العلاقَةُ الجَدَلِيَّة بَين النُّصُوصِ القُرْآنِيَّة والخِلافَةِ الإِلهِيَّة
(أَرْبَعُونَ آية فِي الإِمَامَةِ وَالوِلايَة)
تأليف
الشيخ ناصر الحائري
ص: 1
العلاقَةُ الجَدَلِيَّة بَين النُّصُوصِ القُرْآنِيَّة والخِلافَةِ الإِلهِيَّة
(أَرْبَعُونَ آية فِي الإِمَامَةِ وَالوِلايَة)
تأليف
الشيخ ناصر الحائري
ص: 1
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالمينَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مَلك يَوْمِ الدِّينِ
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاك نستعينُ
اهدنا الصِّرَاط المستقيمَ
صَرَاط الذينَ أَنعَمتَ عَليهِم
غير المغضوب عَليهِمْ وَلا الضَّالِينَ
صَدَقَ اللّه العليُّ العظيمُ
ص: 2
ص: 3
ص: 4
ص: 5
إلى الحبيب المصطفى، إلى سيد الأئمّة و الشرفاء، إلى الذي جعل اللّه أجر رسالته المودة في القربى، إلى حبيب إله العالمين، سيد الأوّلين والآخرين.
أهديك سيّدي هذه البضاعة المزجاة، راجياً شفاعتك يامولاي يوم لا ينفعني مال ولا بنون.
الغارق في ذنوبه
ناصر
عيد الغدير الأغرّ ذوالحجّة الحرام
2011م /1432ه-.ق
ص: 6
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، وصلّى اللّه على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد وعلى آله الهداة المهديِّين، لاسيّما بضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين، وإمامنا المهدي المنتظر عجّل اللّه فرجه الشريف، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدِّين.
وبعد :
إنّ من أهم ما ينبغي للإنسان أن يعرفه هو مُعتقده ومدرسته التي ينتمي إليها، و أن يكون انتمائه عبر دليل وقناعة تُريح ضميره ووجدانه بين نفسه و خالقه.
وإن من أهمّ مُعتقدات الإنسان المسلم هو موضوع الإمامة والخلافة، فإنه موضوع يمس الفرد المسلم ويخصّه الآن وفي هذه اللحظة، لأن المسلم هو من آمن باللّه تعالى وبرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي قال : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) - أي مات كمامات الجاهليون قبل الإسلام على غير دين الإسلام - وسنقف على هذا الحديث في ضمن فصول الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
فياترى هل يُمكن للمسلم أن يكون متماهلاً في مثل هكذا موضوع
ص: 7
مهمّ و لا يراجع نفسه فيه ولا يعرف واقع وحقيقة معتقده؟؟!
من هنا تبدو أهميّة هذا الموضوع ولاسيما، وهو يُبحث ويُناقش من خلال الكتاب الأوَّل للمسلمين، أعني كتاب اللّه تعالى ومعجزة نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ألا وهو القرآن الكريم.
ولقد بحثنا هذا الموضوع الهامّ جدّاً في طي صفحات هذا الكتاب، بعيداً عن السجالات الحادة، فإذا يكتب الكتاب ويخطب الخطباء حول موضوع مُهم وخطير - كموضوع الإمامة - ينبغي أن لا يغيب عن الأذهان أن الهدف من وراء ذلك هو أن يدلو المؤمن بدلوه في الدور المفترض عليه - وعلى كلّ مؤمن رسالي في الحياة - ويؤدّي شيئاً من المسؤولية الملقاة على عاتقه، أعني أن يبادر فيما يقدر عليه من تبيان الحقائق ونشرها ليتبيّن الحقّ من الباطل وليكون ممّن يهدي إلى الحقّ و يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بطريق علمي نزیه و بعيد عن السباب والشتائم والتهم ممّا لا يقع في طريق الهداية للآخرين بل يزيدهم عناداً وتضليلاً، بل يفترض أن تكون الانطلاقة في مثل هكذا سجالات انطلاقة صادقة هادفة باحثة عن الحقّ والحقيقة.
ومن المؤسف أن يكون حديثنا حديثاً عن خلاف أتى بالويلات على شعوبنا، فإن كلّ أمة تسعى إلى إبراز النقاط الإيجابية في تاريخها دائماً، كما تبذل ما تستطيع من جهد لإخفاء سلبياته والنقاط المظلمة فيه، ولاشك أننا أيضاً نفخر بالصفحات البيضاء والكثيرة في تاريخ المسلمين، إلا أن المواضيع العلمية والفكرية والعقائدية لابد من مناقشتها ليزداد المحق إيماناً ورسوخاً وثباتاً في مبدئه ومعتقده ولينتبه المبطل إلى زلَّته وانحرافه، وفي نفس الوقت نُنبِّه إلى أنه لا ينبغي أن تكون هذه البحوث مدعاة إلى العداوة والبغضاء بين
ص: 8
المسلمين ولا إلى التفرقة والشقاء، فان تبيان الحقّ شيء و إثارة البغضاء والفتن شيء آخر، فلمّا يكون الهدف مجرد كشف الحقائق للآخرين فلا يستدعي ذلك السباب والتكفير لهم، فلقد كان الإنسان منذ أن خلقه اللّه تعالى حرّاً في عقيدته، يقول اللّه تعالى لنبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكَّرٌ *لَّسْتَ عَلَيْهم بمُصَيْطر» (1) و لم يُكره النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أحداً على العقيدة، ولم يتخذ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسلوب القوة والقمع لإجبار احد على قبول إمامته وولايته أو على بيعته، فلا يُراد من أمثال هذه البحوث والمواضيع شحن القلوب وإثارتها بالأحقاد والضغائن، فان المؤمن العاقل يدع العقائد لأصحابها ولا يزيد على أداء مهمته من تبليغ رسالته، وفي نفس الوقت يكون على بصيرة من أمره.
ومن الطبيعي أيضاً أن القلب الذي يخلص حُبّاً للّه ولرسوله لا يحوي مجالاً لحب أعداء اللّه ورسوله، ففي الوقت الذي يتحاور المسلمون فيما بينهم في المسائل العقائدية ينبغي أن لا ينسوا العواقب الوخيمة للفتن والسباب والشتائم والتكفير وشحن القلوب والصدور على الآخرين، لاسيما وأن العدوّ كان ولا يزال يتربّص بالمسلمين الدوائر بعد أن فرقهم جغرافياً وهويّة، ناهيك عمّا هم فيه من ظلم ولاتهم على ممرِّ الدهور.
فمن ثَمّ إتخذت في هذا البحث العقدي (موضوع الإمامة) نهج الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث عند الطرف الآخر في النقاش، وكانت الدلالة في أكثر تلك الآيات هي بضميمة نص من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في تفسير تلك
ص: 9
الآية و بضميمة مسألة عقليّة مسلّم بها ممّا يستلزم القول بإمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وربما لا يقتنع بعض القراء بصحة بعض الأحاديث أو لا تحمله نفسه على الوثوق بها إلا أنّ الذي يلحظ المجموع بما هو مجموع وينظر إلى الكّم المتراكم من الروايات - سواء قويّها أم ضعيفها - وما جرى وحدث من مواقف وأحداث في تاريخ الرسالة المحمّديّة وما جاء من تصاريح وإشارات من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة - من متواترها ومستفيضها - في حق أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإن من يلحظ هذه الأمور مجتمعة لا يتردّد بان هذه الأمور كلّها أمارات لإمامة أمير المؤمنين وولايته جليّة وواضحة وضح الشمس في رابعة النهار..
وفي الواقع يبقى الإنسان وحقيقة نفسه وكما يقول القرآن الكريم: «بل الإِنسَانُ عَلَى نَفْسه بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ» (1).
ولقد شاهدتُ بعضهم في بعض الفضائيات يتحدى مدرسة أهل البيت وأتباعها أن يأتوا بآية واحدة صريحة من القرآن الكريم تتحدّث عن فضيلة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) !! فان مثل هذا اللون من الناس لا يُحاجج بل يُترك لتُدفَن معه أحقاده ويلهى عنه ونفسه.
فلقد تضمن القرآن الكريم المئات من الآيات المباركة في فضائل ومناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، ومنها ما تحدثت عن الإمامة والخلافة والتي جعلها اللّه تعالى فيه وفي ولده بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ص: 10
وفي هذه الوريقات المتواضعات استدللت ببعض تلك الآيات على ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). وذلك بعد أن طلب مني بعض الإخوة الأحبّة إعداد ذلك، لكي تكون سلسلة حلقات تعرض على شاشة بعض القنوات الفضائيّة، فشرعتُ بتهيئتها وعُرض بعضها من خلال عشرين حلقة، والحمد للّه، ولكي تكون الفائدة أعم وأشمل قمت بتدوينها هنا.
وممّا رجوته في هذا الإعداد والتأليف أن ابحث في أكثر عدد من الآيات القرآنية فيما يهُمُّ موضوع إمامة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في ضمن مجلَّد واحد، مع توضيح يتناسب مع حجم هذا الكتاب ليسهل على من يريد الوقوف على تلك الآيات دون إطناب طويل ودون إهمال لما ينبغي الإشارة إليه.
وقد بحث هذا الموضوع ليس قليلاً، ولكن بعضهم فصّلَه كثيراً بحيث جعله في مجلّدات وأجزاء كثيرة، وآخر أشار الى بعض تلك الآيات واختصر شرحها حتى جعله في كتيب صغير، وثالث خلط بين آيات الخلافة والإمامة وبين آيات المناقب والفضائل لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وشكر اللّه سعيهم جميعاً.
ولكني أردّتُ هنا أن آتي على أربعين آية مستدلاً بها على الخلافة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، بغض النظر عن آيات الفضائل والمناقب لهم، وأن يكون كلّ ذلك في مجلّد واحد، فبحثت أكثر من عشرين آية في فصول متعددة بقدر من التفصيل، وعلقت على عشرين آية أخرى سردها العلّامة الحلّي في كتابه (نهج الحقّ وكشف الصدق) راجياً أن تقع هذه الصفحات بين يدي طلاب الحقيقة من مثقفي هذه الأمّة، وقبل ذلك سائلاً اللّه تعالى القبول، وشاكراً له فضله وامتنانه عليّ، وشاكراً للقارئ الكريم تصفّحه له وصفحه
ص: 11
عنّي وراجياً منه عفوه وإنصافه.
اللهم أرنا الحقّ حقاً فنتَّبعه والباطل باطلاً فنجتنبه، بحقِّك وبحق أنبيائك ورسلك وأصفيائك صلواتك وسلامك عليهم أجمعين.
اللهم يا من أرجو تفضّلك عليّ بالقبول أُمنن عليَّ وتقبل مني وابعث ثواب هذا إلى روح والديَّ اللذَّين هما في دار رحمتك، وسددني لبرهما ما دمت حيا.. آمين.
والحمد للّه ربّ العلمين
ناصر
كربلاء المقدسة
2011 م / 1432ه-.ق
ص: 12
ص: 13
ص: 14
بسم اللّه الرحمن الرحيم
«وإذ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بكَلمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمَن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (1).
تُعدّ هذه الآية المباركة من أكثر الآيات دلالة على موضوع الإمامة بصورة عامة، وتدل أيضاً على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
يتمّ الاستدلال بهذه الآية المباركة من جهتين ومقطعين في الآية.
الأولى: قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا».
الثانية : قوله سبحانه «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» وإليك بعض التفصيل.
يكون الاستدلال بهذه الجهة أيضاً بلحاظين:
ص: 15
اللحاظ الأول: هو ملاحظة ما بينته الآية من كون الإمامة تتمُّ بجعل من اللّه تعالى، اذ قال سبحانه لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا»، فقد أضاف اللّه سبحانه إلى إبراهيم منصب الإمامة إضافة إلى كونه نبيّاً وذلك باعتبار أن الأنبياء يتفاوتون بالدرجات والمناصب والمهام، فقد ورد في كتاب الكافي : عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبي مُنبَّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا، كيونس قال اللّه: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَة أَلْفِ أَوْ يَزيدُونَ) (1) قال: يزيدون ثلاثين ألفا وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم وقد كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) نبيّاً وليس بإمام حتى قال اللّه: «إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمَن ذُرِّيَّتِي» فقال اللّه : «لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» من عبد صنَماً أو وثناً لا يكون إماماً (2).
فقد دلّت الرواية على أن هذا الجعل كان بخصوص الإمامة بغض النظر عن النبوّة، لأن إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان نبيّاً قبل ذلك، وهذا ما نريد قوله من أن اللّه تعالى جعل الإمامة لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما جعل له النبوّة من قبل، وكما لا يمكن لنبي أن يدّعي النبوّة دون جعل من اللّه تعالى كذلك لا يمكن ادّعاء
ص: 16
الإمامة الشرعيّة إلاّ أن تكون بجعل من اللّه تعالى، سواء كان هذا الجعل للإمامة مباشرة منه سبحانه كما في هذه الآية أم تكون عن نَص من نبي لمن يأمره اللّه تعالى بذلك، كما قال اللّه تعالى حكاية عن نبيّه موسى لأخيه النبيّ هارون (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حينما خرج للميقات: «وَقَالَ مُوسَى لَأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسدين» (1) فكان هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) نبيّاً وخليفة لنبي على قومه بتعيين من النبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وممّا يوثق ويؤكد هذا المعنى - من كون الإمامة تكون بجعل من اللّه تعالى - هو - هو أن مفردة الخلافة أو الإمامة بل حق الوزارة جاءت دائماً في القرآن الكريم بعد مادة الجعل الإلهي وبأمر من اللّه تعالى، كما هو الملاحظ في الآيات التالية.
قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَليفَةً فِى الأَرْضِ) (2).
وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَة إِنِّي جَاعل في الأَرْض الْأَرْضِ خَليفَةً) (3).
وقال (عزَّ وجل): ﴿وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (4).
وكذا قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ
ص: 17
هَارُون وزيراً) (1).
وأيضاً قوله تعالى: ﴿أَمَّن يُجيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءِ الْأَرْضِ أَإِلَةٌ مَّعَ اللّه قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ (2).
وكذلك قوله سبحانه: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُوا الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثينَ﴾ (3).
وقال تعالى أيضاً: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أئمّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (4).
فنرى في هذه الآيات أن الخلافة والإمامة والوزارة للنبيّ - كما جاء التعبير بهذه المفردات في الآيات - كلّها جائت بجعل من اللّه تعالى، وهذا يعضد القول بان قوله تعالى : (إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا) يفيد أن الإمامة تكون بجعل من اللّه تعالى.
هذا هو اللحاظ الأوَّل في هذه الجهة الأولى.
اللحاظ الثاني: هو ملاحظة الواقع الخارجي في الحياة العامّة، فإن تحقق الإمامة ووجود الخليفة على الأرض أمر لا محالة منه، ففي كلّ زمان لابد للأمّة من إمام، ولابدّ للشعب من قائد.
ص: 18
وإذا لاحظنا حقيقة إمامة أمير المؤمنين السلام نجدها منطبقة ومتوافقة مع الواقع القرآني في لابديّة النصّ على الإمام، وهو الوحيد من أصحاب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي إدعى الإمامة بالنصّ والوصيّة من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبآيات من القرآن الكريم كما وادّعاها له آله وأولاده من الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وأتباعه من القائلين بلزوم النصّ على الإمام والخليفة للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فلابد أن يكون هو الإمام المنصوص عليه، لأن هذا الرأي هو الأقرب للواقع الذي شاهدناه في آيات القرآن الكريم والذي لم يزل يقرن الخلافة والإمامة والوزارة بجعل من اللّه ونص من النبيّ، فضلاً عن مصداقية أمير المؤمنين عليٍّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وثبوت صدقه في دعواه.
بالإضافة إلى ما استدلّ واحتج به من آيات ونصوص من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - ممّا ذكر بعضها ويأتي بعضها الآخر - من أمثال آية الولاية : ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1).
وآية إكمال الدين: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ (2).
ومن أمثال نص النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثل قوله: (الله أكبر على إكمال الدِّين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي)(3). وغير ذلك من الآيات والأحاديث النبوية والتي نحن
ص: 19
بصدد التحدُّث عنها في هذا الكتاب.
والسؤال الذي يُطرح هنا هو عن إمامة الذين تصدوا للخلافة بعد وفاة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهل كانت محاكية للجو القرآني الذي رأيناه؟ وهل كانت بجعل من اللّه تعالى أم بتنصيب من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟
بالطّبع لم يدّع احد ممّن تصدَّر الرئاسة والخلافة حينها أنه استحقّها بنصّ من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو بإشارة من القرآن الكريم ولم يزعمها احد من أتباعهم لهم ذلك.
فنستنتج من هذا اللحاظ الثاني أقربية القول بالنصّ بالإمامة وموافقة واقع إمامة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للقرآن الكريم، وسنرى في المقطع الثاني من الآية المباركة والجهة الثانية من الاستدلال لابديّة القول بالنصّ على الإمام.
و في الحقيقة إن أصل الدليل في الآية على إمامة أمير المؤمنين عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو المقطع الآخر من الآية وهذه الجهة الأولى هي بمثابة المقدمة بمثابة المقدمة للمقطع الآتي:
إستفسار:
وقبل الخوض في المقطع الآخر من الآية ربما يسأل سائل ويقول: إنّ الآيات وان دلّت على أنّ الإمامة والخلافة قُرنت بمادّة الجعل من اللّه تعالى ولكن هذا لا يدلّ على أن لا تكون بغير جعل منه سبحانه، فالآيات ساكتة عن هذا الجانب الآخر، فقد تكون الإمامة بالجعل والنّص وقد تكون أيضاً بالبيعة أو الشورى أو الوراثة وما شابه، وكما يقال إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
والجواب على ذلك أمران:
ص: 20
الأول : إن بعض التعابير تتضمن بنفسها دلالة على الحصر ونفي الحالة المغايرة لمفادها مثل الجملة المشتملة على كلمة (إنما) وهي موجودة في آية الولاية - كما يأتي في محلّه - وغير ذلك من التعابير الواضحة في الحصر، والأمر هنا واضح، فإذا قيل: إن الرئيس هو من يعيّن الوزراء.. أليس معنى هذا إن تعيين الوزراء هو من إختصاصات الرئيس ؟.
الثاني: إن المقطع الآخر من الآية المباركة (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يدل على - كما سنوضح - على أن الإمامة لا تكون إلا بالجعل والنصّ، لأن مفاد هذا المقطع من الآية هو لزوم عصمة الإمام، وهذا الأمر لا يتأتى إلا عن عن طريق النصّ فتكون الآية نافية بمجموعها عن إمكانية الإمامة والخلافة لغير المعصوم، و سيتضح هذا الأمر بشكل أكثر في الجهة الثانية من الاستدلال بالآية.
قوله تعالى: ﴿قَالَ وَمَن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
لمّا جعل اللّه تعالى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إماماً، طلب النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) منه أن يجعلها أيضاً في بعض ذريّته، حيث قال : (ومن ذريتي) أي لبعضهم، لأن (من) هنا للتبعيض وهى معطوفة على الكاف في قوله تعالى (جاعلك) والعطف في مثل هذه الحال يكون للتلقين، كما يقال (وزيداً) في جواب من يقول (سأكرمك) أي أكرم زيداً معي أيضاً، وبما أن النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يعلم أن الإمامة لا تجعل للعاصي من الناس لهذا طلبها لبعض ذريّته لا لجميعهم.
ص: 21
وأجابه اللّه تعالى بأن الإمامة عهد من اللّه تعالى وهذا العهد لا يُعطى للظالمين، فهى كذلك تكون لبعض ذرية النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أي لأولئك الذين لا ينطبق عليهم وصف الظلم أصلاً وأبداً، حق ظلمهم لأنفسهم، أي أولئك الذين عُصموا من الذنب، لأن الذنب ومعصية اللّه تعالى هو ظلم أيضاً، فتكون الإمامة في الأشخاص المعصومين من ذرية النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).
أيّها القارئ الكريم : بهذا الاستدلال نتوصل إلى ضرورة عصمة الإمام ثم لابديَّة تعيينه وجعله من السماء فلابد - إذاً - من النصّ.
توضيح الاستدلال
وللتوضيح نقول : إن الاستدلال بهذا المقطع من الآية يكون عبر نقاط..
النقطة الأولى : إن العهد الإلهي (الإمامة) لا يُعطى لأحد من الظالمين، ومن الواضح أن المراد من العهد هي الإمامة، وذلك ليتوافق جوابه سبحانه مع طلب إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومع كلامه سبحانه المسبق عن الإمامة حيث قال سبحانه: (إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا) فطلبها إبراهيم لبعض ذريته فجاء الجواب منه تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي : إنّ الإمامة لا تكون للظالمين.
النقطة الثانية : ما هو الظلم ومن هو الظالم ؟ ذكروا أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه (1). و أن الظالم قد
ص: 22
يكون ظالماً لغيره كما هو واضح وقد يكون ظالماً لنفسه، واضح وقد يكون ظالماً لنفسه، ومن الظلم للنفس هي المعصية والتعدي على حدود اللّه تعالى والشرع، قال اللّه تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)(1). وقال سبحانه ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالمٌ لَنَفْسه قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذه أبَدَاً) (2)، فالظالم ظالم وان كان يظلم نفسه بارتكابه المعاصي بينه وبين اللّه تعالى.
النقطة الثالثة : إن الظالم قد يكون ظالماً الآن وبالفعل كأن يمارس الظلم على الآخرين أو على نفسه بارتكاب المعاصي، وقد يكون ظالماً باعتبار ما اقترفه من ظلم ولو في يوم ما، وبما أنه قد انطبق عليه وصف الظلم فلا يناله العهد الإلهي ولا يكون إماماً وخليفة اللّه تعالى على الأرض.
وقد ذكر العلماء أن الوصف والمشتق أي (إسم الفاعل وإسم المفعول والصفة المشبهة) ينطبق على المتلبس بالوصف حالاً وفعلاً كالذي يمارس الوصف حالاً - كالظالم الآن فيقال له ظالم فينطبق عليه هذا الوصف والعنوان - كما إنه ينطبق على من تلبّس بالوصف يوماً ما - كمن ظلم في حين ما - فيصدق عليه الوصف وينطبق عليه عنوان الظلم ويقال عنه أيضاً انه ظالم.
وإليك مثالاً آخر القتل، فمن قتل إنساناً - مثلاً - يوماً ما يبقى وصف القاتل منطبقاً عليه فيقال عنه انه القاتل، سواء كان إطلاق هذا العنوان عليه حقيقة أم مجازاً.
ص: 23
فإن قال قائل: هناك بعض الأوصاف التي لا تبقى ملازمة لفاعلها ويرتفع ذلك العنوان عمّن اتصف بها يوماً ما، فمثلاً: من كان عادلاً وملتزماً بالأحكام الشرعيّة ثم بعد ذلك أصبح عاصياً ومقترفاً للمعاصي، ينتفى عنه عنوان العدالة فلا يقال عنه عادل بل يقال انه فاسق، فلا يبقى الوصف منطبقاً عليه.
فالجواب هناك بعض الأوصاف تبقى ملازمة لأصحابها حتى بعد مفارقتهم لها كالقتل والظلم فيقال قاتل أو ظالم لمن قتل أو ظلم يوماً ما.
وقد وضح العلماء الفرق بين هذه المشتقات والأوصاف وقالوا إن المبدأ (أي الحالة التي تلبّس بها الإنسان ووصف بها) إذا كان من قبيل الصفات - كالعالم والجاهل والقائم والقاعد - فان الأوصاف (المشتق) حينئذ لا تصدق إلا على من هو متلبس بها بالفعل وفي الحال فإذا قيل: علي قائم قاعد فإنه يراد منه حالته الفعليّة فقط، أي هو قائم الآن وقاعد الآن، ولا يقال لشخص هو الآن قاعد قائم، لأنه كان قائماً قبل ذلك.
أمّا لو كان المبدأ من قبيل الأفعال - كالضارب والظالم والقاتل والوالد وما أشبه - فيصدق المشتق منها على المتلبس به بمجرد حدوث ذلك الفعل وصدوره من فاعله ولا يلزم تلبّسه بذلك الفعل دائماً، فمن قتل يقال عنه: قاتل، ولو بعد حين، ومن أولد يقال له : والد ولو بعد حين، وكذلك (ظالم).
والذي نريد أن نؤكِّد عليه - في هذه النقطة - أن كلمة (الظالمين) في الآية المباركة يمكن أن تشمل من ظلم ولو يوماً ما.
النقطة الرابعة : إن الآية المباركة اشتملت على مفردة: (الظالمين) وهي من المشتقات التي يصدق انطباقها على من يمارس الظلم بالفعل ومن مارسه
ص: 24
يوماً ما حتى وان تخلّى عنه بعد حين، وقد جاءت هذه المفردة (الظالمين) مطلقة فلا يليق بالإمامة والعهد الإلهي من اقترف ظلماً بصورة مطلقة سواء كان الآن أم قبل ذلك وسواء كان ظلماً للآخرين أم ظلماً للنفس.
وهذا المعنى يبدو جليّاً أكثر لمن يتأمّل الآية ويتأمل ما أراده النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما قال: (ومن ذريتي)، وما جاء في جواب اللّه (عزَّ وجل) في قوله : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ولمزيد التوضيح نقول :
أربع فرضيات في الآية:
هناك أربع فرضيّات وصور في الآية لا غير، وهي:
1 - أن يكون الإنسان ظالماً دائماً وأبداً.
2 - أن لا يكون ظالماً دائماً وأبداً.
3 - أن يكون ظالماً من قبل ثم يُصبح صالحاً حين الإمامة.
4 - أن يكون صالحاً من قبل ثم يُصبح ظالماً حين الإمامة.
والآن.. لنتناول هذه الفرضيات بالبحث والدراسة لنعرف الفرضية الصحيحة من غيرها :
أوّلاً: من المؤكّد أن النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يكن ليطلب الإمامة لمن يمارس الظلم دائماً وأبداً، وهذا واضح فهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) أجلُّ من أن يطلب من ربِّه سبحانه مثل هذا المنصب القيادي والخطير لإنسان يمارس الظلم دائماً !! فهذا أمر لا يتصوره عاقل، وبهذا ينتفي الفرض الأوَّل.
ثانياً كما لا يمكن لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يطلب الإمامة لمن كان عادلاً
ص: 25
ومتّقياً قبل تصديه للأمامة ثم أصبح فاسقاً وظالماً بعد تصديه لها لأن هذا من المؤكَّد أنه لا يصلح للإمامة.
إذن هذه الصورة أيضاً لا يمكن أن يريدها ويطلبها النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)لأحدٍ من ذريته، وبهذا ينتفي الفرض الرابع.
وحينئذ لا يكون قوله تعالى : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) جواباً على أحد هذين الفرضين،
بقي الفرض الثاني والثالث، حيث يمكن أن تكون الآية جواباً عليهما أو على أحدهما وهو أن نفرض إمكانية الإمامة لمن كان عاصياً ثم اهتدى وصلح فجاء الجواب على ردّ هذا الفرض بقوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فكل من إقترف ظلماً - بشكل مطلق - لا يصلح للإمامة.
يبقى الفرض الأخير - الثالث في التقسيم - وهو أهلية الإمامة لمن كان صالحاً دائماً في الماضي والحال والمستقبل بأن لا تصدر منه المعصية والظلم ابداً، فكان الجواب في الآية انه يا إبراهيم إن الإمامة في المعصومين من ذريّتك وحسب لا فيمن اقترف ظلماً لا فيمن اقترف ظلماً حتى لو تاب.
أيُّها القارئ الكريم : لقد ظهر لك بكل وضوح أن المراد من (الظالمين) في الآية هو من ظلم يوماً ما ولو تاب بعد حين، ولا يقع قوله تعالى جواباً على غير هذا الأمر.
فهل يمكن أن يكون جواباً على سؤال هو: هل تكون الإمامة لإنسان ظالم يباشر الظلم حين الإمامة فقط أو من يباشر الظلم دائما ؟
لا يمكن أن يكون هذا هو السؤال لأن هذا لا يُتوقع - كما قلنا - ولا
ص: 26
يتصوّر من النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يطلب من ربِّه هكذا طلب حتى تكون الآية جوابا على ذلك.
كما إن إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعلم انه قد نصبه اللّه إماماً فهو يعلم أن المعصوم مؤهّل للإمامة وكما هو أمر لا يشكك العقل بصلاحية المعصوم للإمامة.
فتبقى الآية : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) جواباً على أمر واحد قد يُسأل عنه وهو بالنسبة لمن كان فاسقاً وظالماً ثم تاب وأصبح صالحاً فهل يمكن لهذا أن يُصبح إماماً مجعولاً من قبل اللّه تعالى؟ فجاء الجواب (لا)، ومن المؤكد أن إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يعلم ذلك ولذلك طلب الإمامة لبعض ذريته ممّن هم مؤهّلون لها، وهم المعصومون من الذنب والظلم بصورة مطلقة وجاء الجواب موضحا أنه بالفعل لا يكون عهد اللّه للظالمين سواء من ذرية إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم من غيرهم، وإنما هي للمعصومين فقط.
النقطة الخامسة: إنّ في قوله تعالى : (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) دلالة على أنّ الإمامة ليست بالترشيح من الأفراد لنيل هذا المنصب، ولا بإنتخاب من الناس - كما هو الحال في الأنظمة الديمقراطية - بل الإمامة عهد إلهيّينال من يختاره اللّه تعالى لذلك، ويجعله في هذا المنصب المهم والخطير.
ويؤكّد هذا المعنى إضافة كلمة العهد إلى ياء المتكلم في قوله تعالى: (عهدي)، فالإمامة عهد اللّه تعالى وهو منصب إلهي كالنبوّة، وهو اللّه (عزّ وجل الذي يُنصب الشخص الكفوء لتلك المهمة ويختاره لأداء ذلك الدور، وليست القضية بإختيار من الناس.
ولابد من الانتباه إلى أننا لا نقصد من الإمامة مجرد القيادة السياسية للأمة، بل الأمر أكبر وأعظم من ذلك بكثير، فالإمام هو حجة اللّه تعالى على
ص: 27
الخلق والحافظ للدين من التحريف، وهو الوارث لعلم الأنبياء، وسنختم الكتاب بحديث الإمام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) - إن شاء اللّه - في ذلك.
النقطة السادسة: إننا بعد ملاحظة تلك النقاط نخرج بنتيجة واضحة وهي أن الإمامة خاصة بمن عمهم اللّه تعالى من الظلم والذنب مطلقاً سواء الظلم للنفس أم للآخرين وسواء الظلم السابق أم الحالي أم اللاحق أم في آن ما من،الآنات ونقول: إن ذلك يصدق وينطبق على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) دون الآخرين ممّن حكموا وتصدوا للحكم بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وسنلاحظ ذلك..
بعد أن تبيّن أنّ الآية أرادت الإمامة للمعصوم من الذنب فنرى أن المصداق لذلك هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذلك لأنه :
1 - لم لم تنسب إليه معصية ولا صفة،ظلم، لا لنفسه ولا لغيره، لا قبل الإسلام ولا بعد ذلك، وقد اشتهر التعبير بعد ذكر اسمه بقولهم: كرم اللّه وجهه، حيث انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يسجدا لصنم قط، بينما قد سجد الآخرون للأصنام وسُجِّلت عليهم الذنوب والفواحش التي كانت تقترف أيام الجاهلية.
2 - وقد جاءت الدلائل والنصوص على طهارته (عَلَيهِ السَّلَامُ) على طهارته اللّه من كلّ رجس وظلم وذنب، فقد نزَّهه القرآن في آية التطهير عن مطلق الرجس، كما رويت الأحاديث في ذلك بما لا يُبقى مجالاً للشك، منها:
عن جعفر الطيار (رضوان اللّه عليه) قال لما نظر رسول اللّه إلى الرحمة هابطة قال : (أدعوا لي ادعوا لي) فقالت صفيّة : مَن يا رسول اللّه ؟ قال: (أهل
ص: 28
بيت علياً وفاطمة والحسن والحسين) فجيء بهم فألقى عليهم النبيّ كساءه ثم رفع يديه ثم قال: (اللهم هؤلاء آلي، فصلّ على محمد وعلى آل محمد وأنزل اللّه (عز وجل) : (إنّ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، وقال الحاكم وقد صحت الرواية على شرط الشيخين (1).
وقد عصمه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا قرنه بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل وقال: (علي مع القرآن والقرآن مع علي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)(2) ومن معاني عدم الافتراق عن القرآن الكريم أنه لا يشوبه الباطل أبداً وهذا يعني عصمته (عَلَيهِ السَّلَامُ).
3 - وقد وردت الروايات بأن دعوة إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) انتهت إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في الحديث عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): أنا دعوة أبي إبراهيم، قلنا: يا رسول اللّه وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم ؟ قال: أوحى اللّه (عز وجل) إلى إبراهيم: (إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا). فاستخفًّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) الفرح (أي شمله الفرح) قال: يا رب ومن ذريِّتي أئمّة مثلي؟ فأوحى اللّه تعالى إليه أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به. :قال : يا رب ما العهد الذي لا تف لي به ؟ قال : لا أعطيك للظالم من ذريتك عهدا. قال إبراهيم عندها: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
ص: 29
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبعَني فَإِنَّهُ مِنِّي)(1). قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): فانتهت الدعوة إليّ وإلى علي، لم يسجد أحد منا لصنم قط فاتَّخذني نبيا واتَّخذ عليّاً وصيّا (2).
ونختم هذا الفصل بهذه الرواية المباركة عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتي تبين عظيم منزلة الإمامة.
عن زيد الشحّام قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : إن اللّه تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً وإن اللّه اتَّخذه نبيّاً قبل أن يتّخذه رسولاً وإن اللّه اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً وإن اللّه اتَّخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال: (إِنِّي جَاعِلُكَ للنَّاسِ إِمَامًا)قال: فمن عظمها في عين إبراهيم قال : (وَمَن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التّقي(3).
الخلاصة :
خلاصة هذا البحث في هذه الآية المباركة هي أنها دلّت على أن الإمامة عهد من اللّه تعالى وهي لا تؤتى إلاّ لمعصوم من الذنب وكان الإمام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)هو المصداق الأوَّل بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لهذه الآية فكان هو الإمام وكانت هذه الآية من آيات الإمامة (عَلَيهِ السَّلَامُ).
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 30
ص: 31
ص: 32
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(فَمَنْ حَاجَكَ فيه من بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّه عَلَى الْكَاذِبِينَ) (1).
تدلّ الآية دلالة التزامية على لزوم خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرة، وذلك لأن الآية بينت - كما ستعرف - أن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حيث المنزلة باستثناء النبوّة وما خرج بالدليل، فيكون هو أفضل البشر بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ولما كانت للنبيّ منزلة القيادة للأمة فتكون هذه المنزلة لمن هو نفس النبيّ، وتثبت له جميع صفاته وصلاحياته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيكون هو الإمام والخليفة.
وننقل هنا باختصار قصة نزول الآية، ثم نبيِّن أن المراد من (أنفسنا) هو الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعندئذ نخرج بنتيجة أنه يتمتع بمنزلة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ومؤهلاته ومنها: الخلافة والقيادة، فيجب أن يكون هو الإمام
ص: 33
مباشرة بعد النبيّ لأنه الأفضل بل هو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وحينذاك ينبغي لمن يستدل بقوله تعالى: ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه) (1) من أن أبا بكر صاحب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبذلك يستحقّ الخلافة، عليه أن لا ينسى أن النفس مقدّمة على الصاحب، فكيف أعرض عن نفس النبيّ وتمسك بصاحبه؟!
لقد ذكر المفسرون أنها نزلت في وفد نصارى (نجران العاقب والسيد ومن معهما) حيث حاججهم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شأن النبيّ عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) من انه عبد من عباد اللّه تعالى فقالوا لرسول اللّه : هل رأيت ولداً من غير أب؟! فنزلت: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عندَ اللّه كَمَثَل آدَمَ خَلَقَهُ من تُرَاب ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونَ) (2).. الآيات، فقرأها عليهم، فرفضوا قبول الحقّ وظَلُّوا يجادلون في الباطل فنزلت آية المباهلة وهي بمعن الملاعنة والسؤال من اللّه تعالى أن ينزل العذاب على الطرف المعاند والكاذب في ادّعائه، فلما دعاهم رسول اللّه إلى المباهلة استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك.
فلما رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف: انظروا محمّداً في غد فإن غَدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته وإنْ غَدا بأصحابه فباهلوه فإنه على غير شیء.
ص: 34
ولما كان الغد جاء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) آخذاً بيد الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) والحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين يديه يمشيان وفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) تمشي خلفه، وفي بعض التفاسير أنّ النبيّ جاء محتضناً حسيناً وآخذاً بيد الحسن، وتمشي خلفه ابنته فاطمة وخلفها يمشي علي (عليهم جميعاً صلوات اللّه) وقال لهم: إذا أنا دعوت فأمنوا، وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم. فلما رأى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد أقبل بمن معه سأل عنهم فقيل له: هذا ابن عمه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه، وهذان ابنا بنته من علي، وهذه الجارية بنته فاطمة أعز الناس عليه وأقربهم إلى قلبه.
ولما تقدَّم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجثا على ركبتيه، قال أبو حارثة الأسقف: جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة. فرجع ولم يُقدم على المباهلة، فقال السيد: أذن يا أبا حارثة للمباهلة !
فقال : لا. إني لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحلّ والله علينا حول وفي الدنيا نصراني يُطعم الماء.
وقال أسقف نجران يا معشر النصارى ! إني لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا.
فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك، فصالحهم على أمور يعطوها (1).
وبالفعل.. لقد نجا النصارى من هلاك محتّم، لأن اللّه سبحانه ما كان ليردَّ دعاء النبيّ وأهل بيته (صلواته وسلامه عليهم).
ص: 35
وبعد انصرافهم عن الملاعنة والمباهلة قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلَّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل اللّه نجران وأهله حتى الطيور على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا) (1).
أيّها القارئ الكريم: إن هذه القضيّة تثبت صحة وصدق ما جاء به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للأُمّة وللبشرية، وكذلك تبيّن عظيم المنزلة الإيمانية الراسخة عند هؤلاء الخمسة الأطهار، ولقد نُقل عن احد العلماء (2) قوله : (إن مباهلة وملاعنة أهل الكساء و الخمسة النجباء - صلوات اللّه عليهم أجمعين - مع نصاری نجران لا تخلو عن أربعة وجوه في العقل والتصوّر :
الأول: أن تستجاب مباهلة كلّ واحد من الطرفين، فتكون هذه سبباً لاستيصالهما وهلاك كلّ واحد منهما.
الثاني : أن لا تستجاب مباهلة كلّ من الخصمين كليهما، فيكون هذا سبباً لسقوطهما عن أعين الناس، لاسيما إذا كان المباهلون من ولاة الأمر والدّعاة إلى الدين، كما فيما نحن فيه.
الثالث : أن تستجاب مباهلة أهل نجران فتكون سبباً لوقوع العذاب على مخالفهم.
للرابع: أن تستجاب مباهلة وملاعنة أهل البيت - صلوات اللّه عليهم أجمعين - فتكون سبباً لهلاك خصمهم.
ص: 36
ولقوَّة هذه الاحتمالات يمتنع كلّ واحد من الخصمين عن الإقدام على المباهلة لأن فيه مظنَّة الهلكة والاستيصال والعذاب. فإذا اتضح هذا يُعلم منه أن الخمسة الطيبة كانوا في أعلى درجات اليقين و الاطمينان، فلو كان في نفوسهم الشريفة - العياذ باللّه - شيء من القلق أم الاضطراب أم التردُّد في الإجابة وعدمها لم يُقدموا أبداً على المباهلة، لأن في الإقدام احتمال الهلكة والنقمة والعذاب أو سقوط منزلتهم وهيبتهم عن أعين الناس ولكن إيمانهم العظيم بما هم عليه جعل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يخرج بنفسه مع أحبّ الخلق إليه وهم أهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ونظم الأدباء في هذه القضيّة، ومنهم السيد علي خان المدني قال في ضمن قصيدة طويلة :
واذكر مباهلة النبي به***وبزوجه وابنيه للنفر
واقرأ وأنفسنا وأنفسكم***فكفى بها فخراً مدى الدهر
هذي المفاخر والمكارم لا***قعبان من لبن ولا خمر (1)
بعد أن عرفنا شأن نزول الآية نرى أن دعوة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كانت لثلاثة أصناف (أبناءنا، نساءنا، أنفسنا) وذلك كما قالت الآية: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) وكان هو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) صاحب الدعوة لأن الآية أمرته أن يدعو أولئك الأصناف الثلاثة فكان
ص: 37
الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يمثّلان (أبناءنا) وكانت ابنته الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) تمثِّل (نساءنا) ولم يبق إلاّ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يحلّ محلّ نفسه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فكان هو يمثل (أنفسنا) ولم يكن المراد من (أنفسنا) شخص النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لأنه هو صاحب الدعوة، والإنسان لا يدعو نفسه وإنما يدعو غيره، ولكنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لما احضر عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه بین أن منزلته منزلة نفسه، بل بين اللّه تعالى ذلك حيث انزل الذكر بهذا التعبير، وكان يمكن التعبير ب- (رجالنا) بدل (أنفسنا) في قبال (نساءنا)، ولكن المراد تبيين هذه الحقيقة في ضمن هذه القصة وهناك الأحاديث الكثيرة المرويّة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والتي تشير إلى هذه الحقيقة ليس في هذه الآية وحسب بل في موارد كثيرة (1).
وبعد ذلك نقول: إذا كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو نفس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حيث المنزلة والمكانة لزم أن يكون اشرف الخلق بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وذلك لأن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)هو اشرف الخلق دون أي شك، فقد ثبت أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أفضل من كافة البشر بدلائل يسلمها الجميع، وقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أنا سيد البشر) (2) وقال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) (3) فعلي كذلك مثله وله منزلته ومنها قيادته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإمامته وأولويّته على الناس من أنفسهم، لأنه نفسه بصريح الآية، نعم ولاشكّ
ص: 38
انه ليس بنبي، ولكنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الأفضل والأشرف بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو الإمام لمكانة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الإمامة والقيادة للأمة، فمن الطبيعي أن يكون هو الإمام الذي ينبغي أن يحل محله بعده في إدارة البلاد وإمامة العباد.
ونستخلص من هذا كلّه:
إن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بصريح آية المباهلة وله مكانته ومنزلته وعلمه وقيادته وإمامته وله منازله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كلّها إلا النبوّة - لأنها خارجة بالدليل - وتبقى له الإمامة من ضمن منازله فيستحقّها بعده.
قد يسأل البعض ويقول : إذا كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)فكيف زوّجه ابنته ؟
الجواب على ذلك:
لا شك ولا ريب أنه ليس المقصود أنه ليس المقصود من انه نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يعني کلاهما شخص واحد وروح واحدة وجسد واحد ! فهما اثنان احدهما محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والآخر علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) احدهما ولد قبل الآخر ومات قبل الآخر إلاّ أن المراد هي المنزلة والمكانة المعنوية.
قال العلّامة الشيخ المظفّر في كتابه السقيفة رداً على ذلك: (إنّ هذا لا يتوهمه عاقل ولا يتوقف عليه الاستدلال، فإن محمداً محمد وعلياً على هما شخصان اثنان أحدهما ابن عم الآخر وأحدهما ولد قبل الآخر ومات قبله، ولكلٍّ منهما مميزاته الشخصية التي تختلف عن مميزات شخصية الآخر، بل المقصود
ص: 39
أنه نفسه تنزيلاً أي أنه كنفسه وذلك مبالغة في تقاربهما واتحادهما في كثير من الأحكام المنزلة. وذلك يشبه قول الشاعر في مبالغته عن اتحاده مع حبيبه:
أنا من أهوى ومَن أهوى أنا***نحن روحان حللنا بدنا
إذا أبصرتني أبصرته***وإذا أبصرته أبصرتنا (1)
استفسار آخر..
قد يقول قائل: هناك أحاديث تذكر أن غير على (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً كانت له منزلة قريبة من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مثل ما روي عنه انه قال: (خير أُمتي أبو بكر ثم عمر)، ومن الواضح أن خير خير الأمة هو أولى بالإمامة؟
الجواب:
أوّلاً هذا الحديث هو واحد من عشرات الأحاديث الموضوعة المنسوبة إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كذبا وزوراً، وقد تعرّض العلماء الى تضعيفه وتفنيده، قال العلّامة السيد علي الميلاني في كتابه:
(قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (خير أُمّتي أبو بكر وعمر) هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الآيجي وشارحه وغيرهما أيضاً. لكن الحديث ليس هكذا، للحديث ذيل وهم أسقطوا هذا الذيل ليتم لهم الاستدلال، فاسمعوا إلى الحديث كاملاً : عن عائشة قلت: يا رسول اللّه، من خير الناس بعدك ؟ قال : أبو بكر، قلت: ثم من ؟ قال : عمر. [هذا المقدار الذي استدل به هؤلاء] وكانت السيدة فاطمة (سلام اللّه عليها) في المجلس، فقالت فاطمة : يا رسول اللّه، لم تقل في علي شيئاً ؛ قال: يا فاطمة علي نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً ؟)
ص: 40
فيستدلون بصدر الحديث بقدر ما يتعلق بالشيخين ويجعلونه دليلا على إمامة الشيخين، ويُسقطون ذيله، وكأنهم لا يعلمون بأن هناك من يرجع إلى الحديث ويقرأه بلفظه الكامل، ويعثر عليه في المصادر، لكن الحديث - مع ذلك - ضعيف سنداً (1) فراجعوا كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (2).
ثانياً: لقد عبر القرآن الكريم عن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بنفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع أن أبا بكر عُبّر عنه بصاحبه، ولا تكون منزلة الصاحب كمنزلة النفس وقد أُمرنا أن نعرض الحديث على كتاب اللّه تعالى لنختبر مدى صحته، فهل يُعبَّر عن خير الأمة بالصاحب ويُعبّر عن غيره بالنفس ؟!
وللعلم أن كلمة (الصاحب) تُطلق حتى على مَن يُخالف صاحبه في الفكر والعقيدة، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَاكَ رَجُلاً)(3)، فهذا المؤمن باللّه له صاحب كافر، حيث يخاطبه بالكفر ويقول له : (أكفرت) مع أنه صاحبه!!، فليست الصحبة بنفسها دليلاً على علو الشأن وعظيم المنزلة.
هذا .. و الحديث عن آية المباهلة واسع وله فروع كثيرة، ولكنني أكتفي بهذا المقدار مراعاةً لأسلوب الكتاب.
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 41
ص: 42
ص: 43
ص: 44
بسم اللّه الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأمر مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (1).
تُسمّى هذه الآية بآية الطاعة، وهي من الآيات التي يُستدل بها على الإمامة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
يتمّ الاستدلال بهذه الآية من جهتين من جهة الآية نفسها وما فيها من تأملات وملاحظات، بغض النظر عن الأحاديث التي جاءت في تفسيرها، والجهة الأخرى هي من حيث الأحاديث المروية حولها.
ص: 45
يتمّ الاستدلال من جهة الآية نفسها بعد بيان عدة أمور وملاحظات:
الملاحظة الأولى : لزوم الطاعة المطلقة للرسول لقد أوجبت الآية على المسلمين الطاعة المطلقة اللّه تعالى وللرسول حيث قالت: (أطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُول)، ومن الواضح أن هذه الطاعة مطلقة وغير مقيدة بشرط ولا بحيثيَّة من زمان أم مكان أم غير ذلك، وهذا بنفسه دليل على لزوم الطاعة المطلقة من المؤمنين للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فان في طاعته طاعة اللّه تعالى كما قال تعالى: (مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه) (1)، وهذا أمر واضح بالضرورة.
وتكررت هنا كلمة (أطيعوا) ولعلّها للتأكيد على طاعة النبيّ أو للتبيين بان طاعة اللّه تعالى ذاتيّة، لأنه تعالى هو الخالق لنا و أمّا طاعة الرسول : (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهي عرضيَّة، أي إنما وجبت طاعته لأنه هو المبعوث من قبل اللّه تعالى ولأن اللّه تعالى قد أمر بطاعته مطلقاً فلزمت طاعته علينا مطلقاً أيضاً، ويدلّ وجوب هذه الطاعة المطلقة الدائمة للنبيّ على عصمته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
الملاحظة الثانية: طاعة ولي الأمر من طاعة الرسول
إن من يتأمّل الآية يلاحظ أنه قد عطفت كلمة: (أولي الأمر) على (الرسول) والعطف بنفسه يفيد التكرار ولكن لم تُكرَّر مفردة (أطيعوا) مرة ثالثة وذلك للتأكيد على أن طاعة هؤلاء (أولي الأمر) هي من نفس طبيعة
ص: 46
وسنخ طاعة الرسول، فطاعتهم وطاعة الرسول على حد سواء وبشكل واحد ومستوى واحد، لأن كلمة (أطيعوا) جاءت موحدة للزوم طاعة الرسول وأولي الأمر، وبعبارة أخرى جاء الأمر بلزوم طاعتهم على نفس الحد والشكل والطريقة من لزوم طاعة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهذا يدل على فرض طاعتهم المطلقة والدائمة وبدون أي قيد و شرط كما طاعة الرسول كذلك، وهذا المعنى يلازم العصمة لهم ويعني أنهم معصومون من الخطأ والزلل والاشتباه والنسيان، لأنه لو لم يكونوا كذلك لزم التنبيه على أن طاعتهم ليست مطلقة ودائمة وليست كطاعة الرسول، لأنهم قد يخطأون فلا يلزم طاعتهم بل لا تجوز حينها، ولكن الآية لم تقيّد ذلك، فتلزم طاعتهم بصورة مطلقة وهو أمر يدلّ على عصمتهم.
الملاحظة الثالثة: الطاعة المطلقة والعصمة
إن الآية أمرت بطاعة أولي الأمر ولم تذكر المتعلّق في طاعتهم، وقد ذكروا أن حذف مفعول الطاعة يدلّ على التعميم، يعني الطاعة في كلّ شيء، فتارةً يقال أطع الحاكم في الخروج للجهاد أو في توزيع بيت المال أو ما شابه، فهذا يقيّد الطاعة في شيء خاص ولا يوجب الطاعة له في كلّ الأشياء، ولكن لو قيل: أطع الحاكم وامتثل له دون أن يذكر متعلّق الإطاعة، أي دون أن يحدِّد الطاعة في أي شيء تكون، فهذا يعني أطعه بصورة مطلقة وفي كلّ شيء فكيف إذا كان اللّه تعالى هو الآمر القائل أطع رسولي وولي الأمر؟! حيث قرن بين الرسول وولي الأمر في وجوب الطاعة لهما دون أن يقيد ذلك بشيء ما.
وهذا يدل - و في غاية الوضوح - بأنها طاعة مطلقة وفي كلّ شيء
ص: 47
وإذا كانت كذلك لزم أن يكون أولوا الأمر معصومين.
الملاحظة الرابعة: طاعة الوليّ من طاعة اللّه تعالى
لقد أوجبت الآية المباركة طاعة اللّه تعالى وبعد ذلك أوجبت طاعة ولي الأمر طاعة مطلقة ودائمة ولو لم يكن هذا الولي معصوماً لكان هذا أمراً بما لا يطاق، وهذا شيء يخالف عدل اللّه وحكمته سبحانه وتعالى عن ذلك، لأنّ اللّه تعالى لا يمكن أن يأمر بطاعة شخص ويأمر بمعصيته في نفس الوقت، فهذا يوقع المكلف بأمر محال وهو الجمع بين المتضادين، فمثلاً: أمر اللّه تعالى بالعدل والإحسان الى الناس، فلو أمر ولي الأمر بالظلم لهم ثم اوجب اللّه طاعته أيضاً لزم على العبد أن يعدل ويظلم في نفس الآن وهو أمر محال، وهذا الأمر شبيه بما إذا أمر المقاول والمشرف على العمل واحداً من العمال بصبغ الجدار بلون ابيض، وأمره في نفس الوقت بطاعة صاحب العمل أيضا، ثم أمره صاحب العمل بصبغ نفس الجدار بلون اسود فحينئذ لا يمكن للعامل أن يمتثل للمقاول ولرب العمل في هذا الأمر في نفس الوقت، وذلك لان اللون الأبيض واللون الأسود ضدان ولا يجتمعان فلا يمكن امتثال ذلك بأي حال، وكذلك الأمر في هذا المجال، فحينما يأمر اللّه بطاعته تعالى ثم يأمر بطاعة الرسول وولي الأمر بشكل مطلق، يدل ذلك على أن الرسول وولي الأمر سوف لا يأمران أبداً بما يخالف طاعة اللّه تعالى، وهذا يعني عصمتهم دائماً.
الملاحظة الخامسة: تعيين الولي بيد اللّه العلي
بعد أن ثبت لنا لزوم أن يكون أولوا الأمر معصومين لزم أن يكون
ص: 48
المراد منهم هم أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لأنه لا يمكن للناس أن يعرفوا من هو المعصوم من الخلق حتی يجعلوه وليّاً للأمر عليهم، لأن الناس لا يعلمون سرائر وخفايا الآخرين ولا طريق لهم إلى معرفة عصمتهم وعدم وقوعهم في المعصية دائماً وأبداً إلا أن يدلّ اللّه تعالى عليهم ويرشد الخلق إليهم، وقد أرشد اللّه تعالى إليهم في آيات متعددة منها آية التطهير وبما جاء على لسان نبیّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أحاديث كثيرة كحديث الثقلين، فتكون الآية المباركة قد أوجبت طاعتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) على المؤمنين بعد أن اعتبرتهم أولياء للأمر بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حينما قالت: (أطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأَوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ).
وخلاصة القول : لقد دلّت الآية بنفسها على عصمة أولي الأمر مر بعد النبيّ مما لزم أن يكونوا مجعولين للإمامة وولاية الأمر. وهناك أحاديث نبوية تصرِّح بأن أولي الأمر هم علي وأولاده المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
استفساران :
قد يقول قائل : إنّ الآية وإن ألزمت طاعة أولي الأمر بظاهر مطلق إلاّ أنه من المعلوم أن اللّه تعالى لا يأمر بطاعتهم في المعصية، وهذا أمر واضح حيث لا طاعة لمخلوق في سخط الخالق، وعلى هذا فلا يلزم من أمره سبحانه بطاعة أولياء الأمر القول بعصمتهم وأنهم أناس مُمَيَّزون ومعصومون و مجعولون للإمامة من قبل اللّه تعالى أو من نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
الجواب:
أولاً : من الواضح أن اللّه تعالى لا يوجب طاعة من يأمر بمعصية اللّه أو
ص: 49
ينهى عن طاعة اللّه، لأن من الثابت أن كلّ أمر في واجب يلزم قبوله وكلّ أمر في حرام يلزم عصيانه، وهذا الموضوع ليس خاصاً بطاعة ولي الأمر و عصيانه، بل هو أمر عام في القضايا كلّها وعند جميع الناس، وليست القضية هذه كالتي نلاحظها في الآية حيث فيها من بيان التعظيم والتبجيل لأولي الأمر بحيث تكون طاعتهم كطاعة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهذا الأمر ينسجم مع القول بلزوم طاعتهم طاعة شاملة ومطلقة ممّا يلزم القول بعصمتهم.
هذا بالأضافة إلى أن ظاهر الآية هو الإطلاق في لزوم الطاعة لهم، وهذا الظاهر حجّة ويلزم الأخذ به عقلاً.
ثانياً: ذكرنا في الملاحظة الأولى أن طاعة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مطلقة وشاملة وغير مقيدة بشيء بل هي طاعة اللّه تعالى بنص القرآن حيث قال سبحانه (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه) (1) وذكرنا في الملاحظة الثانية أن الآية قرنت بين طاعة أولي الأمر وطاعة الرسول بأمر واحد ممّا دلّ على أنها طاعة من سنخ،واحد، فطاعتهم كطاعة الرسول مطلقة وغير مقيدة بشيء ممّا يلزم القول بعصمتهم كما لزم القول بعصمة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ثالثاً: لو كانت طاعة أولي الأمر كطاعة سائر الأفراد الآخرين - من أنها لازمة ومقيَّدة في حال خاص - كان ينبغي توضيح ذلك وتبيينه لاسيما والأمر بهذه الطاعة جاء في مقام تعظيمهم، فمثلاً: نلاحظ الآيات التي قضت بلزوم احترام الوالدين احتراماً بالغاً حيث قُرن ذلك بالقضاء بعبادته تعالى صرحت بعد ذلك أن تلك الطاعة محدودة فيما إذا لم يأمرا بالمعصية فقد قال
ص: 50
الله تعالى - في بيان مكانتهما واحترامهما البالغ -: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُواْ إلا إيَّاهُ وَبِالْوَالدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كَلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أَفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (1).
ظروا إلى هذا التعظيم البالغ للوالدين، فقد حكم اللّه تعالى بلزوم عبادته، و لزوم الإحسان إليهما ولكنه سبحانه في آية أخرى نهى وبلفظ صريح عن طاعتهما فيما لو أمرا بمعصيته حيث قال سبحانه وتعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (2).
فلو أريد من طاعة أولي الأمر الطاعة المقيّدة وغير المطلقة والشاملة لزم بيان ذلك أيضاً ولو في آية أخرى، فلا مناص من القول بان في الآية دلالة على عصمة أولي الأمر المقصودين في الآية المباركة.
ومن هنا أذعن الإمام الرازي في تفسيره من لزوم القول بعصمتهم، إلاّ انه يرى أن (أولي الأمر) هم أهل الحل والعقد، وهو يعني حجيّة إجماع الأمة، - وسنناقش ذلك إن شاء اللّه - فيقول في تفسيره: (اعلم أن قوله: ﴿وَأُولى الأمر منْكُمْ) يدلّ عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن اللّه تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم
ص: 51
يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ والخطأ - لكونه خطأ - منهى عنه فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وانه،محال فثبت أن اللّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً، ثم نقول : ذلك المعصوم إمّا مجموع الأمة أو بعض الأمة، لا جائز أن يكون بعض الأمة؛ لأنا بَيَّنا أن اللّه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر اللّه المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم - الذي هو المراد بقوله : وَأُوْلى الأمر - أهل الحل والعقد من الأمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجّه (1).
وقال في موضع آخر: (إن طاعة اللّه وطاعة رسوله واجبة قطعاً، وعندنا أن طاعة أهل الاجماع واجبة قطعاً، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعاً، بل الأكثر أنها تكون محرَّمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن،الضعيف، فكان حمل الآية على الاجماع
ص: 52
أولى، لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله : (أَطيعُوا اللّه وَأَطِيعُواْ الرسول وأولى الأمر) فكان حمل أولي الأمر - الذي هو مقرون بالرسول - على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق) (1).
فكلامه هذا يؤيد ما نريد اثباته في هذه المرحلة من أن اولي الامر هنا لابد أن يكون معصوماً وسيتضح أنه لابد من القول أيضاً أن المقصود هم اهل بيت النبيّ (صلوات اللّه عليهم اجمعين).
