمّاهم الله -عزّ وجلّ - فتية بإيمانهم».

وعليه: فحواريو الإمام الحسين (علیه السّلام) وإن كان فيهم شيوخ معمّرون، مثل حبيب بن مظاهر ، ومسلم بن عوسجة، وبرير بن خضير يكونون فتية، بل سادة الفتيان بعد المعصومين الأربعة عشر (علیهم السّلام)، وذلك لما سبق مما هو واضح أيضاً، ولنعم ما قيل فيهم :

ولم أنس فتياناً تداعوا لنصره *** وللذب عنه عانقوا البيض والسمرا

حماة حموا خدراً أبى الله هتكه *** فعظمه شأناً وشرفه قدرا

فأصبح نهباً للمغاوير بعدهم *** ومنه بنات المصطفى أبرزت حسرى

يقنّعها بالسوط شمر وإن شكت *** يؤنّبها زجر ويوسعها زجرا

[الإمتياز الأربعون]

40 - إنّهم بشهادتهم الخالصة لله ، أحرزوا حياة الأبد، والرزق الدائم عند ربّهم، وذلك لقول الله تعالى في محكم كتابه، ومبرم خطابه، وهو يصف فضل الشهداء : ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ وحواريو الإمام الحسين (علیه السّلام) على ما عرفت هم سادة الشهداء السعداء بعد الإمام الحسين (علیه السّلام)، وأبو الفضل العباس (علیه السّلام) هو سيّدهم وسندهم، وفي مقدمتهم وطليعتهم.

ص: 362

وعليه فأبو الفضل العباس (علیه السّلام) فيما ذكرناه من الخصائص لحواري الإمام الحسين (علیه السّلام)، وعددناه من امتيازاتهم، كان هو الفائز الأوّل من بينهم عليها ، بل هو الحائز على أرفع درجاتها، وأسمى مراقيها ، وذلك بكل كفاءة وجدارة، مضافاً إلى ما ذكرناه له (علیه السّلام) بخصوصه من خصائص وامتيازات .

فهنيئاً لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) مقامه الرفيع، وشأنه العظيم، ومنزلته السامية عند الله تبارك وتعالى، وعند رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، وعند الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وعند الأئمة الطاهرين من أهل بيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حتّى عُد زيارته (علیه السّلام) وخاصةً الزيارة المأثورة عن الإمام الصادق (علیه السّلام) بسند صحيح ومتفق عليه من أفضل القربات إلى الله، ومن أنجح الوسائل إليه تعالى، لقضاء الحوائج، وتيسير الأمور، وتفريج الكرب، وكشف الغموم، نسأل الله تعالى التوفيق لزيارته في الدنيا، والحصول على شفاعته في الآخرة، والفوز بمرافقته في الجنان، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، آمين ربّ العالمين.

[تنصِّلُ واعتذار]

لقد تمّ الفراغ بحمد الله تعالى ومنه، من ذكر ما تيسر لنا في ترجمة: «الخصائص العباسية» من فضائل باب الحوائج وقمر بني هاشم أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومناقبه ، علماً بأنّ هذه الترجمة قد ضمّت بين دفتيها كلّ ما جاء في الأصل: «الخصائص العباسية» تقريباً، مع إضافة بعض ما لم يكن في الأصل، ممّا رأيناه منسجماً مع الأصل، وإضافة بعض الخصائص الأخرى إليها، لإكمال عدة الخصائص إلى أربعين خصيصة، فكملت والحمد الله تعالى.

ص: 363

وقد قمنا بذلك من باب القاعدة المعروفة التى تقول : ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، وذلك أداءاً لبعض الواجب الّذي هو علينا تجاه مقام أبي الفضل العباس (علیه السّلام) ومنزلته عند الله ، وحقه الكبير علينا ، فإنّه (علیه السّلام) على ما عرفت هو الشخصية الثانية من الرّجال بعد شخصية الإمام الحسين (علیه السّلام) التي دارت على أكتافهم قضيّة كربلاء وواقعة عاشوراء، والتي لولاها لما بقي من الدين اسم، ولا من القرآن رسم، ولا للإنسانيّة والعاطفة، والأخلاق والآداب والكرامة والشهادة، والرحمة والرفق والحضارة والمدنيّة، والشورى والتعددية، والقانون والحرية، عين ولا أثر ، فبقاء شيء منها إلى يومنا هذا إنما هو مدين للإمام الحسين (علیه السّلام) وأخيه أبي الفضل العباس (علیه السّلام) وسائر الشهداء السعداء في يوم عاشوراء وعلى أرض كربلاء.

