درر الفوائد

هوية الکتاب

الكتاب: درر الفوائد ج 1 و 2

المؤلف: مؤسّس الحوزة العلميّة في قم الشيخ عبد الكريم الحائري (قدّس سِرُّه)

المعلق: آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي دام ظلّه والمؤلف رحمه اللّه

المحقّق: حجّة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمَّد مؤمن القمي

الموضوع: أصول الفقه

اللغة: عربي

عدد الصفحات: 735

الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

الطبع: مطبعة مؤسّسة النشر الإسلامي

الطبعة: الخامسة

المطبوع: 1000 نسخة

درر الفوائد

للعلامة المجدد مؤسس الحوزة العلميّة بقم المقدسة

الأستاذ الأعظم آية اللّه العظمى

الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي طاب ثراه

1276 - 1355 ه_ ق

مع تعليقات للمؤلف (قدّس سِرُّه)

وتعليقات نافعة ورسالة في الإجتهاد والتقليد

لآية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمَّد علي الأراكي (مدّ ظلّه)

الجزء الأول

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

محرر الرقمي: مرتضی حاتمي فرد

ص: 1

اشارة

الكتاب: درر الفوائد ج 1 و 2

المؤلف: مؤسّس الحوزة العلميّة في قم الشيخ عبد الكريم الحائري (قدّس سِرُّه)

المعلق: آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي دام ظلّه والمؤلف رحمه اللّه

المحقّق: حجّة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمَّد مؤمن القمي

الموضوع: أصول الفقه

اللغة: عربي

عدد الصفحات: 735

الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

الطبع: مطبعة مؤسّسة النشر الإسلامي

الطبعة: الخامسة

المطبوع: 1000 نسخة

ص: 2

الجزء الآوّل

مقدّمة المؤسّسة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيّدنا ونبيّنا محمَّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

إنّ مؤسّسة النشر الإسلامي قد وقفت نفسها لإحياء العلوم الإسلامية، عن طريق تحقيق وتصحيح وطبع ونشر الكتب العلميّة الّتي ألفها أو يؤلفها علماؤنا الأبرار قدماؤهم ومتأخروهم. وقد وفقها اللّه تعالى بهذا الصدد كثيراً - وللّه الحمد أولاً وآخراً -، إذ قامت بطبع ونشر عشرات من الذخائر والمواريث الذهبيّة، في العلوم الإسلامية المختلفة.

وأنّ لعلم أصول الفقه في العلوم الإسلامية مكانة رفيعة، فإنها قواعد ممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، ويبتنى عليه استخراج القوانين الإلهية المتكلفة لسعادة بني آدم في الدنيا والآخرة، وقد قام المحقّقون من علمائنا الأعلام بتهذيب هذه القواعد الأصوليّة وإحكامها، وشيّدوا بصرف أعمارهم الشريفة وأفكارهم الدقيقة بنيانها. ثمّ ربّما نظموا حاصل أفكارهم العميقة، وجعلوها في كتب قيّمة خدمة للعلم وأهله.

ومما ألف في هذا النظام مجموعة ألفها أستاذ الأساتذة العظام شيخ المشايخ الكرام مؤسس الحوزة العلميّة الكبرى بقم المشرفة، صاحب النفس الزكيّة القدسيّة والأفكار العلميّة القيمة، والتحقيقات الدقيقة المرضيّة، آية اللّه العظمى مولانا الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي " قدس اللّه سره وأعلى اللّه في الخلد درجته " وسماها ب " درر الفوائد " فهي مشتملة على تحقيقات في علم الأصول بديعة، وتفكيرات

ص: 3

في تمهيد قواعدها بهيّة.

وإنه (قدّس سِرُّه) كما تشهد به مواضع عديدة من متن الكتاب - ويأتي تفصيله عن قريب - قد ألفها في زمان شيخه الأستاذ، أستاذ المحقّقين، آية اللّه العظمى المحقّق الخراساني صاحب كفاية الأصول (قدّس سِرُّه)، ثمّ جعلها مدار بحثه في دورات مختلفة وسنين متمادية، وزاد على أصلها مطالب جديدة وأبرزها بصورة التعليقة عليها، وفي بعض الأحيان جعلها ضمن متنها.

ولنستمع إلى بيان نبذة من تاريخ حياة المؤلف وهجرتيه إلى إيران، وكيفية أمر تأليف هذا الكتاب وكيفية أمر هذا التعليق والتكميل، إلى ما أفاده شيخ العلماء والمجتهدين صندوق علم أستاذه المؤلف وخزينة سره آية اللّه العظمى الزاهد الورع التقي الزكي الحاج الشيخ محمَّد علي الأراكي " أدام اللّه تعالى ظلّه وأطال بقاه ". (1) قال (دام ظلّه): إن أستاذنا المحقّق المؤلف " طاب ثراه " قد هاجر بعد وفاة سيّده الأستاذ آية اللّه العظمى المجدد الحاج الميرزا حسن الشيرازي، وسيده الأستاذ آية اللّه المحقّق السيّد الفشاركي (قدّس سِرُّهما) حوالي سنة 1316 ه_. ق. إلى بلدة أراك في إيران، وأقام بها طيلة ثمان سنوات، وقد أسس بها حوزة علمية حضرها جم عفير من جهابذة العلم، وألف (رَحمهُ اللّه) جميع المباحث الأصوليّة من المجلّد الثاني، ومبحث مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي والضد من مباحث الألفاظ، حين كان قاطناً في بلدة أراك وكفاية الأصول لم تطبع بعد، ولدلك فقد كان ناظراً في هذه المباحث إلى تعليقة أستاذه المحقّق الخراساني (قدّس سِرُّه) على الفرائد.

ثمّ عند بدء النهضة الدستورية في إيران عاد خفية إلى العراق في سنة 1324 ه_. ق، وحضر مجددا مدة قليلة بحث المحقّق الخراساني في النجف الأشرف، ثمّ هاجر إلى كربلاء المشرفة، وأقام بها حوالي ثمان سنوات، وأكمل بقية المباحث الأصوليّة طيلة إقامته هناك، وكان ناظراً في تلك المباحث إلى ما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية

ص: 4


1- بما أنه (دام ظلّه) وضح هنا كيفية تأليف هذا السفر الجليل والتعاليق العائدة إليه فقد قدمناها على ما سيأتي في نبذة من حياة المؤلف (قدّس سِرُّه).

وكانت مطبوعة حينذاك.

قال (دام ظله): " ولقد كتبت هذه التحقيقات الجديدة الّتي للأستاذ بصورة تعاليق على كتاب الدرر، ثمّ جعل الأستاذ حلقة ولجنة كنت أحضرها في محضره الشريف، وأقرأ ما كتبته عليه فيصححها ويصوبها، وكثيرا ما يلخص عبارتها، رغبة منه (قدّس سِرُّه) في إيجاز العبارات، وحذراً من الإطناب الممل، وربما غير بعض عبارات المتن وجعل التعليقة في أصل الكتاب، وربما عدل عما اختار في المتن إلى رأي آخر جعل في الهامش، وفرزت هذه التحقيقات والتعليقات بالصورة النهائية على ما يرضاها شيخنا الأستاذ، وقد تم أمر البحث عن المباحث اللفظية على هذا المنوال، وأدام بعدها أيضاً هذه الجلسات، إلا أنه عاقه عن تتميم المرام بعض حوادث تلك الأيام، إلى أن دعا اللّه تعالى أستاذنا إلى جواره، فلبى ربه الكريم، و " لدى الكريم حل ضيفا عبده " (1) وحرمنا الاستضاءة بأنوار أفكاره " طيب اللّه ثراه وقدّس أسراره ". إلى هنا تنتهي خلاصة ما أفاده آية اللّه العظمى الأراكي " مدّ ظلّه العالي ".

ثمّ إنه قد ظهرت هذه التعليقات والتحقيقات ضمن المجلّد الأوّل من الكتاب، الحاوي لمباحث الألفاظ، وطبعت في حياة المؤلف المحقّق، وهي الطبعة الثالثة من الكتاب، المطبوعة سنة 1355 ه_. ق.

وأما بقيّة هذه التحقيقات فقد بقيت محفوظة عند آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي " أدام اللّه تعالى ظلّه العالي " وقد تفضل (دام ظلّه) على المؤسّسة - على ما كان هو المأمول من سماحته - فجعل هذه التعليقات مع ضمائم أخر مباركة باختيارنا، فوجدنا أنها متعلّقة بمباحث القطع والظن، فكتبناها وجعلناها في موضعها من الكتاب. وهذه التحقيقات جميعها تعليقات وضعناها ذيل صفحات الكتاب، إلا موضعاً واحداً، وهو آخر البحث عن قيام الأمارات والأصول مقام القطع، فان فيه تغيير عبارة المتن، فجعلنا هذه العبارة المحقّقة هو الأصل والمتن، وجئنا بالعبارة السابقة

ص: 5


1- هذه الجملة تاريخ وفاة المؤلف المحقّق (قدّس سِرُّه) بحساب الجمل الكبيرة، وهي سنة 1355 ه_. ق.

في الذيل فلعلها لا تخلو عن إفادة.

ثمّ إنّ لآية اللّه العظمى الأراكي " مد اللّه تعالى ظلّه العالي " تعليقات وتحقيقات أصوليّة على كتاب الدرر، في مباحث الألفاظ، والأصول العمليّة، ومبحث التعادل والترجيح، قد تفضل بها على المؤسّسة، وجعلها تحت تصرفها، وهذه التعليقات والتحقيقات، ما كانت منها متعلقة بمباحث الألفاظ وضعناها مستقلة عن متن الكتاب، وجئنا بها بعد انتهاء المجلّد الأوّل، ورمزنا في متن الكتاب رقماً منجماً في موارد التعليقة، ليكون تنبيهاً عليها، وأفردنا هذه التحقيقات والتعليقات عن المتن لجهات ثلاث:

1 - اشتمال الكتاب على تعليقات المحقّق المؤلف (قدّس سِرُّه) فرأينا أن الإتيان بهذه التعليقات أيضاً ربّما يوجب تشويش ذهن القارئ.

2 - إنّ هذه التعليقات ربّما كانت مطولة جداً، تزيد على المتن بكثير، لاشتمالها على مطالب جديدة ونكات لم يتعرض لها في المتن، فكان إفرادها أولى.

3 - إنّ قسماً من هذه التحقيقات لم يكن بصورة التعليقة على الكتاب - وإن كان ناظراً إلى ما تضمنه - بل هو بصورة مستقلة، فلذلك لا يمكن إدراجها بصورة التعليقة في ذيل الكتاب، فأفردناها جميعها في آخر المجلّد الأوّل استطراداً. هذا بالنسبة إلى ما يتعلق من هذه التحقيقات بمباحث الألفاظ المجموعة في المجلّد الأوّل.

وأما تعلّقت منها بمباحث الأصول العمليّة ومبحث التعادل والترجيح، فحيث لم يكن للمؤلف المحقّق (قدّس سِرُّه) تعليقات على هذه المباحث، وكانت جميعها في صورة التعليقة المجملة، فلذلك أدرجناها في هامش الكتاب بصورة تعليقات في ذيل الصفحات، مشيرين في المتن برقم إلى موضع التعليقة، ورمزنا في آخر كلّ تعليقة برمز مختصر إلى اسمه الشريف، وكذلك فعلنا مع تعليقات المؤلف المحقّق (قدّس سِرُّه).

ثمّ إنّ الكتاب لما كان خالياً عن بحث " الاجتهاد والتقليد " وقد كتب آية اللّه العظمى الأراكي " مدّ ظلّه العالي " ما أفاده أستاذ المحقّق في ذلك البحث، في رسالة بصورة مختصرة مناسبة لوضع الكتاب، فزاد (دام ظلّه) في منه علينا، وأذن في طبع هذه الرسالة في آخر الكتاب.

ص: 6

فصارت - وللّه الحمد - موسوعتنا هذه كاملة كافلة بهذه المزايا والنكات والتحقيقات.

طبعات الكتاب طبع كتاب " درر الفوائد " قبل هذا أربع طبعات:

1 - الطبعة الحجرية، وقد طبع المجلّد الأوّل منه في سنة 1337 ه_، والمجلّد الثاني منه في سنة 1338 ه_ بجهد العلّامة الحجة الحاج السيّد إسماعيل ابن آية اللّه الحاج آغا محسن الأراكي (قدّس سِرُّهما).

2 - الطبعة الحجرية أيضاً، المطبوعة في سنة 1344 ه_، بطهران، في مطبعة " اتحاد ".

3 - الطبعة الحجرية أيضاً، المطبوعة في سنة 1355 ه_، في أواخر حياة المؤلف (قدّس سِرُّه) وكان المطبوع في هذه الطبعة خصوص مباحث الألفاظ منه، وهذه الطبعة أصح طبعات الكتاب وأتقنها، وقد اشتملت - كما أشرنا إليه - على زيادات في ذيل الصفحات، هي تحقيقات جديدة من المؤلف المحقّق (قدّس سِرُّه)، وقد مر شرح أمرها. وهذا الطبعات الثلاث كلها كانت زمن حياة المؤلف " طاب ثراه ".

4 - الطبعة المنضدة بالحروف الرصاصية، وهذه الطبعة طبعت بعد وفاة المؤلف (قدّس سِرُّه)، وهي أيضاً قد اشتملت في مجلدها الأوّل - وهو الحاوي لمباحث الألفاظ - على تعليقات المؤلف، كما في الطبعة الثالثة، ومجلدها الثاني خال عنها كالطبعات السابقة. وهي وإن كانت سهلة التناول للمطالع من جهة طبعها بالحروف الرصاصية، إلا أنها أيضاً مشتملة على أخطاء مطبعية كثيرة، وعلى حذف بعض الكلمات بل عبارات أيضاً. ومع ذلك فقد قام بعض ناشري الكتب بتجديده هذه الطبعة الرابعة بصورة فتوغرافية، لنفاد نسخ الكتاب، وحاجة طلاب العلم إلى تناوله.

الطبعة الخامسة للكتاب ومزاياها والآن فقد قامت مؤسستنا " مؤسّسة النشر الإسلامي " بالطبعة الخامسة للكتاب

ص: 7

وهي مشتملة على مزايا جديدة، ما يلي بعضها:

1 - اشتمالها على تحقيقات وتعليقات المؤتلف (قدّس سِرُّه) على مباحث القطع والظن، بشرح قد مضى.

2 - اشتمالها على تحقيقات وتعليقات لآية اللّه العظمى الأراكي " دامت بركاته " على مباحث الألفاظ والأصول العمليّة ومبحث التعادل والتراجيح، بشرح قد مضى أيضاً.

3 - اشتمالها على رسالة الاجتهاد والتقليد، من إفادات المؤلف المحقّق (قدّس سِرُّه) بقلم آية اللّه العظمى الأراكي " مدّ ظلّه العالي " بالشرح الماضي.

4 - اشتمالها على الأسلوب الأحسن في الطبع، وعلى رعاية المحاسن المطبعية، وإعمال الدقة اللازمة في التصحيح المطبعي.

5 - إعمال الدقة في تصحيح أصل النسخة " متناً وهامشاً ".

كيفية عمليّة التصحيح:

برغم ما بذلناه من الفحص والتفتيش عن خط المصنف (قدّس سِرُّه) لم نعثر عليه، إلا أنه اعتمدنا في تصحيح المتن على نسخة آية اللّه العظمى الأراكي " دامت بركاته " الّتي قد صححها (مدّ ظلّه) بنفسه، مقابلة على نسخة المؤلف (قدّس سِرُّه).

ولما لم تكن مشتملة في أول بعض الفصول على العناوين الخاصّة، زدناها عليها - تبعا في الأكثر للطبعة الرابعة - وجعلناها داخل معقوفتين بهذه الصورة []، كما أنه قد اعتمدنا في تصحيح التعليقات المطبوعة سابقاً على النسخة الخطية الّتي كانت موجودة عند آية اللّه العظمى الأراكي " مدّ ظلّه العالي " وكما أن الاعتماد في التعليقات غير المطبوعة الّتي للمؤلف (قدّس سِرُّه) وفي رسالة الاجتهاد والتقليد وفي جميع تعليقات آية اللّه العظمى " دامت بركاته " كان على نسخة الأصل تفضل بها سماحته، وصورتها الفتوغرافية موجودة في مكتبة المؤسّسة.

وأخبرا ترى هذه المؤسّسة لزاماً عليها أن تقدم شكرها المتواصل لكلّ من حضرة آية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمَّد علي الأراكي (دام ظلّه) إذا أتحفنا بجوانب من

ص: 8

حياة مؤسّس الحوزة العلميّة بقم المقدسة مؤلف هذا الكتاب وكيفية تأليفه له وتنظيمه وإعطاء النسخ الأصليّة أو المصححة الموجودة عنده.

وهذا لسماحة العلّامة حجة الاسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمَّد المؤمن القمي حيث كان له السعي الحثيث في تحقيق الكتاب وتقديمه. وكذلك للعلامة الشيخ محمَّد هادي اليوسفي في تنظيمه لحياة المؤلف (قدّس سِرُّه).

ونسأل اللّه تعالى أن يرزقنا الإخلاص في جميع الأعمال، وأن يتقبل منا بكرمه العميم وأن ينصر جنود الإسلام نصر عزيز مقتدر، ويمدهم بملائكته، ويفتح له فتحا يسيرا، وأن يديم بقاء سيدنا الإمام الخميني إلى قيام مهدي الأمة عليه الصلاة والسلام بدولته الكريمة الّتي يعز بها الإسلام وأهله، وأن يجعلنا من الدعاة إلى طاعته والقادة إلى سبيله، وأن يوفقنا لإحياء آثار كبار علماء الاسلام ورجال مدرسة أهل بيت الوحي والرسالة، آمين.

مؤسّسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة

ص: 9

صورة

الصفحة الأولى من تعليقات آية اللّه الشيخ الأراكي (مدّ ظلّه) على مباحث الألفاظ

ص: 10

صورة

الصفحة الأولى من تعليقات آية اللّه الشيخ الأراكي " مدّ ظلّه العالي " على مباحث البراءة

ص: 11

صورة

الصفحة الأولى من تعليقات المرحوم آية اللّه العظمى الشيخ الحائري (قدّس سِرُّه) على مباحث القطع

ص: 12

صورة

الصفحة الأولى من رسالة الاجتهاد والتقليد بخط مؤلفها آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي (دام ظلّه)

ص: 13

صورة

الصفحة الأخيرة من درر الفوائد " الجزء الأوّل " المصححة على يد آية اللّه الشيخ الأراكي (مدّ ظلّه)

ص: 14

صورة

الصفحة الأخيرة من درر الفوائد " الجزء الثاني " المصححة على يد آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي " أطاله اللّه عمره "

ص: 15

ص: 16

حياة المؤلّف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الشخصيّات الخالدة:

إن عجلة الزمن في دورانها المستمر لا تلف في طياتها أشخاصا بارزين فحسب، بل حتّى كثيراً من آثارهم، فلا يبقى منها أتر يذكر. ولكن يستثنى من هذه السنة الطبيعية أولئك النماذج الانسانية الذين تقربوا بأعمالهم إلى ربهم حتّى كانوا من أوليائه، فإنهم لعظمتهم وصلابتهم يستثنون من هذه السنة الطبيعية الجارية، فهم كما قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): " باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة " (1) فكأنهم مستثنون ممّا يروى عن الرسول الكريم: " إن الشمس والقمر يبليان كلّ جديد ". هؤلاء هم رجال العلم والفضيلة، الذين يخلدون في ذاكرة الناس بما يقدمون لهم من خدمة صادقة مخلصة.

آية اللّه العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري:

ومن هؤلاء النماذج النادرة مؤسس الحوزة العلميّة بمدينة قم المشرفة المرحوم آية اللّه العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي المهرجردي الميبدي (قدّس اللّه سرّه) فهو من الأحياء الخالدين الذين لا تنسى الخواطر ذكرهم.

في سنة 1276 ه_. ق في قرية " مهرجرد " من نواحي ميبد في محافظة يزد، وفي وسط عائلة مؤمنة تعمل في حقل الزراعة، فتح عينيه على الحياة وليد - قدم في مقتبل حياته

ص: 17


1- نهج البلاغة، القسم الثالث: قصار الحكم، الكلمة: 147 ط. صبحي الصالح.

خدمات مهمّة وقيمة إلى الأمة والثقافة الإسلامية، وأصبح له حقّ عظيم على علمائنا وحوزاتنا العلميّة - هو المرحوم آية اللّه العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلميّة بمدينة قم المقدسة.

قال شيخ المشايخ العظام آية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمَّد علي الأراكي " دام ظلّه العالي ": " إن للمترجم له قصة عجيبة من بدء تكونه، وكان حدوثه بخرق العادة ودعاء أبيه. وبقاؤه أيضاً بدعاء أبي عبد اللّه الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكيفية حمل أمه به تشبه الإعجاز، وهو إن أباه محمَّد جعفر لم يرزق ولداً رغم مرور سنوات على زواجه، فتزوج أخرى بالعقد المنقطع رجاء انجاب ولد منها، وفي ليلة دخوله بها، أيقظت بنتا لها من زوجها السابق وأخرجتها من البيت، فكانت الطفلة تبكي لذلك، فرق قلبه عليها، وتوجه بالدعاء والتضرع إلى اللّه عز وجل بقلب منكسر حزين قائلا: اللهم أنت القادر على أن تهب لي ولداً من زوجتي الأولى حتّى لا أكون سبباً لإيذاء وبكاء هذه الطفلة اليتيمة، فاستجاب له ربه، ووهب له من من زوجته الأولى هذا الولد المبارك ".

دراساته ورحلاته:

في أردكان ويزد: تعلم مبادئ العلوم العربية والإسلامية في بلدة أردكان في محضر مجد العلماء الأردكان وغيره، ثمّ انتقل إلى مدينة يزد فدخل " مدرسة الخان " والتحق بحلقة تلامذة المرحوم الحاج السيّد ميرزا حسين وامق والسيّد يحيى المجتهد اليزدي الكبير.

في سامراء: قال السيّد الأمين في " أعيان الشيعة: " فكان تتملذه (أي المرحوم الشيخ عبد الكريم) في المتون على العلامين الميرزا إبراهيم الشيرواني المحلاتي الشيرازي والحاج الشيخ فضل اللّه نوري، وفي الأبحاث الخارجة على العلّامة السيّد محمَّد الفشاركي الإصبهاني (1).

وحكى آية اللّه العظمى الأراكي (دام ظلّه) إنه (قدّس سِرُّه) حين إذ ورد

ص: 18


1- أعيان الشيعة، ج 8، ص 42، طبعة دار التعارف.

العراق ورد أُمّه على الفاضل الأردكاني بكربلاء، ولما كان المؤمن ينظر بنور اللّه فقد تفرس فيه الخير والمستقبل الجيد، فكتب كتاباً إلى سامراء إلى العلّامة الحجة آية اللّه العظمى المؤسس الحاج السيّد الميرزا حسن الشيرازي (قدّس سِرُّه) كتب فيه ما كتب ممّا وجد فيه من آثار النبوغ وشطرا وافيا ممّا تفرس منه، وأوصى إلى السيّد بمراعاته وتهيئة أموره في التحصيل والمعاش، فلما قرأ السيّد الكتاب تولى أموره وأسكنه في دار مع ولده الحاج ميرزا على آغا، فكان يقرأ العلوم مع ولده تحت رعاية الميرزا ومراقبته التامة، حتّى عُدّ من خواص أهل بيته وكواحد من أولاده.

في النجف الأشرف: قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في " طبقات أعلام الشيعة " ما مضمونه: وحضر [في سامراء] على السيّد المجدد الشيرازي والميرزا محمَّد تقي الشيرازي وغيرهما، فقد لازم حلقات دروسهم سنوات طويلة. وبعد وفاة المجدد هاجر السيّد الفشاركي إلى النجف الأشرف فصحبه المترجم له وظل ملازما لدروسه إلى أن توفي في سنة 1316 ه_. ق، فلازم درس الشيخ محمَّد كاظم الخراساني وكان من أجلاء تلاميذه وبارزي حوزة درسه.

في كربلاء: وهبط كربلاء قبل وفاة الخراساني، فالتف حوله عدد من الطلاب فاشتغل بالتدريس والإفادة، وكان الميرزا محمَّد تقي الشيرازي حينئذٍ في كربلاء يجله ويشير إليه ويعترف بفضله ومكانته حتّى أنه أرجع احتياطاته إليه، فألفت بذلك إليه الأنظار وأحله مكانة سامية في النفوس.

حوزته في أراك: وفي أوائل سنة 1333 ه_. ق سافر إلى إيران لزيارة مشهد الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، في خراسان، وتلقى دعوة من بعض وجوه أراك للإقامة عندهم، فهبط " سلطان آباد " المسماة اليوم ب " أراك "، وكان هناك بعض أهل العلم فعنى بتدريسهم وتنمية مواهبهم، فكان أن ازداد عددهم وبلغ نحو ثلاثمائة طالب علم، وأقبل الطلاب عليه وأصبحت المدينة مركزا ثقافيا وعلميا على بساطتها. ولما انتقل الشيخ محمَّد كاظم الخراساني إلى (رَحمهُ اللّه) راجع الشيعة في التقليد السيّد محمَّد كاظم اليزدي المتوفى سنة 1337 ه_، والشيخ الميرزا محمَّد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1338 ه_، وشيخ الشريعة الإصفهاني المتوفى سنة 1339 ه_، واتجه إليه أيضاً عدد من

ص: 19

المقلدين وحاز ثقة العامة فضلا عن الخاصّة (1).

وقال: وقد سمعت على عهد شيخنا الشيرازي أنه طلب إلى المترجم له ان يعود إلى النجف بعد وفاة السيّد اليزدي في 1337 ه_ لينص عليه ويحمله أعباء المرجعية، لولا أن حال دون ذلك انتقال الشيرازي إلى رحمة اللّه في سنة 1338 ه_ (2).

هذا ما يوجد في كتابي أعيان الشيعة وطبقات أعلام الشيعة في كيفية إقامة المترجم له بكربلاء المشرفة وهجرته إلى أراك إيران وتأسيس الحوزة بها.

إلا أنّ شيخ المشايخ العظام آية اللّه العظمى الأراكي قد نقل الأمر في هجرته إلى إيران وإقامته بكربلاء على مزيد من ذلك وإليكم نص مقاله:

قال (دام ظلّه): إن أستاذنا المحقّق المؤلف " طاب ثراه " قد هاجر بعد وفاة سيده الأستاذ آية اللّه العظمى المجدد الحاج الميرزا حسن الشيرازي وسيده الأستاذ آية اللّه المحقّق السيّد الفشاركي (قدّس سِرُّهما) حوالي سنة 1316 ه_. ق إلى بلدة أراك في إيران وكان ذلك بان التمس العلّامة السيّد محمود الأراكي من المرحوم الشيخ الحائري أن يهاجر إلى بلدة أراك فأبى ذلك لسببين: الأوّل ممانعة أستاذه الآخوند والآخر ممانعة أمه لأنها جاورت العتبات المقدسة في كربلاء لتدفن فيها، ولكن السيّد أصر على ذلك واستطاع أن يقنع الآخوند الخراساني وكذا والدة الشيخ الحائري فها جز الشيخ إلى أراك سنة 1316 ه_. ق وأقام بها طلية ثمان سنوات، وقد أسس بها حوزة علمية قد حضرها جم غفير من جهابذة العلم وألف (رَحمهُ اللّه) جميع المباحث الأصوليّة من المجلّد الثاني، ومبحث مقدمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي والضد من مباحث الألفاظ حين كان قاطنا في بلدة أراك، وكفاية الأصول لم تطبع بعد، ولذلك فقد كان ناظراً في هذه المباحث إلى تعليقة أستاذه المحقّق الخراساني (قدّس سِرُّه) على الفرائد. ثمّ عند بدء النهضة الدستورية في إيران عاد مرة أخرى خفية إلى العراق في سنة 1324 ه_. ق، وحضر مجدداً مدّة قليلة بحث المحقّق الخراساني في النجف الأشرف، ثمّ هاجر إلى

ص: 20


1- طبقات أعلام الشيعة: ج 3، ص 1158، 1159.
2- طبقات أعلام الشيعة: ج 3، ص 1164.

كربلاء المشرّفة، وأقام بها حوالي ثمان سنوات، وأكمل بقية المباحث الأصوليّة طيلة إقامته هناك وكان ناظراً في تلك المباحث إلى ما أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية وكانت مطبوعة حينذاك، ثمّ هاجر هجرة ثانية إلى إيران بلدة أراك، بدعوة العلّامة الحجة الحاج السيّد إسماعيل ابن المرحوم آية اللّه الحاج الآغا محسن الأراكي (قدّس سِرُّهما) وأنشأ مجددا حوزة علمية، وأفاد إفادات كثيرة مدة ثمان سنوات تقريبا، ثمّ هاجر في سنة 1340 ه_. ق. إلى بلدة قم المشرفة، وأسس بها الحوزة العلميّة المباركة.

حوزته في قم المقدسة: وقال صاحب أعيان الشيعة: ثمّ زار (أي الشيخ عبد الكريم رحمه الله) مدينة قم المباركة، فاتفقت رغبات جماعة من أهلها وغيرها على إقامته فيها، فسألوه ذلك، فأجابهم وبقى هناك مشتغلا بالتدريس وسائر الأمور الدينية، فتقاطر إليه الطلاب من كلّ حدب وصوب، وغصت بهم المدارس حتّى زاد عدد الطلاب والعلماء على الألف، وقام بأعباء تنظيم دراستهم وإعاشتهم، واتخذ في تربية الطلبة وتعليمهم مسلكاً صحيحاً على أتقن نظام وأحسن أسلوب، حاز شيئاً كثيراً من القبول عند العامة والخاصّة (1).

وفي " طبقات أعلام الشيعة ": هبط (المترجم له) مدينة قم المشرفة في شهر رجب سنة 1340 ه_، فنظم من كان فيها من طلاب العلم تنظيماً عالياً وأعلن عن عزمه على جعلها مركزاً علميّاً يكون له شأنه في خدمة الإسلام وإشادة دعائمه، وطفقت الحقوق الشرعية والهبات تتوالي عليه من شتى مدن إيران فوسع العطاء على الطلاب والعلماء وبذل عليهم بسخاء، وسن نظاما للدراسة وقرر ترتيباً مقبولا للإشراف على تعليم الطلاب وإجراء الامتحان السنوي، وأكثر من الترغيب بغية اجتذاب الناس وإدخال من يرغب في الحوزة العلميّة، والناس - بحمد اللّه - منذ ذلك الحين ذو عقيدة راسخه وإيمان ثابت واهتمام بشأن الدين ورجاله واحترام لحملته وطلابه، وقد أبدى في كلّ ذلك كياسة وكفاءة، ودلل على عقلية جبارة، ونفس كبيرة، وصدر رحب ولم يكن ليكنز الأموال الطائلة من الحقوق الشرعية عنده وتحت يده، بل ائتمن بعض

ص: 21


1- أعيان الشيعة: ج 8، ص 42، طبعة دار التعارف.

أصحاب المتاجر من الصلحاء عليها، وكان يصدر أمره بتوزيعها من قبله على مستحقّيها وعلى سائر المشاريع المخصصة لها (1).

قال آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي (دام ظلّه): أنا أعتقد أن حدوث الحوزة العلميّة بقم، وإجراء ما أخبر الأئمة المعصومون " (عَلَيهِم السَّلَامُ) " من غروب العلم من الكوفة وطلوعه في قم على يد المرحوم الشيخ عبد الكريم كان من بركات وعنايات سيّد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ). وحكى في ذلك قصة عجيبة، والقصة هكذا: حكي عن الحجة الحاج آغا حسن فريد عن أبيه الحجة الحاج آغا مصطفى زميل المترجم له (قدّس سِرُّهما) أن المترجم له (رَحمهُ اللّه) رأي ليلة - حينما كان قاطناً في كربلاء قبل هجرته الثانية إلى أراك وقم - أنه (رَحمهُ اللّه) لم يعتن بذلك ونسيه، وكان مشتغلا باشتغالاته العلميّة، حتّى إذا كان يوم الخميس خرج مع عدة من زملائه إلى البساتين الّتي حول كربلاء ولم يلبث هناك شيئاً حتّى أخذه البرد الشديد وارتعدت فرائصه ولم يمنعه عن البرد لبس الألبسة، فأركبوه ووصل البيت بشق النفس وهو على أرد، حال.

ثمّ اشتد مرضه حينا بعد حين حتّى يئسوا منه، ووجد نفسه في حالاته الاحتضار إذ جاءه الملك الموكل بقبض الأرواح لقبض روحه، فتذكر ما رأي في المنام، فتوجه في تلك الحالة إلى حضرة سيّد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) قائلاً: يا أبا عبد اللّه أعلم أن الموت حقّ ولكن يدي صفر من الزاد ليوم المعاد. ألتمس منك الدعاء لتمديد عمري إلى أن أستعد لمقري وأعد له عدة، فجاء ملك آخر وقال للأول: إرفع يدك عنه فقد مد في عمره بدعوة أبي عبد اللّه الحسين، فوجد في نفسه قوة وطلب الماء وفرح أهله والحاضرون حوله ممّا رأوه فرحا شديداً، بعد ما كانوا قبل لحظات يبكون عليه. ثمّ زال المرض عنه بسرعة من غير معاجلة.

وكان الشيخ الحائري (رَحمهُ اللّه) متمسكاً بالأئمة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وكان في مقدمة من خرج من أهل العلم بأمر السيّد الشيرازي في أيام عاشوراء، وهو يردد أشعاراً

ص: 22


1- طبقات أعلام الشيعة: ج 3، ص 1159، 1160.

عليهم كان مطلعها:

يا علي المرتضى غوث الحجي كهف الورى *** قم مغيثا، آلك الأمجاد عن الظبي

فرأي الإمام المظلوم أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أعطاه شيئاً من السكر (نقل)، وكان عذوبة بيانه في الدرس وحلاوة محضره في خارج الدرس من آثار تلك العناية الحسينية. " انتهى كلام آية اللّه العظمى الأراكي ".

سمت مكانة الحائري في نفوس الشعب الإيراني المسلم وغيره وغطت شهرته علماء إيران على الإطلاق، وصارت قم شرعة الوارد ونجعة الرائد، وثنيت له وسادة الزعامة وألقيت إليه مقاليد الأمور، وأناط به أهل الحل والعقد ثقتهم، وأجمعوا على تقديمه وتعظيمه. وقد اتفقت بعض الوقائع والحوادث في أوائل هجرته إلى قم ساعدت على دعم شخصيته وبناء كيانه وإبرازه إلى الوجود كزعيم روحي له وزنه ومقامه.

إبعاد علماء العراق: منها: أن المصلح الكبير الحجة المرحوم الشيخ مهدي الخالصي عند ما احتج على الاستكبار البريطاني لعدم وفائه بما قطع على نفسه من الوعود للشعب العراقي بالاستقلال نفته الحكومة العراقية في 12 ذي القعدة سنة 1341 ه_ إلى إيران، فنهض العلماء تأييداً له واحتجوا على تبعيده فقامت الحكومة الملكية العلميّة بنفي مجموعة منهم أيضاً، منهم الحجج السيّد أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا محمَّد حسين النائيني، والسيّد على الشهرستاني، والسيّد عبد الحسين الحجة وغيرهم من العلماء واحتج آخرون على نفي هؤلاء العلماء فخرجوا من العراق مغضبين.

زار الشيخ الخالصي مدينة قم ورحل منها إلى خراسان فسكنها إلى وفاته، وتفرق الآخرون في البلاد. أما الأصفهاني والنائيني فقد كانا يومئذ أكبر علماء النجف وأشهر مراجعها فاستقبلا من الحدود من قبل مختلف طبقات الشعب، وفي طليعتهم العلماء، وأمر الحائري رجال العلم باستقبالهم على مسافة من قم، وجاء أحمد شاه القاجاري إلى قم ومعه رجال دولته، فصار دار الحائري مهبطا لهم.

[قال آية اللّه العظمى الأراكي: " إنما جاء أحمد شاه إلى قم قبل مجيئهما، وأما عند مجيئهما فقد جاء من قلبه رضاخان وكان حينذاك رئيس الوزراء لأحمد "].

ص: 23

تولى البهلوي بعد القاجارتين السلطة، وكان لتولى البهلوي تأثير بارز في تقليص جهود الحائري والحد من نشاطه، إذا رافقت ذلك أحداث ووقائع جسام، وكانت سيرة البهلوي الخائن واضحة في عزمه الأكيد وتصميمه على القضاء على الدين ومحو كلّ أثر لرجاله وشعائره ورسومه، فقد سجن العلماء الكبار ونفى عددا منهم ودس السم لآخرين وفعل الأفاعيل من قزوين إلى دست الحكم في طهران بغتة، لقد كان يعلم جيداً أن السلطة كانت تستمد قوتها من الأجانب الذين لا هم لهم إلا القضاء على الدين الإسلامي الحنيف ومحو تعاليمه وقبر دستوره المقدس " القرآن الكريم " فهم يطالبون بثاراتهم والخسائر الّتي منوا بها في الحروب الصليبية الّتي شنوها ضد المسلمين، كما ظهر للعالم صدق هذه الحقيقة بعد عشرين عاماً تقريبا عند ما نحي البهلوي عن الحكم وأبعد في سنة 1361 ه_.

أجل، لقد كان الحائري يعرف خفايا الأمور وأسرارها الدقيقة، ويعلم أن المخطط الذي رسمه أسياد ذلك الطاغية سينفذ لا محالة. وكان يرى نفسه واحداً من المراجع الذين لا يتورع الطاغية من سجنهم أو دس السمّ لهم، أو خنقهم في غربة النفي أو قعر السجون.

وكانت هناك حوزات علمية صغيرة في خراسان وطهران وتبريز وإصفهان وغيرها من بلاد إيران، تمكن الحاكمون من تفريق شملها والقضاء عليها، وبقى همهم منصرفا للقضاء على حوزة قم. إلا أن حنكة الحائري وإخوانه وصبرهم على المكاره وتحملهم للصعاب قد حال دون ذلك، وقد كان في قم على عهد الحائري من العلماء الكبار عدد غير قليل، منهم: الشيخ أبو القاسم الكبير، والشيخ أبو القاسم الصغير، والميرزا جواد الملكي، والسيّد حسين الكوچه حرمي، والميرزا صادق التبريزي، والسيّد فخر الدين القمي (شيخ الإسلام)، والميرزا محمَّد الكبير، والميرزا محمَّد الفيض، والشيخ مهدي القمي، والسيّد محمَّد باقر القزويني، والشيخ محمَّد تقي الإشراقي، والشيخ محمَّد تقي البافقي اليزدي، والشيخ محمَّد علي الحائري، والشيخ نور اللّه الإصفهاني، وعشرات غيرهم ممن أسهم بقسط كبير في التدريس وفي مساندة ودعم الشيخ الحائري ومشايعته في الرأي. وقد تعرض معظم من ذكرناهم لصنوف الإرهاب والتعذيب من لدن الملك

ص: 24

الجاهل وحاشيته وحكومته الجائرة، كلّ ذلك من أجل هدم ما بناه الشيخ وإضعافه.

وكان الشيخ واثقا بأنه هو المقصود، وان تلك الاستفزازات تستهدف شخصه، فقد كانوا يستفرونه بين الآونة والأخرى لعلهم يجدون ذريعة يحتجون بها عليه، ليواجه المصير المرسوم، في وقت لا تتوقر فيه إمكانيات المواجهة والتصدي لكنه كان يقظا على ذلك وغير غافل عنه.

وفي ذلك الوقت، وتلك الظروف السوداء قاوم هذا العالم المخلص ديكتاتورية الملك وإباحيته، ووقف في وجهه مجنداً كلّ إمكانياته و قابلياته، موطنا نفسه للعظام، ومضحيا في سبيل دعوته بكل ما يملك. ولم تفت في عضده أو توهن من عزمه أو تسرب اليأس والقنوط إلى نفسه كلّ تلك المحاولات اللئيمة، والمساعي الخبيثة الّتي بذلها سماسرة السوء وزبانية الشر، وأعداء الدين والخير والفضيلة، وهكذا بقي يقاوم كلّ ما يعترض طريقه من عقبات وعراقيل، حتّى كلل سعيه بالنجاح وانتصر، وباء خصومه بالصفقة الخاسرة، وعادوا يجرون أذيال الفشل " وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ " (1).

أجل؛ في هذه الظروف كان الحائري يعمل على توسيع دائرة الحوزة العلميّة في قم ونشر الدعوة ودعم هيكل الدين وإشادة مجد الإسلام بتنفيذ أحكامه وتطبيق نظامه. وهكذا نمت البذرة الصالحة في تلك التربة الطيبة، واتسعت الحوزة العلميّة إتساعا غير منتظر. وما مضت السنوات والأعوام حتّى إزدهرت الحياة الدينية والثقافية، وتعددت الهيئات العلميّة. وإذا بالكيان الذي شادته البطولات الخارقة والهمم العالية، ضخما جبارا يضاهي الثريا رفعة وشموخاً.

كان (قدّس سِرُّه) كثير البر بالطلاب والعلماء، شديد العطف عليهم والعنابة بهم، ويرعى الصغير والكبير. وبالرغم من تعيينه لموزعي الرواتب وتوكيله للثقات من أصحابه وتلامذته للقيام باللوازم والاستفسار عن النواقص، مع ذلك كان يتولى بعض الأمور بشخصه ويباشرها بنفسه. وكان أعد لهم كلّ شئ قد يحتاجون إليه، حتّى أنه

ص: 25


1- سورة فصلت: الآية 16.

بني مستشفى خاصّاً لطلاب العلم (1) ليشعرهم بالكيان المستقل والكرامة الموفورة الّتي كانوا يتمتعون بها. وفي الوقت الذي كان فيه رجال السياسة والأمراء والقادة والتجار يتهافتون على بيته للثم أنامله وعرض أنفسهم لخدمته، كان (رَحمهُ اللّه) يدور على غرف الطلاب بمفرده للاطلاع على أحوالهم وأساليب معيشتهم، والوقوف على مدي عنايتهم بالدرس والمطالعة. فكان يحث الكسالي ويشوقهم، ويمدح النشطين، ويمنح المتفوقين في الامتحان جوائز قيمة. وكان يوصي الكل بالإخلاص في العمل والالتزام بتقوى اللّه تعالى، ولم يسمع عنه - رغم كثرة من كان يعولهم من الطلاب - أنه رد طالباً، أو كسر خاطراً، أو أخجل إنساناً، ولذلك كان الكل ينظرون إليه نظرتهم إلى الأب الرؤوف.

لماذا لم يقم بالثورة؟

كان الحائري من أشد المسلمين غيرة على نواميس الشرع الشريف، وقد تفاني في خدمة الدين منذ نعومة أظفاره، وبذل نفسه ونفيسه في سبيل ذلك، ولا قي من المتاغب والأذى ما ألمحنا إلى بعضه. ولم يكن فيه جبن ولا تخاذل، وقد كان يرى بأم عينيه ما يجري على مقربة منه، ويسمع أصوات الاستنكار مرتفعة من كلّ جانب، ولكنه كان يرى نفسه واحداً من سائر المراجع، لو قام بالثورة في وجه الطاغية لما اختلف مصيره عن زملائه، ولذلك رأي أن صبره وسكوته أفضل ما داموا قد تركوه لحاله، وأن ذلك أبقى للعمل الذي أوقف نفسه له، وأنفع للكيان العلمي الذي بدأ يرسخ ويقرب من الكمال، وكان عمله هذا عين الصواب، والأمور مرهونة بأوقاتها. وهكذا ظل كالطود الأشم يدير ذلك الكيان، ويدرأ عنه المخاطر، ويرد عنه غائلة العدو رغم الكوارث والهنابث الّتي كانت تنزل بالشعب الإيراني المسلم على يد حاكمه الجبار يوما بعد يوم، ولا سيّما ما ينزل برجال الإصلاح والصلاح، فكان يرى كبار العلماء من

ص: 26


1- وذلك في عام 1353 ه_. أي قبل وفاته بعامين، من ثلث المرحوم سهام الدولة. ولذلك سمي: مستشفى السهاميه، كما في تاريخ قم: صفحة 276 ويقع بين مستشفى فاطمية وثانوية الإمام الصادق ((عَلَيهِ السَّلَامُ).

زملائه يعانون آلام النفي والسجن، ويعاملون بمنتهى القسوة، ويدس لهم السم في المنفى ويموتون خنقا في السجون (1). ويرى السفور وقد فرض على المحجبات وذوات العفة والنجابة فرضاً. وطلاب العلوم الدينية يساقون إلى الخدمة العسكرية زرافات ووحداناً، والخمور تباع علنا حتّى في المدن المقدسة كخراسان وقم وبالقرب من المراقد الطاهرة. وغراء سيّد الشهداء وزيارة قبور آل محمَّد بالعراق محظورة يعاقب عليها، وأخيرا واقعة خراسان الّتي قتل فيها ألوف من العلماء والسادة والأشراف والزوار والغرباء في " مسجد گوهرشاد " الملاصق لحرم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث وجهت المدافع إليهم فدفنوهم بدمائهم ظلماً وعدواناً... لقد كان يرى ذلك كلّه بعينه أو يسمعه وقلبه يقطر دماً، لأنه لا يستطيع دفع الضر، وكانوا - مع ذلك - يبدون له الاحترام ظاهراً ويجاملونه، وكان هو يحافظ على الشكليات ليدفع بها الشر عن الباقين في بعض الحالات (2).

وقال السيّد الأمين: " نزلنا في داره سنة 1353 في قم، فأنا بنا عنه في صلاة الجماعة في الصحن الشريف مدة مقامنا بقم. وكان في مدرسته في قم نحو من 900 طالب، يجري على أكثرهم الأرزاق. وقد انحصرت الرئاسة العلميّة فيه في وقته في بلاد إيران وقلد فيها. عاشرناه مدّة مقامنا عنده فوجدناه رجلاً قد ملئ عقلاً وكياسة وعلماً وفضلاً، ومن وفور عقله أن الأموال كانت تحبي إليه من أقاصي إيران فيضعها عند بعض التجار ويصرفها على الطبة بواسطة ذلك التاجر، ويأخذ لنفسه معاشا معينا منها، وهذا دليل على وفور عقله. وكان قد جاء سيل إلى قم قبيل ورودنا إليها فأتلفت دورا كثيرة تقدر بثلاثة آلاف دار، فأرسل البرقيات إلى كافة جهات إيران بطلب الإعانات. فجاءه من الشاه من طهران عشرة آلاف تومان أحضرها الرسول ونحن على الغداء فلم يمسها، وقال له: إدفعها للتاجر الفلاني، واختار لجنة تألفت من حاكم البلد وجماعة من وجهائها تجتمع كلّ ليلة برئاسته للنظر في كيفية توزيع الإعانات " (3).

ص: 27


1- كالشهيد السيّد حسن المدرس الذي سموه ثمّ خنقوه بعمامته.
2- طبقات اعلام الشيعة: ج 3 ص 1160 - 1165.
3- أعيان الشيعة: ج 8، ص 42، ط دار التعارف.

ولعلّ قبوله لإعانة الشاه واشراكه حاكم البلد في لجنة توزيع الإعانات من تلك الشكليات الّتي قال عنها آغا بزرك الطهراني انه كان يحافظ عليها ليدفع بها الشر عن الباقين في بعض الحالات، ولهذا كانوا يبدون له الاحترام ويجاملونه في الظاهر.

وفاته، وآثاره:

قال آغا بزرك الطهراني: وصار يرغب للعزلة وينزوي عن الناس، لأنه يرى ما يحل بهم ولا يقدر على مساعدتهم، وهكذا كان حتّى مرض وتغلبت عليه العوارض فتوفى في ليلة السبت 17 ذي القعدة الحرام سنة 1355 ه_ فثلم الاسلام بموته، وخسر المسلمون به زعيما كبيراً وركنا ركينا، وداخل النفوس من الخوف والهلع ما لا مزيد عليه، إذ كانوا يعتصمون ويستظلون بظله، وقد جرى له تشييع عظيم قل نظيره. ودفن في رواق حرم فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) بقم، حيث مقبرته المعروفة اليوم. وقد إتجهت نية الحاكمين إلى محاربة الهيئة العلميّة منذ اللحظات الأولى لموته، فقد عمدوا إلى تفريق المشيعين بسرعة، ثمّ منعوا من إقامة الفواتح عليه علنا، فكانت تقام في الزوايا والبيوت شهوراً.

وترك الحائري من الآثار:

كتاب الصلاة في الفقه، والتقريرات في أصول الفقه من بحث أستاذه الفشاركي، وقد استخرج منه كتابه الآخر درر الأصول (1)، وهو حاو لمباحث الأصول برمتها ما عدا الاجتهاد والتقليد، ويقال له: درر الفوائد أيضاً. وقد طبع مجلده الأوّل في سنة 1337 ه_، وهو هذا الكتاب الذي نقدم له.

ص: 28


1- وقد ذكر المرحوم العلّامة الشيخ محمَّد رضا الطبسي على ظهر نسخة من الكتاب ما هذا لفظه: " سمعت منه " طاب ثراه ": أن الجزء الأوّل استفادة من مجلس السيّد المرحوم العلّامة السيّد محمَّد الفشاركي الأصفهاني، والجزء الثاني استفادة من مجلس المحقّق المرحوم الآخوند الخراساني صاحب الكفاية " أعلى اللّه مقامهم " وكان (رَحمهُ اللّه) يذكر الآخوند في الدرس بالتعظيم والتجليل ".

أولاده:

قال: وله من الأولاد: الشيخ مرتضى، وهو أحد علماء قم المعروفين (1). والشيخ مهدي، وقد أرسله المرحوم السيّد البروجردي (قدّس سِرُّه) وكيلا عنه إلى واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية مرشدا للمسلمين هناك (2).

مصادر ترجمته:

قال: وقد ذكر المترجم له وكتب في ترجمة أحواله ورحلاته ورئاسته للحوزة العلميّة مفصلا صاحب " آئينه دانشوران " المطبوع جزؤه الأوّل في سنة 1353 ه_. وألف الفاضل الشيخ محمَّد الرازي كتاب " آثار الحجة - يا - تاريخ ودائرة المعارف حوزه علميه قم " في جزءين طبعا في سنة 1373 و 1374 ه_ خص الجزء الأوّل به وبسيرته وبزملائه إلى وفاته، والثاني بالسيد البروجردي وأعماله وتلامذته " (3). وأرخ وفاته الحجة السيّد صدر الدين الصدر (قدّس سِرُّه) بأبيات نحتت على صخرة قبره قال فيها:

عبد الكريم آية اللّه قضى *** وانحل من سلك العلوم عقده

أجدب ربع العمر بعد خصبه *** وهد أركان المعاني فقده

كان لأهل العلم خير والد *** وبعده أمست يتامى ولده

كوكب سعد سعد العلم به *** دهرا وغاب اليوم عنه سعده

في شهر ذي القعدة غاله الردى *** بسهمه يا ليت شلت يده

دعاه مولاه فقل مؤرخا *** (لدى الكريم حل ضيقا عبده) (55) 13 ه)

وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

ص: 29


1- المتوفى في 24 / 6 / 1407 ه_. ق، وقد نعاه الإمام الخميني - أطال اللّه عمره الشريف -. عاد إلى طهران وهو بها اليوم يكتب ويدرس أحيانا في جامعة طهران في الفلسفة الإسلامية.
2- طبقات اعلام الشيعة: ج 3، ص 1167.

ص: 30

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد للّه الذي علمنا معالم الدين ومعارج اليقين وأنار قلوبنا بلوامع السنة والكتاب المبين ووفقنا لتمهيد القواعد والقوانين لاستنباط أحكام سيّد المرسلين والصلاة والسلام على أشرف سفرائه المقربين محمَّد خاتم النبيّين وعلى اله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين اما بعد فيقول العبد المذنب المستجير برحمة ربه الكريم عبد الكريم الحائري غفر ذنوبه وستر عيوبه لما صنفت في سالف الزمان تصنيفاً شريفاً وتأليفاً منيفاً في علم الأصول ولو دعت فيه غالب مسائلها المهمة مراعيا فيه غاية الإيجاز والاختصار مع التوضيح والتنقيح ببيانات شافية وعبارات وافية بحيث يكون سهل التناول لطالبه مجتنباً عن ذكر ما لا ثمرة فيه وسميته بدر الفوائد فجددت النظر فيه فألحقت به ما خطر ببالي الفاتر وفكري القاصر أخيراً ممّا اختلف فيه رأيي وأرجو من اللّه ان يكون نافعاً لإخواني من أهل العلم وان يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

تعريف علم الأصول

فاعلم ان علم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لكشف حال الأحكام (1)

ص: 31


1- المراد بالاحكام هو الأحكام الكلية فلا ينتقض بالأصول الجارية في الشبهات الموضوعية (منه) (دام ظلّه).

دفع ما ربّما ي_وهّم من دخول بعض مسائل الاصول في الفقه

الواقعية المتعلّقة بافعال المكلّفين سواء تقع في طريق العلم بها كما في بعض القواعد العقلية أو تكون موجبة للعلم بتنجزها على تقدير الثبوت أو تكون موجبة للعلم بسقوط العقاب كذلك ولعل هذا أحسن ممّا هو المعروف من انه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية لاستلزامه الالتزام بالاستطراد في بعض المسائل المهمة مثل مسائل الأصول العلميّة ومسألة حجّية الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة لعدم تمهدها لاستنباط الأحكام كما هو واضح.

وانما قيدنا القواعد بكونها الممهدة لكشف حال الأحكام لخروج مثل علم النحو والصرف وأمثالهما ممّا احتيج إليها في طريق كشف حال الأحكام وعلم الفقه اما الأوّل فلان مسائله ليست ممهدة لخصوص ذلك واما الثاني فلان مسائله هي الأحكام الواقعية الأولية وليس ما وراءها أحكام آخر تستكشف حالها بتلك المسائل.

إذا حفظت ما ذكرنا تقدر على دفع ما ربّما يتوهم من دخول بعض مسائل الأصول في الفقه كمسألة الاستصحاب بناء على أخذ من الاخبار وما يشابهها تقريره ان الاستصحاب على هذا ليس الا وجوب البناء على طبق الحالة السابقة بل يمكن هذا لتوهم فيه حتّى بناء على اعتباره من باب الظن فيسري الإشكال في جل مسائل الأصول كحجّية الخبر والشهرة وظاهر الكتاب وما أشبه ذلك بناء على ان الحجّية ليست الا وجوب العمل بالمؤدى.

وحاصل الجواب ان مسائل الفقه ليست عبارة عن كلّ حكم شرعي متعلق بفعل المكلف بل هي عبارة عن الأحكام الواقعية الأولية الّتي تطلب من حيث نفسها فكلما يطلب من جهة كونه مقدمة لإحراز حال الحكم الواقعي فهو خارج عن مسائل الفقه ولا إشكال في ان تمام مسائل الأصول من قبيل الثاني.

ولا يخفى عليك ان ما ذكرنا من الميزان أسلم ممّا ذكر من ان مسائل الفقه

ص: 32

عبارة عن كلّ حكم تقدر المقلد على العمل به بعد ما أفتى به المجتهد كحرمة الخمر مثلاً ونظائرها بخلاف مسائل الأصول فإنه لا يقدر على العمل بها وان أفتى بها المجتهد كحجّية خبر الواحد وأمثال ذلك فان هذا مخدوش بان قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وبالعكس من القواعد الفقهية ومن المعلوم عدم تمكن المقلد من العمل بها بعد فتوى المجتهد بتلك القاعدة بل يحتاج إلى تعيين ما هو صغرى لتلك القاعدة.

في موضوع علم الأصول

ثمّ اعلم ان موضوع هذا لعلم عبارة عن أشياء متشتتة تعرضها تلك المسائل كخبر الواحد والشهرة والشك في الشيء مع العلم بالحالة السابقة والشك في التكليف مع عدم العلم بالحالة السابقة وأمثال ذلك ممّا يبحث عن عوارضه في هذا العلم.

ولا يجمعها الأدلة لا بعنوانها ولا بذواتها:

اما الأوّل فللزوم خروج مسائل حجّية الخبر والشهرة والظواهر وأمثال ذلك ممّا يبحث فيه عن الحجّية عن علم الأصول ودخولها في المبادي بل للزوم ذلك في مسألة التعادل والتراجيح لأن البحث فيها راجع أيضاً إلى الحجّية في تلك الحالة والالتزام بذلك مع كونها معظم ما يبحث عنه في هذا العلم غير جائز.

واما الثاني فلعدم تماميته في تمام المسائل كالأصول العمليّة والالتزام بكونها استطراداً كما ترى.

وقد تكلف شيخنا المرتضى (رَحمهُ اللّه) في إرجاع البحث عن حجّية الخبر إلى البحث عن الدليل حيث قال (قدّس سِرُّه) ان البحث فيها راجع إلى ان السنة الواقعية هل تثبت بخبر الواحد أم لا (1) وأنت خبير بان هذا على فرض

ص: 33


1- الفرائد، أوائل بحث حجّية خبر الواحد، ص 67.

تماميّته في مسألة حجّية خبر الواحد وأمثالها لا يتم في الأصول العمليّة فالأوفق بالصواب ان يقال لا نلتزم بكون الجامع بين شتات الموضوعات هو الأدلة ولا بلزوم ان يكون للجامع بينها اسم خاص يعبر عنه فتلخص ممّا ذكرنا ان وحدة العلم ليست بوحدة الموضوع ولا بوحدة المحمول بل انما هي بوحدة الغرض المتعلق بتدوينه ولذلك يمكن ان يكون بعض المسائل مذكورا في علميين لكونه منشأ لفائدتين صار كلّ منهما سبباً لتدوينه في علم هذا إذا عرفت ما ذكرنا فلنشرع فيما هو المقصود وقدرته على مقدمات ومقاصد:

ص: 34

في المقدّمات

في بيان حقيقة الوضع و أقسامه

فمنها: ان الألفاظ ليست لها علاقة مع معانيها مع قطع النظر عن الوضع وبه يوجد نحو ارتباط بينهما وهل الارتباط المذكور مجعول ابتدائي للواضع بحيث كان فعله إيجاد ذلك الارتباط وتكوينه أو لا أو فعل أمراً اخر والارتباط المذكور صار نتيجة لفعله لا يعقل جعل العلاقة بين الأمرين الذين لا علاقة بينهما أصلاً والذي يمكن تعلقه ان يلتزم الواضع انه متى أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تكلم بلفظ كذا فإذا التفت المخاطب بهذا الالتزام ينتقل إلى ذلك المعنى عند استماع ذلك اللفظ منه فالعلاقة بين اللفظ والمعنى تكون نتيجة لذلك الالتزام وليكن على ذكر منك ينفعك في بعض المباحث الآتية إن شاء اللّه وكيف كان الدال على التعهد تارة يكون تصريح الواضع وأخرى كثرة الاستعمال ولا مشاحة في تسمية الأوّل وضعا تعيينا والثاني تعييناً.

ثمّ ان الملحوظ حال الوضع اما ان يكون معنى عاماً كلّيّاً واما ان يكون خاصّاً وعلى الأوّل اما ان يوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى العام واما ان يوضع بإزاء جزئياته وعلى الثاني لا يمكن ان يوضع الا بإزاء الخاص الملحوظ فالأقسام ثلثه لأن الخاص الملحوظ ان لو خطت الخصوصية فيه حين الوضع فالموضوع له لا يكون الا خاصّاً وان جرد عن الخصوصية فهو يرجع إلى تصور العام هكذا قال بعض الأساطين (دام بقاؤه) (1).

ص: 35


1- في الكفاية، الأمر الثاني من المقدمة، ج 1، ص 10 (طبعة المشكيني).

أقول: يمكن ان يتصور هذا القسم أعني ما يكون الوضع فيه خاصّاً والموضوع له عاماً فيما إذا تصور شخصاً وجزئياً خارجياً من دون ان يعلم تفصيلاً بالقدر المشرك بينه وبين سائر الافراد ولكنه يعلم إجمالاً باشتماله على جامع مشترك بينه وبين باقي الافراد مثله كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم بأنه حيوان أو جماد وعلى أي حال لم يعلم انه داخل في أي نوع فوضع لفظاً بإزاء ما هو متحد مع هذا الشخص في الواقع فالموضوع له لو حظ إجمالاً وبالوجه وليس الوجه عند هذا الشخص إلى الجزئي المتصور لأن المفروض ان الجامع ليس متعقلاً عنده الا بعنوان ما هو متحد مع هذا الشخص.

والحاصل انه كما يمكن ان يكون العام وجهاً لملاحظة الخاص لمكان الاتحاد في الخارج كذلك يمكن ان يكون الخاص وجهاً ومرآتاً لملاحظة العالم لعين تلك الجهة نعم فيما إذا علم بالجامع تفصيلاً لا يمكن ان يكون الخاص وجهاً له لتحقق الجامع في ذهنه تفصيلاً بنفسه لا بوجهه فليتدبر.

ثمّ انه لا ريب في ثبوت القسمين أعني ما يكون الوضع فيه خاصّاً والموضوع له كذلك كوضع الاعلام الشخصية وما يكون الوضع فيه عاماً والموضوع كذلك كوضع أسماء الأجناس واما الأخير فهو على تقدير إمكانه كما مر غير ثابت.

واما الوضع العام والموضوع له الخاص فقد يتوهم انه وضع الحروف وما أشبهها كأسماء الإشارة ونحوها ومما يمكن ان يكون منشأ التوهم أمران:

أحدهما ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن آلة لملاحظة حال الغير ولا إشكال في ان مفهوم الابتداء وان كان بحسب ذاته كلّيّاً ولكن بعد تقيده بالوجود الذهني يصير جزئياً حقيقياً كما ان المفهوم بعد تقيده بالوجود الخارجي يصير جزئياً كذلك.

والثاني انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة لتعرف متعلقاتها الخاصّة

ص: 36

فهي تصير جزئها إذ لا تعقل لها بدونها مثلاً لا يمكن تعقل معنى لفظه من الا بعد ارتباطه بالسير والبصرة ونظيرهما فلهما ولنظائرهما من العناوين الخاصّة دخل في مفهوم معنى لفظة «من»، وهكذا غيرها من ألفاظ الاخر الّتي وضعت لمعنى حرفي.

بيان الحقّ في معاني الحروف و الهيئات

هذا والحق: ان معاني الحروف كلها كليات وضعت ألفاظها لها وتستعمل فيها ولا تحتاج هذه الدعوى بعد تعقل المدعى إلى دليل اخر إذ من المعلوم انه ما ادعى القائل بجزئية المعنى الحرفي الا عدم تعقل كونه كلّيّاً فنقول: انه لا إشكال في ان بعض المفاهيم نحو وجودها في الخارج هو الوجود التبعي فهو موجودة بالغير لا بنفسها وهذا واضح لا يحتاج إلى البيان.

وأيضاً لا إشكال في ان تلك المفاهيم قد تتصور في الذهن مستقلّة أي من دون قيامها بالغير كما ان الإنسان يلاحظ مفهوم لفظ الضرب في الذهن مستقلاً، وهذا المفهوم بهذا النحو من الوجود ليس في الخارج، إذ لا يوجد في الخارج الا تبعا للغير، وقد يتصور تلك المفاهيم على نحو ما تتحقق في الخارج فكما انها باللحاظ الأوّل كليات كذلك باللحاظ الثاني، إذ حقيقتها لم تتغير باختلاف اللحاظين، وكما ان قيد الوجود الذهني ملغى في الأوّل وينتزع الكلية منها كذلك في الثاني، نعم تصورها على النحو الثاني في الذهن يتوقف على وجود مفهوم اخر في الذهن يرتبط به كما ان وجودها في الخارج يتوقف على محل يقوم به ولا يوجب مجرد احتياج الوجود الذهني لتلك المفاهيم إلى شيء اخر يرتبط به، كون ذلك جزء منها كما ان مجرد احتياج الوجود الخارجي منها إلى محل خاص لا يوجب كونه جزء منها.

مثلاً حقيقة الابتداء يتحقق لها ثلاثة أنحاء من الوجود: أحدها الوجود النفس الأمري الواقعي القائم بالغير والثاني الوجود الذهني المستقل بالتصور والثالث الوجود الذهني على نحو الوجود النفس الأمري، وهو الوجود الآلي والارتباطي وكما ان تصور مفهوم الابتداء على الأوّل من الأخيرين لا يوجب

ص: 37

صيرورته جزئياً بل ينتزع منه الكلّية بعد تعريته عن الوجود الذهني كذلك تصوره على الثاني منهما إذ لا يعقل الاختلاف في المتصور باختلاف أنحاء التصور فهذا المفهوم باللحاظ الأوّل هو معنى لفظ الابتداء وباللحاظ الثاني معنى لفظة «من» فمعنى لفظ «من» مثلاً حقيقة الابتداء الآلي والربطي ولا شك انه كلي كحقيقة الابتداء الاستقلالي نعم تحقق الأوّل في الذهن يحتاج إلى محل يرتبط به كما ان تحققه في الخارج يحتاج إلى محل يقوم به وكما ان احتياجه في الخارج إلى محل خاص خارجي لا يوجب جعل ذلك المحل جزء لمعنى اللفظ كذلك احتياجه في الوجود الذهني إلى محل لا يوجب كونه جزء لمعنى اللفظ أيضاً.

وأنت إذا أحطت بما تلوناه عليك تعرف بطلان كلا الأمرين اللّذين أوجبا توهم جزئية معاني الحروف:

اما تقييدها بالوجود الذهني فلما مرّ في طيّ البيان، من ان المقصود كونها كليات مع قطع النظر عن التشخص الذهني، إذ بملاحظة ذلك التشخص ليست معاني أسماء الأجناس أيضاً كليات إذ المفهوم المقيد بالوجود الذهني الاستقلالي بقيد انه كذلك أيضاً جزئي لا ينطبق على كثيرين، فكما ان الوجود الاستقلالي في الذهن في معاني أسماء الأجناس لا يخرجها عن الكلّية، لكون الوجود الذهني ملغى عند اعتبار المعنى كذلك الوجود الآلي في الذهن في معاني الحروف.

واما احتياجها إلى محال في الذهن ترتبط بها فلما مر أيضاً، من ان الاحتياج في التحقق إلى شيء لا يوجب كون ذلك الشيء جزء للمعنى.

ومن هنا تعرف ان الحروف الّتي معانيها إنشاءات أيضاً لا تخرج معانيها بما هي معانيها عن كونها كليات وانما التشخص جاء من قبل احتياج تحقق تلك المعاني مثلاً: لفظة «ياء» النداء موضوعة لحقيقة النداء المتحقق في الخارج وهو يحتاج إلى المنادى الخاص – بالكسر - والمنادى الخاص

ص: 38

- بالفتح - والدال على تلك الخصوصيات أمور اخر غير هذه اللفظة، وما يكون مستندا إلى لفظة «يا» ليس الا حقيقة النداء الخارجي ولا إشكال في ان هذا مع قطع النظر عما جاء من قبل أمور اخر كلي وبعبارة أخرى ينتقل السامع من لفظة «يا زيد» الصادر من المتكلم ان خصوص زيد منادى بنداء هذا المتكلم وهذا المعنى ينحل إلى اجزاء: أحدها وقوع حقيقة النداء والثاني كون المنادى بالكسر هذا المتكلم الخاص، والثالث كون المنادى – بالفتح – زيداً، والذي أفادت لفظة يا هو الجزء الأوّل والباقي جاء من قبل غيره نعم يحتاج تحقق هذا المعنى - أعني حقيقة النداء الخارجي - إلى باقي الخصوصيات.

وهكذا الكلام في هيئة افعل ونظائرها ممّا يتضمن معنى الإنشاء مثلاً: يقال: ان هيئة افعل موضوعة لحقيقة الطلب الإيقاعي من دون ان يكون لمشخصات اخر دخل في معنى الهيأة ولا إشكال في ان تلك الحقيقة لا تتحقق الا مع وجود الطالب الخاص والمطلوب منه كذلك ولكن بعد تحقق الطلب المشخص بهذه المشخصات ما يستند فهمه إلى الهيئة هو حقيقة الطلب واما المشخصات الاخر فلها دوال اخر غيرها فمدلول الهيئة كلي وان صار جزئياً بواسطة تلك الخصوصيات الّتي جاءت من قبل غيرها.

ثمّ لا يخفى عليك ان المعنى الاسمي والحرفي مختلفان بحسب كيفية المفهوم بحيث لو استعمل اللفظ الموضوع للمعنى الحرفي في المعنى الاسمي أو بالعكس يكون مجازاً أو غلطاً، فان مفهوم الابتداء الملحوظ في الذهن استقلالا يغاير الابتداء الملحوظ في الذهن تبعا للغير، والتقييد بالوجود الذهني وان كان ملغى في كليهما لكن المتعقل في مفاد لفظ الابتداء غيره في مفاد لفظ «من».

وبعبارة أخرى: المقامان مشتركان في تعرية المفهوم من حيث كونه متعقلاً في الذهن، لكن يختلف ذات المتعقل في مفاد لفظ الابتداء معها في مفاد لفظ «من»، فلا يحتاج إلى الالتزام بان المعنى والموضوع له في كليهما واحد وانما

ص: 39

الاختلاف في كيفية الاستعمال: بان الواضع - بعد ما وضع لفظ الابتداء ولفظ «من» لمعنى واحد وهو حقيقة الابتداء - جعل على المستعملين ان لا يستعملوا لفظ الابتداء الا على نحو إرادة المعنى مستقلاً ولفظ «من» الا على نحو إرادة المعنى تبعاً، هذا وقد أطلنا الكلام لكون المقام من مزال الإقدام.

استعمال اللفظ في ما يناسبه

ومنها: أنه لا إشكال في انه قد يحسن استعمال اللفظ في غير معناه الموضوع له، اما لمناسبة بين المعينين واما لمناسبة بين اللفظ والمستعمل فيه كاستعمال اللفظ في اللفظ، فإنه يصح وان لم يكن له معنى وضع له، كاستعمال لفظ ديز في نوعه.

ومن هنا يظهر ان استعمال اللفظ في غير معناه لا يحتاج إلى ترخيص الواضع بل هو بالطبع، إذ لو لا ذلك لم يصح استعمال اللفظ المهمل في اللفظ إذ لا وضع له بالفرض.

ثمّ ان استعمال اللفظ في اللفظ على أنحاء: تارة يستعمل في نوعه وأخرى في صنفه وثالثة في شخص مثله، ومثال كلّ منها واضح وهل يصحّ استعماله في شخصه أم لا؟ قيل: لا، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول أو تركب القضية من جزءين: بيان ذلك انه ان اعتبرت دلالته على نفسه ح لزم الاتحاد والا لزم تركب القضية من جزءين فان القضية اللفظية ح حاكية من المحمول والنسبة لا الموضوع مع امتناع تركب القضية الا من ثلاثة اجزاء ضرورة امتناع النسبة بدون الطرفين.

أقول: ينبغي للمستدل ان يقتصر على قوله «لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول» لأن عدم اعتبار دلالته على نفسه حتّى يلزم تركب القضية من جزءين خلاف الفرض، لأن المفروض إطلاق اللفظ وإرادة شخصه والإنصاف عدم جواز استعمال اللفظ في شخص نفسه، لما ذكره المستدل من الاتحاد، فان قضية

ص: 40

الاستعمال ان يتعقل معنى ويجعل اللفظ حاكياً ومرآة له، وهذا لا يتحقق الا بالاثنينية والتعدد.

لا يقال: يكفى التعدد الاعتباري، بان يقال: ان لفظ زيد مثلاً من حيث انه لفظ صدر من المتكلم دال ومن حيث ان شخصه ونفسه مراد مدلول.

لأنا نقول هذا النحو من الاعتبار يطرأ بعد الاستعمال فلو أردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور (1) لكن يمكن مع ذلك القول بصحة قولنا «زيد لفظ، أو ثلاثي» مع كون الموضوع في القضية شخص اللفظ الموجود بان يكون المتكلم بلفظ زيد بصدد إيجاد الموضوع لا بصدد الحكاية عن الموضوع حتّى يلزم اتحاد الدال والمدلول فيخرج ح من باب استعمال اللفظ.

فتحصل ان زيداً في قولنا: زيد لفظ أو ثلاثي يمكن ان يراد منه نوعه فيكون هناك لفظ ومعنى وان يقصد المتكلم إيجاد الموضوع فلا يكون من باب استعمال اللفظ هذا في المحمولات الّتي يمكن ان تحمل على الشخص المذكور في القضية واما في المحمولات الّتي لا تعم هذا الشخص كقولنا «ضرب فعل ماض» فلا يمكن الا ان يكون من باب الاستعمال.

هل الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة؟

ومنها: هل الا ألفاظ موضوعة بإزاء المعاني من حيث هي أو بإزائها من حيث انها مرادة للافظها؟

قد أسلفنا سابقاً انه لا يتعقل ابتداء جعل علقة بين اللفظ والمعنى، وما يتعقل في المقام بناء الواضع والتزامه بأنه متى أراد المعنى الخاص وتعلق غرضه

ص: 41


1- وفيه ان الموضوع في القضية لا بد وان يتصور وتصور زيد قبل الوجود لا يكفى في الحكم عليه بلاحظة الفراغ من الوجود " منه ".

بإفهام الغير ما في ضميره تكلم باللفظ الكذائي فبعد هذا الالتزام يصير اللفظ المخصوص دليلا على إرادة المعنى المخصوص عند الملتفت بهذا البناء والالتزام وكذا الحال لو صدر ذلك اللفظ من كلّ من يتبع الواضع فان أراد القائل بكون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث انها مرادة هذا الذي ذكرنا فهو حقّ بل لا يتعقل غيره وان أراد أن معاينها مقيدة بالإرادة بحيث لو خطت الإرادة بالمعنى الاسمي قيدا لها حتّى يكون مفاد قولنا: «زيد» هو الشخص المتصف بكونه مراد أو متعقلاً في الذهن فهو بمعزل عن الصواب.

والحاصل انه فرق بين القول بان لفظ زيد مثلاً موضوع لأن يدل على تصور الشخص المخصوص، بحيث يكون التصور معنى حرفيا ومرآة صرفا للمتصور عند المتكلم والسامع وبين القول بأنه موضوع لأن يدل على الشخص المقيد بتصور الذهني على ان يكون القيد المذكور ملحوظا بعنوانه وبمعناه الاسمي والأول لا يرد عليه إشكال أصلاً بل لا يتعقل غيره والثاني يرد عليه الإشكالات الّتي سنذكرها.

قال شيخنا الأستاذ دام بقاؤه في الكفاية في مقام الرد على هذا القول: ان قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه هذا مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجملة بلا تصرف في ألفاظ الأطراف مع انه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صح بدونه بداهة ان المحمول على زيد في «زيد قائم» والمسند إليه في «ضرب زيد» مثلاً هما نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان مع انه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصّاً، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه، كما لا يخفى وهكذا الحال في طرف الموضوع انتهى كلامه أدام اللّه أيامه (1).

ص: 42


1- الكفاية: الأمر الخامس من المقدمة، ج، ص 22.

أقول: ليس الاستعمال على ما ذكرنا الا الإتيان باللفظ الخاص لإفادة إرادة المعنى الخاص، وهذا لا محذور فيه أصلاً، واما ما ذكره ثانياً فلا يرد على ما قررناه، فإنه بعد اعتبار التصور الذي هو مدلول الألفاظ طريقاً إلى ملاحظة ذات المتصور يصح الإسناد والحمل في مداليل الألفاظ بلا مئونة وعناية، نعم هذا الإشكال وارد على الطريق الاخر الذي قررناه، واما ما ذكره ثالثاً ففيه ان كلّ لفظ يدل على إرادة المعنى العام بواسطة الوضع جعلوه ممّا يكون الموضوع له فيه عاماً في مقابل الألفاظ الّتي تدل على إرادة المعنى الخاص، ولا مشاحة في ذلك.

ومن هنا تعرف صحة القول بان الدلالة تابعة للإرادة، وما يرى من الانتقال إلى المعنى من الألفاظ وان صدرت من غير الشاعر فهو من باب أنس الذهن وليس من باب الدلالة، الا ترى انه لو صرح واحد بأني ما وضعت اللفظ الكذائي بإزاء المعنى الكذائي وسمع منه الناس هذه القضية ينتقلون إلى ذلك المعنى عند سماع ذلك اللفظ مع ان هذا ليس من باب الدلالة قطعاً.

في وضع المركبات

ومنها: اختلف في انه هل للمركبات - أعني القضايا التامة - وضع اخر غير وضع المفردات أو ليس لها وضع سوى وضع المفردات؟

أقول: ان كان غرض مدعى وضع اخر للمركبات انها بموادها الشخصية لها وضع اخر غير وضع المفردات بمعنى ان لقضية «زيد قائم» وضعاً اخر يكون لفظ زيد بمنزلة جزء الكلمة في ذلك الوضع فهو في غاية الفساد إذ وجدان كلّ أحد يشهد ببطلان هذا الكلام مضافاً إلى لغويته.

وان كان الغرض ان وضع مفردات القضية لا يفي بصدق القضية التامة الّتي يصح السكوت عليها، لأن معاني المفردات معان تصورية، وتعدد المعاني التصورية لا يستلزم القضية التامة الّتي يصح السكوت عليها فلا بد ان يكون

ص: 43

القضية المستفادة من قولنا «زيد قائم» مسببة من وضع اخر غير وضع المفردات وهو الوضع النوعي لهذه الهيئة، فهو صحيح فيما لم يشتمل المفردات على وضع تتم به القضية، كالقضايا الخبرية في لسان العرب فان وضع زيد ووضع قائم مادة و هيئة لا يفي بإفادة نسبة تامة يصح السكوت عليها واما في مثل القضية الإنشائية كاضرب زيداً لا وجه للالتزام بذلك (1) فليتدبر

علامات الحقيقة والمجاز

ومنها: ذكر والتشخيص الحقيقة عن المجاز أمارات كالتبادر وعدم صحة السلب واستشكل في علامتيهما بالدور وأجابوا عنه بالإجمال والتفصيل، ولا بحث لنا في ذلك انما الكلام في انهم ذكروا في جملتها الاطراد قال شيخنا الأستاذ في الكفاية ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، والا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال فالمجاز مطرد كالحقيقة وزيادة قيد من غير تأويل أو على وجه الحقيقة وان كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة الا انه ح لا يكون علامة لها الا على وجه دائر، ولا يتأتى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا، ضرورة انه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره انتهى (2).

أقول: يمكن توجيه كونه علامة بدون لزوم الدور بان يقال: ان المراد من الاطراد حسن استعمال اللفظ في كلّ موقع من غير اختصاص له بمواقع خاصة كالخطب والإشعار ممّا يطلب فيها إعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة

ص: 44


1- لا يخفى ان بعض الجمل الإنشائية أيضاً يحتاج إلى وضع الهيئة ويشهد له الاختلاف بين قولنا أزيد قائم وهل قام زيد في المفاد (منه) دام ظلّه العالي على الأنام.
2- الكفاية: الأمر السابع من المقدمة، ص 9 - 28.

والبلاغة، بخلاف المجاز فإنه انما يحسن في تلك المواقع خاصة، والا نفي مورد كان المقصود ممحضا في إفادة المدلول لا يكون له حسن كما لا يخفى، وهذا كما ترى يمكن حصوله لغير أهل اللسان أيضاً إذا شاهد استعمال أهل اللسان.

في الحقيقة الشرعية وبيان الاختلاف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه

ومنها: اختلف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه.

أقول: لا مجال ظاهراً لإنكار أن ألفاظ العبادات كان في زمن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحيث يفهم منها عند الإطلاق المعاني المستحدثة، وهل كان ذلك من جهة الوضع التعييني أو التعيني أو كانت موضوعة لتلك المعاني في الشرائع السابقة أيضاً؟ لا طريق لنا لإثبات أحد الأمور نعم الوضع التعييني بمعنى تصريح النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالوضع لتلك المعاني بعيد غاية البعد، لكن يمكن الوضع التعييني بنحو اخر بان استعمل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة بقصد انها معانيها، وهذا أيضاً نحو من الوضع التعييني (1) فإنك لو أردت تسمية ابنك زيداً فتارة تصرح بأني جعلت اسم هذا زيداً وأخرى تطلق هذا اللفظ عليه بحيث يفهم بالقرنية انك تريد ان يكون هذا اللفظ اسما له وهذا القسم من الوضع التعييني ليس بمستبعد في الشرع.

وقد يستدل ببعض الآيات (2) من قبيل قوله تعالى: «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا» (3) وقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى

ص: 45


1- وكون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة أو المجاز مبنى على أن الوضع هل هو عبارة عن مجرد التعهد في النفس واللفظ كاشف عنه أو هو منتزع عن مرتبة اظهاره " منه ".
2- قد غير متن الكتاب بما ترى، من هنا إلى قوله " ثمّ انه تظهر الثمرة آه " في الطبعة الثالثة المنقحة في زمن المؤلف (قدّس سِرُّه) ومضمونه موجوداً في تعليقاته (قدّس سِرُّه) الموجودة عند آية اللّه العظمى الاراكي مدّ ظلّه العالي. " المصحح ".
3- سورة مريم، الآية 31.

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» (1) وقوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» (2) على كون هذه الألفاظ حقائق لغوية لا شرعية.

تقريب الاستدلال: ان هذه الآيات تدل على وجود معاني هذه الألفاظ في الشرائع السابقة، ويثبت وضع هذه الألفاظ لها فيها بضم مقدمة أخرى، وهي ان العرب المتدينين بتلك الأديان لما سمعوا هذه الآيات فلا يخلو اما انهم ما فهموا منها هذه المعاني المعروفة، أو فهموها بمعونة القرائن الموجودة في البين أو فهموها من حاق اللفظ، والأول واضح البطلان لا يمكن الالتزام به وكذلك الثاني إذ من البعيد جداً احتفاف جميع تلك الألفاظ الموجودة في القرآن بالقرينة فلم يبق الا الالتزام بأنهم فهموا تلك المعاني من حاق اللفظ وهو المطلوب ولعل هذا هو المراد من بعض العبارات المشتملة على الاستدلال بهذه الآيات لا ما يتوهم من ان المراد إثبات تداول هذه الألفاظ في الشرائع السابقة.

في بيان الثمرة بين القولين في المسألة

ثمّ انه تظهر الثمرة بين القولين في حمل الألفاظ الصادرة من الشارع بلا قرينة على معانيها الشرعية بناء على ثبوت الوضع والعلم بتأخر الاستعمال عنه (3) وعلى معانيها اللغوية بناء على عدمه ولو شك في تأخر الاستعمال وتقدمه اما بجهل التاريخ في أحدهما أو كليهما فالتمسك بأصالة عدم الاستعمال إلى ما بعد زمان الوضع فيثبت بها تأخر الاستعمال مشكل فإنه مبنى على القول بالأصول المثبتة اما مطلقاً أو في خصوص المقام مضافاً إلى معارضتها بالمثل (4) في القسم

ص: 46


1- سورة البقرة، الآية 183.
2- سورة الحج، الآية 27.
3- وهنا قيد آخر: وهو ان يكون المعنى الأوّل مهجور أو الا فمجرد ثبوت الحقيقة الشرعية والعلم بتأخر الاستعمال لا يوجب الحمل على المعاني الشرعية كما لا يخفى " منه ".
4- هذا بناء على جريان الأصل في مجهولي التاريخ ذاتا وسقوطهما بالمعارضة ولكن التحقيق كما يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى عدم الجريان رأسا لكون النقض في كلّ منهما شبهة مصداقية للنقض بالشك أو باليقين. " منه ".

الثاني، نعم يمكن إجراء أصالة عدم النقل فيما إذا جهل تاريخه وعلم تاريخ الاستعمال بناء على ان خصوص هذا الأصل من الأصول العقلائية فيثبت به تأخر النقل عن الاستعمال ولا معارض له، اما على عدم القول بالأصل المثبت في الطرف الاخر فواضح، واما على القول به فلان تاريخه معلوم بالفرض واحتمال ان يكون بناء العقلاء على عدم النقل في خصوص ما جهل رأسا لا فيما إذا علم إجمالاً وشك في تاريخه بعيد لظهور ان بنائهم على هذا من جهة ان الوضع السابق عندهم حجة فلا يرفعون اليد عنها الا بعد العلم بالوضع الثاني.

في الصحيح و الأعم

ومنها: قد اختلفوا في ان ألفاظ العبادات هل هي موضوعة بإزاء خصوص الصحيحة أو الأعم منها ومن الفاسدة.

اعلم ان جريان النزاع على القول بثبوت الحقيقة الشرعية واضح واما على القول بالعدم فيمكن جريانه أيضاً بان يقال: هل الأصل في استعمال الشارع بعد العلم بعدم إرادة المعنى اللغوي هو المعاني الشرعية الصحيحة إلى ان يعلم خلافها أم لا فمن يدعى الأوّل يذهب إلى ان العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية أشد، فحملها بعد العلم بعدم إرادة المعاني الحقيقية على المعاني الشرعية الصحيحة أولى وأسد.

وكيف كان يتم هذا المبحث بذكر أمور:

أحدها: انه لا إشكال في ان الصحيحي ان قال بان الصلاة الصحيحة على اختلافها اجزاء وشرائط كلها افراد للمعنى الجامع الواحد الذي هو الموضوع له للفظ الصلاة فلا بد له من تصور معنى واحد جامع لشتات تلك الحقائق المختلفة، كما ان الأعمي أيضاً لا بد له من تصور جامع يكون أوسع دائرة من الأوّل نعم لو ادعى كلّ واحد منهما ما ادعاه على نحو الاشتراك اللفظي يمكن هذه الدعوى مع عدم القدر الجامع بين تلك الحقائق، لكن هذه المقالة مع كونها بعيدة في

ص: 47

نفسها لا تناسب كلماتهم كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فنقول: لا يتعقل أخذ القدر الجامع بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتصفة بالصحة مع قطع النظر عن اعتبار امر خارج عنها لأن معنى أخذ القدر الجامع إلغاء الخصوصيات وأخذ ما هو مشترك سار في جميع الافراد والمفروض ان لتلك الخصوصيات دخلا في الصحة مثلاً الصلاة الّتي يأتي بها القادر قائما يتقوم صحتها بالقيام فلو اعتبر القيام مثلاً في الموضوع له فلا يصدق على الصلاة الّتي يأتي بها المريض جالسا وان لم يعتبر فيلزم صدقها على الصلاة الّتي يأتي بها القادر جالسا وكلاهما خلاف مذهب الصحيحي.

والذي يمكن ان يقال في تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة ان كلّ واحد من تلك الحقائق المختلفة إذا أضيفت إلى فاعل خاص يتحقق لها جامع بسيط يتحد مع هذه المركبات اتحاد الكلي مع افراده، مثلاً، قيام الشخص القادر لتعظيم الوارد وإيماء الشخص المريض له يشتركان في معنى واحد وهو إظهار عظمة الوارد بقدر الإمكان، وهذا المعنى يتحد مع قيام القادر كما انه يتحد مع إيماء المريض وعلى هذا فالصلاة بحسب المفهوم ليست هي التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وكذا وكذا، بل هي بحسب المفهوم هو المعنى الواحد البسيط الذي يتحد مع تمام المذكورات تارة ومع بعضها أخرى ومع ما قيد بكيفية خاصة تارة، وبنقيضها أخرى.

في عدم معقولية أخذ القدر الجامع بين أفراد الصحيحة

وهذا المعنى وان كان أمراً متعقلاً بل لا محيص عن الالتزام به بعد ما يعلم ان لتلك الحقائق المختلفة فائدة واحدة وهي النهي عن الفحشاء والمنكر ولا يكاد ان تؤثر الحقائق المتباينة في الشيء الواحد من دون رجوعها إلى جهة واحدة ولكن كون هذا المعنى مفاد لفظ الصلاة محل إشكال من وجهين:

أحدهما ان الظاهر ممّا ارتكز في أذهان المتشرعة هو ان الصلاة عبارة عن نفس تلك الاجزاء المعهودة (1) الّتي أولها التكبير وآخرها التسليم.

ص: 48


1- لا يخفى ان اعتبار الوحدة بين اجزاء الصلاة على وجه يأتي في تصوير الجامع للأعمي مع قيد كون هذا الواحد الاعتباري بحد مفيد لذلك المعنى البسيط بحيث يكون الحد خارجا عن الموضوع له يرافع لهذا الإشكال وان كان الإشكال الثاني أعني لزوم القول بالاشتغال في العبادات باقياً بحاله فينحصر القول بالبراءة فيها في اختيار القول بالأعم كما هو الصحيح " منه " (دام ظلّه).

والثاني ان مقتضى ما ذكر من الجامع ان الصحيحي لا بد ان يلتزم بالاشتغال في موارد الشك في الجزئية أو الشرطية، وان بنى في الأقل والأكثر على البراءة عقلاً لأنه مكلف بإتيان ذلك المعنى الواحد فمتى شك في جزئية شيء أو شرطيته يرجع شكه إلى ان ذلك المعنى الواحد هل يتحقق بدون الإتيان بالمشكوك أم لا، مع ان القائلين بالصحيح قائلون بالبراءة فيهما.

وقد تصدى لدفع هذا الإشكال شيخنا الأستاذ (دام بقاه) في الكفاية بان الجامع انما هو مفهوم واحد منتزع من هذه المركبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات، يتحد معها نحو اتحاد وفي مثله يجري البراءة، وانما لا يجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجياً مسبباً عن مركب مردد بين الأقل والأكثر، كالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فيما إذا شك في أجزائهما " انتهى كلامه " (1).

تصوير الجامع في الكفاية، وبيان الاشكال عليه

أقول: لا إشكال في انه إذا كان الشيء مجمعاً ومصداقاً لعناوين عديدة فكل عنوان منها وقع في حيز التكليف كان المكلف مأخوذاً بذلك العنوان، والعناوين الاخر وان كانت متحققة مع العنوان الواقع في حيز التكليف ولكن ليس لوجودها ولا لعدمها دخل في براءة ذمة المكلف واشتغاله وهذا واضح جدا فحينئذٍ ان قلنا بان الواقع في حيز التكليف هو هذا المركب من التكبيرة والحمد وكذا وكذا يصح للقائل بالبراءة ان يقول ان ما علم انه متعلق للتكليف من هذه الاجزاء يؤتى به وما يشك فيه يدفع بالبراءة واما ان قلنا بان ما وقع في حيز التكليف ليس هذا المركب بهذا العنوان، بل هو عنوان بسيط ينطبق على قسم من هذا المركب في بعض

ص: 49


1- الكفاية، الأمر العاشر " مبحث الصحيح والأعم "، ج 1، ص 37.

الحالات فلا يتصور معلوم ومشكوك حتّى يقال ان المعلوم قد أتى به والمشكوك يدفع بالأصل، بل في ما نحن فيه معلوم شك في وقوعه ولا شبهة في انه مورد للاشتغال.

الثاني: قد يستشكل في تصوير القدر الجامع بين افراد الصلاة الصحيحة والفاسدة بحيث ينطبق عليها انطباق الكلي على الافراد.

وحاصل الإشكال ان اجزاء الصلاة ان كان لكلّ منها دخل في الموضوع له فلا يطلق تلك اللفظ الا على ما اشتمل على الكل وان كان لبعضها دخل دون الاخر فيلزم ان لا يحمل مفهوم لفظ الصلاة الا على الأبعاض المأخوذة في الموضوع له، فيكون المركب من تلك الأبعاض وغيرها بعضها صلاة وبعضها خارجا عنها وكل منهما ممّا لا يقول به المدعى للأعم.

في تصوير الجامع على الأعم، وذكر أدلة الاعمي

وقد قيل في تصوير الجامع وجوه لا يهمنا ذكرها.

والحق ان يقال: ان القدر المشترك بين افراد الصلاة الموجودة في الخارج امر متعقل.

بيان ذلك ان الوحدة كما انها قد تكون لشيء حقيقة كذلك قد تكون لشيء اعتباراً: مثال الأوّل مفاد الاعلام الشخصية، فإنه لا ينثلم وحدة معانيها على اختلاف حالاتها المختلفة العارضة لها ومثال الثاني الأشياء العديدة الّتي يوجدها الموجد بقصد واحد فان تلك الأشياء وان كانت وجودات مختلفة متعددة لكن عرضت لها وحدة اعتبارية بملاحظة وحدة الغرض والقصد يطلق على كلّ منها عنوان الجزء بتلك الملاحظة.

إذا عرفت هذا فنقول: يصح للأعمي ان يقول: ان الواضع لاحظ جميع اجزاء الصلاة المأتي بها بقصد واحد وقلنا بان الأشياء المتعددة بهذه الملاحظة واحدة اعتبارا وبعد طرو الوحدة الاعتبارية حال تلك الأشياء بأجمعها حال الواحد الحقيقي فكما ان الواحد الحقيقي يمكن أخذه في الموضوع له على نحو لا ينثلم وحدته باختلاف الحالات الطارية عليه، كذلك الواحد الاعتباري قد يعتبر على نحو ليس فيه حد خاص، ولازم ذلك انه متى يوجد

ص: 50

مقدار من ذلك المركب مقيداً بما يوجب وحدة الاجزاء اعتباراً - وهو وحدة القصد - يصدق عليه ذلك المعنى، سواء وجد في حد التام أو الناقص، فالذي وضع له اللفظ هو مقدار من تلك الأشياء الملحوظة على سبيل الإهمال أو تعيين ما مثل ان لاحظ عدم كونه أقل من ثلاثة اجزاء أو أربعة اجزاء وهكذا على اختلاف نظر الواضع فإذا وجد في الخارج غير زائد على مقدار ما وضع له فلا إشكال في صدق معنى اللفظ عليه وإذا وجد زائدا على ذلك المقدار فلكون الزائد جزء ومتحدا مع ما يقوم به المعنى يصدق عليه المعنى أيضاً فالزائد في الفرض الثاني جزء للفرد لا جزء لمقوم المعنى ولا خارج عنه فافهم وتدبر.

الثالث: بعد ما عرفت ما ذكرنا من تصور الجامع على كلا القولين، فاعلم: ان طريق إحراز المعنى وتصديق أحد القائلين ليس الا التبادر وصحة السلب وعدمهما فان قطعنا بالمعنى بالتبادر القطعي فهو، والا فمقتضى القاعدة التوقف والوجوه الاخر الّتي استدل بها كلّ من الفريقين لا تخلو عن شيء كما سننبه عليه.

والإنصاف انا لا نفهم من الصلاة ونظائرها الا الحقيقة الّتي تنطبق على الصحيح والفاسد ونرى ان لفظ الصلاة في قولنا الصلاة اما صحيحة أو فاسدة ليس فيه تجوز وملاحظة علاقة صورية بين ما أردنا من اللفظ وبين المعنى الحقيقي له وهذا ظاهر عند من راجع وجدانه وأنصف وكذا نرى من أنفسنا ان من صلى صلاة فاسدة لا يصح سلب معنى لفظ الصلاة عما فعله في الخارج ولو قلنا أحيانا بان ما فعله ليس بصلاة فليس نفي الصلاة عن فعله كنفي الصلاة عن الصوم وغيره من موضوع اخر كالحجر والإنسان، إذ يصح الثاني بلا عناية أصلاً بخلاف الأوّل.

واستدل أيضاً للمذهب الأعمي بان الصلاة استعملت في غير واحد من الاخبار في الفاسدة كقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): بنى الإسلام على الخمس الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم

ص: 51

يقبل له صوم ولا صلا»ة (1) ومحل الاستشهاد قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخذ الناس بالأربع وقوله فلو ان أحدا صام نهاره وقام ليله إلخ وكقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) دعى الصلاة أيام أقرائك (2) حيث ان المراد لو كان الصحيحة لم تكن بقادرة عليها فلا يجوز نهيها عنها.

والجواب ان الإطلاق أعم من الحقيقة، مضافاً إلى ان لفظ الصلاة في الخبر الثاني استعمل في المعنى المجازي حتّى على مذهب الأعمي لأن المنهي عنه من الحائض ليس كلما يطلق عليه معنى لفظ الصلاة فان الحائض لو أتت بالصلاة فاقدة لبعض الشرائط أو الاجزاء المعتبرة فيها من غير جهة الحيض لم يكن ما فعلته محرما فالصلاة في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «دعى الصلاة» استعملت في الفرد الخاص أعني المستجمع لجميع الاجزاء والشرائط ما عدا كونها حائضا واستعمال العام في الخاص مجاز الا ان يقول بإرادة الخاص هنا من غير اللفظ هذا.

واستدل لهم أيضاً بأنه لا شبهة في صحة تعلق النذر وشبهه بترك الصلاة في مكان تكره فيه وحصول الحنث بفعلها ولو كانت الصلاة المنذور تركها خصوص الصحيحة لا يحصل بها الحنث لأن الصلاة المأتي بها فاسدة لأجل النهي عنها، بل يلزم ان يكون فسادها موجبا لصحتها لأنها لو كانت فاسدة لم تكن مخالفة للنهي ولا وجه لعدم كونها صحيحة الا كونها مخالفة للنهي هذا بخلاف ما لو كانت الصحة خارجة عن معناها فإنه على هذا لا يلزم محذور.

والجواب ان مدعى الوضع للصحيح لا يدعى انها موضوعة من جميع الجهات، حتّى من الجهات الطارية كالنذر وشبهه بل يدعى انها موضوعة

ص: 52


1- الظاهر ان الحديث منقول بالمعنى، فراجع: باب دعائم الاسلام من أصول الكافي، ج 2، ص 18.
2- الوسائل، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.

للصحيح من حيث الجهات الراجعة إلى نفسها ولو فرض انه يدعى ان الموضوع هو الصحيح الفعلي حتّى من الجهات الطارية فله ان يجيب بان نذر الناذر في المقام قرينة على عدم إرادة هذا المعنى إذ ليس المعنى المأخوذ فيه الصحة من جميع الجهات قابلا للنهي ولو فرضنا ان الناذر قصد هذا المعنى في نذره نلتزم بعدم انعقاده لعدم صحة تعلق النهي بالفعل المذكور.

أدلة القول بالصحيح و الجواب عنها

واستدل لصحيحي مضافاً إلى دعوى التبادر وصحة الساب من الفاسد بالأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار لحقيقة الصلاة والصوم مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): الصلاة عمود الدين (1) أو انها معراج المؤمن (2) وان الصوم جنة من النار (3) أو نفي الطبيعة بفقدان بعض الشروط والاجزاء مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): لا صلاة الا بطهور (4) وكذا لا صلاة الا بفاتحة الكتاب (5) وأمثال ذلك.

والجواب عن الأوّل: ان الاستدلال بها مبنى على إفادة تلك الاخبار ان الآثار المذكورة لتلك الطبائع على إطلاقها إذ بذلك يستكشف ان الفرد الذي ليس فيه تلك الخواص ليس فردا لتلك الطبائع، لكن الاخبار المذكورة واردة في بيان خاصية تلك الطبائع من حيث نفسها في مقابل أشياء اخر ولا ينافي ان تكون لظهور تلك الخواص في تلك الطبائع شرائط اخر زائدة عليها، كما يظهر من المراجعة إلى أمثال هذه العبارات.

ص: 53


1- بحار الأنوار: ج 82 ص 218 ح 36.
2- الظاهر أن هذا مستفاد من الخبر لا أنه بنفسه خبر مستقل، راجع بحار الأنوار ج 82، ص 248,
3- بحار الأنوار، ج 96، ص 255 و 256، الحديث 35.
4- الوسائل، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
5- الوسائل، الباب 27 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 4. فيه: سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته، قال: لا صلاة له الا ان يقرأ بها.

وعن الثاني: ان استعمال هذا التركيب في نفي الصحة شايع في الشرع، بحيث لم يبق له ظهور عرفي في نفي الماهية.

واستدلوا أيضاً: بان طريقة الواضعين وديدنهم وضع الألفاظ للمركبات التامة كما هو قضية الحكمة الداعية إليه وان مست الحاجة إلى استعمالها في غيرها فلا يقتضى ان يكون على نحو الحقيقة بل ولو كان مسامحة تنزيلاً للفاقد منزلة الواجد، والظاهر عدم التخطي من الشارع عن هذه الطريقة هذا.

ولا يخفى ما فيه لأن دعوى القطع مجازفة والظن بعد إمكان المنع لا يغنى من الحقّ شيئاً.

في بيان الثمرة بين القولين: في المسألة

الرابع: تظهر الثمرة بين القولين في صحة الأخذ بالإطلاق وعدمه، إذ على القول بكون ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح لا يمكن الأخذ بالإطلاق فيها، إذ مورده بعد الأخذ بمدلول اللفظ الموجود في القضية والشك في القيود الزائدة والمفروض إجمال مدلول اللفظ وكلما احتمل اعتباره قيدا يرجع إلى مدخليته في مفهوم اللفظ واما بناء على القول الاخر فيصح التمسك بالإطلاق على تقدير تمامية باقي المقدمات إذ القيد المشكوك ممّا لا مدخلية له في تحقق الحقيقة الّتي جعلت موضوعة في القضية.

وكذا تظهر الثمرة بين القولين في الأصل العملي: إذ على القول بالصحيح على نحو ما بيناه في أول البحث لا محيص عن القول بالاحتياط ظاهراً لكن على القول الاخر يبتنى القول بالبراءة والاحتياط فيه على مسألة الشك في الأقل والأكثر.

في تصوير النزاع في أسامي المعاملات

الخامس: ان أسامي المعاملات ان قلنا بأنها موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها أسامي للصحيحة منها أو الأعم لأن الأمر فيها دائر بين الوجود والعدم لا الصحة والفساد كما لا يخفى وان قلنا بأنها موضوعة للأسباب فيأتي النزاع في انها موضوعة للأعم ممّا يترتب عليه الأثر أو لخصوص الصحيح أعني ما يترتب عليه الأثر

ص: 54

وعلى كلّ حال فلا مانع من الأخذ بالإطلاق فيها: اما بناء على كونها موضوعة للأسباب من دون ملاحظة حصول الأثر فواضح واما على القول بكونها موضوعة لخصوص الأسباب المؤثرة للأثر أو موضوعة لنفس المسبب فلان لمفاهيمها مصاديق عرفية والأحكام المتعلقة بالعناوين في القضية اللفظية الّتي وردت لبيان تفهيم المراد تحمل على المصاديق العرفية لها، وبعد تعلق الحكم في القضية اللفظية بالمصاديق العرفية يستكشف ان الشيء الذي يحكم العرف بأنه مصداق يراه الشارع مصداقاً أيضاً، ولذا تريهم يتمسكون في أبواب المعاملات بإطلاقات أدلتها مع ذهابهم إلى كونها موضوعة للصحيح، نعم لو شك في الصدق العرفي فلا مجال للأخذ بالإطلاق فليتدبر في المقام.

في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد

ومنها: انه اختلف في جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد بان يراد كلّ واحد مستقلاً كما إذا استعمل فيه وحده على أقوال لا يهمنا ذكرها بعد ما تطلع على ما هو الحقّ في هذا الباب.

الحق جواز الاستعمال

والحق الجواز، بل لعله يعد في بعض الأوقات من محسنات الكلام، لأن ما وضع له اللفظ هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة وليس في كلّ وضع تقييد المعنى بكونه مع قيد الوحدة بالوجدان ولا يكون منع من جهة الواضع أيضاً ضرورة ان كلّ أحد لو راجع نفسه حين كونه واضعاً للفظ زيد بإزاء ولده ليس مانعاً من استعمال ذلك اللفظ في غيره، ولا يتصور مانع عقلي في المقام فالمجوز للاستعمال موجود وهو الوضع وليس هناك ما يقبل المنع.

نقل كلام صاحب الكفاية في بيان استحالة العقلية والجواب عنها وتقوية الجواز

وذهب شيخنا الأستاذ (دام بقاؤه) إلى الاستحالة العقلية قل في الكفاية: ان حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى بل وجهاً وعنوانا له كأنه يلقى إليه نفس المعنى، ولذا يسرى إليه قبحه وحسنه ولا يمكن جعل اللفظ كذلك الا لمعنى واحد، ضرورة ان لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي

ص: 55

لحاظه كذلك في إرادة الاخر، حيث ان لحاظه كذلك لا يكاد يكون الا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه، فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ومعه كيف يمكن إرادة معنى اخر معه كذلك في استعمال واحد، مع استلزامه للحاظ اخر غير لحاظه كذلك في هذه الحال «انتهى» (1).

أقول: يمكن ان يكون حاصل مرامه دام بقاؤه انه بعد ما يكون اللفظ وجهاً وإشارة إلى ذات المعنى فاللفظ من حيث كونه إشارة إلى معناه ليس إشارة إلى اخر لتباين المعنيين وبالعكس ولو جعل إشارة واحدة ووجها واحداً لكلا المعنيين فهو من باب استعمال واحد في معنى واحد لأن المعنيين بهذا اللحاظ يكونان معنى واحداً في هذا الاستعمال نظير استعمال لفظ اثنين في معناه فاستعمال اللفظ في المعينين غير معقول.

قلت: لا إشكال في إمكان إرادة الشيئين من لفظ واحد على نحو قائمها على صفة التعدد، كما انه لا إشكال في إمكان إرادتهما على نحو الوحدة الاعتبارية فلو استعمل لفظ في المتعدد على النحو الثاني فلا إشكال في انه من باب استعمال اللفظ في المعنى الواحد، فان كان ذلك المعنى موضوعاً له اللفظ يكون الاستعمال حقيقياً والا يكون مجازياً وان استعمل في المتعدد على النحو الأوّل يكون من باب استعمال اللفظ الواحد في المعينين، وحينئذٍ ان كان الملحوظ في هذا الاستعمال هو الوضعين فيكون من باب استعمال اللفظ في المعينين الحقيقيين، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في كلّ منهما فيكون من باب استعمال اللفظ في المجازيين، وان كان الملحوظ ثبوت العلاقة في أحدهما والوضع في الاخر فيكون من باب استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي.

وليت شعري ان دعوى الاستحالة هل هي راجعة إلى إرادة الإنسان الذوات المتعددة من دون ملاحظة عنوان الاجتماع؟ أو راجعة إلى امر اخر؟

ص: 56


1- الكفاية، الأمر الثاني عشر من المقدمة، ج 1 ص 54.

فان كانت راجعة إلى الأوّل فيرده وقوع هذا الأمر في العام الاستغراقي، فإنه انما صار كذلك لعدم ملاحظة الأمر هيئة الاجتماع في مرتبة تعلق الحكم بل لاحظ الآحاد كلا منها إجمالاً على انفرادها، غاية الأمر هذه الملاحظة في العام الاستغراقي انما هي في مرتبة تعلق الحكم دون الاستعمال فإذا صار هذا النحو من الملاحظة أعني ملاحظة الآحاد على انفرادها ممكنا في مرتبة تعلق الحكم فليكن ممكنا في مرحلة الاستعمال فكما ان كلّ واحد في الأوّل يكون مورداً للحكم مستقلاً كذلك في الثاني يصير مستعملا فيه وليت شعري أي فرق بين ملاحظة الآحاد بذواتها في مرتبة تعلق الحكم؟ وملاحظتها كذلك في مرتبة الاستعمال وأيضاً من المعلوم إمكان الوضع عاماً والموضوع له خاصّاً، وهو بان يلاحظ الواضع معنى عاماً ويوضع اللفظ بإزاء خصوصياته فيكون كلّ من الجزئيات موضوعاً له ولو عمل الشخص هذه المعاملة في مرحلة الاستعمال بان يلاحظ معنى عاماً مرآة للخصوصيات واستعمل اللفظ في تلك الخصوصيات، يصير كلّ واحد منها مستعملاً فيه كما انه صار في الصورة الأولى موضوعاً له.

وان كانت الدعوى راجعة إلى امر اخر فلا نعقل وجهاً اخر للاستحالة ولا استبعد كون ذلك من قصوري لإدراكها واما أدلة القائلين بالمنع من قبل الوضع فموهونة جداً فان اعتبار قيد الوحدة في المعنى ممّا يقطع بخلافه وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقتضى الا عدم كون المعنى الاخر موضوعاً له بهذا الوضع ويتبعه عدم صحة الاستعمال فيه بملاحظة هذا الوضع ولا يوجب ذلك عدم وضع اخر له ولا عدم صحة استعماله بملاحظة ذلك الوضع الاخر فيه.

وامر تجويز البعض ذلك في التثنية والجمع بملاحظة وضعهما لإفادة التعدد، بخلاف المفرد فمدفوع، بان علامة التثنية والجمع تدل على تكرار ما أفاده المفرد لا على حقيقة أخرى في قبال الحقيقة الّتي دل عليها المفرد، كيف ولو كانت كذلك لما دلت علامة التثنية على التعدد لأن المفرد الذي دخل عليه

ص: 57

تلك العلّامة أفاد معنى واحداً، فالعلّامة أيضاً أفادت معنى واحداً فأين التعدد المستفاد من علامة التثنية، هذا.

في المشتق، و تحرير محل النزاع

ومنها: اختلفوا في معاني بعض المشتقات، من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأمثال ذلك ممّا يجري على الذوات ويحمل عليها على نحو من الحمل هل هي ما يطلق على الذوات في خصوص حال التلبس؟ أو معانيها أعم من ذلك بمعنى انها موضوعة لمعان تحمل على الذوات وان انقضى عنها التلبس؟ بعد الإنفاق على ان إطلاقها على الذوات الّتي لم تتلبس بعد بملاحظة الزمن الآتي مجاز.

وتنقيح المرام يستدعى رسم أمور:

أحدها: ان النزاع ليس في جميع المشتقات لأن الماضي والمضارع والأمر والنهي خارجة عن محل النزاع قطعاً وكذا المصادر وان قلنا بأنها مشتقات أيضاً وكذا ليس النزاع مختصا بالمشتقات الجارية على الذوات من قبيل اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة وأمثال ذلك، بل يجري في كلّ لفظ موضوع بإزاء مفهوم منتزع من الذوات باعتبار عروض امر خارج عنها مثل الزوج والعبد والحر وأمثال ذلك وان كان من الجوامد، فالنزاع في المقام راجع إلى ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المفاهيم المنتزعة من الذوات باعتبار الأمور الخارجة عنها هل هي موضوعة للمتلبس الفعلي بذلك العارض أو ما يعمه وما انقضى عنه ذلك العارض سواء كان من المشتقات أم من الجوامد.

نعم الألفاظ الموضوعة بإزاء المفاهيم المنتزعة من الذاتيات من دون ملاحظة امر خارج عنها ليست محلا للنزاع، إذ لا شبهة لأحد ان لفظ الإنسان والحجر والماء والنار وأمثالها لا يطلق على ما كان كذلك ثمّ انخلعت عنه تلك الصور النوعية.

ص: 58

والدليل على ما ذكرنا من دخول مثل الزوج وأمثاله في محل النزاع ما عن الأيضاًح في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة قال: تحرم (1) المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين واما المرضعة الآخرة ففي تحريمها خلاف فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها لأن هذه يصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه (2) وعن المسالك في هذه المسألة ابتناء الحكم على الخلاف في مسألة المشتق (3).

في عدم دلالة الاسم على الزمان بخلاف الأفعال

الثاني: اتفق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان، ومنه الصفات الجارية على الذوات، بخلاف الأفعال، فقد اشتهر بينهم دلالتها على الزمان حتّى جعلوا الاقتران بأحد الأزمنة من اجزاء معرفها.

والحق في المقام ان يقال: ان الأمر والنهي لا يدلان على الزمان أصلاً بداهة ان قول القائل «اضرب» لا تدل الا على إرادة وقوع الفعل من الفاعل اما في الآن الحاضر أو المتأخر فلا دلالة له على واحد منهما، نعم زمان الحال ظرف لإنشاء المنشئ كما انه ظرف لاخبار المخبر في القضية الخبرية، وكذا الكلام في النهي.

ص: 59


1- وقد يتوهم جريان النزاع في المرضعة الأولى أيضاً إذ بعد تحقق الرضاع الكامل كما يحدث عنوان الأمومة يزول عنوان الزوجية فلا يتحقق عنوان أم الزوجة على القول بالأخص ويجاب بتعين القول بحرمتها على القول بالأخص أيضاً لأن بقاء كلتا الزوجتين مناف لأدلة حرمة أم الزوجة والربيبة وارتفاع إحداهما معينا ترجيح بلا مرجح فتعين ارتفاع كليتهما (منه) دامت أيام إفاضاته.
2- أيضاًح الفوائد، ذيل البحث عن احكام الرضاع، ج 3، ص 52، الا ان فيه بعد العبارة المنقولة في المتن: " فكذا هنا ". وهو يمنع دلالته.
3- مسالك الافهام، ذيل المسألة الرابعة من احكام الرضاع، وقد اختار الحرمة قال: لان الأصح انه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى، فتدخل تحت قوله: وأمهات نسائكم.

وأما فعل الماضي فالظاهر ان دلالته على مضى صدور الفعل عن الفاعل ممّا ليس قابلا للإنكار، والمقصود من المضي المضي بالنسبة إلى حال الإطلاق حتّى يشمل مثل يجيء زيد غداً وقد ضرب غلامه في الساعة الّتي قبل مجيئه، ولا يخفى ان المعنى الذي ذكرنا غير اعتبار الزمان في الفعل لأن المضي قد ينسب إلى نفس الزمان ويقال: مضى الزمان، فمن أنكر اعتبار الزمان في الفعل الماضي ان كان مقصوده ما ذكرنا فمرحبا بالوفاق وان أنكر دلالته على المضي الذي ذكرنا فالتبادر حجة عليه.

واما المضارع فقد اشتهر انه يدل على نسبة الفعل إلى الفاعل في زمان أعم من الحال والاستقبال.

فلن أريد من الحال الحال الذي يعتبر في مثل قائم وقاعد وأمثالهما عند من اعتبره فالوجدان شاهد على خلافه لظهور عدم صحة إطلاق قولك «يقوم» على من كان متلبساً بالقيام فعلاً، وكذلك قولك «يقعد» على من كان متلبسا بالعقود واما إطلاق يصلى ويذكر ويقرأ ويتكلم وأمثال ما ذكر على المتلبس بتلك المبادي فإنما هو بملاحظة الاجزاء اللاحقة الّتي لم توجد بعد كما انه يصح الإطلاق بنحو المضي بملاحظة الاجزاء الماضية السابقة وكذا يصح التعبير بنحو الوصف نحو ذاكر ومصلي وقارئ ومتكلم بلحاظ ان المجموع وجود واحد متلبس به فعلاً والحاصل ان إطلاق صيغ المضارع يصح فيما لم يكن الفاعل حين الإطلاق متلبسا بالفعل.

وان أراد من الحال الحال العرفي أعني الزمان المتصل بحال الإطلاق فهو مرتبة من مراتب الاستقبال، وليس فعل المضارع دالا الا على الاستقبال، نعم لما لا يدل على مرتبة خاصة من الاستقبال يصح إطلاقه على أي مرتبة منه، ولو أطلق الحال على هذه المرتبة من الاستقبال يمكن إطلاقه على هذه المرتبة من الماضي أيضاً فهلا قيل بان فعل الماضي يدل على الماضي والحال.

وكيف كان تحصل من جميع ما ذكرنا ان الماضي يدل على انتساب المبدأ

ص: 60

بالفاعل على نحو المضي بالنسبة إلى حال الإطلاق والمضارع يدل على انتسابه به حال الإطلاق.

ومما ذكرنا يعلم ان نسبة بعض الصيغ الماضية إلى الباري «جل ذكره» من قبيل علم اللّه أو إلى نفس الزمان ليس فيه تجوز وتجريد فليتدبر.

في تفسير الحال في موضوع المسألة

الثالث: المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال الإطلاق والأجراء لا حال النطق ضرورة عدم تطرق التوهم إلى ان مثل زيد كان ضاربا بالأمس أو يكون ضاربا غداً مجاز، وما قيل من الاتفاق على ان مثل زيد ضارب غداً مجاز لعله فيما إذا كان الغد قيداً للتلبس بالمبدأ مع فعلية الإطلاق، لا فيما إذا كان ظرفا للإطلاق.

وبالجملة لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدأ في ظرف الحمل والإطلاق وان كان ماضيا أو مستقبلا بالنسبة إلى زمان النطق وانما الإشكال في انه هل يختص معناه بذلك؟ أو يعمه وما انقضى عنه المبدأ في ظرف الحمل والإطلاق؟

الرابع: المشتقات الدالة على الحرفة والملكة والصنعة كسائر المشتقات في مفاد الهيئة من دون تفاوت أصلاً وصحة إطلاقها على من ليس متلبسا بالمبدأ فعلا بل كان متلبسا قبل ذلك من دون إشكال من جهة أحد أمرين اما استعمال اللفظ الدال على المبدأ في ملكة ذلك أو حرفته أو صنعته واما من جهة تنزيل الشخص منزلة المتصف بالمبدأ دائما لاشتغاله به غالباً بحيث يعد زمان فراغه كالعدم، أو لكونه ذا قوة قريبة بالفعل بحيث يتمكن من تحصيله عن سهولة فيصح ان يدعى انه واجد له والظاهر هو الثاني وعلى أي حال هيئة المشتق استعملت في المعنى الذي استعملت فيه في باقي الموارد.

في جريان الأصل في المسألة وعدم جريانه

الخامس: انه لا أصل في المسألة يرجع إليه في تعيين المعنى الموضوع له، كما هو واضح بل المعين الرجوع إلى الأصل العملي وهو يختلف باختلاف المقامات فإذا وجب إكرام العالم في حال اتصاف زيد بالعلم ثمّ زالت عنه تلك

ص: 61

الصفة فمقتضى الاستصحاب بقاء الوجوب وإذا وجب في حال زوال تلك الصفة فمقتضى الأصل البراءة عن التكليف.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: اختلف في المسألة وقيل فيها أقوال عديدة لا يهمنا ذكرها خوفا عن التطويل.

في بيان الحقّ في المسألة وبيان دليلها

والحق انها موضوعة لمعنى يعتبر فيه التلبس الفعلي ولا يطلق حقيقة الا على من كان متصفا بالمبدأ فعلا.

والدليل على ذلك: انك عرفت عدم اعتبار المضي والاستقبال والحال في معاني الأسماء وبعد ما فرضنا عدم اعتبار ما ذكر في مثل ضارب وأمثاله من المشتقات فلم يكن مفاهيمها الا ما أخذ من الذوات مع مع اعتبار تلبسها بالمبادي الخاصّة اما على نحو التقييد والتركيب واما على نحو انتزاع المعنى كما سيأتي وعلى أي حال المعنى المتحقق بالذات والمبدأ من دون اعتبار امر زائد لا يصدق الا على الذات مع المبدأ لدخالة المبدأ في تحقق المعنى بنحو من الدخالة.

وبعبارة أخرى: فكما ان العناوين المأخوذة من الذاتيات لا تصدق الا على ما كان واجداً لها، كالإنسان والحجر والماء والنار كذلك العناوين الّتي تحقق بواسطة عروض العوارض، إذ وجه عدم صدق العناوين المأخوذة من الذاتيات الا على ما كان واجداً لها انها ما أخذت الا من الوجودات الخاصّة من جهة كيفياتها الفعلية من دون اعتبار المضي والاستقبال والا كان من الممكن ان يوضع لفظ الإنسان لمفهوم يصدق حتّى بعد صيرورته ترابا كان يوضع لمن كان له الحيوانية والنطق في زمان ما مثلاً أو يوضع لفظ الماء لما كان جسماً سيالاً في زمن ما والحاصل ان العناوين المأخوذة من الموجودات بملاحظة بعض الخصوصيات إذا لم يلاحظ شيء زائد عليها لا تطلق الا على تلك الموجودات مع تلك الخصوصيات سواء كانت تلك الخصوصيات من ذاتيات الشيء أو من العوارض، ولعل هذا بمكان من الوضوح، ولعمرى أن

ص: 62

ملاحظة ما ذكرنا في المقام تكفي المتأمل.

حجة القائل بأن المشتق موضوع للأعم من المتلبس

حجة من ذهب إلى ان المشتق موضوع للأعم من المتلبس ومن انقضى عنه المبدأ أمور مذكورة في الكتب المفصلة والجواب عنها يظهر لك بأدنى تأمل.

ومن جملتها: استدلال الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين على عدم لياقة من عبد الصنم لمنصب الإمامة، تعريضاً بمن تعدى لها بعد عبادته الأوثان مدة (1) ومن المعلوم ان صحة الاستدلال المذكور تتوقف على كون المشتق موضوعاً للأعم إذ الظاهر ان حال الإطلاق متحد مع حال عدم نيل العهد فلو لم يكن حقيقة فيما يصح إطلاقه حال الانقضاء لما صح التمسك بالآية لعدم قابلية الجماعة المعهودين الذين تصدوا الإمامة.

والجواب: ان الظلم على قسمين: قسم له دوام واستمرار مثل الكفر والشرك، وقسم ليس له الا وجود انى، من قبيل الضرب والقتل وأمثال ذلك، وهو بمقتضى الإطلاق بكلا قسميه موضوع للقضية، والحكم المرتب على ذلك الموضوع امر له استمرار، إذ لا معنى لعدم نيل الخلافة في الآن العقلي، فإذا جعل الموضوع الذي ليس له الا وجود انى موضوعاً لأمر مستمر يعلم ان الموضوع لذلك الأمر ليس الا نفس ذلك الوجود الآني، وليس لبقائه دخل إذ لا بقاء له بمقتضى الفرض فمقتضى الآية - واللّه اعلم - ان من تصدى للظلم في زمن غير قابل لمنصب الإمامة وان انقضى عنه الظلم ولا يتفاوت في حمل الآية الشريفة على المعنى الذي ذكرنا بين ان نقول بان المشتق حقيقة في الأخص أو في الأعم إذ الحكم المذكور في القضية ليس قابلا لأن يترتب الا على من انقضى عنه المبدأ فاختلاف المبنى في المشتق لا يوجب اختلاف معنى الآية فلا يصير احتجاج الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بها دليلا (2) لإحدى الطائفتين كما لا يخفى.