سؤال آخر وهو : لماذا أمرت الآية بالرجوع إلى اللّه والرسول حين التنازع ولم تذكر الرجوع إلى أولي الأمر ؟ أليس في ذلك إشارة إلى أنهم غير ملحقين بالرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟
الجواب:
هنا فرضيّات ثلاثة :
الفرض الأوّل: أن يقع النزاع بين أولي الأمر أنفسهم، وهذا الفرض غير وارد لأنه لاشك انه ليس المقصود من النزاع المذكور هو النزاع بين أولي الأمر أنفسهم، لأننا أمرنا بالطاعة لهم بشكل مطلق ممّا يبين توافقهم في تعاليمهم وأوامرهم ونواهيهم لنا.
بالإضافة إلى أنهم يتوالون على الخلافة والإمامة واحداً بعد واحد، ولكلِّ زمان إمام واحد وولي للأمر واحد فلا يُتصور وقوع التنازع بين أولي
ص: 53
الأمر أنفسهم.
الفرض الثاني : أن يكون الخطاب في : (وان تنازعتم في شيء) هو للمؤمنين - الذين أمروا بطاعة اللّه ورسوله - وأولي الأمر، وهذا الأمر غير وارد أيضاً لأننا أمرنا بطاعتهم مطلقاً فلا يحق الاعتراض عليهم حتى نتنازع معهم.
الفرض الثالث : أن يراد من التنازع المذكور هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم - المخاطبين بالآية والذين أمروا بطاعة اللّه ورسوله وأولي الأمر - وهذا الفرض هو الوارد في هذا المجال، ولاشك أن المؤمنين أيضاً مأمورون بالرجوع إلى أولي الأمر، وهذا الأمر مستفاد من نفس الآية التي أمرت بطاعتهم وفي هذا إشارة إلى أن الرجوع إليهم هو نفس الرجوع إلى اللّه والرسول.
والآن جاء دور الإجابة على السؤال المطروح وهو: لماذا أمرت الآية بالرجوع الى اللّه والرسول ولم تذكر أولي الأمر؟
فنقول في الجواب : إن الآية لم تحصر الرجوع الى اللّه والرسول فقط حتى يكون فيها نهي عن الرجوع إلى أولي الأمر حين التنازع، فان (إثبات
الشيء لا ينفي ما عداه).
هذا.. بالإضافة إلى أن الأمر بالرجوع إليهم مذكور في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْن أَو الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُول وَإِلَى أَوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلَمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ
ص: 54
فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَان إلا قليلاً) (1).
ففي الآية توبيخ للمنافقين لعدم رجوعهم إلى الرسول والى أولي الأمر، مما يعني هو حث على الرجوع إلى أولي الأمر، كالرجوع إلى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وأولوا الأمر هنا هم الأئمّة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) أيضاً كما ورد في الأحاديث الصحيحة (2).
وفي الواقع أن هذه الآية إذا ضُمَّت إلى الآية التي نحن بصددها لم يبق مجال لأصل السؤال لأن القرآن يُفسر بعضه بعضاً و قد دعا القرآن إلى الرجوع إلى أولي الأمر كما دعا الى الرجوع إلى اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ا القارئ الكريم وهناك جواب آخر ذكره بعض المفسرين بقوله : (لا شك أن المراد من الاختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الاختلاف والتنازع في الأحكام، لا في المسائل المتعلّقة بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية، لأنه في هذه المسائل تجب طاعة أولي الأمر. وعلى هذا فالمراد من
ص: 55
الاختلاف هو الاختلاف في الأحكام والقوانين الكلية الإسلامية التي يعود أمر تشريعها إلى اللّه سبحانه ونبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لأننا نعلم أن الإمام مجرد منفذ للأحكام الإلهية وليس مُشرِّعاً، ولا ناسخاً لشيء من تلك الأحكام، وإنما عليه فقط أن يطبّق الأحكام والأوامر الإلهية والسُنّة النبوية في حياة الأمة، ولهذا جاء في أحاديث أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) إنهم قالوا : إذا بلغكم عنا ما يخالف كتاب اللّه وسنّة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه أي يستحيل أن نقول ما يخالف كتاب اللّه وسنة نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ). وعلى هذا فإنّ أوّل مرجع يرجع إليه المسلمون لحل خلافاتهم في الأحكام الإسلامية هو اللّه سبحانه والنبي الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)الذي يوحى إليه، وإذا ما بين الأئمّة المعصومون أحكاماً، فإن تلك الأحكام ليست سوى اقتباس من كتاب اللّه، أو هي من العلوم التي وصلت إليهم من النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وبهذا تتّضح علة عدم ذكر أولي الأمر إلى جانب المرجع في حل الاختلاف في الأحكام المذكورة في هذا الجزء من الآية) (1). انتهى كلامه.
ولكن يمكن القول إنه يكفي في الاستدلال بالآية هو الأمر بطاعة أولى الأمر مقروناً بطاعة الرسول، والتي هي طاعة مطلقة وهي تتضمن تتضمن إمامة الرسول وقيادته للأمة ولزوم الانقياد لها، وهذا الاقتران بنفسه لخير دليل على أن المراد من أولي الأمر هم قادة الأمة الذين هم بمنزلة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حيث لزوم الطاعة لهم، وهذا الأمر لا ينفك عن القول بعصمتهم، وهذا
ص: 56
الاستنتاج لا ينسجم إلا مع القول بإمامة أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) و الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.
لقد ذُكرت بعض الآراء الأخرى في بيان معنى أولي الأمر ممّا لا يمكن قبولها، فأضع هنا بعضها على طاولة الحوار والنقاش، فمنها مثلاً:
1 - إن المراد من أولي الأمر هم كلّ من يحكم من المسلمين ومن يتولى الحكم منهم (1)،
ولاشك أن هذا الرأي لا يوافق عليه عقل ولا دين فان سيرة أهل العقل والإنصاف والدين قائمة على تخطئة الحكام وعدم الطاعة لهم مطلقا، ولذلك ثار كثير من المسلمين على كثير من حكامهم وخرجوا عليهم ولم يلزموا أنفسهم بالطاعة التامة والمطلقة في كلّ الظروف لهم، كما إن كثيراً من الحكام تظاهر بالفسق والفجور، ممّا لا يشك مسلم منصف أن هؤلاء الحكام ليسوا من أولي الأمر الذين أمرنا بطاعتهم هذه الطاعة المقرونة بطاعة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
2 - إن المراد منهم هم أهل السرايا وقيادات الجيوش.
وهذا القول باطل أيضاً لأن كثيراً من القادة ليسوا من أهل العلم والفضيلة والفقه والمفروض بأولي الأمر أن يكونوا كذلك إضافة إلى كونهم أئمّة وأولياء لأمور المسلمين، وذلك لما ذكر في الآية من العلم المفترض عند أولي الأمر كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أَوْلِي الأَمْرِ
ص: 57
منْهُمْ لَعَلَمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (1) حيث حثّت الآية على الرجوع إليهم في أمور الدين أيضاً، ممّا يدل أن (أولي الأمر) لهم إحاطة واسعة بأمور الدين أيضاً، فلا يمكن أن يراد منهم أمراء الجيوش والسرايا، بالإضافة إلى أننا قد أثبتنا لزوم عصمتهم لإطلاق الطاعة لهم، وليس أمراء السرايا وقيادات الجيوش بأناس معصومين.
نعم.. اذا أرادوا من (أمراء السرايا): الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) - لأنه هو أول أمراء السرايا - أو أرادوا أهل الفقه والعلم والدين (2)، فالإمام عليٌ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أعلمهم بعد هو بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، أو أرادوا ما ذكر بان الآية نزلت في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث استخلفه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على المدينة - كما سيأتي - فلا خلاف حينئذ لأنه مسلّم العصمة لدى الإمامية كما هو الخليفة بعد النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولكن لا يمكن إرادة جميع أمراء السرايا، لما ذكرنا.
3 - ومن الأقوال في ذلك أنهم هم أهل الحل والعقد أي أنهم كبار أقوامهم أو من يمثل الأمة، بحيث إذا اجمعوا على شيء يقال أجمعت الأمة على ذلك، واستنتج الرازي في تفسيره لزوم عصمة إجماع الأمة بإجماع هؤلاء الجماعة حين إجماعهم على الرأي، ولكن لو أنصفنا وحكمنا العقل والواقع لم نصل إلى عصمة هؤلاء ولا إلى عصمة الأمة فيما إذا اختلف واحد منهم وتفرق عنها، فأين العصمة عند احد من سائر الناس؟ وأين العصمة
ص: 58
عند كلّ فرد فرد من الناس؟!
وهل إذا اجتمع غير المعصومين على رأي دلّ على عصمتهم في ذلك الرأي؟؟
وهل إذا اجتمعوا على رأي عُصموا عن الخطأ لمجرد اجتماعهم؟!
إنّ الإنسان إذا تأمل هذا الواقع الخارجي والذي وقع على الأرض لم يقل أبداً بعصمة أهل الحل والعقد، فلم تدلّ الويلات التي وقعت على الشعوب المسلمة طيلة فترة التاريخ على عصمة تلك الاجتماعات المفترضة لأهل الحل والعقد، هذا إذا قلنا انه بالفعل كانت هناك اجتماعات لأهل الحل والعقد أم أنهم بالفعل اتفقوا على شيء ولم يختلفوا فيه لكن واقع المسلمين - من يومهم إلى هذا اليوم - يشهد حصول مثل هذه الاتفاقات المجمع عليها حتى نعتبرهم أهلا للحل والعقد يكونوا بالفعل هم من يمثلون هذه الأمة، فلم نجد في سيرة المسلمين وتأريخهم أي لجان شكلوها لأن يمثلوهم في اجتماعات لأجل معالجة المشاكل ووضع الحلول لها حتى نؤمر بالرجوع إليهم وإطاعتهم بشكل مطلق، فأين هم أهل الحلّ والعقد ؟ وأين هو إجماع الأمة المعصوم من الخطأ ؟
نعم إن أريد من هذا الإجماع حضور واحد ممّن عصمهم اللّه تعالى من نبي أم إمام معصوم في ضمن تلك الجماعة ثم إجماعهم على أمر واحد فذلك إجماع معصوم وذلك لوجود الشخص المعصوم في ضمن ذلك الاجتماع وليس لمجرد الاجتماع والإجماع،
وقد يتوهم البعض ويقول : إن الآية قالت (وأولي الأمر منكم) وكلمة (منكم) تدلّ على أنهم بالفعل من سائر الناس (أي منكم انتم) وأهل الحل والعقد هم من الناس.
ص: 59
ولكن هذا التوهّم باطل لأن (منكم) هنا مثل (منهم) في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته..﴾ الآية (1) أي انه من البشر ومن الناس الذين تعرفونه وقد ميّزه اللّه تعالى عن سائر الناس حتى أصبح نبيّاً، كذلك ولي الأمر فهو من الناس إلا أن فيه مزية عليهم من العلم والعصمة وغير ذلك ممّا يُوجب طاعة الناس له بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وعلى أي حال.. هذه بعض الأقوال الأخرى في الآية ممّا لا تنسجم مع الأمر بالطاعة المطلقة الموجبة للعصمة ولا مع العقل والواقع ولا تتفق مع الأحاديث النبوية التي سنذكر بعضها هنا وهي تعتبر الدليل الآخر في حمل الآية على إرادة الأئمّة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ).
في هذه الجهة نستدلّ بالنصوص التي وردت عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في تفسيره للآية المباركة فإن من يلاحظ الأحاديث التي وردت في كتب الفريقين يراها هي الحقيقة وهي الواقع الذي ينبغي القول به والذهاب إليه من أن الآية تشير إلى أئمّة وأولياء للأمور جعلهم اللّه تعالى خلفاء على الأمة معصومين ومطهرين، كما هو معتقد الإمامية، وتجب طاعتهم والقول بإمامتهم
وإليك بعض هذه الأحاديث.
1 - ذكر الحاكم الحسكاني في تفسيره عن مجاهد قال (في قوله تعالى):
ص: 60
(يا أيها الذين آمنوا) يعني الذين صدقوا بالتوحيد (أطيعوا اللّه) يعني في فرائضه (وأطيعوا الرسول) يعني في سُنته (وأولي الأمر منكم) قال: نزلت في أمير المؤمنين حين خلّفه رسول اللّه بالمدينة فقال: أتخلّفني على النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال له: اخلفني في قومي وأصلح؟! فقال اللّه (وأولي الأمر منكم) قال: علي بن أبي طالب ولاه اللّه الأمر بعد محمد في حياته حين خلفه رسول اللّه بالمدينة، فأمر اللّه العباد بطاعته وترك خلافه (1).
2 - ذكر القندوزي الحنفي في ينابيع المودة بسنده إلى سليم بن قيس :قال سمعت علياً (صلوات اللّه عليه) يقول - وقد أتاه رجل فقال: أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمناً، وأدنى ما يكون به العبد كافراً، وأدنى ما يكون به العبد ضالاً؟
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) له : قد سألت فافهم الجواب، أمّا أدنى ما يكون به العبد مؤمناً، أن يُعرفه اللّه - تبارك وتعالى - نفسه فيقرّ له بالطاعة، ويُعرفه نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيقرَّ له بالطاعة، ويُعرفه إمامه وحجَّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له
ص: 61
بالطاعة.
قلت: يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟.
قال : نعم إذا أمر أطاع وإذا نهى انتهى وأدنى ما يكون العبد به كافراً، من زعم أن شيئاً نهى اللّه عنه أن اللّه أمره به ونَصَبه ديناً يتولى عليه ويزعم أنه يعبد اللّه أمره به، وما يعبد إلا الشيطان. وأما أدنى ما يكون العبد به ضالاً أن لا يعرف حجة اللّه - تبارك وتعالى - وشاهده على عباده الذي أمر اللّه (عز وجل) عباده بطاعته وفَرضَ ولايته.
قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي.
قال : الذين قرنهم اللّه تعالى بنفسه وبنبيِّه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
فقلت له : جعلني اللّه فداك أوضح لي.
فقال : الذين قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواضع وفى آخر خطبة يوم قبضه اللّه (عز وجل) إليه : (إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما: كتاب اللّه (عز وجل)، وعترتي أهل بيتي فان اللطيف الخبير قد عَهد إلى أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين - وجمع مسبحتيه - و لا أقوال كهاتين - وجمع مسبحته والوسطى - فتمسكوا بهما ولا تقدموهم فتضلّوا (1).
3 - ذكر القندوزي عن الحمويني في حديث المناشدة في مسجد المدينة وبالإسناد عن سليم بن قيس الهلالي قال: رأيت علياً في مسجد المدينة في خلافة عثمان أن جماعة المهاجرين والأنصار يتذاكرون فضائلهم وعلي
ص: 62
ساکت. فقالوا: يا أبا الحسن تكلّم.
فقال: يا معشر قريش والأنصار أسألكم بمن أعطاكم اللّه هذا الفضل أبأنفسكم أو بغيركم ؟
:قالوا أعطانا اللّه ومن علينا بمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
قال: ألستم تعلمون أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : إني وأهل بيتي كنا نوراً نسعى بين يدي اللّه تعالى، قبل أن يخلق اللّه (عزَّ وجل) آدم بأربعة عشر ألف سنة، فلما خلق اللّه آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وضع ذلك النور في صلبه وأهبطه إلى الأرض، ثم حَمَله في السفينة في صلب نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم قذف به في النار في صلب إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ). فلم يزل اللّه ينقلنا من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة من الآباء والأمهات لم يكن واحد منا على سفاح قط؟
فقال أهل السابقة وأهل بدر وأحد: نعم. قد سمعناه.
ثم قال : أنشدكم اللّه، أتعلمون أن اللّه (عزَّ وجل) فضل في كتابه السابق على المسبوق في غير آية ولم يسبقني أحد من الأمة في الإسلام؟
قالوا: نعم.
قال: فأنشدكم اللّه، أتعلمون حيث نزلت: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ). سُئل عنها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال : أنزلها اللّه (عز وجل) في الأنبياء وأوصيائهم، فأنا أفضل أنبياء اللّه ورسله وعلي وصيي أفضل الأوصياء؟
قالوا: نعم.
قال : أنشدكم اللّه أتعلمون حيث نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وحيث نزلت : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
ص: 63
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) وحيث نزلت: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) وأمر اللّه (عزّ وجل) فيه أن يُعلمهم ولاة أمرهم، وأن يُفسّر لهم من الولاية كما فسَّر لهم من صلاتهم وزكاتهم وحجهم، فَنَصبني للناس بغدير خم، فقال: أيها الناس إن اللّه جل جلاله أرسلني برسالة ضاق بها صدري، وظننت أن الناس مكذبي، فأوعدني ربي. ثم قال: أتعلمون أن اللّه (عز وجل) مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه. فقال آخذاً بيدي من كنت مولاه فعلي مولاه. اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه. فقام سلمان :وقال يا رسول اللّه : ولاء علي ماذا ؟ قال : ولاؤه كولائي من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه فنزلت: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا). فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : اللّه أكبر بإكمال الدين وإتمام النعمة ورضا ربي برسالتي وولاية علي بعدي. قالوا: يا رسول اللّه، هذه الآيات في علي خاصة ؟ قال : بلى، فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة. قال: بينهم لنا. قال: علي أخي ووارثي ووصيي وولي كلّ مؤمن بعدي. ثم ابني الحسن ثم الحسين ثم التسعة من ولد الحسين، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض.
قال بعضهم : قد سمعنا ذلك وشهدنا وقال بعضهم: قد حفظنا جُل ما قلت ولم نحفظ كلَّه، وهؤلاء الذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا.
ثم قال: أتعلمون أن اللّه أنزل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). فجمعني وفاطمة وابنيَّ حسناً وحسيناً، ثم
ص: 64
ألقى علينا كساء وقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي، لحمهم لحمي، يؤلمني ما يؤلمهم، ويجرحني ما يجرحهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقالت أم سلمة وأنا يا رسول اللّه ؟! فقال : أنت إلى خير.
قالوا: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك.
ثم قال : أنشدكم اللّه، أتعلمون أن اللّه أنزل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ). فقال سلمان یا رسول اللّه هذه عامة أم خاصة؟ :قال أمّا المأمورون فعامّة المؤمنين. وأمّا الصادقون فخاصة، أخي علي وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة.
قالوا: نعم.
فقال : أنشدكم اللّه أتعلمون أني قلتُ لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في غزوة تبوك - : خلفتني على النساء والصبيان. فقال: إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك. وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟
قالوا: نعم.
قال : أنشدكم اللّه أتعلمون أن اللّه أنزل في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) إلى آخر السورة تقام سلمان فقال : يا رسول اللّه، من هؤلاء الذين أنت عليهم شهيد وهم شهداء على الناس الذين اجتباهم اللّه ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ملَّة إبراهيم ؟ فقال: ؟ فقال: عنى بذلك ثلاثة عشر رجلاً. قال سلمان: بينهم لنا يا رسول الله. قال : أنا وأخي وأحد عشر من ولدي؟
قالوا: نعم.
قال : أنشدكم اللّه أتعلمون أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال في خطبته في مواضع
ص: 65
متعددة، وفي آخر خطبة لم يخطب بعدها (أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فتمسكوا بهما لن تضلّوا، فإن اللطيف الخبير أخبرني وعَهد إلى أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض؟)
:)
فقال كلُّهم نشهد أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال ذلك. (1)
أيّها القارئ الكريم: هذا بعض ما في مصادر المسلمين من غير الشيعة.
1 - في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بإسناده إلى سليم بن قيس الهلالي قال سمعت علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : قال لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : وقد اخبرني ربي جل جلاله أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك، فقلت: يا رسول اللّه ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم اللّه (عز وجل) بنفسه وبي فقال: (أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الآية. فقلت: يا رسول اللّه ومن هم ؟ قال: الأوصياء من آلي يَرِدون عليَّ الحوض كلُّه-م ه-ادين مهديين، لا يضرهم من خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم، ولا يفارقونه، بهم تُنصر أُمَّت وبهم يمطرون يُمطرون وبهم يُدفع عنهم البلاء وبهم يُستجاب دعاؤهم قلت یا رسول اللّه سمهم لي، قال: ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسن - ثم ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين - ثم ابن له يقال له علي سيولد في حياتك فاقرأه من السلام، ثم تكمله اثني عشر إماماً، فقلت: يا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سِّمهم لي رجلاً رجلاً،
ص: 66
فقال : فيهم والله يا أخا هلال مهديُّ هذه الأمّة (1).
2 - عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : لما انزل اللّه (عز وجل) على نبيّه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» قلت: يا رسول اللّه عرفنا اللّه ورسوله فمن أولوا الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك ؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدى، أوَّلهم علي بن أبي طالب ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي - المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه من السلام - ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي وكنيّي حجة اللّه في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح اللّه (تعالى ذكره) على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن اللّه قلبه للإيمان قال :جابر فقلت له : يا رسول اللّه فهل ينتفع الشيعة به في غيبته فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): أي والذي بعثني بالنبوّة أنهم ينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وان تجلاها السحاب، يا جابر هذا من مكنون سر اللّه ومخزون علمه فاكتمه إلا عن أهله (2).
3 - عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه (عزَّ وجل) : (أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فقال: نزلت في
ص: 67
علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ).. إلخ (1).
ايها القارئ الكريم: هذه ثلاثة أحاديث من بين الأحاديث الكثيرة المروية حول معنى الآية والمقصود من (أولي الأمر).
لماذا لم يُذكر اسم الإمام في القرآن (2)
وإتماماً للفائدة انقل - لك أيُّها القارئ الكريم - تمام هذا الحديث و فيه إجابة على سؤال يطرحه البعض بين حين وآخر - وربما يتجاهل البعض هذا الجواب ويستمر بهذا السؤال وهو: لماذا لم يصرح القرآن الكريم باسم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) و انه خليفة لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟، هذا السؤال طرحه أبو بصير على الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله : إن الناس يقولون : فما له لم يُسمَّ علياً وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) في كتاب اللّه عز و جل ؟
قال : فقال : (عَلَيهِ السَّلَامُ) (قولوا لهم: إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نزلت عليه الصلاة ولم يُسم اللّه لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يُسمّ لهم من كلّ أربعين درهما درهم، حتى كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي فسَّر ذلك لهم، ونزل الحج فلم يقل لهم طوفوا أسبوعاً حتى كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت : أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ- ونزلت في علي والحسن والحسين - فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في علي : (من كنت مولاه فعلي مولاه)
ص: 68
وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أوصيكم بكتاب اللّه وأهل بيتي فإني سألت اللّه (عز وجل) أن لا يُفرّق بينهما حتى يوردهما على الحوض، فأعطاني ذلك) وقال: (لا تعلّموهم فهم أعلم منكم) وقال : (إنهم لن يُخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة) فلو سکت رسول اللّه فلم يُبين من أهل بيته، لادعاها آل فلان وآل فلان لكنَّ اللّه (عزّ وجل) أنزله في كتابه تصديقاً لنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فأدخلهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تحت الكساء في بيت أم سلمة، ثم قال: (اللهم إنَّ لكل نبي أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي) فقالت أم سلمة : ألست أهلك ؟
من فقال : إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلى وثقلي.
فلمّا قُبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان علي أولى الناس بالناس، لكثرة ما بلغ فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإقامته للناس وأخذه بيده، فلّما مضى علي لم يكن يستطيع علي - ولم يكن ليفعل - أن يُدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحداً من ولده، إذاً لقال الحسن والحسين: إن اللّه تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما بلَّغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك، فلما مضى (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أولى بها لكبره، فلما تُوفي لم يستطع أن يُدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله (عز وجل) يقول: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه) فيجعلها في ولده إذاً لقال الحسين: أمر اللّه بطاعتي كما أمر بطاعتك و طاعة أبيك وبلغ في رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما بلَّغ فيك وفي أبيك وأذهب اللّه عني الرّجس كما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى
ص: 69
الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا، ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فجرى تأويل هذه الآية: ﴿وَأُولُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه) ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين، ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : الرجس هو الشك، والله لا نشك في ربنا أبداً) (1).
الخلاصة:
ويتلخص الكلام في دلالة الآية على إمامة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما يلي:
1 - لما قرنت الآية بين لزوم طاعة أولي الأمر ولزوم طاعة النبيّ بشكل مطلق دلّ ذلك على عصمة أولي الأمر.
2 - ولّما لزم عصمتهم لزم أن يكونوا مجعولين من قبل اللّه تعالى لأن الناس لا يمكنهم معرفة المعصوم الا بتعريف اللّه تعالى لهم.
3 - ولقد جاءت الأحاديث الصريحة - عند الشيعة وأهل السنة - بان المراد من أولي الأمر في الآية هم الإمام علي وأولاده المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
و بذلك تكون هذه الآية من الآيات التي دلّت على إمامة الإمام على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 70
ص: 71
ص: 72
بسم اللّه الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس إِنَّ اللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الكافرين) (1).
هذه الآية المباركة من أوضح آيات القرآن الكريم دلالة على ولاية الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد جاء الاستدلال بها على ذلك واضحاً وجليّاً ومُحكماً بعد أن وردت الأحاديث الكثيرة من الطرفين لتؤكد على هذه الحقيقة، حيث صرحت تلك الروايات عن لسان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة والولاية له على المسلمين، وسنذكر بعض هذه الروايات بعد قليل.
وقبل الخوض في تفصيل الكلام نقف عند قصة الآية وشأن نزولها.
ذكر المؤرخون أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حج في السنة الاخيرة من حياته وحجّ
ص: 73
معه المسلمون من مختلف بقاع الجزيزة العربية ثم قفل راجعاً بعد أداء المناسك في طريقه الى المدينة المنورة وصل الى غدير خم (1) فنزلت آية التبليغ تأمره أن يبلغ المسلمين، بلاغاً مهماً في شأن خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فتوقف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن المسير وأمر أن يرجع من تقدم ويلحق به من تأخر، وبعد أن اجتمع عشرات الآلآف من الحجاج صلى رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بهم الظهر وخطب فيهم خطبة طويلة، وكان ممّا قال في خطبته (أمّا بعد: أيها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا مثل نصف عُمْر الذي قبله، وإنِّي أوشك أن أدعى فأجيب، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وجهدت، فجزاك اللّه خيراً.
قال: ألستُم تشهدون أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور ؟!!
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال : اللّهم اشهد.
ثم قال : أيها الناس ألا تسمعون
قالوا: نعم.
قال: فإنّي فَرَط على الحوض (2)، وأنتم واردون عليّ الحوض، وأنّ
ص: 74
عرضه ما بين صنعاء وبصرى(1)، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين!!
فنادى مناد وما الثَّقَلان يا رسول اللّه؟
قال : التَّقَل الأكبر : كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّوجلّ، وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلّوا. والآخر الأصغر: عترتي. وإن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يتفرّقا حتى يردا علي الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تَقدَّموهما ؛ فتَهلكوا، ولا تُقصروا عنهما ؛ فتَهلكوا.
ثم أخذ بيد على فرفعها - حق رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون - فقال: (أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم)؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم قال : (إنّ اللّه،مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؛ فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات، وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرات - ثمّ قال: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وأحب من أحبّه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيث دار ألا فليُبلغ الشاهد الغايب))(2).
ص: 75
هذا مجمل الواقعة والروايات متفقة اجمالاً على رفع يد علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)والقول فيه (من كنت مولاه فهذا على مولاه) وقد ذكر العلّامة الأميني في كتابه موسوعة الغدير أسماء مائة أسماء مائة وعشرين من الصحابة واربعة وثمانين من التابعين وثلاثمائة وستين من كبار ومشاهير العلماء والمؤرخين ممّن نقلوا هذا الحديث وأسندوه إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
فمن الصحابة عبد : اللّه بن العباس وجابر بن عبد اللّه الانصاري وعبد اللّه بن مسعود وأبو هريرة وزيد بن أرقم وغيرهم.
قال ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري: وَأَمَّا حَديث (مَنْ كُنْت مَوْلاهُ فَعَلِي مَوْلاهُ) فَقَدْ أَخْرَجَهُ التَّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي، وَهُوَ كَثِيرِ الطُّرق جدًا، وَقَدْ اسْتَوْعَبَهَا ابْن عُقْدَة فِي كِتَاب مُفْرَد، وَكَثِير مِنْ أَسَانِيدهَا صِحَاحٍ وَحِسَانٍ، وَقَدْ رُوينَا عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد قَالَ: مَا بَلَغَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَة مَا بَلَغَنَا عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب (1).
وذكر المتقي الهندي في كنزه قال: كنا بالجحفة بغدير خم إذ خرج علينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه (2).
وفي عمدة القاري: قال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين : معناه: بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي طالب (رضي اللّه تعالى عنه)
ص: 76
فلما نزلت هذه الآية أخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه (1).
وفي معرفة الصحابة عن زيد بن أرقم، قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (من كنت مولاه فعلی،مولاه، اللّهم وآل من والاه وعاد من عاداه) (2).
وفي السنن الكبرى (قام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: ((ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه) قالوا بلى نحن نشهد لأنت أولى بكلِّ مؤمن من نفسه قال: ((فإني من كنت مولا فهذا مولاه)) وأخذ بيد علي) (3).
وفي الترمذي أخبر شعبة عن سلمة بن كهيل قال : سمعت أبا الطفيل يحدث عن أبي سريحة أو زيد بن أرقم - شك شعبة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : (من كنت مولاه فعلي مولاه)(4).
ويمكن مراجعة المصادر الكثيرة لمن أراد المزيد من المعرفة (5).
وقبل مناقشة حديث الغدير نذكر طريقين عن قصة حديث الغدير أحدهما من مصدر أتباع أهل البيت وآخر من مصادر غيرهم..
ص: 77
عن الإمام الباقر أبي جعفر محمد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أنه قال: (حج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من المدينة وقد بلغ جميع الشرايع قومه غير الحج والولاية، فأتاه جبرائيل اللّه فقال له : يا محمد إن اللّه (جلَّ اسمه) يقرئك السلام ويقول لك: إني لم أقبض نبيّاً من أنبيائي ولا رسولاً من رسلي إلا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي، وقد بقي عليك من ذلك فريضتان ممّا يحتاج أن تبلغها قومك: فريضة الحج وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فإني لم أخل أرضي من حجة، ولن أخلّيها أبداً، فإن اللّه (جل ثناؤه) يأمرك أن تبلغ قومك الحج، وتحج ويحجّ معك كلّ من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب، وتعلّمهم من معالم حجهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك على مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم من الشرايع.
فنادى منادي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الناس: (ألا إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يريد الحج، وأن يعلمكم من ذلك مثل الذي علمكم من شرايع دينكم، ويُوقفكم من ذلك على ما أوقفكم عليه من غيره) فخرج (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وخرج معه الناسوأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله، فحجَّ بهم وبلغ من حج مع رسول اللّه - من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب - سبعون ألف إنسان أو يزيدون على عدد أصحاب موسى السبعين الألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون فنكثوا واتبعوا العجل والسامري وكذلك أخذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) البيعة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخلافة على عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة واتبعوا العجل سُنَّة بسُنّة ومِثْلا،مثل واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة. فلما وقف
ص: 78
بالموقف أتاه جبرائيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن اللّه تعالى فقال : يا محمد إن اللّه (عزَّ وجل) يقرؤك السلام ويقول لك : إنه قد دنا أجلك ومدتك وأنا مستقدمك على ما لا بُدَّ منه ولا عنه محيص، فاعهد عهدك ونفّذ وصيتك واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء، فسلّمها إلى وصيّك وخليفتك من بعدك حُجّي البالغة على خلقي علي بن أبي طالب، فأقمه للناس وجدد عهده وميثاقه وبيعته، وذكرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم به، وعهدي الذي عهدت إليهم من ولاية وليّي ومولاهم ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة: علي بن أبي طالب، فإنّي لم أقبض نبيّا من الأنبياء إلا من بعد إكمال ديني وإتمام نعمتي على خلقي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليّي وطاعته، وذلك أني لا أترك أرضي بغير قيم ليكون حجة لي على خَلقي، فاليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي بوليّي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة علي عبدي ووصي نبيي والخليفة من بعده، حجّتي البالغة على خَلقي، مقرونة طاعته بطاعة محمد نبيي، ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتي، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني جعلته علَماً بيني وبين خلقي، من عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً، ومن أشرك ببيعته كان مشركاً، ومن لقيني بولايته دخل الجنة ومن لقيني بعداوته دخل النار فأقم يا محمد عليا عَلَماً، وخُذْ عليهم البيعة، وجدد عهدي وميثاقي لهم وبالذي واثقتهم عليه، فإني قابضك إلي ومستقدمك عليَّ)).
فخشي رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا
ص: 79
ويرجعوا جاهلية، لما عرف من عداوتهم ولما تنطوي عليه أنفسهم لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من البغضاء وسأل جبرائيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يسأل ربه العصمة من الناس، وانتظر جبرائيل بالعصمة من الناس من اللّه (جلّ اسمه)، فأخر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرائيل في مسجد الخيف فأمره بأن يعهد عهده ويُقيم علياً عَلَما للناس، ولم يأته بالعصمة من اللّه (جل جلاله بالذي أراد حتى بلغ كراع الغميم بين مكة والمدينة، فأتاه جبرائيل فأمره بالذي أتاه فيه من قبل اللّه تعالى ولم يأته بالعصمة، فقال: (يا جبرائيل إني أخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي) فرحل فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرائيل على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتهار والعصمة من الناس، فقال: يا محمد إن اللّه (عز وجل) يقرئك السلام ويقول لك: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علي (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) وكان أوائلهم قريباً من الجحفة، فأمر بأن يُردِّ من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم من ذلك المكان ليقيم علياً للناس. ويبلغهم ما أنزل اللّه تعالى في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأخبره أن اللّه (عز وجل) قد عصمه من الناس فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)- عندما جاءته العصمة - مناديا ينادي: الصلاة جامعة ويردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخر، وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير، أمره بذلك جبرائيل عن اللّه عزّ وجل) وفي الموضع سلمات (1) فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يقمَّ ما تحتهن وينصب له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أحجار كهيئة المنبر ليُشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس أواخرهم
ص: 80
في ذلك المكان لا يزالون فقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فوق تلك الأحجار فقال: الحمد للّه الذي علا في توحُّده، ودنا في تفرُّده، وجل في سلطانه، وعظم في أركانه....
إلى ان قال : وأشهد له بالربوبية وأؤدِّي ما أوحى إلي حذراً من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته. لا إله إلا هو، لأنه قد أعلمني إن لم أبلغ ما أنزل إلي فما بلغتُ رسالته، وقد ضمن لي (تبارك وتعالى) العصمة، وهو اللّه الكافي الكريم فأوحى لي:
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
معاشر الناس ما قصَّرْتُ في تبليغ ما أنزله، وأنا مُبيِّن لكم سبب هذه الآية: إن جبرائيل هبط إلي ثلاثا يأمرني عن السلام ربي - وهو السلام - أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كلّ أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي والإمام من بعدي، الذي محلّه مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وهو وليكم بعد اللّه ورسوله، وقد أنزل اللّه (تبارك وتعالى) علي بذلك آية من كتابه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) وعلي بن أبي طالب أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع يريد اللّه (عز وجل) في كلّ حال، وسألت جبرائيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم - أيها الناس - لعلمي بقلة المتقين وكثرة المنافقين وإدغال الآثمين وختل المستهزئين بالإسلام الذين وصفهم اللّه في كتابه بأنهم (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ * وَتَحْسَبُونَهُ
ص: 81
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللّه عَظِيمٌ) وكثرة أذاهم لي غير مرّة حتى سمَّوني أُذُنا، وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه حتى أنزل اللّه (عز وجل) في ذلك: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنٌ) على الذين يزعمون أنه أُذُن (خير لكم) الآية. ولو شئتُ أن أسمي بأسمائهم لسميتُ وأن أومى إليهم بأعيانهم لأومأتُ وأن أدلّ عليهم لدللت، ولكني والله في أمورهم قد تكرّمتُ، وكلّ ذلك لا يرضى اللّه مني إلا أن أبلغ ما أنزل لي.
ثم تلا : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علي (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فاعلموا معاشر الناس: إن اللّه قد نصبه لكم وليّا وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى العجمي والعربي، والحرّ والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كلّ موحد، ماض حكمه، جایز قوله، نافذ أمره، ملعون من خالفه، مرحوم من تبعه، من صدقه فقد غفر اللّه له ولمن سمع منه وأطاعَ له.
معاشر الناس: إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم فإن اللّه (عزّ وجل) هو مولاكم وإلهكم ثم من دونه رسولكم محمد وليكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر اللّه ربِّكم، ثم الإمامة في ذريتي من ولدي إلى يوم تلقون اللّه (عز وجل) ورسوله لا حلال إلا ما أحله اللّه، ولا حرام إلا ما حرمه اللّه، عرفني الحلال والحرام، وأنا أفضيتُ بما علّمني ربي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.
معاشر الناس ما من علم إلا وقد أحصاه اللّه في، وكل علم علمتُ فقد
ص: 82
أحصيتُه في إمام مبين، وما من علم إلا علمته عليّاً وهو الإمام المبين.
معاشر الناس لا تضلُّوا عنه ولا تنفروا منه، ولا تستنكفوا من ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحقّ ويعمل به ويزهق الباطل وينهى عنه، ولا تأخذه في اللّه لومة لائم، ثم إنه أول من آمن باللّه ورسوله، والذي فدى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بنفسه، والذي كان مع رسول اللّه ولا أحد يعبد مع رسول اللّه من الرجال غيره.
معاشر الناس : فضّلوه فقد فضَّله اللّه، واقبلوه فقد نصَبه اللّه.
معاشر الناس: إنه إمام من اللّه، ولن يتوب اللّه على أحد أنكر ولايته ولن يغفر له، حتماً على اللّه أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه، وأن يعذبه عذاباً نُكرا أبد الأبد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
أيها الناس بي - والله - بشر الأولون من النبيين والمرسلين، وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجة على جميع المخلوقين من أهل السماوات والأرضين، فمَن شك في ذلك فهو كافر كُفْرَ الجاهليّة الأولى،، ومن شك في قولي فقد شكّ في الكلّ منه، والشاك في ذلك فله النار.
معاشر الناس: حباني اللّه بهذه الفضيلة مناً منه منه عليّ عليّ وإحساناً منه إليّ، ولا إله إلا هو له الحمد مني أبد الأبدين ودهر الداهرين على كلّ حال.
معاشر الناس: فضّلوا عليّاً فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى. بنا أنزل اللّه الرزق وبقي الخلق ملعون ملعون مغضوب مغضوب على من ردّ قولي هذا ولم يوافقه ألا إن جبرائيل خبرني عن اللّه تعالى بذلك ويقول : من عادى علياً ولم يتولّه فعليه لعنتي وغضبي فلتنظر نفس ما قدمت
ص: 83
لغد واتقوا اللّه أن تخالفوه فتزل قدم بعد ثبوتها، إن اللّه خبير بما تعملون.
معاشر الناس: إنه جنب اللّه تعالى في كتابه (يا حسرتي على ما فرَّطَتُ في جنب اللّه).
معاشر الناس: تدبّروا القرآن وافهموا آياته، وانظروا محكماته، ولا تتبعوا متشابهه، فوالله لن يُبيِّن لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلاّ الذي أنا آخذ بیده و شائل بعضده و مُعلمكم أنَّ مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهو علي بن أبي طالب أخي،ووصيّي وموالاته من اللّه (عز وجل) أنزلها عليَّ.
معاشر الناس: إن علياً والطيبين من وُلدي هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، فكلّ واحد يُنبئ عن صاحبه وموافق له لن يفترقا حتى يردا على الحوض، أمناء اللّه في خلقه وحكماؤه في أرضه.
ألا وقد أدّيت؟! ألا وقد بلغت؟! ألا وقد أسمعت؟! ألا وقد أوضحت؟! ألا وإن اللّه عزَّ وجل قال وأنا قلتُ عن اللّه (عز وجل) ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحلّ إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.
ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه (وكان منذ أول ما صعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ))
ثم قال : معاشر الناس هذا علي أخي ووصيي وواعي علمي وخليفتي على أُمتي وعلى تفسير كتاب اللّه (عز وجل) والداعي إليه، والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه والموالي على طاعته، والناهي عن معصيته،
خليفة رسول اللّه وأمير المؤمنين والإمام الهادي، وهو قاتل الناكثين
ص: 84
والقاسطين والمارقين بأمر اللّه،
أقول : ما يبدل القول لديَّ بأمر ربي
أقول: اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه والعن من أنكره وأغضب على من جحد حقه، اللّهم إنك أنت أنزلت عليَّ في كتابك أن الإمامة لعلي وليّك عند تبياني ذلك، ونَصبي إيّاه بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم نعمتك ورضيت لهم الإسلام دينا فقلت: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين) اللّهم إني أشهدك أني قد بلّغتُ....)) إلى آخر الخطبة (1)..
واما الحديث باسناد اهل السنة ومصادرهم فقد ذكر الشيخ الاميني عدة من المصادر، منها ما ذكره مفصلاً عن الحافظ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310 ه- في كتاب (الولاية في طرق حديث الغدير) (2).
ألا أنني أكتفي هنا بمصدرين:
الأول: ذكر السيوطى في تفسيره (3).
قال: أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)
ص: 85
قال: إن اللّه بعثني برسالة فضقتُ بها،ذرعاً، وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغن أو ليُعذِّبني، فأنزل : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).
قال : وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد، قال: لما نزلت (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع ؟ يجتمع على الناس ؟!
فنزلت (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
قال وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - يوم غدير خُمّ - في علي بن أبي طالب.
قال: وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود، قال: كنا نقرأ على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ان علياً مولى المؤمنين (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
الثاني نقل الآلوسي رواية، وقال عن سندها: قال الذهبي: إنه صحيح، عن زيد بن أرقم،
قال : لما رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حجة الوداع ونزل غدير خُمّ، أمر بدوحات فغممن.
ثم قال: (كأني قد دعيت فأجبت - إني قد تركت فيكم الثقلين: كتاب اللّه تعالى وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تُخلفوني فيهما؟! فإنهما لن
ص: 86
يفترقا حتى يردا علي الحوض، اللّه تعالى مولاي وأنا ولي كلّ مؤمن) أخذ بيد عليٍّ كرم اللّه تعالى وجهَه فقال : (من كنتُ مولاه فهذا وليّه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه)، فما كان في الدوحات أحد إلاّ رآه بعينيه وسمعه بأذنيه (1).
وقد صرحت بعض الروايات أن تبليغ هذه الرسالة (ولاية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على (عَلَيهِ السَّلَامُ) الناس بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)) كان بدايته يوم التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة) إلا أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان ينتظر أن يُنزل اللّه تعالى عليه العصمة والحصانة الخاصة له من المنافقين وممن لا يتحملون تعيين الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة وممن يخشى عودتهم العلنية إلى الشرك والجاهلية (2) فلما نزل قول اللّه تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أوقف الناس حينئذ في غدير خم وأبلغهم ما نزل عليه من يوم عرفة وما تلاه من التأكيدات في شأن تبليغ الخلافة إلى يوم الثامن عشر من ذي الحجة.
وبناءً على هذا.. ليس هناك أي تناف بين من قال أن الآيات نزلت في يوم عرفة وبين من اعتبرها نازلة يوم الغدير.
ص: 87
قال العلّامة الطباطبائي في الميزان: إن هاهنا أمراً يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الآيتين الكريمتين: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) (الآية) - على ما سيجيء من بيان معناه - وقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) والأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الإسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلاً قبل يوم الغدير بأيام، وكان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتَّقي الناس في إظهاره ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يُسيئوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخّر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) (الآية) فلم يمهل في ذلك. وعلى هذا فمن الجائز أن يُنزل اللّه سبحانه معظم السورة وفيه قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (الآية) ويُنزل معه أمر الولاية كلّ ذلك يوم عرفة فأخر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة.
وأمّا اشتمال بعض الروايات على نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في
شأنها. وعلى هذا فلا تنافى بين الروايات أعني ما دل على نزول الآية في أمر الولاية، وما دل على نزولها يوم عرفة) (1).
ويؤيد ما ذكره العلّامة الطباطبائي في تفسيره ما روي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) من أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لما وقف الموقف في عرفات أتاه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 88
عن اللّه سبحانه وتعالى بضرورة تبليغ ولاية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيان مكانته (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلقد جاء في رواية الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (فخشي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قومه وأهل النفاق والشقاق أن يتفرقوا ويرجعوا جاهلية، لما عرف من عداوتهم وما يبطنون عليه أنفسهم لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من البغضاء. سأل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يسأل ربَّه العصمة من الناس و انتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة من الناس من اللّه (عز وجل) فأخرَّ ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف فأتاه جبرئيل اللّه في مسجد الخيف فأمره أن يعهد عهده ويقيم علياً للناس، ولم يأته العصمة من اللّه تعالى بالذي أراد، حتى أتى كراع العميم بين مكة والمدينة فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أمر به من قبل، ولم يأته بالعصمة، فقال: يا جبرئيل إني لأخشى قومي أن يكذبوني ولا يقبلوا قولي في علي. فرَحَل، فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على خمس ساعات مضت من النهار بالزجر والانتصار والعصمة من الناس فقال يا محمد إن اللّه (عز وجل) يقرؤك السلام ويقول لك : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).. الآية.. الى آخر الحديث (1).
أيُّها القارئ الكريم : قد تتساءل وتقول : ما معنى خوف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟ الجواب من الواضح أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يكن يخاف على نفسه لأن اللّه تعالى يقول: ﴿إِنَّمَا ذَلَكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون
ص: 89
إن كُنتُم مُّؤْمِنينَ)(1)، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رَسَالَات اللّه وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللّه وَكَفَى باللّه حَسِيبًا) (2)، وإنّما خوفه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمعنى الحذر من تمرُّد القوم ورجوعهم عن الدين وتعرّض الدين للخطر من الأساس. وان اللّه تعالى قد يكون اخبره بان المكان والزمان المناسب لذلك هو يوم الثامن عشر وفي منطقة الغدير وبعد نزول العصمة له فكان تأخير النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليس تماهلاً أو تباطئاً أو تلكثاً في الأمر بل كان حكمة وانتظاراً لآخر مهلة له وانتهائها بنزول العصمة من المنافقين.
ولعلّ الآية أشارت إلى هذا المعنى بقولها (بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فانه أمر قد انزل من قبل والآن يا رسول اللّه قد حان موعد تبليغه فبلِّغه..
وينبغي أن يقال أيضاً: إن هذا الحذر والخوف بالطبع لم يكن من المشركين والكفار فانه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما خافهم يوم قلة أنصاره وبداية بعثته وما ها بهم يوم كَسَر أصنامهم فهل يخافهم اليوم وقد كسرت شوكتهم وخمدت نيرانهم حتى رضوا به حاكماً عليهم ووافقوا على إعطاء الجزية والضريبة صاغرین؟؟!!
بالتأكيد لم يكن الحذر والخوف منهم وإنّما كان ممّن ستخيب آمالهم بالتنصيص على خليفة لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من غيرهم. فكان الحذر والخوف من المنافقين والذين في قلوبهم مرض لاسيّما أولئك الذين ملأت قلوبهم حقداً وضغناً وحسداً على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث قتل أبطالهم من جهة، ولما له
ص: 90
من مكانة عظيمة عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من جهة أخرى، وهذا يدل ويؤكد على أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالفعل أراد تبليغ موضوع الإمامة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يرد تبليغ موضوع يرتبط بأهل الكتاب أو تبليغ حكم عادي من أحكام الشريعة.
هناك بعض الأسئلة التي قد تُطرح في مجال التحدث عن هذه الآية.. ونحن نطرحها ونحاول الإجابة عليها بحول اللّه تعالى:
ما هو المراد من كلمة (مولاه)
السؤال الأول: إن الاستدلال بحديث الغدير على ولاية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مبني على أن المراد من قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (من كنت مولاه فهذا على مولاه) هو من كنت أنا وليّه وإمامه فهذا علي كذلك وليه. ولكن قد يراد من كلمة (مولاه) غير هذا المعنى، فقد ذكرت هناك معان كثيرة لهذه المفردة منها الصاحب والصديق والناصر والمحب وغير ذلك فكيف يتعيّن كون ما أراده النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من تلك الكلمة هو ما فُهم من شأن الخلافة والإمامة؟
الجواب: لقد أجيب هذا السؤال بوجوه عديدة، وإليك بعضها موجزاً :
أولاً : صحيح أن لكلمة (مولى) معان عديدة - وقد تجاوزت العشرين معنى كما ذكروا - ولكن اظهر المعاني فيها وأكثرها إرادة في الاستعمال لهذه المفردة هو معنى الأولوية بالأمر والأولوية بالتصرف في الأمور، وقد ذكر المفسرون في قوله تعالى: ﴿وَلَكُلِّ جَعَلْنَا مَوَاليَ ممّا تَرَكَ الْوَالدان والأَقْرَبُون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّه كَان عَلَى كلّ شَيْءٍ
ص: 91
شهيدا) (1) ذكروا أن المراد بالموالي من كان املك بالميراث وأولى بالتصرف به وبحيازته.. كما قالوا في تفسير قوله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (2) أي هي (النار) أولى بكم. فكلمة (مولى) يأتي استعمالها غالبا بمعنى الأولوية. كذلك أريد منها هذا المعنى في قوله تعالى: (بَل اللّه مَولاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين) (3) وفي قوله تعالى أيضاً: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (4) فحينما تُستعمل كلمة (مولى) يراد بها - في الأغلب - معنى أولى، فيكون ما أراده النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو من كنت أنا مولاه وأولى به وأحق به بالولاية والتصرف بأموره فهذا علي اللّه مولاه وأولى به كذلك..
ثانياً: إن من يتأمّل القرائن المحفوفة بواقعة الغدير وماجرى في ذلك اليوم و ما قبله و بعده وما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وما فعله وما أجاب به على اسئلة بعض الصحابة.. إن من يراجع هذه القضايا وغيرها لايشك بكونها قرائن ودلائل واضحة تدلّ وتشير بشكل جلي وواضح إلى ما أراده النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من قوله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) انه بالفعل إنما أراد من كلمة (مولى) هو معنى الولاية والخلافة والتصرف بالأمور...
ص: 92
والآن نذكر لك - أيُّها القارئ الكريم - بعض القرائن اللفظية والمقالية و القرائن الحالية التي يدلّ الحال فيها على ذلك :
فمن ذلك قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للناس وفي نفس الخطاب قبل تلك الجملة: (الستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم...فقالوا بلى) (1) وقد ذكر ذلك في مصادر متعددة، ومن الواضح أن من عادة أهل المنطق في خطاباتهم إذا أوردوا كلاماً مسبقاً ثم عطفوا عليه كلاماً يحتمل معان متعددة أن يحمل كلامهم الثاني على ما أرادوه من كلامهم السابق في الخطاب. هذا فضلاً عمّا ذكر ذلك في أكثر من قضيّة تدلُّ على نفس المعنى المراد ومنها ما نقله العلّامة شرف الدين في المراجعات (2) بسند صحيح عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة، قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمتُ على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذكرتُ علياً فتنقصتُه، فرأيتُ وجه رسول اللّه يتغيَّر، فقال: يا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، قال من كنت مولاه فعلي مولاه.
ومن القرائن اللفظية المشيرة إلى هذا المعنى ما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد إعلانه الخلافة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث قال : (هنِّئوني إن اللّه خصَّني بالنبوّة وخصَّ
ص: 93
أهل بيتي بالإمامة) (1) فهو دليل واضح على انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أراد من كلمة (مولاه) معنى الإمامة والخلافة حيث بها نصب عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة.
كما إن من القرائن أيضاً ما بيَّنه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بداية خطابه من انه يوشك أن يفارق الحياة حيث قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (يوشك أن أدعى فأجيب)، فقد ذكرت المصادر ومنها عن زيد بن أرقم قال خطب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، بغدير خم تحت شجرات، فقال: (أيها الناس يوشك أن أدعى فأجيب) (2) فهكذا تقديم بالكلام في مثل ذلك الخطاب دليل جلي على أنه يريد تعيين الخليفة
ص: 94
من بعده حيث أنه نعى إليهم نفسه الزكية تنبيهاً إلى أن الوقت قد استوجب تبليغ عهده، ولزم الاعلان بتعيين الخليفة من بعده وأنه لا يسعه تأخير ذلك مخافة أن يدعى فيجيب قبل إحكام هذه المهمة التي لا بد له من إحكامها ولا غنى لأمته عن إتمامها.
ومن القرائن اللفظيَّة أيضاً ما جاء شبيه ذلك في أحاديث كثيرة مروية عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد ذكرت كلمة (الولي) وأراد منها الخلافة والإمامة له بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمثلا.
قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (علي مني وأنا من علي وعلي وليُّ كلّ مؤمن بعدي) (1).
وكذلك ما قاله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه لما جعله في سرية قتال فغنم جارية فامتعض بعض من كان معه فد فدافع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبيَّن أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وليّهم بعده، فقد ذكر في مسند احمد عن عبد بن بريدة عن أبيه قال: بَعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بَعثين إلى اليمن على أحدهما علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال: إذا التقيتم فعلي على الناس وان افترقتما فكل واحد منكما على جنده، فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين فقتلنا المقاتلة وسبينا الذريَّة، فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه، قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يخبره بذلك، فلما أتيتُ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دفعتُ الكتاب فقرأ عليه فرأيت الغضب في وجه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقلت: يا رسول اللّه هذا مكان العائذ بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه ففعلت ما أرسلت به، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي وانه
ص: 95
مني وأنا منه وهو وليكم بعدي)(1).
ومن الواضح أن كلمة (بعدي) تدلّ وبالتأكيد على أن المراد من (وليُّكم) يعني إمامكم وخليفتكم وإلا فلا معنى للبعدية هنا.
ثانياً: القرائن الحاليّة.
فقد جرت أحداث ومواقف في ضمن قضية الغدير تدلُّ بوضوح على أن ما أراده النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من قوله : (فعلي مولاه) يعني هو المتولّي بعد النبيّ لأمور المسلمين وهو الإمام ويعني أن (مولى) بمعن أولى بهم.
فمن تلك القرائن الحاليَّة انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جمع الناس على كثرتهم وانتظر المتأخِّرين من القوافل حتى وصلوا إلى المنطقة التي هو فيها - وهي منطقة غدير خم - واستوقفهم ثلاثة أيام على تلك الأرض القاحلة الملتهبة، فبلغهم كلامه ثم أمرهم أن يسلموا على (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمرة المؤمنين والولاية فكان كلّ منهم يدخل عليه ويسلّم عليه بذلك وكان ممّن دخل عليه عمر بن الخطاب وقال له مهنّئاً : بخ بخ لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة (2).
ص: 96
فهذا الفعال وبأمر من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنما يدلُّ على أن الخطاب كلّه كان لأجل إبلاغ خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهذا من القرائن الواضحة على ذلك (1).
ومن القرائن على ذلك : ما فهمه المخاطَبون من قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) فقد فهم الناس أن النبيّ قد عيّن عليا خليفة وإماماً يوم الغدير بهذا الإعلان.. وإليك بعض التفصيل:
فمثلاً حسّان بن ثابت استأذن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأبيات انشدها بعد استماعه لذلك الخطاب وقال بالمناسبة في ضمن أبياته :
يناديهم يوم الغدير نبيُّهم***بخمٍّ وأسمع بالرسول مناديا
فقال فمن مولاكم ونبيُّكم***فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
ص: 97
إلهك مولانا وأنت نبيُّنا***ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له قم يا عليّ فإنني***رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه***فكونوا له أتباع صدق مواليا
...إلخ (1).
وبما أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مدحه بقوله: (لا تزال يا حسّان مؤيَّداً بروح القدس، ما نصرتنا بلسانك) ولم ينكر عليه ذلك، فهو دليل واضح على أن ما فهمه حسّان هو مراد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
كذلك ما فهمه قيس بن سعد بن عبادة، سيد النقباء من الأنصار، حيث قال بمحضر الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في شعره
وعلي إمامنا وإمام***لسوانا أتى به التنزيل
يوم قال النبيّ من كنت مولاه***فهذا مولاه خطب جليل (2)
وقالوا إن قيساً من فصحاء العرب، لا تغيب عنه المعاني المرادة، وأيضاً سكوت أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه إقرار له وتأييد لفهمه الصحيح من واقعة الغدير.
ص: 98
وهكذا فهمه حتى العدوّ والحقود على عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)وهو النعمان بن الحارث الفهري والذي جاء للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) معترضاً عليه تنصيبه علياً خليفة من بعده، فقد ذكر الحسكاني في تفسيره (1) حديثاً مسنداً الى اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: ما نَصب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. طار ذلك في البلاد، فقدمَ على رسول اللّه النعمان بن الحرث الفهري فقال : أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلا اللّه، وأنك رسول اللّه، وأمرتنا بالجهاد والحج والصلاة والزكاة والصوم فقبلناها منك، ثم لم ترض حق نصبت هذا الغلام فقلت : من كنت مولاه فهذا مولاه مولاه فهذا مولاه فهذا شيء منك أو أمر من عند اللّه؟ قال: أمر من عند اللّه قال : اللّه الذي لا إله إلا هو إن هذا من اللّه ؟ قال : اللّه الذي لا إله إلا هو إن هذا من اللّه. قال: فولى النعمان وهو يقول: (اللهم) إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله فأنزل اللّه تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقع) (2).
وحتى عمرو بن العاص المناوئ للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) صرَّح بان ما أراده
ص: 99
النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من واقعة الغدير ومن قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) هو تنصيبه للخلافة ولامرة المؤمنين، فقد بيّن ذلك من خلال القصيدة التي بعث بها إلى معاوية لما اختلف معه في شأن خراج وضرائب مصر والتي تسمى بالقصيدة الجلجلية يقول في مطلعها:
معاوية الحال لا تجهل***وعن سُبل الحقّ لا تعدل
إلى أن يقول :
نصرناك من جهلنا يا بن هند***على النبأ الأعظم الأفضل
وحيث رفعناك فوق الرؤوس***نزلنا إلى أسفل الأسفل
وكم قد سمعنا من المصطفى***وصايا مخصَّصة في علي
وفي يوم خم رقى منبراً***يبلِّغ والركب لم يرحل
وفي كفِّه كفُّه مُعلناً***ينادي بأمر العزيز العلي
ألست بكم منكم في النفوس***بأولى ؟ فقالوا: بلى فافعل
فأنحله إمرة المؤمنين***من اللّه مستخلف المنحل
وقال: فمن كنت مولى له***فهذا له اليوم نعم الولي (1)
والقصيدة طويلة ونلاحظ تصريحه أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد أنحل عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمرة المؤمنين مستفيداً ذلك من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (فمن كنت مولاه فعلي مولاه).
سؤال: لعلّ قائلاً يقول : إن عمرواً وأمثاله لم يتولوا علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وما
ص: 100
انضووا تحت إمامته فكيف خالفوا ما عرفوا ؟
الجواب فنقول : هؤلاء كما قال اللّه تعالى:
(وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (1).
أيَّها القارئ الكريم نكتفي بهذا المقدار في مجال التحدث عن القرائن اللفظية والحاليَّة التي دلت على أن المراد من كلمة (من كنت مولاه فعلي مولاه هو من كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وليّه وقائده فكذلك الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعده.