عليه : فيكون هذا الشيء القليل ، والنزر اليسير منا لأبي الفضل العباس (علیه السّلام) العظيم، ليس إلا بضاعة مزجاة، راجين من الله تعالى المغفرة والرضوان ، ومن أبي الفضل العباس (علیه السّلام) العذر والقبول، ومن القرّاء الكرام العفو والإغماض عمّا فيه من قصور أو تقصير، والإكمال والإتمام لما فيه من خطأ أو نقصان، وسهو أو نسيان، إنشاء الله تعالى .

المترجم - ربيع الميلاد عام / 1420 ه_

ص: 364

المحتويات

الاهداء ... 3

[اجازة حديث ، وشهادة اجتهاد] ... 5

[المدخل] .... 9

[الخصائص العباسية لماذا ؟] ... 9

المقدّمة : [حبّ أهل البيت ومودتهم] ... 11

[حديث الحبّ والبغض] ... 12

[الذريّة الطاهرة ] ... 12

[خلاصة الكلام] ... 13

الخصيصة الأولى : «النسب الناصح» ... 16

الخصيصة الثانية : «الرّحم الطاهر» ... 22

الخصيصة الثالثة : «الأسرة المباركة» ... 57

الخصيصة الرابعة : «مميزات ولادته (علیه السّلام)» ... 61

ص: 365

الخصيصة الخامسة : «في تسميته (علیه السّلام)» ... 67

الخصيصة السادسة : «في بعض خصائص اسمه (علیه السّلام)» ... 74

الخصيصة السابعة : «في نشأته (علیه السّلام)» ... 79

الخصيصة الثامنة : «فى كُنى العباس (علیه السّلام)» ... 82

الخصيصة التاسعة : «في ألقاب العباس (علیه السّلام)» ...88

الخصيصة العاشرة : «في أنه (علیه السّلام) باب الحسين (علیه السّلام)» ... 91

الخصيصة الحادية عشرة : «فى أنه (علیه السّلام) باب الحوائج» ... 99

الخصيصة الثانية عشرة : «في أنّه (علیه السّلام) السقاء» ... 106

الخصيصة الثالثة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) ساقي عطاشا كربلاء» ... 113

الخصيصة الرابعة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) ساقي كل عطشان» ... 122

الخصيصة الخامسة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) قمر بني هاشم» ... 127

الخصيصة السادسة عشرة : «فى أنه (علیه السّلام) يا قمر العشيرة» ... 132

الخصيصة السابعة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) حامل اللواء» ... 135

الخصيصة الثامنة عشرة : «فى انه (علیه السّلام) البطل العلقمي» ... 141

الخصيصة التاسعة عشرة : «في أنه (علیه السّلام) كبش الكتيبة» ... 146

الخصيصة العشرون : «في أنه (علیه السّلام) حامي الظعينة» ... 150

ص: 366

الخصيصة الواحدة والعشرون : «في انه (علیه السّلام) و المعروف بسَبع القنطرة» ... 156

الخصيصة الثانية والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالضيغم» ... 159

الخصيصة الثالثة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالعبد الصالح» ... 162

الخصيصة الرابعة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالعابد» ... 169

الخصيصة الخامسة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالطيار» ... 175

الخصيصة السادسة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المعروف بالشهيد» ... 191

الخصيصة السابعة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) الصديق» ... 197

الخصيصة الثامنة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) الفادي» ... 201

الخصيصة التاسعة والعشرون : «في أنه (علیه السّلام) المؤثر» ... 208

الخصيصة الثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) المواسي» ... 220

الخصيصة الواحدة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) الحامي والمحامي» ...231

الخصيصة الثانية والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) ظهر الولاية» ... 240

الخصيصة الثالثة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) قائد الجيش» ... 252

الخصيصة الرابعة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) المستجار» ... 257

الخصيصة الخامسة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) الواقي» ... 262

الخصيصة السادسة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) سفير أخيه الإمام الحسين (علیه السّلام)» ... 269

ص: 367

الخصيصة السابعة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) صاحب العصمة الصغرى» ... 281

الخصيصة الثامنة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) كان عالماً فاضلاً، و...» ... 288

الخصيصة التاسعة والثلاثون : «في أنه (علیه السّلام) كان عاملاً بعلمه» ... 304

الخصيصة الأربعون : «في أنه (علیه السّلام) الوجيه عند الله ورسوله ...» ... 315

الخاتمة : «في خصائص حواري الإمام الحسين (علیه السّلام)» ... 341

ص: 368

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.