ص: 63


1- أصول الكافي: باب طبقات الأنبياء والرسل، ج 1، ص 75.
2- لا يقال بل يصير دليلا للقائل بالأعم لعدم تمامية الاحتجاج على القول الاخر لحصول الإجمال بواسطة تعارض ظهور مادة الظلم في شمول القسمين مع ظهور هيئة القضية في وحدة زمان عدم النيل مع زمان جرى الظلم ولا ترجيح لأنا نقول ظهور المادة أقوى فانا وان لم نقل بانصرافها إلى الافراد الآتية من قبيل القتل والضرب وشبههما ولكن دعوى قوة ظهور هذه الافراد منها بحيث تأبى عن التخصيص بغيرها وإخراج هذه عنها غير بعيدة بل قريبة جداً (منه)

في بساطة مفهوم المشتق وتركبه

تتمة: هل المشتقات موضوعة لمفاهيم بسيطة تنطبق على الذوات؟ أو هي موضوعة للمعاني المركبة؟ وعلى الأوّل هل يكون ذلك المفهوم البسيط الذي فرضناه معنى للمشتق قابلا للانحلال إلى الاجزاء؟ أو لا يكون كذلك؟

قد يقال: انها موضوعة للمعاني البسيطة الّتي لا يكون لها جزء حتّى عند التحليل نظرا إلى ما يستفاد ممّا نقل من أهل المعقول من ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشيء لا بشرط والشيء بشرط لا وظاهر هذا الكلام بل صريحه ان المشتق والمبدأ يشتركان في أصل المعنى ويختلفان بملاحظة الاعتبار.

وتحقيق المقام ان الاعراض وان كان لها وجود ولكن ليس وجودها الا مندكا في وجود المحل بحيث يعد من أطوار المحل وكيفياته وهذا النحو من الوجود التبعي الاندكاكي قابل لأن يلاحظ في الذهن على قسمين: تارة يلاحظ على نحو يحكى عن الوجود التبعي المندك في الغير وهو المراد من قولهم «ملاحظته على نحو اللا بشرط» وأخرى يلاحظ على نحو الاستقلال ويتصور بحياله في قبال وجود المحل وهو المراد من قولهم «ملاحظته على نحو بشرط» لا فإذا لو حظ على النحو الأوّل يكون عين المحل لأنه من كيفيات وجود المحل وأطواره وليس وجوداً مستقلاً في قباله وإذا لو حظ على النحو الثاني فهو وجود مستقل

ص: 64

في قبال المحل، وعلى النحو الأوّل يصح ان يقال: باتحاده مع المحل وهو مفاد هيئة المشتق كضارب وقاتل وقاعد وأمثالها، ممّا يحمل على الذوات وعلى النحو الثاني هو مفاد الألفاظ الدالة على المواد كضرب وقعود ونحوهما، ونظير ما ذكرنا هنا من الاعتبارين ذكروا في اجزاء المركب من انها بملاحظتها لا بشرط هي عين الكل وبملاحظتها بشرط لا هي غيره ومقدمة لوجوده. هذا.

والإنصاف ان الاتحاد المستفاد من هيئة المشتقات مع الذوات غير الاتحاد الملحوظ في العرض باعتبار قيامه بالمحل فان معنى اتحاد العرض مع المحل عدم كونه محدوداً بحد مستقل، لأنه متحد بحيث لم يكن له ميز بنحو من الأنحاء كيف وقد يشار إلى العرض في حال قيامه بالمحل في الخارج ويحكم عليه بحكم يخصه ولا يعم المحل كقولك مشيراً إلى السواد القائم بجسم بان هذا لون والحاصل ان هذا الاتحاد نظير اتحاد اجزاء المركب فان معنى اتحادها انها محدودة بحد واحد وان كان كلّ منها ممتازاً عن الاخر، من وجوه اخر بل يمكن ان يكون كلّ منها معروضاً لعرض مضاد لعرض اخر والمعنى المستفاد من لفظ ضارب مثلاً الذي يحمل على الذات، في الخارج هو معنى يتحد مع الذات بحيث لا يكون بينهما ميز في الخارج بوجه، ولعل هذا واضح بعد أدنى تأمل.

وتظهر الثمرة بين هذا المعنى الذي ادعيناه للفظ المشتقات وبين ما يقوله أهل المعقول انه لو قال الأمر «جئني بالضارب ولا تجئني بالقاعد» فلا بد من تعيين أحد الخطابين في مورد الاجتماع بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي بناء على ما ذكرنا للمشتق من المدلول فان معنى القائم والضارب انطبقا في الخارج على الوجود الشخصي واما على ما ذكره أهل المعقول فلا تنافي بينهما لأن مورد الأمر هو الهيئة الخاصّة المرتبطة بالمحل ومورد النهي هيئة أخرى كذلك، ونفس المحل خارج عن مورد الأمر والنهي والحاصل ان مقتضى ما ذكرنا ان مفهوم المشتق هو مفهوم اخر مباين لمفهوم المبدأ لا انهما متحدان ذاتا مختلفان بالاعتبار.

ص: 65

وهل يكون هذا المفهوم مركبا من الذات وغيرها كما اشتهر في ألسنتهم من ان معنى الضارب مثلاً ذات ثبت له الضرب، وكذا باقي المشتقات أو لا يكون كذلك، بل هو مفهوم واحد من دون اعتبار تركيب فيه، وان جاز التحليل في مقام شرح المفهوم، كما يصح ان يقال في مقام شرح مفهوم الحجر انه شيء، أو ذات ثبت له الحجرية.

الحقّ هو الثاني لأنا بعد المراجعة إلى أنفسنا لا نفهم من لفظ ضارب مثلاً الا معنى يعبر عنه بالفارسية (به زننده) وبعبارة أخرى (داراى ضرب) ولا إشكال في وحدة هذا المفهوم الذي ذكرنا وان جاز في مقام الشرح ان يقال شيء أو ذات ثبت له الضرب وليس في باب فهم معاني الألفاظ شيء امتن من الرجوع إلى الوجدان.

حول استدلال السيّد الشريف على البساطة

وقد استدل على عدم اعتبار الذات في مفهوم المشتق بما لا يخلو عن الإشكال:

قال السيّد الشريف (1) في وجه عدم اعتبار الذات في مفهوم المشتقات على ما حكى عنه: انها لو كانت مأخوذة فيها بمفهومها لزم دخول العرض العام في الفصل، فان لفظ الناطق الذي يؤتى به في مقام ذكر فصل الإنسان من المشتقات، فلو اعتبر فيه مفهوم الذات لزم ما ذكر من دخول الغرض العام في الفصل ولو كانت معتبرة بمصداقها لزم انقلاب مادة الإمكان الخاص ضرورة فان الشيء الذي له الضحك هو الإنسان وثبوت الشيء لنفسه ضروري «هذا ملخص ما أفاده».

وفيه إمكان اختيار الشق الأوّل والالتزام بان ما هو مفهوم لفظ الناطق ليس بفصل حقيقة اما بتجريد المفهوم عن الذات ثمّ جعله فصلا للإنسان واما بان ما هو فصل حقيقة غير معلوم وانما جعل هذا مكان الفصل لكونه من

ص: 66


1- في حواشيه على شرح المطالع.

خواص الإنسان، فعلى هذا فلا بأس بأخذ مفهوم الشيء أو الذات في الناطق فإنه وان كان عرضا عاماً للإنسان ولكنه بعد تقييده بالنطق يصير من خواصّه، وكذا إمكان اختيار الشق الثاني ويجاب بان المحمول ليس مصداق الذات أو الشيء مجرداً عن الوصف، بل هو مقيد بالوصف وعليه فلا يلزم انقلاب مادة الإمكان الخاص ضرورة، ضرورة ان كون زيد زيداً المتصف بالضرب ليس ضرورياً.

غاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام ان القضايا المشتملة على الأوصاف تدل على الاخبار بوقوع تلك الأوصاف وان لم تكن الأوصاف المذكورة محمولة في القضية، مثلاً لو قلت: أكرمت اليوم زيداً العالم تدل القضية على حكايتين: إحداهما حكاية ان زيداً عالم، وأخرى حكاية إكرامك إياه وعلى هذا فقولك: زيد ضارب لو كان معناه زيد زيد المتصف بالضرب فيدل هذا القول على اخبار اتصاف زيد بالضرب وعلى ان زيد المتصف بالضرب زيد ولا إشكال في ان الاخبار الثاني بديهي وان كان الأوّل ليس كذلك، فالقضية بناء على هذا تشتمل على قضية ضرورية وقضية ممكنة، مع انه لا شبهة لأحد في ان قولنا زيد ضارب لا يفيد أمراً ضرورياً.

وفيه ان اشتمال القضية المشتملة على الأوصاف على حكايتها انما هو بانحلال النسبة التامة الموجودة فيها، لا انها مركبة من قضيتين أو القضايا وتلك النسبة الواحدة ينظر فيها فان كانت مثبتة لأمر ضروري تعد القضية من الضرورية وان كانت مثبتة لأمر ممكن تعد من الممكنة ولا شبهة في ان النسبة التامة الواقعة بين الذات المقيدة بقيد ممكن والذات المجردة لا تحكى أمراً ضرورياً وهذا واضح.

فائدة

لا إشكال في ألفاظ المشتقات الجارية عليه سبحانه، ولا حاجة إلى ارتكاب النقل أو التجوز فيها، بملاحظة ان المعتبر في معنى المشتق ذات ثبت له

ص: 67

المبدأ فلا يتمشى في صفاته تعالى، بناء على المذهب الحقّ من عينيتها مع ذاته سبحانه.

وجه عدم الإشكال انه كما ان الذهن يلاحظ القطرة تارة بحد ماء الحوض مثلاً وأخرى بحد مستقل، وفي كلّ منهما يعتبر الملحوظ أمراً خارجياً، كذلك لا مانع في صفاته تعالى من ان يعتبر الذهن ذاتاً ومبدأ وعروضا للثاني على الأوّل وينتزع من الذات المعروضة مفهوماً يعبر عنه بالمشتق ومن المبدأ العارض مفهوماً اخر يعبر عنه بالمبدأ، ولا ينافي ذلك مع اعتقاد العينية كما ان ملاحظة القطرة بحد الاستقلال لا ينافي اعتقاد عينيتها مع ماء الحوض.

ومن هنا يظهر الخدشة فيما تفصى به الكفاية عن الإشكال، من كفاية التعدد المفهومي بين الذات والمبدأ مع وجود العينية الخارجية في صحة الحمل فان هذا المعنى موجود بعينه في مبدأ المشتقات المذكورة مع ذاته سبحانه مع عدم صحة الحمل.

هنا تمت المقدمات فلنشرع في المقاصد:

ص: 68

المقصد الأوّل: فيما يتعلق بالأوامر

إشارة:

وتمام الكلام فيه في طي فصول:

الفصل الأوّل: في تحقيق معنى صيغة افعل وما في معناها وتميز معناها عن معنى الجملة الخبرية.

فنقول قد يقال في الفرق بينهما: ان الجمل الخبرية موضوعة للحكاية عن مداليلها في نفس الأمر وفي ظرف ثبوتها سواء كان المحكي بها ممّا كان موطنه في الخارج كقيام زيد أم كان موطنه في النفس كعلمه والمستفاد من هيئة افعل ليس حكاية عن تحقق الطلب في موطنه بل هو معنى يوجد بنفس القول بعد ما لم يكن قبل هذا القول له عين ولا أثر.

وقيل في توضيح ذلك: ان مفهوم الطلب له مصداق واقعي يوجد في النفس ويحمل عليه ذلك المفهوم بالحمل الشائع الصناعي وله مصداق اعتباري وهو ان يقصد المتكلم بقوله: «اضرب» إيقاعه بهذا الكلام وهذا نحو من الوجود وربما يكون منشأ لانتزاع اعتبار مرتب عليه شرعاً وعرفاً آثار وهكذا الحال في ساير الألفاظ الدالة على المعاني الإنشائية كليت ولعل وأمثال ذلك.

والحاصل في الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية على ما ذهب إليه بعض ان مداليل تلك الألفاظ توجد بنفس تلك الألفاظ اعتبارا ولا يعتبر في تحقق مداليلها سوى قصد وقوعها بتلك الألفاظ، سواء كان مع تلك المداليل ما يعد

ص: 69

مصداقاً واقعياً وفرداً حقيقياً أم لا، نعم الغالب كون إنشاء تلك المداليل ملازماً مع المصاديق الواقعية بمعنى ان الغالب ان المريد لضرب زيد واقعاً يبعث المخاطب نحوه وكذا المتمني واقعاً وكذا المترجي كذا يتكلم بكلمة ليت ولعل هذا.

ولى فيما ذكر نظر: اما كون الجمل الخبرية موضوعة لأن تحكى عن مداليلها في موطنها ففيه ان مجرد حكاية اللفظ عن المعنى في الموطن لا يوجب إطلاق الجمل الخبرية عليه، ولا يصير بذلك قابلا للصدق والكذب فان قولنا: «قيام زيد في الخارج» يحكى عن معنى قيام زيد في الخارج ضرورة كونه معنى اللفظ المذكور واللفظ يحكى عن معناه بالضرورة ومع ذلك لا يكون جملة خبرية.

في الفرق بين الإنشاء و الإخبار

فالتحقيق: انه لا بد من اعتبار امر زائد على ما ذكر حتّى يصير الجملة به جملة يصح السكوت عندها وهو وجود النسبة التامة ولا شبهة في ان النسب المتحققة في الخارج ليست على قسمين: قسم منها تامة، وقسم منها ناقصة بل النقص والتمام انما هما باعتبار الذهن فكل نسبة ليس فيها الا مجرد التصور تسمى نسبة ناقصة وكل نسبة تشتمل على الإذعان بالوقوع تسمى نسبة تامة. ثمّ ان الإذعان بالوقوع المأخوذ في الجمل الخبرية ليس هو العلم الواقعي وقوع النسبة ضرورة انه قد يخبر المتكلم وهو شاك بل قد يخبر وهو عالم بعدم الوقوع بل المراد منه هو عقد القلب على الوقوع جعلا على نحو ما يكون القاطع معتقد أو كان سيدنا الأستاذ «نور اللّه ضريحه» يعبر عن هذا المعنى بالتجزم.

وحاصل الكلام انه كما ان العلم قد يتحقق في النفس بوجود أسبابه كلّ قد يخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج فإذا تحقق هذا المعنى في الكلام يصير جملة يصح السكوت عليها، لأن تلك الصفة الموجودة تحكى جزما عن تحقق النسبة في الخارج ويتصف الكلام بالقابلية

ص: 70

للصدق والكذب بالمطابقة والمخالفة هذا في الجمل الخبرية.

واما الإنشائيات فكون الألفاظ فيها علة لتحقق معاينها ممّا لم افهم له معنى محصلا ضرورة عدم كون تلك العلية من ذاتيات اللفظ وما ليس علة ذاتا لا يمكن جعله علة لما تقرر في محله من عدم قابلية العلية وأمثالها للجعل.

والذي أتعقل من الإنشائيات أنها موضوعة لأن تحكى عن حقائق موجودة في النفس مثلاً هيئة افعل موضوعة لأن تحكى عن حقيقة الإرادة الموجودة في النفس فإذا قال المتكلم: اضرب زيداً وكان في نفسه مريدا لذلك فقد أعطت الهيئة المذكورة معناها وإذا قال ذلك ولم يكن مريداً واقعاً فالهيئة المذكورة ما استعملت في معناها نعم بملاحظة حكايتها عن معناها ينتزع عنوان اخر لم يكن متحققا قبل ذلك وهو عنوان يسمى بالوجوب وليس هذا العنوان المتأخر معنى الهيئة إذ هو منتزع من كشف اللفظ عن معناه ولا يعقل ان يكون عين معناه.

فان قلت: قد يؤتى بالألفاظ الدالة على المعاني الإنشائية وليس في نفس المريد معانيها مثلاً قد يصدر من المتكلم صيغة افعل كذا في مقام امتحان العبد أو في مقام التعجيز وأمثال ذلك، وقد يتكلم بلفظة ليت ولعل ولا معنى في النفس يطلق عليه التمني أو الترجي، فيلزم ممّا ذكرت ان تكون الألفاظ في الموارد المذكورة غير مستعملة أصلاً أو مستعملة في غير ما وضعت له، والالتزام بكل منهما لا سيما الأوّل خلاف الوجدان.

قلت تحقق صفة الإرادة أو التمني أو الترجي في النفس قد يكون لتحقق مباديها في متعلقاتها كمن اعتقد المنفعة في ضرب زيد فتحققت في نفسه إرادته أو اعتقد المنفعة في شيء مع الاعتقاد بعدم وقوعه فتحققت في نفسه حالة تسمى بالتمني، أو اعتقد النفع في شيء مع احتمال وقوعه فتحققت في نفسه حالة تسمى بالترجي وقد يكون تحقق تلك الصفات في النفس لا من جهة متعلقاتها بل توجد النفس تلك الصفات من جهة مصلحة في نفسها، كما

ص: 71

نشاهد ذلك وجداناً في الإرادة التكوينية قد توجدها النفس لمنفعة فيها مع القطع بعدم منفعة في متعلقها ويترتب عليها الأثر مثال ذلك: ان إتمام الصلاة من المسافر يتوقف على قصد الإقامة عشرة أيام في بلد من دون مدخلية لبقائه في ذلك البلد بذلك المقدار وجوداً وعدماً، ولذا لو بقي في بلد بالمقدار المذكور من دون القصد لا يتم وكذا لو لم يبق بذلك المقدار ولكن قصد من أول الأمر بقائه بذلك المقدار يتم، ومع ذلك يتمشى قصد البقاء من المكلف مع علمه بان ما هو المقصود ليس منشأ للأثر المهم، وانما يترتب الأثر على نفس القصد ومنع تمشي القصد منه مع هذا الحال خلاف ما نشاهد من الوجدان كما هو واضح، فتعين ان الإرادة قد توجدها النفس لمنفعة فيها لا في المراد فإذا صح ذلك في الإرادة التكوينية صح في التشريعية أيضاً لأنها ليست بأزيد مئونة منها وكذا الحال في باقي الصفات من قبيل التمني والترجي.

إذا عرفت هذا فنقول: ان المتكلم بالألفاظ الدالة على الصفات المخصوصة الموجودة في النفس لو تكلم بها ولم تكن مقارنة مع وجود تلك الصفات أصلاً نلتزم بعدم كونها مستعملة في معانيها، واما ان كانت مقارنة مع وجود تلك الصفات فهذا استعمال في معانيها وان لم يكن تحقق تلك الصفات بواسطة تحقق المبدأ في متعلقاتها فتأمل جيداً.

في الطلب والإرادة، وهل هما متحدان أم لا؟

الفصل الثاني: قد اشتهر النزاع في لن الطلب هل هو عين الإرادة أو غيرها بين العدلية والأشاعرة وذهب الأوّل إلى الأوّل والثاني إلى الثاني.

وملخص الكلام في المقام ان يقال: ان أراد الأشاعرة انه في النفس صفة أخرى غير الإرادة تسمى بالطلب فهو واضح الفساد ضرورة انا إذا نطلب شيئاً لم نجد في أنفسنا غير الإرادة ومباديها وان أراد ان الطلب معنى ينتزع من الإرادة في مرتبة الإظهار والكشف دون الإرادة المجردة، فهما متغاير ان مفهوماً

ص: 72

وان اتحداً ذاتاً، فهو كلام معقول ولكن لا ينبغي ان يذكر في عداد لمسائل العقلية فان انتزاع مفهوم اخر من مرتبة ظهور الإرادة ممّا لا ينكر كما أشرنا إليه سابقاً، فالكلام المذكور يرجع إلى دعوى ان لفظ الطلب موضوع لهذا المعنى بخلاف لفظ الإرادة فإنه موضوع للصفة المخصوصة النفسانية سواء تحقق لها كاشف أم لا.

قال شيخنا الأستاذ (دام بقاؤه) في الكفاية في توضيح عينية الطلب مع الإرادة ما لفظه: ان الحقّ كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة وخلافا للأشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة بمعنى ان لفظهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الاخر والطلب المنشأ بلفظ أو بغيره عين الإرادة الإنشائية، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاء وخارجا لا ان الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية الّتي ينصرف إليها إطلاقها أيضاً ضرورة ان المغايرة بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس إذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به كفاية فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان فان الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تكون هو الطلب غيرها انتهى (1).

أقول: ما أفاده من ان الإنسان لا يجد من نفسه غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها عند طلبه شيئاً هو حقّ لا محيص عنه، واما التزامه بان المفهوم الذي هو ما بإزاء لفظ الإرادة أو الطلب له نحوان من التحقق: أحدهما التحقق الخارجي والاخر التحقق الاعتباري فهو مبنى على ما حققه من ان معاني الهيئة أمور اعتبارية توجد باللفظ بقصد الإيقاع وفيه مضافاً إلى ما عرفت سابقاً من عدم تعقل كون اللفظ موجدا لمعناه ان الأمور الاعتبارية الّتي

ص: 73


1- الكفاية، الجهة الرابعة من مباحث مادة الامر، ص 95.

فرضناها متحققة بواسطة الهيئة في الموارد الجزئية يؤخذ منها جامع تكون تلك الجزئيات مصداقاً حقيقياً له، وهذا كما في الفوقية، فإنها وان كانت من الأمور الاعتبارية ولكن يؤخذ من جزئياتها جامع يحمل على تلك الجزئيات كحمل باقي المفاهيم على مصاديقها ولا معنى لجعل تلك الأمور مصاديق اعتبارية لمفهوم اخر لا ينطبق عليها والحاصل انه ليس للمفهوم سوى الوجود الذهني والخارجي نحو اخر من التحقق يسمى وجوداً اعتباريا له .

هل الصيغة حقيقة في الوجوب أم لا؟

الفصل الثالث: هل الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وجوه.

أقواها الأخير، ولكنها عند الإطلاق تحمل على الأوّل.

ولعل السر في ذلك ان الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده ليس الا، والندب انما يأتي من قبل الاذن في الترك منضما إلى الإرادة المذكورة، فاحتاج الندب إلى قيد زائد بخلاف الوجوب فإنه يكفي فيه تحقق الإرادة وعدم انضمام الرخصة في الترك إليها.

وهل الحمل على الوجوب عند الإطلاق يحتاج إلى مقدمات الحكمة وحيثما اختلت لزم التوقف أم لا؟ بل يحمل على الوجوب عند تجرد القضية اللفظية من القيد المذكور الأقوى الثاني: لشهادة العرف بعدم صحة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال الندب وعدم كون الأمر في مقام بيان القيد الدال على الرخصة في الترك.

ونظير ما ذكرنا هنا من استقرار الظهور العرفي بمجرد عدم ذكر القيد في الكلام وان لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان القضايا المسورة بلفظ الكل وأمثاله، فان تلك الألفاظ موضوعة لبيان عموم افراد مدخولها سواء كان مطلقاً أم مقيداً ففي قضية أكرم كلّ رجل عالم وأكرم كلّ رجل، لفظ الكل مفيد لمعنى واحد وهو عموم افراد ما تعلق به وما دخل عليه غاية الأمر مدخوله في الأولى

ص: 74

الطبيعة المقيدة وفي الثانية المطلقة، فالتقيد في الرجل الذي هو مدخول الكل ليس تصرفاً في لفظ الكل وهذا واضح ولكنه مع ذلك لو سمعنا من المتكلم أكرم كلّ رجل لا نرى من أنفسنا في الحكم بالعموم في افراد الرجل الاحتياج إلى مقدمات الحكمة في لفظ الرجل بحيث لولاها نتوقف في ان المراد من القضية المذكورة إكرام جميع افراد الرجل أو جميع افراد الصنف الخاص منه.

ولا يبعد ان يكون نظير ذلك حمل الوجوب على النفسي والتعييني عند احتمال كونه غيرياً أو تخييرياً، فان عدم اشتمال القضية على ما يفيد كون وجوبه لملاحظة الغير وكذا على ما يكون طرفا للفعل الواجب يوجب استقرار ظهورها في كون الوجوب نفسيا تعيينيا فلا يحتاج إلى إحراز مقدمات الحكمة.

والشاهد على ذلك كلّه المراجعة إلى فهم العرف، إذ لا دليل في أمثال ذلك امتن ممّا ذكر.

ويحتمل ان يكون حمل الإرادة على الوجوب التعييني النفسي عند عدم الدليل على الخلاف من باب كونها حجة على ذلك عند العقلاء لو كان الواقع كذلك، نظير حجّية الأوامر الظاهرية على الواقعيات على تقدير التطابق من دون ان يستقر الظهور اللفظي فيما ذكرنا فافهم.

في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب

الفصل الرابع: الجمل الخبرية الّتي يؤتى بها في مقام الطلب ظاهرة في الوجوب سواء قلنا بأنها مستعملة في الطلب مجازا أم قلنا بأنها مستعملة في معانيها من الحكاية الجزمية عن الواقع بداعي الطلب، كما هو الظاهر اما على الأوّل فلما مر من ان الندب يحتاج إلى مئونة زائدة، واما على الثاني فلان الاخبار بوقوع المطلوب في الخارج يدل على عدم تطرق نقيضه عند الأمر، فيكون هذا أبلغ في إفادة الوجوب من صيغة افعل وأمثالها.

لا يقال: لازم حمل الجمل الخبرية في مقام الطلب على الاخبار وقوع الكذب

ص: 75

فيما لم يأت المكلف بالمطلوب.

لأنا نقول: الصدق والكذب يلاحظان بالنسبة إلى النسبة الحكمية المقصودة بالأصالة دون النسبة الّتي جيء بها توطئة لإفادة امر اخر ولذا لا يستند الكذب إلى القائل بان زيداً كثير الرماد توطئة لإفادة جوده وان لم يكن له رماد أو كان ولم يكن كثيراً وانما يسند إليه الكذب لو لم يكن زيد جواداً.

في المرة والتكرار و الفور و التراخي

الفصل الخامس: هيئة افعل تدل بوضع المادة على الطبيعة اللا بشرط من جميع الاعتبارات حتّى الوجود والعدم وحتى الاعتبار الذي به صار مفاداً للمصدر ضرورة ان المعنى المذكور آب عن الحمل على الذات فيمتنع وجوده في الهيئة الّتي تحمل على الذات هذا وضع المادة وتدل بواسطة وضع الهيئة على الطلب القائم بالنفس فالمركب من الوضعين يفيد الطلب المتعلق بتلك الطبيعة اللا بشرط وحيث ان الطبيعة اللا بشرط حتّى من حيث الوجود والعدم لا يمكن ان تكون محلا للإرادة عقلاً يجب اعتبار وجود ما (1) زائداً على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة.

والوجود المذكور الذي يجب اعتباره عقلاً على أنحاء: أحدها الوجود الساري في كلّ فرد كما في قوله تعالى «أحل اللّه البيع» (2) الثاني الوجود المقيد بقيد خاص ومن القيود المرة والتكرار والفور أو الوجود الأوّل وأمثال ذلك، الثالث ان يعتبر صرف الوجود مقابل العدم الأزلي من دون امر اخر وراء ذلك وبعبارة أخرى كان المطلوب انتقاض العدم الأزلي بالوجود من دون ملاحظة

ص: 76


1- بل يمكن القول باعتباره وضعاً أيضاً فان الهيئة موضوعة بإزاء الإرادة المتعلقة بالطبيعة بلحاظ الوجود (منه).
2- سورة البقرة، الآية 275.

شيء اخر، وحيثما لا يدل الدليل على أحد الاعتبارات يتعين الثالث لأنه المتيقن من بينها (1) وغيره يشتمل على هذا المعنى وامر زائد فيحتاج إلى مئونة أخرى زائدة مدفوعة بمقتضى الإطلاق.

ومما ذكرنا يظهر ان الفور والتراخي والمرة والتكرار وغيرها كلها خارجة عن متفاهم اللفظ نعم لو دل الدليل على أحدها لم يكن منافيا لوضع الصيغة لا بمادتها ولا بهيئتها، ولازم ما ذكرنا الاكتفاء بالمرة سواء أتى بفرد واحد من الطبيعة أم أزيد منه، لانطباق الطبيعة المعتبرة فيها حقيقة الوجود من دون اعتبار شيء اخر على ما وجد أولاً فيسقط الأمر إذ بعد وجود مقتضاه في الخارج لو بقي على حاله لزم طلب الحاصل، وهو محال، نعم يمكن ان يقال في بعض الموارد بجواز إبطال ما أتى به أولاً وتبديله بالفرد الذي يأتي به ثانياً كما يأتي بيانه في محله هذا.

في الاجزاء

الفصل السادس: لا إشكال في ان الإتيان بالمأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرطاً وشطراً يوجب الاجزاء عنه بمعنى عدم وجوب الإتيان به ثانياً باقتضاء ذلك الأمر لا أداء ولا قضاء، لسقوط الأمر بإيجاد متعلقه ضرورة انه لو كان باقياً بعد فرض حصول متعلقه لزم طلب الحاصل وهو محال ولا فرق في ذلك بين الواجبات التعبدية والتوصلية وما قد يتوهم في التعبديات من انه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ومع ذلك لم يسقط الأمر لفقد التقرب الذي اعتبر في الغرض فهو بمعزل عن الصواب، لما ذكرنا من استحالة بقاء الأمر

ص: 77


1- لا يخفى ان اعتبار صرف الوجود أيضاً قيد زائد ويحتاج إلى مؤنة زائدة، فالقدر المتقين هو مطلق الوجود المعرى حتّى من هذا القيد، ولا يلزم من ذلك القول بالتكرار لان العلة الواحدة لا تقصى الا معلولا واحداً " منه ".

مع وجود عين ما اقتضاه في الخارج، واما وجوب الإتيان ثانياً في التعبديات لو أخل بقصد القربة فاما من جهة اعتبار ذلك في المأمور به واما من جهة تعلق الأمر بالإتيان بالفعل ثانياً بعد سقوط الأمر الأوّل لعدم حصول الغرض الأصلي وستطلع على تفصيل ذلك عند البحث عن وجوب مقدمة الواجب إن شاء اللّه.

والحاصل ان الأمر إذا أتى بما اقتضاه بجميع ما اعتبر فيه لا اقتضاء له ثانياً نعم يتصور امر اخر يتعلق بإيجاد الفعل ثانياً وهذا غير عدم الاجزاء عن الأمر الأوّل ولعمري ان هذا من الوضوح بمكان.

وكذا لا فرق فيما ذكرنا بين الأوامر المتعلقة بالعناوين الأولية والأوامر الملحوظ فيها الحالات الطارية من قبيل العجز والاضطرار والشك وأمثال ذلك، لوجود الملاك الذي ذكرنا في الجميع.

وانما الإشكال والكلام في ان الأوامر المتعلقة بالمكلف بملاحظة العناوين الطارية لو أتى المكلف بمتعلقاتها هل تجزى عن الواقعيات الأولية بحيث لو ارتفعت تلك الحالة الطارية في الوقت أو خارجه لا يجب عليه الإتيان بما اقتضت الأوامر الواقعية الأولية أو لا يكون كذلك؟

إذا عرفت ذلك فنقول: ان العناوين الطارية الّتي توجب التكليف على قسمين: أحدهما ما يوجب حكما واقعياً في تلك الحالة مثل الاضطرار والثاني ما يوجب حكما ظاهر يا مثل الشك.

فهاهنا مقامان يجب التكلم في كلّ منهما.

اجزاء الاضطراري عن الاختياري

اما القسم الأوّل: فينبغي التكلم فيه تارة في أنحاء ما يمكن ان يقع عليه وأخرى فيما وقع عليه.

اما الأوّل فنقول يمكن ان يكون التكليف بشيء في حال عدم التمكن من

ص: 78

شيء اخر والاضطرار العرفي بتركه، من جهة ان ذلك الشيء مشتمل على عين المصلحة الّتي تقوم بالفعل الاختياري، من دون تفاوت أصلاً، مثلاً الصلاة مع الطهارة المائية في حقّ واجد الماء والترابية في حقّ فاقده سيان في ترتب الأثر الواحد المطلوب الموجب للأمر ويمكن ان يكون الفعل في حقّ المضطر مشتملاً على مصلحة وجوبية لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري وان كانت مثلها في كونها متعلقة لغرض الأمر في الحالة الّتي يكون المكلف عليها ويمكن ان يكون مشتملاً على مرتبة نازلة من المصلحة القائمة بالفعل الاختياري وعلى هذا يمكن بلوغ الزائد حدّاً يجب استيفائه ويمكن عدم بلوغه بهذه المرتبة وعلى الأوّل يمكن كون الزائد ممّا يمكن استيفائه بعد زوال العذر ويمكن عدم كونه كذلك هذه أنحاء الصور في التكاليف الاضطرارية.

ولازم الأوّل من الأقسام المذكورة الاجزاء بداهة مساواة الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في تحصيل الغرض على الفرض المذكور فكما ان الفعل الاختياري يوجب الاجزاء كذلك الاضطراري.

ولازم الثاني منها عدم الاجزاء إذ الفعل الاضطراري وان كان مشتملاً على المصلحة التامة كالاختياري لكن المصلحة القائمة بكل منهما تغاير الأخرى فلا يكون أحد الفعلين مجزيا عن الاخر نعم يمكن ان يكون أحد الفعلين في الخارج موجبا لعدم إمكان استيفاء مصلحة الاخر.

ولا يخفى ان لازم كلا القسمين المذكورين جواز تحصيل الاضطرار اختياراً.

ولازم الثالث عدم الاجزاء مع اتصاف الزائد بوجوب الاستيفاء وإمكانه معا وفي غيره الاجزاء ثمّ انه ان كانت المصلحة الزائدة بمرتبة اللزوم ولا يمكن الاستيفاء بعد إتيان الفعل الاضطراري لا يجوز للأمر الإيجاب والبعث إلى الاضطرار في الوقت، ان علم بزوال عذره قبل زوال الوقت لأنه تفويت للمصلحة اللازمة، وفي غير الصورة المذكورة يجوز الإيجاب وان علم بزوال عذره

ص: 79

في الوقت، ووجهه ظاهر.

ولازم الصورة الأولى عدم جواز البدار إلى الفعل الاضطراري الا إذا علم باستيعاب العذر لتمام الوقت كما ان لازم الثانية جواز ذلك وان علم بانقطاع العذر والقول بعدم جواز البعث للأمر والبدار للمكلف في الصورة الأولى انما هو فيما لم يكن للتكليف مصلحة يتدارك بها المصلحة الزائدة الفائتة، والا يجوز وتنتفي الثمرة بين الصورتين.

هذه أنحاء التصور في التكاليف الاضطرارية.

واما ما وقع بمقتضى النظر في أدلتها فالظاهر ان المأتي به في حال الاضطرار لو وقع مطابقا لمقتضى الأمر يسقط الإعادة ثانياً فان ظاهر أدلتها ان المعنى الواحد يحصل من المختار بإتيان التام ومن المضطر بإتيان الناقص، نعم في كون موضوع تكليف المضطر هو الاضطرار الحالي أو الاضطرار المستوعب لتمام الوقت كلام لا بد في تنقيح ذلك من النظر في الأدلة وللكلام فيه محل اخر ويتفرع على الأوّل سقوط الإعادة لو انقطع العذر في الأثناء وعلى الثاني عدم السقوط لا لعدم اجزاء امتثال الأمر في حال الاضطرار بل لكشف انقطاع العذر عن عدم كون المأتي به متعلّقاً للأمر.

واما القضاء فيما إذا استوعب العذر مجموع الوقت وانقطع بعده فيسقط عنه على كلا التقديرين.

ثمّ انه لو فرضنا الشك في ظواهر الأدلة فأصالة البراءة محكمة لرجوع المقام إلى الشك في التكليف ولا فرق في ذلك بين الإعادة والقضاء.

لا يقال: مقتضى وجوب قضاء ما فات وجوب العمل التام عليه لصدق فوت العمل التام عنه.

لأنا نقول: يعتبر في صدق الفوت اشتمال العمل على المصلحة المقتضية للإيجاب عليه ولم يستوفها المكلف والمفروض احتمال استيفاء المكلف العاجز تلك المصلحة بإتيان الناقص ومع هذا الاحتمال يشك في صدق الفوت الذي

ص: 80

هو موضوع أدلة القضاء.

هذا حال التكليف الاضطراري.

اجزاء الظاهري عن الواقعي

واما التكاليف المتعلقة على المكلف في حال الشك في التكليف الواقعي فملخص الكلام فيها انه ان قلنا باشتمال متعلقاتها في تلك الحالة على المصالح فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال الاضطرار من دون تفاوت وان قلنا بأنها تكاليف جعلت لرفع تحير المكلف عن الواقعيات في مقام العمل فلازم ذلك عدم الاجزاء، لعدم حصول الغرض الموجب للتكليف بالواقع على هذا الفرض غاية الأمر كون الامتثال لتلك التكاليف عذراً عن الواقع المتخلف عنه وحد إمكان العذر عن الشيء كونه مشكوكا فيه فإذا علم لا يمكن عقلاً ان يكون معذوراً فيه، لوجوب امتثال الحكم المعلوم وحرمة مخالفته ولا فرق فيما ذكرنا بين ان يكون مورد الأحكام الظاهرية الشبهات الموضوعية أو الحكمية.

وحاصل الكلام ان الغرض الموجب للحكم حدوثا موجب له بقاء ما لم يحصل، وبعد ما فرضنا ان متعلقات الأحكام الظاهرية ليست مشتملة على مصالح حتّى يتوهم حصول تلك الأغراض الموجبة للتكليف بالواقعيات بإتيانها وانما فائدتها تنجيز الواقعيات في مورد ثبوتها وكونها عذرا عنها في صورة التخلف، فلا وجه لتوهم الاجزاء لأنه ان كان المراد سقوط الأمر بالواقعيات بمجرد امتثال الأمر الظاهري فلا يعقل مع بقاء الغرض الذي أوجب الأمر وان كان المراد كونها معذورا فيها مع بقاء الأمر بها وارتفاع الشك فلا يعقل أيضاً، لاستقلال العقل بعدم معذوريته من علم بتكليف المولى.

نعم يمكن ان يوجب امتثال الأمر الظاهري عدم القابلية لاستدراك المصلحة القائمة بالواقع. فيسقط الأمر به من هذه الجهة، وهذا الاحتمال مع كونه بعيدا في

ص: 81

حد نفسه لا يصير منشأ للتوقف، إذ غايته الشك في السقوط وهو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال.

هذا إذا علم ان جعل الأحكام الظاهرية من باب الطريقية.

ولو شك في انه كذلك أو من باب السببية أو علم انه من باب السببية ولكن شك في ان الإتيان بالمشكوك هل هو واف بتمام الغرض الموجب للأمر بالواقع أو بمقدار يجب استيفائه أو لم يكن كذلك؟ فهل الأصل في تمام ما ذكرنا يقتضى الاجزاء أو عدمه أو التفصيل بين ما إذا كان منشأ الشك في الاجزاء وعدمه الشك في ان جعل الأحكام الظاهرية من باب السببية أو الطريقية وما إذا كان منشأ الشك فيه الشك في كيفية المصلحة القائمة بالفعل المشكوك المتعلق للأمر بعد إحراز ان الجعل من باب السببية؟

والحق ان يقال بان مقتضى الأصل عدم الاجزاء مطلقاً، بيان ذلك ان الأحكام الواردة على الشك سواء قلنا بأنها جعلت لمصلحة في متعلقاتها أو قلنا بأنها جعلت من جهة الطريقية انما جعلت في طول الأحكام الواقعية لأن موضوعها الشك في الواقعيات بعد الفراغ عن جعلها، فلا يمكن ان تكون رافعة لها غاية الأمر ان الإتيان بمتعلقاتها ان قلنا بان الجعل فيها من باب السببية وانها وافية بمصالح الواقعيات مجزي عنها، وهذا غير ارتفاع الأحكام الواقعية وانحصار الحكم الفعلي بمؤدى الطريق.

إذا عرفت ذلك فتقول لو أتى المكلف بما يؤدى إليه الطريق، فان قطع باشتمال ما أتى به على المصلحة المتحققة في الواقع فهو والا فبعد انكشاف الخلاف يجب عليه إتيان الواقع سواء كان الشك في السقوط وعدمه مستند إلى الشك في جهة الحكم الظاهري أو في وفاء المصلحة المتحققة في متعلق الحكم الظاهري لإدراك ما في الواقع بعد إحراز ان للجعل انما يكون من جهة المصلحة الموجودة في المتعلق إذ يشترك الجميع في ان المكلف يعلم حين انكشاف الخلاف بثبوت تكليف عليه في الجملة ويشك في سقوطه عنه وهذا الشك مورد

ص: 82

للاشتغال العقلي.

ومما ذكرنا يظهر لك الفرق بين المقام والمقام السابق الذي قلنا فيه بالبراءة من الإعادة والقضاء بعد إتيان ما اقتضاه التكليف في حال الاضطرار توضيح الفرق ان المكلف في حال الاضطرار ليس عليه الا الفعل الناقص الذي اقتضاه تكليفه في تلك الحال، فلو كلف بعد ارتفاع العذر بالفعل التام فهو تكليف ابتدائي جديد فالشك فيه مورد للبراءة، بخلاف حال الشك، فان ما وراء هذا التكليف الذي اقتضاه الدليل في حال الشك واقع محفوظ، فإذا ارتفع الشك يتبين له ذلك الواقع الثابت ويشك في سقوطه عنه هذا ما أدى إليه نظري القاصر في المقام وعليك بالتأمل التام.

ص: 83

المقصد الثاني: في مقدمة الواجب

في مقدمة الواجب وكيفية شمول البحث المقدمات الحرام

اعلم ان الواجب في الاصطلاح عبارة عن الفعل المتعلق للإرادة الحتمية المانعة عن النقيض، فلا يشمل ترك الحرام، وان كان ينتزع من مبغوضية الفعل وعدم الرضا به كون تركه متعلّقاً للإرادة الحتمية المانعة عن النقيض الا انه لا يسمى واجباً في الاصطلاح فلو اقتصر في العنوان المبحوث عنه هنا بمقدمة الواجب كما فعله الأصوليون فاللازم جعل الحرام عنوانا مستقلاً يتكلم فيه فالأولى جعل البحث هكذا «هل الإرادات الحتمية للمريد سواء كانت متعلقة بالفعل ابتداء أو بالترك من جهة مبغوضية الفعل تقتضي إرادة ما يحتاج ذلك المراد إليه أم لا» حتّى يشمل مقدمة الفعل الواجب والترك الواجب.

ثمّ على القول بالاقتضاء يحكم بوجوب جميع مقدمات الفعل الواجب من المعد والمقتضى والشرط وعدم المانع ومقدمات المقدمات واما الترك الواجب فلا يجب بوجوبه الا ترك إحدى مقدمات وجود الفعل والسر في ذلك ان الفعل في طرف الوجود يحتاج إلى جميع المقدمات ولا يوجد الا بإيجاد تمامها ولكن الترك يتحقق بتحقق ترك إحداها فلا يحتاج إلى تروك متعددة حتّى يجب تلك التروك بوجوب ذلك الترك.

من هنا ظهر انه ان لم يبق الا مقدمة مقدورة واحدة اما بوجود الباقي واما بخروجه عن حيز القدرة فحرمة ذلك الفعل تقتضي حرمة تلك المقدمة المقدور عليها عيناً كما هو الشأن في كلّ تكليف تخييري امتنع أطرافه الا واحداً، فإنه

ص: 84

يقتضى إرادة الطرف الباقي تحت القدرة معينا وهذا واضح.

فلو فرض ان صب الماء على الوجه مثلاً يترتب عليه التصرف في المحل المغصوب قطعاً بحيث لا يقدر بعد الصب على إيجاد المانع أو رفع المحل عن تحت الماء فحرمة الغصب ووجوب تركه تقتضي حرمة صب الماء على الوجه عيناً.

وعلى هذا بنى سيّد أساتيذنا الميرزا الشيرازي (قدّس سِرُّه) في حكمه ببطلان الوضوء وان لم يكن المصب منحصراً في المغصوب إذا كانت الطهارة بحيث يترتب عليها التصرف فلا يرد عليه (قدّس سِرُّه) ان صب الماء ليس علة تامة للغصب حتّى يحرم بحرمته بل هو من المقدمات وما هو كذلك لا يجب تركه شخصاً حتّى ينافي الوجوب، وحاصل الجواب ان صب الماء وان لم يكن علة الا انه بعد انحصار المقدمات المقدورة فيه كما هو المفروض يجب تركه عيناً.

فان قلت: ليس المقدور منحصراً في الصب بل الكون في المكان المخصوص أيضاً من المقدمات وهو باق تحت قدرة المكلف فلم يثبت حرمة صب الماء عيناً.

قلت: ليس الكون المذكور من مقدمات تحقق الغصب في عرض صب الماء، بل هو مقدمة لتحقق الصب الخاص الذي هو مقدمة لتحقق الغصب والنهي عن الشيء يقتضى النهي عن أحد الأفعال الّتي هي بمجموعها علة لذلك الشيء، فإذا انحصر المقدور من هذه الأفعال في واحد يقتضى حرمته عيناً هذا.

وإذ قد عرفت ان حرمة مقدمات الحرام انما تكون على سبيل التخيير بمعنى ان الواجب ترك إحدى المقدمات منها يتبين لك انه إذا اقتضت جهة من الخارج وجوب إحدى تلك المقدمات عيناً فلا يزاحمه الحرمة التخييرية الّتي جاءت من قبل النهي لأن الأوّل ليس له بدل بخلاف الثاني فلا وجه لرفع اليد عن أحدا لغرضين الفعليين إذا أمكن الجمع بينهما، فاللازم بحكم العقل

ص: 85

قصر أطراف الحرام التخييري على غير ما اقتضت المصلحة وجوبه عيناً.

وهكذا الكلام في الواجب التخييري بالنسبة إلى الحرام التعييني فان اللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب بغير الحرام ولا يلاحظ هنا الأهم وغيره فان هذه الملاحظة انما تكون فيما إذا كان فوت أحد الغرضين ممّا لا بد منه واما فيما يمكن الجمع بينهما فلا وجه لغيره.

ومن هنا ظهر انه بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي يجب الحكم بكون الصلاة في الدار المغصوبة محرمة وتقييد مورد الصلاة بغير هذا الفرد وان كانت الصلاة لهم من الغصب بمراتب.

ولو كان الواجب تخييرياً، وكذلك الحرام فهل يمكن اجتماعهما في محل واحد بناء على عدم جواز اجتماعهما في غير هذا المورد أولا؟ مثاله لو كان صب الماء على الوجه مقدوراً وهكذا أخذه على تقدير الصب بحيث لا يقع في المحل المغصوب، فهل يمكن ان يكون هذا الصب تركه واجباً بدلاً لكونه ممّا يترتب عليه ترك الحرام وكذلك فعله لكونه أحد افراد غسل الوجه في الوضوء أولا؟ قد يقال بالعدم، لأن كون الشيء طرفاً للوجوب التخييري يقتضى ان يكون تركه مع ترك باقي الافراد مبغوضا للمولى وكونه طرفا للحرمة التخييرية يقتضى ان يكون الترك المفروض مطلوباً له.

والذي يقوى في النفس ان يقال: ان فعل ذلك الشيء المفروض على تقدير قصد ترك أحد الأطراف الذي هو بدل له في الحرمة لا مانع من تحقق العبادة به لأنه على هذا التقدير ليس قبيحا عقلاً بل على تقدير عدم قصد التوصل به إلى الحرام، نعم على غير هذين التقديرين وهو ما إذا كان الآتي بذلك الفعل قاصدا إلى إيجاد فعل الحرام لا يمكن ان يكون ذلك الفعل عبادة فحينئذٍ نقول في المثال ان صاب الماء على الوجه ان لم يقصد به إيجاد فعل الغصب فلا مانع من صحة وضوئه، والا فالحكم بالبطلان متجه وستطلع على زيادة توضيح لأمثال هذا المقام في مسألة اجتماع الأمر والنهي هذا.

ص: 86

ثم ان هذه المسألة هل هي داخلة في المسائل الأصوليّة أو الفقهية؟ أقول: مسألتنا هذه ان كان البحث فيها راجعاً إلى الملازمة العقلية فهي من المسائل الأصوليّة وان كان عن وجوب المقدمة فهي من المسائل الفقهية، وقد تقدم في أول الكتاب ما يوضح ذلك والظاهر الأوّل.

وكيف كان فتمام الكلام في هذا المقام في ضمن أمور:

حول اعتبار الاختيار و المباشرة في المأمور به

الأوّل: الواجب تارة يلاحظ فيه إضافته إلى الفاعل وأخرى لم يلاحظ فيه ذلك بل المطلوب إيجاد الفعل ولو بتسبيب منه وعلى الأوّل قد يلاحظ فيه مباشرة الفاعل بيده وقد يكون المقصود أعم من ذلك ومن ان يأتي به نائبه، وأيضاً قد لا يحصل الغرض الا باعمال اختياره في الفعل ولو بإيجاد سببه وقد لا يكون كذلك بمعنى عدم مدخلية الاختيار في الغرض وأيضاً قد يكون لقصد عنوان المطلوب مدخلية في تحصيل الغرض وقد يكون الغرض أعم من ذلك والمقصود في هذا البحث بيان انه هل الأمر بنفسه ظاهر في تشخيص المقدمة أولاً ظهور له فيه مطلقاً؟ أو يفصل بين تلك الوجوه؟ وعلى تقدير عدم الظهور هل الأصل ما ذا؟

فنقول: وباللّه الاستعانة القيد على ضربين: أحدهما ما يحتاج إليه الطلب بحكم العقل والثاني غيره والأول اما ان يكون مذكورا في القضية أولا.

اما ما كان من هذا القبيل ولم يذكر في القضية فالظاهر ان المطلوب غير مقيد بالنسبة إليه ولذا نفهم من دليل وجوب الصلاة انها مطلوبة حتّى من النائم الذي لا يقدر عليها ومن هنا يقال بوجوب القضاء مع انه تابع لصدق الفوت الذي لا يصدق الا مع بقاء المقتضى في حقه والدليل على ذلك ان الأمر المتصدي لبيان غرضه لا بد ان يبين جميع ماله دخل فيه فليستكشف إذا من عدم التنبيه عليه عدم مدخليته في غرضه وان كان له دخل في تعلق

ص: 87

الطلب مثل القدرة فعلى هذا نقول: قوله أنقذ الغريق مثلاً يستكشف عنه ان الإنقاذ في كلّ فرد مطلوب له حتّى فيما إذا وجد غريقان ولم يقدر على إنقاذهما.

هذا حال القيود الّتي يتوقف عليها حسن الطلب ولم تذكر في القضية.

واما إذا ذكر مثل تلك القيود فيها كما إذا قال اضرب زيداً ان قدرت عليه فالظاهر إجمال المادة به، من حيث ان ذكر هذا القيد يمكن ان يكون لتقييد المطلوب وان يكون لتوقف الطلب عليه فلا يحكم بتقييد المطلوب ولا بإطلاقه بل يعمل فيه بمقتضى الأصول العمليّة.

واما إذا كان القيد ممّا لا يتوقف حسن الطلب عليه كتقييد الرقبة المأمور بعتقها بالمؤمنة ونظائره فلا إشكال في انه متى لم يذكر في الكلام نتمسك بإطلاقه ونحكم بعدم مدخليته، ان وجدت هناك شرائط الأخذ بالإطلاق والا فبمقتضى الأصول كما انه لا إشكال في انه متى ذكر في القضية فالظاهر ان له دخلا في المطلوب الا إذا استظهر من الخارج إلغائه.

إذا عرفت هذا فنقول: ان شككنا في اعتبار إضافة الفعل إلى المأمور فان كان اللفظ مفيداً لهذا القيد فنحكم باعتباره في المطلوب (1) لأنه ليس ممّا يتوقف عليه الطلب لأنه من الممكن ان يأمر بتحقق هذا الفعل على سبيل الإطلاق،

ص: 88


1- يمكن ان يقال بمدخلية هذه القيود الثلاثة أعني الإضافة إلى الفاعل ومباشرته في قبالي التسبيب والنيابة في حسن الطلب بمعنى عدم حسن توجيهه نحو وجود الفعل على الإطلاق وان لم يصدر من فاعل المختار كما لو اتفق حصوله بهوب الريح ونحوه أو نحو النتائج المتولدة من فعل الشخص وكذا نحو فعل الغير ولو كان نائبا عن المأمور ووجه ذلك ان حال إرادة الأمر حال إرادة الفاعل بعينها فكما ان شأن الثانية تحريك عضلات المريد نحو ما هو صادر عنه ويعد فعلا له دون ما يتولد من فعله كالانكسار الحاصل من الكسر فضلا عن فعل الأجنبي كذلك شأن الأولى تحريك عضلات المأمور نحو ما هو فعل له لأن عضلاته بمنزلة عضلات الأمر فحينئذٍ تقول ان لم يذكر هذه القيود في القضية يحكم بإطلاق المادة من جهتها لكن هذه مجرد فرض وان ذكر أحدها يحصل الإجمال فلا بد من ان ترجع إلى الأصل العملي وهو هنا الاشتغال وان قلنا بالبراءة في غير المقام وذلك لأن الإرادة كما قلنا لا تتوجه الا نحو الخاص المتقيد بهذه القيود الثلاثة وهي حجة عقلية على ذلك الخاص حتّى يعلم من الخارج إلغاء تلك الخصوصيات وقد مر نظير ذلك في دوران بين الأمر الوجوب والندب فراجع «منه».

بان يقول أريد منك تحقق هذا الفعل مطلقاً سواء توجده بنفسك أو تبعث غيرك عليه فلو قال اضرب زيداً مثلاً الظاهر في ان المطلوب الضرب المضاف إلى المأمور فاللازم بمقتضى هذا الظهور الحكم بتقييد المطلوب، وان الغرض لا يحصل بضرب غيره إياه، الا ان يستظهر من الخارج عدم مدخلية هذه الإضافة في الغرض مثل ان يكون الغالب في أوامر الشارع عدم اعتبار الإضافة المذكورة كما ادعى أو ان يكون الغالب في الأوامر العرفية عدم اعتبارها ولم يتحقق في الأوامر الشرعية ما يوهن الغلبة العرفية.

اعتبار الاختيار وقصد العنوان في المأمور به

واما الاختيار وقصد العنوان فملخص الكلام فيهما انه لا إشكال في عدم إمكان تعلق التكليف بخصوص الفعل الصادر من غير اختيار المكلف ولا بخصوص ما لم يكن عنوانه مقصودا ولو كان ملتفتاً إليه، اما الأوّل فواضح واما الثاني فلعدم إمكان بعث الأمر إلى غير عنوان المطلوب وهذا واضح بعد أدنى تأمل فانحصر الفعل القابل لتعلق التكليف في الاختياري الذي قصد عنوانه.

فحينئذٍ ان قلنا بان التكاليف المتعلقة بالطبيعة تسرى إلى افرادها وقد عرفت ان الفرد القابل للحكم منحصر في الأخير، فالقيدان المذكوران أعني الاختيارية وقصد العنوان من القيود الّتي يحكم العقل باحتياج الطلب إليها وقد عرفت حكمها واما ان قلنا بعدم السراية كما هو التحقيق فيكفي في حسن الخطاب بنفس الطبيعة من دون تقييد وجود فرد لها يحس الخطاب بالنسبة إليه وعلى هذا فلو فرض تكليف متعلق بفعل مع قيد صدوره عن اختيار

ص: 89

المكلف أو مع قصد العنوان يستكشف به تقييد الغرض إذ هما من القيود الّتي يستغنى عنها الطلب عقلاً فذكرهما في الكلام يدل على تقييد الغرض كما عرفت.

نعم قدرة المكلف بالنسبة إلى أصل الطبيعة ممّا يحتاج إليه صحة الطلب عقلاً فلو لم تذكر في القضية فإطلاق المادة بحاله وان ذكرت تكون موجبة لإجمالها كما عرفت.

واما الشك في ان الفعل هل يجب ان يؤتى به بمباشرة بدنه أو يجتزئ بإتيان النائب فالكلام فيه في مقامين أحدهما في إمكان ذلك عقلاً في الواجبات التعبدية الّتي يعتبر فيها تقرب الفاعل، وانه كيف يمكن كون فعل الغير مقربا لآخر حتّى يكون مجزيا عنه والثاني بعد الفراغ عن الإمكان في مقتضى القواعد من الأصول اللفظية والعمليّة.

اما الكلام في المقام الأوّل: فنقول: ما يصلح ان يكون مانعاً عقلاً وجهان:

أحدهما انه بعد فرض كون الفعل مطلوباً من المنوب عنه، والأمر متوجها إليه كيف يعقل ان يصير ذلك الأمر المتوجه إليه، داعياً ومحركا للنائب، مع انه قد لا يكون امر بالنسبة إلى المنوب عنه أيضاً كما إذا كان ميتاً.

والثاني بعد فرض صدور الفعل من النائب بعنوان الأمر المتعلق بالمنوب عنه كيف يعقل ان يصير هذا الفعل مقربا له مع انه لم يحصل منه اختيار في إيجاد الفعل بوجه من الوجوه في بعض الموارد كما إذا كان ميتاً، والفعل ما لم يتحقق من جهة الإرادة والاختيار لا يمكن عقلاً ان يصير منشأ للقرب.

حول اعتبار المباشرة في المأمور به

اما المانع الأوّل فيندفع بان مباشرة الفاعل قد يكون لها خصوصيته في غرض الأمر، وعليه لا يسقط الأمر بفعل الغير قطعاً ولو لم يكن تعبدياً، وهذا واضح وقد لا يكون لها دخل في غرض الأمر وهكذا الكلام في اختياره فلو فرضنا تعلق الأمر بمثل هذا الفعل الذي ليست المباشرة والاختيار فيه قيداً للمطلوب فإمكان صيرورة الأمر المتعلق بمثل هذا الفعل داعيا لغير المأمور إليه بديهي،

ص: 90

لوضوح انه بعد تعلق الأمر بهذا الفعل الذي لم يقيد حصول الغرض فيه بأحد من القيدين المذكورين لا مانع في صيرورة الأمر المتعلق به محركا للغير لإيجاد ذلك الفعل مراعاة لصديقه واستخلاصه من المحذورات المترتبة على ذلك الأمر من العقاب والبعد عن ساحة المولى وهذا واضح.

ومنه يظهر عدم الإشكال فيما إذا لم يكن امر في البين كما في النيابة عن الميت ضرورة إمكان فعل ذلك لحصول أغراض المولى المترتبة على الفعل، ليستريح الميت من العقاب المترتب على فوتها وهذا لا إشكال فيه.

انما الإشكال في المانع الثاني وهو صيرورة هذا الفعل مقربا للغير عقلاً إذ لو لم يكن كذلك لم يسقط غرض الأمر فلم يسقط عنه العقاب وهذا الإشكال يسرى في المقام الأوّل أيضاً إذ بعد ما لم يكن فعله مقرباً للغير ولم يسقط غرض الأمر عنه لا يعقل كون مراعاته سبباً لإيجاد ذلك الفعل.

ويمكن التقضي عنه بان يقال: انه بعد فرض انحصار جهة الإشكال في حصول القرب يكفي في حصوله رضى المنوب عنه بحصول الفعل من النائب كما انه قد يؤيد ذلك ببعض الاخبار الواردة في ان من رضى بعمل قوم أشرك معهم (1) وهذا المقدار من القرب يكفي في عبادية العبادة بل يمكن ان يقال بعدم الفرق عقلاً بين الفعل الصادر من الإنسان بنفسه وبين الصادر من نائبه في حصول القرب لأنه بعد حصول هذا الفعل من النائب لا بد وان يكون المنوب عنه ممنونا منه ومتواضعا له من جهة استخلاصه من تبعات الأمر المتعلق به به وهذا الممنونية تصير منشئا لقربه عند المولى لأن امره صار سبباً لها وفيه ان الرضا والممنونية يتفرعان على كون الفعل الصادر من النائب مقربا له إذ لولاه لم يكن وجه لهما ولو توقف القرب عليهما لزم الدور.

ويمكن ان يقال ان للقرب مراتب باختلاف الجهات الداعية

ص: 91


1- الوسائل، الباب 5 من أبواب الامر والنهي، ج 11، ص 408.

للمكلف، أدناها إتيان الفعل بداعي الفرار من العقاب مثل ان يكون حال العبد بحيث لو علم بعدم العقاب لم يأت بالفعل أصلاً فإتيانه به خوفا من المولى مقرب له عند العقل كما انه نرى الفرق عند العقلاء بين هذا العبد وبين العبد الذي لم يكن خوف مؤاخذة المولى مؤثراً فيه، وهذا المقدار من القرب أعني كون العبد بحيث يكون له جهة امتياز بالنسبة إلى غيره في الجملة يكفى في العبادة ونظير هذا المعنى موجود في المقام إذ لو فرضنا عبدين أحدهما لم يأت بالمأمور به بنفسه ولا أحد بدله والثاني لم يأت به ولكن أتى به نائبه نرى بالوجدان ان حالهما ليس على حد سواء عند المولى بل للثاني عنده جهة خصوصية ليست للأول وان لم يصل إلى مرتبة من أتى بالمأمور به بنفسه فنقول هذه المرتبة الحاصلة له بفعل الغير تكفي في العبادة.

ويمكن ان يقال ان تقرب المنوب عنه بتسليمه للفعل المتلقى من النائب إلى الأمر بعنوان انه مولى ولا فرق في حصول القرب بين ان يسلمه إليه ابتداء ويسلمه إليه بعد أخذه من نائبه.

هذا حاصل الوجوه الّتي أفادها سيدنا الأستاذ طاب ثراه ولكن لم يطمئن بها النفس.

أقول: ويمكن ان يقال: ان الأفعال على وجوه منها ما لا يضاف الا إلى فاعله الحقيقي الصادر منه الفعل مباشرة كالأكل والشرب ونظائرهما ومنها ما يضاف إليه وإلى السبب أيضاً كالقتل والإتلاف والضرب ونظائرها ومنها ما يضاف إلى الغير وان لم يكن فاعلا ولا سبباً ومن ذلك العقود إذا صدرت عن رضى المالك، بل ولو لم يكن عنه أيضاً ابتداء إذا رضى بذلك بعده كما في الإجازة بناء على صيرورة العقد بها عقدا للمالك عرفاً كما قيل ولعل الضابط كلّ فعل يتوقف تحقق عنوانه في الخارج على القصد وأوقعه واحد بقصد الغير وكان ذلك الفعل حقاً لذلك الغير ابتداء مع رضاه بصدوره بدلاً عنه فلو صح هذه الإضافة العرفية وأمضاها الأمر فلا بد من ان يعامل مع هذا الفعل معاملة

ص: 92

الفعل الصادر من شخصه، كما هو واضح، مثلاً لو فرضنا ان تعظيم زيد عمرواً بدلاً عن بكر إذا كان عن رضا بكر وتقبل عمرو الذي هو المعظّم – بالفتح - يحسب تعظيماً لبكر عنده فاللازم عليه ان يترتب على هذه التعظيم أثر التعظيم الصادر من شخص بكر فلو فرضنا حصول القرب من هذا الفعل للمعظم بالكسر عند المعظم – بالفتح - فاللازم حصوله للمنوب عنه هذا ما أمكن لي من التصور في المقام ولعل اللّه يحدث بعد ذلك أمراً (1).

اذا عرفت هذا فنقول : لا اشكال في ان مقتضى القواعد عدم الاكتفاء بالفعل الصادر عن الغير في الاجزاء، لان الظاهر من الامر المتوجه الى المكلف ارادة خصوص الفعل الصادر منه نعم لو دل دليل من الخارج على الاكتفاء بما يصدر من النائب وانه عند الآمر بمنزلة ما يصدر عن نفسه نأخذ به والا فلا.

في التعبدي و التوصلي و بيان حقيقتها

الامر الثاني: لا اشكال في ان الواجب في الشريعة ينقسم على قسمين تعبدى وتوصلي، ولو شك في كون الواجب توصلياً او ت_ع_بدياً فهل يحمل على

ص: 93


1- ويمكن ان يقال ان الصلاة عن الميت مثلاً خارجة من باب النيابة بل هي من باب أداء الدين كما يستفاد من بعض الاخبار توضيحه ان العمل العبادي عبارة عما اخذ فيه قرب الفاعل، فالصلاة مثلاً ما دام الانسان حيا يعتبر فيها ان يأتي بها بنفسه على وجه يوجب قرب نفسه، لأنه في حال الحياة يعتبر قيد المباشرة، واما بعد الممات فمقتضى الاخبار سقوط ذلك القيد، فالذي يبقى دينا على عهدة الميت ويكون مطلوباً مادة للشارع هو مطلق الفعل الموجب لقرب فاعله من اي فاعل صدر، غاية الامر انه لابد من الإشارة إلى ما هو ثابت في عهدة الميت بان يقصد الفاعل الذي يتقرب بفعل نفسه انه يأتي بهذا الفعل بعنوان تفريغ ذمة الميت، وهذا كما ترى لا يحتاج إلى نية البدلية عنه وتنزيل نفسه منزلته، كما في المتبرع لاداء دين غيره، ثمّ حصول القرب للمتبرع واضح، واما للأجير فيتحقق باتيان العمل لقرب نفسه بعنوان تفريغ الميت امتثالاً لامر الشارع بالوفاء بعقد الإجارة «منه».

الأول أو الثاني؟

وتوضيح المقام يتوقف على تصور الواجبات التعبدية وشرح حقيقتها حتّى يتضح الحال في صورة الشك فنقول - وباللّه الاستعانة -:

انه قد اشتهر في السنة العلماء انها عبارة عما يعتبر فيه إتيانه بقصد إطاعة الأمر المتوجه إليه، وأورد على ذلك بلزوم الدور فان الموضوع مقدم على الحكم رتبة لأنه معروض له، ولا إشكال في تقدمه على العرض بحسب الرتبة وهذا الموضوع يتوقف على الأمر لما أخذ فيه من خصوصية وقوعه بداعي الأمر الّتي لا تتحقق الا بعد الأمر فالامر يتوقف على الموضوع لكونه عرضا له والموضوع يتوقف على الأمر لأنه لا يتحقق بدونه.

وفيه ان توقف الموضوع على الأمر فيما نحن فيه مسلم لكونه مقيداً به والمقيد لا يتحقق في الخارج بدون القيد واما ان الأمر يتوقف على الموضوع فان أردت توقفه عليه في الخارج فهو باطل ضرورة ان الأمر لا يتعلق بالموضوع الا قبل الوجود واما بعده فيستحيل تعلقه به لامتناع طلب الحاصل وان أردت توقفه عليه تصوراً فمسلم ولكن لا يلزم الدور أصلاً، فان غاية الأمر ان الموضوع هنا بحسب وجوده الخارجي يتوقف على الأمر، والأمر يتوقف على الوجود الذهني له.

وقد يقرر الدور بان القدرة على الموضوع الذي اعتبر وقوعه بداعي الأمر لا يتحقق الا بعد الأمر والأمر لا يتعلق بشيء الا بعد تحقق القدرة فتوقف الأمر على القدرة بالبداهة العقلية وتوقف القدرة على الأمر بالفرض.

وفيه ان الممتنع بحكم العقل تعلق الأمر بشيء يعجز عن إتيانه في وقت الامتثال واما انه يجب ان يكون القدرة سابقة على الأمر حتّى يصح الأمر فلا، ضرورة انه لا يمتنع عند العقل ان بحكم المولى بشيء يعجز عنه المأمور في مرتبة الحكم ولكن حصل له القدرة عليه بنفس ذلك الحكم فحينئذٍ نقول ان توقف القدرة على الأمر مسلم واما توقف الأمر على القدرة بمعنى لزوم كونها قبله رتبة فلا لما عرفت من جواز حصولها بنفس الأمر، وهاهنا كذلك لأنه بنفس الأمر تحصل

ص: 94

القدرة على إتيان الفعل بداعيه.

وقد يقال:

ان الأمر بإتيان الفعل بداعي الأمر وان لم يكن مستلزما للدور الا انه مستحيل من جهة عدم قدرة المكلف على إيجاد هذا المقيد أصلاً حتّى بعد الأمر بذلك المقيد فان القدرة على إيجاد الصلاة بداعي الأمر بها مثلاً تتوقف على الأمر بذات الصلاة، والأمر بها مقيدة بكونها بداعي الأمر ليس أمراً بها مجردة عنه، لأن الأمر بالمقيد ليس أمراً بالمجرد من القيد فالتمكن من إيجاد الفعل مقيداً بحصوله بداعي الأمر لا يحصل الا بعد تعلق الأمر بذات الفعل.

وفيه ان الأمر المتعلق بالمقيد ينسب إلى الطبيعة المهملة حقيقة لأنها تتحد مع المقيد، فهذا الأمر المتعلق بالمقيد بملاحظة تعلقه بالطبيعة المهملة يوجب قدرة المكلف على إيجادها بداعيه، نعم لو أوجدها فيما هو مباين للمطلوب الأصلي لا يمكن ان يكون هذا الإيجاد بداعي ذلك الأمر، كما لو امر بعتق رقبة مؤمنة فأعتق رقبة كافرة، لأن الموجود في الخارج ليس تمام المطلوب بل يشتمل على جزء عقلي منه اما لو لم ينقص الفعل المأتي به بداعي الأمر بالطبيعة المهملة عن حقيقة المطلوب الأصلي أصلاً كما في المقام فلا مانع من بعث الأمر المنسوب إلى المهملة للمكلف.

ويمكن ان يقال في وجه عدم إمكان أخذ التعبد بالأمر في موضوعه ان الأمر - وان كان توصلياً -يشترط فيه ان يصلح لأن يصير داعيا للمكلف إلى نحو الفعل الذي تعلق به، لأنه ليس الا إيجاد الداعي للمكلف، والأمر المتعلق بالفعل بداعي الأمر لا يمكن ان يكون داعيا للمكلف إلى إيجاد متعلقه لأنه اعتبر في متعلقه كونه بداعي الأمر ولا يمكن ان يكون الأمر محركا إلى محركية نفسه فافهم.

هذا ان قلنا بان العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الأمر.

ويمكن ان يقال: ان المعتبر فيها ليس الا وقوع الفعل على وجه يوجب

ص: 95

القرب عند المولى وهذا لا يتوقف على الأمر وبيان ذلك ان الفعل الواقع في الخارج على قسمين أحدهما ما ليس للقصد دخل في تحققه بل لو صدر من الغافل لصدق عليه عنوانه والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم والإهانة وأمثالها، وأيضاً لا إشكال في ان تعظيم من له أهلية ذلك بما هو أهل له وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلاً ومقرب بالذات ولا يحتاج في تحقق القرب إلى وجود امر بهذه العناوين نعم قد يشك في ان التعظيم المناسب له أو المدح اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيل كون عمل خاص تعظيما له، أو ان القول الكذائي مدح له والواقع ليس كذلك بل هذا الذي يعتقده تعظيماً توهين له وهذا الذي اعتقده مدحا ذم بالنسبة إلى مقامه.

إذا تمهد هذا فنقول: لا إشكال في ان ذوات الأفعال والأقوال الصلاتية مثلاً من دون إضافة قصد إليها ليست محبوبة ولا مجزية قطعاً ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركبة من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلاً مقرونة بقصد نفس هذه العناوين محبوباً للأمر غاية الأمر ان الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك ان صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب بمقام الباري غر شأنه ويكون التفاته موقوفاً على إعلام اللّه سبحانه فلو فرض تمامية العقل واحتوائه بجميع الخصوصيات والجهات لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلاً، والحاصل ان العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثناؤه بما يستحق ويليق به، ومن الواضح ان محققات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد فقد يكون تعظيم شخص بان يسلم عليه وقد يكون بتقبيل يده وقد يكون بالحضور في مجلسه وقد يكون بمجرد اذنه بان يحضر في مجلسك أو يجلس عندك إلى غير ذلك من الاختلافات الناشئة من خصوصيات المعظم – بالكسر - والمعظم – بالفتح - ولما كان المكلف لا طريق له إلى استكشاف ان المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو الا بإعلامه تعالى لا بد أن يعلمه والا ما يتحقق به تعظيمه ثمّ يأمره به، وليس هذا المعنى ممّا

ص: 96

يتوقف تحققه على قصد الأمر حتّى يلزم محذور الدور.

ويمكن ان يقال بوجه اخر: وهو ان ذوات الأفعال مقيدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانية محبوبة عند المولى وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمات ثلاث:

إحداها: ان المعتبر في العبادة يمكن ان يكون إتيان الفعل بداعي امر المولى بحيث يكون الفعل مستنداً إلى خصوص امره وهذا معنى بسيط يتحقق في الخارج بأمرين: أحدهما جعل الأمر داعياً لنفسه والثاني صرف الدواعي النفسانية عن نفسه ويمكن ان يكون المعتبر إتيان الفعل خالياً عن ساير الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر بحيث يكون المطلوب المركب منهما والظاهر هو الثاني لأنه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.

الثانية: ان الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير وأخرى يكون غير يا مثال الأوّل الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال فان الأمر متعلق بالغسل قبل الأمر بالصوم فليس هذا الأمر معلولاً لأمر اخر الا ان الأمر به انما يكون لمراعاة حصول الغير في زمانها والثاني الأوامر الغيرية المسببة من الأوامر المتعلقة بالعناوين المطلوبة نفساً.

الثالثة: انه لا إشكال في ان القدرة شرط في تعلق الأمر بالمكلف ولكن هل يشترط ثبوت القدرة سابقاً على الأمر ولو رتبة أو يكفي حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟ الأقوى الأخير، لعدم وجود مانع عقلاً في ان يكلف العبد بفعل يعلم بأنه يقدر عليه بنفس الأمر.

إذا عرفت هذا فنقول: الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وثبوت الداعي الإلهي الذي يكون مورداً للمصلحة الواقعية وان لم يكن قابلا لتعلق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير للزوم الدور اما من دون ضم القيد الأخير فلا مانع منه.

ولا يرد ان هذا الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده الّتي منها الأخير لا يكاد يتصف بالمطلوبية فكيف يمكن تعلق الطلب بالفعل من دون ملاحظة

ص: 97

تمام القيود الّتي يكون بها قوام المصلحة.

لأنا نقول عرفت انه قد يتعلق الطلب بما هو لا يكون مطلوباً في حد ذاته بل يكون تعلق الطلب لأجل ملاحظة حصول الغير والفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية وان لم يكن تمام المطلوب النفسي مفهوماً لكن لما لم يوجد في الخارج الا بداعي الأمر لعدم إمكان خلو الفاعل المختار عن كلّ داع يصح تعلق الطلب به لأنه يتحد في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان فإنه لا شبهته في جواز الأمر بإكرام الناطق لأنه لا يوجد في الخارج الا متحداً مع الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصلي وكيف كان فهذا الأمر ليس أمراً صورياً بل هو امر حقيقي وطلب واقعي لكون متعلقه متحداً في الخارج مع المطلوب الأصلي.

نعم يبقى الإشكال في ان هذا الفعل أعني الفعل المقيد بعدم الدواعي النفسانية ممّا لا يقدر المكلف على إيجاده في مرتبة الأمر فكيف يتعلق الأمر به وقد عرفت جوابه في المقدمة الثالثة هذا.

وقد يقال في العبادات بان الأمر متوجه إلى ذات الفعل والغرض منه جعل المكلف قادرا على إيجاد الفعل بداعي الأمر الذي يكون مورداً للمصلحة في نفس الأمر والعقل بعد التفاته إلى أخصية الغرض يحكم بلزوم الإطاعة على نحو يحصل به الغرض، اما توجه الأمر إلى ذات الفعل فلعدم إمكان أخذ حصوله بداعي الأمر في المطلوب من جهة لزوم الدور واما ان العقل يحكم بلزوم إتيان الفعل بداعي امر فلأنه ما لم يسقط الغرض لم يسقط الأمر لأن الغرض كما صار سبباً لحدوثه كذلك يصير سبباً لبقائه لأن البقاء لو لم يكن أخف مئونة من الحدوث فلا أقل من التساوي والعقل حاكم بلزوم إسقاط الأمر المعلوم.

وفيه انه لا يعقل بقاء الأمر مع إتيان ما هو مطلوب به على ما هو عليه (1)

ص: 98


1- فيه ان الامر علة لوجود المتعلق، والعلة انما تقتضى المعلول المستند إليها، وان كان استنادا المعلول إليها لا باقتضائها بل انما هو حاصل قهرا، وحينئذٍ نقول: لو لم يأت بداعي الامر فما هو المعلول لهذا الامر لم يؤت به، فعليه الاتيان بالفعل ثانياً مع هذا القيد، وليس المتعلق للامر صرف الوجود الغير القابل للتكرار، بل مطلق الوجود القابل له، كما مر الإشارة اليه سابقا. ومن هنا يظهر طريق آخر لتصحيح الامر العبادي غير طريق أخصية الغرض وهو ملاحظة تقيد المتعلق لبا بالقيد المذكور مع القول بمطلق الوجود. ان قلت: مع ملاحظة هذا التقيد لا حاجة إلى القول بمطلق الوجود لتمامية المطلب على تقدير القول بصرف الوجود أيضاً، لان صرف وجود المقيد بداعي الامر غير منطبق على الفعل المأتي به لا بداعي الامر، قلت صرف الوجود انما يلاحظ بالإضافة إلى الفعل وقيوده الملحوظة معه استقلالا، وهذا القيد ليس كذلك وان كان ثابتا في الذهن لبا «منه».

لأن بقاء الأمر مع ذلك مستلزم لطلب الحاصل وهذا واضح بأدنى تأمل.

فالأولى ان يقال في وجه حكم العقل بإتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض ان الإتيان به على غير هذا النحو وان كان يسقط الأمر الا ان الغرض المحدث له ما دام باقياً يحدث أمراً اخر وهكذا ما دام الوقت الصالح لتحصيل ذلك الغرض باقياً، فلو أتى بالفعل على نحو يحصل به الغرض والا يعاقب على تفويت الغرض.

لا يقال: فوت الغرض الذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشأ للعقاب.

لأنا نقول: نعم لو لم يكن الأمر بصدد تحصيله واما لو تصدى لتحصيله بالأمر ولكن لم يقدر على ان يأمر بتمام ما يكون محصلا لغرضه كما فيما نحن فيه والمكلف قادر على إيجاد الفعل بنحو يحصل به الغرض الأصلي فلا إشكال في حكم العقل بلزوم إتيانه كذلك.

ومن هنا يعلم انه لا وجه للالتزام بأمرين أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيد بداعي الأمر، لأن الثاني ليس الا لإلزام المكلف بالفعل المقيد وقد عرفت انه ملزم به بحكم العقل.

ص: 99

مضافاً إلى ما أفاده في بطلانه شيخنا الأستاذ دام بقاؤه من ان القول به يوجب اما الالتزام بما قلنا من بقاء الأمر الأوّل ما لم يسقط غرض الأمر واما الالتزام بعدم وصول الأمر إلى غرضه الأصلي، لأن المكلف لو أتى بذات الفعل من دون داعي الأمر لا يخلو اما ان نقول ببقاء الأمر الأوّل واما ان نقول بسقوطه فعلى الأوّل فاللازم التزامك بما التزمنا وعليه لا يحتاج إلى الأمر الثاني وعلى الثاني يلزم سقوط الأمر الثاني أيضاً لارتفاع موضوعه فيلزم ما ذكرنا من عدم الوصول إلى غرضه الأصلي هذا.

ولقائل ان يقول نختار الشق الثاني من سقوط الأمر الأوّل بإتيان ذات الفعل وسقوط الثاني أيضاً بارتفاع موضوعه ولا يلزم محذور أصلاً لأن الوقت اما باق، بعد واما غير باق فعلى الأوّل يوجب الغرض إيجاد أمرين آخرين على ما كانا، وعلى الثاني يعاقب المكلف على عدم امتثال الأمر الثاني مع ما كان قادرا عليه بوجود الأمر الأوّل، لأن الأمر الثاني لو فرضناه أمراً مطلقاً فعدم إيجاد متعلقه معصية بحكم العقل سواء كان برفع المحل أو كان بنحو اخر وهذا واضح.

فاتضح ممّا ذكرنا من أول العنوان إلى هنا وجوه خمسة في تصوير العبادات.

وأنت خبير بان كلما قلنا في الواجبات النفسية العبادية يجري مثله في الواجبات المقدمية العبادية فلا يحتاج إلى إطالة الكلام بجعل عنوان لها مستقلاً.

في تأسيس الأصل في التعبدي و التوصلي

ولما كان الغرض في هذا البحث هو التكلم في الأصل اللفظي والعملي فيما لو تردد امر الواجب بين ان يكون عباديا أو توصلياً فلنشرع في المقصود الأصلي في تأسيس الأصل.

فنقول: لو شك في الواجب في انه هل هو تعبدي أو توصلي فعلى ما قدمناه من عدم احتياج العبادة إلى التقييد بصدورها بداعي الأمر لا

ص: 100

إشكال في ان احتمال التعبدية احتمال قيد زائد، فالشك فيه من جزئيات الشك في المطلق والمقيد، فان كانت مقدمات الأخذ بالإطلاق موجودة يحكم بإطلاق الكلام ويرفع القيد المشكوك، والا فالمرجع هو الأصل الجاري في مقام دوران الأمر بين المطلق والمقيد ولما كان المختار فيه بحسب الأصل العملي البراءة يحكم بعدم لزوم القيد.

واما على ما قيل: من لزوم تعلق الطلب على تقدير التعبدية بذات الفعل مع أخصية الغرض فقد يقال: كما يظهر من كلمات شيخنا المرتضى (قدّس سِرُّه) بعدم جواز التمسك بإطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك كذلك ولا يمكن إجراء أصالة البراءة فيه بل المقام ممّا يحكم العقل بالاشتغال وان قلنا: بالبراءة في دوران الأمر بين المطلق والمقيد.

اما الأول فلان رفع القيد بأصالة الإطلاق انما يكون فيما لو احتملنا دخول القيد في المطلوب، والمفروض عدم هذا الاحتمال والقطع بعدم اعتباره فيه أصلاً، وانما الشك في ان الغرض هل هو مساو للمطلوب أو أخص منه، وحدود المطلوب معلومة لا شك فيها على أي حال.

واما الثاني فلأنه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شك في سقوطه بإتيان ذاته وعدم سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للأمر لا مجال الا للاحتياط، لأن اشتغال الذمة بالأمر الثابت المعلوم متعلقه يقتضى القطع بالبراءة عنه، ولا يكون ذلك الا بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض، ومما ذكر تعرف الفرق بين المقام وساير الموارد الّتي شك في مدخلية قيد في المطلوب وملخص الفرق ان الشك فيها راجع إلى مرحلة الثبوت وفي المقام إلى السقوط، هذا.

والحق عدم التفاوت بين المقام وساير الموارد مطلقاً، أعني من جهة الأخذ بالإطلاق ومن جهة إجراء أصالة البراءة.

اما الأوّل فلان القيد المذكور وان لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم

ص: 101

الإمكان، ولكن لو فرضنا وجود مقدمات الأخذ بالإطلاق الّتي من جملتها كون المتكلم في مقام بيان تمام المقصود وما يحصل به الغرض يحكم بعدم مدخلية شيء اخر في تحقق غرضه، إذ لولاه لبين ولو ببيان مستقل وحيث، ما بين يكشف عن كون متعلق الطلب تمام ما يحصل به غرضه، نعم الفرق بين المورد وساير الموارد ان فيها يحكم بعد تمامية مقدمات الحكمة بإطلاق متعلق الطلب وفيه بإطلاق الغرض والأمر سهل.

ويمكن ان يستظهر من الأمر التوصلية من دون الاحتياج إلى مقدمات الحكمة بوجه اخر اعتمد عليه سيدنا الأستاذ (طاب ثراه) وهو ان الهيئة عرفا تدل على ان متعلقها تمام المقصود إذ لو لا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيد الغرض اخر وهو خلاف ظاهر الأمر.

واما الثاني فلأنه بعد إتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الأمر الأوّل، لما عرفت سابقاً من استلزامه لطلب الحاصل فلا يعقل الشك في سقوط هذا الأمر، نعم يحتمل وجود امر اخر من جهة احتمال بقاء الغرض، وظاهر ان هذا شك في ثبوت امر اخر والأصل عدمه ولو سلمنا كون الشك في سقوط الأمر الأوّل نقول ان هذا الشك نشأ من الشك في ثبوت الغرض الأخص و ح نقول في تقريب جريان أصالة البراءة: ان اقتضاء الأمر ذات الفعل متيقن واما الزائد عليه فلا نعلم، فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة الخصوصية المشكوك اعتبارها في الغرض مع الجهل به وعدم إقامة دليل يدل عليه مع ان بيانه كان وظيفة له لكان هذا العقاب من دون إقامة بيان وحجة وهو قبيح بحكم العقل ولو كان الشك في السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال للزم الحكم به في دوران الأمر بين المطلق والمقيد مطلقاً، ضرورة انه بعد إتيان الطبيعة في ضمن غير الخصوصية الّتي يحتمل اعتبارها في المطلوب يشك في سقوط الأمر وعدمه.

ص: 102

الواجب المطلق و المشروط

الأمر الثالث: ينقسم الواجب ببعض الاعتبارات إلى مطلق ومشروط: فالأول عبارة عما لا يتوقف وجوبه على شيء والثاني ما يقابله، ولا يهمنا التعرض للتعريفات المنقولة من القوم والنقض والإبرام المتعلقين بها.

وقد يستشكل في تقسيم الواجب باعتبار وجوبه إلى القسمين من جهة أمرين:

أحدهما ان مقتضى كون وجوب الشيء مشروطا بكذا عدم تحقق الوجوب قبل تحقق الشرط والمفروض ان الأمر قد أنشأ الوجوب بقوله ان جاءك زيد فأكرمه، فان الهيئة قد وضعت لإنشاء الطلب وعلى هذا فالقول: بان الوجوب لا يتحقق الا بعد تحقق الشرط مستلزم لتفكيك الإيجاب عن الوجوب وان التزم بعدم تحقق الإيجاب لزم إهمال هذه القضية.

والثاني ان الطلب المستفاد من الهيئة انما يكون معنى حرفيا غير مستقل بالنفس، وليس دخوله في الذهن الا من قبيل وجود العرض في الخارج في كونه متقوما بالغير، والإطلاق والتقييد فرع إمكان ملاحظة المفهوم في الذهن وأيضاً قد تقرر في محله ان معاني الحروف معاني جزئية، بمعنى ان الواضع لاحظ في وضع الحروف عنوانا عاماً إجمالياً ووضع اللفظ بإزاء جزئياته فالوضع أي آلة الملاحظة فيها عام والموضوع له أعني جزئيات ذلك العام خاص ومن الواضح ان الجزئي لا يكون مقسما للإطلاق والتقييد، هذا.

ومما ذكرنا سابقاً في بيان معاني الحروف من انها كليات كمعاني بعض الأسماء ظهر لك عدم المانع عن إطلاق الطلب وتقييده من جهة جزئية المعنى المستفاد من الهيئة.

اما المانع الاخر وهو كونه ممّا لا تحصل له في الذهن استقلالاً، والإطلاق والتقييد الوارد ان على المفهوم تابعان لملاحظته في الذهن مستقلاً، فالجواب عنه

ص: 103

بوجهين: أحدهما ان المعنى المستفاد من الهيئة وان كان حين استعمالها فيه لا يلاحظ الا تبعا لكن بعد استعمالها يمكن ان يلاحظ بنظرة ثانية ويلاحظ فيه الإطلاق أو التقييد والثاني ورود الإطلاق والتقييد بملاحظة محله، مثلاً ضرب زيد إذا تعلق به الطلب المستفاد من الهيئة يتكيف بكيفية خاصة في الذهن وهي كيفية المطلوبية، فضرب زيد بهذه الملاحظة قد يلاحظ فيه الإطلاق ويلزم منه كون الطلب الطاري عليه مطلقاً، وقد يلاحظ فيه الاشتراط واللازم من ذلك كون الطلب أيضاً مشروطاً.

ولنا في المقام مسلك اخر وهو ان المعنى المستفاد من الهيئة لم يلاحظ فيه الإطلاق - في الوجوب المطلق - ولا الاشتراط - في الوجوب المشروط - ولكن القيد المأتي به في القضية تارة يعتبر على نحو يتوقف تأثير الطلب على وجوده في الخارج ويقال لهذا الطلب الطلب المشروط أي تأثيره في المكلف موقوف على شيء وأخرى يعتبر على نحو يقتضى الطلب إيجاده ويقال لهذا الطلب المتعلق بذلك المقيد الطلب المطلق، أي لا يبتنى تأثيره في المكلف على وجود شيء وتوضيح ذلك ان الطالب قد يلاحظ الفعل المقيد ويطلبه أي يطلب المجموع وهذا الطلب يقتضى إيجاد القيد ان لم يكن موجوداً كما في قوله صل مع الطهارة وقد يلاحظ القيد موجوداً في الخارج، أي يفرض في الذهن وجوده في الخارج، ثمّ بعد فرض وجوده في الخارج ينقدح في نفسه الطلب فيطلب المقيد بذلك القيد المفروض وجوده فهذا الطلب المتعلق بمثل هذا المقيد المفروض وجود قيده وان كان متحققا فعلا بنفس الإنشاء لكن تأثيره في المكلف يتوقف على وجود ذلك القيد المفروض وجوده حقيقة ووجهه ان هذا الطلب انما تحقق مبنيا على فرض وجود الشيء وهذا الفرض في لحاظ الفارض حاك عن حقيقة وجود ذلك الشيء فكأنه طلب بعد حقيقة وجوده، فكما انه لو طلب بعد وجود ذلك الشيء المفروض وجوده حقيقة ما أثر الطلب في المكلف الا بعد وجود ذلك الشيء واقعاً لعدم الطلب قبله كذلك لو طلب بعد فرض وجوده لم يؤثر الا بعد

ص: 104

وجوده الخارجي، وان كان الطلب الإنشائي محققاً قبله أيضاً، فهذا الطلب يقع على نحو يشترط تأثيره في المكلف على شيء في الخارج فتدبر جيداً.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن إشكال اخر تقدم في صدر المبحث ذكره وهو ان المعنى الإنشائي كيف يعلق على وجود شيء؟ ومحصل الجواب ان المعنى المستفاد من الهيئة والمنشأ بها متحقق فعلا من دون ابتنائه على شيء ولكن تأثيره في المكلف موقوف على وجود شيء.

في الواجب المعلق

الأمر الرابع: بعد ما عرفت انقسام الواجب إلى مطلق ومشروط اعلم ان الناظر في كلمات الأصحاب يرى انه عندهم من المسلمات عدم اتصاف مقدمات الواجب المشروط بالوجوب المطلق، ويوضح ذلك اعتراض بعضهم على من جعل عنوان البحث ان الأمر بالشيء يقتضى إيجاب مقدماته بان النزاع ليس في مطلق الأمر بل هو في الأمر المطلق، واعتذار بعضهم بان إطلاق الأمر ينصرف إلى المطلق منه فلا احتياج في افادته إلى ذكر القيد واعتذار بعض ردا على المعترض في أصل المبنى بأنه لا وجه لتخصيص محل النزاع بالأمر المطلق بل هو يجري في المشروط أيضاً غاية الأمر انه لو قلنا بالملازمة بين الأمر بالشيء والأمر بمقدماته نقول بثبوت الأمر للمقدمة على نحو ما ثبت لذيها ان مطلقاً فمطلق وان مشروطاً فمشروط، ومن مجموع هذه الكلمات يظهر انه من المسلمات عندهم عدم الوجوب المطلق للمقدمة مع كون ذيها متصفا بالوجوب المشروط.

وعليه يقع الإشكال في بعض المقدمات الذي اتصف بالوجوب المطلق مع عدم اتصاف ذيها به بل يكون من الواجبات المشروطة، ومن ذلك الغسل قبل الفجر في ليلة رمضان، فإنهم حكموا بوجوبه قبل الفجر مع انه لم يتعلق الوجوب بالصوم بعد.

ص: 105

والذي قيل في حل هذه العويصة وجهان:

أحدهما المحكي عن بعض أعاظم المحقّقين في تعليقاته على المعالم وملخصه ان الوجوب المتعلق بالغسل قبل الفجر وأمثاله من المقدمات الّتي يتعلق بها الوجوب قبل ذيها ليس من الوجوب الغيري - أي الوجوب المعلول من وجوب ذي المقدمة - بل هو وجوب نفسي لو خط فيه الغير بمعنى ان الشارع لاحظ في إيجابه النفسي تمكن المكلف من امتثال الواجب النفسي الذي يتحقق وجوبه فيما بعد.

والثاني ما أفاده صاحب الفصول (قدّس سِرُّه) من الفرق بين الواجب المشروط والمعلق وحاصل ما أفاده (قدّس سِرُّه) ان الواجب ينقسم على ثلثه أقسام مطلق ومشروط، والأول على قسمين منجز ومعلق والمنجز ما كان زمان الوجوب متحداً مع زمان الواجب والمعلق ما كان زمان الوجوب منفكاً عن زمان الواجب وتوضيح ذلك ان نسبة الفعل إلى الزمان والمكان متساوية ولا ريب في إمكان كون الفعل المطلوب مقيداً بوقوعه في مكان خاص كالصلاة في المسجد وكذا في إمكان كون وجوبه مشروطا بكون المكلف في المكان الخاص وعلى الأوّل فاللفظ الكاشف عن ذلك الطلب لا بد ان يكون على وجه الإطلاق كان يقول صل في المسجد وعلى الثاني لا بد ان يكون على وجه الاشتراط كان يقول إذا دخلت المسجد فصل وهذان الوجهان بعينهما جاريان في الزمان أيضاً فيمكن ان يلاحظ الأمر الفعل المقيد بوقوعه في زمان خاص فيطلب على هذا الوجه من المكلف ولا بد ان يكون التعبير عن ذلك المعنى على وجه الإطلاق كان يقول صل صلاة واقعة في وقت كذا، ويمكن ان يلاحظ الفعل المطلق لكن وجوبه المتعلق به وطلبه يكون مشروطا بمجيء وقت كذا فالوجوب على الأوّل فعلى ولا بأس باتصاف مقدمات الفعل على هذا الوجه بالوجوب إذ لا خلف ح لأن ذاها أيضاً متصف بالوجوب بخلاف الوجوب على الوجه الثاني، فان الفعلية منتفية في الواجب المشروط فيمتنع

ص: 106

اتصاف مقدماته بالوجوب الفعلي ففي الموارد الّتي حكموا فيها بوجوب المقدمة قبل وجوب ذيها يلتزم بان الواجب معلق بمعنى ان المطلوب هو الفعل المقيد بوقت كذا، ووجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها فيمكن ان يكون وقت إيقاعها قبل زمان إيجاده لأن زمان اتصاف الفعل المقيد بالوجوب ليس متأخرا عن زمان اتصاف المقدمة به بل يقارنه وان كان زمان وقوع الفعل متأخرا عن زمان وقوع المقدمة:

ثمّ تصدى (قدّس سِرُّه) لما يرد على هذا النحو من الواجب وبيان دفعه.

ومحصل ما أورد على نفسه أمران: أحدهما ان المكلف قد لا يكون حيا في زمان الفعل، فلا يمكن توجه التكليف بنحو الإطلاق إليه والثاني ان الفعل المقيد بالزمان الغير الموجود بعد ليس مقدورا للمكلف بواسطة قيده، وما لا يكون تحت قدرة المكلف يمتنع ان يكلف به فعلا وعلى نحو الإطلاق.

وأجاب (قدّس سِرُّه) عن الأوّل بان التكليف متوجه إلى من يكون حياً في ذلك الزمان الذي فرض قيد المطلوب، وعن الثاني أولاً بالنقص تارة بالتكليف المتعلق بالصوم في أول الفجر فان الصوم عبارة عن الإمساك في قطعة خاصة من الزمان أعني ما بين الفجر والغروب، ولا إشكال في عدم قدرة المكلف في أول الفجر على الإمساك في الجزء الأخير من الوقت فكيف يلتزم بوجود الوجوب المطلق حين الفجر مع عدم تحقق قطعة الزمان الّتي أخذ في المطلوب أجزاؤها وأخرى بالتكليف بكل ما يحتاج إلى مقدمات لا بد في الإتيان بها من مضي زمان ولا يقدر على الإتيان به في زمان صدور التكليف، كما لو كلفه بان يكون في مكان كذا ويحتاج ذلك الكون إلى مشى فرسخ أو فراسخ مثلاً، فان من الواضح عدم قدره المكلف حال التكليف على الكون في ذلك المكان وانما يقدر عليه بعد مضي ساعتين أو ثلاث ساعات مثلاً، وثالثة بالتكليف المتعلق بكل فعل تدريجي كالصلاة حيث ان القدرة على الجزء الأخير يتوقف على إتيانه بالاجزاء السابقة وثانياً، بالحل بان القدرة الّتي تكون شرطاً في

ص: 107

التكاليف عقلاً هي القدرة في زمان الفعل لا القدرة حال التكليف فاندفع الإشكال بأسره هذا حاصل ما أفاده (قدّس سِرُّه) في هذا المقام.

أقول: والمهم بيان كيفية الإرادات اللبية المتعلقة بالافعال لكي يتضح حال هذا القسم من الواجب المسمى بالتعليقي فنقول:

ان الفعل المقيد المتعلق للإرادة تارة على نحو يقتضى تلك الإرادة تحصيل قيده في الخارج لو لم يكن موجوداً وأخرى على نحو لا يقتضى ذلك، كما لو اراده على فرض وجود ذلك القيد مثلاً قد تتعلق الإرادة بالصلاة في المسجد على نحو الإطلاق سواء كان المسجد موجوداً في الخارج أم لا وقد تتعلق بها على فرض وجود المسجد، وعلى الأوّل يقتضى تلك الإرادة بناء المسجد لو لم يكن في الخارج مقدمة لحصول الصلاة فيه وعلى الثاني لا تقتضي ذلك بل اللازم الصلاة لو فرض وجود المسجد ولا نتعقل قسما اخر من الإرادة في النفس خارجا عما ذكرنا فتقسيم الواجب إلى الأقسام الثلاثة ممّا لا وجه له بل ينحصر في القسمين المذكورين عقلاً ومحصل ذلك ان القيد اما خارج عن حيز الإرادة واما داخل فيه ولا ثالث عقلاً، وهذا واضح لا سترة عليه.

إذا عرفت هذا فنقول: القيود الخارجة عن قدرة المكلف من قبيل الأوّل قطعاً لاستحالة تعلق الطلب بما ليس تحت قدرة المكلف فيكون الطلب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان من أقسام الطلب المشروط.

فان قلت: على ما ذكرت يلزم ان لا يكون الخطاب في أول دخول الوقت مطلقاً أيضاً، ضرورة عدم قدرة المكلف على الامتثال في الجزء الأخير من الوقت مثلاً، ومقتضى ما ذكرت سابقاً كون الإرادة بالنسبة إلى القيود الغير الاختيارية مشروطة، فمتى يصير خطاب الصوم مطلقاً.

قلت: نلتزم بعدم صيرورة الخطاب مطلقاً، ولكن نقول ان الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شروطه في محله يقتضى التأثير في نفس المكلف بإيجاد كلّ شيء منه ومن مقدماته الخارجية في محله، مثلاً لو قال: أكرم زيداً ان جاءك

ص: 108

فمحل الإكرام بعد مجيئه، ومحل مقدماته ان كان قبل المجيء فمجرد علم المكلف بالمجيء يقتضى إيجادها قبله، ولو قال ان مشى زيد فامش مقارنا مع مشيه فمحل المشي زمان مشى زيد فلو علم تحقق المشي من زيد في زمان خاص يجب عليه المشي في ذلك الزمان حتّى يصير مشيه مقارنا معه، ولو قال ان جاء زيد فاستقبله فمحل الاستقبال قبل مجيئه فلو علم بمجيئه غدا مثلاً يجب عليه الاستقبال في اليوم والحاصل ان طلب الشيء على فرض تحقق شيء لا يقتضى إيجاد ذلك الشيء المفروض وجوده ولكن بعد العلم بتحقق ذلك الشيء يؤثر في المكلف ويقتضي منه ان يوجد كلا من الفعل ومقدماته في محله فقد يكون محل الفعل بعد تحقق ذلك الشيء في الخارج وقد يكون قبله وقد يكون مقارنا له (1) وهكذا محل مقدماته قد يكون قبله وقد يتسع زمان إتيان المقدمة كما أو توقف إكرام زيد غدا على شيء ممكن تحصيله في اليوم وفي الغد والمقصود ان الوجوب المعلق على شيء بعد الفراغ عن ذلك الشيء يجب بحكم

ص: 109


1- لا يخفى ان اللحاظ الفراغي في هذين القسمين لا يصح ان يتعلق بالوجود الخارجي للشرط بمعنى انه لو لاحظ في ذهنه الفراغ عن تحقق القدوم مثلاً خارجا أو عن تحقق زوال الشمس كذلك لا يوجد في نفسه البعث نحو الاستقبال أو الوقوف بعرفات فاللازم ان يتعلق الفراغ الذهني فيها بالوجود الانتزاعي أعني كونه بحيث يقدم أو كون الشمس بحيث تزول ولكن ينقدح من هنا إشكال في تصوير الأمر بالمهم مرتبا على ترك الأهم كما يأتي في مبحث الضد بيانه انا ان اعتبرنا الفراغ عن تحقق ترك الأهم خارجا لم يبق محل للأمر بالمهم وان اعتبرنا الفراغ عن تحققه الانتزاعي يتوجه الإشكال بأنه كيف يمكن الأمر بالمهم ح مع توجه الأمر بالأهم إلى المكلف وهل هو الا طلب الجمع بين الضدين في فرض ترك الجميع اما وجود الأمر بالمهم فهو المفروض واما الأمر بالأهم فهو وان لم يكن له إطلاق بالنسبة إلى الحالة المذكورة أعني حال كون المكلف ممن يترك الأهم الا انه لا إشكال في كونه محركا نحو الذات في هذا الحال فاجتمع الأمر ان في حالة واحدة وهو عين ما قلناه من طلب الجمع بين الضدين عند كونه ممن يترك الجمع ويأتي الجواب عن هذا الإشكال في مبحث الضد إن شاء اللّه «منه».

العقل متابعته.

ومن هنا عرفت الجواب عن أصل الإشكال فلا يحتاج إلى التكلفات السابقة وأنت بعد الإحاطة والتأمل في الأمثلة المذكورة لا أظن ان ترتاب فيما ذكرنا.

فان قلت: على ما ذكرت يقتضى ان يكون مقدمات الواجب المشروط بعد العلم بشرطه واجبة مطلقاً، فما وجه فتوى القوم بعدم وجوب الوضوء قبل دخول الوقت، وأيضاً فما وجه الفرق بين الليل واليوم لسابق بالنسبة إلى الغسل الذي يكون مقدمة للصوم؟ ولأي جهة أفتوا بوجوبه في الليل وعدم وجوبه في النهار السابق؟

قلت: بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوب الوضوء قبل الوقت نستكشف منه ان وجوب الصلاة مضافاً إلى ابتنائه على الوقت مبتن على القدرة فيه فكأنه قال: إذا دخل الوقت وكنت قادرا عنده فصل مع الطهارة وقد عرفت سابقاً ان الوجوب المبنى على فرض وجود شيء لا يقتضى إيجاد ذلك المفروض فحينئذٍ لو علم المكلف بأنه لو لم يتوضأ قبل الوقت لا يتمكن منه بعده لا يجب عليه الوضوء لأنه موجب لحصول القدرة في الوقت الّتي هي شرط وجوب الواجب وقد عرفت عدم وجوب تحصيله وهكذا الكلام في غسل الجنابة للصوم في النهار السابق فإنه بعد فرض وجود الدليل على عدم وجوبه نستكشف اشتراط القدرة في الليل فلا يجب تحصيلها.

فان قلت: نفرض علم المكلف بكونه قادرا في الوقت على أي حال بمعنى انه لا يمكنه سلب قدرته فيه، فعلى هذا يلزم ان يكون الوضوء مثلاً عليه واجباً موسعاً فيجوز ان يأتي به بقصد الوجوب مع انهم لا يلتزمون به.

قلت: يمكن تصور الواجب على نحو لا يلزمه ذلك وهو ان يقال ان الواجب اقدام المكلف على الفعل بقدرته الموجودة في الوقت ومحصله ان المصلحة تارة قائمة بإكرام زيد بعد دخول الوقت مطلقاً سواء عمل في إيجاد هذا العنوان

ص: 110

قدرته الموجودة قبل الوقت أو بعده، وأخرى المصلحة قائمة باعمال القدرة في الوقت في إكرام زيد ويرجع محصل هذا التكليف إلى انه بعد دخول الوقت وتحقق القدرة على إكرام زيد يجب إعمال تلك القدرة فإعمال القدرة في هذا المثال نظير نفس إكرام زيد في المثال السابق، فكما انه لا يقتضى الأمر بإكرام زيد بعد دخول الوقت إكرامه قبله كذلك الأمر باعمال القدرة في الوقت لا يقتضى إعمال القدرة قبله.

فتحصل من مجموع ما ذكرنا انه إذا راجعنا وجداننا نقطع بان إرادتنا المتعلقة بالافعال الخاصّة لا تخرج عن قسمين: اما ان تكون على نحو يقتضى إيجاد تمام مقدماتها، واما تكون على نحو لا يقتضى إيجاد بعضها اما القسم الأوّل فواضح، واما القسم الثاني فهو يتصور على أقسام كلها راجعة إلى الاختلاف فيما يتعلق به الإرادة، لا إلى الاختلاف فيها لأن الأمر قد يريد إكرام زيد على تقدير مجيئه بحيث لو أتى ولم يكرم صار نقضاً لغرضه وان كان في زمن مجيئه غير قادر على إيجاد الفعل فان عدم القدرة يوجب سقوط التكليف ولا ينافي كون ترك الإكرام مبغوضا للأمر ونقضا لغرضه وقد يريد إكرامه على تقدير كون المكلف قادراً على إكرامه في زمن مجيئه و حينئذٍ لو فرض ترك إكرامه مستنداً إلى عدم قدرته في زمن مجيئه لم يكن مبغوضا للأمر ونقصاً لغرضه، وهذا واضح وقد يكون المطلوب إكرام زيد بمقدماته الاختيارية الموجودة في زمن المجيء على فرض وجود القدرة في زمن المجيء فحينئذٍ لا يجب عليه الإتيان بمقدمات الإكرام قبل المجيء وان كان في زمن المجيء غير قادر على فرض عدمه، لأن المفروض اشتراط القدرة في ذلك الزمان وكذلك ان كان قادراً في ذلك الوقت لأن المطلوب إعمال القدرة في ذلك الوقت لا قبله.

هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

ثمّ انك قد عرفت ان الواجب التعليقي عند القائل به من أقسام الواجب المطلق، وصحته مع ان المكلف قد لا يدرك زمن الواجب مبنية على الالتزام

ص: 111

بتوجه الخطاب به مشروطا بالعنوان المنتزع من بلوغ ذلك الزمان مثلاً التكليف بالصوم في الليل متوجه إلى من يدرك النهار ويكون حيا في تمام زمان المطلوب في علم اللّه تعالى، وكذلك التكليف بالحج في زمان خروج الرفقة متوجه إلى من يدرك شهر ذي الحجة وهكذا.

وقد عرفت ذلك في طي توضيح كلامه (قدّس سِرُّه) والمقصود من إعادته هنا التعرض لبعض ما فرع عليه من الفروع الّتي، منها صحة الوضوء إذا كان الماء منحصراً في الآنية المغصوبة ومنها وجوب الحج مطلقاً فيها إذا لم يتمكن منه الا مع الركوب على الدابة المغصوبة، بيانه ان التكليف في الأوّل متوجه إلى من يغترف من الآنية المغصوبة، وفي الثاني إلى من يركب الدابة المغصوبة عصيانا.

وفيه مع ما عرفت في القول بالواجب التعليقي ان توجه التكليف المطلق بالوضوء مع انحصار المقدمة في المنهي عنها وكذلك الحج تكليف بما لا يطاق، نعم على القول بالترتب كما يأتي تفصيله في محله إن شاء اللّه يصح ذلك ولكن مع ذلك القول بصحة الوضوء محل إشكال من حيث ان تصحيح التكليفين المتعلقين بالفعلين اللذين لا يمكن الجمع بينهما الا على النحو الترتب انما هو بعد الفراغ من وجود المقتضى في كلا الفعلين (1) اما الوضوء في صورة انحصار الماء في الآنية المغصوبة فيمكن ان يستكشف من الأدلة عدم وجود المقتضى فيه حيث ان المقام ممّا شرع فيه الّتيمم من جهة صدق عدم وجدان الماء كما في ما إذا كان

ص: 112


1- توضيحه ان محل نزاع القائل بالترتب والقائل بعدمه مع الاكتفاء بالجهة صورة محفوظية المشروعية الذاتية للمهم مع قطع النظر عن طر والمزاحمة بالضد الأهم، فلو فرض ان المزاحمة المذكورة أوجبت ارتفاع المشروعية الذاتية عن المهم اما حكما أو موضوعاً فلا مجال هناك للبحث المذكور، اما ارتفاعها حكما فكرفع الشارع مشروعية الظهر بمزاحمة العصر في آخر الوقت، واما ارتفاعها موضوعاً فكما في المثالين المذكورين في المتن، حيث ان مزاحمة الغصب أوجبت تبدل عنوان الواجد الذي هو موضوع مشروعية الوضوء ذاتا بعنوان الفاقد وكذا تبدل عنوان المستطيع الذي هو موضوع مشروعية الحج ذاتا بغيره «منه».

استعماله ضرراً، والحاصل ان عدم وجدان الماء على ما قالوا عبارة عن عدم التمكن من استعماله سواء كان من جهة عدمه أو لمانع عقلي أو شرعي لا يجوز للمكلف استعماله ومتى كان الّتيمم مشروعاً ليس الوضوء مشروعاً بالإجماع ذكره سيدنا الأستاذ طاب ثراه وعلى تقدير الغض عن الإجماع أيضاً لا طريق لنا لإثبات المشروعية الذاتية الكاشفة عن ثبوت المقتضى إذ الدليل انما شرعه في موضوع المتمكن من استعمال الماء والمكلف في حال يحرم عليه استعمال الماء، من قبل الشارع ليس متمكنا من استعمال الماء عرفاً.

ومن هنا يظهر الجواب عن توهم آخر يوشك ان يرد في المقام وهو انه هب عدم إمكان تعلق التكليف بالوضوء على نحو الترتب لكن يكفي في الصحة قصد جهة الفعل.

في المقدمة الموصلة

الأمر الخامس: لو بينا على وجوب المقدمة فهل الواجب ذاتها، أو مع قيد الإيصال إلى ذيها سواء قصد بها الإيصال أم لا أو مع قصد الإيصال سواء ترتب عليها ذوها أم لا؟ وينبغي ان يعلم أولاً انه على تقدير القول بان الواجب ذات المقدمة لا ينافي الالتزام في بعض الموارد بمدخلية قصد الإيصال في موضوع الواجب لجهة خارجية، كما لو توقف إنقاذ الغريق على خصوص التصرف في ملك الغير فحينئذٍ نقول بان الواجب من ناحية الإنقاذ هو التصرف بقصد الإنقاذ لأن اذن الشارع في الغصب مع كونه مبغوضاً في حد ذاته انما هو من جهة أهمية الإنقاذ إذ لا يقدر المكلف على ترك الغصب وفعل الإنقاذ معا ولما كان ترك الإنقاذ أبغض من فعل الغصب رضى بفعله ولا شك ان الاذن في المبغوض من جهة المزاحمة انما هو من الضرورة الّتي تقدر بقدرها، وحيث تدفع الضرورة بالإذن في الغصب المقصود به الإنقاذ، فلا وجه للإذن في قسم اخر وهو الغصب الغير المقصود به ذلك هذا.

ص: 113

ذهاب بعض الأساطين الى اعتبار قيد الايصال في المقدمة

ولنشرع في المقصود، فنقول: ذهب بعض الأساطين (قدّس سِرُّه) إلى اعتبار قيد الإيصال وان المقدمة مع قطع النظر عن الإيصال لا تتصف بالوجوب، ونحن نذكر الاحتمالات المتصورة في مدخلية هذا القيد وما يلزم على كلّ منها حتّى يتضح الحال إن شاء اللّه.

حول الاحتمالات المتصورة في مدخلية الايصال

فاعلم ان مراده (قدّس سِرُّه) من المقدمة الموصلة اما ان يكون ما يترتب على وجودها ذوها أعني ما ينطبق عليه الموصل بالحمل الشائع، أو يكون عنوان الموصل وعلى الثاني اما ان يكون المراد هو الإيصال الخارجي، أو العنوان المنتزع منه، وعلى الأوّل من هذه الاحتمالات اما ان يكون المراد ما يترتب عليه ذو المقدمة على وجه يكون هو المؤثر فيه، أو يكون أعم من ذلك والفرق بينهما انه على الأوّل ينحصر في العلة التامة وعلى الثاني يعم العلة وما يلازمها وجوداً.

فان كان المراد المعنى الأوّل لزم ان يكون مفصلاً بين العلة التامة وغيرها على التقدير الأوّل أو مفصلاً بين العلة وما يلازمها وبين ساير المقدمات على التقدير الثاني وهذا مع عدم التزام القائل المذكور به غير سديد لما سنشير إليه بعد ذلك، من ان وجوب العلة المركبة من الاجزاء والقيود مستلزم لوجوب القيود والاجزاء.

وان كان مراده الثاني أعني كون القيد عنوان الإيصال فقد عرفت ان في هذا احتمالين: أحدهما كون القيد هو الإيصال الخارجي والثاني العنوان المنتزع منه أي كونها بحيث توصل إلى ذي المقدمة وعلى أي تقدير اما ان يكون القيد راجعاً إلى الطلب أو يكون راجعاً إلى المطلوب فهذه أربعة احتمالات:

أحدها: ان يكون المراد الإيصال الانتزاعي ويكون القيد راجعاً إلى الطلب.

والثاني: هذا الفرض لكن يكون القيد راجعاً إلى المطلوب.

والثالث: يكون المراد هو الإيصال الخارجي ويكون القيد راجعاً إلى الطلب.

ص: 114

والرابع: هذا الفرض ويكون القيد راجعاً إلى المطلوب.

اما الاحتمال الأوّل فان كان المراد ان خطاب المقدمة مشروط بكون المكلف آتياً بذيها في علم اللّه تعالى فيكون محصله افعل المقدمة ان كنت ممن تفعل ذاها في نفس الأمر فهذا باطل لا ينبغي ان يسند إلى أحد فضلاً عن مثل هذا المحقّق الجليل لأن هذا الشخص المتصف بهذا العنوان المذكور يأتي بالمقدمة قطعاً.

نعم يمكن بان توجه هذا الاحتمال على نحو لا يلزمه ذلك وهو ان يقال علي تقدير ان المقدمة لو وجدت يترتب عليها ذوها، أو على تقدير كون الفاعل بحيث لو أتى بالمقدمة يأتي بذيها يجب عليه المقدمة وهذا وان كان خاليا عن الإشكال المقدم الا انه يرد عليه أمران:

أحدهما: التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الإطلاق والاشتراط.

والثاني: عدم تعلق التكليف ببعض العصاة وهو من لو أتى بالمقدمة لم يأت بذيها عصيانا.

وان كان المراد الثاني، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعاً إلى المطلوب فيرد عليه ان تقييد المأمور به بأمر خارج عن اختيار المكلف تكليف بما لا يطاق، وهو قبيح وهذا العنوان ليس في حيز اختيار المكلف.

لا يقال: انه يكفي في كونه مختاراً له كونه منتزعاًمن فعله الاختياري نظير الأفعال التوليدية من الأسباب الاختيارية للمكلف فان الحقّ انها اختيارية بواسطة تلك الأسباب ويصح تعلق التكليف بنفس تلك الأفعال ولا يجب إرجاع التكليف إلى الأسباب كما يأتي إن شاء اللّه.

لأنا نقول: فرق بين الصفات المنتزعة من الأفعال الخارجية للمكلف في ظرف وجودها كعنوان الاتصال والانفصال ونظائرهما ممّا ينتزع من إيجاد ما هو منشأ لانتزاعه، فحينئذٍ يصح ان يكلف بالاتصال والانفصال مثلاً لكونهما في

ص: 115

حيز اختياره بواسطة اختيارية منشأ انتزاعهما وبين الصفات المنتزعة من الأفعال الموجودة في المستقبل، نظير كونه بحيث يضرب أو يجلس في المستقبل وأمثالهما من العناوين المنتزعة من الأفعال الموجودة في الزمن المتأخر في علم اللّه فان ثبوت تلك العناوين أو نقيضها ممّا ليس باختيار الشخص كيف وهي أو نقيضها ثابتة مع غفلته ونومه بل قبل وجوده في الخارج فان ماهية زيد يوجد في الخارج ويضرب عمراً في علم اللّه وهذا بعد أدنى تأمل لعله من الواضحات.

وان أراد الثالث، وهو ان يكون المقصود الإيصال الخارجي ويكون القيد راجعاً إلى الطلب فهو أيضاً باطل قطعاً لأن التكليف راجع إلى طلب المقدمة على فرض وجود ذيها وهو طلب الحاصل وأيضاً يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاشتراط والإطلاق وكذا يلزم عدم كون العصاة مكلفين بالمقدمة وبالجملة هذا الاحتمال أيضاً لا ينبغي ان يسند إليه قد ولا إلى أحد من العقلاء.

وان أراد الرابع، وهو ان يكون القيد في هذا الفرض راجعاً إلى المطلوب فيرد عليه (قدّس سِرُّه) قد أمور:

أحدها: ان لا يكون ممتثلا للأمر المقدمي الا بعد إتيان ذي المقدمة، وقضية الوجدان خلاف ذلك.

والثاني: ان لا يحصل الطهارة بالوضوء والغسل الا بعد إتيان الصلاة، لأن الطهارة لا تحصل الا بعد امتثال الأمر المقدمي والمفروض انه لا يحصل الا بعد إتيان الصلاة، فلزم تحقق الصلاة من دون تحقق الطهارة بل يلزم عدم حصول الطهارة بعد الصلاة أيضاً أدهى بدون الطهارة كعدمها.

والثالث: ان هذا القيد لا يخلو اما ان يكون له دخل في مقدمية المقدمة أو لا فعلى الأوّل يلزم الدور لأن الإيصال عنوان ينتزع من تأثير المقدمة في وجود ذيها فيتوقف على المقدمية فلو توقف المقدمية على الإيصال لزم الدور، وعلى

ص: 116

الثاني يلزم صيرورة الطلب نفسياً لأن الأمر إذا تعلق بشيء لا يكون له جهة المقدمية فلا بد من كون ذلك الأمر نفسياً.

ولا يخلو هذه الوجوه من نظر: اما الأوّل فلان لزوم كون امتثال الأمر المقدمي بعد الإتيان بذي المقدمة لا مانع له عقلاً وليس ما ذكر الا مجرد استبعاد ولا يمكن جعل هذا الاستبعاد في قبال الوجدان الذي يدعيه القائل.

واما الثاني فلان كون الامتثال منوطاً بإتيان ذي المقدمة لا يستلزم كون الطهارة منوطة به، لإمكان ترتب الطهارة على الغسلتين والمسحتين مع قصد التوصل ولو لم يتوصل إلى ذي المقدمة أو يقال: يشترط مع القصد المذكور كون الفعل بحيث يترتب عليه الصلاة في علم اللّه تعالى، والحاصل انه بعد قضاء العقل بكون القيد مأخوذا في موضوع الواجب وتحقق الإجماع على توقف الصلاة على الطهارة يستكشف ان الطهارة ليست من أثر امتثال الأمر المقدمي للوضوء بل هي مرتبة على فعل الوضوء مع قصد الإيصال قبل تحققه.

واما الثالث فبأنا نختار الشق الثاني أعني عدم مدخلية هذا القيد في مقدمية المقدمة ولا يلزم من ذلك محذور أصلاً لشيوع مثل هذا التقييد الذي لا دخل له في المقدمية بحيث ليس لأحد إنكاره مثل ما إذا كان للواجب مقدمتان إحداهما مباحة والأخرى محرمة فإنه لا إشكال في تعلق الأمر الغيري بالمباح منهما مع القطع بعدم دخل الخصوصية في المقدمية.

فان قلت: تقييد الموضوع في المثال المذكور انما يكون من جهة المانع الخارجي وهو كون الفرد الأخير مبغوضا غير قابل لتعلق الأمر به.

قلت: بعد ما صار مثل هذا التقييد الذي ليس له دخل في المقدمية ممكنا ولا يرجع الطلب المتعلق به إلى الطلب النفسي فللمدعي ان يدعى هنا ان المقتضى للطلب الغيري ليس الا فيما كان متصفا بقيد الإيصال.