الإستفسار الثاني :
إنَّ من المحتمل أن لا تكون للآية علاقة لموضوع الخلافة، وذلك لأننا حينما نرجع إلى آية التبليغ نجدها في سياق آيات تتحدث عن أحكام شرعية تتعلق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ نلاحظ الآية توسطت تلك الآيات، حيث تقول الآيات في سورة المائدة : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْت أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصدَةٌ وكَثيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّعْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّه لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ
ص: 101
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرين) (1) وهذا السياق بعيد عن موضوع الخلافة والإمامة بل السياق في هذه الآيات يدلُّ على أن الآية أرادت من النبيّ أن لا يخشى اليهود ولا النصارى بل يستمر في تبليغ رسالته.
نقول في جواب هذا الاستفسار :
أولا : الآية المباركة حالها حال الكثير من الآيات القرآنية التي لا علاقة لها بما قبلها أو بما بعدها، فمن الواضح أن آيات القران الكريم ما رتبت وفق ترتيب نزولها، كما هو الحال في آية التطهير.
ثانياً: إنّ نزول هذه الآية كان في أواخر عمر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يعني في وقت كان(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بلّغ كلّ أو جُلّ الأحكام، وأيضاً لا يتناسب كلّ هذا التأكيد في الآية على تبليغ حكم فرعي من سائر الأحكام، إضافة إلى أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان قد بيّن في ضمن خطاب الغدير انه ما من شيء إلا وقد بلغه، فقد روي عنه قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في ضمن خطاب الغدير :
(معاشر الناس : ما من شيء يُقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه)(2) ويعني هذا أنه قد تم تبليغ كلّ الرسالة قبل ذلك اليوم.
ثالثا: إذا كانت للآية علاقة بإبلاغ حكم لليهود والنصارى كان مفادها أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد خشيهم في تبليغ رسالته مع انه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما ما خشيهم في
ص: 102
بداية دعوته مع قلّة أنصاره وأتباعه فكيف يخشاهم اليوم وقد قويت شوكة المسلمين وتضاعفت أعدادهم حتى جاء فاتحاً لمكة بجيش كبير بعدته وعتاده!؟.
رابعاً: ما هو الشيء والحكم البالغ في الأهمية لدى اليهود والنصارى حتى يكون عدم تبليغه يساوي ترك تبليغ جميع الرسالة ؟! بحيث قالت الآية (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)!!
في الحقيقة ليس شيء بأكثر أهمية وخطورة من أن تترك الأمة سدى دون تعيين إمام وخليفة عليهم بعد رحيل نبيهم.
خامساً وقبل كلّ ذلك.. كيف تُحمل الآية على وجوه أخرى من التفسير والمعاني بعد تواتر الروايات عند فرق المسلمين، ومن طرق عديدة على أنها نزلت في يوم الغدير وفي شان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1)!!!
ص: 103
الاستفسار الثالث:
مما ذكر في شأن نزول الآية أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اللّه كان قد استظل بظل شجرة ونام تحتها وقد علق سيفه عليها، فجاءه رجل من الأعداء فأخذ سيفه ثم أيقظ النبيّ وقال يا محمد من ينقذك مني الليلة ؟ فقال النبيّ اللّه. وفعلا أنقذه اللّه، فنزل قول اللّه تعالى : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). كما إن هناك أقوالاً أخرى في الآية ؟
الجواب: ما ذكر من أقوال أخرى في الآية معروفة بالضعف عند المفسرين حتى أن مَن ذَكَرها نَسَبها إلى القول الضعيف فقال قيل كذا وقيل كذا ومنهم الرازي والطبري، وقد قال العلّامة الاميني في الغدير معلقا على ذلك : وأما ما حَشَده الرازي في تفسيره من الوجوه العشرة (1) وجعل نص
ص: 104
الغدير عاشرها، وقصّة الأعرابي المذكور في تفسير الطبري ثامنها، وهيبة قریش مع زيادة اليهود والنصارى،تاسعها وقد عرفت حق القول فيهما، فهى مراسيل مقطوعة عن الإسناد غير معلومة القائل، ولذا عزي جميعها في تفسير نظام الدين النيسابوري إلى القيل وجعل ما روي في نص الولاية أول الوجوه، وأسنده إلى ابن عباس والبراء ابن عازب وأبي سعيد الخدري ومحمد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ). والطبري الذي هو أقدم وأعرف بهذه الشؤون أهملها رأسا، وهو وإن لم يذكر حديث الولاية أيضاً لكنه أفرد له كتابا أخرجه فيه بنيف وسبعين طريقا كما سبق ذكره وذكر من عزاه إليه في هذا الكتاب، وروى هناك نزول الآية عندئذ بإسناده عن زيد بن أرقم (1).
هذا.. وقد ذُكرت قصة الأعرابي والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تحت الشجرة في آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَر أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حَدْرَكُمْ إِنَّ اللّه أَعَدَّ للكافرينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (2) فذكروا أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان في غزوة بني أنمار فهزمهم وسبى ذريتهم فلما رجعوا أصابهم المطر فنزلوا وادياً تحت الأشجار فوضع النبيّ سلاحه وذهب إلى الجانب الآخر من الوادي وحده فجاء السيل فحال بينه وبين أصحابه وكان بعض المشركين على الجبل فرآه حين حال السيل بينه وبين أصحابه فجاءه واحد منهم يقال له : حويرث بن الحارث وقال أنا أقتله فأتاه وقال يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال : اللّه تعالى يمنعني
ص: 105
منك، فسلَّ سيفه وأراد أن يضربه فدفع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الكافر في صدره دفعة فسقط السيف من يده فوتب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأخذ سيفه وقال : من يخلّصك مني ؟ فقال : لا أحد، فقال له : إن أسلمت أردُّ عليك سيفك، فقال : لا أسلم ولكن أعاهد اللّه تعالى ألا أكون عليك ولا لك أبداً، فرد عليه سيفه، فقال الرجل : يا محمد أنت خير مني لأنك قدرت على قتلي فلم تقتلني، فرجع الكافر إلى أصحابه فأخبرهم بالقصة فآمن بعضهم، ثم انقطع السيل وجاء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى أصحابه وأخبرهم بالقصة (1).
ولاشك أن المتبصر في دينه لا يترك الروايات المتواترة ويتمسك بالضعيف منها، لاسيّما روايات الغدير والتي لشهرتها وقوتها عاب الألباني في کتابه : (الأحاديث الصحيحة) شيخه ابن تيمية إلا انه أيضاً لم يتحمّل العمل بالحق فغير المعنى عن منحاه الحقيقي حيث قال بعد أن صح الحديث عنده من كنت مولاه فهذا علي مولاه قال : إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعف الشطر الأوَّل من الحديث، وأمّا الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها، ويُدقق النظر فيها ! ! والله المستعان. أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال في علي (رض): إنه خليفتي من بعدي، فلا يصح بوجه من الوجوه، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دلّ الواقع التاريخي على كذبها، لأنه لو فرض أن النبيّ قاله لوقع كما قال لأنه (وحي يوحى) والله سبحانه لا يخلف وعده (2).
ص: 106
ونرى الجهل أو التجاهل في الاستدلال بأنه لو كان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال بخلافة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان لابد أن يتحقق ذلك لان كلامه من الوحي، والحال أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُبيِّن حكماً أساسياً في الدين الإسلامي واصلاً من أصوله التشريعية ولم يُبيِّن حقيقة غيبيَّة مستقبلية حق يلزم وقوعها حتماً، فالفرق واضح بين الأمور التشريعية والقضايا الغيبية والتكوينية. فإعلانه ذلك شبيه بأمره تجهيز جيش أسامة حين مرضه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و شبيه بأمره الجنود بالثبات على الجبل يوم أحد، وتخاذلُ الناس عن نصرتهم لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) شبيه بمعصية البعض للنبي حينما تخلَّف عن جيش أسامة أو فرّ في قتال النبيّ أو أمثال ذلك، مع هذا.. والإمامة بمفهومها الواسع هي لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سواء قام أم قعد وحكم أم أصبح جليس الدار.
الاستفسار الرابع :
ممّا يستغربه الكثير ويتساءل عنه هو انه كيف يُمكن قبول هذا القول بان يكون النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد أعلن للملأ وبهذه الصراحة عن استخلافه علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) إماماً من بعده على الأمة وذلك قبل رحيله عنهم بسبعين يوماً تقريباً فكيف يمكن لهؤلاء الناس أن يسكتوا ولا يحركوا ساكناً أمام المنقلبين على خليفة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويؤخذوا له حقه ويحافظوا على وصيّة نبيهم صلوات اللّه عليه وآله ؟
يجاب على هذا الاستفسار من جهات عديدة:
ص: 107
أولاً: لقد استنكر الكثير من الصحابة على ما حدث بعد وفاة النبيّ وما وقع من إقصاء أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الخلافة، ورفضوا البيعة لأبي بكر واجتمعوا في دار الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أن حدث ما حدث من قضيّة الهجوم على بيت علي وفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) حق أسقطت السيدة الزهراء جنينها المحسن، وقد بينت (عَلَيهَا السَّلَامُ) لنساء المهاجرين والأنصار إقصاء القوم لبعلها وما سيتمخض من ذلك الانحراف وقالت فيما قالت لهم:
(...ويحهم ! أنى زعزعوها (أو زحزحوها) عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوّة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين (أي الخبير) بأمور الدنيا والدين؟! ألا ذلك هو الخسران المبين ! وما الذي نقموا من أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟؟ نقموا والله منه نَكير سيفه، وقلّة مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمُّره في ذات اللّه وتالله لو مالوا عن المحجّة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردَّهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيراً سُجحاً لا يكلم حشاشه.. إلى أن قالت (عَلَيهَا السَّلَامُ) : (ويحهم! (أفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أمَّن لا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ؟ ! أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج ة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملاء القعب (أي القدح) دماً عبيطاً وزعافاً مُبيداً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب (أي عاقبة) ما أسَّس الأوَّلون.. إلى آخر خطابها (عَلَيهَا السَّلَامُ) (1).
ص: 108
كما بيّن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) انقلابهم ذلك وتقمصهم للخلافة، وذلك في الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة حيث قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (أما والله لقد تقمصها فلان - أي أبو بكر - وإنه ليعلم أن محلي منها محلُّ القطب من الرّحى، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقتُ أرتأي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه، فرأيتُ أن الصبر على هاتا،أحجى فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً، حتى مضى الأوَّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده،
ثم تمثل بقول الأعشى :
شتّان ما يومي على كُورها***ويوم حيّان أخي جابر
فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدَّ ما تشطرا ضرعيها (1)...).
ص: 109
والذي يرجع إلى التأريخ وما فيه من الحقائق التي عُتّم عليها يجد الكثير منهذه الاستنكارات والاحتجاجات التي كان يُدلى بها هنا وهناك.
ص: 110
ومن ذلك استدلال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بواقعة الغدير حينما قدّمه عمر بن الخطاب مع خمسة آخرين في مسرحية الشورى للخلافة من بعده حيث خاطبهم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلا : (...فأنشدكم باللّه هل فيكم احد قال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والي من والاه وعاد ومن عاداه.. غيري؟ قالوا اللّهم لا (1).
كما ذكر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذلك يوم الرحبة في العراق حيث قال: (أنشد اللّه كلّ امرئ مسلم سمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام ثلاثون من الناس منهم اثنا عشر بدرياً ممّن حضروا في معركة بدر وقالوا نشهد أنا سمعنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول يوم غدير خم ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقلنا بلى يا رسول اللّه قال فمن كنت مولاه فعلي مولاه) (2).
كذلك استدلّ الإمام بحديث الغدير في كلامه مع طلحة يوم خروجه عليه في واقعة الجمل كما ذكر ذلك في التاريخ (3).
وقد ذكر العلّامة الاميني في الغدير في الجزء الأوَّل استدلال الكثير من الصحابة والتابعين بحديث الغدير في محاججاتهم في ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 111
ثانيا : ليس هناك أي استغراب من أن تنقلب جماعة تطمع بالخلافة بعد النبيّ،(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكيف يستغرب ذلك والقرآن يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ من قَبْله الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلبْ عَلَى عَقَبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّه شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّه الشَّاكرينَ)(1)، فان ذلك أمر ممكن ومحتمل الحصول وليس بأمر مستحيل، بل هو أمر متوقّع من جماعة طالما تحسسوا من مواقف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذات العناية الخاصة بعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقد زوجه ابنته ولم يزوجهم، وترك باب حجرته مفتوحاً على المسجد وسد أبوابهم، وأعطاه رايته في الغزوات، وأمره عليهم في السريات، ولم يؤمر احداً منهم عليه، فضلاً عن أنه قد قتل أشاوسهم قبل أن يُسلم هؤلاء، ثم إنهم قد تمردوا على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حياته ورفضوا بعض مواقفه فامتعضوا من صلحه ولم يخرجوا مع جيش أسامة، وقد أمرهم بذلك، ولا سمعوا له ولا أطاعوه لما أمرهم أن يأتوه بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لا يضلُّوا بعده أبداً، فكيف يستبعد أن ينقلبوا بعد حياته؟!!
نعم هؤلاء كبار القوم ووجهاؤهم، وأما سائر الناس ففي الحقيقة أن الأعم الأغلب منهم لا علاقة له بأمر الخلافة والقيادة بل غالباً ينتظرون من يتصدى للحكم من الأشخاص المحيطين بالقائد الراحل، فيسلموا له طمعاً في الرغبات أو خوفاً من السطوات، وهذه شعوبنا اليوم وقبل اليوم نراها على هذا المنوال، فإنما الأمر يُدبَّر بليل ومن وراء الستار ويحيكه جماعة خاصة،
ص: 112
وغالب الأحيان هم من أولئك الحواشى الذين كانوا ينتظرون رحيل قائدهم ليحلو لهم التربّع على العرش، ويحسن الناس البسطاء الظن - عادة، أو ممّن لا حول لهم ولا قوة - بهؤلاء القادة الجدد، أو إنهم يعرفون الواقع ولكن لهم هموماً أخرى تجعلهم على مسافة و بمعزل عمّا يجري.
وعلى أي حال.. ليس عليهم إلا أن يعلنوا تأييدهم ويباركوا لقادتهم الجدد، أو على الأقل لا يبدوا أي معارضة لذلك، وهذه دولنا وهذه شعوبنا وهذا هو ديدنهم وديدنها في التصفيق وإطلاق الشعارات للحاكم الجديد، فان كان الأمر ملوكية فالأمر واضح وان كان - كما يزعم - ديمقراطية واستشارية فتُظلل بانتخابات صورية، أو تحاط بظروف تأخذ الناخب إلى ما يريده الحاكم أو حزبه، فنجد بعض الحكّام إذا تربع على العرش لا يدعه لغيره أبداً ويبقى متربعاً عليه عشر وعشرين وثلاثين بل بعضهم أربعين سنة وإذا اشرف على الموت مقد لابنه ولحزبه، ومع كلّ ذلك نسمي أنفسنا بالشعوب الحرة ونسمي دولنا بالدول الديمقراطية ومع كلّ هذه الثقافات والجامعات والتطورات التي تحدث نرضى لشعوبنا سكوتها ثم نستغرب من أُمّة حديثة عهد على الحرية والكرامة وغالبها يجهل الأمور أو يضعف عن المطالبة بالحق بل يعيش سلطنة منهجيتها ومنطقها (الخليفة هذا ومن أبى فهذا أي السيف) نستغرب منها رضاها أو سكوتها عما جرى من إقصاء الإمام من جماعة يفترض أنهم من المقربين من مجلس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) !!!. فهذا أمر ممكن..
إضافة إلى أن هناك أيضاً المعترضون ممّن دونهم التاريخ مثل مالك بن نويرة وغيره، ومن يدري فلعل الكثير الكثير ممّن قد اعترض على ذلك
ص: 113
الانقلاب لكن التاريخ الذي كتبته السلطة وأبناؤها وأحزابها لم تدوّن ذلك.
نعم، لا ينبغي أن نستغرب هذا الذي حدث بعد أن بين النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من انه سيجري على هذه الأمة ما جرى على بني إسرائيل من أمة موسى وعيسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) من الفتن وتعدد الفرق (1)، ونحن نعلم أن أصحاب موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)لم ينقلبوا على موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخيه هارون فحسب بل انقلبوا على ربِّ موسى وربهم، فعبدوا العجل لمجرد أن غاب عنهم نبيهم ولم يمت بعد، فكيف يستغرب من هؤلاء الذين حذوا حذو أولئك أن ينقلبوا على خليفة نبيهم (2) ؟!!
ص: 114
ص: 115
ثالثاً: لو أراد من أراد أن يحسن الظن بالقوم الذين أقصوا الإمام عن الخلافة واخذوا الأمة إلى منحى آخر فربما قالوا في توجيه وتبرير ذلك :إن القوم قد اجتهدوا بالأمر وظنوا أن الواجب عليهم أن يطيعوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الأمور العبادية كالصلاة والصيام والحجّ وما شابهه، وأما الأمور السياسية وقضايا الحياة الأخرى فلهم رأيهم الخاص ولهم اجتهادهم في ذلك، وربما يقال : وكنموذج من ذلك : اعتراضهم على النبيّ في صلح الحديبية، وهكذا تخلفهم عن تجهيز جيش أسامة بن زيد وقد أمرهم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالالتحاق بجيشه، ومن ذلك أيضاً أنهم رأوا من الحكمة أن يتركوا علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويأتمروا لغيره وان كان النبيّ قد أمرهم باتباعه واتخاذه إماماً لهم. فهذا منهم اجتهاد يؤجرون عليه إن اخطأوا أم أصابوا.!!
قد يحلو للبعض أن يبرر ذلك بهذا التبرير وهذا المقال..
ولكن يقال : لاشك ولا ريب في أنهم ما كان يجوز لهم أن يجتهدوا بعد تعيين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - الذي لا ينطق عن الهوى - الإمام علياً إماماً عليهم، لأن
ص: 116
هذا من باب الالجتهاد في مقابل النصّ، وهو حرام قطعاً، هذا أولاً.
ثانياً: على فرض اجتهادهم غير المتعمّد في مخالفة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأيضاً لا شك ولا ريب أنهم اخطأوا بهذا الاجتهاد ولم يصيبوا لأنهم تقدموا على من هو أعلم وأقضى وأشجع واعرف منهم، باعترافهم بذلك، فقد سدوا باب علم النبيّ عليهم وردُّوا قضاءه ورفضوا كتاب اللّه تعالى فيه وجرُّوا على الأمة وأجيالها الويلات الويلات إلى هذا اليوم.
وثالثاً : بعدما جرى و جرى ووقع ما وقع.. فلماذا نحن المسلمين - وقد وقفنا اليوم على هذه الحقائق ووصل الينا ما وصل من الدلائل الواضحة والقرائن الجليّة - لازلنا نرفض ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وندع إمامته ولا نأخذ ممّا نقله إلينا من علم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أحاديث وسنن وروايات قالها هو أو أولاده أولاد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ؟؟
لماذ لا نأخذ ديننا وأحكام صلاتنا وصومنا وحجنا وسائر عباداتنا من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن طريق أهل بيته الطاهرين ؟!!
لماذا نرجع إلى الذين انقلبوا على النبيّ وآله ونجعلهم أئمتنا وطريقنا إلى الإسلام؟! فهل أنصفنا النبيّ بذلك وهل عملنا بالحق!!؟؟
أيها القارئ الكريم لقد عرفت من مجموع ما سبق أن الإمام أمير المؤمنين عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو خليفة رسول اللّه بالحق، وأن النبيّ نصّ عليه بالخلافة، وأقامه،مقامه، وأرشد المسلمين إليه. فماذا بعد الحقّ إلا الضلال ؟!
فإيّاك إياك أن ترفض الحقّ بدافع العصبية الشيطانية. إيّاك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. إيّاك.. إيّاك..
اللّهم أرنا الحقّ حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه.. والحمد للّه رب رب العالمين.
ص: 117
ص: 118
ص: 119
ص: 120
بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْيَوْمَ يَئْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينَكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (1).
هذا المقطع من الآية الثالثة من سورة المائدة أستدل به على ولاية أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعُرفت الآية بآية إكمال الدين بسبب هذا المقطع منها وعلى هذا الأساس تُعدّ هذه الآية المباركة من آيات الإمامة لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وجاء الاستدلال بها بناءً على أمرين:
الأول: لابد من إمام معصوم
وهو ما لزم من الآية عقلاً بوجود الإمام المعصوم بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وذلك لأن مقتضى إكمال الدين وإتمام النعمة هو أن الدِّين قد أجاب على كلّ سؤال يُطرح إلى يوم القيامة، لأن لكل قضيَّة حكماً دينياً. فلابد أن يكون بعد رسول
ص: 121
الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إمام عالم بجميع أحكام الدين ويجيب على كلّ سؤال يُستحدث بعد ذلك، ومما لا شك فيه أن هذا الأمر لا يستطيع أن يؤديه إنسان عادي، بأن يعلم جميع أحكام الشريعة بجزئياتها ودقائقها وكثرتها إلا أن يكون مؤيَّداً بعلم ربّاني وذلك هو الشخص المعصوم. فلو لم يكن المعصوم موجوداً بعد النبيّ لم يكن قد تمَّ الدين بعد، ويكون القرآن - حاشاه - قد أعلن تمامية الدين جزافا.
وقد أشار الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى هذا المعنى : فقد روي عن حماد بن أبي أسامة قال : كنتُ عند أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) - وعنده رجل من المغيريَّة - فسُئِل عن شيء من السنن فقال : ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وق- خرجت فيه السنة اللّه من ومن رسوله، ولولا ذلك ما احتجَّ.
فقال المغيرى : وبما احتج؟ فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).. حق فرغ من الآية، فلو لم يكمل سُنّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتجّ به (1).
وكذلك يقال : إن ممّا لا شك فيه أن الإمامة وقيادة المسلمين هي من الدين فان كان اللّه تعالى قد سكت عنها فلم يكن قد كمل الدين بعد، ولكن القرآن أخبرنا أنه قد كمل فيلزم أن يكون اللّه تعالى تعرض لبيان حكم الإمامة، وجعل الإمام بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
الثاني: هو شأن نزول الآية وما جاء فيها من الروايات الصحيحة من الفريقين من أنها نزلت في يوم الغدير في الثامن عشر من شهر ذي الحجة
ص: 122
عام حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة قبيل وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باثنين وثمانين يوما تقريبا، وقد مضى الحديث عن واقعة الغدير التي نصب فيها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) إماماً وخليفة من بعده، فذكرت هذه الروايات أنه بعد عملية التنصيب للإمامة نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا من دينكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا).
وقبل مناقشة هذا الاستدلال وبيان بعض استفساراته نقف على بعض الروايات في ذلك عند الفريقين :
1 - عن الإمام أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (أمر اللّه (عز وجل) رسوله بولاية علي وأنزل عليه : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وفرض ولاية أولي الأمر، فلم يدروا ما، فأمر اللّه محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و أن يفسِّر لهم الولاية، كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من اللّه، ضاق بذلك صدر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتخوف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه فضاق صدره وراجع ربَّه (عزّ وجل) فأوحى اللّه (عز وجل) إليه : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فصدع بأمر اللّه تعالى ذكره فقام بولاية علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة، وأمر الناس أن يُبلغ الشاهد الغائب...
ص: 123
وقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه (عز وجل) : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يقول اللّه (عز وجل) : لا أُنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملتُ لكم الفرائض) (1).
2 - ذكر العلّامة الأميني في الغدير عن كتاب الخصائص بإسناده عن الإمامين الباقر والصادق (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) : نزلت هذه الآية (يعني آية التبليغ) يوم الغدير وفيه نزلت : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ).
قال : وقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ)أي: بإقامة ،حافظه (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي بولايتنا، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) أي: تسليم النفس لأمرنا (2).
1 - عن أبي سعيد الخدري قال : إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لما دعا الناس إلى علي في غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقُمّ - وذلك يوم الخميس – ثم دعا الناس إلى علي فأخذ بضبعه حتى نظر الناس إلى بياض ابطي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثم لم يفترقوا حتى نزلت هذه الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) الآية، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربِّ برسالتي وبالولاية لعلي من بعدي. ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من
ص: 124
عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (1).
2 - ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي - المتوفى سنة 463ه- - في تاريخه بسند عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة، كتب اللّه له صيام ستين شهراً.
ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، غدير خم، لما أخذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست ولي المؤمنين، قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من كنت مولاه فعلي مولاه فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ! ! فأنزل اللّه تبارك وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ ) (2).
أيها القارئ الكريم هناك أحاديث أخرى في هذا المجال، ومن أرادَ المزيد فليراجع المصادر التي تفيد القارئ في هذا الباب (3).
هذا ومما يؤيد صحة هذه الروايات أمور نذكرها فيما يلي:
الأول: ما تحمله هذه الآية المباركة في بعض مفرداتها من معان تؤيد ما نحاول الوقوف عليه.. إليك بعض التفصيل:
ص: 125
1. يئس الذين كفروا
ممّا لا شك فيه أن هذا اليأس من الكفار لم يكن إلا لما رأوا من استمراريّة رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث عين من يقوم مقامه في قيادة المسلمين، فقد كان من الكفار من يترصد بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وينتظر زوال دينه أو ملكه، فقد كان يرجو ذلك بموت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولا سيما انه لا عقب له عندهم ولا ولد له من صلبه، فإنهم كانوا يرونه ملكاً وسلطاناً إذا مات مات معه ذكره وانطمست آثاره و اندرست سُننه وقوانينه، فكانت هذه أمان يرجونها ويأملونها، فلمّا عيّن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من يخلفه في قيادة الأمة من جهة ويقوم مقامه في تركيز الشريعة الإسلامية والحفاظ عليها ونشرها من جهة أخرى تحقق بذلك تمام يئسهم ولم يبق شيء يأملونه لمحو الدين وأهله والقضاء على رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أساسها.
نعم إن هذا اليأس هو ما يناسب القول بتنصيب الخليفة المخلص للدين والذي هو نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالتعبير القرآني : (أنفسنا وأنفسكم) ولم يكونوا لييأسوا لولا ذلك. فتعبير الآية: (اليوم يئس الذين كفروا) يدل على يوم تعزيز الدين بنصب الخليفة للنبيّ الصادق الأمين.
2. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)
لقد أطلقت الآية القول بالإكمال للدين وبالتمامية للنعمة، فالدين كلُّه أكمل والنعمة كلُّها تمت. وفرق بين الكمال والتمام فإن الأوَّل يتحقق بحصول الغرض من الشيء على مقدار ما استُحدث منه والثاني التمام يتحقق بتحقق الغرض وليس وراءه درجة أعلى منه.
ص: 126
وبعبارة أخرى يطلق الكمال على شيء تتدرّج فيه النسبة ويطلق التمامية على شيء تتحقق كلّ آثاره ولم ينقص منه شيء.
قال العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان في عقيب آية الإكمال: قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) الإكمال والإتمام متقاربا المعنى، قال الراغب كمال الشيء حصول ما هو الغرض منه. وقال : تمام الشيء انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شيء خارج عنه ولك أن تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر وهو أن آثار الأشياء التي لها آثار على ضربين : فضرب منها ما يترتب على الشيء عند وجود جميع أجزائه - إن كانت له أجزاء بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الأمر، كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالإمساك في بعض النهار، ويسمّى كون الشيء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (1)، وقال: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) (2). وضرب آخر: الأثر الذي يترتب على الشيء من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وُجد جزء ترتب عليه من الأثر ما هو بحسَبه، ولو وُجد الجميع ترتب عليه كلّ الأثر المطلوب منه، قال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) (3) وقال: (ولتكملوا
ص: 127
العدة) (1) فإن هذا العدد يترتب الأثر على بعضه كما يترتب على كلّه، ويقال : تم لفلان أمره وكمل عقله ولا يقال: تم عقله وكمل أمره. انتهى (2).
لقد استدل العلّامة بآية : (ثم أتموا الصيام) على أن كلمة التمام تستعمل فيما له أجزاء تتحقق كلّ أجزائه وآثاره فإن الصيام لا يتم ولا يقال له صيام ما لم يستوفي كلّ أجزاء الوقت وشرائطه واستدل بآية : (عشرة كاملة) على أن الكمال يستعمل فيما يمكن تحقق الغرض لبعض أجزائه فان صيام ثلاثة أيام متحقق بهذه الثلاثة وصيام سبعة أخرى أيضاً متحقق بالسبعة وأحدهما يكمل الآخر فتكون عشرة كاملة فما يهمنا هنا وما نرمي الوصول إليه من غرض هذه الآية هو توضيح أن إطلاق كلمة (إكمال) يعني إكمال كلّ الدين، وإطلاق إتمام النعمة يعني تحقق كلّ الشيء تحقق كلّ الشيء بآثاره وأجزائه وشرائطه.
وهنا يأتي هذا السؤال وهو: ما هو هذا الشيء الذي به كمل الدين وبه تمت النعمة ؟
فإن كان بتشريع حكم فهو بعض الدين.
بالإضافة إلى أن هذا الحكم المفترض لم يكن حكماً بالغ الأهمية فليس هو تشريع لحكم الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصيام والتي هي من أسس شرائع الإسلام فلابد أن يكون هذا الشيء أهم من ذلك كله حتى يكون به إكمال الدين وإتمام النعمة الالهية، بل ويرضى اللّه به الإسلام ديناً للمسلمين.
والحق ليس هو إلاّ أمر به تُعزّز بقية شرائع الإسلام وتصان من التحريف
ص: 128
وبه يُضمن بقاؤها واستمراريتها، وليس هو إلا ولاية العصمة والطهارة والعدل والعلم والنور والحبل المتصل بالسماء وهي إمامة الأئمّة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) (1)
ثانيا: ومما يؤيِّد صحة تلك الروايات أيضاً استدلال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بآية إكمال الدين، حيث خاطب الناس وأصحابه وقال لهم فيما قال في بعض خطابه :....(أنشدكم اللّه أتعلمون...إلى أن قال: وحيث نزلت: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (2) وحيث نزلت : ﴿وَلَمْ يَتَّخَذُوا مِن دُون اللّه وَلَا رَسُوله وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَليجَةٌ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (3) قَالَ
ص: 129
الناس: يا رسول اللّه أهذه خاصة في بعض المؤمنين أم عامة لجميعهم؟ فأمر اللّه (عز وجل) نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يُعلمهم ولاة أمرهم وأن يُفسِّر لهم من الولاية ما فَسَّر لهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم فنَصبَني للناس بغدير خُمّ، ثم خطب فقال : (أيها الناس إن اللّه (عز وجل) أرسلني برسالة ضاق بها صدري وظننت أن الناس مكذبي، فأوعدني لأبلغنَّها أو ليعذبني، ثم أمر فنودي الصلاة جامعة، ثم خطب الناس فقال : أيها الناس أتعلمون أن اللّه (عزّ وجل) مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال : قم يا علي فقمت فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، فقام سلمان الفارسي رضي اللّه عنه فقال: يا رسول اللّه ولاؤه كما ذا ؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولاؤه كولائي، من كنتُ أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فكبَّر رسولُ اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقال: اللّه أكبر بتمام النعمة وكمال نبوتي ودين اللّه اللّه (عز وجل) وولاية علي،بعدي، فقام أبو بكر وعمر فقالا: يا رسول اللّه هذه الآيات خاصة لعلي؟ قال: بلى فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة، قالا: يا رسول اللّه بينهم لنا، قال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصبي وخليفتي في أمتي وولي كلّ مؤمن بعدي ثم ابني،الحسن ثم ابني الحسين، ثم تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا عليَّ حوضي)
انتهى خطاب الإمام لهم فأجابوه و قالوا كلّهم: اللّهم نعم قد سمعنا ذلك
ص: 130
كله وشهدنا كما قلت سواء، وقال بعضهم : قد حفظنا جُلَّ ما قلت، ولم نحفظه كلّه وهؤلاء الذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا.
فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : صدقتم ليس كلّ الناس يستوون في الحفظ، أنشدكم من اللّه حفظ ذلك من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لما قام فأخبر به ؟
فقام زيد ابن أرقم والبراء بن عازب وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار بن ياسر رضي اللّه عنهم فقالوا نشهد لقد حفظنا قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو قائم على المنبر وأنت إلى جنبه وهو يقول: (أيها الناس إن اللّه أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي والذي فرض اللّه (عزّ وجل على المؤمنين في كتابه طاعته فقرنه بطاعته وطاعتي، فأمركم بولايتي وولايته فإني راجعت ربي (عز وجل) خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم فأوعدني ربي لأبلغتها أو ليعذبني.
أيها الناس إن اللّه عزّ وجل أمركم في كتابه بالصلاة فقد بيّنتها لكم وبالزكاة والصوم والحج فبيّنتها وفسرتها لكم وأمركم بالولاية وإنّي أشهدكم أنها لهذا خاصّة - ووضع يده على كتف علي بن أبي طالب - ثم لأبنيه من بعده، ثم للأوصياء من بعدهم من ولدهم، لا يفارقون القرآن ولا يفارقهم القرآن حتى يردوا علي حوضي.
أيها الناس قد بيّنتُ لكم مفزعكم بعدي وإمامكم ودليلكم وهاديكم وهو أخي علي ابن أبي طالب وهو فيكم بمنزلتي فيكم فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم....) (1).
ص: 131
أيها القارئ الكريم : الرواية طويلة اخترت منها هذا المقدار لتعلم بان آيات الولاية متعددة وكثيرة وليست محصورة بآية إكمال الدين أو قضية الغدير فقط، وإنما كانت قضية غدير خم بمثابة التفسير والتوضيح والتصريح لتلك الآيات الواردة في موضوع الخلافة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأيضاً بمثابة الإعلان الر الرسمي والعام أمام الملأ عن موضوع الخلافة والإمامة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لتكون الحجة أتم وأشمل وليكون الناس على بيِّنة.
هل طالب الإمام بحقه؟
هنا لا بدَّ لنا من الإجابة على تساؤل لدى البعض وهو هل طالب الإمام بحقه؟ فإن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وان كان ذكر بحديث الغدير وما حصل فيه إلاّ انه لم يكن ليصر أو ليعلن دائماً ويبين ذلك أبداً بل سكت عما جرى وترك الأمور دون إصرار على المطالبة بحقه، وكذلك فعل أصحابه المقربون ممّن يُفترض أنهم علموا الحقّ ؟
يمكن القول في الجواب : إنّ الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان زاهداً بكل مظهر من مظاهر الدنيا – من مأكل وملبس ودار وما شابه – ومن الواضح أن الحكم والمنصب والرئاسة هي من المظاهر الدنيوية أيضاً، وفي نفس الوقت لا شكّ أن القيادة وظيفة شرعية يقوم بها الإمام إن أتيحت له الفرصة، وطالما أن القوم خذلوه ولم ينصروه فلا يطالب بها الإمام ولا يتنازع عليها..
وهو القائل: (أما والذي فَلَق الحبَّة وبَرَأ النسمة لولا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقاروا على كفّة
ص: 132
ظالم ولا سَغَب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها ولسقيتُ آخرها بكأس.أولها. ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) (1).
فهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يصر على المطالبة بالمنصب والحكم من هذه الجهة وان كانت الإمامة والخلافة الإلهية جاءته من اللّه تعالى وليست قابلة للتنازل عنها لغيره لأنها باختيار وجعل من اللّه تعالى له،وفيه والإمامة بهذا المعنى شيء أعظم وأوسع بكثير من مجرد الزعامة السياسية للأمة.
وقد أجيب على هذا الاستفسار بأجوبة أخرى أيضاً (2).
ص: 133
ثالثا: وممّا يؤيد نزول الآية لإعلان الخلافة في يوم الغدير هو ما ذكره المؤرخون من أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فارق الحياة بعد واحد وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً من تبليغ هذه الآية، كما أشار إلى ذلك الإمام الرازي في تفسيره حيث قال: (قال أصحاب الآثار انه لما نزلت هذه الآية على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم يعمر بعد نزولها أكثر من احد وثمانين يوماً أو ثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل)(1).
وإذا لاحظنا مقالة القوم في تاريخ وفاة النبيّ عندهم وهو في الثاني عشر من ربيع الأوَّل في السنة الحادية عشرة من الهجرة فهذا يعني أن تبليغ هذه الآية أو نزولها كان في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة أي في يوم الغدير أو ي-وم و يوم أو يومين بعده وفي نهاية المطاف يكون ذلك في واقعة الغدير أنهم ذكروا أن الغدير كان في ثلاثة أيام حيث بقي النبيّ والمسلمون ثلاثة أيام ليدخل جميع من حضر على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليسلموا عليه بإمرة المؤمنين ويبايعوه على ذلك.
فتبيّن ممّا ذكر من الأحاديث والروايات من الفريقين والمؤيدات لذلك أن الآية المباركة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) نزلت للتأكيد على إمامة أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)
أيّها القارئ الكريم بقيت بعض الأسئلة و الاستفسارات حول هذا
ص: 134
الموضوع نتعرض لذكرها والإجابة عليها في الاستفسارات التالية:
الاستفسار :الأول
أشارت بعض الروايات إلى أن آية الإكمال نزلت في يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة في حجة الوداع، فما علاقتها بیوم الغدير ؟
الجواب على ذلك من وجوه عديدة:
أولاً: ذكرنا في الفصل السابق انه لا يمنع ذلك ولا يضر بالاستدلال بالآية في كونها نزلت في شأن الولاية حيث يمكن الجمع بين هذه الروايات والأخرى التي بينت أنها نزلت بعد تبليغ الولاية بان تكون نزلت مرتين، أو القول بان تبليغ الآية وإعلانها كان في يوم الغدير حتى لو فرض نزولها على النبيّ في يوم عرفة وذلك للروايات الكثيرة الصريحة والصحيحة في كون إعلان الآية كان في يوم الغدير ومن أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان ينتظر الوقت المناسب والمكان الملائم لإعلان ذلك، ولم يكن في ذلك مخالفة من النبيّ للوحي أو إهمال منه في ذلك وإنما كان الوقت موسعاً في تبليغ الآية، فلما وصل غدير خم وجمع الناس أعلن آية التبليغ أولا: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وبعد تبليغ الآية وتنصيب الإمام رسمياً أعلن الآية التي نحن في صددها: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..).
وبهذا الجواب يتم الجمع في الأخذ بالصنفين من الروايات، ومن الواضح أن الجمع الممكن بين الروايات أولى من طرح بعضها واخذ بعضها الآخر فقط، هذا أولاً.
ثانياً: إن الروايات المشيرة إلى أن الآية نزلت في يوم عرفة أو يوم
ص: 135
الغدير لا تتناقض فيما بينها وذلك لأنها ليس فيها عقد للسلب أي لا نفي فيها للجهة المقابلة لما ذُكر في شأن نزول الآية بل هو إثبات للشيء، واثبات الشيء لا ينفي ما عداه، بل في الروايات دلالة على التدريج في الأمر، من ثم انتظار النبيّ ثم حلول الوقت المناسب ثم الإعلان عن نزول نزول الوحي الآيات في الإمامة ولزوم تبليغ ذلك ومن ثم تبليغها بيوم الغدير.
ثالثاً: إن يأس الكفار من قضائهم على الدين إنما يتناسب مع تعيين خليفة النبيّ في قيادة الأمة وحفظ الدين والرسالة من الانحراف والتحريف، وليس يأسهم بسبب تماميَّة الحج ووقوف الناس في عرفة.
قال السيد الطباطبائي في الميزان - في الرد على ذلك الإشكال - (.. فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين؟ فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيره-م - وذلك الذي يقتضيه إطلاق قوله: (الذين كفروا) - فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين بعد، ولما يظهر للإسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب)(1).
رابعاً إن إكمال الدين أيضاً لا يكون لمجرد تعليم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الناس فريضة الحج ومناسكه مع أن تشريع الحج كان قد تقدم على ذلك، فان تعليم
ص: 136
شيء من الدين لا يكون إكمالاً للدين وتمامية له، بل يتناسب إكمال الدين مع تعيين المحافظ عليه والحارس له والمبين لكل جزئياته وشرائطه ودقائقه وذلك يكون بتعيين الإمام والخليفة المعصوم بعد النبيّ، فتكون الآية مناسبة لما جرى في يوم الغدير من تنصيب الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة.
الاستفسار الثاني
إن المقطع المستدل به من الآية مكتنف بنسق غير متعلّق بالكلام عن الخلافة والإمامة بل متعلّق بالكلام عن الحلال والحرام في أكل اللحوم وما شاكل.. أليس هذا يبعد الآية عن كونها تريد الحديث عن الإمامة والولاية؟
الجواب:
:أولاً : إن الملاحظ لهذا المقطع من الآية وهو قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)، يجده غريباً عن صدر الآية وعجزها فصدرها هو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ ِلغَيْرِ اللّه به وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصْبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فسق) وعجزها هو قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفِ لإِثْمِ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ولو رُفع هذا المقطع من وسط مجموع الآية لم يختل الكلام في مدلول الآية على الحكم الشرعي فيما يخص أكل اللحم الحلال من الحرام، ولكانت الآية بهذا الشكل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
ص: 137
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ...فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَحْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفِ لَّإِثْمِ فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهذا يدل على ما نريده من أن المقطع هذا من الآية لا علاقة له بموضوع الحكم الشرعي المذكور من حرمة أكل بعض اللحوم كما يدلُّ على أن تماميّة الدين وإكمال النعمة إنما هو لأمر آخر غير مرتبط بصدر الآية أو عجزها، كما يؤيد أيضاً أن ترتيب الآيات وتنسيقها بل حق ترتيب المقاطع ضمن الآيات لم يكن وفق ترتيب نزولها، كما هو الحال في آية التطهير وغيرها، فوجود هذا المقطع القرآني في ضمن الحديث عن اللحوم المحرمة لا يضرُّ بالاستدلال به.
فالخلاصة : إن الآيات ومقاطعها لم تُرتّب وفق نزولها، وليس النّسق دائماً دليلاً على الارتباط بين الآيات والمقاطع من الآيات القرآنية فقد لا يكون ارتباط بينها كما في هذه الآية.
ثانياً: من من المفترض أن الدين قد كمل فعلاً بنزول آية إكمال الدين وبها تم الإعلان عن تماميَّة الشريعة وبيان أحكامها كما هو كذلك وكما قال السيوطي في تفسيره في قوله تعالى : (أكملت لكم دينكم) قال : (فلم ينزل بعدها حرام ولا حلال) (1) وكما ذكر ذلك الرازي أيضاً في تفسيره (2) ولو كان لهذا المقطع من الآية علاقة بما قبله وبعده كان يعني أن التمامية للدين بسبب بيان حكم الميتة ولحم الخنزير وما شابه ولكان هو هذا الحكم الأخير الذي
ص: 138
يبينه القرآن الكريم والحال إننا نرى أن هذا الحكم ذكر من قبل في سورة البقرة حيث قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزير وَمَا أَهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (1) كما إن أحكاماً أخرى نزلت بعد ذلك ولم يكن هو الحكم الأخير ولم يتعقبه يأس من الكفار كما في هذه الآية ممّا يدلُّ كلّ ذلك على أن التمامية للدين لم تكن بسبب ذلك وان علاقة المقطع المستدل به من الآية هو بأمر أعظم وأعظم من شأن تبليغ بعض أحكام الدين، فهذا المقطع يتعلّق بموضوع الإمامة والولاية التي بها يحفظ الدين وبها يكمل الدين وتتم النعمة.
وأيضاً يجاب بها عن كلّ سؤال يخطر على كلّ بال لأن الإمام هو وارث علم نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو المبيِّن لكل الأحكام، فلم يكن حكم أكل الميتة هو آخر ما ذكر من فرائض ولم يكتمل به الدين بل كانت فريضة الولاية هي آخر حكم يذكر وبها تم الدين وكملت النعمة كما ذكر ذلك الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحديث الآنف الذكر (2).
الاستفسار الثالث: لقد وردت بعض الأقوال من أن آية إكمال الدين لم تكن هي آخر الفرائض التي شُرّعت، بل تبعتها فرائض أخرى ممّا يعني أنها لم تكن في موضوع الإمامة بل كانت في بيان حرمة أكل الميتة أو بعض اللحوم وليس للآية علاقة في موضوع ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 139
جواب الاستفسار :
الجواب انه اختلفت الأقوال في شأن آخر آية نزلت في القرآن الكريم وآخر حكم بين فيها، فقد نسب إلى عمر بن الخطاب أنها آية الربا (1) وكذلك نُسب إليه أيضاً أنها آية الكلالة (2)، أي الورثة من الأقارب البعداء، كما نسب القول إلى معاوية أنها آية ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيه إِلَى اللّه ثُمَّ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (3) وإلى ابن عباس أنها آية ؟ (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظيماً) (4) وهكذا أقوال أخرى.
وينبغي القول في الجواب:
أولاً: إن ما ذكرناه في الآية أنها آخر فريضة نزلت وهي فريضة الولاية ولم تنزل بعدها فريضة كما في الحديث وبها إكمال الدين، وليس أنها آخر آية فلا يضرُّ نزول آية أخرى بعدها في موضوع ليس هو بفريضة.
ثانياً: وأمّا الكلام فيما نُسب إلى عمر بن الخطاب من نزول بعض
ص: 140
الفرائض - من حرمة الربا وحكم الكلالة في آية الربا و الكلالة أو ما شابه ذلك - فهذا ينبغي الإعراض عنه ورفضه لأنه على فرض صحة سنده فهو معارض بما هو صحيح السند عندهم أيضاً.
ومن جهة أخرى انه لا يجتمع مع القرآن الكريم بل يتعارض معه فينبغي رفضه لان القرآن الكريم قد أعلن في الآية عن إكمال الدين ويعني ذلك نزول وتبليغ كلّ الفرائض التي ينبغي تبليغها، فكيف يمكن القول بنزول فريضة أخرى بعد ذلك ؟!.
فضلا عن معارضة أمثال هذه الأقوال لروايات أخرى نُسبت إلى عمر بن الخطاب أيضاً، فنلاحظ مثلاً : الإمام احمد يقول في مسنده عن عمر بن الخطاب أن آخر ما نزل من القرآن هي آية الربا وان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبض ولم يفسِّرها، فدعوا الربا والريبة (1). كما نقله المتقي الهندي في كنز العمال أيضاً (2)، فكيف يقبل هذا الكلام الصريح بان النبيّ له قضى ولم يبين حكم اللّه تعالى ؟! والحال أن أحكام الربا ذكرت في أربع سور قرآنية (3).
وهكذا القول في موضوع الكلالة فقد روى البخاري عن عمر خطب انه على منبر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقال فيما قال : ثلاث وددتُ أن رسول اللّه لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا (4).
وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم نسب إلى عمر بن الخطاب انه
ص: 141
قال: (لَئن أكون سألت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن ثلاث أحب إلي من حمر النعم: مَن الخليفة بعده وعن قوم قالوا أنقرّ بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك أيحلّ قتالهم وعن الكلالة) ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1).
ولا شك أن في هذه الأقوال طعناً في النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من انه فارق الحياة ولم يعهد بأمور هي من الدين، وهذا يخالف أصل النبوّة ويعارض صريح القر بإكمال الدين، كما إنه يخالف نفس كلام عمر بن الخطاب في مكان آخر حيث نقل عنه في صحيح مسلم قوله : (ما راجعت رسول اللّه في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري وقال يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء) (2).
وأما سؤاله عن الخليفة فقد سأل النبيّ أكثر من مرة وقد أجابه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تصريحاً أو تلويحاً كما في حديث خاصف النعل أو في يوم الدار أو رزيّة يوم الخميس (3) . وعلى أي حال.. فالأقوال نفسها متناقضة عند عمر بن
ص: 142
الخطاب، فلا ندري أي أقواله هي الصحيحة في ذلك؟.
والحق إن تلك الأقوال سواء صحت نسبتها إلى أصحابها أم لم تصح فلقد أريد منها إبعاد الأذهان والخواطر عن آية إكمال الدين وعن واقعة الغدير لان كتابة الحديث والتاريخ كانت على طاولة الحاكم والسلطان.. فهل يُعقل أن يكتب ما لا يحلو لهم...؟؟
ثالثاً: في قبال اختلاف الأقوال وتعارضها مع القرآن الكريم - في شأن آخر فريضة قرآنية - نجد الحديث صريحاً وملائماً للظاهر القرآني من أن آية الإكمال للدين قد أتت بآخر فريضة وهي فريضة الولاية، وهذا ما جاء في حديث الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما ذكر في بداية مناقشة هذه الآية المباركة (1).
خلاصة القول في الآية:
ويتلخص الاستدلال بالآية فيما يلي:
ص: 143
أولاً: إن الآية تحدثت عن كمال الدين ولا يمكن عقلاً كماله حتى يكون قد جعل اللّه لنا من يكون بعد نبيّه مبيّناً للشريعة ومحافظاً عليها ومجيباً على كلّ سؤال يرتبط بما يستحدث من أمور جديدة، وليس هو سوى الإمام المجعول من قبل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ثانياً: إنّ الآية تُعدّ من آيات الولاية لأنها نزلت أو بلغت في يوم الغدير لما نصب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) للخلافة، كما صرحت بذلك الروايات من الفريقين.
ثالثاً: إنّ هناك شواهد ومؤيدات لذلك، منها تصريح الآية بإكمال الدين ويأس الكفار وتماميّة النعمة وهذا كله يتناسب مع تعيين الخليفة والمحافظ على الشريعة، وليس لأجل تحريم نوع من اللحوم وحسب.
رابعاً: لا يمكن الاعتماد على روايات متضاربة في نفسها ومتعارضة مع الظاهر القرآني حيث أخذت الآية إلى منحى آخر.
بل لابدَّ من الأخذ برواية من هم عدل القرآن الكريم
أعني آل بيت النبيّ (صلوات اللّه عليه وعليهم أجمعين)
و بذلك عُدَّت هذه الآية من أهم آيات الولاية.
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 144
ص: 145
ص: 146
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1).
آية التطهير هي الآية الأخرى التي لها دلالتها على إمامة أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة الطاهرين من ولده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وذلك لدلالتها على عصمتهم المستلزمة لأفضليَّتهم على غيرهم ممّا يلزم إمامتهم على غيرهم، وأيضاً المستلزمة لصدقهم، وقد ادَّعوا الإمامة لأنفسهم ونسبوا إلى القرآن والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من التنصيص عليهم في الإمامة والخلافة، فلزم تصديق دعواهم والقول بإمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
توضيح الاستدلال بالآية :
لتوضيح الاستدلال بالآية لابد من التطرق إلى أمرين هما:
1 - الإرادة الإلهية في الآية هي إرادة تكوينية لا تشريعية.
2 - وكون المراد من أهل البيت هم آل النبيّ الأطهار وهم النبيّ وعلي وفاطمة وأبناؤهم الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ص: 147
الإرادة الإلهية تنقسم على قسمين : إرادة تشريعية وأخرى تكوينية.
أما الأولى: الإرادة التشريعية، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى حينما يشرع الأحكام يريد بالطبع تطبيقها والعمل بها، ولكن تحقيقها وتبلورها إلى واقع عملي يتوقف على عمل الإنسان نفسه وإرادته وتطبيقه لذلك الشرع، فان نفّذ وطبّق كما يريد اللّه تعالى تحققت تلك الإرادة التشريعية وإلا فلا تتحقق مصاديقها في الوجود الخارجي، وبذلك يكون الإنسان مخيرا في إتيان العبادة ويستحق الثواب عليها كما يكون مخيّرًا في عدم الامتثال وفي العصيان للشرع الإلهي ويستحق على ذلك العقاب من اللّه تعالى يقول اللّه تعالى في تشريعه لعبادة الصيام (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان فَمَن شَهدَ منكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أَخَرَ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلتَكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلَتُكَبِّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1).
فهو سبحانه يشرع العبادة لنا لأنه يريد بنا اليسر ولا يريد لنا العسر، ولكن هذه الإرادة منه تشريعية، أي يتوقف حصولها على امتثال العباد لطاعة اللّه تعالى بشكل تام حق يعيشوا اليسر ولا يقعوا في الحرج والعسر سواء في موضوع الصيام أم في أساس العيش والحياة، ونحن نرى صراحة القرآن بان اللّه تعالى يريد للمسلمين، اليسر ولا يريد لهم العسر، ولكن الواقع العملي للمسلمين يشهد بعكس ذلك، فغالبا عاشت وتعيش الشعوب
ص: 148
الإسلامية العسر والأذى والضنك في حياتها عبر القرون بسبب ابتعادها عن القوانين الإلهية التشريعية، فهذه هي إرادة تشريعية، يمكن حصولها وتحققها في الواقع الخارجي وذلك فيما لو طبق المسلمون أحكام اللّه تعالى بشكل تام، كما يمكن عدم تحققها فيما لو حصل العكس، كما هو الواقع الحاصل لدى المسلمين وكما قال اللّه تعالى أيضاً (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (1) فمع أن اللّه تعالى يريد اليسر والحياة الهنيئة للمسلمين، لكننا نراهم - اليوم - في ضنك وضيم وذلك لأنهم أعرضوا عن القرآن وتعاليمه فلقد نسوا اللّه وشرائعه فلم يتحقق اليسر الذي أراده اللّه لهذه الأمة، فما نقصده أن هذه الإرادة اللّه تعالى هي إرادة تشريعية ممكن تحققها ويمكن تخلفها وعدم حصولها.
وأما الثانية: الإرادة التكوينية وهذه الإرادة الإلهية تتبلور عملياً في الواقع الخارجي دون تخلّف منها أبداً، لأنه سبحانه أراد حصولها دون طلب آخر في التفاعل معها ليتحقق حصولها كما قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا من أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ) (2).
فالإرادة التشريعية تتعلق بما يشرعه اللّه تعالى للعباد ويريد منهم الامتثال لها بينما الإرادة التكوينية تتعلق بإرادته سبحانه وتعالى وحسب ولابد من تحققها حتماً.
ص: 149
بعد هذا التوضيح المختصر نقول :
لقد تطرقت الآية المباركة إلى إرادة اللّه تعالى التكوينية لتطهير أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من كلّ رجس، حيث قالت : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) وهذه الإرادة التكوينية لابد من تحققها على الأرض و في الخارج الواقعي لأنها إرادة تكوينية لا تشريعية.
الآية والإرادة التكوينية
لابد من القول بهذه الإرادة التكوينية هنا، وذلك لوجود كلمة (إنما) والتي تفيد،الحصر أي أن هذه الإرادة من اللّه تعالى محصورة في هؤلاء الجماعة ولا تشمل غيرهم، وإذا كانت الإرادة تكوينية لزم حتماً إذهاب الرجس كلّه عنهم سواء المادي منه - كالقذارة والنجاسة - أم المعنوي منه كالذنوب والمعاصي - وبذلك لزم القول بعصمة هؤلاء الذين اذهب اللّه عنهم الرجس، ولا يمكن القول بان الإرادة هنا تشريعية ولا تفيد العصمة لأننا لو قلنا أنها إرادة تشريعية خرجت كلمة (إنما) عن مؤداها وفائدتها، لأن اللّه تعالى يريد الطهر - بهذا المعنى من الإرادة - لسائر المسلمين إرادة تشريعية وليس فقط لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فما معنى قوله : (إنما يريد) لهم ذلك؟! ولكنها لما كانت إرادة تكوينية كانت مختصة من اللّه تعالى لهم.
نعم هي إرادة تشريعية لسائر المسلمين بل لسائر الناس فان اللّه تعالى يريد لخلقه أن يكون مُطَهِّراً من الرجس، بل إن كلّ من يمتثل لكلّ أوامر اللّه تعالى ويجتنب كلّ معاصيه فهو قد أذهب عنه الرجس بفعله وامتثاله للّه تعالى وإذهاب الرجس عنه كان تشريعياً، ولكن فيما يخص أهل البيت في هذه
ص: 150
الآية المباركة فهو إذهاب من اللّه تعالى للرجس عنهم إذهاباً تكوينياً وان كانوا هم أيضاً بامتثالهم لطاعة اللّه تعالى بإرادتهم التي يعلمها اللّه تعالى لهم قد اذهبوا عن أنفسهم الرّجس تشريعياً أيضاً.
سؤال : إذا كانت إرادة اللّه تعالى في تطهير أهل البيت إرادة تكوينية وكان لابد أن تتحقق هذه الإرادة ويتحقق ذلك الطهر فيهم فما هو دورهم إذن في طاعة اللّه تعالى؟ ولماذا يثابون للطاعة ؟ وأين الفضيلة في ذلك ؟
الجواب: لقد أجيب على هذا السؤال بان أفعال العباد وإن كانت تصدر منهم وبارادتهم إلا أنها في الحقيقة مخلوقة اللّه تعالى فهو سبحانه وتعالى يخلقها عبر إرادة العباد أنفسهم، وبذلك صححوا نسبة الأفعال إلى العباد ونسبتها إلى اللّه تعالى أيضاً، فهي من جهة مخلوقة اللّه تعالى ومن جهة صادرة عن إرادة العبد نفسه، وبذلك استحق الثواب والعقاب على أفعاله، وبهذا فُسّر قول الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)(1) فليس هناك نفي لإرادة الإنسان - كما يقول الجبريون - ولا هناك عزل لقدرة اللّه تعالى - كما يقول المفوضون - بل هو أمر بين أمرين، فهذا شأن سائر أفعال العباد.
وأما أصحاب آية التطهير - وهم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) - فإن الطاعة تصدر منهم بإرادتهم واختيارهم وأيضاً بإرادة تكوينية من اللّه لهم بذلك، وهذا لعلمه سبحانه أنهم يطيعونه لا محالة بإرادتهم واختيارهم فجعل لهم
ص: 151
هذا التطهير التكويني ونَسَبَ إلى نفسه هذه الإرادة إضافة إلى ما لهم من الاختيار في طاعة اللّه تعالى واجتناب معصيته فهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) قادرون على المعصية ولكنهم لا يفعلونها بإرادتهم، فلعلم اللّه تعالى ذلك منهم - من أنهم يفعلون كلّ ما يحبه اللّه تعالى ويريده ويجتنبون كلّ ما يكرهه اللّه ويسخطه - نَسَب إلى نفسه إرادة إذهاب الرجس عنهم إذهاباً مطلقاً لكل رجس ممّا يُوجب العصمة لهم، فتبقى لهم المنزلة العظيمة لإطاعتهم اللّه تعالى، ويبقون هم من العباد المكلَّفين بإرادتهم بشرع اللّه تعالى ويستحقون عظيم الثواب لعظيم التسليم والعبادة منهم اللّه سبحانه وتعالى.
ولتوضيح المعنى وتقريب المقال نضرب هذا المثال ونقول ربما شاهدنا بعض الناس من المتمرنين والمتمرسين على السير على الحبال بين طرفين مرتفعين فان هذا الماشي على الحبل وبذلك الارتفاع قد يتعرض للسقوط والفشل في ذلك السير، ولكنه قد يصل المتمرس إلى درجة من القدرة بحيث يكون مشيه على ذلك الحبل كالمشي على الأرض، وحينئذ لو افترضنا أن وضعت حبال محافظة في أطراف ذلك الحبل المرتفع، لتكون كالسياج الواقي من السقوط، ثم مشى ذلك المتمرس على ذلك الحبل وبذلك الارتفاع دون أن يعتمد على تلك الحبال الأخرى - التي هي بمثابة السياج - وحافظ على تماسكه واستقراره فهو من جهة قام بذلك الفعل بإرادته وبمهارته ويستحق على ذلك الثناء والجائزة، ومن جهة أخرى يصح لمن نصب الحبال التي هي كالسياج أن يقول من البداية إن هذا الماشي سوف لا يسقط من ذلك المرتفع لأنه مصان ومحفوظ من السقوط.