فالأولى في الجواب ان يقال - بعد بداهة عدم كون مناط الطلب الغيري الا التوقف واحتياج ذي المقدمة إلى غيره -: ان تقييد موضوع الطلب بقيد يجب اما

ص: 117

ان يكون لكونه دخيلاً في الغرض وبعبارة أخرى المصلحة المقتضية للطلب لا تحصل الا في المقيد، واما ان يكون من جهة غرض اخر مع تحقق المناط والجهة الموجبة للإيجاب في ذات الموضوع من دون ذلك القيد أيضاً والأول كتقييد الصلاة بالطهارة والثاني كتقييدها بوقوعها في المكان المباح فان هذه الخصوصية لا دخل لها في تحقق الجهة الموجبة للصلاة بل انما هي جاءت من قبل مبغوضية الغصب، وبعبارة أخرى هذا التقييد انما نشأ من الجمع بين الفرضين لا من جهة مدخليته في تحقق غرض الصلاة ولا إشكال في ان هذا القيد ليس من قبيل الثاني، فانحصر في الأوّل وهو كونه من جهة دخله في مناط طلب المقدمة وهذا بعد بداهة ان المناط ليس الا التوقف غير معقول لأن الإيصال عنوان ينتزع من وجود ذي المقدمة فهو موقوف عليه، فلو توقف ذو المقدمة على الفعل المقيد بالإيصال لزم الدور وهذا واضح بأدنى تأمل.

وأيضاً: يلزم من وجوب المقدمة الموصوفة وجوب ذاتها مقدمة لتحقق هذا الموصوف.

لا يقال: ان المطلق عين المقيد وجوداً في الخارج وليس مقدمة له حتّى يجب بوجوبه.

لأنا نقول: فرق بين القيود المتحدة في الوجود مع المقيد كما في الفصول اللاحقة للأجناس، والقيود المغايرة في الوجود له كما إذا امر المولى بإتيان زيد المتعقب بعمرو أعني إتيان زيد المتصف بهذا العنوان لا إشكال في ان الواجب على الصورة الأولى امر واحد في الخارج لا ينفك القيد فيها عن المقيد ولو أراد المكلف امتثاله ولا وجه للقول بأنه يجب إيجاد المطلق مقدمة لإيجاد المجموع وإيجاد القيد مقدمة لإيجاده، إذ المفروض وحدة الوجود فيهما ولا يعقل التفكيك بين أمرين متحدين في الوجود بالسبق واللحوق، كما انه لا ينبغي الإشكال في ان الواجب على الثانية إيجاد ذات المطلق ثمّ إيجاد القيد ليتصف به المقيد لأن المفروض تغايرهما في الوجود.

ص: 118

إذا عرفت هذا فنقول: لا إشكال في ان التقييد في المقدمة الموصلة من قبيل الثاني لأن ما يصير منشأ لانتزاع صفة الإيصال هو وجود الغير فلو وجب عليه المقدمة المقيدة بوصف ينشأ من وجود الغير فالواجب عليه من باب المقدمة إيجاد ذات المقدمة ثمّ إتيان ما يوجب اتصافها بتلك الصفة.

وأيضاً يلزم من وجوب المقدمة الموصلة وجوب ذي المقدمة من باب المقدمة لأن اتصاف المقدمة بالإيصال يتوقف على إيجاد ذي المقدمة وهو من الغرائب.

ويمكن ان يقال: ان الطلب متعلق بالمقدمات في لحاظ الإيصال لا مقيداً به حتّى يلزم المحذورات السابقة، والمراد ان الأمر بعد تصور المقدمات بأجمعها يريدها بذواتها لأن تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي ولو لاحظ مقدمة منفكة عما عداها لا يريدها جزما فان ذاتها وان كانت مورداً للإرادة لكن لما كانت المطلوبية في ظرف ملاحظة باقي المقدمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسرى الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدمات وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان ولا يرد عليه ما ورد على القول باعتبار الإيصال قيدا وان اتحد معه في الأثر.

هل الأمر المتعلّق بالمسبب يجب إرجاعه الى السبب، أو هو حقيقة متعلّق بالمسبب؟

الأمر السادس: هل الأمر المتعلق بالمسبب يجب إرجاعه إلى السبب عقلاً أو هو حقيقة متعلق بنفس المسبب والسبب ان وجب انما يجب من باب المقدمة؟ الوجوه المتصورة في المقام ثلاثة:

أحدها ان يقال ان الأمر بالمسبب مطلقاً راجع إلى السبب عقلاً.

والثاني ان يقال ان الأمر بالمسبب متعلق بنفسه مطلقاً.

والثالث التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل انكسار الخشبة المتحقق بإيصال الآلة قوة الإنسان إليها، وبين ما إذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر كما في إلقاء النفس إلى السبع فيتلفها

ص: 119

أو إلقاء شخص في النار فتحرقه. ا

حتج للأول بان متعلق الإرادة والتكليف انما هو فعل المكلف إذ لا معنى للأمر بما ليس من فعله والأفعال المترتبة على أسباب خارجية ليست من فعله بل هي من فعل تلك الأسباب والوسائط، لانفكاكها عن المكلف في بعض الأحيان كما إذا رمى سهما فمات فأصاب زيداً بعد موت الرامي فلو كان الفاعل هو الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامي، لامتناع انفكاك المعلول عن علته زمانا فيكشف ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي بل هو السهم، غاية الأمر انه لم يكن فاعلا بالطبع وانما يكون فاعليته من جهة احداث الرامي القوة فيه، وقس على ذلك ساير الأمثلة.

وأجيب عنه بأنا نسلم ان التكليف لا يتعلق الا بما يعد فعلا للمكلف، الا انا نقول: ان الفعل الصادر عنه له عنوان أولى وعناوين ثانوية متحدة معه بواسطة ترتب الآثار عليه مثلاً، حركة اليد المؤثرة في حركة المفتاح لها عنوان أولى وهو حركة اليد وتحريك اليد وبملاحظة تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح وبملاحظة تأثيرها في انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب ولا إشكال في ان كما انه حركة اليد الّتي هي الفعل الأوّل للفاعل فعل له كذلك العناوين المتحدة معها لمكان اتحادها مع فعله الأوّل في الخارج و ح لو تعلق التكليف بتحريك المفتاح الذي يتحد مع تحريك اليد الذي هو فعل للمكلف فلا موجب لإرجاعه إلى التعلق بتحريك اليد إذ كما انه فعل اختياري له كذلك ما يتحد معه.

وقد يناقش في هذا الجواب بان تحريك المفتاح في المثال لا يمكن ان ينطبق على تحريك اليد، لأنه عين حركة المفتاح في الخارج، لما تقرر من وحدتهما في الخارج وانما الفرق من حيث الاعتبار وهي غير حركة اليد المتحدة مع تحريكها فيجب ان يكون تحريك المفتاح أيضاً غير تحريك اليد والا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متحدتين أيضاً والمفروض خلافه.

ص: 120

والجواب: انا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد، بل نقول: ان الفعل الذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الأوّل ينقلب عنوانه إلى تحريك المفتاح في الآن الثاني (1) فافهم هذا.

ولكن لا يخفى ان هذا انما يصح فيما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلة واما إذا كان هناك فاعل اخر يصدر عنه الفعل فلا يمكن القول باتحاد الفعل الصادر عنه مع الفعل الصادر عن الفاعل الأوّل وهذا واضح.

وقد يجاب أيضاً عن أصل الدليل: بأنا لا نسلم لزوم تعلق الإرادة بالفعل الصادر عن الفاعل بل يكفي في قابلية تعلق الحكم بشيء كونه مستندا إلى المكلف بنحو من الاستناد سواء كان بنحو الفاعلية أم بنحو تأثير الشرط في وجود المشروط أم غير ذلك وبعبارة أخرى: الكلام في المقام انما هو في ان متعلق الإرادة بحسب حكم العقل ما ذا؟ فنقول ما يقطع العقل باعتباره في متعلق الطلب هو ارتباط المطلوب بالمكلف بنحو من أنحاء الارتباط فخرج به ما ليس للمكلف تأثير فيه بنحو من الأنحاء واما لو كان له ربط بالمكلف بوجه بحيث يكون وجوده منوطاً باختياره بحيث لو شاء يوجد ولو لم يشأ لم يوجد فنمنع استحالة تعلق التكليف به عقلاً (2).

وفيه: انه لو أراد ان التكليف فيما ليس بيد المكلف الا إيجاد شرطه كالإحراق بالنار مثلاً متعلق بما هو شأن الواسطة كما إذا تعلق التكليف بما هو شأن

ص: 121


1- حاصل الجواب انه لا مانع من ان يطرأ على فعل واحد في آنين متعددين عنوانان بملاحظة ترتب أمرين طوليين عليه مثلاً بملاحظة تأثير حركة اليد في حركة المفتاح يطرأ عليها تحريك المفتاح وبملاحظة تأثير حركة المفتاح في انفتاح الباب يطرأ على حركة اليد عنوان فتح الباب في الآن الثاني ولا يزول عنها عنوان تحريك المفتاح كما هو ظاهر المتن حيث عبرنا بالانقلاب بل كلا العنوانين ثابتان كلّ واحد في ان غير ان الاخر (منه)
2- ويمكن ان يقال ان المناط في صحة تعلق الأمر عقلاً كون المأمور به بيده وتحت اختياره وان كان من قبيل الواسطة (منه)

النار في المثال فهذا غير معقول وان أراد ان التكليف متعلق بما هو شأن المكلف فهو راجع إلى الأمر بإيجاد الواسطة.

توضيح المقام على وجه يرفع الإبهام عن وجه المرام ان الاعراض باعتبار النسبة إلى محالها تختلف، تارة تكون نسبتها إليها بمجرد كونها حالة بها من دون ان تكون صادرة عن محالها كالموت والحياة والسواد والبياض، وأخرى تكون نسبتها إليها من جهة انها صادرة عنها كالضرب والقيام اما ما كان من قبيل الأوّل فلا إشكال في عدم قابلية تعلق الطلب به ضرورة ان الطلب يقتضى صدور الفعل عن الفاعل، وما ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلق الطلب به لأن إرادة الأمر مثل إرادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات غاية الأمر ان الأولى موجبة لتحريك عضلات المأمور، والثانية موجبة لتحريك عضلات المريد وظاهر ان ما ليس من قبيل الحركة لا يمكن تعلق إرادة الفاعل به فكذلك إرادة الأمر فلو تعلق الطلب بحسب الصورة بمثل ما ذكر يجب إرجاعه إلى ما يرجع إلى فعل المأمور.

والحاصل ان متعلق الطلب لا بد وان يكون معنى مصدريا صادرا عن المخاطب بالخطاب فلو لم يكن كذلك بان لم يكن من معنى المصدر أو كان ولم يكن صادرا من المأمور لم يمكن تعلق الأمر به اما الأوّل فلما عرفت واما الثاني فلما مضى من ان الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ولا يمكن تحريكها الا إلى فعل نفسه.

فتحصل ممّا ذكرنا ان الطلب إذا تعلق صورة بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك ومن هنا يقوى التفصيل بين ما إذا تعلق التكليف بما ليس بينه وبين المكلف الا آلة توصل قوة الفاعل إلى القابل وما إذا تعلق بالافعال الّتي ليست فعلا له بل هي افعال الواسطة ففي الأوّل التكليف متعلق بنفس ذلك الفعل وفي الثاني يجب إرجاعه إلى السبب فليتأمل جيداً.

ص: 122

في أن أجزاء المركبات وجوبها نفسي أو مقدمي

الأمر السابع: لو بنينا على وجوب المقدمة فهل اجزاء المركب المتصف بالوجوب النفسي تتصف به أو بالوجوب المقدمي؟ والحق هو الثاني فهنا دعويان إحداهما عدم اتصاف الاجزاء بالوجوب النفسي والثانية اتصافها بالوجوب المقدمي.

لنا على الأولى ان الأوامر تتعلق بالأمور الموجودة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج، فالشيء ما لم يوجد في الذهن لا يعقل تعلق الأمر به وهذه المقدمة في الوضوح ممّا يستغنى عن البرهان فحينئذٍ الاجزاء الموجودة في ذهن الأمر لا تخلو من انها اما ان يلاحظ كلّ واحد منها بوجوداتها المستقلة الغير المرتبط بعضها ببعض نظير العام الأفرادي واما ان يلاحظ المجموع منها على هيئتها الاجتماعية، فعلى الأوّل لا بد وان ينحل الإرادة بإرادات متعددة كما في العام الأفرادي إذ الإرادة امر قائم بنفس المريد متعلق بالافعال، فكما انها تتعدد بتعدد المريد كذلك يتعدد بتعدد المراد، إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدد المعروض وعلى الثاني أي على تقدير كون الملحوظ الاجزاء على نحو الاجتماع فالملحوظ بهذا الاعتبار امر واحد، ولا يعقل ان يشير اللاحظ في هذا اللحاظ إلى أمور متعددة فوجود الاجزاء بهذا اعتبار في ذهن الأمر نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيد في انه وان كان موجوداً الا انه لا على وجه يشار إليه، بل هو موجود تبعا للمقيد ومندكا فيه والحاصل ان الموجود بهذا الاعتبار ليس الا الكل والاجزاء بوجوداتها الخاصّة لا وجود لها، فمتعلق الأمر النفسي لا يعقل الا ان يكون الكل الموجود في الذهن مستقلاً، والاجزاء لعدم وجودها في الذهن بهذا اللحاظ لا يمكن ان يكون متعلقة للأمر نعم يمكن استناد الأمر إليها بالعرض نظير استناد الأمر المتعلق بالمقيد إلى ذات المطلق أعني الطبيعة المهملة.

وهذا هو المراد من كلام شيخنا المرتضى قد في التقريرات:

ص: 123

«ان الجزء إذا لو حظ لا بشرط فهو عين الكل وإذا لو حظ بشرط لا فهو غيره ومقدمة لوجوده» والمراد من قوله (قدّس سِرُّه) لا بشرط، عدم اشتراط ان يكون في ذهن الأمر معه شيء أم لا وهو الصالح لأن يتحد مع الكل ومن قوله بشرط لا عدم ملاحظة الأمر معه شيئاً أعني ملاحظته مستقلاً ولا إشكال في ان الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح ان يتحد مع الكل ويحمل عليه إذ لا يصدق على الحمد ولا على غيره من اجزاء الصلاة انه صلاة.

ولنا على الثانية ان الأمر إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي، أي غير ملحوظ معه شيء يرى انه ممّا يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة من اجتماع الاجزاء فحاله حال سائر المقدمات الخارجية من دون تفاوت أصلاً (1).

هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

في ذكر أدلة القائلين بوجوب المقدمة

الأمر الثامن: في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدمة أقول ما تمسك به في

ص: 124


1- بعد ما عرفت ان الفرق بين الجزء والكل انما هو باللحاظ اللا بشرطي والبشرط لائي بمعنى ان الجزء ما كان ملحوظا بحده والكل عبارة عن عدة أشياء يجمعها اللحاظ ويشير إليها بإشارة واحدة وقد عرفت أيضاً ان لحاظ الإيصال في المقدمة عبارة عن لحاظ ذوات المقدمات بهيئة الاجتماع والإشارة إليها في الذهن بإشارة واحدة ويتحد هذا المعنى مع لحاظ الكل في المقدمات الداخلية فيلزم تكرر الطلب على معنى واحد أحدهما نفسي والاخر غيري وهو خلاف الوجدان وهذا شاهد صدق على صدق إنكار الوجوب المقدمي رأسا كما اختاره صاحب القوانين مضافاً إلى ما سنشير إليه في الحاشية الآتية من عدم مساعدة الوجدان على الوجوب بيانه ان الوجوب المقدمي لا يخلو من أنحاء ثلاثة اما يكون على وجه الإطلاق واما على وجه الاشتراط واما على نحو اعتبار لحاظ الإيصال وكلها باطلة اما النحو الأوّل فلبداهة ان من يضع قدما سمت بلدة كربلاء بلا عزم المسافرة بل مع العزم على العدم فليس هذا الوضع منه متصفا بالمطلوبية المقدمية لأجل استحباب الزيارة واما الثاني فقد ذكر في المتن وجوه فساده بأقسامه واما الأخير فقد علم من هنا حاله (منه)

هذا المقام وجوه:

أسدّها: وأمتنها ما احتج به شيخنا المرتضى (قدّس سِرُّه) من شهادة الوجدان (1) فان من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلق بالفعل والمتعلق بمقدماته، لا نقول بتعلق الطلب الفعلي بها كيف والبداهة قاضية بعدمه لجواز غفلة الطالب عن المقدمة إذ ليس النزاع منحصراً في الطلب الصادر من الشارع حتّى لا يتصور في حقه ذلك بل المقصود ان الطالب للشيء إذا التفت إلى مقدمات مطلوبه يحد من نفسه حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلقة بذيها، كما قد يتفق هذا النحو من الطلب النفسي أيضاً فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو لم يلتفت إلى كونه ابنه فان الطلب الفعلي في مثله غير متحقق لابتنائه على الالتفات لكن المعلوم من حاله انه لو التفت إلى ذلك لأراد من عبده الإنقاذ وهذه الحالة وان لم يكن طلبا فعليا الا انها تشترك معه في الآثار، ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور انه لو لم ينقذ العبد ابن المولى عد عاصيا ويستحق العقاب.

ومنها: اتفاق أرباب العقول كافة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل، نظير الإجماع الذي ادعى في علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم فان اتفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالاً عن حكم العقل فلا يرد على المستدل ان المسألة لكونها عقلية لا يجوز التمسك لها بالإجماع لعدم كشفه عن رأي المعصوم لأن الإيراد متوجه لو أراد من الإجماع المستدل به عليه الإجماع الاصطلاحي، اما على الوجه الذي قررناه فلا مجال للإيراد هذا.

ولكن الشأن في إثبات مثل هذا الاتفاق:

ص: 125


1- فيه منع كما سنشير إليه في الحاشية الآتية (منه).

ومنها: ان المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها فحينئذٍ فان بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال والا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً وبطلان اللازمين ممّا لا كلام فيه فكذا الملزوم.

والجواب: ان ما أضيف إليه الظرف (1) في قوله فحينئذٍ ان كان الجواز نختار الشق الأوّل أعني بقاء الواجب على وجوبه ولا يلزم المحذور قطعاً لعدم معقولية تأثير الوجوب في القدرة وان كان الترك مع كونه جائزا فان فرض إمكان إيجاد المقدمة عند ذلك بان كان الوقت موسعا فنختار أيضاً الشق الأوّل ولا يلزم التكليف بالمحال وهو واضح وإلا بأن انقضى زمان الإتيان بها فنختار الشق الثاني وقوله (قدّس سِرُّه) يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجباً مطلقاً ان أراد خروجه من أول الأمر عن كونه كذلك كما هو ظاهر عبارته فمنع الملازمة وان أراد خروجه بعد ترك المقدمة وانقضاء زمانها فليس اللازم باطلا لأن الوجوب قد يسقط بالإطاعة وقد يسقط بالعصيان.

ص: 126


1- والأولى في الجواب ان يقال انه ان أريد من الجواز الترخيص الشرعي نمنع الملازمة بمعنى انه متى راجعنا وجداننا نجد من أنفسنا انا في أوامرنا لسنا بمقهورين في إرادة مقدمات المطلوب بل لا بأس بالتصريح بأني لا ألزمك على فعل المقدمة وان كان لا يجوز لنا الترخيص في الترك أيضاً أو المنع من فعلها فلا بأس بالتصريح ينفي جميع الأحكام الخمسة عنها نعم هذا حال الأمر واما الفاعل فحيث ان إرادته محركة إلى الفعل والمفروض انه فاعل مختار والتحرك نحو الفعل أيضاً لا يتمشى من دون التحرك نحو المقدمات فلا محالة ينقدح في نفسه إرادة المقدمات واما الأمر فلا فائدة في امره الا تحريك العبد وهو يحصل بمجرد الأمر النفسي من دون حاجة إلى الأمر المقدمي ولا يرى أيضاً فائدة في نفس المقدمة حسب الفرض غير القرب إلى ذيها ولا فائدة له في محض القرب أيضاً فلم يبق الا انه ملجأ بإرادة المقدمة من دون فائدة وقد عرفت خلافه بمراجعته الوجدان أيضاً نعم لا بد من إرادة العبد المقدمات لما عرفت في الإرادة الفاعلية هذا لو أريد الجواز الشرعي واما لو أريد الجواز بمعنى عدم المنع ففيه ما ذكر في المتن (منه).

الدليل المحكي عن المحقّق السبزواري

ومنها: ما حكى عن المحقّق السبزواري، وهو انها لو لم تكن واجبة يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقاً للعقاب، بيان الملازمة انه إذا كلف الشارع بالحج ولم يصرح بإيجاب المقدمات فتارك الحج بترك قطع المسافة الجالس في بلده اما ان يكون مستحقا للعقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم لا سيل إلى الأوّل لأنه لم يصدر منه في ذلك الزمان الا ترك الحركة والمفروض انها غير واجبة عليه ولا إلى الثاني لأن الإتيان بافعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه الا ترى ان الإنسان إذا امر عبده بفعل معين في زمان معين في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد فان ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنه لم يصدر منه إلى الآن فعل قبيح يستحق به التعذيب لكن القبيح انه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل بل لا يصح العقوبة الا على الاستحقاق السابق قطعاً ثمّ نقول إذا فرضنا ان العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل فاما ان يكون مستحقا للعقاب أولاً لا وجه للثاني لأنه ترك المأمور به مع كونه مقدورا فثبت الأوّل فاما ان يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك لا وجه للأول لأن استحقاق العقاب انما يكون لفعل القبيح وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن والقبح بالاتفاق ولا وجه للثاني لأن السابق على النوم لم يكن الا ترك المقدمة والمفروض عدم وجوبها هذا حاصل ما أفاده (قدّس سِرُّه) وقد نقلناه ملخصاً.

والجواب: انه لا محذور في اختيار كلّ واحد من الشقين، فلنا ان نختار الشق الأوّل وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشي لا على ترك المشي بل على ترك الحج المستند إلى ترك المقدمة اختيارا فان طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء، وهم يحكمون بحسن عقاب العبد التارك للمقدمة في زمن تركها ولا يلزمون على المولى انتظار زمن الفعل وليس هذا التزاما

ص: 127

بترتب العقاب على ترك المقدمة، بل المقصود إثبات العقاب المترتب على ترك ذيها في زمن ترك المقدمة وامتناع ذيها اختياراً.

ولنا ان نختار الشق الثاني فنقول: ان تارك المقدمة مستحق للعقاب في زمان الحج وقوله (قدّس سِرُّه): «ان فعل الحج هناك غير مقدور فلا يمكن اتصافه بالقبح» غير وجيه، لأنا نقول يكفي في اتصافه بالمقدورية كون المكلف قادرا على إتيان مقدمته في زمانها، فاتصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدورية مقدماته بالقبح لا مانع له وأي قبح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه؟

واما ما ذكره أخيرا من فرض كون تارك المقدمة نائما في زمن الفعل، فالجواب عنه)ان ما لا يمكن ان يتصف بالحسن والقبح من فعل النائم انما يكون فيما استند إلى النوم مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى النوم وليس هذا الترك ممّا نحن فيه مستندا إلى النوم حتّى لا يمكن اتصافه بالقبح بل هو مستند إلى ترك المقدمة في زمانها اختيارا وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيان وهذا واضح.

ومنها: ما حكى عن المحقّق المذكور أيضاً، وهو انها لو لم تكن واجبة لزم ان لا يستحق تارك الفعل العقاب أصلاً وبيانه ان المريد للشيء إذا تصور أحوالا مختلفة يمكن وقوع كلّ واحد منها فاما ان يريد الإتيان بذلك على أي تقدير من تلك التقادير، أو يريد الإتيان به على بعض تلك التقادير وهذا ممّا لا إشكال فيه و ح نقول: إذا امر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها فاما ان يريد الإتيان به على أي تقدير من تقديري الوجود والعدم فيكون في قوة قولنا «ان وجدت المقدمة فافعل» وان عدمت فافعل واما ان يريد الإتيان به على تقدير الوجود، والأول محال، لأنه يستلزم التكليف بما لا يطاق فثبت الثاني فيكون وجوبه مقيداً بحضور المقدمة فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب لفقد ان شرط الوجوب،

ص: 128

والمفروض عدم وجوب المقدمة فينتفي استحقاق العقاب رأساً.

والجواب: اما أولاً فبأنه لو تم ما ذكره هنا لزم ان لا يقع الكذب في الاخبار المستقبلة، بيان الملازمة انه لو أخبر المخبر بأني غدا اشترى اللحم فعلى تقدير عدم الشراء لا وجه لتكذيبه إذ له ان يقول ان الاخبار بشراء اللحم اما ان يكون على تقدير إيجاد جميع المقدمات أو الأعم من ذلك وعدمها لا سبيل إلى الثاني لا وله إلى الاخبار عن الممتنع فثبت الأوّل فيؤل إلى الاخبار بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدمات والمفروض عدم وجود واحدة منها إذ لا أقل من ذلك فلا يكون كذبا إذ عدم تحقق اللازم في صورة عدم تحقق الملزوم ليس كذبا في القضية الشرطية الخبرية.

واما ثانياً فبان اللازم على ما ذكره عدم استحقاق العقاب على ترك واجب أصلاً، لرجوع الواجبات بأجمعها إلى الواجب المشروط بيان ذلك ان كلّ واجب لا بد له من مقدمة ولا أقل من إرادة الفاعل، فحينئذٍ نقول: اما ان يريد ذلك الفعل في حالّتي وجود المقدمة وعدمها أو في حالة وجودها فقط والأول مستلزم للتكليف بما لا يطاق والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات إذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب، وليست شعري هل بنفعه وجوب المقدمة في دفع هذا الإشكال؟!

واما ثالثاً فبان الحالات الّتي تؤخذ في موضوع الطلب إطلاقاً أو تقييداً هي ما يمكن تعلق الطلب بالموضوع معه ويجوز كونه في تلك الحالة باعثاً للمكلف نحو الفعل واما ما لم يكن كذلك بان لا يمكن معه ان يكون الطلب باعثا للمكلف نحو الفعل فلا يعقل تقييد الطلب به ولا إطلاقه اما الأوّل فللزوم لغوية الطلب واما الثاني فلأنه تابع لإمكان التقييد وحالتا وجود المقدمة وعدمها من قبيل الثاني، لأنه على الأوّل يصير الفعل واجباً فلا يمكن تعلق الطلب به على تقدير وجوبه، وعلى الثاني يصير ممتنعا فلا يمكن أيضاً تعلق

ص: 129

الطلب به على هذا التقدير، وبعد عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما لا يمكن ملاحظة الإطلاق أيضاً بالنسبة إليهما بل الطلب متعلق بذات الفعل مع قطع النظر عنهما إطلاقاً وتقييدا وهو يقتضى إيجاد الفعل ولو لم يوجد يستحق العقاب وهذا واضح.

وقد ذكروا وجوهاً اخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها اقتصاراً على ما هو الأهم في الباب وهو الهادي إلى الصواب.

في مقدمات الحرام

الأمر التاسع: في بعض من الكلام في مقدمات الحرام .

وليعلم أولاً ان الالتزام بحرمة مقدمة الحرام بقصد التوصل إليه ليس قولا بحرمة مقدمة الحرام لأن هذا من جزئيات مسألة التجري فعد بعض الأساطين حرمة مقدمات الحرام بقصد التوصل إلى ذيها من باب مقدمة الحرام واقتضاء النهي المتعلق بذيها لها ممّا لم يعرف له وجه لأن الجهة المقبحة الموجودة في إتيان المقدمة بقصد التوصل إلى الحرام ليست منوطة بوجود محرم واقعي يكون هذه المأتي بها بقصد التوصل مقدمة له بل هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شيء وأتى بمقدماته بقصد التوصل إليه ولم يكن ذلك الشيء محرما في الواقع أو اعتقد مقدمية شيء لمحرم وأتى به بقصد التوصل إلى ما اعتقد ترتبه عليه وأعجب من ذلك قياسه بباب مقدمة الواجب فان ما تحقق هناك ان إتيان ذات المقدمة من دون قصد التوصل إلى ذيها لا يعد إطاعة، لا ان موضوع الطلب التبعي هو الفعل المقرون بهذا القصد.

وكيف كان فالمهم في هذا الباب بيان ان المقدمات الخارجية للحرام هل تتصف بالحرمة نظير ما قلنا في المقدمات الخارجية للواجب أم لا تتصف أصلاً أم يجب التفصيل بينها.

فنقول: ان العناوين المحرمة على ضربين أحدهما ان يكون العنوان بما هو

ص: 130

مبغوضا من دون تقييده بالاختيار وعدمه، من حيث المبغوضية، وان كان له دخل في استحقاق العقاب، إذ لا عقاب الا على الفعل الصادر عن اختيار الفاعل والثاني ان يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر عن غير اختياره لم يكن منافيا لغرض المولى فعلى الأوّل علة الحرام هي المقدمات الخارجية من دون مدخلية الإرادة بل هي علة لوجود علة الحرام وعلى الثاني تكون الإرادة من اجزاء العلة التامة.

إذا عرفت هذا فنقول: نحن إذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلة التامة له من دون سائر المقدمات كما إذا راجعنا الوجدان في طرف إرادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين إرادة كلّ واحدة من مقدماته وليس في هذا الباب دليل امتن وأسد منه وما سوى ذلك ممّا أقاموه غير نقي من المناقشة وعلى هذا ففي القسم الأوّل ان كانت العلة التامة مركبة من أمور يتصف المجموع منها بالحرمة وتكون إحدى المقدمات لا بشخصها محرمة (1) الا إذا وجد باقي الاجزاء وانحصر اختيار المكلف في واحدة منها فتحرم عليه شخصاً من باب تعين أحد افراد الواجب التخييري بالعرض فيما إذا تعذر الباقي فان ترك أحد الاجزاء واجب على سبيل التخيير فإذا وجد الباقي

ص: 131


1- ان قلت على القول بالمقدمة الموصلة في مقدمة الواجب لا بد ان نقول بحرمة جميع المقدمات للحرام فان المولى انما يبغض المقدمات المبغوضة في لحاظ إيصالها إليه فلم يتعلق المبغوضية في الواقع الا بالمقيد وان كان التقييد غير ملحوظ بعنوانه وبالجملة عين الكلام في مقدمة الواجب يأتي في مقدمة الحرام من غير فرق بينهما قلت ان المطلوب في جانب النهي انما هو عدم الفعل ومبغوضية الفعل من مبادئ انقداح هذا الطلب في نفس الأمر كما انها من مقدمات انقداح الإرادة في نفس الفاعل وبالجملة فالطلب في جانب النهي يتعلق بالعدم كما يتعلق بالفعل في طرف الأمر وعلى هذا فنقول مقدمة عدم الفعل عبارة عن عدم إحدى مقدمات الوجود فاللازم من مطلوبيته مطلوبية عدم أحدها وهي عبارة أخرى عن حرمة إحدى المقدمات لا بشخصها (منه).

وانحصر اختيار المكلف في واحد معين يجب تركه معينا واما القسم الثاني أعني فيما إذا كان الفعل المقيد بالإرادة محرما فلا يتصف الاجزاء الخارجية بالحرمة لأن العلة التامة للحرام هي المجموع المركب منها ومن الإرادة ولا يصح اسناد الترك الا إلى عدم الإرادة لأنه أسبق رتبة من ساير المقدمات الخارجية.

فقد فهم ممّا ذكرنا ان القول بعدم اتصاف المقدمات الخارجية للحرام بالحرمة مطلقاً لسبق رتبة الصارف وعدم استناد الترك الا إليه مطلقاً ممّا لا وجه له بل ينبغي التفصيل، لأنه في القسم الأوّل لو فرض وجود باقي المقدمات مع عدم الإرادة تحقق المبغوض قطعاً فعدم إحداها علة لعدم المبغوض فعلاً، واما في القسم الثاني فلو فرضنا وجود باقي المقدمات مع الصارف لم يتحقق المبغوض لكونه مقيداً بصدوره عن الإرادة فالمقدمات الخارجية من دون انضمامها إلى الإرادة لا توجد المبغوض ففي طرف العدم يكفي عدم إحدى المقدمات ولما كان الصارف أسبق رتبة منها يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي فيتصف بالمحبوبية دون ترك إحدى المقدمات الخارجية فلا يكون فعلها متصفا بالحرمة.

ص: 132

المقصد الثالث في الضد

هل الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده الخاص أولاً؟

أقول: لما كانت المسألة مبنية على مقدمية ترك الضد لفعل ضده (1) فاللازم التكلم فيها فنقول هل ترك الضد مقدمة لفعل ضده أو فعله مقدمة لترك ضده أو كلّ منهما مقدمة للآخر أو لا توقف في البين والمعروف من تلك الاحتمالات هو الأوّل والاخر فلا نعترض لغيرهما وستطلع على بطلانه في أثناء البحث والقائل بتوقف فعل الضد على ترك ضده الاخر اما ان يقول مطلقاً كما عليه جل أرباب هذا القول أو يفصل بين الرفع والدفع بمعنى انه لو كان الضد موجوداً وأراد إيجاد الاخر يتوقف إيجاده على رفع ضده وان لم يكن موجوداً وأراد إيجاد ضده لم يكن موقوفا على ترك الضد.

ص: 133


1- يمكن ان يقال بمنع الابتناء بمعنى انا وان أنكرنا المقدمية يمكن ان نقول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد الخاص تقريبه انا إذا راجعنا وجداننا نجد من أنفسنا انه إذا أردنا فعلا نترك أضداده بإرادة منا واختيار بحيث يصح المؤاخذة على ذلك الترك ولو لم يكن مسبوقا بالإرادة والاختيار لما صح وبالجملة نجد الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة ترك أضداده الخاصّة كما نجد الملازمة بين إرادة الشيء وإرادة مقدماته الا ترى انك لو أردت الخلوة مع أحد وكان عندك شخص اخر فإنك تتوسل إلى قيامه من المجلس بأي وسيلة أمكنت وعلى هذا فنقول ان كان حال إرادة الأمر حال إرادة الفاعل بعينها لزم القول بهذه الملازمة في الأولى أيضاً ولكن قد عرفت منع المقايسة المذكورة (منه)

ثم ان وجه التوقف يمكن ان يكون أحد أمور ثلاثه: الأول ان يقال بان ترك الضد ابتداء مقدمة لفعل الضد والثاني ان يكون مقدمية الترك من باب مانعية الفعل. والثالث ان يكون من جهة عدم قابلية المحل فان المحل لما لم يكن قابلا لأن يرد عليه كلاهما صار وجود كلّ منهما متوقفا على خلو المحل عن الاخر.

وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود وقبل ذكر أدلة الطرفين لا بد وان يعلم حكم حال الشك لنرجع إليه إذا عجزنا من القطع بأحد الطرفين.

فنقول لو شك في كون ترك الضد مقدمة بعد علمه بوجوب مقدمة الواجب وعلمه بوجوب فعل الضد الاخر فهل الأصل يقتضى الحكم بصحة العمل ان كان من العبادات أو الفساد؟

تأسيس الأصل عند الشك في مقدمية الضد

قد يقال بالأول، لأن فعلية الخطاب مرتفعة بواسطة الشك، خصوصاً في الشبهة الموضوعية الّتي قد أطبقت على إجراء البراءة فيها كلمة العلماء «رضوان اللّه عليه» من الأصوليين والأخباريين، وإذا لم يكن الوجوب فعليا لا مانع من صحة العمل لأن المانع قد تحقق في محله انه الوجوب الفعلي ولذا أفتى العلماء بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة في صورة نسيان الغصبية، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم يجب عليه الإعادة والقضاء وما نحن فيه من هذا القبيل، وأوضح من ذلك صورة القطع بعدم المقدمية وانكشاف خطاء قطعه بعد ذلك، فان الحكم بفساد صلاته موجب لفعلية الخطاب حين القطع بعدمه.

والحق ان الشك في المقام ليس مورداً لأصالة البراءة لا عقلاً ولا شرعاً:

اما الأوّل: فلان مقتضاها هو الأمن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي على تقدير ثبوته، ولا يمكن جريانها هنا لأن العقاب لا يترتب على مخالفة التكليف المقدمي ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب عن التكليف النفسي إذا استند تركه إلى هذه المقدمة المشكوك مقدميتها، لأن التكليف النفسي معلوم ويعلم ان الإتيان به ملازم لهذا الترك الذي يحتمل كونه مقدمة انما الشك في ان هذا الترك الذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم

ص: 134

هل هو مقدمة أو لا؟ وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسي المعلوم كما هو واضح.

واما الثاني: فلأنه على تقدير كون الترك مقدمة فالوجوب المتعلق به بحكم العقل على حد الوجوب المتعلق بفعل ضده فكما انه في هذا الحال يكون فعليا منجزا كذلك مقدمته، وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص والمفروض احتمال تحقق الفرض في نظر الشاك وإلا لم يكن شاكا ومع هذا الاحتمال يشك في إمكان الترخيص وعدمه عقلاً، فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.

لا يقال: بعد احتمال كون الترخيص ممكنا لا مانع من التمسك بعموم الأدلة الدالة على إباحة جميع المشكوكات واستكشاف الإمكان بالعموم الدال على الفعلية.

لأنا نقول: فعلى هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه، إذ لو بنينا على انكشاف الإمكان بعموم الأدلة فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضد مقدمة، إذ مع بقاء هذا الشك لا يمكن انكشاف الإمكان فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضد مقدمة فلا مجرى له لأن موضوعه الشك.

وبالجملة: فلا أرى وجهاً لجريان أصالة الإباحة في المقام هذه خلاصة الكلام في حكم الشك فلنعد إلى أصل البحث.

في بيان أن الضد ليس مقدّمة للفعل والترك

فنقول: الحقّ كما ذهب إليه الأساطين من مشايخنا هو عدم التوقف والمقدمية لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل.

اما عدم كون ترك الضد مقدمة لفعل ضده فلان مقتضى مقدمته لزوم ترتب عدم ذي المقدمة على عدمه لأنه معنى المقدمية والتوقف فعلى هذا يتوقف عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدمة وهو فعل الضد الاخر والمفروض ان فعل الضد أيضاً يتوقف على ترك ضده الاخر،

ص: 135

ففعل الضد يتوقف على ترك ضده كما هو المفروض وترك الضد يتوقف على فعل ضده لأنه مقتضى مقدمية تركه. هذا.

مضافاً إلى عدم إمكان تأثير العدم في الوجود وهو من الواضحات، والا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات إلى العدم.

واما عدم كون فعل الضد علة ومؤثرا في ترك ضده فلأنه لو كان كذلك لزم مع عدمه وعدم موجود يصلح لأن يكون علة لشيء اما ارتفاع النقيضين أو تحقق المعلول بلا علة أو استناد الوجود إلى العدم.

بيان ذلك: انه لو فرضنا عدم الفعل الذي فرضناه علة لعدم الضد وعدم كلّ شيء من السكنات يصلح لأن يكون علة لشيء فلا يخلو الواقع من أمور: لأنك اما ان تقول: بوجود ذلك الفعل الذي كان عدمه معلولا أولاً فعلى الأوّل يلزم استناد الوجود إلى العدم إذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لأن يكون علة وعلى الثاني: اما ان تقول بعدم تحقق العدم المفروض معلولا أولاً، فعلى الثاني يلزم ارتفاع النقيضين، وعلى الأوّل يلزم تحقق المعلول بلا علة، مضافاً إلى ان مقتضى كون الفعل علة لترك ضده كون تركه مقدمة لفعل ضده الاخر لأن عدم المانع شرط فيلزم الدور.

فان قلت: ان الدور الذي أوردت على القائل: بمقدمية ترك الضد لفعل ضده الاخر انما يتوجه لو التزم بكون الفعل أيضاً علة للترك وهو لا يلتزم به، وانما يقول بكون ترك الضد مستندا إلى الصادف لكونه أسبق رتبة من الفعل ومعلوم ان المعلول إذا كانت له علل فهو يستند إلى أسبق علله فحينئذٍ نقول بان فعل الضد يتوقف على ترك ضده الاخر ولكن ترك الضد لا يتوقف على فعل ضده الاخر بل يكفي فيه الصارف فاندفع بذلك الدور.

قلت: الإسناد الفعلي وان كان إلى الصارف ليس الا لما ذكر من كونه أسبق العلل الا انه يكفي في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علة الترك لاستلزام ذلك التقدم عليه مع كون الترك، أيضاً مقدما على الفعل بمقتضى

ص: 136

مقدميته، لأن وجه بطلان الدور تقدم الشيء على نفسه وهذا الوجه موجود هنا بعينه فان ترك الضد بمقتضى المقدمية مقدم طبعا على فعل ضده وكذلك فعل الضد بمقتضى شأنيته للعلية يجب ان يكون مقدما على ترك ضده فترك الضد مقدم على فعل ضده الذي هو مقدم على ذلك الترك فيجب ان يكون ترك الضد مقدما على نفسه وكذلك فعل الضد.

ومما ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الرفع والدفع، لأن البرهان الذي ذكرناه على عدم التوقف يجري فيهما على نهج واحد.

وأنت إذا تأملت فيما ذكرنا لم تجديداً من القول بعدم التوقف فلا نطيل المقام بذكر ما أوردوه في بيان المقدمية والمناقشة فيه.

حكم العبادة الّتي هي ضدّ للمأمور به

انما المهم التعرض للمسألة الّتي فرعوها على مقدمية ترك الضد وعدمها، أعني بطلان فعل الضد لو كان عبادياً وقد وجب ضده على الأوّل (1) وصحته على الثاني.

فنقول: اما بناء على كون ترك الضد مقدمة فلا إشكال في بطلان العمل بناء على بطلان اجتماع الأمر والنهي، بل قد يقال بالبطلان حتّى على القول بإمكان الاجتماع لأن محل النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان هناك عنوانان يتفق تحققهما في وجود واحد، وليس المقام من هذا القبيل

ص: 137


1- يمكن ان يقال بمنع ترتب هذه الثمرة بمعنى انا وان اخترنا اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد يمكن ان نقول بصحة العبادة المذكورة فان الطلب الغيري أمراً كان أو نهيا لا يوجب موافقته قربا ولا مخالفته بعدا فلو كان في متعلق النهي الغيري جهة حسن لم يمنع النهي المذكور عن مقربيته وعباديته فان قلت مخالفة النهي الغيري وان لم توجب بعدا من حيث نفسها ولكنها توجبه من حيث أدائها إلى مخالفة الطلب النفسي والذي يوجب بعد العبد لا يمكن ان يكون مقربا قلت وان كان وجوده مفضيا إلى وجود المبغوض النفسي لكن البعد من آثار وجود الثاني والذي ينافي المقربية كون الشيء مبعدا بنفسه وبلا واسطة (منه).

لأن عنوان المقدمية ليس ممّا امر به، بلانه ليس ممّا يتوقف عليه المطلوب، بل المطلوب انما يتوقف على نفس ترك الصلاة مثلاً إذا كان ضدها مطلوباً، فلو جاز تعلق الأمر بها لزم اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد فيكون ذلك من باب النهي في العبادات هذا على القول بكون ترك الضد مقدمة.

واما على القول بعدم مقدميته فان قلنا بكفاية الجهة في صحة العبادة وان لم يتعلق به الأمر لمانع عقلي (1) كما هو الحقّ فلا إشكال في الصحة، واما لو لم نقل بكفاية الجهة فيشكل الأمر بان الأمر بالضد وان لم يقتض النهي عن ضده لعدم المقدمية ولكنه يقتضى عدم الأمر به لامتناع الأمر بإيجاد الضدين في زمان واحد وحيث لا امر فلا يقع صحيحاً، لأن المفروض عدم كفاية جهة الأمر في الصحة، فالمناص حينئذٍ منحصر في تصحيح تعلق الأمر فعلا بالضد مع كون ضده الاخر مأموراً به.

والذي يمكن ان يكون وجهاً لذلك أحد أمرين:

الأوّل: ما نقل عن بعض الأساطين من ان الأمر بالضد انما ينافي الأمر بضده الاخر لو كانا مضيقين، اما لو كان أحدهما مضيقاً والاخر موسعاً فلا مانع من الأمر بكليهما، لأن المانع ليس الا لزوم التكليف بما لا يطاق، وهذا

ص: 138


1- لا إشكال في تصوير هذا الوجه بناء على القول بالحسن الذاتي في جميع العبادات أعني كونها بحسب ذواتها مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها معروضات للحسن الفعلي واما بناء على تبعية حسنها لتعلق الأمر بها كما هو اللازم من تصحيح الأمر العبادي بأخصية الغرض فيشكل بأنه مع سقوط الأمر بمزاحمة الأهم لا يبقى حسن حتّى يصير داعيا ويمكن الجواب بان الذي نقول بسقوطه للمزاحمة انما هو الأمر الفعلي واما الأمر الذاتي التشريعي فباق بحاله وهو كاف في عروض الحسن العقلي بل لو قلنا بالمبنى الأوّل أعني عروض الحسن لذات الفعل العبادي أيضاً لا بد ان نقول بتوقف صحة العبادة على وجود الأمر التشريعي الا ترى عدم صحة الظهر ممن اشتغل ذمته بالعصر وقد ضاق الوقت الا عن أربع ركعات (منه).

المانع منحصر فيما إذا كانا مضيقين، إذ لو كان أحدهما موسعاً فلا يلزم ذلك قطعاً، سواء كان الاخر موسعا أيضاً أم لا، وأي مانع من ان يقول المولى لعبده أريد منك من أول الظهر إلى الغروب إنقاذ هذين الغريقي ن أو يقول: أريد منك إنقاذ هذا الغريق فعلا وأريد منك أيضاً إنقاذ الغريق الاخر في مجموع الوقت الذي يكون أعم من هذا الوقت وغيره.

أقول: تمامية ما أفاده (قدّس سِرُّه) مبنية على مقدمتين:

إحداهما: ان يكون الوقت المضروب ظرفا للواجب من قبيل الكلي الصادق على جزئيات الوقت، فيصير المحصل من التكليف بصلاة الظهر إيجاب إيجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدين، إذ لو كان التكليف راجعاً إلى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الأزمنة فلا يصح ذلك لأن البعث على غير المقدور قبيح عقلاً وان كان على سبيل التخيير بينه وبين فعل اخر مقدور الا ترى قبح الخطاب التخييري بين الطيران إلى السماء وإكرام زيد مثلاً.

والثانية: ان الأمر بالطبيعة لا يستلزم السراية إلى الافراد والا لكان اللازم منه المحذور الأوّل بعينه.

وحيث ان عدم السراية إلى الافراد هو المختار كما يجيء تحقيقه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء اللّه، ولا يبعد صحة المقدمة الأولى، فلا بأس بالالتزام بتحقق الأمر الفعلي بالصلاة في مجموع الوقت مع إيجاب ضدها في أول الوقت ضيقاً.

بل يمكن ان يقال

لا مانع من الأمر حتّى على القول: بالتخيير الشرعي أو على القول: بسراية حكم الطبيعة إلى الافراد لأن المانع من التكليف بما لا يطاق ليس الا اللغوية، وهي مسلمة فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء، واما إذا كان نفسه مقدورا كما فيما نحن فيه غاية الأمر يجب عليه بحكم العقل امتثال امر اخر من المولى ولا يقدر مع الامتثال على إتيان فعل

ص: 139

آخر (1) فلا يلزم اللغوية إذ يكفى في ثمرة وجود الأمر انه لو أراد المكلف عصيان الواجب المعين يقدر على إطاعة هذا الأمر ومن ذلك يظهر ان قياس مقامنا هذا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محله.

في مسألة الترتب و بيان مقدماتها

والوجه الثاني: ما أفاده سيّد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي (قدّس سِرُّه) وشيد أركانه وأقام برهانه تلميذه الجليل والتحرير الذي ليس له بديل سيدنا الأستاذ السيّد محمَّد الأصفهاني «جزاهما اللّه عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء» وهو ان يتعلق الأمر أولاً بالضد الذي يكون أهم في نظر الأمر مطلقاً من غير التقييد بشيء ثمّ يتعلق امر اخر بضده متفرعا على عصيان ذلك الأمر الأوّل.

وإثبات هذا المطلب يستدعى رسم مقامات:

الأولى: ولعلها العمدة في هذه المسألة توضيح الواجب المشروط وهو وان مر ذكره في مبحث مقدمة الواجب مفصلاً، الا انه لا بد من ان نشير إليه ثانياً توضيحا لهذه المسألة الّتي نحن بصددها.

نقول وعلى اللّه التوكل: ان الإرادة المنقدحة في النفس المتعلقة بالعناوين على ضربين تارة تكون على نحو تقتضي إيجاد متعلقها بجميع ما يتوقف عليه، من دون إناطتها بوجود شيء أو عدمه، وأخرى على نحو لا تقتضي إيجاد متعلقها الا بعد تحقق شيء اخر وجودي أو عدمي، مثلاً إرادة إكرام الضيف تارة تكون على نحو يوجب تحريك المريد إلى تحصيل الضيف وإكرامه، وأخرى على نحو لا يوجب تحريكه إلى تحصيل الضيف بل يقتضى إكرامه على تقدير مجيئه.

ص: 140


1- فيه ان إطلاق كلّ من الأمرين الموسعين بالنسبة إلى جميع اجزاء الزمان الموسع وكذلك إطلاق ما كان موسعا فيما كان أحدهما كذلك والاخر مضيقا بالنسبة إلى الجزء الذي عين للمضيق يلزم منه طلب الجميع تخييرا فكأنه قال اما افعل هذا الضد وذلك الضد في هذا الجزء الذي لا يسع الا لأحدهما واما افعل أحدهما في هذا الجزء والاخر في الجزء الاخر وهو أيضاً في البطلان مثل ان يقال اما طرو إلى السماء أوصل (منه)

ثم ان الثاني على أنحاء:تارة تقتضي إيجاد متعلقها بعد تحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الخارج، كما في مثال أكرم زيداً ان جاءك، وأخرى تقتضي إيجاده مقارنا له (1) كما في إرادة الصوم مقارنا للفجر إلى غروب

ص: 141


1- لا يخفى ان الشرط إذا كان أمراً زمانيا ممتدا كسير الشمس قدر نصف القوس مثلاً فلا يمكن جعله شرطا للطلب باعتبار وجوده الخارجي مع ملاحظة اقتران الفعل المأمور به به أو سبق الفعل عليه فان ملاحظته بوجوده الخارجي يقتضى الفراغ عنه ومع الفراغ عن وجوده لا يبقى للفعل محل فلا بد في أمثال ذلك من ملاحظته باعتبار وجوده الاستقبالي شرطا بمعنى ان الشرط كون الشمس مثلاً بحيث يسير هذا المقدار من المسافة فاما يطلب الفعل قبل شروعها بالسير واما مقارنا له لكن هذا المعنى لا يصحح الترتب المقصود تصحيحه في مسألة الأمر بالضدين. بيان ذلك ان ترك الأهم بمقدار نصف ساعة مثلاً لو جعل بتحققه الخارجي شرطاً للأمر بالمهم يلزم خلاف المقصود، إذ لازمه الفراغ الذهني عن مضى نصف الساعة، والمقصود فعل المهم في ذلك النصف، ولو جعل بوجوده الاستقبالي شرطاً بمعنى ان يقال: «ان كنت ممن يترك في المستقبل فعل الأهم في نصف ساعة فافعل في ذلك النصف الضد المهم» فلازمه طلب الجمع بين الضدين، إذ طلب الأهم موجود والمفروض اجتماعه مع طلب المهم. فان قلت: إطلاق الأمر لا يمكن ان تشمل حال عصيانه فلا يمكن ان يقال: أيها الذي تعصي افعل ولا تعص، فإذا خرج عنوان من يعصى الأمر بالأهم عن تحت إطلاقه فلا مانع من مجيء الأمر بالمهم. قلت: وان كان لا يصح تعلقه بهذا العنوان لكن تعلقه بالذات الواقعة تحت هذا العنوان صحيح بمعنى ان المكلف الذي في علم اللّه سبحانه يكون ممن يعصى ليس خارجا عن التكليف كيف والا يلزم خروج العصاة عن تحت عامة التكاليف و ح فيلزم طلب الجمع من هذه الذات أحد الطلبين متعلق بذاته والاخر بعنوانه. فان قلت: فما الحيلة في تصحيح الأمر بالضدين في زمان واحد بعد بطلان طريقة الترتب المذكور؟ قلت: طريق تصحيحه، ان نقول: الفعل الزماني المحتاج إلى مقدار نصف ساعة من الزمان مثلاً لا يكون تركه زمانياً ومحتاجاً إلى الزمان بل هو نظير الفصل والوصل من الأمور الحاصلة في الآن الذي هو ليس جزء من الزمان وإلا لزم تركب الزمان من الجزء الذي لا يتجزى وقد تسالموا على بطلانه وعلى هذا فالامر بالمهم يقتضى المهم في تقدير هذا الترك الإني والأمر بالأهم في هذا الآن ساقط وانما يكون فيما قبل هذا الآن فالزمان واحد والآن مختلف. وان شئت توضيح الحال بالمثال فافرض ان إنقاذ الغريق محتاج إلى إعمال القوة بمقدار نصف ساعة الشيء كما نرى من أنفسنا ان الإنسان إذا أراد إكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم بمجيئه في الغد وتوقف إكرامه في الغد على مقدمات قبله يهيئ تلك المقدمات وهكذا حال إرادة الأمر فلو امر المولى بإكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم العبد بتحقق مجيئه غدا وتوقف إكرامه غدا على إيجاد مقدمات في اليوم وجب عليه إيجادها ولا عذر له عند العقل لو ترك تلك المقدمات وهذا واضح لا سترة عليه وعلى التقدير الثاني باعثية الإرادة بالنسبة إلى الفاعل انما تكون بالعلم بتحقق ذلك الشيء المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الذي هو فيه كما انه على الثالث تؤثر إذا علم بتحققه في الزمن الآتي وان شئت قلت ولا يمكن في الأقل من هذا المقدار فالفعل ح وان كان محتاجا إلى هذا المقدار ولكن الترك يتحقق في الآن من دون حاجة إلى مضى شيء من اجزاء الزمان المذكور الذي فرضناه زمانا للفعل على تقدير وجوده بمعنى انه بعد انصراف العبد عن الامتثال يتحقق الترك منه في الخارج في الآن المتصل بأول الزمان المذكور من دون حاجة إلى مضى شيء من اجزائه نظير تحقق الفصل والوصل في الخارج فطلب فعل الإنقاذ يقتضى اشتغال هذا الوقت بالإنقاذ وطلب المهم كالصلاة يقتضى إشغاله بجميعه بالمهم لكن الأوّل في الآن السابق على ان تحقق الترك والثاني في الآن المتأخر عن ذلك الآن ولا يضر هذا التقدم والتأخر الإتيان باجتماعهما في الزمان كما لا يضر في العلة والمعلول بل ولو فرض أضداد كثيرة مترتبة في الأهمية فيتحقق هناك أوامر في آنات كثيرة ولا يضر باجتماعها كلها في زمان واحد نظير العلل الكثيرة الطولية الموجودة كلّ منها مع الأخرى ومع المعلول في زمان واحد. فان قلت: هذا متمش في مثل المثال المذكور من الإنقاذ ممّا ليس له الا فرد واحد زماني، واما في مثل الإزالة ممّا يمكن له افراد زمانية تدريجية فمتى انقضى زمان الفرد الأوّل تصل النوبة إلى الفرد الثاني فلا يبقى مجال للأمر بالصلاة مثلاً. قلت: بعد تصحيح الأمر في المثال الأوّل لا يبقى وقع لهذا السؤال فاما نفرض ان الأمر بالصلاة متعلق بجزء جزء منه مستقلاً حسب أزمنة الأزالات، ففي أول زمان كلّ فرد من الإزالة يتحقق امر بجزء من الصلاة يسعه ذلك الزمان، نظير من توجد له القدرة على اجزاء الصلاة شيئاً فشيئا كما لو قام عنده أحد ويلقنه أقوالها وأفعالها شيئاً فشيئاً من أول الصلاة إلى آخرها مثلاً فتدبر جيداً (منه).

الشمس وكما في إرادة الوقوف في العرفات مقارناً لأول الزوال إلى الغروب، وأمثال ذلك، وتارة تقتضي إيجاده قبل تحقق ذلك الشيء، كما لو أراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا.

وهذه الأنحاء الثلاثة كلها مشتركة في انها مع عدم العلم بتحقق ذلك

ص: 142

المفروض تحققه لا تؤثر الإرادة في نفس الفاعل كما انها مشتركة في انه على تقدير العلم بذلك مؤثرة في الجملة.

انما الاختلاف في انه على التقدير الأوّل العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتي لا يوجب تحريك الفاعل إلى نحو المراد لأن المقصود إيجاد الفعل بعد تحقق ذلك الشيء لا قبله، نعم لو توقف الفعل في زمان تحقق ذلك الشيء، على مقدمات قبل ذلك اقتضت الإرادة المتعلقة بذلك الفعل على تقدير وجود شيء خاص إيجاد تلك المقدمات قبل تحقق ذلك الشئ، كما نرى من أنفسنا ان الانسان إذا أراد اكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم بمجيئه في الغد وتوقف اكرامه فلو امر المولى باكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم العبد بتحقق مجيئه غدا وتوقف اكرامه غدا على ايجاد مقدمات في اليوم وجب عليه ايجادها، ولا عذر له عند العقل لو ترك تلك المقدمات، وهذا واضح لا سترة عليه.

وعلى التقدير الثاني باعثية الإرادة بالنسبة إلى الفاعل انما تكون بالعلم بتحقق ذلك الشئ المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الذي هو فيه.

كما انه على الثالث تؤثر إذا علم بتحققه في الزمن الآتي.

وان شئت قلت: هذه الإرادة المعلقة على وجود شئ إذا انضم إليها العلم بتحقق ذلك الشئ تقتضى ايجاد كلّ من الفعل ومقدماته في محله، فمحل الاكرام في الفرض الأوّل بعد تحقق المجئ ومحل مقدماته قبله، ومحل الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط ومحل مقدماته قبله، كما في الوقوف في العرفات مقارنا للزوال، ومحل الفعل في المثال الثالث قبل تحقق الشرط.

والحاصل انه لا نعنى بالواجب المشروط الا الإرادة المتعلقة بالشئ مبتنية على تحقق امر في الخارج، وهذه الإرادة لا يعقل ان تؤثر في نفس الفاعل الا بعد الفراغ من حصول ذلك الامر، وبعبارة أخرى هذه الإرادة من قبيل جزء العلة لوجود متعلقها وإذا انضم إليها العلم بتحقق ذلك الشئ تؤثر في كلّ من الفعل

ص: 143

ومقدماته في محله كما عرفت فالإرادة المبتنية على امر مقدر سواء علم بتحقق ذلك الأمر أم لم يعلم بل ولو علم بعدمه موجودة ولكن تأثيرها في الفاعل يتوقف على العلم بتحقق ذلك الأمر.

المقدمة الثانية: ان الإرادة المبتنية على تقدير امر في الخارج لا يعقل ان تقتضي إيجاد متعلقها على الإطلاق أي سواء تحقق ذلك المقدر أم لا، والا خرجت عن كونها مشروطة بوجود شيء، فمتى ترك الفعل بترك الأمر المقدر لا يوجب مخالفة لمقتضى الإرادة نعم المخالفة انما يتحقق فيما إذا ترك مع وجود ذلك المقدر وهذه المقدمة في الوضوح بمثابة لا تحتاج إلى البرهان.

المقدمة الثالثة: ان الإرادة المتعلقة بشيء من الأشياء لا يقدح في وجودها كون المأمور بحيث يترك في الواقع أو يفعل، إذ لا مدخلية لهذين الكونين في قدرة المكلف فالإرادة مع كلّ من هذين الكونين موجودة، ولكن لا يمكن ان يلاحظ الأمر كلا من تقديري الفعل والترك في المأمور به لا إطلاقاً ولا تقييداً؛ اما الثاني فواضح لأن إرادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال وإرادة الفعل على تقدير الفعل طلب الحاصل واما الأوّل فلان ملاحظة الإطلاق فرع إمكان التقييد وحيث تستحيل الثاني يستحيل الأوّل فالإرادة تقتضي إيجاد ذات متعلقها، لا انها تقتضي إيجاده في ظرف عدمه ولا إيجاده في ظرف وجوده ولا إيجاده في كلتا الحالّتين، لأن هذا النحو من الاقتضاء يرجع إلى طلب الشيء مع نقيضه أو مع حصوله فظهر ان الأمر يقتضى وجود ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة إلى الحالّتين المذكورتين ولا إطلاقه بالنسبة إليهما نعم الأمر المتعلق بذات الفعل موجود سواء كان المكلف ممن يترك أو يفعل ولكن هذا الأمر الموجود يقتضى عدم تحقق الترك وتحقق الوجود لا انه يقتضى الوجود على تقدير الترك وبعبارة أخرى يقتضى عدم تحقق هذا المقدر لا انه يقتضى وجود الفعل في فرض وقوعه لأن الثاني يرجع إلى اقتضاء اجتماع النقيضين دون الأوّل فافهم فإنه لا يخلو عن دقة.

ص: 144

المقدمة الرابعة: انه لم يرد في خبر ولا اية بطلان تعلق الأمرين بالضدين في زمان واحد حتّى يتمسك بإطلاق ذلك الخبر وتلك الآية في بطلانه انما المانع حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق، وهو منحصر في ما إذا كان الطلبان بحيث يقتضى كلّ واحد منهما سلب قدرة المكلف عن الإتيان بمقتضى الاخر لو أراد الإتيان بما يقتضيه، اما لو كانا بحيث لا يوجب ذلك فلا مانع أصلاً.

إذا عرفت المقدمات المذكورة فنقول: لو امر الأمر بإيجاد فعل مقارناً لترك ضده الاخر فهذا الأمر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقق ذلك الترك في الآن المتصل بالآن الذي هو فيه إذ لو صبر إلى ان يتحقق ذلك الترك لم يقع المأمور به بالعنوان الذي امر به، وهو المقارنة، فمحل تأثير هذا الأمر في نفس المأمور انما يكون مقارنا لوقوع الترك فيجب ان يؤثر في ذلك المحل بمقتضى المقدمة الأولى، وهذا الأمر المبتني على ترك الضد لا يوجب التأثير في المتعلق مطلقاً حتّى يستلزم لا بدية المكلف من ترك الضد بحكم المقدمة الثانية والأمر المتعلق بالضد الاخر الذي فرضناه مطلقاً لا يقتضى إيجاد المتعلق في ظرف عدمه بحكم المقدمة الثالثة حتّى يلزم منه وجود التكليف بالضدين في ظرف تحقق هذا الفرض بل الأمر بالأهم يقتضى عدم تحقق هذا الفرض والأمر بالمهم يقتضى إيجاده على تقدير تحقق الفرض ومن هنا يتضح عدم تحقق المانع العقلي في مثل هذين الأمرين، لأن المانع كما عرفت ليس الا لزوم التكليف بما لا يطاق لأن ذلك انما يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من امتثال كلّ منهما معصية الاخر وقد عرفت انه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك، لأن المكلف لو امتثل الأمر بالأهم لم يعص الأمر الاخر الذي تعلق بالمهم انما ترتب على هذا الامتثال انتفاء ما كان شرطاً للأمر بالمهم وقد عرفت ان عدم إتيان الواجب المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب والحاصل انه لا يقتضى وجود الخطابين بعث المكلف على الجمع بين الضدين.

ومما يدلك على هذا انه لو فرضنا محالا صدور الضدين من المكلف لم يقع

ص: 145

كلاهما على صفة المطلوبية، بل المطلوب هو الأهم لا غير، لعدم تحقق ما هو شرط لوجوب المهم.

فان قلت: سلمنا إمكان الأمر بالضدين على نحو فرضته ولكن بم يستدل على الوقوع فيما إذا وجب الإزالة عن المسجد مطلقاً وكان في وقت الصلاة فان حمل دليل الصلاة على الوجوب المعلق على ترك إزالة النجاسة يحتاج إلى دليل.

قلت: المفروض ان المقتضى لوجوب الصلاة محقق بقول مطلق، وليس المانع الا حكم العقل بعدم جواز التكليف بما لا يطاق وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما لا يطاق يجب بحكم العقل تأثير المقتضى.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في المقام وعليك بالتأمل التام فإنه من مزال الإقدام.

حجة المانع للترتب وجوابها

حجة المانع: ان الضدين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلاً، وجعلهما في زمان واحد متعلقين للطلب المطلق تكليف بما لا يطاق.

وهاتان المقدمتان ممّا يقبل الإنكار انما الشأن بيان ان تعلق الطلبين بالضدين في زمان واحد ولو على نحو الترتب يرجع إلى الطلب المطلق بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد.

وبيانه: ان الأمر بإيجاد الضد مع الأمر بإيجاد ضده الاخر لا يخلو من انه اما امر بإيجاده مطلقاً في زمان الأمر بضده كذلك، واما امر بإيجاده مشروطا بترك الاخر والثاني على قسمين لأنه اما ان يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضد الاخر أو يجعل الشرط كون المكلف بحيث يترك في علم اللّه اما الأوّل فلا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق، واما الأوّل من الأخيرين فلا مانع منه الا انه عليه لا يصير الأمر مطلقاً الا بعد تحقق الترك ومضى زمانه، وهذا وان كان صحيحاً لكنه خارج عن فرض القائل بالترتب لأنه يدعى تحقق الأمرين في زمان واحد واما الأخير منهما فلازمه القول بإطلاق الأمر المتعلق بالمهم في ظرف تحقق شرطه، والمفروض وجود الأمر بالأهم أيضاً، لأنه

ص: 146

مطلق ففي زمان تحقق شرط المهم يجتمع الأمران المتعلقان بالضدين، وكل واحد منهما مطلق، اما الأمر المتعلق بالأهم فواضح، واما الأمر المتعلق بالمهم فلان الأمر المشروط بعد تحقق شرطه يصير مطلقاً.

والجواب يظهر ممّا قدمناه في المقدمات وحاصله ان الأمر بالأهم مطلق، والأمر بالمهم مشروط، اما قولك بان الشرط اما هو الترك الخارجي أو العنوان المنتزع منه فنقول انه هو الترك الخارجي وقولك انه على هذا يلزم تأخر الطلب عن زمان الترك مدفوع بما عرفت من عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط إيجاد متعلقه بعد تحقق الشرط بل قد يقتضيه كذلك وقد يقتضى مقارنة الفعل للشرط كما عرفت ذلك كلّه مشروحاً.

فان قلت: سلمنا كون الشرط نفس الترك الخارجي للضد ولا يلزم من ذلك تأخر الطلب عن مضى زمان الترك ولكن نقول في ظرف فعلية الطلب المشروط اما تقول ببقاء الطلب المطلق أولاً والثاني خلاف الفرض والأول التزام بالأمر بما لا يطاق.

قلت: نختار الشق الأوّل ولكن لا يقتضى الطلب الموجود ح الا عدم تحقق الترك الذي هو شرط لوجوب الاخر، لا انه يقتضى إيجاد الفعل في ظرف تحقق هذا الترك، كما أوضحناه في المقدمات، فليتأمل في المقام فإنه ممّا ينبغي ان يصرف لأجله الليالي والأيام.

ص: 147

المقصد الرابع: في جواز اجتماع الأمر والنهي

في تصوير محل النزاع في المسألة

وليعلم أولاً: ان النزاع المذكور انما يكون بعد فرض وجود المندوحة، وتمكن المكلف من إيجاد عنوان المأمور به في غير مورد النهي والا فالمسلم عند الكل عدم الجواز لقبح التكليف بما لا يطاق، نعم ذهب المحقّق القمي (قدّس سِرُّه) إلى التفصيل بين ما كان العجز مستنداً إلى سوء اختيار المكلف وعدمه فخص القبح بالثاني ومن هنا حكم بان المتوسط في الأرض المغصوبة منهي عن الغصب فعلا ومأمور بالخروج كذلك ولكنك خبير بان هذا التفصيل يأبى عنه العقل بل لعل قبح التكليف بما لا يطاق مطلقاً من البديهيات الأولية .

وكيف كان فقبل الشروع في المقصود ينبغي رسم أمور:

عدم ابتناء المسألة على تعلق الأمر بالطبيعة

أحدها: قد يتوهم ابتناء المسألة على كون متعلق التكاليف هو الطبيعة أو الفرد فينبغي التكلم في هذه المسألة على وجه الاختصار حذرا من فوت المهم والنظر فيها يقع في مقامات: أحدها في تشخيص مرادهم والثاني في انه هل يبتنى النزاع في مسألتنا هذه عليها، بمعنى انه لو أخذ بأحد طرفي النزاع فيها لزم الأخذ بأحد طرفي المسألة فيما نحن فيه أم لا والثالث في أدلة الطرفين.

اما المقام الأوّل: فنقول: يمكن ان يكون مرادهم انه بعد فرض لزوم اعتبار الوجود في متعلق الطلب فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة أو وجود الفرد، ويمكن ان يكون مرادهم انه بعد فرض اعتبار الوجود هل المعتبر اشخاص الوجودات الخاصّة أو المعنى الواحد الجامع بين الوجودات.

اما المقام الثاني: فالحق عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه

ص: 148

عليه، إذ يمكن القول بان متعلق الأحكام هو الطبائع بكلا المعنيين اللذين احتملنا في مرادهم، ومع ذلك يمنع جواز اجتماع الأمر والنهي، اما لما ذكره صاحب الفصول (قدّس سِرُّه) من ان متعلق الطلب انما يكون الوجودات الخاصّة لعدم جامع لها في البين، واما لأنه على تقدير تعلق الطلب بالجامع يلزم سرايته إليها لمكان الاتحاد والعينية، وكذلك يمكن القول بتعلق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين أيضاً والالتزام بجواز الاجتماع، لأن الفرد الموجود في الخارج يمكن تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات ومع ذلك لا يخرج عن كونه فرداً، مثلاً الصلاة في الدار المغصوبة الموجودة بحركة واحدة شخصية لو لوحظت تلك الحركة الشخصية من حيث انها مصداق للصلاة، وجرّد النظر عن كونها واقعة في الدار المغصوبة لم تخرج عن كونها حركة شخصية، فالمجوز بعد اختياره ان متعلق التكاليف هو الافراد ان يقول ان هذه الحركة من حيث كونها مصداقاً للصلاة محبوبة ومأمورها ومن حيث انها مصداق للغصب منهي عنها.

واما المقام الثالث: فالذي يمكن ان يحتج به على كون متعلق التكاليف هو الافراد على المعنى الأوّل أمران:

أحدهما عدم كون الطبيعة موجودة في الخارج وانما الوجود مختص بأفرادها وليس لها حظ من الوجود بناء على عدم وجود الكلي الطبيعي في الخارج كما ذهب إليه بعضهم.

والثاني: ان المقدور ليس الا الفرد ولا يمكن الطلب بغير المقدور، اما الثاني فواضح، واما الأوّل فلان الطبيعة مجردة عن الخصوصيات، وانضمام الأمور الخارجية لا يمكن ان تتحقق في الخارج فلو أراد إيجادها فاللازم إيجاد الفرد مقدمة حتّى يتحقق الطبيعة في ضمنه.

والجواب عن الأوّل بالمنع عن الأصل المذكور أعني امتناع وجود الكلي الطبيعي في الخارج، بل نقول عند التحقيق يمتنع إضافة الوجود في الخارج الا إليه، بداهة ان الفرد المتشخص الموجود في الخارج الذي هو مجمع الحيثيات

ص: 149

والعناوين كالجسمية والحيوانية والناطقية وانه طويل أو قصير أو ذو لون كذا لو جرد النظر فيه عن هذه الحيثيات لم يبق شيء حتّى يكون الوجود مضافاً إليه فعلم ان فردية الفرد لا تتحقق الا بعد اجتماع هذه الحيثيات المتعددة في الوجود.

واما الجواب عن الثاني فبان الممتنع ما إذا قيدت الطبيعة بشرط عدم انضمامها بالخصوصيات، واما إذا جردت عن هذه الاعتبار فلا إشكال في تعلق القدرة بها، واما وجود الفرد فليس مقدمة لوجود الطبيعة، لمكان اتحادهما في الخارج كما هو واضح.

حجة من يقول بان الطلب يتعلق بوجود الطبيعة ان الطلب يتوقف على تصور المحل والفرد لا يمكن ان يتصور الا بعد التحقق و ح غير قابل لتعلق الطلب به، اما انه لا يمكن ان يتصور الفرد قبل تحققه فلان الصور الذهنية مأخوذة من الخارج فحيث لم يتحقق الفرد بعد في عالم الخارج لا يمكن ان يحيط به الذهن وينتقش فيه صورة، فكلما يتصور ح لا يخرج عن كونه كلّيّاً غاية الأمر يمكن تقييده في الذهن بقيود عديدة حتّى يصير منحصراً في فرد واحد ولكنه مع ذلك لا يخرج عن كونه كلّيّاً قابلا للصدق على كثيرين واما انه بعد تحققه غير قابل للطلب فواضح.

والجواب ان ما ذكرت من توقف الطلب على تصور المحل ان أردت لزوم تصوره تفصيلاً فهذه المقدمة ممنوعة، ولو أردت لزوم تصوره ولو بالوجه والعنوان الإجمالي فهو مسلم، ولكن استحالة تصور الفرد قبل وقوعه وهذا النحو من التصور ممنوعة ضرورة إمكان تصور افراد الطبيعة بعنوان انها افراد لها.

والذي يمكن ان يحتج به لتعلق الطلب بالفرد بالمعنى الثاني ان الوجودات بأسرها متباينات بمعنى انه ليس لها جامع.

واستدل القائل بتعلق الطلب بالطبيعة بالمعنى الثاني أيضاً بوجهين: أحدهما ان وجود الشخص لا يدخل في الذهن والا لانقلب خارجاً، والثاني ان إمكان تصور الوجود

ص: 150

الشخصي انما يكون بعد تحققه وفي ذلك الوقت لا يمكن تعلق الطلب به.

والجواب عن حجج الأولين منع عدم الجامع بين الوجودات كما ترى بالوجدان انه قد تتعلق الإرادة بإيجاد الماء لرفع العطش من دون مدخلية خصوصيات الوجود في الإرادة وستطلع على زيادة توضيح في ذلك إن شاء اللّه.

وعن حجج الآخرين، اما عن الأوّل فبأنه لا يلزم من تعلق الطلب بالموجودات الشخصية كونها بوصف تحققها في الخارج متصورة في الذهن حتّى يلزم الانقلاب بل يكفي انتقاش صورها في الذهن ويتعلق الطلب بهذه الصور الذهنية حاكية عن الخارجيات واما عن الثاني فبما عرفت ممّا سبق فلا نعيد.

عدم ابتناء المسألة على أصالة الوجود

الأمر الثاني: ان الموجود الخارجي من أي طبيعة كان امر وحداني محدود بحد خاص سواء قلنا بأصالة الوجود أو أصالة الماهية غاية الأمر انه على الأوّل يكون الثاني منتزعاً وعلى الثاني يكون الأوّل منتزعا نعم يمكن ان ينحل في الذهن إلى مهية ووجود وإضافة الوجود إلى الماهية فحينئذٍ لو قلنا: بان الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي فاللازم ان نقول بالامتناع سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهية ولو قلنا بعدم كونها مانعة ويكفي تعدد المتعلق في الذهن فاللازم القول بالجواز سواء قلنا أيضاً بأصالة الوجود أو الماهية.

الأمر الثالث: ان الظاهر من العنوان الذي يجعلونه محلا للنزاع ان الخلاف في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ولا يخفى انه غير قابل للنزاع إذ من البديهيات التضاد بين الأحكام وملاكاتها.

انما النزاع في انه هل يلزم على القول ببقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة مثلاً بحاله وكذا إطلاق دليل الغصب في مورد اجتماعهما اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حتّى يجب عقلاً تقييد أحدهما بغير مورد الاخر أو لا يلزم بل يمكن ان يتعقل للأمر محل وللنهي محل اخر ولو اجتمعا في مصداق واحد فهذا النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى نظير النزاع في حجّية المفاهيم.

الأمر الرابع: انه لا إشكال في خروج المتباينين عن محل النزاع بمعنى عدم

ص: 151

الإشكال في إمكان ان يتعلق الأمر بأحدهما والنهي بالاخر الأعلى تقدير التلازم بينهما في الوجود كما لا إشكال في خروج المتساويين في الصدق لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة كما لا إشكال في دخول العامين من وجه في محل النزاع انما النزاع في ان العام المطلق والخاص أيضاً يمكن ان يجري فيه النزاع المذكور أم لا؟

الفرق بين المسألة ومسألة اقتضاء النهي للفساد

قال المحقّق القمي (قدّس سِرُّه): ان العام المطلق خارج عن محل النزاع، بل هو مورد للنزاع في النهي في العبادات.

واعترض عليه المحقّق الجليل صاحب الفصول (قدّس سِرُّه) بأنه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين الجهتين فرق، بل الملاك انه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهي عنه مغايرة يجري فيه النزاع وان كان بينهما عموم مطلق كالحيوان والضاحك وان اتحد العنوانان وتغايرا ببعض القيود لم يجري النزاع فيهما، وان كان بينهما عموم من وجه نحو صلّ الصبح ولا تصلّ في الأرض المغصوبة، هذا.

ويشكل بأنه لو اكتفي العجوز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة فلا فرق بين ان ان يكون بينهما عموم من وجه أو مطلقاً وان يكون العنوان المأخوذ في النهي عين العنوان المأخوذ في الأمر مع زيادة قيد من القيود أو غيره ضرورة كون المفاهيم متعددة في الذهن في الجميع ولو لم يكتف بذلك فليس لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضاً مجال فاللازم على من يدعى الفرق بيان الفارق.

قال شيخنا المرتضى في التقريرات المنسوبة إليه بعد نقل كلام المحقّق القمي وصاحب الفصول: ما هذا لفظه، أقول: ان ظاهر هذه الكلمات يعطى انحصار الفرق بين المسالّتين في اختصاص إحداهما بمورد دون أختها وليس كذلك، بل التحقيق ان المسؤول عنه في إحداهما غير مرتبط بالأخرى، وتوضيحه ان المسؤول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهية المطلوب فعلها والماهية المطلوب تركها، من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي فإنه كما يصح السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلقين عموم

ص: 152

من وجه، فكذا يصح فيما إذا كان عموم مطلق سواء كان من قبيل قولك: صل، ولا تصل في الدار المغصوبة، أو لم يكن كذلك، والمسؤول عنه في المسألة الآتية هو ان النهي المتعلق بشيء هل يستفاد منه ان ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال؟ حيث ان المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأي فرد كان فالمطلوب فيها هو استعلام ان النهي المتعلق بفرد من افراد المأمور به هل يقتضى دفع ذلك الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر أو لا؟ ولا ريب ان هذه القضية كما يصح الاستفسار عنها فيما إذا كانا بين المتعلقين إطلاق وتقييد فكذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه كما إذا كان بينهما عموم مطلق وبالجملة فالظاهر ان اختلاف المورد لا يصير وجهاً لاختلاف المسالّتين كما زعموا بل لا بد من اختلاف جهة الكلام «انتهى موضع الحاجة من كلامه، قدّس سِرُّه» (1).

أقول" والحق ان العنوانين لو كانا بحيث أخذ أحدهما في الاخر وكان بينهما عموم مطلق أيضاً لا يطرق فيهما هذا النزاع؛ وتوضيحه: انه لا إشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع الاخر في الذهن، سواء كان بينها عموم مطلق أو من وجه أو غيرهما، وسواء كان أحدهما مأخوذا في الاخر أم لا، الا انه لا يمكن ان يقال فيهما إذا كان المفهومين عموم مطلق وكان أحدهما مشتملاً على الاخر: ان المطلق يقتضى الأمر والمقيد يقتضى النهي لأن معنى اقتضاء الإطلاق شيئاً ليس الا اقتضاء نفس الطبيعة إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الإطلاق والمقيد ليس الا نفس تلك الطبيعة منضمة إلى بعض الاعتبارات ولو اقتضى المقيد شيئاً منافياً للمطلق لزم ان يقتضى نفس الطبيعة أمرين متنافيين.

وبعبارة أخرى: بعد العلم بان صفة الإطلاق لا تقتضي تعلق الحب بالطبيعة فالمقتضى له نفسها وهي متحدة في عالم الذهن مع المقيد، لأنها مقسم له وللمطلق، فلو اقتضى المقيد الكراهة لزم ان يكون المحبوب والمبغوض

ص: 153


1- مطارح الأنظار، الهداية الثانية من بحث اجتماع الامر والنهى، ص 128

شيئاً واحداً حتّى في الذهن، وهذا غير معقول بخلاف مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلاً، لعدم الاتحاد في الذهن أصلاً.

أدلة المجوّزين للاجتماع

الأمر الخامس: قد يتراءى تهافت بين الكلمات حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه واختار جمع منهم الجواز وانه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع، وفي باب تعارض الأدلة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من وجه وجعلوا علاج التعارض الأخذ بالأظهر إن كان في البين والا التوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية، على الخلاف، وكيف كان ما تمسك أحد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الأمر والنهي.

والجواب: ان النزاع في مسألتنا هذه مبنى على إحراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين وان المناطين هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد كما يقوله المانع أولاً؟ كما يقوله المجوز، ولا إشكال في ان الحاكم في هذا المقام ليس الا العقل وباب تعارض الدليلين مبنى على وحدة المناط والملاك في الواقع ولكن لا يعلم ان الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الأمر أو النهي مثلاً فلا بد ان يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهرية ان كان أحد الدليلين أظهر والا التوقف أو الرجوع إلى المرجحات السندية، حسبما قرر في محله نعم يبقى سؤال ان طريق استكشاف ما هو من قبيل الأوّل وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.

إذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوزين والمانعين:

فنقول وعلى اللّه التوكل: أحسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوزين هو ان المقتضى موجود والمانع مفقود، اما الأوّل فلما عرفت من ان فرض الكلام ليس الا فيما يكون المقتضى موجوداً، واما الثاني فلان المانع ليس الا ما تخيله الخصم من لزوم اجتماع المتضادين من الحكمين، والحب والبغض، والمصلحة والمفسدة في شيء واحد وليس كما زعمه.

وتوضيحه يحتاج إلى مقدمة وهي ان الاعراض على ثلاثة أقسام :

ص: 154

منها: ما يكون عروضه واتصاف المحل به في الخارج كالحرارة العارضة للنار والبرودة العارضة للماء وأمثالهما من الاعراض القائمة بالمحال في الخارج.

ومنها: ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الخارج (1) كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وأمثالها.

ومنها: ما يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به فيه أيضاً، كالكلية العارضة للإنسان، حيث ان الإنسان لا يصير متصفاً بالكلية في الخارج قطعاً فالعروض في الذهن لأن الكلية انما تنتزع من الماهية المتصورة في الذهن، واتصاف الماهية بها أيضاً فيه لأنها لا تقبل الكلية في الخارج.

فنقول حينئذٍ: لا إشكال في ان عروض الطلب سواء كان أمراً أم نهياً لمتعلقه ليس من قبيل الأوّل، وإلا لزم ان لا يتعلق الا بعد وجود متعلقه، كما ان الحرارة والبرودة لا تتحققان الا بعد تحقق النار والماء، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه، وهو غير معقول، ولا من قبيل الثاني لأن متعلق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط للطلب ومعدم له، ولا يعقل ان يتصف في الخارج بما هو يعدم بسببه فانحصر الأمر في الثالث فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلقاتهما كعروض الكلية للماهيات.

إذا عرفت ذلك فنقول: ان طبيعة الصلاة والغصب وان كانتا موجودتين

ص: 155


1- هذا القسم على حسب تسليم ما قرره أهل المعقول والا فما ذكره لا يخلو من إشكال من جهة ان الأبوة والبنوة والفوقية والتحية وأمثال ذلك أمور خارجية لها نفس أمرية وراء عالم الخيال ولها الصدق والكذب باعتبار المطابقة للواقع وعدمها و ح فان أراد أهل المعقول بعدم وجود هذه الأمور في الخارج عدم وجودها بحد مستقل كالجواهر فهو من البديهيات ولكن لا يلزم ان يكون كلما له نفس أمرية في الخارج من هذا القبيل وان أرادوا سلب الوجود عنها في الخارج رأسا وحصره في الذهن وعالم الخيال فيمكن دعوى القطع بخلافه للفرق الواضح بين هذه الأمور وبين ما يتخيله الإنسان ممّا لا واقع له وان كان له منشأ خارجي (منه).

بوجود واحد وهي الحركة الشخصية المتحققة في الدار المغصوبة الا انه ليس متعلق الأمر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل بل هي بوجوداتها الذهنية، ولا شك ان طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك فلا يلزم من وجود الأمر والنهي ح اجتماعهما في محل واحد.

فان قلت: لا معنى لتعلق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن لأنها ان قيدت بما هي في ذهن، الأمر فلا يتمكن المكلف من الامتثال وان قيدت بما هي في ذهن المأمور لزم حصول الامتثال بتصورها في الذهن ولا يجب إيجادها في الخارج وهو معلوم البطلان.

قلت: نظير هذا الإشكال يجري في عروض الكلية للماهيات، لأنه بعد ما فرضنا ان الماهية الخارجية لا تقبل ان تتصف بالكلية، وكذا الماهية من حيث هي، لأنها ليست الا هي فينحصر معروض الكلية في الماهية الموجودة في الذهن فيتوجه الإشكال بأنه كيف يمكن ان تتصف بالكلية مع انها من الجزئيات ولا تنطبق على الافراد الخارجية، ضرورة اعتبار الاتحاد في الحمل ولا اتحاد بين الماهية المقيدة بالوجود الذهني وبين الافراد الخارجية.

وحل هذا الإشكال في كلا المقامين انه بعد ما فرضنا ان الماهية من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار الوجود ليست الا هي، ولا تتصف بالكلية والجزئية ولا بشيء من الأشياء، فلا بد من القول بان اتصافها بوصف من الأوصاف يتوقف على الوجود، وذلك الوجود قد يكون وجوداً خارجياً كما في اتصاف الماء والنار بالبرودة والحرارة وقد يكون وجوداً ذهنيا لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج، مثلاً، ماهية الإنسان تلاحظ في الذهن ويعتبر لها وجود مجرد عن الخصوصيات حاك عن الخارج فيحكم عليها بالكلية، فمورد الكلية في نفس الأمر ليس الا الماهية الموجودة في الذهن لكن لا بملاحظة كونها كذلك بل باعتبار حكايتها عن

ص: 156

الخارج.

فنقول: موضوع الكلية وموضوع التكاليف المتعلقة بالطبائع شيء واحد، بمعنى ان الطبيعة بالاعتبار الذي صار مورد العروض وصف الكلية تكون موضوعة للتكاليف من دون تفاوت أصلاً.

فان قلت: سلمنا ذلك كلّه، لكن مقتضى كون الوجود حاكياً عن الخارج بلحاظ المعتبر ان يحكم باتحاده مع الوجودات الخارجية، فاللازم من تعلق إرادته بهذا الوجود السعي تعلقها أيضاً بالوجودات الخارجية لمكان الاتحاد الذي يحكم به اللاحظ.

قلت: الحكم باتحاد الوجود السعي مع الوجودات الخاصّة في الخارج لا بد له من ملاحظة مغايرة بين الموضوع والمحمول حتّى يجعل أحدهما موضوعاً والاخر محمولاً، ولا ينافي ذلك الحكم بالاتحاد لأنه بنظر اخر وبعبارة أخرى لللاحظ ملاحظتان: إحداهما تفصيلية والأخرى إجمالية، فهو بالملاحظة الأولى يرى المغايرة بين الموضوع والمحمول ولذا يجعل أحدهما موضوعاً والاخر محمولاً وبالملاحظة الثانية يرى الاتحاد فحينئذٍ لو عرض المحمول شيء في لحاظه التفصيلي فلا وجه لسريانه إلى الموضوع لمكان المغايرة في هذا اللحاظ.

وبهذا اندفع الإشكال عن المقام ونظائره ممّا لم تسر الأوصاف القائمة بالطبيعة إلى افرادها، من قبيل الكلية العارضة للإنسان، وكذا وصف التعدد العارض لوجود الإنسان بما هو وجود الإنسان، مع ان الفرد ليس بكلى ولا متعدد، وكذا الملكية العارضة للصاع الكلي الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة حيث حكموا بان من اشترى صاعاً من الصبرة الموجودة يصير مالكا للصاع الكلي بين الصيعان، والخصوصيات ليست ملكا له وفرعوا على هذا لو تلف منها شيء فالتالف من مال البائع ما بقي مقدار ما اشترى المشتري، فافهم واغتنم.

فان قلت: كيف يمكن ان يكون هذا الوجود المجرد عن الخصوصيات محبوباً أو مبغوضاً وليس له في الخارج عين ولا أثر لأن ما في الخارج ليس الا

ص: 157

الوجودات الخاصّة، ولا شبهة في ان المحبوب والمبغوض لا يمكن ان يكون الا من الأمور الخارجية، لأن تعلق الحب والبغض بشيء ليس الا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع الأمر له أو منافرته عنه وليس في الخارج الا الوجودات الخاصّة المباين بعضها مع بعض.

قلت: ان أردت من عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه مع وصف كونه جامعاً ومتحداً مع كثيرين فهو حقّ لا شبهة فيه لأن الشيء مع وصف كونه جامعا لا يتحقق الا في الذهن، وان أردت عدمه في الخارج أصلاً فهو ممنوع بداهة ان العقل بعد ملاحظة الوجودات الشخصية الّتي تحويها طبيعة واحدة يجد حقيقة واحدة في تمام تلك الوجودات وأقوى ما يدل على ذلك الوجدان فانا نرى من أنفسنا تعلق الحب بشرب الماء مثلاً من دون مدخلية الخصوصيات الخارجية في ذلك ولو لم تكن تلك الحقيقة في الخارج لما أمكن تعلق الحب بها والذي يدل على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من افراد الطبيعة الواحدة، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثر الواحد لزم تأثر الواحد من المتعدد وهذا محال عقلاً.

فان قلت: ما ذكرت انما يتم في الماهيات المتأصلة الّتي لها حظ من الوجود في الخارج، كالإنسان ونحوه، واما ما كان من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجية كالصلاة والغصب فلا يصح فيه ذلك، لأن هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج حتّى يجرد من الخصوصيات ويجعل مورداً للتكاليف، بل اللازم في أمثالها هو القول بان مورد التكاليف الوجود الخارجي الذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم، ولا ريب في وحدة الوجود الخارجي الذي يكون منشأ للانتزاع، وبعبارة أخرى تعدد العناوين مفهوماً لا يجدى لعدم الحقيقة لها الا في العقل وما يكون مورداً للرجز والبعث ليس الا الوجود الخارجي الذي ينتزع منه هذه العناوين، ولا شبهة في وحدته.

قلت: بعد ما حققنا تحقق صرف الوجود في الخارج لا مجال لهذه الشبهة،

ص: 158

لأن العناوين المنتزعة لا تنتزع الا من صرف الوجود من دون ملاحظة الخصوصيات، مثلاً مفهوم ضارب ينتزع من ملاحظة حقيقة وجود الإنسان واتصافه بحقيقة وجود المبدأ من دون دخل لخصوصيات افراد الإنسان أو كيفيات الضرب في ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول: مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرف في ملك الغير من دون مدخلية لخصوصيات المتصرف من كونه من الأفعال الصلاتية أو غيرها في ذلك، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والأقوال الخاصّة مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط من دون مدخلية خصوصية وقوعها في محل خاص، وقد عرفت ممّا قررنا سابقاً قابلية ورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعددتين بملاحظة الوجود الذهني المتحدتين بملاحظة الوجود الخارجي، وهنا نقول ان المفاهيم الانتزاعية وان كان حقيقة البعث أو الزجر المتعلق بها ظاهراً راجعاً إلى ما يكون منشأ لانتزاعها لكن لما كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعددا لا بأس بورود الأمر والنهي وتعلقهما بما هو منشأ لانتزاعهما هذا غاية الكلام (1) في المقام وعليك بالتأمل التام فإنه من مزال الإقدام.

وينبغي التنبيه على أمور :

ص: 159


1- ان قلت: ما ذكرت في تقريب الجواز في اجتماع إرادة الأمر وكراهته آت بعينه في جانب الفاعل فما سر ما نشاهده من ان الفاعل مع ذلك لا يتمشى منه الحركة سمت ما كان متحداً مع المبغوض من افراد محبوبه بل ينصرف إرادته قهرا نحو سائر لافراد فقضية المقايسة بين إرادتي الأمر والفاعل ان نقول هنا أيضاً بانصراف إرادة الأمر نحو سائر الافراد قلت سر ذلك ان دواعي الإرادة ومرجحات الخصوصية الفردية كليهما حاضرة في نفس المريد في طرف الفاعل ومتفرقة في جانب الأمر بدواعي الإرادة في نفس المريد ومرجحات الفرد في نفس المأمور وهو بسوء اختياره مختار الفرد المبغوض من الطبيعة الّتي أرادها مولاه (منه)

حكم من توسط أرضاً مغصوبة

الاول : انه لا اشكال في ان من توسط ارضا مغصوبة لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج باسرع وجه يتمكن منه، لانه في غيره يتحقق منه هذا المقدار مع الزائد وفيه يتحقق منه هذا المقدار ليس الا وهذا لا شبهة فيه إنما الاشكال في ان الخروج من تلك الدار ما حكمه؟

و المنقول فيه اقوال :

احدها انه مامور به و منهى عنه وهذا القول محكى عن ابي هاشم واختاره الفاضل القمي (قدّس سرُّه) ونسبه الى اكثر افاضل المتاخرين وظاهر الفقهاء.

و صحته تبتنى على امرين احدهما كفاية تعدد الجهة في تحقق الامر والنهي كونهما متحدتين في الوجود الخارجي، والثاني جواز التكليف فعلا بامر غير مقدور اذا كان منشأ عدم القدرة سوء اختيار المكلف.

و الامر الاول قد فرغنا منه واخترنا صحته، ولكن الثاني في غاية المنع، بداهة قبح التكليف بما لا يقدر عليه لكونه لغواً وعبثاً.

و اما ما يقال من ان الامتناع او الايجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار فهو في قبال استدلال الاشاعرة للقول بان الافعال غير اختيارية، بان الشيء ما لم يجب لم يوجد فكل ما تحققت علته يجب وجوده وكل ما لم يتحقق علته يستحيل وجوده، وحاصل الجواب ان ما صار واجباً بسبب اختيار المكلف وكذا ما صار ممتنعاً به لا يخرج عن كونه اختيارياً له، فيصح عليه العقاب، لا ان المراد أنه بعد ارتفاع القدرة يصح تكليفه بغير المقدور فعلاً.

القول الثاني: أنه مامور به مع جريان حكم المعصية عليه، كما اختاره صاحب الفصول (قدّس سرُّه).

القول الثالث: انه مأمور به بدون ذلك.

ص: 160

مختار المصنف (رَحمهُ اللّه) في المسألة

و الحق ان يقال: ان بنينا على كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزايد فالاقوى هو القول الثاني، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ام لم نقل به، وان لم نقل بمقدمية الخروج بل قلنا بصرف الملازمة بين ترك الغصب الزائد والخروج كما هو الحق _ وقد مر برهانه في مبحث الضد فالاقوى انه ليس ما موراً به ولا منهياً عنه فعلاً، ولكن يجرى عليه حكم المعصية.

لنا على الاول : انه قبل الدخول ليس للخروج عنوان المقدمية، ضرورة امكان ترك الغصب بانحائه ولا يتوقف ترك شيء منه على الخروج، فيتعلق النهي بجميع مراتب الغصب من الدخول في الارض المغصوبة والبقاء والخروج، لكونه قادراً على جميعها، ولكنه بعد الدخول فيها يضطر الى ارتكاب الغصب مقدار الخروج فيسقط النهي : عنه بهذا المقدار، لكونه غير قادر فعلا على تركه والتكليف الفعلى قبيح بالنسبة اليه وهذا واضح، ولكنه يعاقب عليه لكونه هذا الغصب بسوء اختياره ولما توقف عليه بعد الدخول ترك الغصب الزائد كما هو المفروض، وهذا الترك واجب بالفرض لكونه قادراً عليه، فيتعلق به الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب مقدمته، فالخروج عن الدار المغصوبة منهى عنه قبل الدخول، ولذا يعاقب عليه، ومأمور به بعد الدخول، لكونه بعده مقدمة للواجب المنجز الفعلي.

فان قلت: ماذكرت انما يناسب القول بكفاية تعدد الجهة في الامر والنهي، واما على القول: بعدمها فلا يصح، لان هذا الموجود الشخصي اعنى الحركة الخروجية مبغوض فعلا وان سقط عنها النهى لمكان الاضطرار، وكما ان الامر والنهي لا يجتمعان في محل واحد كذلك الحب والبغض الفعليان، ضرورة كونهما متضادين كالامر والنهي.

قلت: اجتماع البغض الذاتي مع الحب الفعلي مما لا ينكر، الا ترى انه لو عرقت بنتك او زوجتك ولم تقدر على انقاذهما ترضى بان ينقذهما الاجنبي و تريد هذا الفعل منه مع کمال كراهتك اياه لذاته.

ص: 161

فان قلت: الكراهة في المثال الذي ذكرته ليست فعلية، بخلاف المقام فان المفروض فعليتها، فلا يجتمع مع الارادة.

قلت: ليت شعرى ما المراد بعدم فعلية الكراهة في المثال وفعليتها في المقام؟ ان كان المراد انه لا يشق عليه هذا الفعل الصادر من الاجنبي، بل حاله حال الصورة التي يصدر هذا الفعل من نفسه، بخلاف المقام فان الفعل يقع مبغوضاً للآمر، فالوجدان شاهد على خلافه، ولا اظن احدا تخيله وان اراد به أن الفعل وان كان يقع في المثال مبغوضاً ومكروهاً للشخص المفروض الا ان هذا البغض لا اثر له، بمعنى انه لا يحدث في نفس الشخص المفروض ارادة ترك الفعل المذكور لان تركه ينجر الى هلاك النفس، ومن هذه الجهة هذا البغض المفروض لا ينافي ارادة الفعل، فهو صحيح، ولكنه يجرى بعينه في المقام، فان الحركة الخروجية وان كانت مبغوضة حين الوقوع لكن هذا البغض لما لم يكن منشأ للاثر وموجباً لزجر الأمر عنها فلا ينا في ارادة فعلها، لكونه فعلا مقدمة للواجب الفعلى.

و محصل ما ذكرنا في المقام أن القائل بامتناع اجتماع الامر والنهي انما يقول بامتناع اجتماعهما واجتماع ملاكيهما اذا كان كل واحد من الملاكين منشأ للاثر وموجباً لاحداث الارادة في النفس واما اذا سقط جهة النهي عن الاثر كما هو المفروض فلا يعقل ان يتخيل ان الجهة الساقطة عن الاثر تزاحم الجهة الموجودة المؤثرة في الأمر، مثلاً لو فرضنا ان المولى نهى عبده عن مطلق الكون في المكان الفلاني فاوقع نفسه في ذلك المكان بسوء اختياره ثم لم يمكنه الخروج من ذلك المكان ابداً فلا شك ان الاكوان الصادرة من العبد كلها تقع مبغوضة للمولى، ويستحق عليها العقاب وان سقط عنها النهى لعدم تمكن العبد من الترك فعلا ثم انه لو فرضنا ان خياطة الثوب مطلوبة للمولى من حيث هي فهل تجد من نفسك ان تقول : لا يمكن للمولى ان يأمره بخياطة الثوب في ذلك المكان لان انحاء التصرفات والاكوان المتحققة في ذلك المكان مبغوضة

ص: 162

للمولى، ومنها الخياطة، فلا يمكن ان يتعلق ارادته بما يبغضه، وهل ترضى ان تقول : ان المولى بعد عدم وصوله الى الغرض الذي كان له في ترك الكون في ذلك المكان يرفع يده من الغرض الآخر من دون مزاحم اصلاً؟ وهل يرضى احدان يقول : انه في المثال المذكور يكون انحاء التصرفات في نظر المولى على حد سواء؟ وبالجملة اظن ان هذا من الوضوح بمكان بحيث لا ينبغي ان يشتبه على احد، وان صدر خلافه عن بعض اساتيد العصر «دام بقائه فلا تغفل.

و الحاصل أن جهة النهى انما تزاحم جهة الامر اذا امكن للمكلف بعث المكلف الى ترك الفعل، واما اذا لم يمكنه ذلك لكون الفعل صادراً قهراً من غير اختيار المكلف فلو وجدت فيه جهة الامر ولم يأمر به لزم رفع اليد عن مطلوبه وغرضه من دون جهة ومزاحم.

هذا اذا اخترنا أول شقى الترديد، وهو كون الخروج مقدمة لترك الغصب الزائد.

و أما على ثانيهما: فعدم كون الخروج مورداً للحكم الشرعي واضح، لعدم كونه مقدمة للواجب حتى يصير واجباً، كما هو المفروض، وعدم قدرة المكلف على ترك الغصب بمقدار الخروج حتى يصير حراماً، ولكن لو طبق تلك الحركة الخروجية على عبادة كان يصلى في تلك الحالة نافلة بحيث لا يستلزم غصباً زائداً على المقدار المضطر اليه او يصلى المكتوبة كذلك في ضيق الوقت كانت تلك العبادة صحيحة، لما ذكرنا من الوجه، وهو عدم قابلية الجهة الغير المؤثرة.

في نفس المريد للمزاحمة مع الجهة المؤثرة. فان قلت: هب صحة الامر التوصلى في امثال المقام، ولكن نمنع صحة الامر التعبدي، والسر في ذلك ان الغرض في الاوامر التوصلية وقوع الفعل في الخارج كيف ما كان لترتب الغرض عليه وان اتحد مع مبغوض آخر، واما الغرض في التعبديات فليس ذلك، بل الغرض وقوع العبادة على وجه يحصل به القرب ولا يحصل القرب بما هو مبغوض فعلا لانه موجب لاستحقاق العقوبة

ص: 163

والبعد عن ساحة المولى.

قلت: بعد وجود جهة القرب في الفعل كما هو المفروض و عدم مزاحمة شيء للامر كما عرفت لا وقع لهذا الاشكال لانه لا نعنى بالقرب المعتبر في العبادات الا صيرورة العبد بتلك العباده ذا مرتبة لم تكن له على تقدير عدمها، ولا اشكال في ان العبد بعد اضطراره الى مخالفة المولى بمقدار ساعة مثلا لو عمد الى اتيان مقصود آخر له يكون اقرب الى المولى بحكم العقل منه لو لم يفعل ذلك، وهذا واضح جداً وعلى هذا نقول : لا منافاة بين كون هذا الفعل موجباً للبعد والعقوبة من جهة اختياره السابق وموجباً للقرب اذا طبقه على عبادة من العبادات، بمعنى انه في الحال التي يقع منه هذا المقدار من الغصب قطعاً لو طبقه على عبادة من العبادات التي فيها جهة حسن لكان احسن من ان يوجده مبغوصاً صرفاً وهذا المقدار من القرب يكفى في العبادة.

و بعبارة اخرى: لو فرضنا عبدين اوقعا نفسهما في المكان الغصبي بسوء اختيارهما فاضطرا الى ارتكاب الغصب بمقدار زمن الخروج، فاوجد احدهما في حال الخروج عملا راجحاً في حد ذاته طلباً لمرضاة اللّه دون الآخر، فالعبدان مشتركان في استحقاق العقاب على الدخول في المكان الغصبي والخروج ويختص الأول بما ليس للثاني، ولا نعنى بالقرب الا هذا المعنى المعنى (1)

ص: 164


1- فان قلت ما ذكرته من التقريب في حال الاضطرار جار بعينه في حال الاختيار أيضاً بمعنى انا لو فرضنا عبدين مختارين في الغصب ولكن يختار أحدهما طلبا لمرضاة اللّه تعالى فعل الصلاة دون الاخر فهما مشتركان في معصية الغصب ويختص أحدهما بما ليس للآخر غاية الفرق بين الحالين انه في حال الاضطرار النهي ساقط فلا مانع من الأمر وفي حال الاختيار اما نقول بوجود الأمر مترتبا على عصيان النهي ان صححنا الترتب في مبحث الضد واما نقول بكفاية الجهة ان لم نصححه هناك قلت بعد ما فرضنا تعلق النهي بالفرد بتمام مشخصاته كما هو مبنى القائل بالامتناع فلا يبقى للأمر مجال وهل هو الا اجتماع الضدين في محل واحد واما وجود الجهة المحسنة فلا ينفع شيئاً بعد فرض قيامها بالاختيار السوء المؤثر في بعد البعد عن ساحة المولى ولا يمكن ان يصير العبد باختيار واحد مبعدا ومقربا والحاصل ان الفرق بين الحالين عدم سقوط ملاك النهي عن التأثير فيه في إحداهما وسقوطه في الأخرى بواسطة لا بدية وقوع المتعلق ومجرد المبغوضية الساقطة عن الأثر لا تضاد الأمر والا لما اجتمعت مع الأمر في المثال المذكور في المتن أيضاً ان قلت غائلة التضاد بين الأمر والنهي لا ترتفع بمجرد كون النهي قبل الدخول والأمر بعده لوحدة الموضوع وبقاء ملاك النهي وانما المجدي لرفع التضاد اختلاف زمان الموضوع ولو مع وحدة زمان الحكمين قلت ان أريد امتناع تعلق الأمر بذات الخروج من حيث هو مع قطع النظر عن جهة أخرى طارئة فهو حقّ لا محيص عنه وان أريد امتناعه ولو بملاحظة الجهة الطارية ففيه منع وأصح لأن المبغوضية الساقطة عن الأثر لا تمنع عن الأمر إذا وجد له جهة طارئة ثمّ انا قد حققنا عدم مقدمية فعل أحد الضدين لترك الاخر وعليه فلا وجه لتوهم المقدمية في المقام ولو فرض الغض عن ذلك وسلمنا المقدمية فلا إشكال في ان الخروج ليس مقدمة لترك الغصب الزائد والا لزم تحصيله ولو بتحصيل مقدمية طارئة عليه بعد الدخول و ح فلا مانع من الأمر المقدمي لكون هذه الجهة أيضاً من الجهات الطارية (منه)

و مما ذكرنا يظهر ان الحكم بصحة العبادة المتحدة مع الحركات الخروجية لا يحتاج الى إحراز ان في تلك العبادة مصلحة راجحة على مفسدة الغصب، وأنها اهم عند الشارع من ترك الغصب لان ملاحظة الاهم وتقديمه على غيره انما يكون فيما اذا كان كل منهما تحت اختيار العبد، فيجب عليه اختيار الاهم وترك غيره، وأما اذا لم يكن المكلف مختاراً على ترك الغصب اصلا فلا يكون مجرد المفسدة الخالية عن الاثر مانعاً للامر بعنوان آخر متحد مع فعل الغصب، وان كان ترك الغصب اهم من فعل ذلك بمراتب، فلا تغفل.

في استدلال المجوّزين للاجتماع بالعبادات المكروهة، و الجواب عنها

الامر الثاني: و مما استدل به المجوزون انه لو لم يجز لما وقع نظيره، وقد وقع،

ص: 165

كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في الحمام ومواضع التهمة وامثال ما ذكر مما لا يحصى.

بيان الملازمة انه ليس المانع الا التضاد بين الوجوب و الحرمة وعدم كفاية تعدد الجهة مع وحدة الوجود في الخارج، وهو موجود بعينه في اجتماع الوجوب مع الكراهة واجتماع الوجوب مع الاستحباب، اذ الاحكام متضادة باسرها، والتالى باطل، لوقوع الاجتماع في موارد كثيرة، فيكشف عن بطلان المقدم وهو عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة.

و اجيب عنه باجوبة كثيرة لا نطيل بذكرها.

و التحقيق في الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة انها على ثلاثة اصناف :

احدها ما تعلق النهي بعنوان آخر یکون بینه و بين العبادة عموم من وجه كالصلاة في موارد التهمة بناء على ان يكون كراهتها من جهة النهي عن الكون فيها المجامع مع الصلاة.

و الثاني ما تعلق النهى بتلك العبادة مع تق_ي_دها بخص_وص_ي_ة وهو على قسمين :

احدهما ما يكون للفرد المكروه بدل كالصلاة في الحمام.

و الثاني ما ليس كذلك كالصوم يوم العاشوراء والنوافل المبتدأة في بعض الاوقات.

اما القسم الاول: فحصل الكلام فيه انه بعد دلالة الدليل على وجوب الصلاة من حيث هي اعنى مع قطع النظر عن اجتماعها في الوجود مع الحرام التعييني او مع المكروه كذلك فكما ان اللازم بحكم العقل عدم فعلية الامر بالصلاة في صورة الاجتماع مع الحرام التعييني بناء على عدم جواز اجتماع الامر والنهي كذلك اللازم على هذا القول عدم فعلية وصف الكراهة في صورة الاجتماع مع العنوان المكروه، والوجه في ذلك ان الحرمة التعيينية تقتضى عدم

ص: 166

وجود كل شخص من افراد الطبيعة المنهى عنها، ومنها الفرد المجتمع مع عنوان الواجب، والوجوب المتعلق بالطبيعة التي قد يتفق اجتماعها مع الحرام لا يقتصى خصوص ذلك الفرد المجتمع مع الحرام، بل اي فرد وجد وطبقت عليه تلك الطبيعة يحصل الغرض الداعى الى الامر بها، فعلى هذا مقتضى الجمع بين الغرضين ان يقيد الآمر مورد الأمر بغير الفرد الذي اجتمع مع الحرام، ومن هنا ظهر ان تقييد عنوان المامور به واخراج الفرد المنهى عنه عن موضوع الوجوب لا يبتنى على احراز ان مصلحة ترك الحرام اعظم واهم عند الشارع من مصلحة.

ايجاد المامور به، لان هذا الكلام انما يصح فيما اذا كان بينهما تزاحم بحيث لا يمكن الجمع بينهما، واما بعد فرض امكان الجمع بينهما كما فيما نحن فيه فالواجب بحكم العقل تقييد مورد الوجوب ولو كان من حيث المصلحة اهم واعظم من

ترك الحرام. و الحاصل انه اذا اجتمع عنوانان احدهما فيه جهة الوجوب والآخر فيه جهة الحرمة، والاولى تقتضى فرداً ما والثانية ترك كل فرد تعييناً، وقلنا بعدم كفاية تعدد الجهة في تعلق الأمر والنهى فاللازم بحكم العقل تقييد مورد الوجوب، وهذا لا شبهة فيه بعد ادنى تامل واما اذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه فالامر بالعكس، لان جهة الكراهة وان كانت تقتضي عدم تحقق كل فرد تعييناً بخلاف جهة الوجوب كما في الواجب والحرام، الا ان الكراهة لما لم تكن مانعة للفعل على وجه اللزوم فلا تقاوم جهة الوجوب الملزمة للفعل، فعلى هذا اذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه فاللازم بحكم العقل انتفاء وصف الكراهة فعلاً، ولكن لما كان الفرد الموجود الخارجي مشتملاً على جهة الكراهة يوجد فيه حزازة، فيكون امتثال الواجب في هذا الفرد اقل فضلاً وثواباً من امتثاله في غيره لمكان تلك الحزازة.

فان قلت : فما معنى الكراهة مع ان الفعل المفروض مصداق للواجب و يعتبر في صدق الكراهة رجحان الترك ؟

ص: 167

قلت: الاحكام الشرعية التي تدل عليها الادلة على قسمين: تارة يستظهر من الادلة انها احكام فعلية تعلقت بالموضوعات بملاحظة جميع الخصوصيات والضمائم وأخرى يستظهر منها احكام حيثية تعلقت بموضوعاتها من حيث هي اعنى مع قطع النظر عن الضمائم الخارجية، وما يكون من قبيل الثاني يتوقف فعليته على عدم عروض مانع للعنوان يقتضى خلاف ذلك الحكم الجاري عليه، نظير قوله : (الغنم حلال) فان الحليّة وان كانت مجعولة، الا أن هذا الجعل لا يلازم الفعلية

في جميع افراد الغنم، فان الغنم الموطوئة او المغصوبة حرام مع كون الغنم من حيث الطبع حلالا، وليس اطلاق الحلال على طبيعة الغنم مع كون بعض افرادها حراماً جارياً على خلاف الاصطلاح، بل يصح اطلاق الحلال بالمعنى المذكور على خصوص الفرد الحرام ايضاً، اذ المعنى ان هذا الفرد مع قطع النظر عن كونه مغصوباً مثلاً حلال.

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول : اطلاق المكروه على الوجود الذي يكون فعلاً مصداقاً للواجب لاتحاده معه نظير اطلاق الحلال على الفرد المجامع مع الحرام من الغنم، بعمنى ان هذا الوجود مع قطع النظر عن اتحاده مع الواجب يكون ال مكروها هذا.

و اما اول القسمين؛ من الثاني اعنى ما اذا تعلق النهي بالعبادة مع خصوصية زائدة، كالصلاة في الحمام فيحصل الكلام فيه ان النهي المتعلق بتلك العبادة الخاصة لابد وان يرجع الى نفس الخصوصية اعنى كونها في الحمام، وقد مربيانه في مقدمات المبحث فحينئذٍ نقول: هذا النهى اما لبيان الكراهة الذاتية لهذه الخصوصية وان لم يكن وصف الكراهة الفعلية موجوداً نظير ما قدمنا فيكون اللازم كون هذا الفرد اقل ثواباً من ساير الافراد وعلى هذا يكون هذا النهي مولوياً يستفاد منه الكراهة الشرعية واما ان يحمل على الارشاد وترغيب المكلف الى اتيان فرد آخر من الطبيعة يكون خالياً عن المنقصة ويستكشف الكراهة الذاتية منه بطريق الان.

ص: 168

وأما ثاني القسمين؛ وهو ما اذا تعلق النهي بالعبادة ولا بدل لها، كالصوم في يوم عاشوراء وامثاله فيشكل الامر فيه من حيث ان حمل النهي فيه على بيان الكراهة الذاتية مع الالتزام بكونه راجحاً ومستحباً فعليا ينافي التزام الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بتركه وامرهم شيعتهم بالترك ايضاً، وحمله على الارشاد يستلزم الارشاد الى ترك المستحب الفعلى من دون بدل والقول بكونه مكروهاً فعلاً ينا في كونه عبادة.

و الذي يمكن ان يقال في حل الاشكال امران:

احدهما ما افاده سيدنا الاستاذ «نور اللّه مضجعه» وهو ان يقال : برجحان الفعل من جهة انه عبادة ورجحان الترك من حيث انطباق عنوان راجح عليه، ولكون رجحان الترك اشد من رجحان الفعل غلب جانب الكراهة وزال وصف الاستحباب، ولكن الفعل لما كان مشتملاً على الجهة الراجحة لواتى به يكون عبادة، اذ لا يشترط في صيرورة العمل عبادة وجود الامر، بل يكفى تحقق الجهة فيه على ما هو التحقيق، فهذا الفعل مكروه فعلا لكون تركه ارجح من فعله، واذا اتى به يقع عبادة لاشتماله على الجهة.

و يشكل بان العنوان الوجودي لا يمكن ان ينطبق على العدم، لان معنى الانطباق هو الاتحاد في الوجود الخارجي، والعدم ليس له وجود.

والثاني: ان يقال : ان فعل الصوم راجح، وتركه مرجوح، وارجح منه تحقق عنوان آخر لا يمكن ان يجتمع مع الصوم ويلازمعدمه، ولما كان الشارع عالماً بتلازم ذلك العنوان الارجح مع عدم الصوم نهى عن الصوم للوصلة الى ذلك العنوان، فالنهي على هذا ليس الا للارشاد ولا يكون للكراهة، اذ مجرد كون الضد ارجح لا يوجب تعلق النهى بضده الآخر، بناء على عدم كون ترك الضد مقدمة، كما هو التحقيق، ولعل السر في الاكتفاء بالنهي عن الصوم بدلاً عن الامر بذلك العنوان الارجح عدم امکان اظهار استحباب ذلك العنوان، هذا.

و مما ذكرنا يظهر الجواب عن النقض بالواجبات التي تعرض عليها جهة

ص: 169

الاستحباب كالصلاة في المسجد ونحوها هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

تداخل الأسباب و المسببات

ثم انه نسب الى بعض ان اجزاء غسل واحد عن الجنابة والجمعة انما هو بواسطة اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد فيكون من موارد اجتماع حكمين متضادين، ومثله ما عن البعض من عد مطلق تداخل الاسباب كما في منزوحات البئر ونحوها من هذا القبيل، ولا بأس بتحقيق مسألة الاسباب والمسببات في الجملة ليعرف ان الاستدلال بما ذكر مما لا وجه له.

اقول: اذا جعل الشارع طبيعة شيء سبباً فلا يخلو هذا في نفس الأمر من وجوه :

احدها ان يكون السبب صرف الوجود لتلك الطبيعة اعنى حقيقتها التي هي في مقابل العدم الكلي، وكذلك المسبب مثل ان يقول : اذا انتقض عدم النوم بالوجود يوجب انتقاض عدم الوضوء بالوجود.

و ثانيها ان يكون الطبيعة باعتبار مراتب الوجود سبباً لوجود طبيعة اخرى كذلك، مثل قولك «النار سبب للحرارة» والمراد ان النار باعتبار مراتب الوجود سبب للحرارة كذلك، بمعنى ان كل وجود ثبت للنار يؤثر في حرارة خاصة.

وثالثها ان يعتبر في طرف السبب صرف الوجود وفي طرف المسبب مراتبه.

و رابعها العكس.

لا اشكال في ما اذا ثبت احد الوجوه لانه على الاول لا يكون السبب ولا المسبب قابلاً للتكرار بداهة ان ناقض العدم لا ينطبق الا على أول الوجودات ان وجدت مرتبة وعلى المجموع ان وجدت دفعة وعلى هذا لا يكون السبب الا واحداً وكذلك المسبب، كما انه على الثاني يتكرر المسبب بتكرر السبب بلا

ص: 170

اشكال، وعلى الثالث لا تؤثر الافراد الموجودة من طبيعة واحدة آثاراً متعددة، لان المفروض وحدة السبب، نعم لو اختلف السبب نوعاً ووجد من كل من النوعين فرد يجب ان يتعدد المسبب لان المفروض قابلية التعدد في طرف المسبب، وعلى الرابع لا يتكرر المسبب وان تكرر السبب، سواء كان التكرر من جهة فردين من طبيعة واحدة ام من طبيعتين مختلفتين، لعدم قابلية المسبب للتكرار ولا اشكال في شيء مما ذكرنا ظاهراً.

انما الاشكال في الاستظهار من القضايا الملقاة من الشارع وانها ظاهرة في اي شيء حتى يكون هو الاصل المعول عليه حتى يثبت خلافه، والذي يظهر من مجموع الكلمات المتفرقة في مصنفات شيخنا العلامة المرتضى (قدّس سرُّه) ان مقتضى اطلاق ادلة السببية كون كلّ واحد من أفراد الطبيعة سواء وجدت دفعة ام بالتفاوت سبباً مستقلاً، مثلاً لو قال الشارع:(ان نمت فتوضأ) فالنوم اللاحق اذا أثر في وضوء آخر فهو المطلوب، واما اذا لم يؤثر فاللازم تقييد موضوع الشرط بالنوم الخاص وهو النوم الاول او الغير المسبوق بمثله.

فان قلت ظاهر القضية وحدة المسبب و هو حقيقة الوضوء في القضية المفروضة فلم لا يكون هذا صارفاً عن ظهور اطلاق السبب لو سلم مع انه لنا ان نمنع اقتضاء اطلاق السببية كون كل فرد سبباً مستقلاً، الا ترى انه لو جعلت الطبيعة معروضة للامر لا يقتضى اطلاقها كون كل واحد من افرادها واجباً مستقلاً، واي فرق بين كون الشيء معروضاً للامر وبين كونه معروضاً للسببية ؟

قلت : قد حقق في محله ان الالفاظ الدالة على المفاهيم لا تدل بحسب الوضع الاعلى الطبيعة المهملة المعراة عن اعتبار الاطلاق والتقييد والوجود والعدم، لكنها بهذا النحو لا يمكن ان تكون معروضة لحكم من الاحكام، فاللازم بحكم العقل اعتبار الوجود حتى يصح بهذا الاعتبار كونها موضوعة للحكم، والوجود اللازم اعتباره بحكم العقل اعم من ان يكون وجوداً خاصاً مقيداً بقيد وجودي او

ص: 171

عدمي او كل واحد من الوجودات الخاصة او صرف الوجود في مقابل العدم الكلي، فلو دل دليل على اعتبار الوجود بوجه من الوجوه المذكورة فهو المتبع والا فاللازم هو الاخذ بصرف الوجود لانه ثابت على كل حال وهو المتيقن.

اذا عرفت هذا فنقول : السر في الاخذ بصرف الوجود في موضوع الامر والاكتفاء في مقام الامتثال بفرد واحد هو كونه متيقناً. وعدم دلالة دليل على ازيد منه فلو دل دليل على اعتبار ازيد فلا تعارض بينها، لما عرفت من ان الاخذ به انما هو من باب القدر المتيقن وعدم ما يبين الزايد وحينئذ نقول : لوقال الشارع : اذا نمت فتوضأ فمقتضى الجزاء مع قطع النظر عن الشرط كون موضوع الأمر هو صرف الوجود لما عرفت آنفاً ومقتضى السببية الفعلية المستفادة من القضية الشرطية كون كل فرد من افراد النوم سبباً فعلياً، لان الاسباب العادية والمؤثرات الخارجية تكون بهذه المثابة، بمعنى ان كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة يؤثر كل فرد منها، ومن هذه الجهة يحمل السببية المستفادة من القضية الملقاة من الشارع على ما هو المتعارف من الاسباب وبعبارة أخرى يفهم من القضية الشرطية امران احدهما يكون مدلولاً لاداة الشرط وهو العلية الفعلية لما جعل شرطاً في القضية، والثاني يكون مفهوماً من القضية من جهة ما ارتكز في اذهان اهل العرف من الأمر المتعارف وهو كون كل وجود لهذا الشرط علة فعلية، وعلى هذا فاللازم هو الحكم بتعدد التاثير عند تعدد تلك الأفراد، لانه لو حكمنا به لم نرتكب خلافاً لظاهر القضية، لما عرفت من ان الاخذ بصرف الوجود في موضوع الامر انما كان من جهة عدم البيان وهذا الظهور العرفي للقضية يصير بياناً له، بخلاف ما لو حكمنا بعدم تعدد التأثير، فانه لابد حينئذ من التصرف اما في الظاهر المستفاد من اداة الشرط بحملها على افادة كون تاليها مقتضياً لا علة تامة واما في الظاهر الاخر المستفاد من العرف من غير دليل.

فان قلت : سلمنا ذلك كله ولكن المسبب ليس فعل المكلف حتى يقتضى تعدد افراد السبب الفعلى تعدده، بل المسبب هو الوجوب ولا يقتضى تعدد اسباب

ص: 172

الوجوب تعدده، بل يتاكد بتعدد اسبابه.

قلت: ظاهر القضية ان السبب الشرعي يقتضي نفس الفعل، وامر الشارع انما جاء من قبل هذا الاقتضاء، بمعنى ان الشارع امرنا باعطاء كل ذي حق حقه، فافهم فانه دقيق.

فان قلت يمكن ان يكون السببان مؤثرين في عنوانين مجتمعين في فرد واحد، فلا يقتضي تعدد السبب تعدد الوجود كما لو قال الأمر: «ان جائك عالم فاكرمه»، «وان جائك هاشمي فاكرمه» فجائك عالم هاشمي، فلا شبهة في انه لو اكرمت ذلك العالم الهاشمي امتثلت كلا من الامرين.

قلت: اما او لا فظاهر القضية وحدة عنوان المسبب، ولا شك في انه مع وحدة عنوان المسبب لا يمكن القول بتعدد التاثير الا بالتزام تعدد الوجود، لعدم معقولية تداخل الوجودين من طبيعة واحدة، وثانياً نقول بعد الاغماض عن هذا الظهور لا اقل من الشك في ان المفهومين المتأثرين من السببين هل يجتمعان في مصداق واحد اولا ومقتضى القاعدة الاشتغال لان الاشتغال بالتكليفين ثابت ولا يعلم الفراغ الا من ايجادين.

هذا محصل ما استفدنا من كلمات شيخنا الاجل المرتضى (قدّس سرُّه) مع تنقيح منا.

اقول: و التحقيق عندي ان القضايا الشرطية لا يستفاد منها كون الشرط اعنى ما جعل تلو إن واخواتها علة تامة، بل انما يستفاد منها ان الجزاء يوجد في ظرف وجود الشرط مع ارتباط بين الشرط والجزاء على نحو الترتب، سواء كان الشرط علة تامة للجزاء ام كان احد اجزاء العلة التامة بعد الفراغ من باقيها، وماقيل في بيان دلالة ادوات الشرط على كون تاليها اعنى مدخولها ع_ل_ة تامة للجزاء مخدوش، وسيأتى توضيح ذلك في بحث المفاهيم ان شاء اللّه.

اذا عرفت هذا فنقول : يكفي في صدق القضايا الشرطية المتعددة التي جزائها حقيقة واحدة تحقق تلك الحقيقة مرة واحدة ولو تعدد ما جعل شرطاً في الخارج،

ص: 173

وكذا في صورة تعدد افراد الطبيعة الواحدة التي جعلت شرطاً، نعم لو وجد الجزاء ثم تحقق فرد من افراد ما جعل شرطاً يجب اتيان الجزاء ثانياً، لان مقتضى القضية الشرطية تحقق الجزاء في ظرف وجود الشرط، فالفعل الموجود قبل تحقق الشرط لا يكفى.

و مما ذكرنا يظهر ان الاصل في باب الاسباب كفاية المسبب الواحد في صورة تعدد السبب وعدم تخلل المسبب واما في صورة التخلل فيجب الاتيان بفعل آخر للوجود اللاحق فتدبر جيداً، هذا(1)

ص: 174


1- هذا ما حققناه سابقاً ولكن رجعنا عنه اخيراً واخترنا القول بعدم التداخل، بتقريب ان الاسباب شرعية كانت او غيرها انما تؤثر في حقيقة وجود المسببات، وعنوان الصرفية والوحدة والتعدد عناوين منتزعة بعد تأثيرها، بمعنى ان السبب الواحد يقتضى مسبباً واحداً، لا لأن الوحدة ماخوذة في المسبب بل لوحدة السبب، وكذا الحال في التعدد، وعلى هذا فيزداد المسبب بازياد السبب سواء كان السبب من جنس واحد او من اجناس متعددة، فان اطلاق دليل السببية يقتضى ثبوتها لجميع الافراد. و بالجملة بعد ما استفدنا من تالى «ان» واخواتها السببية المطلقة وقلنا ان طبيعة الجزاء ماخوذة باعتبار حقيقة الوجود بلا اخذ قيد فيه من كونه صرف الوجود او قيد الوحدة ونحو ذلك الذي لازمه الصدق على جميع مراتب الوجود لم يبق محيص عن القول : بعدم التداخل سواء وجد الاسباب دفعة ام على التعاقب فان المقتضى متعدد حسب ظاهر القضية، وقابلية المحل قهرية مع كون الجزاء حقيقة الوجود، والمانع مفروض العدم. فان قلت: هذا صحيح فيما اذا جعل الشارع طبيعة سبباً لطبيعة اخرى، واما اذا جعل شيئاً سبباً للامر بطبيعة فلابد من ملاحظة ان الطبيعة الواقعة تلو الامر ملحوظة بلحاظ صرف الوجود ام بلحاظ حقيقة الوجود، فعلى الاول لا محيص عن التداخل، فان السبب وان كان متكرراً وعلى حسب تكرره يتكرر الأمر لكن الطبيعة المامور بها غير قابلة للتكرار. قلت بعد الاعتراف بكون السبب في سائر الاسباب حقيقة الوجود لا مجال لهذا السئوال، فان الامر ايضاً من احد الاسباب فيجرى فيه الكلام المتقدم بعينه، بمعنى ان الارادة من احد اسباب وجود المراد، فالارادة الواحدة تقتضى وجوداً واحداً، والوحدة غير جائية من تأثيرها، بل منتزعه قهراً بعد تأثيرها، وكذا التعدد، ولازم ذلك ازدياد المراد بازدياد الارادة. و من هنا يظهر انه لا فرق في لزوم القول: بعدم التداخل بين جعل الجزاء في القضايا الشرطية وجود فعل الجزاء او وجوبه وان كان عبارة شيخنا المرتضى «رحمه اللّه تعالى» ظاهرة في الفرق بينهما، ولا يتوهم تهافت ما هنا مع ما مر في مقدمات المبحث من عد الامر من اقسام العرض، فان ما هنا باعتبار الوجود الخارجي للمأمور به وما هناك باعتبار الوجود الذهي له «منه».

و انت بعد الاحاطة بما ذكرنا تعرف ان استدلال المجوز باجتماع المثلين او الضدين في باب الاسباب مما لا وجه له اصلاً، وتوضيحه انه في صورة تعدد الافراد من الطبيعة الواحدة ان قلنا بان السبب ليس الا صرف الوجود وكذا المسبب فلا يكون هناك الا سبب واحد ومسبب واحد، وليس من مورد اجتماع المثلين اصلاً، وكذا ان قلنا بصرف الوجود في طرف المسبب فقط، او السبب كذلك وان قلنا بكون السبب مراتب الوجود وكذلك المسبب فالاسباب متعددة وكذلك المسببات، فلا اجتماع للمثلين ايضاً، وهكذا الامر في صورة تعدد الفردين من طبيعتين، لانه ان جعلنا المسبب صرف الوجود فالواجب واحد بوجوب واحد وان جعلناه مراتب الوجود فالواجب متعدد بتعدد السبب والوجوب ايضاً كذلك فلا اجتماع للمثلين ايضاً.

حول الاستدلال بتداخل الأسباب للجواز

و اما قضية اجتماع الضدين كالوجوب و الاستحباب في غسل الجمعة والجنابة فنقول : ان قلنا بتعدد الحقيقة في الغسلين فلا يكون من مورد اجتماع الضدين، لانه على هذا يكون من قبيل وجوب اكرام العالم واستحباب اكرام الهاشمي،، وان قلنا بوحدتهما حقيقة فان بنينا على عدم كفاية غسل واحد عنهما فلا شبهة ايضاً في عدم اجتماع الضدين وان ب_ن_ين_ا على كفاية غسل واحد فالموجود في الخارج من قبيل الصلاة في المسجد في كونه مصداقاً للواجب فقط مع افضليته من ساير المصاديق من جهة اشتماله على جهة الاستحباب.

هذا تمام الكلام في حجج المجوزين وقد عرفت ان امتنها ما ذكر اولا.

ص: 175

في بيان أدلة المانعين للاجتماع

اعلم ان احسن ما قرر في هذا المقام ما افاده شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في فوائده ونحن نذكر عباراته لئلا يسقط شيء مما اراده.

قال _ بعد اختيار القول المشهور وهو الامتناع ما هذا لفظه - : وتحقيقه على وجه يتضح فساد ما قيل او يمكن ان يقال للقول بالجواز من وجوه الاستدلال يتوقف على بيان امور:

احدها انه لا اشكال في تضاد الاحكام الخمسة باسرها في مقام فعليتها ومرتبة واقعيتها، لا بوجوداتها الانشائية من دون انقداح ال_ب_ع_ث والزجر والترخيص فعلا نحو ما انشأ وجوبه او حرمته او ترخيصه، فلا امتناع في اجتماع الايجاب والتحريم في فعل واحد انشاء من دون بعث نحوه وزجر عنه مع وضوح الامتناع معهما، ومن هنا ظهر انه لا تزاحم بين الجهات المقتضية لها الا في مرتبة فعليتها وواقعيتها، وانه يمكن انشاء حكمين اقتضائيين لفعل واحد وان لم يمكن ان يصير فعليا الا احدهما، ومما ذكرنا ظهر ان تعلق الأمر والنهي الفعليين بشيء واحد محال ولا يتوقف امتناعه على استحالة التكليف بالمحال.

ثانيها انه لا ريب في ان متعلق الاحكام انما هو الافعال بهويتها وحقيقتها لا باسمائها وعناوينها المنتزعة عنها، وانما يكون اخذ اسم او عنوان خاص في متعلق الامر او النهى لاجل تحديد ما يتعلق به احدهما منها وتعيين مقداره، فلا ينثلم وحدة المتعلق بحسب الهوية والحقيقة واقعاً بتعدد الاسم او العنوان، ولا تعدده كذلك بوحدتهما، فالحركة الخاصة الكذائية المحدودة بحدود معينة لا تتعدد اذا سميت باسمين او انتزع عنها عنوانان من وجهين، كما ان الحركتين الخاصتين اللتين يكون كل منهما محدودة بحدود معينة لا تصيران واحداً اذا سميتا باسم واحد وانتزع عنهما مفهوم واحد، وهذا من اوائل البديهيات وبالجملة انما يتعلق الاحكام في الادلة بالاسامي والعنوانات بما هي حاكية عن

ص: 176

المسميات والمعنونات وفانية فيها لا بما هي بنفسها، ومن الواضح انه لا يتكثر المحكى والمرئي الواحد بتكثر الحاكى والمرآة ولا يتحد المتكثر بوحدتها.

ثالثها ان الطبيعتين اللتين يتعلق باحديهما الأمر وبالأخرى النهى اذا تصادقتا في مورد يكشف عن انهما ليستا بحاكيتين عن هويتين وحقيقتين مطلقاً بل في غير مورد التصادق والا يلزم ان يكون له هو يتان وماهيتان، ولا يكون لوجود واحد الا ماهية وحقيقة واحدة ولا عن موجودين متغايرين في الخارج ولو كانا متحدين بحسب الحقيقة والماهية كالضرب الواقع في الخارج تارة ظلماً واخرى تأديباً الا في غير المورد وبالجملة تعدد الوجه واختلاف الجهة المأخوذ في اصل عنوان المسألة لا يجدى شيئاً في مورد الاجتماع، لا تعدده بحسب الحقيقة والماهية ولا بحسب الوجود في الخارج، بل هو واحد ماهية ووجوداً، نعم يجدى تعدد ما يحكيه ويريه وهو لا يجدى وحدة المرئى والمحكى ذاتاً ووجوداً لما مع. عرفت من ان متعلقات الاحكام نفس الافعال الخاصة المسماة باسماء او المعنونات بعناوين متباينات او متصادقات مطلقاً او في الجملة، من غير تفاوت في ذلك بين القول باصالة الوجود والقول باصالة الماهية لوحدة المورد ماهية ووجوداً، واما الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهى عنها فان كان كل واحد منهما عنواناً للفعل الذي تعلق به الامر والنهي فهما مفهومان اعتباريان انتزعا عن الفعل المعنون بهما، ولو قلنا باصالة المهية والا فخصوص ما كان عنواناً منهما لبداهة اعتبارية المفاهيم التي ليست بازائها شيء في الخارج ولا وجود لها الا بوجود ما انتزعت عنه ولا موطن لها الا الذهن واختصاص الاصالة - على القول باصالة الماهية - بالحقايق الخارجية التي يكون بازائها شيء في الخارج ويكون لها موطنان الذهن والخارج غاية الامر تلزمها الجزئية في الخارج ويعرضها الكلية تارة والجزئية اخرى في الذهن. و من هنا ظهر عدم ابتناء المسألة على القول باصالة الوجود والماهية اصلاً، كما تخيله الفصول، وان الاصيل في مورد الاجتماع واحد وجوداً كان او مهية.

ص: 177

فظهر مما بيناه ان مورد الاجتماع لوحدته ذاتاً ووجوداً _ لما حقق في هذا الامر وكونه بنفسه متعلقاً للحكم واقعاً وحقيقة وان اخذ في الدليل اسمه او عنوانه _ لما حقق في سابقه - لا يمكن ان يكون بالفعل واجباً وحراماً يبعث نحوه ويزجر عنه فعلاً للتضاد بين الاحكام في هذا المقام وان لم يكن بينها التضاد بحسب وجوداتها الانشائية كما عرفت في الامر الاول.

ولا يخفى ان تعلق الاحكام بالطبائع لا الافراد لا يرفع غائلة هذا التضاد في مورد الاجتماع فان غاية تقريبه ان يقال: ان الطبايع من حيث هي هي وان كانت ليست الا هي ولا تصلح لان تتعلق بها الاحكام الشرعية كالآثار العادية والعقلية الا انها مقيدة بالوجود بحيث كان الوجود خارجاً والتقييد به داخلاً صالحة لتعلق الاحكام بها، ومن الواضح ان متعلقى الأمر والنهي على هذا ليسا بمتحدين اصلالا في مقام تعلق البعث والزجر بهما ولا في مقام الامتثال لاحدهما وعصيان الآخر باتيان المورد بسوء الاختيار؛ اما في المقام الاول فلبداهة تعددهما ومباينة احدهما عن الآخر بما هو متعلق الأمر أو النهى وان اتحدا فيما هو خارج عنهما بما هما كذلك، واما في المقام الثاني فلسقوط احدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان فاين اجتماعهما في واحد؟ وانتزاع المأمور بهية والمنهى عنهية عنه انما هو لمجرد كونه مما ينطبق عليه ما امر به ونهى عنه من دون ان يتعلق به بنفسه البعث والزجر.

و هذا لا يجدي بعد ما عرفت بما لا مزيد عليه ان تعدد ما يؤخذ في دليلهما من الاسم او العنوان لا يوجب تعدد ما هو المتعلق لهما في مورد الاجتماع لا مهية ولا وجوداً بل الاسمان او العنوانان حاكيان في هذا المورد عن واحد يكون متعلقاً لهما حسب توسعة متعلقها واقعاً بحيث يعمانه، وتوهم الجدوى في ذلك اما لتخيل ان تعدد العنوان حاك عن تعدد المحكي ماهية وذاتاً مطلقاً ولو فيما اتحدا وجوداً كما في مورد التصادق او ان تعدده كاف بان يكون بنفسه متعلقاً للبعث او الزجر لا بما هو حاك وفان، وقد عرفت بما لا مزيد عليه فسادهما،

ص: 178

وان المورد الواحد واحد وجوداً، وماهية وان العنوان بما هو هو ليس الا امراً انتزاعياً لا وجود له الا بوجود منشأ الانتزاع ولا واقعية له الا بواقعيته، وليس ما يوجب البعث والطلب من الآثار المطلوبة والمبغوضة والصفات الحسنة والذميمة الا في المنشأ،دونه، فليس بما هو كذلك محكوماً بالامر او النهي بل بما هو حاك، فيكون المامور به او المنهى عنه هو المحكى، وهذا فيما كان الماخوذ في الدليلين او احدهما من قبيل اسامي الماهيات اوضح من ان يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل، هذا.

مضافاً الى ان هذا التقريب يقتضى الجواز مطلقاً ولو كان العنوانان متساويين، لتعددهما في مقام البعث وسقوطهما بالاطاعة والعصيان باتيان واحد من مصاديقهما، ولا يقول به القائل به ايضاً الا ان يدعى انه انما لا يقول به لاجل انه طلب المحال حينئذٍ لا من اجل ان الطلب محال فتدبر جيداً.

و مما حققنا من كون العناوين بمعنوناتها تكون متعلقة للاحكام كما في الاسماء بلا اشكال ولا كلام ظهر ان غائلة التضاد في مورد الاجتماع في نفس الطلب على حالها، سواء قلنا : بتعلق الاحكام بالطبايع او الافراد، وقد عرفت بما لا مزيد عليه او (1) بالاختلاف فانه على هذا يكون افراد حقيقة واحدة متعلقة للبعثين، اذ يكون الطبيعة المامور بها على سعتها بحسب الوجود بحيث لا يشذ عنها فرد متعلقة للامر وان كانت خصوصيات الافراد ومشخصاتها خارجة عنها بما هي مامور بها ولازمة لها، وكان بعض ما تسعها من الافراد التي تكون بالفعل مبعوثاً اليها حسب قضية البعث اليها على سعتها الذي لازمه عقلا التخيير فيها بما هي منهيّا عنها، فيكون هذا البعض بوجوده الشخصى بما هو وجود تلك الحقيقة والمهية من دون ملاحظة خصوصية مبعوثاً اليه، وبما هو وجودها مع ملاحظة الخصوصية ممنوعاً فعلاً، وملاحظة الخصوصية وعدم ملاحظتها لا توجب تعدده

ص: 179


1- لفظه: «او» ليست في نسخة الفوائد.

بل هو واحد حقيقة وماهية ووجوداً كما لا يخفى على من له ادنى التفات «انتهى

كلامه» (1).

اقول: وانت بعد الاحاطة بتمام ما قدمناه تعرف موارد الاشكال في کلامه فان ما افاده في المقدمة الثانية من كون متعلق الأوامر والنواهي انما هي الافعال بهوياتها وحقايقها غير معقول، للزوم طلب الحاصل ان تعلق الطلب بنفس الحقيقة الخارجية ولا دفع لهذه الغائلة الا الالتزام بكون متعلق التكاليف صوراً ذهنية من حيث حكايتها عن الخارج، واما ما افاده في طي كلماته من عدم تعلق التكاليف بالاسماء فهو من الواضحات، ولا يتوهم احد تعلق التكاليف بصرف الاسماء لانها ليست الا الفاظاً كاشفة عن معانيها، بل القائل يدعى تعلقها بالمفاهيم المتعقلة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج كما حققنا واما ما افاده في المقدمة الثالثة من وحدة مورد تصادق العناوين فان اراد عدم كونها موجودات متميزاً بعضها من بعض في الخارج فهو من البديهيات، وان اراد عدم تحقق لها في نفس الامر بمعنى كونها صوراً ذهنية لا واقعية لها فهو مقطوع البطلان، ويكفى في تعلق التكاليف بتلك العناوين تحققها في نفس الامر.

و بالجملة اظن ان التامل التام فيما ذكرنا من دليل المجوزين يوجب القطع بصحة هذا القول فتدبر جيداً.

حكم العبادة المجمع للعناوين

تذييل: لا اشكال في بطلان العبادة على تقدير القول بعدم جواز الاجتماع(2) اذا علم حرمة الفرد المنطبق عليه عنوان العبادة، وذلك حاصل من

ص: 180


1- الفوائد «المطبوعة ضميمة تعليقة الفرائد» الفائدة الآخرة، ص 7 - 335.
2- ويمكن ان يقال بصحة الصلاة في الدار المغصوبة على تقدير القول بعدم جواز الاجتماع أيضاً بان لم يجعل الأكوان الخاصّة بأنفسها اجزاء للصلاة بل الاجزاء الأوضاع والهيئات الحاصلة منها لأن الصلاة في الدار المغصوبة على هذا لا تكون من موارد الاجتماع (منه)

العلم بفردية هذا الموجود للعنوان المحرم والعلم بكون ذلك العنوان محرما ايضاً، ولو لم يكن له علم بالصغرى او بالكبرى فهل يحكم بصحة العبادة او البطلان على القول المذكور؟

تحقيق المقام ان الفرض المذكور تارة يتحقق بالنسيان لاحديهما، واخرى بالجهل، وهو اما ان يكون بسيطاً او مركباً.

و جملة القول في المجموع انه لا يخلو محل الكلام من انه اما ان ورد فيه ترخيص من جانب الشارع اولا وعلى الثاني اما ان يكون المكلف معذوراً بحكم العقل اولا.

اما القسم الاول فلا ينبغي الاشكال في صحة العبادة ضرورة عدم الفرق بين الترخيص والامر فاذا صح الترخيص في ذلك المحل مع كونه في نفس الامر محرماً كذلك يصح الأمر، لعدم الفرق بين الترخيص والامر في كون كل واحد منهما ض_دا للنهي، وبعبارة اخرى اما ان يجمع بين النهي الواقعي والاباحة الظاهرية بحمل النهى الواقعي على النهي الشأنى الذي لا ينافي جعل حكم فعلى على خلافه، او يقال: بعدم التنافي بينهما لترتب موضوعيهما وعلى اى حال لا تفاوت بين الترخيص والامر (1) وهذا واضح جداً.

ص: 181


1- هذا انما يتم بناء على القول بشأنية الحكم الواقعي عند اجتماعه مع الظاهري فان النهي الواقعي في مقامنا على هذا صار شأنيا بواسطة الترخيص الظاهري وحيث لا مضادة بين الأحكام الا في مرتبة الفعلية فلا مانع من التمسك بإطلاق الأمر بالأشخاص مثلاً لصيرورة النهي شأنيا واما بناء على قول من يذهب إلى فعلية الحكم الواقعي المجامع مع الظاهري وانما يدفع محذور التضاد بالترتب فيشكل التمسك بإطلاق الأمر الأولى الوارد بالصلاة مثلاً عند الشك في الغصب كما هو ظاهر العبارة وجه الإشكال ان النهي عن الغصب وان سقط عن الأثر بواسطة الشك فلا يلزم من توجه الأمر محذور التكليف بالمحال ولكن كيف يرتفع محذور التكليف المحال اللازم من اجتماعهما عند القائل بالامتناع وبعبارة أخرى متى يرى المولى ذات الغصب والصلاة لا يرى في نفسه الا النهي ويرفع اليد عن امره في هذا الموضوع الذي اجتمع فيه ذات الغصب والصلاة هذا ولكن الذي يسهل الخطب ان أوامر الصلاة ليست بأوامر فعلية ناظرة إلى حال طرو الغصب حتّى يلزم الإشكال المذكور بل انما هي أوامر ذاتية تشريعية والأمر التشريعي إذا سقط النهي المزاحم له عن الأثر صار فعليا بحكم العقل (منه)

و اما القسم الثاني فالاقرب فيه صحة العبادة ايضاً لوجهين:

احدهما ان يقال: ان الامر وان امتنع تعلقه بهذا الفرد لكونه منهيا عنه في الواقع، الا انه لا يتوقف صحة العبادة على الامر، بل يكفي فيها وجود الجهة، كما مرفى باب الضد، ولا اشكال في وجود الجهة لان النزاع مبنى على الفراغ منها.

فان قلت: فعلى هذا ينبغى ان يحكم بالصحة في مورد العلم بالحرمة ايضاً لان الجهة موجودة فيه.

قلت: الوجه في عدم الحكم بالصحة فيما اذا علم بالحرمة ان الجهة لا تؤثر في قرب الفاعل لوجود الجهة المبعدة، بخلاف ما نحن فيه، فان الجهة المقبحة لا تؤثر في البعد المعذورية المكلف فلا مانع لافادة الجهة المحسنة تأثيرها.

فان قلت :ان الجهة المقبحة و ان لم تؤثر في الفاعل الا انها منافية للجهة المحسنة في نفس الامر ومزاحمة لها، فلا يبقى للفعل الخارجي حسن في نفس الامر حتى يتقرب به الفاعل باتيانه.

قلت: ليست الجهتان متضادتين من حيث ذاتهما الا ترى وجود الخاصية الموافقة للطبع والمنافرة له في شرب دواء خاص واحد، بل التزاحم في رتبة تأثير كل منهما فيما يقتضيه من ارادة الشرب وعدمه وكذلك في مرحلة مدح العقلاء مرتكب ذلك الفعل المشتمل على جهتين او ذمهم اياه، وكما ان الجهة الملائمة

ص: 182

للطبع لا تزاحم الجهة المنافرة له في الواقع كذلك الجهة الملائمة للقوة العاقلة والمنافرة لها، وعلى هذا لو لم يؤثر الجهة المنافرة للعقل في استحقاق الفاعل للذم فلا مانع من تاثير الجهة الملائمة له في استحقاقه للمدح.

و الوجه الثاني ان العناوين الطارية على التكاليف - مما لا يشملها ادلتها - يمكن ان تجعل مورداً لحكم آخر غير ما تعلق بنفس الواقع، وهذا يجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، ومن العناوين الطارية على التكليف كون المكلف معذوراً من ذلك التكليف المتوجه اليه.

و اما القسم الثالث فالحق فيه بطلان العبادة فان الجهة المقبحة مؤثرة فعلاً في تبعيد العبد عن ساحة المولى فلا يمكن ان يكون الجهة المحسنة موثرة في القرب، وبه يعلم عدم امكان تعلق الامر به ايضاً لان العنوان الطاري لو كان بحيث لا يوجب عذراً للمكلف فحاله حال العلم بالحرمة، فكما انه في مورد العلم بالحرمة لا يمكن بقاء الامر وصحة العبادة كذلك في حال لا يعذر فيها عقلاً فتامل جيداً.

في اقتضاء النهي للفساد و بيان الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة

فضل: هل النهي عن الشيء يقتضى فساده اولا؟

و لنقدم اموراً :

احدها: ان الفرق بين هذه المسألة و المسألة السابقة ان المسئول عنه في السابقة جواز بقاء الامر والنهي فيما كان مورد هما متحداً بحسب المصداق ومتعدداً بالمفهوم وعدمه، وفي هذه المسألة ملازمة النهى المتعلق بالشيء مع * فساده.

قال المحقق القمي (قدّس سرُّه) في بيان الفرق: ان مورد المسألة السابقة هو ما كان بين المامور به والمنهى عنه عموم من وجه ومورد المسألة ما كان بينهما عموم مطلق، ورد عليه في الفصول بان هذا الفرق ليس بسديد، بل الفرق انه

ص: 183

اذا كان العنوانان بحيث لم يؤخذ احدهما في الآخر فهو من المسألة السابقة سواء كان بينهما عموم من وجه ام مطلق الاول مثل صل ولا تغصب، والثاني مثل جئنى بحيوان ولا تجثنى بضاحك، وان كان احد العنوانين مأخوذاً في الآخر فهو من المسألة سواء كان بينهما عموم من وجه ام مطلق ايضاً، الاول مثل صل ولا تصل في الحمام والثاني مثل صل الصبح ولا تصل في الحمام.

اقول: ان كان مرادهما ان المسألتين متحدتان من جهة المسئول عنه وليس الفرق بينهما الا في اختلاف المورد ففيه ان مجرد اختلاف المورد لا يوجب تعددهما وصيرورتهما مسألتين وان كان المراد بيان اختصاص كل من النزاعين بمورد بمعنى ان النزاع في المسألة السابقة له مورد خاص لا يجرى فيه النزاع في هذه المسألة وبالعكس ففيه ان ما محضه كل من الفاضلين للنزاع الثاني يجرى فيه النزاع الاول لان جهة كلام المجوز في المسألة السابقة هي تعدد العنوان كما ان جهة كلام المانع هناك الاتحاد في الوجود، وكلا هما متحققان فيما فرضه الفاضلان مختصاً بهذه المسألة، كما هو واضح نعم في مثل صل ولا تصل في

الحمام لو احرز ان النهي تعلق بالمقيد لا بخصوصية ايجاده في المكان الخاص لا يمكن فيه النزاع السابق، والسر فيه ان المطلق والمقيد وان كانا متغايرين بحسب المفهوم الا ان تغاير الاول للثاني انما هو بملاحظة الاطلاق، اذ لو جرد النظر عن ذلك يكون المقسم المتحد مع المطلق والمقيد في الذهن، ولا اشكال في ان الجهة التي بها يغاير المقيد ويصير في قباله في الذهن وهي جهة الاطلاق لا دخل لها في المطلوبية، لان هذه الجهة عبارة عن عدم مدخلية شيء في المطلوب سوى اصل الطبيعة، ففي الحقيقة جهة المطلوبية قائمة باصل الحقيقة التي تكون مقسماً بين المطلق والمقيد، ومع كون المطلوب ما ذكر يمتنع تعلق النهي بالمقيد لاتحاد مورد الامر والنهي حتى في الذهن فليتدبر.

هل المسألة عقلية أو لفظية ؟

الثاني: ان النزاع في المسألة يمكن ان يكون عقلياً فقط، ويمكن ان يرجع الى اللفظ فقط، ويمكن ان لا يكون ممحضاً في احدهما، اما الاول فبان يكون في

ص: 184

صحة العبادة بعد الفراغ عن كون النهي متعلقاً بالخصوصية ووجود الجهة الموجبة للامر في الطبيعة، فيرجع محصل النزاع الى ان وجود الجهة في الطبيعة يكفي في كونها عبادة ومحصلة للقرب وان كان المأتي به الفرد المشتمل على الخصوصية المبغوضية فعلاً، أو لا؟ اما الثاني فبان يكون النزاع في ان القضايا الدالة على حرمة عبادة خاصة بعد كون اصلها ماموراً بها هل تدل عرفاً على فساد تلك العبادة أو لا؟ واما الثالث فبان يكون المدعى في هذه المسألة صحة العبادة وبطلانها سواء كان طريق الاثبات في ذلك اللفظ ام العقل.

و الظاهر كون النزاع هنا راجعاً الى المسألة العقلية كالسابقة والدليل على ذلك انهم يعنونون النهى في العبادات ويتمسك القائل بالبطلان بعدم امکان صيرورة المبغوض عبادة، وهذا يكشف عن ان مورد الكلام ما اذا فهم ثبوت المقتضى للطبيعة، وانما النزاع في ان اتحادها مع المبغوض هل هو مانع من القرب أو لا، ولو كان النزاع راجعاً الى اللفظ ما احتاج المانع الى هذا الكلام، ولا اختص ما ادعاه بالعبادة، اذ كما يمكن ان يدعى ان النواهى الواردة في العبادة تدل على الفساد كذل يمكن ان يدعى ان النواهى الواردة في المعاملات كذلك.

في عدم الفرق بين النهي النفسى وغيره في المسألة

الثالث: لا فرق بين النهي النفسي و الغيري (1)والاصلى والتبعى لوجود الملاك في الجميع، نعم يختص النزاع بالنواهى التحريمية لعدم قابلية النهي التنزيهي الوارد على الخصوصية لاسقاط الامر بالطبيعة (2) والوجه في ذلك ان

ص: 185


1- لا وجه لجريان النزاع في النهي الغيري بعد ما هو المسلم فيما بينهم من ان الطلب الغيري لا يوجب موافقته قربا ولا مخالفته بعدا نعم الدخول فبما يعتقد مقدميته لمبغوض المولى وان لم يكن مقدمة واقعاً أو لم نقل بالطلب الشرعي للمقدمة موجب للقبح الفاعلي وهو كاف في بطلان العبادة (منه)
2- فيه ان النهي التنزيهي في هذا الباب حاله حال النهي التحريمي بعينه ولو قلنا بالفرق بينهما في الباب المتقدم توضيحه ان الأمر هناك كان متعلّقاً بالطبيعة المغايرة مع الطبيعة المتعلقة للنهي فلا محاله عند تصادق الطبيعة على فرد واحد يفترق الحال بين النهي التحريمي والتنزيهي وهذا بخلاف الحال في هذا المقام المفروض فيه تعلق النهي بعنوان العبادة كما في صل ولا تصل في الحمام ومن المعلوم عدم الفرق بين كون النهي تحريميا أو تنزيهيا في عدم تصوير اجتماعه مع الأمر للزوم اجتماع ضدين في شيء واحد من جهة واحدة وهو الطبيعة المهملة فلا بد في كليهما من تقييد مورد الأمر بغير مورد النهي نعم يبقى ملاك الأمر في كليهما صالحا لإسقاط الأمر في التوصليات واما في باب العبادة المطلوب فيها رجحان الفعل فلا يكفي مجرد الملاك مع مرجوحية للفعل ولو لم تعمل بحد المنع من النقيض هذا كلّه لو تعلق النهي بالخاص ولو فرض تعلقه بالخصوصية فلا فرق أيضاً في إمكان حصول القرب بالطبيعة المتخصصة كما يأتي الإشارة إليه في الحاشية الآتية (منه)

الكراهة لعدم منعها من النقيض لا تمنع الوجوب المانع عنه، فاذا اجتمعت جهة الوجوب مع الكراهة فلابد من صيروره الوجوب فعلياً والكراهة شأنية، فيكون الفرد المشتمل على الخصوصية الموجبة للكراهة مجزياً عن الواجب، ولكنه اقل ثواباً من باقى الافراد وقد مر تفصيل ذلك في البحث السابق.

الرابع: محل النزاع انما هو في غير النواهى المستفاد منها الوضع ابتداء كالنهي المتعلق بالصلاة في اجزاء مالا يؤكل لحمه وامثال ذلك، لان تلك النواهي تنبىء عن عدم المصلحة في العمل الخاص فلا يتطرق اليه احتمال الصحة بعد ذلك، وليس الفساد مرتباً على النهى بل النهي جاء من قبل الفساد.

حول مسألة الأصل عند الشك في الاقتضاء

الخامس : لو شك في اقتضاء النهى للبطلان فلا اشكال في عدم وجود اصل في هذا العنوان يعين احد طرفي الترديد، فيجب الرجوع الى القواعد الجارية في نفس المسألة الفرعية، فنقول : لو تعلق نهى بالصلاة في محل خاص. مثلاً وشككنا في ايجابه لبطلان العمل فلواتى المكلف بتلك الصلاة المنهى عنها فهل الاصل يقتضى البطلان او الصحة؟ يمكن ابتناء ذلك على كون النزاع في المسألة لفظياً او عقلياً، فعلى الاول يرجع الشك في المسألة الى الشك في التقييد (1) فان القائل بان الخطاب المشتمل على النهي يدل على فساد العمل

ص: 186


1- كونه راجعاً إلى الشك في التقييد حتّى يجري فيه البراءة على القول بها في الأقل والأكثر مبنى على ان يكون الترديد بين كون النهي تحريميا وضعيا أو تنزيهيا عباديا إرشادا إلى أفضل الافراد إذ لا يلزم من إجراء البراءة ح محذور واما لو فرض كونه مرددا بين التحريم النفسي أو التنزيهي بمعنى المرجوحية أو التحريم الوضعي فلا يمكن إجراء البراءة للقطع ببطلان العبادة مطلقاً (منه)

عرفاً يرجع قوله الى دعوى ان مورد الوجوب مقيد بغير الخصوصية المنهي عنها، فالصلاة الماتى بها في محل ورد النهي عن اتيانها فيه باطلة لفقدان الشرط الشرعي على مذهب هذا القائل، فلو شك في ذلك يرجع الشك الى ان المامور به هل هو مقيد شرعاً بان لا يؤتى به في المحل المخصوص اولا، وعلى الثاني اعنى على تقدير كون النزاع عقلياً فمقتضى الاصل فساد العمل لان المأمور به معلوم من حيث القيود والشروط بحيث لو كان توضلياً لكان مجزياً، وانما الشك في ان القرب المعتبر في العبادات هل يحصل بايجاد العمل في ضمن فرد محرم اولا، ولا اشكال في لزوم الاتيان ثانياً حتى يقطع بفراغ ذمته.

تحقيق الحقّ في المسألة

اذا عرفت ذلك كله فنقول ان الافعال المتعلقة للنهي على قسمين : قسم اعتبر في صحته قصد القربة وهو الذي يسمى بالعبادة، وقسم لم يعتبر فيه ذلك، فان جعلنا النزاع في المقام راجعاً الى الامر العقلى وهو انه بعد الفراغ عن وجود الجهة في الطبيعة هل يقتضى مبغوضية ايجادها في ضمن خصوص فرد فساد العمل لواتى به في الفرد المحرم اولا ؟ فالحق انه لا يقتضى الفساد مطلقاً.

اما في العبادات فلان ما يتوهم كونه مانعاً عن الصحة كون العمل مبغوضاً، فلا يحصل القرب المعتبر في العبادات به، وفيه انه من الممكن ان يكون العمل المشتمل على الخصوصية موجباً للقرب من حيث ذات العمل وان كان ايجاده في تلك الخصوصية مبغوضاً للمولى، وبعبارة اخرى فكما انا قلنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي بامكان ان يتحد العنوان المبغوض مع العنوان المقرب كذلك هنا من دون تفاوت فان اصل الصلاة شيء وخصوصية ايقاعها

ص: 187

في مكان مخصوص مثلاً شيء آخر مفهوماً وان كانا متحدين في الخارج، نعم لو تعلق النهى بنفس المقيد وهي الصلاة المخصوصة فلازمه الفساد من جهة عدم امكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحة توجب المطلوبية والطبيعة المقيدة بقيد خاص ذات مفسدة توجب المبغوضية.

و الحاصل انه كلما تعلق النهى بامر آخر يتحد مع الطبيعة المامور بها فالصحة والفساد فيه يبتنيان على كفاية تعدد الجهة في تعدد الامر والنهي ولوازمها من القرب والبعد والاطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة (1) وحيث اخترنا كفاية تعدد الجهة في ذلك فالحق في المقام الصحة، وكلما تعلق النهي بنفس المقيد لا يمكن كون العمل صحيحاً وان قلنا بكفاية تعدد الجهة، فان الجهة الموجبة للمبغوضية ليست مباينة لاصل الطبيعة حتى في عالم الذهن، فلا يمكن ان تكون مبغوضة ويكون اصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد، وبعبارة

ص: 188


1- فيه ان الجهتين المتغايرتين مفهوماً المتحدتين وجوداً في باب الاجتماع كان اتحادهما مصححا للحمل فلهذا وقع اجتماع الأمر والنهي في مورد تصادقهما محلا للنزاع المتقدم واما إذا كان أحد المفهومين منطبقا على ذات الفعل والاخر كان من قبيل الخصوصية فمن الواضح عدم صحة حمل أحدهما على الاخر وان كان حد الواحد من الوجود محيطا بكليهما فالقائل بالامتناع في الفرض الأوّل لا يلزم ان يقول به في الثاني لعدم الاتحاد الحملي نعم حيث ان المتخصص والخصوصية متلازمان في الوجود لا يمكن اختلافهما في الحكم بان يتعلق الأمر بالذات مثلاً والنهي بالخصوصية بناء على ما هو المفروض من سراية الأمر من الطبيعة إلى الافراد فلا بد من تقييد الأمر بغير هذا المورد ولكن هذا لا يوجب فساد العبادة لقيام الملاك في ذات الفعل فيكون الفاعل متقربا بنفس فعل الصلاة مثلاً ومسخوطا عليه لوصف كينونته في الحمام. فتحصل ممّا ذكرنا هنا وما ذكرنا في المتن انه متى تعلق النهي بالخصوصية فالحق صحة العبادة حتّى على القول بالامتناع في المسألة السابقة ومتى تعلق بالخاص البطلان حتّى على القول بالجواز هناك (منه)

اخرى لو بقيت المحبوبية التي هي ملاك الصحة في العبادة في المثال يلزم كون الشيء الواحد خارجاً وجهة محبوباً ومبغوضاً وهو مستحيل، هذا حال العبادات. و اما غيرها فلا ينا في النهي فيها مع الصحة مطلقاً لوضوح امكان ان تكون الطبيعة مشتملة على غرض من اغراض الآمر مطلقاً، فيحصل ذلك الغرض في الفرد المبغوض ولا نعنى بالصحة الا ذلك، هذا في غير العقود والايقاعات، واما فيهما فالنهي يدل على الصحة اذا تعلق بهما بلحاظ الآثار، اذ لولا ذلك لزم التكليف بالمحال كما هو واضح نعم لو تعلق بنفس الاسباب مع قطع النظر عن ترتب المسببات فليس النهى دليلاً على الصحة، ولكنه لا ينافيها ايضاً، لوضوح امكان ترتب الآثار المتوقعة من تلك الاسباب على ما يكون مبغوضاً منها، نعم قد يستفاد من بعض النواهى ان ورودها ارشاد الى فساد متعلقها، وهذا لوجود قرائن في المقام، ولولاه لزم حمله على ما هو ظاهر فيه من التحريم الغير المنافى للصحة بل موجب لها في بعض المقامات كما عرفت هذا

الاستدلال للاقتضاء بالحديث

و قد يقال : ان مقتضى القواعد و ان كان كذلك الا ان في الاخبار ما يدل على ان التحريم ملازم للفساد شرعاً (1) مثل مارواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) سأله عن مملوك تزوج بغير اذن سيده «فقال ذاك الى سيده ان شاء اجازه وان شاء فرق بينهما» قلت: اصلحك اللّه تعالى ان حكم بن عيينة (عتيبة) وابراهيم النخعى واصحابهما يقولون: ان اصل النكاح فاسد ولا تحل اجازة السيد له فقال ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انه لم يعص اللّه، وانما عصى سيده فاذا اجازه فهو له جائز» (2) حيث انه يدل على انه لو كان النكاح

ص: 189


1- وقد ادعى سيدنا الأستاذ طاب ثراه اتفاق العلماء أيضاً على ان كلّ معاملة ورد النهي عنها بعنوانها فهي فاسدة ولعل منشأ هذا الإجماع مثل هذه الاخبار مع إمكان ان يقال بمنافاة النهي للرضي بوقوع الأثر بناء على مدخلية رضا الشارع في ترتب السبب (منه).
2- وسائل الشيعة، ج 14، ص 523، الباب 24 من ابواب نكاح العبيد والاماء، الحديث 1، الكافي ج 5 ص 478، باب المملوك يتزوج بغير اذن مولاه، الحديث 3. من لا يحضره الفقيه، باب طلاق العبد، الحديث 4.

محرماً شرعاً لبطل، بل يشعر بان الملازمة بين المعصية والفساد من المسلمات بين الاصحاب، وانما اشتبه من قال بفساد النكاح في الفرض من جهة تخيل ان التحريم المستلزم للفساد اعم من ان يكون متعلقاً بعنوان المعاملة باصل الشرع او يكون من جهة وجوب متابعة السيد. و يمكن ان يقال : ليس المراد من المعصية في الرواية مخالفة النهى التحريمي بل مخالفة النهي الوضعي اذ من المتعارف اطلاق المعصية عرفاً على عقد لم يشرعه الشارع ولم يمضه، ومن المعلوم ان العصيان بهذا المعنى ملازم للفساد،

فتامل (1).

في المفاهيم

في بيان المراد من المفهوم

و المراد من المفهوم هو القضية الغير المذكورة التابعة للمذكورة الخصوصية مستفادة منها، واعلم ان النزاع في باب المفاهيم راجع الى الصغرى وان القضية الكذائية هل لها مفهوم او لا ؟ فلو احرز المفهوم فلا اشكال في حجيته.

ص: 190


1- وجه التأمل ان كون عصيان السيّد في مورد الرواية من جهة مخالفة النهي الوضعي وعدم الاذن لا ينافي شمولها لمخالفة النهي التكليفي بعد أشديتها من من الأولى في ملاك العصيان فان قلت كيف يتصور في مورد الرواية عصيان السيّد إذ لو فرض نهى السيّد سابقاً على النكاح فهو مانع عن لحوق الإجازة وان لم يصدر عنه نهى بل كان مجرد عدم الاذن فلا موضوع للعصيان. قلت: مقتضى وظيفة العبودية ان لا يتجاوز في افعاله خصوصا مثل النكاح عن اظهار الرضا من المولى ولا يكتفى بمجرد الرضا الباطني فلو تجاوز عن هذه الطريقة صح اطلاق العصيان عليه حينئذٍ وبذلك يصير محرما شرعيا بهذا العنوان الثانوي ويصححه لحوق الإجازة (منه).

في مفهوم الشرط و بيان ما يحتمل أن يكون مدلولاً للقضية الشرطية

و من المفاهيم مفهوم الشرط و اختلف في ان الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء كما تدل على الثبوت عند الثبوت اما بالوضع واما بقرينة عامة يظهر منها ذلك بحيث لو اراد المتكلم غيره فلابد له من اقامة قرينة خاصة او لا؟

اذا عرفت هذا فنقول : ما يحتمل ان يكون مدلولاً للقضية أمور:

في بيان أدلة القائلين بالمفهوم

احدها ان يكون مدلولها مجرد الثبوت عند الثبوت على اى نحو كان ولو من باب المقارنات الاتفاقية، من دون دلالة على الارتباط واللزوم اصلاً، فضلاً عن ان تكون دالة على الحصر.

ثانيها ان يكون مفادها ما ذكر مع زيادة ارتباط ولزوم بين المقدم والتالى بای نحو من اللزوم، سواء كان الاول علة للثاني او الجزء الاخير لها، ام كان الثاني علة للاول ام كانا معلولين لثالثة ونحو ذلك.

ثالثها ان يكون اللزوم المستفاد منها تأثير المقدم في الجزاء، سواء كان علة تامة ام كان احد اجزائها.

رابعها ذلك مع زيادة ان المقدم علة تامة للتالى.

خامسها احد الاخيرين مع زيادة دلالتها على الحصر.

الانصاف ان الاحتمال الاول ليس مفادا للقضية ولا يبعد دعوى ظهورها في ترتب التالي على المقدم، وأما كون المقدم من قبيل العلة المنحصرة او جزئها المنحصر فلا نجزم به بعد مراجعة الوجدان مراراً، اترى انه لو قال المتكلم ان جائك زيد فاكرمه، فسأل المخاطب ان لم يجىء ولكنه اكرمنى هل اكرمه او لا؟ فاجاب اكرمه، هل يكون كلامه منافياً للظهور المنعقد لكلامه الاول ؟ لا اظنك تجزم بذلك بعد التامل التام.

و اما الادلة التي يستدل بها في المقام فكلها مخدوش.

ص: 191

منها ان القضية المشتملة على كلمة لو تدل على امتناع التالي لامتناع المقدم بالاتفاق وبشهادة التبادر والوجدان، وليس ذلك الا لدلالتها على حصر العلة، اذ لولا ذلك فمجرد امتناع العلة التي جعلت مدخولة لكلمة لو لا يستلزم انتفاء المعلول، فعلم ان كلمة لو تدل على ان مدخولها علة منحصرة للجزاء، ومن البعيد التفكيك بينها وبين ساير ادوات الشرط.

و فيه انه من الممكن ان يقال ان امتناع التالي يستفاد من مفاد كلمة لو كامتناع المقدم في عرض واحد لا انه مستفاد من حصر العلة، هذا، مضافاً الى ان مجرد الاستبعاد لا يعد دليلاً يعتمد عليه(1).

و منها انه بعد فهم اللزوم بين المقدم والتالى يحمل على العلية المنحصرة لكونها اكمل افراد اللزوم. و فيه اولا ان انحصار العلية في شيء لا يوجب اكمليتها، اذ بعد كون شيء علة فوجود شيء آخر مثله في العلية لا يوجب نقصاً فيه، كما ان عدمه ليس كمالا له، كما هو واضح، وثانياً انصراف الشيء الى الفرد الكامل ممنوع

ص: 192


1- مع انه يمكن منع دلالته على الحصر ولو سلمنا دلالته على ترتب امتناع الشرط لإمكان ان يكون للجزاء أسباب متعددة وكانت كلها منتفية وانما أفرد بالذكر أحدهما للاستغناء عن ذكر الباقي ولهذا لو صرح في الكلام بذكر تلك الأسباب عقيب الكلام الأوّل لم يكن منافيا للظاهر كما إذا قال لو كان هذا إنسانا لكان لكان حيوانا ثمّ قال ولو كان هذا فرسا لكان حيوانا نعم يبقى في البين كلام آخر مشترك بين لو وساير أدوات الشرط وهو ان ذكر خصوص شرط عقيب الأدوات ظاهر في انه لخصوصية مناط للجزاء لا بما يكون جامعا بينه وبين شيء آخر و ح فان كان شيء آخر مناطا أيضاً يلزم خلاف القاعدة العقلية من استحالة تأثير المتعدد في الواحد والجواب ان اسناد المعلول إلى مصداق العلة شايع متعارف كما يقال النار علة للحرارة مع كون العلة هو الجامع بينها وبين الشمس (منه)

لانه ليس منشأ للانصراف، وهل ترى من نفسك ان الانسان ينصرف الى خاتم الانبياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، والحاصل ان ميزان الانصراف انس اللفظ الى معنى خاص بحيث يفهم العرف منه ذلك المعنى، واكملية الشيء لاربط لها بهذا المقام.

و منها ان اللزوم المستفاد من الجملة يحمل على العلية المنحصرة بمقدمات الحكمة، كما ان الطلب يحمل على النفسي عند الاطلاق دون الغيري، وكما انه يحمل على التعييني دون التخييري.

و فيه او لا انه ليس حمل الطلب على النفسي والتعييني من جهة الاطلاق، بل يحمل على النفسي عند الشك في كونه نفسياً او غيرياً وعلى التعييني ع_ن_د الشك في كونه تعيينياً او تخييريا اما من جهة ظهوره عرفاً فيهما عند خلو اللفظ عما يدل على غيرهما، واما من جهة ان الطلب المتعلق بشيء حجة عقلاً على كونه واجباً نفسياً تع_ي_ي_ن_ي_اً، بمعنى انه لو كان كذلك في الواقع يصح العقوبة على مخالفته، ولا يجوز عند العقل الاتيان بما يحتمل ان يكون بدلا له، ولو سلم ان حمله عليهما انما يكون من جهة مقدمات الاطلاق فقياس ما نحن فيه عليه قياس مع الفارق، فان حمل الطلب على النفسي والتعييني عند الاطلاق من جهة انهما قسمان من الطلب في قبال قسمين آخرين منه، ولكل من الاقسام اثر خاص، فلو لم يحمل على قسم خاص فلابد من الالتزام بالاهمال، والمفروض كونه في مقام البيان، فيجب ان يحمل على ما هو اخف مؤنة من الاقسام، والنفسي اخف مؤنة من الغيري فان الغيري يحتاج الى لحاظ الغير، وكذا التعييني اخف مؤنة من التخييري لانه يحتاج الى ذكر البدل وهذا بخلاف انحصار العلة، فانه عنوان منتزع من عدم علة اخرى ومن المعلوم ان وجود علة اخرى وعدمها ليسا موجبين لتفاوت العلة اصلاً، فلو اراد بيان الانحصار يحتاج الى دال مستقل آخر، كما انه لو اراد بيان عدمه يحتاج الى مبين آخر فافهم.

و مما استدل به المثبتون اطلاق ترتب الجزاء على الشرط، وتقريب

ص: 193

الاستدلال به ان مقتضى اطلاق ذلك ان يكون الجزاء مستنداً الى خصوص الشرط دائماً، سواء وجد شيء آخر سابقاً عليه او مقارناً له ام لا، وهذا لا ينطبق الا على العلة المنحصرة، فانه لو تعددت العلة فلو كانت سابقة على ما ذكر في القضية يكون الجزاء مستنداً اليها وان كانت مقارنة له يكون الجزاء مستنداً الى مجموع العلتين.

و الجواب انه لو تكرر المسبب بتعدد الاسباب لا يلزم اهمال السبب او استناد المسبب الى مجموع السببين، فيحفظ الاطلاق المستفاد من القضية، وهوانه متى يوجد الشرط يترتب عليه الجزاء من دون لزوم القول بالحصر، واما لو فرضنا الجزاء واحداً على كل حال فاللازم على تقدير تعدد الاسباب وان كان عدم ترتبه على الشرط اصلاً احياناً وعدم كونه مستقلاً كذلك لكنك عرفت مما تقدم انا ما سلمنا دلالة القضية على كون الشرط علة تامة، بل المقدار المسلم وقوع الجزاء عقيب الشرط مع ربط بينهما، ويكفى في الربط كونه صالحاً للتأثير فيه وان منع من تأثيره سبق علة اخرى.

ثم ان كل من استدل على ثبوت المفهوم بالاطلاق المستفاد من الحكمة فكلامه على فرض تماميته خارج من المدعى لان المدعى ثبوت المفهوم للقضية الشرطية دائماً وان القضية الشرطية تنحل الى عقد ايجابي وسلبي، والاطلاق المستفاد من المقدمات ليس دائمياً لانه تابع لوجود المقدمات.

في بيان شرائط المفهوم على القول به

حجة المنكرين امور:

احدها ما استدل به السيد (قدّس سرُّه) من ان تأثير الشرط هو تعليق الحكم به، وليس يمتنع ان يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ولا يخرج عن كونه شرطاً، فان قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم (1) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتى ينضم اليه شاهد آخر، فانضمام الثاني الى الاول

ص: 194


1- سورة البقرة الآية 282.

شرط في القبول، ثم علمنا ان ضم اليمين يقوم مقامه ايضاً، فنيابة بعض الشروط عن بعض اكثر من ان تحصى مثل الشمس فان انتفائها لا يستلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها، والامثلة لذلك كثيرة عقلاً وشرعاً «انتهى».

في بيان شرائط المفهوم على القول به

و الظاهر انه (قدّس سرُّه) قد استظهر من كلام القائلين بالمفهوم ان ذلك من جهة الشرطية، وان لازمها انتفاء المشروط بانتفاء الشرط فورود ما افاده على هذا الكلام واضح لا اشكال فيه، ولكن المدعين لم يتشبثوا بمجرد اطلاق الشرط بل يدعون ظهور الجملة في كون مدخول اداة الشرط علة منحصرة للجزاء، فلا يصح التقابل معهم الا بنفي هذا الظهور.

الثاني انه لو دل ل_ك_ان باحدى الدلالات والملازمة كبطلان التالي واضحة.

و اجيب بمنع بطلان التالى (1) وان الالتزام ثابت، وقد عرفت الكلام في ذلك.

الثالث قوله تعالى: «ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصناً» (2).

ص: 195


1- والحق في الجواب ان يقال بمنع بطلان التالي مرة وبمنع الملازمة أخرى توضيحه انا ان استندنا في إثبات المفهوم إلى دلالة الأدوات على الحصر منعنا بطلان التالي لأن حصر الشرطية في التالي يلزمه الانتفاء عند الانتفاء باللزوم البين بالمعنى الأخص الذي هو مناط الدلالة الالتزامية وان استندنا إلى ما أشرنا إليه في الحاشية السابقة من كون ذكر شرط خاص ظاهراً في كونه شرطا لخصوصية منعنا الملازمة بين ثبوت المفهوم وبين كونه بإحدى الدلالات الثلث لكفاية كونه بالدلالة العقلية وهي ثابتة فيما نحن فيه وان كانت الدلالة اللفظية غير ثابتة لأن الانتفاء عند الانتفاء ليس من اللوازم البينة بالمعنى الأخص للمعنى المذكور أعني كون الشرط سبباً خاصّاً بخصوصيته بل يحتاج إلى ضم المقدمة العقلية أعني امتناع تأثير المتعدد في الواحد فيكون لازما بينا بالمعنى الأعم (منه)
2- سورة النور، الآية ٣٣.

و فيه ان القائل بالمفهوم يشترط ان لا يكون الشرط محققاً للموضوع، والشرط في القضية المذكورة محقق للموضوع، فان الاكراه لا يتحقق الا مع ارادة التحصن هذا مضافاً الى ان استعمال القضية الشرطية في ما لا مفهوم له احياناً مما لا ينكر، انما الكلام في ظهورها في ما له المفهوم وضعاً او بقرينة عامة وعدمه، والمدعى يقول بالاول ومجرد الاستعمال بقرائن خارجية في بعض المقامات لا ينا في دعواه.

وينبغي التنبيه على امور:

احدها: المفهوم لو قلنا به هو انتفاء سنخ الحكم عن الموضوع المذكور في القضية في غير مورد الشرط لا شخصه ضرورة ان ارتفاع شخص الحكم بارتفاع بعض قيود الموضوع عقلى، وهذا ليس من المفهوم المتنازع فيه، وهكذا مفهوم الوصف وباقى المفاهيم التي وقعت مورداً للنزاع، فيكون مورد النزاع منحصراً فيما كان الحكم بسنخه قابلاً للثبوت وعدمه في غير مورد الشرط. و من هنا ظهر انه ليس من باب المفهوم الحكم بالانتفاء عند الانتفاء في باب الوصايا والاوقاف ونظائرهما، فانه لو اوصى بثلث ماله مثلاً للعلماء فمن كان خارجاً عن العنوان لا يكون مورداً لهذه الوصية قطعاً، ولا يمكن ان يكون المال بعد انتقاله الى العلماء بموت الموصى وكونه ملكاً لهم مالاً لغيرهم، وهكذا حال الوقف وامثاله، فعدم كون المال لغير المتصف بالعنوان في مثال الوصية وكذا عدمه لغير المتصف بعنوان الموقوف عليه فيما لو وقف على عنوان خاص ليس من باب مفهوم اللفظ. هذا

و قد خالف فيما ذكرنا من ان المناط في باب المفهوم انتفاء سنخ الحكم بعض اساطين الفن وجعل المفهوم في قولنا «اكرم زيداً ان جائك» انتفاء شخص الوجوب المتحقق في هذه القضية على تقدير انتفاء الشرط، ولعل نظره الى ان هيأة افعل موضوعة بالوضع العام والموضوع ل_ه الخاص بازاء جزئيات

ص: 196

الطلب، فما هو جزاء في القضية المذكورة هو الوجوب الجزئى الشخصى المتعلق باكرام زيد دون حقيقة الوجوب المتعلق باكرام زيد، ولم تحضرني عبارته حتى اتأمل في مراده (قدّس سرُّه).

اقول لو كان الوجه ما ذكرنا ففيه او لا ما عرفت في تحقيق معنى الحروف وانها موضوعة كاسماء الاجناس للمعنى العام ومستعملة فيه وحينئذ لا مورد لهذا الكلام، وثانياً ان الشرط في قولنا ان جائك زيد ف_اك_رم_ه يستدعى حقيقة ايجاب الاكرام لا الايجاب الجزئي الشخصي المتحقق بجميع الخصوصيات اذ ليس لنا شرط في القضايا الشرطية يكون كذلك (1) غاية الامر حقيقة الايجاب لا تتحقق الا في ضمن الايجاب الخاص، ونسلّم منك انه ليس لتلك الحقيقة لفظ موضوع، ولكنا نفهم ان الايجاب الجزئى المدلول عليه باللفظ الخاص ليس معلولاً للشرط المذكور في القضية، بل المعلول هو الحقيقة الموجودة في ضمنه، وحينئذ فبعد فرض فهم حصر السبب من القضية لازمه ارتفاع حقيقة وجوب اکرام زيد في مورد عدم الشرط.

الثاني لابد في مفهوم القضية الشرطية على القول به من حفظ الموضوع مع تمام ما اعتبر قيداً في الموضوع او في الشرط او في طرف الجزاء وينحصر اختلافه مع المنطوق في امرين احدهما انتفاء الشرط في المفهوم مع ثبوته في المنطوق والثاني الحكم الثابت في المفهوم يكون نقيض ما ثبت في المنطوق، فمفهوم قولنا ان جائك زيد راكباً يوم الجمعة فاضربه ضرباً شديداً، ان لم يجئك زيد راكبا الجمعة فلا يجب عليك ان تضربه ضرباً شديداً.يوم

حول مفهوم حديث اعتصام الكر

و من الاعتبارات الراجعة الى القضية الشرطية الكل المجموعي فلوقال :

ص: 197


1- كيف؟ ولو كان كذلك لجرى مثله في القضايا الإخبارية التعليقية كما في قولنا ان جاءك زيد يجيئني عمرو فلا يمكن ان يقال بنفي سنخ الاخبار لمجيء عمرو عن هذا المتكلم عند عدم مجيء زيد إذ المنفي نفس هذا الاخبار الجزئي المتخصص بخصوصيات الزمان والمكان وغيرهما ولعل له اخبارا جزئياً آخر على وجه الإطلاق وهو من الفساد بمكان (منه)

«ان جائك زيد فتصدق بكل مالك» على نحو الكل المجموعي فمفهومه عدم وجوب التصدق بمجموع المال على تقدير عدم الشرط، وهذا مما لا اشكال فيه (1) اما لووقع العموم الاستغراقي في موضوع الجزاء فهل تقتضى القاعدة مراعاته في طرف المفهوم ؟ فيكون المفهوم من قولنا ان جائك زيد فاكرم كل عالم، على نحو الاستغراق الافرادي، عدم وجوب اكرام الكل على تقدير عدم الشرط، حتى لا ينا في وجوب اكرام البعض، أو عدم مراعاته، حتى يكون المفهوم من القضية المذكورة السالبة الكلية.

و من هنا وقع النزاع بين امامى الفن الشيخ محمد تقى وشيخنا المرتضى «قدّس سرُّهما» في حديث اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء فادعى الاول بداهة ان المفهوم الايجاب الجزئى، بملاحظة ان نقيض قولنا : «لم ينجسه شيء» ينجسه شيء، وادعى الثاني بداهة ان المفهوم ه_و الايجاب الكلي واستدل في الطهارة على ما هو ببالى (2) بان العموم لوحظ مرآة وآلة لملاحظة الافراد، فكانه لم

ص: 198


1- لا يخفى انه لو قيل: بإفادة الأداة للعلية التامة مضافاً إلى الانحصار الذي هو معنى أخذ المفهوم لزم في الكل المجموعي أيضاً إذا أخذ في الجزاء كون المفهوم السالبة الكلية وارتفاع الكل بجميع اجزائه عند ارتفاع الشرط إذ لو بقي بعضها مستندا إلى شيء اخر لكان خلفا فيما فرضنا من كون الشرط قيام العلة المنحصرة للكل بجميع اجزائه إذ ح لا بد ان يكون هو العلة لكلّ واحد واحد من الاجزاء وللهيئة الاجتماعية من غير شركة شيء اخر معه في شيء منها ولكن الذي يسهل الخطب ان غاية ما يستفاد من تركيب اجزاء القضية الشرطية اللفظية ليس بأزيد من كون الشرط متى حصل في الخارج يترتب عليه بلا مهلة حصول الجزاء وهذا أعم من ان تكون تمام العلة أو جزء أخيرا منها و ح فان قلنا باستفادة الحصر كان ملحوظا بالنسبة إلى هذا المعنى (منه)
2- واليك نص عبارته: «والقول باهماله [يعني اهمال المفهوم] ضعيف في الغاية، منشأه توهم كون كرية الماء علة لعدم تنجسه بجميع النجاسات، لا لعدم تنجسه بكل فرد، لكن ظاهر السياق، هو الثاني، فانتفاء الكرية يوجب تنجسه بكل فرد، لان النفي عن كلّ فرد يفرض من النجاسة إذا استند إلى الكرية انتفى بانتفائها، وليس هذا من قبيل إذا صحبت زيداً فلا تخف أحدا، لقيام القرينة في المثال». كتاب طهارة الشيخ الأنصاري، في البحث عن الماء المحقون، ص 11.

يذكر في القضية الا الاحكام الجزئية المتعلقة بالافراد، فيكون تعليق هذا الحكم المنحل الى احكام جزئية عديدة على بلوغ الكرية منحلاً الى تعليقات عديدة، ولازم حصرا العلة كما هو المفروض انه في صورة انتفاء الكرية ينقلب كل نفي الى الاثبات.

ويمكن ان يستدل لهذا المطلب بوجه آخر وهو انه بعد فرض حصر العلة في الكرية يلزم ان لا يكون لبعض افراد العام علة اخرى، اذ لو كان لبعض الافراد علة اخرى يتحصل المجموع من علتين، وهذا خلف، ولازم ذلك في القضية المذكورة الايجاب الكلى في صورة عدم الكرية، وهذا واضح.

و الحق ان القضية المذكورة وامثالها ظاهرة في ان عمومها ملحوظ وان المفهوم في القضية المذكورة هو الايجاب الجزئى، والدليل على ذلك التبادر، ولا ينا في دعوى التبادر المذكور ما تقدم سابقاً من انكار اصل المفهوم في القضايا الشرطية، فان هذا التبادر المدعى هنا يكون في كيفية مفهوم القضية، وفائدته انه لو علمنا من الخارج ان القضية المشتملة على الكل الاستغراقى حيء بها لبيان المفهوم وبنينا على الأخذ بالمفهوم في قضية شخصية من جهة وجود القرائن الخارجية نأخذ به على نحو ما ذكرنا، فلا تغفل.

و اما الاستدلال الاول فجوابه ان العموم و ان لوحظ مرآة في الحكم الذي اسند الى موضوعه الا انه لامنافاة بين هذا وبين ملاحظة هذا العموم الاستغراقى امراً وحدانياً بملاحظة التعليق على الشرط (1) وهذا امر واضح لا يحتاج امكانه في

ص: 199


1- لا يقال: ملاحظة العموم في مقام اسناد الحكم مرآة وفي مقام التعليق موضوعاً محتاجة إلى نظرة ثانية إلى وصف العموم والإشارة إليه بالمعنى الاسمي وهو خارج عن طريقة المحاورة المتعارفة قطعاً لأنا نقول اما الاحتياج إلى النظرة الثانية فلا فرق فيه بين الإرجاع إلى الافراد أو إلى وصف العموم كيف والتعليق ربط والربط محتاج إلى لحاظ الطرفين واما لزوم الإشارة إلى العموم بالمعنى الاسمي فمحل إنكار جدا الإمكان الإشارة إليه مع حفظ كونه حرفيا ولعله لوضوحه غني عن البيان و ح فنقول بعد إمكان كلّ من الأمرين في مرحلة الثبوت فالميزان في مرحلة الإثبات هو التبادر والمدعى انه مع الإرجاع إلى العموم دون الآحاد كما يتضح ذلك بملاحظة الأمثلة العرفية (منه)

مرحلة الثبوت الى مزيد برهان واما الدليل عليه في مرحلة الاثبات فهو التبادر، فان مفهوم قولنا لو كان معك الامير فلا تخف احداً ليس انه في صورة عدم كون الامير يجب الخوف من كل احد.

و اما الاستدلال الثاني فهو مبنى على الالتزام بان تالي الادوات علة، وهذا غير مسلم حتى بناء على القول بالمفهوم اذ يكفي في المعنى المستفاد من تعليق الجزاء كون تالى الادوات جزء اخيراً للعلة اما منحصراً بناء على القول بالمفهوم او اعم من ذلك بناء على عدمه.

الثالث لو تعددت القضايا و كان الجزاء واحداً فلا يمكن الجمع بين م_دال_ي_ل_ها الأولية، ضرورة وقوع التعارض بين مفهوم كل منها مع منطوق الاخرى، فلابد من التصرف اما بتخصيص مفهوم كل منها بمنطوق الاخرى، واما بحملها على بيان مجرد الوجود عند الوجود والفرق بينهما انه على الاول يؤخذ بالمفهوم في غير مورد المنطوق، بخلاف الثاني، واما بحمل الشرط في كل من القضايا على جزء السبب واخذ المفهوم من المجموع، واما بالالتزام بان المذكور في القضايا مصداق للسبب وماهو سبب هو الجامع بين ما ذكر، ولعل الاظهر هو الوجه الثاني عرفاً، واما احتمال اخذ احدى القضايا منطوقاً ومفهوماً فلا وجه له اصلاً، فانه يوجب طرح غيرها، كما لا يخفى.

في مفهوم الوصف و بيان أن الوصف لا مفهوم له

و من جملة المفاهيم التي قد وقع النزاع في ثبوتها مفهوم الوصف، والحق عدم

ص: 200

دلالة القضية المشتملة على ذكر الوصف على عدم سنخ الحكم في غير مورده، لا وضعاً ولا من جهة قرينة عامة، بل التحقيق عدم دلالتها على كون الوصف المذكور في القضية علة للحكم فضلاً عن كونه علة منحصرة، لاحتمال كون ذكره في القضية من جهة وجود مانع من تعلق الحكم بالمطلق في مرحلة الاثبات وان كان ثابتاً له في مرحلة الثبوت او لكون الاهتمام بشأنه، او لعدم احتياج غيره الى الذكر، وغير ذلك من النكات، نعم قد يستظهر العلية من جهة المناسبة بين الحكم والموضوع كوجوب الاكرام المتعلق بالعالم او وجوب التبين المتعلق بخبر الفاسق، ولا فرق في ما ذكرنا بين الوصف المعتمد على الموصوف وغيره، نعم لازم التقييد بالوصف عدم شمول الحكم في تلك القضية لغير مورد الوصف، وهذا غير المفهوم المتنازع فيه كما عرفت.

رد أدلة القائلين بمفهوم الوصف

و من هنا يظهر ان بعض الكلمات الذي ينقل من الاعلام في الاستدلال على المقام ليس في محله، مثل ماقيل انه لو لم يكن للوصف مفهوم لما صح القول بالتخصيص في مثل قولنا اكرم العلماء الطوال، ولما صح حمل المطلق على المقيد، اذ لا تنافي بينهما الا من جهة دلالة المقيد على سلب الحكم من غيره، اذ هذه الكلمات اجنبية عما نحن بصدده ضرورة ان نفي وجوب اكرام القصار ليس من جهة ان تقييد العلماء بالوصف دل على عدم الحكم في غير مورده حتى يكون من باب المفهوم، بل من حيث ان وجوب الاكرام في غير المنصوص يحتاج الى دليل، والنص لايشمله، وكذا حمل المطلق على المقيد في مورد نقول به وهو في صورة احراز وحدة التكليف المتعلق بهما مع اظهرية دليل المقيد في اعتبار القيد من دليل المطلق في الاطلاق انما هو من جهة تضييق دائرة الحكم الثابت في القضية، فكانه من اول الامر ورد الحكم على المقيد، واين هذا من المفهوم المدعى في المقام.

و نظير ما ذكر الاستدلال بقولهم: الاصل في القيود ان تكون احترازية فانه بعد تسليم ظهور كل قيد في ذلك يوجب تضييق دائرة الموضوع، ولا يفيد

ص: 201

انتفاء سنخ الحكم من غير مورد القيد كما هو واضح.

و مما استدل به على مفهوم الوصف ان ابا عبيدة مع كونه من اهل اللسان الذين ينبغى الرجوع اليهم في تشخيص المعانى قد فهم من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لى الواجد يحل عقوبته» (عقوبته (1) ان لي غيره لا يحل وفيه انه ليس ابوعبيدة او غيره باولى منا في فهم هذا المعنى من القضية بعد القطع بوضع مفرداتها والقطع بعدم وضع آخر للمجموع، وانما يفهم المفهوم من خصوص هذه القضية لان الوصف المأخوذ فيها مناسب للعلية للحكم مع العلم بعدم علة اخرى كما لا يخفى.

تنبیهان :

المقرر عند القائلين بمفهوم الوصف، أن لا يكون الوصف وارداً مورد الغالب

الأول مما تقرر عند القائل بثبوت المفهوم للوصف انه يشترط ان لا يكون الوصف وارداً مورد الغالب كما في قوله تعالى: «ورب_ائ_ب_ك_م اللاتي في حجوركم» (2) ويمكن توجيهه بان المفهوم بعد غلبة وجوده في افراد ينصرف اليها ولا يحتاج في ذلك الى ذكر القيد، فذكر القيد وعدمه سيان، فهو بمنزلة القيد المساوي وسيجيء خروجه عن محل النزاع، وفيه منع انصراف المفهوم الى الافراد الغالبة فان ميزان الانصراف انس اللفظ عرفاً بالنسبة الى المعنى الخاص(3) وليس دائراً مدار الغلبة في الوجود.

ص: 202


1- الوسائل ومستدركه، الباب 8 من أبواب الدين والقرض.
2- سورة النساء، الآية 23.
3- الأولى في الجواب ان يقال علي تقدير تسليم الانصراف لا بد من أخذ المفهوم من المطلق أيضاً بملاحظة انصرافه إلى المقيد فان القيد المنصرف إليه بمنزلة المذكور نظير إضمار زيد في قولك دنف في جواب من قال كيف زيد إذ ليس المراد من الانصراف مجرد تطبيق المفهوم على مصداق خاص كيف وكثير اما لا ينطبق المفهوم في نظر المخاطب الا على الافراد الحاضرة عنده لكن مع بقاء دائرة المفهوم المنطبق على سعتها فميزان الانصراف ان يصير غلبة الوجود على حد كلما يذكر اللفظ كان في جنب مفهومه في ذهن كلّ من السامع والمتكلم مفهوم آخر مقدر كما أو تلفظ به فكما انه في صورة التلفظ القائل بالمفهوم يأخذ بالمفهوم فكذا الحال في صورة التقدير الحاصل من الانصراف فان قلت الانصراف موجب لتضييق دائرة المفهوم الأوّل بحيث يكون في البين مفهوم واحد مضيق لا ان هنا مفهومين أحدهما منضم إلى الاخر قلت كلا بل باب الانصراف باب تعدد الدال والمدلول فلهذا يكون اللفظ في فاقد القيد حقيقة بالوضع الأوّل (منه)

و يمكن ان يكون وجهه ان الورود مورد الغالب يخرج القيد عن اللغوية فلا يكون حينئد دليلاً على ارادة المفهوم، وفيه انه لو كان القول بالمفهوم من جهة الخروج عن اللغوية لما يصح القول به في كثير من الموارد، لوجود احتمال نكتة في ذكر القيد، وهذا في الحقيقة انكار للمفهوم للقضية، واثبات لها في بعض المقامات لقرينة خاصة، مع ان خروج القيد عن اللغوية يكفي فيه كونه دخيلاً في الحكم ولا يدل على الانحصار حتى يلزم منه العدم عند العدم.

توضيح محل النزاع في مفهوم الوصف

الثاني محل النزاع في المقام ما لو كان هناك موضوع محفوظ في كلتا الحالين، اعنى حال وجود الوصف وعدمه، فيدعى مدعى المفهوم دلالة القضية على عدم سنخ الحكم المتعلق بالموضوع المفروض فينحصر مورد النزاع فيما تخلف الموصوف عن الوصف، وهو في الاوصاف التي تكون اخص من الموصوف او اعم من وجه في مورد تخلف الموصوف، كما اشرنا في المبحث السابق الى ان الموارد التي يكون الشرط محققاً للموضوع ليست محلا للبحث ففي مثل قولنا : «في الغنم السائمة زكاة» لو قلنا بالمفهوم نقول بدلالته على نفى الزكاة في الغنم المعلوفة، واما الابل فان قلنا بان في سائمتها زكاة فمن جهة فهم المناط، وان العلة لاصل الزكاة السوم، فيجرى المعلول في غير المذكور تبعاً للعلة، وان قلنا بدلالة القضية المذكورة على عدم الزكاة في معلوفة الابل فمن جهة حصر مناط اصل الزكاة في السوم، ولا دخل لشيء مما ذكر بمفهوم الوصف المدعى كما لا يخفى.

ص: 203

في مفهوم الغاية و اختلاف الأقوال فيها و بيان الحقّ فيها

و من المفاهيم التي وقع الاختلاف فيها مفهوم الغاية، و المنسوب الى المشهور دلالة الغاية المذكورة في القضية على ارتفاع الحكم، والى جماعة منهم الشيخ والسيد (قدّس سرُّهما) عدم الدلالة والحق ان يقال: ان الغاية بحسب القواعد العربية تارة تكون غاية للموضوع واخرى تكون غاية للحكم، الاول مثل سر من البصرة الى الكوفة، والثاني مثل اجلس من الصبح الى الزوال، ففي الاول حالها حال الوصف في عدم الدلالة وان كان تحديد الموضوع بها يوجب انتفاء الحكم المذكور في القضية عند حصولها، لكن قد مر أن هذا ليس قولاً بالمفهوم، وفي الثاني الظاهر الدلالة فان الغاية جعلت بحسب مدلول القضية غاية للحكم المستفاد من قوله اجلس، وقد حققنا في محله ان مفاد الهيأة انشاء حقيقة الطلب لا الطلب الجزئى الخارجي، فيكون الغاية في القضية غاية الحقيقة الطلب المتعلق بالجلوس، ولازم ذلك ارتفاع حقيقة الطلب عن الجلوس عند وجودها، نعم لو قلنا: ان مفاد الهيأة هو الطلب الجزئى الخارجي فالغاية لا تدل على ارتفاع سنخ الوجوب، وبعبارة اخرى لا اشكال في ظهور قولنا اجلس من الصبح الى الزوال في ان الزوال غاية للطلب المستفاد من قولنا اجلس، فان جعلنا مفاد الهيأة حقيقة الطلب المتعلق بالجلوس فمقتضى جعل الغاية لها ارتفاعها عند تحقق الغاية، وان جعلنا مفادها هو الطلب الجزئى فلازم ذلك ارتفاع ذلك الطلب الجزئى، ولا ينافي وجود جزئى آخر بعد الغاية وحيث ان التحقيق هو الأول تكون القضية ظاهرة في ارتفاع سنخ الحكم عن الجلوس في المثال هذا(1)

ص: 204


1- يمكن ان يقال بمنع المفهوم حتّى فيما أخذ فيه الغاية قيد للحكم كما في اجلس من الصبح إلى الزوال لمساعدة الوجدان على انا لو قلنا بعد الكلام المذكور وان جاء زيد فاجلس من الزوال إلى الغروب فليس فيه مخالفه لظاهر الكلام الأوّل فهذا يكشف عن ان المغيا ليس سنخ الحكم من أي علة تحقق بل السنخ المعلول لعلة خاصة سواء كانت مذكورة كما في ان جاء زيد فاجلس من الصبح إلى الزوال أم كانت غير مذكورة فإنه مع عدم الذكر أيضاً تكون لا محاله هنا علة يكون الحكم المذكور مسببا عنها (منه)

هل الغاية داخلة في المغتى أم لا ؟

و في المقام نزاع آخر وهو ان الغاية هل هي داخلة في المغ_ي_ّى او خارجه عنها؟ والتحقيق في هذا المقام ان الغاية التي جعلت محلا للكلام في هذا النزاع لو كان المراد منها هو الغاية عقلا اعنى انتهاء الشيء فهذا مبنى على بطلان الجزء الغير القابل للتقسيم وصحته، فان قلنا بالثاني فالغاية داخلة في المغيى يقيناً فان انتهاء الشيء على هذا عبارة عن جزئه الاخير فكما ان باقي الاجزاء داخلة في الشيء كذلك الجزء الاخير وان قلنا بالاول فالغاية غير داخلة لانها حينئذ عبارة عن النقطة الموهومة التى لا وجود لها في الخارج، وان كان محل النزاع هو مدخول حتى والى، وان لم يكن غاية حقيقة، فانه قد يكون شيئاله اجزاء متصلة، كالكوفة في قولنا سر من البصرة الى الكوفة، والليل في قولنا صم من الفجر الى الليل، فالحق التفصيل بين كون الغاية قيداً للفعل كالمثال الاول وبين كونها غاية للحكم كالمثال الثاني، ففي الاول داخلة في المغيى، فان الظاهر من المثال المذكور دخول جزء من السير المتخصص بالكوفة في المطلوب، كما ان الظاهر منه دخول السير المتخصص بالبصرة ايضاً في المطلوب، وفي الثاني خارجة عنه فان المفروض انها موجبة لرفع الحكم فلا يمكن بعثه الى الفعل المتخصص بها كما لا يخفى.

في مفهوم الاستثناء و أنه يدل على الحصر

و من جملة ما يستفاد منه الحصر الجملة الملحوقة باداة الاستشاء، ولا شبهة في انها تدل على اختصاص الحكم بالمستثنى منه وثبوت نقيضه للمستثنى، ولذا

ص: 205

يكون الاستثناء من الاثبات نفياً ومن النفى اثباتاً، وذلك للانسباق والتبادر القطعي.

و نسب الخلاف الى ابي حنيفة (1) ولعله يدعى ان الاستثناء لا يدل الا على ان المستثنى لا يكون مشمولاً للحكم المنشأ في القضية، واما ثبوت نقيضه له في الواقع فلا، ويقرب هذا المدعى القول بان الاسناد انما يكون بعد الاخراج، اذ على هذا حاله حال التقييد، وقد عرفت أنّ التقييد لا يدل الا على تضيق دائرة الموضوع في القضية، وكيف كان يدل على خلاف ما ذهب اليه التبادر القطعي.

و احتج على مذهبه بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): (لا صلاة الا بطهور) (2) اذ لو كان الاستثناء من النفى اثباتاً للزم كفاية الطهور في صدق الصلاة وان كانت فاقدة لباقى الشرائط، وفيه او لا ان الملحوظ في القضية هو المركب المشتمل على تمام ما اعتبر فيه سوى الطهور ونفيت حقيقة الصلاة او هي بقيد التمام عنه الا في مورد تحقق الطهور، وثانياً على فرض التجوز في مثل التركيب المزبور لا يضرنا بعد شهادة الوجدان القطعي على ما ادعينا. و مما استدل به على ما ذكرنا من المعنى قبول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اسلام من قال كلمة لا اله الا اللّه، اذ لو لم يدل الاستثناء من النفي على الاثبات في المستثنى لما كانت هذه الكلمة بمدلولها دالة على الاعتراف بوجود الباري عز شأنه، والقول بان هذه الدلالة في كل مورد كانت مستندة الى قرينة خاصة بعيد غاية البعد بل المقطوع خلافه كالقطع بخلاف ان هذه الكلمة

ص: 206


1- لا يخفى ان هنا مقامين أحدهما ان كلمة الا هل تدل على الإخراج وإثبات نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى أولاً والثاني بعد دلالتها على الإخراج هل تدل على الحصر حتّى يكون منشأ لأخذ المفهوم بالنسبة إلى غير المستثنى من سائر الافراد أولاً وأبو حنيفة انما خالف في المقام الأوّل فعده من المخالفين في استفادة الحصر لا وجه له (منه)
2- الوسائل، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1 ج 1، ص 256.

كانت سبباً لقبول الاسلام شرعاً مع قطع النظر عن مدلولها، هذا، وهذا الاستدلال وان كان حسناً لكن لا يحتاج اليه بعد كون المعنى الذي ذكرنا متبادراً قطعياً من القضية.

رفع إبهام عن كلمة التوحيد

و هنا اشکال آخر معروف و هو ان الخبر المقدر للفظة «لا» النافية للجنس، اما موجود واما ممكن وعلى اى حال لا يدل الاستثناء على التوحيد الذي هو عبارة عن الاعتقاد بوجود البارى ونفى امكان الشريك له «عز شأنه» فانه، على الاول الاستثناء يدل على حصر وجود الآلهة في البارى جل وعلا، ولا يدل على نفى امكان الشريك له جل شأنه، وعلى الثاني يدل على اثبات الامكان لوجوده تعالى شانه، لا على وجوده تعالى، ولا يدفع هذا الاشكال جعل «لا» تامة غير محتاجة الى الخبر، فانه على هذا ايضاً تدل القضية على نفى الآلهة واثبات الباري جل اسمه ولا تدل على عدم امکان غیره.

و يمكن ان يجاب بان المراد بالاله المنفى هو خالق تمام الموجودات وبعد نفي هذا المعنى مطلقاً واثباته في الذات المقدسة يلزم ان يكون كل موجود سواه جل جلاله مخلوقاً له، ولا يمكن مع كونه مخلوقاً ان يكون خالقاً، فحصر وجود الاله في البارى جل وعلا يدل بالالتزام البين على عدم امكان غيره تعالى، فافهم. بقى هنا شيء، و هو ان الدلالة التي اشرنا اليها هل هي داخلة في المنطوق او المفهوم، وهذا وان كان خالياً عن الفائدة اذ ليسا بعنوانهما مورداً لحكم من الاحكام الا انه لا باس بذكر ذلك.

هل دلالة الاستثناء على الحصر داخلة في المنطوق أو المفهوم

فنقول : قولنا اكرم العلماء الا زيداً يشتمل على عقد ايجابي وسلبى، ودلالة العقد الايجابي بعد خروج زيد على وجوب اكرام باقي العلماء دلالة المنطوق، ودلالة العقد السلبي على اثبات نقيض ذلك الحكم في المستثنى دلالة المفهوم، اذ هي لازمة لخروج المستثنى عن تحت الحكم المتعلق بالمستثنى منه، كما ان دلالته على حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي وحصر مورد نقيضه في المستثنى ايضاً داخلة في المفهوم، فان ذلك كله لازم المعنى المستفاد من اداة الاستثناء

ص: 207

بالمطابقة، وهو خروج المستثنى عن تحت الحكم السابق على وجه الحصر، وان جعلنا كلمة «الا زيداً» قرينة على ارادة وجوب اكرام الباقي على وجه الحصر من العقد الايجابي فتكون دلالة العقد الايجابي للقضية على حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي داخلة في المنطوق ودلالته على ثبوت نقيضه للمستثنى داخلة في المفهوم المستفاد من حصر وجوب الاكرام في غيره، ويحتمل بعيداً ان يكون الحصر مستفاداً من تركيب العقد الايجابي مع السلبي، بمعنى ان حصر مورد وجوب الاكرام في الباقي يستفاد من نفى وجوب اکرام زيد المستفاد من الاستثناء، وكذا حصر مورد نفى الوجوب في زيد يستفاد من وجوب اكرام باقى العلماء المستفاد من قوله اكرم كل عالم فتدبر.

هل كلمة «انما» تدل على الحصر أم لا؟

و من جملة ما ذكروه في عداد ما يفيد الحصر كلمة انما، وقد ارسله النحاة ارسال المسلم في كلماتهم وقالوا ان ذلك اعنى افادته الحصر جوز انفصال الضمير في مثل قول الفرزدق.

ان___ا ال_ذائ_د الح__ام___ى ال_____ذم______ار وان_______ا ***يدافع عن احسابه انا او مثلى

كما جاز في قولنا، ما يدافع عن احسابهم الا انا او مثلى، ونقل تصريح اهل اللغة ايضاً بافادته الحصر.

و الانصاف كما اعترف به في التقريرات عدم حصول الجزم بذلك : اما اولا فلعدم وجود ما يرادفه في عرفنا حتى نستكشف الحال منه بمراجعة الوجدان، واما ثانياً فنحن متى راجعنا مواقع استعمال هذه الكلمة في كلمات الفصحاء لم نجد موضعاً الا ويمكن المناقشة في استفادة الحصر من هذه الكلمة، لاجل قيام القرينة المقامية على الحصر او غيرها من تقديم ما حقه التاخير او غير ذلك بحيث لو حذف لفظة انما عن الكلام لدلت القرائن على الحصر ايضاً، ولذا يستفاد الحصر من قولنا : يدافع عن احسابهم انا او مثلى» بقرينة عطف او مثلى، وهذا هو المجوز لانفصال الضمير الا ترى انه لو فرض مورد خال عن جميع

ص: 208

تلك القرائن كما في قولك : «انما زيد قائم» لا يفهم منه الحصر، وانما المستفاد هو التأكيد، واما ارساله في كلمات النحاة من المسلمات وكذا تصريح اهل اللغة فلا يجدي شيء منهما في افادة القطع، خصوصاً مع ذكر التعليلات العليلة في كلامهم، نعم الذي يمكن الجزم به ان مفاد تلك الجملة المصدرة بانما حصرا كان او غيره يصير آكد بواسطة تصديرها بهذه اللفظة، واين هذا من افادة الحصر؟(1).

ص: 209


1- البحث عن كلمة «انما» ممّا زيد في الطبعة الثالثة، وهو بعينه موجود في تعليقات المؤلف «قدّس سرُّه» الموجودة عند آية اللّه العظمى الأراكي مدّ ظلّه العالي بعنوان انه زيد في المتن. «المصحح».

المقصد الخامس: في العام والخاص

في أنّ العموم قد يستفاد من اللفظ و تارةً من القضية وأخرى من الاطلاق

اعلم ان العموم قد يستفاد من جهة وضع اللفظ كلفظ الكل وما يرادفه، وقد يستفاد من القضية عقلاً كالنكرة الواقعة في سياق النفى او اسم الجنس الواقع في سياق النفى، حيث ان نفى الطبيعة مستلزم لنفى افرادها عقلاً، وقد يستفاد من جهة الاطلاق مع وجود مقدماته كالنكرة في سياق الاثبات او اسم الجنس كذلك، والعموم المستفاد من الاطلاق قد يكون بدليا، وقد يكون استغراقياً حسب اختلاف المقامات.

في بيان الاشكال على ألفاظ العموم و دفعه

اما الاشكال فهو انه ليس لنا لفظ يدل على العموم بحيث يستغنى عن التشبث بمقدمات الحكمة، فان الالفاظ الدالة على العموم كلفظة الكل وامثالها تابعة لمدخولها فان اخذ مطلقا فالكل يدل على تمام افراد المطلق، وان اخذ مقيداً فهو يدل على تمام افراد المقيد والمفروض ان مدخول الكل ليس موضوعاً للمعنى المطلق كما انه ليس موضوعاً للمعنى المقيد، بل هو موضوع للطبيعة المهملة الغير الآبية عن الاطلاق والتقييد، فحينئذٍ قول المتكلم «كل عالم» لا يدل على تمام افراد العالم الا اذا احرز كون العالم الذي دخل عليه لفظ الكل مطلقاً ومع عدم احرازه يمكن ان يكون المدخول هو العالم العادل مثلاً فيكون لفظ الكل دالاً على تمام افراد ذلك المقيد، ولذا لو صرح بهذا القيد لم يكن تجوزاً اصلاً، لا في لفظ العالم ولا في لفظ الكل، وهو واضح واما النكرة في سياق النفى وما في

ص: 210

حكمها فلا يقتضى وضع اللفظ الا نفى الطبيعة المهملة، وهي تجامع مع المقيدة كما انها تجامع مع المطلقة، والمحرز لكون الطبيعة المدخولة للنفي هي المطلقة لا المقيدة ليس الا مقدمات الحكمة، كما ان المحرز لكون الطبيعة المدخولة للفظ الكل مطلقة ليس الا تلك المقدمات، اذ بدونها يردد الامر بين ان يكون النفى وارداً على المطلق وان يكون وارداً على المقيد.

و اما الدفع: فهو ان الظاهر من جعل مفهوم مورداً للنفى او اللفظ الدال على العموم كون ذلك المفهوم بنفسه مورداً لاحدهما، لا انه اخذ معرفاً لما يكون هو المورد، ولا اشكال في ان ورود الكل على نفس مفهوم لفظ العالم مثلاً يقتضى استيعاب تمام الافراد، كما انه لا اشكال في ان ورود النفي عليه يقتضي نفى تمام الافراد.

نعم يمكن كون الرجل في قولنا لا رجل» في «الدار مع_رف_اً لفرد خاص منه ويكون النفى وارداً عليه، ولكن هذا خلاف ظاهر القضية، فان الظاهر ان مفهوم لفظ الرجل بنفسه مورد للنفى، ولا يرد انه بناء على هذا الظهور يلزم عدم الاحتياج الى مقدمات الحكمة في الحكم الايجابي أيضاً.

توضيح الاشكال ان ظاهر القضية الحاكية لتعلق الايجاب بالطبيعة انها بنفسها مورد للحكم لا بما هى معرفة لصنف خاص منها، لعين ما ذكر في القضية المنفية، ولازم تعلق الحكم بالطبيعة بنفسها سريانه في كل فرد، فلا يحتاج فهم العموم من القضية الى مقدمات الحكمة، وبيان دفعه ان المهملة تصدق على وجود خاص حقيقة فان كان الثابت في نفس الامر الحكم المتعلق بوجود خاص منها يصح نسبة الحكم اليها حقيقة، فاسراء الحكم الى تمام الافراد لا يقتضيه وضع اللفظ، بل يحتاج الى المقدمات، وهذا بخلاف النفي المتعلق بالطبيعة المهملة، فانه لا يصح الا اذا لم تكن متحققه اصلاً، اذ لوصح نفى الطبيعة مع وجود فرد خاص منها لزم اجتماع النقيضين.

و محصل الكلام انه لا شك في ان قولنا كل رجل وقولنا لا رجل يفيدان

ص: 211

العموم من دون احتياج الى مقدمات الحكمة (1)والسر في ذلك ما قلنا، ولو لا ذلك لما دل قولنا «اكرم العالم مطلقاً» ايضاً على الاطلاق اذ الاطلاق ايضاً امر وارد على مفهوم لفظ العالم والمفروض انه مهملة يجتمع مع المقيد، ولذا لو قال: اكرم العالم العادل مطلقاً لم يكن تجوزاً قط، كما ذكرنا في تقرير الشبهة في مدخول لفظ الكل والنفي، ولا شبهة في ان العرف والعقلاء لا يقفون عند سماع هذا الكلام ولا يطلبون مقدمات الحكمة في مفهوم لفظ العالم الذي ورد الاطلاق عليه، ولعل هذا من شدة وضوحه خفى على بعض الاساتيذ، فتدبر فيما ذكرنا.

في أن العام المخصص حجّة في الباقي

فصل: لا شبهة ان العام المخصص سواء كان بالتخصيص المتصل ام المنفصل حجة في الباقي، وان كان قد يفرق بينهما من بعض جهات أخر كما يأتى ان شاء اللّه تعالى.

و الدليل على ذلك ان التخصيص لا يستلزم التجوز في العموم حتى يبحث في انه بعد رفع اليد عن معناه الحقيقى هل الباقى اقرب المجازات او هو متساو مع سائر المراتب الى ان تنتهى الى مرتبة لا يجوز التخصيص اليها، لان التخصيص ان كان متصلاً فان كان من قبيل القيود والاوصاف فهو تضييق لدائرة الموضوع، وان كان من قبيل الاستثناء فهو اما اخراج عن الموضوع قبل الحكم واما اخراج عن الحكم فيستكشف ان شمول العام له من باب التوطئة والارادة الصورية الانشائية لا الجدية، وعلى كل حال ليس حمل العام على باقى الافراد تجوزاً فيه، بل ظهوره انعقد واستقر في الباقي من اول الامر وان كان التخصيص منفصلاً

ص: 212


1- والحاصل انه فرق بين ان يكون المدخول مجملا مرددا بين المطلق والمقيد فيحتاج إلى المقدمات أو مهملا جامعا فيكفي لفظه الكل في تعيين الإطلاق (منه).

فالظاهر انه يكشف عن عدم كون الخاص مراداً في اللب مع استعمال لفظ العام في عمومه في مرحلة الاستعمال باحد الوجهين الذين ذكرا في المتصل، ولا يخفى ان هذا الظهور الذي يتمسك به الحمل العام على الباقي ليس راجعاً الى تعيين المراد من اللفظ في مرحلة الاستعمال بل هو راجع الى تعيين الموضوع للحكم جداً، فان جعلنا المخصص كاشفاً عن عدم كون الخاص موضوعاً للحكم في القضية فنقول: مقتضى الاصل العقلائى كون المعنى الذي القى الى المخاطب مورداً للحكم في القضية بتمامه واذا علمنا عدم دخول جزء منه تحت الحكم فقتضى الاصل دخول الباقى وان جعلناه كاشفاً عن عدم كونه مورداً للحكم الجدى بعد شمول الحكم الانشائى المجعول في القضية له فنقول مقتضى الاصل كون الارادة المنشأة في القضية مطابقة مع اللب وخرج عن تحت هذا الاصل الارادة المنشأة في القضية المتعلقة بالخاص فبقى الباقى، هذا.

لكن لا يخفى ان هذا انما يجرى في العام الاستغراق حيث انه ينحل الى ارادات عديدة متعلقة بموضوعات كذلك فخروج واحدة منها عن تحت الاصل المذكور لا يضر بالباقي، واما المجموعى حيث ان الارادة فيه واحدة فينحصر وجه حمله على الباقى بعد خروج البعض في الاول فتدبر فيه.

احتج النافي لحجية العام في الباقي بالاجمال لتعدد المجازات حسب مراتب العام وتعيين مرتبة خاصة تعيين بلا معين وقد اجيب بان الباقي اقرب المجازات، وفيه ان المدار ليس على الاقربية بحسب الكم والمقدار (1) بل المعيار الاقربية بحسب زيادة الانس الناشئة عن المناسبة الخاصة : بين المعنيين.

ص: 213


1- والإنصاف ان الأقربية بحسب الكم موجبه لزيادة الأنس الا ترى انه قد تصل زيادة الخارج إلى حد موجب للاستهجان. ان قلت هذا في العام المجموعي صحيح دون الاستغراقي. قلت: الاستغراقي أيضاً متحد مع المجموعي في أصل المعنى فيجيء عليه أيضاً ما قلناه في المجموعي (منه).

و في تقريرات شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) ما محصله ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الآخر، ولو فرض كون دلالة العام على الباقي دلالة مجازية فمجازيته انما هي بملاحظة عدم شموله للافراد المخصوصة لا لشموله لباقي الافراد، فالمقتضى لحمله على الباقي موجود والمانع مفقود لاختصاص المخصص بغيره انتهى ملخص كلامه (قدّس سرُّه) (1)

ولا يخفى ما فيه اذ الدلالة المستفادة من القضية المشتملة على لفظ الكل مثلاً على كل فرد انما هي من جهة السور المحيط بتمام الافراد الدال عليه لفظ الكل حقيقة، وبعد فرض صرف اللفظ عن هذا المعنى واستعماله في معنى آخر لا يعلم ان ذلك المعنى المجازي هل هو معنى محيط بالباقي او الاقل، وبعبارة اخرى ليس كل فرد مستقلاً مدلولاً ابتدائياً للفظ الكل حتى يكون له مداليل متعددة فيجب حفظ ما لم يعلم خلافه، بل الانتقال الى كل فرد مستقلاً انما هو ببركة ذلك المعنى الواحد الذي جعل مرآة لملاحظة حال الافراد، وبعد رفع اليد عن هذا المعنى من اين لنا طريق الى ثبوت الباقي والاولى في الجواب ما قررنا.

التمسك بالعام في المخصص المجمل

فصل: اذ اخصص العام بمخصص و كان مردداً بين المتبائنين يسقط عن الاعتبار في كليهما، سواء كان المخصص متصلاً ام منفصلاً، وسواء كان الترديد من جهة الشبهة في المفهوم ام في المصداق.

و اما اذا خصص بشيء مردد بين الاقل والاكثر فان كان من جهة الشبهة في المصداق فسيأتى الكلام فيه، وان كان من جهة الشبهة في المفهوم فلا اشكال في سراية اجماله الى العام لو كان المخصص متصلاً، لان المجموع كلام واحد، ولا يتم ظهوره الا بعد تماميته وخلوه عن الصارف اما بالقطع واما باصالة عدمه،

ص: 214


1- مطارح الأنظار، الهداية الاولى بحث العموم والخصوص، ص ١٩٦.

وليس احدهما في المقام، اما الاول فواضح واما الثاني فلعدم بناء العقلاء على التشبث بها بعد وجود ما يصلح لان يكون صارفاً.

و اما اذا كان منفصلاً فقد استقر بناء مشايخنا على التمسك بالعموم في الفرد المشكوك انطباق عنوان المخصص عليه، واستدلوا على ذلك بان العموم قد تم واستقر ظهوره في كل فرد اما بالقطع بعدم المخصص المتصل، واما بواسطة الاصل، حيث انه شك في اصل وجوده فهو حجة في نفسه، ولا يرفع اليد عنها الا بحجة اخرى اقوى منها والمخصص المجمل المردد بين الاقل والاكثر بحسب المفهوم ليس حجة الا في القدر المتيقن، وفي هذا المقدار يرفع اليد عن ظهور العام : قطعاً، واما الزائد فليس المخصص حجة فيه، فرفع اليد عن العموم فيه طرح للحجة المستقرة من دون معارض.

و فيه نظر لامكان ان يقال: انه بعد ما صارت عادة المتكلم جارية على ذكر التخصيص منفصلاً. عن كلامه فحال المخصص المنفصل في كلامه حال المتصل في كلام غيره، فكما انه يحتاج في التمسك بعموم كلام سائر المتكلمين الى احراز عدم المخصص المتصل اما بالقطع واما بالاصل، كذلك يحتاج في التمسك بعموم كلام المتكلم المفروض الى احراز عدم المخصص المنفصل ايضاً، فاذا احتاج العمل بالعام الى احراز عدم التخصيص بالمنفصل فاللازم الاجمال فيما نحن فيه، لعدم احراز عدمه لا بالقطع ولا بالاصل، اما الاول فواضح، واما الثاني فلما مضى من ان جريانه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لان يكون مخصصاً، والمسألة محتاجة الى التامل(1).

ص: 215


1- والإنصاف خلاف ما ذكرنا ووجهه انه لو صح ما ذكر لما جاز تمسك أصحاب الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بكلام امام زمانهم لأنه كالتمسك بصدر كلام متكلم قبل مجيء ذيله فحيث جرى ديدنهم على التمسك دل ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الإمام اللاحق كصدر الكلام الواحد الصادر في المجلس الواحد مع ذيله غاية الأمر لو فرض صدور الحكم المخالف من الإمام اللاحق كشف ذلك عن كون مؤدى العام السابق حكما ظاهريا بالنسبة إلى أهل ذلك الزمان أعني ما قبل صدور الخاص (منه).

و لو كان المخصص مجملاً بحسب المصداق بان اشتبه فرد وتردد بين ان يكون فرداً للعنوان الخاص او باقياً تحت عموم العام فلا اشكال في عدم جواز التمسك بالعام فيما اذا كان المخصص متصلاً بالكلام، لعدم انعقاد ظهور العام من اول الامر الا في غير مورد العنوان الخاص.

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص

و اما اذا كان المخصص منفصلاً فقد يتوهم جواز التمسك به فيما شك انطباق العنوان الخاص عليه بعد انطباق العنوان العام عليه قطعاً، وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب ذلك ان قول القائل اكرم العلماء يدل بعمومه الافرادي على وجوب اكرام كل واحد من العلماء، وباطلاقه على سراية الحكم الى كل حالة من الحالات التي تفرض للموضوع، ومن جملة حالاته كونه مشكوك الفسق والعدالة، كما انه من جملة حالاته كونه معلوم العدالة او معلوم الفسق، وبقوله لا تكرم الفساق من العلماء قد علم خروج معلوم الفسق منهم، ولا يعلم خروج الباقي فمقتضى اصالة العموم والاطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم.

لا يقال : ان قوله لا تكرم الفساق من العلماء قد اخرج الفاسق الواقعي من الحكم لا الفاسق المعلوم، فالفرد المردد لو صدق عليه عنوان الخاص محكوم بحكمه واقعاً، فكيف يجتمع هذا الحكم مع الحكم الذي أتى من قبل العام.

لانا نقول : حال الحكم الواقعي المفروض مع الحكم الذي أتى من قبل العام حال الاحكام الواقعية مع الاحكام المتعلقة بالشيء في حال الشك، فالكلام في المقام هو الكلام فيها اشكالاً ودفعاً.

و فيه ان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي انما هو من جهة ان الشك في احدهما ماخوذ في موضوع الحكم الآخر (1)، وليس شمول العام للفرد حال كونه

ص: 216


1- ان قلت هذا على تقدير القول بطولية الحكم الظاهري بالنسبة إلى الواقع واضح الورود واما على القول بشأنية الواقعي فلا لإمكان ان يكون الحكم في بعض افراد العام بملاك الشك وفي الاخر بملاك آخر. قلت: بعد ورود لا تكرم الفساق يصير العام في حكم أكرم العلماء الغير الفساق وكما لا يجوز التمسك ح بعمومه الفردي في الفرد المشكوك الفسق كذلك لا يجوز بإطلاقه لأن انعقاد الظهور الإطلاقي متفرع على حجّية العام في العموم الأفرادي (منه).

مشكوك العدالة والفسق بلحاظ كونه مشكوك الحكم، لعدم امكان ملاحظة الشك في حكم المخصص موضوعاً في الدليل المتكفل لجعل الحكم الواقعي، للزوم ملاحظة حال الشك اطلاقاً وقيداً، وهما ملاحظتان متبائنتان، فحينئذ لا يمكن الجمع بين كون الفرد المشكوك الفسق واجب الاكرام، ولو كان فاسقاً في الواقع، وبين عدم وجوب اكرام كل فاسق في الواقع كما هو مفاد المخصص، فالفرد المشكوك لو كان عادلاً يجب إكرامه بحكم العموم ولو كان فاسقاً لا يجب بحكم المخصص وتعيين ان الفرد المذكور هل هو عادل او فاسق ليس على عهدة احد الدليلين، بل قد يكون المتكلم بكلا الدليلين ايضاً شاكاً، فلا معنى للتمسك باصالة العموم لتعيين مراده، كما هو واضح.

و بعبارة اخرى بعد خروج الفساق في الواقع من قوله اكرم العلماء يبقى حجية العام بالنسبة الى العلماء الغير الفساق فكأنه ورد من اول الامر كذلك، فكما انه لو ورد من اول الامر مقيداً بعدم الفسق اذا شككنا في عدالة فرد من العلماء وفسقه لم يكن للتمسك بالعموم مجال كذلك لوورد المخصص بعد صدور العام بصورة العموم.

نعم لو ظهر من حال المتكلم(1) ان تكلمه بالعموم مبنى على الفحص عن

ص: 217


1- بل ولو لم يظهر وكان محتملا فان معيار صحة الرجوع إلى كلام المتكلم صحة السؤال عن نفسه بما هو متكلم ومع الاحتمال يصح السؤال فيصح الرجوع. لا يقال: ينافي هذا مع القول بان المخصص المنفصل سواء كان لفظيا أم لبياً يوجب كالمتصل تقييد عنوان القيام في مقام الحجّية بحسب الكبرى ومن المعلوم ان الشك في مرحلة الصغرى لا يرجع فيه إلى عموم الكبرى. لأنا نقول: انما نسلم ذلك في القيد المنفصل مع القطع بعدم ابتناء عموم الكبرى على الفحص عن الصغريات واما مع الانفصال والاحتمال فلا نسلم التقييد في العام بحسب الكبرى لكن هذه المرجعية باقية بعد وجدان الخلاف في مورد فيما عداه من الموارد أو انها ترتفع بعد ذلك إذ ينكشف بذلك عدم فحص المتكلم وقد كان مبنى الحجّية احتمال الفحص الحقّ ان يقال قد يكون حجيته العموم في المصداق المشتبه من باب احتمال فحص المتكلم ثمّ تكلمه مبنيا على ذلك بالعموم وهذا لا يتحقق الا في القضايا الخارجية دون الحقيقة فاللازم السقوط بواسطة وجدان اتصاف بعض الافراد وقد يكون الحجّية من باب احتمال طريقية عنوان العام وكشفه النوعي عن حال الافراد في نظر المتكلم وسوقه العموم مبنيا على هذه الجهة وهذا يتحقق في كلتا القضيتين كما في لعن اللّه بنى أمية قاطبة حيث يحتمل ان سوق هذا العموم مبنى على غلبة كون الانتساب إلى هذه الشجرة ملازما مع عدم إيمان صاحبه في نظر المتكلم فاللازم البقاء على الحجّية لأن العام ح من الطرق الظاهرية الّتي شأنها الخطاء تارة والإصابة أخرى (منه).

حال افراده و وضوح انه ليس من بينها ما ينطبق عليه عنوان الخاص، صح التمسك بالعموم واستكشاف ان الفرد المشكوك ليس داخلاً في الخاص، وهذا المخصصات اللبية غالباً، وقد يتحقق في اللفظية ايضاً، لكن بشرط كون النسبة بين الدليلين عموماً من وجه نظير الدليل على جواز لعن بني امية والادلة الدالة على حرمة سب المؤمن واما اذا كان المخصص الاخص مطلقاً فلا مجال لما ذكرنا قطعاً، ضرورة انه لو كان حال افراد العام مكشوفة لدى المتكلم وانه لا ينطبق عل احد منها عنوان المخصص لكان التكلم بالدليل الخاص لغواً.

و مما ذكرنا يظهر انه ليس المعيار في عدم جواز التمسك كون المخصص لفظياً، كما انه ليس المعيار في الجواز كونه لبياً، بل المعيار ماذكر، فتامل فيه.

في استصحاب العدم الأزلي

تنبيه: بعد ما عرفت سقوط العام عن الاعتبار فيما شك في انطباق عنوان

ص: 218

المخصص من جهة الشبهة في المصداق فالمرجع في الفرد المشكوك فيه الى الاصل المنقح للموضوع لو كان والا احدى القواعد الاخر من البرائة او الاحتياط او التخيير حسب اختلاف المقامات، وهذا لا اشكال فيه، كما انه لا اشكال في

انه لو كان له حالة سابقة مع حفظ وجوده وشك في بقائها يحكم بواسطة الاستصحاب بكونه محكوماً بحكم العام او الخاص.

و انما الكلام في انه لو لم يكن له حالة سابقة مع حفظ وجوده فهل يكفى استصحاب العدم الازلى المتحقق بعدم الموضوع في جعله محكوماً بحكم العام او لا؟ مثلاً اذا شك في امراة انها قرشية اولا فهل يصح استصحاب عدم قرشيتها والحكم بان الدم الذي تراه بعد الخمسين محكوم بالاستحاضة اولا؟ قد يقال بالصحة، نظراً الى ان الباق تحت العام لم يكن معنوناً بعنوان خاص، بل يكفى فيه عدم تحقق العنوان الخاص، وعدم الوصف لا يحتاج الى الموضوع الخارجي، ولذا قالوا: ان السالبة لا تحتاج الى وجود الموضوع بخلاف الموجبة، فالمرأة الموجودة لم تكن بقرشية قطعاً، فان النسبة بينها وبين قريش تتوقف على تحقق الطرفين، وعلى هذا كان احراز المشتبه بالاصل الموضوعي في غالب الموارد الا ماشذ ممكنا.

و فيه ان الاثر الشرعي لو كان مترتباً على عدم تحقق النسبة، او على عدم وجود الذات المتصفة او على عدم الوصف للذات مع تجريدها عن ملاحظة الوجود والعدم لصح الاستصحاب، لتحقق الموضوع المعتبر في باب الاستصحاب، واما لو كان الاثر مترتباً على عدم الوصف للموضوع مع عناية الوجود الخارجي فلا يمكن الاستصحاب الا بعد العلم بان الموضوع مع کونه موجوداً في السابق لم يكن متصفاً بذلك الوصف، واستصحاب عدم النسبة الى حين وجود الموضوع او استصحاب عدم تحقق الموضوع المتصف كذلك او استصحاب عدم الوصف للذات مع عدم ملاحظة الوجود والعدم كذلك لا يثمر في اثبات السالبة التي فرضناها موضوعة للاثر الا بالاصل المثبت ولا يبعد كون

ص: 219

المثال من قبيل الاول (1).

تذنيبات

في عدم إمكان إحراز الموضوع من عموم العام

الأول: لو اخذ في موضوع حكم رجحانه واستحبابه او جوازه من حيث هو كموضوع وجوب الوفاء بالنذر وكاطاعة الوالدين وامثال ذلك فلابد في الاستدلال بدليل ذلك الحكم من اثبات رجحان ذلك الموضوع او جوازه، ولا يمكن ان يستكشف ذلك من عموم الدليل المذكور فان التمسك بالعام يتوقف على احراز موضوعه وهذا واضح، لكنه نسب الى بعض التمسك بعموم دليل وجوب الوفاء بالنذر للحكم بصحة الوضوء والغسل المنذورين بمايع مضاف لو شك في صحته وبطلانه، وربما يؤيد ذلك ما ورد من صحة الاحرام قبل الميقات والصيام في السفر اذا تعلق بهما النذر ويؤيده ايضاً حكمهم بصحة النافلة في وقت الفريضة اذا تعلق بها النذر.

عدم جواز التمسك بالعام اذا شك لا من جهة تخصيصه

و الحق انه لا يجوز التمسك بالعام فيما شك من غير جهة تخصيصه، والوضوء والغسل بالمايع المضاف لو كانا باطلين لم يلزم تخصيص في دليل النذر، فكيف يستكشف صحتهما من عموم دليل النذر واما صحة الصوم في السفر بعد النذر والاحرام قبل الميقات كذلك بعد وجود الدليل على ذلك فبالجمع بين الدليل

ص: 220


1- توضيح ذلك انه قد يستظهر من مناسبة الحكم والموضوع في بعض المقامات ان التأثير والفاعلية ثابت للموضوع المفروغ عن وجوده عند اتصافه بوصف كما في قضية إذا بلغ الماء قد كر لا ينجسه شيء ولهذا لا يجدى استصحاب عدم الكرية من الأزل وقد يستظهر من المناسبة المذكورة ان التأثير ثابت لنفس الوصف والموضوع المفروض وجوده انما اعتبر لتقوم الوصف به كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) المرأة ترى الدم إلى خمسين الا ان تكون قرشية حيث ان حيضية الدم إلى ستين انما هي من ناحية التولد من قريش لا ان المرأة لها هذه الخاصية بشرط التولد فانتفاء هذا الوصف موجب لنقيض الحكم ولو كان بعدم الموضوع ولهذا يكون استصحاب العدم الأزلي نافعا (منه).

المفروض ودليل الوفاء بالنذر اما باستكشاف رجحانهما الذاتي (1) وانما المانع في تعلق الامر الاستحبابى او الوجوبي بالعنوان الاولى واما بصيرورتهما راجحين بنفس النذر بعد ما لم يكونا كذلك، لكشف دليل صحتهما عن عروض عنوان راجح ملازم لتعلق النذر بهما، واما بالالتزام بالتخصيص في عموم دليل النذر المقتضى لعدم انعقاده الا فيما اذا كان المنذور راجح_اً، وعلى الاخير يقصد التقرب بامتثال امر النذر، ولا يضر تحقق القدرة بنفس الامر، كما حقق في محله، واما صحة النافلة في وقت الفريضة بالنذر وان قلنا بكونها محرمة بدونه فلان النذر مخرج لها عن موضوع الحرمة، فلا مانع لرجحانها حينئذ فيعمها دليل الوفاء بالنذر.

ان قلت: خروج النافلة المفروضة عن كونه_ا مح_رم_ة يتوقف على ت_ع_ل_ق الوجوب بها، وهو يتوقف على خروجها عن كونها محرمة، وهذا دور.

قلت: خروجها عن موضوع الحرمة لا يتوقف على تعلق الوجوب الفعلي، بل يكفى كونها بحيث لولا جهة عروض الحرمة لكانت واجبة وهذه القضية التعليقية متحققة بالنذر قطعاً، ووجه خروجها بعد صدق هذه القضية التعليقية عن موضوع الحرمة ان النافلة المحرمة هي النافلة التي لو لا عروض جهة الحرمة كانت متصفة بالنفل الفعلي، فتدبر فيه جيداً.

الثاني: لو ورد عام و علمنا بعدم كون فرد محكوماً بحكم العام ولكن نشك في كونه فرداً له حتى يكون تخصيصاً، أو ليس بفرد له، مثلاً ل_و علمنا بعدم وجوب اكرام زيد ونشك في انه عالم حتى يكون تخصيصاً في العام المقتضى

ص: 221


1- فيه ان مطلق الرجحان الذاتي وان لم ينضم اليه الامر التشريعي غير كاف في صحة النذر لعدم تحقق الطاعة مع عدم الجعل المذكور وما لم يتحقق الطاعة لم ينعقد النذر الا ترى عدم صحة نذر صلاة الظهر في أربع ركعات من آخر الوقت ومن هنا يظهر الإشكال في صحة نذر النافلة في وقت الفريضة فينحصر الجواب في سائر الأمثلة في الوجه الأخير وهو التخصيص (منه).

لوجوب اكرام العلماء او ليس بعالم فهل يحكم بواسطة عموم العام بعدم دخول ذلك الفرد المعلوم الحكم في افراد العام او لا؟.

يظهر من كلماتهم التمسك باصالة عموم العام واستكشاف ان الفرد المفروض ليس فرداً له، اذ بعد ورود الدليل على وجوب اكرام كل عالم يصح ان يقال: كل عالم يجب اكرامه وينعكس بعكس النقيض الى قولنا : كل من لا يجب اكرامه ليس بعالم، وهو المطلوب، ومن ذلك استدلالهم على طهارة الغسالة بانها لا تنجس المحل، فان كانت نجسة غير منجسة لزم التخصيص في قضية «كل نجس ينجس» وامثال ذلك غير عزيز في كلماتهم وكلمات شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»، هذا.

و لكن للتأمل فيه مجال لامكان ان يقال: ان التمسك باصالة عدم التخصيص عند العقلاء مخصوص بحال الشك في ارادة المتكلم، فلو كان المراد معلوماً ويشك في كيفية استعمال اللفظ لم يُعلم من بناء العقلاء التمسك بها، وهذا نظير ما يقال من ان الاصل في الاستعمال الحقيقة عند تميز المعنى الحقيقى من المجازي والشك في ارادة المعنى الحقيقي، واما لو علمنا بمراد المتكلم ولم تعلم بانه معنى حقيقى لللفظ او مجازي فبناء المشهور على عدم التمسك باصالة الحقيقة، وبالجملة يمكن التفكيك بين الموردين في التمسك، وبعد امكان ذلك يكفى في عدم جواز التمسك الشك في بناء العقلاء(1).

في استكشاف العلّة من التمسك بالعام في الموارد المشكوكة

الثالث: الحكم المتعلق بالعام اذا علل بعلة لو علم بعدم العلة في بعض افراد العام يقيد مورد الحكم بغيره، واما لو شك في ذلك فيتمسك بظاهر العموم ويستكشف وجود العلة في الافراد المشكوك فيها ومن هنا علم ان تقييد مورد

ص: 222


1- ولكن الإنصاف الفرق بين التمسك بأصالة الحقيقة في مورد القطع بالمراد لأن المراد الجدي هناك معلوم بخلاف المقام فيصح التمسك بأصالة العموم لتعيين المراد الجدي ولازم ذلك كشف حال الموضوع (منه).

الحكم بواسطة العلة المنصوصة ليس بمثابة ورود موضوع الحكم مقيداً من اول الامر، فلو قال اكرم العلماء العدول لم يصح لنا التمسك به في مشكوك العدالة والفسق واما لو قال أكرم العلماء فانهم عدول فلو شككنا في عدالة فرد نحكم بعدالته بحكم القضية، فان الظاهر منها تحقق العدالة في كل فرد من العلم.

التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص

فصل: هل يجوز التمسك بالعام قبل الفحص عن مخصصه؟، فيه خلاف الاقوى عدم الجواز لعدم سيرة العقلاء على التمسك مادام العموم في معرض ان يكون له مخصص بحيث لو تفحص عنه لظفر به ولا اقل من الشك فيه ويكفى ذلك في عدم الحجية، نعم العمومات التى ليست في معرض ذلك كغالب العمومات الواقعة في السنة اهل المحاورة لا شبهة في ان السيرة التمسك بها بلا فحص عن المخصص، وهذا مما لا ينبغي الاشكال فيه.

انما الاشكال في ان بنائهم على الفحص في القسم الأول هل من قبيل الفحص عن المعارض كما يجب الفحص عن معارض الخبر الجامع لشرائط الحجية او من جهة احراز شرط الحجية؟ لا يبعد ان يكون الفحص من قبيل الثاني(1) فانه بعد ما يرى من حال المتكلم ذكر قرائن كلامه غير متصلة به غير مرة فحال المخصص المنفصل في كلامه تصير كحال المتصل في كلام غيره، فكما انه لا يجوز التمسك بالعام قبل احراز عدم المخصص المتصل اما بالعلم او بالاصل فكذلك لا يجوز التمسك به قبل احراز عدم المخصص المنفصل في كلام المتكلم المفروض، فلما كان الاصل غير جار الا بعد الفحص عن مظان الوجود يجب الفحص عن المخصص.

و تظهر الثمرة فيما اذا اطلع على مخصص مردد بين الاقل والاكثر فعلى الاول

ص: 223


1- بل الاقوى ان يكون من قبيل الاول كما مر في بعض الحواشي المتقدمة «منه».

يؤخذ بالمتيقن من التخصيص ويرجع الى عموم العام في غيره، وعلى الثاني يسرى اجماله الى العام، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك :

هل الخطابات الشفاهية تختص بالمشافهين أم لا؟

فصل: هل الخطابات الشفاهية من قبيل «يا ايها الذين آمنوا» تختص بالمشافهين والحاضرين لمجلس الخطاب او تعم الغائبين والمعدومين ؟ والذي يمكن ان يكون محلاً للكلام ومورداً للبحث بين الاعلام امور:

احدها: هل يصح الخطاب للمعدومين والغائبين بالالفاظ الدالة عليه وتوجيه الكلام نحو هم او لا؟.

والثاني: هل يصح تعلق الحكم بالمعدومين كما يصح تعلقه بالموجودين او لا؟.

و الثالث: هل الالفاظ المشتملة على الخطاب تعم غير المشافهين بعد الفراغ عن الامكان او لا؟.