وهكذا علم اللّه سبحانه أن هؤلاء الأطهار سوف لا يعصونه قيد أنملة
ص: 152
فأراد لهم التطهير من الرجس تكوينياً أيضاً وان كانوا هم وبإرادتهم لا يعصونه أبداً.
وقد يؤيد ذلك ما جاء في الدعاء الوارد عن الإمام الحجة المهدي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمعروف بدعاء الندبة فقد جاء فيه: (اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في زخارف هذه الدنيا الدنيّة وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به. فقبلتهم وقرّبتهم، وقدمت لهم الذّكر العليَّ والثناء الجليَّ، وأهبطت عليهم ملائكتك، وكرمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذرايع إليك، والوسيلة إلى رضوانك...) (1) فقد أعطاهم اللّه تعالى ما أعطاهم بعد أن علم منهم الوفاء له بطاعته، فيكون عطاؤه سبحانه لهم لاستحقاقهم تلك المنزلة.
لاشك أن من يطلب الحق ويرجع للواقع المذكور في كتب التفسير والتأريخ لا يتردّد في أن المراد من أهل البيت في الآية هم من اجتمعوا تحت الكساء - أو البرد - مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهم : علي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وقبل مناقشة الموضوع وذكر بعض الأحاديث الصحيحة نقف عند رأيين آخرين بعيدين عن الواقع الذي حدث.
ص: 153
الرأي الأوَّل : هو أن المراد من أهل البيت هم نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقط ولا علاقة للآية بعلي وولده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ويكفي في إبطال هذا القول كونه منسوباً إلى عكرمة - غلام عبد اللّه بن العباس - الذي كان عدواً للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعُرف بالكذب على ابن عباس حتى أصبح مضرباً للمثل بذلك، فعن ابن المسيب: (انه قال لمولى له اسمه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وعن ابن عمر أنه قال ذلك أيضاً لمولاه نافع)(1).
وقد حاول علي بن عبد اللّه بن عباس صده وردعه عن ذلك، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه، يقول عبد اللّه بن بن أبي الحرث دخلت على ابن عبد اللّه بن عباس وعكرمة موثق على باب،كنيف فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم ؟ فقال : إن هذا يكذب على أبي(2).
ويقول الذهبي فيه : اجمعوا على تركه (3).
ركاكة هذا القول
إن ضعف هذا القول ومَن يقول به من أوضح الواضحات، وذلك لأمور
1 - لما سيتبيّن من خلال الروايات المروية خلاف ذلك.
2 - ولما سنرى من تصريح نفس نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنهن غير
ص: 154
مقصودات في الآية.
3 - ولأنه لم يقل احد بعصمة نساء النبيّ بل الواقع الخارجي دلّ على عكس ذلك.
4 - ولضمير الجمع المذكر في (عنكم) و(يطهركم) فلو أريد منه نساء النبيّ لبقيت الآية على الخطاب الموجه لهن بنون النسوة في هذه الآية كما هو الملاحظ في الآيات التي هي قبل هذا المقطع وبعده.
والآيات واضحة في هذا الخطاب النسوي لهنَّ إلا في هذا المقطع فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَيِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللّه وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّه أَعَدَّ ِللْمُحْسنَات مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاء النبيّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسيرًا * وَمَن يَقْنُتْ منكُنَّ للّه وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلَ صَالِحًا تُوْتِهَا أَجْرَهَا مرَّتينِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَريَّا * يَا نِسَاءِ النبيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِن اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَحْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتين الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّه وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّه وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (1).
ص: 155
فنلاحظ الآيات خاطبت نساء النبيّ إحدى وعشرين مرة بخطاب نون النسوة إلا في هذا المقطع فلم تقل الآية: (ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركنّ تطهيرا) كما هو الخطاب المفترض لهن والمكتنف بالمقطع بنون النسوة، بل تغيَّر الخطاب إلى أفراد هم غير نساء النبيّ وهم النبيّ وعلي وفاطمة والحسن والحسين فقال تعالى : (ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) كما صرحت الأحاديث بذلك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والتي سنذكر بعضها إن شاء اللّه.
الرأي الثاني : هو أن المراد من أهل البيت في الآية هو المجموع من نساء النبيّ وشخص النبيّ وابنته وعلي والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، واستدلُّوا على ذلك بالسياق بان الآية أمرت نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأوامر مؤكدة وشددت في تكليفهن ثم عمَّم الخطاب لهن ولغيرهن من خاصة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فان شدة التكليف عليهم لإرادة التطهير لهم وليكونوا قدوة للآخرين، ومن هنا جاء الضمير (عنكم) و (يطهركم) ضمير جمع لأنه أراد التغليب وشمول الجميع في إرادة التطهير لهم.
و هذا القول مرفوض أيضاً لأمور :
أولا : لأن الإرادة هنا تكوينية - كما ذكرنا ذلك - وعليه يلزم تحقّق العصمة عند من أريد تطهيره هنا، والحال لا يقول احد بعصمة نساء النبيّ،
ص: 156
كما لا يمكن ادعاء العصمة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعائشة في آن واحد، لان الأخيرة خرجت على الإمام وقتل الآلاف بسببها، فلابد من نسبة الخطأ الى أحدهما.
ثانياً: للأحاديث الصريحة التي نفت شمول الآية لنساء النبيّ، وسنذكر بعضها.
ثالثاً: لأن السياق القرآني ليس دليلاً دائماً، فقد يكون المقطع من الآية خارجاً عما قبله وبعده لغرض بلاغي، ويدل على ذلك اتصال الآيات التي قبل هذا المقطع وبعده بحيث لو رفع هذا المقطع من خلالها لم يقع خلل بالكلام.
رابعاً: لأن الزوجة لا تُعد من أهل بيت الرجل حقيقة لأنها إذا طلقت ذهبت وشأنها ولم تحسب من أهله، كما ورد في صحيح مسلم: (أن زيد بن أرقم سُئل عن المراد بأهل البيت هل هم النساء ؟ قال : لا وأيم اللّه، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها)(1).
وأيضاً روى زيد بن أرقم قال : خطبنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال : (ألا قد تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما كتاب اللّه (عز وجل)، مَن تبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي، ثلاث مرات). قلنا من أهل بيته ؟ نساؤه؟ قال : لا، أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة بعده (2).
وهو القول الحقّ بان المراد من أهل البيت في الآية هم محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)
ص: 157
وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهم الذين جمعهم النبيّ تحت ردائه وسأل اللّه تعالى لهم التطهير فنزلت الآية المباركة، فقد وردت الروايات الكثيرة والتي تربو على السبعين رواية من أمهات المصادر الإسلامية تصرح بأسماء هؤلاء الخمسة عاللا كما جاءت الروايات الأخرى المؤيدة لهذا الحدث من أقوال صدرت من نساء النبيّ أو ممّن شاهد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو يقف على باب بيت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) لأشهر عديدة ويتلو الآية.
وإليك بعض هذه الروايات:
1 - روی ابن عساكر بسنده عن عمر بن أبي سلمة قال : لما نزلت هذه الآية على النبيّ،(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، نزلت وهو في بيت أم سلمة : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فدعا فاطمة وعلياً وحسناً وحسينا - زاد غيره وأجلس فاطمة وحسناً وحسيناً بين يديه ودعا علياً فأجلسه خلف ظهره - ثم جللهم بالكساء ثم قال : اللّهم هؤلاء أهل البيت فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت أم سلمة: إجعلني معهم. قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أنت بمكانك وأنت إلى خير خير (1).
2 - روى الحاكم النيسابوري بسند عن صفية بنت شيبة قالت حدثتني أم المؤمنين عائشة قالت : خرج النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) غداة وعليه مرط مُرجل من شَعْرِ اسود فجاء الحسن والحسين فأدخلهما معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معهما
ص: 158
ثم جاء علي فادخله معهم ثم قال : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) أنه.
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1).
وروى أيضاً عن عطاء بن يسار عن أم سلمة قالت في بيتي نزلت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قالت: فأرسل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي.
ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط البخاري.
3- الثعلبي في تفسيره روى بسند عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): نزلت هذه الآية في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2)
4 - روي في مسند احمد مسنداً عن شداد أبي عمار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً، فلما قاموا قال لي : ألا أخبرك بما رأيتُ من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟ قلت بلى قال : أتيتُ فاطمة (رضى اللّه تعالى عنها) أسألها عن علي، قالت: توجه إلى رسول اللّه، فجلست أنتظره حتى جاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومعه علي وحسن وحسين (رضي اللّه تعالى عنهم) آخذ كلّ واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه - أو - قال كساء - ثم تلا هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
ص: 159
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) وقال اللّهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق (1).
5 - روى الحمويني بسند عن إسماعيل بن عبد اللّه بن جعفر عن أبيه قال : لما نظر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو ؟ - مرتين - قالت زينب : أنا يا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فقال لي: ادعي إلي علياً وفاطمة والحسن والحسين قال: فجعل حسناً عن يمناه وحسيناً عن يسراه وعلياً وفاطمة وجاهه ثم غشاهم كساءاً خيبرياً ثم قال: (اللهم إن لكل نبي أهل بيت وهؤلاء أهلي) فأنزل اللّه (عز وجل) : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فقالت زينب: يا رسول اللّه ألا أدخل معك ؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): مكانك فإنك إلى خير إن شاء اللّه تعالى (2).
6 - وتما روي في مصادر أهل البيت ما رواه الشيخ الكليني في حديث مفصل عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما بيّنه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من تفسيرات لبعض الآيات فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (لكن اللّه (عز وجل) أنزله في كتابه تصديقاً لنبيِّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فكان على والحسن والحسين وفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، فأدخلهم
ص: 160
رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تحت الكساء في بيت أم سلمة، ثم قال: اللّهم إن لكلِّ نبي أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي فقالت أم سلمة : ألست من أهلك ؟ فقال: إنك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وتقلي)(1).
7 - الصدوق في علل الشرايع روى مُسنداً عن الإمام الحسين بن علي عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : دخلت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيت أم سلمة وقد نزلت عليه هذه الآية : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): يا على هذه الآية فيك وفي سبطى والأئمّة من ولدك، فقلت: يا رسول اللّه وكم الأئمّة بعدك ؟ قال: أنت يا علي ثم الحسن والحسين وبعد الحسين علي ابنه وبعد علي محمد ابنه وبعد محمد جعفر ابنه وبعد جعفر موسى ابنه وبعد موسى علي ابنه وبعد علي محمد ابنه وبعد محمد علي ابنه وبعد علي الحسن ابنه والحجة من ولد الحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ) هكذا أسماؤهم مكتوبة على ساق العرش، فسألتُ اللّه تعالى عن ذلك فقال : يا محمد هذه الأئمّة مطهَّرون معصومون وأعداؤهم ملعونون (2).
أيها القارئ الكريم : إن هذا المعنى هو ما صرحت به الروايات في تفسير آية التطهير وهو أمر لا غبار عليه ولا يمكن إنكاره، حق قال الرازي وهو يروي الحديث : وروي أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحسن (رضي اللّه عنه فأدخله، ثم جاء الحسين (رضي اللّه عنه) فأدخله ثم
ص: 161
فاطمة، ثم علي (رضي اللّه عنهما) ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) قال : واعلم أن هذه الرواية كالمتَّفق على صحَّتها بين أهل التفسير والحديث (1).
ولأهميّة انتباه الناس إلى ما في هذه الآية من معنى ملازم لها وهو العصمة الثابتة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وكونها دالة على إمامتهم أيضاً نجد إصرار النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على أن يقف يوميّاً والى أشهر عديدة على باب بيت علي وفاطمة ويقرأ هذه الآية ليعلم الناس أن أهل هذا البيت هم أهل البيت المقصودون في الآية وهم المطهَّرون وهم الذين اذهب اللّه عنهم الرجس فلا يمكن أن يُفسروها بغيرهم أو يدعوا باطلاً، فقد روى الكثير ومنهم الحسكاني عن أبي الحمراء - وهو هلال بن الحارث مولى النبيّ وغلامه، وأخرى عن انس بن مالك وهو ممّن خدم النبيّ أيضاً قال: رابطنا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ستة أشهر يجئ إلى باب فاطمة وعلي فيقول : السلام عليكم (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).(2)
ويروى أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) انه كان يجيء إلى باب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: (الصلاة رحمكم اللّه (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (3).
ص: 162
والذي يؤكّد على هذا أيضاً ما استدل به الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) على القوم حينما ناقشهم في الأمر فقال فيما قال : أتعلمون أن اللّه أنزل : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فجمعني وفاطمة وابنيَّ حسناً وحسيناً، ثم ألقى علينا كساءاً وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي، لحمهم لحمي يؤلمني ما يؤلمهم، ويجرحني ما يجرحهم، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً. فقالت أم سلمة : وأنا يا رسول اللّه ؟ فقال : أنت إلى خير.
فقالوا: نشهد أن أم سلمة حدثتنا بذلك) (1).
بعد أن دلّت الآية على طهر أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من الرجس - و هو يشمل كلّ ما يُستقذر ومنها الذنوب والمعاصي - وأن اللّه تعالى طهرهم منها وأن طهارتهم تستلزم العصمة - نقول : إن العصمة تستلزم إمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من جهتين.
أولاً: من جهة أفضليَّتهم حينئذ على غيرهم، فالأفضل يكون هو المتبوع وهو الإمام الذي يُتبع لقوله تعالى (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (2).
وللعقل الذي يحكم بذلك.
ثانياً: لأنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) ادعوا الإمامة لأنفسهم فلزم تصديقهم لان اللّه تعالى طهَّرهم عن الرجس الشامل للكذب، وبذلك دلّت آية التطهير - بالملازمة - على الإمامة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة من ولده.
ص: 163
ربما يقول البعض: إن موضوع خلافة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لو كان حقاً لطالبوا به، وسنناقش هذا الموضوع في محله ولكن يمكن القول هنا: إن الخلافة والتربع على العرش والحكم والسلطنة هي أمور من مظاهر الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها وإنها وان كانت مطلوبة لأن بها إقامة الحقّ ودحض الباطل إلا أن الأئمّة عاللا تركوها لقلّة ناصريهم وكثرة خاذليهم من الأمة وأمّا الإمامة بمعناها الأعم والأشمل والتي فيها أبعاد أخرى هي أوسع من الحكم فهو مقام من اللّه تعالى لهم وفيهم، سواء حكموا أم لم يحكموا، وسواء ادعاها غيرهم لأنفسهم أم لا.
وأمّا الخلافة بمعنى الحكم فقد أشار أهل البيت إلى غصب القوم منهم وإبعادهم عنها، ونحن يهمُّنا العلم بأنهم هم الأئمّة الذين يُديننا اللّه بهم دينه ويطالبنا بولايتهم ولا يهمنا كثير أنهم طالبوا بها أو تركوها لاسيما ونحن نعلم قلّة مناصريهم وكثرة أعدائهم حَنَقاً وحَسداً لهم أو بسبب حرصهم على دنیاهم.
ثم إننا نجد الكثير من نصوص أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الدالة على أن القوم قد غصبوهم حقهم وظلموهم، ومرّ علينا ما قاله الإمام علي الصلاة في الخطبة الشقشقية (1)، كما إنه قال في خطبة أخرى: (فدع عنك قريشاً وتركاضهم في
ص: 164
الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه. فإنهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبلي، فجزت قريشاً عني الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن أُمي) (1).
وهناك الكثير من التلويحات أو المطالبات الصريحة أو الإشعار بالمظلومية التي كانت لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ممّا تدلّ على ادعائهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) الإمامة لهم، وتدلّ على ما عليه غيرهم من الباطل، وآية التطهير تُلزمنا بتصديق قولهم، وبذلك تُعدّ هذه الآية في عداد آيات الإمامة والولاية.
الخلاصة:
لقد دلّت آية التطهير على طهارة أهل البيت من كلّ رجس.
فلزم من ذلك عصمتهم عاللا والقول بإمامتهم.
لأنهم هم الأفضل.
ولأنهم بينوا أن الإمامة والخلافة لهم من اللّه تعالى.
فيلزم تصديقهم لنزاهتهم عن الكذب بدلالة الآية نفسها. فكانت آية التطهير واحدة من آيات إمامة وولاية أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والحمد للّه رب العالمين.
ص: 165
ص: 166
ص: 167
ص: 168
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّه أَربَعينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخيه هَارُونَ اخْلُفْني في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسدين) (1).
هذه الآية المباركة وآيات أخرى ممّا تتعلق بالنبي موسى والنبي هارون (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) لها علاقة ودلالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وذلك للحديث المشهور عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حقه (عَلَيهِ السَّلَامُ) المعروف بحديث المنزلة وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أنت مني بمنزلة هارون من موسى مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي)، فيُستدل بهذه الآيات بضميمة هذا الحديث على الولاية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ويتمُّ الاستدلال بالآية بملاحظة الأمور التالية :
ص: 169
الأمر الأوَّل :
إن النبيّ موسى اللّه قد استخلف أخاه هارون اللّه وجعله خليفة على قومه حينما خرج إلى الميقات كما صرحت بذلك الآية المباركة: وَقَالَ مُوسَى لأخيه هَارُونَ اخْلُفْني في قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفسدين) فأصبح هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) خليفة لأخيه النبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، مع كونه نبيّاً ووزيراً له وشريكاً له في مهمته ورسالته إلى فرعون وقومه، فقد صرحت الآيات بهذه الأمور على لسان النبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال سبحانه وتعالى حكاية عنه: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْري * وَأَشْرِكْهُ في أَمْري) وقد أستجاب اللّه دعائه وقال سبحانه وتعالى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤلَكَ يَا مُوسَى) (1) فكان هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) خليفة ووزيراً لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما كان نبيّاً وأخاً له (عَلَيهِ السَّلَامُ).
الأمر الثاني :
إن حديث المنزلة هو من الأحاديث المشهورة والذي كرره النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كثيراً وفي مواضع عديدة ومناسبات كثيرة، وقد ذكر هذا الحديث في الأمهات من المصادر الإسلامية بطرق عديدة كالبخاري (2) ومسلم (3) في صحيحيهما وابن ماجه في سننه (4) وأحمد في
ص: 170
مسنده (1) وغيرهم في عشرات المصادر ممّا لا يمكن إنكاره أو تجاهله، وذكروا ذلك في مناسبات عديدة ومنها خروج النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى تبوك حيث خلف الإمام علياً اللّه على المدينة وقال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى).
وقد روى هذا الحديث كثير من كبار الصحابة ومشاهير هم مثل ابن عباس وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم وسعد ابن أبي وقاص وعبد اللّه بن عمر، ومن النساء روت ذلك أم سلمة أيضاً، وجاءت الروايات عن هؤلاء وغيرهم وبطرق متعددة، فمثلاً: قد روي عن سعد بن أبي وقاص بطرق متعددة انه قال: سمعت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي، أو ليس نبي بعدي) فقد روى سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص الحديث وقال سعيد: أحببت أشافه بذلك سعداً فلقيته فذكرت له ما ذكره لي عامر، قال: فوضع إصبعيه في أذنيه وقال: استكنا إن لم أكن سمعته من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)) (2) وذكر أصل الحديث عن سعد في البخاري (3) وصحيح الترمذي (4) وخصائص النسائي(5) والرازي في تفسيره (6) كما روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(7) عن أسماء بنت
ص: 171
عميس ذلك والمصادر بذلك لا يمكن إنكارها كما روي الحديث عن سعد أيضاً في قضيّته مع معاوية حيث روى مسنداً وقال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فلن أسبه، لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حُمر النعم، سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبوة بعدي) وسمعته يقول يوم خيبر: (الأعطين الراية رجلاً يُحبُّ اللّه ورسولَه ويُحبُّه اللّه ورسوله) قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي علياً فأتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح اللّه عليه ولما نزلت هذه الآية: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللّهم هؤلاء أهلي (1) انتهى.
وطبعاً لم يكن معاوية نفسه ليجهل ذلك بل هو أيضاً ممّن روى هذا الحديث فقد ذكروا أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها علياً فهو أعلم، قال الرجل: جوابك فيها أحب إلي من جواب علي، قال معاوية: بئس ما قلت لقد كرهت رجلاً كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يغره بالعلم غراً، ولقد قال له أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذ منه (2).
ص: 172
وعلى أي حال.. فإن لحديث المنزلة شهرة وتواتراً بحيث لا يمكن إنكار ذلك.
الأمر الثالث
هو التأمل في الحديث نفسه، فبعد أن لاحظنا الآيات وما فيها من إثبات الخلافة لهارون من قبل موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وغير ذلك من المؤازرة والمعاضدة، نرى أن هذا الحديث يثبت لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) جميع ما ثبت لهارون باستثناء منزلة النبوّة حيث انه لا نبي بعد نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وكذلك سائر الامتيازات والخصوصيات الأخرى التي كانت (عَلَيهِ السَّلَامُ) هي أيضاً لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن أهمها وأبرزها هي الخلافة، حيث حكت لنا الآية مقالة النبيّ موسى لهارون (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) : (اخلفني في قومي) وحيث جاء الحديث : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فكأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قال لعلى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (اخلفني في قومي)، فتدل الآية بضميمة الحديث على خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأنه مؤازراً ومعاضداً للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وفي استثناء النبيّ لموضوع النبوّة دلالة أيضاً على إثبات سائر المقامات التي كانت لهارون - من القُرب والفضل وغيرهما - للإمام علي اللّه ما عدا النبوّة، فلا يمكن القول إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أراد إثبات منزلة واحدة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كأن يُبيّن فضله فقط أو قُربه منه، لأن الاستثناء بنفسه يدلّ على أن ما قبله أكثر من شيء، واحد لأن الواحد لا يُستثنى منه.
وأيضاً إن كلمة (منزلة) تفيد العموم لكونها نكرة، فيفهم من ذلك أن النبيّ أراد إثبات جميع المنازل التي كانت عند هارون لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) باستثناء النبوّة، ومن تلك المنازل هي الخلافة، وهذا ما نريد إثباته.
ص: 173
إن الذي حكته الآية عن النبيّ موسى وأخيه هارون (عَلَيهِما السَّلَامُ) في استخلافه له هو حكاية في قضيّة، يعني حينما أراد النبيّ موسى الخروج إلى الميقات استخلف أخاه على قومه، ولما رجع انتهت خلافة هارون لموسى، وكذلك النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لما أراد الخروج إلى تبوك استخلف علياً على المدينة ولما جميع رجع انتهت،خلافته، فكيف يُستفاد من هذا الحديث الذي هو في خصوص القضيّة في موضوع الخلافة العامّة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟
الجواب :
في الإجابة على هذا السؤال ذكروا عدة أمور:
أولاً : إن كلمة (منزلة) هي نكرة ولها دلالتها على العموم، فهي تشمل منازل هارون من موسى، ومن تلك المنازل هي استحقاق هارون منزلة الخلافة لموسى دائماً، وذلك لأنه وزیر موسی و شريكه ومفروض الطاعة على قومه، فكذلك الأمر بالنسبة للأمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ثانيا: إن النبيّ موسى قد أطلق الاستخلاف والخلافة لهارون ولم يقيّدها بذهابه وإيابه، فتبقى خلافته مستمرة لموسى ما لم يُعزل عنها، فكذلك تكون خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مستمرة، وكما لم تعزل خلافة هارون كذلك ما عزلت خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ثالثاً: إنّ من يتتبع حديث المنزلة وما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يرى فيه خصوصية بقضية الخروج إلى تبوك وتركه علياً في
ص: 174
المدينة حق يُفترض أن الأمر كان في واقعة خاصة، وذلك لأن هذا الحديث قد صدر من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواطن عديدة وقضايا كثيرة تجاوزت العشرين قضية وقد كانت قضية خروجه إلى تبوك واحدة من تلك المواطن العديدة، وهذا الأمر يدلّ على إرادة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حديثه الخلافة الدائمية والمستمرة لعلى اللّه وليس الأمر خاصاً في خروجه يوم تبوك.
وأذكر هنا بعض تلك القضايا والأحداث التي بمناسبتها كرر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذلك الحديث، فلنلاحظ ذلك :
1 - يوم الدار : وذلك حينما جمع النبيّ كبار قريش ودعاهم إلى الدين ونصرته فقد روي أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جمع بني عبد المطلب في الشعب وهم يومئذ أربعون رجلاً فجعل لهم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فخذاً من شاة (إلى أن قال الراوي): فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): إن اللّه أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين، ورهطي المخلصين وأن اللّه تعالى لم يبعث نبيّاً إلا جعل له من أهله أخاً وارثاً ووزيراً ووصيّاً وخليفة في أهله، فأيُّكم يبايعني على أنه أخي ووزيري ووصيي ووارثي دون أهلي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ؟. فسكت القوم، فأعاد الكلام عليهم ثلاث مرات. فقام علي وهم ينظرون كلّهم إليه فبايعه وأجابه إلى ما دعاه (1).
2 - يوم المؤاخاة، فقد أخى النبيّ بين أصحابه في مكة وآخى بينه وبين علي، وذكر الحديث هناك، فقد نقل المتقي الهندي في كنز العمال، مسنداً
ص: 175
إلى زيد بن أرقم قال : لما آخى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين أصحابه قال علي: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت غيري، فإن كان هذا من سَخط علي فلك العتب والكرامة.
فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي.
قال: وما أرثُ منك يا رسول اللّه ؟
:قال ما ورث الأنبياء من قبلي.
قال : وما ورث الأنبياء من قبلك ؟
قال: کتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي (1).
والمصادر لهذا الحديث في هذه القضية كثيرة جدا (2).
3 - يوم ولادة الإمام الحسن والإمام الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ): فقد روت أسماء بنت عميس وقالت قال رسول اللّه لعلي يوم ولادة الحسن: أي شيء سميّت ابني ؟.
قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما كنت لا سبقك بذلك.
فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): ولا أنا سابق ربي به فهبط جبرائيل فقال: يا محمد إنّ ربك يقرؤك السلام ويقول لك : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا
ص: 176
نبي بعدك، فسمّ ابنك هذا باسم ولد هارون) (1). و اسم ولده شبّر فعربه فكان حسناً فسماه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حسناً.
وأيضاً تكرر الحديث كما تكررت كلّ القضية في يوم ولادة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث الرواية عن أسماء أيضاً قالت قال أسماء أيضاً قالت : قال رسول اللّه لعلي يوم ولادة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أي شيء سميّت ابني...وهكذا الحديث نحو ما تقدم عن الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فهبط جبرائيل فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبي بعدك، فسم ابنك هذا باسم ولد هارون.. الخ) (2) و كان اسم الابن الثاني لهارون هو شبير معرَّبه حسيناً، فسمّاه حسيناً.
4 - يوم المباهلة : فقد روي الحديث أيضاً في المباهلة و رواه انس بن مالك قال: لما كان يوم المباهلة وآخى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين أصحابه المهاجرين والأنصار - وساق الحديث إلى أن قال -: فأخذ بيده وأرقاه المنبر وقال: اللّهم هذا مني وأنا منه، ألا إنه مني بمنزلة هارون من موسى، ألا موسى، ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه (3).
5 - يوم خيبر : حيث روي عن جابر الأنصاري قال: لما قدم علي على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بفتح خيبر قال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (لولا تقول فيك
ص: 177
طائفة من أمتي ما قالت النصارى في المسيح بن مريم لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرُّ بملأ إلاّ اخذوا التراب من تحت قدميك ومن فضل طهورك فاستشفوا به، ولكن حسبك أن تكون مني وأنا منك ترثني وأرثك وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (1).
6 - عند الكعبة الشريفة: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: رأيت أبا ذر الغفاري متعلقاً بحلقة بيت اللّه الحرام وهو يقول: إني رأيت رسول اللّه في العام الماضي وهو آخذ بهذه الحلقة وهو يقول: (يا أيُّها الناس لو صمتم حق تكونوا كالحنايا.. - إلى أن قال - : علي سيد المسلمين وإمام المتقين، يقتل الناكثين والمارقين والجاحدين، وعلي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)(2).
7 - عند التفاضل بين أولاد أبي طالب حيث روي عن ابن عقيل عن أبيه قال: نازعتُ علياً وجعفر بن أبي طالب بين يدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شيء فقلت : والله ما أنتما بأحب إلى رسول اللّه له مني إن قرابتنا لواحدة، وإن أبانا وأمنا،لواحد، كذلك يا رسول اللّه ؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (يا عقيل واللّه إني لأحبّك لخلّتين لقرابتك ولحبّ أبي طالب أبيك، وأما أنت - يا جعفر إن خلقك يشبه خلقي. وأمّا - أنت يا علي - فأنت مني بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبي بعدي)(3).
ص: 178
8 - يوم سد الأبواب إلا باب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فعن جابر الأنصاري قال: جاءنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونحن مضطجعون في المسجد وفي يده عسيب رطب فضربنا وقال: أترقدون في المسجد ؟ انه لا يرقد فيه أحد. فأجفلنا وأجفل معنا علي بن أبي طالب فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : تعال يا علي انه يحل لك في المسجد ما يحلّ لي يا علي ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسی إلاّ النبوّة (1).
9 - قبيل وفاة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): حيث روي أن أم سلمة قالت لابن عباس (...سمعته - أي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - يقول في علي قبل موته بجمعة فان زاد على جمعة فلن يزيد على عشرة أيام...إلى أن قالت: اسمعي - يا أم سلمة قولي واحفظي وصيَّتي واشهدي وأبلغي هذا أخي في الدنيا والآخرة.. وهو مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي) (2).
10 - يوم مرض النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): حيث روي عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي: (يا أبا الحسن إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض فيك عهدي وإنك مني بمنزلة هارون من موسى وإن الأمة بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتَّبعه) (3).
هذه عشرة مواطن من غير ما ذكر في قضيّة تبوك، وهناك أكثر من عشرة مواطن أخرى يمكن ملاحظتها في مصادرها (4).
ص: 179
ولا يخفى على المنصف بعد مراجعته لهذا الحديث في هذه الموارد وغيرها أن ما أراده النبيّ من ذلك هو الخلافة المستمرَّة لعلي، وليس الأمر خاصا بخروجه إلى تبوك أو إلى غيرها، ولذلك احتجت السيدة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) بهذا الحديث في الدفاع عن بعلها أمير المؤمنين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فقد روي عن ابنتها أم كلثوم قالت قالت فاطمة بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (أنسيتم قول رسول اللّه يوم غدیر خم من كنت مولاه فعلي مولاه؟) وقوله : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) (1).
وفي رواية رواها الطبري من طرق متعددة في خطبتها في مجلس أبي بكر أنها قالت أنسيتم قول رسول اللّه : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، وقوله (إني تارك فيكم الثقلين)، ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم) (2).
فالإمام علي ٌّخليفة للنبيّ ووصيٌّ له ووارثه.
وفي الواقع لم يكن الإمام علي للنبيّ بمنزلة هارون من موسى وحسب بل كان للنبيّ بمنزلة اقرب أوصياء كلّ نبي في زمن ذلك النبيّ، ففي الحديث عن الإمام الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (يا على أنت مني بمنزلة شيث من آدم وبمنزلة سام من نوح، وبمنزلة إسحاق من إبراهيم، كما قال تعالى (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) وبمنزلة هارون من موسى وبمنزلة شمعون من عيسى، وأنت وصيي ووارثي وأنت أقدمُهم سلماً وأكثرهم علماً وأوفرهم حلماً وأشجعهم
ص: 180
قلباً وأسخاهم كفّاً، وأنت إمام أُمّتي وقسيم الجنة والنار وبمحبِّتك يُعرف الأبرار من الفجار ويُميَّز بين المؤمنين والمنافقين والكفار (1).
أيّها القارئ الكريم : بعد ملاحظة هذه الأحاديث يسعنا القول بأن الجواب قد أتى وافياً لهذا الاستفسار الأوَّل.
من المعلوم أن النبيّ هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد مات في حياة النبيّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)وبموته انتفى موضوع خلافته لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعليه لا خلافة له بعد أخيه موسی
فالسؤال هو: كيف يُستدلّ بذلك على خلافة الإمام علي بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع أن هارون لم تكن خلافتة بعد موسى بل كانت في حياته وحسب
الجواب على ذلك بأمور:
أولاً : إن مجرد إثبات منزلة الخلافة بما هي خلافة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يكفي لاثبات ذلك بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أيضاً، لان منزلة الخلافة هي بنفسها يعني الاستحقاق لذلك وهذا الاستحقاق موجود بوجود صاحبه والإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقي بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فبقي معه هذا الاستحقاق وهذه المنزلة دون عزل من النبيّ له.
وحق عند الاحتمال أو الشك في بقاء هذه المنزلة وبقاء ذلك الاستحقاق بعد رحيل النبيّ نعمل بالقاعدة العقلائية الجارية عند الناس عادة، أعني قاعدة الاستصحاب، ونستصحب بقاء هذه المنزلة وهي الخلافة له (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ثانياً: لماذا لا نلحظ الحالة المقابلة لموت هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ أي نلحظ
ص: 181
الخلافة حال حياة هارون ونقول إن هارون كان خليفة طالما كان حيّاً فكذلك الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) تلازمه الخلافة طالما هو حي وموجود.
ثالثاً إن تأكيد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على أنه لا نبيّ بعده يُفهم منه جليّاً هو أن منزلة الخلافة والإمامة والقيادة باقية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولكنه ليس بنبي بعد نبوة النبيّ، ويؤيد هذا اقتران حديث المنزلة في بعض موارده بكلام صريح بالبعدية مثل وصيّي ووارثي وما شابه كما في حديث الدار، حيث هذه الأمور تكون عادة بعد وفاة الإنسان، فكذلك ما قرن معها من ذكر الخلافة أيضاً.
أليس الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أصبح خليفة وحاكماً بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟ وان كان ذلك بعد سنين طويلة، فقد تحقق ما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حقه، وهذا لا يضر بخلافة من كان قبله فان لفظ (بعدي) يحتمل البعدية غير المباشرة أيضاً ؟
الجواب: إنّ إثبات الخلافة له عالسلالة يستلزم إبطال خلافة من سواه لا سيّما خلافة أولئك الذين باشروا الحكم بعد رحيل النبيّ صل، وذلك لان المتبادر والمفهوم من كلام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه يريد إثبات الخلافة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعده مباشرة ودون فصل، فهذا أمر عرفي وشائع بين الناس فلو قال أحدهم: أعطوا مواريثي إلى فلان بعد حياتي فالمقصود أعطوه ذلك رأساً ومباشرة بعد الموت، لا أن يأخذها غيره ويعطيها لغيره وهكذا حتى تعود إلى صاحبها ؟!!
والأمر أوضح فيما لو كان الأمر يتعلّق بالحكم والخلافة وكان الكلام
ص: 182
صادراً من الحاكم نفسه، فحينما يقول رئيس القوم: إن رئيسكم بعدي فلان، لا يتردد القوم أن المراد بعده مباشرة وبلا فصل.
ومما يؤكد على أن مراد النبيّ اد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هي الخلافة المباشرة بعده هو استدلال الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بهذا الحديث في حواراته وخطبه مع القوم فقال - في ضمن خطبة الوسيلة : (فإن اللّه تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده وأفف بسيفي جحاده و جعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين، وشد بي أزر رسوله وأكرمني بنصره وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أُمته فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل - : (أيّها الناس إن علياً من كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، فعقل المؤمنون عن اللّه نطق الرسول إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأُمّه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه ولا كنتُ نبيّاً فأقتضي نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسی هارون (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حيث يقول : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (1).
وكان خطابه ومحاججته هذه بعد أسبوع من وفاة النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ممّا يدلّ على فهمه وفهم الناس المباشرة للخلافة بعد النبيّ وبلا فصل.
الخلاصة : إن قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) مُنْضَمّاً إلى حديث النبيّ لعلي : (انت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي) يدل على خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والحمد للّه رب العالمين.
ص: 183
ص: 184
ص: 185
ص: 186
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّه وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (1).
تُعدُّ هذه الآية المباركة من آيات الولاية لأمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)وكذلك للأئمة الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، حيث يمكن الاستدلال بها على إمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
الاستدلال بالآية
وأمّا كيفية الاستدلال بهذه الآية فمن جهات عديدة:
إنّ الآية بنفسها تدل على وجود جماعة معصومين من الذنوب والخطأ.. وبما انه لم يقل احد بوجود معصومين بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) غير الأئمّة الإثنی عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) ثبت أن ثبت أن مراد الآية من (الصادقين) - الذين تجب الكينونة معهم بمعنى لزوم إتباعهم - هم الأئمّة من آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وفي الحقيقة إن في هذه الجهة ادّعاءين يلزم إثباتهما حتى نخرج
ص: 187
بالنتيجة المطلوبة.. فادّعاء يقول بدلالة الآية على وجود جماعة معصومين وادّعاء آخر يقول إن المراد من أولئك الصادقين هم بالفعل هم الأئمّة الاثنا عشر (أئمة أهل البيت) (عَلَيهِم السَّلَامُ).
و لنناقش الأمر بصورته المفصلة:
لو تأملنا الآية المباركة وجدناها تدلّ على وجود جماعة معصومين يلزم إتباعهم، وهؤلاء هم الصادقون، ولهذه المفردة (الصادقين) ثلاث ملاحظات وهي:
الملاحظة الأولى : إن مفردة (الصَّادقين) في الآية المباركة جاءت مطلقة وغير مقيَّدة بنوع من أنواع الصدق ممّا يدل على إرادة جميع معاني ومصاديق الصدق، لأنه توجد موارد ومصاديق كثيرة للصدق، فتارةً يراد من الصدق معناه المضيَّق وهو مطابقة القول والخبر للواقع الخارجي، وتارةً يأتي الصدق بمعنى أوسع وهو مطابقة الاعتقاد والإرادة والسلوك - وما إلى ذلك - مع الواقع والحقيقة فيقال: فلان صادق في عزيمته، وذلك حينما يحقق أهدافه على الأرض، وفلان صادق في تصرفاته ومواقفه، أي غير مراء فيها، وفلان صادق في عمله ومعاملاته، أي لا يغش ولا يتوانى فيها، فهناك الصدق بالقول وبالعمل والنية والفكر والعقيدة والصدق في السبل والطرق وغير ذلك.
فحينما قالت الآية: (الصَّادقين) بصورة مطلقة كان المعنى : الصادقين في كل شيء وفي كلّ حالة وفي كلّ زمن، وهذا لا يعني إلاّ العصمة لهؤلاء الأفراد، لأن العصمة للفرد تجعله صادقاً في كلّ صغيرة وكبيرة من قول وفعل وفكر ونية وغير ذلك.. ونفهم من هذا أن مفردة (الصَّادقين) تدلّ على
ص: 188
جماعة معصومين أرادتهم الآية.
الملاحظة الثانية: لو لاحظنا إطلاق الأمر في الآية للمؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين وإتباعهم لهم بصورة مطلقة نجد أن الأمر مطلق أيضاً وغير مقيَّد بحالة من الحالات وبخصوصية دون أخرى، بل تجب الكينونة معهم دائماً وفي كلّ الحالات ممّا يبين كونهم معصومين من المعصية والخطأ حتى يصح إتباعهم والاقتداء بهم في كلّ الأحوال والأزمنة وفي سائر الظروف.. فإنهم لو لم يكونوا معصومين وجاز عليهم الخطأ والاشتباه والمعصية لم يكن اللّه تعالى ليأمر عباده بملازمتهم دائما، لأن الحكمة تنافي ذلك، بل كان يفترض أن تُقيَّد الآية بطاعتهم وإتباعهم والكينونة معهم في حالات خاصة وهي حال كونهم مطيعين اللّه تعالى فقط، ممّا يكشف عن إمكانية صدور المعصية منهم في بعض الأحيان وفي هذا الفرض لا يصح ملازمتهم دائماً وفي كلّ الأحوال.
وكما نبهنا سابقاً في الحديث عن آية الطاعة أننا نلاحظ وصيَّة اللّه تعالى للإنسان بالإحسان إلى والديه والبر بهما جاءت مقيّدة ومشروطة بان لا يأمراه بالمعصية كما قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا بي كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (1) فقد أمر اللّه سبحانه وتعالى الأبناء بطاعة الوالدين، ولكن هذه الطاعة مقيّدة بشرط وهو أن لا يأمراه،بالمعصية، ومثل ذلك في سورة لقمان أيضاً حيث يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بوَالدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا
ص: 189
عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (1). (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبُهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(2).. بينما نلاحظ فيما نحن فيه أن الأمر جاء مطلقاً وشاملاً لكلّ حالات أولئك الصادقين ممّا يدلّ على أنهم جماعة معصومون من الذنب ولا يأمرون بالمعصية مطلقاً ولا يفعلونها مطلقاً بحيث يصح إتباعهم وملازمتهم مطلقا أيضاً.
الملاحظة الثالثة: لقد دعت الآية المؤمنين لأن يكونوا مع الصادقين فهل هؤلاء الصادقون هم جميع المؤمنين ؟
من المؤكد أنه ليس كذلك. إذ لا يمكن أن يراد من (الصَّادقين) هنا جميع المؤمنين، بل لابد أن يراد بعضهم، وذلك لأن المنادى غير المنادى إليه عادة، بمعنى أن الإنسان إنّما يُنادى ليطلب منه شيء آخر وذلك الشيء هو غير الإنسان المنادى نفسه وعليه لا يُدعى الإنسان ولا يُطلب منه الكينونة مع نفسه، والآية طلبت من المؤمنين أن يتّبعوا الصادقين فيلزم أن يكون الصادقون هنا غير من نودوا وخوطبوا،بالآية، لأن المنادى غير المنادى إليه فالصادقون هم بعض المؤمنين الموصوفين بالصدق الشامل والمطلق والدائم و بمعنى آخر هم المعصومون الذين يلزم على بقية المؤمنين متابعتهم.
وبهذه الملاحظة الثالثة تتم الدعوى الأولى من دلالة الآية على وجود جماعة خاصة وأفراد محددين موصوفين بالعصمة.
ص: 190
لاشك أن المراد من الصادقين في الآية هم أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)..
لقد أثبتنا آنفاً وجود المعصومين وهم (الصَّادقين) في الآية فعلينا الآن إثبات أن المراد من الصَّادقين في الآية هم أئمّة أهل البيت عليا واثبات هذا المدعى يكون بملاحظة أمرين :
الأوّل: هو ما ثبت من أن العصمة للشخص توجب على الآخرين لزوم إتباعه وطاعته وهذا معنى الإمامة له.. أي أن المعصوم إنما وجبت العصمة له لأنه خليفة اللّه تعالى في الأرض، فإذا دلّت الآية على وجود معصومين فقد دلت على وجود الأئمّة والخلفاء والحجج الالهيّة.
الثاني : بعد ما ثبت لزوم وجود المعصومين الذين يلزم إتباعهم في الآية وتلزم الكينونة معهم لابد من القول أنهم هم الأئمّة الاثنا عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) إذ ليس هناك من ادعي لهم العصمة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) غيرهم، ولو رفضنا عصمتهم وإمامتهم كانت الآية باطلة في مفادها وطلبها، وذلك لتكليف المؤمنين بما هو محال أي غير موجود، وحاشا لكتاب اللّه أن يدعو الى متابعة ما لا وجود له أصلا، فهو تكليف بما لا يطاق، فلابد من حمل الآية على القول الحقّ من أن المراد هو الإتباع للائمة الصادقين المعصومين (عليهم صلوات اللّه تعالى).
أيها القارئ الكريم : إلى هنا انتهينا من الحديث عن الجهة الأولى ومما تقدم يتضح دلالة الآية بنفسها على خلافة الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 191
أو لحقها، والآن نتحدث عن هوية هذا الصادق والمعصوم والإمام وذلك بعد ضم هذه الآية إلى آيات أخرى وصفت الصادقين بأوصاف متعدّدة يتميز وينفرد بها الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممّا يدل على أنه هو المراد منها تنزيلاً أم تأويلاً.
وبعد ضمّ تلك الآيات إلى هذه الآية نخلص إلى أن هذه الآية تدعو المؤمنين الى إتباع الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي يحمل صفات أولئك الصادقين، فهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الصادقين بشكل كامل وشامل ونحن مأمورون أن نكون معهم.
فإن الآية تقول : (كُونُواْ مَعَ الصَّادقين) ولم تقل (من الصادقين) لأن المراد الإتباع لهم ولأنه لا يمكن أن نكون منهم بعد أن أريد منهم المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهم أفراد خصهم اللّه تعالى بالعصمة والصدق والطهارة المطلقة.
أمّا الآيات التي تنضم إلى هذه الآية فهي قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ باللّه وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلائِكَة والكتاب وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (1).
وأيضاً قوله سبحانه:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبيل اللّه أَوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (2)
ص: 192
وقوله سبحانه أيضاً:
(للْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّه وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أَوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (1).
فنلاحظ أن الآيات - لاسيّما الأولى منها - اشترطت مجموعة من الصفات فيمن يُنعتون بالصادقين من الإيمان والإنفاق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وفي ساحة القتال وابتغاء الفضل من اللّه والرضوان ونصرة اللّه تعالى ورسوله و.. إلى آخرها.
وإذا أنصفنا وراجعنا كتب التاريخ والسير في تلك الحقبة لم نجد هذه الصفات مجتمعة بأجمعها في صحابة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سوى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد اجتمعت فيه هذه الصفات وجاءت النصوص من آيات أخرى وأحاديث تصفه بهذه الصفات وبغيرها.. فهو أول الناس إيماناً وهو الذي أقام الصلاة وصلّى مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قبل غيره من المسلمين بسبع سنين وهو الذي نزلت فيه : وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مسكينًا وَيَتيما وأسيرًا * إِنَّمَا نُطْعمُكُمْ لوَجْه اللّه لَا نُرِيدُ منكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُور) (2).
وهو الذي قال اللّه تعالى فيه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون) (3) وهو الذي شهد له الجميع انه لم يفر من حرب ولا زحف، وهو من وفى بالعهد مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)بخلاف غيره ممّن خذل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وولى هارباً، فلم يكن هو ممّن انطبقت
ص: 193
عليه صفات الصادقين في الآية الآنفة لأنه لم يستكمل تلك الصفات فلا ينبغي اتخاذه إماماً حتى وان تصدّى للخلافة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ثم إننا حتى ولو افترضنا أن لتلك الآيات - و تلك الصفات التي احتوت عليها - مصاديق كثيرة من المؤمنين المجاهدين الذين ثبتوا مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلا انهم كانوا على درجات مختلفة ولا شك أن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو المصداق الأجلى والأسمى والأفضل لكل تلك الآيات والصفات، فكان هو المراد في الآية المباركة - آية الصادقين - والمطلوب هو إتباعه وملازمته، وهذا يعني اتخاذه إماماً وقدوة و كذلك الأئمّة الأطهار من أولاده (عَلَيهِم السَّلَامُ).
إذن هذه جهة ثانية في الآية بعد ضمها إلى الآيات الأخرى دلّت إمامة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى اقل الفروض أنها كانت داعمة ومسندة للأدلّة الأخرى من آيات ونصوص ممّا ذكر وستذكر إن شاء اللّه.
وثالثاً : الاستدلال بهذه الآية المباركة من حيث الروايات التي جاءت في تفسيرها والتي تصرّح بان المراد من كلمة (الصَّادقين) في الآية هو شخص أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو هو مع أولاده الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ).. وجاءت هذه الروايات في كتب المسلمين عامة سنة وشيعة ونذكر هنا بعضها.
في مصادر غير الشيعة
1 - روى العلّامة السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: (اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : مع علي بن أبي طالب (1).
ص: 194
2 - نقل الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن عبد اللّه بن عمر في قوله تعالى: (مع الصادقين) قال: مع محمد وأهل بيته (1).
3 - العلّامة الآلوسي في روح البيان عن ابن عباس بان المراد هو: كونوا مع علي ابن أبي طالب (2).
4 - العلّامة ابن الجوزي قال : قال علماء السير : معناه كونوا مع علي وأهل بيته.. قال بن عباس: علي بن عباس: على اللّه سيد الصادقين (3).
هذه بعض المصادر من كتب أهل السنة وهناك مصادر كثيرة لهم بذلك.
وأما من مصادر أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)
1 - في الكافي عن ابن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ). قال الراوي: سألته عن قول اللّه (عز وجل) : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : (الصادقون هم الأئمّة والصديقون بطاعتهم) أي أنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) صديقون بطاعتهم اللّه تعالى (4).
2 - كتاب الكافي عن بريد بن معاوية قال : سألت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه (عز وجل): (اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال: إيانا عنى.
قال الشارح: سر ذلك أنه ليس المراد بالصادقين الصادقين في الجملة إذ ما من احد إلا وهو صادق في الجملة حتى الكافر، والله سبحانه لا يأمر
ص: 195
بالكون معه، بل المراد بهم الصادقون في إيمانهم وعهودهم وقصودهم وأقوالهم وأخبارهم وأعمالهم وشرايعهم في جميع أحوالهم وأزمانهم وهم الأئمّة المعصومون من العترة الطاهرة، لأن كلّ من سواهم لا يخلو عن الكذب في الجملة. انتهى. (1)
3 - عن عجلان أبي صالح قال : قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أوقفني على حدود الإيمان.
فقال : شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه والإقرار بما جاء به من عند اللّه وصلاة الخمس وأداء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت وولاية ولينا وعداوة عدونا والدخول مع الصادقين (2).
قال العلّامة المجلسي - موضحاً للحديث - : والدخول مع الصادقين متابعة الأئمّة الصادقين في جميع الأقوال والأفعال أي المعصومين كما قال سبحانه: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (3).
4 - وقد حاجج أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعض الزنادقة وبين لهم أن هناك آيات ترشد إلى طاعته اللّه وذكر منها آية الصادقين فقال لهم (...وقد جعل اللّه للعلم أهلاً، وفرض على العباد طاعتهم بقوله: (أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وبقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، وبقوله: (اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا
ص: 196
مَعَ الصَّادِقِينَ)، وبقوله : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ * وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)، والبيوت هي: بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، وأبوابها،أوصيائهم، فكلُّ مَن عَمل من أعمال الخير فجرى على غير أيدي أهل الاصطفاء، وعهودهم وشرائعهم، وسننهم، ومعالم دينهم، مردود وغير مقبول).. الخ (1).
ه - كما إنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) احتج على قريش والأنصار لما تكلموا في فضائلهم وطلبوا منه أن يتكلم فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما قال : (أنشدكم اللّه أتعلمون أن اللّه (عز وجل) لما أنزل في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) فقال سلمان: يا رسول اللّه عامة هذه أم خاصة ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أمّا المأمورون فعامّة المؤمنين أمروا بذلك، وأمّا الصادقون فخاصة لأخى على وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة؟
قالوا : اللّهم نعم (2).
ونلاحظ في كلام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه يشير إلى أن الأمر لا يختص بذلك الزمان بل شامل لكل الأجيال إلى يوم القيامة. وهذا أمر ظاهر من نفس الآية حيث أنها أمرت المؤمنين دائماً وفي كلّ أجيالهم أن يكونوا تابعين للصادقين - وهم المعصومون - ولابد من وجودهم دائماً حتى يتأتى للمؤمنين ذلك، وعلى المسلمين اليوم أن يتساءلوا عن أولئك المعصومين الصادقين الذين يلزم متابعتهم والكينونة معهم ليعملوا بهذه الآية المباركة..
ص: 197
نعم إن إمامنا المهدي المنتظر (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الإمام الذي شملته الآية والذي يلزم الإيمان به في زماننا هذا كما اخبر به النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والنصوص الكثيرة التي ذكرت في محلّها.
أيّها القارئ الكريم: هذه بعض الروايات من الطريقين، وهذه هي الجهة الثالثة في الآية المباركة، وقد ثبت لنا أنها تدلّ - بكل وضوح - على أن المراد من (الصادقين) هو الإمام أمير المؤمنين وأولاده المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
بقيت بعض الشبهات أو الاستفسارات حول الآية ودلالتها وها نحن نتناولها ونحاول الإجابة عليها.
الاستفسار الأول: هل الصادقون هم مجموع الأمة ؟
ذكر الرازي في تفسيره الكبير أن المراد من الصادقين في الآية هم مجموع الأمة، وذلك بعد إقراره لمفاد العصمة من الآية حيث قال في تفسير الآية المباركة : إن قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) أمر لهم بالتقوى، وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متَّقياً، وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ، فكانت الآية دالة على على أن من كان جائز كان جائز الخطأ الخطأ وجب وجب كونه مقتدياً بمن كان واجب العصمة وهم الذين حكم اللّه تعالى بكونهم صادقين، فهذا يدلّ على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتیيكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعن قائم في جميع الأزمان، فوجب حصوله في كلّ الأزمان).
إلا انه يرى أن ذلك المعصوم هو مجموع الأمة حيث يقول بعد ذلك:
ص: 198
(نحن نعترف بأنه لابد من معصوم في كلّ زمان، إلا أنا نقول : ذلك المعصوم هو مجموع الأمة، وأنتم تقولون : ذلك المعصوم واحد منهم، فنقول: هذا الثاني باطل، لأنه تعالى أوجب على كلّ واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو، فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق، وانه لا يجوز لكنّا لا نعلم إنساناً معيَّناً موصوفاً بوصف العصمة، والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة، فثبت أن قوله: ﴿وَكُونُوا مَعَ الصادقين) ليس أمراً بالكون مع شخص معيَّن، ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأُمّة، وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب، ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك) (1).
في الإجابة على هذه الشبهة أو السؤال يمكن القول:
أولاً: إننا ذكرنا أن المنادى به غير المنادى إليه، فان مجموع الأمة في الجملة والمجموع هي المخاطبة والتي نودي بها المخاطبة والتي نودي بها وهي المطلوب منها أن تكون مع الصادقين فلا يمكن أن تكون في نفس الوقت هي بمجموعها أيضاً منادى إليه فهي في الجملة كمجموع منادى بها مطلوب منها أن تكون مع ثلة مخصوصة مميّزة في هذه الأمة.
ثانياً: كيف يمكن المصير إلى رأي جميع الأمة حتى يمكن متابعتهم والأخذ برأيهم وطريقتهم؟ وهل يعقل أم يتصور حصول ذلك في آن من الآنات حتى يلزم ذلك دائماً وأبداً ؟!! لا شك أنه أمر صعب المنال، وحتى لو
ص: 199
أريد منه إجماع علماء الأمة وأعلامها وحسب فهو أمر لا يصار إليه.
ثالثاً: متى كانت الأمة مجتمعة في زمن من الأزمنة ؟! وهذا تاريخها بين أيدينا، وكانت ولازالت منقسمة ومشتتة الآراء والمذاهب والفرق، وقد اخبر الصادق المصدَّق (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن انقسامها إلى أكثر من سبعين فرقة (1).
رابعاً: ولو سلمنا جدلاً أن المراد هم مجموع الأمة وإجماعها فان هذا لو حدث فانه يحدث في بعض المسائل وفي بعض الأحيان، مع العلم أن الآية أرادت الكينونة مع الصادقين دائماً وأبداً، فكيف لنا بوصولنا إلى إجماع الأمة في كلّ المسائل وبصورة دائمة !!
خامساً: في الحقيقة نحن نعرف إنساناً موصوفاً بالصدق بصورة مطلقة بحيث يكون معصوماً - كما نصَّت الأحاديث من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ذلك وكما ذكرنا بعضها - وليس كما يقول الرازي بانه لا نعلم ذلك وأنه لابد من المصير إلى أن المراد من الصادقين هو مجموع الأمة، بل نحن على علم بوجود المعصوم من أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فنصير إليهم ونكون معهم.
الاستفسار :الثاني: قد يقول قائل : أليس من الممكن أن تريد الآية معنى مبسطاً وهو النصح للمؤمنين بان يكونوا من الصالحين والصادقين في أقوالهم وأفعالهم كما يأمر الواعظ والناصح الناس والمؤمنين بذلك ؟
الجواب: إنه قد تبيَّن من خلال ما قلناه أن هناك فرقاً بين القول كن
ص: 200
من الصادقين أو كن مع الصادقين، فالأول بمعنى كن واحداً منهم والآخر بمعنى كن متابعاً لهم وبصورة مطلقة، وحمل معنى الآية على المعنى الأوَّل يحتاج إلى دليل خاص وكما اعترف الرازي أيضاً بذلك حيث قال: (إنه عدول عن الظاهر من غير دليل) (1).
الاستفسار :الثالث: إن الآية جاءت بصيغة الجمع (الصادقين) هذا يتلاءم مع الجماعة والأمة فكيف يراد منها الإمام المعصوم وهو فرد واحد ؟
الجواب: استعملت صيغة الجمع في القرآن الكريم في موارد متعددة وأريد منها شخص واحد كما سيأتي في محله، هذا أولا. وثانيا: إن المعصومين من الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) هم اثنا عشر إماماً والآية ما قيّدت ذلك بزمن واحد بل جاءت مطلقة، فيمكن إرادة جميع الأئمّة المعصومين من كلمة (الصادقين) كما توضح ذلك في بعض الروايات أيضاً.
الخلاصة:
لقد دلّت آية الصادقي: (كُونُوا مَعَ الصادقين) بإطلاقها على وجود المعصومين الذين تجب متابعتهم.
كما دلّت الآية بضمها إلى آيات أخرى وبدلالة الروايات من الفريقين على أن المراد من (الصادقين) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأولاده الأئمّة المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
هذا.. والحمد للّه رب العالمين.
ص: 201
ص: 202
ص: 203
ص: 204
بسم اللّه الرحمن الرحيم
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1).
تُعدّ هذه الآية المباركة من الآيات ذات الدلالة على ولاية الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإمامته.
الاستدلال بالآية
ويتمُّ الاستدلال بها من جهتين :
أوّلاً: من جهة أن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو المراد من قوله: (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) كما أشارت إلى ذلك النصوص في المصادر الإسلامية، وسنبين ذلك إن شاء اللّه.
ثانياً: من جهة الحصر في الآية فبعد إثبات أن كلمة (إنما) تفيد الحصر، تنحصر الولاية في اللّه سبحانه وتعالى وفي النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وفي أولئك
ص: 205
الذين وصفوا بأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، أي الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما سيتوضح ذلك، وبعد إثبات الحصر يتعيّن أن المراد من الولاية المشار إليها في الآية هي بمعنى الأولوية على الآخرين والقيمومة عليهم وليست بمعنى الصاحب والناصر وما شابه.
ولتوضيح الاستدلال بالآية نقول:
لقد جاءت الروايات الكثيرة في شأن نزول الآية في كثير من التفاسير وكتب الحديث وصرّحت بأنها نزلت في علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث تصدق بخاتمه على سائل سأل الناس في المسجد وكان (عَلَيهِ السَّلَامُ) مشغولاً في صلاته، وبينما هو في ركوعه إذ أشار إليه بإصبعه الذي تختم به فجاء السائل واستخرج الخاتم منه فنزلت الآية وبيّنت هذا الواقع واعتبرت أن هذا المتصدق في ركوعه هو الولي بعد اللّه (عز وجل) ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وفي الواقع إن الاستدلال بهذه الجهة هو استدلال بالروايات الكثيرة التي دلّت على ذلك وقد تجاوزت الأربعين رواية في هذا المضمون حتى اعتبر هذا الخبر من الأخبار المتواترة وقد أسندت هذه الروايات إلى عشرة من الصحابة وأربعة عشر من التابعين فضلاً عمّا جاء عن طريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقد أوردت ذلك التفاسير ولاسيما المهمة منها مثل تفسير الرازي والقرطبي والسيوطي والحسكاني والزمخشري والطبري (1) وغيرهم من كبار أئمّة
ص: 206
التفسير من الفريقين كالطبرسي في المجمع و الطباطبائي في الميزان، وقد ذكر المحقق الشيخ مولانا في كتابه (الخاتم لوصي الخاتم) أكثر من مائة من كبّار مفسِّري ومحدّثي العامّة ممّن صرَّحوا بذلك(1)، وللمنصف أن يذعن بكذب ابن تيمية في تكذيبه هذا الحديث وكونه موضوعاً بالإجماع على حد زعمه(2).
فالروايات جاءت متفقة على تصدّق الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صلاته ونزول الآية بهذا الشأن مع اختلاف في بعضها عن الشيء الذي تصدق به من أنه حُلّة أم خاتم ؟ وليس ذلك بمهم، وربما وقعت القضية أكثر من مرة.
وإليك أيها القارئ الكريم: بعض تلك الروايات:
روايات في شان نزول الآية
1 - روى الثعلبي في تفسيره عن عبادة بن الربعي، قال: بينا عبد اللّه بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول اللّه : إلا قال الرجل : قال رسول اللّه. فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت ؟ قال : فكشف العمامة عن وجهه وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بهاتين، والاّ صُمَّتا ورأيته بهاتين وإلاّ
ص: 207
فعميتا يقول: (علي قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خَذله) أما إني صلَّيتُ مع رسول اللّه يوماً من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهم اشهد إني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئاً، وكان على راكعاً فأوماً إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فلما فرغ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الصلاة رفع رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم إن أخي موسى سألك، فقال: (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري)(1) الآية، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: (سَنَشُدُ عَضُدَكَ بأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ (2) اللّهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللّهم فاشرح لي صدري ويِّسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري).
قال أبو ذر : فوالله ما استتم رسولُ اللّه الكلمة حتى نزل عليه جبرئيل من عند اللّه، فقال: يا محمد إقرأ، فقال: وما أقرأ ؟ قال : إقرأ : (إنّما وليّكم اللّه ورسوله إلى (راكعون) (3).
2 - وعن الإمام أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله (عز وجل): (إنما
ص: 208
وليكم اللّه) الآية، إنّ رهطاً من اليهود أسلموا فقالوا : مَن وصيك يا رسول اللّه ومَن ولينا من بعدك؟
فنزلت هذه الآية، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): قوموا، فقاموا فأتوا المسجد فإذا سائل خارج، فقال : يا سائل أما أعطاك أحد شيئاً؟ فقال: بلى هذا الخاتم، فقال: من أعطاك ؟ فقال أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي، قال: على أي حال أعطاك ؟ قال : كان راكعا فكبّر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وكبر أهل المسجد، فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : علي بن أبي طالب وليكم بعدي(1).
3 - و عن عمار بن ياسر قال وقف لعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) سائل وهو راكع في صلاة تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فأعلمه بذلك، فنزلت على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هذه الآية: (إنما وليكم اللّه ورسوله - إلى قوله - وهم راكعون) فقرأها علينا ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه (2).
وروى شبيه ذلك الخوارزمي في مناقبه وأشار هناك إلى أبيات حسّان بن ثابت بهذه المناسبة حيث انشأ :
أبا حسن تفديك نفسى ومُهجتي***وكل بطيئ في الهدى ومسارع
أيذهب مدحك والمحبر ضائعا***وما المدح في حب الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا***فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية***فبينها في محكمات الشرائع (3)
ص: 209
4 - كما قال الألوسى في تفسيره للآية وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم اللّه تعالى وجهه، فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما بإسناد متّصل قال : أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقالوا: يا رسول اللّه إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا باللّه تعالى ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و صدَّقناه رفضونا و آلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : إنما وليكم اللّه ورسوله، ثم إنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل فقال: هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال : نعم خاتم من فضة، فقال: من أعطاكه ؟ فقال : ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم اللّه تعالى اللّه تعالى وجهه، فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): على أي حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثم تلا هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ).
فأنشأ حسّان.. وذكر الآلوسي الابيات ثم قال:
(واستدلّ الشيعة بها على إمامته (كرّم اللّه تعالى وجهه) ووجه الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع نزلت فيه (كرّم اللّه تعالى وجهه) وكلمة (إِنَّمَا) تفيد الحصر، ولفظ الولي بمعنى المتولّي للأمور والمستحق للتصرُّف فيها، وظاهر أن المراد هنا التصرُّف العام المساوي للإمامة بقرينة ضمّ ولايته (كرّم اللّه تعالى وجهه) بولاية اللّه تعالى ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره، وإلاّ لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع، فقد جاء
ص: 210
في غير موضع، وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل وأنّ من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى : (إنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً) (1) ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضاً حق أن فعله سجيّة لكل مؤمن، وهذه نكتة سريّة تعتبر في كلّ مكان بما يليق به) (2)
وهناك الكثير من المصادر التي ذكرت هذه القضية، فمن أحب التفصيل فليراجعها، وإنما أردتُ ذكر بعض ذلك هنا لأنها هى الأصل في الاستدلال في هذه الآية على الإمامة لأمير المؤمنين التالية وهي التي أشارت إلى سبب وشأن نزول الآية فهي العمدة في الاستدلال، فقد قال اللّه تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (3) وقد نزلت الآية وبينها النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما في هذه الروايات، فيكفي بها الاستدلال على ذلك.
ثانياً: وأما الاستدلال من جهة الحصر في الآية
فقد ذكر أهل اللغة العربية في كتب البلاغة أن كلمة (إنما) تفيد الحصر وهو أمر مفروغ عنه عندهم، قال جلال الدين الشافعي والمعروف بخطيب دمشق في متنه (تلخيص المفتاح) والذي شرحه التفتازاني في كتابه المطول والآخر المختصر، قال : (وللقصر طرق...منها (إنما) كقولك إنما زيد كاتب،
ص: 211
لتضمّنه معنى (ما) و (إلا) أي إن كلمة (إنما) تفيد معنى النفى والإثبات، بمعنى إثبات ما بعد (إنما) ونفي لما سواه فيقال مثلاً إنما السخاء سخاء حاتم، يريدون نفي السخاء عن غيره).
فيقال : فإذا طبَّقنا ذلك على (إنما) الموجودة في الآية المباركة كان المعف انحصار الولاية على المؤمنين في اللّه تعالى ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و في الذين آمنوا ممّن هم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون أي في حالة الركوع، وإذا انحصرت الولاية في ذلك كان لابد من حمل معنى الولاية في الآية على الأولوية في التصرف في شؤون المؤمنين كما هي ولاية النبيّ على الناس، ولا يكون معناها حينئذ النصرة أو المحبة، أي لا يكون معنى الآية هو إنما اللّه ناصركم ورسوله وهذا الذي يتصدّق وهو راكع، لأنه من المؤكد أن غير هؤلاء من المؤمنين من الناس هم أيضاً ينصرون المؤمنين الآخرين ويحبونهم، كما في قوله تعالى: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)(1)، فلا مفاد ولا فائدة حينئذ من الحصر في الآية.
ورُبِّ قائل يقول : إن القول بالحصر في الآية يعود بالأمر إلى خلاف ما يقوله الإمامية في تعدد الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلى اثني عشر إماماً، لان الآية حصرت الولاية في علي والنبي بعد ولاية اللّه تعالى ؟!
ويمكن أن يقال في الجواب: إنه صرّحت بعض الأحاديث - كما سيأتي - بأن كلّ إمام من أئمّة أهل البيت كان اذا انتقلت اليه الإمامة قام بهذا الدور أيضاً أي صلّى وتصدّق وهو في الركوع فشملتهم الآية من هذا الوجه
ص: 212
ويمكن أن يقال أيضاً: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد نص كلّ منهما على الأئمّة من ذريتهما (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهما منصوص عليهما بالولاية من قبل اللّه تعالى في هذه الآية، فمن نصا عليه فهو الولي من بعدهما، هذا بالإضافة إلى أن الآية خاطبت المؤمنين المعاصرين لنزول الآية وحينها كانت الولاية اللّه ولرسوله ولأمير المؤمنين محصورة فيهم، ولا ينافي هذا أن تكون الولاية بعد هم للائمة من ذريتهم (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين).
فإن قال قائل : إن (إنما) في الآية لم تستعمل في حقيقة ما وضعت له وهو الحصر لجواز أن تأتي في غير الحصر مجازاً؟.
والجواب على ذلك: إن الاستعمال للكلمة وان كان اعم من الحقيقة والمجاز إلا أن هذا يحتاج إلى قرائن تصرف الكلمة عن استعمالها في معناها الحقيقي إلى المعنى المجازي وان الأصل في الاستعمال هو الحقيقة لا المجاز، هذا فضلاً من أن القرائن الموجودة والمحفوفة بالآية المباركة تؤيد معنى الحصر الحقيقي لا المجازي كما سنبين لاحقاً إن شاء اللّه.
أسئلة واستفسارات
ربما ترد بعض الأسئلة في خصوص دلالة الآية على الولاية والإمامة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلنناقش بعض المهم منها
إن ما ذكر من دلالة الآية على الإمامة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتوقف على إرادة معن الأولوية بالتصرف من كلمة (وليّكم) فحينها يكون المعنى هو أولى بالتصرف بكم فهو الإمام عليكم ! ولكنه قد يراد من المفردة هذه غير هذا
ص: 213
المعنى، فهناك معاني أخرى لهذه الكلمة مثل الناصر والمحب والصديق والجار وغير ذلك إضافة إلى معنى الأولوية بالتصرف، وقد حمل بعض المفسرين معناها على النصرة،والمحبة، فكيف حملتم معناها على الأولوية؟
وليُّكم بمعنى الأولى بكم
نقول في الجواب : القرائن والأدلّة تدلّ على إرادة معنى القيمومة والأولوية بالتصرف من كلمة الولي هنا، فمنها:
أوّلاً : السياق الذي جاء عقيب هذه المفردة يدلّ على هذا المعنى المراد، حيث ذكر الولاء والتولي على حد سواء اللّه سبحانه وللرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة...الآية فأسند،الولاء وبشكل واحد إليهم ممّا يدل على أن الولاية للجميع بمعنى واحد، ومن الواضح أن الولاية اللّه وللرسول إنّما هي بمعناها الأوسع والاهم وهي الولاية على النفس وعلى التصرف بالأمور وبمعنى القيادة والقيمومة على الناس فتكون الولاية للذين آمنوا هنا هي نفس الولاية، ولو كانت الولاية المنسوبة إليهم هي غير ولاية اللّه ورسوله لكان الأنسب أن تفرد كلمة أخرى لتولّي هؤلاء لئلّا يقع الالتباس وتقع الشبهة، كما نلاحظ ذلك مثلاً في قوله تعالى:
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُرٌ قُلْ أَذُنْ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ باللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1).
فقد كُررّت كلمة (يؤمن) مرتين واحدة (يؤمن باللّه) والأخرى (يؤمن
ص: 214
للمؤمنين) إحداهما مع الباء والأخرى مع اللام، ويؤمن الثانية ليست بمعف يؤمن الأولى، فالثانية بمعنى الاستماع والإصغاء للمؤمنين وحسن الظن بهم، بينما الأولى بمعنى الإيمان والاعتقاد باللّه سبحانه وتعالى، بينما نرى في الآية جاءت مفردة واحدة هي (وليكم) ونسب هذا الولاء للجميع على حدٍّ سواء.
ومما يؤيد إرادة نفس معنى الولاء للّه وللرسول هو إفراد هذه الكلمة وعدم جمعها، يعني (وليكم) ولم يقل (أولياؤكم) فان الولي هو اللّه تعالى ثم رسوله ثم خليفته وهذا الإفراد في كلمة (وليكم) يؤكد على أن نفس الولاية التي هي للّه تعالى هي نفسها للنبيّ وللذين آمنوا هنا ايضاً.
ثانياً: إن حمل الآية على غير المعنى الذي يراد يُخرج (إنما) عن الحصر، و يؤدي إلى أخذها إلى غير ما وضعت له، لأنه لو قلنا إن وليكم بمعنى ناصركم أو مُحبكم أو ما شابه، فهناك الكثير ممّن ينصر المؤمنين ويحبُّهم وليس الأمر محصوراً على اللّه ورسوله وهؤلاء البعض من المؤمنين الذين وصفتهم الآية بأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع.
ومن الواضح أن إبقاء الكلمة (إنما) في استعمالها لما وُضعت له - وهو الحصر - أولى من إخراجها إلى المجاز.
وربما يجيب السائل بقوله : إن في الآية قرينة على إرادة معنى المحبة والنصرة وهو المعنى الذي أخذ في معنى التولي في الآية التي قبلها وهو قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
ص: 215
الظَّالمين) (1) فالأولياء هنا بمعن النصرة والمحبة فكذلك في هذه الآية، بسبب السياق التي هي فيه.
نقول في الجواب:
أولا: إن الآية ليست في ذلك السياق، وإذا لاحظنا الآيات رأيناها بعيدة عن تلك الآية، فلنلاحظ الآيات كلها، يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّه أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ باللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئم ذَلكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُواْ الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّه وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْغَالِبُونَ) (2).
فالآية التي نحن فيها بعيدة عن ذلك السياق وهي اقرب إلى سياق
ص: 216
الذي هي فيه من ولاية اللّه تعالى ورسوله كما هو أيضا في الآية التي تلتها.
ثانياً: ليس من الضرورة أن ترتبط الآية مع ما قبلها من الآيات، فكثيرة هي الآيات التي لا علاقة لها بما يكتنفها من الآيات الأخرى، ولا يكون لهذا السياق المفترض من القوة بحيث يخرج الآية عن سياق هي اقرب إليه وهو كون التولي جاء اللّه وللرسول وللذين آمنوا مع ذلك الوصف على حدٍّ سواء فهذا السياق اقرب لمرادنا.
ثالثاً: إنه يمكن القول بوجود التناسق هنا أيضاً ولكن مع إبقائها على معنى الأولوية بالتصرف وإبقاء تلك الولاية لليهود والنصارى المنهية عنها بمعنى النصرة،والمحبة لأن طلب التولي اللّه ولرسوله وللذين آمنوا يتضمن أيضاً النهى عن نصرة أعداء اللّه والرسول من اليهود والنصارى كما إن الولاية بمعنى التصرف بالأمور والقيمومة هي أيضاً متضمنة لمعنى وجود النصرة والمحبة، فاللّه ورسوله والخليفة الحقّ هم أولياء للأمور ومحبُّون وناصرون للمؤمنين، فلا تكون الآية غريبة عن النسق المفترض لما قبلها ويبقى معنى الولاية هو بمعناه القريب إلى ولاية اللّه تعالى.
ورابعاً: إن الموضوع والكلام في تلك الآية هو عن ولاية بعض على بعض (لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) فالحديث عن الولاية بمعنى المحبة والنصرة بين بعض الناس إلى بعض، ولكن هذه الآية تبيّن ولاية اللّه تعالى وولاية رسوله اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهو حديث عن السلطة والقيمومية والأولوية بالتصرف في الأمور ثم تعطف عليها ولاية أولئك المؤمنين الذين وصفتهم الآية بوصف خاص - وهم علي والأئمّة من ولده عاللا - فأين هذا النسق من ذلك ؟!!، ولابد للمتمعّن والمنصف أن يفرق بين الولايتين.
ص: 217
من الملاحظ أن الآية ذكرت الأوصاف بصيغة الجمع لا المفرد فقالت: (الذين آمنوا.. يقيمون.. يؤتون.. وهم راكعون) ممّا يوهم إرادة جميع المؤمنين أو جماعة منهم وليس ولياً واحداً وهو علي اللّه كما استدلتم بالآية على ذلك؟
الجواب على ذلك:
أولاً : يكفي ما بينه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شأن نزول الآية، فبيانه أن الآية نزلت في حق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) - على ما جاء في هذه الروايات المجمع عليها خير دليل على انه أريد من هذه الصيغ المجموعة هذا المصداق الذي حصل وهو أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث تصدَّق بخاتمه أو حُلَّته وهو في الصلاة وفي حالة ركوعه.
ثانياً: هنال آيات أخرى جاءت في القرآن الكريم على صيغة الجمع وأريد منها شخص واحد، مثلاً: قوله تعالى:
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبياء بغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحريق) (1) وهو يحيى بن اخطب.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أذن خَيْر لَكُمْ يُؤْمِنُ باللّه وَيُؤْمِنُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لَّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (2) والمؤذي هو شخص اسمه
ص: 218
عتاب بن قشير أو غيره.
وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونهمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (1) والمراد هو مرثد بن زيد الغطفاني.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْر فَالْوَالدَيْن وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللّه فَإِنَّ اللّه به عَلِيمٌ) (2). والمراد من (يسألون) هو عمرو بن الجموح حيث سأل الني عماذا يتصدق؟.
وكذلك قوله تعالى: ﴿الَّذينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم باللَّيْل وَالنَّهَار سرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (3). والمنفق هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث انفق درهماً في الليل وآخر في النهار سرّاً وعلانية.
نلاحظ في هذه الآيات أنها جاءت بصيغ الجمع وأريد منها المفرد، فلا مانع أن تكون هذه الآية التي نحن فيها من تلك الآيات أيضاً..
هذا.. وربما السرّ وراء ذلك هو - كما ذكره أهل البلاغة - من أن يُذكر الحكم على صيغة الجمع وعلى الجهة العامّة و يراد به جهة خاصة وذلك ليكون ترغيباً للإتيان بمثله فيما إذا كان الوصف أو الفعل حَسَناً أو تحذيراً من ارتكابه فيما إذا كان أمراً قبيحاً، فانه مثل ذلك يكون أكد من توجيه
ص: 219
القضية بشكلها الانفرادي إلى الشخص المفرد.
ثالثاً: قد يكون أيضاً استعمال الجمع في محلّ المفرد لأجل التبجيل والتفخيم والاحترام، كما في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1). وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (2).
رابعاً: لقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن كلّ إمام من أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) يفعل الذي فعله علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صلاته من التصدق في الصلاة في حال الركوع، فعنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه (عز وجل): (إنما وليُّكم اللّه ورسوله والذين آمنوا) قال : (إنّما) يعني أولى بكم أي أحق بكم وبأموركم وأنفسكم وأموالكم اللّه ورسوله والذين آمنوا يعني علياً وأولاده الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلى يوم القيامة، ثم وصَفَهم اللّه (عز وجل) فقال: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صلاة الظهر وقد صلى ركعتين وهو راكع وعليه حُلَّة قيمتها ألف دينار، وكان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كساه إياها، وكان النجاشي أهداها له فجاء سائل فقال : السلام عليك يا ولي اللّه وأولى بالمؤمنين من أنفسهم، تصدق على مسكين، فطرح الحلّة إليه وأومأ بيده إليه أن احملها فأنزل اللّه (عزَّ وجل) فيه هذه الآية وصيّر نعمة أولاده بنعمته، فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة، يكون بهذه النعمة مثله
ص: 220
فيتصدَّقون وهم راكعون والسائل الذي سأل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الملائكة، والذين يسألون الأئمّة من أولاده يكونون من الملائكة) (1).
وقد يقول قائل: وكيف يحضر ويصادف أن يأتي فقير وسائل وهم في حالة الصلاة والركوع ؟!
والجواب: لقد قرأت أنه يأتي ملك من الملائكة على صورة بشر إلى كلّ إمام لتنطبق الآية عليهم أيضاً. والله سبحانه قادر على كلّ شيء وليس أهل البيت اقل منزلة ممّن نزلت إليهم الملائكة وحدثتهم ممّا ذكر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشِّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمَن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ) (2).
وعلى أي حال فصيغة الجمع في الآية لا تخدش الاستدلال بها في المقام لما ذكر في هذه الأجوبة.
هل أن تصدق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صلاته وركوعه أمر يخالف حالة الخشوع التي ينبغي أن يكون عليها الإمام وهو في صلاته؟
وهل يخرج الإنسان من خشوعه وهو يقوم بمثل هذا العمل ؟.
الجواب:
ما قام به الإمام في صلاته لا ينافي الخشوع في الصلاة، وذلك لأنه ليس
ص: 221
المراد من الخشوع أن لا يسمع المصلّي ولا يرى ولا يحرك ساكناً وخاصة اذا كان لأمر هو من العبادة أيضاً، فالمصلي يستمع إلى إمام الجماعة وهو يقرأ سورة الحمد والسورة التي بعدها ويسمع أي صوت يصك مسامعه لأن من الواضح أن المصلي بخشوعه لا يصبح أصمّاً لا يسمع شيئاً، كما إنه لا ينافي خشوع المصلي أن تكون عيناه مفتوحتين يبصر أمامه وبين يديه ويلاحظ الإمام متى يركع أو يسجد ليتابعه بالأفعال، وكذلك بعض حركاته فهو يرفع يديه إلى أذنيه عند التكبيرات أثناء الصلاة ولا ينافي هذا حالة الخشوع، وكل ما فعله الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صلاة مندوبة و مستحبة أن ألقى حلّته التي على عاتقه إلى السائل أو مد إليه إصبعه فاخذ السائل الخاتم من إصبعه وليس في هذا شيء من الفعل الكثير، ورأيت بعض المعاندين للحق يُهرّج و ينكر هذه الفضيلة ويمل الحالة - في بعض الفضائيات - حيث يفتش عن محفظته في جيبه ثم يخرجها ثم يفتحها ويخرج منها ورقة نقدية ثم يمد يده ويقول المخاطبيه : أليس هذا مناف للخشوع فكيف يصنع ذلك مثل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في اثناء الصلاة ؟!
مع العلم أن الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يفعل شيئا سوى أنه مد يده الكريمة للسائل وفي إصبعه الخاتم و إضافة إلى ذلك إن فعله هذا كان عبادة في ضمن عبادة مستحبة.
وما المانع أيضاً أن يكون اللّه تعالى ألهمه (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذا الفعل؟! لأن اللّه تعالى يريد أن ينزل آية في حقه ويشير إلى منزلته وولايته على المؤمنين من بعد رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فلا مانع من كلّ ذلك.
ص: 222
من الواضح أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الوليّ والإمام على الناس في عهده والآية توجب الولاية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أيضاً، فمع وجود النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يتحقق به وجود الولي أيضاً فما معنى ولاية الإمام حينها وفي زمنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟
الجواب:
أوّلاً: لقد ذكرنا حديث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه القضية أنه قال في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه الولي من بعده، فالنبي هو بنفسه أجاب بان المراد ولاية علي من بعده فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - بعد نزول الآية وتصدّق الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) - : (علي بن أبي طالب وليكم بعدي) (1).
ثانياً: لا مانع من أن تكون للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولاية في طول ولاية النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أي أن النبيّ هو الولي على علي وعلى سائر المؤمنين و الإمام علي هو الولي على المؤمنين دون أن تكون له ولاية على النبيّ طبعاً، وهذه الولاية باقية ببقائه فهو الولي في زمن النبيّ على غير النبيّ بجعل من اللّه ورسوله وهو أيضاً الولي بعد رحيل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على سائر المؤمنين.
ثالثاً: إن الآية في مقام تثبيت الولاية اللّه وللرسول وللإمام دون ملاحظة الاعتبارات الأخرى من الحاليّة في الوقت أو البعدية، وإنما المهم في الأمر هو اعتبار الولاية من اللّه تعالى وتثبيتها للرسول والإمام المعصوم عليهما الصلاة و السلام.
ص: 223
الخلاصة
إن الآية دلّت على ولاية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من حيث أنها تحدثت عن تصدقه على السائل في صلاته وفي حالة الركوع، كما بينت ذلك الأحاديث، وبينت ذلك أيضاً من خلال الحصر الموجود في كلمة (إنما) في الآية وضمّ ولاية الإمام إلى ولاية اللّه تعالى وولاية النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ممّا دلّ على أنها ولاية في الحكم والخلافة والإمامة.
ويضاف إلى ذلك : إنها دلّت على الإمامة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث جعلته الولى مطلقاً ودائماً وفي كلّ الأحوال دون تقييد ذلك بشيء ما، ممّا يدل على عصمته، وهذا الأمر ملازم للأفضليَّة المطلقة على غيره وهو أمر ملازم للإمامة أيضاً..
هذا والحمد للّه رب العالمين.
ص: 224
ص: 225
ص: 226
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1)
من الآيات القرآنية الدالة على إمامة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) هي هذه الآية المباركة من سورة الشعراء، حيث جاء في شأن نزولها وفي مصادر المسلمين عموماً سُنّة وشيعة من الروايات ما يدل على ذلك، ولنلاحظ بعض ما ذكره المفسرون والمؤرِّخون في ذلك :
ذكر الطبري في تاريخه عن عبد اللّه ابن عباس عن الإمام علي بن أبي طالب :قال لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعاني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال لي: يا علي إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقتُ بذلك ذرعاً وعرفتُ أنى متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فَصَمت عليه حتى جاءني جبريل فقال: (يا محمد إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربُّك) فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة
ص: 227
وأملأ لنا عُسًا من لبن ثم أجمع لي بنى عبد المطلب حق أُكلّمهم وأبلِّغهم ما أمرت به، ففعلتُ ما أمرني به، ثم دعوتهم له - وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب - فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به فلما وضعته تناول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حذية من اللحم فشقَّها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال خذوا بسم اللّه، فأكل القوم حق مالهم بشيء حاجة وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم اللّه الذي نفس علي بيده ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدَّمتُ، ثم قال : اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يكلّمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال : لشدَّ ما سحَركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلِّمهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال الغد: يا علي إن هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أُكلِّمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إليَّ، قال: ففعلت ثم جمعتُهم ثم دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ثم قال : أسقهم فجئتُهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، ثم تكلم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال : يا بنى عبد المطلب إني واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلتُ - وإني لأحدتُهم سناً وأرمصُهم (1) عيناً وأعظمهُم بطناً
ص: 228
وأحمشهم (1) ساقاً - : أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فاخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع)(2).
وقال ابن أبي الحديد مستدلاً بالرواية على وزارة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (وأمّا خبر الوزارة، فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد اللّه بن عباس عن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : لما أنزلت هذه الآية : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).. ثم ذكر الرواية عن الطبري ثم علّق وقال: ويدل على أنه وزير رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من نص الكتاب والسنّة، قولُ اللّه تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أمْري) (3). وقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)، فأثبت له جميع مراتب هارون عن موسى فاذن هو وزیر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وشادّ أزره، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكاً في أمره)(4).
كما إن رواية أخرى رويت عن أبي إسحاق البراء نقلها الثعلبي في تفسيره وغيره عن أبي إسحاق عن البراء قال : لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً،
ص: 229
الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس، فأمر علياً برجل شاة فأدمها ثم قال : أدنوا باسم اللّه، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا باسم اللّه، فشرب القوم حق،رووا، فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يومئذ فلم يتكلّم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال : (يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من اللّه سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني ؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم، ويقول علي : أنا، فقال: (أنت) فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أُمر عليك (1).
وقد ذكر هذا الحديث في مصادر كثيرة لدى غير الإمامية (2).
وأما ما روي في مصادر الإمامية فمنها ما في تفسير الميزان، قال: وفي علل الشرائع بإسناده عن عبد اللّه بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (عَلَيهِما السَّلَامُ) :قال لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي رهطك المخلصين دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلاً
ص: 230
يزيدون رجلاً وينقصون رجلاً فقال: أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيّي وخليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً كلُّهم يأبى ذلك، حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول اللّه. فقال : يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام (1).
أيّها القارئ الكريم : إننا نستنتج من هذه الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية المباركة أن في الآية دلالة واضحة على خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، حيث صرّح (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له أنه وارثه ووزيره وخليفته من بعده، فتكون هذه الآية من الآيات الدالة على إمامة أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ).
أسئلة واستفسارات
هناك بعض الأسئلة والإستفسارات التي تُطرح في هذا المجال، ونحن نتناولها بالبحث والمناقشة
لقد وردت روايات أخرى في شان نزول هذه الآية وليس فيها ما يشير إلى موضوع الخلافة، فهل لنزول الآية قصة أخرى؟
الجواب: لقد وردت روایات باسانید ينتهى بعضها إلى عائشة وأخرى إلى أبي هريرة وثالثة إلى أبي موسى الأشعري وغيرهم، فمثلاً :
1 - في صحيح مسلم عن عائشة قالت لما نزلت (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ
ص: 231
الْأَقْرَبِينَ)، قام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على الصَّفا فقال: يا فاطمة بنت محمد: يا صفية بنت عبد المطلب: يا بني عبد المطلب: لا أملك لكم من اللّه شيئا، سلوني من مالي ما شئتم (1).
2 - وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما أنزلت هذه الآية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قريشاً فاجتمعوا، فعمّ وخَصّ فقال : يا بني كعب بن لؤي : أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني مرة بن كعب : أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني هاشم : أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني عبد المطلب : أنقذوا أنفسكم من النار.
يا فاطمة : أنقذي نفسك من النار، فاني لا أملك لكم من اللّه شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها (2).
3 - وعن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قال: لما نزلت على رسول اللّه : (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) انطلق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى صخرة من جبل فعلا أعلاها، ثم نادى أو قال يا آل عبد مناف إني نذير، إن مَثَلي ومَثَلكم كمَثل رجل رأى العدوّ فانطلق يربؤ أهله ينادي أو قال - : يهتف يا صباحاه (3).
وهكذا رواية أخرى عن البراء وغيره شبيهة بهذه المضامين، وهذه
ص: 232
المضامين لا علاقة لها بموضوع الولاية والإمامة.
فكيف التوفيق بين هذه الروايات وبين التي ذكرت قضية الخلافة؟
أجاب المحقِّقون عن هذا الاستفسار - بعد دراستهم لهذه الروايات وأسانيدها - من لحاظين لحاظ أسانيدها ولحاظ متونها.
أما من جهة أسانيدها فصرحوا أن هذه الروايات ينتهى سندها إلى مجموعة لا يمكن انتهاؤه إليهم، إذ بعد الدراسة والتحقيق تبين أنه لم يكن أحد من هؤلاء موجوداً يوم نزول الآية المباركة، حيث اجمع المفسرون أن آية الإنذار هي من سورة الشعراء وهي مكيَّة نزلت في العام الثالث بعد البعثة والحال أن من نُسب إليهم الرواية وهم (أبو هريرة وعائشة وأبو موسى الأشعري وابن عباس وقبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو وانس بن مالك وأبو إمامة والبراء بن عازب) منهم من لم يولد يومئذ ومنهم من لم يكن في مكة، فان عائشة ولدت في السنة الرابعة بعد البعثة، وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة قد وردا المدينة في السنة السابعة بعد الهجرة، وعبد اللّه بن العباس قد ولد بعد نزول الآية بسبع سنين في شعب أبي طالب، وأما قبيصة فهو لم ير النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمكة بل إلتقى به في المدينة، وأمّا زهير بن عمرو فكان من من أهل البصرة والتي تأسست عام أربعة عشر من الهجرة وهكذا البراء هو من قبيلة الأوس من أهل المدينة وكان عمره يوم بدر خمس عشرة سنة ولم يقبل النبيّ مشاركته ببدر لصغر سنه فيكون عمره يوم نزول الآية ثلاث سنوات، وأمّا
ص: 233
أبو أمامة فهناك خمسة يُكنّون بأبي إمامة وليس أحد منهم من أهل مكة ولم يكن احد منهم موجوداً يوم نزول الآية فكيف يجوز لواحد من هؤلاء أن يتحدّث عن شان نزول الآية مباشرة دون أن يسند ذلك لغيره، مع العلم أن ابن عباس في تلك الرواية المؤيدة لما نحن فيه قد نسب الحديث إلى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يسنده لنفسه كما نسب إليه هنا !! وللمزيد من التحقيق في ذلك يمكن مراجعة الكتب المخصصة في ذلك (1) .
اذن فالأسانيد كلّها ضعيفة والأحاديث غير مقبولة ولا يمكن الأعتماد عليها أو الاستدلال بها.
مناقشة المتون
ولابد من التوقف عند بعض هذه المتون ومناقشتها، فمثلا:
1 - نلاحظ في هذه الروايات أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خاطب - فيمن خاطب - فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) وقال : يا فاطمة سليني ما شئت لا أغني عنك من اللّه شيئا.. هذا مع أن ولادة الصديقة كانت في السنة الخامسة بعد البعثة بينما الآية كان نزولها في السنة الثالثة من البعثة ويعني هذا أن السيدة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) لم تكن قد ولدت بعد، على اصح الأقوال، وحتى لو فرضنا أنها كانت قد ولدت كما يدعي البعض إلاّ أنها لم تكن في سن التكليف الشرعي حق تخاطب بمثل ذلك الخطاب لاسيّما عند القوم الذين لا يرون لها خصوصية على سائر النساء، وأمّا عند أتباع أهل البيت فإنها (عَلَيهَا السَّلَامُ) لم تكن قد ولدت بعد ولم تكن
ص: 234
حاضرة حين نزول الآية.
2 - نلاحظ في بعض هذه الروايات أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خاطب بني عبد المطلب وبني كعب وغيرهم وقال لهم : إني لا املك لكم من اللّه شيئاً، أنقذوا أنفسكم من النار. مع أن هؤلاء في حينها كانوا كفارا لا يؤمنون برسالة النبيّ ولا بالمعاد، ومنهم من قال : (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (1) واتَّهم النبيّ بالكذب والسحر والجنون، فكيف يصح مخاطبتهم حينها بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (إني لا املك لكم من اللّه شيئا، أنقذوا أنفسكم من النار) ؟!!
إضافة إلى أن بعض هؤلاء ليسوا من عشيرته الأقربين، والآية قالت: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).؟!!
3 - من الواضح أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تزوَّج بعائشة وحفصة وأم سلمة في المدينة لا في مكة، والحال أن هذه الروايات صرحت بأنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) جمع بني هاشم ونساءه وأهله وفاطمة وعائشة وحفصة وأم سلمة وقال لهم ما قال مع أن الآية نزلت - كما بيّنا - في مكة قبل الهجرة بعشر سنوات.
فيتوضح لنا من خلال هذه الملاحظات والإشكالات أن هذه الروايات لا تصمد أمام النقد لا من جهة مسانيدها ولا من جهة مضامينها ومتونها، في حال سنرى صحة الأحاديث الأخرى ومتانة متونها لدى الفريقين.
في قبال ضعف تلك الرايات سَنَداً ومتناً نجد أن روايات حديث الدار
ص: 235
والتي فسرت الآية (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) في موضوع دعوة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)لعشيرته في دار أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) نجدها صحيحة لا غبار عليها.
فمثلاً: الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد يروي حديث الدار ثم يقول : رواه احمد ورجاله ثقات (1).
ص: 236
كما صححه الحاكم النيسابوري - وهو من كبار علماء اهل السنة - في المستدرك على الصحيحين، ووافقه على التصحيح الذهبي في تلخيص المستدرك، ويقول الشهاب الخفاجي: إن سند هذا الحديث صحيح (1).
وقد تسأل عن البخاري ومسلم لماذا لم يذكراه في صحيحيهما؟! والتساؤل في محلّه لأن الحديث جاء بأسانيد متعددة وبرجال موثقين عندهما فالحديث - باصطلاحهم - صحيح على شرط الشيخين فلماذا أهملاه ؟!(2)
لاشك أن هناك دواعي غير خافية على المتتَّبع، حيث لا يروق للبعض أن يُصرِّح بولاية الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو بما يشير إلى ذلك، وليس غريب ذلك في كتبهم فابن تيمية كذَّب الخبر من أساسه، والطبري ترك التفصيل في تفسيره وروى عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه قال: (أيكم يؤازرني على هذا الأمر.. إلى أن قال.. إن هذا أخي وكذا وكذا) بينما صرّح بذلك في تاريخه (3)، وليس ببعيد ما فعله محمد حسين هيكل من حذف ما دونه في كتابه في طبعته الأولى
ص: 237
عندما طبعه ثانياً (1).
وملخص الكلام - وهو بيت القصيد إن حديث يوم الدار هو حديث آية الإنذار وهو الحديث الصحيح وليس غيره.
ربما يقال إن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين نزول الآية كان صبيّاً، فكيف يعينه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خليفة ووصيّاً ووزيراً و.. الخ ؟
الجواب:
أوّلا : إن موضوع الخلافة والإمامة بما أنها بجعل من اللّه تعالى فلا يلاحظ فيها موضوع السن والعمر، أما نقرأ قوله تعالى في شأن يحيى النبيّ (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبيَّاً) (2) وكذلك بالنسبة للنبيّ عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) نقرأ قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)(3) قالها عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو بعد في المهد فلا يستغرب الإنسان المؤمن باللّه تعالى من ذلك.
ثانياً لقد صدر هذا الأمر من النبيّ الذي ما ينطق عن الهوى، فإذا
ص: 238
رفضنا قبوله والاعتراف به نكون مثل أولئك الذين ما قبلوا ذلك من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)وقاموا مستهزئين يضحكون، ونعوذ باللّه من ذلك.
ثالثاً: إن من يرجع إلى تاريخ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة من أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ويقرأ عنهم في صغرهم لا يشك ولا يتردد في أنهم لم يكونوا كسائر صغار الناس وأطفالهم بل كانت أفعالهم وأقوالهم تفوق أقوال وأفعال الرجال الكبار العاديين من الناس فلا تفتاً أقوالهم وأفعالهم ملازمة للحكمة والصواب.
وقد نقل العلّامة الأميني - في الغدير - كلمة الإسكافي في رده على الجاحظ في كتابه (النقض على العثمانية) بعد ما ذكر حديث الدار، فقال: فهل يُكلَّف عمل الطعام ودعاء القوم صغير غير مميز و غير عاقل؟!
وهل يُؤتمن على سرِّ النبوّة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع سنين؟!؟!
وهل يُدعى في جملة الشيوخ والكهول إلا عاقل لبيب ؟ !
وهل يضع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يده في يده ويعطيه صفقة يمينه بالأخوة والوصيّة والخلافة إلا وهو أهل لذلك،بالغ حد التكليف، محتمل لولاية اللّه عداوة أعدائه، ؟!
وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ؟ ! ولم يلصق بأشكاله ؟! ولم يُر مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه ؟ ! وهو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته ؟!
وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته، فيقال: وعاه بعض الصبا، وخاطر من خواطر الدنيا، وعملته الغرَّة والحَدَثة على حضور لهوهم، والدخول في حالهم؟!
بل ما رأيناه إلا ماضياً على إسلامه مصمماً في أمره، محققاً لقوله بفعله، قد
ص: 239
صدق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من بين جميع من بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته.. إلى آخر كلامه (1).
فلا يقاس أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بغيره من سائر الناس.
رابعاً: ثم إن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وان كان حينها صبيّاً إلا أن الخلافة التي كان على المسلمين أن يسندوها إليه هي بعد ارتحال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وحينها قد تجاوز سنُّه الثلاثين من العمر فلا مانع مانع من أن يعلن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خلافته ووصايته في بدايات الدعوة، وقد يكون النبيّ أراد أن يشير من بداية الأمر إلى موضوع الإمامة كما أشار إلى موضوع التوحيد والنبوّة.
قد يقول قائل : إن الخلافة والوصاية التي أرادها النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذه الرواية قد تكون في خصوص أهله وعياله فما هي العلاقة بين آية الإنذار والخلافة العامّة على سائر المسلمين ؟
الجواب:
إذا تأملنا كلام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مع القوم نجده صريحاً في الخلافة العامّة لأنه يقول : (من يؤاخيني ويؤازرني على هذا الأمر).. فما هو هذا الأمر؟ لاشك أنه أمر الإنذار والرسالة العامّة لجميع الناس، ثم يؤكد بعد ذلك قائلاً: (يكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني) يعني يخلفه في مهمَّته وهي الرسالة والقيادة، وقد وضح هذا الأمر أكثر حينما قال لهم بعد
ص: 240
إعلان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مؤازرته له: (إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا) ولو لم يقصد الخلافة العامّة من كلامه لما ضحك المشركون، فقد هزؤوا من عظيم طموح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث يرى حيث يرى أن مهمته ورسالته تامة وهو ماض فيها إلى حيث انه استخلف عليهم خليفة، فقالوا لأبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أطع ابنك فقد أمر عليك.
هذا.. إضافة إلى أن الخلافة على أهله من بعده أيضاً تستلزم تستلزم الخلافة على الجميع إذ لا تكون خلافتان في آن واحد (1).
ولعله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ذكر أهله في الكلام باعتبار أن الدعوة كانت لعشيرته الأقربين وباعتبار أن الإنذار كان لهم أولاً وليس لتخصيص الخلافة عليهم.
هذا، واعلم - أيّها القارئ الكريم - أن بعض أعداء أهل البيت كذب الخبر من أساسه كعادته في تكذيب الكثير من مناقب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال إن مجرد الإجابة إلى مثل ذلك لا يوجب الخلافة فان جميع المسلمين آزروه ولم يكن منهم احد خليفة له ومن الجائز أن يجيبه جماعة منهم فحينئذ من يكون خليفة منهم ؟ ؟ (2)
لجواب هو أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)لم يعتبر مجرَّد الإجابة لدعوته علة تامة للخلافة من بعده حتى تلزم الخلافة لكلِّ من أجابه حتى ولو لم يكن من عشيرته ! بل كان الخطاب موجهاً الى عشيرته بأمر من اللّه تعالى.
ثم إنه لو أجابه جمع منهم - فرضاً أمكن أن يختار واحداً منهم بأمر
ص: 241
من اللّه تعالى أيضاً وكان يقع الاختيار على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما يعلم اللّه تعالى من كفاءته وما أودعه فيه من مزايا كثيرة.
هذا.. والجدير بالذكر أن الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) استدلّ بحديث الدار على اولويته برسول اللّه وأنه وارثه، ومن الواضح أنه لا يقصد الوراثة،الماليَّة، بل يقصد الوراثة القيادية، فقد نقل الطبري في تاريخه والنسائي في خصائص أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أن رجلاً سأل الإمام عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلا: يا أمير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك ؟
فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هاؤم، ثلاث مرات حتى اشرأب الناس وأصغوا إليه، ثم ذكر (عَلَيهِ السَّلَامُ) حديث الدار إلى أن نقل قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة والى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي)، فلم يقم إليه احد فقمتُ إليه وكنت اصغر القوم فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): إجلس، ثم قال ذلك ثلاث مرات، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول إجلس، حتى كان الثالثة فضرب بيده على يدي ثم قال : فبذلك ورثتُ ابن عمي دون عمي (1).
الخلاصة :
لقد دلّ ما جاء في تفسير قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)مما فعله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وصرح به لعشيرته، دلّ على خلافة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبذلك عُدَّت هذه الآية من آيات الإمامة والولاية لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا ما أردنا بيانه في هذا الفصل.
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 242
ص: 243
ص: 244
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ (1).
تُعَدُّ هذه الآية المباركة من آيات الولاية والإمامة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وقبل الخوض في الاستدلال بها على ذلك نقف قليلاً على بيان بعض معانيها وشأن نزولها.
لقد جاء في تفسير الآية: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتِى)، أي أن اللّه سبحانه وتعالى يحيى الموتى في يوم القيامة للجزاء من ثواب وعقاب للعباد.
(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي أن اللّه تعالى يكتب ما قدم الناس من طاعتهم و معاصيهم في دار الدنيا، وقيل: يكتب ما قدموه من عمل ليس له أثر (وَآثارَهُمْ) أي يكتب سبحانه ما يكون له أثر أيضاً، وقيل: يعني
ص: 245
بسبب آثارهم يكتب لهم أعمالهم التي صارت سُنَّة بعدهم يُقتدى فيها بهم، حسنة كانت أم قبيحة وقيل : معناه و نكتب خطاهم إلى المسجد على ما ذكروا من شأن لنزول الآية، وسيأتي ذلك.
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين) أي و أحصينا و عددنا كلّ شيء من الحوادث في كتاب ظاهر و هو اللوح المحفوظ، و الوجه في إحصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور و يكون فيه دلالة على معلومات اللّه سبحانه على التفصيل، وقيل : أراد به صحائف
الأعمال وسمي ذلك مبيناً لأنه لا يُدرس أثره، هذا هو معنى الآية ظاهراً، - على ما في تفسير مجمع البيان للطبرسي - بتصرف وتوضيح منا..
وقد جاءت الآية تنذر الذي لا يهتم بإرشادات النبيّ وتبشر بالمغفرة لمن يؤمن باللّه تعالى ويستجيب للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
شأن نزول الآية:
روى أبو سعيد الخدري أن بني سلمة كانوا في ناحية المدينة فشكوا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه فنزلت الآية، وفي الحديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم.. كما ورد ذلك في تفسير مجمع البيان وفي البخاري أيضاً.
بعد التأمل في هذه الآية المباركة و مراجعة الروايات الواردة فيها يتبين لنا دلالة الآية على ولاية الإمام عليٍّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وذلك من خلال دلالتين:
ص: 246
الدلالة الأولى من جهة تعبير الآية بعبارة (الإمام) وكان هو المراد - كما سنلاحظ ذلك في الروايات الآتية - فإذا عُبّر في الآية عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعبارة الإمام - كما في تفسير الآية - تعيّن أن يكون هو الإمام بالفعل.
الدلالة الثانية: من جهة إحصاء كلّ شيء فيه، حيث دل ذلك على أفضليته على من سواه، ممّا يلزم إمامته على من سواه بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وقبل مناقشة الموضوع نتوقف عند ذكر بعض الروايات في تفسير هذه الآية في كتب الفريقين.
أولا : ممّا جاء في مصادر غير الإمامية
1 - ذكر القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة قال:
في المناقب: بالسند عن أبي الجارود، عن محمد الباقر، عن أبيه، عن جده الحسين عالكلام لما نزلت هذه الآية: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبينٍ) قالوا: يا رسول اللّه هو التوراة أو الإنجيل أو القرآن ؟ قال: لا، فأقبل إليه أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): هو هذا الإمام الذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شيء (1).
2 - العلّامة ابن حسنويه قال عن عمار بن ياسر رضي اللّه عنه قال : كنت مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) في بعض غزواته، فمررنا بواد مملوء،نملاً فقلت: يا أمير المؤمنين ترى يكون أحدٌ من خَلق اللّه
ص: 247
يعلم كم عدد هذا النمل ؟
قال: نعم، يا عمار أنا أعرف رجلاً يعرف كم عدده، وكم فيه ذكر، وكم فيه أنثى، فقلت : مَنْ ذلك يا مولاي الرجل ؟
فقال: يا عمار ما قرأت في سورة يس : ﴿وَ كلّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إمام مُبين) فقلت: بلى يا مولاي.
فقال : أنا ذلك الرجل الإمام المبين (1).
والشيخ القندوزي يذكر هذه الرواية عن أبي ذر، وربما هي في واقعة أخرى فيقول: (عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: كنت سائراً مع علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ مررنا بواد نمل کالسیل فقلت اللّه أكبر جل،محصيه، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لا تقل ذلك ولكن قل جل بارئه، فوالذي صور ني وصورك إني أحصى عددهم، وأعلم الذكر منهم والأنثى بإذن اللّه (عز وجل)) (2).
ونلاحظ كلمة الإمام اللّه (بأذن اللّه) فلعله يريد أن لا يغلو فيه الغالون فيتوهموا فيه ما لا ينبغي من الغلو، ولعلّه يريد أيضاً أن لا يثقل ذلك على بعض الناس، فانه علم معتمد على قدرة اللّه وإذنه سبحانه وتعالى وليس أمرا ذاتياً ومستقلاً عن قدرة اللّه تعالى.
ثانيا: بعض روايات الإمامية
1 - عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه عن جده (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال:
ص: 248
(لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (وَ كلّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبينٍ) قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول اللّه هو التوراة ؟ قال: لا، قالا: فهو الإنجيل ؟ قال : لا قالا : فهو القرآن؟ قال: لا، قال فأقبل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هو هذا، إنه الإمام الذي أحصى اللّه تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء) (1).
2 - ذكر في تفسير الثقلين عن ابن عباس عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أنه قال: (أنا واللّه الإمام المبين، أبين الحقّ من الباطل، ورثته من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ). و فيه أيضاً عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حديثاً طويلاً يقول فيه: (معاشر الناس ما من علم الا علّمنيه ربی وأنا علّمتُه علياً وقد أحصاه اللّه في، وكلّ علم علمته فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا علّمتُه علياً) (2).
بعد مراجعة اجعة هذه الأحاديث يتجلّى بوضوح : أن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) - هو الإمام - كما عبّرت الآية وهو المفضّل على غيره بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)في الإمامة لأنه هو الذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شيء ممّا يحتاجه العباد في أمور الدين والدنيا.
ربما يسأل سائل: اليس الإمام المبين هو اللوح المحفوظ؟. وذلك لان كثيراً من المفسّرين ذكروا هذا المعنى في تفسير الآية.
ص: 249
يقال في الجواب : يمكن الإجابة على هذا السؤال من جهات عديدة:
أولا : إن تفسير رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - الذي نزل القرآن على صدره - يجب أن يقدم على غيره من التفاسير، فلما تصلنا رواية صحيحة وصريحة في تفسير الآية عن لسان المعصوم (عَلَيهِم السَّلَامُ) ينبغي أن تُقدم على الأقوال الأخرى.
ثانياً: لا مانع عقلاً من الأمرين، فأيُّ مانع من أن يعلم اللّه نبيّه كلّ شيء ثم إن نبيّه يعلّم وصيّه كلّ شيء ويكون هو الإمام الذي أحصى اللّه فيه علم كلّ شيء، ومن ذلك ما هو محفوظ في اللوح المحفوظ؟! فان اللّه تعالى كما حفظ ذلك في اللوح جعله عند النبيّ ووصيه وأوصيائه من بعده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فيكون اللوح مصداقاً لذلك والإمام المعصوم (عَلَيهِم السَّلَامُ) مصداقاً لذلك أيضاً.
وحديث أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يدل على أنه ورث ذلك من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حيث قال: (أنا والله الإمام المبين، أبين الحقّ من الباطل، ورثته من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)) (1).
كما إنه قد يشير إلى ذلك أيضاً ما جاء عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث يقول سدير الصيرفي : دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد اجتمع إلي ماله فأحببتُ دفعه إليه، وكنتُ حبستُ منه ديناراً، لكي أعلم أقاويل الناس، فوضعتُ المال بين يديه فقال لي: يا سدير خُنتَنا، ولم ترد بخيانتك إيانا قطيعتنا.
قلت : جعلت فداك وما ذاك ؟
قال : أخذت شيئاً من حقنا لتعلم كيف مذهبنا.
ص: 250
قلت: صدقت جعلت فداك، إنما أردت أن أعلم قول أصحابي. فقال لي : أما علمت أن كلّ ما يُحتاج إليه نعلمه، وعندنا ذلك؟!! أما سمعت قول اللّه تعالى: ﴿وَ كلّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين) ؟!! اعلم أن علم الأنبياء محفوظ في علمنا مجتمع عندنا وعلمنا من علم الأنبياء، فأين يذهب بك ؟ !
قلت : صدقت جُعلتُ فداك (1).
ثالثاً ومما يدلّ على هذا المعنى ويدعمه هو ما جاء في تفسير الآية المباركة: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى باللّه شَهِيدًا بَيْني وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب) (2).
حيث فُسرت هذه الآية بالامام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيضاً فهو الذي عنده علم الكتاب، الكتاب الذي فيه تبيان كلّ شيء كما قال سبحانه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (3) فان مَن عنده علم كتاب فيه تبيان كلّ شيء يعني هو من احصى اللّه تعالى فيه كلّ شيء، فهذه الآية المباركة تدعم تلك الآية الأخرى..
وقد بيّنت الأحاديث عند الفريقين أيضاً هذا المعنى فنلاحظ ذلك في :
ص: 251
اولاً : ذكر الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل رواية عن ابي سعيد الخدري وأخرى عن ابن عباس وثالثة عن محمد بن الحنفية عن النبيّ في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال: ذاك اخي علي بن أبي طالب (1).
كما نقل الحاكم أيضاً عن ابي صالح في الآية المباركة انه قال: علي بن ابي طالب كان عالماً بالتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ والحلال والحرام (2).
ثانياً : وروى ذلك أيضاً القندوزي الحنفي (3).
ثالثاً : ذكر شهاب الدين في كتابه توضيح الدلائل عن عبد اللّه بن سلام في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال : سألت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال: انما ذلك علي بن ابي طالب (4).
هذه بعض الروايات في مصادر العامّة.
فأكتفي بما رواه الشيخ الكليني عن بريد بن معاوية قال: قلت لابي جعفر اي الإمام الباقر - (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ايانا عنى وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (5)!
ص: 252
أيها القارئ الكريم : هذه بعض الاحاديث وقد دلّت بمجموعها على أن الآية: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٌ) هي من الآيات الدالة على امامة امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وللعلم، نقول في ختام هذا الفصل : لاشك أن ما ثبت لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) باعتباره إماماً ثابت لأولاده الأئمّة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) باعتبارهم خلفاء وأئمة من بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي بعض الاحاديث ما يشير إلى ذلك فمثلاً:
1 - عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (واللّه إني لأعلم كتاب اللّه من اوله السلام إلى آخره، كأنه في كفّي فيه خبر السماء وخبر الارض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال اللّه عز وجل: ﴿وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) (1).
2 - وأيضاً عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ علَّمٌ مِّنَ الكتاب أَنَا آتيك به قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (2) قال الراوي : ففرّج الإمام ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين اصابعه فوضعها في صدره ثم قال: وعندنا واللّه علم الكتاب كلّه (3).
ومما يلفت النظر إن الذي عنده علم من الكتاب هو آصف وصي النبيّ سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد قام هذا الوصي بعمل جبّار وعظيم حيث جلب عرش بلقيس من الاردن الى اليمن خلال طرفة عين (قبل ان يرتدَّ طرف سليمان) كما قالت الآية بعد ذلك: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقرًا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْل
ص: 253
رَبِّي..)
وكان عنده بعض علم الكتاب بدلالة (من) التبعيضية، فياترى ماهي القدرة التي اودعها اللّه تعالى فيمن عنده علم الكتاب كله وهو أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) كما تبيّن ذلك من خلال الأحاديث !!
ومن طريف ما يُنقل في هذا المجال أن المتوكِّل العباسي مرّ على قبر سلمان الفارسي (المحمدي) صاحب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في المدائن على مقربة من مدينة بغداد فقال : يزعم الشيعة أن علياً جاء من المدينة إلى المدائن في ليلة ليغسل جثمان سلمان بعد موته ويكفّنه ويدفنه، ثم رجع إلى المدينة قبل أن يصبح الصباح، فكيف يمكن ذلك فكيف يمكن ذلك مع بعد المسافة بين المدينة والمدائن؟!
والحال إن مَن يتأمّل هذه الآيات وتلك الاحاديث لا يستغرب شيئاً من امثال هذا.. وقد اجابه بعضهم بأبيات من الشعر قال فيها:
أنكرت ليلة إذ سار الوصي إلى***أرض المدائن لما أن لها طلبا
وغسل الطهر سلماناً وعاد إلى***عراص يثرب والإصباح ما وجبا
وقلت ذلك من قول الغلاة وما***ذنب الغلاة إذا لم يُوردوا كذبا
فأصف قبل ردّ الطرف من سبأ***بعرش بلقيس وافى يخرق الجبا
فأنت في آصف لم تغل فيه بلى***في حيدر أنا غال ليس ذا عَجَبا
إن كان احمد خير المرسلين فذا***خير الوصيين أو كلّ الحديث هَبا
نعم ليس ذلك غُلواً من الشيعة في ائمّتهم بل هو اعتقاد منهم بما جاء في القرآن والاحاديث عن منزلتهم وقدرتهم التي هي من قدرة اللّه تعالى
ص: 254
وليس باستقلالية منهم فهم خلفاء اللّه في الارض والخليفة المجعول من عند اللّه تعالى يؤتيه اللّه تعالى علم كلّ شيء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ (1) فالألف واللام في الاسماء فيها دلالة الاستغراق وكلمة (كلَّها) تفيد العموم وتؤكِّد ذلك الاستغراق، فآدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خليفة اللّه علَّمه اللّه تعالى كلّ شيء، كذلك الإمام المعصوم الذي هو خليفته أيضاً. والحمد للّه رب العالمين
ص: 255
ص: 256
ص: 257
ص: 258
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلَكُلِّ قَوْم هَادِ)(1).
من الآيات التي يُستدل بها على إمامة الإمام علي أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) هي الجملة الأخيرة من الآية السابعة من سورة الرعد، حيث صرحت الأحاديث المتعدّدة بذلك.
ولكن وقبل الخوض في الاستدلال بها على الإمامة نلقي نظرة على الجوِّ العام للآية المباركة وما فيها من مضامين وإشارات.
لقد جاء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بدلائل كثيرة وآيات عظيمة دلّت على رسالته السماوية، وكان القرآن الكريم معجزته الأولى ودلالته الكبرى والتي عجز المشركون عن أن يأتوا بسورة من مثله، إلاّ أن بعض المشركين والمتمادين في
ص: 259
عنادهم كانوا ربما يطلبون من النبيّ معاجز وآيات أخرى لا ينوون من وراءها الإيمان والتصديق وإنما يريدون اللجاج والعناد، فجاءت الآية المباركة لتقول للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يا رسول اللّه إنما أنت منذر لهؤلاء وما عليك إلا أن تنذرهم وتؤدّي الذي عليك وتخبرهم بالحقيقة والواقع.
ثم إن الآية أخبرت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن لكل قوم هادي - سواء هؤلاء القوم أم الذين من قبلهم أم الذين بعدهم - يقوم ذلك الهادي بدور الهداية لهم ويدعوهم إلى الحق.
وكما يقول السيد الطباطبائي في تفسيره فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شيء من ذلك و إنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار، و قد جرت سُنّة اللّه في عباده أن يبعث في كلّ قوم هاديا يهديهم. و الآية تدلُّ على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحقّ إمّا نبي منذر و إمّا هاد غيره يهدي بأمر اللّه) (1).
فنلاحظ أن الآية تشير إلى هذه الحقيقة من ان لكل قوم هاد، وبذلك يتمُّ الاستدلال بها على ولاية الإمام أمير المؤمنين والأئمّة المعصومين من بعده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، واما كيفية الاستدلال فنقول:
يتمُّ الاستدلال بهذه الآية من جهتين :
الجهة الأولى : هو الوقوف والتأمل بهذا المقطع من الآية (لكل قوم هاد) حيث نرى مجموعة من النقاط المهمة التي تدل بمجموعها على الإمامة
ص: 260
والولاية للائمة الاطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ).