و النزاع على الاولين عقلى و على الثالث لفظي.

اذا عرفت ذلك فنقول : لا اشكال في عدم صحة التكليف فعلا على نحو الاطلاق للمعدوم، كما انه لا اشكال في عدم صحة توجيه الكلام نحوه بداعى التفهيم فعلاً، سواء كان بالاداة الدالة على الخطاب ام بغيرها، وهذا لا يحتاج الى بيان وبرهان واما انشاء التكاليف فعلاً لمن يوجد بملاحظة زمان وجوده واستجماعه سایر شرائط التكليف فهو بمكان من الامكان نظير انشاء الوقف فعلاً للطبقات الموجودة بعد ذلك في الازمنة اللاحقة بملاحظة ظرف وجودها، كما ان توجيه الخطاب نحو المعدوم لا لغرض التفهيم بل لاغراض أخر بعد تنزيله منزلة الموجود خال عن الاشكال كمن يخاطب ولده الميت اواباه الميت تأسفاً وتحسراً، ولا يوجب التجوز اللغوى في الاداة الدالة على الخطاب كما لا يخفى والظاهر ان توجيه الخطاب نحو المعدوم حين الخطاب بملاحظة ظرف وجوده

ص: 224

وصيرورته قابلاً للمخاطبة لا اشكال فيه فيكون حال النداء المشروط بوجود المنادى – بالفتح - كالوجوب المشروط بوجود من يجب عليه، نعم نفس هذا النداء الصادر في زمان عدم وجود المنادى - بالفتح لا يمكن ان يكون موجباً لتفهيمه حتى في زمان وجوده لعدم ثباته وبقائه في الخارج الى ذلك الزمان بل يحتاج الى شيء آخر يحكى عنه، كالكتابة التي تبقى الى حال وجوده، ومثل ذلك.

اذا عرفت ذلك فنقول : لو كان الكلام في التكليف للمعدوم على نحو الاطلاق وكذا الخطاب لهم بغرض التفهيم فعلا فلا اشكال في عدم امکانه عقلاً، وان كان على نحو آخر مربيانه فالظاهر ايضاً عدم الاشكال في امكانه، واما دلالة الفاظ الكتاب العزيز على شمول التكليف والخطابات للمعدومين ايضاً على نحو ما تصورنا فلا يبعد دعويها، حيث انزل لانتفاع عامة الناس الي يوم القيمة، وما كان هذا شأنه بعيد جداً ان يكون خطاباته والتكاليف المشتمل هو عليها مختصة بطائفة خاصة، ثم علم من الخارج اشتراك سائر الطوائف معها في التكليف فتدبر.

ثم انهم ذكر و العموم الخطابات الشفاهية ثمرتين :

احديهما، حجيّة ظهور خطابات الكتاب لنا ايضاً كما انها حجة للمشافهين.

وفيه اولا ان هذا مبنى على اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه كما يظهر من المحقق القمي «قدّس سرُّه» وقد ذكر في محله عدم صحة المبنى، وثانياً لا ملازمة بين كون المشافهين مخصوصين بالخطاب وكونهم مخصوصين بالافهام، بل الناس كلهم مقصودون بالافهام الى يوم القيمة وان قلنا بعدم شمول الخطاب الا لخصوص المشافهين.

الثانية، صحة التمسك باطلاق الكتاب لمن وجد و بلغ منا وان كان مخالفاً في الصنف مع تمام المشافهين، وتقريب ذلك انه لو خصصنا الخطابات الواردة في القرآن العزيز بهم فلابد في اثبات التكاليف الواردة في_ه لن_ا من التمسك

ص: 225

بدليل الاشتراك، وهو لا ينفع الا بعد احراز كل ماله دخل في التكليف المتوجه اليهم، فاذا احتملنا ان التكليف المتوجه اليهم كان مشروطاً بشرط كانوا واجدين له دوننا فلا يثمر دليل الاشتراك في التكليف.

فان قلت : يدفع الشرط المحتمل باصالة الاطلاق، لان المفروض عموم حجيتها بالنسبة الينا فيثبت التكليف بضميمة دليل الاشتراك.

قلت اصالة الاطلاق لا تجرى بالنسبة الى الامر الموجود الذي يحتمل دخله في التكليف والسر في ذلك انه على تقدير شرطيته لا يحتاج الى البيان اذ لا يوجب عدم بيان شرطيته على تقدير كونه شرطاً نقضاً للغرض.

و فيه أنه ليس في الخارج امر يشترك فيه جميع المشافهين الى آخر عمر هم ولا يوجد عندنا وحينئذٍ لو احتملنا اشتراط شيء يوجد في بعضهم دون آخر، او في بعض الحالات دون بعض يدفعه أصالة الاطلاق، واللّه أعلم بالصواب.

في العام المتعقب بضمير البعض

فصل: هل تعقب العام بضمير يرجع الى بعض افراده يوجب تخصیصه به او لا؟ فيه خلاف ولابد من ان يكون محل الخلاف ما اذا كان هناك قضيتان احديهما ذكر فيها اللفظ الدال على العموم والاخرى ذكر فيها ضمير يرجع اليه مع امكان شمول الحكم في القضية الاولى لتمام افراد العام والعلم بعدم شموله لها في الثانية، مثال ذلك قوله تعالى «والمطلقات يتربصن بانفسهن ثلثة قروء الى- قوله تعالى وبعولتهن احق بردهن»(1) حيث ان الحكم في القضية المشتملة على الضمير متعلق بخصوص الرجعيات فيدور الامر بين التصرف في العام بحمله على البعض او التصرف في الضمير بارجاعه الى بعض مدلول ماذكر سابقاً، مع كون الظاهر منه ان يرجع الى ما هو المراد من اللفظ الاول.

ص: 226


1- سورة البقرة الآية 228.

و الحق ان يقال لو دار الامر بين احد التصرفين في الكلام تصير القضية المذكورة أو لا مجملة لان القضيتين لاشتمال الثانية على الضمير الراجع الى الموضوع في الاولى في حكم كلام متصل واحد، وقد ذكر في محله انه لو ذكر في الكلام الواحد ما يصلح لصرف سابقه عن ظاهره يصير مجملاً، ولكن يمكن ان يقال: ان مجرد القطع باختصاص الحكم المذكور في الثانية ببعض افراد العام لا يوجب التصرف في احدى القضيتين في مدلولهما اللفظي، بل يصح حمل كلتا القضيتين على ارادة معناهما اللغوى في مرحلة الاستعمال، مع الالتزام بخروج بعض افراد العام في الثانية عن الارادة الجدية كما انه لو كان في القضية الثانية الاسم الظاهر مكان الضمير مثل.«وبعولة المطلقات» فان مجرد العلم بخروج بعض الافراد من القضية الثانية لا يوجب الاجمال في الاولى، فكذلك حال الضمير من دون تفاوت فتدبر جيداً.

في تخصيص العام بالمفهوم المخالف

فصل: اختلف في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف بعد الاتفاق على الجواز في المفهوم الموافق ومجمل الكلام فيه ان اظهر ما قيل فيه بالمفهوم القضية الشرطية، وقد قلنا في محله : ان ظهورها في مدخلية الشرط لثبوت الحكم مما لا يقبل الانكار، واما دلالتها على الحصر فهي قابلة للانكار، والمدعي للمفهوم لابد له من ادعاء دلالتها على الحصر، وان سلمت هذه الدلالة فلا اشكال في انها ليست بالمرتبة التي لا يصلح رفع اليد عنها بواسطة عام او اطلاق ونحوهما.

اذا عرفت ذلك فنقول : اذا ورد عام و قضية شرطية دالة بمفهومها على خلاف الحكم الثابت في العام لبعض افراده فان كان المفهوم اخص مطلقاً فالحق تخصيص العام به فان التعارض وقع بين عموم العام ودلالة القضية على اناطة الحكم بالشرط، ولو لم نقل بالحصر، فان العام يدل على ان الحكم لكل فرد من دون الاناطة بشيء، ومقتضى القضية اناطته به، وظهور القضية في

ص: 227

ذلك اقوى من ظهور العام كقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): ««خلق اللّه الماء طهوراً لا ينجسه شيء»(1) وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء»(2) واما ان كان بينهما عموم من وجه كالدليل الدال على عدم انفعال الجاري مطلقاً ومادل على توقف عدم الانفعال على الكرية فالحق رفع اليد عن المفهوم، لان العام المذكور يعارض حصر الشرط لا اصل الاشتراط لعدم المنافاة بين كون الكرية شرطاً وكون الجريان شرطاً آخر، وقد عرفت ان دلالة القضية الشرطية على حصر العلة على فرض الثبوت ليست بدلالة قوية وحينئذٍ فهل يرفع اليد عن المفهوم مطلقاً بحيث لو احتملنا سبباً ثالثاً لعدم الانفعال لا تكون القضية الشرطية دالة على نفيه او يرفع اليد في خصوص ما ورد الدليل، وجهان.

في تخصيص الكتاب بخبر الواحد

فصل: هل يجوز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد المعتبر او لا؟ مقتضى القاعدة الاول، لان الخاص بواسطة دليل اعتباره يصلح لان يكون قرينة على التصرف في العام بخلاف العكس وكون العام قطعى الصدور لا ينافي جواز رفع اليد عن عمومه بعد ورود الخاص المعتبر، لان هذا الجمع مما يشهد بصحته ال_ع_رف، وقد ادعوا سيرة الاصحاب على العمل بالاخبار الاحاد في قبال العمومات الكتابية الى زمن الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، هذا.

و لكن العمدة في المقام الاخبار الكثيرة المتواترة على ان الاخبار المخالفة للقرآن يجب طرحها او ضربها على الجدار او انها زخرف اوانها مما لم يقل به الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ).

ص: 228


1- الوسائل، الباب ١ من ابواب الماء المطلق الحديث 9، ج1، ص 101.
2- الوسائل الباب من ابواب الماء المطلق، الحديث 1 و 2، ج 1، ص117، ولفظ الحديث: «اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».

و الجواب عنها بعد القطع بورود اخبار كثيرة مخالفة لعمومات الكتاب و اطلاقه منهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بحمل الاخبار المانعة من الاخذ بمخالف الكتاب على غير المخالفة على نحو ال_ع_موم والخصوص ومثله كما اذا ورد الخبر في مقابل الكتاب بحيث لا يكون بينهما جمع عرفى، وعدم وجود مثله في الاخبار التي بايدينا لا ينافى وجوده في ذلك الزمان وما وصل بايدينا انما يكون بعد تهذيبه مما يخالف الكتاب بالمعنى الذي ذكرنا.

و يمكن حمل مورد الاخبار المانعة على ما لا يشمله دليل الحجية مثل ما ورد في اصول العقايد او خبر غير الثقة.

دوران الأمر بين النسخ و التخصيص

فصل: العام و الخاص اما ان يكونا متقارنين واما ان يكونا مختلفين بحسب التاريخ، وعلى الثاني اما ان يكون العام مقدماً على الخاص او بالعكس، لا اشكال في التخصيص في الصورة الاولى، كما ان الظاهر كذلك في الصورتين الاخيرتين لو كان ورود الثاني قبل حضور وقت العمل بالاول، فإن الالتزام بالنسخ قبل حضور وقت العمل وان لم يكن بمستحيل بناء على امكان وجود المصلحة في جعل حكم ونسخ ذلك قبل زمان العمل به لكنه بعيد، بخلاف التخصيص فانه شائع متعارف فيحمل الكلام عليه.

و اما لو كان ورود احدهما بعد مضى زمان العمل بالاول فان كان المقدم.خاصاً فالعام المتأخر يمكن ان يكون ناسخاً له ويمكن ان يكون الخاص المقدم مخصصاً للعام، وتظهر الثمرة في العمل بعد ورود العام فانه على الاول على العام وعلى الثاني على الخاص، والظاهر ايضاً البناء على التخصيص لشيوعه وندرة النسخ، واما لو كان المقدم عاما والمؤخر خاصاً فيشكل الحمل على التخصيص، من حيث استلزام ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو وان لم يكن محالا، من جهة امكان وجود مصلحة في ذلك، لكنه بعيد، نظير النسخ

ص: 229

قبل حضور وقت العمل، واشكل من ذلك حمل الخاص الوارد في اخبار الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) المتأخر عن العام على النسخ مع كثرته، وكذلك حال المقيدات الواردة في كلامهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالنسبة الى المطلقات، فان الالتزام بالنسخ في جميع

هذه الموارد الكثيرة في غاية الاشكال نعم الخاص المتأخر عن العام في كلام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حمله على النسخ ليس ببعيد، فيرجح على التخصيص، لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا محيص عن حمل الخاص المتأخر في كلام الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) على التخصيص ايضاً، ولو كان وارداً بعد مضى زمان العمل بالعام والالتزام بان حكم العام الى زمان صدور الخاص كان حكماً ظاهرياً للمكلفين اقتضت المصلحة ان يجعل لهم ذلك ولا يكشف لهم الواقع الى حين صدور الخاص، وهذا غير بعيد بعد العلم بانه في الشرع احكام ظاهرية وواقعية فتدبر جيداً.

ثم انه لو بنينا على تقديم التخصيص على النسخ في تمام الصور المذكورة فلا اشكال في مجهولى التاريخ واما لو بنى على النسخ في الخاص المتاخر بعد مضى زمان العمل بالعام فلو شك في تاريخها او علم تأخر الخاص في الجملة لكنه لم يعلم انه ورد بعد حضور وقت العمل بالعام او قبله فالوجه الرجوع الى الاصول العملية، لان الشرط في الحمل على التخصيص عدم مضى زمان العمل بالعام كما ان الشرط في النسخ مضى زمان العمل به، وما لم يحرز احد الشرطين لا يجوز الحمل على احدهما، ومجرد اغلبية التخصيص وندرة النسخ وان كان يوجب الظن بالاول دون الثاني لكنه لا دليل على اعتبار هذا الظن، واللّه العالم.

ص: 230

المقصد السادس فی المطلق والمقّید

في إسم الجنس

في المطلق والمقيد (1)

فصل: فيما وضع له بعض الالفاظ

فمنها اسم الجنس كالانسان و البقر والفرس والضرب والضارب وغير ذلك، مما هو نظيرها، اعلم ان المفهوم العام قد ينقسم الى الاقسام الخارجية كقولنا الانسان اما ابيض واما اسود، وقد ينقسم الى اقسام ذهنية كقولنا الانسان اما مطلق اي غير مشروط بشيء، أو مقيد بشيء، أو مقيد بعدم شيء، والمقسم وان كان في الواقع القسم الاول من هذه الاقسام الا انه لم يلاحظ كيفية ثبوته في ذهن اللاحظ، بل اخذ مرآة لما يتحقق في ذهن آخر، وقد ينقسم الى موجود ومعدوم، والموجود اعم من أن يكون في الذهن او في الخارج، وكذلك المعدوم كما تقول الانسان اما موجود واما معدوم والموجود اما موجود في الذهن او في الخارج، والموجود في الذهن اما كذا واما كذا، والموجود في الخارج اما كذا واما كذا.

اذا عرفت هذا فنقول : الموضوع له في اسماء الاجناس هو المفهوم المعرى عن الوجود والعدم والذهن والخارج، فضلاً عن كيفية الوجود في الذهن من الاطلاق والتقييد، وكيفية الوجود في الخارج من الطول والقصر والسواد والبياض ونحو ذلك، والشاهد على ذلك هو الوجدان الحاكم بصحة تقسيم مفاد

لفظ الانسان بنحو ما قسمناه اخيراً من دون عناية، واللّه اعلم بالصواب.

ص: 231


1- هذا البحث مما زيد على الكتاب في الطبعة الثالثة المنقحة في زمن المصنف (قدّس سرُّه). «المصحح».

في علم الجنس و النكرة

ومنها علم الجنس:

كاسامة و المشهور انه موضوع للطبيعة لا بما هي هي، بل بماهي متعينة بالتعين الذهنى، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون اداة التعريف، واستشكل على هذه المقالة شيخنا الاستاذ «قدّس سرُّه» بما محصله انه لو كان كذلك لما صبح حمله على الافراد بلا تصرف وتجريد ضرورة ان المفهوم مع ملاحظة وجوده اقول: و فيما في الذهن كلى عقلى لا ينطبق على الخارج، مع انا نرى صحة الحمل بلا عناية وتصرف اصلاً، مع ان وضعه لمعنى يحتاج الى تجريده عن الخص_وص_ي_ة ع_ن_د الاستعمال لا يصدر عن جاهل فضلاً عن الحكيم انتهى (1).

افاده نظر لا مكان دخل الوجود الذهني على نحو المرآتيه في نظر اللاحظ، كما انه ينتزع الكلية عن المفاهيم الموجودة في الذهن لكن لا على نحو يكون الوجود الذهني ملحوظاً للمتصور بالمعنى الاسمى، اذ هي بهذه الملاحظة مباينة مع الخارج ولا تنطبق على شيء، ولا معنى لكلية شيء لا ينطبق على الخارج اصلاً. اذا عرفت هذا فنقول : ان لفظ اسامة موضوع للاسد بشرط تعينه في الذهن على نحو الحكاية عن الخارج، ويكون استعمال ذلك اللفظ في معناه بملاحظة القيد المذكور كاستعمال الالفاظ الدالة على المعانى الحرفية، فافهم وتدبر.

ومنها النكرة نحو في قوله تعالى «وجاء رجل» (2) أو قولنا جئني برجل، وقد يقال بجزئية الاول وكلية الثاني، اما جزئية الأول فواضحة، واما كلية الثاني فلان المادة تدل على الطبيعة الكلية والتنوين على مفهوم الوحدة وهو ايضاً كلى، وضم الكلى الى الكلى لا يصيره جزئياً، فمعنى رجل على هذا طبيعة الرجل مع قيد الوحدة، وهذا يصدق على افراد الطبيعة المقيدة في عرض واحد،

ص: 232


1- الكفاية: ج 1، ص 379.
2- سورة القصص، الآية 20.

وعدم صدقه على اثنين فصاعداً انما يكون لعدم المصداقية كما ان مفهوم الإنسان لا يصدق على البقر مثلاً هذا.

ولكن يمكن دعوى كون النكرة مستعملة في كلا الموردين بمعنى واحد وانه في كليهما جزئي حقيقي بيانه انه لا إشكال في ان الجزئية والكلية من صفات المعقول في الذهن وهو ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي وجزئية المعنى في الذهن لا تتوقف على تصوره بتمام تشخصاته الواقعية ولذا لو رأى الإنسان شبحا من البعيد وتردد في انه زيد أو عمرو بل إنسان أو غيره لا يخرجه هذا التردد عن الجزئية وكون أحد الأشياء ثابتا في الواقع لا دخل له بالصورة المنقشة في الذهن فإذا كان هذه الصورة جزئية كما في القضية الأولى فكك الصورة المتصورة في القضية الثانية إذ لا فرق بينهما الا في ان التعيين في الأولى واقعي وفي الثانية بيد المكلف وعدم إمكان وجود الفرد المردد في الخارج بداهة عدم معقولية كون الشيء مرددا بين نفسه وغيره لا ينافي اعتبار وجوده في الذهن كما يعتبر الكسر المشاع مع عدم وجوده بوصف الإشاعة في الخارج.

ومنها المعرف باللام والمعروف بين أهل الأدبية ان اللام أو الهيئة الحاصلة منها ومن المدخول موضوعة لتعريف الجنس وللعهد بأقسامه من الذهني والذكرى والحضوري وللاستغراق والظاهر ان أقسام العهد راجعة إلى معنى واحد وهو المعهودية في الذهن غاية الأمر ان منشأ العهد قد يكون هو الذكر وقد يكون الحضور وقد يكون غيرهما بل يمكن ان يقال ان مرجع الجنس والاستغراق أيضاً إلى ذلك وتوهم ان المعهود الذهني كلي عقلي ولا موطن له الا الذهن ولا ينطبق على الخارج مدفوع لما مر آنفا في علم الجنس

في مقدمات الحكمة

ثمّ انه قد ظهر ان اسم الجنس وضع للمقسم بين المطلق والمقيد، وكذا

ص: 233

النكرة وان قلنا بجزئيتها، انما الكلام في المقام في انه عند عدم قرينة على إحدى الخصوصيتين من الإطلاق والتقييد هل يحتاج إلى مقدمات في الحمل على الإطلاق أولاً قد يقال بالأول وبيانه انه لا إشكال في ان الأصل في كلّ كلام صادر عن كلّ متكلم صدوره بغرض الإفادة وتفهيم المعنى ولا يكفي هذا المقدار لتعيين الإطلاق في المقام إذ لا يثبت بهذا الا إرادة الطبيعة المهملة وقد فرضنا انها قابلة للإطلاق والتقييد فاللازم في المقام إحراز كون المتكلم بصدد بيان تمام مراده الجدي وبعد إحراز هذه الحالة للمتكلم نقول لو كان للمراد الجدي قيد لكان اللازم ذكره فحيث لم يذكر القيد يعلم ان المراد بحسب الجد هو المطلق الخالي عن القيد وعلى هذا فالحمل على الإطلاق بعد الفراغ عن الأصل المتقدم يتوقف على أمور: منها كونه في مقام بيان تمام مراده الجدي ومنها عدم ذكر قيد في الكلام ومنها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب على قول يأتي ويأتي الخدشة فيه إن شاء اللّه تعالى هذا.

ويمكن ان يقال بعدم الحاجة إلى إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد في الحمل على الإطلاق عند عدم القرينة بيانه ان المهملة مرددة بين المطلق والمقيد ولا ثالث ولا إشكال انه لو كان المراد المقيد يكون الإرادة متعلقة به بالأصالة وانما ينسب إلى الطبيعة بالتبع لمكان الاتحاد فنقول لو قال القائل جئني بالرجل أو برجل يكون ظاهراً في ان الإرادة أولاً وبالذات متعلقة بالطبيعة لا ان المراد هو المقيد ثمّ أضاف إرادته إلى الطبيعة لمكان الاتحاد وبعد تسليم هذا الظهور تسرى الإرادة إلى تمام الافراد وهذا معنى الإطلاق.

ان قلت: ان المهملة ليست قابلة لتعلق الإرادة الجدية بها كيف؟ وقد فرضناها مرددة بين المطلق والمقيد ولا يعقل كون موضوع الحكم مرددا عند الحاكم فنسبة الإرادة إلى المهملة عرضية في كلّ حال، فيبقى تعيين الإطلاق

ص: 234

بلا دليل.

قلت: عروض الإطلاق للمهملة ليس كعروض القيد لها في الاحتياج إلى الملاحظة والا لزم عدم الحمل على الإطلاق حتّى بعد إحراز كونه في مقام البيان لعدم الترجيح بعد كونه بمثابة ساير القيود فإذا فرضنا عدم دخل شيء سوى المهملة في تعلق الحكم يحصل وصف الإطلاق قهرا وان لم يكن ملحوظا بنفسه.

ان قلت: سلمنا لكنه من الممكن تقدير القيد أو جعل الطبيعة مرآة للمقيد يحتاج في نفي هذين إلى إحراز كونه بصدد البيان.

قلت يمكن نفي كلّ من الأمرين بالظهور اللفظي ولو لم يحرز كونه بصدد البيان كما لا يخفى على المتأمل.

ثمّ ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يضر بالحمل على الإطلاق ما لم يصل إلى حد الانصراف سواء قلنا بعدم الاحتياج إلى إحراز كون المتكلم بصدد البيان كما مر بيانه أو قلنا بالاحتياج إليه اما على الأوّل فواضح واما على الثاني فلأنه بعد فرض كونه كذلك فاللازم ان يكون اللفظ الملقى إلى المخاطب كاشفا عن تمام مراده وهذا ملازم لصحة حكم المخاطب ان هذا تمام مراده والمفروض عدم صحة حكم المخاطب بكون القدر المتيقن تمام مراده فيقال لو كان مراده مقصورا على المتيقن لبينه لكونه في مقام البيان كما هو المفروض وحيث لم يبينه يكشف ان مراده نفس الطبيعة مط ويشهد لذلك انه لم يعهد من أحد من أهل اللسان التوقف في حمل المطلقات الواردة في الموارد الخاصّة والاقتصار عليها فقط لأنها المتيقن بل يتجاوزون عنها حتّى انه قد اشتهر ان العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد.

إشكال ودفع اما الأوّل فهو انه إذا كان الحمل على الإطلاق بمؤنة المقدمات على كلا الطريقين فيلزم بطلانها فيما إذا ورد بعد المطلق مقيد منفصل

ص: 235

موافقا كان أو مخالفا وعدم إمكان دفع ما سواه من القيود المحتملة بالإطلاق بيانه اما على طريقة المشهور فهو ان من جملة المقدمات عندهم كون المتكلم في مقام البيان وبعد ظهور المقيد منفصلا يعلم انه لم يكن بصدده واما على ما ذكرنا فلأنه بعد ما علم بصدور القيد المنفصل ينكشف أحد الأمرين اما تبعية إرادته المتعلقة بالطبيعة واما أخذ الطبيعة مرآة ومعرفا للمقيد.

واما الثاني: فهو ان الإطلاق سواء على طريقة القوم أم على طريقنا انما يلاحظ بالنسبة إلى المراد الاستعمالي واما تطبيق الاستعمالي مع الجدي فإنما يحرز بأصل عقلائي آخر وظهور القيد انما ينكشف به عدم التطابق في هذا المورد مع بقاء الاستعمالي مط والأصل العقلائي في غير هذا المورد بحالها.

في حمل المطلق على المقيد

فصل: إذا ورد مطلق ومقيد فاما يكونان متخالفين في الإيجاب والسلب واما متوافقين لا محيص عن التقييد في الأوّل كما عتق رقبة كافرة سواء كان النهي بعنوان الكراهة أو الحرمة لأن الظاهر من قوله أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة مثلاً تعلق النهي بالطبيعة المقيدة لا بإضافتها إلى القيد فلو كان مورد الأمر هو المطلق لزم اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد نعم لو أحرز ان الطبيعة الموجودة في المقيد مطلوبة كما في العبادة المكروهة فاللازم صرف النهي إلى الإضافة بحكم العقل وان كان خلاف الظاهر.

واما الثاني فان لم يحرز وحدة التكليف فالمتعين حمل كلّ منهما على التكليف المستقل أخذا بظاهر الأمرين وان أحرز وحدته فان كان الإحراز من غير جهة وحدة السبب فيدور الأمر بين حمل الأمر المتعلق بالمطلق على ظاهره من الوجوب والإطلاق والتصرف في الأمر المتعلق بالمقيد اما هيئة بحملها على الاستحباب واما مادة برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في موضوع الوجوب وجعله إشارة إلى الفضيلة الكائنة في المقيد وبين حمل المطلق على المقيد،

ص: 236

وحيث لا ترجيح لأحدها لاشتراك الكل في مخالفة الظاهر فيتحقق الإجمال وان كان الإحراز من جهة وحدة السبب فيتعين التقيد ولا وجه للتصرف في المقيد بأحد النحوين فإنه إذا فرض كون الشيء علة لوجوب المطلق فوجود القيد أجنبي عن تأثير تلك العلة فلا يمكن ان يقال ان وجوب المقيد معلول لتلك فلا بد له من علة واحدة أخرى والمفروض وحدتها وكذا كون الشيء علة لوجوب المطلق ينافي كونه علة الاستحباب للفرد الخاص إذ استناد المتباينين إلى علة واحدة غير معقول هذا.

كيفية الجمع بين المطلق و المقيد

وقد عرفت ممّا ذكرنا انه لا بد في حمل المطلق على المقيد من إحراز وحدة السبب ولا يكفي إحراز وحدة التكليف مع عدم إحراز وحدة السبب كما ذهب إليه المشهور ولعل وجهه ما ذكره شيخنا المرتضى طاب ثراه في باب التعادل والتراجيح من انه إذا دار الأمر بين التقييد ومخالفة ظاهر آخر فللتقييد أولى لأن ظهور المطلق متقوم بعدم البيان فبورود ما يصلح للبيانية يصير موهونا (1) وفيه ما لا يخفى نعم يتم ما ذكروه بناء على ما احتملناه سابقاً من المعاملة مع القيود المنفصلة في كلام الشارع معاملة القيود المتصلة في كلام غيره لكن اللازم منه سراية الإجمال من المقيد المنفصل المردد بين الأقل والأكثر مفهوماً إلى المطلق ولا يلتزمون به «تم بالخير».

ص: 237


1- الفرائد، عند البحث عن المرجحات في الدلالة، طبعة المؤسّسة، ص 792. وطبعة رحمة اللّه ص 457.

تعليقات

شيخ الفقهاء والاصوليين

آية اللّه العظمى الشيخ الأراكي «دام ظلّه» على مباحث الألفاظ من دررالفوائد

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد للّه رب العالمين، والصلاة والسَّلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على اعدائهم اجمعين من الآن الى يوم الدين.

و بعد فهذه نبذ من المطالب استفدتها من بحث شيخ الطائفة الامامية ورئيسهم، مولانا آية اللّه الحاج الشيخ عبدالكريم اليزدي الحائري حين بحثه عن الاصول، وقد ابرزتها بصورة التعليقة على كتابه المستطاب المسمى بالدرر وارجو من اللّه سبحانه ان يمن عليَّ بالا تمام والتسديد. واني وان كنت غير اهل لهذا الشأن لقلة الاستعداد، مضافاً الى ضيق الوقت، ولكن اعتمادي على توجه الحضرة المقدسة الفاطمية، والعتبة المطهرة المعصومية، على ساكنتها وآبائها الاطهار واخيها وابنائه المعصومين الابرار آلاف التحية والتسليم من رب البرية، حيث اتفق ذلك في جوار تلك البقعة المنورة مع توسلي باذيال لطفهم، فان جاء مطلوباً كان من بركات تلك القبة المنورة، والا فمن سوء حظي وقلة استعدادي.

(15، ص31) قوله (دام ظله) فاعلم ان علم الاصول هو العلم «الخ» لما كان التعريف المعروف غير منعكس الخروج مسائل الاصول العمليّة ومسألة حجّية الظن حال الانسداد على الحكومة عنه : اما الثانية كالاصول العقلية، فواضح لكونها قواعد عقلية مفادها قبح العقاب بلا بیان او وجوب دفع الضرر المحتمل او تعيين كيفية الامتثال ، وقاعدة الملازمة غير جارية هنا كما قرر في محله. واما الاصول الشرعية فهي احكام مجعولة في موضوع الشك كوجوب البناء على الحالة السابقة او الحلية في حال الشك ، فلا يستنبط منها الحكم الواقعي، لعدم طريقية الشك . وغير مطرد لدخول بعض القواعد الفقهية مثل قاعدة كلّ ما يضمن «الخ» حيث يستنبط منها ضمان المقبوض بالبيع الفاسد مثلاً.

فان قلت: هذا تطبيق الكلي على مصاديقه، مثل تطبيق حرمة الخمر على الخمور الجزئية، ولا يسمى ذلك استنباطاً.

قلت تشخيص صغريات القاعدة يحتاج الى النظر والاجتهاد، واي فرق بينها وبين قاعدتي

ص: 238

الملازمة بين ارادة الشيء وارادة مقدماته، وبين حكمي العقل والشرع ؟ واين هذا من تطبيق الخمر على جزئياتها ؟ فانه امر ضروري غير محتاج الى النظر، ونظيره في طرف العكس تطبيق وجوب الصلاة والصوم وحرمة الغناء والغيبة، حيث ان الاجتهاد انما هو محتاج اليه في تشخيص الموضوعات المذكورة بحدودها واما اجراء الاحكام المذكورة بعد التشخيص فغير محتاج الى النظر، فوقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط لا يصدق مع كون واحدة من الصغرى او الكبرى غير نظرية ولو كانت الاخرى كذلك ، اما لعدم احتياج نفسها الى الاستخراج والاستنتاج لضرورتها فلا تعد من ابحاث العلم، أو لعدم الوقوع في طريق الاستنباط، وانما يصدق فيما كانتا معاً نظريتين، فحينئذٍ يصدق على كلّ منهما انها قاعدة تقع بعد استخراج نفسها عن ادلتها في طريق الاستنباط .

فلهذا عدل في الكتاب عن التعريف المذكور الى ما ذكره.

و من هنا تعرف ورود الاشكال المذكور في جانب الطرد على تعريف الكفاية أيضاً، وان سلم عن الانتقاض العكسي.

و اما وجه سلامة تعريف الكتاب عنه فهو ان القاعدة المذكورة بعد ضمها الى صغراها لا تفيد فائدة بالنسبة الى حكم آخر وراء نفسها، وهذا بخلاف القواعد الأصوليّة، فان كلها اذا انضمت الى صغرياتها فالنتيجة الحاصلة تنفع بحال حكم شرعي آخر وراء نفسها، اما لكونها طريقاً علميّاً لثبوته أو لا ،ثبوته واما سبباً لتنجزه او لا تنجزه، وبعبارة اخرى ان المكلف اذا التفت الى حكم شرعي فاما ان يحصل له العلم او الظن او الشك فكل قاعدة تفيد استراحة خاطره من ناحية ذلك الحكم الشرعي تسمى أصوليّة، وكل قاعدة تكون مطلوبة لنفسها مثل وجوب صلاة الجمعة وقاعدة مالا يُضمن «الخ» ولو كانت ماخوذة من القواعد الأصوليّة ولو العقلية منها تسمى فقهية، حيث ان مفاد الاولى وجوب الاركان المخصوصة والثانية ضمان المقبوض بالعقد الفاسد اذا كان صحيحه موجباً للضمان، وامر هذين دائر بين الثبوت في نفس الامر واللا ثبوت لا انهما تنفعان بعد ضم الصغرى اليهما بحال حكم آخر وراء انفسهما بنحو من الانحاء.

و الحاصل ان القواعد الأصوليّة بعد تنقيح مدركها والفراغ عن دليلها، اذا تحقق صغريها فنتيجتها مثمرة بحال الاحكام الواقعية، اما للكشف عن ثبوتها وعدم الثبوت، واما للكشف عن تنجزها على تقدير الثبوت من غير تعرض للثبوت وعدمه، واما للكشف عن سقوط العقاب عليها على تقدير الثبوت من غير تعرض للثبوت وعدمه أيضاً، مثلاً القواعد العقلية مثل وجوب مقدمة الواجب وجواز الاجتماع وجواز الترتب بعد الفراغ عن مدركها

ص: 239

وتحقق صغريها فنتيجتها - وهي الاحكام الشخصية، مثل ان هذا الفعل واجب بحكم العقل، او الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة بحكم العقل او الصلاة في سعة الوقت مع ترك الازالة او الدين المضيق صحيحة بحكم العقل - مثمرة بحال الحكم الواقعي من جهة الكشف عن الثبوت وعدمه من باب الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وهكذا قاعدة حجّية خبر الواحد الثقة بعد الفراغ عن برهانها وقيام خبر الواحد الثقة على اباحة شرب التتن مثلاً، فنتيجتها الّتي هي حجّية هذا الخبر الشخصي الّتي مرجعها الى اباحة الشرب، رافعة للعقاب من جهة تكليف لا تشرب على تقدير،ثبوته، وكذا قاعدة الاستصحاب بعد طي طريق اثباتها وتحقق اليقين السابق والشك اللاحق في عدم وجوب فعل مثلاً فالنتيجة _ وهي عدم نقض هذا اليقين الشخصي بهذا الشك الشخصي - الّتي مرجعها الى عدم وجوب الفعل يكون رافعة للعقاب عن المكلف من جهة تكليف إفعل على تقدير ثبوته واقعاً، وهكذا سائر القواعد الأصوليّة، وهذا بخلاف القواعد الفقهية فان قاعدة حرمة الخمر بعد الفراغ عن ثبوتها وتحقق صغربها - وهي كون هذا المايع خمراً - فالنتيجة - وهي حرمة شرب هذا المايع هي نفس حكم اللّه الواقعي، لا كاشفة عن حال حكم آخر مستور تحت الحجاب، فالمعيار في القواعد الأصوليّة ان يكون الحكم الشخصي المستفاد من الكبرى والصغرى اذا نظرنا الى وجوده في اللوح المحفوظ كان ورائه حكم اخر مستور وفي القواعد الفقهية ان يكون الحكم الشخصي المستفاد من الكبرى والصغرى فيها اذا نظرنا الى وجوده في اللوح المحفوظ لم يكن ورائه حكم آخر، فالوضوء الشيني محكوم بحكم لا يجب بقاعدة لاضرر، والفعل المسبوق الوجوب محكوم أيضاً بحكم لا يجب بقاعدة لا تنقض، ولكن اذا نظرنا الى وجود هذين الحكمين الشخصيين في اللوح المحفوظ وجدنا وراء احدهما حكما آخر اما يجب واما لا يجب، ولا نجد وراء الآخر شيئاً، والحاصل ان حجّية خبر الثقة مثلاً تطلب لاجل حكم آخر، واما حرمة شرب الخمر فليست مطلوبة لاجل حكم آخر، وان كانت حجّية خبر الثقة في طريقها ماخوذة فلا يوجب ذلك كون حرمة الشرب مطلوبة لاجل حكم آخر، بل اعمال حجّية خبر الثقة في طريقها يكون لاجل حكم اخر، فالقواعد الأصوليّة لو لم يكن في البين الاحكام الواقعية كانت بلا فائدة رأساً، وليست هكذا القواعد الفقهية مثل وجوب الصلاة وحرمة الشرب ونحوها، فانها قواعد مفيدة كانت في البين احكام واقعية ام لم تكن.

نعم يبقى على تعريف الكتاب النقض طرداً بقاعدة الطهارة حيث انها قاعدة معمولة في الشبهات الحكمية مع انها ليست مدونة في الاصول، وبعامة الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعية، او الامارات كذلك ومنها اصالة الصحة وقاعدة الفراغ وقاعدة ال_ي_د

ص: 240

والبناء على الاكثر في الشكوك الصلاتية حيث ان كلّ ذلك من الفقه، مع انطباق التعريف عليها.

و يمكن الدفع، اما عن قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية فبالتزام انها من الاصول، ولكن لكونها من القطعيات الغير المحتاجة الى البحث لم يبحثوا عنها، واما عن البواقي فبالتزام اخراجها عن الحد بتقييد الاحكام بالكلية، فالاستصحاب مثلاً في الشبهات الحكمية يكون من الاصول وفي الموضوعية يكون من الفقة، واما وجه هذا التقييد فمجرد اصطلاح لا مشاحة فيه.

(25، ص 33) قوله (دام ظلّه) ثمّ اعلم ان موضوع هذا العلم «الخ» موضوع كلّ علم وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية اي الّتي تعرضه بلا واسطة في العروض هو نفس موضوعات مسائله كالفاعل والمفعول والمضاف اليه ونحوها في علم النحو، وخبر الواحد والشك في الحكم بلا حالة سابقة او معها والشهرة وامثال ذلك في هذا العلم، نعم حيث انه يترتب على انتساب المحمولات الخاصّة الى هذه المتشتتات اثر واحد وفائدة فاردة فلابد من عدم التباين الذاتي ووجود قدر مشترك في البين كان هو المؤثر، في هذا الواحد حتّى لا يلزم تأثر الواحد من المتعدد، كما انه لو فرض تداخل العلمين في الموضوع الواحد كشف ذلك عن وجود جهتين بكل منهما يؤثر أثراً، والا يلزم تأثر الاثنين من الواحد، فما هو الموضوع والمحمول عليه الاحكام في المسائل بالحقيقة انما هو الموضوعات الخاصّة، وانما يصح نسبة الموضوعية الى ذلك الجامع من باب الاتحاد، نظيره ما اذا اخبرت بقضايا متعددة في مجلس واحد كان الموضوع في كلّ واحدة منها رجلاً من اهل قم مثلاً، فكما لك ان تقول موضوع تكلمنا في هذا المجلس فلان وفلان وفلان كذلك صح لك ان تقول : موضوع كلامنا القميون، وأيضاً نظيره ان انتساب الوجود او الوجوب الى الفرد يلازمه انتسابهما الى المهملة على وجه الحقيقة لا بالعرض والمجاز.

(35، ص33) قوله (دام ظله) وقد تكلف شيخنا المرتضى «قدّس سرّه» «الخ» يرد على ما تكلّفه «قدّس سرّه» أولاً بانه لابد من ملاحظة ان موضوع القضية في البحث الاصولي ماذا؟ ولا شبهة في ان الموضوع خبر الواحد والمحمول قولهم حجة او ليس بحجة فلا داعي الى ارجاعه الى ما ذكره، وهل هو الأمثل ارجاع قضية زيد قائم» الى «قیام زید ثابت».

و ثانياً ان هذا التوجيه لا يتمشى في الشرعية من الاصول العمليّة، فان الشك لا كاشفية له عن السنة الواقعية والبناء العملي ليس الاعمل المكلف قد تعلق به خطاب الشرع مثل الصلاة والصوم، والوجوب او الاباحة الذي هو الحكم ليس الا كوجوب الصلاة واباحة شرب الماء، فليس في البين شيء يقال انه هل تثبت به السنة الواقعية اولا، نعم في العقلية منها يمكن القول بان البحث عن ان حكم العقل بقبح العقاب او الاشتغال ثابت او لا، ولا

ص: 241

يتمشى أيضاً في حجّية الظواهر اذ ليس البحث عن خصوص ظواهر الكتاب والسنة بل يعم كلمات سائر الموالى بل غيرهم نعم المقصود معرفة حال خصوص الفاظ الكتاب والسنة، لكن الكلام في موضوع البحث لا موضوع الغرض، هذا.

و قد اورد عليه «قدّس سرّه» في الكفاية (1) بما حاصله انه لواريد بالثبوت الثبوت الوجداني يخرج البحث عن المسائل لان المسائل يبحث فيها عن الاحوال اللاحقة للموضوع بعد الفراغ عن اصل ثبوته ووجوده واما البحث عن اصل ثبوت الموضوع وانتفائه فداخل في المبادى، ولو اريد به الثبوت التعبدي فالمراد به ليس الا وجوب العمل، والاصولي لا يبحث عن وجوب العمل بالسنّة الواقعية، فانه راجع الى كون الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) مفترض الطاعة، والبحث عنه شأن الكلامي لا الاصولي، فما هو شأنه البحث عن وجوب العمل بخبر الواحد الحاكي للسنة، وهذا. وان كان من المسائل لكن ليس عارضاً للسنة بل للخبر.

و اجاب عنه شيخنا الاستاذ (دام ظلّه) بان لنا اختيار الشق الأوّل والمنع عن لزوم كون المسألة بحثاً عن العوارض اللاحقة للموضوع بعد الفراغ عن وجوده كيف؟ وعمدة البحث في علم الكلام عن وجود الصانع ووجود المعاد، ولا داعي الى ارجاع البحث الى ان الموجود هل يكون منه الواجب اولا؟ او منه المعاد أولاً ؟ بل نقول : اي مانع عقلي او غير عقلي يمنع عن تشكيل علم يبحث فيه عن اصل وجود شيء في العالم وعدمه ؟ واي شيء يمنع عن عد مثل هذا البحث علماً، ولنا اختيار الشق الثاني وماذكره «قدّس سرّه» من لزوم ارجاع المحمول الى الخبر و عدم امكان جعله للسنة غير لازم فان وجوب العمل بالخبر الحاكي اذا كان بعنوان الطريقية كما هو المفروض كان مقتضاه رفع التحيّر عن مؤداه، بمعنى انه يصح ان يقال: انه قام على المودى وهو السنة الواقعية طريق معتبر حجة فيبحث على هذا عن ان السنة الواقعية هل تصير ممّا قام عليه الطريق الحجة بقيام الخبر الواحد عليها أولاً وبالجملة للوجوب المذكور اضافتان احداهما الى الحاكي وهي كونه كالمحكي واجب العمل، والاخرى الى المحكى وهي خروجه عن التحير وعدم الطريق اليه، وحينئذٍ فاختيار الامر بيدنا الا ترى انه كما يمكن ان يقال، هل قول المرأة برؤية الهلال حجة اولا؟ كذلك يمكن ان يقال: هل الهلال يثبت شرعاً بقول المرأة اولا؟ وكذلك في المقام كما يمكن ان يقال: هل خبر الواحد حجة اولا؟ يمكن ان يقال هل السنة الواقعية تثبت تعبداً بخبر الواحد او لا ؟ فالمراد بالسنة ليس السنة المفروغ عن وجودها، بل مفهومها، كما هو الحال في قولنا: الهلال يثبت شرعاً «الخ».

ص: 242


1- الكفاية، الأمر الأوّل من المقدمة، ج 1، ص ٩٩٦.

لا يقال : فعلى هذا الاستصحاب أيضاً يجري فيه التوجيه المذكور لكونه رافعاً للتحير عن الواقع.

فانا نقول: نعم، ولكن انما يرفع التحيّر عن قبل الحكم الواقعي الذي هو مدلول السنة، لانفسها، بخلاف الخبر فانه رافع التحيّر عن نفس السنة، بمعنى قول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) او فعله او تقريره هذا.

و يمكن جعل الموضوع ذوات الادلة بقول مطلق لا خصوص الادلة الاربعة، ويراد بها الاشياء الّتي يمكن ببركة الحكم المحمول عليها من الشرع او العقل استكشاف حال من احوال الاحكام الكلية الالهية الواقعية بها، وهي عبارة عن خبر الواحد والشك في الحكم والشهرة وسائر موضوعات مباحث الاصول، دون ما ليس له هذه الاهلية مثل السماء والارض والجدار والشجر والمدر واشباهها، حين ان كلّ حكم حمل عليها فلا يمكن الانتفاع بسببه في استكشاف حال من احوال الاحكام المذكورة.

( ٤٥، ص (٣٤) قوله «دام ظله» لا يتم في الاصول العمليّة «آه» وجه ذلك انه لا معنى للقول بانه هل تثبت السنة الواقعية بالشك او لا ؟ كما هو معنى الدليلية ادا لا طريقية للشك بالنسبة الى الواقع أصلاً نعم يصح ان يقال : ان الشك هل هو رافع التحير في مقام العمل او لا، ولكنه لا ربط ل_ه بالدليلية، واما ارجاع البحث فيها الى البحث عن الدليل بملاحظة ان البحث فيها يقع عن خبر لا تنقض، وحديث الرفع واخبار الاحتياط، والحكم العقلي من حيث كمية دلالتها وكيفيتها فجار في جميع مسائل الفقه.

و الحل ان المسألة الأصوليّة هي نفس البرائة والاحتياط والتخيير ووجوب البناء على الحالة السابقة وموضوعها عمل المكلف لا ان الموضوع هو الامور المذكورة، والمسألة الأصوليّة هو البحث عن احوال دلالتها كما وكيفا، وهذا واضح.

(5٥، ص ٣٥) قوله (دام ظله) والذي يمكن تعقله ان يلتزم الواضع «الخ» قد يستشكل عليه بانه كما ان الزوجية لها آثار شرعاً وعرفاً وبعد انجعالها بانشاء من يعتبر بانشائه تترتب تلك الآثار، كذلك علاقة اللفظ والمعنى أيضاً لها آثار عرفاً ومنها الحكم بان اللافظ اراده من اللفظ، فاذا انجعلت بالجعل تترتب عليها آثارها قهراً.

و اجاب عنه الاستاذ (دام ظلّه) بان جعل العلاقة بين اللفظ وذات المعنى لا يوجب الا انتقال السامع متى سمعه وتصوره اليه واما اسناده التصور الى المتلفظ كما هو الغرض العمدة من الوضع - والا فصرف انتقاش المعنى التصوري والخطور بالبال ليس ثمرة للوضع فقط بل يحصل بقول «ما وضعت» فانه يُوجب تذكر السامع متى سمع اللفظ - فلا دليل عليه.

ص: 243

فان قلت: نفرض جعل العلاقة بين اللفظ والذات المتصورة بالمعنى الحرفي.

قلت: غاية الامر انه حينئذٍ يوجب انتقال السامع الى تصور المتكلم اياه، واما تصديقه بوجوده في نفس المتكلم فلا موجب له فالمحيص منحصر في القول بصدور تعهد من الواضع بالارادة عند التلفظ، فانه يوجب تصديق المطلع عليه بارادته المعنى من اللفظ على حسب تعهده، والحاصل ان ذات انشاء الوضع خالياً عن التعهد لا تترتب عليها النتيجة المذكورة، ولا يمكن ان يقال: فعله بقصد ترتب هذه النتيجة يوجب ترتبها فان غاية الشيء لابد من ترتبها على نفسه مع قطع النظر عن قصد القاصد اياه لاجلها، وهذا بخلاف التعهد فانه موجب لترتب المتعهد به على الشيء المتعهد عنده، كما هو امر واقع بحكم الوجدان.

(٦5، ص ٣٦) قوله (دام ظلّه) والحاصل انه كما يمكن ان يكون العام وجهاً «الخ» قد يقال: ان معنى جعل العام وجهاً للافراد ملاحظتها بنفس ملاحظة العام لا بلحاظ آخر عقيب لحاظ العام، وفيه ان العام مغاير للافراد في ظرف الذهن والتحليل، وان كانا متحدين في الخارج، ولا يخفى ان الوضع يكون بازاء الموجود في الذهن عند تعريته عن كلا الوجودين وعن العدم، وحينئذٍ فكيف يمكن لحاظ احد المتغايرين بلحاظ الآخر؟ وهل هو الا الخلف في تغايرهما ؟ فالحق ان يقال : ان للافراد ملاحظتين، ملاحظتها بالصورة التفصيلية، وملاحظتها بوجه اجمالي ببركة العام بمعنى جعل العام معياراً وضابطاً، بان نلاحظه بما هو ثمّ نشير الى كلّ ما هو فرد لهذا المفهوم فالوجه الاجمالي ليس هو مفهوم العام بل مفهوم ما هو مندرج تحته، وعلى هذا فمثل ذلك متأت في جانب الخاص أيضاً، فانه يقال ان للعام ملاحظتين : ملاحظته بصورته التفصيلية وملاحظته بوجهه الاجمالي على النحو المتقدم في العكس، مثاله ما لو راينا شبحاً من البعيد ولم نعلم انه انسان أو ب_ق_ر او فرس بل او شجر او حجر فعند تجريده عن الخصوصيات الفردية تحصل في الذهن صورة اجمالية، وهو ما يكون نوعاً لهذا، فالتجريد في مثل زيد وعمرو واشباههما من الافراد المعلومة النوع يوجب ملاحظة النوع تفصيلاً، وفي مثل الشبح والجزئي الغير المعلوم النوع يوجب ملاحظته إجمالاً فقد صار الجزئي ههنا آلة ملاحظة الكلي، بمعنى ملاحظته بعنوان ماهو نوع لهذا، كما كان الكلي آلة للحاظ الجزئي هناك بمعنى ملاحظته بعنوان ما هو فرد لهذا.

ثم على فرض القول بان العام في الفرض السابق وجه ومرآة للافراد نقول بامكان مثله في هذا الفرض أيضاً، فان جهة وجهية العام ليس الا الاتحاد الخارجي، وهو مشترك فيما بين الطرفين، فكما يمكن جعل ذلك المتحد مرآة لهذا المتحد بملاك الاتحاد كذلك يمكن العكس بعين تلك الجهة.

ص: 244

(75، ص ٣٦) قوله «دام ظله» لعين تلك الجهة «آه» يمكن الخدش_ة ب_ان الانتقال من الجزئي الى نوعه بعنوان اجمالي هو عنوان ماهو نوع لهذا الجزئي حاله حال الانتقال من زيد اذا جاء مع شخص آخر لا نعرفه بشيء من اوصافه الذاتية الا بعنوان اجمالي عرضي هو عنوان من هو غير زيد ولا يخفى ان ملاحظة زيد ليست قنطرة الى ملاحظة هذا الشخص بلا واسطة بل هو وسيلة لتصور العنوان العرضي، فكذا الحال في المقام، وهذا بخلاف العام فانه قنطرة لملاحظة افراده بلا واسطة عنوان آخر أصلاً حتّى عنوان الاتحاد ونحوه.

(85، ص ٣٦) قوله «دام ظله» احدهما ان معاني الحروف مفاهيم لوحظت في الذهن آلة «الخ» لابد لتوضيح الاشكال من تمهيد مقدمة: انه لا اشكال في ان ماهو المتحقق في الخارج في قضية «سيري من البصرة كذا» مثلاً امور: الأوّل السير، وقد افاده كلمة السير، والثاني تخصصه بالاضافة الى المتكلم، وقد افادته الهيأة التركيبية بين السير والياء، والثالث تخصصه بكون مبدئه البصرة وبعد ما افيد ذات البصرة بكلمتها يبقى سهم كلمة من نفس معنى الابتداء، وحينئذٍ نقول : قد ينتزع من هذا المتحقق الخارجي اعني اعني تخصص السير بمبدئية البصرة مفهوم ذهني يكون نحو وجوده في الذهن نحو وجود استقلالي بحيث يكون لحاظ المتعلق معه وضع شيء في جنبه على خلاف وجوده في الخارج، حيث كان نحو وجوده فيه نحو وجود العرض المتقوم بالمحل وهذا هو المدلول عليه بكلمة الابتداء، وقد ينتزع منه مفهوم ذهني يكون سنخ وجوده في الذهن سنخ وجود العرض في الخارج، ولا نعني ب_ع_روضه في الذهن مثل عروض الكلية للانسان في الذهن فان معنى عروض الكلية في الذهن ان الناظر متى لاحظ الملحوظ في النظرة الأولى يحكم بان هذا المتصور المتصف بوصف التعرية عن الخصوصيات يكون كلياً، فخارج الذهن الذي يتعقل فيه مفهوم الكلية يكون ذهناً آخر لا الخارج، فمفهوم الكلية مفهوم مستقل غير قائم بغيره، وان كان واقعها أمراً عارضاً على الامر الذهني، بل المراد بالعروض الذهني في المقام كون المفهوم في عالم مفهوميته غير مستقل بالمفهومية ومحتاجاً الى مفهوم آخر حتّى يستند اليه ويقوم به، وحقيقته ليست الا ربطاً بين جوهرين ذهنيين وتخصصاً ذهنياً لهما، وهذا هو المدلول عليه بكلمة من.

اذا تمهدت المقدمة فنقول : لو اخذ في الموضوع له لكلمة «من» علاوة على ذات الابتداء حقيقة اللحاظ المربوط بالغير، وفي الموضوع ل_ه للفظة «الابتداء» خصوصية حقيقة اللحاظ الاستقلالي يرد في المقام اشكالات:

منها انه كيف يكون كيفيات اللحاظ واوصافي التصور كيفيات واوصافاً للملحوظ والمتصور، فان اللحاظ عارض الملحوظ ولا يمكن اخذه او اخذ ما يتأتي من قبله في موضوعه، فانه دور

ص: 245

صريح، بل ليس الملحوظ الا الذات السازجة والماهية البحتة الّتي ليس في مرتبتها شيء من الاشياء حتّى الوجود والعدم، فكيف بالاستقلال والتبعية ؟ وهي المرادة بقولهم الماهية من حيث هي ليست الاهي.

و منها انه يلزم كون المعنى في المقامين جزئياً حقيقياً ذهنياً، ضرورة ان القيد حقيقة اللحاظ بخارجيتها النفسانية.

و منها انه يوجب تصوراً آخر للمعنى فان التصور الأوّل متمم المعنى المستعمل فيه، وتصور المستعمل فيه ممّا لابد منه في الاستعمال.

ومنها انه يلزم امتناع امتثال مثل «سر من البصرة» الا على التجريد، فان المفهوم بقيد الوجود الذهني كلي عقلي لا موطن له سوى الذهن ومستحيل الانطباق على الخارجيات.

هذا محصل الاشكالات الناشئة من قبل اخذ التصور في المعنى، وقد عرفت عدم اختصاصها بالحروف بل يجري في الاسماء الّتي بمعناها أيضاً.

و توضيح الجواب عن الكل يحتاج الى تمهيد :مقدمة وهي انه لا شبهة في انه ليس لنا وراء عالم الذهن والخارج عالم آخر كان هو عالم المفاهيم، وهذا معنى قولهم الماهية من حيث هي ليست الاهي، بل لابد من اشراب الوجود اياها ولا شك ان اشراب الوجود الذهني مانع عن الصدق على الخارجيات، فصدق المفاهيم على الخارجيات لا يمكن الا بعد تعريتها عن الوجود الذهني، كما هو الحال في النظرة الاولى ثمّ بعد هذه التعرية لا يلزم الانعدام الرأسي، بل يبقى هنا شيء ويراه الانسان أمراً منحازاً عن كلا عالم_ي ال_ذهن والخارج، وهذا هو المسمى عندهم بظرف التفرر، وفي هذا النظر يقال : هذا اما موجود في الذهن او في الخارج او معدوم، وبالجملة بعد الاشراب والسلب المذكورين يبقى لنا مشار اليه بهذا، وهذا هو المعبّر عنه بالتخلية في عين التحلية واذا كان هذا حال اصل المفاهيم فالحال في الاوصاف المتحققة لها في الذهن يكون كذلك أيضاً، فلا يلزم من غمض العين عن حيث ذهنيتها زوالها بالمرة.

اذا تمهدت المقدمة فنقول ان مفهوم «من» مثلاً كسائر المفاهيم بلا فرق، في انه بعد التعرية المذكورة يصير يصير كلّيّاً صادقاً على الكثيرين مع ان واقعه موجود ذهني، فحاله في ذلك حال مفهوم لفظ «الابتداء بعينه، بل ابتلاء الثاني اشد من الأوّل بالذهن، حيث انه متصف في الذهن بوصف الاستقلال المضاد لما في الخارج من وصف الاندكاك والافتقار، فهو مضافاً الى التجريد عن الوجود الذهني يحتاج الى التجريد عن هذه الصفة أيضاً حتّى ينطبق على الخارجيات واما مفهوم «من» فهو مشابه للخارج في وصف الاندكاك، فلا يحتاج الى ازيد من التجريد عن الوجود الذهني، وعلى هذا فيصح ان يقال ان الملحوظ على قسمين : لانه اما

ص: 246

مستقل واما غير مستقل.

و اما قولك: هذان من صفات اللحاظ فلا يصح تقسيم الملحوظ والمعنى اليهما فممنوع بكليته الا ترى ان المفهوم اللا بشرط يمتاز عن المشروط بشيء او بلا شيء مع ان ما به الامتياز امر،ذهني وكذا الكلي والمصداق يتمايزان بأخذ التعرية عن الخصوصيات في الأوّل دون الثاني مع ان التعرية امر ذهني، وكذا الحال في العام المجموعي والاستغراقي، فكما يذكر ذلك عند تقسيم الملحوظ في عداد قسامه فيقال: ان من اقسام الملحوظ الانسان المعرى والغير المعرى، وكذا الانسان المطلق والمقيد، فكذلك حال الاستقلال وعدم الاستقلال في مقامنا، وكما ان وصف التعرية والاطلاق لابد من غض العين عن حيث ذهنيتهما حتّى يصح على الخارجيات، ولا يوجب ذلك زوالهما راساً، بل اذا نظر الناظر بنظرة ثانية الى ما في النظرة الاولى يحكم بان هذا الذي تصوره هذا المتصور معرّى عن الخصوصيات مثلاً، فهكذا الحال في المقام، ولهذا يمكن الاشارة الى القيد في النظرة الثانية، فيقال هذا الابتداء الذي لاحظه هذا اللاحظ يكون كلاً على غيره وعارضاً عليه.

و اما قولك : ان اللحاظ عارض الملحوظ «الخ» ففيه ان عروض الوجود على الماهية ليس عروضاً على الحقيقة، والا فليزم في الوجود الخارجي أيضاً ثبوت الماهية أولاً ثمّ عروض الوجود عليه، وهو واضح الفساد.

و اما قولك : انه يوجب تصوراً آخر «الخ» ففيه ان عنوان الاستعمال وان كان متأخراً عن ذات المعنى لانه يحدث بالتلفظ مع الارادة، لكن اللحاظ الذي يعتبر في الاستعمال ليس کلحاظ السامع متأخراً عن عنوان الاستعمال، بل المتكلم يلحظ المعنى ثمّ يتلفظ، ولا يحتاج الى لحاظ آخر متعلق بما يلفظ باللفظ واستعمله فيه، فهذا اللحاظ متأخر عن المعنى لكنه غير محتاج اليه في الاستعمال والذي يحتاج اليه في الاستعمال وهو اللحاظ الأوّل غير متأخر عن المعنى، بل قد عرفت ان الماهية ليست أمراً وراء الوجود الخارجي او الذهني.

(٩٥، ص) قوله (دام ظله) و الثاني انه لما كان المأخوذ فيها كونها آلة «الخ» حاصل تقرير هذه الشبهة بتقريب آخر ان الكلية تحتاج الى التعرية عن الخصوصيات، والمعنى الحرفي اذا عرى عنها يخرج عن حقيقته، لانه حينئذٍ يصير مستقلاً، وقد كان الاندكاك ماخوذاً في حقيقته وماهيته حسب ما قررت من انه ممّا يتفاوت به الملحوظ لا كيفيات اللحاظ فقط، وهذا اشكال يختص بالمعنى الحرفي ولا يجري فيما يرادفه من الاسماء كالابتداء، وليس كالاشكال الأوّل جارياً في كليهما.

و الجواب انه و ان كان الاندكاك مأخوذاً في حقيقته، لكن خصوصيات الطرفين غير

ص: 247

داخلة، ولها دوال آخر، فالمستعمل فيه للفظة «من» مثلاً في جميع الموارد معنى واحد كلي وهو اصل الابتداء العاجز، ومن لوازمه انك اي معنى فعل او شبهه قربت منه وركبت معه يتقيد هذا المعنى به ويصير هو خصوصية طارية على هذا المعنى، لكن هذا المعنى المتعلق لا ربط له بحقيقة معنى «من»، وله دال آخر فكل من الدوال قد استعمل في معناه الموضوع له، فمادة سرت قد استعملت في مفهوم السير، وهيئته في النسبة التجزمية، ولفظة «من» في مطلق المبدئية العاجزة والخصوصية انما حصلت من تركب هذه المعاني كما ان لفظ الرقبة في قولك «رقبة مؤمنة» قد استعمل في مطلق الرقبة والمؤمنة في مطلق المؤمنة والخصوصية انما حصلت من انضمامهما.

فان قلت: مقتضى موضوعية الجامع المحكي بمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل الى المتعلق هو موضوعية الفرد الخاص الموجود في قولك «سرت» من البصرة» على ان يكون القيد خارجاً والتقيد داخلاً لصدق ذلك العنوان عليه وايجاده معه.

قلت حكم الموضوعية لا يسرى من الجامع الى افراده الا ترى ان مفهوم الحيوان الناطق موضوع له للفظ الانسان مع عدم كون افراده كذلك.

فان قلت ان التبادر يقضي بان معنى «من» خصوصيات الابتداء.

قلت من المعلوم بالوجدان أن معنى «من» لا يتفاوت بتفاوت التراكيب وانه معنى كلي، وان كنت شاكاً في ذلك فاخبرنا عن كلمة «من» في قولك : «من البصرة سرت» هل يفيد معنى عند العرف قبل التلفظ بلفظ البصرة أولاً ؟ وان افادت فهل هو الا مطلق المبدئية العاجزة الناقصة.

و ان شئت توضيح المقام ازيد ممّا عرفت فنقول : انه لا شك في ان الجوامع كلها منتزعة عن الخارجيات، ولا شك ان السير الخارجي من البصرة مثلاً اذا حللته وجزيته بنظر العقل حصل عندك ثلاثة اشياء الأوّل السير، والثاني البصرة، والثالث خصوصية كون السير مبتدء من البصرة، وهذا الثالث يمكن لحاظه بنحوين: الأوّل ان يلحظ ويتعقل مستقلاً، ومن حيث هو، على عكسه في الخارج، اذ هو في الخارج عاجز محتاج الى المتعلق، وهو السير، مندك فيه، وفي الذهن تام مستغن عن غيره، بحيث يكون لحاظ المتعلق معه وضع شيء في جنبه، الثاني ان يلحظ على طبق وجوده الخارجي، حذو النعل بالنعل، فكما انه في الخارج محتاج الى المتعلق وموجود ببركه وجوده، فكذا يتعقل في الذهن محتاجاً الى متعلق خاص وببركة تعقله، ولا شك ان هذا اعنى كونه محتاجاً في التعقل الى المتعلق الخاص لا يوجب ان يكون لهذا المتعلق الخاص دخل في حقيقته ومعناه اصلاً، بل هو مقدمة لتعقله، خارج عن حقيقتة، الا ترى ان

ص: 248

مفهوم الضرب لكونه عرضاً يفتقر في الوجود الخارجي شخص زيد مثلاً، ومع يكون لزيد في معناه دخل اصلاً، فاذن لا فرق بين الملحوظين بهذين اللحاظين الا في مجرد كيفية اللحاظ، حيث انه في الأوّل بنحو الاستقلال على عكس الخارج، وفي الثاني بنحو العجز والافتقار على طبقه ولا يعقل ان معنى واحداً بمجرد ان يختلف كيفية لحاظه يختلف حاله في الجزئية والكلية فكما ان الملحوظ بالنحو الأوّل كلي جامع للابتدائات الخارجية العاجزة، فكذا الملحوظ بالنحو الثاني أيضاً كلي جامع لتلك الافراد بعينها من دون ان تكون دائرته اضيق من الأوّل اصلاً، غاية الامر ان الأوّل جامع مستقل للافراد العاجزة، والثاني جامع عاجز للافراد العاجزة، فلا فرق بين اللفظتين في عموم الوضع والموضوع له، نعم بينهما فرق في كيفية الوضع ففي لفظة الابتداء لما أمكن الاشارة الى نفس المعنى فلهذا لا يحتاج في مقام الوضع الى الوجه، بل يشار الى نفسه وفي الثاني لما لم يمكن الاشارة الى نفس المعنى ضرورة منافاة الاشارة مع ما هو عليه من وصف العجز والافتقار فلهذا لابد ان ينتزع منه في مقام الوضع اجمال، ويجعل هذا الاجمال وجهاً له وعبارة عنه، بحيث يكون الفرق بينه وبين الجامع الذي هو الموضوع له بالاجمال والتفصيل، وذلك كمفهوم الابتداء المحتاج في التعقل الى المتعلق، ولا يلزم اتفاق الحاكي والمحكى في جميع الجهات، فيمكن ان يكون الأوّل معنى اسمياً، والثاني معنى حرفياً، كما في المقام، كما يمكن ان يكون الأوّل كلّيّاً والثاني جزئياً، كما في مفهوم لفظ الجزئي ومحكيه، وحينئذٍ فان اريد من الخصوصية في معنى «من» خصوصية بالنسبة الى معنى لفظ «الابتداء» فقد عرفت انهما مفهومان متبائنان، حيث ان الأوّل مستقل باللحاظ والثاني مفتقر فيه الى الغير وان اريد الخصوصية بالنسبة الى مقسم القسمين، وهو المعنى المجرد عن الكيفيتين الذي لم يوضع له لفظ فهي غير مختصة بمعنى «من» لجريانها في معنى لفظة الابتداء» أيضاً، ضرورة اخصية القسم عن المقسم، واما بالنسبة الى الخارج فهما متصادقان على طائفة واحدة من الخارجيات.

(١٠٥، ص 38) قوله (دام ظلّه) اذ لا يعقل الاختلاف في المتصور «آه» فان قلت: لا يعقل أيضاً ان يكون الاختلاف الناشيء من قبل التصور دخيلاً في المعنى بل لابد ان يكون اختلاف انحاء التصور متأخراً عن المعنى، وهنا الجامع بين التصور الاستقلالي والتصور الآلي الربطي اذا جرد عن الخصوصيتين لم يبق الا شيء واحد وكل من الخصوصيتين امر ذهني، فلم يجيء التعدد الا من قبل الامر الذهني والتعدد في المعنى لابد وان يكون مع قطع النظر عن الوجود الذهني محفوظاً.

قلت: أولاً قولك ان التعدد الجائي من قبل اللحاظ غير دخيل في المعنى ممنوع جداً، الا

ص: 249

ترى ان المطلق القسمي مع المقيد مفهومان قطعاً مع ان التعدد بينهما ليس الا من قبل الاعتبار، مع ان معنى المعنى والمفهوم ليس الا المتعقل في الذهن، ولا واقع ولا حقيقة للمفهوم سوى الذهن ضرورة انه ليس لنا عالم وراء الخارج والذهن كان هو عالم المفاهيم، وحينئذٍ نقول: قد نتصور حالة كون الماء في الظرف على نحو الاندكاك في الماء كما في الخارج، او حالة كون الظرف مستقراً فيه الماء على نحو الاندكاك في الظرف كما في الخارج، وقد نتصور الظرفية على وجه الاستقلال، ففي الأوّل يكون في البين مندك ومن_دك فيه، وفي الثاني يكون في البين اشياء مستقلة عرضية ليس شيء منها مندكاً في شيء، وهذا الاندكاك والاستقلال ثابتان في الذهن حتّى عند التجريد المتوقف عليه الاستعمال للتطبيق على الخارجيات، ونقول في توضيح ذلك بالمثال : ان الكلية معقول ثانوي وهو عبارة عن حمل الطبيعي على افراده، والحمل يتوقف على المغايرة والمغايرة متوقفة على حفظ حيث الذهنية، اذ لولا ها لما كان في البين شيء يحمل على الخارجيات، ومع ذلك يتوقف الكلية على تجريد الطبيعي عن حيث الذهنية، وبعد التجريد يكون في البين شيء ذهني يحمل، وكذلك تتوقف الكلية على تجريد الطبيعي عن الخصوصيات والا لما يصدق على الكثيرين، ومع ذلك نحتاج الى تجريده عن وصف التجريد، ضرورة ان الطبيعي بوصف التجريد لا تنطبق على الخارجيات، وبعد التجريد عن هذا الوصف يبقى لنا أيضاً شيء مجرد فكما ان تجريد الطبيع_ي ع_ن وصف الذهنية والتجريد لا يورث انتفاء هذين الوصفين عنه واقعاً وفي ظرف التقرر، كذلك تجريد الاندكاكية والاستقلال في مقامنا بالنسبة الى المعنى الحرفي والاسمي لا يوجب انتفائهما رأساً. فان قلت المعاني الخاصّة المندكة في المحال الخاصّة كيف يمكن تعقلها بدون المحال الخاصّة.

قلت : ينتزع العقل ممّا بين المعاني الجزئية العاجزة جامعاً بلا مؤنة زائدة في المقام على سائر المقامات فكما يتصور الظرفية المندكة في المحل الخاص كذلك يتصور أيضاً مطلق الظرفية المندكة في محلّ ما والاحتياج الى محل ما هنا نظير الاحتياج الى فاعل ما في النسب المستفادة من الافعال الا ترى ان لفظ ضرب في قولك : ضرب زيد قبل مجيء كلمة زيد يدل على النسبة الى فاعل ما، وهذا المعنى العام هو المتصور حال استعمال الحروف الاترى ان الوجدان يشهد بان كلمة «في» في جميع القضايا يكون بمعنى وليس من باب المشترك اللفظي، وهذا المعنى هو المستفاد من كلمة «في» المبدؤة بها القضية بعد التكلم بها وقبل التكلم بالكلمة المتصلة بها، وكما يمكن تصور هذا المعنى للمستعمل يمكن للواضع أيضاً بلا فرق.

فان قلت: المعنى الربطي الاندكاكي كيف يمكن ان ي_ت_ع_ق_ل في الذهن على وجه

ص: 250

الاستقلال، وذلك لان بعض المعاني لم توجد في حقيقتها التبعية للغير في اتي موطن تحقق، وهذا مثل القيام فانه في الخارج لا توجد الا تبعاً للمحل، واما في الذهن فيمكن ان يوجد عن المحل، وبعض المعاني يكون المأخوذ في ماهيتها التبعية في اي موطن تحقق، ومن هذا القبيل الاضافات، فالابوة لا يمكن تعقلها بدون تعقل الذاتين المنتسبين، والظرفية لا يمكن تعقلها بدون تعقل ذات الظرف والمظروف، فاي فرق بين هذه المعاني الاضافية الاسمية وبين المعاني الحرفية.

قلت: فرق بين التعقل مع التعقل وبين التعقل في ضمن التعقل، فالمحقّق في الاضافات هو الأوّل والمتحقق في المعاني الحرفية هو الثاني، فالمعنى الحرفي قائم بالغير ومندك فيه والاضافة ملحوظة بالاستقلال غاية الامر يتوقف تعقله على تعقل شيء آخر.

فان قلت: كيف يمكن انتزاع المفهومين مع ان منشأ الانتزاع شيء واحد خارجي، وليس في البين شيئان خارجيان.

قلت: اما المعنى الاندكاكي فهو ينتزع عن الاشياء الخارجية بتجريدها عن الخصوصيات مع حفظ وصف اندكاكها في محل ما واما المعنى الاستقلالي فهو ينتزع عن المعاني الاستقلالية الجزئية المنتزعة عن الذوات الخارجية مع تجريدها عن وصف اندكاكها، ولا يلزم ان يكون منشأ الانتزاع أمراً خارجياً دائماً، ألا ترى ان الفوقية امر اعتباري وهو جزء لمنشأ انتزاع الفوق، فانه ينتزع عن الذات والفوقية، وتمام منشأ انتزاع الفوقية الكلية هو الفوقيات الجزئية.

(115، ص 38) قوله (دام ظلّه) و من هنا تعرف ان الحروف الّتي معانيها انشاءات، الى قوله (دام ظله) وهكذا الكلام في هيأة افعل ونظائرها ممّا يتضمن معنى الانشاء «الخ» اعلم ان المعاني الحرفية على ثلاثة اقسام الأوّل ما تقدم بيانه من المعاني التصورية، الثاني المعاني الانشائية مثل ما وضع له هيأة افعل من الطلب الخارجي.خارجه النفس، بحيث لو لم يكن موجوداً لزم كونها بلا معنى واما القسم الأوّل فهو كلي صادق على الذهن والخارج والموجود والمعدوم الثالث ماكان من قبيل الاشارة الّتي هي جزء معنى اسماء الاشارة، وهذا أيضاً من سنخ القسم الثاني الا ان اللفظ وضع لمعنى مركب من معنى تصوري اسمي ومن المعنى الحرفي المذكور.

و على كلّ حال فالشبهة في جزئية هذه المعاني هي ان المعاني الانشائية وجودات خارجية، والوجود الخارجي لا يكون الا جزئياً.

و الجواب ان الطلب مثلاً لو وجد في الخارج وإن كان محفوفاً بالخصوصيات كالزمان والمكان والمتعلق والطالب والمطلوب منه الا ان شيئاً من هذه الخصوصيات لا دخل له في

ص: 251

حقيقة الطلب أصلاً، فهيأة الامر موضوعة لحقيقة وجود الطلب فقط، والخصوصيات خارجة عن معناها، وبعبارة اخرى الطبيعة منفكة عن الخصوصيات الفردية لا توجد في الخارج ابداً، ولا شك ان حال تلك الخصوصيات حال اصل الطبيعة في عدم دخل شيء من الوجود والعدم في ماهيتها، ولهذا يصح زيد موجود وزيد معدوم مثلاً، فاذا اضيف الوجود الى الطبيعة في الخارج فلا محالة يكون له اضافتان اضافة الى اصل الطبيعة، واخرى الى الخصوصيات الفردية، ففيما نحن فيه قد الغى جهة اضافته الى الخصوصيات ووضع اللفظ له بلحاظ اضافته الى اصل الطبيعة، فنقول : ان وجود اصل الطلب بل كلّ طبيعة وان كان لا يقبل الاتصاف بالكلية والجزئية، لانه خارجي وهما من عوارض الذهني، ولكن مرادنا بالكلية انه متى دخل صورته في الذهن تتصف بالكلية.

فان قلت الماهية اذا اخذت متقيدة بحقيقة الوجود فهي جزئية، لان الوجود مساوق للتشخص.

قلت ليس المعتبر شخص الوجود، بل جامع الوجود، ولا نسلم ان الوجود مطلقاً مساوق للتشخص توضيحه ان تعدد افراد طبيعة واحدة كما لا يكون من قبل تخالفها في العوارض الشخصية، ضرورة ان فرض تشاكلها في جميع تلك العوارض لا يخرجها عن التعدد، كذلك لا يكون من قبل وجود اصل تلك الطبيعة، اذ لو فرض عدم بقاء شيء سوى وجود اصل تلك الطبيعة بلا زيادة شيء عليه لما كان تعدد في البين بالبديهة وانما هذا التعدد من قبل امر آخر لا يعلمه الا اللّه تعالى، فوجود اصل الطبيعة امر وجداني لا يقبل التعدد ويقبل الصدق على الكثيرين، وبعبارة اخرى الوجدان شاهد قطعي بان الوجودات الخارجية بينها قدر مشترك، وهو صرف الوجود وليست اشياء متبائنة بالكنه بلا جامع لها أصلاً بحيث كان اطلاق لفظ الوجود عليها إطلاقاً لللفظ المشترك على معانيه وهذا الجامع معروض للكثرة في قولنا: الخبز كثير، والماء كثير مثلاً، ضرورة ان كلّ فرد فرد لا يكون معروضاً لها وكذا مجموع الافراد ومن المعلوم ان هذا الوصف له نفس امرية ويكون صدقاً في مورد وكذباً في آخر، وأيضاً لو علمت إجمالاً بوجود زيد أو عمرو، فكل منهما مشكوك الوجود فلو لم يكن بينهما جامع الوجود فما يكون متعلق علمك ؟

اذا عرفت ذلك فالمدعى انه يمكن ان يلغى الواضع في وضع هيأة الامر مثلاً تلك الخصوصيات الفردية وينظر الى نفس الطلب المجرد ويضع الهيأة له، وهذا المفهوم اعني صرف الوجود يشترك مع الماهية في ان كلا منها جامع ينتزعه العقل من الخارجيات ويجرده عن الخصوصية ويكون وضع اللفظ بازائهما في حال التجريد ويفارقها في ان الخارج ظرف لوجود

ص: 252

الماهية ولنفس الوجود لا لوجوده والا تسلسل، وفي ان الماهية - لكونها معراة عن الوجود بقسميه والعدم تحصل وتوجد في الذهن والوجود ليس ظرفه الا الخارج والا انقلب الذهن خارجاً، وانما يمكن تعقل صورة الوجود في مقام اخذ الجامع من الوجودات الخارجية.

(120، ص 38) قوله (دام ظلّه) لا تخرج معانيها بما هي معانيها عن كونها كليات «آه» وبالجملة كما ان العلة التكوينية لتحقق اصل الجامع لا يستند اليه الا تحقق اصل الجامع وتكون الخصوصيات مستندة الى علل اخر وكذلك العلة التشريعية، مثلاً الأمر بالوضوء لا يستند اليه الا تحقق اصل الوضوء اما كونه بالماء الحار فمستند الى الدواعي النفسانية للعبد، فكذلك الحال في مستند الامر مثلاً، فما يستند اليها هو الدلالة على اصل الايجاب واما الخصوصيات الاخر فمستفادة من دوال اخر.

(١٣5، ص ٤١) قوله (دام ظلّه) فلو اردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من التعدد يلزم الدور «الخ» فان كونه لفظاً وكونه مراداً نظير كونه مستعملاً وكونه مستعملاً فيه، او كونه دالا ومدلولاً، وجميع ذلك انما يتحقق بعد تحقق الاستعمال، فاذا توقف الاستعمال أيضاً على ذلك لزم الدور.

و حاصل الاشكال في اتحاد الدال و المدلول يرجع الى امرين:

الأول اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في لحاظ واحد، حيث ان لحاظ المحكي لحاظ استقلالي مصحح للحمل عليه وبه ولحاظ الحاكي فنائي غير مصحح لذلك، وفي صورة الاتحاد يلزم اجتماع هذين اللحاظين المتنافيين في لحاظ واحد.

و توهم أن ايجاد اللفظ حيث انه من الافعال الاختيارية - مسبوق بصورته الذهنية، فهذا السبق يدفع الاشكال لان المحكي حينئذٍ وجوده الذهني والحاكي وجوده الخارجي فلا يجتمع اللحاظان.

مدفوع بانها ان لو حظت بوصف الذهنية لكان اللازم حينئذٍ الحكم عليه بما يناسب الصورة الذهنية ككونه كيف النفس، ونحو ذلك ؛ ولو الغيت عنها هذه الصفة كانت عين ذي الصورة، وحينئذٍ وان صح الحمل عليه بما يناسبه ؛ ككونه لفظاً او مركباً من ثلاثة احرف، الا انه ارتفعت المغايرة من البين وبقى الاشكال.

الثاني اجتماع اللحاظين الفراغي واللافراغي في لحاظ واحد: اما الفراغي فلانه محتاج اليه لاجل الاستعمال، اذ لا يتوجه الهم الى احضار امر في ذهن المخاطب الا بعد الفراغ عن اصل ثبوته ووجوده واما اللا فراغي فلانه في مقام ايجاده ولابد فيه من عدم الفراغ عن الوجود.

ص: 253

و يمكن الجواب عن كلا الامرين: اما الأوّل فبكفاية التعدد الاعتباري اذ ليس مقام الاستعمال احوج الى الاثنينية من مقام الحمل، والتعدد الاعتباري - كما في قولك زيد قائم كاف للثاني، فكذا الاول فان الافناء فعل النفس، فالمغايرة الاعتبارية الحاصلة في ذلك العالم كاف لمقام الاستعمال أيضاً وحينئذٍ :نقول : لا اشكال في ان لوجود لفظة «ديز» :جهتين جهة اضافة الى الفاعل وجهة اضافة الى القابل فمن الحيثية الاولى نعبر عنه بالايجاد، ومن الحيثية الثانية نعبّر عنه بالوجود وهذان اعتباران متغایران مصححان لتخلل الفاء ولعناية العلية والمعلولية، حتّى يصح ان يقال : اوجدته فوجد، ولا شك ان مقام الاستعمال وكون الشيء حاكياً ومحكياً لا يحتاج بازيد من مقام العلية والمعلولية الى التعدد والاثنينية، وحيث كفى الاعتباران المذكوران للثاني فليكفيا للاول أيضاً، فالفاني هو وجود اللفظ بحيث انتسابه الى اللافظ، والمفني فيه هو بحيث انتسابه الى ماهية اللفظ المخصوص.

و اما الثاني فبأنّ النظر الفراغي على نحوين: الفراغ عن الوجود الثابت، وهذا مناف مع مقام الايجاد، والفراغ عن الوجود الذي سيثبت، كما هو المتحقق في القضايا الحقيقية، وهذا غير مناف معه وكاف لمرحلة الاستعمال أيضاً كما لواتى بلفظة «هذا» للاشارة الى موجود يثبت ويتكون في الخارج بنفس هذه اللفظة، فان الوجدان شاهد بصحته، وهذا نظير الاتيان بصيغة الماضي في مقام التعبير عن الامر المستقبل بملاحظة كونه محقق الوقوع، فكما ان تحقق الوقوع في المستقبل مصحح للاتيان بصيغة المضي فكذلك مصحح لتحقق الاستعمال في مقامنا.

(١٤٠، ص ٤١) قوله (دام ظلّه) لكن يمكن مع ذلك القول: بصحة قولنا: زيد لفظ او ثلاثي «الخ» ان قلت الظاهر عدم صحة هذا الوجه، وتوضيحه يحتاج الى تقديم مقدمتين:

اوليهما انه لا شك في ان تركيب القضية لا يمكن الا في عالم الذهن بايقاع الحمل بين والآخر امرين ذهنيين في ظرف التقرر، لوضوح اقتضاء الحمل وجود شيئين: احدهما موضوع، محمول، وذلك لا يكون ابداً الا في الذهن بان يلاحظ في الذهن صورة الموضوع مجردة عن المحمول، وصورة المحمول مجردة عن الموضوع، ويقطع النظر عن وصفي الذهنية والتجريد، ويحكم بان هذين الشيئين اللذين هما اثنان في ظرف التقرر واحدان في الخارج او في الذهن، فكما يحتاج في تحقق القضية الى لحاظ الاتحاد اما خارجاً واما ذهناً ليكون الحمل باعتباره، كذلك لا محيص عن تجريد كلّ من الموضوع والمحمول عن الآخر، وهو لا يتحقق في الخارج، ضرورة كونهما فيه امزاً واحداً، واذن فالموضوعية والمحمولية وصفان ذهنيان طارثان على المحل الذهني بلحاظ الحكاية عن الواقع لا على الخارجي بخارجيته، فبمجرد تحقق زيد قائم في الخارج لا تتحقق القضية مالم ترتب صورتها في ذهن ذاهن.

ص: 254

و الثانية انه لابد ان يكون الموضوع منظوراً اليه بالنظر الفراغي، اعني ان يفرض مفروغ الوجود في موطنه من خارج او ذهن وان لم يكن موجوداً واقعاً فليفرض كذلك - كما في موضوع القضية الكاذبة - ضرورة ان ثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وبعد الفراغ عن نفسه، ومفروغية كلّ شيء بحسبه ففي مثل «الانسان حيوان ناطق» او «زيد موجود» هي مفروغية الطبيعة المقررة بحسب ظرف التقرّر، وفي مثل «زيد قائم» هي مفروغية الوجود الخارجي، وفي مثل «علمى قليل» هي مفروغية الوجود الذهني.

اذا عرفت المقدمتين علمت ان زيداً في المثال لا يكون موضوعاً من جهتين: احديهما انه امر خارجي، وقد مر في المقدمة الاولى ان الخارجي لا يتصف بالموضوعية. والثانية انه غير متصور بالتصور الفراغي بل بالتصور المقدمي للايجاد وهو غير كاف في الموضوع، فلابد ان يتصور ثانياً مفروغاً عنه فيكون هذا المتصور الثاني موضوعاً.

قلت: يمكن الجواب عن كلا الوجهين بان يقال ان ايجاده لا محالة حيث يكون فعلاً اختيارياً مسبوق بتصوره ويكون هذا التصور بعد الايجاد أيضاً باقياً في الذهن، فالحمل يقع بين هذا الوجود البقائي من تصوره وبين المحمول، فلا يرد الوجه الاول؛ وحيث ان متعلقه بعد الايجاد امر مفروغ الوجود اندفع الوجه الثاني والحاصل ان التصوّر قبل الوجود كان مقدمة للايجاد وغير كاف لمقام الحمل، ولكن بعد الوجود يتصف بقاء ذلك التصور بالفراغ، فيكفي حينئذٍ للحكم والحمل، فتدبّر جيّداً.

(١5٥، ص ٧١) قوله «دام ظله» هذا في الجمل الخبرية و اما الانشائيات «آه» وحاصل الكلام ان الاخبار والانشاء مشتركان في جهة ومفترقان من جهة اما الجهة الّتي اشتركا فهي ان كلا منهما يحكي عن الصفة الخارجية الّتي خارجها النفس والكاشفية والأمارية الّتي هي شأن اللفظ جهة مشتركة بينهما وبين جميع الالفاظ الموضوعة، ويفترق الانشاء والاخبار عن المعاني التصورية بان المعنى في الثانية هو المفهوم التصوري والصورة الذهنية الّتي هي عن الخارج ونفس الأمر مثل لفظ الطلب والتمني والاستفهام وغيرها، واما الانشاءات والاخبارات فالمعنى فيها هو نفس الصفة بخارجيّتها وواقعها الّتي هي مصاديق مفاهيم الاخبار والطلب والتمني والترجي واقعاً، ويحمل هذه المفاهيم عليها بالحمل الشايع، لكن لا تحمل بهذا الحمل المفاهيم المذكورة بقول مطلق الا على المصاديق الحقيقية النفس الامرية، وهي الصفات النفسانية الخاصّة، وليست هي معاني للصيغ والانشاءات وانما معناها أيضاً صفة نفسانية من سنخ تلك الصفات وتكون بجعل النفس، والمفاهيم المذكورة تحمل عليها أيضاً بهذا الحمل لكن مقيدة بكونها انشائية ايقاعية فليفهم.

ص: 255

و اما الجهة الّتي يفترق فيها الاخبار والانشاء فهو ان الصفة النفسانية في الاخبار تكون من سنخ صفة القطع والجزم، فكما انك لو اطلعت على قطع في شخص بقيام زيد كان هذا القطع حاكياً لك عن قيام زيد كذلك الصفة الاخبارية صفة نفسانية تحكي عما وراءها وهو الذي يعبر عنه بالحكم تارة و بالاخبار اخرى وهو عقد القلب من المتكلم على وقوع قيام زيد، وايقاعه النسبة بين القيام وزيد فهذا الايقاع وعقد القلب : يحكي عن القيام مثلاً، كما ان صفة القطع كذلك، ولو لم يكن هذا الحكم والايقاع لم يكن في البين حكاية، ثمّ ان كان الخارج مطابقاً لهذا الايقاع كان صدقاً والا كذباً، كما ان القطع ان كان مطابقاً للواقع لم يكن جهلاً مركباً والا كان جهلاً مركبا واما في الانشاء فسنخ الصفة النفسانية سنخ الارادة، فكما ان الارادة المتعلقة بقيام زيد مثلاً لا تحكي عن وقوع القيام في الخارج، بل تقتضي وقوعه فيه فكذلك هذه الصفة المحكية بهيأة اضرب أيضاً يكون من هذا القبيل.

فان قلت: ما ذكرت حقّ في مثل «زيد قائم» و ليقم زيد ولكن لا يتم في مثل «اطلب» الاخباري و «اطلب» الانشائي، حيث ان الهيأة في الأوّل حاكية عن التجزم بوقوع الطلب في موطنه وهو نفس المتكلم، وهذا التجزم حاك عن هذا الطلب النفس الامري الخارجي، ثمّ ان المحكي بهيأة «اطلب» الانشائي أيضاً هو الصفة النفسانية الّتي تكون من مقولة الارادة، وان شئت فعبر عنه بالطلب الايقاعي، وهذا الطلب الايقاعي أيضاً يحكي عن الطلب الحقيقي الذي هو مصداق الطلب بالحمل الشايع، فلم يتحقق فرق بين هذا الاخبار والانشاء، حيث ان كلا منهما حاك عن الصفة النفسانية، وتلك الصفة النفسانية حاكية عن وقوع مضمون الجملة في موطنه.

قلت: نعم لا اشكال في ثبوت الحكاية عن الطلب الواقعي للصفة النفسانية في كلتا هاتين القضيتين، لكن الصفة المحكية باللفظ في احديهما تكون من غير سنخ محكيتها، وفي الاخرى تكون من سنخه فانّ المحكية بلفظ «اطلب» الاخباري هو التجزم، وهو سنخ غير سنخ الطلب الواقعي الذي هو المحكي به، والمحكي بلفظ «اطلب» الانشائي هو الطلب الايقاعي وهو متحد السنخ مع محكيه الذي هو الطلب الحقيقي، وهذا المقدار من الفرق كاف في امثال هذه القضايا الّتي يكون مضمونها من سنخ المعاني الانشائية، مثل أتمني، وأترجي، وأستفهم، وأنهى، وأمدح وأذم، ونحوها، اذا استعملت بطريق الاخبار معها اذا استعملت بطريق الانشاء.

(١٦5، ص 77) قوله (دام عمره) وما قد يتوهم في التعبديات من انه قد يؤتى بالواجب بجميع ما اعتبر فيه ومع ذلك لم يسقط الامر لفقد التقرب الذي اعتبر في الغرض فهو بمعزل من الصواب «آه» فانّا اذا فرضنا تعلق الطلب بصرف وجود الطبيعة الذي هو ناقض العدم

ص: 256

الاصلي ولو فرض ان الغرض الداعي الى الامر شيء اخص فاذا حصل صرف وجود الطبيعة فلا يعقل بقاء هذا الامر، لانه يرجع الى طلب تحصيل الحاصل، فان صرف الوجود الناقض للعدم بالنسبة الى الطبيعة لا يقبل التكرار، فهو مع الوجود الشخصي الجزئي الحقيقي على السواء من هذه الجهة، فكما انه لو امر بايجاد قتل زيد فقتله لا يمكن بقاء هذا الامر، لان وجود هذا الفرد الشخصي من القتل لا يمكن تكراره فكذلك في المقام، نعم لو امر بامر آخر بتحصيل الطبيعة واعطاء صرف الوجود اياها كان ممكنا لأن مرجعه الى ايجاد الطبيعة من كتم العدم أيضاً، فانها بملاحظة هذا الطلب الجديد لم يخرج من العدم الى الوجود وان خرج بملاحظة الطلب الأوّل والحاصل ان المعتبر خروج الطبيعة من العدم بعد الطلب، فلا اعتبار بالوجود قبله، فيمكن التكرار مع تعدد الطلب ولا يمكن بدونه، فالقول ببقاء الطلب الواحد وعدم سقوطه مع حصول الطبيعة بعده بجميع قيودها المعتبرة في متعلق الطلب ليس الا طلباً للحاصل، نعم يمكن ان يقال انه يستكشف من هذا الامر مع كون الغرض اخص انقداح طلب آخر في نفس المولى، والحاصل نعلم ان له غرضا يكون بصدد اقتضاء تحصيله من العبد، اما وجود الغرض فهو المفروض واما انقداح الاقتضاء في نفسه فبدلالة الامر الأوّل، حيث انه لو لم يكن في نفسه الاقتضاء لما امر لكن هذا غير بقاء الامر الأوّل، بل هو في الحقيقة امران، غاية الامر ان مظهر احدهما اللفظ ومظهر الآخر حكم العقل والوجدان، كما في صورة وجدان ولد المولى غريقاً مع عدم التفات المولى (1).

و يمكن توجيه بقاء الامر الأوّل وعدم الحاجة الى امر آخر بتقريب آخر: وهو ان يقال: ان صيغة الامر تدل على طلب الطبيعة لا بصرف وجودها الناقض للعدم بل بوجودها الساري اللازم منه سراية الطلب الى كلّ فرد منها، فينحل الى اوامر وموضوعات، فعلى العبد ان يأتي بالوجود الثاني أيضاً وكذا الثالث فصاعداً، باقتضاء نفس الامر الأوّل، لكن متى حصل الغرض كان مسقطاً لسائر الاوامر المتعلقة بسائر الوجودات فان حصول الغرض أيضاً مسقط للأمر كالامتثال كما في الواجب الكفائي، حيث ان الكل مأمورون فكل مكلف مأمور بامر مستقل ولكن اتيان البعض يوجب حصول الغرض، وبسببه يسقط الأمر عن الباقين فهنا أيضاً ما لم يحصل القيد الموجب لسقوط الغرض يجب الاتيان بالافراد باي مبلغ بلغت، ومتى حصل سقط اوامر الباقي.

ص: 257


1- هذا التوجيه نقله الاستاذ (دام ظله) عن استاذه المحقّق المدقق آغا ميرزا محمَّد تقى الشيرازي الحائرى دام عمره و تاييده (المؤلف، (دام ظلّه) العالی).

و هذا و ان كان وجهاً معقولاً لتصور بقاء الامر الأوّل في التعبديات مع الاخلال بالقرية مع تصور سقوطه عند الاتيان بها، لكن لا يلتزم بالمبنى قائله فانه يقول كما هو الحق: بدلالة الصيغة على مطلوبية صرف وجود الطبيعة لا وجودها الساري.

(175، ص79) قوله (دام ظلّه) على عين المصلحة الّتي تقوم بالفعل الاختياري من دون تفاوت «آه» بان يكون هناك حقيقة واحدة كماهية الصلاة مطلوبة وكان مصداق هذه الطبيعة الواحدة بالنسبة الى اصناف الناس مختلفاً، فالاختلاف راجع الى صرف المصداق، والا فالماهية واحدة والخاصية واحدة كما هو الحاصل في صلاتي المسافر والحاضر.

(185، ص79) قوله (دام ظلّه) لكن من غير سنخ تلك المصلحة القائمة بالفعل الاختياري «آه» بان كان حال الصلاة مع الوضوء والصلاة مع الّتيمم كحال الصلاة والصوم، بحيث لو امكن اجتماع عنوانيهما في المكلف لكان كلاهما مطلوباً منه، لكنه غير ممكن، فلا يمكن ان يكون في حال واحد قادراً ومضطراً، وهذا أيضاً يمكن ان يكون مصلحة الاضطراري اهم من الاختياري ويمكن ان تكون مساوية، وعلى تقدير الاهمية كون الزيادة واجب الاستيفاء وغير واجبه، وعلى تقدير الوجوب كونه ممكن الاستيفاء وغير ممكنه، فتبين ان الاقسام الاخيرة المذكورة بعد هذين القسمين جارية في كليهما، لا في خصوص القسم الأوّل، وهو صورة اشتمال الفعل الاضطراري على عين مصلحة الاختياري بلا تفاوت اصلاً.

(195، ص 80) قوله (دام ظله) و اما ما وقع بمقتضى النظر في ادلتها «آه» وليعلم ان في كلمات الفقهاء في هذا المقام تناقضاً، فانهم ذكروا ان المضطر لو عمل بما هو وظيفته في حال الاضطرار كفاه ذلك عن القضاء، فلا يجب عليه اذا تمكن من الفعل التام الاختياري قضائه تداركاً لما فات من وصف،كماله، ككون الصلاة مع الطهارة المائية، وذكروا أيضاً أنه لو حصل لنفسه مقدمات الاضطرار كما لو اهرق مائه حتّى يصير فاقد الماء اما في خصوص ما بعد دخول الوقت او مطلقاً ولو قبل دخوله فقد اثم.

و انت خبير بان مقتضى الكلام الأوّل معلومية او احتمال ان تكون الصلاة الترابية مثلاً مشتملة على عين مصلحة الصلاة مع الطهارة المائية او مع زيادة في الثانية لا يجب استيفائها، ومقتضى الكلام الثاني معلومية ان تكون مشتملة على مرتبة نازلة وتكون الزيادة واجب الاستيفاء وغير ممكنه بان يكون اتيان الناقص مفوّتا للمحل بالنسبة الى الزيادة.

فان قلت: مقتضى الكلام الأوّل أيضاً وهو سقوط القضاء يمكن جمعه مع هذا الفرض ولا يتعين معه الاشتمال على عين مصلحة الاختياري.

قلت: لا شبهة في انه ليس لنا في البين مقدمة خارجية مع قطع النظر عن الادلة اللفظية

ص: 258

ثابتة باجماع ونحوه، وهي كون الاتيان بالناقص مفوتاً للمحل بالنسبة الى ادراك الزائد وبعد فرض هذا فلابد من النظر الى الادلة وان المستفاد منها ماذا ؟ ولا يخفى ان مقتضى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): اقض مافات بعمومه هو وجوب القضاء في كلّ مورد يصدق الفوت، وبذلك يقع احتمال سقوط المحل عن القابلية وفوت محل التدارك، بل يستكشف بقاء المحل، الا اذا علم من مقدمة خارجية، والمفروض في المقام انتفائها، وحينئذٍ فلا يخفى صدق الفوت اذا علمنا بان في الصلاة مع الطهارة المائية وصفاً زائداً هو فائت في الصلاة مع الطهارة الترابية، وكذلك في سائر افراد الاضطرارية، فان في كلّ منها جهة نقص بالنسبة الى الاختيارية، فيصدق الفوت فيها من هذه الجهة، فبمقتضى العموم المذكور يجب القضاء ولا يعتنى باحتمال تفويت المحل، ولا شك أنه لا اثم في تحصيل الاضطرار حينئذٍ، واما ان شككنا في صدق الفوت بان احتملنا اشتمال الاضطراري على عين مصلحة الاختياري او علمنا عدم الصدق، فان علمنا ذلك فلا قضاء ولا اثم في تحصيل الاضطرار أيضاً، اما في الثاني فواضح، واما في الأوّل فلكون الشك في اصل التكليف بالنسبة الى وجوب القضاء وحرمة تحصيل الاضطرار، وأصالة البرائة تقتضى الاباحة في كليهما.

فثبت ان الجمع بين عدم القضاء والاثم في تحصيل الاضطرار لا يمكن الامع مقدمة خارجية مثبتة لكون الاضطراري مفوتاً ومسقطاً للمحل عن قابلية تدارك مافات، كما في الصلاة في آخر الوقت مع ادراك ركعة من الوقت فانه آثم ولا قضاء، فان النقيصة هنا من اصل فوت الوقت ولا يمكن تداركه باعادة الوقت فلا يمكن القضاء، فلهذا لا يجب ولكنه يأثم لتفويته المصلحة اللزومية الجائية من قبل اتيان بقية الصلاة في الوقت.

وقد تنبه لما ذكرنا العالم الجليل الحاج ميرزا محمَّد حسين نجل الحاج ميرزا خليل (قدّس سرّهما) في حاشية نجاة العباد في مسألة من اجنب نفسه في شهر رمضان قبل طلوع الفجر مع العلم بضيق الوقت عن ادراك الغسل وسعته لادراك الّتيمم، فاختار الماتن انه عصى وصح الصوم المعين، فعلّق «قدّس سرّه» هنا بقوله: «الظاهر عدم كونه عاصياً» وكذا في مسألة مالو ارتفع حدث الحيض والنفاس في الليل فاخّرت الغسل بسوء اختيارها حتّى ضاق الوقت الاعن الّتيمم، فاختار الماتن أنها تنتقل الى الّتيمم مع الاثم، وعلق هو «قدّس سرّه» بقوله: «لا اثم كما تقدم».

(520، ص 81) قوله (دام ظلّه) فحالها حال التكاليف المتعلقة بالافعال في حال الاضطرار «آه» لا يخفى انه لا يجرى هنا وجهان من الوجوه المذكورة في الواقعيات الثانوية وهما كون امتثال الامر الظاهري مشتملاً على مرتبة ناقصة من مصلحة الواقع مع الواقع مع وجوب

ص: 259

استيفاء الزائد إما مع امكان الاستيفاء، أو بدونه، وذلك لأن المبنى وهو القول بالسببية والموضوعية انما قيل به في جواب اشكال ابن قبة من لزوم تفويت المصلحة والالقاء في المفسدة، وتحليل الحرام وتحريم الحلال فاجيب بان مافات من مصلحة الواقع متدارك بمصلحة نفس سلوك الامارة، وما اوقع فيه من مفسدة الواقع متدارك أيضاً بمصلحة السلوك، ولا يخفى انه مع نقصان مصلحة السلوك عن مصلحة الواقع على وجه كان الزيادة بالغة حد الوجوب لا معنى للتدارك ويبقى المحاذير بحالها فلابد اما من المساواة او اهمية مصلحة السلوك عما في الواقع.

و لا يجري أيضاً احتمال الاشتمال على مصلحة مباينة لما في الواقع، فانه خلاف ما يلتزمون به من التخيير في موارد الطرق الظاهرية بين تحصيل العلم بالواقع وبين العمل بمؤدى الطريق. ولو كان الثاني مشتملاً على مصلحة ملزمة مباينة لما في الواقع لكان المتعين تعيين كليهما على المكلف، فيعمل او لا بمؤدى الطريق ثمّ يصير بصدد تحصيل العلم بالواقع.

فتحصل ان الوجه الذي يندفع به اشكال ابن قبة ويستقيم معه ما يلتزمون به من التخيير منحصر في وجه واحد وهو اشتمال مؤدى الطريق على عين مصلحة الواقع بتمامها او بمقدار لزوم الاستيفاء، هذا كلّه على تقدير ان يكون اختيار السببية للتفضي عن اشكال ابن قبة .

و امّا ان كان من جهة الاستظهار من الذليل فيدور تعيين احد الوجوه مدار الاستظهار منه.

(215، ص 82) قوله (دام ظله) و هو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال «آه» انما الى هذا الاصل ويحتاج اليه لو لم يكن في ادلة الواقعيات اطلاق متعرض لحال ما اذا احتمل فوت المحل لها، بان كان المفاذ - فيما اذا قام الامارة على عدم وجوب السورة مثلاً وكان الواقع وجوها - ان الصلاة مع السورة واجبة حتّى عند احتمال عدم بقاء المحل لها، فيستكشف بهذا الاطلاق بقاء المحل وعدم فوته فلابد من فرض عدم الاطلاق كذلك حتّى يرجع الى اصالة الاشتغال.

و الحقّ ان لادلة الواقعيات إطلاقاً بالنسبة الى فعل ما ادى اليه الامارة وعدمه فالدال على عدم الاجزاء أولاً هو الاطلاق، وتنزلاً هو الاصل.

فان قلت: ما الفرق بين المقام والواقعيات الثانوية حيث قلت هناك : لو شككنا عند ارتفاع العذر في بقاء المحل وعدمه يرجع الى اصالة البرائة، وهنا تقول : لو شككنا في ذلك عند ارتفاع الجهل بالواقع فالمرجع اصالة الاشتغال.

قلت: الفرق انه هنا يكون الامر الواقعي في حال الجهل به الذي هو موضوع الظاهري

ص: 260

موجوداً، فيكون الظاهري في طوله لا في عرضه واما هناك فلم يكن في حال العذر تكليف سوى الاضطراري، فهو في عرض الاختياري، فالشك هناك في الحدوث وهنا في سقوط ما ثبت.

فان قلت: و ان كان ثابتاً في حال الجهل لكن كان شأنياً ولم يكن فعلياً، والتكليف الشأني أيضاً كلا تكليف فالشك في حدوث الفعلية كالشك في حدوث اصل التكليف.

قلت: هذا انما يرد على مذاق القائل بالشأنية والفعلية في الاحكام، وجمعاً بين الظاهري والواقعي منها، واما على مذاق من لا يقول بذلك وان الامر لا يتحقق الامع الفعلية والبعث والزجر، فالواقعي أيضاً امر حقيقي والحاصل ان الامر دائر بين الوجود والعدم، ولا واسطة بينهما، فإما لا امر ولا طلب جداً، واما يكون الطلب محققاً جداً، ولا يتصوّر ان يكون الطلب موجوداً وغير فعلي، فالامر الفعلي كان موجوداً حال الجهل، غاية الامر لم يكن منجزاً وكان المكلف معذوراً في مخالفته، فاذا حصل شرط تنجيزه وهو العلم كان بحكم العقل مقتضياً للامتثال، ولا يكفى احتمال السقوط بسبب انتفاء المحل، فان المرجع في مثله الاشتغال.

ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من عدم الاجزاء عند انكشاف خطأ الحكم الظاهري بين الانكشاف بطريق القطع او بطريق الظن المعتبر شرعاً، فلو عدل المجتهد عن رأيه السابق عدولاً ظنياً او خالف قول المجتهد الذي عدل اليه المقلد قول المجتهد المعدول عنه فحاله كما لو قطع المجتهد بفساد رأيه السابق او قطع المقلد بفساد قول مجتهده، فان الطريق المعتبر الحجة لازم الاتباع، ومعنى لزوم اتباعه البناء العملي في الآثار اللاحقة على طبقه، ومن جملة الآثار اللاحقة وجوب القضاء او الاعادة لما اتى به على طبق الطريق السابق، ولا معنى للتفرقة بين هذا الأثر وسائر الآثار، فكما يجب بعد ذلك اتيان الصلاة مع السورة كذلك يجب قضاء الصلاة المأتي بها بدون السورة، ولا معنى للاخذ بمفاد الأمارة الثانية في الأوّل وبمفاد الامارة الاولى في الثاني، بان يقال: ان هاتين الأمارتين متساوي الأقدام بالنسبة الى الواقع، فلا وجه لتخطئة احديهما بالاخرى، ولا يخفى ان مفاد كلّ من الامارتين أن الواقع على طبق مؤداه بدون التقييد بكونه مادام الجهل، فان هذا لوصح لجرى بالنسبة الى الأثر الأوّل أيضاً، وبالجملة عدم الفرق بين الظن المعتبر والقطع أظن انه في غاية الوضوح وان خفي على بعض الاساطين «قدّس سرّه». ثمّ ما ذكرنا من عدم الاجزاء انما هو القاعدة الاولية يلزم المشي عليها حتّى يعلم الخلاف، فالاجزاء هو المحتاج الى الاثبات اما بدليل عام مثل الحرج او دليل خاص وارد في مورد خاص.

ثم اعلم ان للطريقية وجهين:

ص: 261

احدهما ما يظهر من كلام شيخنا المرتضى «قدّس سرّه» في اقسام جعل الطرق على اضطراب عبارته «قدّس سرّه» وهو ان لا يحدث بسبب قيام الطريق في نفس العملى مصلحة ومفسدة اصلاً، وانما كان المصلحة في ترتيب آثار الواقع على مؤدى الأمارة والمعاملة معه معاملة الواقع، فحينئذٍ لا يلزم الاجزاء الا اذا استند الفوت الى العمل بالامارة، واما اذا انكشف الخلاف في الوقت، فلا فيجب على المكلف اتيان الواقع.

وثانيهما ما هو المشهور المعروف من كون الملحوظ في جعل الاحكام الطريقية مصالح اخر غير مصالح الواقعيات، فالواقع على ما هو عليه باق من غير تدارك له اصلاً، وانما الملحوظ تسهيل الأمر على العباد، حيث انه لو اوجب عليهم تحصيل العلم بالواقع لوقعوا في عسر وحرج، فجعل لهم تلك الطرق تسهيلاً عليهم والمصلحة انما هو في نفس الحكم لا في المتعلق، وعلى هذا فعدم الاجزاء واضح لانه بمقتضى اطلاق أدلة الواقع، ولولاه فاصالة الاشتغال رافعة لاحتمال تفويت المحل.

ثم عدم الاجزاء في الشبهات في الاحكام واضح، فلو دل الطريق على وجوب الج_م_عة فانكشف ان الواجب هو الظهر وجب الاعادة او القضاء، وذلك لان الحكم بوجوب الجمعة لدى الجهل بوجوب الظهر بقضية الطريق ليس في عرض الحكم الواقعي بوجوب الظهر حتّى يكون وجوب الظه_ر مقيداً في الواقع بحال العلم به حتّى يلزم الدور، بل هو في طول هذا الحكم، وهو محفوظ في رتبته، وثابت في حقّ الجاهل والعالم على السواء، ولازم ذلك عدم الاجزاء. واما في الشبهات الراجعة الى موضوعات الاحكام فربما يقال: ان ادلة الشكوك مثل كلّ شيء طاهر حتّى تعلم، وكل شيء حلال حتّى تعلم، ورفع ما لا يعلمون ولا تنقض اليقين بالشك مفيدة لتقييد الموضوعات الواقعية الواقعة في الادلة المتكفلة للحكم الواقعي، مثل قوله «لاصلاة الا بطهور»، والخمر حرام ووبر الارنب مانع، والطهارة الخبثينة شرط في الصلاة بحال العلم بتلك الموضوعات، فتتخصص تلك الادلة، فالطهارة الّتي هي شرط الصلاة هي الطهارة المعلومة او المشكوكة المسبوقة بالعلم بالطهارة دون المشكوكة المسبوقة بالعلم بالحدث، وكذا الخمر الّتي حكم عليها بالحرمة مخصوصة بالخمر المعلومة او المشكوكة المسبوقة بالخمرية وهذا امر متعقل اعني تقييد الموضوع بالعلم به، وليس كتقييد الحكم بالعلم به مستلزماً للدور كما هو واضح، وعلى هذا فالصلاة الواقعة في وبر الارنب الواقعي المشكوك كونه كذلك صلاة واحدة للشرط الواقعي حتّى بعد انكشاف كونه وبر الارنب، وانما ترتفع الشرطية من هذا الحين وفي الحقيقة ليس هذا حكماً ظاهرياً بل حكم واقعي، ويمكن الجمع في ادلة الشكوك أيضاً بالنسبة الى الشبهات الموضوعية بين هذا المعنى الذي هو حكم واقعي وبين

ص: 262

الحكم الظاهري، فان جعل المشكوك في حكم الواقع جامع بين كليهما، غاية الامر ان الملحوظ في الواقعي شرح مدلول دليل الحكم المعلق على العنوان الواقعي، والملحوظ في الظاهري اعطاء المشكوك الآثار الواقعية الثابتة للعنوان الواقعي، ومعنى ذلك محفوظية حيث كون الواقع هو الموضوع ذو الأثر من دون تصرف فيه اصلاً، فلازم الأوّل هو الاجزاء لحكومة دليل الشك على دليل الواقع، فان الجمع بين كون الخمر الواقعي مثلاً حراماً، وبين كون مشكوك الخلية والخمرية حلالاً واقعياً ولو كان في الواقع خمراً لا يمكن، فلا محالة الى تقييد دليل حرمة الخمر بالخمر المعلومة لكن لا بلسان ان ماهو المحرم هو الخمر المعلومة بل بلسان ان المشكوك خمريته حلال واقعاً، ولو كان خمراً واقعاً، ولازم الثاني - وهو ان هذا المشكوك بحكم الخمر وله يرجع اثر الخمر، حيث انه لا معنى ل_ه الا محفوظية كون ذي الاثر هو الخمر بدون قيد آخر فالشك في الموضوع هنا مأخوذ بلحاظ حكمه، وعلى الأوّل مأخوذ بلحاظ ذاته، فيكون حكم الموضوع محفوظاً في مرتبة ذاته على هذا، ويتقيد بحال العلم على الأوّل هو عدم الاجزاء، فان الطهارة الاستصحابية مثلاً وان نزلت وجعلت بحكم الطهور في قوله «لاصلاة الابطهور» لكن لا يثمر هذا التنزيل في ترتيب آثار الطاهر الواقعي عليه، والاكتفاء به عن الظاهر الواقعي الا مادام الشك، فاذا ارتفع الشك فلا أثر له لما بعد الشك، بل تجب معاملة. الطهارة، لأن عدم المفروض ان الشرط الواقعي هو الطهارة الواقعية فقط دون الاعم منها ومن الحدث المشتبه بالطهارة مع سبق العلم بالطهارة واما توهم ان مقتضى دليل تنزيل هذا المشكوك منزلة الطهارة الواقعية في جميع الآثار هو الاجزاء لان من جملة آثار الواقع هو الاجزاء بالنسبة الى الامر المتعلق به، فليس في محله لان التنزيل قاصر عن شمول الآثار العقلية، والاجزاء عقيب الامتثال اثر عقلي للامتثال، فلا يشمله التنزيل هذا ما ربّما يقال.

و الحقّ بعد تسليم امكانه انه خلاف ما يستظهر من ادلة الشكوك فان الظاهر من قوله «كلّ شيء طاهر» انه ليس بصدد التعرض للعناوين الواقعية الّتي وقعت في الادلة معروضة للنجاسة وتقييدها بحال العلم والحاصل انه ليس في مقام تشريح تلك الادلة وبيان كمية المراد منها بل هو مسوق في مقام عدم التعرض للآثار الواقعية فهي لاي شيء ثبتت ثابتة، وفي موضوعاتها محفوظة، وانما الغرض اتيان تلك الآثار المعلقة على تلك الموضوعات للموضوع المشكوك في حال الشك.

(22٥، ص ٨٤) قوله (دام ظله) او بالترك من جهة مبغوضية الفعل «آه» انشاء تحريم الفعل مثل لا تفعل غير انشاء ايجاب الترك مثل اترك، ولا يتحقق احدهما بالآخر لعدم التلازم بينهما، لامكان الغفلة، الا انه لا ينفك مبغوضية الفعل وتحريمه في نفس الأمر عن

ص: 263

محبوبية الترك وطلبه، ولو كان هو غافلاً عنه، ولكنه بحيث لو سئل لاجاب بطلبه، فالوجوب عند عدم التفات المولى. هنا نظير وجوب انقاذ ابن المولى.

(٢٣٥، ص ٨٥) قوله (دام ظلّه) في حكمه ببطلان الوضوء «آه» قد يتوهم انه من باب النهي في العبادة حيث ان الصب الذي هو احد افعال الوضوء مأمور به، وبما هو مقدمة للغصب منهي عنه ولكن لا يتعلق الطلب بعنوان المقدمية بل بذات المقدمة وماهو المقدمة بالحمل الشايع، وهو هنا عنوان الصب، فقد اجتمع الامر والنهي في عنوان واحد، فمطلق الماء على الوجه محبوب ومأمور به، وخصوصية ايقاعه في هذا المكان مبغوض، لاستلزامها الغصب.

و فيه انه قد تعلق البغض والنهي أيضاً بمطلق صب الماء على الوجه في هذا المكان، سواء كان بنية القربة ام لا ومن اعلى الوجه مع مراعاة الاعلى فالاعلى ام لا، فقد اختلف مورد الامر والنهي بالعموم والخصوص من وجه، فمتعلق الامر عام من حيث المكان، وخاص من حيث الكيفية، ومتعلق النهي بالعكس.

فان قلت: فاذا كان من باب الاجتماع والمفروض هو القول بجوازه فلم يحكم بالبطلان؟ قلت: الجواز وان قلنا به في الاصول لا نقول به في الفقة، فتحكم في الفقه ببطلان الصلاة في الدار الغصبية، وان تصورنا اجتماع الامر والنهي فيه في الاصول، والمنشأ في بعض الموارد هو النص، كقول على (عَلَيهِ السَّلَامُ) في وصيته لكميل - على ما عن تحف العقول وبشارة المصطفى و بعض نسخ النهج : يا كميل : انظر فيم تصلّى وعلى تم تصلّى ان لم يكن من وجهه وحلّه فلا قبول (1) وفي بعضها الاجماع وفي بعضها عدم الجرئة.

(٢٤5، ص ٨٦)، قوله (دام ظله) و الذي يقوي في النفس «آه» لا اشكال في ما اذا اجتمع المضيق مع المخيّر فلو طرأ الحرمة التعيينية على احد اطراف الوجوب التخييري يتعين في غيره، وكذلك لو طرأ الوجوب التعييني على احد اطراف الحرام التخييري، وذلك للجمع بين الغرضين والكلام فيما لو اجتمع الوجوب والحرمة التخييريان بناء على امتناع اجتماع التعيينيين، والحاصل ان من يقول بالامتناع مع عدم المندوحة في احد الجانبين - كما في الصلاة والغصب حيث لا مندوحة في جانب الغصب هل يقول بالإمتناع أيضاً لو ثبت المندوحة في كلا الطرفين كما في المقام، وهو ما اذا تمكن بعد صب الماء على الوجه من رفع المحل او ايجاد المانع، فلهذا يكون الصب طرفاً للحرمة التخييرية اذ بترك احد هذه الامور يتحقق ترك

ص: 264


1- الوسائل والمستدرك، الباب ٢ من ابواب مكان المصلى، الحديث ٢و١.

الغصب، ومن حيث ان الصب الوضوئي ممكن في هذا المكان وفي مكان آخر يكون هذا الصب طرفاً للوجوب التخييري، فاطلاق الامر والنهي يمكن حفظه في الصب، او لا يمكن الجمع مطلقاً، أو يمكن مع التصرف ؟ الظاهر عدم امكان حفظ الاطلاق في شيء من الامر والنهي، فلا يمكن اطلاق وجوب هذا الصب بالنسبة الى حالّتي ترك احد الامرين اللذين ترك احدهما مقدمة الحرام وفعلهما، اذ في تقدير فعلهما في علم اللّه يتصف الصب بالحرمة التعيينية فلا بد من تقييد امره بصورة وجود احد التركين وكذلك لا يمكن اطلاق حرمة هذا الصب بالنسبة الى حالّتي ترك الصب في الامكنة الاخر وفعله، اذ تقدير تركه تقدير وجوب هذا الصب تعيينياً، فلابد من تقييد حرمته بصورة فعله، وعلى هذا فلو قصد ترك ايجاد المانع او رفع المحل وكان متيقناً بان_ه ملازم للوقوع في الحرام، سواء كان الحرام داعياً له ام لم يكن العلم بذلك رادعاً له، ففي كلتا الصورتين يبطل الوضوء، لعدم تحقق العبادة به بهذا الوجه، لانه من التجري، وفاعله متجر على المولى، وان فرض الندم له عقيب الصب فاوجد المانع او رفع المحل. كما لا اشكال في صورة ما اذا قصد اتیان احدهما فانه تتحقق العبادة به وان بدا له بعده ترك ايجاد المانع، واما لو كان بلا قصد الى الايجاد والترك الالتفات الى الحرام ومقدماته فالظاهر انه لا يضر بعبادية الصب، فان الخلو من قصد الطاعة وان كان يقبح الفاعل، لكونه غير مبال بامر المولى ونهيه، لكن لا يرتبط بالصب، وهذا بخلاف ما اذا قصد التوصل الى الحرام بقسميه من الداعوية وعدم الرادعية فانه من هذا الحين _ اي من حين الشروع في الصب- مقدم في مخالفة المولى ومستحق للذم والملامة، فلا يمكن ان يصير الفعل الموجب للبعد موجباً للقرب، ولو كان موجبيته للبعد لا من جهة نفسه بل من جهة شيء آخر.