النقطة الاولى : إن هذه العبارة واضحة في مدلولها من أن هناك في كلّ قوم هادياً يقوم بدور الهداية للناس، فلا يكون زمان فيه قوم الاّ الا وفيهم هاد أيضاً يقوم بدور الهداية لهم، ومن الواضح أن ظاهر القرآن حجة علينا ومفرداته دليل يستدلّ بها.
النقطة الثانية : يلاحظ ان الهداية من ذلك الهادي لأولئك القوم تاتي مطلقة ودائمة وشاملة لجميع الجوانب ولكلّ أشكال الهداية، وذلك لأن مفردة (هاد) في الآية المباركة جاءت مطلقة وغير مقيَّدة في موضوع خاص او في حالة خاصة او بزمن خاص بل جاءت مطلقة وشاملة.
النقطة الثالثة : وبناءً على هذا ينبغي أن تتوفّر عند ذلك الشخص الهادي لأولئك القوم مجموعة من الصفات حتى يكون هادياً مطلقاً لهم أيضاً فيلزم أن يكون اعلم القوم على الاطلاق حتى يكون هو الهادي لهم إلى الحقّ لا أن يكون محتاجاً إلى واحد منهم لمعرفة الحق، وينبغي أن يكون اعلمهم بالشريعة والقضاء والعقيدة وحق باجراء الاحكام والقوانين.. وأيضاً لابد أن يكون مصيباً في هديه بصورة دائمة ومطلقة، اي لا يخطأ في افعاله ولا اقواله واوامره ونواهيه ولا يُتصوَّر منه مجانبة الحقّ واشتباه الطريق بل يكون عارفاً بالحق وداعياً اليه في كلّ الحالات دون استثناء، لانه يُفترض ان تكون هدايته لهم دائمة وشاملة ومطلقة.
النقطة الرابعة : بعد ملاحظة تلك النقاط نستنتج ان هذا الهادي ينبغي ان يكون معصوماً من الزلل والذنب والخطا حق يكون هادياً دائماً والاّ امكن ان يُخطأ ويضل الطريق فيكون ضالاً مُضلاً، وهو خلاف ما اشارت
ص: 261
اليه الآية من كونه هادياً.
وبهذا الاستنتاج يتأكد صحة القول بالإمامة والولاية لأمير المؤمنين والأئمّة اجمعين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وإنه ليس ذلك الهادي الذي اشارت اليه الآية سوى الإمام المعصوم كما صرحت الاحاديث الآتية في تفسير الآية المباركة.
أيها القارئ الكريم : هذه هي الجهة الأولى من الاستدلال بالآية المباركة.
الجهة الثانية هي ما جاء من روايات عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيان المقصود من الآية وأن المراد من المنذر هو شخصه الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأن المراد من الهادي هو الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ونلاحظ هذه الروايات في كتب الفريقين سنة وشيعة بمضامين متقاربة، ونبدأ ببعض ذلك في كتب الفريق الأول:
من روايات غير الإمامية
1- عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وضع يده على صدره فقال : أنا المنذر (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وأومأ بيده إلى منكب عليّ، فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي (1).
وأيضاً عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)
ص: 262
يده على صدره وقال : أنا المنذر، وأوماً إلى عليّ وقال: أنت الهادي، بك يهتدي المهتدون بعدي (1).
2- أخرج السيوطي عن ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ) ووضع يده على صدر نفسه ثم وضعها على صدر علي وقال: (لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (2).
3 - عن أبي هريرة قال : سألت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن هذه الآية: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) فقال لي : هادي هذه الأمة علي بن أبي طالب (3).
4 - قال الإمام السيوطي في الدر المنثور: وأخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه في قوله : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المنذر، وانا الهادي. وفي لفظ: والهادي: رجل من بني هاشم. يعني نفسه (4).
5 - ذكر الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن ابن عباس عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)قال : (لما أُسري بي إلى السماء لم يكن بيني وبين ربي مَلَك مقرب ولا ني مرسل ولا حاجة سألتُ الاّ اعطاني خيراً منها، فوقع في مسامعي: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) فقلت الهي أنا المنذر، فمن الهادي ؟ فقال: يا
ص: 263
محمد ذاك علي بن ابي طالب غاية المهتدين وامام المتقين) (1).
أيّها القارئ الكريم: هذه بعض الروايات وهناك أخرى نفس المضمون في مصادر أخرى أيضاً (2).
من أحاديث الإمامية
وأمّا الروايات التي جاءت في مصادر اتباع اهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فمنها.
1- عن أبي هريرة قال: دخلت على رسول اللّه وقد نزلت هذه الآية: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). فقرأها علينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثم قال : أنا المنذر، أتعرفون الهاد ؟
قلنا : لا يا رسول اللّه،
قال : هو خاصف النعل، فطولت الاعناق إذ خرج علينا علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من بعض الحجر وبيده نعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ثم التفت إلينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال : ألا إنه المبلّغ عني والإمام بعدي وزوج ابنتي وأبو سبطي، فنحن أهل بيت أذهب اللّه عنا الرجس وطهَّرنا من الدنس، يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، هو الإمام أبو الأئمّة الزُّهَر،
فقيل : يارسول اللّه وكم الأئمّة بعدك ؟
قال: اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل.....الخ (3).
2- عن أبي بصير قال : قلت لابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ
ص: 264
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)؟
فقال : رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المنذر وعلي الهادي.
يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟
قلت: بلى جُعلت فداك، ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك.
فقال : رحمك اللّه يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى. (1)
3 - عن محمد بن مسلم : قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه عزوجل: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمِ هَادٍ)، فقال : كلّ إمام هادٍ لكلّ قوم في زمانهم (2).
4 - عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في قول اللّه عزّوجلّ: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذر وَلِكُلِّ قَوْمِ هَادٍ) - : رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) المنذر، ولكل زمان منا هاد، يهديهم إلى ما جاء به نبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ثم الهداة من بعده : على ثم الأوصياء واحداً بعد واحد (3).
5 - و عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما معنى (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِ قَوْمٍ هَادٍ) ؟ فقال : المنذر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وعليٌّ الهادي،
وفي كلّ وقت وزمان إمام منّا يهديهم إلى ما جاء به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (4).
ص: 265
6 - وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في قول اللّه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ - : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): أنا المنذر، وعلي الهاد، وكلّ إمام هاد للقرن الذي هو فيه.. (1)
هذه بعض الروايات في هذا المعنى وطبعاً ليس المقصود فيها نفي دور الهداية للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتخصيصه بالإمام من بعده، لا، وذلك لأن الانذار يتضمن معنى الهداية أيضاً..
قال الطباطبائي في الميزان معلقاً على مثل هذه الروايات: (ومعنى قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أنا المنذر وعلي الهادي) أني مصداق المنذر والانذار هداية مع دعوة وعلي مصداق للهادي من غير دعوة وهو الامام)..الخ (2).
هذه بعض الروايات من الفريقين دلّت على أن المراد من الهادي في الآية المباركة هو الإمام علي بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفي بعضها تصريح بمفردة الإمام أيضاً اضافة إلى أن نفس كلمة هاد او الهادي باطلاقها تدلُّ على العصمة والإمامة.. ورحم اللّه السيد الحميري حيث يقول
هما أخوان ذا هاد إلى ذا***وذا فينا لأمته نذير
فاحمد منذرٌ وأخوه هاد***دليل لا يضلّ ولا يجور
بعض الاستفسارات
ربما هناك بعض الاستفسارات حول هذه الآية فنناقش بعضها :
ص: 266
لقد ذُكرت اقوال أخرى في الآية كما ذكر الرازي في تفسيره فقد قال: واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالاً: الأول: المنذر والهادي شيء واحد والتقدير: إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة، ومعجزة كلّ واحد منهم غير معجزة الآخر. الثاني : المنذر محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والهادي هو اللّه تعالى، روي ذلك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. والثالث : المنذر النبيّ والهادي علي قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: وضع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يده على صدره فقال: أنا المنذر، ثم أوماً إلى منكب علي رضي اللّه عنه وقال : أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي)(1).
فما هو الجواب على هذه الأقوال؟
أجيب عن القول الأوَّل : بان هذا المعنى مناف لظاهر الآية، فانه لو أريد هذا المعنى كان من الأبلغ التعبير بشكل آخر بان تكون الآية هكذا (إنما أنت منذر وهاد لكل قوم) أو (إنما أنت لكل قوم منذر وهاد) بان تكون الصفتان للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) متعاقبتين حق تكون صفة الهداية والإنذار لشخص واحد بينما كان التعبير القرآني (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) هو الأبلغ و المناسب لإرادة أكثر من شخص واحد.
وأمّا القول الثاني فأجيب عنه أيضاً بأنه ممّا لاشك فيه أن اللّه سبحانه
ص: 267
وتعالى هو الهادي المطلق، وكل هداية يرجع أصلها إليه سبحانه، ولعلّ ما أشير في بعض الروايات إلى ذلك أريد منه هذا المعنى، فالهداية أولاً وآخراً تعود إليه سبحانه وتعالى، ولكن الآية تشير بظاهرها إلى تعدد الهادين حيث قالت: (لكل قوم هاد) فهناك أقوام متعددون ولكلّ منهم هاد على حدة فيتعدد الهادون أيضاً وجلّ اللّه سبحانه وتعالى عن وصف التعدد وهو الواحد الأحد.
كما إن المتأمّل للآية يجد أن ذلك الوصف (هاد) هو لعبد مقرَّب إلى اللّه تعالى ومختار منه لأنه (عز وجل) قد قَرَنَه إلى جنب وصف نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو المصطفى المختار للنبوة فيكون قرينه هو المختار للخلافة والولاية من بعده.
هذا.. فضلاً عن كثرة الروايات الصحيحة والصريحة في توضيح المراد من الآية بان الهادي هو الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة الهادون من ولده (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ذكر بعض المفسرين أن المراد من هذه الروايات التي أشارت إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو من باب المصداق،والجري، أي أن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو احد مصاديق الآية وهو احد الهداة وكذلك النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو احد المنذرين، وليس المعنى أن المراد من المنذر هو شخص رسول اللّه صله دون غيره وان المراد من الهادي هو شخص علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
قال السيد الطباطبائي : ومعنى قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (أنا المنذر وعلي الهادي) إني مصداق المنذر والإنذار هداية مع دعوة وعلي مصداق للهادي من غير دعوة
ص: 268
وهو الإمام لا أن المراد بالمنذر هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والمراد بالهادي هو علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فان ذلك مناف لظاهر الآية البتة (1).
مما يمكن أن يقال في الجواب : إننا إذا أخذنا الهداية هنا بمعناها المطلق والشامل لجميع أبعاد وجوانب حياة الإنسان فانه لا يمكن أن يراد منها غير المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) لان غيرهم معرَّض للخطأ والضلال - قصوراً أم تقصيراً - ومثل هذا لا يمكن أن يكون هادياً بصورة مطلقة ودائمة بل هو بحاجة إلى هداية هاد له كما قالت الآية: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحقّ قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أُمَّن لَا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (2) فان أمير المؤمنين علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) حينما يكون مصداقاً للآية بهذا المعنى إنما يكون لأنه إمام معصوم، كذلك الآية جارية على الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) من ولده باعتبارهم أئمّة معصومين.
لعلّ السيد الطباطبائي أراد من الجري جري الآية على الأئمّة فحسب، باعتبارهم أئمّة معصومين فهم مشمولون بالآية المباركة، فمما ذكر السيد نفسه - فيما ذكر من الروايات - حديث الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) - الأنف الذكر - والذي يقول فيه لأبي بصير: (رحمك اللّه يا أبا محمد، لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنه حي يجرى فيمن بقي كما جرى فيما مضى). ثم قال السيد: أقول والرواية تشهد على ما قدمناه أن شمول الآية للإمام
ص: 269
علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الجري وكذلك يجري في باقى الأئمّة وهذا الجري هو المراد ممّا ورد أنها نزلت في الامام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
فنقول إن الآية جرت وصدقت عليهم السلام باعتبارهم أئمّة معصومين فتبقى الآية آية على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة الميامين، وهو ما أردناه.
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 270
ص: 271
ص: 272
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(قل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللّه غَفُورٌ شَكُورٌ) (1).
لقد جاءت النصوص والأخبار الكثيرة والصحيحة في كتب المسلمين عامّة من أن المراد من (القربى) الذين تجب مودتهم هم قربى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهم آله الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وإذا وجبت مودتهم بصورة مطلقة ودائمة فقد وجبت طاعتهم وتصديقهم فيما ادعوا من القول بالإمامة لهم، فالعمل بالآية - بضميمة إدعائهم الإمامة - يستلزم القول بإمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وأمّا الدليل على أنهم ادَّعوا الإمامة لهم فقد جاء أكثر من نص في ضمن البحوث التي مرَّت في الآيات، كآية الغدير وآية التطهير وغيرهما كما في الخطبة الشقشقية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكما في خطبة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في نساء المهاجرين والأنصار.
ص: 273
وأمّا الدليل على أن الآية بالفعل أمرت بالمودة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فإليك بعض هذه الأخبار من كتب القوم وغيرهم.
1 - روى الإمام الطبري في تفسيره عن ابن أبي الديلم قال : لمّا جيئ بعلي بن الحسين، (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، أسيراً، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام، فقال : الحمد للّه الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة، فقال له على بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم قال : أقرأت آل حم ؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ آل حم ؟! قال ما قرأت (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: وإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم (1).
2 - أخرج الحاكم بسند ينتهي إلى عمر بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، قال: خطب الحسن بن علي الناس حين قُتل علي، فحمد اللّه وأثف عليه ثم قال : لقد قُبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون، وقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يعطيه رايته فيقاتل وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح اللّه عليه، وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطاياه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله..
ثم قال: أيها الناس ! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي وأنا ابن النبيّ وأنا ابن الوصي وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى اللّه بإذنه وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت
ص: 274
الذي كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل البيت الذي افترض اللّه مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةٌ نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا)فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت (1)
3 - كما ذكر العلّامة الحلّي في نهج الحقّ وكشف الصدق عن الصحيحين، و عن مسند احمد بن حنبل والثعلبي في تفسيره، عن ابن عباس، قال: لما نزل: (قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)، قالوا: يا رسول اللّه، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم ؟
قال : علي وفاطمة، والحسن، والحسين (2).
4 - وروى أبو نعيم في الحلية بسنده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فقال : يا محمد أعرض عليَّ الإسلام.
فقال : تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده
1 - المستدرك على الصحيحين للحاكم الحسكاني 3 / 172.
2 - نزول آية المودّة في فضلهم، ممّا لا يرتاب فيه أحد إلا من كابر، وقد تواترت الروايات بهذا المعنى في الكتب المعتبرة عندهم فراجع : الدر المنثور ج 6 ص 7، و تفسير الطبري ج 25 ص 14 و 15، ومستدرك الحاكم ج ص 444 عن الصحيحين، ومسند أحمد ج 1 ص 199 وينابيع المودة ص 15 عن مسند أحمد وغيره، والصواعق المحرقة ص 11 و 102 و ذخائر العقبى ص 25. راجع كتاب تشييد المراجعات و تفنيد المكابرات – للسيد علي الميلاني - ج 1 وكتاب نهج الحقّ وكشف الصدق - للعلامة الحلى ص 175.
ص: 275
ورسوله.
قال : تسألني عليه أجراً ؟ قال : لا، إلاّ المودّة في القربى.
قال : قرباي أو قرباك ؟
قال: قرباي.
قال: هات أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرباك لعنة اللّه.
قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): آمین (1).
قد يقول قائل : إن في الآية قولاً آخر وهو أن القربى المراد مودتهم هم سائر قرابات الناس
يقال في الجواب عن ذلك :
أولاً: إن ما ذكر من كون الآية في قربى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو مُصحَّح عند الفريقين، بينما تلك الأخرى غير صحيحة عند الجميع.
ثانياً: دلائل القرائن الأخرى على أنها في آل بيت النبيّ (صلوات اللّه عليه وعليهم) ومن ذلك خطبة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكلام الإمام علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مع الشيخ الشامي وغير ذلك.
ثالثاً: أي ارتباط وعلاقة بين أجر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبين أن يود الإنسان قرابته نفسه ؟ حتى تكون صلة الأرحام بين الناس أجراً للنبيّ ؟!.
سؤال: لم يُعهد من الأنبياء الآخرين أن يسألوا أجراً على الرسالة،
ص: 276
فما بال نبيُّ الإسلام سألَ | | لأجر ؟
الجواب: إنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للطالب بمودّة أهل بيته كأجر على رسالته لأنه خلّفهم من بعده ثقلاً موازياً للقرآن الكريم وألزم الرجوع إليهم كالرجوع للقرآن الكريم باعتبارهم الامتداد لرسالته وسنته، وفي الحقيقة ليس ذلك أجراً يعود عليه وإنما يعود على الأمة، قال تعالى : (مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ)فالأمة الإسلاميَّة تُعصم بذلك من الضلال، كما بين ذلك في حديث الثقلين المشهور بصحته فقد قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي) (1).
ولنعم من قال في ذلك :
رأيت ولائي آل طه فريضة***على رغم أهل البعد يورثني القربا
فما طلب المبعوث أجراً على الهدى***بتبليغه إلا المودة في القربى
الخلاصة :
الآية أوجبت مودَّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) دائماً.
وبضميمة ادّعائهم الإمامة يلزم القول بإمامتهم.
وقد ادعوا الإمامة لهم، فتكون هذه الآية من آيات الولاية والإمامة. والحمد للّه رب العالمين.
ص: 277
ص: 278
ص: 279
ص: 280
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتَنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لسَان صدق عَليًّا) (1).
وهذه آية أخرى من الآيات التي تدلّ على إمامة الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ودلالتها من جهتين :
الجهة الأولى من حيث ما جاء في بعض الروايات من أن المراد من (عليا) هو اسم علم ومفعول ثاني لكلمة (جعلنا) أريد منه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيكون اللّه تعالى قد جعله لسان صدق.
والجهة الثانية: هي كونه هو الموصوف بهذا الوصف حيث له لسان صدق وعلي كما في قوله (وَاجْعَل لِّي لِسَان صدق فِي الآخَرينَ) (2) وعلى كلا الوجهي، يدل ذلك على إمامته الشرعيّة من اللّه تعالى وذلك أيضاً لأمرين:
ص: 281
فالأول: لأنه هو الصادق، بإطلاق لفظ الصدق في الآية وهو يعني العصمة وهي ملازمة للأفضلية وللإمامة، فإذا كان صادقاً في كلّ شيء لزم أن يكون معصوماً من الخطأ، وما دام كذلك لزم أن يكون متبوعاً وإماماً لا تابعاً ومأموماً.
والثاني : لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ادعى الإمامة لنفسه، وبما أن الآية شهدت بصدقه مطلقا لزم تصديق قوله في الإمامة، والقول بإمامته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد ذكرنا دعواه ودعوى أولاده (عَلَيهِم السَّلَامُ) في ذلك.
ولنلاحظ هذا المعنى فيما ورد من روايات في تفسير الآية وتأويلها
1 - لقد روى الصدوق بسند ينتهي إلى أبي بصير عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) رواية طويلة يتحدّث فيها الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن النبيّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).. وجاء فيها: (ثم غاب - أي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) - الغيبة الثانية، وذلك حين نفاه الطاغوت عن مصر فقال: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ من دُونِ اللّه وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُون ِبدُعَاء رَبِّي شَفَيَّا) قال اللّه (عز وجل) : شَقيَّا قال اللّه عزّ وجل) : ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ من دون اللّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَق وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لسَان صدق عَليًّا) (1) يعني به علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأن إبراهيم قد كان دعا اللّه عزّ وجل أن يجعل له لسان صدق في الآخرين فجعل اللّه تبارك وتعالى له ولإسحاق ويعقوب
ص: 282
لسان صدق علي (1).
و ورد أيضاً عن الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير علي بن إبراهيم (فلما اعتزلهم) يعنى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم) يعنى لإبراهيم واسحق ويعقوب (من رحمتنا) رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقِ عَلِيًّا) يعنى أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه.
قال علي بن إبراهيم حدثني بذلك أبى عن الحسن بن علي العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
تُعد هاتان الروايتان من الروايات الصحيحة في اصطلاح علماء رجال الحديث عند أتباع أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعليه فقد ذكر اسم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في القرآن وكونه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مجعولاً من قبل اللّه تعالى هذا بناءً على أن المراد من (عليا) العَلَميّة أو انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو المقصود من هذا الوصف بناءً على أن المراد من (عليا) الوصفية.
وعلى أي حال تكون هذه الآية أيضاً من آيات الإمامة والولاية للإمام على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وتُسند هاتين الروايتين روايات أخرى منها:
3 - روى في البحار عن كنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة: محمد بن العباس، عن السياري، عن يونس بن عبد الرحمان، قال: قلت لأبي
ص: 283
الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إن قوماً طالبوني باسم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كتاب اللّه (عز وجل)، فقلت لهم من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لسَانَ صدق عَليَّا) فقال: (صدقت هو هكذا).
ثم ذكر المجلسي عن مؤلف كتاب جامع الفؤاد : ومعنى قوله: (لسان صدق) أي جعلنا لهم ولداً ذا لسان أي قول صدق، وكل ذي قول صدق فهو صادق معصوم، وهو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ثم قال العلّامة المجلسي في الهامش: (أقول: بل المراد أنه قد حكى اللّه (عز وجل) عن إبراهيم دعاءه (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي في المتأخرين من أولادي، فأجاب اللّه له ذلك ثم حكى ذلك لنا بقوله: (وجعلنا لهم) أي لإبراهيم وآله (لسان صدق) الذي تمناه منا (عليا) (1).
4 - وأيضاً في البحار عن كتاب كشف الغمة عن ابن مردويه في قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) عُرضت ولايته على إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ). فقال: اللهم اجعله من ذريتي ففعل اللّه ذلك (2).
5 - ومما روي عند غير الإمامية هو ما رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): ليلة عُرج بي إلى السماء حملني جبرائيل على جناحه الأيمن فقيل لي: من استخلفته على أهل الأرض ؟ فقلت : خير أهلها لها أهلاً: علي بن أبي طالب أخي
ص: 284
وحبيبي وصهري يعني ابن عمي فقال لي: يا محمد أتحبه ؟ فقلت: نعم يا رب العالمين. فقال لي : أحبَّه ومُرْ أمتك بحبه، فإنّي أنا العليُّ الأعلى اشتققت له من أسمائي اسماً فسميته عليّاً، فهبط جبرائيل فقال: إن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول لك : إقرأ. قلت : وما أقرأ ؟ قال : (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (1).
هذا وقد ورد في دعاء الندبة ما يؤيد ذلك أيضاً فقد جاء فيه: (وبعض اتخذته خليلاً، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته، وجعلت ذلك عليا) (2).
وعلى أي حال إننا نلاحظ في هذه الروايات ما يدعم القول بان للآية المباركة علاقة مباشرة بأمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث أريد من (علياً) اسم الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) تارةً، وأخرى أريد من ذلك إجابة دعوة إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دعائه إلى اللّه تعالى بان يجعل له لسان صدق في الآخرين فكان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو اللسان الصدق، وعلى كلّ حال فللآية دلالة على ما نريد.
هناك بعض القرائن والمؤيّدات التي تدلُّ على ذلك :
أولاً : إن كلمة (وهبنا) أتت كراراً في القرآن الكريم لجعل الخلفاء وذكر
ص: 285
الأشخاص لا للأوصاف، ممّا يقرب ويؤيد القول بان المراد من (رحمتنا) هو النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن (علياً) في الآية المباركة هو الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) سواء أريد منها العلمية أم الوصفية فمثلاً: تأمل هذه الآيات:
قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) (1).
وفي سورة مريم
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا) (2).
وفي سورة الأنبياء
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) (3).
وفي الأنبياء أيضاً
(وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى) (4).
و في سورة العنكبوت
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوّة) (5).
وفي سورة ص
(وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (6)
ص: 286
وأيضاً في سورة ص
(وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمَثْلَهُمْ مَعَهُمْ رحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (1).
فنلاحظ أن الموهوب في هذه الآيات كلّها هم أشخاص، فلا يبعد ولا يستغرب بيان الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) بان الموهوب والمجعول في هذه الآية (وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والذي هو رحمة للعالمين وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والذي هو من الأئمّة الذين وصفوا بالصادقين في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّه وَكُونُواْ مَعَ الصادقين) (2).
وأيضاً يمكن القول إن كلمة جعلنا جاءت في القرآن لجعل الأشياء غالباً ولاسيما فيما يهمُّ الخلافة كما في قوله تعالى في سورة البقرة في خصوص آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (3).
وقوله سبحانه في سورة ص في خصوص النبيّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (4).
وقوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (5).
وغير ذلك من الآيات، والقصد من ذلك أن لا يُستغرب ويُستبعد أن
ص: 287
تفسّر أو تؤول الآية التي نحن بصددها في رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ثانياً: والمؤيد الثاني انه قد ذكر بعض المفسرين أن العرب قد يعبّرون عن الرسالة وتبليغها بكلمة اللسان فيكون المراد من (جعلنا لهم لسان صدق) أي جعلناهم رسلاً، ففي تفسير المارودي في ذيل الآية قال في قوله تعالى (لسان صدق) قال : القول الثاني : جعلناهم رسلاً اللّه كراماً على اللّه، ويكون اللسان بمعنى الرسالة : قال الشاعر :
أتتني لسان بني عامر***أحاديثها بعد قول ونكر.
ثالثاً: ومما يؤيد تفسير الإمام الحسن العسكري اللّه للآية بان المراد من (ورحمتنا) هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و أن المراد من (لسان صدق عليا) هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) هو ما عُبّر عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في القرآن بالرحمة كقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) و عُبّر عن علي اللّه ب-(اللسان الصدق) كما في قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لسان صدقٍ فِي الآخِرِينَ) (1) فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (هو علي بن أبي طالب، عُرضت ولايته على إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : اللّهم اجعله من ذريتي ففَعلَ اللّه ذلك).
فان الآيات حينئذ تفسر بعضها بعضاً، وتنسجم مع بعضها كما يلتقي وينسجم تفسير الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) تفسير الإمام العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ).
مع رابعاً: السياق القرآني قبل ذلك وبعده، فهو يمر على ذكر أشخاص من
ص: 288
ذرية إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما نلاحظ ذلك في الآيات المكتنفة لهذه الآية، قال سبحانه وتعالى في سورة مريم:
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ من دُونِ اللّه وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مَّن رَّحْمَتَنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لسَا صدق عَليًّا * وَاذْكُرْ فِي الكتاب مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا وَنَادَيْنَاهُ من جانب الطُّور الأَيْمَن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيَّا * وَوَهَبْنَا لَهُ من رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيَّاً وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدَ وَكَان رَسُولًا نَّبِيًّاً * وَكَان يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَكَانَ عِندَ رَبِّه مَرْضِيَّاً * وَاذْكُرْ في الكتاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلَيَّاً * أَوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ من ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حملنا مع نوحٍ وَمَن ذُرِّيَّة إبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنَ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكيًّا) (1).
فنلاحظ أن الآية محفوفة بالحديث عن الهبة الإلهية والجعل الإلهي للأشخاص الذين يمتلونه سبحانه على الأرض وهذا يتناسب مع القول المراد من أن (رحمتنا) في الآية هو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وان المراد من (لسان صدق عليا) هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
خامسا: والمؤيّد الخامس هو ما ذكر أن من يتأمل كلام العرب يجد أن مفردة اللسان تأتي للكناية عن الشخص لا عن اللفظ فمثلاً يقال: هذا
ص: 289
لساني الناطق كما إن وصف الإنسان بالعلوّ والعليّ هو اقرب إلى بلاغة العرب من وصف اللسان بذلك، لأن اللسان يوصف بالحدة و الدين و الطول و القصر و الصواب والخطأ وما شاكل، ولا يوصف عادة بالعلو، فيكون حمل هذا الوصف (عليا) - فيما لو فُرضَ وصفاً في الآية - حمله على وصف إنسان أولى وأبلغ من حمله على وصف اللسان.
سادساً: ثم إنه حق لو فرضنا أن قوله تعالى عليا وصف ل- (اللسان) وللذكر فلا غرابة أن يكون المراد من صاحب ذلك الوصف هو الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما في الرواية، ومن اصدق لساناً وقيلاً من الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟!!، ويكفي في إطلاق الصدق على لسانه الليلة دلالة على إمامته، وذلك لان الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) ادعى الإمامة لنفسه، والآية صدقت لسانه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مطلقاً فتكون دعواه حقة، وتتعين الإمامة له.
وتكون هذه الآية أيضاً من آيات الإمامة من هذه الحيثية والجهة.
والحمد للّه لله رب العالمين.
ص: 290
ص: 291
ص: 292
بسم اللّه الرحمن الرحيم
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسهمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ) (1).
هذه الآية المباركة هي الأخرى من الآيات ذات الدلالة الضمنية على ولاية الإمام أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وذلك لما جاء في تفسيرها من الأحاديث المشيرة إلى ذلك في كتب التفسير والحديث، حيث تحدثت عن لقب أمير المؤمنين الذي لقب به علي بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وربطت بين ذلك وبين معنى الآية المباركة.
وقبل الخوض في الاستدلال على ذلك نقف قليلا عند المعنى المراد من الآية المباركة.
ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة واستناداً إلى الروايات عدَّة
ص: 293
من الآراء والاقوال.
قال في تفسير الأمثل : إن للمفسرين آراء متعددة تعويلاً منهم على الروايات الإسلامية الواردة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومن أهمّ هذه الآراء رأيان
الأول: حين خُلق آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظهر أبناؤه على صورة الذر إلى آخر نسل له من البشر، وطبقاً لبعض الروايات ظهر هذا الذر أو الذرات من طينة آدم نفسه وكان لهذا الدّر عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب فخاطب اللّه سبحانه الذر قائلا: الست بربكم ؟ !.. فأجاب الذر جميعاً : بلى شهدنا. ثم عاد هذا الذر أو هذه الذرات جميعاً إلى صلب آدم أو إلى طينته، ومن هنا فقد سُمي هذا العالم بعالم الذر وهذا العهد بعهد (ألست)، فبناءً على ذلك، إن هذا العهد المشار إليه آنفاً هو عهد تشريعي، ويقوم على أساس الوعى الذاتي بين اللّه والناس.
الثاني: إن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد والكفاءات، و عهد الفطرة والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات وهم نُطَف لا تعدو الذرات الصغار، وَهبَهم اللّه الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي...كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها. فبناءً على هذا، فإن جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد.
وما أخذه اللّه من عهد منهم أو سؤاله إياهم: (ألست بربكم) كان بلسان التكوين،والخلق وما أجابوه كان باللسان ذاته !
ص: 294
ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليومية، إذ نقول مثلاً: لون الوجه يُخبر عن سرّه الباطني (سيماهم في وجوههم)، أو نقول: إن عيني فلان المجهدتين تنبئان أنه لم ينم الليلة الماضية. وقد روي عن بعض الليلة الماضية. وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنه قال في بعض كلامه سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك ؟ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً....كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان،الحال كما في الآية (11) من سورة فصلت، إذ جاء فيها (فَقَالَ لَهَا وَالْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) انتهى (1).
وذكروا أن الذي تمخض من ذلك الإقرار في عالم الذر هو أن اللّه تعالى فطرهم على معرفته واوجد عندهم الفطرة وأودع فيها معرفته، وقد ورد عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (كلُّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصِّرانه ويمجِّسانه)(2).
وأيضاً جاء هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلِ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (3)، فقد روي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث يقول في آخره: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بان اللّه (عز وجل) خالقه، فذلك قوله عز وجل : ولئن سألتهم من خلق
ص: 295
السماوات والأرض ليقولن اللّه (1).
وورد أيضاً هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: (فَأَقَمْ وَجْهَكَ للدِّين حَنِيفًا فطْرَةَ اللّه الَّتى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلكَ الدِّينُ الْقَيَّمُ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (2).
ففي الحديث عن عبد بن سنانعن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن قول اللّه (عز وجل) : (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم ميثاقهم على التوحيد فقال: (ألست بربكم) وفيه المؤمن والكافر (3).
هذا، إلاّ أن الذي يهمنا هنا هو ما جاء من الروايات في تفسير الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والتي فيها من الدلالة على إمامة الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد ذكرت هنا مجموعة من الروايات لدى كتب المسلمين عامة، تطرقت إلى ولاية أمير المؤمنين على (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ضمن الإقرار الذي أخذ من ذريَّة آدم واليك بعض هذه الروايات.
1- عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول اللّه متى وجبت لك النبوّة؟ قال قبل أن يخلق اللّه آدم وينفخ فيه الروح وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
ص: 296
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) قالت الملائكة بلى. فقال : أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلى أميركم (1).
2 الحافظ أبو شجاع شيرويه بن شهردار الديلمي الهمداني المتوفى سنة 509 في كتابه (الفردوس - مخطوط -) روی بسند يرفعه إلى حذيفة اليماني قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): لو يعلم الناس متى سُمّي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سُمّي أمير المؤمنين وآدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين الروح والجسد، فقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) فقالت الملائكة : بلى، فقال اللّه تبارك وتعالى : أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي وليكم وأميركم (2).
1 - فروي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : كان الميثاق مأخوذاً عليهم بالربوبيّة ولرسوله بالنبوّة ولأمير المؤمنين والأئمّة بالإمامة، فقال: (ألست بربكم ومحمد نبيكم وعلي إمامكم والأئمّة الهادون أئمتكم ؟) فقالوا: بلى شهدنا، فقال اللّه تعالى: (أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لئلا تقولوا يوم القيامة : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلينَ﴾ فَأَوّل ما اخذ اللّه (عز وجل) الميثاق
ص: 297
على الأنبياء له بالربوبية وهو قوله : ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ) (1) فذكر جملة الأنبياء ثم ابرز أفضلهم بالأسامي فقال: ومنك يا محمد، فقدّم رسول اللّه له لأنه أفضلهم ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، فهؤلاء الخمسة أفضل الأنبياء ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أفضلهم، ثم اخذ بعد ذلك میثاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على الأنبياء بالإيمان به وعلى أن ينصروا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كتاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ) يعني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) (2) يعنى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخبروا أممكم بخبره وخبر وليه من الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) (3).
2- و في الكافي عن بكير بن أعين قال: كان أبو جعفر (الباقر) (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : إن اللّه أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذَرِّ، وم أخذ الميثاق على الذر، بالإقرار له بالربوبيّة ولمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالنبوّة وعَرَض اللّه (عز وجل) على محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أمته في الطين وهم أظلّة وخَلَقَهم من الطينة التي خلق منها آدم وخلق اللّه أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام وعرضهم عليه وعرفهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعرفهم علياً ونحن نعرفهم في لحن القول (4).
و الروايات في هذا المعنى كثيرة ومن طرق عديدة و اكتفي بهذا
ص: 298
المختصر.
والخلاصة:
إننا نرى في هذه الروايات في تفسير هذه الآية المباركة ما يدل على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما أشارت إلى التوحيد والنبوّة.
وبذلك تكون هذه الآية من الآيات الدال على إمامة وإمارة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 299
ص: 300
ص: 301
ص: 302
بسم اللّه الرحمن الرحيم
أَفَمَن كَان عَلَى بَيَّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمَن قَبْلِه كِتَابٌ مُوسَى اَمَامًا وَرَحْمَةً أَولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنَ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدَهُ فَلاَ تَكَ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحقّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناس لا يُؤْمِنُونَ) (1).
في أكثر من آية في القرآن الكريم عُدّ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) شاهدا على رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وفي آية ضُمّت شهادته إلى شهادة القرآن الكريم وفي أخرى ضُمّت شهادته إلى شهادة اللّه سبحانه وتعالى فكانت لهذه الشهادة دلائل تدلّ على عصمة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى عظيم علمه ومن ثم على لزوم القول بإمامته (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وبذلك عُدّت هذه الآيات أيضاً من آيات الإمامة.
فلنلاحظ ذلك في هاتين الآيتين.
ص: 303
قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمَن قَبْله كتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أَوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابَ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مَرَّيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحقّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) (1).
فقد ذكرت التفاسير أن الذي على بينة من ربه هو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأن البينة هي القرآن الكريم الذي أنزل عليه وأن الشاهد الذي يتلوه هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهذا الشاهد منه أي من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبعض منه، وممن ذكر ذلك هو الرازي في تفسيره حيث يقول : (وثالثها (أي : الأقوال) إن المراد هو علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه -، والمعنى أنه يتلو تلك البينة. وقوله (منه) أي هذا الشاهد من محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبعض منه. والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
احتمالات في تفسير الآية :
لقد ذكر المفسّرون احتمالات كثيرة جداً في معنى الآية بسبب احتمالات عديدة في إرجاع الضميرين في (يتلوه شاهد منه) إلى (من) الموصولة أو إلى (البيّنة) وأن (يتلو) هل بمعنى التلاوة والقراءة أم بمعنى المتابعة؟، ولكنه وردت من الأخبار الكثيرة في تفسير الآية ممّا يقتضى تفسيرها بما ذكر من أن الضميرين في (يتلوه) و(منه) يعودان إلى (من) والتي
ص: 304
أريد منها النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فللنبي بيّنة، هي القرآن الكريم وشاهد هو علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يشهدان للنبيّ بصدق رسالته، ويمكن القول إن علياً اللّه عُدّ شاهداً للرسالة وعلى صدق النبيّ، لكونه بنفسه معجزة للنبي،فكما إن الأنبياء جاؤا بمعاجز تبرهن على صحة ما ادعوا كذلك النبيّ أتى بالقرآن واتى بشخص هو بنفسه معجزة يشهد له، وقد روى الصفار في كتابه بصائر الدرجات عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال : (إنّ علياً آيةٌ لمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)) ولا يستغرب ذلك كثيراً من له بعض الإلمام بتاريخ الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وما صدر منه من مواقف وبطولات لا تصدر من رجال عاديين كقلعه باب خیبر ورميه بعيداً وهو الباب الذي لا يفتحه ولا يغلقه إلاّ العصبة أولوا القوة من الرجال.
وعلى أية حال فالآية وردت في الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والاستفهام فيها إنكاري أي أن المعنى - حسب بعض التفاسير - هو هكذا (ليس من كان عنده بينة وقرآن من ربِّه وعنده شاهد وهذا الشاهد هو بعض من النبيّ ويتلوه في الرتبة و.. ليس هذا كمن يفتقد هذه الأمور).
والاستنكار هنا نظير قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) (1) لكن الخبر هنا والجواب محذوف،أي ليس هو كذلك، وشاهدنا هو في قوله تعالى : (يتلوه شاهد منه) حيث أن الضميرين في (يتلوه ومنه) يعودان إلى (مَن الموصولة) العائدة إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فتكون في الآية أكثر من دلالة على إمامة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وذلك لما يأتي :
ص: 305
أوّلاً لكلمة (يتلوه) ففي ظاهرها أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتلو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) رتبة وبلا فصل فهو أحق بمكانته من غيره.
وثانياً: إنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الشاهد على النبوّة والرسالة ومن الطبيعي أن اللّه سبحانه وتعالى حينما اتخذ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) شاهداً على أمر النبوّة فلابد أن يضمن عصمته أيضاً، إذ لو لم يكن معصوماً لجاز عليه الخطأ وأمكن صدور المعصية منه ولو كان كذلك لأمكن أن لا يشهد بالحق وأن يشهد بالباطل، وحاشا ربنا أن يأتي بشاهد للنبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يمكن أن يشهد باطلاً بدل الحق، فلابد من عصمته الثلة، والعصمة ملازمة للأفضلية على الغير وملازمة أيضاً لأن يكون هو المتبوع وهو القدوة والإمام لا أن يكون هو التابع للمفضول.
ويدلّ على عصمته عصمته أيضاً إقترانه في الآية بالبينة الأخرى التي مع النبيّ وهي القرآن الكريم المعصوم أيضاً، حيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، و قد أشار النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى هذا الاقتران أيضاً في أحاديث كثيرة منها ما روته أم سلمة عنه أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : (علي مع القرآن والقرآن مع علي وأنهما لن يفترقا) (1).
ص: 306
وثالثاً : بيَّنت الآية أن عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، في قوله تعالى (شاهد منه) كما بيّن النبيّ نفسه ذلك في أحاديث متعددة.
كقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أنا وعلى من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتی)(1).
وعن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أنا من أحمد كالكفّ من اليد، وكالذراع من العضد، وكالضوء من الضوء (2).
ومن يكون من النبيّ أولى بمكانته وخلافته ممّن لا يكون منه؟!!
هذا، ولكن الأصل والأهم في الاستدلال هو اتخاذ اللّه تعالى علياً شاهداً على رسالة النبيّ، فالإتخاذ هو من اللّه العلي الذي جلّت عظمته ولأجل أمر عظيم هي النبوّة والرسالة فلابد أن يكون هذا الشاهد أيضاً ممّن لا يمكن عليه الذنب لتكون شهادته مقبولة مطلقاً، وهذا يعني عصمته وعصمته ملازمة لأفضليته بعد النبيّ، وهي ملازمة للخلافة والإمامة له بعد النبيّ أيضاً.
ومما يؤكّد هذا المعنى المراد من تفسير الآية هو ما جاء من الروايات في ذلك، ونذكر ههنا بعضها ممّا ورد في تفسير هذه الآية ممّا يؤيد هذا المعنى.
1 - عن عباد بن عبد اللّه : سمعت عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: ما نزلت آية في كتاب اللّه (جلّ وعزّ) إلا وقد علمتُ متى نزلت، وفيم أنزلت. وما من قريش
ص: 307
رجل إلاّ قد نزلت فيه آية من كتاب اللّه تسوقه إلى جنّة أو نار. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، فما نزلت فيك ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لولا أنك سألتني على رؤوس الملأ ما حدثتك، أما تقرأ: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) ؟ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على بيِّنة من ربِّه، وأنا الشاهد منه، أتلوه وأتبعه. والله لأن تعلموا ما خصَّنا اللّه (عزّ وجلّ) به أهل البيت أحبّ إليَّ ممّا على الأرض من ذهبة حمراء، أو فضة بيضاء (1).
2 - القرطبي في تفسيره قال: (روي عن ابن عباس أنه قال: هو علي بن أبي طالب. وروي عن علي أنه قال ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل: أي شيء نزل فيك؟ فقال علي: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (2).
3 - شواهد التنزيل: عن ابن عباس في قول اللّه تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) قال : هو علي بن أبي طالب (3).
4 - القندوزي عن أبي ذر عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : إن اللّه تبارك وتعالى أيَّد هذا الدين بعلى، وإنه مني وأنا منه، وفيه أنزل : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) (4).
ص: 308
1- روى الطبرسي بإسناده إلى أمير المؤمنين قوله في ضمن محاججته لزنديق فقال له فيما قال : وأما قوله (ويتلوه شاهد منه) فذلك حجة اللّه أقامها على خلقه، وعرفهم أنه لا يستحق مجلس النبيّ إلا من يقوم مقامه، ولا يتلوه إلاّ من يكون في الطهارة،مثله لئلا يتسع لمن ماسه حس الكفر في وقت من الأوقات انتحال الاستحقاق بمقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وليضيق العذر على من يُعينه على إثمه وظلمه، إذ كان اللّه قد حظر على من ماسه الكفر تقلّد ما فوَّضه إلى أنبيائه وأوليائه، بقوله لإبراهيم: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أي المشركين، لأنه سمى الظلم شركاً بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فلما علم إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن عهد اللّه تبارك وتعالى اسمه بالإمامة لا ينال عبدة الأصنام، قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). واعلم أن من آثر المنافقين على الصادقين، والكفار على الأبرار، فقد افترى إثماً عظيماً، إذ كان قد بيَّن في كتابه الفرق بين المحق والمبطل، والطاهر،والنجس، والمؤمن والكافر، وأنه لا يتلو النبيّ عند فقده إلا من حلّ محلّه صدقاً وعدلاً وطهارة وفضلاً (1).
2 - وفي تفسير الثقلين عن الشيخ الطوسي بإسناده إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه اذا كان يوم الجمعة يخطب على المنبر فقال : والذي فلق الحبة وبَرَأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواثيق إلا وقد نزلت فيه آية
ص: 309
من كتاب اللّه (عز وجل) أعرفها كما أعرفه فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ما آيتك التي نزلت فيك ؟
فقال: إذا سألت فافهم ولا عليك إلا تسأل عنها غيري، أقرأت سورة هود؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين.
قال أفسمعت اللّه (عزَّ وجلّ) يقول : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) ؟
قال نعم : فالذي على بينة من ربِّه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والذي يتلوه شاهد منه وهو الشاهد وهو منه وأنا علي بن أبي طالب وأنا الشاهد، وأنا منه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1).
3 - وفيه عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : الذي على بينة من ربِّه: رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، والذي تلاه من بعده الشاهد منه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم أوصياؤه واحداً بعد واحد (2).
4 - و فيه أيضاً عن جابر عن عبد اللّه بن يحي قال: سمعت علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يقول: ما من رجل من قريش إلا وقد أنزل فيه آية أو آيتان من كتاب اللّه، فقال له رجل من القوم : فما نزل فيك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أما تقرأ الآية التي في هود: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) ؟ محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)على بيِّنة من ربه وأنا الشاهد (3).
ص: 310
5 - وقد نقل العلّامة الأميني عن الحافظ أبي العباس بن عقدة فيما ذكره من خطبة الإمام السبط الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما صالح معاوية حيث قال في ضمن خطبته محتجاً بمكانة أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ قال : (إنا أهل بيت أكرمنا اللّه بالإسلام واختارنا واصطفانا وأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيرا، لم تفترق الناس فرقتين إلاّ جعلنا اللّه في خيرهما من آدم إلى جدي محمد. فلمّا بعث اللّه محمداً للنبوة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى اللّه (عزَّ وجل) فكان أبي أوّل من استجاب اللّه ولرسوله، وأول من آمن وصدق اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد قال اللّه في كتابه المنزل على نبيّه المرسل : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ). فجدِّي الذي على بينة من ربه وأبي الذي يتلوه وهو شاهد منه.. إلى أن قال : وقد سمعت هذه الأمة جدي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)يقول: ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل يذهب أمرهم سفالاً حق يرجعوا إلى ما تركوه) (1).
6 - وعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) الذي هو على بينة من ربه هاهنا: رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، والشاهد الذي يتلوه منه : علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يتلوه إماماً من بعده، وحجة على من خلفه من أُمَّته (2).
7 - وعن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ
ص: 311
رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) الذي على بينة من ربه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والذي تلاه من بعده الشاهد منه : أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم أوصياؤه واحداً بعد واحد (1).
وخلاصة القول : إن الآية بينت أن الإمام عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو شاهد معصوم على الرسالة وهو يتلو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو منه، وبذلك كانت الآية من آيات الولاية.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى باللّه شَهيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ )(2).
دلالة الآية
أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه أن يردّ على الكفّار الذين انكروا رسالة النبيّ بان يقول لهم: يكفيني أن يشهد اللّه تعالى على صدق دعوتي ويشهد لي أيضاً من عنده علم الكتاب، وقد صرحت الروايات أن المراد ممّن عنده علم الكتاب هو الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيكون اللّه تعالى ورسوله قد إتخذا عليّاً شاهداً على صدق دعوة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ورسالته وبذلك يكون الاستدلال بهذه الآية على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) شبيهاً بما مضى في الآية الآنفة الذكر من أن اتخاذ اللّه سبحانه وتعالى علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) شاهداً مطلقاً في شهادته على مثل هذا الأمر العظيم يستلزم كونه معصوماً من الخطأ لئلا يشهد بالباطل، وأيضاً ضمّ شهادته إلى جنب شهادة اللّه تعالى التي هي حق مطلقاً وأبداً، ممّا مطلقاً وأبداً، ممّا يبيّن أيضاً
ص: 312
حقانية شهادة على (عَلَيهِ السَّلَامُ) مطلقاً ودائماً، وبذلك تظهر عصمته (عَلَيهِ السَّلَامُ) و يستحقّ الخلافة لكونه الأفضل من غيره.
ودلالة ثانية
وفي هذه الآية دلالة أخرى على استحقاقه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الإمامة، وذلك لأن عنده علم الكتاب والكتاب فيه تبيان كلّ شيء، ومن له هذه السعة من العلم المرتبط بكل الشريعة بل بكل شيء لاشك أنه الأجدر بالإمامة والخلافة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى يكون هو المتبوع لا أن يكون الإمام غيره ويكون هو تابعاً لمن يمكن عليه الخطأ والمعصية، وسنقرأ في الروايات الكثيرة ما يدل على أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي عنده علم الكتاب وتكون الآيتان متعاضدتين على اتّحاد هذا الشاهد وعصمته، كما نجد الروايات مستفيضة ومتّفقة على وحدة هذا الشاهد الذي هو من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والذي يتلوه وعنده علم الكتاب كلّه هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) باب مدينة علم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
1 - في الرواية الصحيحة (1) عن بريد بن معاوية قال: قلت لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ﴿قُلْ كَفَى باللّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال : إيانا عنى، وعلى أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).
2 - عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن قول اللّه (عزّ وجل) : (قُلْ كَفَى باللّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) هو
ص: 313
علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ قال: فمن عسى أن يكون غيره (1).
3 - عن أبي مريم قال : قلت لأبي جعفر هذا ابن عبد اللّه بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول اللّه (قُلْ كَفَى باللّه شهيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) قال كذب، ذاك علي ابن أبي طالب(2).
4 - عن محمد بن عمرو قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما يقول أصحابك في أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعيسى وموسى أنهم أعلم؟
قال : قلت : ما يقدمون على أولي العزم أحداً.
قال : أما إنك لو حاججتهم بكتاب اللّه الحججتهم.
قال: قلت: وأين هذا في كتاب اللّه؟
قال: إن اللّه قال في موسى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحَ مِن كلّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً) (3) ولم يقل كلّ شيء، وقال في عيسى: ﴿وَلَأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَختَلِفُون فيه) (4) ولم يقل كلّ شيء، وقال في صاحبكم (كَفَى باللّه شَهيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب) (5).
والمراد من (صاحبكم) هو أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
1 - ففي ينابيع المودة قال : سُئل سعيد بن جبير : ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
ص: 314
الكتاب) عبد اللّه بن سلام؟ قال: لا، وكيف وهذه السورة مكية وعبد اللّه بن سلام أسلم في المدينة بعد الهجرة؟!!.
وعن ابن عباس قال: ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) إِنَّما هو علي، لقد كان عالماً بالتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ.
وعن محمد بن الحنفية (رضى اللّه عنه) قال : عند أبي أمير المؤمنين على (صلوات اللّه عليه) علم الكتاب الأوَّل والآخر (1).
2 - وفي تفسير القرطبي قال : قال عبد اللّه بن عطاء قلت لأبي جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنهم زعموا): أن الذي عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام فقال : إنما ذلك علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه)
ثم قال القرطبي : وكذلك قال محمد ابن الحنفية (2).
سؤال : قد يقول قائل إن المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عندَهُ علمُ الكِتَاب) هو عبد اللّه بن سلام، لما ورد في تفاسير القوم، أو انه بعض أهل الكتاب وما شابه!!
الجواب: إن ذلك ابعد ما يمكن أن يقال:
فأولاً : إن الآية والسورة مكيّة وإن الرجل اسلم في المدينة
وثانياً: كيف نصرف النظر عن الروايات الكثيرة والصحيحة وعن
ص: 315
لسان أهل البيت المطهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعمّا في كتب الفريقين ونرجع إلى أقوال في ذلك ؟!!.
وثالثاً: إن من له أدنى معرفة بمقام الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) العلمي ورجوع الجميع إليه في السؤال عن شتّى أنواع العلوم وإجابته (عَلَيهِ السَّلَامُ) على كلّ ما سُئل عنه لا يتردّد أبداً انه لا يمكن ترجيح ما قيل إنه ابن سلام على الروايات التي صرحت انه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والغريب أن في الآية الأولى ورد أيضاً قول بأن المراد من الشاهد هو : بن سلام والحال أن الآية قالت: (شاهد منه) أي من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولاشك أن الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو من النبيّ وليس ابن سلام.
استفسار آخر
سؤال :آخر قد يقول قائل : كيف يستشهد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على دعواه برجل هو من صفّه ومن أتباعه ! فان القوم الذين لا يؤمنون به كداعية إلى اللّه تعالى من الواضح أنهم لا يؤمنون ولا يصدقون بقول أتباعه؟
الجواب: يمكن أن يقال - والله العالم - في رد هذا الإشكال إن هذا الأمر وارد أيضاً على استشهاده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) باللّه تعالى، وكونه سبحانه وتعالى شهيداً على دعوته، فان القوم أيضاً لا يقبلون ذلك منه، فهذا محض إدعاء بالنسبة لهم، فكيف يقول اللّه تعالى له : (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).. الآية ؟!
هذا رد نقضي، وفي الواقع هو إشكال آخر، والردّ الحلّي ربما يكون هو: أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يستشهد بشهادة اللّه تعالى على صدق مدعاه من حيث تمكين اللّه تعالى له من الكرامات والمعجزات فان ما يأتى به النبيّ من إعجاز
ص: 316
يستدل به على صدق رسالته فهو أمر بإذن اللّه تعالى وقدرته فهو يستدلّ على صدق دعواه بما يشهد له اللّه تعالى بصدقه من حيث تمكينه من الإتيان بتلك المعاجز والقدرات التي يعجز عنها سائر الناس، كذلك استشهاده بعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)من حيث أنه معجزة من معاجزه التي نصره اللّه بها.
وكما قلنا - في الآية السابقة - : من أن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو بنفسه كان معجزة من معاجز النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حق عُدّ شاهداً على صدق رسالته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نقول هنا أيضاً إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يستشهد به باعتباره آية من الآيات الإلهيّة التي تصدِّقه وتُسند دعواه.
ولتأييد المعنى المراد في الآيتين الآنفتين نذكر آيات أخرى من آيات الشهادة، ممّا يستفاد منها شهادة الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) على الناس يوم القيامة، وعلمهم بأعمال الخلق.
وتُعدّ هذه الآيات بنفسها دليل آخر على إمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) وذلك لدلالتها على عصمتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) - كما سيأتي - وإن العصمة ملازمة لحجيتهم على الخلق.. وهي:
(وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(1).
ص: 317
لقد دلّت الآية على العصمة والإمامة للأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) من جهتين:
الجهة الأولى: قسمّت الآية الناس الى ثلاثة أصناف: (الأمة الوسطى وهم الشهداء على الناس وسائر الناس، والرسول).
أمّا الرسول فهو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو من الناس إلا أنه تميّز عنهم برسالته من اللّه تعالى لهم.
وأما الناس - هنا - فهم جميع الناس بإستثناء الرسول والأمة الوسطى.
وأمّا الأمّة الوسطى، فهم جماعة لهم ميزة جعلتهم شهداء على سائر الناس، فيا ترى من هم هؤلاء؟!!
مع ملاحظة أن هؤلاء الشهداء مجعولون من قبل اللّه تعالى للشهادة على الناس يوم القيامة، وأن شهادتهم مقبولة عنده سبحانه مطلقاً وفي كلّ قضيّة، ممّا يدلّ ذلك على عصمتهم، فمن الواضح أن اللّه سبحانه وتعالى لا يُقدّم شهوداً يمكن عليهم الخطأ، فثبت بذلك عصمة هذه الأمة والجماعة، هذا من جهة.
الجهة الثانية: لما وصفت الآية جماعة بالوسطية ميزتهم عن سائر الناس، فالأمة الوسطى هي التي تعرف الحقّ وترعاه دائماً لتشهد على الناس أنهم عملوا بالحق أم لا، ولاسيما إذا أريد منها الوسطيّة المطلقة، أي دائماً وعلى كلّ حال - كما هو الواقع المراد من ذلك - فلابد أن تكون تلك الأمة الوسطى معصومة الخطأ من والإشتباه، وإلاّ لا يُعوّل على شهادتها ولا ميزة لتلك الشهادة.
ومن هاتين الجهتين دلّت الآية على عصمة هذه الأمة، وبذلك تستحقّ
ص: 318
الإمامة، لأنها الأعرف للحق والملازم له.
ولا يمكن أن يراد من الأُمّة جميع الناس، لأن من الواضح انه ليس الأُمّة جميعاً ممّن هم على الحالة الوسطية و لا كلهم على الحقّ دائماً، بل من المعلوم بالوجدان أن أكثر أمة الإسلام وأهلها غير ملتزمين بالحق والتدين به، فضلاً من أن يكونوا مستمرين عليه دائماً، فلابد أن يكون المراد من الأُمّة الوسطى هم جماعة خاصة من الناس،
سؤال : هل يمكن أن تطلق كلمة (أمّة) ويُراد منها جماعة خاصة فقط؟
الجواب : نعم لا يضر استعمال كلمة (الأمة) وإرادة جماعة خاصة، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) (1) فقد أريد من ذلك (أمّة) جماعة من الرجال فقط.
وما نريده : هو أن هذه الآية وأشباهها من آيات الشهادة هي بنفسها دليل على الإمامة، وأيضاً تدعم الآيتين اللتين عقدنا لهما هذا الفصل.
وفي خصوص هذه الآية جائت بعض الأحاديث تؤكّد هذا المعنى وإليك بعضها :
1 - عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : (إنما أنزل اللّه: ﴿وَ كَذلكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً) يعني عدولاً، لتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاس و يكون الرسول عليكم شهيداً، قال: ولا يكون شهداء على النّاس إلا الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) و
ص: 319
الرسول. فأمّا الأمّة فانّه غير جائز أن يستشهدها اللّه و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا على حزمة بقل)(1).
2 - وعن الامام الصادق عالية في قوله تعالى: ﴿وَ كَذلكَ جَعَلْناكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً) قال: فإن ظننت أنّ اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع ثمر، يطلب اللّه شهادته يوم القيامة و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا ! لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم دعوة إبراهيم و هم الأمة الوسطى. و هم خير أمة أخرجت للناس(2).
3 - عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه (عز وجل): (وَ كَذلكَ جَعَلْناكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) قال: (نحن الأمة الوسطى ونحن شهداء اللّه على خلقه وحججه في أرضه.. إلى أن قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): فرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الشهيد علينا بما بلّغنا عن اللّه (عز وجل) ونحن الشهداء على الناس فمن صَدق صدقناه يوم القيامة، ومن كَذَّبَ كذبناه يوم القيامة) (3).
هذا.. ويأتي الكلام نفسه في الآيات التي جعلت الشهادة لمن جعلت يوم القيامة.
ص: 320
قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٌ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَوْلاء شَهيداً) (1).
روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه (عز وجل): (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِتُنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً) قال: (نزلت في أمة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خاصّة، في كلّ قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شاهد علينا) (2).
وفي البخاري :
وفي البخاري ما يدلّ على أصل هذه الشهادة، حيث روى عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول : لبّيك وسعديك يا ربّ، فيقول : هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمّته : هل بلّغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلّغ ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله (جلّ ذكره): ﴿وَ كَذلكَ جَعَلْناكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً) والوسط العدل) (3).
ولا تنافي هذه الرواية كون الشهادة للائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) لأنهم من الأمة بل سادتها.
ثم إن الشاهد ينبغي أن يكون قد شهد القضية حتى يشهد عليها، وأنى
ص: 321
لسائر الأمة أن تكون قد شهدت أفعال وأقوال سائر الناس حتى تشهد عليهم ؟! بل هم الأئمّة الذين أطلعهم اللّه تعالى على أعمال العباد كما اطلع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ذلك أيضاً ليشهدوا على الناس يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (1).
لقد مكّن اللّه تعالى هؤلاء المؤمنين من الوقوف على حقيقة أعمال عباده، ثم يُقدِّمهم يوم القيامة للشهادة على الناس.
وهذه الآية هي الأخرى لها دلالتها على الإمامة، إذ لاشك ليس كلّ المؤمنين يرون أعمال الخلق ويعرفون حقائقهم حتى يشهدوا عليهم، بل يعرف ذلك،بعضهم، ثم إن هذا البعض ممّن رأى وعرف اعمال الناس لا يرى حقيقة عملهم، بل يرى ظاهر العمل، وهذا لا تُراد شهادته بل لا تفيد هذه الشهادة، لأنّ الرؤية بهذا المعنى ليست خاصة للمؤمنين، بل ممكنة لغير المؤمنين أيضاً، فغير المؤمنين من سائر الناس يرى بعض الأعمال من الناس الآخرين فلماذا خصت الآية الرؤية بالمؤمنين ؟! بل المراد هم الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) فهم الذين يُطلعهم اللّه تعالى على أعمال خلقه لأنهم أئمتهم وقادتهم.
ومن السنن الطبيعية الجارية في الخلق أن يطلع القائد والإمام على أفعال رعيته، وكذلك يطلع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بصريح هذه الآية، فهو يرى أعمالنا وتُرفع إليه ملفّاتُنا دائماً، ليكون ذلك في طريق شهادته على سائر الناس وعلى الأئمّة يوم القيامة.
ص: 322
ومما يدلّ على هذا المعنى الواقعي للرؤية هو إقتران هذه الرؤية إلى جنب رؤية اللّه تعالى، فلا شك أنه سبحانه يعلم حقائق أفعال الخلق كما يعلم ظواهرها، وفي الأحاديث ما يؤكد هذا المعنى.
وإليك - أيها القارئ الكريم - بعضها :
1 - روي عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: (مالكم تسوؤن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)) ؟!
فقال رجل كيف نسوؤه ؟
فقال: (أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصيةً ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول اللّه وسروه) (1).
2 - وعن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه (عز وجل) (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) ؟ قال: هم الأئمّة (2).
3 - عن عبد اللّه بن أبان الزيات قال: قلت للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): ادع اللّه لي ولأهل بيتي فقال: (أو لست أفعل ؟ والله إن أعمالكم لتعرض عليَّ في كلّ يوم وليلة).
قال فاستعظمتُ ذلك، فقال لى : أما تقرأ كتاب اللّه (عز وجل): (وقل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)؟ قال: هو والله علي
ص: 323
بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ)) (1).
ولعلّ قول الإمام : (هو واللّه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)) يقصد به حين نزول الآية وانه أوّل الأئمّة وأبوهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، إذ لا شك أن المراد في الآية هو الأمام علي وأبنائه المعصومون (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وعلى أي حال تُعدّ هذه الآيات المتضمّنة لمعنى الشهادة والرؤية من الآيات المرتبطة بموضوع العصمة والإمامة، وهي بنفسها أدلة مستقلة على ذلك، كما إنها تعضد بعضها بعضاً في بيان هذا المعنى المراد.
ولزيادة العلم والاستدلال على ذلك يمكن مراجعة تفسير بعض تلك الآيات تما تركنا التعرّض لها هنا - تجنباً للتفصيل - فمثلاً يمكن ملاحظة تفسير الآيات التالية والوقوف على هذه الحقيقة، فمن ذلك :
قول اللّه (عزوجل) في هذه الآيات:
1 - ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَتْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبون) (2).
2 - ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى للمُسلمين) (3).
ص: 324
3 – (وَجَاهِدُوا فِي اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ من قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاس فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا باللّه هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصيرُ) (1).
4 - ﴿وَنَزَعْنَا مِن كلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ للّه وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (2).
5 - ﴿يَا أَيُّهَا النبيّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (3).
6 – (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) (4).
7 - ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فرْعَوْنَ رَسُولاً) (5).
وخلاصة القول:
إن الآيتين - الأولى التي عدّت الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتلو النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وشاهداً منه والثانية التي صرّحت أن عنده علم الكتاب، كما في بداية هذا
ص: 325
الفصل - متعاضدتان في بيان مكانة عظمى للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممّا يلزم القول بإمامته.
وكذلك الآيات الثلاث الأخرى أكدت هذا المعنى المراد.
و هكذا آيات أخرى وأخرى.
وبذلك تُعَدّ هذه الآيات من آيات الإمامة والولاية، وهذا ما أردناه.
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 326
ص: 327
ص: 328
بسم اللّه الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (1).
وقوله سبحانه: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النَّعيم) (2).
إنّ في كلّ من هاتين الآيتين المباركتين دلالة على إمامة الامام عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ). والدلالة تارة من جهة كلّ آية بانفرادها، وأخرى من حيث تعاضدهما، وتارة ثالثة بسبب تأیید آیاتین ثانيتين تطرقت الى نعمة اللّه تعالى. ولنلاحظ هذه الآيات منفردة ومترابطة.
قوله تعالى: ﴿وَقُوهُمْ لَّهُم مَّسْئُولُونَ).
دلت الآية المباركة على إمامة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وذلك لما جاء في تفسيرها من أحاديث عديدة عن السؤال الذي سوف يواجهه الإنسان يوم القيامة، وهو السؤال عن الولاية للإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
وهذا ما نجده في مصادر المسلمين عامة سُنّة وشيعة.
ص: 329
أمّا من مصادر العامّة :
1 - ذكر الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قوله تعالى: ﴿وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) قَال: عن ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
2 - و ذكر في رواية أخرى لفظ (الإمام)، فقال مُسنداً إلى أبي سعيد الخدري في قوله: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ قال: عن إمامة علي بن أبي طالب (2).
وفي الصواعق لابن حجر عن الواحدي قال: روي في قوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ أي عن ولاية علي وأهل البيت قال - أي الواحدي - : لأن اللّه أمر نبيّه أن يُعرف الخلق أنه لا يسألهم على تبيلغ الرسالة أجراً إلا المودة في القربى.
والمعنى: إنهم يُسألون هل والوهم حقَّ الموالاة كما أوصاهم النبيّ، أم أضاعوها وأهملوها؟، فتكون عليهم المطالبة والتبعة إنتهى كلام الواحدي (3).
وهناك الكثير من المصادر التي تطرقت الى هذا المعنى في تفسير الآية (4).
ص: 330
وفي مصادر أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ):
1 - ذكر الشيخ الصدوق عن أبي سعيد عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في قول اللّه عزّ وجل : ﴿وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ (1) قال: (عن ولاية علي، ما صنعوا في أمره؟ وقد أعلمهم اللّه عزّ وجل) أنه الخليفة بعد رسوله) (2).
2 - ذكر أبو الحسن الفقيه محمد بن أحمد بن شاذان بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعتُ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : (إذا كان القيامة أمر اللّه يوم مَلكين يقعدان على الصراط، فلا يجوز أحد إلاّ ببراءة أمير المؤمنين، ومَن لم تكن له براءة أمير المؤمنين أكبَّه اللّه على منخريه في النار، وذلك قوله تعالى: )وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)).
قلت: فداك أبي وأمي يا رسول اللّه ما معنى براءة أمير المؤمنين ؟
قال مكتوب بالنور الساطع لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) )(3).
3 - في تفسير نور الثقلين عن أمالي الشيخ الطوسي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : إذا كان يوم القيامة ونُصب الصراط على جهنّم لم يجز عليه إلا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وذلك قوله
ص: 331
تعالى: وقفو : ﴿وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) يعنى عن ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1).
وهكذا ذكر كثير من المفسّرين هذا المعنى في تفسير الآية المباركة، وهذا يدل على ولاية الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأن الآية من الآيات الدالة على ذلك.
قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النَّعيم) (2).
دلّت هذه الآية أيضاً على المعنى المراد، فقد جاء في تفسيرها: إن المقصود من النعيم الذي نُسأل عنه : هو ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذا بنفسه يدلّ على الولاية للإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ).
كما يؤيد ذلك مقارنتها بالآية الآنفة والآيتين التاليتين.
فلنلاحظ بعض الأحاديث عند الفريقين في ذلك:
من مصادر العامّة :
1 - في ينابيع المودة: في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتَسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النَّعِيم) بسنده عن الإمام جعفر الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : النعيم ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرّم اللّه وجهه) (3).
ص: 332
2 - و في المصدر نفسه عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : واللّه ما هو الطعام والشراب، ولكن هو ولايتنا.
وذكر أيضاً عن الإمام الكاظم اللّه قال: نحن نعيم المؤمن وعلقم الكافر (1).
3 – في ينابيع المودة ذكر عن الحاكم بن أحمد البيهقي بسنده إلى إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب بالأهواز سنة سبع وعشرين ومائتين قال: كنا يوماً بين يدي الإمام علي بن موسى الرضا (رضي اللّه عنهما).
قال له بعض الفقهاء: إن النعيم في هذه الآية هو الماء البارد.
فقال له بارتفاع صوته : كذا فسّرتموه أنتم وجعلتموه على ضروب، فقالت طائفة : هو الماء البارد وقال آخرون هو النوم، وقال غيرهم: هو الطعام الطيّب.
ولقد حدثني أبي عن أبيه جعفر بن محمد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، إذ أقوالهم هذه ذكرت عنده فغضب وقال : إن اللّه (عزّ وجل) لا يسأل عباده عما تفضّل عليهم به، ولا يمنُّ بذلك عليهم، وهو مُستقبح من المخلوقين كيف يُضاف إلى الخالق - جلت عظمته - مالا يُرضى للمخلوقين ؟!
ولكن النعيم حبّنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل اللّه عنه بعد التوحيد للّه ونبوّة رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لأن العبد إذا وافى بذلك أدّاه إلى نعيم الجنّة الذي لا يزول.
قال أبي موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لقد : لقد حدَّثني أبي جعفر عن أبيه محمد بن علي
ص: 333
عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): يا علي إن أول ما يُسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه وأنك ولي المؤمنين بما جعله اللّه وجعلْتُه لك، فمَن أقرَّ بذلك وكان معتقده صار إلى النعيم الذي لا زوال له (1).
وأمّا في مصادر الإمامية:
1 - عن الإمام الباقر اللّه في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَن النَّعيم). قال : يعني الأمن والصحة وولاية علي بن أبي طالب (2).
2 - روي في الكافي عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبد اللّه جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطيباً وأوتينا بتمر، ننظر فيه إلى وجوهنا من صفائه،وحسنه فقال رجل : لتُسألن عن هذا النعيم الذي نعمتم به عند ابن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إن اللّه عزّ وجل أكرم وأجل من أن يطعمكم طعاماً فيسوغكموه ثم يسألكم عنه، ولكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)وآل محمد (عَلَيهِم السَّلَامُ) (3).
3 - وفي الكافي أيضاً عن سدير الصيرفي عن أبي خالد الكابلي قال: دخلتُ على أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فدعا بالغذاء، فأكلتُ منه طعاماً ما أكلت طعاماً
ص: 334
قطّ أنظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام قال : يا أبا خالد كيف رأيت طعامك ؟ أو قال: طعامنا ؟ قلت: جعلت فداك ما رأيتُ أطيب منه ولا أنظف قط، ولكني ذكرتُ الآية التي ذُكرت في كتاب اللّه (عز وجل) (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) فقال أبو جعفر : لا، إنما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحق (1).
سؤال : قد يسأل سائل ويقول : لقد جاء في تفسير الآية – أيضاً - أن المراد من النعيم هو الأكل الطيب، أو الماء البارد، أو النوم الهنيء، وما شابه، حيث جاء ذلك في بعض الروايات، فلماذا لا تُفسّر الآية بذلك ؟
الجواب: نقول - بعد فرض صحة ذلك - :
أوّلاً: يمكن الجمع بين هذه الأقوال وبين القول بالولاية، على أن يكون السؤال عن أمور عديدة ومن أهمها ما يهم العقيدة والولاية.
ثانياً: إنّ مَن يلاحظ هذا التفسير للنعيم بالولاية يجده مناسباً للآية الأخرى وهي قوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسؤلون).
وأيضاً يناسب ما سنذكره من آيات أخرى في هذا المضمار، فيكون هذا التفسير اقرب للواقع.
ثالثاً: لقد ذكرت بعض الأحاديث - كما مر - إن اللّه تعالى أجل شأناً من أن يسأل العباد عن نعمة الماء البارد أو النوم أو ما أشبه، وإنما السؤال
ص: 335
عن شيء هو في غاية الأهميّة، وهي الإمامة والولاية لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، الذين خلّفهم الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأوصى الأمة بملازمتهم ومتابعتهم.
وتؤكّد هذا المعن أحاديث المرور على الصراط يوم القيامة، وأنه لا يعبر أحد الصراط إلا من عنده جواز يسمح له بالمرور، وهو كتاب من الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
جاء ذلك في مصادر عديدة، منها:
1 - عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (إذا كان يوم القيامة، يقعد علي بن أبي طالب على الفردوس - وهو جبل قد علا على الجنّة، وفوقه عرش ربّ العالمين، ومن سَفَحه تتفجر أنهار الجنة وتتفرّق في الجنان - وهو جالس على كرسي من نور يجري من بين يديه التسنيم، لا يجوز أحد الصراط إلاّ ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته، يُشرف على الجنّة، فيُدخل محبّيه الجنّة ومبغضيه النار) (1).
2- عن أنس بن مالك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (إذا كان يوم القيامة ونُصب الصراط على جهنّم، لم يجز أحدٌ عليه الاّ مَن معه جواز ولاية علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)) (2).
3 - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه : (إذا) كان يوم القيامة أقفُ أنا وعلي بن أبي طالب على الصراط، بيد كلّ واحد منّا
ص: 336
سيف، فما يمر أحد إلا سألناه عن ولاية علي بن أبي طالب، فمن كانت معه وإلا ضربنا عنقه وألقيناه في النار، وذلك قوله تعالى: ﴿وَقفُوهُمْ وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ﴾) (1).
ويؤيد هذا حديث الثقلين، حيث يؤكد إننا سنسأل - لا محالة عن الولاية لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فقد قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (أيّها الناس إني تركتُ فيكم الثقلين : الثقل الأكبر والثقل الأصغر، فأمّا الثقل الأكبر هو حبل فبيد اللّه طَرَفه والطرف الآخر بأيديكم، وهو كتاب اللّه إن تمسكتم به فلن تضلّوا ولن تذلّوا أبداً، وأمّا الثقل الأصغر فعترتي أهل بيتي إنّ اللّه اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، وسألتُ ذلك لهما فأعطاني، والله سائلكم كيف خلقتموني في كتاب اللّه وأهل بيتي (2).
وذكر ابن حجر في (كتابه الصواعق) حديث الثقلين، ثم قال: رواه ثلاثون صحابياً وإن كثيراً من طرقه صحيح (3).
و في حديث آخر عن جبير بن مطعم قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (ألستُ مولاكم، ألست خيركم)؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه.
قال: فإنّي فَرَط لكم على الحوض يوم القيامة، والله سائلكم عن
ص: 337
اثنتين، عن القرآن وعن عترتي)(1).
عزيزي القارئ الكريم : بعد كلّ هذه الأحاديث التي جاءت في تفسير الآية: ﴿وَقفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون)، والأحاديث التي رويت في الآيات الأخرى لا يبقى مجال للشك في أن السؤال الذي سيُسأل الناس عنه يوم القيامة هو سؤال عن إمامة الإمام علي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وبهذا تكون هذه الآية من الآيات الدالة على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
هاتان آيتان تطرقتا الى وجود ذلك السؤال، وآيتان ثانيتان تحدثنا عن نعمة اللّه تعالى قد أنكرها قوم وكفروا بها، وللآيتين علاقة بما نحن فيه من
السؤال عن الولاية، فعَدَدتُهما ثالثة ورابعة في هذا الفصل، وهما:
قوله سبحانه: (يَعْرِفُونَ نعمَتَ اللّه ثُمَّ يُنكَرُونَهَا﴾ (2).
هذه الآية تؤيّد القول : بان السؤال عن النعيم هو سؤال عن الولاية، وذلك لما جاء في تفسيرها من أحاديث في ذلك.
وإليك بعض تلك الأحاديث:
1 - في الكافي عن أحمد بن عيسى قال : حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده (عَلَيهِم السَّلَامُ) في قوله (عز وجل): (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّه ثُمَّ يُنكرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)
قال: لا نزلت: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
ص: 338
يُقيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1) اجتمع نفر من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مسجد المدينة.
فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في هذه الآية ؟
فقال بعضهم : إن كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا، فإنّ هذا ذُلّ حين يُسلَّط علينا ابن أبي طالب.
فقالوا: قد علمنا أن محمداً صادق فيما يقول، ولكنا نتولاه ولا نطيع علياً فيما أمرنا.
قال : فنزلت هذه الآية : (يعرفون نعمة اللّه ثم يُنكرونها) يعرفون (يعني ولاية علي بن أبي طالب وأكثرهم الكافرون (بالولاية) (2).
قوله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار) (3).
عُدّت هذه الآية أيضاً من آيات الولاية حيث ذكرت النعمة وأُولَت بالولاية لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما نلاحظ ذلك في بعض الأحاديث، فمثلا:
1 - في الكافي عن الأصبغ بن نباتة قال : قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : (ما بال أقوام غيّروا سُنَّة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعدلوا عن وصيه؟ لا يتخوّفون أن
ص: 339
ينزل بهم العذاب ؟
ثم تلا هذه الآية: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار).
ثم قال: نحن النعمة التي أنعم اللّه بها على عباده، وبنا يفوز من فاز يوم القيامة (1).
2 - وفي شرح الكافي: قال علي بن إبراهيم في قوله (عز وجل) : (يَعْرِفُونَ نعمَتَ اللّه ثُمَّ يُنكَرُونَهَا): نعمة اللّه هم الأئمّة، والدليل على أن الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) نعمة اللّه جل جلاله قول اللّه تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نعْمَةَ اللّه كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار)، قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : نحن والله نعمة اللّه التي أنعم بها على عباده وبنا فاز من فاز (2).
أيّها القارئ الكريم : لاحظنا الإنسجام والترابط بين هذه الآيات الأربع، وكيف يُفسّر بعضها بعضاً، حيث الإجابة على السؤال المطروح في الآيات وبيانه في الأحاديث.
وبذلك تكون هذه الآيات الأربع من آيات الإمامة والولاية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
نسأل اللّه تعالى أن ينتبه المسلمون إلى هذا السؤال، ويُمهدّوا الجواب عليه، وذلك بالرجوع إلى إمامة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). والحمد للّه رب العالمين.
ص: 340
ص: 341
ص: 342
بسم اللّه الرحمن الرحيم
في هذا الفصل أقف عند بعض الآيات التي لها إشارات تؤول إلى لزوم القول بإمامة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
وهذه الآيات أدرجها العلّامة الحلّي في كتابه : (نهج الحقّ وكشف الصدق)، مستدلاً بها على الولاية بإشارة خفية وبإختصار بالغ.
وقد اقتبست بعض استدلاله عليها، و همشت أيضاً بعض التعليقات التي يمكن أن تكون محاولة في إزاحة بعض الغشاوة عن المعنى المراد إيصاله إليك أيها القارئ الكريم - وتوجيهاً و تبييناً متواضعاً في وجه دلالة الآيات، فذكرتُ نص ما أفاده العلّامة (قدس اللّه نفسه)، وأضفتُ بعض ما تبادر الى الذهن ممّا يمكن أن يكون توضيحاً لما أراده العلّامة أو وجهاً من وجوه الاستدلال بالآية المباركة على المراد.
والآيات المقتبسة هي كالتالي:
1. قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أَوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (1).
قال العلّامة الحلّي: روى الجمهور عن ابن عباس انه قال: سابق هذه
ص: 343
الأمة علي بن أبي طالب (1)، انتهى.
وجه الاستدلال:
إن ما يقوله ابن عباس في تفسير القرآن يُعد ممّا يرويه عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وربما لهذا السبب ذكر العلّامة الحلّي كلامه واستدلّ به.
ووجه الاستدلال بالآية : إنه إذا كان السابق إلى الإيمان هو المقرَّب في القرآن وعند اللّه تعالى، فيُفترض تقديمه على الآخرين لمنصب الإمامة أيضاً، فإذا كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو سابق هذه الأمة وهو المقرب عند اللّه تعالى فهو الأجدر بالإمامة من غيره.
2. قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ باللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّه لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّه وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالمين) (2).
قال العلّامة: روى الجمهور في الجمع بين الصحاح الستة : أنها نزلت في علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لما افتخر طلحة بن شيبة والعباس.
فقال طلحة : أنا أولى بالبيت، لأن المفتاح بيدي.
وقال العباس أنا أولى أنا صاحب السقاية، والقائم عليها.
ص: 344
فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أنا أول الناس إيماناً، وأكثرهم جهاداً.
فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، لبيان أفضليّته (عَلَيهِ السَّلَامُ).
رواه جمع غفير من الأعلام، (1) انتهى.
وجه الاستدلال :
لقد جاء في الرواية : فقال على (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أنا أشرف منكما أنا أوّل مَن آمن، وهاجر، وجاهد في سبيل اللّه.
فإذا كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو أول من آمن وهاجر وجاهد فيكون هو الأعظم في الدرجات، وهو الذي لا يساويه غيره عند اللّه تعالى، وبالتالي هو المقدم على غيره.
3. قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلكَ من رُّسُلَنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَن آلهَةً يُعْبَدُونَ) (2)
قال العلّامة : روى ابن عبد البر وغيره من السُنة في الآية : إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ليلة أسري به جمع اللّه بينه وبين الأنبياء.
ثم قال له : سلهم يا محمد، على ماذا بعثتُم ؟
قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا اللّه، وعلى الإقرار بنبوّتك، والولاية لعلي بن أبي طالب (3).
ص: 345
وجه الاستدلال :
من الواضح أن الأنبياء اقروا بالولاية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنهم علموا من قبل - - بما أخبرهم اللّه تعالى - بأنه هو الولي بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ومعنى هذا أنّ اللّه تعالى قد جعله خليفة لخاتم الرسل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فلابد أن يكون هو الإمام والولي بعد نبي الإسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
4. قوله تعالى: ﴿وَالَّذي جَاء بالصِّدْقِ وَصَدَقَ بِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (1)
قال العلّامة : روى الجمهور عن مجاهد:
إنّ الذي جاء بالصدق وصدق به هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
وجه الاستدلال :
إن هذا الحديث روي بطرق متعددة من طرق العامّة، ومنها عن مجاهد. والمقصود روايته عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
كما روي عن طريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) (3).
فإذا كان الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) - بشهادة القرآن الكريم - قد جاء بالصِّدق،
ص: 346
فهو صادق بلا شك فيما ادعاه من الإمامة والخلافة لنفسه بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرة.
وقد ثبت أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ادعا استخلاف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له، فيكون هو الإمام والخليفة بدعواه ذلك بتأييد وتصديق من القرآن الكريم.
5 - قوله تعالى: : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (1).
قال العلّامة : قال الثعلب: نزلت في على (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2)
وجه الاستدلال :
دلّت الآية - بضميمة الحديث - على الإمامة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عدة جهات:
أولاً: لأن اللّه تعالى يحب الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) دائماً، وذلك لدلالة الفعل المضارع (يُحِبُّهُمْ) على استمرارية حب اللّه تعالى له (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فيدلّ على عصمته (عَلَيهِ السَّلَامُ)، لأنه لما يكون محبوباً اللّه تعالى بصورة مستمرة، فلابد أن يكون دائماً مطيعاً اللّه أيضاً، لأن اللّه تعالى لا يحبّ العاصي له في حال عصيانه.
ص: 347
وإذا ثبتت له العصمة ثبتت له الحجيّة والامامة، فهو الإمام - أوّلاً - من هذه الجهة.
ثانياً: لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحبّ اللّه تعالى دائماً أيضاً، بدلالة استمرارية فعل المضارع (يُحِبُّونَهُ)، ويأتي الكلام بعينه فيدلّ على عصمته أيضاً وإمامته.
إضافة إلى أنه هو المجاهد الذي لا يخاف لومة لائم، وهو الذي أوتي فضل اللّه تعالى، فلاشك - حينئذ - يكون هو الأولى من غيره لإمامة الأمة..
ويتّضح من هذا ضعف الاستدلال بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (1)، حيث استدل بها على خلافة غير الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو استدل بها على عدالة الصحابة أجمعهم!!.
ويُضعّف الاستدلال بهذه الآية على ذلك، لأن كلمة (رضي) فعل ماض لا يدل على الاستمرارية، فقد يكون اللّه تعالى رضي عنهم حين مبايعتهم، ورضي لهم المبايعة، ولكنه سبحانه لم يرض عنهم وهم يقترفون المعاصي المسجلة عليهم بعد ذلك، وهي كثيرة لا تخفى على سائر من راجع التاريخ.
ثم إنه سبحانه رضي عن المؤمنين منهم وليس عن المنافقين أو الذين لم يثبتوا على إيمانهم، فمن الواضح أن اللّه تعالى لم يرض عن إبن العادية الذي حضر بيعة الشجرة ثم كان في جيش معاوية وقتل عمار بن ياسر)، فقد صرّح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)
ص: 348
بانه من الفئة الباغية، وذلك في خطابه لعمّار بقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (تقتلك الفئة الباغية).
فلا تكون كلمة (رضي) شاملة لرضا اللّه تعالى عنهم جميعاً و دائماً، بخلاف قوله : (يحبّهم) الفعل المضارع الدال على الاستمرارية لهذه المحبة.
6- قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَوْلَئِكَ خَيْرُ البَريَّة) (1).
قال العلّامة : روى الجمهور عن ابن عباس، قال : لما نزلت هذه الآية، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (هم أنت يا علي وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك راضين مرضيّين، ويأتى أعداؤك غضاباً مقمحين)(2).
وروى عدة من الأعلام والحفاظ، بأسناد وطرق صحيحة، أو موثوقة، عن جابر، وابن عباس، وغيرهما : أن الآية نزلت في علي وشيعته. وروى الأعلام (3) عن رسول اللّه الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): بأن (خير البرية علىٌّ وشيعته).
وجه الاستدلال :
إن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) - بشهادة القرآن والحديث - هو خير البرية، أي بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الأفضل دون شك، وذلك لنبوته وإمامته على الناس وعلى الإمام علي نفسه ولقول الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): (أنا عبد من عبيد محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)).
ص: 349
ولاشك أن العقل يحكم بإمامة أفضل البريّة على سائر البرية، فيلزم أن يكون الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الخليفة والامام على سائر الناس والبرية.
7. قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ (1)
قال العلّامة روى الجمهور، عن ابن عباس قال: كنت جالساً مع فئةمن بني هاشم عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، إذ انقض كوكب.
فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (مَن انقض هذا النَّجم في منزله، فهو الوصيُّ من بعدي).
فقام فئة من بني هاشم، فنظروا فإذا الكوكب قد انقض في منزل على بن أبي طالب.
فقالوا: يا رسول اللّه، لقد غُويت في حُبّ علي، فأنزل اللّه : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (2).
وجه الاستدلال :
لعلّ المراد من الكوكب المُنقَضَ هو شهاب من الشهب التي تهوي الى الأرض بعض الأحيان.
ووجه الاستدلال : هو تصريح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)بالوصية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم نزول الآية في هذا الشأن فيكون الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصيّاً للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ص: 350
و كان ممّا أوصى له هي الإمامة،والخلافة، كما اخبر الإمام اللّه بذلك وكما دلّت الآيات والروايات الكثيرة.
8. قوله تعالى: ﴿وَالْعَادِيَات صَبْحًا * فَالْمُورِيَات قَدْحًا * فَالْمُغيرات صُبْحًا * فَأَثَرْنَ به نَفْعًا * فَوَسَطنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنسَانَ لربه لكنودُ * وَإِنَّهُ عَلَى ذلك لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحَصَلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ أَخَبِيرٌ).
قال العلّامة : أقسم اللّه تعالى بخيل جهاده في غزوة السلسلة، لما جاء جماعة من العرب واجتمعوا على وادي الرملة ليبيتوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالمدينة. - أي ليغتالوه -
فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأصحابه : من هؤلاء؟
فقام جماعة من أهل الصُفّة.
فقالوا نحن فولِّ علينا مَن شئت.
فأقرع بينهم، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً منهم، ومن غيرهم. فأمر أبا بكر بأخذ اللواء، والمضي إلى بني سليم، وهم ببطن الوادي، فهزموهم وقتلوا جمعاً من المسلمين، وانهزم أبو بكر. وعقد لعمر، وبعثه، فهزموه، فساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
فقال عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه، فأنفذه، فهزموه. وقتلوا جماعة من أصحابه.
وبقي النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أياماً يدعو عليهم.
ص: 351
طلب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبعثه إليهم، ودعا له، وشيعه إلى مسجد الأحزاب، وأنفذ معه جماعة منهم أبو بكر، وعمر، وعمرو بن العاص، فسار الليل، وكمن النهار، حتى استقبل الوادي من فمه.
فلم يشك عمرو بن العاص : أنه يأخذهم.
فقال لأبي بكر هذه أرض سباع، وذئاب وهي أشدُّ علينا من بني سليم، والمصلحة أن نعلو الوادي. وأراد إفساد الحال.
وقال : قل ذلك لأمير المؤمنين.
فقال له أبو بكر، فلم يلتفت إليه.
قال لعمر، فلم يجبه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). وكبس على القوم الفجر، فأخذهم..
فأنزل اللّه تعالى : و(العاديات ضبحا).. السورة. واستقبله النبيّ فنزل أمير المؤمنين.
قال له النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): لولا أن أشفق أن يقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح، لقلتُ فيك اليوم مقالاً لا تمرّ بملأ منهم إلا أخذوا التراب من تحت قدميك، اركب، فإن اللّه ورسوله عنك راضيان (1).
وجه الاستدلال:
لقد أَمَّرَ النبيّ الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) على أبي بكر وعمر ولم يأمرهما عليه، لا في هذه الغزوة ولا في غيرها، كما لم يُأمر أحداً عليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في سائر
ص: 352
الغزوات، ممّا يدل على انه طالما هو معهم فهو الأمير عليهم، ولا يكون احد
منهم أميراً عليه، و يدلّ هذا على إمارته (عَلَيهِ السَّلَامُ) عليهم بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أيضاً.
إضافة إلى أن نهاية الحديث يدلّ على الأفضلية الكبرى للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث يخشى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يصرِّح بذلك فيغلو المسلمون، ويقولون فيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما قالت النصارى في النبيّ عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الألوهية.
وأي مكانة هذه للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) اذ لو صرح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بها لأخذ الناس التراب من تحت أقدامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) !!
فهذا كلّه يبيّن أفضليّته على من سواه بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويدل على إمامته (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
9. قوله تعالى: ﴿وَفي الأَرْضِ قِطَعْ مُتَجَاورَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَاتٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (1)
قال العلّامة قال جابر الأنصاري: سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول : (الناس من شجر شيّ، وأنا وأنت يا علي من شجرة واحدة) (2).
ص: 353
وجه الاستدلال :
لقد ورد هذا الحديث في تفسير هذه الآية بمناسبة كلمة: (صنوان) فيها، حيث يقال ذلك للنخلتين او الشجرتين اللتين تفرعتا من أصل واحد.
ولقد وردت احاديث بأن الإمام علياء (عَلَيهِ السَّلَامُ) من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كالصنو من الصنّوِ او هما صنوان.
و وجه الاستدلال بالآية والحديث هو لما يكون الإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ)والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من شجرة واحدة فهو الأولى أن يحل محله في إمامة الأمّة.
وهذا الحديث وأمثاله يفيد مفاد آية المباهلة، حيث اعتبرت الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) نفس النبيّ،(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما قال تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم).
10. قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لَّنَفْسه وَمِنْهُم مُّقْتَصدَّ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَات بإذن اللّه ذَلكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (1).
قال العلّامة: وهو علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2) انتهى.
وجه الاستدلال :
الإصطفاء يعني: الاختيار، وقد جاءت الروايات بان الذي اصطفاه اللّه تعالى هو الإمام علي والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) (3).
و قد تضافرت الروايات في مصادر الشيعة عن أئمّة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)
ص: 354
في ذلك، ففي الكافي عن سالم قال: سألت أبا جعفر اللّه عن قول اللّه (عزّ وجل) (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) ؟
قال: (السابق بالخيرات الإمام والمقتصد : العارف،للإمام، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام) (1).
فإذا كان اللّه تعالى قد اختار الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) و اصطفاه وأورثه علم الكتاب، وكان هو السابق بالخيرات فهذا دليل على إمامته مباشرة، لأن ما وقع عليه الاختيار من عند اللّه تعالى فهو المختار.
11. قوله تعالى : (منَ الْمُؤْمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (2).
قال العلّامة : نزلت في علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3).
وجه الاستدلال :
جاء في الحديث : سُئل (الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)) - وهو على المنبر في الكوفة عن قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ) قال : (اللهم غُفراً، هذه الآية نزلت فيَّ وفي عمي حمزة وفي ابن عمي عُبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب، فأما عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وحمزة قضى
ص: 355
نحبه شهيداً يوم أحد، وأما أنا فانتظر أشقاها يخضب هذه من هذه – وأشار إلى لحيته ورأسه - عهدٌ عَهْدَه إلى أبو القاسم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (1).
إنّ هذا الحديث وأمثاله ممّا يشير الى علاقة بين الإمام وآيات القرآن الكريم، يدل على شهادة كتاب اللّه تعالى على صدق الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فيلزم تصديق ادعائه الإمامة باستخلاف النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) له والقول بإمامته.
12. قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذه سَبيلي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّه وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2).
قال العلّامة : هو علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (3).
و قال في هامش كتاب (نهج الحقّ وكشف الصدق): وأنت تعلم أن الدعوة على بصيرة، وكمال الاتباع للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في أقواله وأفعاله، موجبان لانتشار الدعوة للدين، كما يريده اللّه تعالى فيكون الكامل الإتباع الداعي على بصيرة أحق بمنصب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وأولى بخلافته.
وجه الاستدلال :
لقد جاء في الروايات أنّ المراد من الآية هو الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ففي الكافي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، قال : (ذاك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 356
والأوصياء من بعدهم) (1).
ويتّضح لنا من خلال هذا الحديث والآية الشريفة : أن اللّه تعالى أمر نبيَّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يُبلغ الناس: بأنّ الذي يتَّبعه و يدعو إلى اللّه على بصيرة هو الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ومَن يكون كذلك فدعوته حقة، فتكون دعوة الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الناس لإمامته هي دعوة حقة ينبغي تصديقه بها.
وهكذا، يكون الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو من يتلو تلو الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو من ينبغي أن يحلّ محلّه فيكون هو أولى بخلافته.
13. قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لسَانَ صِدقٍ فِي الآخِرِينَ) (2).
قال العلّامة : هو علي بن أبي طالب عُرضت ولايته على إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : اللّهم اجعله من ذريتي ففعل اللّه ذلك (3).
وجه الاستدلال :
إنّ ما نقله العلّامة هو ما روي نصاً عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسير الآية.
وقد دلّت الآية بضميمة الحديث على إمامة الإمام اللّه من جهتين :
اولاً من من حيث ولايته التي عُرضت من قبل على جده النبيّ إبراهيم
ص: 357
(عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقد اختاره اللّه تعالى للولاية من قبل.
ثانياً: من من حيث تعبير القرآن الكريم عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ب- (لسان الصدق)، فهو الصادق بهذه الآية، ويلزم تصديق دعواه الإمامة، ولاشك أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ادعى الإمامة والولاية، فتكون الآية مؤيدة لصدقه في دعواه من انه هو الإمام حقاً.
14. قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُواْ للّه وللرَّسُول إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبه وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (1).
قال العلّامة: دعاكم لولاية علي بن أبي طالب(2).
وجه الاستدلال:
روي ذلك عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه (عزَّ وجل): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)؟ قال: نزلت في ولاية على (عَلَيهِ السَّلَامُ)) (3).
نلاحظ الآية وهي تُوجب على المؤمنين الاستجابة لدعوة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ونلاحظ الحديث يُوضح أن الدعوة في ذلك وضح أن الدعوة في ذلك هي إلى الولاية للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ).
فيلزم قبول ولايته (عَلَيهِ السَّلَامُ).
ص: 358
وتكون هذه الآية من آيات الإمامة الداعية إلى إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).
15. قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (1)
قال العلّامة : : عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هم أنا وشيعتي (2).
وجه الاستدلال :
دلّت الآية المباركة بضميمة الحديث الشريف على أنّ الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يهدي بالحقّ.
إنه يلزم عقلاً وشرعاً أن يُتخذ الهادي بالحق وإلى الحقّ إماماً ومتبوعاً لا تابعاً ومأموماً، قال اللّه تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (3).
بناءً على ذلك فعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الإمام والخليفة الذي يلزم إتباعه.
16. قوله تعالى : (النبيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتِهم وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ الآن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) (4).
ص: 359
قال العلّامة : هو علي لأنه كان مؤمناً مهاجراً ذا رحم (1).
وجه الإستدلال :
لقد جاء في الحديث عن الإمام الحسين بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال : (لما أنزل اللّه تعالى: (وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه)، سألت رسول عن تأويلها، فقال: (أنتم أولوا الأرحام، فإذا مت فأبوك علي أولى بي و بمكاني فإذا مضى أبوك فأخوك الحسن أولى به، فإذا مضى الحسن، فأنت أولى به.. إلى آخر الحديث).(2)
وجه الاستدلال : إن مكانة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واضحة لدى المسلمين، فهو الأولى بهم من أنفسهم، وقد بينت الآية والحديث أن الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أولى بالنبي بمكانه من غيره، فيكون هو الإمام من بعده.
كما إن قوله تعالى : (وأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ) (3) - في آية المباهلة - دلَّ على أن الإمام عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو نفس النبيّ بالمنزلة، إلا ما خرج بالدليل، فيكون هو الأولى بهم من أنفسهم أيضاً.
ويلزم من ذلك إتباعهم له واقتدائهم به واتخاذهم له إماماً، كما هو حالهم مع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ص: 360
17. قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَة زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّه لَنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللّه الأَمْثَالَ للنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (1).
قال العلّامة الحلّي عن الحسن البصري قال: (المشكاة) فاطمة، و(المصباح) الحسن والحسين، (والزجاجة كأنها كوكب) قال : كانت فاطمة كوكباً دُريّاً بين نساء العالمين، (توقد من شجرة مباركة) قال : الشجرة المباركة إبراهيم، (لا شرقية ولا غربية)، لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضئ) قال : يكاد العلم ينطف منها، (ولو لم تمسسه نار، نور على نور) قال : فيها إمام بعد إمام (يهدي اللّه لنوره من يشاء) قال : يهدي اللّه لولائهم من يشاء(2).
وجه الاستدلال :
لعلّ العلّامة نقل الرواية عن الحسن البصري دون ذكر لمن ينقل عنه البصري، لأنه (رحمه اللّه) يريد مخاطبة القوم الذين يوثقون البصري ويقبلون كلامه مُسنَداً أو مُرسَلاً.
فإن ما حكاه الحسن البصري هو حديث منسوب الى عدة من المعصومين، ومن ذلك مارواه علي بن جعفر، عن الإمام موسى بن جعفر
ص: 361
(عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال : سألت أبا الحسن عن قول اللّه (عز وجل): (كمشكاة فيها مصباح المصباح)، قال: (المشكاة) فاطمة، و (المصباح) الحسن والحسين عالشان و (الزجاجة كأنها كوكب دري) قال : كانت فاطمة كوكباً دُريّاً بين نساء العالمين، (يوقد من شجرة مباركة) إبراهيم (لا شرقية ولا غربية) لا يهوديّة ولا نصرانية، (يكاد زيتها يُضئ) قال : كاد العلم ينطق منها، (ولو لم تمسسه نار نور) على نور قال منها إمام بعد إمام (يهدي اللّه لنوره من يشاء) يهدي لولايتنا من يشاء) (1).
ووجه الاستدلال في ذلك هو أن الحديث أوّل معنى (النور) إلى معنى (الإمام) و أن اللّه تعالى يهدي الخلق لولايتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ومعنى هذا: إنّ اللّه تعالى يريد لخلقه أن يتخذوا الإمام علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمعصومين من بعده (عَلَيهِم السَّلَامُ) أولياء وأئمة إماماً بعد إمام.
18. قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُّو نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْر إن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (2).
قال العلّامة : روى الحافظ، محمد بن موسى الشيرازي من علماء الجمهور، عن ابن عباس في قوله تعالى : (فاسألوا أهل الذكر)، قال: هم: محمد، وعلي، وفاطمة والحسن والحسين هم أهل الذكر والعلم والعقل.والبيان. وهم أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، والله ما
ص: 362
سمى المؤمن مؤمناً إلا كرامة لأمير المؤمنين (1).
وجه الاستدلال :
إكتفى العلّامة بنسبة الحديث إلى ابن عبّاس عن طريق علماء الجمهور لأنه حُجّة على القوم.
والمقصود : صدور الحديث عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) و قد حكاه ابن عبّاس.
وجاء عن طريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قول اللّه (عزَّ وجل) (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) قال: رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (الذكر أنا، والأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) أهل الذكر) (2).
و وجه الاستدلال في ذلك هو أن اللّه تعالى أمرنا بالرجوع إلى أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في مطلق السؤال، ممّا يعني مقدرتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) على إجابتنا على مطلق السؤال وفي كلّ شيء.
ويدلّ ذلك على أعلميتهم المطلقة على الخلق، ممّا يعني لزوم الرجوع إليهم والقول بإمامتهم، فهم الذين ورثوا العلم من جدهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
19. قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَا الْعَظيمِ) (3)
قال العلّامة الحلّي عن الحافظ في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ النَّبَا
ص: 363
الْعَظيمِ) بإسناده عن السدي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنه قال : (ولاية علىٍّ، يتساءلون عنها في قبورهم، فلا يبقى ميّت في شرق ولا في غرب ولا في بَر ولا في بحر إلا ومُنكَر ونكير يسألانه عن ولاية أمير المؤمنين بعد الموت يقولون : مَن ربُّك؟، وما دينك؟، ومَن نبيّك؟، ومَن إمامك؟) (1).
وجه الاستدلال :
إذا كان الميت يُسأل عن إمامه، ويُراد به أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فمفاد هذا أن الإمام عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الخليفة و هو الإمام بإشارة الآية الكريمة ونَص النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
20. قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللّه الَّذينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (2).
قال العلّامة : عن ابن مسعود قال: وقعت الخلافة من اللّه تعالى لثلاثة نفر : لآدم في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (3).
والخليفة الثاني: داود صلوات اللّه عليه، لقوله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا
ص: 364
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةٌ فِي الْأَرْضِ) (1).
والخليفة الثالث : علي بن أبي طالب، لقوله تعالى: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، يعني : آدم وداود (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)، يعني: الإسلام، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ)، يعني : من أهل مكة: (أمنا)، يعني : من أهل المدينة: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) يعني: يوحدونني، (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) بولاية عليٍّ، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، يعني : العاصين اللّه ولرسوله ولرسوله(2).
وجه الاستدلال :
ذكر العلّامة الحديث عن ابن مسعود لما هو واضح من أنه ينقله عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهو حديث عن طريق الفريق الآخر.
واما الأحاديث عن طريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) : فقد جاء منها عن عبد اللّه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قول اللّه جل جلاله: (وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ؟ قال : (هم الأئمّة) (3).
و وجه الاستدلال في ذلك أنه قد اتضح من خلال الروايات من
ص: 365
الطريقين بأن المراد من قوله تعالى : (ليستخلفنّهم) هو الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والأئمّة من ولده (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فهم الخلفاء الذين استخلفهم اللّه تعالى في الأرض، فلابد من الإلتزام بخلافتهم وإمامتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ).
في ختام هذا الفصل
أيّها القارئ الكريم : لابد من الإنتباه إلى أن كثرة ما جاء من الآيات والأحاديث في شأن الإمامة لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) هو بنفسه يُعد دليلا على صحة هذا الأمر بغض النظر عن صحة بعض الأحاديث أو ضعفها، فإن بعضها يعضد بعضاً في تمامية الاستدلال، فربّما يُضعف حديث أو تأويل آية عند البعض، إلاّ أن المنصف إذا رجع إلى الجميع من حيث الجميع لا يشك من القول بصحة ما تؤول إليه الآيات من الإشارة إلى لزوم اتخاذ أمير المؤمنين الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) إماماً وخليفة بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
لاسيّما إذا ضمّ هذه المجموعة من الآيات إلى تلك الأخرى التي جعلنا لها فصولاً منفصلة ومستقلّة.
كما لا أنسى أن أذكر أنني لم استوف جميع الآيات القرآنية التي تحدثت عن الإمامة،والخلافة، فلاشك من وجود آيات أخرى دلّت على ذلك من قريب أم بعيد، فيُمكن لمن يريد التفصيل أكثر فأكثر أن يراجع الكتب الواسعة التفصيل في ذلك.
هذا والحمد للّه رب العالمين.
ص: 366
ص: 367
ص: 368
تقديم :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
لقد أودع اللّه تعالى الإنسان ميزاناً يميز به الحقّ عن الباطل والصواب عن الخطأ، وذلك هو العقل، الذي يحتج اللّه تعالى به على الإنسان، لأنه حجته الباطنة عليه كما يحتج عليه بالأنبياء ((عَلَيهِم السَّلَامُ)) لأنهم حُجّته الظاهرة عليه.
لقد عُدّ العقل الحجّة الأولى، لأن به تثبت سائر الحجج الأخرى فبالعقل تُصدق آيات اللّه سبحانه وحُجَجُ أنبيائه السلام أنبيائه السلام، وبه يُكلف الإنسان بالشريعة، ويخاطب بالقانون، و به يُثاب على أداءه الواجب و يُعاقب على المعصية.
إنّ العقل هو الميزان الأوَّل الذي يُوزن الإنسان به حقیقته ويُنصف به نفسه، فيعرف حقها من باطلها وزينها من شينها وجميلها من قبيحها.
ثم إنه من أهم ما ينبغي إعمال العقل فيه وتأمله وتعقله بصورة جيدة ودقيقة هو موضوع العقيدة والدين والمذهب الذي يذهب إليه الإنسان والمشرب الذي ينهل منه فكره وسلوكه، حتى يكون على بصيرة من أمره
ص: 369
ويفوز في دنياه وآخرته.
ومما ينبغي أن يُقال بعد هذه المقدمة : إنّنا نجد المسلمين على مذاهب متعددة ومدارس كثيرة، تختلف في كثير من فروعها المستقاة من أصول قد أختلف فيها أيضاً، ومن أهم وأجلى مصاديق ذلك هو اختلافهم في موضوع الإمامة والخلافة، والقيادة الإسلامية بعد مرحلة النبوّة ورسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
لقد بحث هذا الموضوع تأريخياً وروائياً وتفسيراً قرآنياً وغير ذلك. ومن الجهات التي ينبغى أن يُلاحظ ويُبحث هي جهة الرجوع إلى إنصاف النفس والعقل والاستماع إلى نداء الضمير الحي والوجدان، بعيداً عن التطرف والتعصب وصم الآذان والرجوع إلى الوقائع وتمحيصها ومقارنتها بحقائق ووقائع أخرى مغفول عنها ومعتم عليها وعرضها على إنصاف العقل والنفس.
لقد أردّتُ في هذا الفصل دعوة العقل والضمير للإنصاف في موضوع خلافة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) - الموضوع البالغ في الأهمية - للوقوف على الصواب واجتناب الخطأ الخطير في تحديد مسار وخطى العقيدة للمسلم المنصف، وقد ذكرت بعض النقاط التي ينبغي التأمّل وإعمال العقل والضمير فيها، وبعد ذلك ليُنصف الإنسان نفسه، ويكون الأمر بينه وبين ضميره وعقله وبينه وبين ربه تعالى.
في هذا الفصل نريد أن نحكّم العقل والانصاف في أمور تتعلّق بحكمة اللّه سبحانه وتعالى وعقلانية رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومصلحة الأمة ومصلحتنا نحن أيضاً، ونراجع عقولنا وضمائرنا ووجداننا لنرى ما هو الإنصاف في ذلك.
ص: 370
وقبل الوقوف على النقاط التي نريد إنصاف أنفسنا منها، نستعرض بعض الآيات القرآنية الداعية الى ضرورة التأمّل وإعمال الفكر والعقل وإنصاف النفس والضمير، فيما يتخذه الإنسان من قرارات في حياته اليومية وفي معتقداته ثم نرى هل أنصفنا القرآن من انفسنا؟، وهل لبينا ندائه؟ وهل أثرنا العقول؟ وهل..؟ وهل..؟.
قال اللّه تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). (1)
فلا شك أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي يهدي إلى السبيل الأقوم، وهو الذي يريد أن نستمع القول فنتبع أحسنه، فلننصف أنفسنا ونرى هل حقاً اهتدينا لهذا السبيل الأقوم ؟ لنكون من المبشرين ومن الذين يعملون الصالحات وممن لهم الأجر الكبير؟ أم أعرضنا عنه وجعلناه وراء ظهورنا؟، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عند اللّه مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (2).
وسوف يشكونا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الى ربِّنا ويقول : ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (3).
فلكي نكون ممّن اهتدى بالسبيل القرآني الأقوم، وحتّى لا نكون ممّن
ص: 371
نبذ كتاب اللّه تعالى وراء ظهره، ولا نكون من القوم الذين اتخذ كتاب اللّه مهجوراً، لنقف على الحقيقة ونعرف الواقع.
فتعال معي أيها القارئ المنصف : لنتأمل بعض آيات كتاب اللّه سبحانه وتعالى ونتحاكم إليها، وننصف أنفسنا منها، وهذه بعض تلك الآيات:
قال سبحانه تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) (1).
أليست هذه الآية تدعونا للسير في الأرض، والتأمل فيما حدث عليها، بقلوب واعية، وآذان صاغية وأبصار نافذة، أم نغلق باب التفكر والتعقل على قلوبنا وأسماعنا فتكون القلوب قد عمت وغشيت وغشيت وهي فى الصدور ؟؟!!
ويقول سبحانه: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا ألْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (2).
هل تسمح لنا هذه الآية أن نقول : إن آبائنا وأجدادنا ساروا على هذا النهج وسكتوا عمّا كان فيه، فلا يمكن تخطئتهم في سيرهم.
ألا يمكن أنهم غفلوا عن الحق؟ أو أنهم قالوا في آبائهم ما نقوله الآن فيهم، ثم تهاونوا بالأمر؟ وهل يقبل القرآن الكريم هذا العذر منا؟!.
وتقول الآية: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنس لَهُمْ قُلُوبٌ
ص: 372
لا يَفْقَهُونَ بهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (1).
هل من الإنصاف أن نقول : إن أعيننا أبصرت و آذاننا سمعت وقلوبنا فقهت فلسنا من الغافلين؟، وقد ذكرنا في أحاديثنا في صحاحنا بأن النجاة في سفينة آل محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي التمسك بعترته الطاهرة، وأن الضلال في غير ذلك، والحال أننا لا زلنا لا نعتمد تفسير العترة للقرآن الكريم ولا نتبع فقههم ودينهم في أحكامهم الشرعيّة بل نأخذها من الآخرين ؟!!
ويقول تعالى: ﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) (2).
هل حقاً نرضى لأنفسنا أن نتبع جماعة تخلّفوا عن ركب آل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)- سواء تعمدوا ذلك أم اخطئوا، وسواء حسنت نواياهم أم مكروا - ما لنا و لهم؟ لم لا نعمل بوصيّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونأخذ الفقه والدين والقوانين القرآنية من العترة التي بين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) انه لن يقع افتراق بينها وبين القرآن الكريم.
وإذا وسوست لنا أهوائنا بان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال مثل ذلك أو شبيهه في حق أصحابه - بعد فرض إمكانية ذلك - فهل يصح أن ندع مثل حديث الثقلين الذي أجمع عليه المسلمون كلّهم، وهو باعث لطمأنة قلوبنا، ونأخذ بأحاديث صُرِّح بضعفها أو شكك فيها ؟
ويقول تعالى في آيات عديدة:
ص: 373
1 - ﴿إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (1).
2 – و(َلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ (2).
3 - ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللّه إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾ (3).
4 - ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (4).
5 – (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ (5).
6 - ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (6).
7 – (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (7).
8 – (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ وَرَاء الْحُجُرَات أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾(8).
9 – (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِنَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلا) (9).
10 - وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة مَرَدُواْ - عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابِ
ص: 374
عظیم) (1).
هل تكون الأكثرية - بما هي اكثرية - دليلاً على الأحقية، وباعثة للتعويل عليها والإطمئنان لها وإتباعها دون تحقيق ودون تأمل؟!
ألا نرى الوحي ينطق بخلاف ذلك ؟!
ألا نرى هذه الآيات وغيرها قد صرّحت أن أكثرهم بسطاء وجهلاء يُغلّف عليهم الأمر ولا يعلمون أو أنهم يعلمون ولكنهم للحق كارهون، بل إن أكثرهم لا يؤمنون بما ينزل به الوحي، ولا يؤمنون حتى مع وجود الآيات والدلائل، بل حتى أولئك المؤمنين أيضاً أكثرهم يشركون.
وتؤكّد لنا الآيات في سورة الشعراء ثمان مرّات أن اكثرهم ما آمنوا مع التأكيد الملح على وجود الدليل والآية على الحق، و مع ذلك كله ما كان اكثرهم مؤمنين.
كيف نعتمد على اكثرهم ونحسبهم ممّن يسمعون او يعقلون، مع أنهم كالانعام لا يسمعون ولا يعقلون؟! بل هم أضل، لانهم كان بإمكانهم أن يسمعوا ويعقلوا، ولكنهم عموا وصموا وطبع على قلوبهم.
كيف يمكن أن ننزه جميع من كان حول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونحسن الظن الكامل بهم جميعاً، لا بل نأخذ دین اللّه وسُنّة رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من جميعهم؟! والقرآن يقرأ علينا ليل نهار : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ويصرخ فينا : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمَنْ أَهْل الْمَدِينَة مَرَدُواْ عَلَى النّفَاق لاَ تَعْلَمُهُم ن نَعْلَمُهُمْ)، وهؤلاء ما
ص: 375
تابوا وما تركوا خداعهم الى أن ماتوا، وذلك لأن اللّه تعالى قال فيهم : (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابِ عَظِيمٍ).
فمن هؤلاء الذين هم وراء حجرات النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ ومن هم ؟ ومن هم أولئك الذين مَردوا على النفاق؟ ومن هم أهل المدينة التي كان يعيش النبيّ فيما بينهم ؟، ومَن أولئك الذين يُرَدُّون الى عذاب عظيم ؟.
أيها القارئ المنصف : بعد كلّ هذا هل يمكن الوثوق بجميعهم؟ وهل يمكن أن يكونوا كلُّهم كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا؟! هل نكون مثل أولئك (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) ؟ ونكون مثلهم (كالانعام بل هم اضل) ؟؟!
ويقول سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحقّ قُلِ اللّه يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أُمَّن لَا يَهِدِّيَ إِلَّا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (1).
إن من الفتوة و الشجاعة، بل من الجهاد الأكبر كما يسميه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يرجع الإنسان إلى نفسه ويأخذ بقيادها وينصفها ويحكم عليها الحق، وبالتالي يرجع إلى الواقع وينصفها في حكمه لا أن ينقاد لهوى نفسه ويسلّم تعصباً - من بداية الأمر - لتبريرات النفس الأمارة بالسوء.
فياترى كيف الإنصاف حينئذ في الحكم؟! فلو عرضنا هذه الآية على أنفسنا وعرضنا أنفسنا عليها الم نكن نحن ممّن خوطب بها؟.
لقد أقررنا في تأريخنا رجوع الذين حكموا وتصدوا للخلافة بعد النبيّ
ص: 376
(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كثير من الأمور التي جهلوها، من أحكام شرعية أو قضاء أو غير ذلك، إيذاناً منهم بجهلهم بقضايا كثيرة، فهداهم الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أجوبتها الشافية، ولم نر يوماً رجوعه هو (عَلَيهِ السَّلَامُ) في سؤال أو حكم أو قضيّة إلى أحد منهم، وذلك لاستغنائه عنهم بما علمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)من العلم الكثير حتى غدا باب مدينة علمه، ونحن مع كلّ هذا ما اتبعناه بل اتبعنا من لا يهدي إلا أن يُهدى !!!
فما لنا، كيف يسوغ لنا ذلك؟ وكيف نحكم، وكيف ننصف أنفسنا بذلك؟!!
ألا نقرأ قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن يَهدِّيَ إلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
وقوله سبحانه: ﴿وَضَرَبَ اللّه مَثَلاً رَّجُلَيْن أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كلّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (1).
أي الرجلين نحن؟ (الأبكم الذي لا يقدر على شيء) أم (الذي يأمر بالعدل و هو على صراط مست قیم)؟!!
إذا كنا نتبع دون أن نسمع أو نفقه أو نعقل أو نفقه أو نعقل فلاشك أننا هو الرجل الأول، وإذا كنا قد فكّرنا ووعينا وتأملنا بعد أن راجعنا البرهان والدليل، ولم نكن نكره الحق، بل كنّا نأمر بالعدل فانّا إن شاء اللّه على صراط المستقيم.
ص: 377
وفي نهاية المطاف وكما يقول سبحانه: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحقّ فَهُم مُّعْرِضُونَ) (1).
نسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أولئك الذين علموا الحقّ تمسكوا به ولم يعرضوا عنه، وبعد ذلك لا يضرنا أن كنا من اقل الناس ولم نكن من أكثرهم ممّن لا يعلمون الحقّ وممن هم عن الحقّ معرضون.
والآن - بعد ملاحظة هذه الآيات - نطالب الإنصاف لأنفسنا في هذه النقاط الآتية، ونقول متسائلين في أمور
حينما نرجع إلى تاريخ الأرض منذ أن خلق اللّه سبحانه وتعالى آدم إلى يومنا هذا، نجد الأنبياء والرسل والأوصياء والملوك والحكام وأولياء الأمور نجدهم يعيّنون لأنفسهم أوصياء وخلفاء ليقوموا مقامهم، فهل من الإنصاف والعقل أن يقال إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شذَّ عن سائر الأنبياء وسائر العقلاء ومَن حكموا في الأرض ولم يعيّن لنفسه من يخلفه في أداء مهامه بعد موته؟!
فهل تكون عائشة أعقل من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حينما تقول لابن عمر : (يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له : لا تدع أمة محمد بلا راع، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هَملا فإني أخشى عليهم الفتنة) (2) ؟!.