(٢٥٥، ص 87) قوله (دام ظلّه) فليستكشف اذن من عدم التنبيه عليه عدم مدخليته في غرضه «آه» اعلم ان لنا مطلوباً و مقصوداً، فالاول هو ما يتعلق به الطلب المستفاد من الهيأة، والثاني ما هو الغرض الداعي الى الطلب، وحينئذٍ فالطالب دائماً يكون طلبه عقلاً مقيداً بالقدرة، فلا مطلوب بالنسبة الى العاجز، ولكن يمكن ان يكون في حقه غرض الآمر ثابتاً شأن كالقادر بلا فرق فالمطلوب اذن اضيق والمقصود اوسع، وبيان الطلب والتكليف الهيأة، وبيان المقصود شأن المادة اعني ضاد، راء، با، في اضرب ونحوه، لكن قد يقال: لا تتم مقدمات الحكمة في المادة التالية للهيأة، وذلك لأن كون المتكلم في مقام البيان وان كان حاصلاً، وكذا ذكر القيد اعني القدرة، ولكن من المقدمات ان يكون عدم ذكر القيد على فرض دخله مخلاً بالغرض واما اذا كان القيد من الامور اللازمة للطبيعة ولو اتفاقاً في حقّ المامور فهو حاصل، ولو لم يصرح به في اللفظ، فلا يلزم من ترك التصريح به الوقوع في

ص: 265

خلاف الغرض، مثلاً لو كان الماء الموجود عند المامور عذباً ومالحاً، وكان الغرض في خصوص العذب، كان في عدم ذكره اخلال بالمقصود، ولكن اذا لم يوجد عنده سوى الماء العذب البارد، فتقييده حينئذٍ وعدمه سواء لحصول الغرض على كلّ حال، وحينئذٍ لا يتمسك باطلاق الكلام لعدم مدخلية العذوبة والبرودة في المقصود، وحينئذٍ نقول : من هذا القبيل ما نحن فيه فانه لو قال المولى : الضرب مقصودي، فللضرب فردان احدهما ما يصدر عن الفاعل باختيار منه واعمال القدرة فيه، والآخر ما يصدر لا عن عمد واختيار، بل عن غفلة وذهول، وحيث ان كليهما ضرب بالحمل الشايع يصح الاخذ بمقدمات الاطلاق لاثبات اعمية المقصود، واما اذا اوقع الدال على المقصود تلو الدال على التكليف المقيد عقلاً بالقدرة والالتفات، فلا يمكن الاخذ بالمقدمات لاعمية الغرض، لان ما وقع تلو الهيأة مقيد بالقدرة والالتفات لا محالة، فلو كان الغرض اخص لم يلزم من عدم ذكر القيد نقض الغرض لحصوله.

و يمكن ان يجاب بان للآمر حيثيتين: الاولى حيث كونه طالباً وآمراً، والثانية حيث كونه ملقياً لمقصوده بالتكلم، فمن حيث كونه مكلفاً – بالكسر - لا يمكن تنزيل كلامه عقلاً الا على القادر، ولا ينافي هذا حمله على الاعم من حيث كونه مبيناً للواقع، فهو من الحيثية الثانية نظير القائل الخالي عن الطلب «الضرب مقصودي» وبالجملة لا تلازم بين الجهتين فكانه القى قضيتين الاولى الضرب مطلوبي، والثانية الضرب مقصودي، فلا ينافي تقييد الاولى من القضيتين اطلاق الثانية منهما، ولا يعقل الفرق بين ادائهما بعبارتين مستقلتين وبين ادائهما بعبارة واحدة فتدبر، هذا.

مع امكان ابداء الفرق بين قيد القدرة والالتفات ومثل قيد العذوبة في المثال في الظهور العرفي، حيث ان الصيغة محمولة عند العرف على الاطلاق من حيث الغرض عنها ولا يعتنون بتقييد الطلب، بخلاف المثال فانه لا ظهور للكلام عرفاً في شيء من الاطلاق والتقييد.

(٢٦5، ص 89) قوله (دام ظله) و هذا واضح بعد ادنى تأمل «آه» لاستلزامه الخلف اذ المفروض هو البعث والدعوة نحو العنوان الواقع تلو الامر، ومعنى هذا ان يكون الاتيان بداعي العنوان، فلو كان مدخوله خصوص الاتيان لا بداعي العنوان كان نقضاً لما هو مقتضى الامر من حيث ذاته، نعم يمكن ان يكون الغرض حاصلاً بالفعل ولو بغير داعي العنوان، ولكنه غير اخذ هذه الخصوصية في متعلق الامر.

(275، ص 89) قوله (دام ظلّه) و اما ان قلنا بعدم السراية كما هو التحقيق «آه» محصل الفرق بين القولين انه على الثاني وجود الفرد المختار المقصود العنوان مصحح للطلب واما الطلب فمتوجه نحو نفس الطبيعة بلا قيد بمعنى ان خصوصية هذا الفرد غير دخيلة في الغرض والطلب،

ص: 266

وهي مع سائر الخصوصيات على حد سواء في غرضه وطلبه، ولهذا لو صرح في الكلام بالتقييد بهذه الخصوصية اعني ايجاد الطبيعة في ضمن خصوص هذا الفرد الذي لو صدر لصدر عن اختيار الفاعل وقصده العنوان كان قيداً في الغرض وهذا بخلاف القول بالسراية، فانه لا يحسن توجيه الطلب حينئذٍ على وجه الاطلاق، فان المفروض توجيه الطلب نحو الافراد والافراد على قسمين، فقسم منها لا يحسن توجيه الطلب نحوها، وهو ما يصدر بلا اختيار الفاعل او بلا قصد عنوانه، ومنها يحسن طلبه وهوما يصدر عن اختياره وقصد العنوان، فلا جرم يكون القيدان على هذا من شروط حسن الطلب الّتي يحكم بتقييد الطلب بها عقلاً، فلهذا لو صرح بهما في الكلام يصير مجملاً، واما على القول الآخر فعدم امكان ايقاع سائر الخصوصيات في حيز الطلب لا يستلزم ايقاع هاتين الخصوصيتين تحته، بل جميع الخصوصيات اجنبية عن المطلوب رأساً والطلب متوجه نحو الطبيعة المعراة عن جميعها، وهذا معنى عدم دخلهما في حسن الطلب والحاصل ان خصوصيات الافراد المقدورة والمعجوزة للطبيعة الواحدة بالنسبة الى المكلف الواحد متساوية الاقدام، ولا يحكم العقل بقبح توجيه الطلب نحو الطبيعة الجامعة بينها، فان الجامع يكفي في مقدوريته مقدورية بعض افراده، ولا يلزم مقدورية تمامها، حتّى يحكم العقل في المورد المذكور بتعيين خصوص المقدور من الأفراد، دون الجامع بينه وبين المعجوز عنه، نعم لو قيد نفس الطبيعة بالقيدين اعني الاختيارية وقصد العنوان كان من القيود المشروط بها حسن الطلب ويحصل الاجمال، واما لو اشار الى خصوصيات الافراد الواجدة للقيدين، وقيّد الطبيعة بتلك الخصوصيات، فليس هذا ممّا يشترط حسن الطلب به، ويحكم بتقييد المادة.

(28٥، ص 91) قوله (دام ظلّه) ويمكن ان يقال ان للقرب مراتب «آه» ويرد على هذا الوجه انه لا نعقل امتيازاً بين تاركين للعمل بمحض ان يكون شخص ثالث يأتي بالعمل بقصد احدهما، فانه متوقف على تأثير عمل هذا الثالث في قرب المنوب عنه، والا فلو كان وجوده وعدمه سيّين فاي امتياز له عن الآخر، وحصول القرب له بعد اول الكلام، واثباته بهذا الامتياز يشبه بالدور هذا.

مع انه لا يطرد على فرض تسليمه في جميع الفروض فانه لا شبهة ان عبادية العبادة انما بالقصد الاخير الذي هو المنتهى اليه، فان كان الهياً حصل القرب، والا فلا، وحينئذٍ فمن يأتي بالعمل بداعي الامر ولكن الداعي له الى اتيان العمل بداعي الامر هو الاجرة كان ما ينتهي اليه قصده هو الدنيا، فلا يتحقق منه العبادة، فعلى الوجه المزبور لا يصح النيابة في العبادة على وجه الاجارة، نعم تصح على فرض تبرع العامل بالنيابة او للامر الالهي بها، كما في الولد

ص: 267

الاكبر للميت.

و ممّا ذكرنا يظهر الخدشة في الوجه الذي ذكره دام ظله» عقيب هذا الوجه، فان تسليم الامر اللغو لا يوجب قربا، فحصول القرب بنفس التسليم مع فرض خلو نفس العمل المسلم عن ايجاب القرب غير معقول.

و يتوجه على ما اختاره (دام ظلّه) انه أيضاً يبتنى صحته على وجود الرضا من المنوب عنه، وهو غير معلوم اوّلا، وغير مجد ثانياً (1) فانه بعينه يرد عليه اشكال الدور الذي اورده هو «دام ظله» على الوجهين الاولين اعنى حصول القرب بنفس الرضا او المنوبية، غاية الامر ان الرضا والقبول هنا موجب للاضافة الموجبة للقرب، وليس بنفسه ممّا يوجب القرب، واصل الاشكال مشترك، فانه كيف يعقل الرضا بالفعل الخالي عن الفائدة راساً بملاحظة حصول الفائدة في نفس الرضا به فان الرضا والحب والعلم صفات وجدانية لا يمكن تحصيلها بمجرد المصلحة في نفسها، فاذا كان حصول القرب منوطاً بالرضا وقد ثبت توقف الرضا أيضاً على القرب، اذ بدونه يكون الفعل لغواً، لزم الدور.

و أيضاً يرد على هذا الوجه انه تتم الاضافة اذا اتى بالعمل بقصد المنوب عنه ولو لم يأت به بداعي الامر فيلزم صحة العبادة بدون قصد الامر من النائب نعم يعتبر ان يقصد المنوب قصداً عبادياً في امضائه ورضاه، اذ لا يعتبر في العبادة الا قصد داعي الخير ممن يتقرب بالعبادة، فحينئذٍ تصير هذه الصلاة نظير عمل بناء المسجد الذي يخلو مباشره عن قصد القربة والسبب قاصد لامتثال الامر.

و أيضاً يلزم ان تصح النيابة من الكافر أيضاً اذ الفرض عدم حصول القرب للنائب فلا

ص: 268


1- و حاصله انه لو لم يقصد النائب كون العمل للمنوب عنه لا يتحقق الاضافة الى المنوب عنه ولو كان المنوب عنه راضياً بصيرورته مضافاً اليه كما انه لو قصده عملا للمنوب عنه ولكن لم يرض به المنوب عنه لم يتحقق الاضافة اليه فهذان اعنى قصد العمل بعنوان المنوب عنه مع رضى المنوب عنه معتبران في تحقق الاضافة الى المنوب عنه وصيرورة عمل النائب عملاً مضافاً الى المنوب عنه، واما الامضاء فهو محتاج اليه لترتب الاثر وهو قرب المنوب عنه، فانه لولا امضاء المولى فلا تأثير لهذه الاضافة واما بعد الامضاء فلازمه حصول القرب للمنوب عنه لانه امضاء عمل النائب، وعمله جعل صلاته صلاة للمنوب عنه، فمعنى امضائه ترتیب آثار صلاة المنوب عنه عليه، وهو لا محالة قرب المنوب عنه، فإن ترتيب آثار صلاة النائب ليس امضاء بل ردّ كما هو ظاهر «منه عفى عنه».

ينافي ان يكون كافراً.

و يمكن الجواب عن الجميع :

اما الأوّل فيمكن دعوى القطع بحصول الرضا من المنوب عنه اذا كان ميتاً منقطع اليد عن الدنيا مبتلى بتبعات ترك العبادة.

و اما الثاني فالفرق بين الرضا في المقامين موجود فان الرضا هناك انما يثمر اذا تعلق بالعمل الخير في نفسه، فان الراضي بفعل قوم انما يشترك معهم في الثواب اذا كان نفس العمل خيراً، والمفروض ان نفس عمل النائب لا يثمر قرباً لا للنائب ولا للمنوب عنه، اما للمنوب عنه فهو الفرض لان الفرض أن القرب يحصل له بالرضا لا بعمل النائب، واما للنائب فلانه انما يكون قربيّاً له اذا افاد قربا للمنوب عنه اذ حينئذٍ يدخل في عنوان الاحسان الى الغير، فاذا فرض انه لا يوجب قرب المنوب عنه كان عملاً لغواً لا يرجع نفع منه الى احد، فكيف يكون حينئذٍ رضا المنوب عنه بهذا العمل اللغو مفيداً للقرب، وبالجملة تتوقف افادة الرضا للقرب على ترتب القرب على العمل المرضي، فلو كان ترتبه على العمل أيضاً متوقفاً على الرضا كان دوراً، وهذا بخلاف المقام، فانه بمكان من الامكان حصول الرضا والامضاء بعمل تصل المنفعة منه الى الانسان اذا امضاه ورضي به، ولو لم يمضه لكان محروماً عن تلك المنفعة، كما في عقد البيع الصادر من شخص في مال شخص آخر، فان اجازة هذا الآخر يتوقف عليه تحقق اضافة العقد اليه وبدون تحقق هذه الاضافة لا مبادلة ولا انتقال، فهل أن ذلك مانع عن حدوث الرضا بالعقد في نفس المالك لان نفس العقد الصادر عن الفضولي ليس له فائدة وانما تحصل الفائدة بالرضا، فنقول : المقام أيضاً من هذا القبيل : فان العبادة انما تضاف الى المنوب عنه وتصير عبادة له اذا رضي بفعل النائب، ومادام لم ينسب العبادة اليه لا تحصل فائدة العبادة المنسوبة اليه، وهو القرب.

و اما الثالث فلان الفعل الصادر من النائب انما يفيد في قرب المنوب عنه اذا كان جميع الجهات الدخيلة في العبادية مجتمعاً فيه وكان النقص ممحضاً في انه لم يأت المنوب عنه بها ببدنه، فيتكلم في انه هل يثمر مع هذا النقص في افادة القرب او يورث النقص في حصول القرب، وبعبارة اخرى لابد ان يكون ما يصدر من النائب بحيث لو صدر من المنوب عنه لما كان مانع عن افادة القرب، وكان احتمال المانعية ممحضاً في جمهة عدم صدوره عنه، ولا شكّ ان الصلاة بغير داعي الامر لو صدرت من نفس المنوب عنه أيضاً لم تفد قرباً، فاذا صدرت بنائبه فبطريق اولى اذ غاية الامر حينئذٍ بعد حصول الامضاء من المنوب عنه انه صلاة بغير داعي الامر مضافة الى المنوب عنه، وقصد المنوب عنه الاطاعة في نفس الامضاء لا يجدى بعد

ص: 269

ان العمل المضاف اليه بسبب هذا الامضاء القربى يكون عملاً بلا داعي الامر، ولا يوجب اضافة العمل المأتي بداعي الامر اليه اذ هو متعلق بعمل النائب وجاعل له عملاً لنفسه لا بشيء آخر، وهو عمل بغير داعي الامر.

و اما التنظير ببناء المسجد ففي غير المحل فان عمل البناء ينسب الى كلّ من المباشر والسبب على وجه الحقيقة، فكل منهما كان بداعي الامر تحقق العبادة بالنسبة اليه، لا من جهة عمل الغير، بل من جهة عمل نفسه وهو التسبيب في السبب، والمباشرة في المباشر، اذ الفرض ان البناء يصدق حقيقة على التسبيب كما يصدق على المباشرة كذلك، فاذا كان نفس التسبيب لبناء المسجد مطلوباً فقد تحقق العبادة للسبب من جهة عمل نفسه مع قصد الامر الموجود في نفسه، فبينه وبين المقام الذي لم يتحقق من المنوب عنه حركة أصلاً ولو تسبيباً وانما يراد تصحيح اضافة حركة الغير اليه بسبب رضاه وتقبل المولى بون بعيد.

و اما الرابع فمع احتياج حصول القرب للمنوب عنه الى امضاء المولى وتقبله أيضاً لا وقع لهذا الايراد، فانّه لابد حينئذٍ من ان يكون الشخص المباشر الحاضر في صف سلام المولى قابلاً يصير عمله محلا لتوجه المولى ونظره واما من كان المولى متنفراً عنه غاية النفرة فلا يزيد حضوره في صف السلام الا بعداً، فضلاً عن ان يصل درجة القبول. والحاصل ان الجزء الاخير وهو امضاء المولى في هذه النيابة الصادرة من الكافر اما معلوم العدم واما مشكوك التحقق، والشك أيضاً كاف لعدم الدليل حينئذٍ في مقام الاثبات.

ثم انه قد يجاب عن اصل اشكال تصوير النيابة في العبادة بان معنى النيابة اتيان الفعل تقرباً إلى اللّه تعالى شأنه عن فلان فيوجب حصول الثواب له، وبعبارة اخرى ينزل نفسه منزلة المنوب عنه في العمل المتقرب به فكما لو اتى النائب العمل المتقرب به لنفسه يحصل الثواب لنفسه فكذلك اذا أتى بالعمل المتقرب به لغيره فلازمه حصول الثواب لذلك الغير، وعلى هذا فالقرب حاصل لنفس النائب دون المنوب عنه والثواب حاصل للمنوب عنه.

و قد يجاب أيضاً بان حال هذا العمل حال اداء الدين، فالقرب والثواب كلاهما للفاعل، والفائدة الراجعة الى من فعل لاجله هو الفائدة الراجعة الى المديون، وهو رفع العهدة عنه وخروجه عن اشتغال الذمة بحق اللّه فلا يحتاج الى تنزيل ولا نقل ثواب، ومن هنا يعلم امكان هذا الوجه يكون الوجه السابق عليه مستدركاً، نعم يعتبران يكون العمل بقصد ان يكون عوضاً عما تركه فلان كما ان هذا هو الحال في اداء الدين، فانه لا يحتاج الى تنزيل ولا نقل ثواب، بل يكون القصد اداء دين فلان فهنا أيضاً يكون القصد اداء صلاة فلان غاية الامر انه يعتبر هنا ان يكون العمل على وجه القرب وبداعي قربى والاتقع بلا فائدة،

ص: 270

بخلاف اداء الدين فانه ينفع في برائة ذمّة المديون وان لم يقع على وجه العبادية، وحاله حتّى من هذه الجهة أيضاً حال الزكاة اذا امتنع عنها من وجبت عليه فأداها الحاكم من ماله، فان قصد القربة معتبر من معطى الزكاة الذي هو الحاكم ويفيد برائة ذمة المالك، ويكفى في العبادية هنا ملاك الامر المفروض بقائه وعدم سقوطه، فلا يرد انه لا أمر بالنسبة الى الميت وكيف يتصور الداعي القربى.

ولا يخفى ان هذين الوجهين مبنيان على فهم توسعة في غرض الشارع في العبادات في التمكن بالنسبة الى مباشرة المامور، بمعنى ان الغرض في حال التمكن مقيد بقرب نفسه، ولكن عند عدم التمكن يحصل باتيان آخر مع كونه مقرباً لهذا الآخر، فيصير قرب هذا الآخر موجباً لسقوط الغرض بالنسبة الى المأمور.

ثم ربّما يستظهر الوجه الاخير من قضية الخثعمية الّتي اتت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالت ان ابي ادركه الحج شيخاً زمنا لا يستطيع ان يحج، ان حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال لها : أرأيت لو كان على ابيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك ؟ قالت: نعم، قال: فدين اللّه احق بالقضاء (1).

و على الوجهين حيث ان القرب اعتبر للفاعل يشكل صحة الاجارة، بناء على مامر من ان الغاية الاولى الّتي هي المحركة للعضلات نحو العمل لابد ان تكون الهية الا ان يصحح القرب بعنوان الامر الاجاري، ثمّ لا حاجة في شمول المقام تحت دليل الاجارة الى ازيد من عمومات الاجارة، اذ من القاعدة المقررة ان كلّ عمل له منفعة محللة مقصودة يقبل الاجارة، وهنا قد احرز بالأخبار الخاصّة قابلية ذات العمل لاستيفاء المنفعة فيدخل تحت تلك العمومات.

(29٥، ص ٩٥) قوله (دام ظلّه) و لا يمكن ان يكون الامر محركاً الى محركية نفسه «آه» فان قلت لو كان هناك امران لزم على هذا عدم امکان اخذ داعي الامر في الثاني أيضاً مع تعلق الأوّل بذات الفعل، فان المحركية من لوازم ذات الامر، فلو كان محصل الامر الثاني جعل المحركية لكان تحصيلاً للحاصل.

قلت: انه بمكان من الامكان كما في امر الشارع بالطاعة امر الوالدين، فان اصل صلوح الامر بمعنى كونه مقتضياً لتحرك المامور بحيث لو لم يكن مانع لأثرفيه من الشئون الذاتية لامر

ص: 271


1- مستدرك الوسائل الباب ١٨ من ابواب وجوب الحج الحديث ٣. راجعه فان بعض الفاظه مغاير لما في المتن.

الوالدين الغير القابلة للجعل بحيث لو كان جهات التمرد مفقوداً عن نفس الولد لكان مؤثراً فيه، وحينئذٍ فهل يرى ان امر الشارع شأنه تحصيل هذه المحركية الحاصلة لامر الوالد، بل شأنه تحصيل التحريك الفعلي، والحاصل ان ما هو من مقتضيات ذات الامر الغير المنفكة عنه هو المحركية الشأنية، بمعنى انه لو لم يكن داع آخر صار هو،داعياً، لا الفعلية، بمعنى كون تحرك الفاعل مستنداً اليه فعلاً فان هذا ليس من مقتضيات الامر، ولهذا قد ينفك عنه عنه فما يُحيى بالامر الثاني هو الثاني وما هو معلول ذات الامر هو الأوّل، وحينئذٍ فما المانع عن الاقتصار بالامر الأوّل بجعل داعيه قيداً لمتعلقه، والمفروض ان ايجاد الداعي وجعله بالأمر امر مقدور.

(305، ص 99) قوله (دام ظلّه) و من هنا يعلم انه لا وجه للالتزام بامرين «آه» حاصل تقريبه ان مرام الملتزم عدم المحيص عن ذلك، ومعناه ان العقل لو لا الشرع غير مستقل بلزوم اتيان الفعل المتعلق للامر على وجه يحصل به الغرض الداعي الى الامر، فلابد من تصريح الشرع بامر آخر متعلق بالمقيد بداعي الامر بعد الامر أولاً بذات العمل، نعم بعد امر الشرع بالمقيد معلوم انه يستتبع امر العقل بالاطاعة.

و حاصل جوابه ان العقل مستقل بالامر بالمقيد بداعي الامر ولو لم يكن هذا التصريح من الشرع، ووجه ذلك ان العبد اذا علم ان غرض المولى متعلق بالمقيد ولكن المولى لعدم تمكنه من التصريح بهذا القيد جعل متعلق امره مطلقاً يلزمه العقل باتيان هذا الغرض، وانه لا يرفع عنه المسئولية والمؤاخذة الا بتحصيل هذا الغرض باتيان الفعل مع هذا القيد، وان كان يحكم بسقوط امر المولى بذات الفعل أيضاً بالاتيان به بدون القيد لعدم معقولية بقاء الامر مع حصول متعلقه، ووجه استقلال العقل بلزوم تحصيل الغرض باتيان المقيد ان الغرض على نحوین: تارة يكون للمولى في صدور الفعل الفلاني من جوارح العبد غرض مهتم به لكن لا يجب ان يستند صدوره الى قول هذا المولى وامره وتاره يكون مطلوباً له هذا الصدور ولا يبالي بان يكون صادراً عن امره فعلى الأوّل المولى واجد الغرض لكن ليس بصدد تحصيله، وعلى الثاني واجد للغرض ويكون بصدد تحصيله أيضاً، فالعقل انما لا يستقل بلزوم تحصيل الغرض المجرد الغير المقرون باظهاره بالامر اذا كان الغرض من قبيل الأوّل واما اذا كان من قبيل الثاني كما فيما اذا وجد العبد ابن المولى مريضاً مع ذهول المولى فلا اشكال في استقلاله بلزوم تحصيله نعم ما لم يحرز كون المولى بصدد التحصيل والاظهار فالغرض المجرد لا يكفي احرازه في حكم العقل ولو مع الشك في انه هل هو بصدد تحصيل غرضه هذا او لا.

فتحصل من جميع ما ذكر ان الاكتفاء في باب العبادة بالامر الشرعي الواحد بذات الفعل غاية الامر ان العقل حاكم ببقائه وعدم سقوطه باتيان الذات وحدها، للعلم باخصية الغرض،

ص: 272

وكونه متعلّقاً بالمقيد غير تام من جهة عدم معقولية بقاء الامر مع حصول متعلقه، بناء على ما هو التحقيق من تعلق الامر في باب العبادة بصرف الوجود - كما في غير هذا الباب - الذي هو بمعنى خرق العدم وتبديله بالوجود، وهو معنى غير قابل للتكرار، فليس معنى لبقاء الامر مع حصوله الا طلباً للحاصل، نعم بناء على ان الامر في باب العبادة على خلاف غيرها متعلق بالحقيقة السارية اينما وجدت غاية الامر يسقط بالاتيان بالمصداق الأوّل الاوامر المتعلقة بسائر المصاديق الحصول غرضها يمكن تصوير بقاء الامر الأوّل مع الاتيان بذات الفعل، لكنه مع انه خلاف مسلك القائل بهذا الوجه خلاف التحقيق وكذلك القول بالاحتياج بامرين شرعيين احدهما بذات العمل والثاني بالمقيد منه بداعي الامر الأوّل أيضاً غير تام، للغنى عنه باستقلال العقل بلزوم اتيان المقيد بعد امر الشارع بالذات بداعي الغرض الاخص، فالامر العقلي بالمقيد قد اغنانا عن الامر الثانوي الشرعي بالمقيد.

(31٥، ص100) قوله (دام ظله) و لقائل ان يقول : نختار الشق الثاني «آه» وحاصل الذب ان قولكم على هذا التقدير _ اعني سقوط الامر الأوّل بالذات - فالامر الثاني أيضاً لا يسمن ولا يغني من جوع لانه أيضاً ساقط بارتفاع الموضوع مدفوع بانه يكفي في فائدة هذا الامر الثاني حصول العصيان لو أتى بالذات بدون القيد مع عدم بقاء الوقت، لانه حينئذٍ قد عصى الامر بالمقيد وان كان لم يعص الامر بالذات ولهذا لم يكن عصيان لولم يكن في البين الامر الثاني، ووجه حصول العصيان ان اعدام المحل أيضاً نوع من ترك المامور به اذا لم يكن الامر مشروطاً ببقاء المحل بل كان مطلقاً، ولازمه وجوب ابقاء المحل وحينئذٍ كما يحصل العصيان بترك العمل مع بقاء المحل يحصل أيضاً باعدام المحل، ولا يخفى ان الامر الثاني في المقام بالمقيد ليس مقيداً ومشروطاً ببقاء محله وهو الامر الأوّل، بل الاتيان بداعي الامر الأوّل مطلوب على وجه الاطلاق للمولى.

فان قلت كيف يكون مطلقاً ؟ والحال انه في تقدير انعدام المحل غير مقدور، والامر لا يتعلق بغير المقدور، ولازم ذلك كونه مشروطاً ببقاء المحل.

قلت: يكفي في المقدورية المصححة للامر القدرة في بعض الزمان، وهو ما قبل انعدام المحل، والحاصل ان هذا المقيد له مطلوبية على وجه الاطلاق وهو مقدور في زمان من الازمنة، وهو زمان التمكن من الذات والقيد وان كان خرج عن القدرة باخراج القيد عن دار الوجود. فتحصل انه مع الامر الثاني يحصل العصيان بفوات الوقت، ومع عدمه فلا عصيان فلا عقاب، وهذا المقدار يكفي في الغرض الحاصل من الإمر، فان غرض كلّ آمر من الامر اما نيل المقصود على تقدير الاطاعة واما عقوبة العبد على تقدير العصيان والمخالفة.

ص: 273

(32٥، ص 100) قوله «دام ظله» فعلى ما قدمناه من عدم احتياج العبادة «آه» اعلم انه لا اشكال في الاصل اللفظي والعقلي على غير الوجه الرابع من الوجوه الخمسة، لان المقام من قبيل المطلق والمقيد على ثلاثة من تلك الوجوه والقيد داعي الامر على وجه، وعنوان التعظيم على آخر، وعدم الدواعي النفسانية على ثالث فالكلام هو الكلام في كلي المطلق والمقيد من الرجوع الى أصالة الاطلاق مع وجود مقدمات الحكمة والرجوع الى الاصل العملي المقرر في دوران الامر بين الاقل والاكثر من البرائة والاشتغال على تقدير عدم وجودها، واوضح من ذلك الحال على الوجه الخامس اعني الالتزام بالامرين فان الشك حينئذٍ في وجود امر مستقل بالمقيد وعدمه، وليس مقام الاخذ بالاطلاق ولا محلاً للخلاف في الاصل العملي، فان الاصل اللفظي غير موجود والعملي هو البرائة بلا اشكال، ولا كلام.

و اما بناء على اخصية الغرض فقد يقال كما قيل بعدم جريان أصالة الاطلاق جريان أصالة البرائة ولو قلنا : بجريان البرائة في الدوران بين الاقل والاكثر، ويظهر ذلك أيضاً من شخينا المرتضى «قدّس سرّه» في مسألة اعتبار قصد التميز في العبادة، حيث انه «قدّس سرّه» بنى على الاشتغال معتمداً على ذلك بقوله «قدّس سرّه» وليس هذا(1) تقييداً في دليل تلك العبادة حتّى يرفع باطلاقه، كما لا يخفى، وحينئذٍ فلا ينبغ__ي ب_ل لا يجوز ترك الاحتياط.

و محصل ما افيد في بيان عدم اجراء أصالة الاطلاق انه اذا فرضنا التقييد بداعي الامر غير ممكن للزوم الدور، فالاطلاق أيضاً غير ممكن، لان الاطلاق والتقييد توأمان فلا يمكن التمسك بالمقدمات لرفع هذا القيد ولو فرض احرازها واما ما افيد في تقريب عدم جريان البرائة ولو قيل بجريانها في سائر موارد الاقل والاكثر فهو ان الشك في سائر الموارد في مرحلة ثبوت التكليف بالجزء او الشرط الزائد، فان العبد علم بامر إركع فاطاع، وعلم بامر اسجد فاطاع، وهكذا وهكذا، واما امراقرء السورة فلم يعلم به أصلاً فالاصل برائة الذمة عن هذا التكليف، واما في هذا المقام فليس الشك في ثبوت التكليف فان المفروض هو العلم بثبوت التكليف بذات العمل وانما الشك في متعلق الغرض فلا يعلم انه قد تعلق الغرض بعين ما تعلق به الامر حتّى يسقط الامر بامتثاله او تعلق بامر آخر اضيق ممّا تعلق به الامر حتّى لا يسقط الامر ما لم يحصل الغرض المحدث له، فالشك هنا في مرحلة سقوط التكليف بعد العلم باصل ثبوته، ومن المعلوم ان حكم العقل في مثله الاشتغال واما في الموارد الاخر فانه قد علم

ص: 274


1- اي كون الداعى المعتبر في العبادة هو التعبد بخصوص المأمور به متميزا عن غيره.

بعدة اوامر واطاعها ويعلم بحصول ما هو الغرض في تلك الاوامر أيضاً وهو المصلحة التاهليه وكونه مفيداً في الغرض لو تم سائر الاجزاء والشرائط.

و الحقّ عدم الفرق بين المقام وسائر المقامات أصلاً، لا من جهة الاصل اللفظي ولا من جهة العقلي.

اما الأوّل فلأن من جملة مقدمات الاخذ بالاطلاق كون المتكلم بصدد البيان، وليس معنى هذا كونه بصدد بيان الغرض الذي أداه بهذا الكلام بخصوصه، والا فربما لا يكون بحسب اصل الغرض اللبي في هذا المقام، بمعنى انه لا يريد اظهاره بتمامه في هذا الكلام، بل له بقية يأتي بها في بيان اخر، بل المقصود بهذه المقدمة كونه في مقام بيان تمام ماهو المراد اللبي وهو أيضاًح كلّ ما كان دخيلاً في الغرض الذي في قلبه بدون اخفاء شيء منه، ولازم هذا انه ان امكن ضم القيد الذي له دخل وبيانه في هذا الكلام أتى به، كأن يضم قيد المؤمنة بقوله اعتق رقبة وان لم يمكن افرد له بياناً مستقلاً، كما فيما نحن فيه، اعنى قصد داعي الامر ونحوه من قصد الوجه او التميز والحاصل انه سلمنا ان الاطلاق الاصطلاحي لا مجال له في المقام، فانه لا شبهة في دليل العبادة في عدم قابليته للاطلاق والتقييد، ولكن الملاك هنا موجود وهو كون المتكلم بصدد اظهار تمام ماله دخل في الغرض القلبي ولم يأت ببيان مستقل بالفرض، فلا قصور لمجيء المقدمات هنا فان لم يمكن تسمية ذلك باسم الاطلاق الاصطلاحي فسمه ماشئت فالامر سهل.

و بهذا البيان أيضاً نتمسك بمقدمات الاطلاق في رفع قيد الوجه والتميز في العبادة، فانا نسلّم ان كلّ واحد واحد من الادلة الواردة في ابواب العبادة بتمامها ليس شيء منها وارداً في مقام البيان من هذا الحيث ولكن من ملاحظة مجموع الاخبار والادلة وعدم ذكر من هذين القيدين في شيء من المواضع مع القطع بانه لو كان لهما دخل في الغرض لوجد في موضع من المواضع ذكر له مع انه لا اشارة اليه في شيء من الادلة يحصل القطع باطلاق الغرض، مع انه لا يمكن الحكم بالاطلاق الاصطلاحي في واحد من الادلة، وهذا واضح.

و اما الثاني فنحن كلما تأملنا لم نجد فرقاً بين المقام وسائر المقامات، فان العبد يعلم امر المولى بذات العمل ويطبّقه فيه ولا يعلم بالزائد منه، فالعقاب على ترك المقيد بواسطة ترك هذا الزائد مع مشكوكيته عقاب بلا بيان وحجة فما المانع من اجراء البرائة هنا دون سائر الموارد فهل القيد المشكوك ليس بيانه من وظيفة الشرع هنا دون غيره، فهذا انه خلاف مع الواقع. فان بيان غرض الشارع ليس الا من وظيفته، ليس بلازم في حكم العقل بالبرائة، ألا ترى ان العقل مستقل بالبرائة في الشبهة المصداقية مع ان بيانه خارج عن وظيفة الشرع،

ص: 275

فليس الملاك الا عدم علم العبد، وهو هنا حاصل، وان كان المانع الخاص بالمقام ان الشك هنا في السقوط فهو أيضاً خلاف الواقع، فان الشك في سائر الموارد أيضاً في السقوط، كيف؟ والمفروض ان اعتبار القيد او الجزء المشكوكين على تقدير ثبوته يكون بنحو الارتباط، فلا يسقط الامر بسائر الاجزاء والشرايط المعلومة أيضاً بمجرد الاتيان بالاقل فاذا قلنا هناك : بانه بعد كون معلوم العبد وما قام الحجة عليه عنده هو الاقل، والزائد ما قام حجة عليه ولم يعلم وجوبه لايبالي بانه هل يسقط الامر بالاقل او لا يسقط، فان العقاب على ترك المامور به الذي هو الاكثر على تقدير ثبوت الزائد - بواسطة ترك الزائد قبيح فالمعلوم ليس الا الاقل واقتضاء الاقل ليس بازيد من الاقل، وقد اتى به أيضاً، لم يبق للمولى حجة عليه، فلا فرق بعد هذا ان يكون امره بالاقل ساقطاً ام كان باقياً لكونه ارتباطياً، بعد ان العبد قد قطع لسانه باعطائه حقه، فمجرد ثبوته في الواقع بلا تأثير له في المكلف لا اثر له، نقول ذلك بعينه في هذا المقام، لعدم قصوره من سائر المقامات في شيء.

(33٥، ص103) قوله (دام ظله) و من الواضح ان الجزئي لا يكون مقسما للاطلاق والتقييد «آه» فان قلت زيد جزئي، ومع ذلك يصح تقييده واطلاقه بالنسبة الى الاحوال المعتورة عليه من القيام والقعود وغير ذلك.

قلت: نعم هو جزئي، بمعنى انه ليس له عموم افرادي فلا يصح تقييده بقولك : ابن عمرو، الا للتوضيح، ولكن له الكلية والعموم بحسب الاحوال والجزئي الذي قلنا:لا يصير مقسما هو الجزئي بتمام الجهات والمعنى الحرفي عند القائل بجزئيته من هذا القبيل.

(٣٤٥، ص ١٠٤) قوله (دام ظله) احدهما ان المعنى المستفاد من الهيأة «آه» حاصله ان المتكلم يلاحظه بعنوان اجمالي كعنوان ما انشأته فيقيده بشيء، مثلاً اذا قال: اكرم زيداً، فهو ملتفت لا محالة الى انه قد انشأ بهذا القول شيئاً، فيلاحظه بهذا العتوان، ويورد التقييد عليه فالمعنى ان هذا الذي قد انشأته بكلامي يكون مقصوراً على صورة مجيء زيد.

(٣٥٥، ص ١٠٤) قوله (دام ظلّه) و الثاني ورود الاطلاق والتقييد بملاحظة محله «آه» حاصله ان الطالب لضرب زيد مثلاً تارة يلاحظ ضرب زيد الذي هو محل طلبه على وجه الاطلاق، ويوقعه بوصف الاطلاق تحت الطلب، فلازمه سراية الاطلاق الى الطلب الذي هو عارض عليه في الذهن وأخرى يلاحظه على وجه التقييد فيلاحظ ضرب زيد على تقدير المجي، ثمّ يوقعه تحت الطلب، ولازمه سراية وصف التقييد الى عرضه الذي هو الطلب.

و فيه ان لازم وقوع شيء مقيد في حيّز الطلب بحيث احاط الطلب بما اخذ فيه من القيود أيضاً ان يكون تلك القيود أيضاً لازم التحصيل لان هذا معنى صيرورة المقيد مطلوباً على

ص: 276

الاطلاق، مثلاً ضرب زيد الجائي اذا صار محبوباً لك فانت محزون بفوته ولو كان لاجل عدم حصول قيده وهو المجي، والا فيلزم خروج القيد عن حيّز الطلب، ويكون الطلب مبتنياً على تقدير المجئ وهو خلاف الفرض.

و قد يجاب عن هذا الاشكال أيضاً بابداء الفرق بين قولنا: «اضرب زيداً الجائي» و «اضرب زيداً ان جائك» فالمتكلم قد اعتبر في الصورة الاولى محصول القيد من قبل المكلف، وفي الصورة الثانية اعتبر حصوله من قبل نفسه، يعنى ان حصل المجئ اتفاقاً لا باختيار منك فاضرب زيداً، ولازم هذا الاعتبار ان لا يسري الطلب اليه ولا يصير واجب التحصيل.

و فيه ان غاية ما يلزم من هذا رفع عصيان العبد على التقدير الثاني، بمعنى انه ان اعتبر القيد على نحو غير التعليق يلزم عصيان العبد بترك القيد وان اعتبر على نحو التعليق والاشتراط فاللازم عدم عصيان من العبد عند عدم حصول القيد وتركه تحصيله، لكن المفروض ان حبَّ المولى مطلق بمعنى انه قد وقع ضرب زيد على تقدير المجيىء الحاصل اتفاقاً في حيز الطلب المطلق، فاللازم منه فوت المحبوب بفوات هذا القيد فيلزم على هذا حزن المولى بتقدير فوات القيد بدون استحقاق العبد للعقاب كما كان اللازم على التقدير الأوّل هو الحزن والعقاب معاً، وقد كان المفروض في الواجب المشروط انه لا حبَّ ولا طلب الا في تقدير وجود القيد. فلا حزن ولا عقاب في تقدير فواته.

فان قلت: كيف يمكن ان يكون الحب بالنسبة الى وجود موضوعه أيضاً مطلقاً.

قلت: كما انك تحب العنب في غير موسمه، فمحبوبك هو العنب من غير اشتراط بصورة وجوده، ولهذا تحزن على عدم نيل هذا المحبوب ولو كان لاجل عدم وجود العنب وعدم بلوغ موسمه.

و تحصل من جميع ما ذكر انه بعد القطع بان الصيغة موضوعة ومستعملة في الانشاء والايجاب فالتع_ل_ي_ق لابد وان يرجع اما الى الوجوب الذي هو المنشأ او الى المادة وهو متعلق الوجوب، او الى المجموع اعني المادة الواقعة تحت الطلب بوصف كونه كذلك، لا الى المادة المجردة، ولا رابع لهذه الاحتمالات.

فان كان راجعاً الى الوجوب ورد عليه اشكالان:

الاول كيف يعقل تحقق الانشاء بدون المنشأ وكيف يعقل تفكيك ايجاد الوجوب عن وجود الوجوب، اذ المفروض ان الانشاء فعلي حصل بنفس الصيغة، على م_ا ه_و قضية الاستعمال في معناها الموضوع له، فكيف كون الوجوب تعليقياً.

و الثاني ان الطلب المفاد من الصيغة معنى حرفي والمعنى الحرفي ولو كان كلّيّاً غير قابل

ص: 277

للحاظ على وجه الاستقلال حتّى يحكم عليه بعد لحاظ نفسه والاشارة الى ذاته بان هذا مطلق غير مقيد بشيء او مقيد بشيء، وقضية المعنى الحرفي هو الاندكاك في الغير والتبعية، وحاله في اللحاظ حال العرض الخارجي في الوجود الخارجي، فكما ليس له وجود على الاستقلال بل تبع للمحل وقائم به كذلك ملاحظة المعنى الحرفي في الذهن لا يتعلق به اللحاظ على وجه الاستقلال، بل يلحظ بتبع المحل وقائماً به ومندمجاً فيه.

وقد يذب عن الاشكال الأوّل بالتنظير بالاخبار بانه كما ان الاخ_ب_ار ب_أمر على تقدير ممكن كالاخبار بوجود النهار على تقدير طلوع الشمس، كذلك انشاء امر على تقدير أيضاً بمكان من الامكان وحينئذٍ فعدم تحقق الوجوب قبل تحقق المعلق عليه ليس من تفكيك المنشأ عن الانشاء في شيء، بل تحققه قبله يكون تفكيكاً، فان معنى عدم التفكيك ان يكون المنشأ تابعاً للانشاء، فان انشأ أمراً مطلقاً بلا شرط فعدم التفكيك حصول المنشأ بلا انتظار، وان انشأ أمراً على تقدير فعدم التفكيك ان يكون حصول المنشأ منتظراً لحصول المعلق عليه.

و فيه ان الأمر لا يخلو اما ان يتحقق الايجاب في نفسه بالصيغة اولا، بل الايجاب يتحقق عند تمام العلة لوجود الوجوب، وهو المعلق عليه، لا اشكال في فساد الثاني اذ يلزم اهمال الصيغة، اذ المفروض ان المتلفظ لم ينقدح في نفسه حين التلفظ ارادة وايجاب اصلاً، وعلى الأوّل فالمحذور باق بحاله، وهو امتناع ان يتحقق الايجاب فعلاً بدون تحقق الوجوب كذلك، بل يكون معلقاً على شيء، واما التنظير بالاخبار بأمر على تقدير فنقول: قول القائل اذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ماذا يكون المخبر به بكلامه ؟ فان قلت: انه الملازمة بين الطلوع ووجود النهار، قلنا: هذا مقطوع الفساد، اذ الفرض انه لم يقل : الملازمة بينهما موجودة، ومعلوم ان هذه قضية اخرى غير قوله اذا كانت «الخ» وان قلت ان المخبر به هو وجود النهار على تقدير الطلوع فنقول: هذا التقدير مأخوذ في اي شيء؟ في الجزم او في المجزوم؟ فان قلت: أخذ في المجزوم، فيلزمك ان الجزم بلا تعليق على شيء - بل فعلاً- تعلّق بالشيء المعلق، ومعنى تعلق الجزم المطلق الفعلي بالشيء المعلق هو الجزم بمجموع الذات والمعلق عليه، والا لم يقع هذا المعلق تحت الجزم، وهو خلف، فيلزم ان يكون المخبر المذكور قد اخبر بوجود النهار الحاصل في تقدير الطلوع، فيكون قد اخبر بالطلوع أيضاً ضمناً، ان من المعلوم صحة هذا الاخبار مع القطع بعدم الطلوع، كأن اخبر في الليل، وان قلت انه مأخوذ في الجزم فنقول : كيف التوفيق بين فعلية الجزم وبين كونه معلقاً على شيء؟ فقضية التعليق عدم تحققه فعلاً، وهو خلاف الفرض من ان المتكلم ليس خالياً عن الجزم، بل القضية لا يمكن ان تتأتي بدون الجزم، فعلم ان المقامين مشتركان في ورود الاشكال فلا وجه لتنظير احدهما بالآخر، فلابد من التماس

ص: 278

طريق للتفصي في كليهما.

و قد يذب عن الاشكال الثاني و هو عدم قابلية الطلب بالمعنى الحرفي للتقييد المستدعي اللحاظ الاستقلالي بانه وان كان لا يمكن في النظرة الاولى ذلك لكن من الممكن ان يتوصل بمرآة اسمي ويشار به الى ذات المعنى الذي يتصف بالحرفية بواقعه فيورد التقييد في هذه النظرة، فان التقييد يرد على المحكى وهو المعنى الحرفي، مثلاً المتكلم باكرم زيداً وان كان حين القداح النظرة الاولى الّتي يتحقق فيه الطلب الحرفي بواقعه لا يتمشى منه ايراد القيد في الطلب، لكن بعد الفراغ عن هذه النظرة يعود وينظر ثانياً الى ما تحقق في النظرة الاولى ويتوصل بعنوان الطلب الذي انشائه الآن فيشير بهذا العنوان الاجمالي الى عين ذلك المعنى المتحقق في النظرة الاولى الذي هو حرفي حقيقة فيربط المشار اليه والمحكي بمجيء زيد.

و فيه ان المقطوع ان المتكلّم باكرم زيداً ان جائك لا ينقدح في نفسه ملاحظتان للطلب، بل الموجود في نفسه ملاحظة واحدة على نحو التبعية للاكرام وكونه كيفية يتكيف الاكرام به وهذه الملاحظة تستمر الى حين الربط والتقييد ولا تتبدل بملاحظة استقلالية بعنوان اجمالي حين الربط بشهادة الوجدان القطعي.

و اما ارجاع القيد الى المادة فلا يرد عليه شيء من الاشكالين السابقين، فان التقييد غير راجع الى الوجوب حتّى يرد اشكال التفكيك، بل الوجوب فعلي كالانشاء، وكذلك اشكال عدم الاستقلال باللحاظ أيضاً مبني على ارجاع القيد الى الوجوب، والمفروض عدمه.

لكن يرد عليه اشكال آخر و هو ان لازم جعل القيد في المطلوب دون وصف الطلب ان يكون القيد لازم التحصيل، مثلاً اذا صار الضرب المقيد بمجيء زيد متعلّقاً للطلب الفعلي المطلق فلازم هذا ان يكون المطلوب متروكاً بترك القيد - وهو المجيء - فيجب تحصيله لو لم يكن حاصلاً، كما يجب ايجاد الضرب والحاصل ان تعلق الطلب بالضرب على تقدير المجيء يمكن بنحوين: الأوّل ان يكون الطلب واقعاً في حيّز الشرط والشرط خارجاً عن حيز الطلب فلا طلب عند فوت الشرط، فلا عصيان بترك تحصيله أيضاً، وهذا هو الوجه الأوّل اعني ارجاع الشرط الى الوجوب، والثاني ان يكون الشرط في حيّز الطلب لا الطلب في حيز الشرط، فالضرب المقيد بالكون على تقدير المجيء وقع في حيّز الطلب، ولازم هذا ان يكون الطلب قد احاط بنفس القيد أيضاً، فالطلب الفعلي الغير المعلق قد تعلق بتحصيل المقيد ذاتاً وقيداً، فكما يقتضي ذات المقيد يقتضى قيده أيضاً، فيلزم عصيان العبد لو ترك القيد، لان المقيد قد ترك بترك القيد، وترك المطلوب المطلق عصيان وهذا نظير ما قلنا في القضية الخبرية من انه على تقدير اخذ التعليق في المجزوم به يلزم ان يكون الجزم حاصلاً بالمعلّق عليه أيضاً.

ص: 279

و قد يذب عن هذا الاشكال بان صيرورة القيد مورداً للتكليف ومحاطاً للطلب يكون باختيار المنشي وكيفية اعتباره، فقد يعتبر القيد على نحو يكون تحصيله على المكلف لازماً كأن يوجه الطلب نحو الفعل المقيد بقيد كذا بدون اعتبار حصول القيد لا من قبل المكلف، والعبارة المؤدية لهذا المزاد «اكرم زيداً الجائي» وقد يعتبره على نحو لا يلزم تحصيله عليه، وذلك بان يوجه الطلب الى الفعل المقيد بقيد كذا مع اعتبار حصول القيد من الخارج. ومن غير ناحية المكلف، والعبارة المؤدية لهذا «اكرم زيداً ان جائك».

و فيه انه و ان كان يرفع بهذا البيان توهم العصيان، لكن يبقى الاشكال بالنسبة الى المصلحة والمفسدة والحب والبغض توضيح ذلك ان وقوع الاكرام على تقدير المجيء الحاصل من قبل نفس زيد لا من قبل المكلف مركباً للمصلحة يتصور على نحوين: الأوّل قيام المصلحة المطلقة بهذا المقيد بحيث لو لم يحصل ولو بعدم حصول قيده يفوت المصلحة، والثاني ان يتقيد وجود المصلحة بحصول الشرط فمع عدمه لا مصلحة حتّى تفوت، فنقول : على ما ذكرت يلزم فوات المصلحة بفوت القيد، لان المفروض ان الطلب غير مشروط بشيء، بل مطلق فعلي والتعليق في متعلقه فلا بد وان تكون المصلحة الداعية الى هذا الطلب أيضاً مطلقاً غير مشروط بشيء، وكان التعليق في متعلقه ولازم وقوع الشيء المعلق مركباً للمصلحة المطلقة كون قيام المصلحة المطلقة بكل جزء منه، فبفوات كلّ جزء ولو كان هو المعلق عليه يلزم فوات المصلحة المطلقة، واما فرض كون المصلحة مشروطة بحصول الشرط لا من قبل المكلف يلزمه عدم مطابقة المصلحة للانشاء فان المفروض اخذ الشرط المذكور في متعلق الطلب لا في نفسه، فلابد ان يكون في المصلحة أيضاً كذلك قضية للتطابق بينهما.

و اما ارجاع القيد الى مجموع المادة و الطلب - اي يلاحظ نفس المادة ويلاحظ تكيفها بالطلب أيضاً ثمّ يربط هذا المعنى المتكيف بالقيد الكذائي بملاحظة ثانية راجعة الى المجموع بعد الملاحظة الاولية المحقّقة لذات المقيد وتكيفه الخاص فبعد الفراغ عن هذا يلاحظ مقدمة للربط حتّى يصير طرفاً للربط - فهو سالم عن الاشكال الوارد على الوجه الوسط، فان ارجاع القيد الى المادة المتكيفة غير ارجاعه الى المادة المجردة، فان لازم الأوّل سراية القيد الى التكيف أيضاً بتبع المحل، كما يمكن انتقال العرض الخارجي وقسمته بتبع انتقال المحل وقسمته كذلك هنا أيضاً اذا ورد التعليق على المادة المتكيفة بالطلب فلازمه ان يصير عرضه وهو الطلب أيضاً واقعاً في حيّز الطلب، ففرق اذن بين قولنا: السير من البصرة مطلوبي وبين قولنا : السير الذي هو مطلوبي يكون من البصرة، فان الربط الابتدائي قد ارتبط في الثاني بالطلب أيضاً دون الأوّل، فان طرف الربط فيه نفس السير؛ وكذلك فرق بين قولك : ضربك زيداً ان جاء مطلوبي، وبين

ص: 280

قولنا : ضربك الذي هو مطلوبي انما يكون اذا جاء، فالتعليق في الثاني يرجع الى الطلب أيضاً، فلا يرد الاشكال بلزوم العصيان ولا اقل من فوات المصلحة عند فوات القيد لما عرفت من رجوع الشرط الى الطلب أيضاً، وكذلك اشكال عدم الاستقلال باللحاظ لما عرفت ان القيد الى الطلب تبعا، والممتنع ارجاع القيد الى المعنى التبعي استقلالاً، اما بتبع تقييد المعنى يرجع الاستقلالي فلا مانع ولكن اشكال تفكيك الانشاء عن المنشأ باق بحاله كما هو واضح.

و طريق التفصى عن جميع الاشكالات ان المصلحة تارة تكون في المقيد بحيث يكون القيد في حيز المصلحة والمصلحة غير واقعة في حيّز شيء، مثل ان يكون المصلحة في اكرام زيد عند مجيئه بحيث كانت المصلحة فعلا قائمة بهذا المقيد واخرى تكون في المقيد بحيث تكون المصلحة في حيز القيد، فتكون المصلحة بعد مجيء زيد في اكرامه، فلا مصلحة عن_د عدم يكون وجوده محبوبا، بل ربّما يكون وجوده مبغوضاً، كما في الكفارة عقيب افطار الصوم، حيث ان الكفارة في هذا التقدير يكون فيه المصلحة لا ان فيها المصلحة المطلقة مطلوباً لاجلها، بل المصلحة موجودة في هذا التقدير، فلا يقتضي مطلوبية نفس التقدير، ولهذا اجتمعت مع المفسدة في نفس التقدير ومبغوضيته ولازم النحو الثاني ان الآمر متى فرض وجود الامر الذي يكون المصلحة على تقديره انقدح في نفسه الارادة والطلب، فان الفرض يحكى عن الواقع، وفرضنا ان المصلحة تحدث عند وجوده الواقعي، فالآمر في هذا اللحاظ يرى الواقع، ولا يتطرق العدم في هذا اللحاظ فيرى وجود المصلحة أيضاً فينقدح في نفسه الارادة لا محالة، فلا تعليق في الارادة، لانه فعلي، ولا في متعلقها، لانها قد تعلقت بالفعل المطلق لا المقيد، فيندفع جميع المحاذير.

فان قلت هذا ليس الا تعليقاً في الانشاء.

قلت: ليس من هذا الباب بل الشرط حاصل فكما لو كان عالماً بحصول الشرط لما كان في البين تعليق بل كان ينشى الارادة المطلقة. فكذلك هنا أيضاً، لان الفرض أيضاً حاك عن حقيقة وجود الشرط في الخارج، فلا تعليق في البين.

فان قلت: فاذا كان الشرط حاصلاً فلم لا تؤثر هذه الارادة في المامور ولا تحركه نحو المأمور به ولم يكن له حالة منتظرة بعد حصول ما هو شرطه واقعاً.

قلت: وجهه ان الفرض بالمعنى الاسمي ليس موضوعاً وشرطاً، بل الموضوع والشرط هو الفرض على وجه الحكاية والطريقية والارادة متى كانت مبتنية على حكاية وجود شيء في الخارج فلا محالة يكون تاثيرها موقوفاً على وجود المحكي في الخارج.

فان قلت: لا يعقل تفكيك الارادة عن التأثير.

282

ص: 281

قلت : فما تقول في ما اذا علم المولى بالجهل المركب بحصول الشرط في الخارج فامر بالفعل على وجه الاطلاق، لكن علم المامور بان الشرط غير حاصل ؟ فهل ترى ان العبد يتحرك بنفس هذا الأمر مع علمه بالحال؟ نعم مع شكه يتحرك بقضية الاصل، بل نقول : يمكن تفكيك الارادة الفاعلية عن التأثير أيضاً فيما اذا علم بوجود الشرط فانقدح في نفسه ارادة الفعل آنا ما ثمّ التفت بكونه جهلاً مركباً.

و بالجملة موضوع المصلحة ليس الا الوجود الخارجي من غير فرق بين اللحاظ وعدمه، فما دام لم يتحقق الوجود الخارجي لم يتحرك العبد وان كانت معه الارادة حاصلة، من غير فرق بين ان يكون من جهة جهل المركب للمولى وعلم العبد ام من جهة فرض وجود الشرط، فانه أيضاً من سنخ العلم فينقدح معه الارادة والعبد ملتفت بعدم حصول الشرط، فعلم ان موضوع المصلحة معاير لموضوع الارادة فموضوع المصلحة نفس الوجود الخارجي للشرط من غير فرق بين اللحاظ وعدمه وموضوع الارادة هو الوجود الذهني فالعلم موضوعي بالنسبة الى الارادة، وطريقي صرف بالنسبة الى المصلحة، ولكن لم يؤخذ في موضوع الارادة على وجه الموضوعية بل على وجه الطريقية، فالعلم الطريقي مأخوذ في موضوع الارادة، بل ليس للوجود الخارجي دخل في موضوعها. حتّى بنحو الجزئية، بل تمام الدخل للعلم الطريقي والا كان اللازم عدم انقداحها عند انفكاك العلم عن الوجود الخارجي، فالوجود الخارجي البحت ليس مؤثراً في وجود الارادة في النفس ولو لم يلتفت اليه بلا اشكال، وكذلك مع الالتفات أيضاً يكون تمام الدخل للالتفات، والوجود الخارجي يكون بالنسبة الى الارادة كضم الحجر.

و تحقق ممّا ذكرنا ان الارادة وحدها ليست موضوعة لوجوب الامتثال بل لابد من العلم بتحقق المصلحة الداعية اليها في الخارج او الشك، فان مقتضى الاصل مع الشك أيضاً هو الوجوب، ولا عذر له في ترك الامتثال عقلاً بمجرد احتمال عدم المصلحة وكون علم المولى جهلاً، واما مع العلم بان المصلحة المبتنى عليها الارادة غير حاصلة فلا يجب الامتثال، من غير فرق بين صورة الجهل المركب وصورة الفرض المخالف للواقع.

فان قلت: لو كان الفرض على نحو الصفتية موضوعاً و شرطاً للارادة يجب الامتثال باعترافك، فما الفرق بين اخذه بنحو الصفتية شرطاً وبين اخذه بنحو الطريقية كذلك، حيث حكمت بعدم التاثير وعدم وجوب الامتثال.

قلت حال اخذ الفرض على نحو الصفتية شرطاً حال ما اذا اخذ العلم الذي هو جهل مرکب شرطاً في الارادة بنحو الصفتية، فكيف يجب الامتثال حينئذٍ مع عدم وجوبه في فرض الطريقية.

ص: 282

فان قلت لا اشكال ان القضية التعليقية تدل على ربط المقدم بالتالي وتعليقه عليه فكيف الفرار عن تعليق المعنى الحرفي المستفاد من الصيغة على هذا البيان مع فرض كون القضية تعليقية ؟

قلت شأن المتكلم بالقضية التعليقية ليس الا ايجاد التقدير وايجاد ما هو الشرط في المقدم، ثمّ يقع مضمون التالي في هذا التقدير من دون ان يصدر من المتكلم ربط والصاق بينهما حتّى يقال كيف يقبل المعنى الحرفي الالصاق والربط، وبعبارة اخرى: حال المتكلم بعد فرض الشرط والمقدم يصير كحاله فيما لو وجد الشرط والمقدم في الخارج حقيقة، فكما انه حينئذٍ ياتي بالانشاء بلا الصاق وربط بشيء بل مطلقاً، ومع ذلك لم يصر الطلب والانشاء على الاطلاق بمعنى كونه في جميع التقادير بل يكون في تقدير واحد وهو مجيئ زيد مثلاً، ولا وجود للطلب والانشاء في غير هذا التقدير، فكذلك عند فرض المقدم والشرط حاصلاً يأتي بالانشاء بدون ملاحظة ربطه والصاقه بشيء، لان في هذا الفرض شرطه حاصل، فلا حاجة الى ملاحظتهما كما في صورة الوجود الحقيقي فيصدق ان الطلب في تقدير واحد وليس له وجود في غير ذلك التقدير، فيحصل التقيد والارتباط القهري بدون الحاجة الى ملاحظة الربط والتقييد من المتكلم، والقول بان وضع القضية التعليقية لخصوص الالصاق والربط الذي كان من فعل المتكلم أولاً ؛ اي كان فعله الاولى الصاق التالي بالمقدم وربطه به غیر مسلم، بل يوجد تقدير التالي وشرطه في عالم الفرض، فيأتي بالتالي بعد ذلك بدون لحاظ الصاق وربط، ثمّ يتولد مع ذلك الالتصاق والارتباط قهراً كما في صورة الوجود الخارجي.

فان قلت اغمضنا عن ذلك ؛ لكن نحن اذا فرضنا المولى يستمر فرضه ولا يلتفت بنظرة ثانية الى فرضه فيراه خلاف الواقع فيرجع عن ارادته فلم لا تكون هذه الارادة الجدية واجبة الامتثال عقلاً ؟

قلت: حاله حال ما اذا استمر بالمولى الجهل المركب لكن المأمور ملتفت بخطائه، فكذلك هنا أيضاً المأمور ملتفت بان ما هو الحاصل مجرد فرض لا واقع له.

فان قلت: نفرض ان المأمور أيضاً يستمر له حالة هذا الفرض فيقتضي ذلك انه ينقدح فيه حالة التحرك، كما انقدح في المولى حالة الارادة واستمرت باستمرار الفرض.

قلت : لكن الفارض ليس في الغفلة المحضة وعارياً عن الالتفات والشعور رأساً الى كون ما افترضه مجرد الفرض بلا واقعية.

فان قلت: فعلى هذا يلزم ان لا ينقدح في الأمر الارادة أيضاً لعين هذه الجهة.

قلت: هذا غير لازم لانا نشاهد بالوجدان حصول الحالات للنفس ببعض الخيالات، مثل

ص: 283

عروض الخوف عند تصور السبع وعروض الكابة والحزن عند تصور المكاره، وكذلك نشاهد بالوجدان عروض حالة الشوق عند تصور الشرط في ما نحن فيه والحاصل ان القول بعراء مجرد الفرض المنفك عن الخارج عن التأثير في النفس ممنوع قطعاً.

ثم للتفصي هنا طريق آخر: و هو ان يقال : الوجود الانشائي خفيف المؤنة حيث انه يتحقق بقصد تحققه بلفظه، فيصير هذا القصد واللفظ منشأ لان ينتزع العقلاء منهما امراً، وليس هو مجرد فرض الفارض بل له نفس امرية غاية الأمر ليس له ما بحذاء خارجي، فوجوده منشأ انتزاعه، ويكون لهذا الوجود آثار عند العرف والعقلاء لم تكن تلك الآثار قبل التكلم والانشاء، فاللفظ موجد للمعنى الانشائي لو انضمم اليه قصد الايجاد، فنقول : كما يكون من جملة الاعتبارات العرفية الّتي لها آثار عرفاً وعقلاً الوجوب المطلق والملكية المطلقه فيرتبون عليه الآثار الخاصّة بلا ترقب امر، كذلك من الاعتباريات الّتي لها آثار عرفاً وعقلاً الوجوب المعلق والملكية المعلقة ونحوهما، فينتظرون في ترتيب آثارها عليها وجود امر آخر، وليتس وجود هذا القسم في اعتبار العقلاء باقل واقصر من وجود القسم الأوّل، فالتعليق مقوم هذا المعنى الوجداني كماكان الاطلاق مقوماً للاول، فهنا معنيان اعتباريان في عرض واحد، وكلاهما من سنخ المعنى الحرفي، لا ان المعنى الحرفي في القسم الثاني ذات عارية عن التعليق حتّى يشكل علينا الأمر في ايراد التعليق على المعنى الحرفي، بل المعنى الحرفي في القسم يكون بحيث من اقتضاء ذاته مع قطع النظر عن امر خارج عنه هو ان يترقب حصول امر آخر في ترتيب آثاره.

فيتخلص بهذا البيان عن كلا الاشكالين السابقين؛ اعني تفكيك الانشاء المنشأ عن قبول المعنى الحرفي بواسطة عدم استقلاله للتقييد والتعليق :

اما الأوّل فلما عرفت من انه على هذا المبنى يكون لنا قسمان من الوجود للاعتباريات: وجود مطلق ووجود معلق والثاني برزخ فيما بين الوجود المطلق والعدم، فلم ينفك هذا القسم من الوجود البرزخي عن انشائه، بل حصل فعلا عقيب انشائه كذلك، وهذا بخلاف المبنى الآخر في المعاني الانشائية من انها صفات حقيقية وامور نفسانية لها وجود بالحقيقة لا بالاعتبار، فانه حينئذٍ ليس للارادة الحقيقية قسمان من الوجود بل امرها دائر بين الوجود والعدم، كسائر الموجودات الخارجية، حيث انها بين موجودات في الخارج ومعدومات فيه وليس هنا قسم آخر برزخ بينهما سمّى بالوجود التعليقى، وهذا واضح، فالبيان المذكور يتم على المبنى الأوّل ويدفع به الاشكال المذكور ولايتم على المبنى الثاني.

و اما الاشكال الثاني فلما عرفت من ان نفس المعنى الحرفي يكون في ذاته بحيث يقتضي

ص: 284

ان يترقب في ترتيب آثاره حصول امر آخر، ولا مانع من كون نفس المعنى الحرفي تعليقيا، انما المانع في ايراد التعليق على المعنى الحرفي بعد عدم وجدانه اياه في نفسه.

ثمّ هذا البيان بعد تسليم مبناه من تحقق الوجود الاعتباري وكون الفاظ الانشاءات موجدة لمعانيها مع ضميمة القصد لا نقص فيه في رفع الاشكالين من حيث اللب بالبيان الذي ذكر، لكنه لا يمكن اصلاحه في مقام التطبيق على القضايا الخارجية الانشائية، وتوضيح ذلك ان المتكلم بقضيّة «إن جاءك زيد فاكرمه» لا يخلو اما ان يؤدي ذلك المعنى الوحداني التعليقي بهذا الكلام على نحو تعدد الدال والمدلول بان يوجد اصل الذات لهذا المعنى الوحداني بدال ويوجد القيد وه_و ك_ونه بنحو التعليق بدال اخر، كما هو الحال في سائر التقييدات الواردة مثل تقييد الرقبة بالمؤمنة في قولنا : اعتق رقبة مؤمنة، حيث ان الرقبة المهملة اعطاها لفظ الرقبة والمؤمنة اعطاها لفظ المؤمنة، وبضم الثاني الى الأوّل تولّد المقيد، غاية الامر ان الدالين في سائر التقييدات كلاهما يكون دلالتهما على نحو الكشف، والدالين في مقامنا يكون دلالتهما كليهما على نحو الايجاد واما ان يؤدّي هذا المعنى الوحداني بدال واحد، فعلى الأوّل يلزم ان يكون ايجاد هذا المعنى بمجموع قوله : «ان جاء فاکرم» فيلزم استعمال «ان جاء» أيضاً في الايجاد اعني ايجاد القيد، كما استعمل اكرم» في ايجاد الذات، ويكون تحقق ذلك المعنى من انضمامها، وهذا بديهي البطلان، لوضوح كون دلالة «ان جاء» على نحو الكشف، وعلى الثاني نقول هذا الدال الواحد لا محالة هو «اكرم» فنقول: قوله «ان جاء» لا يخلو اما انه دال او لا بل يكون حاله كحال علامات الرفع والنصب ممّا لا دلالة لها ولكنها علائم على تحقق امر، فهذا أيضاً قد انسلخ عن الدلالة على المعنى وجعل علامة على ان المعنى الموجد ب_ «اكرم» تعليقي ؛ والثاني أيضاً البطلان والاول وهو ان يكون للفظ «ان جاء» دلالة على معناه من التعليق على المجيء يلزمه ان يكون هذا التعليق راجعاً اما الى الموضوع وهو الاكرام، او المحمول وهو الوجوب المعلق، والاول خلاف الفرض، والثاني ايراد للتعليق على امر معلق واما التزام أن دلالة أكرم بنحو الايجاد، ودلالة «ان جاء» بنحو الكشف، وكل منهما دال على جزء من المعنى بنحو تعدد الدال والمدلول فواضح البطلان أيضاً، اذ الامر الموجود ولو كان اعتباريا لا يمكن بعد وجوده ايراد التعليق عليه فاذا فرض ان اصل الذات المهملة للوجوب صار موجوداً بلفظ «اكرم» فما معنى تعليق الموجود، ولا ينافي هذا مع تسليمنا امكان تعدد الدال والمدلول في صورة كون كلا الدالين ايجاديا، وجه الفرق ان الثاني ايجاد المعنى الوحداني بمجموع اللفظين غاية الامر كان احدهما مؤثراً في ايجاد المهملة والآخر في ايجاد قيدها، كما في تعدد الدال في الدوال الكشفية، وفي الثاني يكون الايجاد خاضاً بالمهملة،

ص: 285

والتعليق يكون بنحو الكشف، فيلزم ايراد التعليق الكشفي على المهملة الموجودة، وهذا ما ذكرنا من عدم معقولية ايراد التعليق على الشيء بعد وجوده ولو في الموجودات الاعتبارية.

(٣٦5، ص ١٠٥)

فصل: في تصوير الواجب المعلق

اعلم انه لاخفاء في عدم تصويره على قول من ارجع القيد في الواجب المشروط الى الهيأة إلجاء، فانه لا محيص حينئذٍ عن ارجاع كلّ قيد الى المادة، فلا ببقى الا قسمان: الوجوب المطلق، بمعنى ما كان عارياً عن القيد والمشروط بمعنى ما يعلق بالامر المقيد، فليس في البين قسم ثالث حتّى يصطلح فيه باسم المعلق. هذا.

كما انه لاخفاء أيضاً في تصويره بناء على القول بان المعاني الانشائية اعتبارات موجدة مع قصد تحققها بها، فانه يقال انه كما انّ لنا اعتباراً تعليقيا يترقب في فعليته وترتيب آثاره حصول امر واعتبارا فعلياً متعلّقاً بالامر الفعلي ؛ كذلك لن_ا اعتبار فعلي متعلق بالامر الاستقبالي فقد يكون الوجوب والواجب استقباليين معاً، وهو القسم الأوّل، وقد يكون الوجوب والواجب كلاهما فعليين، وهو القسم الثاني، وقد يكون الوجوب فعلياً والواجب استقبالياً، وهو القسم الاخير، ولا رابع لها، وهذا واضح، نعم قد يشكل في انه لا ثمرة في هذا التقسيم، اذ ما تخيل كونه مترتباً عليه هو فعلية وجوب المقدمة في القسم الثالث كما في الثاني بخلاف الأوّل ؛ وليس كذلك فان هذا من ثمرة كون الوجوب فعلياً الذي هو المشترك بين القسمين الاخيرين لا كون الواجب استقبالياً.

و اما بناء على القول بان المعاني الانشائية صفات قائمة بالنفس يكشف عنها الفاظها فنقول : لابد أولاً من تصور انحاء وقوع الفعل مورداً للمصلحة، ثمّ تصور انحاء تعلق الارادة المنبعثة عن تلك المصلحة بالفعل الذي فرض مورداً للمصلحة:

فاعلم ان مورد المصلحة تارة يكون هو الفعل المطلق الخالي عن القيد مثل ان تكون المصلحة في اكرام زيد واخرى يكون هو الفعل المقيد مثل ان يكون مورد المصلحة اكرام زيد على تقدير المجيء، ثمّ كون المقيد مورداً للمصلحة يتصور على نحوين: الأوّل ان يكون القيد دخيلاً في المصلحة بحيث لزم من فواته فواتها، والثاني ان يكون القيد محققاً للمصلحة بحيث لم يلزم من فواته نقض غرض وفوات مصلحة أصلاً، مثلاً كون الاكرام على تقدير المجيىء مورداً للمصلحة يكون على نحوين في كليهما يكون مركب المصلحة هذا المقيد، لا الاكرام المطلق الأوّل ان يكون للمولى غرض فعلي وكان حصوله منوطاً بايجاد هذا المقيد، بحيث لو لم يحصل

ص: 286

ولو بعدم حصول المجيء حصل نقض غرضه، والثاني ان لا يكون له بالفعل غرض لكنه يحصل في حال حصول المجيء غرض بالاكرام فلا يكون في وجود القيد مصلحة، بل ربّما يكون فيه مفسدة، لكن مع ذلك يصدق ان مركب المصلحة هو الاكرام على تقدير المجييء، لا الاكرام المطلق، فهذه ثلاثة اقسام لا رابع لها بالحصر العقلي لان مورد المصلحة اما يكون فيه قيد او لا، وعلى الأوّل اما يكون القيد دخيلاً في المصلحة وجوداً وعدماً او لا، هذا في مقام تعلق المصلحة.

و اما مقام تعلق الارادة فاعلم انها اما ان تتعلق بالفعل الذي وقع مورداً للمصلحة خالياً عن كلّ قيد وعلى وجه الاطلاق، واما ان تتعلق بالفعل الذي وقع مورداً للمصلحة مقيداً كذا على نحو يكون القيد دخيلا في المصلحة واما ان تتعلّق بالفعل الذي وقع مورداً للمصلحة مقيداً على وجه يكون القيد اجنبياً عن المصلحة. لا كلام في الصورة الاولى، كما انه لاخفاء في انه لابد في الصورة الاخيرة من ان يوجّه الارادة نحو الفعل في فرض الفراغ عن وجود القيد، اذ لا وجه لا دراج شيء اجنبي عن الغرض تحت الارادة، وقد عرفت ان سوق الارادة نحو المقيد مستلزم لاحاطة الارادة بجزئية من الذات والقيد فلابد من اخراج القيد عن حيز الارادة حتّى لا تقتضي تحصيله لولم يكن موجوداً، وهو بأن يجعل الارادة في حيّز هذا القيد.

واما الصورة الوسطى فهي على قسمين: الأوّل ان يكون القيد الذي فرض دخيلاً في الغرض مقدوراً، والثاني ان يكون غير مقدور؛ لا كلام في الأوّل في انه لابد من سوق الارادة على نحو تحيط بالقيد وتقتضي تحصيله لو لم يكن حاصلاً، لفرض قوام المصلحة بوجوده، واما الثاني فلا يمكن تعلق الارادة بمجموع الذات والقيد اذ يلزم التكليف بغير المقدور بالنسبة الى القيد، فلابد من جعل القيد خارجاً عن حيز الارادة وجعل الارادة في حيزه، فراراً عن هذا المحذور، فيكون حال هذا القسم من الصورة الوسطى كحال الصورة الاخيرة، وبالجملة كما يكون عدم دخالة القيد في المصلحة - كما في الصورة الأخيرة - موجباً لجعل الارادة في حيّزه حتّى لا يلزم توجيه الطلب نحو ما لا غرض فيه.كذلك يكون عدم مقدورية القيد مع دخالته في الغرض أيضاً موجباً لجعل الطلب في حيزه، حتّى لا يلزم طلب غير المقدور.

فقد تحصل ان الارادة ابدأ دائرة بين قسمين غير خارجة عنهما: احدهما ان تكون مطلقة غير واقعة في حيز شيء، سواء كان متعلقها شيئاً مطلقاً ام مقيداً، والثاني ان تكون واقعة في حيز كان شيء سواء كان هذا الشيء ممّا يقدر عليه المكلف ولكن كان اجنبي_اً عن الغرض، ام دخيلاً في الغرض ولكن كان غير مقدور للمكلف، فاذا سمينا القسم الأوّل بالمطلق فانت بالخيار في تسمية الثاني بالمشروط او بالمعلق، اذ لا مشاحة في التسمية، ولكن الشأن في ان

ص: 287

الارادة ليست في اللب على ثلاثة اقسام بل على قسمين.

فنقول من القيود الخارجة عن حيز القدرة قيد وقوع الفعل في الزمان الفلاني مثل الصوم في الغد، فان تحصيل الغد خارج عن قدرة المكلف فلابد من كون الارادة في حيزه ولو فرض تعلق المصلحة على وجه الاطلاق بالصوم في الغد بحيث لو فرض انتفاء الغد وعدم مجيئه كان الغرض فائتا.

فان قلت : ما المراد بعدم المقدورية في هذا القيد؟ فان قيد كون الصوم واقعاً في الغد يكون باختيار المكلف، كما يكون نفس الصوم باختياره ولا يعتبر في اختيارية هذا القيد اختيارية وجود الغد، اذ الحال في الزمان والمكان على نسق واحد ولا شك ان الارادة في قولك : «صل في المكان الفلاني» ارادة مطلقة لا مشروطة، مع ان اصل وجود المكان خارج عن اختيار المكلف، وسره انه يكفي كون وقوع العمل في هذا المكان تحت اختياره، ولا يلزم كون وجود المكان تحت الاختيار في صحة الارادة المطلقة بغير الاشتراط، فكذا الحال في الزمان أيضاً، فقد حصل لنا قسم ثالث، وهو ان يكون الارادة غير واقعة في حيّز شيء وكان متعلقها فعلاً واقعاً في الزمان المستقبل.

قلت: سر صحة هذين الاطلاقين، اعني صلّ في المكان الفلاني وصم في الغد، بدون الاشتراط ان نفس المكان والزمان يكونان فروضي الوجود و بعبارة اخرى ان هنا اشياء: الأوّل نفس وجود الزمان والثاني بقاء المكلف حيا الى هذا الزمان، والثالث كون الفعل في هذا الزمان، فالمقدور من هذه الثلاثة هو الاخير فقط دون الاولين ولكن حيث كان الاولان مفروضى الوجود اولهما بالقطع، والثاني بالاصل العقلائي اعني اصالة الحياة والسلامة، فلهذا التكليف بالصوم في الغد على وجه الاطلاق.

و ان شئت توضيح عدم صحة الارادة على نحو احاطت بالزمان او المكان فاقطع النظر عن القطع بوجودهما وكونهما مفروضي الوجود وافرضهما من الامور الّتي قد تحصل وقد لا تحصل، اذ حينئذٍ لا يصح توجيه الطلب نحوهما على وجه الاطلاق ولا يمكن المولى الزام عبده بايجاد هذا المقيد بالمكان الفلاني او بالغد اذ قد ينعدم هذا المكان قبل وصول المكلف، او لا يجيئ الغد، ولا يمكن العبد ان ياتي بهما في هذا الفرض، والمفروض ان معنى توجيه الارادة على وجه الاطلاق كونها متشبثة بتمام المتعلق من الذات والقيد ومقتضية لحصولهما عن قدرة المكلف، غاية الامر انه يكفى حصول القيد لو كان حاصلاً من غير قبل المكلف، وليس حال الفعل في الزمان والمكان الا كحاله في اللباس الفلاني، فكما انه لابد في الاخير من تحصيل الصلاة في هذا اللباس؛ فان كان موجوداً عنده صلى فيه وان كان غير موجود وامكن شرائه او استیجاره

ص: 288

او استعارته وجب والا وجب تحصيله ولو بزرع القطن ثمّ تخليصه وغزله ونسجه وخياطة الثوب منه للصلاة فيه، فكذلك الحال في الزمان والمكان وعدم تخلّفهما عن الوجود لا يقتضي صحة الامر على وجه الاطلاق اذ هو كالامر بايجادهما اولا، ومن هنا يعلم انا وان اكتفينا بالمقدورية حين العمل وان لم تكن حين الامر لا يستقيم الامر المطلق هنا أيضاً، فان الغد والارض الفلانية حين العمل أيضاً غير متعلقين لقدرة المكلف.

و من الامثلة الموضحة للمقام توجيه الامر المطلق نحو الفعل في الغد تحت الشمس في فصل قد يكون الغيم في الهواء وقد لا يكون فانك ترى انه وان كان هنا غرض فعلي بالفعل المقيد بكونه واقعاً في الغد تحت الشمس لكن لا يمكن الالزام المطلق لهذا المقيد، ولو الزم اعترض عليه بانه لعله لم يحصل الشمس في الغد لوجود الغيم في الهواء في تمامه، فما يصنع العبد حينئذٍ؟ فلا بد من جعل الطلب في حيّز هذا القيد مع كونه دخيلاً في الغرض، بان يقول: اذا دخل الغد وكانت الشمس بارزة فصل ركعتين تحتها ومن الامثلة أيضاً صل في سلخ هذا الشهر مع ملاحظه اختلاف الشهور في كون بعضها مع السلخ وبعضها بدونه.

بقي الكلام في امرين:

احدهما: ان المقدمات الوجودية في الواجب الذي فرضنا كون الوجوب فيه واقعاً في حيز مفروضية وجود امرهل تتصف بالوجوب المطلق المستلزم للبعث والتحريك نحوها فعلاً قبل حصول هذا الامر المفروض الوجود في الخارج او لا تتصف مطلقاً، او هنا تفصيل فتتصف به مع العلم بحصوله في المستقبل ولا تتصف بدونه؟ الحقّ هو الاخير، والشاهد مراجعة الوجدان الذي هو المحكم في هذا الباب فانا نرى حكم العقل بحسن مؤاخذة من علم بحصول شرط ما هو مطلوب المولى وتسامح في تحصيل مقدماته علمه بامتناعها بعد حصول الشرط وكون هذا الفاعل مستحقاً للملامة وكون فعله قبيحاً.

الثاني: التصدي بعد وجدان هذا الحكم من العقل لدفع بعض ما يرد على المقام من النقوض مثل مادل على عدم وجوب الوضوء للصلاة قبل الوقت، ومادل على عدم وجوب الغسل في النهار السابق لاجل الصوم في النهار اللاحق فان الحكم العقلي غير قابل للتخصيص. ويمكن الجواب بان القدرة الخاصّة اعني القدرة في الوقت تكون كنفس الوقت شرطاً للوجوب، ولهذا لو تعين القدرة على الوضوء في القدرة قبل الوقت يجوز للمكلف تفويتها، فبهذا يجاب عن اشكال عدم الحكم بوجوب حفظ القدرة في هذا الفرض. واما اشكال انه سلمنا كون القدرة الخاصّة كنفس الوقت شرطاً للوجوب لا للوجود، لكن لو فرضنا ان المكلف

ص: 289

في مكان وافر الماء لا يسعه اعدام الماء قبل الوقت ففي هذا الفرض يعلم بحصول كلا الشرطين من الوقت والقدرة الخاصّة، وقد حكمت بانه حينئذٍ تتصف المقدمات بالوجوب قبل حصول الشرط، فيلزم اتصاف الوضوء في هذا الفرض بالوجوب المطلق قبل الوقت، وهو خلاف النص والاجماع من انه اذا دخل الوقت وجب الظهور والصلاة، فيجاب بما اجاب به المصنف «دام عمره في المتن من استكشاف المانع في الايجاب والامر وانه مع المانع في نفس المتعلق او في الايجاب لابد من تخصيص الوجوب المترشح من ذي المقدمة ب_ال_ف_رد الآخر، فان الوجوب المقدمي لا يقتضي الا مقدمة ما فان كان ذوات الافراد متساوية فلعدم لزوم الترجيح بلا مرجح يحكم بالوجوب التخييري، فاذا انقدح مانع في المتعلق او في الايجاب في احدها كان الوجوب لاجرم متخصصاً بغيره، لعدم لزوم ذاك المحذور، لوجود المرجح في غيره.

لكن يتفرع على هذا شيء: وهو ان غاية ما ذكر عدم اتصاف الوضوء بالوجوب قبل الوقت لكن مع بقاء ملاك الوجوب فيه، فغايه الامر عدم صحة الوضوء قبل الوقت بقصد الوجوب لكن يلزم صحة الوضوء قبل الوقت بلا قصد الوجوب اذا لم يقصد به غاية من الغايات حتّى الكون على الطهارة سوى التوصل به الى الصلاة الواجبة بعد الوقت، اذ لا يلزم في عبادية العبادة وجود الامر، بل يكفى الجهة كما قرر في مبحث الضد، فلو قلنا: بعدم الاستحباب النفسي لذات الوضوء أيضاً كفى هذا القصد اعني قصد التوصل به الى ذي المقدمة في عباديته وقربيّته، فلو كان اجماع على بطلان الوضوء بهذا الوجه كان الاشكال غير ممكن الذب.

(375، ص 107)

فصل

[في الفرق بين الترتب وبين ما اختاره الفصول في مسألة الامر بالضدين]

اورد صاحب الفصول على ما قرره في الواجب المعلق اشكالاً؛ هو انه ربّما لا يدرك المكلف زمان الواجب فكيف يصح الوجوب الفعلي قبل زمانه؟ واجاب بانه يتوجه التكليف نحو من يدرك - في علم اللّه - بحيث يكون الادراك الخارجي كاشفاً عن تحقق هذا العنوان في السابق، فيكشف عن سبق الوجوب، والحاصل انه فرق بين ما اذا جعل الشرط نفس الادراك الخارجي، فحينئذٍ يكون الادراك الخارجي مثبتاً ومحققاً للوجوب ولا وجوب قبله، وبين ما اذا جعل الشرط عنواناً انتزاعياً ينتزع من الادراك الخارجي، وهو كونه يدرك في المستقبل، وهذا العنوان كان ثابتاً من الازل حتّى قبل وجود المكلف أيضاً، فانه في علم

ص: 290

البارى كان بحيث يولد ويكبر ويدرك، فعلى هذا يكشف الادراك الخارجي عن سبق الوجوب، ثمّ جعل من ثمرات هذا الفرق صحة الوضوء في صورة انحصار الآنية في المغصوبة وكان محتاجاً الى غرفات عديدة ولم يكف غرفة واحدة اذا كان شرط التكليف بالوضوء هو العنوان الانتزاعي اعني كونه ممن يغترف وبطلانه اذا كان الشرط نفس الاغتراف الخارجي.

و توضيح ما ذكره انه لا اشكال في عدم صحة التكليف نحو الشيء على وجه الاطلاق مع انحصار مقدمته في الحرام، اذ حاصل التكليفين اعني حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة هو التكليف بما لا يطاق، وهو واضح، ولكن اذا امكن حفظ كلا التكليفين بوجه من الوجوه بحيث سلم عن هذا المانع العقلي فهو اولى من طرح احدهما بالمرة وحفظ الآخر، فنقول : اذا كان التكليف بترك الغصب والاغتراف بلا شرط، وكان التكليف بالوضوء ثابتاً في تقدير كون المكلف ممن يغترف يرتفع المانع، فلهذا يكون اولى من قصر الحكم على «لا تغصب» وطرح تكليف «توضّأ» بالمرة لاهمية الاول؛ اما اولوية الأوّل على فرض ارتفاع المانع عليه فواضح، واما ارتفاع المانع على التقدير الأوّل فلأن التكليف الموقوف على تقدير حصول امر لا يقتضي حصول هذا الامر والا يلزم التكليف بحصول الشيء على تقدير حصوله؛ مثلاً التكليف بالوضوء على تقدير كون المكلف ممن يغترف من الآنية الغصبية لا يقتضي ايجاد الوضوء على وجه الاطلاق حتّى يلزم ايجاد مقدماته الّتي من جملتها الاعتراف، حتّى يكون محصل هذا الوجوب الغيري المتولد انه يجب الاعتراف على تقدير كونه ممن يغترف، بل لابد ان يكون اقتضائه للوضوء في حال حصول الاعتراف مع السكوت عن نفس الاغتراف، فاذن لا يلزم التكليف بما لا يطاق، لان تكليف «لا تغصب» يقتضي عدم حصول الاعتراف، وتكليف «توضّأ» بالنسبة الى الاغتراف لا اقتضاء وانما له الاقتضاء على تقدير حصوله في امر آخر، ومن المعلوم ان التكليفين بهذا النحو لا يقتضيان جمع الضدين من المكلف، بحيث لزم وقوع المكلف لا محالة في معصية احدهما، فان ملاك التكليف بما لا يطاق هو هذا، لا مجرد التكليف بالضدين ولو لم يلزم منه ذلك كما ههنا فان احد التكليفين يقتضي احد الضدين على تقدير ترك الآخر بدون اقتضاء لهذا الترك، والآخر يقتضي عدم تحقق هذا الترك.

هذا وجه الصحة على تقدير كون الشرط هو العنوان الانتزاعي.

و اما لو كان الشرط نفس الفعل الخارجي فوجه البطلان فيه انه لا وجوب قبل تحقق الاعتراف، وبعد تحققه لم يبق محل تحققه لم يبق محل للتكليف، فان هذه المقدمة من المقدمات المقارنة للوضوء، ولا يمكن تأخر الوضوء عنها. هذا.

ص: 291

و لكن فيما ذكره نظر، بل الامر بالعكس فيلزم صحة الوضوء على تقدير اخذ الشرط هو الفعل الخارجي، كما هو المراد بالترتب على ما يأتي في محله بخلاف ما اذا أخذ الشرط هو العنوان الانتزاعي، للزوم التكليف بما لا يطاق، حينئذٍ.

وجه الفرق انه لو اخذ الفعل الخارجي شرطاً فعين البيان المتقدم يجري فيه، بمعنى ان التكليف بترك الغصب يقتضي هو منع تحقق الغصب والاغتراف الذي هو ظرف للتكليف بالوضوء؛ وبعبارة اخرى تكليف «لا تغصب» ليس هذا الظرف اعني ظرف تحقق الغصب ظرف اقتضائه ترك الغصب بان يكون مقتضاه «اترك الغصب في ظرف كونك مرتكباً للغصب» بل مقتضاه التاثير في اعدام هذا الظرف عن البين وتبديله بنقيضه، وهكذا الحال في جميع التكاليف المتعلقة بالفعل او الترك، فانه ليس لها نظر بالنسبة الى وجود متعلقها من الفعل والترك وعدمه لا بنحو الاطلاق ولا بنحو التقييد، مثلاً لا يصح ان يقال: إضرب ان كنت تضرب او ان كنت لا تضرب او في كلتا الحالين وليس حال هذين كحال سائر احوال المكلف مثل القيام والقعود، فانه يصح إضرب ان كنت قائماً، او ان كنت قاعداً، او في كلتا الحالين واما بالنسبة الى صدور نفس المتعلق وعدم صدوره فلا يصح شيء من الاطلاق والتقييد بمعنى انه ليس فعالية الامر في متعلقه في ظرف نفسه او ظرف نقیضه، بل عنانه متوجه نحو نفس هذين الظرفين بتثبيت احدهما واعدام الآخر.

ثم لا فرق في هذا بين ملاحظة وجود المتعلق وعدمه بنحو العنوان الانتزاعي، اي كون المكلف ممن يفعل المتعلق او يتركه وبين ملاحظتهما بنحو نفس الفعل والترك الخارجيين وهذا واضح.

هذا حال الأمر بالضد الاهم وهو ترك الغصب في مقامنا، فهو في مقام اعدام هذا الظرف الذي هو تحقق الغصب واثبات نقيضه الذي هو ترك الغصب.

واما الامر بالضد المهم وهو الوضوء فهو يكون على نحو الواجب المشروط، يعني انه في تقدير ملاحظة كون الغصب مفروغ الوجود يقتضي اتيان الوضوء والامر بهذا النحولا اقتضاء له بالنسبة الى الامر المفروض الذي هو الغصب فلا يقتضي ايجاد الغصب مقدمة للوضوء، لما مر من عدم صحة الامر بالشيء على تقدير وجوده واذن فصدور الغصب الخارجي يمنع منه تكليف «لا تغصب» وتكليف «توضّأ» يكون بلا اقتضاء بالنسبة اليه اصلا، وانما يتعرض انه على تقدير تحققه فالتكليف هو الوضوء، والتكليفان بهذا الوجه لا يقتضيان الجمع.

و اما ما استشكله الفصول على هذا من انه يلزم تاخر زمان الوجوب عن زمان الفعل فلا يبقى مورد للتكليف؛ فهو أيضاً غير وارد لما سيتحقق انه مع العلم بتحقق الشرط في الواجب

ص: 292

المشروط يجب التحرك نحوكل من الفعل ومقدماته على حسب ما جعل له من المحل، فان كان محل الفعل قبل الشرط يجب الشروع فيه قبله وان كان بعده فبعده، وان كان مقارنا له فمقارناً، فعلى هذا متى علم ان هذا الآن الذي هو فيه آن حصول الغصب والاغتراف تجب عليه المبادرة بالوضوء ليصير وضوئه مقرونا بالاعتراف.

هذا على تقدير اخذ الشرط نفس الفعل الخارجي.

و اما لو اخذ العنوان الانتزاعي فاعلم ان العنوان الانتزاعي يكون حاصلاً للمكلف وهو نائم، بل قبل تولده، ويكون من القدماء، لوضوح ان كون زيد ممن يغترف من الآنية الغصبية كان في علم اللّه من الازل ككونه ممن يولد ويكبر، فلا يكون اختيار قلبه تحت قدرة المكلف، وفرض عدم اختيار المكلف للفعل فرض خلف هذا العنوان وانه لم يكن من الازل بل كان نقيضه، واما مع فرض كونه من الازل فلا يمكن قلبه، هذا، ان نفس الفعل الفعل الخارجي يكون مقدوراً له، وليس مجرد كونه ممن يعصي في علم اللّه سبباً لكونه غير قادر على الفعل، لوضوح ان العصاة قادرون مع كونهم متصفين بالعصيان الى آخر العمر، فيكشف عن تحقق عنوان يعصي فيهم.

و بالجملة فتكليف «لا تغصب» وان كان لابد وان يكون بلا اطلاق ولا تقييد بالنسبة الى هذا العنوان الانتزاعي كما ذكرنا كنفس الفعل الخارجي، لكن الفرق انه كان يتشبث بذيل الفعل الخارجي يد التكليف واقتضائه لمكان مقدوريته ولا يمكن ذلك في الانتزاعي، لعدم المقدورية، فلا يمكن ان يقال هنا ان تكليف «لا تغصب» يقتضي قلب عنوان يعصى بلا يعصى، وتكليف توضأ، يقتضي الوضوء، مع فرض حفظ عنوان يعصى بدون اقتضاء له في نفس هذا العنوان وجوداً وعدماً، حتّى لا يرجع مآل التكليفين الى اقتضاء الجمع.

و اذن فنقول الشخص الذي يعصى ويغترف في علم اللّه يكون تكليف لا تغترف» بالنسبة اليه فعلياً، لما قلنا من ان فرض كونه كذلك لا يخرجه الى القهر بالنسبة الى الفعل الخارجي، والالزم ان لا يكون العصاة مكلّفين، نعم لا يمكن ان يكون هذا التكليف متوجهاً اليه بعنوان انه ممن يغترف بل بعنوان انه احد المكلفين، وكذلك يكون تكليف «توضأ» أيضاً بالنسبة اليه فعلياً، لفرض حصول شرطه من كونه ممن يغترف، فاجتمع فيه تكليفان: احدهما بعنوان ايها المكلف والآخر بعنوان ايها الذي تغترف فمقتضى الأوّل لا تغترف ايها المكلف، ومقتضى الثاني لانك كنت ممن يغترف فتوضأ، فقد اقتضى التكليفان جمع الضدين، ولا يرفع غائلة محذور التكليف بالضدين جميعاً ما فرضنا من كون المكلف قادراً على ترك الاغتراف فان مجرد قدرته لا يرفع قبح صدور التكليف بهذا المنوال من الشارع.

ص: 293

و حاصل الفرق بين الوجهين انه لو فرض محالاً صدور كلا الضدين من هذا الشخص الذي فرضناه انه ممن يغترف لوقع كلا الضدين اعني التحفظ عن الغصب مع الوضوء بوصف المطلوبية، على هذا الوجه بخلاف الوجه الأوّل الذي جعل الشرط نفس الاعتراف فانه لم يقع بوصف المطلوبية سوى الاهم الذي هو ترك الغصب دون الوضوء، لعدم تحقق شرط مطلوبيته، وهو الغصب الخارجي، كتحققه على الآخر، وهو الغصب الانتزاعي، وسره ما ذكرنا من عدم تعرض تكليف الاهم لاذهاب العنوان الانتزاعي، وتعرضه لاذهاب الفعل الخارجي، فاذا جعل الشرط هو الفعل الخارجي لم يلزم اقتضاء الجمع، واذا جعل العنوان الانتزاعي يلزم.

(38٥، ص 113)

فصل :

في المقدمة الموصوله

اعلم ان حب المقدمة وطلبها تبعي، كما يحبّ الانسان ثياب محبوبه وخطه وسائر ما يتعلق به، فكذلك اذا احب الانسان فعلا سرى منه حبه الى ما يتوقف هذا الشيء عليه، ويشتاق اليه بقدر اشتياقه الى ذاك الشيء، وهذا لا اشكال فيه، انما الاشكال في ان هذا الحب المجرور من ناحية ذي المقدمة هل يتعلق بالعنوان الخاص للمقدمة - مثل عنوان نصب السلّم للكون على السطح على نحو الاطلاق، اي يكون طبيعة نصب السلّم مثلاً مطلوباً بالطلب الغيري الترشحي، سواء كان منفكاً عن الكون على السطح ام كان موصولاً ومنضماً به، أو ان محلّ هذا الطلب خصوص ما كان موصولاً ومنضماً؟

لا يخفى ان الوجدان يحكم بطريق الاجمال بان هذا الطلب ليس على نحو الاطلاق، بحيث كان الفرد المنفك على حد الفرد المنضم بلا فرق بل يجد الانسان ان نصب السلّم بدون الكون على السطح شيء اجنبي عن غرضه، ليس له فيه غرض اصلاً.

ثم عدم التسوية بين الفردين يتصور بثلاثة انحاء:

الاول بان يكون هنا فرق بين اقسام المقدمات من الشرط، والمعد، والمقتضى، والعلة التامة، فيقال: بان المطلوب خصوص الأخير، لانه المقدمة الّتي لا تنفك عن ذي المقدمة والثاني قابل للانفكاك احياناً، وهذا لا يمكن القول به بعد مراجعة الوجدان وعدم الفرق بين مجموع المقدمات الّتي هي العلة التامة وبين كلّ واحدة منها في المحبوبية الغيرية.

و الثاني ان لا يخص المطلوبية بقسم دون قسم بل يعمم الى جميع اقسام المقدمة، ولكن

ص: 294

مع ملاحظة قيد الايصال هنا على وجه التقييد والثالث هو التعميم أيضاً مع ثبوت التقيد لبا بدون ملاحظة لعنوان التقييد، كما في وصف التجريد في الكلي الطبيعي فنقول :

اما القسم الأوّل: من الاخيرين فينقسم بالحصر العقلي الى اربعة اقسام كلها باطلة، لان القيد اما عنوان الايصال الخارجي، او الانتزاعي الموجود في علم اللّه تعالى، وعلى اي حال اما راجع الى المطلوب، او الى الطلب:

اما كون القيد هو الايصال الخارجي مع ارجاعه الى المطلوب، ومعناه ان لا يكون المطلوب ذات المقدمة بل هي مقيدة بكونها موصولة بذي المقدمة، فلا يكون نصب السلّم مطلوباً بقول مطلق بل خصوص النصب الذي وصل بالكون وكان عقيبه الكون، بحيث كان لوجود الكون عقيبه مدخلية في طلبه، فلا مطلوبية بدونه، كما في صوم المستحاضة بالنسبة الى الاغسال في الليلة المستقبلة، حيث المطلوب هو الصوم الخاص بخصوصية كونه موصولاً بتلك الاغسال.

فهذا يستشكل عليه بثلاثة وجوه:

الاول يلزم ان يكون ذو المقدمة مطلوباً غيرياً لمقدمته فان عنوان الايصال والوصول الذي أخذ في أمر المقدمة انما ينتزع من وجود ذي المقدمة بعد المقدمة، فلابد ان يكون مطلوباً، لتوقف الانتزاعي على منشأ الانتزاع، فيكون امتثال امر المقدمة حاصلاً بعد حصول ذي المقدمة بتمامه كما يحصل امتثال امر الصوم بناء على اشتراطه بنفس الاغسال الخارجية في الليلة المستقبلة بعد حصول الاغسال بتمام اجزائها.

و هذا ليس اشكالاً في مقابل الوجدان الذي يدعيه الخصم، فانه مجرد استبعاد، ولاضير فيه اذا ساعده الوجدان وان كان نفس هذه الدعوى على خلاف الواقع، حيث ان الوجدان حاكم بان امتثال امر المقدمة لاننتظر بعد حصولها شيئاً آخر.

و الثاني انه يلزم حصول الطهارة - في الوضوء بعد الصلاة فان ترتب الطهارة فرع امتثال الامر المقدمي بالوضوء ومن آثاره، وقد قلنا انه بعد حصول ذي المقدمة، فيلزم وقوع الصلاة بدون الطهارة.

و هذا أيضاً ليس اشكالاً يلزم الخصم، فان له مفراً بثلاثة وجوه :

الأوّل ان يقول ان هذا وجه للقول بكون الوضوء مستحباً نفسياً، فالطهارة مترتبة على امتثال الامر النفسي به وان لم يحصل بعد امتثال امره المقدمي.

الثاني ان لا يقول باستحبابه النفسي ويقول باستحبابه الغيري فقط، ولكن يقول بان من آثار هذه القطعة من الواجب المقدمي اذا اتى بها بقصد التوصل بها الى ذي المقدمة حتّى يتحقق

ص: 295

عباديتها هو الطهارة، وان لم يحصل قيد الايصال فهذا الايصال وان كان معتبراً في حصول امتثال الامر المقدمي، ولكن ليس معتبراً في حصول الطهارة، وانما المعتبر فيه هو الغسلتان قصد التوصل، وعلى هذا تحصل الطهارة ولو لم يؤت بالصلاة، غاية الامر انها والمسحتان مع مطلوبة لو قلنا بالاستحباب النفسي لصفة الطهارة والا فتقع بدون المطلوبية.

الثالث ان يقول أيضاً بالاستحباب الغيري ولكن اعتبر في حصول الطهارة عنوان الايصال الانتزاعي لا الخارجي، فيكون الامتثال موقوفاً على الخارجي، وحصول الطهارة على الانتزاعي، فيكشف وقوع الصلاة عن حصول الطهارة قبلها.

الثالث من وجوه الاشكال وهو العمدة ما اقيم على بطلانه من البرهان، وله تقريبان:

الأوّل ان هذا القول مستلزم اما للدور أو للخلف لأن قيد كون المقدمة موصولاً بذي المقدمة لا يخلو اما ان يكون له دخل في مقدميّة المقدمة وبدونه يكون مقدميته ناقصة، وبعبارة اخرى كون نصب السلّم موقوفاً عليه للكون على السطح اما يتوقف على قيد الايصال ويكون بدون هذا القيد كسائر الاشياء الذي وجودها وعدمها بالنسبة الى الكون على السواء، واما ان لا يكون لهذا القيد دخل في المقدمية والموقوف عليهية.

فان كان الأوّل لزم الدور لان مقدمية النصب مثلاً موقوف على حصول ال_ق_ي_د وهو الايصال بالغرض، وهو - حيث انه منتزع من تحقق ذي المقدمة في الخارج بعد المقدمة - موقوف أيضاً على مقدميّة نفس النصب، اذ لو لم يكن مقدمة لما حصل ذو المقدمة فلم يحصل الايصال وهذا دور مصرح؛ وان شئت قلت المقدمية متوقفة على تحقق الايصال، وهو متوقف على تحقق ذي المقدمة، وهو متوقف على كون نفس النصب مقدمة، وهذا دور مضمر بواسطة واحدة.

و ان كان الثاني لزم الخلف، فانه يلزم ان يكون النصب المقيد مطلوباً نفسيا، اذ بعد عدم دخالة القيد في المقدمية وكونه اجنبياً عنها فلا محالة يكون الطلب المتعلق بالمقيد به نفسياً، وقد فرضنا انه مطلوب غيري.

و التقريب الثاني انه لا يعتبر في الواجب الا ماله دخل في الغرض الداعي الى ايجابه والحامل على طلبه، او لم يكن له دخل ولكن حصل به الجمع بين هذا الغرض وغرض آخر للمولى، والاول مثل تقييد الصلاة بكونها مع الطهارة، والثاني كتقييدها بكونها في غير المكان المغصوب، فان الاباحة ليس لها دخل في الجهة الموجبة للصلاة، ولكنه يحصل بها الجمع بين الغرضين، وهذه الكبرى لعله من البديهيات وحينئذٍ نقول قيد الايصال خارج عن كلا القسمين، اعني لا دخل له في الغرض الموجب للمقدمة ولا يجمع به بين الغرضين بان كان في الفرد الغير المتوصل به جهة مزاحمة لجهة مطلوبيته المقدمية حتّى يخص لاجل هذا المزاحم الطلب

ص: 296

المقدمي بالفرد المتوصل به وليس أيضاً الغرض من الوجوب المقدمي سوى التمكن من اتيان ذي المقدمة، ولا يخفى انه لا فرق في حصول هذه الفائده بكلا فردي المقدمة من الموصلة وغيرها.

و الانصاف ان شيئاً من التقريبين ليس برهاناً بحيث يلزم الخصم ولم يكن له محيص.

اذله في الجواب عن الأوّل بانانختار الشق الثاني اعني عدم دخالة القيد في المقدمية، واي عاقل يقول بان قيد الايصال معتبر في مقدمية المقدمة، قولكم : يلزم ان يكون دخالته هذا الوصف لاجل المطلوبية النفسية ممنوع اذ لا يلزم من عدم دخالة القيد في المقدمية كونه خارجاً عن متعلق للمطلوبية الغيرية، بل نقول كما قد يكون اعتبار قيد في المطلوب المقدمي - مع عدم دخالته في المقدمية - لاجل المانع في تسرية المطلوبية وتعميمها في الفرد الواجد له والفاقد، وذلك كقيد الاباحة في ما اذا تردد المقدمة بين فردين احدهما محرم والآخر مباح حيث ينحصر الوجوب المقدمي بالفرد المباح لاجل المانع عن سرايته الى الفرد المحرم مع كون مقتضى المطلوبية المقدمية مشتركاً بينهما، كذلك قد يكون القيد غير دخيل في المقدمية ويكون وجه اعتباره من جهة نقص في المقتضي وعدم تحقق المقتضي التام في الفاقد بعمنى ان يكون المقتضي ضيقاً غير متحقق في مطلق المقدمة بل في المقيد بالقيد الخاص خاصة.

فان قلت: ليس المقتضي للمطلوبية الغيرية والغرض سوى التمكن، وهو مشترك بين الموصل وغيره، وليس اعتبار الايصال بعد ذا الا مجازفة صرفة.

قلت هذا مجرد دعوى فللخصم ان يدعى انه ليس الغرض من المطلوب الغيري مجرد التمكن بل هو والوصول الى ذي المقدمة وحصوله، وهذا خاص بالموصل.

فان قلت و ان كان بينهما تفاوت من هذه الجهة ولكن ليس هذا التفاوت من ناحية المقدمة، فانه ليس من شأن المقدمة الوصول الى ذي المقدمة، فانه اذا اتى العبد المقدمات ولم يبق بينه وبين ذي المقدمة سوى مبادي الاختيار في ذي المقدمة فقد يأتي بمقتضى حسن اختياره بذي المقدمة وقد لا يأتي بمقتضى سوء اختياره به، فكيف يكون الحصول وعدم الحصول الناشئان من حسن اختيار المكلف وسوء اختياره مرتبطاً بالمقدمة حتّى يحصل التفاوت من أجل ذلك فيها، وكذلك الحال في عنوان الموصلية وعدمها، فانهما أيضاً منتزعان من وجود ذي المقدمة وعدمه، وقد عرفت انهما غير راجعين الى المقدمة، فلا يكون التفاوت بهذين العنوانين أيضاً مورثاً للتفاوت بينهما في المطلوبية وعدمها.

ص: 297

قلت: كلّ ذلك حقّ، و لكن لا ملازمة بين المدعى من اعتبار قيد الايصال، وبين ما ذكرتم، من كون الحصول من آثار المقدمة؛ فانا نقول : ليس الاثر المترتب على المقدمة الا التمكن، ولا يحصل من ناحيتها غير ذلك، ولكن حيث ان مجرد هذا ليس وافيا بالغرض، فان الغرض حصول ذي المقدمة لا مجرد التمكن، فيحتاج الى ضميمة عنوان الايصال الى المقدمة، فتصير المقدمة مع هذا القيد الخارج عن حقيقة المقدمة وافياً بهذا الغرض، وليس هذا قولاً بأن الوصول من ناحية المقدمة، بل نقول : اذا اتى ولم يبق سوى مبادي اختياره في ذي المقدمة فيصح حينئذٍ قطعاً الامر بعنوان الايصال، بان يقول: «أوصل هذه المقدمات بذي المقدمة وأوجد الهيأة الاتصالية بين الوجودين» فنقول هذا الامر مستقلاً ويكون أمراً بما هو تحت اختيار المكلف ومقدوره، كذلك يصح يمكن جعل الامر المقدمي من الأوّل متعلّقاً بالمقيد بعنوان الايصال والمقدمة الموصوفة بكونها واصلة الى ذي المقدمة لاجل ان الغرض هو حصول ذي المقدمة، وهو غير متأت الا في هذا المقيد.

و بهذا يظهر الجواب عن التقريب الثاني للبرهان المؤلف على هيأة الشكل الأوّل.

فظهرأن الجواب البرهاني غير موجود في الباب فينحصر في الاحالة الى الوجدان، فيقول الخصم : الوجدان حاكم بان ملاك الامر المقدمي ليس مجرد المقدمية والتمكن من ذي المقدمة من دون حصولها، ولا يرد عليه احد البرهانين على مبناه. هذا.

و نقول نحن: صريح الوجدان قاض بانه لاملاك له سوى المقدمية والتمكن، ولهذا يسقط الأمر المقدمي بنفس اتيان المقدمة.

و حاصل الاشكال أن الاكوان الخاصّة اعني الكون الصعودي من الدرجة الاولى من السلم ومن الدرجة الثانية وهكذا ليست مفضية ومؤدية الى الكون على السطح، وكذلك الاكوان الخاصّة في حال المشي في كلّ واحد من اجزاء الطريق بالنسبة الى الكون في المكان المقصود بل الكون الاخير في الصورتين يكون في عرض تلك الاكوان، وليس حال تلك الى هذا كحال حركة اليد الى الفتح او القتل وحال الالقاء الى الاحراق، بل كلها افعال اختيارية في عرض واحد، نعم لا يتمكن من الكون بدون تقدم تلك الاكوان لاستحالة الطفرة، فحالها كحال الاجنحة بالنسبة الى الطيران ففاقد الا جنحة وواجدها يكون فرقهما في تمكن الثاني من الطيران وعجز الأوّل وان شئت قلت في قرب الثاني منه وبعد الأوّل لكن لا ترتب بين وجود الاجنحة ووجود الطيران بل وجود الطيران مترتب على وجود ارادته في الفاعل.

ص: 298

و بعبارة اخرى الرجلان الرافعان لحجر مع عدم قدرة كلّ واحد على رفعه منفرداً لا يكون الرفع من الارض مستنداً الا الى المجموع، واما من ناحية هذا الواحد فليس الا الشأنية الصرفة وقابلية حصول الرفع لو انضم اليه الآخر، وهكذا الآخر، فالرفع الحاصل من المجموع ليس من ناحية هذا ولا هذا، فان لشأنية هذا مثلاً دخلاً في هذا الرفع، وليس هذه الشأنية من قبل الآخر، فكذلك في المقام أيضاً فان صعود الدرج وطي الاقدام في حال المشي بالنسبة الى الكون في السطح والمكان الخاص ليس الاجزء المقتضي، وجزئه الآخر ارادة هذا الكون، ففعلية هذا الكون تحصل من اجتماع هذه الشأنيات، وشأنية كلّ جزء لا ربط لها بالجزء الآخر، فلا ربط لفعلية هذا الكون بشيء من هذه الاجزاء، بل هو مستند الى المجموع، واختلاف حكم المجموع والآحاد لا غرو فيه.

قلت: لا اشكال في عدم استناد المعلول الى عدم المانع، بل وجود المعلول مقارن ما لعدم ضده، وهو معلول لعدم علته الذي هو المانع، وهكذا لا استناد له الى المعدّ اعني يعطي القابلية للمحل كما هو واضح والشرط أيضاً خارج، وليس جزء من الفاعل، فتنحصر الفاعلية في المقتضي، فنقول : لو كان المتقضي مركباً من اجزاء كما في حجر لا يتمكن رجل واحد من فصله بتمامه عن الارض، ورجل آخر كذلك، ولكن كلاهما اذا تساعدا يتمكنان من الفعل فلا اشكال ان هذا الفصل يكون على نصفين، فنصفه من ناحية هذا الرجل، ونصفه من ناحية ذاك.

فان قلت: هذا مستلزم للدور لان فعلية نصف فصل هذا متوقف على فعلية نصف فصل ذاك كما هو واضح، وكذا العكس.

قلت: هاتان الفعليتان في عرض واحد لا ترتب في شيء من الجانبين، فهما متلازمان ولكن يتوقف فعلية هذا النصف على فاعلية ذاك الرجل، وفعلية ذلك النصف على فاعلية هذا الرجل، فلا دور.

و اذن فنقول: حصول الكون في السطح او في المكان الخاص يكون مجرى بعدد المقدمات، فيصل الى كلّ منها سهم من هذه الفعلية، ويصل الى الارادة أيضاً فيتحقق بهذا البيان أن لكلّ مقدمة ايصالاً فعلياً الى ذي المقدمة بقدر حصتها، ويكون هو حاصلاً من ناحيتها، فالمريد لذي المقدمة اذا لاحظ كلّ مقدمة منفكة عن ايصالها الفعلي لا يجد في نفسه عشقاً وحباً بالنسبة اليها، وليس الغرض هو مجرد الاقربية الى ذي المقدمة، بل الغرض منها ومن الاقربية أيضاً هو الوصول، ولا شبهة في ان هذا الغرض لا يتمشى الا من ناحية المقدمة الموصلة الفعلية دون الشأنية المنفكة عن الايصال الفعلي.

ص: 299

نعم لا يتم هذا البيان فيما كان المقدمات من قبيل عدم المانع والمعد، واما الشرط فهو موجد لخصوصية في المقتضي يكون لتلك الخصوصية مدخل في الفاعلية، فالشرط من قبيل الموصل الى تلك الخصوصية الموصلة الى ذي المقدمة، هذا.

و الحقّ عدم امكان التقييد بعنوان الايصال بأحد انحائه، وقد ذكرنا نحواً واحداً منها، والبقية موكول الى بيان المصنف (دام ظله).

و بعد ذلك نقول : ان لنا وجداناً لا يمكن انكاره، وهو ان من يريد الكون على السطح او في المكان الخاص فصعود هذه الدرجة مثلاً او مشى هذا القدم بمجرده وبدون ان يترتب بعده الكون على السطح او الكون في ذلك المكان لا ينعشق ولا يشتاق اليه ابدأ، وليس له فيه غرض اصلاً، وكذلك في المطلق منه الاعم من ان يترتب عليه ذلك ومن ان لا يترتب، بل نجد العشق وال_م_ي_ل خاصّاً بخصوص الفرد الموصل الفعلي منه، وهذا بعد أدنى تامل ومراجعة للوجدان لا يقبل الانكار، وقد عرفت ان التقييد أيضاً لا يستقيم بشيء من وجوهه.

و حينئذٍ فيمكن اى يقال: ان لنا بعضاً من الاوصاف الّتي يتقوم قيامها بالمحل على قيد بحيث لا يتصف الخالي عن هذا القيد بهذا الوصف ويكون لحاظ التقييد أيضاً مضراً ومخرجاً للموضوع عن الموضوعية، ومن ذلك وصف الكلية، فانه لا شبهة في ان قوام هذا الوصف في الطبيعي يكون بتجريده عن الخصوصيات الفردية، ولا يتصف المقترن منه بتلك الخصوصية بصفة الكلية، ومع ذلك يكون لحاظ قيد التجريد مخرجاً ل_ه عن موضوع الكلية، لان الانسان المقيد بكونه مجرداً عن الخصوصيات لا يوجد في الخارج، ولا انطباق له على شيء من الافراد الخارجية، وقد كانت الكلية عبارة عن هذا الانطباق والصدق، ومن ذلك أيضاً وصف المطلوبية في الافعال المرادة بالارادة الفاعلية او الآمريه، فان الصلاة مثلاً بوجودها الخارجي لا يعرضها الطلب النفساني ومعراة عن الوجودين ليست الا لعروض شيء من الاعراض فلا بد من اخذ الوجود الذهني واللحاظي فيها، فهي بقيد كونها ملحوظة تتصف بالمطلوبية، ومع ذلك لحاظ قيد اللحاظ مضر بهذا الاتصاف، فالصلاة المتصفة بكونها ملحوظة لا يعرضها مطلوبية.

فقد صار هذان المقامان كمقامنا حيث ان وصف المطلوبية في المقدمة متقومة بحكم الوجدان بوجود قيد الايصال الفعلي، وبدونه لا مطلوبية، ومع ذلك لحاظ هذا القيد مضر وغير ممكن.

و الحل في الجميع واحد وهو ان يقال : ان الموضوع في هذه المقامات هو الشيء بلحاظ الامر الكذائي لا بقيده بمعنى ان موضوع الكلية هو الطبيعي بلحاظ التجريد لا بقيد التجريد،

ص: 300

فاذا علق الحاكم في لحاظ التجريد حكم الكلية على الطبيعي فقد علقه على الموضوع المجرد واقعاً الغير الملحوظ وصف تجريده قيداً، لكن الموضوع ذو تضيق واقعي، حيث انه مجرد وليس بلا مجرد وهكذا الكلام في موضوع الطلب، فالصلاة الملحوظة خارجاً وباللحاظ الحكائي هو الموضوع، بحيث لا ينظر الى قيده من الملحوظيّة مع ثبوتها واقعاً، فلم يتعلق الحب واقعاً ولم يلتصق الا بالموضوع اللحاظي، لكن لم يلحظ لحاظيته قيداً فيه.

و مثل ذلك يقال في المقام بانّ موضوع الطلب هو المقدمة في لحاظ الايصال لا ب_ق_ي_د الايصال، بمعنى ان المريد للكون على السطح حين ينقدح في نفسه الارادة التفصيلية بالنسبة اليه والى مقدماته، يرتصف تلك المقدمات في ذهنه، ويقع كلّ عقيب الآخر ويتصل سلسلتها الى ذي المقدمة، وفي هذا اللحاظ يكون متلبسة بالايصال الفعلي لفرض انتهاء السلسلة الى ذي المقدمة، فاذا انقدح الإرادة في هذا اللحاظ فقد عرض على الموضوع المتقيد بالايصال واقعاً الغير الملحوظ وصف ايصاله بنحو القيدية، وقد عرفت انه في غير هذا اللحاظ لا ينقدح في نفسه الارادة بحكم الوجدان، وحينئذٍ نقول صدق هذا الملحوظ على الخارج وتطبيقه عليه يتوقف على كون المقدمة في الخارج موصوفة بالايصال، لانه المنطبق مع ذاك الملحوظ، واما المقدمة الفاقدة لهذا القيد فلا تطبيق بالنسبة اليه ولا صدق لاعتبار التوافق والتطابق بين الحاكي والمحكي والمرآة والمرئي.

و بعبارة اخرى حيث ان الطلب بواقعه قد تعلق بالموضوع اللحاظي، فالمصاديق الحقيقية لموضوعه هو الموضوعات اللحاظية، ولكن حيث ان اللحاظ حكائي عن الخارج، واذا نظر الى نفسه ليس فيه مطلوبية، فلا جرم لابد ان يكون مصاديقه ما يصدقه اللاحظ في لحاظه الحاكي من الامور الخارجية ويتقبله مصداقاً لملحوظه فلا جرم يكون مصداق المامور به مال و عرض على اللاحظ صدقه، وهذا يتوقف على تمام الموافقة، والا فلا تصديق، فلم يأت بما هو المصداق بحسب تصديق اللاحظ والمقدمة الغير الموصلة هكذا، فلا يحسبه اللاحظ مصداقاً لما لاحظه، لما يرى من المخالفة في البين، فلا يتصف هذا الفرد بالمطلوبية.

فان قلت: يلزم على هذا انه لو كان للواجب عشر مقدمات مثلاً، فأتى المكلف بواحدة منها وتوقف كان مكلفاً بعشر مقدمات أيضاً لا بالتسع، ويكون حاله مع من لم يأت بشيء من المقدمات على السواء، اذ الاتيان بما ليس بفرد كعدم الاتيان رأساً، فلم يسقط الامر، فعليه الاتيان بالمقدمة المأتية ثانياً. قلت ليس بفرد واقعاً، لان اللاحظ لا يصدقه، لا يلزمه الآمر بالاتيان ثانياً، فان الآمر لا يلزم ولا يبعث الا نحو ما انطبق عليه الصورة اللحاظية، وعلى هذا فلو بدا للمكلف وأتى ببقية المقدمات يحصل الانطباق حينئذٍ، فلا داعي

ص: 301

الی ایجاده ثانیاً.

ثم يؤيد اصل المطلوب من اختصاص الامر المقدمي بخصوص الموصل عدم التزامهم بحصول القرب لوأتى المكلف بقدم واحد الى سمت المكان الخاص الذي يكون الكون فيه مطلوباً بقصد امتثال الامر المقدمي غير قاصد للتتميم والإتيان بسائر الاقدام والوصول الى ذلك المكان فان الامر المولوي كيف يكون اتيانه بقصد الامتثال غير مؤثر في القرب؟ واما لو قلنا باختصاص الامر بالموصل فلا يبقى لهذا الاشكال مجال فان عدم القرب حينئذٍ لاجل عدم الأمر.

و يمكن للتفصى عن التقييد بقيد الايصال أيضاً ان يقال بوجه آخر وهو انه اذا فرضنا هذا جعل متعلق الامر المقدمي خصوص المقيد بالايصال غير ممكن، فجعله هو المطلق من الحيث أيضاً غير ممكن، لان امكان الاطلاق فرع امكان التقييد فلابد من جعل مورده هو المهملة عن الاطلاق والتقييد من حيث هذا القيد، ولكن الغرض الداعي الى هذا الامر اخص، كما كان هذا احد وجوه التفصى عن اشكال اخذ قيد داعى الامر في الاوامر التعبدية.

و لكن نقول لا يلزم من جعل الطلب متعلّقاً بالمهملة سرايته الى شيء من المقيدات، فيمكن اجتماع مطلوبية المهملة مع مبغوضية المقيد، اذا لم يجتمع فرضهما في لحاظ الآمر وذلك بان يكون الحكم في المهملة حكماً حيثياً غير ناظر الى جميع الاحوال والطوارى، فلا ينافي ان يكون بلحاظ بعض الطواري حكمه خلاف ذاك الحكم، مثلاً اذا حكم على لحم الغنم في لحاظ نفسه بدون النظر الى العناوين الطارئة عليه بالحلية فهذا الحكم ابداً يكون في الرتبة على الحكم بلحاظ العناوين الطارية، فان رتبة العناوين الطارية متأخرة عن رتبة العنوان الاولى، فالحكم المعلق على العنوان الاولى أيضاً متقدم على الحكم المتعلق بالعنوان الطارى، فلا تنا في بينهما، اذ لا يجمعهما لحاظ واحد وبيان ذلك ازيد من هذا عند بيان وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ان شاء اللّه تعالى.