وهل يكون النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أقلّ عقلاً من عبد اللّه بن عمر حينما يقول لأبيه: (إني سمعتُ الناس يقولون مقالة فآليتُ أن أقولها لك، زعموا أنك غير
ص: 378
مُستخلف وقد علمت أنه لو كان راعي غنم فجاءك وقد ترك رعايته رأيت أن قد ضيّع، فرعاية الناس أشد) (1)؟!.
وهل يكون النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - والعياذ باللّه - أقل عقلاً من ملوك وأمراء حكوماتنا في زمننا هذا ؟ فنرى لكل ملك وحاكم وأمير ولياً للعهد.
أما نلاحظ البلاد الإسلامية والعربية ؟
أما نرى الملوك والأمراء وضعوا لأنفسهم أولياء للعهد؟
فيا ملوك ويا أمراء هل طريقتكم هذه من تعيين ولي العهد لكم هي طريقة عقلائية؟
فإن لم تكن كذلك فأنتم إذن غير عقلاء، وإن كانت عقلائية فكيف رضيتم لنبيّكم أن يترك هذه السيرة ويدع الناس دون نص على خليفة له ؟!.
وحتى تلك الدول التي لا يحكمها الملوك والأمراء ففيها الدستور الذي ينص على تعيين الحاكم تلو الحاكم، ولم تُترك الأمة سُدى.
فكيف يكون الدين الإسلامي - الذي تعرض إلى أصغر الأمور بأحاديث كثيرة - كيف له أن يترك الإمامة والقيادة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دون أن يشير إليها؟!!
كيف لهؤلاء ان يدركوا خطورة ترك الأمة بلا تعيين خليفة ولم يدركها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ! مع أن الناس حديثوا عهد بالإسلام، ومع أن إمبراطورية الروم والفرس آنذاك مترصدة بالإسلام والمسلمين أشدّ تربّص، فضلاً عن مخططات الطابور الخامس داخل المجتمع الإسلامي، وهم المنافقون الذين هم أشد خطراً
ص: 379
على الدِّين من غيرهم.
فهل من الإنصاف بعد ذلك كلّه أن يقال إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مات ولم يعين خليفة له ؟!
هذا.. وإذا دققنا فيما حدث يوم الخميس - وكما يسميها ابن عباس بالرزيّة كلّ الرزيّة - لا يبقى شك انه أراد تدوين تعيين الخليفة من بعده.
فقد روى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة عن ابن عباس قال: (لما حضر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هلموا اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): قوموا، قال عبيد اللّه : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كلّ الرزية ما حال بين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم) (1).
ومع ملاحظة ما يرويه البخاري من قول الراوي: (ونسيت الثالثة) في رواية ابن عباس قال : (يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وجعه فقال ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ إستفهموه، فذهبوا يردون عليه، فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم،
ص: 380
وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها) (1).
فياترى أحقاً هو نسي الثالثة أم أنه خاف أو لم يُرد الإفصاح عنها؟! وهي الوصيّة بالخليفة من بعده ؟.
ومع كلّ هذه الملاحظات هل نقول: إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مات ولم يعين خليفة له ؟!!!
إننا نشاهد غالب الأمم وغالب الناس إذا تبيّن لهم أن قائدهم وإمامهم مشرف على الموت، كما لو كان في مرض أو كبر سن وما شابه، نلاحظهم يتساءلون عمّن سيخلفه في الحكم،والقيادة وهذا شيء متداول، وسؤال متعارف بين الناس في تلك الأثناء، فهل من المعقول والإنصاف أن يكون الناس - الذين سئلوا عمر بن الخطاب وغيره عن خليفته - قد أحجموا عن أن يسألوا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عمّن سيخلفه عليهم؟ وهم يشاهدونه وهو يودعهم منذ حجة الوداع إلى حين وفاته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟
أما سأله رجل عاقل منهم من سيكون خليفتك علينا؟ لاسيّما هؤلاء الذين كانوا دائماً معه في المسجد وفي الغزوات وفي الحجّ.
يا ترى هل يعقل أنهم لم يسألوه عن ذلك ؟! وإذا كانوا قد سألوه فهل يعقل أنه ما أجاب سؤالهم وتركهم في حيرة؟!
وإن كانوا قد سألوه وأجابهم فأين السؤال والجواب؟ و من هو الخليفة الذي عينه لهم بعد موته؟!
ص: 381
والحق أنهم سألوه عن ذلك وقد أجابهم، وعيّن لهم خليفتهم كراراً، كما في مواقف كثيرة، ومنها على سبيل المثال : يوم خصف النعل، وذلك ما ذكرته أم سلمة لعائشة لما خرجت على أمير المؤمنين التالية.
فقد ذكر ابن أبي الحديد (1) أنها قالت: وأذكرك أيضاً كنتُ أنا وأنت مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في سفر له، وكان علي يتعاهد نعلي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل نجرة، وجاء أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما أراد ثم قالا : يا رسول اللّه، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يُستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما : أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلتُ لتفرّقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما خرجنا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، قلت له، وكنت أجرأ عليه منّا مَن كنت يا رسول اللّه مُستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم تر أحداً إلا عليّاً، فقلت: يا رسول اللّه، ما أرى إلا عليّاً، فقال: هو ذاك، فقالت عائشة: نعم أذكر ذلك.
نعم لقد صرح النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بذلك كراراً.
لو افترضنا أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شذَّ عن سائر الأنبياء والرسل والحكام فلم يعيّن الخليفة، وافترضنا أنّ الناس سألوه ولكنه أصر على عدم تعيينه بالنص.
ولكننا نسأل بعد كلّ تلك المواقف من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأقوال في حق
ص: 382
الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من كونه له بمنزلة هارون من موسى وكونه أحب الخلق له، وكونه أعلم و.....
فنسأل ألم يكن في ذلك - على اقل الفروض - ترشيحاً من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) للإمام على (عَلَيهِ السَّلَامُ) الخلافة الأمة ؟.
فهل من العقل والإنصاف أن ندع من رشحه النبيّ واختاره كفؤاً ومؤمّلاً للخلافة ونتبع غيره؟!
يكن اختيار النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو من اختيار اللّه تعالى؟!
ألم يكن هو (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (ما ينطق عن الهوى) ؟!
فكيف يرغب الناس عن اختيار اللّه ورسوله ويلجأوا لاختيارهم هم لأنفسهم ؟! ألم يقل اللّه تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّه وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (1).
وسنذكر إن شاء اللّه رواية الامام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث يقول فيه: (وإنَّ العبد إذا اختاره اللّه (عز وجل) لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً فلم يعي بعده بجواب ولا يحيد فيه عن الصواب فهو معصوم مؤيَّد موفق مسدَّد...).
فكيف يُفضّل اختيار قوم - على فرض اختيارهم - على اختيار اللّه تعالى ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ص: 383
إذا كان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو الأفضل عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ألا ينبغي أن يكون هو الأفضل عندنا أيضاً ؟! وإذا كان هو الأفضل أما يأمر العقل والإنصاف بتقديمه على غيره وأخذ الشريعة منه بعد موت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟!
أمّا انه هو الأفضل عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهذا ممّا لا شك فيه بعد أن قال النبي فيه أنه: (خير البريَّة) (1) وانه : (سيد العرب)(2) و أنه (خير الوصيين)(3) وعشرات الأحاديث من أمثال ذلك.
ومن ذلك حديث الطائر المشوي الذي رواه الترمذي في سننه (4) والنسائي في سننه (5)، حيث رويا عن أنس أنه أتى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعنده طائر فقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فجاء أبو بكر،فرده، ثم جاء عمر فردّه، ثم جاء علي فإذن له.
وقال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد رواه عن انس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة (6).
وهل يكون الإمام علي أحب الخلق إلى اللّه تعالى دون أن يكون أفضلهم بعد النبي؟
ص: 384
و في الرواية لما دخل الامام علي على النبيّ، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (وإلي)، أي أحبّ الخلق إليَّ أيضاً، فهو الأفضل عند اللّه ورسوله.
و أمّا أن الإنصاف والعقل يقدمان الأفضل فهذا لا يختلف عليه العقلاء وأهل الأنصاف والوجدان والضمير.
هل يُقدّم التائب من الذنب – بعد فرض توبته – على من لم يذنب قط ؟.
هل نشرب في إناء تنجس بالخمر ثم طهرناه أو توسَّخ وتنجَّس بالعذرة ثم غُسِّل:
هل نفضّله على إناء طاهر ونظيف ولم ينجس قط ؟.
هل يُفَضّل من قضى شطراً كبيراً من عمره على الخمرة والسجود للصنم وإتيان النساء بالفاحشة ثم تاب منها، نفضّله على إنسان لم يأت بشيء من تلك المنكرات؟!، فلم تلامس روحه ولا بدنه شيئاً من ذلك؟!.
نعم قد يقول قائل : إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكن يقال أيضاً: إن التوبة ترفع الأثر التكليفي للمعصية وهو العقاب الأخروي فلا يعاقب التائب على ذنوبه ولكن هل ترفع التوبة الأثر الوضعي لتلك الخبائث على البدن والروح؟!
وهل تكون تلك الروح التي عشعشت فيها المنكرات كالروح الطاهرة المصقولة من كلّ ذنب.
هل يكون الدّم الذي أنشأ من أكل اللحم الحرام والخبيث وشرب
ص: 385
الخمر المسكرة، كمثل الدم المتكون من أطيب الطعام وأطهره؟!.
فهل من الإنصاف تقديم ذلك على هذا؟!
ألم يكن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد كرّم اللّه وجهه من السجود لصنم قط قبل الإسلام، ولكن غيره قد سجد للصنم وشرب الخمر وباشر الزنا طيلة عمر طويل ؟!.
إذا كانت الضلالة متوقعة فيمن ترك عترة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كما إن الهدى ملازم لمن تابع عترة النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فهل من الإنصاف والعقل أن نترك العترة كطريق نزيه لشرع اللّه دون أن نعتمدها ديناً لنا ونعتمد شريعة غيرهم؟.
وهل من الإنصاف أن نترك إمامتهم ونأخذ بإمامة جماعة ضالة؟!.
والأمر واضح، فقد ضل من ترك عترة النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وذلك لما يستبطنه حديث التمسك بالقرآن و العترة، ففي الخبر الصحيح أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: (إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي...كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما) (1).
فهذا حديث واضح فيما يتضمنه من أن الضلالة تكون في ترك العترة. وفيما ينقله الحاكم في المستدرك (2) وابن حجر في الصواعق(3) صراحة
ص: 386
بضلالة من لم يتبع العترة، حيث رويا عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله : (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما).
فقد اشترط النبيّ عدم الضلالة بشرط إتباعهما، ممّا يعني أن الضلالة متحتّمة في إتباع غيرهما وذلك لوجود إن الشرطية، ومفهومها الواضح بذلك، وحديث التمسك بالعترة هو من الأحاديث الصحيحة لدى الفريقين معاً.
يقول ابن حجر بعد نقل الحديث: ثم اعلم إن لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
فالحديث يدل بمفهومه على ضلالة إتباع غير العترة، كما يدل بمنطوقه على عظمة العترة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ولا شك أن الإمام عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو سيد عترة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فكيف يُقدّم مَن يُحتمل الضلالة على من اشترطت الهداية بإتباعه لأنه لن يفترق عن القرآن الذي حفظه اللّه تعالى من أن يأتيه الباطل؟!.
لو اعتمدنا الحديث الآخر (1) والقائل : (تركت فيكم شيئين كتاب اللّه.
1 - نقل حديث الثقلين بطريقين منها كتاب اللّه و عترتي أو وأهل بيتي وقد ذكرها الحاكم في المستدرك
ص: 387
وسنّة نبيه)، - على فرض صحته - أليس ينبغي أن نأخذ سُنّة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونفضّله على سائر الصحابة ؟ - لاسيما في هذا المجال؛ أخذ السنة - ؟! وذلك للأحاديث الكثيرة والصحيحة التي قرنت بينه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبين القرآن الكريم. منها ما نقله الحاكم في المستدرك على الصحيحين في سند صحيح حيث نقل سنداً ينتهي إلى أبي ثابت وهو مولى أبي ذر قال : (كنت مع علي رضي اللّه عنه يوم الجمل فلمّا رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس - أي دخلني الشك والريب ولم أعرف الحقّ ؟ فهل هو مع الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم مع عائشة - ؟ فكشف اللّه عني ذلك عند صلاة الظهر فقاتلت مع أمير المؤمنين فلما فرغ ذهبتُ إلى المدينة فأتيت أم سلمة فقلت: إني والله ما جئتُ أسأل طعاماً ولا شراباً ولكني مولى لأبي ذر فقالت: مرحباً فقصصت عليها قصتي فقالت : أين كنت حيث طارت القلوب مطائرها؟ قلت: إلى حيث كشف اللّه ذلك عني عند زوال الشمس قالت : أحسنت، سمعتُ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول : (علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض). قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد (1).
فهذا الحديث وأمثاله يثبت عصمة الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث مع هو القرآن والقرآن معه ولن يقع افتراق بينهما، ونحن نعلم أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الذي قد تعمّد اللّه سبحانه وتعالى بحفظه فقال: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2)، فكذلك الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الذي (لن) - اي نفياً مؤبّداً - لن يفترق عن القرآن إلى قيام الساعة و حق وروده على
ص: 388
الحوض أي حوض الكوثر.
فنقول أليس من الإنصاف أن نأخذ السنة وتفسير القرآن ممّن هو قرآن ناطق ونأخذ الشريعة ودستور الإسلام ممّن هو لا يفترق عن القرآن أبداً ؟.
هل من الإنصاف أن نأخذ ديننا من أناس لا يبعد أن يكونوا من أهل النار ونترك الصفوة الذين أكد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن الهدى معهم وأن الضلالة مع غيرهم؟!.
أما عدم استبعاد كون أولئك من أهل النار فلأحاديث الردّة التي جاءت عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وذكرها الفريقان ومنها ما في البخاري عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: (بينا أنا قائم فإذا زُمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال : هلم...فقلت أين؟ قال : إلى النار واللّه، قلت وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم،القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم) (1).
هذه الرواية وأمثالها تدلّ على ارتداد الأكثرية إلا القليل الذين هم في قلّتهم كالنعم المهملة والمتروكة سدى.
وكما في أحاديث أخرى ذكرت لفظ (أصحابي)، ففي البخاري عن ابن عباس قال: قام فينا النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا يخطب فقال: (إنكم تحشرون حفاة عراة...وإنه سيجاء برجال من أمّت فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد
ص: 389
الصالح: (وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (1) قال : فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم) (2).
وأمثال هذا الحديث كثير، ولا يُعبأ بقول البعض: بان المراد من أمثال هذه الأحاديث هم مالك بن نويرة وأصحابه الذين رفضوا إعطاء الزكاة لأبي بكر فاتهموهم بالردّة وقتلهم خالد بن الوليد غيلة وغدرة، فان انطباق كلمة (أصحابي) على من كان حول النبيّ وعنده أولى من انطباقها على قوم قليلين سكنوا البادية، ولم يكونوا ممّن لزم صحبة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
ويشهد على هذا قول البراء بن عازب لما لقيه المسيب فقال له: (طوبى لك صحبت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبايعته تحت الشجرة، فقال له البراء: يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده) (3).
فهل مع هذا يُستبعد كون الكثير ممّن نقلوا لنا الدين والسنّة هم من أهل النار ؟. وحتى لو استبعدنا ذلك، أليس هذا باعثاً للشك والارتياب؟.
فهل يصح أن نتمسك بهؤلاء وندع من جاء التصريح بأنهم مع القرآن وأن الهداية ملازمة لهم، كما روي ذلك في المستدرك عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: (من أحب أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي...فليتولَّ على بن أبي طالب، فإنه لن يُخرجكم من هديي ولن يدخلكم في
ص: 390
ضلالة (1). كما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حديث آخر: (فليتول علياً وذريته أئمّة الهدى ومصابيح الدجى من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة. (2)؟!!
لقد أخبرت الأحاديث أن من يموت دون أن تكون له بيعة لإمام أو دون أن يعرفه فقد مات ميتة جاهلية - يعني مات ميتة إنسان غير مسلم أي على ما كان عليه من الجاهلية قبل الإسلام -، وقد وردت هذه الأحاديث عند الفريقين بكثرة (3) و في البخاري عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية) (4) وفي صحيح مسلم (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) (5). وجاء في مسند أحمد (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية) (6).
فيا ترى من هو هذا الإمام الذي بترك بيعته أو بعدم المعرفة به ينتهي الأمر إلى الميتة الجاهلية للإنسان المسلم ؟
فهل من الإنصاف أن نقول : إن المراد من الإمام في الحديث هو مطلق
ص: 391
الحاكم وإن كان فاسقاً فاجراً، فهل إذا مات المؤمن وهو لا يعترف بحكومة الظالم يكون قد مات ميتة جاهلية؟ أم أن الإنصاف أن يقال: إن المراد من هذا الإمام هو الإمام الحقّ الذي نصبه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
وقد يقال : إننا لا نقصد بذلك الإمام ما يشمل الحاكم الفاسق والفاجر، بل المراد هو الحاكم الصالح والعادل من سائر المسلمين.
فنتساءل حينئذ ونقول : ألا نعتقد أن فترة من فترات التاريخ من بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد مرت وقد حكمها حاكم فاسق ظالم من المسلمين ؟! فلا يمكن إنكار ذلك ولا لطائفة من المسلمين لاسيما من أجمعت الأمة على فسقه وفجوره مثل بعض حكّام الأمويين والعباسيين، بل بعض حكام عصرنا هذا، فيا ترى في مثل هكذا فترة مَن هو الإمام الذي يلزم معرفته وبيعته بحيث لو لم يتم ذلك مات المؤمن ميتة جاهلية ؟! فليس لنا إلا أن نقول: إن ذلك الحاكم الفاسق هو الإمام بالفعل، وحينئذ يكون النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أراد للمؤمن التقي أن يعترف ويطيع حتى للفاسق الفاجر بل الكافر من الحكام وإلا خرج من الدين على غير الإسلام ؟!! وهذا لا يقبله عاقل ولا منصف. أم نقول: إن الإمام شخص آخر، وهذا ما نقوله أنه الإمام الحقّ المعصوم والذي هو مقرون بالقرآن ولن يفترق عنه والذي هو موجود دائماً - إماماً بعد إمام - كما هو مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
وهنا سؤال ينبغي أن يلتفت إليه كلّ عاقل ومتأمل ومتدبر للتاريخ ولما حدث بعد رحيل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وهو أن السيدة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) ماتت وهي
ص: 392
غاضبة على أبي بكر، فقد قال في البخاري: (أبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها - أي من فدك - شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت وعاشت بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها عليُّ ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر)(1).
فيا ترى من كان إمام زمانها؟ والذي إذا ماتت وهي متنكرة له فقد ماتت ميتة جاهلية؟. فهل هو أبو بكر ؟ فكيف يكون لمثل سيدة نساء العالمين الطاهرة التي أذهب اللّه عنها الرجس في آية التطهير والتي يرضى اللّه لرضاها أن تموت ميتة جاهلية؟!!.
أم الصحيح أن نقول : إن إمامها هو علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهي ماتت عارفة بإمامها وغاضبة على غاصبه حقّه وغاصبها حقّها. ولا أعتقد لمسلم غيور مؤمن عاقل يرمي سيدة نساء العالمين بالميتة الجاهلية لكي يثبت الإمامة الشرعيّة لأبي بكر، وهل مثل فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ما تعرف إمام زمانها ؟!
لقد جاءت أحاديث كثيرة عن النبيّ مشيرة إلى أن الإمام علياً وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) هم الأكفاء وهم الأعلمون وهم سفينة النجاة من الغرق فهل من الإنصاف ترك سفينتهم المنجية وأخذ الدِّين من غيرهم ؟!
فنلاحظ هذه الأحاديث :
1 - قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من
ص: 393
قومه من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق) (1)، وجاء هذا الحديث بأشكال متعددة مثل: (إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح) وغير ذلك ويُعدُّ هذا الحديث من الأحاديث المتواترة لكثرة الطرق في إسناده.
ألا ينبغي أن يتساءل من ترك مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولم يأخذ فقهه ودينه عن طريقهم (عَلَيهِم السَّلَامُ). ألا يتساءل أمثال هؤلاء هل إنهم ممّن ركبوا هذه السفينة التي هي الوحيدة التي نجت في طوفان النبيّ نوح (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وألا يخشى هؤلاء أن يكونوا من أولئك الغرقى الذين تخلفوا عن الركوب فيها.
2 - عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غُفر له) (2)، وهو حديث موجود في مصادر متعددة.
لقد أمروا بنو إسرائيل أن يدخلوا باباً خاصة، ويقولوا حطّة حق تحطّ ذنوبهم ويُغفر لهم، فمن أراد من المسلمين أن تُغفر ذنوبه ويضمن غفران الرب سبحانه وانه قد امتثل للدخول من الباب الصحيح والباب المأمور بالدخول بها يلزم أن يأت الإسلام ويأت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من باب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
فهل من الإنصاف أن نترك باب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والتي هي بمثابة باب حطّة في بني إسرائيل ونذهب إلى أبواب أخرى ؟!
3- حديث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل : بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس) (3) وقد جاء في مصادر متعددة.
ص: 394
أليس من الإنصاف أن يتجنب المسلم مخالفة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لئلا يكون من حزب إبليس، ولئلا يكون فيمن تركوا أهل البيت ووقعوا في الاختلاف والفرق المتعددة ؟!.
ويذكّرنا هذا الحديث بقول الصديقة فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) في ضمن خطابها : (جعل اللّه.. وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة)(1).
4 - قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمّتي) (2) وقد ورد في مصادر عدّة.
أليس الإنصاف الإنضواء تحت ولاية أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) للفوز بالأمان دنيو وأخرويّاً. لأنهم هم النبع الصافي والمسلك الطاهر الشريعة جدهم الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
5 - قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنّة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد فليتول علياً وذريته من بعده فإنهم لن يخرجوكم باب هدى ولن يدخلوكم باب ضلالة)(3).
وهل أكثر من هذا التصريح في كون الهداية ملازمة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأولاده من الأئمّة الطاهرين، وهل بعد كلّ هذا يُعدُّ من الإنصاف خذلان مدرسة أهل البيت وترك الركون إليهم ؟!
وهنالك الكثير الكثير من الأحاديث المشابهة لهذه الأحاديث الشريفة ومن صنفها لا يحتمل المجال لإيرادها
ص: 395
أين الإنصاف منا لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهو يودع أمته ويوصيها فهو الذي لا ينطق عن الهوى وهو الذي ما زاغ بصره ولا كذب فؤاده أو غوى وهو الذي قوله قول رسول كريم وما هو بقول شاعر أو كاهن أو مجنون، فهل مثل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُرمى بالهجر والقول بالخرافة - نعوذ باللّه - وهو يوصي رجالات أمته إذ يأمرهم أن يُحضروا له كتاباً ليكتبه لهم لن يضلّوا من بعده أبداً إلا أن عمر بن الخطاب ينبري ليقول إنه يهجر أو غلب عليه الوجع ويحول هو وحزبه من كتابة الكتاب بقوله ذلك أو قوله حسبنا كتاب اللّه (1)، أفانصاف هذا أن يُنسب الهجر والخرف إلى النبيّ و لم يُنسب ذلك إلى أبي بكر حينما أغمي عليه في مرضه ثم أفاق وقد كتب عثمان بن عفّان عنه وصية بالخلافة إلى عمر بن الخطاب، كما لم ينسب احد إلى عمر نفسه الهُجر أو غلبة الوجع وهو مطعون بخنجر في بطنه وهو يشدد على تعيين الخليفة من
ص: 396
بعده في ضمن شورى مزعومة ومُخطّط لها أن تخرج بالخلافة إلى عثمان.
فهل يا ترى من الإنصاف أن نجاري عمر برأيه ونمضي تصرفه ونؤيد موقفه ونسدد له بالقول إن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما أوصى بالخلافة إلى أحد ما، ثم إننا نقدس وصيّة أبي بكر إلى عمر ونمضيها قانوناً وشرعاً وهو في مرض شديد بل في إغماء، وأيضاً نؤيد الشورى المزعومة والتي ما كانت على أساس من كتاب اللّه ولا من سُنّة رسوله ولا سيرة لأبي بكر، ونعتبر خلافة عثمان خلافة شرعية بسبب ذلك ؟!.
اعتقد أن من يرضى بهذا كلّه يرضى أن يكون من أولئك الذين حضروا وصيّة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتجرؤا عليه، ثم قالوا إنه يهجر أو غلب عليه الوجع أو حسبنا كتاب اللّه، واعتقد على مثل هذا أن يرضى لنفسه أن يكون من أولئك الذين أخرجهم النبيّ من مجلسه وطردهم وقال لهم قوموا عني بعد أن امتعض منهم وتأذى من كلامهم (1).
ص: 397
ولا يتردد من له أدنى معرفة بالتاريخ وبما دار حول الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أقوال وأفعال من بعض الذين كانوا حوله من قبل مرضه اللّه وحين مرضه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وبعد ارتحاله لا يتردد من أن هذه الأمور إنما كانت لابعاد شخص الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن التصدّي للخلافة عملياً بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ولكي يتقمصها فلان وفلان طمعاً منهم بالخلافة وما فيها من امتيازات وبغضاً منهم لصاحبها.
وقد صرّح بذلك عمر بن الخطاب - في فلتة من فلتات لسانه - لما قال لعبد اللّه بن عباس محاوراً إياه في أيام خلافته:
كيف خلقت ابن عمك قال ابن عبّاس: فظننته يعني عبد اللّه بن خحجعفر، فقلت : خلفته مع أترابه، قال : لم أعن ذلك إنما عنيت عظيمكم أهل
ص: 398
البيت، قال: قلت خلفتُه يمتح بالغرب (اي يسقي بالدلو) وهو يقرأ القرآن. قال : يا عبد اللّه عليك دماء البدن إن كتمتنيها هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قال: قلت نعم قال : أيزعم أن رسول اللّه نص عليه ؟ قال ابن عباس: قلت: وأزيدك سألت أبي عمّا يدعي - من نص رسول اللّه عليه بالخلافة - فقال: صدق فقال عمر : كان من رسول اللّه في أمره ذرو(1) من قول لا يثبت حُجّة، ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع (2) في أمره وقتاً ما ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنى علمتُ ما في نفسه، فامسك وأبى اللّه إلا إمضاء ما حتم(3).
لا أدري كيف يكون ذلك عذراً لعمر ومن يتبعه ؟! أليس معنى هذا هو الإقرار بأن عمر بن الخطاب هو أعرف بمصلحة المسلمين من اللّه ورسوله - أعوذ باللّه من ذلك - لأنه لاشك أن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان لأنه لاشك أن النبيّ كان يريد تدوين أمر هو من اللّه تعالى وليس من نفسه، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى!!!
هذا وقد قال البعض شعراً:
ص: 399
أوصى النبيّ فقال قائلهم***قد راح يهجر سيّد البشر
لكن أبا بكر أصاب ولم***يهجر وقد أوصى إلى عمر
بعد كلّ هذا هل من الانصاف أن نتغافل عن كلّ ذلك ولا نعطي عليا (عَلَيهِ السَّلَامُ) حقه ونقرّ له بخلافته المنصوص عليها من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟!!
قد يقول قائل : إنه كما وردت أحاديث في فضل أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وضرورة التمسك بهم، كذلك وردت كذلك وردت أحاديث من هذا القبيل في الجانب الآخر أعني عموم الصحابة أيضاً مثل الأحاديث التي نزلت الصحابة كلّهم بمنزلة النجوم وأنه بأيّهم اقتدينا اهتدينا أو الأحاديث التي جاءت في فضل عائشة من مثل لزوم اخذ نصف الدين من عائشة وغير ذلك، فضلا عن أنه ليس كلّ ما ورد من الروايات في شان الإمام علي وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) صحيحاً ففيها الضعيف الذي لا اعتبار به وعلى هذا فلا مانع ولا ضير على من اعتمد على بعض الصحابة في دينه وجعلهم الوسيلة في اخذ الشريعة، ولا يضره تخلّفه عن الركوب في سفينة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وترك مدرستهم.
فنقول :أيضاً من الإنصاف أن يلتفت إلى الجواب على هذا الادعاء وذلك بالقول:
أولاً : إن ما ذكر من أحاديث فضل لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولزوم إتباعهم هو أمر مجمع عليه لدى كافة المسلمين، وقد وردت تلك الروايات في كتب المسلمين جميعاً، ومَن يعظم أهل البيت فقد أخذ بأحاديث تعظيم الصحابة لأنهم سادة الصحابة، فالإمام علي وولداه الحسنان وأمهما فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) هم
ص: 400
سادة من صحب النبيّ فمن يتمسك بهم فقد أخذ أيضاً بما يفترض من أحاديث تبجيل الصحابة وليس العكس بصحيح.
ثم إن ما ذكر من أحاديث في التفضيل والتعظيم لكثير من رجال الصحبة اختصر ذكرها في كتب أتباعهم فقط دون ذكر أو تأييد من الطرف الآخر، بل جاء ردّها ورفضها ومناقضتها للواقع عند الطرف الآخر، وعلى العاقل والمنصف في اخذ دينه أن يُفضّل ما أجمعت عليه الأمة على ما اختلفت فيه فيما لا يمكن الجمع فيه، ومن يأخذ دين نبيّه وسنته من أهل بيته يكون قد عمل بما جاء في كتب جميع المسلمين من مختلف مذاهبهم، ولكن من يأخذ ذلك من غيرهم يكون قد اعتمد مشرباً خاصاً مقبولاً عند أتباعه فقط، دون سائر المسلمين ولا شك حينئذ يكون الرجوع إلى أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) هو الباعث للطمأنينة على صحة النهج الذي هو عليه دون غيرهم.
ثانياً: إن ما ادعي من ضعف في بعض أحاديث الفضل للإمام علي وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ) فقد ادُّعي أيضاً من الضعف والوضع في الأحاديث المقابلة لذلك في فضل مناوئيهم، ولكن هناك فرق بين الإدعاءين فان الإدعاء الثاني جاء في كتب نفس الفريق التابع له، فلما نراجع كتب القوم نراهم أنفسهم قد ضعفواً كثيراً من الأحاديث كالتي تحدثت عن فضل معاوية مثلاً ورموها بالوضع، وتحدثوا عن تكذيب بعض رواتها، كما إنها ضُعفت أيضاً لدى المدرسة الأخرى، ولكن من رمى أحاديث الفضل لأهل البيت بالضعف والوضع فهو ليس من أتباع المدرسة نفسها بل من التاركين لها ومن أتباع المدرسة الأخرى، ولذلك نرى أن أتباع أهل البيت غالباً ما ينهجون قاعدة
ص: 401
(من فمك أدينك) في مناقشاتهم للمدرسة الأخرى، وهذا الأمر يُنبأ عن أن ما ذكر من ضعف في أحاديث الفضل لمناوئي أهل البيت هي اقرب للضعف والوضع، لأنها ضعفت حتى عند أصحاب نفس المدرسة فهي اقرب للضعف من الأحاديث المقابلة لذلك والتي بيّنت بعض مقامات أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
ثالثاً: إن المتأمل في بعض أحاديث التفاضل بين أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وبين خصومهم يجد أن بعض الرواة نُسب أليهم كلا الحديثين المتقابلين، كأن يكون هو في سلسلة سند الحديث يبيّن مكانة عظيمة للإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو للزوم الأخذ بنهجه بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ويكون هو نفسه في سلسلة حديث آخر يمتدح خصماً من خصوم الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو شبيه ذلك، ثم ترى إن الرجل يُعدّ ضعيفاً عند المدرسة الأخرى في الحديث الذي نسب فيه فضيلة للإمام علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) بينما نفسه لا يُعدّ ضعيفاً عند نفس المدرسة في الحديث الآخر والذي نسب فيه أمراً يعظم من شخصية خصوم لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وقد أشار العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه الخالد (المراجعات) إلى هذه الحقيقة. والإنصاف في هذا الأمر يدعو إلى التشكيك في رمي كثير من الأحاديث الصحيحة في شان أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) رميها بالضعف والوضع، و الى التشكيك أيضاً في الاعتماد على أحاديث زعمت صحيحة في امتداح رجال كانوا مناوئين لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).
رابعاً: إن كثيراً من الأحاديث التي وردت عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في شأن الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأتباعه كان لها شأن وسبب موجود في الواقع وعلى الأرض ممّا يدعم صحة ورودها وحقيقة،صدورها، فمثلاً أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال في
ص: 402
حق علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) قال ذلك حينما خلّفه على المدينة في خروجه إلى تبوك وحين المؤاخاة وغيرها من المواقف وهكذا كثير من الأحاديث الأخرى، ولكننا لا نجد لكثير من الأحاديث في فضل المناوئين لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسباباً تذكر أو وقائع حدثت وعلى ضوئها جاءت تلك الأحاديث! بل نسبت الأحاديث من التعظيم للبعض دون ذكر لشأن في إيرادها، وهذا الأمر يبعث على التشكيك في صحة صدورها ويؤيّد وضعها على النبيّ صل بعد رحيله ووفاته.
خامساً: وآخراً وليس أخيراً، لابد من القول إن التاريخ وكثيراً من الحديث الذي نُسب إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) دوّنته أقلام مناوئة للإمام علي وولده (عَلَيهِم السَّلَامُ) ولأتباعه وأصحابه، وموالية لمعاوية وبني أمية من أعداء أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، والإنصاف والعقل يدعوان إلى التشكيك في كلّ ما ذكر في هذا التاريخ من فضل لخصوم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) لأن الأقلام حين ذاك غالباً ما كانت مأجورة والألسن متملّقة لصالح الأنظمة الحاكمة والمستبدة والظالمة والتي تقطع أي يد تكتب في فضل الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأي لسان ينطق في منقبة وفضيلة لعلي وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وفي قبال ذلك تُغدق الأموال والثروات على كلّ من يبتدع ويقول ما من شأنه التنقيص من مكانة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والتعظيم في عدوه، فمن الإنصاف أيضاً التسليم لهذا الواقع الذي كان في سلطان بني أمية، وقبول هذه الحقيقة في هذه الملاحظة الخامسة.
وبعد هذه الملاحظات و النقاط في هذا الفصل لا ينبغي للمسلم المنصف أن يطمأن - أيّاً كان - إلى صحة ما يأخذه من شرع يُنسب إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)
ص: 403
كاطمئنان المسلم الشيعي الاثني عشري، لأنه أخذ دينه ممّن تسالم المسلمون جميعاً على أنهم هم الأنزه والأطهر والأزكى ممّن نقل الشريعة من دين جدِّهم المصطفى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وهم الأئمّة الأطهار أهل بيته الأبرار (عَلَيهِم السَّلَامُ).
والحمد للّه رب العالمين.
ص: 404
ص: 405
ص: 406
بسم اللّه الرحمن الرحيم
مسك الختام
لكي اختم هذه الصفحات و البحوث بمسك الختام، عددت حديث الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في موضوع الإمامة،والإمام، فصلاً خاصاً في خاتمة هذه الفصول.
وهذا الحديث عظيم في محتواه، ويدلّ على المنزلة العظيمة التي جعلها اللّه تعالى للإمام المعصوم، حيث بيّن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن منزلة الإمامة هي أعظم من منزلة النبوّة، لأن اللّه تعالى قد جعل النبيّ إبراهيم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) إماماً بعد أن كان نبيّاً وخليلاً، وهو أمر واضح، لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) جعل إماماً في كبر سنه، بعد أن رُزْقَ الذريّة، وقد رزقه اللّه ذلك في كبر سنّه.
فبيّن الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذه المنزلة العالية والعظيمة لمقام الإمامة والإمام، وأنه لا يمكن للناس اختيار الإمام، لأنهم لا يحيطون بمنزلته ولا يُدركون شخصه، لولا أن يدلّهم اللّه تعالى عليه بنص من رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).
كما بيّن (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن للإمام وظائف لا يقدر عليها غيره، لأن اللّه تعالى
ص: 407
ألهمه وعلّمه وآتاه ما لم يؤت أحداً غيره، فكيف تكون الإمامة لمن لم ينصّ اللّه تعالى عليه.
كذلك أشار (عَلَيهِ السَّلَامُ) الى أن الدين كمل بالإمامة، ولم يكن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)ليرحل عن الدنيا دون أن ينص على الإمام من بعده، لأن في ذلك نقصاً للدين، وقد صرح القرآن بإكماله.
أيّها القارئ الكريم : فلنقرأ هذا الحديث، ونتأمل ما فيه من استدلال بالغ بالعقل والآيات القرآنية على إمامة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، ولنتشرّف جميعاً بهذا الكلام العظيم الذي يتفوه به إمام معصوم، وهو إمامنا وسيدنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا صلوات اللّه وسلامه عليه.
حديث الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الإمامة:
بسم اللّه الرحمن الرحيم
روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده إلى عبد العزيز بن مسلم قال: كنّا مع الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمرو (1)، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلتُ على سيدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)فأعلمتُه خوض الناس فيه، فتبسم (عَلَيهِ السَّلَامُ) (2).
ثم قال: يا عبد العزيز جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم، إنّ اللّه (عزّ وجل) لم يقبض نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حق أكمل له الدِّين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان
ص: 408
كلِّ شيء، بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً (1).
فقال (عز وجل): (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (2).
وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) (3)، وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حتى بين بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد (4) سبيل الحق، وأقام لهم علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) علَماً وإماماً، وما ترك لهم شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا بيَّنه، فمن زعم أن اللّه (عز وجل) يكمل دينه فقد ردَّ كتاب اللّه، ومَن ردّ كتاب اللّه فهو كافر به.
هل (5) يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟!!.
إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلا مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً (6) من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم.
ص: 409
إن الإمامة خص اللّه (عزَّ وجل) بها إبراهيم الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة (1)، وفضيلة شرَّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: (إني جاعلك للناس إماماً) فقال الخليل (عَلَيهِ السَّلَامُ) سروراً بها (ومن ذريتي) قال اللّه تبارك وتعالى : (ولا ينال عهدي الظالمين) (2).
فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة.
ثم أكرمه اللّه تعالى بأن جعلها في ذريته - أهل الصفوة والطهارة - فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أئمّة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عابدين) (3) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قَرْنا فقرناً، حتى ورَّثَها اللّه تعالى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، فقال جل وتعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النبيّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (4) فكانت له خاصة، فقلّدها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) بأمر اللّه تعالى على رسم ما فرض اللّه، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم اللّه العلم والإيمان بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ)(5) في ولد على (عَلَيهِ السَّلَامُ)
ص: 410
خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فمن أين يختار هؤلاء الجُهّال.
إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء.
إنّ الإمامة خلافة اللّه وخلافة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومقام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وميراث الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).
إنّ الإمامة زمام الدِّين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين.
إنّ الإمامة أُس الإسلام (1) النامي، وفرعه السامي.
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيئ والصدقات (2)، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يُحِلّ حلالَ اللّه، ويُحرم حرام اللّه، ويُقيم حدود اللّه، ويذُّب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجّة البالغة.
الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم (3) وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام البدر المنير، والسراج،الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى(4) وأجواز البلدان والقفار (5)، ولُجج البحار.
ص: 411
الإمام الماء العذب على الظماء والدّالّ على الهدى، والمُنجي من الردّى.
الإمام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى به (1)والدليل في المهالك، من فارقه فهالك.
الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة (2).
الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومَفزَع العباد في الداهية الناد (3).
الإمام أمين اللّه في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى اللّه، والذاب عن حرم اللّه.
الإمام المُطهَّر من الذنوب والمبَراً عن العيوب المخصوص بالعلم، المرسوم بالحلم، نظام الدِّين، وعزّ المسلمين وغيظ المنافقين، وبوار (4) الكافرين. الإمام واحد،دهره، لا يُدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهّاب.
فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختیاره؟!! هيهات هيهات.
ص: 412
ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء (1) وكلّت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه، أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير.
وكيف يُوصف بكلّه، أو يُنعت بكنهه، أو يُفهم شيء من أمره، أو يُوجد مَن يقوم مقامه ويُغني غناه،لا، كيف، وأنى؟
وهو بحيث النجم من يد المتناولين، ووصف الواصفين!!
فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يُوجد مثل هذا ؟ !
أتظنّون أن ذلك يُوجد في غير آل الرسول محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)؟!!
كذَّبتهم والله أنفسهم، ومنتهم الأباطيل، فارتقوا مُرتَقاً صعباً دَحضاً، تزِّل عنه إلى الحضيض أقدامهم.
راموا إقامة الامام بعقول حائرة بائرة (2) ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بُعداً، (قَاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤفَكُونَ) (3) ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً (4)، وضلّوا ضَلالاً بعيداً، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين.
رغبوا عن اختيار اللّه واختيار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ
ص: 413
الله وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (1).
وقال (عز وجل): ﴿مَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللّه وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخيَرَةُ من أمرهم) (2).
وقال: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانُ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُم أَيُّهُم بذلكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إن كَانُوا صادقين) (3).
وقال (عز وجل): أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أقْفَالُهَا﴾ (4).
أم طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون، أم قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (5) (إِنَّ شَدَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) (6)، أم قالوا سمعنا وعصينا (7)، بل هو فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل (8)،
ص: 414
معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ونسل المُطهَّرة البتول، لا مغمز (1) فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب، في البيت من قريش والذروة من هاشم، والعترة من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والرضا من اللّه (عزَّ وجل)، شرف الأشراف، والفرع من عبد مناف، نامي العلم كامل الحلم، مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه (عز وجل) ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه.
إن الأنبياء والأئمّة صلوات اللّه عليهم يوفقهم اللّه ويؤتيهم من مخزون علمه و حكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى (2): (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أُمَّن لا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (3) وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (4) وقوله في طالوت: ﴿إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) وقال لنبيه (5): (وَأَنزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيمًا) (6) وقال في الأئمّة من أهل بيت نبيّه وعترته وذريته صلوات اللّه عليهم : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
ص: 415
عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه من فَضْلِه فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) (1).
وإن العبد إذا اختاره اللّه (عزَّ وجل) لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعى(2) بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد، موفق مُسدَّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعشار يخصه اللّه بذلك ليكون حجّته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟!.
تعدَّوا - وبيت اللّه - الحقّ ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون. وفي كتاب اللّه الهدى والشفاء، فنبذوه واتبعوا أهواءهم، فدمهم اللّه ومقتهم وأتعسهم.
فقال جل وتعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ ممّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللّه إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (3).
وقال: (فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) (4).
ص: 416
وقال: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّه وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (1).
وصلى اللّه على النبيّ محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً (2). انتهى.
وبهذا الحديث المبارك والعظيم في محتواه أختم كتابي هذا.
وأشكر اللّه سبحانه وتعالى على توفيقه ومنه ولطفه في إخراج هذا العمل المتواضع.
وأسأله سبحانه وتعالى القبول والثبات وحسن العاقبة لي و لك - أيّها القارئ الكريم - ولجميع المؤمنين.
كما أشكر كلّ من ساهم وأعان على إخراج هذا الجهد الى النور.
والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد و آله الطاهرين واللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ص: 417
ص: 418
1 - القرآن الكريم
2 - نهج البلاغة ممّا جمعه الشريف الرضي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)
3- الكافي للشيخ الكليني
4 - صحيح البخاري
5 - صحيح مسلم
6 - صحيح الترمذي
7 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري لبدر الدين محمود العيني
8 - كنز العمال للمتقي الهندي
9 - ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي الحنفي
10 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني
11 - المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري
12 - الاستيعاب للحافظ ابن عبد البر
13 - السنن الكبرى للنسائي
14 - خصائص الوحي المبين للحافظ ابن البطريق -
ص: 419
15 - شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي
16 - أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن أثير
17 - سنن الترمذي
18 - الاحاديث الصحيحة للالباني
19 - سنن ابن ماجه
20 - مسند احمد للامام احمد بن حنبل
21 - التفسير الكبير للرازي
22 - تفسير الدرّ المنثور لجلال الدين السيوطي
23 - تفسير الطبري لابن جرير
24 - تفسير روح المعاني لشهاب الدين الآلوسي الشافعي
25 - تفسير أبي الفتوح الرازي
26 - تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
27 - تفسير الكشاف للزمخشري
28 - تفسير ابن كثير
29 - تفسير السمرقندي لأبي الليث السمرقندي
30 - تفسير المنار للشيخ محمد عبده
31 - تفسير الثعلبي للثعلبي
32 - التفسير المنير لمعالم التنزيل للجاوي
33 - تفسير مجمع البيان للشيخ البيان للشيخ الطبرسي
34 - تفسير التبيان للشيخ الطوسي
35 - تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي
ص: 420
36 - تفسير العياشي
37 - تفسير الميزان لمحمد حسين الطباطبائي
38 - تفسير القمي لعلي بن إبراهيم القمي
39 - الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي
40 - أنساب الأشراف للبلاذري
41 - الملل والنحلل للشهرستاني الشافعي
42 - روضة الواعظين للفتال النيسابوري
43 - بحار الأنوار للعلامة محمد باقر المجلسي
44 - نسيم الرياض شرح الشفاء للقاضي عياض
45 - حياة محمد لمحمد حسين هيكل
46 - مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب
47 - جواهر العقدين للسمهودي الشافعي
48 - الرياض النضرة لمحب الدين الطبري
49 - أسباب النزول لأبي الحسن الواحدي النيسابوري
50 - الجامع الصغير للسيوطي
51 - كتاب المهذب للقاضي ابن البراج
52 - الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي
53 - ذخائر العقبى للطبري
54 - مسألتان في النصّ على الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) للشيخ المفيد
55 - تاريخ الطبري
56 - تاريخ مروج الذهب للمسعودي
ص: 421
57 - الكامل في التاريخ لابن الأثير
58 - تاريخ الخلفاء للسيوطي
59 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي
60 - تاریخ دمشق لابن عساكر
61 - تاريخ ابن خلدون
62 - كنز الفوائد لأبي الفتح الكراكجي
63 - الطبقات الكبرى لابن سعد
64 - كفاية الطالب للكنجي الشافعي
65 - بشارة المصطفى لمحمد بن علي الطبري
66 - شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد المعتزلي
67 - الولاية في طرق حديث الغدير للطبري
68 - شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني
69 - الإمامة والسياسة لابن قتيبة
70 - معرفة الصحابة لابي نعيم الأصبهاني
71 - مرآة العقول للعلامة المجلسي
72 - معاني الأخبار للشيخ الصدوق
73 - غاية المرام للسيد هاشم البحراني
74 - دلائل الإمامة لمحمد بن جرير بن رستم الطبري
75 - الإصابة لابن حجر العسقلاني الشافعي
76 - تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي
77 - المراجعات للسيد شرف الدين
ص: 422
78 - نهج الحقّ وكشف الصدق للعلامة الحلّى
79 - الخاتم لوصي الخاتم للشيخ محمد رضا مولانا
80 - جامع المقاصد للتفتازاني
81 - كشف الغمة لابن أبي الفتح الإربلي
82 - اقبال الأعمال لابن طاوس
83 - دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي
84 - مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي
85 - كفاية الطالب للكنجي الشافعي
86 - فرائد السمطين للشيخ الحمويني
87 - تنزيه الشيعة الإثني عشرية عن الشبهات الواهية لأبي طالب التجليل التبريزي
88 - شرح إحقاق الحقّ للسيد المرعشي
89 - غاية المرام للسيد هاشم البحراني
90 - النصّ والاجتهاد للسيد شرف الدين
91 - خصائص أمير المؤمنين للنسائي
92 - المناقب للخوارزمي الحنفي
93 - اسمى المناقب في تهذيب أسف المطالب لشمس الدين محمد الجزري الدمشقي
94 - علل الشرائع للشيخ الصدوق
95 - التوحيد للشيخ الصدوق
96 - وسائل الشيعة للحر العاملي
ص: 423
97 - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاووس
98 - الغدير للشيخ الأميني
99 - كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق
100 - مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي
101 - المناقب المرتضوية للمولى محمد صالح الكشفي الحنفي
102 - السيرة الحلبية للحلبي الشافعي
103 - نظم درر السمطين للزرندي الحنفي
104 - سير أعلام النبلاء للذهبي
105 - نظم درر السمطين للزرندي الحنفي
106 - كمال الدين واتمام النعمة للشيخ الصدوق
107 - ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري
108 - كتاب السنّة لعمرو بن أبي عاصم
109 - نفحات الازهار للميلاني
110 - الاحتجاج للشيخ الطبرسي
111 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، لعلي بن محمد بن عراق
112 - نهج البلاغة - خطب الإمام علي تحقيق الشيخ محمد عبده.
113 - كتاب المزار محمد بن المشهدي.
114 - الكلمة الغراء لشرف الدين
115 - السقيفة للشيخ محمد رضا المظفر
116 - بلاغات النساء لابن ابي طيفور
ص: 424
117 - منهاج السنة لابن تيمية
118 - المعجم الكبير للطبراني
119 - مقتل الإمام الحسين للخوارزمي
120 - فتح القدير للقاضي الشوكاني
ص: 425
ص: 426
الإهداء...5
المقدمة...7
الفصل الأول: آية الابتلاء... 13
كيفية الاستدلال بالآية...15
الجهة الأولى : قوله تعالى : (إني جاعلك للناس إماماً)...15
الإمامة والجعل الإلهي...16
إنسجام القوا، بالنصّ مع النهج القرآني...18
الجهة الثانية من الاستدلال بالآية...21
تطبيق الآية على ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...28
الفصل الثاني: آية المباهلة...31
قصة الآية وشأن النزول...34
الاستدلال بالآية على إمامة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...37
إستفسار...39
الفصل الثالث: آية الطاعة...43
كيفية الاستدلال بالآية...45
ص: 427
الجهة الأولى : الاستدلال بالآية، مع ملاحظات خمس...46
1 - هل يمكن أن تكون الطاعة لولي الأمر مقيَّدة؟...49
2 - لماذا لم تشر الآية الى الرجوع الى أولي الأمر؟...53
أقوال أخرى في الآية...57
الجهة الثانية: الاستدلال بالأحاديث...60
أولاً: من مصادر المسلمين غير الشيعة...60
ثانياً: بعض ما جاء في مصادر أهل البيت...66
لماذا لم يُذكر اسم الإمام في القرآن...68
الفصل الرابع: آية التبليغ...71
شأن نزول الآية...73
اشتهار قصة حديث الغدير...76
الحديث عند الفريقين...77
الرواية من طريق الإمامية...78
الرواية من طريق غير الإمامية...85
ما معنى خوف النبي؟...89
بعض الاستفسارات...91
دلالة القرائن المتعددة...93
أولاً: القرائن اللفظية...93
الاهتمام البالغ في الأمر...96
قرينة فهم الخطاب...97
حسان بن ثابت...97
قيس بن سعد...98
وحتى العدو فهم ذلك...99
ص: 428
وعمرو بن العاص...99
سياق الآية وأهل الكتاب...101
هل للآية سبب نزول آخر؟...104
هل يعقل تغافل المسلمين عن موضوع الغدير؟...107
استنكار الصحابة لذلك الانقلاب...108
لا غرابة في الانقلاب...112
الفصل الخامس: آية إكمال الدين...119
الاستدلال بالآية...121
دلالة شأن نزول الآية...122
الروايات عن طريق أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...123
وأما ما روي عند الفريق الآخر...124
دلالة الآية من خلال تأملها...125
استدلال، الإمام بالآية...129
توقيت نزول الآية ودلالة أخرى...134
استفسارات...134
الفصل السادس: آية التطهير...145
الأمر الأوَّل : الإرادة التكوينية والتشريعية...148
هل يُجبر المعصومون في طاعتهم للّه؟...151
الأمر الثاني: من هم أهل البيت في الآية؟...153
رأيان بعيدان عن الواقع...154
نساء النبيّ وأهل البيت جميعاً...156
الرأي الصائب : المراد هم فاطمة وذووها...157
الروايات من مصادر غير شيعية...158
ص: 429
تلاوة النبيّ للآية عند بيتهم...162
أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وحقوقهم المغصوبة...164
الفصل السابع: آية الميقات...167
الاستدلال بالآية...169
بعض الاستفسارات...174
الأول : هل الحديث في قضية خاصة؟...174
حديث المنزلة في موارد عشرة...175
الثاني : أين خلافة هاروا بعد موسى؟...181
الثالث : هل يراد الخلافة مباشرة بعد النبي؟...182
الفصل الثامن: آية الصادقين...185
الجهة الأولى: دلالة الآية نفسها...187
الدعوى الأولى: (الصادقون معصومون)...188
الدعوى الثانية : الصادقون هم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...191
الجهة الثانية : دلالة الآية بضميمة آيات أخرى...191
الجهة الثالثة: دلالة الآية بضميمة الأحاديث...194
مناقشة واستفسار...198
الفصل التاسع: آية الولاية...203
أولا : الاستدلال بالروايات...206
ثانياً وأمّا الاستدلال من جهة الحصر في الآية...211
السؤال الأول: تعدّد معنى الوليّ...213
السؤال الثاني : ماذا عن صيغة الجمع ؟...218
السؤال الثالث: هل يتنافى التصدق في الصلاة مع الخشوع؟...221
السؤال الرابع: هل للإمام ولاية مع وجود النبيّ ؟...223
ص: 430
الفصل العاشر: آية الإنذار...225
الروايات من مصادر غير الإمامية...227
من مصادر الإمامية...230
نتيجة الأحاديث المروية في الآية...231
الاستفسار الأول: هل لنزول، الآية قصة أخرى؟...231
الجواب عن الاستفسار...233
مناقشة أسانيدها...233
صحة حديث الدار...235
الاستفسار :الثاني: ألم يكن الإمام صيَّاً؟...238
الاستفسار الثالث: هل الوصية في أهل النبيّ فقط؟...240
الفصل الحادي عشر: آية الإمام المبين...243
معنی الآية...245
الاستدلال بالآية...246
التفسير الروائي للآية...247
سؤال : أليس الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ؟...249
بعض أحاديث الفريقين أيضاً...251
المصادر عند غير الامامية...252
واما في مصادر الامامية...252
علم الكتاب عند الأئمّة أيضاً...253
وصي محمد اعظم من وصي سليمان...254
الفصل الثاني عشر: آية الإنذار والهداية...257
مئآل الآية المباركة...259
الاستدلال بالآية...260
ص: 431
بعض الروايات في الآية...262
الاستفسار الأول: الأقوال الأخرى في الآية...267
الاستفسار الثاني: الآية تشير للمصداق...268
الفصل الثالث عشر: آية المودة...271
الآية وقربى النبيّ ...273
الاستدلال بالآية من خلاط، الروايات...274
استفسار : ألا يراد من الآية قرابات سائر الناس؟...276
الفصل الرابع عشر: آية لسان الصدق...279
دلالة الآية...2881
ممّا روي في تفسير الآية عند الفريقين...282
بعض القرائن المؤيدة...285
الفصل الخامس عشر: آية إشهاد ذرية آدم...291
معنى الآية...293
روايات الولاية في الآية...296
وأمّا من مصادر أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...297
الفصل السادس عشر آيات الإشهاد والشهادة...301
الآية الأولى: آية البينة...304
دلائل الآية على الولاية...306
بعض روايات العامّة...307
ومما جاء في مصادر أهل البيت...309
الآية الثانية : آية علم الكتاب...312
من الروايات في ذلك...313
وأما عن طريق غير الشيعة...314
ص: 432
استفسارات...315
ثلاث آيات أخرى...317
الأولى: آية الأمة الوسطى...317
روايات مؤكدة...319
الثانية : آية الشهيد من كلّ أمة...321
الآية الثالثة : آية رؤية الأعمال...322
معرفة المعصوم بأعمال العباد...323
آيات أخرى وأخرى...324
الفصل السابع عشر: آيات السؤال...327
الآية الأولى: آية الوقوف للسؤال...329
الآية الثانية : السؤال عن النعيم...332
هل النعيم هو الطيب من الأكل؟...335
أحاديث المرور على الصراط...336
الآية الثالثة : آية نكران النعمة...338
الآية الرابعة: آية تبديل نعمة اللّه...339
الفصل الثامن عشر: عشرون آية في الولاية...341
1 - قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أَوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)...343
2 - قوله تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..)...344
3 - قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ من رُسُلَنَا)...345
4 - قوله تعالى : والذي جاء بالصدق وَصَدَقَ به أُوْلَئكَ هُمُ الْمُتَّقُون)...346
5 - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنَكُمْ عَن دينه)...347
هل رضي اللّه عن كلّ اصحاب بيعة الشجرة؟...348
6 - قوله تعالى : (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة﴾...349
ص: 433
7 - قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)...350
8 - قوله تعالى: ﴿وَالْعَادِيَات صَبْحًا * فَالْمُوريات قَدْحًا * فَالْمُغيرات صُبْحًا)...351
9 - قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضَ قطَعْ مُتَجَاوراتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ)...353
10 - قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)...354
11 - قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤمِنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ )...355
12 - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذه سَبيلي أَدْعُو إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرة)...356
13 - قوله تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لسان صدق في الآخرين)...357
14 - قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجيبوا للّه وللرسسُوا، إذَا دَعَاكُم لما يُحْيِيكُمْ﴾...358
15 - قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبَه يَعْدِلُونَ)...359
16 - قوله تعالى: ﴿النَّبيُّ أولَى بالمؤمنينَ من أَنفُسهمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)...359
17 - قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُوره كَمشكاة فيها مصباح)...361
18- قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلكَ إلا رجالاً نوحى إلَيْهِمْ)...362
19 - قوله تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَا الْعَظيم)...363
20- قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحات)...364
الفصل التاسع عشر : إنصاف العقل والضمير لولاية الأمير (عَلَيهِ السَّلَامُ)...367
الإنصاف لولاية أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)...369
تقدیم...369
إنصافنا والقرآن الكريم...371
أولاً: هل نص النبيّ على خليفته ؟...378
ثانياً: كيف أحجم الناس أن يسألوا نبيهم عن خليفته؟...381
ثالثاً: هل اخترنا من اختاره النبي لنا؟...382
رابعاً: أليس الإمام علي هو الأفضل عند النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟...384
خامساً: هل المطهر من الرجس كغيره؟...385
ص: 434
سادساً : هل من يستحيل عليه الضلالة كمن يحتملها؟...386
سابعاً: ألا نأخذ سُنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من قرين القرآن؟...387
ثامناً: أنأخذ ديننا من أهل الردّة؟...389
تاسعاً: هل نموت ميتة جاهلية؟...391
هل ماتت الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) غاضبة على إمام زمانها؟!...392
عاشراً: هل ركبنا سفينة النجاة ؟...393
حادي عشر: أيُرمى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالهجر دون غيره؟...396
اعتراف عمر بمنعه من وصية النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)...398
ماذا عن أحاديث الفضل في بعض الصحابة؟...400
الفصل العشرون مسك الختام حديث الإمام الرضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مقام الإمام...405
من أهم مصادر الكتاب...419
فهرس المحتويات...427
ص: 435