و حينئذٍ نقول : لا ينا في مطلوبية المهملة عن قيد الايصال ان يكون الفرد الخاص اعني الفرد الغير المتوصل به غير مطلوب بل مبغوضاً، لان المطلوبية تكون بلحاظ ذات المقدمة من دون نظر الى الطواري، وعدم المطلوبية في الثاني انما جاء من قبل الطواري والعناوين الثانوية نعم لازم هذا الوجه سقوط الامر باتيان الذات ولو في ضمن الغير المتوصل به، كما ذكرنا ذلك اشكالاً على من تفصى عن اخذ قيد داعي الامر باخصية الغرض، لكن مع بقاء الاشتغال العقلي، لانكشاف امر جديد كما ذكرنا هناك أيضاً، لكن يثمر هذا الوجه فيما هو المهم للقائل

ص: 302

بالمقدمة الموصلة من تصحيح العبادة في مبحث الضد فانه على هذا أيضاً لا يكون ترك الصلاة الغير المتوصل به الى الازالة مطلوباً حتّى يكون فعلها مبغوضاً فيلزم اجتماع الامر والنهي في الشيء الواحد، بل هذا الترك غير مطلوب، فليس الفعل الا راجحاً.

(39، ص 119)

فصل

في صحة الامر بالافعال التوليدية التسبيبية

قد يقال بان الارادة من شأنها التحريك نحو المراد، ولا يستقيم هذا الا بكون المراد ممّا يصح ويقبل التحرك نحوه من غير فرق بين الفاعلية والآمرية والافعال الّتي تصدر من جوارح يصح تحرك الانسان نحوها، واما الافعال الصادرة من الغير، سواء كان مضطراً كالاحراق الصادر من النار، ام مختاراً كاكل العلف الصادر من الشاة، فهي لا تقبل تحرك الانسان نحوها، فلا معنى لحركة الانسان نحو الاكل الصادر من الشاة او الاحراق الذي هو فعل النار، فلا معنى لتعلق الارادة بهما.

نعم فيما كان الواسطة موصلة لقوة الانسان الى المفعول وآلة صرفة بدون دخالة في الفعل، كالم_ن_ح_ت والمنشار والسيف والعصا والابرة وغير ذلك، صح الحركة فتصح الارادة أيضاً، فتصح الحركة نحو النجارة والخياطة والفصل والكسر والقتل ونحوها، لان كلها صادرة من فعل الانسان وقوته والوسائط الآت صرفة، وكذا الحال في نتائج الافعال الصادرة بغير الواسطة، وهي المعبر عنها بمداليل اسماء المصادر، فالنتيجة الحاصلة من الضرب والتحريك ونحوها الحركة نحوها، وبالجملة يمكن حركة الانسان نحو فعل نفسه وكل نتيجة حاصلة من فعل نفسه. و اما افعال الغير فالذي يمكن حركته نحوها هو ايجاد الاسباب كالقاء الحطب والعلف في النار وعند الشاة بغرض حصول المسببات فالمتحرك اليه هو السبب واما المسبب فهو الغرض لهذه الحركة، وبين ماينتهى اليه الحركة والغرض الباعث عليها بون بعيد.

و على هذا فيفرق في صحة تعلق الامر بالافعال التوليدية التسبيبية بين ما كان من قبيل الحاصل من المصدر او كانت الواسطة فيه مجرد الآلة ما كانت الواسطة فيه هي الفاعل، فيصح في الاولين كما لو قال : ليكن هذا الجسم ابيض او اطلب منك بياض هذا الجسم، او اقتل المشركين وخط لي هذا الثوب، ولا يصح في الاخير، فلا يصح احرق او اطلب منك اكل الشاة هذا، او احراق النار له او لتحرق النار هذا، أو ليأكل الشاة هذا، الا بتاويل الامر الى ايجاد السبب، ثمّ هذا مقام بيان الكبرى، واما تشخيص المصاديق المشتبهة بين ما كانت

ص: 303

الواسطة آلة او فاعلة مثل السيف في القطع، والماء في الغسل واذهاب الوسخ، فليس على عهدة هذا المقام هذا ما يقال. وقد انتصره شيخنا الاستاذ «دام بقائه» في الدرس.

لكن يمكن ان يقال انه يكفى لصحة توجيه الامر و الطلب نحو شيء مجرد استناده الى المكلف باي نحو كان ولو كان المكلف سبباً بعيداً، فان المقدور بالواسطة المقدورة مقدور فالاكل الصادر من الشاة والاحراق الصادر من النار، وان كان غير مقدور ابتداء ولا يمكن تحصيله بدون واسطة شيء، لكن يكفى في اختياريته ان سببه يكون تحت اقتدار المكلف، فاذا وجد هذا الفعل يكون له استناد الى المكلف أيضاً كما يكون الى فاعله المباشر له، وهذا المقدار يكفي في صحة توجه الامر والطلب فعلى هذا يصح تعلق الامر نحو جميع الاقسام بلا فرق.

(٤٠٥، ص ١٣٣)

فصل

في مقدمية ترك احد الضدين لفعل الآخر وعدمه

ذلك، لاجل ان عدم المانع شرط لوجود المقتضي، وقد تقرر ان الشيء ما لم يجب لم يوجد والمقتضي المجامع للمانع ليس علة للوجوب، وليس الا لوجود المانع، فعدمه دخيل في الوجوب، فيكون دخيلاً في الوجود.

وقد يجاب بان التأثير انما هو للمتقضي فقط، واما عدمه عند وجود المانع فانما هو لاجل وجود المانع، ولا يلزم منه مدخلية عدمه في المقتضي فان المتقضي لا يؤثر في المحال، وجمع الضدين محال، فالتأثير عند عدم المانع للمقتضي، وعدمه عند وجوده ليس الا كعدم التأثير في العلة المسبوقة بعلة اخرى، ووجود المانع وعدمه مقارنان لعدم المقتضي او وجوده؛ وان شئت قلت: ليس سبب توهم الدخالة الااستحالة اجتماع الضدين وهو كاستحالة اجتماع النقيضين، فكما ان الثاني لا يوجب ان يكون ارتفاع العدم مثلاً مقدمة لتحقق الوجود بل هما مقارنان في عرض واحد، كذلك في المقام أيضاً وجود الضد مع عدم الضد الآخر مقارنان، الضد الثاني مستنداً الى وجود الضد الأوّل، بل الى عدم تمشي التأثير من المقتضي في الامر المحال وكذلك الحال في العكس، فوجود الضد الثاني أيضاً مع عدم الضد الأوّل مقارنان، والتأثير خاص بالمقتضي كما في النقيضين.

و يمكن ان يدفع بانه لا يعقل انفكاك العلة عن المعلول، فقولك : انه مع وجود ضد المقتضى - بالفتح وجود المقتضي - بالكسر - علة تامة قضيته انفكاك العلة التامة عن المعلول، والقياس بالعلة المسبوقة بعلة اخرى غلط، فانها أيضاً ليست بعلة، والحاصل انه لا يعقل

ص: 304

انفكاك الوجوب عن الوجود، فمتى تحقق مافيه شأنية العلية ولم يتحقق المعلول فلا بد من انسلاخ وصف العلية التامة عنه، واما قولك في جانب وجود المقتضى - بالفتح - بانه مقارن لعدم المانع كمقارنة وجود المقتضى - بالفتح - لعدم نفسه فقياس مع الفارق، اذ لو كان كذلك لزم ان تكون العلة التامة موجداً للمقتضى - بالفتح ورافعاً لضده لئلا يجتمع الضدان، كما انه يرفع عدم نفس المقتضى لئلا يجتمع النقيضان وبالجملة دعوى العلية التامة لغير المانع من اجزاء المقتضي وشرائطه بدون مدخلية شيء آخر لا تتم.

فالصواب في الجواب ان يقال: انه كما ان لوجود القابل مدخلية في تحقق المعلول، لاستحالة قيام العرض بلا محل وموضوع، فلهذا لا تكون العلة المسبوقة بعلة اخرى علة، لانتفاء هذا الجزء فيه، كذلك يكون لوصف القابلية أيضاً مدخل في تحقق الأثر، فلا يؤثر المطر اثره الذي يؤثره في الارض الطيبة في الارض المالحة، وكذلك نقول ان النار علة للاحراق، لا على وجه الاطلاق، بل بشرط وجود شيء في البين، فلا يؤثر بلا شيء، وبشرط ان يكون هذا الشيء قابلاً للاحتراق ولا يكون كالحجر، واما القطن فان كان رطباً فحاله حال الحجر، في انتفاء القابلية فيه، وان كان يابساً فالقابلية فيه موجودة، لا نعنى عنوان القابلية بل مصداقها، وهو امر وجودي يعبر عنه باللين والجفاف وليس عدم الحجر وعدم الرطوبة ولا معلولا هما وان كان مقارناً لهما، فعدم التأثير عند وجود المانع لنقصان في المؤثر من جهة انتفاء القابلية، لا لما يقارنه من وجود المانع، وكذلك التأثير عند عدم المانع يكون لتمام المؤثر وهو القابلية، لا ما يقارنه من عدم المانع، فعدم المانع ووجوده في عرض وجود المقتضى – بالفتح - وعدمه، ولا يلزم محذور، وبالجملة يستكشف من وجود المانع ان في المحل خصوصية دخيلة في المقتضى وهي منتفية، لا لاجل وجود المانع، فيكون الانتفاء بانتفاء المقتضى دائماً فحال هذه الخصوصية الوجودية مع وجود المانع حال الضدين اللذين لا ثالث لهما، كالحركة والسكون في آن احدهما ملازم لوجود الآخر وبالعكس من دون ترتب بينهما ولا اشتراك في العلية و نستكشف من عدم المانع وجود تلك الخصوصية، فيكون الوجود لوجود المتقضى من دون دخالة لعدم المانع، فلا وجه لما اشتهر الى الآن من الانتفاء بوجود المانع وع_د ع_دمه من اجزاء العلة، فيقولون المقتضي موجود والمانع مفقود فالمعلول موجود.

(٤١٥، ص ١٩١)

فصل

في مفهوم الشرط

و هو اكثر قائلاً من بين المفاهيم و المراد به ان تدل اداة الشرط عند العرف اما للوضع

ص: 305

واما لكثرة الاستعمال على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، كما تدل على وجود الأوّل عند وجود الثاني، والغرض انتفاء سنخ الجزاء، بمعنى ان يكون مفهوم قولك : ان كان زيد عالماً فأكرمه انه ان لم يكن عالماً ارتفع وجوب الاكرام عنه بالمرة، وان اجتمع فيه الصفات الاخر لها شأن السببية لوجوب اكرامه واحترامه مثل كونه عادلاً كريماً شيخاً ونحو ذلك واما ارتفاع شخص الجزاء بارتفاع الشرط فهو ليس بمفهوم ومحلا للنزاع، بل هو ثابت في كلّ القضايا، فان المحمول معدوم عند انتفاء الموضوع عقلاً، وهذا من البديهيات الغير القابلة للنزاع، فاذا لم يكن زيد في المثال عالماً فلاخفاء في ان وجوب الاكرام المحمول على موضوع زيد العالم الّتي غير ثابت حينئذٍ.

و انما الكلام في ان الكلام المذكور يدل على ارتفاع وجوب الاكرام عن زيد بعد فقدان العلم من جهة صفات اخر او لا.

و حينئذٍ :نقول : لا اشكال في ان القضية المصدرة باداة الشرط في محاورات العرف لها دلالة على حصول ربط وعلقة فيما بين الشرط والجزاء، بحيث لو لم يكن بينهما علاقة وارتباط أصلاً عد ذلك استعمالاً للاداة في غير محلها، وهذا محسوس بالعيان وبشهادة الوجدان، بلا سترة وخفاء يحتاج الى برهان.

و اذا ثبت دلالة القضية على الارتباط فهنا انحاء من الارتباط يمكن كون كلّ منها مستفاداً من القضية: الأوّل ان يكون الشرط علة للجزاء، والثاني ان يكون بالعكس، يعني يكون الجزاء علة للشرط، والثالث ان يكونا معلولين لعلة واحدة لابد من تعيين هذه الثلاثة أيضاً من الرجوع الى المحاورات العرفية.

ويمكن ان يقال: انه بملاحظه كون الجزاء من شأنه ان يصدر بالفاء الدالة على الترتيب، اعني ترتيب ما بعده على ما قبله تكون القضية ظاهرة في القسم الأوّل، وهو ما كان فيه الشرط مقدماً رتبة على الجزاء، وان كان لها صحة الاستعمال في الاخيرين أيضاً، ولكنه يحتاج الى معونة تأويل وعناية، مثاله ان يفرض زيد وعمرو خادمين لخالد، وكان مجيء خالد الذي هو المخدوم مستلزماً لمجيء خادميه، وهو عمرو وزيد معاً، بحيث لم يكن مجيئه منفكاً. ابداً، فحينئذٍ لا اشكال في صحة تعليق مجيء كلّ من زيد وعمرو على مجيء خالد، واما تعليق مجيء كلّ منهما على الآخر، بان يقال: ان جاء زيد جاء عمرو، فيحتاج الى توجيه، بان يقال: ان المعنى أنه «ان جاء زيد فأقول او فأستكشف انه جاء عمرو» ويكون الجزم بالاخبار عن الجزاء وهو مجيء عمرو مترتباً على وجود الشرط وهو مجيء زيد.

و هكذا الكلام فيما اذا كان الشرط معلولاً للجزاء.

ص: 306

و اذن فتحصل انه يستفاد من القضية ان الشرط سابق والجزاء لاحق، ولا يكفى مجرد عدم الانفكاك ووجود التلازم بينهما، وحينئذٍ فنقول : لا يحتاج اثبات دعوى المفهوم الى اثبات العلية التامة لتالي الاداة بان يقال انها تدل على كون الشرط علة تامة للجزاء، بل يستقيم المدعى المزبور مع كون الشرط جزء متمما للعلة التامة بان يكون سائر الاجزاء حاصلة من قبل ويكون المذكور بعد الاداة جزء اخيراً لمجموع العلة، وانما يبتني اثبات هذه الدعوى على اثبات الدلالة على الحصر، بان يقال انها تدل على ان الشرط اما علة تامة منحصرة، واما جزء متمم منحصر للعلة المنحصرة فانه حينئذٍ يلزم من انتفاء الشرط انتفاء الجزاء لوضوح انتفاء سنخ المعلول عند انتفاء العلة المنحصرة.

و انت خبير بان اثبات دلالة ان واخواتها على معنى الحصر دونه خرط القتاد، فانه لا يدل على ازيد من كون ما بعدها بحيث يترتب عليه الجزاء من دون التعرض لحال الاشياء الآخر، وانها أيضاً يترتب عليها الجزاء او لا ومجرد اثبات الترتب لشيء لا ينفيه عما عداه، فلعله كان هناك سبب آخر للجزاء لم يكن المقام مقام بيانه. نعم لو كان المتكلم بصدد بيان جميع الاسباب وحصرها واحرز هذا من حاله فهم من سكوته على شرط او شرطين او ازيد قصر الاسباب فيما ذكره، ولكنه اجنبي بمقصدنا، اذ هذا داخل في باب الفهم من قرينة المقام، والمقصود اثبات الدلالة للاداة ولهذا لو احرز هذه الحالة من المتكلم بالقضية الحملية كان السكوت دالا على الحصر، كما لو كان بصدد حصر الواجب الاكرام، فقال: يجب اکرام زید وعمرو وبشر، ثمّ سكت فانه يفهم منه ان واجب الاكرام منحصر في هذه الثلاثة الّتي ذكرها.

ثم ان صاحب الفصول حاول التمسك لاثبات المفهوم بوجه آخر مركب من الظهور اللفظي والبرهان العقلي، وحاصله أن من المسلم كما تقدم دلالة القضية على كون الشرط مقدماً وسابقاً والجزاء مؤخراً ولا حقاً، وبعبارة اخرى على كون الشرط سبباً والجزاء مسبباً، وحينئذٍ فلو كان هناك شيء آخر يقوم مقام المذكور في الكلام في السببية للجزاء لكان السبب حينئذٍ هو الجامع بين هذا الشيء وذاك المذكور، ضرورة عدم امكان تأثر الشيء الواحد إلا من شيء واحد ولم يصح استناد الجزاء الى خصوص كلّ من السببين الا باعتبار كونه مصداقاً لهذا الجامع، فيلزم ان لا يكون تفريع الجزاء على الشرط باعتبار خصوصية الشرط، بل باعتبار كونه مصداقاً للجامع، وهذا خلاف الظاهر، فان الظاهر من القضية أن هذا المذكور بعد الأداة بخصوصيته يكون سبباً للجزاء، فهذا الظهور بضميمة امتناع كون معلول واحد معلولاً لعلتين يفيد حصر العلة فيما العلة فيما بعد الاداة هذا.

ص: 307

و يمكن ان يقال: ان دلالة الأداة على كون ما بعده بخصوصيت_ه ال_ت_ع_ي_ي_ن_ي_ة س_ب_اً اول الكلام، بل هذا مع احتمال ان يكون السببية له باعتبار كونه احد المصاديق لما هو السبب حقيقة سيّان، فكما يحتمل في قولك : «اكرم زيداً ان جائك» أن يكون الخصوصية زيد دخل في وجوب الاكرام كذلك يحتمل ان يكون الدخيل هو باعتبار كونه احد مصاديق العالم.

و هنا وجوه اخر ذكرت لا ثبات المفهوم :

منها ما حكاه الاستاذ (دام ظلّه) عن سيّد مشايخه السيّد محمَّد الاصفهاني «طاب مضجعه» وهوتمسك لطيف بالاشباه والامثال فانه تمسّك بقضية لو، وبيانه ان لو، يدل على الامتناع للامتناع، يعنى على امتناع التالي لامتناع المقدم، كما في قول الشاعر: «لو كنت من مازن لم يستبح ابلي * بنوا اللقيطة» حيث انه يدل على امتناع عدم الاستباحة لاجل امتناع الكون من مازن وهذا لا يستقيم الا مع الدلالة على حصر السبب لوجود التالي في وجود المقدم، اذ لو كان لوجوده سبب آخر غير المقدم لم يصح تعليل امتناعه بامتناع المقدم، لاحتمال تحقق سببه الآخر، فاذا تعين دلالة لو على الحصر فنحن نعلم بانه لا فرق بين هذه الاداة واختيها، اعنى إن وإذا، الا في حصوص أن هذه تدل على امتناع المقدم، وإذا تدل على تحقق وقوعه، وإن تدل على الترديد فينتج هذا القطع مع الدلالة المذكورة في لو ثبوت الدلالة على الحصر في اخوها أيضاً والا لزم ان يكون الفرق من جهتين: وهو خلاف المقطوع.

و فيه ان الانصاف أن كلمة لولا تدل على استناد عدم الجزاء إلی عدم الشرط، بل غاية مدلولها استلزام وجود الشرط لوجود الجزاء مع الدلالة على انهما معا منتفيان، من غير دلالة على ان انتفاء الجزاء هل هو لاجل انتفاء الشرط، حتّى يكون هو السبب المنحصر له، او لاجل انتفائه وانتفاء الاشياء الاخر أيضاً حتّى يكون هو احد اسبابه هذا ما يقتضيه الانصاف في مفاد هذه الكلمة، فان لزم منه حدوث جهة فرق آخر بينه وبين اخوها فلا بأس، اذ القطع بأن ال_ف_رق من وجه واحد ليس إلا لا وجه له، فالحاصل انا نمنع دلالة لو على الامتناع للامتناع، وانما المسلّم دلالته على الامتناعين في عرض واحد.

ثم لو سلم الأوّل كان ما ذكر من ملازمته مع الدلالة على الحصر مسلماً، ولكن لا يسلم عدم الفرق بينه وبين اخويه في ذلك، بل من الممكن بمكان من الامكان ثبوته من جهتين: من جهة الدلالة على الامتناع ومن جهة الدلالة على حصر العلة في المقدم.

ومنها: التمسك بالانصراف، وبيانه انه قد تقدم أن اداة الشرط تدل على ثبوت ارتباط ما فيما بين المقدم والتالي فنقول : الارتباط جامع بين افراد مختلفة اكملها الارتباط الحاصل بين العلة المنحصرة ومعلولها، والشيء لدى الاطلاق ينصرف الى اكمل الافراد.

ص: 308

و فيه أولاً منع الاكملية بواسطة الانحصار، بمعنى ان السبب المنحصر ليس اكمل علية وتأثيراً من السبب الذي له مشارك في السببية، وان كان الأوّل يحيز جميع المسببات والثاني لا يحيز الا بعضها الا ان عدم حيازته البعض ليس من جهة نقص في تأثيره، وانما هو من جهة عدم قابلية المسبب للتأثر، لعدم امكان تأثر الواحد من اثنين والحاصل انا اذا فرضنا سببين كان كلّ واحد في درجة واحدة من السببية وكان لاحدهما بدل مثله ولم يكن للآخر بدل فنحن لا نعقل اكمليّة الثاني من الأوّل وان شئت توضيح ذلك فلاحظ ارباب الصنايع والملكات، فلاحظ شخصاً كان في اعلى درجة من صناعة خاصة، فلو كان لهذا الشخص نظير وشبيه كان مساوياً معه في هذه الصنعة، فهل يحدث له بواسطة وجود هذا المثل نقص في ملكته واذا لم يكن له هذا المثل فهل يحدث له كمال في صنعته؟

و ثانياً سلمنا الاكملية للعلة المنحصرة، ولكن ليس الاكملية سبباً للانصراف، لوضوح ان الانصراف انما ينشأ من أنس المعنى باللفظ في الذهن، وليس الاكملية ملازمة لهذا، والا لزم ان يكون لفظ الانسان منصرفاً الى خاتم النبيّين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )» لكونه اكمل افراده.

ومنها: التمسك بالاطلاق و مقدمات الحكمة، وتقريره من وجوه ثلاثة :

الاول: التشبث بالاطلاق في الارتباط المستفاد من الاداة، ويعبر عنه بالعلاقة اللزومية، وهو ما تقدم انه لا شك في استفادته من الاداة فيقال : مقتضى المقدمات حمل هذا الارتباط على اكمل افراده، وهو العلاقة الحاصلة بين العلة المنحصرة ومعلولها، ألا ترى ان قضية المقدمات في مفاد هيأة إفعل وهو الطلب الجامع بين افراد كثيرة من الندب والوجوب باقسامه من النفسي والغيري والتعييني والتخييري والعيني والكفائي هو حمل هذا المعنى الجامع على اكمل افراده، وهو الوجوب النفسي التعييني العيني.

و فيه ان قضية المقدمات ليس هو الحمل على الاكمل اذ لا يقتضي كون المتكلم بمقام بيان تمام المراد حمل السبب في كلامه على السبب المنحصر، وان كان كونه كذلك مقتضياً في صيغة الامر للحمل على الطلب التعييني دون التخييري، اذ ليس المراد بالكون في مقام بیان تمام المراد الذي هو من مقدمات الاطلاق هو الكون في مقام بيان تمام مراداته القلبية، سواء كانت مرتبطة بهذه القضية ام لا، بل المراد خصوص المراد في تلك القضية، كما هو واضح، واذن فلا يخفى أن المراد في قضية اكرم زيداً لا يتم ما لم يحرز التعيينية او التخييرية، فان العدل على فرض وجوده تكون من تتمة هذا المراد ولهذا يمتثل به المكلف هذا الخطاب، وهذا بخلاف الحال في القضية الشرطية فان ما هو المقصود والمراد من القضية يكمل ويتم بدون

ص: 309

احراز ان الشرط سبب منحصر او غيره مثلاً قولك : ان جاء زيد فاكرمه ليس المراد به إلا أن الاكرام عقيب المجيء واجب، وهذا شيء يفي به الكلام من دون حاجة الى مقدمات، واما ان الاكرام يجب عقيب شيء آخر أيضاً أو لا يجب فهو مراد آخر غير مرتبط بالمراد الذي يقصد افادته بهذا الكلام، فلا تجري المقدمات لاحرازه اصلاً.

و الحاصل ان قياس اداة الشرط بهيأة الامر قياس مع الفارق، فان وجه الحمل هناك على الاكمل ليس الا لكونه من تتمة المراد بهذه القضية، ومن جهة كونه اخف مؤنة، واما هنا فليس الحصر من تتمة المراد بالقضية ولا هو اخف مؤنة من عدمه اما وجه الا خفية هناك فلأن الوجوب لا يحتاج الى مؤنة اخرى غير نفس الارادة والطلب، فان الطلب اذاخلى وطبعه ولم يتقيد بشيء صار وجوباً، وانما الندب يحتاج الى قيد زائد وهو ضم الترخيص في الترك الى الطلب، وليس الفرق بين الندب والوجوب أن الأوّل ارادة ضعيفة، والثاني ارادة شديدة، حتّى يكون الوجوب اشد مؤنة، ولهذا لا يتصور الاستحباب في الارادة الفاعلية تصور الشدة والضعف فيها أيضاً، وكذا النفسي اخف مؤنة من الغيري فان الثاني توجيه الارادة مع لحاظ الغير، والاول لا يحتاج الى لحاظ الغير مثلاً ايجاب نصب السلم يحتاج الى لحاظ الكون على السطح، واما ايجاب الكون فلا يحتاج الى لحاظ شيء سوى نفسه، وكذا التعييني بالنسبة الى التخييري والعيني بالنسبة الى الكفائي، فان الاولين لا يحتاجان الا الى توجه الطلب نحو الفعل الواحد والمكلف الواحد، والاخيرين يحتاجان الى لحاظ العدل اما للفعل او للمكلف، مثلاً توجيه الطلب نحو زيد يكفي في العينية واما الكفائية فتحتاج الى ضم «او عمرو» وأما وجه عدم الاخفية في الحصر في أداة الشرط فإن تأدية الاشتراط فيها اذا كان الشرط منحصراً ليس باخف مؤنة ممّا اذا كان متعدّداً واريد ذكر احد الاسباب وهذا واضح، بل كلّ من الامرين اعني الحصر والتعدد محتاج الى بيان،زائد فقولك : ان جاء زيد فاكرمه ليس مفاده ازيد من كون المجيء سبباً لوجوب الاكرام واما انه سبب منحصر او له مشارك في السببية فكل منهما محتاج الى بيان على حدة.

و الوجه الثاني من وجوه تقرير التمسك بالاطلاق هو التمسك باطلاق ترتب الجزاء على الشرط بمعنى أن قولك : «ان جاء زيد فاكرمه» مفاده أنه يترتب على المجيء وجوب الاكرام مطلقاً، سواء سبق المجيء شيء في الدنيا او قاربه ام لا والفرق بين هذا والوجه السابق لا يخفى، فان السابق كان تمسكاً بالاطلاق في معنى الارتباط بين الشرط والجزاء الذي كان مستفاداً من الاداة وهذا تمسّك به في ترتيب الجزاء على الشرط مع قطع النظر عن حصول العلقة والربط فيما بينهما وبالجملة قضية الاطلاق المذكور :امران كون المقدم علة تامة للتالي،

ص: 310

وكونه علة منحصرة اما كونه علة تامة فلأن المفروض أن الاطلاق افاد انه لو لم يتحقق شيء في العالم سوى نفس المجيىء كان وجوب الاكرام مترتباً عليه، وهذا لا يستقيم الا مع كون المجيىء علة تامة، دون كونه جزء اخيراً لها، والا لاحتاج الى تقدم شيء آخر عليه، واما كونه علة منحصره فلأن الاطلاق أيضاً افاد أنه لو تحقق اي شيء كان قبل المجيىء كان الوجوب مترتباً على المجيىء، ولو لم يكن المجيء علة منحصرة وكان شيء آخر علة أيضاً ففي صورة تقدم هذا الشيء على المجييء لم يكن الوجوب مترتباً على المجيىء، بل على هذا الشيء الآخر، وقد فرض ان مفاد الاطلاق كونه مترتباً على المجيىء، وبذلك يتم المطلوب.

الوجه الثالث: هو التمسك بنحو الاطلاق المذكور في الشرط، بمعنى الاطلاق المذكور في الشرط، بمعنى أن قولك : «ان جاء زید» معناه سواء تحقق شيء قبل مجيئه او معه أو لا، وهذا يفيد العل_ية التامة والانحصار، بالبيان المتقدم.

و الجواب عن هذين أنه ان بنينا على أن تعدد الاسباب في القضية الشرطية يقتضي تعدد المسببات فكما ان البول يوجب الوضوء فكذا النوم يقتضي وجوب وضوء آخر فحينئذٍ لا اشكال في ان الاطلاق المذكور غير نافع، فان مسبب كلّ سبب يرتبط بسببه دون سبب آخر، ولو فرض تحقق السبب الآخر قبل سببه، فهذا الاطلاق لافائدة فيه لاخذ المفهوم، واما ان بنينا في القضية الشرطية بان تعدد الاسباب لا يقتضى الا وجوداً واحداً من المسبب، او كان المسبب ممّا لا يقبل التكرار كما في قولك : «ان جاء زيد فاقتله» فان قلنا بان تعدد السبب يقتضي تعدد المسبب فنقول : يكفي في العلاقة فيما بين الشرط والجزاء ان يكون الأوّل صالحاً لان يصير دخيلاً في وجود الثاني بنحو العلة التامة او الجزء الاخير منها، ولا يلزم ان يكون كذلك فعلاً، وبعبارة اخرى المستفاد من القضية الشرطية ليس الا أن تالى الاداة له اقتضاء لوجود الجزاء، واما أن الشيء الآخر أيضاً يكون له هذا الاقتضاء او لا فليس فيه تعرض لذلك، حتّى يتصور له اطلاق.

نعم لو فرض ان المتكلم يكون بصدد حصر الاسباب كان لكلامه دلالة على انتفاء الجزاء عند انتفاء ماذكره من الاسباب ولكن لا يعد هذا من دلالة القضية.

و هذا جواب واحد عن جميع وجوه التمسك بالاطلاق وحاصله ان المدعى اثبات الدلالة لنفس القضية، وعلى هذا يدور مدار وجود المقدمات وعدمها.

و هنا وجه رابع للتمسك بالاطلاق وهو ان السبب الواحد لا يحتاج الى ذكر العدل، الذكر يكون قضية المقدمات عدمه وبذلك بنينا على ان ما بعد والمتعدد يحتاج، ف_ع_ن_د عدم الاداة هو السبب وحده وليس له بدل كما ان قضيّتها في الطلب هو الحمل على التعييني،

ص: 311

لاحتياج التخييري الى ذكر العدل.

و فيه ان السبب كان واحداً ام متعدداً فنحو سببيته واحد، وليس احدهما محتاجاً الى بیان زائد، وذكر العدل ليس لبيان سنخ السببية وانما هو لبيان التعدد، واما الواجب التخييري فهو سنخ آخر من الوجوب وراء التعييني يحتاج الى مؤنة زائدة، فالقياس عليه قياس مع الفارق، والحاصل أنه ليس في هذا المقام تغاير سنخ ولا حاجة الى مؤنة زائدة.

ثم انه قد وقع من الاستاذ الخراساني في هذا المقام من الكفاية سهو غريب ينبغي التنبيه عليه، وهو انه عند ذكر التمسك بمقدمات الحكمة لحمل الارتباط المستفاد من الاداة على فرده الاكمل كما يحمل الطلب بسببها على الوجوب النفسي، أجاب عنه بان الارتباط معنى حرفي، والمعاني الحرفية غير قابلة للاطلاق والتقييد.

و هذه غفلة عجيبة منه طاب ثراه، مع انه قائل باجراء المقدمات في المعنى الحرفي في غير مقام، مثل الطلب المستفاد من هيأة الامر وغيره وصل الشبهة في قبول هذه المعاني للاطلاق والتقييد هو انهما يحتاجان الى لحاظ المعنى، والمعاني الحرفية غير قابلة لللحاظ، والجواب أنها قابلة للبلحاظ على نحو المرآتية والاجمال كما هو الحال في استعمالات الحروف، فان مستعملها لا محالة ملتفت انه يستعملها في أي معنى مثلاً الآمر يلحظ الطلب الاجمالي، ومستعمل «من» يلحظ الابتداء الاجمالي، وهذا الذي يلحظه المستعمل معنى اسمي ومرئيه معنى حرفي، فعند ملاحظة هذا المعنى الاجمالي يمكن ان يلاحظ مطلقاً ويمكن ان يلاحظ مقيداً، ألا ترى أنك تفهم من قول المتكلم سر من البصرة الاطلاق بالنسبة الى نقاط البصرة، فلا يتفاوت الحال في جعل اتي منها محلاً للشروع في السير، وليس الا لان المتكلم لاحظ معنى الابتداء الاجمالي مطلقاً.

هذا هو الكلام في حجج المثبتين.

(٤٢٥، ص ١٩٤)

و اما حجج المنكرين فوجوه

منها: ما يحكى عن السيّد من ان السبب اذا انتفى لا يلزم من انتفائه انتفاء المسبب، فان قيام سبب آخر مقام السبب الأوّل كثير في الشرعيات والعاديات، الاترى ان انضمام اليمين او الامرأتين الى العدل الواحد يقوم مقام البينة في اثبات الدعاوي، وان الشمس تقوم مقام النار في ايجاد الحرارة، الى غير ذلك.

والجواب ان هذا ناش من عدم فهم مراد المثبتين، فانهم لو تمسكوا بالقاعدة العقلية الّتي هو ان المشروط ينتفى بانتفاء شرطه بعد تسليم ان اداة الشرط لا تدل الا على شرطية المقدم

ص: 312

وسببيته بدون زيادة كان ماذكره حقاً، ولكنهم حاولوا اثبات المطلب بالدلالة اللفظية دون العقلية، بدعوى دلالة الاداة على الحصر مع العلية، ومعه فلا يبقى لكلام السيّد مجال، نعم لابد ان يتكلم معهم في الدعوى المذكورة.

ومنها: ان القضية الشرطية لو دلت على المفهوم لكانت باحدى الدلالات الثلاث، والتالي باطل، فالمقدم مثله بيان ذلك : ان قولك : «ان جاء زيد، ليس معناه المطابقي» ان لم يجيء، ولا معناه التضمّني ذلك، وكذا قولك : «فاكرمه» ليس معناه المطابقي ولا التضمني انه لا يجب اكرامه واما الالتزامي فلابد ان يكون اما بالملازمة بالمعنى الاخص، حتّى يكون واضحاً عند كلّ احد أو بالمعنى الاعم، والقائل لابد ان يقول بالأوّل، بدعوى أن الاداة تدل على الحصر، وهو ملازم مع المفهوم بالمعنى الاخص، وقد تقدم ابطال هذه الدعوى فيما تقدم بشهادة الوجدان.

ومنها: التمسك بعدم المفهوم في آية «لا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصناً»(1) اذ لو دلت على المفهوم لكان المعنى «وان لم يردن التحصن يجوز لكم الاكراه» وهو باطل.

و الجواب أن عدم ثبوت المفهوم في خصوص هذه القضية لا تدل على عدم ثبوته في نوع القضية الشرطية، مضافاً الى أن الشرط في هذه محقق للموضوع، اذ لا يتحقق موضوع الاكراه الا ارادة التحصن فتدبر.

وينبغي التنبيه على امور:

الاول : قد يقال على القول بالمفهوم بالفرق بين ما اذا كان الجزاء قضية خبرية مثل «ان جاء زيد جاء عمرو» وبين ما اذا كان قضية انشائية مثل «ان جاء زيد فاكرمه»، ففى الأوّل لا اشكال في المفهوم واما في الثاني فحيث ان الجزاء الثابت عند وجود الشرط هو الانشاء الخاص كالايجاب الخاص كان المنتفى عند انتفائه في المفهوم هذا الانشاء الخاص، فليزم ارتفاع الوجوب الخاص عن زيد في المثال عند عدم مجيئه، وهو لاينافي ثبوت الوجوب الخاص الآخر الثابت بانشاء آخر، وهذا في الحقيقة واللب قول بعدم المفهوم، فان ارتفاع الانشاء الخلص لا يختص بالقضية الشرطية، بل يثبت في الوصفية واللقبية أيضاً، مثل «اكرم زيداً».

و دفعه انه بعد ما مر في محله من كون المعاني الحرفية كلبات لا وقع لهذا الكلام، اذ يصير الجزاء في تلك القضايا هو الايجاب الكلي، فكانه قيل ان جاء زيد يجب اكرامه، فالواجب

ص: 313


1- سورة النور، الآية ٣٣.

في جانب المفهوم انتفاء المعنى الكلي أيضاً، ثمّ لو فرض القول بجزئية معاني الحروف لكن نقول : من المعلوم أن مفاد القضية الشرطية علية الشرط لسنخ هذا المعنى الجزئي، وان لم يؤت في العبارة بما يدل على السنخ وأتى بما يدل على جزئي من جزئياته من باب قصور دلالة اللفظ، ولكن الملحوظ تعليق سنخه على الشرط، وحينئذٍ فالمنتفى عند انتفاء الشرط هو السنخ، وبالجملة فانتفاء الشخص بانتفاء الموضوع غير مختص بالقضايا الشرطية فلا يمكن ان يكون هو مراد من قال بالمفهوم.

(٤٣٥، ص ١٩٧)

الثاني : لا اشكال في لزوم الاتفاق والتطابق بين المفهوم والمنطوق في جميع القيود في الجملة، وبمحض الاختلاف في السلب والايجاب، فالمفهوم من قولك ان جاء زيد يوم الجمعة فأكرمه يوم السبت، أنه «ان أنه «ان لم يجئك يوم الجمعة لا يجب اكرامه يوم السبت»، وانما الاشكال في بعض القيود مثل العموم المأخوذ في الجزاء، فانه اذا كان على وجه العموم المجموعي فلا اشكال في التطابق بمعنى مأخوذيته في طرف المفهوم أيضاً على وجه المجموعي دون الاستغراقي، فاذا قيل: ان جائك زيد فيجب اكرام تمام العلماء، بحيث كان المطلوب اكرام المجموع، كان المفهوم انتفاء اكرام المجموع الغير المنافي مع وجوب اكرام البعض، واما لو اخذ على وجه الاستغراق كما لوقيل هذا الكلام على وجه كان المطلوب اكرام كلّ واحد واحد بالاستقلال، فحينئذٍ قد وقع الخلاف بين استادي الفن الشيخ محمَّد تقي والشيخ المرتضى (قدّس سرّهما) في المفهوم، فقال الاول: المفهوم رفع الايجاب الكلي الملائم مع السلب الجزئي، فالمفهوم في المثال أنه على تقدير عدم المجيئ لا يثبت هذا الحكم الكلي، وهو وجوب اكرام كلّ عالم ولا ينافي ذلك مع ثبوت وجوب اكرام البعض، وقال الثاني بل المفهوم هو السلب الكلي، اذ كما ان الاستغراق ثابت في نفس القضية الجزائية كذلك يثبت في ارتباطها بالشرط، فكل حكم من الاحكام الجزئية صار مرتبطا بالشرط، فكانه قيل: ان صار كذا فاكرم هذا، وان صار كذا فاكرم ذاك، وهكذا الى آخر الافراد ولا شك ان لازم القول بالمفهوم على هذا ارتفاع الحكم عن جميع الأفراد على سبيل الاستغراق عند عدم الشرط.

و انتصر الاستاذ الخراساني (طاب ثراه) للاول وزاد انه ان استفيد الاطلاق او العموم من مقدمات الحكمة دون نفس القضية كان الحكم كذلك أيضاً، فاذا قيل: «ان جاء زيد فاعتق رقبة» كان المفهوم ان لم يجئك فلا يجب عتق الرقبة المطلقة، ولا ينافي ثبوت وجوب عتق المقيدة.

و لكن هذا ينبغى القطع بفساده فانه لا يجري المقدمات أولاً في المنطوق فقط حتّى يؤخذ

ص: 314

المفهوم منه بعد وجود وصف الاطلاق فيه حتّى يلزم ما ذكره، بل المقدمات تجري على المنطوق والمفهوم في عرض واحد، وسرّ ذلك أنه وان كان الثاني في مقام الفهم من اللفظ في طول الأوّل لا في عرضه، ولكن في مقام ارادة المتكلم وغرضه كلاهما يصيران متعلقى غرضه وارادته في عرض واحد مثلاً مفاد ان جاء زيد فاعتق رقبة مطلبان احدهما ان جاء وجب العتق، والثاني ان لم يجيء لم يجب العتق وكلاهما مقصود بالافادة بهذا الكلام في عرض واحد غاية الامر انفهام الثاني من الكلام بعد انفهام الأوّل.

و الحاصل ان المقدمات انما تجري في القضية بتمام مفادها الذي قصد المتكلم افادته، فكما يكون قضيّتها في جانب المنطوق حمل الوجوب على المطلق كان قضيتها في جانب المفهوم رفع الوجوب عن المطلق، نعم لو كان الاطلاق قيداً مصرحاً به في اللفظ كان الحقّ ماذكره فاذا قيل : «ان جاء زيد فاعتق رقبة» مطلقاً اي رقبة كانت كان المفهوم انتفاء الوجوب عن المطلق، ولا ينافي ثبوته في المقيد، ولكنه غير استفادة الاطلاق من المقدمات، فانه في الأوّل الاطلاق قيداً في متعلق الوجوب، ويصير تحت الطلب، وفي الثاني قيد للوجوب، فالمنطوق يصير في الأوّل أن عتق الرقبة الموصوفة بالاطلاق واجب، وفي الثاني أن عتق الرقبة واجب مطلقاً، والعمدة ما ذكرنا من ان المقدمات تجري على جميع معنى القضية دفعة، لا انها تجري على اول جزء منه كان مقدما في الفهم ثمّ يصير سائر الاجزاء مبنياً على اطلاقه، ولعل ذلك من الواضحات فالحال في متكلم قال ان جاء زيد فاعتق رقبة هو الحال في متكلم قال ان جاء زيد فاعتق رقبة وان لم يجيء لم تجب عتق رقبة، فكما يجري الاطلاق في كليهما في الثاني، فكذا في الأوّل.

انما الكلام في العموم الاستغراقي الذي دل عليه اللفظ في الجزاء، مثل ان جاء زيد فاكرم كلّ عالم فهل هو تعليق للآحاد على الاستغراق، فكل واحد واحد منها علّق على الشرط تعليقاً متعدداً مستقلاً، فينحل الكلام الى تعاليق مستقلة، فيصير المفهوم بعدد التعاليق او تعليق للعموم ؛ وبعبارة اخرى لا اشكال في لزوم لحاظين في كلّ قضية شرطية، فانها عبارة عن قضيتين حمليتين جعلنا واحدة بجعل احديهما مربوطة بالأخرى، فلابد أولاً من لحاظ انفسهما وثانياً من لحاظ تقييد احديهما بالاخرى كما هو الحال في كلّ قيد ومقيد، فانه لابد من لحاظ ذات القيد والمقيد اولا ثمّ لحاظهما ثانياً عند لحاظ التقييد، فالمتكلم في القضية الشرطية المشتملة جزائها على العموم الاستغراقي لاحظ الآحاد في نفس القضية الجزائية، كلّ واحد منها مستقلاً، مثل من تكلم بقضايا عديدة بعدد الآحاد، فقد لاحظ العموم في هذه الملاحظه مرآة للآحاد، ثمّ عند ملاحظة التقييد بالشرط يمكن ان يلاحظ كونه راجعاً الى كلّ واحد واحد من

ص: 315

الآحاد، فصار مثل من تكلم بقضايا شرطية بعدد الآحاد ويمكن ان يجعل الشرط قيداً راجعاً الى الآحاد الّتي لو حظت بسور واحد باعتبار وحدتها الاجتماعية، فبعد امكان كلّ من هذين اللحاظين يقع الكلام في ان المطلوب من القضية لدى الاطلاق ماذا؟ فان كان الأوّل كان اللازم كلية المفهوم وسعته، فكأنه قيل اكرم زيداً واكرم عمر و او اكرم خالدا، ثمّ قيل - دفعة واحدة - ان صار كذا فالمفهوم انه ان لم يصر كذا فلا يجب اكرام زيد ولا عمرو ولا خالد، وان كان الثاني كان اللازم جزئية المفهوم وضيق دائرته اذ لازم رفع الكلي ليس الا ثبوت الجزئي، فعند حصول الشرط الثابت وجوب اكرام الجميع، فالمفهوم ارتفاع وجوب اكرام الجميع، ولا ينافي ثبوت الوجوب في البعض.

و اذا فنقول : لا يخفى ان ملاحظة الامثلة العرفية والمتفاهم العرفي في امثال تلك القضايا يشهد بالثاني، وكون المفهوم جزئياً، وأن الحقّ مع الشيخ محمَّد تقي، فباعتبارنفس القضية وحمل الحكم على الموضوع يلاحظ الآحاد مستقلاً ولا يلاحظ العموم الا مرآة لها، وعند ملاحظة التقييد بالشرط يلاحظ العموم مستقلاً، ولا ينافي هذا مع الكبرى المتقدمة الكبرى المتقدمة اعني لزوم التطابق في غير النفي والاثبات فيما بين المفهوم والمنطوق، فان الكل في طرف المنطوق لوحظ ممّا هو عموم وشيء وحداني منحل الى اشياء لا ان يكون الملحوظ من المنحلات والتكثرات وان كانت ملحوظة في نفس القضية الجزائية والحكم المذكور فيها، فهذا المعنى الوحداني محفوظ في كلا الجانبين، فيقع تلو الايجاب في المنطوق وتلو النفي في المفهوم، غاية الامر ان رفع الايجاب الكلي ليس الا سلباً جزئياً، وكذلك رفع السلب الكلي ليس الايجاب كذلك فتدبر.

و قد نقل الاستاذ (دام ظلّه) استظهار ذلك من سيّد الاساتيذ الميرزا الشيرازي عند بحثه «قدّس سرّه» عن ماء الغسالة.

نعم يصح قول شيخنا المرتضى «قدّس سرّه» من كلية المفهوم بناء على مذاقه من العلية التامة من اداة الشرط علاوة على الانحصار (1)، فانه على هذا يكون المعنى ان الشرط وحده دخيل في الحكم على العموم، لا انه جزء اخير من العلة التامة له، فيلزم ان يكون جميع اجزاء العموم استنادها الى الشرط دون شيء آخر اذ لو كان استناد البعض الى علة اخرى لكان الشرط جزء اخيراً من علة العموم، بمعنى ان العموم تحقق منه ومن غيره، لا علة تامة له

ص: 316


1- هذا تأييد لمرام الشيخ حتّى بناء على ربط التعليق بالعموم، نقله شيخنا الاستاذ «دام ظله» عن المرحوم الميرزا مهدى الشیرازی طاب ثراه حيث استشكل ذلك على الميرزا «قدّس سرّه» في مجلس درسه وقال شيخنا لم يكمل هو التقرير فقمت انا عند فراغ الدرس عند المنبر وقررته للميرزا «قدس اسرارهما» منه عفى عنه.

بان كان العموم متحققا منه وحده مثلاً لو كان المتكلم لا يخاف من بعض جماعة لقوته وسطوته على هذا البعض ولا يخاف من بعضها الآخر على تقدير مصاحبة المخاطب معه فلا يصح على هذا المبنى ان تقول للمخاطب ان كنت صاحبي فلا اخاف احداً من هذه الجماعة، فان مصاحبة المخاطب ليست علة تامة لعدم الخوف من احد من الجماعة، بل العلة هي مع قوة نفس المتكلم وسطوته، والحاصل انه بعد استفادة ذلك وان المفروض استفادة الانحصار كان المفهوم كلّيّاً عقلاً كما هو واضح.

و لكن قد عرفت ضعف المبنى، وصحة الاطلاق مع كون الشرط جزء أخيراً.

ثم ان هنا مطلباً آخر يدل على جزئية المفهوم أيضاً في خصوص المثال الذي وقع محلا للنزاع بين العلمين اعني قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء»(1) وهو وان ساعدنا مع الشيخ المرتضى «قدّس سرّه» في ان التعليق يتعلق بالآحاد فينحل الى تعليقات، دون العموم حتّى لا يكون الا تعليق واحد ولكن نقول: هذا انما هو فيا اذا كان لفظ دال عليه بالوضع او الدلالة العرفية، كما لو كان الكلام مشتملاً على كلمة كلّ ونحوها دون ما اذا لم يكن كذلك كما في هذا المثال فان كلمة شيء ليست موضوعة للعموم، بل للمعنى المهمل القابل للعموم والخصوص، فكذا ليس اداة النفي موضوعة لنفي العموم، بل للاعم منه ومن نفي الخصوص، وكذا الظاهر عدم الوضع للمركب منهما بل الحقّ عدم الحاجة الى شيء من ذلك وحصول معنى العموم من استعمال اللفظتين في نفس معنيهما عقلاً بيان ذلك أن المهملة مقسم للمطلقة والمقيدة ونفي المقسم نفي لاقسامه أيضاً، فايراد النفي المستفاد من أداته على المهملة المستفادة من النكرة يدل عقلاً على نفي جميع الاقسام وجميع الآحاد، ولا حاجة في جواز ذلك الى اجراء مقدمات الاطلاق في نفس النكرة كما يستفاد من الاستاذ الخراساني - حيث ذكر ابتناء استفادة العموم من اداة النفي على جريان المقدمات في المدخول وعدمه - فلو لم يكن المتكلم ب_ «لا رجل في الدار» في مقام البيان واحتمل كون قيد السواد دخيلاً في مراده اللبي ولم يذكره لكونه في مقام الاهمال، فحينئذٍ لا يستفاد العموم من كلمة «لا» اذ يلزم على تقدير كون مراده اللبي هو المقيد تجوز في شيء منها ومن النكرة، فان النكرة موضوعة للمهملة، واداة النفي لنفي ما اريد من مدخولها من المصاديق، وجه عدم الحاجة ماذكرنا من كفاية نفس ايراد معنى النفي على الطبيعة المهملة المقسمية،

ص: 317


1- الوسائل: ج 1 ص 117 باب 9 ح٢ و ٦

فيكون اداة النفي قائمة مقام المقدمات.

وقد ذكر الاستاذ انه نبه على ذلك سيّده الاستاذ السيّد محمَّد الاصفهاني «طاب مضجعه» وذكرانى مثلت لتوضيح مرام الاستاذ مثالا وارتضاه وهو ان المستخير لو استخار لمطلب كلي فجاء النهي لم يستخر ثانياً له بضم خصوصية اليه واما اذا جاء الأمر فهو يستخير للخصوصيات أيضاً، وليس ذلك الا لأن النفي اذا ورد على الكلي ف_ق_د انتفى الاصل والاساس، وبانتفائه ينتفى جميع ما ابتنى عليه، وهذا بخلاف الاثبات، فان اثبات المقسم لا يفيد استواء جميع الاقسام، فلا محالة يحتاج الاطلاق والسراية الى احراز المقدمات.

اذا تقرر هذا فنقول المفهوم في المثال قولنا اذالم يبلغ الماء قدر كرينجسه شيء ولا يستفاد سوى الجزئية، لما ذكرنا من ان ورود الاثبات على النكرة، لا يدل على ازيد من الثبوت في بعض الأفراد.

(٤٤٥، ص ٢٠٠)

الثالث: اذا تعدد الشرط واتحد الجزاء مثل اذا خفي الاذان فقصر، واذا خفي الجدران فقصر، فعلى القول بعدم المفهوم لا كلام واما على القول به فلا يمكن حفظ الظهور في كلا الكلامين، فان مفهوم الأوّل انه اذا لم يخف الاذان لم يجب القصر مطلقاً، وان خفي الجدران، ومفهوم الثاني انه اذا لم يخف الجدران لم يجب القصر وان خفي الاذان، فلابد من التصرف ورفع اليد عن الظهور، اما رفع اليد عن المفهوم في كلا القضيتين، واما بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، فتنتفي الدلالة على الانحصار رأساً على الأوّل، وتنتفى بالاضافة الى السبب محفوظیته بالاضافة الى الاسباب الاخر على الثاني واما بجعل كلّ من الشرطين جزء السبب ورفع اليد عن ظهوره في تمامه وعلى هذا يبقى المفهوم بحاله، واما بجعل السبب هو الجامع بين الأمرين، وعلى هذا أيضاً يبقى المفهوم بحاله واما بجعل احد الامرين أصلاً والآخر معرفاً كان يكون معيار وجوب القصر خفاء الاذان، ولكن لمالم يكن بموجود في كلّ حين جعل خفاء الجدران أمارة عليه وكاشفاً عنه، فعند معلومية خفاء الأذان كان هو المعيار، وان لم يخف الجدران، وكذا مع معلومية عدم خفاء الاذان كان هو المعتبر، وان خفي الجدران، لعدم الموضوع للأمارة مع معلومية الواقع، فموضوع الثاني الاشتباه في الأوّل، فهما حكمان طوليان فكل في مرتبته يصح اخذ المفهوم منه بلا مناف اصلاً.

و لكن الاخير علاوة على عدم معين يعيّن الأمارة عن ذي الامارة بعيد عن الظاهر كثيراً، وكذا احتمال كون السبب هو الجامع فانه وان كان ملائما مع الاعتبار العقلي، من جهة ان التأثير الواحد في المتباينين لابد وان ينتهي الى جامعهما لئلا يلزم تاثير الاثنين في الواحد، ولكنه بعيد عن متفاهم العرف جدا، حيث يفهمون ان هذا الخاص وذاك الخاص سبب مستقل

ص: 318

بخصوصيته، ومن هنا يظهر ضعف الوجه الثالث اعنى الحمل على جزء السبب، وكذلك تخصيص كلّ من المفهومين بمنطوق الآخر، فانه فرع كون ظهور المفهوم ظهوراً قوياً حتّى يحفظ عند طريان تخصيص عليه ظهوره في غير مورد التخصيص، فيتعين الامر في الوجه الأوّل، وهو رفع اليد عن المفهوم رأساً وان المتكلم في مقام بيان اصل السببية دون الحصر.

الرابع: اذا تعدد الشرط و اتحد الجزاء، فهل يقتضى تعدد الشرط تعدد الجزاء بحسب الوجود ؟ او يكفى تعقب الوجودات المتعددة لوجود واحد من الجزاء؟ سواء كانت متفقة الحقيقة مثل البولات العديدة في قوله: اذا بلت فتوضاء او مختلفها مثل البول والنوم في قوله : اذا بلت فتوضأ واذا نمت فتوضأ. فان بنينا في البحث السابق على الوجه الثالث او الاخير فلا كلام. واما على الوجوه الآخر؛ فقد يقال : ان تعدد السبب يقضى بتعدد المسبب ويعبر عنه بعدم التداخل ويبين ذلك بمقدمات ثلاث:

الاولى ان الظاهر من القضية الشرطية حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، دون مجرد ثبوته ولو كان باستمرار وجوده السابق على وجود الشرط.

الثانية: ان الجزاء في القضايا الشرطية الطلبية هو الوجوب دون الوجود، لوضوح انه لا يلزم من تحقق البول او النوم تحقق وجود الوضوء في الخارج؛ بل يمكن الانفكاك، وانما المتحقق محفوظية بعدهما وجوبه.

الثالثة ان الماهية الواحدة لا يمكن اتصافها بعرضين متضادين اومتماثلين بما هي واحدة ؛ واما اتصاف الانسان بالطول والقصر، فانما هو باعتبار التبائن الوجودي واما مع وحدتها، فليس الحال فيها الا كالحال في الواحد الشخصي : الا ترى ان اصل ماهية النار لا يمكن اتصافها بالحرارة والبرودة وكذا بحرارتين كالنار الشخصية.

اذا تمهد هذه: فاذا بال المكلف ونام او بال او نام مرتين على ما هو قضية اطلاق السببية السارية الى كلّ فرد من البول والنوم، يلزم تعدد وجوب الوضوء في حقه، لما مر في المقدمة الاولى من ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث فلابد عند كلّ سبب من حدوث الوجوب ؛ ولازم ذلك تعدد الوجوب عند تعدد السبب فيلزم اتصاف الماهية الواحدة وهو الوضوء بعرضين متماثلين وقد عرفت في المقدمة الثالثة استحالته.

فعلى القول بالتداخل لابد من التصرف في ظهور القضية اما برفع اليد عن ظهورها في الحدوث عند الحدوث. بان يكتفى بالوجوب الحاصل من السابق الجائى من السبب السابق، واما بالتزام ان المسبب من كلّ سبب ماهية غير ما يتسبب من السبب الآخر، ووجه الاكتفاء بوجود واحد هو تصادق الماهيتين عليه فهو نظير اكرم هاشمياً واكرم عالماً، حيث يحصل

ص: 319

امتثالهما باكرام العالم الهاشمي. فهنا وجب بالبول الأوّل عنوان وبالثاني عنوان آخر. لكن كلا العنوانين متصادقان على موضوع الوضوء، واما بالتزام كون الجزاء للسبب المتقدم احداث الوجوب وللثاني تشديده.

و كلّ من هذه الامور الثلاثة ارتكاب لخلاف الظاهر اما الأوّل فواضح، وكذا الثاني والثالث؛ لوضوح ان ظاهر القضية حدوث الوجوب عند حدوث الشرط متعلّقاً بنفس ماهية الوضوء ؛ لا ثبوت الوجوب ولا تشديده ولا متعلّقاً بعنوان يصدق على الوضوء. وحيث لاوجه للالتزام بشيء منها يتعين القول بان الواجب عقيب كلّ سبب وجود مغاير لما وجب عقيب سبب آخر، وهو القول بعدم التداخل.

لا يقال : وجه الالتزام بواحد من الامور الثلاثة عدم امكان حفظ الظهور والالجاء برفع اليد عنه.

لانا نقول : لا الجاء بعد امكان ما ذكرناه من حمل الجملة الطلبية الجزائية على تعدد الفرد على حسب تعدد الشرط. فنقول : ان المراد بقوله فتوضأ انه توضأ وضوء مغاير للوضوء الواجب بسبب آخر.

فان قلت: هذا يحتاج الى التقييد بقولنا : «وضوء آخر مغايراً لما وجب بسبب آخر» والاطلاق يدفعه.

قلت: نعم، هو مناف لاطلاق الجزاء، ولكن ظهور الشرط في ان كلّ فرد من افراد الشرط سبب مستقل - مع حفظ الظهورات المتقدمة - قاض برفع اليد عن هذا الاطلاق، ويصير يصير بياناً للقيد.

هذا حاصل ما يقال في تاسيس الاصل على عدم التداخل.

و لكنه خلاف التحقيق لانه قوله «قدّس سرّه» بان افادة احد الامرين للوجرب والآخر لشدته خلاف الظاهر ممنوع فان ذلك ليس اختلافاً راجعاً الى معنى الصيغة وانما هو من جهة اختلاف المحل الذي يعرضه الوجوب؛ فان كان متصفاً به سابقاً، كان ايراد الوجوب عليه ثانياً منشأ لانتزاع الشدة قهراً. وان كان خالياً كان احداثاً للوجوب كذلك ؛ فالاحداث والتاكيد وصفان طارئان من قبل اختلاف المحل؛ وليسا ممّا يكون فيه دخل القصد المنشيء وارادته بل شغله ابداً ابراز الطلب النفساني؛ نظير ايجاد اللون في العين الخارجية؛ فانه في المحل المتصف بالبياض مثلاً احداث الحمرة وفي المحل المتصف بها تشديد لها، ونظير ايراد الماء في الحوض، فانه في الحوض الخالى ايراد الماء واحداثه، وفي المشغول تكثير الماء، مع ان الفعل الاختياري للفاعل في كليهما واحد وهذا في الوضوح بمكان يستغنى عن البيان. وقد حكى الاستاذ دام علاه عن شيخه الاستاذ «طاب ثراه» تقرير ذلك في درسه ورجوعه عما في الكفاية؛ فيكون مقتضى القاعدة على هذا هو التداخل في المسبب.

ص: 320

المجلّد 2

الاشاره

مع تعليقات

للمؤلف المؤسس (قدّس سرّه)

وتعليقات نافعة

لحضرة الشيخ محمَّد علي الاراكي (مدّ ظلّه)

مع رسالة له " حفظه اللّه "

في الاجتهاد والتقليد

الجزء الثاني

ص: 321

ص: 322

بسم اللّه الرحمن الرحيم

في بيان أقسام المكلف الملتفت الى الحكم الشرعي

اعلم ان من وضع عليه قلم التكليف اذا التفت الى الحكم الشرعي فاما يكون قاطعاً به اولا، وعلى الثاني اما ان يكون له طريق منصوب من قبل الشارع اولا، وعلى الثاني اما ان يكون له حالة سابقة ملحوظة اولا، وعلى الثاني الشك في حقيقة التكليف واما يكون الشك في متعلقه، وعلى الثاني اما يتمكن من الاحتياط واما لا يتمكن منه، فالقاطع ومن له طريق معتبر الى الواقع يتبع ما عنده من القطع او الطريق، والشاك ان لوحظت حالته السابقة فهو مورد الاستصحاب والا فان شك في حقيقة التكليف فهو مورد البرائة، وان شك في متعلقه وكان قادراً على الاحتياط فهو مورد الاشتغال، وان لم يكن قادراً على الاحتياط فهو مورد التخيير.

وهم و دفع قد يتوهم عدم صحة ما ذكرنا من جهة ان المقسم في هذه المذكورات هو من وضع عليه قلم التكليف، وهو اعم من المجتهد والمقلد مع ان احكام بعض الاقسام مختصة بالمجتهد كالقواعد المقررة للشاك

فان قلت :لا يصح القول باختصاص الاحكام المقررة للشاك بالمجتهد للزوم عدم جواز رجوع المقلد اليه فيا استفاده منها، فان الاحكام المختصة بالمجتهد لا يجوز للمقلد العمل بها كوجوب التصرف في مال الايتام والغيب وفصل الخصومة وامثال ذلك مما يختصّ بالمجتهد.

قلت: لا ينافي اختصاص القواعد المقررة للشاك بالمجتهد رجوع المقلد اليه في الاحكام المستفادة من تلك القواعد مثلاً المخاطب بقول الشارع : لا تنقض اليقين بالشك وان كان هو المجتهد ولكن الحكم الذي يبنى على بقائه هو الحكم الاولى

ص: 323

المشترك بينه وبين المقلد فالافتاء به عبارة عن حكمه بوجوب العمل على طبق الحالة السابقة على كل احد بخلاف الاحكام الواقعية المختصة بالمجتهد لعدم استنباط المجتهد منها حكماً آخر يشترك فيه المقلد بل هذه الاحكام احكام واقعية تعلقت بفعل المجتهد خاصة هذا.

عدم اختصاص مجاري الاصول بالمجتهد

و يدفع اصل الاشكال بعدم اختصاص الاحكام الثانوية بالمجتهد بل حالها حال الاحكام الاولية في اشتراكها بين المقلد والمجتهد من دون تفاوت اصلا، لعدم التقييد في ادلة الاحكام الظاهرية وعدم الدليل من الخارج يدل على هذا الاختصاص الا توهم عدم قدرة المقلد على العمل بالخبر الواحد وعلى الفحص اللازم في العمل بالاصول، ويدفعه ان العمل بالخبر الواحد ليس الا الاتيان بالفعل الخارجي الذي دل الخبر على وجوبه، ومن الواضحات عدم خصوصية المجتهد فيه نعم الذي يختص بالمجتهد ولا يقدر عليه المقلد هو الاستظهار من الدليل والاستنباط منه ان الواجب كذا وهذا غير العمل بمدلوله، والاخذ بالاحكام المتعلقة بالشك ليس مشروطاً بعنوان الفحص عن الادلة حتى يقال ان المقلد لا يقدر عليه، بل الحكم متعلق بالشك الذي ليس في مورده دليل واقعاً، والفحص انما يكون لاحراز ذلك، فيكون نظر المجتهد في تعيين مدلول الدليل وانه ليس له معارض وفي احراز عدم وجود الدليل في مورد الشك متبعاً للمقلد هذا.

اذا عرفت ما ذكرنا من اقسام المكلف واحكام كل منها على سبيل الاجمال، فلنشرع في تفصيل كل من المذكورات في ضمن مباحث:

ص: 324

المبحث الأوّل في القطع

في حجّية القطع و أنها نفسي

و ينبغي التكلم في ثلاثة مقامات:

الأول: ان القطع هل يحتاج في حجيته الى جعل الشارع كما ان الظن كذلك اولا ؟

الثاني: انه هل يمكن عقلاً النهي عن العمل به اولا؟ الثالث: انه هل يقبل تعلق أمر المولى به ام لا؟

اما الكلام في المقام الأوّل:

فنقول : الحق عدم احتياجه الى الجعل فانه لو قلنا باحتياجه اليه لزم التسلسل، لان الامر بمتابعة هذا القطع لا يوجب التنجز بوجوده الواقعي، بل لابد فيه من العلم، وهذا العلم ايضاً كالسابق يحتاج في التنجيز الى الامر، وهكذا، مضافاً الى انه لو فرضنا امكان التسلسل لا يمكن تنجيز القطع لعدم الانتهاء الى ما لا يكون محتاجاً الى الجعل، وهذا واضح.

هل يمكن النهي عن العمل بالقطع ؟

و اما المقام الثاني:

فقد يقال في وجه عدم قابليته للمنع ان المنع عن العمل بالقطع يوجب التناقض، فان من علم بكون هذا خمراً وكون الخمر محرمة يحصل له من ضم هذه الصغرى الوجدانية الى تلك الكبرى المقطوع بها العلم بكون هذا حراما، فيرى تكليف المولى ونهيه عن ارتكاب هذا المايع من دون سترة ولا حجاب، فلو قال لا تعمل بهذا العلم رجع قوله الى الاذن في ارتكاب الخمر بنظر القاطع، وهو التناقض.

ص: 325

و اورد على اصل الدعوى نقضاً بورود النهى عن العمل بالظن القياسي حتى في حال الانسداد، فاذا جاز النهي عن العمل بالظن عند الانسداد جاز النهي عن العمل بالعلم لان الظن في تلك الحالة كالعلم.

و اجاب عن هذا الاشكال شيخنا الاستاذ «دام بقاؤه»، «بان القياس بالظن القياسي ليس في محله، لانّ العالم يرى الحكم الواقعي من غير سترة ولا حجاب، فالمنع من اتباعه راجع الى ترخيص فعل ما يقطع بحرمته او منع فعل ما يقطع بوجوبه، فكيف يمكن ان يذعن به مع الاذعان بضده ونقيضه من الحكم المقطوع به في مرتبة واحدة وهي مرتبة الحكم الواقعي، لانكشاف الواقع بحاقه من دون سترة موجبة لمرتبة اخرى غير تلك المرتبة ليكون الحكم فيها حكماً ظاهرياً لا ينافي ما في المرتبة الاخرى، بخلاف الظن القياسي فان النهي عنه في صورة الانسداد اذا صح ببعض الوجوه الآتية لا يكون الا حكماً ظاهرياً لا ينافي الحكم الواقعي لو خالفه كما اذا اصابه ووافقه» هذا ما افاده دام بقاؤه من الجواب(1).

اقول : و هذا لا يستقيم على ما ذهب اليه (2) من منافاة الحكمين الفعليين اللذين تعلقا بموضوع واحد خارجي، سواء كانا واقعيين ام ظاهريين ام مختلفين(3)، وحصر دفع التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري بجعل الواقعي

ص: 326


1- تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم (قدّس سرُّهما) ص٤.
2- تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم (قدّس سرُّهما) ص ٣٥.
3- هذا بناء على ما اجاب به في حاشيته على الرسائل، ولكن عثرت بعد ذلك على كلام له «قدّس سرُّه» في الكفاية، أورد فيه على نفسه عين ما أوردناه في المتن، ثم أجاب عنه بقوله : «قلت يمكن ان يكون الحكم فعلياً، بمعنى انه لو تعلق به القطع على ما هو عليه من الحال لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلف برفع جهله لو امكن او يجعل لزوم الاحتياط عليه فيما امكن بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية اليه تارة والى ضده أخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله اوضده، كما لا يخفى». ومقصوده «قدّس سرُّه» من ترتب التنجز على العلم بهذه المرتبة من الحكم انما هو بعد البلوغ الى الفعلية من جميع الجهات، بمعنى ان العلم بالفعلية من بعض الجهات منشأ لصيرورته فعلياً من تمام الجهات شرعاً، ثم يترتب عليه التنجز بحكم العقل. و على هذا يرد عليه أن تأثير العلم في فعلية الحكم شرعي، فللشارع التصرف فيه من حيث السبب وغيره نفياً او اثباتاً «منه، قدّس سرُّه».

انشائياً والظاهري فعليا، وتوضيح الاشكال على هذا المبنى انه لا ينبغي الفرق بين القطع وبين الظن بل العمدة ملاحظة المقطوع والمظنون، فان تعلق كل منهما بالحكم الفعلي فلا يعقل المنع، اما في حال القطع فواضح، واما في حال الظن فلان المنع عن العمل بالظن يوجب القطع بعدم فعلية الحكم الواقعي لو كان على خلاف الحكم الظاهري، وهذا ينافي الظن بالحكم الواقعي الفعلي كما هو المفروض، وهذا واضح، واما ان تعلق كل منهما بالحكم الانشائي فلا مانع من الحكم على الخلاف ولا يتفاوت ايضاً بين العلم والظن هذا.

و اما على ما قلنا في دفع المنافاة بين الحكم الواقعي والظاهري : من اختلاف رتبتيهما فيرد اشكال آخر على اصل الدعوى؛ بانه كما يتأخر رتبة الشك والظن بالحكم عن نفس الحكم كذلك رتبة العلم به، لانه ايضاً من العناوين المتأخرة عن الحكم، فكما انه لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في موضوع الشك والظن لاختلاف رتبتيهما كذلك لا ينافي جعل حكم مخالف للواقع في مورد القطع لعين ما ذكر.

ويمكن ان يجاب على هذا المبنى بان العلم بالتكليف موجب لتحقق عنوان الاطاعة والمخالفة، والاول علة تامة للحسن كما ان الثاني علة تامة للقبح، وهما كعنواني الاحسان والظلم، فكما انه لا يجوز المنع عن الاحسان والامر بالظلم عقلاً كذلك لا يجوز المنع عن الاطاعة والامر بالمعصية والمخالفة، ولا فرق ع_ن_د العقل في تحقق هذين العنوانين بين اسباب القطع، بخلاف الظن بالتكليف

ص: 327

فاز بعد لم يصل الى حد يصلح لان يبعث المكلف الى الفعل، لوجود الحجاب بينه وبين الواقع، فلم يتحقق عنوان المخالفة والاطاعة (1) نعم لو حكم العقل بوجوب الاتيان بالمظنون من جهة الاحتياط وادراك الواقع كما في حال الانسداد فعدم الاتيان به على تقدير اصابة الظن للواقع في حكم المعصية، لكن لا اشكال في ان هذا الحكم من العقل ليس الاعلى وجه التعليق بمعنى كونه

ص: 328


1- و ببيان آخر: القطع والظن والشك كلها مشتركة في انها عوارض لاحقة للحكم، ولا يمكن لحاظها في موضوعه، فالموضوع للحرمة مثلاً ذات الخمر المعراة عن الاوصاف المذكورة، لكن يمكن للشارع تعليق الحكم بملاحظة هذه التعرية في الوصفين، لعدم لزوم المحذور، ولا يمكنه هذه الملاحظة في القطع، للزوم المحذور، ولا نعنى بملاحظة التعرية في الاولين دخالتها بنحو التقييد، حتى يكون الموضوع هو الخمر المعراة، بل المراد ان لهذه الكيفية من ملاحظة الخمر وهي كيفية عرائها عن الوصفين في ذهن اللاحظ مدخلية في ترتب حكمه، الا ترى ان التعرية عن الخصوصيات شرط في عروض وصف الكلية على الطبيعي، وليس معناه ان الموضوع هو الانسان المعرى، كيف وهو مبائن مع الخارجيات، بل بمعنى انه اذا لا حظناه بهذه الكيفية وهي عرائه عن الخصوصيات تعرضه الكلية، واذا لاحظناه لا بتلك الكيفية لا تعرضه، وسيجيء مزيد توضيح لذلك في محله ان شاء اللّه تعالى. و حينئذ فتقول: حيث صح التعرية في الوصفين صح مجيء الحكم المخالف في موردهما، وحيث لم يصح في العلم لم يصح واما وجه عدم الصحة في العلم فهو ان التكليف علة لتحقق المتعلق كالعلة التكوينية، لكنه علة تشريعية تحتاج الى مساعدة جوارح المكلف، وذلك انما يكون بعد العلم، فلو منع عن تاثيره في هذا الحال كان منافياً لوضع التكليف، وان شئت قلت: العلم بالحكم من غير فرق بين اسبابه وانحائه موضوع لوجوب الامتثال، ودخالة الشارع في الحكم في هذه المرتبة راجعة الى دخالته في هذا الحكم العقلي يرفعه عن موضوعه بعد تحققه، والحال انه غير قابل لذلك، وهذا بخلاف الشك والظن، فانه إما لا حكم للعقل في موردهما، كما في الشبهة البدوية بعد الفحص وإما له حكم لكن ليس من باب وجوب الامتثال اذ ليس المحرك نفس الحكم، كيف وهو مشكوك، بل من باب وجوب الاحتياط ودفع الضرر المحتمل، فلا يكون لحاظ التعرية عنهما منافياً مع وضع التكليف وعليته، ويكون رافعاً لهذا الحكم العقلي برفع موضوعه «منه: قدّس سرُّه».

معلقاً على عدم منع الشارع عن العمل بذلك الظن لا على وجه التنجيز كالاتيان بالمعلوم، ومن ثم لو حكم الشارع بترك العمل بالظن في حال الانسداد لا ينافي حكم العقل.

و محصل ما ذكرنا من الوجه ان المخالفة لكونها قبيحة بقول مطلق لا تقبل الترخيص، والاطاعة لكونها حسنة كذلك لا تقبل المنع، لا ان المنع عن العمل بالعلم مستلزم للتناقض حتى يرد عليه ما ذكرنا من الاشكال.

هل يجوز ايجاب العمل بالقطع شرعاً ؟

اما المقام الثالث:

اعنى قابلية العمل بالعلم اعنى الاطاعة لورود التكليف الشرعي المولوي عليه وعدمها فقد قيل في وجه عدم القابلية امور.

منها لزوم التسلسل لو تعلق الأمر المولوى بالاطاعة، لان الامر بالطاعة لو كان مولوياً يحقق عنوان اطاعة اخرى فيتعلق الامر به لكونها اطاعة، وهذا الامر ايضاً يحقق عنوان الاطاعة فيتعلق الأمر به، وهكذا.

و منها اللغوية، لان الامر المولوي ليس الا من جهة دعوة المكلف الى الفعل وهي موجودة هنا فلا يحتاج اليه.

و منها ان الاطاعة عبارة عن الاتيان بالفعل بداعي امره، فلا يعقل ان يكون الامر بها داعياً اليها والا لزم عدم تحقق موضوع الاطاعة، ويستحيل ان يصير الأمر المتعلق بعنوان داعياً الى ايجاد غير ذلك العنوان هذا.

و كلها مخدوشة اما الاول فلانه لا يوجد من الآمر الا انشاء امر واحد متعلق بطبيعة الاطاعة، والقضية الطبيعية تشمل الافراد المتحققة بها، فلا بأس بانحلال الامر المتعلق بالطبيعة الواحدة الى اوامر غير متناهية، لانتهائها الى ايجاد واحد، مضافاً الى انقطاع هذه الاوامر باتيان المكلف فعلاً واحداً، وهو ما امر به اولا، او انقضاء زمان ذلك الفعل.

و اما الثاني فلانه يكفي في الخروج من اللغوية تاكيد داعي المكلف، لانه من الممكن ان لا ينبعث بامر واحد ولكنه لو تعدد وتضاعفت الآثار ينبعث

ص: 329

نحو الفعل.

و اما الثالث فلان اتيان الفعل ابتداء بداعي الامر بالاطاعة ليس اطاعة للامر المتعلق به، ولكن اتيانه بداعي الامر المتعلق به بداعي الامر بالاطاعة بحيث يكون الامر بالاطاعة داعياً الى ايجاد الداعي لا يضر بصدق الاطاعة، ولا يكون الامر المتعلق به مولويا كما لا يخفى.

و الاولى ان يقال في وجه المنع ان الارادة المولوية المتعلقة بعنوان من العناوين يعتبر فيها ان تكون صالحة لان تؤثر في نفس المكلف مستقلاً، لان حقيقتها البعث الى الفعل، وبعبارة اخرى هي ايجاد للفعل اعتباراً وبالعناية، والامر المتعلق بالاطاعة مما لا يصلح لان يؤثر في نفس المكلف مستقلاً، لانه لا يخلو من امرين اما ان يؤثر فيه امر المولى اولا؟، فعلى الاول يكفيه الأمر المتعلق بالفعل وهو المؤثر لا غير، لانه اسبق رتبة من الامر المتعلق بالاطاعة، وعلى الثاني لا يؤثر الأمر المتعلق بالاطاعة فيه استقلالا لانه من مصاديق امر المولى وقد قلنا ان من شان امر المولى امكان تأثيره في نفس العبد على وجه الاستقلال.

هذا كله في القطع المتعلّق بالحكم الواقعي الذي يكون طريقاً محضاً اليه.

في أقسام القطع الموضوعي

و اما القطع الماخوذ في موضوع الحكم فلا اشكال في امكان تقييده بحصوله من سبب خاص، كما لا اشكال في امكان اعتباره على وجه الاطلاق فيتبع دلیل اعتباره.

ثم اعلم ان القطع المأخوذ في الموضوع يتصور على اقسام: احدها ان يكون تمام الموضوع للحكم، والثاني ان يكون جزءاً للموضوع بمعنى ان الموضوع المتعلق للحكم هو الشيء مع كونه مقطوعاً به، وعلى اى حال اما ان يكون القطع المأخوذ في الموضوع ملحوظاً على انه صفة خاصة، واما ان يكون ملحوظاً على انه طريق الى متعلقه والمراد من كونه ملحوظا على انه صفة خاصة ملاحظته من

ص: 330

حيث انه كشف تام، ومن كونه ملحوظا على انه طريق ملاحظته من حيث انه احد مصاديق الطريق المعتبر، وبعبارة أخرى ملاحظة الجامع بين القطع وسائر الطرق المعتبرة (1)، فعلى هذا يصح ان يقال في الثمرة بينهما: انه على الاول لا يقوم ساير الامارات والاصول مقامه بواسطة الادلة العامة لحجيتها، اما غير الاستصحاب من الاصول، فواضح واما الاستصحاب وسائر الامارات المعتبرة فلانها بواسطة ادلة اعتبارها توجب اثبات الواقع تعبداً، ولا يكفى مجرد الواقع في ما نحن فيه، لان للقطع بمعنى الكشف التام دخلا في الحكم، اما لكونه تمام الملاك، واما لكونه مما يتم به الموضوع وعلى الثاني فقيام الامارات المعتبرة وكذا مثل الاستصحاب لكونه ناظراً الى الواقع في الجملة مقامه مما لا مانع منه، لانه فيما يكون القطع على هذا المعنى تمام الموضوع ففي صورة قيام أحدى الامارات او الاستصحاب يتحقق مصداق ما هو الموضوع حقيقة، وفيما يكون المعتبر هو الواقع المقطوع فالواقع يتحقق بدليل الحجية تعبداً والجزء الآخر وجداناً، لان المفروض عدم ملاحظة القطع في الموضوع من حيث كونه كاشفاً تاما، بل من حيث انه طريق معتبر، وقد تحقق مصداقه قطعاً.

قيام الأمارات و الاصول مقام القطع

فان قلت: لو لم يكن العنوان الواقعي موضوعا للحكم كما هو المفروض فالامارات القائمة عليه لا يشملها دليل الحجية حتى تصير مصداقاً للطريق المعتبر، لان معنى حجيتها فرض مداليلها واقعة وترتيب آثار الواقع عليها، والمفروض في المقام ان ما تعلق به الامارة ليس له اثر واقعي بل الاثر مترتب

ص: 331


1- و الجامع بينهما عبارة عن مطلق ثبوت الشيء بحيث صح حمل احكامه عليه بلا توسيط واسطة، فكما يقال في صورة القطع بخمرية مايع هذا خمر، وكل خمر حرام، بالغاء صفة القطع عن الوساطة، كذلك في صورة قيام غيره من سائر الحجج المعتبرة، فيقال: هذا خمر لا شيء قام على خمريته الحجة المعتبرة، والمراد من قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي على وجه الطريقية انما هو بملاحظة هذا الاثر، أعني إثبات الواقع فاذا تحقق هذا الجزء وهو الواقع بدليل التنزيل تحقق الجزء الآخر، وهو الطريق، وجدانا «منه، قدّس سرُّه».

على العلم ان كان تمام الموضوع، والواقع المعلوم ان كان قيده.

قلت: اما فيما كان العلم تمام الموضوع لو لم يكن لمتعلقه اثر اصلا فما ذكرته حق لا محيص عنه، لكن نقول بقيام الامارات فيما لو كان للمتعلق اثر آخر غير مارتب على العلم، مثل ان يكون الخمر موضوعاً للحرمة واقعا وما علم بخمريته موضوعا للنجاسة مثلاً، فحينئذ يمكن احراز الخمر تعبداً بقيام البينة لكونها ذات اثر شرعي، وبعد قيام البيئة يترتب عليها ذلك الحكم الآخر الذي رتب على العلم من حيث انه طريق لتحقق موضوعه قطعاً، واما فيما كان العلم قيداً للموضوع فيكفي في اثبات الجزء الآخر كونه ذا اثر تعلق بمعنى انه لو انضم الى الباقي يترتب عليه الاثر الشرعي، وكم له من نظير، فان اثبات بعض اجزاء الموضوع بالاصل او بالامارة والباقي بالوجدان غير عزيز.

و مما قررنا يظهر لك الجواب عن الاشكال الذي اورده شيخنا الاستاذ «دام بقاءه» في هذا المقام على شيخنا المرتضى «طاب ثراه» بما حاصله(1) ان قيام الامارات او بعض الاصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع جزء على وجه الطريقية بمجرد الادلة العامة الدالة على حجيتها يوجب الجمع بين اللحاظين لحاظ الموضوعية ولحاظ الطريقية، لان الملحوظ في التنزيل ان كان نفس الظن والعلم بمعنى ان الجاعل لاحظ الظن ونزله منزلة العلم في الآثار فاللازم من هذا الجعل ترتيب آثار العلم على الظن ولا يلزم منه ترتيب آثار الواقع على المظنون، وان كان الملحوظ متعلقهما بمعنى ان الجاعل لاحظ العلم والظن مرآة للمتعلق فاللازم ترتيب آثار الواقع على متعلق الظن، ولا يجوز على هذا ترتيب آثار العلم على الظن، وعلى أي حال فلو تعلق الحكم بالخمر المعلومة مثلاً فدليل حجية الامارة او الاستصحاب المنزل للشك بمنزلة العلم يتصدى لتنزيل احد الجزئين للموضوع، لان الجاعل لواراد التنزيل في كليهما لزم ان يجمع بين لحاظ العلم

ص: 332


1- تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الاعظم «قدّس سرُّهما» ص 7.

والظن في الامارة او العلم والشك في الاستصحاب ط_ريق_اً وموضوعاً، وهو مستحيل.

و حاصل الجواب انه بعد ما فرضنا اعتبار العلم طريقاً بالمعنى الذي سبق فادلة حجية الامارة او الاستصحاب وان لم تتعرض الا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع تكفي في قيام كل منهما مقام العلم، لاحراز الموضوع المقيد بعضه بالتعبد وبعضه بالوجدان، كما عرفت

ثم أنه (1) قد يتفضى عن الاشكال بوجه آخر وهو أنه بعد ثبوت الخمر مثلاً

ص: 333


1- كانت عبارة المتن السابقة من هنا الى اول بحث التجرى كمايلي: ثم انه «دام بقائه» تفصى عن هذا الاشكال «بانه بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع، فالواقع التعبدي معلوم مثلاً لو ورد دليل على حرمة الخمر المعلومة وقامت البينة على ان هذا خمر نعلم بواسطة دليل حجية البيئة بان هذا خمر تعبدا، فيتحقق هذا الموضوع بواسطة دليل الحجية والوجدان، فدليل الحجية يوجب ثبوت الخمر تعبداً، والعلم بان هذا خمر تعبداً وجداني». و فيه ان أخذ بعض اجزاء الموضوع تعبداً وبعضها وجداناً انما يكون فيما اذا كان الجزء الوجداني مما اعتبر في الدليل الاول كما اذا ترتب الحكم على الماء الكر الطاهر فنقول : كون هذا ماء وجداني وكونه كراً وطاهراً مثلاً يتحقق بالاصل واما في مقامنا هذا فالجزء الوجداني ليس مما اخذ في الدليل الاول لان الموضوع فيه هو العلم بالخمر الواقعية لا الاعم منها ومن التعبدية حتى يتحقق هذا الجزء بالوجدان، فلابد في ترتيب اثر العلم بالخمر الواقعية على العلم بالخمر التعبدية من تنزيل آخر. فان قلت: ان الحكم في الموضوعات المقيدة انما رتب على المقيد من حيث انه مقيد، ولا شك في ان مجرد اثبات احد الجزئين بالاصل والآخر بالوجدان لا يوجب اثبات المقيد، فلا محيص عن ذلك الا ان تلتزم بان المقيد بالقيد التعبدى بمنزلة المقيد بالقيد الواقعي، فهنا نقول ايضاً: يكفي في ترتب الحكم العلم بالخمر التعبدية. قلت: الحكم المرتب على الماء الكر ليس مرتباً على المقيد اعنى العنوان البسيط، بل الموضوع هو منشأ انتزاع ذلك العنوان اعنى الماء حال كونه كراً، ولو سلمنا كون الموضوع هو البسيط. فنقول انه من الوسائط الخفية التي لا يريها العرف واسطة، ولاجل احد هذين الوجهين نقول: يكفى في ترتب الحكم ثبوت جزء بالوجدان والباقى بالاصل، وهذا لايتم في الخمر المعلومة، لان كون هذا المائع خمراً في الواقع لا يستلزم كون العلم المتعلق به هو العلم بكونه خمراً، كما ان العلم بكونه خمراً لا يستلزم كونه خمرا في الواقع وبعبارة اخرى؛ مجرد تعلق علم بهذا المائع وكونه خمرا في الواقع لا يكون منشأ لانتزاع الخمر المعلومة بخلاف كون هذا الماء كراً فتدبر.. تعليقة المحقق الخراساني «قدّس سرُّه» ص 7.

بالامارة تعبداً فالعلم بانه حمر تعبداً يعامل. معه معاملة العلم بالخمر الواقعي، ألا ترى أنه بعد اثبات الخمرية لمايع بالأمارة او بالاستصحاب نحكم بان شربه شرب الخمر، فكما لا إشكال في اثبات شرب الخمر في المثال فلابد ان لا يستشكل في ثبوت العلم بالخمرية فيما نحن فيه.

قلت: بين المثال وما نحن فيه فرق وهو انا متى اثبتنا قيداً كالخمرية لمحل بأصل او أمارة فقتضاه إثبات كل اثر كان لذلك القيد لذلك المحل، وعلى هذا فنقول : اثر الخمر الواقعي أن شربه حرام، فاذا ثبت الخمرية تعبداً لمايع كان أثره ان شربه حرام كشرب الخمر، وهذا المعنى لا يجيء فيما نحن فيه، فانه لا يمكن ان يقال: إن اثر الخمر الواقعي أن العلم به موجب للحرمة، بل الموضوع هو العلم بعنوان الخمرية، وحيث لا ملازمة بين خمرية الشيء واقعاً وكون العلم به علما بالخمر فلا يكفى الامارة القائمة على الخمرية في اثبات العلم بها.

في مبحث التجري

ثم انك قد عرفت مما سبق عدم تجويز العقل الاقدام على مخالفة القطع المتعلق بالتكليف، فلو اقدم على ذلك وصادف قطعه الواقع فلا شبهة في استحقاقه العقوبة، واما لو لم يصادف فوقع النزاع والاختلاف بين العلماء «قدّس سرُّهم» في حكمه.

ص: 334

في أنّ جهة المبحوث عنها في التجري تارةً كلامية وأخرى فقهية وثالثة أصوليّة

و تحقيق المبحث ان يقال : ان النزاع يمكن ان يقع في استحقاق العقوبة وعدمه؛ فيكون راجعاً الى النزاع في المسألة الكلامية، ويمكن ان يقع النزاع في ان ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح ام لا؟ فيكون المسألة من المسائل الاصولية التى يستدل بها على الحكم الشرعي، ويمكن ان يكون النزاع في كون هذا الفعل اعنى ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا، فتكون من المسائل الفقهية.

فان كان النزاع في الاخير فالحق عدم اتصاف الفعل المذكور اعنى ما قطع بحرمته بالحرمة الشرعية، توضيح ذلك : ان شرب الماء المقطوع خمريته في الخارج ينتزع منه عناوين منها شرب الماء، ومنها شرب مقطوع الخمرية، ومنها شرب مقطوع الحرمة، ومنها شرب المايع، ومنها التجرى، ولا اشكال في عدم كون الاخير منها اختياريا للفاعل فانه لم يكن محتملاً لخطأ اعتقاده، فلم يقدم على هذا العنوان عن التفات، وهكذا الاول منها، وباقى العناوين وان كان اختيارياً للفاعل، ضرورة ان مجرد كون الفرد الصادر عنه غير الفرد المقصود مع اشتراكهما في الجامع لا يخرج الجامع عن كونه اختيارياً، الا انه من المعلوم عدم النزاع في شيء من تلك العناوين غير عنوان مقطوع الحرمة، وقد عرفت مما مضى عدم قابلية هذا العنوان للحكم المولوى، فان هذا الحكم نظير الحكم بحرمة المعصية و وجوب الاطاعة هذا.

واما ما يظهر من كلام شيخنا الاستاذ (دام ظله) من ان الفعل المتجرى به لا يكون اختيارياً اصلاً حتى بملاحظة العام الشامل للفرد المقصود وغيره فلعله من سهو القلم.

قال «دام ظله» في طى استدلاله على عدم كون التجرى حراماً شرعاً ما لفظه:(1) مع ان الفعل المتجرى به او المنقاد به بما هو مقطوع الوجوب او الحرمة لا يكون اختيارياً، كي يتوجه اليه خطاب تحريم او ايجاب، اذ القاطع لا يقصده

ص: 335


1- تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الشيخ الأعظم «قدّس سرُّهما» ص12.

الا بما قطع انه عليه من العنوان الواقعي الاستقلالي، لا بهذا العنوان الطارى الآلى، بل لا يكون اختيارياً اصلاً اذا كان التجرى او الانقياد بمخالفة القطع بمصداق الواجب او الحرام او موافقته فمن شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده وما صدر منه لم يقصده، بل ولم يخطر بباله، لا يقال: ان ما صدر منه لا محالة يندرج تحت عام يكون تحته ما قصده، فيسرى اليه قصده، مثل شرب المايع في المثال، فانه يقال : كلا كيف يصير العام المتحقق في ضمن خاص مقصوداً واختيارياً بمجرد قصد خاص آخر قصد بخصوصيته ؟ نعم لو عمد الى خاص تبعاً للعام وصادف غيره من افراده لم يخرج عن اختياره، بما هو متحد مع ذلك العام، وان كان بخارج عنه بما هو ذلك الخاص «انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقائه».

اقول : لا شك في ان كل عنوان يكون ملتفتاً اليه حال ايجاده وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختيارياً، وان لم يكن موردا للغرض الاصلي، مثلا لو شرب الخمر مع العلم بكونها خمراً، لا لانها خمر بل لانها مايع بارد، يصح ان يعاقب عليه لانه شرب الخمر اختياراً، وان لم يكن كونها خمراً داعياً ومحركاً له على الشرب، لانه يكفى في كون شرب الخمر اختيارياً صلاحية كون الخمرية رادعة له وكونه قادراً على تركه ونظير هذا محقق فيما نحن فيه بالنسبة الى الجامع، فان من شرب مايعاً باعتقاد انه خمر يعلم بان هذا مصداق لشرب المايع ويقدر على تركه، فكيف يحكم بعدم كون شرب المايع اختيارياً له، فان خص العنوان الموجود اختياراً بما كان محطاً للارادة الاصلية للفاعل فاللازم ان يحكم في المثال الذي ذكرنا بعدم كون شرب الخمر اختيارياً، لعدم تعلق الارادة الاصلية بعنوان الخمر كما هو المفروض، ولا اظن احداً يلتزم به، وان اكتفى في كون العنوان اختيارياً بمجرد كونه معلوماً وملتفتاً اليه حين الايجاد، بحيث يصلح لان يكون رادعاً له، فحكمه بعدم كون الجامع فيها نحن فيه اعنى شرب المايع اختيارياً لا وجه له، وكيف كان فالحكم بعدم اختيارية العناوين المنطبقة على الفعل المتجرى به باسرها حتى الجامع لما هو واقع وما هو مقصود مما لا ارى له وجهاً.

ص: 336

فالاولى ما قلنا في المقام و محصله ان العناوين المتحققة مع الفعل المتجزى به بين ما لا يكون اختيارياً، وبين ما لا شبهة في عدم تحريمه، وبين ما لا يكون قابلاً لورود النهي المولوى عليه.

هذا على تقدير جعل النزاع في الحرمة الشرعية.

و اما لو كان مجرى النزاع كون الفعل المتجرى ب_ه قبيحاً او لا؟ فالذي يقوى في النظر عدم كونه قبيحاً اصلاً، فانا اذا راجعنا وجداننا لم نر شرب الماء المقطوع خمريته الا على ما كان عليه واقعاً قبل طرو عنوان القطع المذكور عليه، والذي اوقع مدعي قبح الفعل في الشبهة كون الفعل المذكور في بعض الاحيان متحداً مع بعض العناوين القبيحة كهتك حرمة المولى والاستخفاف بامره تعالى شانه وامثال ذلك مما لا شبهة في قبحه وانت خبير بان اتحاد الفعل المتجرى به مع تلك العناوين ليس دائمياً، لانا نفرض الكلام فيمن اقدم على مقطوع الحرمة، لا مستخفا بامر المولى ولا جاحداً لم_ول_ويته، بل غلبت عليه شقوته كاقدام فساق المسلمين على المعصية ولا اشكال في ان نفس الفعل المتجرى به مع عدم اتحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه اصلاً.

و من هنا يظهر الكلام على تقدير جعل النزاع في استحقاق العقوبة، وانه لا وجه لاستحقاق الفاعل من حيث انه فاعل لهذا الفعل الخارجي العقوبة بعد عدم كونه محرماً ولا قبيحاً عقلاً.

نعم قد يقال : باتصاف بعض الافعال الموجوده في النفس مما هو موجب

لتحريك الفاعل نحو الفعل بالقبح، وبسببه يستحق موجده العقوبة، بيان ذلك : ان الفعل الاختياري لابد له من مقدمات في النفس بعضها غير اختيارية، من قبيل تصور الفعل وغايته والميل اليه وبعضها اختيارية؛ من قبيل الارادة، فما كان من قبيل الاول لا يتصف بحسن ولا قبح، ولا يستحق الشخص المتصف به مثوبة ولا عقوبة ضرورة ان ما ذكر منوط بالافعال الاختيارية وما كان منها من قبيل الثاني يتصف في محل الكلام بالقبح، كما انه في الانقياد يتصف

ص: 337

بالحسن، ويستحق الموجد له في النفس العقوبة، فيما نحن فيه، كما يستحق المثوبة في الانقياد والحاصل ان نفس العزم على المعصية قبيح وان لم يترتب عليه المعصية، نعم لو انجر الى المعصية يكون اشد قبحاً.

فان قلت كيف يمكن ان تكون الارادة اختيارية، والمعتبر في اختيارية الشيء ء ان يكون مسبوقاً بها، فلو التزمنا في الارادة كونها اختيارية لزم التسلسل.

قلت: انما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الارادة في الارادة، ولا نقول به، بل ندعى انها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلق اعنى المراد، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها، فيكفي في تحققها احد الامرين، وما كان من قبيل الاول لا يحتاج الى ارادة اخرى وما كان من قبيل الثاني حاله حال ساير الافعال التي يقصدها الفاعل بملاحظة الجهة الموجودة فيها، ولازم ما ذكرنا انه قد يقع التزاحم بين الجهة الموجودة في المتعلق والموجودة في الارادة، فحينئذ ترجيح احدى الجهتين يستند الى ارادة اخرى، فلو فرضنا كون الفعل مشتملاً على نفع ملائم لطبع الفاعل وكون ارادته مشتملة على ضرر يخالف طبعه فترجيح ارادة الفعل انما هو بعد ملاحظة مجموع الجهتين والاقدام على الضرر المترتب على تلك الارادة ولا نعنى بالفعل الاختياري الا هذا.

و الدليل على ان الارادة قد تتحقق لمصلحة في نفسها هو الوجدان، لانا نرى امكان ان يقصد الانسان البقاء في المكان الخاص عشرة ايام بملاحظة ان صحة الصوم والصلاة التامة تتوقف على القصد المذكور، مع العلم بعدم كون هذا الاثر مرتباً على نفس البقاء واقعاً (1) ونظير ذلك غير عزيز فليتدبر في المقام.

ص: 338


1- توضيح ذلك انا كما نقول في قبال الاشعري بان الوجدان شاهد بان حركة اليد مثلاً تصدر باختيار منا، وليست كحركة المرتعش كذلك نقول ههنا بان الوجدان شاهد بان قصد بقاء العشرة متمش هنا في المثال ومانرى من عدم تمشي القصد نحو الفعل الغير المقدور كالطيران فلاجل «ان الارادة علة لايجاد متعلقها» ولهذا قاصد العشرة يبقيه نفس قصده في ذلك المكان مالم يحصل قاسر، فلهذا لابد لها من متعلق مقدور. و ايضاً لو لا اختيارية الارادة كيف يصح الامر بها وقد وقع في الشريعة كما في النية المعتبرة في باب العبادات. ثم لا يخفى انه لو لا اختيارية الارادة كان تعذيب العاصي من جهة بعده الناشيء من خبث ذاته كتعذيب الحمار من جهة كونه حماراً الذي هو قبيح بحكم العقل. لا يقال : ينافي اختياريتها ان الكتاب والسنة قد وقع في غير موضع منهما التحذير عن العصيان الخارجي والترغيب نحو الاطاعة الخارجية، ولم يقع في موضع منهما تحذير وترغيب بالنسبة الى الارادة القلبية، بل ورد أن نية السوء لا تكتب. لانا نقول : بل يمكن الاستشهاد من قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) نية السوء لا تكتب أنها اختيارية، من جهة ورود هذه القضية في مقام المنة نعم حيث لا يمكن نفي القبح عن العصيان الخارجي راساً فيلتزم في مورده باشدية القبح، لاجتماع الملاكين، والعفو المستفاد من قولهم «نية السوء لا تكتب» لا يشمل النية المقرونة بالعصيان فيكون العقاب في مورده اشد كالقبح منه، «قدّس سرُّه».

فان قلت: ان مجرد كون الفعل قبيحاً بحكم العقل لا يوجب استحقاق العقوبة من المولى لان العقوبة تابعة للتكليف المولوى، ولذا قيل: ان التكاليف الشرعية الطاف في التكاليف العقلية، ومعنى هذا الكلام ان الاوامر والنواهي الصادرة من اللّه تعالى توجب زيادة بعث للعباد نحو الفعل والترك، لكونها موجبة للمثوبة والعقوبة، ولو كان حكم العقل بالحسن والقبح كافياً فيهما لما كانت التكاليف الالهية الطافاً، ولا يمكن ان يقال: باستكشاف حكم الشرع هنا بقاعدة الملازمة، لانا نقول : - مضافاً الى منع تلك القاعدة، بناء على عدم كفاية الجهات الموجودة في الفعل للتكليف، اذ قد يكون الفعل حسناً عقلاً ولا يامر به الشارع، او يكون قبيحاً ولا ينهى عنه، لعدم المصلحة في النهى عنه _ إن الملازمة المذكورة انما تنفع فيما يكون قابلاً للتكليف المولوى، وليس المقام كذلك، لان حال النهى المتعلق بارادة المعصية كحال النهي المتعلق بها.

قلت: فرق بين العناوين القبيحة فان منها ما لا يكون لها ارتباط خاص

ص: 339

بالمولى من حيث انه مولى، كالظلم على الغير مثلاً، ومنها ماله ربط خاص به، كالظلم على نفس المولى والخيانة بالنسبة اليه، ففي الاول لو لم يتعلق به النهى المولوى فلا وجه لعقاب المولى، بل هو كاحد العقلاء يجوز له ملامة الفاعل من حيث انه عاقل، واما الثاني فيصح عقوبته من حيث هو مولى له. هذا محصل الكلام في المقام.

و اما استدلالهم على حرمة الفعل المتجرى به وك_ون_ه معصية بالاجماع، فمدفوع، بعدم كشفه عن قول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المسائل العقلية، مضافاً الى مخالفة غير واحد، واما مسألة سلوك الطريق المظنون خطره، فهو وان كان يظهر الاتفاق فيه منهم على كونه عصياناً، الا انه يمكن القول بكون الظن عندهم تمام الموضوع للحرمة الواقعية فيخرج عن محل الكلام.

و اما ما ذكر من الدليل العقلى المعروف، فمحصل الجواب انا نختار ثبوت العقاب على من اصاب دون من اخطأ واما ما اورد على ذلك من لزوم ابتناء العقاب على امر غير اختياري، ففيه ان مدخلية امور غير اختيارية في صحة العقاب مما لا تضر عقلا اذ ما من فعل اختياري الا كان للامور الغير الاختيارية دخل فيه، كتصور الفاعل والميل اليه وانما يمنع العقل من العقاب على ما لا يرجع بالأخرة الى الارادة والاختيار.

و ينبغي التنبيه على أمور:

في العلم الاجمالي، وهل له أثر؟ أو حاله حال الشك ؟

احدها: ان العلم الاجمالى هل له اثر بحكم العقل، او حاله حال الشك البدوى ؟ وعلى الاول فهل يوجب حرمة المخالفة القطعية فقط، او يوجب الموافقة القطعية ايضاً؟ وعلى اتى حال هل يصح للشارع الترخيص في خلاف ما اقتضاه ام لا؟ وبعبارة اخرى هذا الاثر منه هل هو على نحو العلية التامة، بحيث لا يقبل المنع، او على نحو الاقتضاء؟

ص: 340

و ملخص الكلام في المقام انه لا شبهة في ان المقدم على اتيان جميع اطراف الشبهة التحريمية حاله عند العقل حال من اقدم على المحرم المعلوم تفصيلاً (1) واي

ص: 341


1- هذا الكلام بناء على مبنى القوم من فعلية الحكم الواقعي والجمع بينه وبين الظاهري بتعدد الرتبة، واما بناء على ما قدمنا في الحاشية المتقدمة من الجمع بأخذ التجريد في موضوع الواقعي، وكذا بناء على مذاق من يقول بتعدد المرتبة فقد يشكل الحال بانه يجوز على المبنيين ارتكاب كلا الطرفين، وذلك لامكان اخذ التجريد عن الشبهة المقرونة في موضوع الواقعي كالشبهة البدوية بلا فرق وما قلنا في العلم التفصيلي من أن التجريد عنه ينافي وضع التكليف وعليته للمتعلق غير متأت في العلم الاجمالي لان المحرك في العلم الاجمالي ليس نفس التكليف كما في التفصيلي، بل حكم العقل بدفع الضرر، فليس التجريد عن العلم الاجمالي منافياً مع وضع التكليف، وبعد امكانه ثبوتاً فلا يبقى للعلم الاجمالي أثر في شيء من طرفيه وكذا على المبنى الآخر بعد امكان كون الواقع غير فعلي. نعم في صورة الانسداد لا محيص عن التزام تعلق العلم بالحكم الغير المأخوذ فيه التجريد او بالحكم الفعلي، فيترتب عليه آثاره من لزوم الموافقة الظنية عقلاً على تقدير عسر الاحتياط، ومن جعل البدل بايجاب الاحتياط في البقية او في خصوص المظنونات على تقدير عسره شرعاً، ويبقى الاشكال مع فرض عدم الانسداد بحاله. و يمكن دفع الاشكال عن كلا المبنيين: اما على ما قدمناه فهو ان مقتضى ادلة الواقع كون مدلولاتها احكاماً غير مأخوذ فيها التجريد، وكذا على المبنى الآخر كونها احكاماً فعلية بالغة حد التمام بواسطة العلم الاجمالي، وانما يخرج عن مقتضاها بمجيء الحكم المخالف، اذبه يستكشف كون الواقع على احد الوجهين جمعاً بين الحكمين، ومالم يجيء حكم مخالف فلا ضرورة الى رفع اليد عن مقتضى الادلة واسقاط العلم الاجمالي عن التاثير، فان حديث «رفع مالا يعلم»، وأضرابه ليس المستفاد منه بازيد من عدم العقوبة على المجهول من حيث هو مجهول، فلا ينافي مع جعل الشارع الحكم الفعلي في مورد العلم الاجمالي. نعم لا يتمشى ذلك في الاستصحاب والدليل المرخصين، فإن مفادهما ترخيص شرعي فينا في فعلية الواقع على كلا المبنيين، فيجيء الاشكال بانه مع قيام ذلك في احد الاطراف يجوز ارتكاب الطرف الآخر ايضاً، وكذا يجوز قيام المرخص في كلا الطرفين من دون معارضة. ويمكن الجواب بان قيام الدليل المرخص في احد الاطراف لازمه ثبوت الواقع في الطرف الآخر، فيكون كما لو قام من الابتداء على ثبوته في ذاك الطرف، وسيجيء أنه يوجب الانحلال واما الاستصحاب فاثبات هذا اللازم به وان كان غير ممكن لابتنائه على الاصل المثبت، الا انه يمكن منع شمول دليله لمورد العلم الاجمالي، إما لان الشك ليس في الوجود بل في تعيين الموجود، وإما لان المنع في دليل الاستصحاب تعلق بنقض اليقين بالشك، من حيث هو شك، فلا ينافي نقضه باليقين الاجمالي المقرون. معه منه قدّس سرُّه».

فرق بين من شرب الانائين عالماً بان احدهما خمر، وبين من شرب اناء واحداً عالماً بانه خمر، وانكار كون الاول معصية يرده وجدان كل عاقل.

و اما الاقدام على ارتكاب احد الانائين مع عدم قصد الآخر او مع قصد عدمه، فهو وان لم يكن في الوضوح مثل الاول لكن مقتضى التأمل عدم جوازه عند العقل ايضاً، لوجود الحجة على التكليف الواقعي المعلوم، اذ لولاه لجازت المخالفة القطعية، وبعد ثبوت الحجة اشتغلت ذمة المكلف بامتثاله، فلا يجدى له الا القطع بالبرائة الذي لا يحصل الا بترك الاطراف.

و لكن حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية ليس كحكمه بحرمة المخالفة القطعية(1)، اذ الثاني حكم تنجيزى لا يقبل ان يرتفع، لان المخالفة القطعية حالها حال الظلم، بل هي من اوضح مصاديقه، والحاصل ان الاذن في العصيان مما لا يعقل، ولو كان معقولاً لم يكن وجه لمنعه في العلم التفصيلي، كمامر، فلو دل ظاهر دليل على ترخيص المخالفة القطعية يجب صرفه عن ظاهره، بخلاف

ص: 342


1- التحقيق أن اقتضاء العلم الاجمالي للموافقة أيضاً يكون على وجه التنجين، كعدم المخالفة، فلا يحسن للشارع الاذن في ترك موافقته كما لا يحسن في مخالفته، وهل يكون الاذن في ترك موافقته إلا رفع_اً ل_ل_يد عن الواقع المعلوم في البين على تقدير مصادفته لمورد اختيار المكلف، والمفروض أنه طالب له على كل تقدير، وبينها تهافت واضح. نعم لو عين شيئاً عند مصادفته مصداقاً بدلياً الموافقة المعلوم في البين، حتى يكون ذلك الشيء موافقة بدلية للمواقع - مع مختار المكلف جاز الترخيص حينئذ، لأن اللازم بحكم العقل في العلم الاجمالي إنما هو الأعم من الموافقة الأصلية والبدلية.«منه، قدّس سرُّه»

الموافقة القطعية التي تتحقق بالاحتياط في جميع الاطراف، فان اذن الشارع في ارتكاب محتمل الحرمة ليس اذنا في المعصية، وحكم العقل بلزوم الاحتياط انما هو من جهة احتمال الضرر وعدم الامن من العقاب، فاذا دل دليل على عدم وجوب الاحتياط يؤمن به من العقاب.

و من هنا ظهر انه لو دل دليل بظاهره على جواز المخالفة القطعية فلابد من طرحه، لمنافاته حكم العقل، بخلاف ما لو دل دليل على عدم وجوب الموافقة القطعية والترخيص في بعض الاطراف إما على سبيل التعيين او على سبيل التخيير، ويأتى في مبحث البرائة التعرض للادلة اللفظية، وانها هل يستفاد منها الترخيص في ترك الاحتياط او لا؟

في الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي

الامر الثاني: هل يكتفى في مرحلة السقوط بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي علماً او بظن معتبر او لا؟

لا اشكال في سقوط التكليف لو كان من التوصليات، واما لو كان من العبادات المعتبر فيها قصد القرية فاقصى ما يمكن به الاستدلال على وجوب تحصيل العلم او الظن المعتبر في م_ق_ام الامتثال وعدم الاكتفاء بالامتثال الاجمالي وجوه:

احدها الاجماع المستفاد من كلمات بعض الاع_اظ_م، خصوصاً فيما اذا اقتضى الاحتياط التكرار.

و الثاني عدم عد العقلاء من تمكن من تحصيل العلم بالواجب شخصاً واكتفى باتيانه على نحو الاجمال مطيعاً، ألا ترى ان العبد اذا علم اجمالاً بارادة المولى شيئاً مردداً بين اشياء متعددة ويقدر على تشخيص ما اراده بالسؤال عنه فلم يسأل وجاء بعدة امور احدها مطلوب للمولى يعد عابثاً لاغياً، فكيف يوجب مثل هذا العمل القرب المعتبر في العبادات.

و الثالث ان يقال : يحتمل ان يكون للآمر غرض لا يسقط الا باتيان الفعل مع قصد الوجه التفصيلي، ومع هذا الاحتمال يجب الاحتياط ؛ اما تحقق هذا

ص: 343

الاحتمال في النفس فلعدم ما يدل على نفيه، وأما وجوب الاحتياط فلان هذا القيد المحتمل ليس مما يمكن دفعه باطلاق الدليل ولا بالاصل، وان قلنا به في مقام دوران الامر بين المطلق والمقيد اما الاول فلكون القيد المذكور مما هو متأخر رتبة عن الحكم، فلا يمكن دخله في الموضوع، فالموضوع بالنسبة الى القيد المذكور لا مطلق ولا مقيد، والتمسك باصالة الاطلاق انما يصح فيما يمكن ان يكون معروضاً للقيد واما الثاني فلان موضوع التكليف بناء على ذلك متعين معلوم بحدوده، وانما الشك في مرحلة السقوط، وليس حكمه الا الاشتغال.

و في الكل نظر:

اما الاجماع فلعدم حجية المنقول منه، مضافاً إلى عدم الفائدة في اتفاقهم ايضاً في مثل المقام مما يكون المدرك حكم العقل يقينا او احتمالاً، اذ مع احتمال ذلك لا يستكشف رأى المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و اما الدليل الثاني فلان عدم عد العبد الآتي بعدة امور ممتثلاً في بعض الاحيان انما هو فيما يكون مقصوده الاستهزاء، وليس هذا محل الكلام، فنفرض فيما كان عدم تحصيل العلم التفصيلي منه من جهة غرض عقلائي، والحاصل ان الكلام في ان الاطاعة الاجمالية يمكن ان تكون عبادة ومقربة، لا ان الاطاعة الاجمالية مقربة مطلقاً ولو كان قاصداً للاستهزاء.

و اما الدليل الثالث فقد اشبعنا الكلام فيه في بحث وجوب المقدمة وذكرنا هناك عدم الفرق بين مثل هذه القيود المتأخرة رتبة عن الحكم وساير القيود، فلا نطيل المقام باعادته، ومن اراد فليراجع.

هل المخالفة الالتزامية كالمخالفة العمليّة ام لا؟

الأمر الثالث هل المخالفة الالتزامية كالمخالفة العملية عند العقل او لا ؟

ينبغي أن نفرض مورداً لا يكون فيه المخالفة العملية اصلا - ولو على نحو التدريج -ونتكلم في جواز المخالفة الالتزامية فيه نفياً واثباتاً، وهذا لا يفرض في

ص: 344

الشبهة الحكمية، لعدم وجود فعل يكون واجباً في الشرع في ساعة معينة او حراماً كذلك ثم يرتفع حكمه بعد تلك الساعة، فينحصر المورد في الشبهة الموضوعية، كالمرأة المرددة بين المنذور وطيها في ساعة كذا او ترك وطيها كذلك.

و مجمل القول فيه ان المخالفة الالتزامية في المثال المفروض تتصور على قسمين: احدهما عدم الالتزام بشيء من الوجوب والحرمة فيه، والثاني الالتزام بحكم آخر غير ما علم به واقعاً.

فنقول : ان اراد القائل بوجوب الالتزام بالحكم وعدم جواز المخالفة. الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه سواء كان واجباً او حراماً، فهو مما لا ينبغى انكاره لان لازم التدين بالشرع والانقياد به هو ان يتسلم ما علم انه حكم الشارع.

و ان اراد لزوم التدين بشخص الحكم المجعول في الواقع، فهو مما لا يقدر عليه، لكونه مجهولاً، نعم يقدر ان يبنى على وجوب هذا الفعل سواء كان واجباً في الواقع ام حراماً، وكذلك الكلام في الحرمة.

و ان اراد لزوم التدين باحد الحكمين على سبي_ل ال_ت_خ_يير في الخبرين المتعارضين، فهو امر يقدر عليه، لكن لزومه يحتاج الى دليل، اذ لولاه لكان البناء تشريعاً محرماً، وليس في المقام دليل سوى ما يتوهم من الادلة الدالة على وجوب الأخذ باحد الخبرين المتعارضين عند عدم ترجيح احدهما على الآخر، من ان العلة في ايجاب الاخذ باحد الخبرين كون الحكم في الواقعة مردداً بين امرين، وهو فاسد، لعدم القطع بالملاك، واحتمال اختصاص الحكم بخصوص مورد تعارض الخبرين، مضافاً الى انه لو تم ذلك لوجب في دوران الامر بين الاباحة والتحريم الاخذ باحد الحكمين كما لا يخفى، والحاصل انه لا دليل على وجوب الالتزام بشخص حكم في الواقعة المشكوك فيها، ولا يجوز الالتزام به لكونه تشريعاً.

و من هنا يظهر عدم المانع عقلاً للالتزام بحكم آخر غير الوجوب والتحريم

ص: 345

في مورد الشك – كالاباحة- اذا اقتضى ادلة الاصول ذلك، لان المانع المتصور هنا اما لزوم الالتزام بشخص الوجوب او الحرمة، وهذا ينافي الالتزام بالاباحة، واما لزوم الالتزام بالواقع المردد على ما هو عليه اما الاول فمفقود لما عرفت، واما الثاني فليس بمانع لعدم المنافاة بين الالتزامين، كما انه لا منافاة بين نفس الحكمين، لما حقق من عدم المنافاة بين الاحكام الواقعية والاحكام المجعولة في المنافاة ومع عدم بين نفس الحكمين لا يعقل ان يكون الالتزام الشك، موضوع باحدهما منافياً للالتزام بالآخر.

هذا في الواقعة الواحدة التى لم تكن لها مخالفة عملية اصلاً.

و اما الوقائع المتعددة كما لو دار الامر بين وجوب صلاة الجمعة دائماً او حرمتها كذلك فالكلام في عدم وجوب الالتزام بشخص حكم من الشرع من الوجوب أو الحرمة بل حرمته هو الكلام فيما سبق.

و اما الالتزام بالحكم المخالف فمبنى على جريان دليل الاصل الدال على الاباحة، وهو موقوف على عدم حكم العقل بقبح المخالفة تدريجاً، والحق عدم جریان دليل الأصل، لان المخالفة التدريجية قبيحة عند العقل كغيرها، إذ غاية ما يقال في عدم قبحها أن الفعل في الزمان الآتي ليس متعلقاً لتكليفه الفعلي، بل التكليف المتعلق به مشروط بوجود الزمان الآتي، والتكليف الفعلي ليس له مخالفة عملية قطعية او يقال بان المخالفة العملية القطعية وان كانت قبيحة مطلقاً الا ان الامر في المقام دائر بين الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية حتى لا يوجد مخالفة قطعية، أو الموافقة القطعية المستلزمة للمخالفة القطعية، ولا نسلم ان العقل يعين الأول.

اما الاول فهو باطل لما حققناه في مبحث مقدمة الواجب من ان الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرطه في محله يكون كالمطلق عند العقل، فراجع فالتكليف المتعلق بالفعل في الزمان الآتي في حكم التكليف الموجود الفعلي عند العقل، فكما انه لو علم بوجوب احد الشيئين فعلا يجب عليه الامتثال بالاتيان

ص: 346

بكليهما كذلك لو علم بوجوب فعل إما في هذا اليوم وإما في الغد يجب عليه الاحتياط باتيان الفعل في اليومين هذا اذا تمكن من الاحتياط والموافقة القطعية، واما اذا لم يتمكن من الموافقة القطعية كما فيا نحن فيه يجب عليه ترك المخالفة القطعية.

و اما الثاني فلان عدم ارتكاب المخالفة القطعية متعين عند العقل، لما سمعته سابقاً ونحققه في مبحث البرائة ان شاء اللّه، من ان حكم العقل بقبح المخالفة القطعية تنجيزى لا يمكن ان يرفع بالمانع، واما حكمه بوجوب الموافقة القطعبة فليس كذلك، فانه انما يكون على تقدير عدم ترخيص الشارع في الموافقة الاحتمالية (1).

فان قلت: الاذن في المخالفة القطعية التدريجية واقع في الشرع، كما في التخيير بين الخبرين المتعارضين _ ان قلنا بكونه استمرارياً - وكتخيير المقلد بين الاخذ بفتوى كل من المجتهدين، فانه في كل منهما قد ينجر الامر الى المخالفة القطعية التدريجية، كما اذا كان احد الخبرين دالا على الوجوب والآخر على

ص: 347


1- قد عرفت في الحاشية المتقدمة ان كلا الحكمين من العقل تنجيزي وغير قابل للترخيص الشرعي على الخلاف، فالحق في الجواب ان يقال: ان قبح المخالفة القطعية لا يقبل ترخيص العقل ايضاً، بخلاف ايجاب الموافقة القطعية، فانه قابل لترخيصه اذا دار الامر بين ارتکاب امر يكون مخالفة قطعية للمولى وأمر آخر يكون مخالفة احتمالية وطرفاً للشبهة المحصورة فان المتعين عند العقل اختيار الثاني. فان قلت: بين المثال وما نحن فيه فرق وهو أن المخالفة القطعية مقرونة فيما نحن فيه بحصول الموافقة القطعية، وغير مقرونة به في المثال والاقتران المذكور سبب لا خفية قبحها. قلت: محذور عدم الموافقة القطعية ليس من جهة حصول احتمال الموافقة، بل من جهة وجود احتمال المخالفة، والا فنفس عدم القطع بالموافقة من حيث هو لا محذور فيه، فيتمحض موضوع القبح عند العقل في احتمال المخالفة مع طرفه الذي هو القطع بالمخالفة «منه قدّس سرُّه».

الحرمة، وكما اذا افتى احد المجتهدين بالوجوب والآخر بالحرمة.

قلت موافقة الحكم الظاهرى في المثالين في كل واقعة بدل للواقع على تقدير المخالفة، ومثل هذه المخالفة التدريجية التى لها بدل ليس ممنوعاً عقلاً، بخلاف ما اذا لم يكن لترك الواقع بدل اصلا كما اذا رخص الشارع في ترك الواقع في هذا الزمان والزمان الآتى فان هذا ترخيص في مخالفة الواقع بلا بدل.

ص: 348

المبحث الثاني في الظن

هل يمكن التعبد بالأمارات الغير العلميّة ام لا؟

و الكلام فيه يقع في طى امور:

الأول: هل يمكن التعبد بالامارات الغير العلمية عقلا او لا؟ والنزاع في هذا الامريين المشهور و ابن قبة «قدّس سرُّهم» ومورد كلامهم وان كان الخبر الواحد، الا ان ادلة الطرفين تشهد بعموم محل النزاع.

اذا عرفت هذا فنقول: ان الامكان يطلق على معان: احدها الامكان الذاتي والمراد به ما لا ينافي الوجود والعدم بحسب الذات، ويقابله الامتناع بهذا المعنى كاجتماع النقيضين والضدين، والثاني الامكان الوقوعى، والمراد به مالا يلزم من فرض وجوده محذور عقلى ويقابله الامتناع بهذا المعنى، والثالث الاحتمال، كما هو احد الوجوه في قاعدة الامكان في باب الحيض.

لا اشكال في عدم كونه بالمعنى الاول مورداً للنزاع، اذ لا : يتوهم احد من العقلاء ان التعبد بالظن يأبى عن الوجود بالذات كاجتماع النقيضين، كما ان النزاع ليس فيه بالمعنى الثالث، اذ الترديد والشك في تحقق شيء حاصل لبعض وغير حاصل للآخر، وهذا ليس امراً قابلاً للنزاع، فانحصر الأمر في الثاني.

ثم لا يخفى ان المراد من المحذور العقلى الذي فرض عدم لزومه في الامكان الوقوعى انما هو الموانع العقلية لا عدم المقتضي، وان كان يلزم من فرض وجود الشيء مع عدم المقتضى محذور عقلى ايضاً لامتناع تحقق الشيء من دون علة، لانه لو كان المراد اعم من المقتضى وعدم المانع لكان العلم بالامكان في شيء

ص: 349

مساوقاً للعلم بوجوده كمالا يخفى.

في أدلة امتناع التعبد بالظن و الجواب عنها

و على هذا فمن يدعى العلم بالامكان بالمعنى المذكور فدعواه راجعة الى العلم بانه على فرض وجوده لا يترتب عليه محذور عقلى، ولو شك في تحققه من جهة الشك في تحقق مقتضيه ولا يصح هذه الدعوى الا ممن يطلع على جميع الجهات المحسنة والمقبحة في المقام، مثلاً من يعتقد بامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد لا يصح منه دعوى الامكان بالمعنى المذكور الا بعد القطع بعدم فعلية الاحكام الواقعية، وكذا الالقاء في المفسدة قبيح بحكم العقل، فمن يدعى امكان التعبد بالظن لابد وان يعلم بان في العمل به مصلحة اعظم من المفسدة التي قد يتفق وقوع المكلف فيها بسبب التعبد به، ومتى يحصل العلم لاحد من طريق العقل؟! نعم لوثبت بالادلة التعبد بالظن نستكشف ما ذكرناه، وهذا غير دعوى الوجدان والقطع بعدم المحذور.

فالاولى ان يقال - بعد رد الوجوه التي تذكر في المقام للمنع :- بانا لا نقطع بالاستحالة، فلا مانع من الاخذ بالادلة التي اقيمت على حجية بعض الظنون، كما ستطلع عليها في الامر الثالث ان شاء اللّه.

في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي

و كيف كان قد استدل المانع بوجهين:

الأول: انه لو جاز التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الجاز التعبد به في الاخبار عن اللّه تعالى والتالى باطل اجماعاً، فالمقدم مثله، بيان الملازمة ان حكم الامثال فيما يجوز وما لا يجوز سواء، ولا يختلف الاخبار بواسطة اختلاف المخبر عنه وكونه هو اللّه سبحانه او النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، واذا لم يجز التعبد به في الاخبار عن اللّه تعالى لم يجز في الاخبار عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

و الجواب منع بطلان التالى عقلاً لجواز ايجاب الشارع التعبد باخبار

ص: 350

سلمان وامثاله عن اللّه تعالى غاية الامر عدم الوقوع، وليس هذا محلا للنزاع.

الثاني: ان العمل بالخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال، اذ لا يؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراماً في الواقع، وبالعكس، توضيح الكلام انه لا إشكال في ان الاحكام الخمسة متضادة باسرها، فلا يمكن اجتماع اثنين منها في مورد واحد ومن يدعى التعبد بالخبر الواحد يقول بوجوب العمل به وان اذى الى مخالفة الواقع، وحينئذ لو فرضنا أن الامارة أدت الى وجوب صلاة الجمعة وتكون محرمة في الواقع ونفس الامر، فقد اجتمع في موضوع واحد اعنى صلاة الجمعة حكمان، الوجوب والحرمة وايضاً يلزم اجتماع الحب والبغض والمصلحة والمفسدة، في شيء واحد من دون وقوع الكسر والانكسار، بل يلزم المحال ايضاً على تقدير المطابقة للواقع، من جهة لزوم اجتماع المثلين وكون الموضوع الواحد مورداً لوجوبين مستقلين وايضاً يلزم الالقاء في المفسدة، فيما اذا أدت الامارة الى إباحة ما هو محرم في الواقع، وتفويت المصلحة، فيما اذا أدت الى جواز ترك ما هو واجب هذا كله على تقدير القول بان لكل واقعة حكماً مجعولاً في نفس الامر، سواء كان المكلف عالماً به او جاهلاً، وسواء ادى اليه الطريق او تخلف عنه، كما هو مذهب اهل الصواب واما على التصويب فلا يرد ما ذكرنا من الاشكال الا انه خارج عن الصواب هذا.

و الجواب عنه بوجوه:

الأول: ما افاده سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» من عدم المنافاة بين الحكمين اذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشك في الأول، وتوضيحه انه لا اشكال في ان الاحكام لا تتعلق ابتداء بالموضوعات الخارجية، بل انما تتعلق بالمفاهيم المتصورة في الذهن لكن لا من حيث كونها موجودة في الذهن، بل من حيث إنها حاكية عن الخارج، فالشيء مالم يتصور في الذهن لا يتصف بالمحبوبية والمبغوضية، وهذا واضح ثم ان المفهوم المتصور تارة يكون مطلوباً على نحو الاطلاق واخرى على نحو التقييد وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضى في

ص: 351

ذلك المقيد، وقد يكون لوجود المانع ؛ مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الاطلاق، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصة، وقد يكون في المطلق، الا ان عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر، ولكونه منافياً لذلك الغرض لابد ان يقيد العتق المطلوب بما اذا تحقق في الرقبة المؤمنة، فتقييد المطلوب في القسم الأخير انما هو من جهة الكسر والانكسار، لا لتضييق دائرة المقتضى، وذلك موقوف على تصور العنوان المطلوب اولا مع العنوان الآخر المتحد م_ع_ه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن بحيث يكون المتعقل احدهما لا مع الآخر فلا يعقل تحقق الكسر والانكسار بين جهتيهما، فاللازم من ذلك انه متى تصور العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد، لعدم تعقل منافيه، ومتى تصور العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك، لعدم تعقل منافيه، كما هو المفروض.

و العنوان المتعلق للاحكام الواقعية مع العنوان المتعلق للاحكام الظاهرية مما لا يجتمعان في الوجود الذهني ابداً، مثلاً اذا تصور الآمر صلاة الجمعة فلا يمكن ان يتصور معها الا الحالات التي يمكن ان تتصف بها في هذه الرتبة، مثل كونها في المسجد او الدار و امثال ذلك، واما اتصافها يكون حكمها الواقعي مشكوكاً فليس مما يتصور في هذه الرتبة لان هذا الوصف مما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم والاوصاف المتأخرة عن الحكم لا يمكن ادراجها في موضوعه، فلو فرضنا ان صلاة الجمعة في كل حال او وصف يتصور معها في هذه الرتبة مطلوبة بلا مناف ومزاحم، فارادة المريد تتعلق بها فعلاً، وبعد تعلق الارادة بها تتصف باوصاف أخر لم تتصف بها قبل الحكم، مثل ان تصير معلوم الحكم تارة ومشكوك الحكم اخرى، فلو فرضنا بعد ملاحظة اتصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم تحقق جهة المبغوضية فيه يصير مبغوضاً بهذه الملاحظة لا محالة،

ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته لان الموضوع بتلك الملاحظة لا

ص: 352

يكون متعقلاً فعلاً، لان تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم.

فان قلت: العنوان المتأخر وان لم يكن متعقلاً في مرتبة تعقل الذات، ولكن الذات ملحوظة في مرتبة تعقل العنوان المتأخر، فعند ملاحظة العنوان المتأخر يجتمع العنوانان في اللحاظ، فلا يعقل المبغوضية في الرتبة الثانية مع محبوبية الذات.

قلت: تصور ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الاولى مبنى على قطع النظر عن الحكم، لان المفروض كون الموضوع موضوعاً للحكم، فتصوره يلزم ان يكون مجرداً عن الحكم، وتصوره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابد وان يكون بلحاظ الحكم.

ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرد عن الحكم والحاظ ثبوته، وب_ع_ب_ارة اخرى صلاة الجمعة التي كانت متصورة في مرتبة كونه_ا م_وض_وعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسماً لمشكوك الحكم ومعلومه، والتي تتصور في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسماً لهما، فتصور ما كان موضوعاً للحكم الواقعي والظاهري معاً يتوقف على تصور العنوان على نحو لا ينقسم الى القسمين وعلى نحو ينقسم اليهما، وهذا مستحيل في لحاظ واحد (1) فحينئذ نقول : متى تصور الأمر صلاة

ص: 353


1- يرد على ظاهر ما افاده «طاب ثراه» ان استحالة الجمع وان كانت مسلمة لكنها غير مجدي_ة ب_ع_د ع_دم دخالة ه_ذه ال_كيفية اعني عدم الانقسام في الحكم، الا ان يكون مراده «قدّس سرُّه» انه بعد وجود الحكم المخالف في مورده يستكشف هذه الدخالة جمعاً، فيتحد مع ما اشرنا اليه في بعض الحواشي المتقدمة، من دخالة وصف التجريد عن الحكم المحالف في موضوع الواقعي، فراجع. فان قلت: فيلزم ان لا يكون من قامت عنده الامارة على خلاف الواقع محكوماً، لا واقعاً ولا ظاهراً، الا بمؤدى الامارة. وهذا تصويب باطل عند اهل الصواب، وايضاً كيف يحسن الاحتياط عند قيام الامارة المخالفة للاحتياط ؟ اذ المفروض عدم حكم آخر يحسن الاحتياط لاجله. قلت: ليس قيام الامارة المخالفة كطرة عنوان الموطوئية على الغنم مغيّراً لمصلحة الواقع حتى يتوجه الاشكالان، بل حصل اسباب خارجية لجعل الامر باتباعها مع بقاء مصلحة الواقع بحالها، من وجود المانع في امر الشارع بتحصيل العلم بالحكم الواقعي ليكون محركاً بلا واسطة للعبد، وكذا في أمره بالاحتياط للزوم العسره ومن وقوع المكلف في خلاف الواقع كثيراً بالرجوع الى ظنون نفسه، ومن عدم الجدوى في ارشاد الشارع طريقاً يكون غالب المطابقة بنظره، بعد قيام ظنون المكلف بخلاف ذلك الطريق، فينحصر الأمر حينئذ في جعل الأمر المولوي باتباع ذلك الطريق، فهذا الأمر حيث انه يكون بعنوان سلوك الطريق، لا لمصلحة في المؤدى من حيث هو، ولهذا لا يترتب على مخالفته العقوبة الا في صورة الاصابة، لا يستلزم التصويب وعدم حسن الاحتياط، وحيث ان الطريقية تكون بنظر الشارع لا بنظر العبد يكون العقوبة في صوره الاصابة مترتبة على مخالفة نفسه دون الامر الواقعي الموجود معه، اذ لا منافاة بينهما مع الاصابة، لعينيتهما لباً، وان اختلفا انشاء، ويكون الحجة فيما بين المولى والعبد هو الثاني. وقد تبين مما ذكرنا عدم تمامية الوجه الثاني الذي نقلناه عن سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» لعدم كفاية الارشاد وانحصار الطريق في الامر المولوي منه، «قدّس سرُّه».

الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة، ومتى تصورها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلقة لحكم آخر فافهم وتد برفانه لا يخلو من دقة.

الوجه الثاني و الثالث للجمع بين الحكمين

الوجه الثاني: ما افاده «طاب ثراه» ايضاً، وهو ان الاوامر الظاهرية ليست با وامر حقيقية، بل هي ارشاد الى ما هو اقرب الى الواقعيات، وتوضيح ذلك على نحو يصح في صورة انفتاح باب العلم ولا يستلزم تفويت الواقع من دون جهه ان نقول: ان انسداد باب العلم كما انه قد يكون عقلياً كذلك قد يكون شرعياً، بمعنى انه وان امكن للمكلف تحصيل الواقعيات على وجه التفصيل،

لكن يرى الشارع العالم بالواقعيات ان في التزامه بتحصيل اليقين مفسدة، فيجب بمقتضى الحكمة. دفع هذا الالتزام عنه، ثم بعد دفعه عنه لو احاله الى نفسه يعمل بكل ظن فعلى من أى سبب حصل، فلو رأى الشارع بعد ان صار مال امر المكلف الى العمل بالظن أن سلوك بعض الطرق اقرب الى الواقع من بعض آخر فلا محذور في ارشاده اليه فحينئذٍ نقول اما اجتماع الضدين فغير

ص: 354

لازم، لانه مبنى على كون الاوامر الطرقية حكماً مولوياً، واما الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة فليس بمحذور بعدما دار امر المكلف بينه وبين الوقوع في مفسدة اعظم.

الوجه الثالث: ان يقال: ان بطلان ذلك مبنى على عدم جواز اجتماع الامر والنهي، لان المورد من مصاديق ذلك العنوان فان الامر تعلق بعنوان العمل بقول العادل مثلاً، والنهى تعلق بعنوان آخر مثل شرب الخمر، وحيث جوزنا الاجتماع وبيناه في محله فلا اشكال هنا ايضا.

لا يقال : جواز اجتماع الامر و النهى على تقديره انما يكون فيما تكون هناك مندوحة للمكلف كالامر بالصلاة والنهي عن الغصب، لا فيما ليس له مندوحة، وما نحن فيه من قبيل الثاني لان العمل بمضمون خبر العادل مثلاً يجب عليه معيناً حتى في مورد يكون مؤدى الخبر وجوب شيء مع كونه حراماً في الواقع، بخلاف الصلاة، لعدم وجوب تمام افرادها معينا، بل الواجب صرف الوجود الذي يصدق على الفرد المحرم وعلى غيره.

لانا نقول: اعتبار المندوحة في تلك المسألة انما كان من جهة عدم لزوم التكليف بما لا يطاق، وفيما نحن فيه لا يلزم التكليف بما لايطاق، من جهة عدم تنجز الواقع، فلم يبق في البين الاقضية اجتماع الضدين والمثلين، وهو مدفوع بكفاية تعدد الجهة.

وفيه ان جعل الخبر طريقاً الى الواقع معناه ان يكون الملحوظ في عمل المكلف نفس العناوين الاولية، مثلاً لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة في الواقع، فمعنى العمل على طبقه ان يأتى بها على انها واجبة واقعاً، فيرجع ايجاب العمل به الى ايجاب الصلاة على انها واجبة واقعاً، فلو فرضنا كونها محرمة في الواقع يلزم كون الشيء الواحد من جهة واحدة محرما وواجبا، فليس من جزئيات مسألة اجتماع الأمر والنهى التى قلنا بكفاية تعدد الجهة فيها فافهم.

ص: 355

تأسيس الأصل في حجّية الظنّ عند الشك

الامر الثاني في تأسيس الاصل المعول عليه في المقام.

اعلم ان الحجية عبارة عن كون الشيء بحيث يصح به المؤاخذة والاحتجاج، ولا ملازمة بين هذا المعنى وجواز التعبد، اذ من الممكن تحقق هذا المعنى وعدم جواز التعبد به كالظن في حال الانسداد بناء على الحكومة، وهذا المعنى ان ثبت بالدليل فلا اشكال فيه، وان شك فيه فهل لواقعه اثر على تقدير ثبوته اولا؟ بل يكون ما شك في حجيته مع ما علم بعدم حجيته سواء، وان كانت حجة في الواقع.

و الحق فيه التفصيل و بيان ذلك ان للحجة اثرين: احدهما اثبات الواقع وتنجيزه على تقدير الثبوت، والثاني اسقاطه كذلك، الاول ما يكون قائماً. على حكم الزامى من الوجوب او الحرمة وكان مطابقاً للواقع فانه يصحح العقوبة على ذلك الحكم الواقعي، والثاني ما يكون قائماً على رفع الالزام في مورد لولاه لكان مقتضى العقل الاحتياط كاطراف العلم الاجمالي.

اما القسم الثاني فلا ينفع الواقع المشكوك فيه قطعاً مطلقاً ضرورة ان من علم اجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة عليه فلم يأت بالظهر مثلاً وكان هو الواجب واقعاً.يصح ان يعاقب عليه وان كان بحسب الواقع دليل على عدم وجوبه بحيث لو اطلع عليه لكان حجّة له على المولى.

و اما القسم الأول فتارة يفرض بعد الفحص وعدم الظفر، واخرى قبل ذلك، اما في الاول فالوجود الواقعي للدليل ليس له اثر في حقه قطعاً اذ ليس الوجود الواقعى للحكم الطريقي اقوى من الوجود الواقعى للحكم الاولى، فبعد الفحص وعدم الظفر بالحكم ولا بدليله يحكم العقل بالبرائة قطعاً.

واما في الثاني فهو على قسمين: تارة يكون بحيث لو تفحص عن الدليل لظفر به، واخرى لا يكون كذلك، فان قلنا بان الشك قبل الفحص بنفسه يصحح

ص: 356

العقوبة على الواقع على تقدير الثبوت في كلا القسمين فوجود الدليل بحسب الواقع ايضاً لا اثر له لان المنجز فيما يكون الدليل موجوداً في الواقع ايضاً نفس الشك، وان قلنا بان المصحح للمواخذة ليس نفس الشك، بل وجود الدليل إن كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به هو المصحح(1)

ص: 357


1- و هذا هو الحق لان منجزية نفس الشك مبنية إما على ان الشك في التكليف ملازم على المشهور بين العدلية مع احتمال المفسدة، وهو لا يقصر عن احتمال الضرر الدنيوي الذي يحكم العقل بوجوب دفعه، وإما على أن المولى لا شبهة في انه يحتاط في محتملات مقصده، الا ان يزاحم الاحتياط جهة اخرى كالعسر ونحوه، فقد يرجح جانب المزاحم، لكن كلامنا في صورة الخلو عن ذلك، ولا شك أن وظيفة العبدان يعامل مع اغراض المولى كانه من جوارح نفس المولى. و کلا هذين الوجهين يأتي في محله بطلانها، فلا يبقى الا ما قلنا من منجزية الدليل الواقعي لوكان معرضاً لعثور المكلف. فان قلت: يكفي في تنجيز العقاب حكم العقل بوجوب الاحتياط او الفحص. قلت: حكمه بذلك مبنى على حكمه بصحة العقاب في صورة واحدة، مع جزمه بالعدم في غيرها فلا جرم عند اشتباه الحل يحكم بالاحتياط او الفحص ولا يمكن ان يكون مثل هذا مصححاً للعقاب على كل تقدير هذا كله في مرحلة اثبات العقاب. واما الكلام في مقام الاسقاط فقد عرفت ان قيام الطريق المرخص في اطراف العلم موجب للانحلال بملاحظة كشفه بالملازمة عن جعل الطرف الآخر بدلاً، والانحلال انما يحصل بعد تفصيلية ذلك عند العالم الاجمالي. «فائدة» هل البناء القلبي على احد طرفي المشكوك بمجرده بدون ترتب عصيان او تجر خارجي عليه، كما لو بنى على حلية مشكوك الحرمة بعد الفحص وأتى او قبل الفحص ولم يأت، محرم شرعاً، ويسمى بالحرمة التشريعية اولا؟ الظاهر الثاني لعدم ما يدل على الحرمة عدا امور غير ناهضة : منها قوله تعالى: «قل اللّه أذن لكم ام على اللّه تفترون»* بناء على استفادة الاستناد من الصدر، فمقابله ما وقع لا عن استناد الى الإذن سواء جامع الاذن واقعاً ام لا، وقد عبر في الآية عن كلا فرديه بالافتراء، فلا يتم الا بان يقال بانه في صورة الشك في حكم الافتراء شرعاً. و فيه ان سوق الآية ظاهر في ان مقابل الصدر مصداق للافتراء بشهادة وجدانهم لا بتعبد من الشارع، وهذا قرينة على ان صورة الشك خارجة عن محل تعرض الآية. و منها قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) - في بعض الاخبار في عداد من في النار من القضاة : «ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم»*. و فيه ان غاية ما يستفاد منه اشتراط علم القاضي بموازين القضاء ليكون قضائه بمقتضى تلك الموازين او بمقتضى علم نفسه، لا كما هو المرسوم بين بعض الناس من القضاء بمقتضى الاستحسانات، واين هذا من حرمة اسناد ما لا يعلم الى اللّه تعالى؟ ومنها الادلة الناهية عن القول بغير العلم. و فيه ان غاية ما تدل عليه حرمة الفتوى بغير العلم والكلام في البناء القلبي المجرد. و منها بعض الاخبار المتضمنة لترتب الهلاكة على الديانة بما لا يعلم. و فيه انه لا اشكال في قبح التدين بما لا يعلم عقلا لانه تعرض من العبد فيما هو شأن المولى من تشريع الاحكام، وفيه من الهتك ما لا يخفى، ومثل هذا القبيح الراجع الى ساحة المولى لا يدل ترتب الهلاك عليه على وجود النهي المولوي لان عقاب المولى من حيث إنه مولى صحيح قبل وجود النهي، والغرض من جعل النهي ايجاد المصحح للعقاب المولوي، فجعله في المقام بهذا الغرض تحصيل للحاصل «منه، قدّس سرُّه». *سورة يونس، الآية ٥٩. *الوسائل، الباب ٤ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٦.

ف____الشاك مردّد أمره بين أن يكون له دليل يصل اليه بعد الفحص فيصح عقوبته، اولا يكون فيقبح عقابه، ولما لم يكن جازماً بقبح العقاب يجب عليه عقلا الاحتياط او الفحص، فالوجود الواقعي للدليل لو كان بحيث لو تفحص عنه لظفر به يثمر في حقه لانه به يؤاخذ ويعاقب على المخالفة.

ص: 358

فتحصل مما ذكرنا ان الطريق المشكوك بعد الفحص ليس بحجة قطعاً، لا اثباتاً ولا اسقاطاً، وقبل الفحص ليس بحجة، اسقاطاً مطلقاً، واثباتاً ان قلنا بان الحجة نفس الشك قبل الفحص، وان لم نقل بذلك، بل قلنا بان الحجة هو الدليل الذي لو تفحص لظفر به فما لم يكن الدليل الواقعي كذلك فهو غير حجة ايضاً، واما فيما كان الدليل الواقعي بحيث لو تفحص لظفر به فوجوده الواقعي حجة على المكلف وان كان مشكوكاً فيه فعلاً فليتدبر.

في حجّية الظواهر

الأمر الثالث: في التكلم في الامارات التى ثبت حجيتها بالدليل، اوقيل انها كذلك.

فمنها ما يعمل في تشخيص مراد المتكلم بعد الفراغ عن المدلول العرفي لللفظ.

اعلم ان الارادة على قسمين: احدهما ارادة الشيء في اللب ونفس الامر، والثاني ارادة المعنى من اللفظ في مقام الاستعمال وهما قد تتفقان، كما اذا قال المتكلم : اكرم العلماء واراد من اللفظ انشاء وجوب اكرام كل منهم، وكان في الواقع ايضاً مريداً له، وقد تختلفان، كما انه في المثال لم يرد اكرام واحد منهم بالخصوص، فحكمه في مقام الارادة الاستعمالية على ذلك الفرد حكم صورى، ولم يظهر الواقع لمصلحة في اخفائه والمقصود الاصلى في هذا المقام تشخيص الارادة الاستعمالية وما اراد من اللفظ في مقام الاستعمال، وبعد هذا التشخيص تطبيق هذه الارادة على الارادة الواقعية عند الشك باصل آخر غير ما يتكلم فيه في المقام.

اذا عرفت هذا فنقول : اذا علمنا بان المتكلم يكون في مقام تفهيم المراد ونعلم انه لم ينصب قرينة مع الالتفات تصرف اللفظ عن ظاهره نقطع بان مراده هو ما يستفاد من ظاهر اللفظ، اذ لولا ذلك لزم الالتزام بانه تصدى

ص: 359

لنقض غرضه عمداً، وهذا مستحيل، ولا يختص ذلك بمورد يكون المتكلم حكيماً، بل العاقل لا يعمل عملاً يكون فيه نقض غرضه، سواء كان حكيماً ام لا، وهذا واضح،

فمتى شككنا في ان المتكلم اراد من اللفظ معناه الظاهر او غيره، فإما ان يكون الشك من جهة الشك في كونه في مقام التفهيم، واما من جهة الشك في وجود القرينة، واما من جهة كليهما.

فان كان منشأه الشك في كونه في مقام تفهيم المراد، فلا اشكال في ان الاصل المعول عليه عند تمام العقلاء كونه في مقام تفهيم مراده، وهذا اصل لا شبهة لاحد منهم فيه، ولا ينافي ما ذكرنا ماسبق في باب الاطلاق من ان كون المتكلم في مقام البيان لابد وان يحرز من الخارج، وب_دون_ه يعامل مع اللفظ معاملة الاهمال، لان الاطلاق امر زايد على مدلول اللفظ، وما ذكرنا هنا من الاصل المتفق عليه انما هو بالنسبة الى مدلول اللفظ فلا تغفل.

و ان كان منشأه الشك في نصب القرينة فهل انا اصل يعتمد عليه اولا؟

وعلى الاول فهل الاصل المعول عليه هو اصالة عدم القرينة او اصالة الحقيقة؟ والثمرة بينهما تظهر فيما لو اقترن بالكلام ما يصلح لكونه قرينة، فعلى الاول يوجب اجمال اللفظ لعدم جريان اصالة عدم القرينة مع وجوده، وعلى الثاني يؤخذ بمقتضى المعنى المستفاد من الوضع حتى يعلم خلافه.

و مبنى الاشكال في المقام هو انه هل الطريق الى ارادة المتكلم عند العقلاء صدور ذات اللفظ الموضوع ؟ او هو مع قيد خلوه عن القرينة الصارفة؟ فعلى الأول وجود القرينة من قبيل المعارض، وعلى الثاني لعدمها دخل في انعقاد الطريق على ارادة المعنى الظاهر كما انه لوجودها دخل في انعقاد الطريق على ارادة المعنى الغير الظاهر.

اذا حفظت ذلك فاعلم ان اعتبار الظهور الثابت للكلام، وان شك في احتفافه بالقرينة مما لا اشكال فيه في الجملة، كما يأتى الاشارة اليه، واما كون

ص: 360

ذلك من جهة الاعتماد على اصالة الحقيقة (1) كى لا يرفع اليد عنها حتى في صورة وجود ما يصلح للقرينية فغير معلوم وان كان قد يدعى ان بناء العقلاء على الجرى على ما يقتضيه طبع الاشياء ما داموا شاكين في ثبوت ما اخرجها عن الطبيعة الاولية، ومن ذلك بنائهم على صحة الاشياء عند شكهم في الصحة والفساد، لان مقتضى طبع كل شيء ان يوجد صحيحاً، والفساد يجيء من قبل امر خارج عنه، ولعل من هذا القبيل القاعدة المسلمة عندهم، «كل دم يمكن ان يكون حيضاً فهو حيض» فان مقتضى طبع المرئة ان يكون الدم الخارج منها دم حيض، وغيره خارج عن مقتضى الطبع، وعلى هذا نقول ان مقتضى طبع اللفظ الموضوع ان يستعمل في معناه الموضوع له، لان الحكمة في الوضع تمكن الناس من اداء مراداتهم بتوسط الالفاظ، فاستعماله في غيره انما جاء من قبل الامر الخارج عن مقتضى الطبع.

ص: 361


1- هذا اشارة الى دفع ما اورد على شيخنا المرتضى، حيث أرجع اصالة الحقيقة ونحوها الى اصالة عدم القرينة، وحاصل الايراد ان الشك في تخلف الارادة الاستعمالية عن المعنى المنتقل اليه عند سماع مجموع الكلام إما من جهة احتمال انه كانت مع الكلام قرينة فسقطت في البين وإما من جهة احتمال عمد المتكلم الى اخفائها لحكمة، والاول مدفوع باصالة عدم القرينة، وأن الصورة التى وصلت الينا من الكلام هي بعينها ماصدر من المتكلم بلا زيادة ونقيصة، والثاني مدفوع باصالة الحقيقة في مثل جنني باسد، وباصالة الظهور في مثل جنني باسد يرمي، فاين لنا موضع صح فيه الارجاع المذكور؟ و حاصل الدفع أنه في الشق الاول ان بنينا على أن اللفظ تمام الموضوع للحجية، فالمرجع فيه اصالة الحقيقة او الظهور حسب اختلاف المثالين المتقدمين، وان بنينا على انه بعض الموضوع، والبعض الآخر خلوه عن القرينة، فلابد اولا من الرجوع الى اصالة عدم القرينة، وتشخيص حال اللفظ بسببها، ثم الرجوع بعد ذلك الى اصالة الحقيقة او الظهور، لدفع الشك الآخر، وحيث ان الظاهر هو الثاني، بدليل سراية الاجمال من القرينة المتصلة دون المنفصلة، صح الارجاع المذكور، بل لو قيل بارجاع الكل الى أصالة الظهور صح ايضاً بملاحظة ان مرجع أصالة. عدم القرينة الى كون عدمها ظاهراً متبعاً عند العقلاء.«منه، قدّس سرُّه».

لكن الانصاف ان هذا البناء من العقلاء انما يسلم في مورد لم يحرز فيه كثرة الوقوع على خلاف الطبع، واستعمال الالفاظ في معانيها المجازية ان لم نقل بكونه اكثر من استعمالها في المعاني الحقيقية بمراتب فلا اقل من التساوي، فلم يبق الطبع الأولى بحيث يصح الاعتماد عليه، هذا.

في حجّية ظواهر الكتاب و الجواب عن أدلة القائلين بعدم الحجّية

و كيف كان فالمتيقن من الحجية هو الظهور المنعقد للكلام خالياً عما يصلح لان يكون صارفاً، ولا يناط بالظن الفعلى بالمراد، ولا يختص حجيته بمن قصد افهامه، بل هو حجة على من ليس مقصوداً بالخطاب ايضاً بعد كونه مورداً للتكليف المستفاد من اللفظ.

و الدليل على ذلك كله بناء العقلاء وامضاء الشارع :

اما الاول فلشهادة الفطرة السليمة عليه، فلو علم العبد بقول المولى: «اكرم كل عالم في هذا البلد» واحتمل عدم ارادته معناه الظاهر، إما من جهة احتمال التورية وعدم كونه في مقام إفهام المراد، وإما من جهة احتمال كون الكلام مشتملاً. على القرينة على خلاف الظاهر واختفى عليه او ظن احد الامرين من سبب غير حجة عند. تمام العقلاء، وفرضنا عدم : تمكنه من الفحص عما يوجب صرف الكلام المذكور عن ظاهره فهل يصح له ان لا يأتى بمفاد اللفظ المذكور معتذراً باني ما تيقنت ان المولى كان بمعرض تفهيم المراد، او ما تيقنت عدم اشتمال الكلام على قرينة صارفة، بل كان وجودها عندى محتملاً، أو فهل يصح الممولى لواتى العبد مفاد الكلام المذكور -في الفرض الذي فرضنا -ان يعاتبه او يعاقبه إن كان ما اتى به مبغوضاً له واقعاً، فان رأينا من انفسنا انقطاع عذر العبد في المثال المذكور في صورة عدم الاتيان، وصحة احتجاج المولى عليه عند العقلاء، وانقطاع عذر المولى في صورة الاتيان وصحة احتجاج العبد عليه عندهم، كما هو الواضح بادنى ملاحظة والتفات كان هذا معنى الحجية عندهم، اذ لا نعنى بحجية ظواهر الالفاظ كونها كالعلم في ادراك الواقعيات حتى يشكل علينا بان الاخذ باحد طرفى الشك في ما كان المراد مشكوكاً او

ص: 362

الاخذ بطرف الوهم فيما كان موهوماً كيف يكون كالعلم عند العقلاء.

و كذا الكلام فيما لوقطع بكلام للمولى خاطب به غيره مع كونه مورداً للتكليف المشتمل عليه ذلك الكلام مع بذل جهده فيما يوجب صرف الكلام عن مقتضى ظاهره فانه بعد المراجعة الى العقلاء يقطع بانقطاع العذر بين العبد

والمولى بذلك الكلام، وان كان العبد غير مقصود بالخطاب اللفظى(1)، هذا.

و اما الثاني اعنى امضاء الشارع لهذه الطريقة، فلان الطريقة المرتكزة في جبلة العقلاء لو لم يرض بها الشارع لكان عليه الردع، ولم يصدر منه ما يصلح لكونه رادعاً الا الآيات الناهية عن العمل بغير العلم، وهي لا تقبل لان تكون رادعة للعمل بالظواهر، لعدم حجية مدلولها بالنسبة اليه قطعاً، لان الظواهر اما ليست بحجة اصلا، واما حجة، فعلى الاول ظواهر الآيات ايضاً ليست بحجة لانها منها، وعلى الثاني تخصيصها بها معلوم، فلا تغفل. بقي الكلام في خصوص ظواهر الكتاب المجيد التي ادعى اصحابنا الاخباريون عدم حجيتها، والذي يمكن ان يكون مستنداً لهم امور :

ص: 363


1- هذا اذا كان ذلك الغير ناقلاً الى الثالث او اصغى الثالث بنفسه الى الكلام، مع بعد احتمال الاتكال على القرينة الحالية المعهودة بينهما، بحيث لا يعتني به العقلاء، فان احتمال خلاف الظاهر في هاتين الصورتين اما مسبب عن احتمال عمد الناقل مع كونه موثقاً أو سهوه او عن احتمال الاتكال المذكور مع بعده، وكل هذه على خلاف اصل عقلائي. و اما الصورة الاخيرة مع قرب الاحتمال المذكور، فالانصاف عدم الجزم بجريان اصالة عدم القرينة فيها تعبداً، وان جزم به شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في ظاهر كلامه، والشاهد على ما ذكرنا انه لو كان الظاهر المذكور على خلاف الاحتياط، وحصل للثالث ظن غير معتبر بعدم ارادته ولا مجالة يتولّد منه ظنّ آخر بابتناء الكلام على القرينة المذكورة، فلا نرى من انفسنا انه يجترى على الاقدام متمسكاً بظاهر الكلام، ولو كان الظاهر المذكور حجة لما كان فرق بين مخالفته للاحتياط والعدم، ولا بين الظن الغير المعتبر بعدم ارادته والعدم «منه قدّس سرُّه».

احدها الاخبار المدعى ظهورها في المنع عن العمل بظواهر الكتاب المجيد.

و الثاني العلم الاجمالى بوقوع التحريف فيه كما يظهر من الاخبار الكثيرة ايضاً.

و الثالث: العلم الاجمالي بورود التخصيص والتقييد في عموماته ومطلقاته، و وقوع الاستعمالات المجازية فيه. و الرابع وجود المتشابه في الكتاب، وعدم العلم بشخصه ومقداره، والنهي عن اتباعه.

ولا يصلح شيء من الوجوه المذكورة للمنع:

أما الاخبار فلانها على طوايف منها ما يدل على المنع عن التفسير بالرأى، ومنها ما يدل على المنع عن مطلق التفسير، ومنها ما يدل على المنع عن الافتاء بالكتاب، معللاً. بعدم وجود علمه الا عند اهله ولا ريب في ان الأوليين لا تمنعان عن العمل بالظواهر، فان من عمل من اهل اللسان بعام صادر من مولاه لا يقال: انه فسر كلام مولاه، فضلا عن صدق التفسير بالرأى عليه وأما الثالثة فلان من المحتمل قوياً كون المنع مختصاً بمثل ابي حنيفة وامثاله الذين كانوا يعملون بظواهر الكتاب من دون المراجعة الى من عندهم علمه، ولا اشكال عندنا في ان هذا النحو من العمل بظواهر الكتاب غير جابز

فان قلت ان الظاهر من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مقام الاعتراض على ابي حنيفة: «تعرف كتاب اللّه حق معرفته الخ»(1) ان المفتى بظواهر القرآن يجب ان يعرف القرآن حق معرفته والا لا يجوز له الفتوى بها.

قلت: ليس في الخبر ما يدل على عدم جواز الافتاء بظواهر القرآن مطلقاً، بل المتيقن من مدلوله أن من اكتفى في مدارك فتاواه بالقرآن المجيد واعرض عن المراجعة الى كلمات العترة (عَلَيهِم السَّلَامُ) كما كان ذلك ديدن ابي حنيفة وامثاله

ص: 364


1- الوسائل، الباب ٦ من ابواب صفات القاضي، الحدیث 27.

لا يجوز له ذلك الا بعد العلم بحقيقة القرآن ولما لم يكن هذا العلم عند احد الا العترة الطاهرة (عَلَيهِم السَّلَامُ) فلا يجوز لغيرهم الاكتفاء بالقرآن، فلا يدل الخبر على المنع عن العمل بظواهر الآيات في حق الخاصة الذين ديدنهم الفحص والمراجعة في كلمات المتهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) ثم العمل بظواهر الآيات بعد عدم الظفر بما يوجب صرفها عن ظاهرها كما لا يخفى(1).

و اما العلم الاجمالى بوقوع التحريف فبعد تسليمه يمكن ان يقال (2) انه في

ص: 365


1- هذا الجواب انما يتم بناء على مبنى شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في اصالة عدم القرينة من كونها اصلاً تعبدياً، وجه الابتناء أن الخبر يدل على انهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) هم المقصودون بالافهام في الخطابات القرآنية لاغير، فتمسك غيرهم بتلك الخطابات مع احتمال انه كانت في البين قرينة ولم تصل الينا إما لاخفائهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) اياها لمصلحة، وإما لذهابها عن ايدي الرواة باخفاء الظالمين مبنى على جريان الاصل المذكور تعبداً. و اما على ما استشكلنا هناك فيشكل التمسك المذكور ههنا، اللّهم الا ان يتشبث للجواز بذيل خبر الثقلين المشهور بين الفريقين، بتقريب ان من الواضح عدم ارادة التمسك بهما منضمين فان فتوى المعصوم وان لم تنفك واقعاً عن مدلول القرآن، لكن لما كان استفادته غير ممكنة في حقنا لا يصدق التمسك بالنسبة الينا، بل المتمسك لنا منحصر في قول العترة، فاذا ثبت أن المراد بالتمسك بالعترة هو على وجه الاستقلال ثبت ذلك في الكتاب ايضاً بوحدة السياق. لا يقال : اذا ورد من العترة حكم على خلاف ظاهر الكتاب فلا شك أنا ناخذ بقول العترة، فكيف يصدق كون الكتاب متمسكاً بالاستقلال لانا نقول: كونه متمسكاً انما هو على حد حجية ظاهر سائر الكلمات، بحيث لا ينافي حجيته صدور قرينة على الخلاف. ثم لا يخفى انه لا حاجة الى ملاحظة النسبة بين هذا الخبر والخبر المتقدم المانع لابي حنيفة عن التمسك معللاً باختصاص معرفة القرآن بمن خوطب به ؛ وجه عدم الحاجة أن هذا الخبر کلام صدر عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)» في آخر وصيته وعند قرب رحلته، وظهور مثل هذا الكلام اقوى من غيره كما لا يخفى.«منه، قدّس سرُّه».
2- هذا الجواب بكلا شقيه انما يتم لو ادعى المانع العلم الاجمالي باسقاط خصوص آية مستقلة منفصلة عما اردنا التمسك بها مشتملة على قرينة بخلاف ظاهرها، فان هذا من قبيل المعارض فلا يضر احتماله البدوي مع الفحص او المقرون مع خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء، ولكن انى لاحد هذه الدعوى ؟ واما لو ادعى العلم الاجمالي باسقاط الاعم منه ومما كان جزءاً متمما للآية مرتبطاً بظاهرها فاصالة عدم القرينة غير جارية، ولو فرضنا الشبهة بدوية الأ بناء على ما تقدم من شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» من كونها اصلا تعبديا، بل لو احتمل التحريف بالزيادة فلا تجري حتى على مبناه، للشك في اصل القرآنية. فالحق في الجواب هو التشبث بذيل خبر الثقلين بتقريب أنه على وجه الاخبار بالغيب دال على انهما مرجعان باقيان بين الامة الى يوم القيامة، لا بمعنى ان لهما في كل واقعة حكما يرفع الشك عنا، بل بمعنى انهما ان حكما حكماً كذلك يجب علينا اتباعه، وهذا ملازم إما مع عدم التحريف راساً، كما عليه جم غفير من الاعاظم واما مع عدم اضراره بالتمسك على تقدير الوقوع، وان شئت فاضمم هذا الخبر الى مادل على جواز القرائة كما يقرء الناس ؟ فانه دال عل ان كل ما يقرءه الناس* يصح قرائته بعنوان القرآنية، وهذا الخبر دال على ان كل ما يصح قرائته بهذا العنوان يصح التمسك به، ينتج ان كل ما يقرءه الناس يصح التمسك به، هذا. مضافاً الى موارد كثيرة في الاخبار احصاها شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» إما تمسك فيها الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) او الراوي ولم يكن في شيء منها تنبيه على المنع، وهذا ايضاً يوجب الاطمئنان بالجواز. مع ان الزيادة المحرفة ان كانت خارجة عما بين الدفتين فواضح عدم اضرارها، وان كانت فيه فلا يحتمل كونها من قبيل الآية او السورة، للزوم بطلان ما تحدى به القرآن المجيد من عدم اتيان الجن والانس بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، نعم كونها من قبيل الكلمة الواحدة كتبديل كلمة المة، بامة، ممكن، لكنه ايضاً غير مضر بالتمسك، لما عرفت.«منه، قدّس سرُّه». *الوسائل، الباب ٧٤ من أبواب القرائة في الصلاة.

غير آيات الاحكام من الموارد التى يكون التحريف فيها مطابقاً لاغراضهم الفاسدة، وثانياً لو سلمنا عدم اختصاص العلم الاجمالي بغيرها فغاية الامر صيرورتها من اطراف العلم الاجمالي، اذ لا يمكن دعوى العلم الاجمالي في خصوصها قطعاً، وحينئذٍ نقول : لا تأثير لهذا العلم الاجمالي، لخروج بعض اطرافه عن محل الابتلاء.

فان قلت: خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء انما يمنع عن تأثير العلم

ص: 366

الاجمالي في العمل بالاصول، واما الظواهر فالعلم الاجمالي قادح للعمل بها مطلقاً، ولو كان بعض اطرافه خارجاً عن محل الابتلاء، والسر في ذلك ان الملاك في العمل بالاصول هو الشك، فيعمل بها عنده الا ان يكون هناك مانع عقلى، وليس الا فيما يكون العلم الاجمالى بثبوت تكليف فعلى، بحيث يلزم من العمل بالاصول في الاطراف المخالفة القطعية، وفيما خرج بعض الاطراف عن محل الابتلاء لم يكن التكليف الفعلى معلوماً، فلا مانع من العمل بالاصول، واما الاخذ بالظواهر فملاكه الطريقية الى الواقع المعلوم انتفائها عند العلم الاجمالي بالخلاف مطلقاً.

قلت: بناء العقلاء في الظاهر المستقر على عدم الاعتناء بالعلم الاجمالي بمخالفة ظاهر يحتمل ان يكون هو هذا الظاهر الذي هو محل الابتلاء او غيره مما لا يكون محلا للابتلاء، اترى ان احداً من العقلاء يتوقف عن العمل بالظاهر الصادر من مولاه بمجرد العلم الاجمالي بمخالفة ظاهر مردد بين كونه ما صدر من مولاه وكونه ما صدر من مولى آخر لعبده.

و اما العلم الاجمالي بورود المخصصات والمقيدات على عمومات الكتاب ومطلقاته، فالجواب عنه انه ان ادعى العلم الاجمالى فيها بايدينا من الامارات فهو مانع عن العمل بالظواهر قبل الفحص واما بعده فيعلم بخروج المورد من الاطراف، وان ادعى ذلك في الواقع، فهو مانع عن العمل قبل الظفر بالمخصص والمقيد بالمقدار المعلوم بالاجمال، إما علماً وإما من الطرق المعلوم حجيتها، اذ بعد الظفر كذلك ينحل العلم الاجمالى بالعلم التفصيلي والشك البدوى، كما هو واضح.

و اما كون القرآن مشتملاً على المتشابه فالجواب ان المتشابه لا يصدق على ماله ظاهر عرفاً، ولو فرض الشك في شموله للظواهر فلا يجدى النهي المتعلق بعنوان المتشابه، لان القدر المتيقمن من مورده هو المجملات، فلا يصير دليلاً على المنع في الظواهر.

ص: 367

فتلخص مما ذكرنا عدم دليل يقتضى خروج ظواهر الكتاب عن الحجية، فهى على حد غيرها باقية تحت قاعدة الحجية المستفادة من بناء العقلاء وامضاء الشارع، فلا تحتاج الى ذكر الاخبار التي يدعى ظهورها في حج_ي_ة ظواهر الكتاب مع كون كلها او جلّها مخدوشاً.

هذا تمام الكلام في اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن تشخيص نفس الظاهر. و اما تشخيص الظاهر والمتفاهم من معنى اللفظ، فحصل الكلام فيه ان الظن في تشخيص الظواهر إما يحصل من قول اللغوى، وإما من احراز مورد الاستعمال بضميمة اصالة عدم القرينة وكل منهما لا دليل على حجيته.

اما الاول فلان غاية ما يستدل به علیه وجهان:

احدهما كونه خبرة و بناء العقلاء على الرجوع الى اصحاب الصناعات البارزين في فنهم فيما اختص بصناعتهم.

حول حجّية قول اللغوي

الثاني ان استنباط الاحكام من الادلة واجب على المجتهد، ولا يمكن الا بالرجوع الى قول اللغوى في تشخيص معانى الالفاظ الواردة في الكتاب والسنة، والدليل الثاني لو تم لدل على حجية كل ظن ولا اختصاص له بقول اللغوى.

و كيف كان فلا يتم كل من الوجهين اما الاول فلعدم كون اهل اللغة خبرة فيما هو المقصود، لان المقصود فهم المعاني الحقيقية للالفاظ وتشخيصها عن المعاني المجازية، وليس وظيفة اللغوى الا بيان موارد الاستعمال، واما كون المعنى الكذائي حقيقياً فلا يطلع عليه، وان اطلع عليه بواسطة بعض الامارات فليس من هذه الجهة من اهل الخبرة والحاصل ان المنع من جهة تحقق الصغرى، واما الكبرى اعنى بناء العقلاء على الرجوع الى ارباب الصناعات في صنعتهم فالانصاف انها لا تخلو عن قوة(1).

ص: 368


1- وجه القوة ان احتمال الخطأ في حدسه صار موهونا كاحتمال الخطأ في الحس، نعم لو احتمل تعمده الكذب فليس لنا اصل عقلائي يدفعه، بل لابد من حصول الاطمئنان أو القطع او امارة معتبرة «منه، قدّس سرُّه».

و اما الوجه الثاني، فان كان المقصود انه لو لم يرجع الى الظن الحاصل من قول اللغوى لانسد باب الامتثال للاحكام الواقعية المعلومة اجمالاً فهو راجع الى دليل الانسداد، وهذا يكون ممنوعاً على تقدير وخارجاً عن محل الكلام على تقدير آخر، لان المدعي ان كان ممن يسلّم حجية قول الثفة وهذا يحرز صدور تلك الاخبار المنقولة من الثقات فلا اشكال في انه ليس له دعوى العلم الاجمالي بوجود الاحكام لان معانى الفاظ الاخبار التي تكون حجة بالفرض معلومة غالباً، فلم يبق له بعد ذلك العلم الاجمالى، بل ينحل الى العلم التفصيلي والشك البدوي، وان كان ممن لا يسلّم ذلك، فيصح منه دعوى العلم الاجمالي لكن نتيجة تلك الدعوى مع انضمام باقي المقدمات المذكورة في دليل الانسداد كون الظن الحاصل من قول اللغوى من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد، وهذا خارج عن محل البحث ولا ربط له بالمدعى، لان_ا في مقام اثبات حجيته بالخصوص، حتى يكون من الظنون الخاصة كحجية ظواهر الالفاظ.

و ان كان المقصود حجيته مع قطع النظر عن الاحكام المع_لوم_ة اجمالاً فوجوب اجتهاد المجتهد لا يقتضى وجوب العمل بالظن المذكور، لان القاعدة تقتضى في مورد عدم العلم بالحكم الواقعي وعدم دليل خاص يرجع اليه الرجوع الى الاصول العملية في ذلك المورد.

و مما ذكرنا ظهر ان التمسك بالاحتياج الى قول اللغوى لا يثمر أبداً في المقام لانه مع ملاحظة دليل الانسداد خارج عما نحن فيه، ومع قطع النظر عنه لا يحتاج الى الاخذ بقوله، هذا.

مضافاً الى ما عرفت من ان قول اللغوى لا ينحل به عقدة فيما هو مهمنا، وهو تشخيص حقايق المعاني من مجازاتها.

ص: 369

هذا في الظن الحاصل من قول اللغوى.

حول أصالة عدم القرينة

و اما اصالة عدم القرينة فالقدر المتيقن من بناء العقلاء على حجيتها انما هو في مورد احرز المعنى الحقيقى لللفظ وشك في ارادة المتكلم اياه، واما لو احرز

المراد وشك في كون المراد معنى حقيقياً لللفظ او مجازيا فلا نسلم بنائهم على كونه معنى حقيقياً له بملاحظة الاستعمال واصالة عدم القرينة (1) ولهدا اشتهر بين العلماء في قبال السيد القائل باصالة الحقيقة ان الاستعمال اعم من الحقيقة.

في تعريف الاجماع، و حول مستند حجّية الاجماع

و لعل نظير ذلك ما لو ورد عام و علم بعدم كون الفرد الخاص مورداً لحكم ذلك العام ولكن شك في انه هل هو داخل في عنوان العام حتى يكون خروجه تخصيصاً في العام او خارج عنه حتى يكون عدم كونه مورداً لحكم العام من باب التخصص، فانه يمكن ان يقال في ذلك بعدم معلومية بناء العقلاء على اصالة عدم التخصيص لاستكشاف حال عنوان ذلك الفرد بعد القطع بعدم كونه مشمولا للحكم.

ويمكن الفرق بين المثال وما نحن فيه، بانه في المثال يرجع الشك الى الشك في المراد من اللفظ وان كان حكم هذا الفرد الخارجي الذي لا يعلم دخوله في اى عنوان مقطوعاً، واصالة عدم القرينة فيه يترتب عليها تشخيص المراد بخلاف ما نحن فيه، فان المفروض عدم الشك في المراد من اللفظ، هذا.

ص: 370


1- هذا بناء على القول بكون أصالة عدم القرينة اصلاً تعبدياً، واما على ما قدمنا من ان مرجعها الى أصالة عدم السهو في كل من المتكلم والناقل فيمكن احراز الوضع احياناً بسببها، كما لو نقل الناقل ان المتكلم قال جئني بأسد، ونعلم من الخارج انه اراد الرجل الشجاع، ولكن نحتمل وجود «يرمى» في الكلام وسهى. عنه الناقل، وعلى تقدير وجوده نشك في انه قرينة صارفة او معينة لبعض الافراد فاصالة. عدم سهو الناقل جارية ويثبت بسببها الوضع «منه، قدّس سرُّه».

حول حجّية الاجماع المنقول

ومنها، الاجماع المنقول بالخبر الواحد

و تحقيق المقام فيه يبتنى على بيان امور:

منها: ان الاجماع في مصطلح العامة عرف بتعاريف، فعن الغزالى انه اتفاق امة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على امر من الامور الدينية، وعن الفخر الرازي انه اتفاق اهل الحل والعقد من امة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على امر من الأمور، والمراد من اهل الحل والعقد على ما نبه عليه غير واحد منهم المجتهدون، وعن الحاجبي انه اجتماع المجتهدين من هذه الامة في عصر على امر، واما اصحابنا فقد اوردوا له حدوداً كلها متحدة او متقاربة معه، فعرفه العلامة بما ذكره الفخر الرازي، وعرفه بعضهم بانه اجتماع رؤساء الدين من هذه الامة في عصر على امر والحاصل انه من المعلوم انه ليس لاصحابنا رضوان اللّه عليهم اصطلاح جديد في الاجماع، وانما جروا فيه على ما جرت عليه العامة، نعم.يتسامح في اطلاق الاجماع على اتفاق طائفة خاصة ي_ع_ل_م م_ن_ه قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لوجود ملاك الحجية وهو قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعدم الاعتناء

مخالفة غيره.

ومنها: ان مستند حجية الاجماع امور ثلاثة:

احدها دخول شخص الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في جملة المجمعين ضرورة انه لو اتفق هذا النحو من الاتفاق اعنى اتفاق اهل العصر، او اتفاق امة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) او اتفاق العلماء منهم او اهل الحل والعقد منهم، او الرؤساء منهم كان الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) احد هؤلاء قطعاً، لعدم خلو العصر عن وجوده (عَلَيهِ السَّلَامُ).

و الثاني ما ذهب اليه شيخ الطائفة من قاعدة اللطف، وحاصله انه اذا

ص: 371

اجتمع المجتهدون في عصر على حكم من الاحكام الشرعية يقطع بمطابقته للواقع، اذ لولا ذلك للزم على الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، اظهار المخالفة من باب اللطف. وحيث لم يظهر المخالفة نقطع باتحاد رأيه مع رأى العلماء.

و الثالث ما ذهب اليه المتأخرون من الحدس، وحاصله ان اتفاق علمائنا الاعلام الذين ديدنهم الانقطاع الى الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في الاحكام، وطريقتهم التحرز عن القول بالراى والاوهام مع ما يرى من اختلاف انظارهم، مما قد يؤدي بمقتضى العقل والفطرة السليمة الى العلم بان ذلك قول المتهم ومذهب رؤسائهم، ولا اختصاص هذه الطريقة باستكشاف قول المعصوم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بل قد يستكشف بها عن رأى ساير الرؤساء المتبوعين، مثلاً اذا رأيت تمام خدمة السلطان الذين لا يصدرون الا عن رأيه اتفقوا على اكرام شخص خاص يستكشف من هذا الاتفاق أنّ هذا انما هو من توصية السلطان.

ومنها : ان الطريق الاول مما لا يمكن تحصيله في عصر الغيبة لانه مبنى على استقصاء آراء اشخاص يكون هو (عَلَيهِ السَّلَامُ) منهم، ولا يعرف شخصه تفصيلاً، ومن المعلوم عدم الاتفاق لاحد في هذه الاعصار والطريق الثاني ليس صحيحاً لعدم تمامية البرهان الذي اقيم عليه، فانه بعد غيبة الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتقصير منا كل ما يفوتنا من الانتفاع بوجوده الشريف وبما يكون عنده من الاحكام الواقعية قد فاتنا من قبل انفسنا، فلا يجب عليه عقلا ان يظهر المخالفة عند اتفاق العلماء، اذا كان اتفاقهم على خلاف حكم اللّه الواقعي، فانحصر الامر في الطريق الثالث.

اذا عرفت هذا فنقول انه لو نقل الاجماع ناقل فهذا النقل لا يخلو من وجوه:

احدها ان ينقل اتفاق جماعة يلازم قول الامام عند المنقول اليه. والثاني ان ينقل اتفاق جماعة ليس كذلك عنده قطعاً، وهذا على قسمين احدهما انه حصل للمنقول اليه بعض الامارات او الفتاوى بحيث حصل له من

ص: 372

مجموع ما عنده وما نقله الناقل على تقدير صدقه العلم بقول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) والثاني انه ليس عنده شيء آخر يحصل بانضمامه الى المنقول العلم.

و الثالث ان ينقل الاجماع ولا يعلم ان هذا الناقل حصل قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بطريق ملازم له عندنا ايضاً أو بغير ذلك الطريق.

لا ينبغى الاشكال في حجية نقل الاجماع ان كان على الوجه الأول بالنسبة الى الكاشف والى المنكشف، بناء على حجية الخبر الواحد، اما بالنسبة الى الكاشف فلانه اخبار عن امر محسوس فيؤخذ هذا الامر المحسوس المخبر به تعبداً، ويستكشف منه لازمه، واما بالنسبة الى المنكشف فلانه وان لم يكن من الامر المحسوس ولكن لما كان طريق الاطلاع عليه هو المحسوس يلحق به، نظير الاخبار بالعدالة فانه يقبل من المخبر لاستكشافها من لوازمها المحسوسة.

و كذا لا ينبغي الاشكال في حجيته على الاول من شقى الثاني بالنسبة الى الكاشف، وجعل مقدار ما اخبر به العادل بمنزلة المحصل، واستكشاف الواقع بضميمة ما عنده من الامارات، كما أنّه لا ينبغى الاشكال في عدم حجيته، على الثاني من شقى الوجه الثاني لان العلم بتحقق هذا القدر لا يستلزم العلم بالواقع، ولا اشكال في ان التعبد بالخبر الواحد لا يفيدنا ازيد من العلم.

و اما اذا نقل الاجماع على الوجه الثالث فهل لنا دليل على حجيته اولا ؟ (1) وما يمكن ان يستدل به عليه مفهوم آية النبأ، بناء على ثبوت المفهوم لها، وحاصل تقريب الدلالة انها تدل بمفهومها على حجية اخبار العادل مطلقا، سواء كان عن حس او عن حدس، غاية الامر انه خرج ما علم كونه عن حدس غير قريب من الحس وبقى الباقى او يقال : بان الخارج وان كان الاخبار عن الحدس

ص: 373


1- قد يقال بامكان الاستدلال ببناء العقلاء، فانه على اتباع خبر الثقة من غير تفتيش عن كونه من حس او حدس؛ وفيه عدم احراز ذلك البناء منهم، ولعل عدم تفتيشهم من جهة وثوقهم باستناد الخبر إما الى حس نفس المخبر به او آثاره ولوازمه «منه، قدّس سرُّه».

البعيد عن الحس واقعاً لكن لما كان المخصص منفصلاً بعد استقرار ظهور العام في وجوب العمل بكل ما يخبر به العادل سواء كان عن حدس أو عن حس فاللازم التمسك بحكم العام فيما لم يعلم دخوله تحت عنوان المخصص هذا.

و فيه منع المفهوم للآية كما ستعرف، ومنع ظهوره في الاعم من الاخبار عن حدس بعيد عن الحس، فان مقتضى التعليل في ذيل الآية هو وجوب الاعتناء باحتمال الندم المستند الى فسق المخبر، ومن المعلوم انه ليس الا من جهة قوة احتمال تعمده الكذب بخلاف العادل، وكذا منع كون الخارج من تحته ما يعلم انه عن حدس بعيد، ومنع جواز التمسك بعموم العام في صورة الشك في وجود المخصص الذي علم عنوانه مفصلاً، نعم يجوز التمسك في المخصص المنفصل لو كان مجملاً مردداً بين الاقل والاكثر مع اشكال فيه ايضاً مربيانه في بحث العام والخاص.

و يمكن ان يقال في تقريب حجية الاجماع المنقول: ان جهة الشك في عدم مطابقته للواقع تنحصر في امور: احدها احتمال تعمده الكذب، والثاني احتمال خطائه في الحدس والخطاء الذي يحتمل في حقه اما من جهة استكشاف فتوى جماعة اخبر بفتواهم، كما اذا استكشف فتوى جماعة في مسألة فرعية من جهة اتفاقهم على الاصل الذي ينطبق عليها بمقتضى اجتهاد الناقل، واما من جهة الكشف عن رأى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بواسطة قول جماعة لا ينبغي عادة حصون العلم بقولهم.

فان كان الشك من جهة الاول فادلة حجية خبر العادل وان قلنا باختصاص مفادها في الغاء احتمال الكذب ترفع هذا الشك.

و ان كان من جهة الثاني فالظاهر من قول الناقل : ان المسألة الجماعية تحصيل الاجماع في خصوص تلك المسألة، وهذا الظاهر حجة ترفع ذلك الشك.

و ان كان من جهة انه استكشف رأى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) من سبب غير عادى فظاهر حاله يرفع هذا الشك، نعم لو تبين منه في موارد ان دعويه الاجماع

ص: 374

كانت مستندة الى الاجماع على القاعدة او مستندة الى اتفاق جماعة ليس اتفاقهم سبباً عادياً لاستكشاف رأى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلا يجوز الركون الى نقله، واما ما لم يعلم حاله ف_ادلة حجية قول العادل بضميمة ظاهر لفظه وظاهر حاله تنتج وجوب الاخذ بالاجماع الذي نقله.

وفيه بعد تسليم بقاء ظهور كلام ناقل الاجماع في الاتفاق على الفرع انه لا يبعد حصول العلم للناقل بواسطة اتفاق جماعة وعدم حصوله لنا، ولا يلزم في الصورة المفروضة أن يكون حصول علمه بسبب غير عادى حتى يكون على خلاف مقتضى الاصل العقلائي، لامكان ان يكون ذلك منه من جهة حسن ظنه بتلك الطائفة لم يكن ذلك للمنقول اليه.

الحق عدم حجّية الاجماع المنقول

فتحصل من جميع ما ذكرن_ا ع_دم الدليل على حجية الاجماع المنقول بالخصوص الا اذا كان الاجماع المنقول بحيث لو اطلعن_ا ع_ليه علما حصل لنا العلم او كان بحيث لو ضممنا اليه الامارات الموجودة عندنا حصل لنا العلم.

تتميم

قد يقال: بناء على ان مفهوم الآية ليس متعرضاً الا لحيثية الغاء احتمال تعمد الكذب لا ينفعنا في الاخذ بخبر العادل حتى في المحسوسات اذا احتملنا كون الحجية الفعلية منوطة بشرط آخر اذ هي على التقدير المذكور ليست متعرضة للحجية الفعلية حتى يدفع ذلك الشرط المحتمل باطلاقها.

والجواب انه بعد الفراغ عن احتمال تعمد الكذب ليس المانع من حمل مفاد قول القائل على الواقع الا احتمال الخطاء في الحس، ومقتضى الاصل عند العقلاء عدمه، فاذا انضم ذلك الحكم المستفاد من الشرع الى تلك القاعدة المتفق عليها عند العقلاء فلا يعقل بقاء التحير، نعم يمكن عدم كون الخبر بعد فرض الغاء احتمال الكذب حجة فعلية الا مع شرط زائد كالتعدد ونحوه، لكن ان ثبت ذلك بالدليل فيرجع الى عدم امضاء الشارع ذلك الاصل المحفوظ عند

ص: 375

العقلاء الا مع وجود ذلك الشرط، وما لم يدل دليل على ذلك فمقتضى القاعدة العمل بالاصل المرتكز في اذهان العقلاء، ومن هنا يظهر ان عدم قبول شهادة الفاسق حتى مع العلم بعدم تعمده الكذب ليس منافياً لما ادعينا، اذ اشتراط

العدالة في الشهادة ثبت من الشرع لا من جهة احتمال تعمد الكذب في الفاسق، وبعد ثبوت ذلك نستكشف عدم امضاء الشارع ذلك الاصل العقلائي في مورد شهادة الفاسق.

ويمكن ان يقال ايضاً بان مانعية الفسق في باب الشهادة او اشتراط العدالة ليست راجعة إلى عدم إمضاء الأصل المذكور، فلوشهد الفاسق وعلمنا بعدم تعمده الكذب علمنا بالاصل المذكور في احراز الواقع، لكن الموضوع لحكم الواقع في باب دفع الخصومات ليس مجرد احراز الواقع بای طریق بل هو خصوص البيئة العادلة، فلاتنا في بين احراز الواقع وعدم جواز الحكم على طبقه فليتدبر.

***

التواتر المنقول و الشهرة

و مما قلنا في الاجماع المنقول يظهر الكلام في التواتر المنقول(1)، ان اردنا

ص: 376


1- الحق في المقام عدم المقايسة بالاجماع المنقول، بناء على المشهور في تعريف التواتر، من عدم تقوم مفهومه بحصول العلم للسامع فعلاً، وتقومه بكون الكثرة في المخبرين بحد يفيد العلم عادة، إذ بناء على هذا يكون له واقع محفوظ كالامور الخارجية مثل الخمر، فلا يصح مقايسته بمثل الاجماع الذي هو - بناء على مذاق المتأخرين من علمائنا- متقوم بحصول القطع برأى المعصوم حدسأ، ولو من قول اثنين او ثلاثة مثلاً، فلا واقع له محفوظ، فلو فرض أن التواتر ايضاً عبارة عن كون الخبر بحيث يفيد العلم للسامع فعلاً ولو من قول واحد او اثنين أو ثلاثة صح التقسيم المذكور في المتن من فرض الاثر تارة للواقع واخرى لنفس التواتر، إما في الجملة، وإما عند هذا الشخص، وأنه في الاول يدور ترتيبه مدار كون ما أخبر به من الاخبار مفيداً لقطع السامع، إما مستقلاً او مع ضم ما عنده من الاخبار او القرائن، فان كان كذلك يرتب والا فلا، وفي الثاني يرتب مطلقاً، وفي الثالث لا يرتب للقطع بانتفاء العلم للمنقول اليه. و أما بناء على المشهور فلا يصح هذا التقسيم، بل لا اشكال في ترتيب آثار الواقع للملازمة العادية بالفرض بين ما اخبر به العادل وبين الواقع، فيجب على الوسواسي الخارج عن المعتاد ايضاً ترتيب الاثر باخبار العادل بالعدد المذكور، كما يجب عليه عند تحصيله بنفسه ذلك العدد، وليس تشخيص مصداق التواتر ايضاً امراً محتاجاً إلى إعمال النظر بل هو كالامور الحسية ماخوذ من مباديها واما آثار نفس التواتر فلا اشكال في ترتيب ما كان مرتباً عليه بدون اخذ العلم في موضوعه، وكذا فيما اخذ فيه العلم طريقاً، كما لا اشكال في عدم ترتيب اثر ما اخذ فيه صفة. كما انه لو فرض تقوم التواتر بحصول العلم التعليقي للسامع، بمعنى كونه بحيث لو وصل اليه لعلم فيجرى فيه من حيث آثار الواقع تفصيل الاجماع المنقول، ومن حيث آثار نفس التواتر يرتب ما كان مرتباً عليه في الجملة وما كان مرتباً على التواتر عنده ايضاً لو احرز كونه بحيث يحصل العلم له لو وصل اليه ولوفرض اخذ العلم المذكور صفة ايضاً.كما هو واضح «منه، قدّس سرُّه».

اثبات الواقع الذي ادعى الناقل تواتر الاخبار عليه، واما ان اردنا ترتيب آثار نفس التواترفان كان الاثر مرتباً على التواتر في الجملة ولوع_ن__د واحد فيؤخذ به بلا اشكال، لان احتمال عدم تحقق التواتر عنده ملغى بحكم الادلة الدالة على وجوب الغاء احتمال الكذب عمداً، وان كان مرتباً على التواتر عند المنقول اليه فلا يؤخذ به وان كان المنقول اخبار عدة لو اطلع عليه المنقول اليه تحقق له العلم لان المفروض عدم تحقق العلم للمنقول اليه بواسطة اخبار تلك العدة، فالتواتر عنده منتف قطعا، وبعبارة اخرى حصول العلم باخبار جماعة ليس كالامور الواقعية حتى يثبت باخبار العادل كالكرية والقلة للماء وامثال ذلك، بل يختلف باختلاف الموارد والاشخاص، فمن حصل له ال_ع_ل_م باخبار جماعة تحقق له التواتر واقعاً دون من لم يحصل له العلم وحينئذ فاخبار العادل بتحقق التواتر لما لم يوجب حصول العلم فعلا للمنقول اليه لم يتحقق له موضوع الحكم وهو التواتر عنده.

في الشهرة

و من الظنون التي ادعى حجيتها بالخصوص الظن الحاصل من فتوى

ص: 377

المشهور.

و ما يمكن (1) ان يستدل به عليها امران:

احدهما : الادلة الدالة على حجية خبر الواحد اما بدلالتها على ذلك لمفهوم الموافقة كما قد يتوهم، بدعوى ظهورها في ان اعتباره ليس من باب الخصوصية بل هو من باب الكشف عن الواقع، فتدل على اعتبار ما كان كشفه اتم منه، واما من جهة تنقيح المناط بعد استفادته من تلك الادلة.

و الخدشة في كليهما واضحة اما الاول فلان ما يكون من باب مفهوم الموافقة يعتبر فيه دلالة اللفظ عليه، عرفاً، بحيث يكون مسوقا لافادة المفهوم، كدلالة قوله تعالى «ولا تقل لهما اف» (2) على حرمة الضرب، لان المعلوم من هذه القضية انها سيقت لافادة حرمة الايذاء وانما ذكر الفرد الخفى فيها لافادة ان الايذاء باى مرتبة كان محرّم، ولا اشكال في ان العرف لا يفهم من القضية الدالة على حجية الخبر الواحد انها سيقت لبيان اعتبار مطلق الظن، واما الثاني

ص: 378


1- قد يقال بامكان استفادة حجية الشهرة من آية النبأ بملاحظة التعليل المذكور فيها، بناء على ثبوت المفهوم لها، اذ يستفاد حينئذ بقرينة المقابلة كون الحكم في نبأ العادل بالحجية معللاً بعدم المعرضية للخطأ بمقدار نبأ الفاسق، ويستفاد من هذا أن ما كان عدم معرضيته للخطأ اقوى حجة بطريق اولى ولا باس بتسمية ذلك بمفهوم الموافقة. و فيه بعد الغض عما في تسميته بمفهوم الموافقة - لما ذكر في المتن أنه ليس المراد بالجهالة معناها اللغوي، وهو عدم العلم كيف؟ والا يلزم عدم جريان البرائة في الشبهات البدوية، بل المراد معناها العرفي، وهو الخروج عن طريقة العقلاء، فمفهوم الآية - على القول به عدم وجوب التبين في نبأ العادل لاجل عدم كون العمل به سفاهة بل كونه عملاً بالحجة وعقلائياً، لا بمعنى الحجية الشرعية، اذ الظاهر من تعليل الحكم بشيء ثبوته مع قطع النظر عن الحكم، بل بمعنى الحجية العقلائية، ففي الحقيقة يكون عدم وجوب التبين معللا بالحجية العقلائية، ومن المعلوم انتفائها فى الشهرة الفتوائية التي مبناها على الحدس «منه، قدّس سرُّه».(
2- سورة الاسراء الاية ٢٣.

فلانه ان اراد تنقيح المناط الظنى فلا يفيد لعدم الدليل على اعتبار هذا الظن، وان اراد تنقيح المناط القطعي فأنّى لاحد القطع بذلك، فان ظهور الادلة في كون اعتبار الخبر من باب الطريقية مسلّم، ولكن ليست الطريقية عبارة عن مجرد حصول الظن، بل هي مطابقة مورده مطابقة مورده غالباً مع الواقع، بحيث يكون مواقع التخلف في غاية الندرة، وما لم يكن كذلك ولو احتمالاً لا يحصل لنا القطع بتحقق المناط، فلا يجوز لنا الحكم باعتبار كل ظن حصل لنا بمجرد جعل الشارع خبر العادل حجة وان كان ذلك الظن اقوى من الظن الحاصل من الخبر لامكان التخلف في الكل او الغالب، ولو فرضنا العلم بمطابقته غالباً فلا نعلم حصول تلك المرتبة من الغلبة التي رآها الشارع في الخبر. هذا.

الامر الثاني بعض الاخبار الواردة في تعارض الخبرين الدال على الأخذ بالشهرة كقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) خذ بما اشتهر بين اصحابك (1) بدعوى ان المورد وان كان مما تعارض فيه الخبران لكن العبرة بعموم الجواب لا بخصوص المورد. و فيه ان الموصول عبارة عن الخبر لا كل شيء، وهو واضح، وان سلمنا عمومه فالاشتهار عبارة عن الوضوح لا الشهرة في الاصطلاح، وان سلمنا فغاية الامر كون الشهرة مرجحة ولا تلازم بين المرجحية والحجية مستقلة.

في حجّية الخبر الواحد

و مما قام الدليل على اعتباره بالخصوص في الجملة الخبر الواحد.

و اعلم ان اثبات الحكم الشرعى من الالفاظ المنقولة عن المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعد الفراغ عن امور متعلقة بعلم الكلام يتوقف على امور اربعة: احدها احراز ان هذه الالفاظ صادرة عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، والثاني احراز ان صدورها انما كان لاجل افادة الحكم الواقعي لا للخوف والتقية او مصالح

ص: 379


1- مستدرك الوسائل: ج 3، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢.

اخر اقتضت اظهار الحكم على خلاف ما هو ثابت في الواقع، والثالث احراز ظواهر الالفاظ وتشخيص ما هو المتفاهم منها عرفاً، والرابع احراز ان الظواهر منها مرادة للمتكلم، وهذا البحث انعقد للاول من هذه الامور، والثلاثة الاخيرة بين ما يكون مفروغاً عنه و ما يكون محلا للنظر.

ثم لا يخفى ان موضوع النزاع في هذا المبحث ليس الا في الخبر الواحد، اذ ليس النزاع هنا الا في حجيته وعدمها فلا وجه لجعل الموضوع هو السنة الواقعية وجعل النزاع في ثبوته بالخبر الواحد تحفظاً لموضوع علم الاصول، لان الالتزام بكون الموضوع في هذا العلم هو الادلة الاربعة ليس له ملزم، وقد اشبعنا الكلام في ميزان علم الاصول والفقه في اول الكتاب.

حول أدلة المانع عن حجّية الخبر الواحد و الجواب عنها

وكيف كان فاستدل المانع بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم، ومنها التعليل المذكور في ذيل آية النبأ والروايات الدالة على عدم قبول الخبر المخالف للكتاب، وردّ ما لم يوافقه وانه باطل زخرف والاجماع المحكى من السيد، بل المحكى عنه انه بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً لدى الاصحاب.

و الجواب اما عن الآيات فبأنها بعد تسليم دلالتها عمومات قابلة للتخصيص، وبعد دلالة الدليل على حجية الخبر تخصص به بل الدليل الدال على حجية الخبر حاكم على تلك العمومات، لان لسان تلك الادلة جعل مفاد الخبر بمنزلة الواقع.

و اما عن التعليل المذكور في آية النبأ فيأتى عند ذكرها ان شاء اللّه.

و اما عن الاخبار فبانها بين طوايف

منها ما يدل على عدم جواز العمل بالخبر الواحد عند التعارض، وهذه الطايفة - مع انها اخبار آحاد لا يجوز التمسك بها لعدم حجية الخبر الواحد - لا تثبت المنع عن العمل مطلقاً.

و منها ما يدل على وجوب العرض على الكتاب وهو بين طائفتين : احديهما ما يدل على طرح الخبر الذي يخالف الكتاب، والثانية ما يدل على طرح الخبر

ص: 380

الذي لا يوافق الكتاب وهذه الاخبار وان حصل فيها التواتر في الجملة لكن لا يثبت بها الا وجوب طرح ما يخالف الكتاب ولا تدل على السلب الكلى، اما بناء على ان المراد من عدم الموافقة خصوص المخالفة كما هو الظاهر من هذا اللفظ عرفا فواضح، واما على ظهوره في الاعم كما هو مدلوله اللغوى فلعدم ثبوت التواتر في خصوص الطائفة المشتملة على طرح غير الموافق منها، بل التواتر المدعى هنا هو التواتر الاجمالى بمعنى العلم بصدور البعض في مجموع الطائفتين، واللازم الأخذ بالاخص مضموناً، لانه المتيقن على اى حال، ثم ان المراد بالمخالفة لا يجوز ان يكون على نحو العموم والخصوص والاطلاق والتقييد لشيوع مثل هذه في الاخبار الصادرة عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) والتزام التخصيص في تلك الموارد شنيع جداً، لا لكثرتها، بل لان الاخبار الدالة على رد الخبر المخالف للكتاب وكونه باطلاً وزخرفاً مما يأبى عن التخصيص كما لا يخفى، فلابد من حمل المخالفة على المخالفة على نحو التباين والقول بعدم صدور ما يباين الكتاب من الجاعلين مدفوع بان هذا الاستبعاد انما يصح فيما اذا نقلت تلك الاخبار المباينة للكتاب عن الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) لا فيما اذا كان على نحو الدس في كتب الاصحاب «رضوان اللّه عليهم».

و اما الاجماع فالمحصل منه غير،ثابت والمنقول غير مفيد، مع انه معارض بالمثل وموهون بذهاب المعظم الى الخلاف.

حول أدلة القائلين بحجّية الخبر الواحد، ومنها آية النبأ

حجة المجوزين الادلة الاربعة اما الكتاب

فقد استدلوا بآيات

منها آية النبأ قال اللّه تبارك و تعالى «ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية»(1) تقريب الاستدلال من وجوه احدها التمسك بمفهوم الشرط اندال على

ص: 381


1- سورة الحجرات، الآية ٦.

عدم وجوب التبين عند مجيء غير الفاسق بالخبر، والثاني التمسك بمفهوم الوصف حيث علق سبحانه الحكم على خبر الفاسق والثالث التمسك بالمناسبة العرفية بين الفسق والتبين بحيث يظهر عند العرف ان وجه الاتيان به في الكلام كونه علة، وبعد فرض كونه علة لا يمكن كون الخبر بذاته علة والالزم استناد المعلول اليه لكونه اسبق مرتبة، هذا.

و في الكل نظر: اما في الاخيرتين فلاحتمال ان يكون ذكر الوصف في الآية لمجرد التنبيه على فسق الوليد ولكن الانصاف بعد هذا الاحتمال لان العرف يفهم من هذه القضية مناسبة بين التبين والفسق والحق ان يقال: ان المناسبة وان كانت محققة لكن لا يفهم من القضية ان وجه وجوب التبين في خبر الفاسق هذا الوصف بنفسه او من جهة كونه ملازماً لعدم حصول العلم غالباً(1)، فحينئذ يتردد العلة بين امرين احدهما وصف الفسق والثاني عدم

ص: 382


1- الانصاف انه كما ان كون الفاسق في الآية اشارة الى فسق وليد بعيد، كذلك كونه كناية عن عدم حصول العلم كما ان موضوعيته في مقابل العدالة - بمعنى اجتناب الكبائر عن ملكة، بملاحظة عدم الحجية الشرعية - مناف للتعليل بالجهالة الظاهر في ثبوت هذه العلة مع قطع النظر عن الحكم، بل الظاهر موضوعيته في مقابل العدالة، بمعنى اجتناب خصوص الكذب عن ملكة، بملاحظة عدم الحجية العقلائية، ولازم ذلك كون خير العدل الواحد بالمعنى عن المذكور موضوعاً للحجية العقلائية في الجملة، اذ المفروض عدم الاستناد في فهم ذلك الى مفهوم الشرط او الوصف حتى يثبت الايجاب الكلي، وانما الاستناد الى التعليل بالعرضي، وغاية ما يثبت به الايجاب الجزئي. و حينئذ فنقول : القدر المتيقن من بناء العقلاء هو العمل بخبر العدل الواحد المذكور في صورة كون احتمال جربه على خلاف سجيته وعادته في هذا الاخبار الشخصي موهوما، فلا يعتنون بهذا الاحتمال ولو فرض رجحانه من طريق غير حجة، واما صورة كون الاحتمال المذكور غير بعي_د عن_ده_م فهل يعملون باصالة جريه على عادته وبقاء عدالته اولا؟ فحل للشك، ويمكن حينئذٍ اثبات عدالته وبقاء جريه على ملكته بالاستصحاب الشرعي، وعلى هذا يصير حجية خبر العدل الواحد بالمعنى المذكور مطلقاً على طبق القاعدة، لا يخرج عنها الا بالدليل، ولو فرض وجود الدليل على خلافها في مورد فيستكشف منه إما التصرف في أصالة عدم الخطأ في الحس أو في اصل عدم تعمد الكذب، أو يكون في موضوع حكم آخر غير اثر الواقع «منه، قدّس سرُّه».

حصول العلم ولازم الاول حجية خبر العادل ولازم الثاني اشتراك خبر العادل الغير المفيد للعلم مع خبر الفاسق كذلك في عدم الحجية.

و اما في الاول فلان الجزاء ليس الا التبين في خبر الفاسق ولا يمكن تحققه الا بعد مجيء الفاسق بالنبأ، فالشرط مسوق لبيان تحقق الموضوع كما في قولك : اذا ركب الامير فخذر كابه، واذا رزقت ولداً فاختنه، والحاصل ان القضايا الشرطية التي تدل على المفهوم يشترط فيها ان تكون مشتملة على موضوع وشرط خارج عنه لتدل اداة الشرط على كون الحكم المستفاد من تلك القضية دائراً مدار ذلك الشرط، واما فيما لم يعقل تحقق الجزاء عند عدم الشرط لعدم تحقق موضوعه، فعدمه حينئذ عقلى ليس من مفاد القضية، ولا ينفع في هذا المقام العدم العقلي لان المطلوب عدم وجوب التبين في خبر العادل لا عدم وجوب التبين في خبر الفاسق في صورة عدم تحققه.

لا يقال: ان كلمة ان واخواتها وان كانت موضوعة بالوضع اللغوى او العرفي للدلالة على ثبوت الحكم للموضوع عند وجود الشرط وعدمه له عند عدمه، لكن لما لم يمكن ارادة هذا المعنى في المقام لعدم وجود شرط خارج عن الموضوع يجب حمل القضية على علية الموضوع لسنخ الحكم المستفاد من المحمول، حفظاً لبعض مراتب ظهور تلك الادوات وبعبارة اخرى ان سنخ المفهوم هنا سنخ مفهوم الوصف واللقب ان قلنا به، غاية الامر ان القول به فيهما خلاف التحقيق، لعدم ما يدل عليه، ولكن نقول به هنا لمكان اداة الشرط.

لانا نقول : ليس حمل الكلام على هذا المعنى حفظاً لظهور اداة الشرط في الجملة، لعدم دلالتها الا على العلية المنحصرة للشرط للحكم المتعلق بالموضوع في

ص: 383

القضية اللازم منها ارتفاعه عند عدمه عن ذلك الموضوع.

لا يقال: ان الموضوع في القضية ليس نبأ الفاسق حتى يلزم انتفائه بإنتفاء الشرط، بل الموضوع هو النبأ، ومجيء الفاسق به شرط خارج عنه، فتدل الآية على وجوب التبين في النبأ على تقدير مجىء الفاسق به وعدمه على تقدير عدمه.

لانا نقول: ان كان المراد كون الموضوع هو طبيعة النبأ المقسم لنبأ العادل والفاسق فاللازم على تقدير تحقق الشرط وجوب التبين في طبيعة النبأ وان كانت متحققة في ضمن خبر العادل وان كان المراد كون الموضوع هو النبأ الموجود الخارجي فيجب ان يكون التعبير باداة الشرط باعتبار الترديد لان النبأ الخارجي ليس قابلاً لامرين فعلى هذا ينبغي ان يعبر بما يدل على المضى لا الاستقبال(1). هذا.

الشبهات المذكورة للاستدلال بآية النبأ

وههنا اشكالات أخر

اوردت على دلالة الآية على حجية خبر العادل كلّها قابل للدفع.

ص: 384


1- توضيح المقام ان الموضوع في القضية الشرطية التي لها مفهوم وان كان يكتسب من ناحية الشرط تضيقاً قهرياً لكنه مع ذلك باق على وحدته، والشرط ليس بمفرد له، فيكون تعينه محفوظاً في طرف المفهوم، وهذا كما اذا كان الموضوع شخصاً، كان جائك زيد فاكرمه، او طبيعة مع ترتب حكم الجزاء على غيرها، كان جائك الانسان فتصدق بدرهم، وأما اذا فرضنا ان الشرط مفرد للموضوع وجاعل له فردين بملاحظة الاتصاف به وعدمه ثم حكم الجزاء مرتب على الفرد المتصف كما في «ان جائك الانسان فاكرمه» حيث ليس المقصود أنه عند تحقق مجيىء واحد من افراد الانسان يجب اكرامه ولو فرض تحققه في ضمن الفرد الغير الجائي، بل المقصود اكرام خصوص الفرد الجائي، فحينئذ لا يكون الموضوع بعينه محفوظاً في جانب الجزاء، بل يكون الشرط مسوقاً لتحققه، فلم يتحقق شرط اخذ المفهوم، وحينئذ فنقول ان الموضوع في الآية الشريفة ان جعلناه النبأ الشخصي فالشرط وان كان غير مفرد له، لكن لا يناسبه التعبير بالاستقبال وان جعلناه طبيعة النبأ ناسبه التعبير بالاستقبال لكن الشرط حينئذ مفرد فلم يتحقق شرط المفهوم. منه، قدّس سرُّه».

منها ان العبرة في القضية المعللة ملاحظة تلك العلة عموما وخصوصاً فقد العلة وان كان المذكور في اصل القضية خاصاً، وقد تخصص وان كان يعمم المذكور عاماً، وقد تكون معممة من وجه ومخصصة من وجه، كما في قولك «كل

الرمان لانه حامض» حيث انه يتعدى منه الى كل حامض ويخصص الرمان بالحامض، اذا تمهد هذا فنقول: ان صدر الآية وان كان دالاً على حجية خبر العادل بالمفهوم الا ان التعليل يدل على وجوب التبين في كل خبر غير مفيد للعلم، فتكون القضية بعد ملاحظة التعليل في قوة ان يقال: ان جائكم خبر لا يعلم صدقه وكذبه فتبينوا فيه.

لا يقال: ان مقتضى التعليل حكم عام نظير ساير العمومات الدالة على عدم جواز العمل بغير العلم، فلو فرض للآية مفهوم يجب ان يخصص العموم المستفاد من التعليل به، كما يخصص به سایر العمومات.

لانا نقول: تقديم الخاص على العام انما يكون فيما لو دار الامر بين طرح الدليل الخاص راساً وبين طرح عموم العام، ولا اشكال في ان الثاني متعين لانه جمع بين الدليلين، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل، لان ما يترتب على اخذ عموم العلة ليس الاطرح المفهوم وهو بعض مدلول القضية، كما ان ما يترتب على اخذ المفهوم ليس الا طرح العموم، فالتعارض بين ظهور القضية الشرطية في المفهوم وظهور التعليل في العموم، ولا شك ان التعليل اظهر في العموم من دلالة القضية على المفهوم، فيكون التعليل لا ظهريته قرينة صارفة عن انعقاد ظهور القضية في المفهوم نعم لو وقع التعارض بين مفهوم الآية وعام آخر يكون دلالته على العموم اضعف من دلالة القضية الشرطية في العلية المنحصرة يخصص ذلك العام بها، كما هو الحال في معارضتها مع ساير العمومات الدالة على عدم جواز العمل بغير العلم. و الجواب عن الاشكال ان التعليل لا يدل على عدم جواز الاقدام بغير العلم مطلقاً بل يدل على عدم الجواز فيما اذا كان الاقدام في معرض حصول الندامة،

ص: 385

واحتماله منحصر فيما لم يكن الاقدام عن حجة، فلو دلت الآية بمفهومها على حجية خبر العادل فلا يحتمل ان يكون الاقدام عل العمل به مؤدياً الى الندم، فلا منافاة بين التعليل ومفهوم الآية اصلاً.

ومنها ان الآية لو دلت على حجية خبر العادل ندلت على حجية خبر السيد في نقله الاجماع على عدم حجية الخبر الواحد ولازم ذلك عدم حجية الخبر اصلا، توضیح ذلك ان حجية خبر العادل ممايلزم من وجوده عدمه وكل ما كان كذلك فهو محال، فحجية خبر العادل محال اما الكبرى فواضحة، واما الصغرى فلانه لو كان حجة لكان خبر السيد بعدم حجية الخبر الواحد ايضاً حجة، لكونه خبراً صادراً من العادل، ولو كان هذا حجة لزم عدم حجية اخبار الآحاد مطلقاً.

و اما ما اجيب عنه بان خبر السيد غير قابل للحجية، لان حجيته مستلزمة لعدمها، فغير سديد لان عدم قابليته للحجية انما يكون باعتبار شموله لنفسه، واما بالنسبة الى ساير مداليله فقابل للحجية فحينئذٍ ن_ق_ول يمكن ان يلتزم بالتفكيك ويقال ان خبر السيد بالنسبة الى نفسه ليس بحجة، وبالنسبة الى سایر مدالیله موضوع لدليل الحجية، فيقع التعارض بينه وبين ساير الافراد في حكم العام.

فالاولى في الجواب ان يقال: ان اخبار السيد لكونه نقلاً للاجماع لا يشمله ادلة حجية الخبر، كما عرفت سابقاً، وعلى فرض شمول الادلة الامر ههنا دائر بين خروج هذا الفرد من العام وخروج باقي الافراد، ولا شك في ان الاول متعين، لان الثاني مستلزم لحمل الكلام على اللغز والمعمى، اذ في مقام ارادة عدم حجية خبر العادل القاء الكلام الدال على حجيته مما لا ينبغى صدوره من المتكلم الحكيم.

شبهة الاخبار مع الواسطة

قال شيخنا المحقق الخراساني دام بقاه في تعليقاته على ما يظهر من عبارته : انه من الجايز ان يكون خبر العادل حجة من زمن صدور الآية الى زمن صدور هذا الخبر من السيد «قدّس سرُّه» وبعده يكون هذا الخبر ححة فقط، فيكون

ص: 386

شبهة الأخبار مع الواسطة.

شمول العام لخبر السيد مفيداً لانتهاء الحكم في هذا الزمان، وليس هذا بمستهجن.ثم قال «دام بقاه» ما محصله ان حجية خبر العادل في زمان صدور الآية دون زماننا وان كانت خلاف الاجماع، فانا نعلم بالاجماع ان الخبر لوكان حجة للاولين لكان حجة للآخرين، الا انه لا بأس في مقام الاخذ بظاهر العموم ان يأخذ الاولون بمقتضاه من حجية الخبر ونأخذ نحن ايضاً بمقتضاه من عدم حجيته، هذا ملخص ما افاده «دام بقاه» (1).

و فيه او لا ما عرفت ان بشاعة الكلام على تقدیر شموله لخبر السيد ليست من جهة خروج تمام الافراد سوى فرد واحد، حتى يدفع بما افاده، بل من جهة التعبير بالحجية في مقام ارادة عدمها، وهذا لا يدفع بما افاده.

و ثانياً انه بعد تسليم الاجماع المذكور امر القضية داير بين امور كلها باطلة الا ارادة باقى الافراد وعدم ارادة خبر السيد لان المتكلم بهذه القضية إما لم يرد حجية خبر العادل اصلا وهو خلاف الفرض، وإما اراد حجية كل الاخبار حتى خبر السيد، وهو باطل ايضاً للزوم التناقض، وإما اراد حجية كل الاخبار الى زمان صدور الخبر من السيد وعدمها بعده، وهو باطل ايضاً، لانه خلاف الاجماع، وإما اراد حجية خصوص خير السيد من بين الاخبار الآحاد، وهو باطل ايضاً، لانه مستهجن، وإما اراد حجية باقي الاخبار غير خبر السيد، وهو المطلوب.

ومنها ان الآية لا تشمل الاخبار مع الواسطة، ومحصل هذا الاشكال من وجهين احدهما انه اذا قال الشيخ «قدّس سرُّه»: حدثني المفيد، قال: حدثني الصدوق مثلاً، فخبر المفيد لا يثبت لنا الا بدليل حجية قول الشيخ، وكيف يصح ان يجعل خبر المفيد الذي تحقق تعبداً بواسطة قول الشارع: «صدق خبر العادل» موضوعاً لهذا الحكم، فهذا من قبيل شمول قول القائل: «كل خبرى

ص: 387


1- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد ص 58 – 59.

صادق» لهذا الخبر الذي اخبر به فعلاً غاية الامر قضية «كل خبرى صادق» توجد فرداً حقيقياً للخبر، بخلاف «صدق العادل» فانه يوجد فرداً تعبدياً له. وثانيهما ان قول الشارع «صدق) العادل» ليس الا بملاحظة ترتيب الاثر، ولا اثر لخبر المفيد المخبر بقول الشيخ الا وجوب التصديق فيلزم ان يكون قضية «صدق العادل» ناظرة الى نفسها، وهو محال.

و عند التحقيق الاشكال الاول راجع الى الثاني، لان ايجاد قضية «صدق العادل» الفرد التعبدى ليس معناه الا ايجاب ترتيب الاثر، ولو اجبنا عنه فرغنا من الاشكالين.

و الجواب ان وجوب تصديق العادل فيما اخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشك تعبداً، بل مفاد الحكم هنا جعل الخبر من حيث انه مفيد للظن النوعي طريقاً الى الواقع، فعلى هذا لو اخبر العادل بشيء يكون ملازماً لشيء له اثر شرعاً إما عادة او عقلاً او بحسب العلم نأخذ به ونرتب على لازم المخبر به الاثر الشرعى المرتب عليه، والسر في ذلك ان الطريق الى احد المتلازمين طريق الى الآخر، وان لم يكن المخبر ملتفتاً بالملازمة، فحينئذ نقول: يكفي في حجية خبر العادل انتهائه الى اثر شرعی.

لا يقال: ان ما ذكرت انما يصح فيما اذا كان بين المخبر به وشيء آخر ملازمة عادية او عقلية، وليس بين المخبر به فيما نحن فيه اعنى حديث المفيد وصدقه ملازمة لاعادية ولا عقلية، فالانتقال من خبر المفيد المخبر بقول الشيخ الى تحقق مضمونه لا يجوز الا ببركة قول الشارع «صد) العادل» فيجب ان يكون هذا الحكم باعتبار تعلقه بخبر الشيخ ناظراً الى نفسه.

لانا نقول :ان الملازمة و ان لم تكن عقلية ولا عادية ولكن يكفى ثبوت الملازمة الج_ع_ل_ية، بمعنى ان الشارع جعل الملازمة ال_ن_وع_ي_ة الواق_ع_ي_ة بين اخبار العادل وتحقق المخبربه بمنزلة الملازمة القطعية، ولا تكون قضية «صدق العادل» ناظرة الى هذه الملازمة كما لا تكون ناظرة الى الملازمة العقلية والعادية، بل يكفي في

ص: 388

ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمة في نفس الامر حتى تكون منتجة للحكم الشرعى العملي، وان شئت قلت كما ان الطريق الى الحكم الشرعي العملى ابتداءً طريق اليه ويشمله ادلة الحجية كذلك الطريق الى طريق الحكم الشرعي ايضا طريق اليه فيشمله دليل الحجية فافهم وتدبر. هذا.

مضافاً الى ان قضية «صدق الع_ادل» بعد القطع بعدم كون المراد منها التصديق القلبي يجب ان تحمل على ايجاب العمل في الخارج، وليس لقول المفيد المخبر بقول الشيخ اثر عملى اصلاً ولو بعد ملاحظة كونه موضوعاً لوجوب التصديق، لان التصديق ليس اثراً عملياً في نفسه بعد ما لم يكن المراد التصديق القلبي والاثر العملى منحصر فيما ينتهى اليه هذه الاخبار، وهو قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) «يجب الصلوة» مثلاً فيجب ان يكون قضية «صدق العادل» عند تعلقها بقول الشيخ ناظرة الى ذلك الاثر، وهو لا يصح الا بملاحظة ماذكرنا، وبعبارة اخرى اوضح احتمال عدم وجوب الصلوة في المثال المذكور مستند الى احتمال كذب احد العدول المذكورة في السلسلة فمعنى الغاء احتمال كذب العادل يرجع الى ايجاب العمل بما انتهى اليه قول الرواة العدول.

الاستدلال بآية النفر لحجّية الخبر الواحد

ومن الآيات التى استدل بها على حجية الخبر آية النفر، قال اللّه تعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون (1)تقريب الاستدلال بوجوه اربعة:

احدها: استظهار رجحان الحذر من لفظة لعل إما بانسلاخها عن معناها. الحقيقى، وهو الترجي الواقعى وحملها على مطلق الطلب، أو مع ابقائها على حقيقتها، على ما هو التحقيق بكون معناها هو الترجى الايقاعي، ولا ينافي ذلك صدورها ممن هو عالم بحقيقة الأمر، ثم القول بالوجوب من باب الملازمة العقلية بين رجحان الحذر ووجوبه لما افاده صاحب المعالم، من ان المقتضي

ص: 389


1- سورة التوبة، الآية 122.

للحذر إما ان يكون موجوداً، فيجب، واما لا يكون موجوداً، فلا يحسن.

الثاني: استظهار رجحان الحذر مما ذكر مع القول بوجوبه من جهة الاجماع على عدم كون العمل بالخبر الواحد مستحباً، لان العلماء بين من يقول بالحرمة ومن يقول بالوجوب، فلا قائل بالاستحباب، فاذا ثبت الرجحان ثبت الوجوب بالاجماع.

الثالث استكشاف وجوب الحذر من جهة وقوعه غاية للانذار الواجب، من جهة وقوعه غاية للتفقه الواجب، من جهة وقوعه غاية للنفر الواجب بمقتضى كلمة لولا التحضيضية.

الرابع: استظهار وجوب الانذار مما ذكر، واستكشاف وجوب الحذر بالملازمة العقلية لانه لو لم يجب الحذر عقيب الانذار لزم لغوية وجوب الانذار.

ولا يخفى عدم تمامية شيء من الوجوه:

اما الاول، فلا مكان كون الحذر بالنسبة الى فوت المصالح الواقعية وارتكاب المفاسد الكامنة في الاشياء.

و اما الثاني والثالث، فلا بتنائهما على اطلاق رجحان الحذر حتى في صورة عدم العلم بمطابقة قول المنذر للواقع، وليس الكلام مسوقاً له، كما لا يخفى.

و اما الرابع، فلانه يكفي في عدم اللغوية حصول العلم من جهة انذار المنذرين في بعض الاحيان ووقوع الحذر بعد العلم.

فان قلت: كيف يمكن القول بوجوب الانذار على الاطلاق وعدم القول بوجوب الحذر كذلك، مع ان وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها اطلاقاً وتقيداً. قلت: قد يجب غير المقدمة معها لعدم كون ما هو المقدمة ممتازاً عند المكلف، فيجوز ان يجب مطلق الانذار لعدم تمييز الانذار المفيد للعلم من بين الانذارات، للوصول الى ما هو المقصود الاصلي هذا.

مضافاً الى احتمال ان يقال ان الآية ليست الا في مقام افادة وجوب تعلم احكام اللّه واقعاً والانذار بها والحذر عن مخالفتها، ولا يثبت بها وجوب التعبد بما

ص: 390

لم يعلم انه حكم اللّه تعالى، كما هو محل البحث.

ثم ان شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» اورد على الاستدلال بالآية بانها اجنبية. عن المقام، فان الكلام في انه هل يجب الحكم بصدور الالفاظ المنقولة عن الحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالخبر الواحد اولا ؟ ولا شك في ان مجرد هذا لا يوجب صدق الانذار على فعل الناقل ولا صدق الحذر على تصديق المنقول اليه، فالانسب الاستدلال بها على حجية فتوى الفقيه للعامي.

و فيه انه ليس حال الناقلين للاخبار الى غير هم في الصدر الاول الاكحال الناقلين للاحكام من المجتهدين الى مقلديهم، فلو قال احد حاكياً من قول المجتهد: «اتقوا اللّه في شرب الخمر فانه يوجب العقاب» مثلاً، يصدق انه منذر، مع ان نظره ليس بحجة، وكذلك حال الرواة بالنسبة الى من تنقل اليهم الاخبار من دون تفاوت اصلا نعم يبقى الكلام في نقل الاخبار التي ليست مشتملة على الانذار كالاخبار الدالة على الاباحة والاستحباب والكراهة، لكن الامر فيها سهل بعد الاجماع على عدم الفرق بين افراد الاخبار.

و مما ذكرنا في هذه الآية من عدم دلالتها على وجوب أخذ قول المنذر تعبداً تعرف بطلان الاستدلال بآية الكتمان لان جرمة الكتمان ووجوب اظهار الحق لا تلازم وجوب قبول السامع عند الشك تعبداً، كما لا يخفى.

ومن الآيات التى استدل بها للمقام آية السؤال عن اهل الذكر، قال جل وعلا: «فاسئلوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون»(1) تقريب الاستدلال ما مر فى السابق من الملازمة، لان ايجاب السؤال مع عدم وجوب القبول لغو.

و فيه، مضافاً الى ما مر من الجواب انها لو دلت على حجية الخبر لدلت على حجية الاخبار التي وردت في ان المراد باهل الذكر هم الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وعلى هذا لا دخل لها بحجية الخبر الواحد، فصحة الاستدلال بها توجب عدم صحة

ص: 391


1- النحل، الآية ٤٣. الانبياء، الآية.

الاستدلال بها هذا.

حول آية السؤال عن أهل الذكر و آية الأذن

ومن جملة الآيات التى استدلوا بها آية الاذن قال اللّه تعالى: «و يقولون هواذن قل اذن خير لكم يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين»(1) فانه تعالى قرن تصديق نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للمؤمنين بتصديقه جل وعلا ومدحه بذلك.

و فيه ان الظاهر من الآية بقرينة تعدية الايمان في الفقرة الثانية باللام أن اللّه تعالى مدح نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحسن المعاشرة معا المؤمن بقبول قوله فيما ينفعه ولا يضر غيره، لا بتصديق قول المؤمن مطلقاً، بمعنى ترتيب جميع الآثار كما هو المقصود، وهذا هو المراد من التصديق في قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال قولاً وقال لم اقله فصدقه وكذبهم» (2).

الاستدلال الحجّية الخبر الواحد بالسنة

و اما السنة فاخبار كثيرة، الا ان صحة التمسك بها تبتنى على تواترها، إما لفظاً، وإما معنى، وإما اجمالاً، بمعنى العلم بصدور ب_ع_ض_ه_ا م_ن الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والا لما امكن التمسك بها على حجية أخبار الآحاد والاولان وان كانا مفقودين الا ان الاخير ليس قابلاً للانكار، كما لا يخفى على من لاحظ الاخبار الواردة في هذا الباب، وعلى هذا يجب الاخذ باخصها مضموناً لكونه القدر المتيقن من بينها، وحينئذ لو نهض ما هو القدر المتيقن على حجية ما عداه لوجب الاخذ به، كما ان الامر كذلك، فان في الاخبار ما هو جامع لشرائط الحجية، ويدل على حجية خبر الثقة، وعليك بالمراجعة فيها حتى تجد صدق ما ادعينا.

و لكن المتيقن من مدلول ما هو القدر المتيقن حجية الخبر الموثوق الصدور من جهة الوثوق بصدق الراوى دون الجهات الخارجية.

نعم لو تم بناء العقلاء الذي يتكلم فيه بعد ذلك ان شاء اللّه لدل على حجية كل خبر يطمئن النفس بصدوره من اي جهة كان.

ص: 392


1- التوبة، الآية ٦١.
2- الوسائل الباب ١٥٧ من احكام العشرة الحديث 4.

تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد

و اما الاجماع، فتقريره من وجوه احدها دعواه على حجية الخبر الواحد في قبال السيد واتباعه والثاني دعواه على حجيته في حال الانسداد مطلقاً. حتى من السيد واتباعه والث_ال_ث دعوى السيرة واستمرار طريقة المسلمين طرا على استفادة الاحكام الشرعية من الثقات والرابع استقرار طريقة العقلاء.

و تحصيل الاجماع على الوجه الاول باحد وجهين: احدهما تتبع كلمات العلماء واقوالهم رضوان اللّه عليهم، والثاني تتبع الاجماعات المنقولة والعلم بتحقق الاجماع المحصل اما بنفس الاجماعات المنقولة واما بضميمة شواهد أخر.

ولا يخفى ما في كلا الوجهين فان تتبع كلماتهم مع احتمال كون مدركهم مثل آية النبأ او غير ذلك من الادلة التي ذكرت سابقاً لا ي_وج_ب الحدس القطعي برأى الحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ومن هنا تعرف حال الوجه الثاني.

و اما دعوى الاجماع مطلقاً حتى من السيد واتباعه على حجية الخبر الواحد في زمان الانسداد فلا تنفع بعد احتمال ان المستند للمطلق منهم هو الادلة التي ذكرنا، وللمقيد منهم بحال الانسداد هو حكم العقل بحجية كل ظن، سواء حصل من الخبر ام من غيره.

و اما دعوى سيرة المسلمين فلم يحرز ان عملهم بخبر الثقات من حيث كونهم مسلمين، لاحتمال ان يكون ذلك منهم من جهة كونهم عقلاء، فيرجع الى الوجه الرابع.

نعم هذا الوجه اعنى بناء العقلاء لوتم عدم ردع الشارع اياهم لا ثبت المدعى فينبغي التكلم فيه.

فنقول : الذي يمكن ان يكون رادعاً لهم الآيات المتكاثرة والاخبار المتواترة على حرمة العمل بما عدا العلم، وشيء منها لا يصلح لان يكون رادعاً، بيان ذلك انه بعد فرض كون حجية خبر الثقة مركوزة في اذهان العقلاء لو تكلم احدهم مع الآخر وقال : لا يجوز او لا يحسن العمل بغير العلم، اولا ينبغى نقض اليقين بغير اليقين، مثلاً، يفهم السامع من كلام هذا المتكلم ان المراد من العلم

ص: 393

اعم من الجزم وما هو بمنزلته عندهم، والمفروض ان حجية قول الثقة مفروغ عنها عند المتكلم والسامع، لكونهما من العقلاء، والقضايا الصادرة عن احدهما الملقاة الى الآخر التي حكم فيها على موضوع العلم محمولة على ما هو العلم بنظرهم وفي حكمهم، وعلى هذا نقول : ان تكلمات الشارع مع العرف والعقلاء حالها حال تكلمات بعضهم مع الآخر، لانه بهذه الملاحظة بمنزلة احد من العرف، ومن هذه الجهة يحمل الاحكام الشرعية الواردة في القضايا اللفظية على المصاديق العرفية، وحينئذ نقول نهى الشارع عن العمل بغير العلم بنظر العرف والعقلاء محمول على غير صورة الاطمينان والوثوق الذي فرض كونه عنده بمنزلة العلم، نعم لواراد الشارع العمل بغير العلم بنظر العرف والعقلاء فالواجب ان يعلمهم بلفظ دال عليه صريحاً، كأن يقول يحرم عليكم العمل بالاطمينان، او مثل ذلك. هذا محصل الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

واستدل شيخنا المحقق الخراساني «دام بقاه» على عدم صلاحية الادلة المذكورة للردع بلزوم الدور لو كانت رادعة، وبيانه ان رادعية تلك الادلة تتوقف على وجوب اتباعها مطلقاً حتى في موارد خبر الثقة، وهو يتوقف على عدم حجيته، كيف ولو كان حجة لكان وارداً أو حاكماً عليها، فلو كان خبر الثقة غير حجة بواسطة كونها رادعة للزم الدور، لتوقف رادعيتها على عدم حجية خبر الثقة المتوقف على رادعيتها، فلا تكون تلك الادلة رادعة الا على وجه دائر(1).

و فيه اولا انه يمكن تقرير نظير هذا الدور في طرف حجية خبر الثقة بان يقال: ان حجية خبر الثقة تتوقف على عدم رادعية تلك الادلة، اذ على تقدير رادعيتها لا يكون خبر الثقة حجة، كما هو المفروض، وعدم رادعيتها يتوقف على حجية خبر الثقة، اذ على تقدير عدم حجيته يكون عموم الادلة متبعاً في موارد وجود خبر الثقة، فلا يمكن ان يكون خبر الثقة حجة الا على وجه دائر.

ص: 394


1- تعليقة المحقق الخراساني «قدّس سرُّه» هنا، ص ٦٧.

و ثانياً ان ما افاده من توقف رادعية الادلة على عدم حجية خبر الثقة فمسلم، لما عرفت من انه على تقدير حجيته لا يبقى مجال للعمل بالعمومات، واما توقف عدم حجيته على رادعية تلك الادلة فممنوع اذ يكفى في عدم الحجية عدم العلم بامضاء الشارع، وهو حاصل قبل الفراغ عن عدم كون تلك الادلة رادعة فتدبر جيداً.

تقريرات حكم العقل بحجّية الخبر الواحد

و اما العقل فهو من وجوه، بعضها مختص بحجية الخبر، وبعضها يثبت حجية مطلق الظن :

اما الاول فمن وجوه :

احدها انا نعلم اجمالا بصدور كثير من الاخبار التي بايدينا بحيث لو علم تفصيلاً لا نحل العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي والشك البدوي، وحينئذ يجب بحكم العقل العمل بكل خبر مثبت للتكليف، ويجوز العمل بكل خبر ناف له لخروج مورده عن اطراف العلم.

ولا يخفى ان مقتضى هذا الدليل على تقدير تماميته هو وجوب العمل بكل خبر مثبت للتكليف لو لم يكن في مورده اصل مجعول شرعي ينافي مقتضى الخبر، والا لم يكن العمل بمضمون الخبر متعينا بل المتعين هو العمل بالاصل ان كان مثبتاً للتكليف ايضاً، والا يوجب الترخيص في مخالفة الاحتياط بالعمل بالخبر.

هذا اذا كانت الاصول الواردة في موارد الاخبار حجة، بمعنى عدم العلم بخلافها اجمالاً.

و اما لو علم ذلك :

فان كان هذا العلم الاجمالى في الاصول المثبتة للتكليف الواردة في موارد الاخبار المثبتة لتكليف آخر فمقتضى القاعدة التخيير، لان المقام من دوران الامر بين محذورين للعلم بصدور اخبار مثبتة للتكليف اجمالاً، وشمول دليل الاصل بعض موارد وجود الاخبار على نحو الاجمال ايضاً، نعم لو قلنا بان دليل الاصل يقصر عن ثبوت الحكم في موارد العلم الاجمالى

ص: 395

بالخلاف يجب العمل بمقتضى الاحتياط في مضمون الاخبار، وان كان العلم الاجمالى بخلاف الاصول المثبتة في موارد الاخبار النافية فلزوم العمل بمقتضى تلك الاصول وعدمه مبنى على ما اشير به آنفاً من قصور ادلتها في مورد العلم الاجمالي وعدمه فان قلنا بالاول فتسقط عن الحجية وان قلنا بالثاني - كما هو التحقيق - يجب العمل بمقتضاها، هذا حال الاصول المثبتة في موارد الاخبار المثبتة والنافية.

و اما الاصول النافية في موارد الاخبار المثبتة، فلو علم اجمالا بخلافها يجب طرحها رأساً، سواء قلنا بعدم شمول ادلتها لها، ام لا، اما على الاول فواضح، واما على الثاني فلان العمل بالكل موجب للمخالفة القطعية وهي قبيحة عقلاً، والعمل بالبعض معينا ترجيح من غير مرجح، وغير معين لا دليل عليه، فظهر مما ذكرنا كله ان وجوب العمل بالاخبار بمقتضى هذا الدليل لا يفي بما هو المراد والمقصود من حجية الخبر هذا.

ويظهر من جواب شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) عن هذا الدليل دعوى العلم بالاحكام زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة، والذي ينادي بذلك دعواه بانا لو فرضنا عزل طائفة من الاخبار وضممنا الى الباقي مجموع الأمارات التي بايدينا " كان العلم الاجمالي بحاله (1)، ومن المعلوم عدم صحة هذه الدعوى الا بعد العلم بالتكاليف زائدة على المقدار المعلوم في الاخبار الصادرة، اذ لولا ذلك لما حصل العلم بعد عزل طائفة من الاخبار، لا مكان كون المعلوم بتمامه في تلك الطائفة التي عزلناها.

وحينئذ لا يرد عليه اشكال اذ مع صحة الدعوى المذكورة لا اشكال في لزوم الاخذ بباقى الامارات، لكونها من اطراف العلم الاجمالي، نعم يمكن منع العلم زايداً على ما حصل لنا في الاخبار الصادرة.

الوجه الثاني : ما ذكره في الوافية مستدلاً على حجية الخبر الموجود في

ص: 396


1- الفرائد؛ عند البحث عن الدليل الاول العقلى، ص 5- ١٠٤، طبع رحمة اللّه.

الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الاربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، قال: لانا نقطع ببقاء التكليف الى يوم القيامة، سيما بالاصول الضرورية كالصلاة والزكاة والحج والمتاجر والانكحة ونحوها، مع ان جل اجزائها وشرايطها وموانعها انما يثبت بالخبر الواحد الغير القطعي، بحيث يقطع بخروج حقایق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بالخبر الواحد، ومن انكر فانما ينكر باللسان وقلبه مطمئن بالايمان «انتهى».

اقول: هذا الدليل كالدليل الاول الا ان المدعى فيه العلم الاجمالي بصدور خصوص الاخبار الدالة على الشرايط والاجزاء والموانع، ويرد عليه مضافاً الى ما يرد على الاول انه لا يثبت وجوب العمل بالخبر المثبت لاصل التكليف.

الوجه الثالث: ما ذكره بعض الاساطين في حاشيته على المعالم، وملخصه ان وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالاجماع، بل بالضرورة والاخبار المتواترة، وبقاء هذا التكليف ايضاً بالنسبة الينا ثابت بالادلة المذكورة، وحينئذ فان امكن الرجوع اليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم، او الظن الخاص به، فهو، والا فالمتبع هو الرجوع اليهما على وجه يحصل الظن منهما(1).

اقول : لا يخفى ان المراد من السنة التي ادعى الاجماع والضرورة على وجوب العمل بها، ان كانت السنة الواقعية فهذا يرجع الى دليل الانسداد الآتي المثبت لحجية كل ظن لا خصوص الاخبار وان كان المراد هو الاخبار الآحاد الحاكية عن السنة، فمع انه لا ينبغي دعوى الضرورة على وجوب العمل بها، يوجب العمل بما هو متيقن الاعتبار لو كان والا فالعمل بالكل تحصيلاً للامتثال اليقينى، ولا يجوز الاكتفاء بالخبر المظنون الصدور او الاعتبار.

***

ص: 397


1- هداية المسترشدين، ص391.

في الوجوه الّتي استدل بها على حجّية مطلق الظن

و اما الوجوه التي استدل بها على حجية مطلق الظن من غير خصوصية للخبر فهى اربعة:

الأول: ان مخالفة المجتهد لماظنه من الحكم الوجوبي او التحريمي مظنة للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم اما الصغرى فلان الظن بالوجوب او الحرمة مستلزم للظن بالعقوبة على المخالفة او بالمفسدة اللازمة لترك الواجب او فعل الحرام، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، واما الكبرى، فلاستقلال العقل بها، بل قيل ان وجوب دفع الضرر المظنون متفق عليه بين العقلاء وان لم نقل بالتحسين والتقبيح.

والجواب: ان الضرر الاخروى غير مظنون بل ولا محتمل، من جهة عدم البيان، واما الغير الاخروى ان سلمنا الظن به فلا يوجب صحة العقوبة، بداهة أن مجرد هذا الظنّ ليس منشأ للعقوبة، وليس هنا حكم عقلى يوجب العقوبة بل المحقق في موارد الظن بالضرر تحرز النفوس بمقتضى الجبلة، ولا يختص ذلك بالعقلاء، بل هو امر مرتكز في نفوس تمام الحيوانات، ومعلوم ان مثل هذا الارتكاز الجبلي الذي ليس منشأه التحسين والتقبيح ليس موجباً لصحة العقوبة.

و الحاصل ان تحرزهم عن الضرر انما هو من جهة حبهم للنفس والمال، وليس من اقدم عليه لغرض من الاغراض ممن يعد عند العقلاء مقدماً على القبيح، كمن يقدم على الظلم، فلم يبق الا ان المقدم على الضرر المظنون او المحتمل يقع فيه على فرض وجوده وهذا لا ينكره احد، سواء كان بناء العقلاء على الاحتراز عن الضرر ام لا انما الكلام في أنه هل للمولى حجة على مؤاخذته مطلقاً او على تقدير الوقوع في الضرر الواقعي اولا؟ وقد عرفت عدمها، هذا.

مضافاً الى انه لا يلزم ان يكون المفاسد الكامنة في فعل المحرم او ترك

الواجب من الضرر الراجع الى المكلف حتى يحصل في الاقدام على المظنون

ص: 398

الحرمة وترك المظنون الوجوب مخالفة للكبرى المدعاة، كما هو واضح.

الوجه الثاني: انه لو لم يأخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

و فيه انه ان اراد من الراجح ما هو راجح بملاحظة اغراض الفاعل ويقابله المرجوح كذلك فترجيح المرجوح بهذا المعنى غير ممكن، لانه راجع الى نقض الغرض، وليس مجرد الاخذ ب_ال_ط__رف الم_وه_وم ت__رج_ي__ح__ال__ل_م_رج__وح بهذا المعنى، اذ ما لم يترجح بملاحظة اغراضه لم يمل اليه، وان اراد من الراجح هو الظن فعدم الاخذ به واختيار الطرف الموهوم وان كان ترجيحاً للمرجوح، بمعنى اختيار الطرف الموهوم، ولكن قبح ذلك موقوف على تنجز الاحكام الواقعية ولزوم امتثالها، وانحصار طرق الامتثال بالظن او الوهم او الشك، لكن هذا راجع الى دليل الانسداد الآتى، وليس وجهاً مستقلاً.

الوجه الثالث: ما عن السيد الطباطبائي «قدّس سرُّه» من انه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله لانه عسر اکید وحرج شديد، فمقتضی الجمع بين قاعدتى الاحتياط ونفى الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات لان الجمع على غير هذا الوجه باخراج بعض المظنونات وادخال بعض المشكوكات والموهومات باطل اجماعاً.

ولا يخفى رجوع هذا الى دليل الانسداد المعروف، مع اسقاط بعض المقدمات التي لا ينتج بدونها.

في الاستدلال لحجّية مطلق الظن بدليل الانسداد

الوجه الرابع: هو الدليل المعروف بدليل الانسداد، وهو مركب من مقدمات:

ص: 399

احداها العلم الاجمالي بثبوت تكاليف كثيرة في الشريعة.

الثانية عدم لزوم الامتثال على نحو يقطع باتيمانها او اتيان ما يكون بدلا عنها، لا على وجه التفصيل ولا على وجه الاجمال، سواء كان عدم لزوم ذلك بواسطة عدم التمكن ام بواسطة الاذن الصادر من الشارع.

الثالثة عدم جواز الاهمال وترك التعرض لامتثالها اصلاً.

الرابعة انه في مقام دوران الامر بين الامتثال على وجه الظن وبينه على نحو الشك والوهم يكون اختيار الشك والوهم في قبال الظن قبيحاً عند العقل.

ولو تمت هذه المقدمات التي ذكرناها يجب الاخذ بالظن قطعاً، اذ العلم الاجمالي بوجود التكاليف ثابت بحكم المقدمة الاولى، وليس على المكلف امتثالها على نحو يوجب القطع بالسقوط، لا على نحو الامتثال العلمي التفصيلي، ولا على نحو الامتثال بالطرق المعتبرة تفصيلاً، أو الاصول المعتبرة كذلك، ولا على نحو الامتثال الاجمالي بحكم المقدمة الثانية، ولا يجوز له اهمالها لها وعدم التعرض لامتثالها اصلا، بحكم المقدمة الثالثة، ولا يجوز العقل رفع اليد عن الظن واخذ المشكوك والموهوم في قباله بحكم المقدمة الرابعة، فلا سبيل له الا الاخذ بالظن.

اما المقدمة الاولى فلا سبيل الى انكارها.

اما المقدمة الثانية فتوضيحها ان الامتثال على نحو يوجب العلم ببرائة الذمة باحد امور منها احراز التكاليف تفصيلاً بمقدار ينحل العلم الاجمالي الى العلم : التفصيلي والشك البدوى والاتيان بما علم تفصيلاً.

و منها احرازها بالمقدار المذكور بالطرق الشرعية المعتبرة والاصول المثبتة للتكاليف، والاحتياط في الموارد الجزئية التي تقتضى القاعدة الاحتياط فيها، ولومع قطع النظر عن العلم الاجمالي المذكور.

و منها اتيان كل ما يحتمل كونه واجباً وترك كل ما يحتمل كونه حراماً.

ص: 400

اما الاول، فلا سبيل اليه قطعاً لشهادة كل احد ان المعلومات في الفقه بالنسبة الى غيرها لندرتها تكاد ان تلحق بالمعدوم.

اما الثاني، فيبتني على المراجعة فيما ذكرنا من الادلة على حجية الخبر، فان قطع منها بحجية قسم خاص منه يفى بالفقه كالخبر الموثوق صدوره فقد استراح من الرجوع الى الظن المطلق والا فمرجعه الظن المطلق ان تم باق المقدمات، وستطلع عليه، واما الرجوع الى الاصول المثبتة فلا يكفى لعدم وفائها في الفقه بحيث توجب انحلال العلم الاجمالى، مضافاً الى ان الامارات الموجودة في مواردها قد توجب العلم الاجمالي بخلاف مفادها، والعلم الاجمالي بخلاف مؤدى الاصول مضر لنا فيما نحن بصدده، سواء كان العلم الاجمالي بنفي التكليف في بعض مواردها ام باثبات تكليف آخر مضاد لمؤدى الاصول، وان قلنا بان مجرد العلم الاجمالي بعدم التكليف بين الاصول المثبتة له لا ينافي اجراء الاصل، اما الثاني فواضح، واما الاول فلان تلك الأصول التى فرضناها كافية في الفقه لولا هذا العلم تصير غير كافية بملاحظة العلم المذكور، فانه بعد العلم بعدم ثبوت التكاليف في بعض مواردها يعلم ان المعلوم بالاجمال في غير موردها، اللّهم الا ان يفرض الاحكام الظاهرية المستفادة من الاصول زائدة على المقدار المعلوم من التكاليف المعلوم اجمالاً، بحيث لم يعلم بتكاليف اخر في غير مؤدى الاصول،

حتى بعد العلم الاجمالى بعدم التكليف في بعض مواردها، وهو كما ترى.

و الحاصل ان اكتفاء المجتهد بالعمل بالاصول المثبتة للتكليف والاحتياط في الموارد الجزئية ورفع اليد عن ساير الامارات لا يجوز لامرين: احدهما قلة مواردها، بحيث لا تفي بالمقدار المعلوم اجمالاً، الثاني ان العلم الاجمالي بمخالفة مواردها للواقع يوجب سقوطها عن الاعتبار فيما كان العلم بتكليف آخر مضاد لمؤدى الاصول، ويوجب عدم الاكتفاء بمؤدى الاصول فيما كان العلم بعدم ثبوت لتكليف في بعض مواردها نعم يلزم الاخذ بمؤدى الاصول المذكورة فيما لم يسقط بواسطة العلم الاجمالي بالمخالفة عن الاعتبار واعمال الظن في

ص: 401

غيرها، لا انه يقتصر في الفقه على العمل بتلك الاصول ويطرح ساير الامارات المثبتة للاحكام

لا يقال : ان من الطرق الى التكاليف الواقعية الاخذ بفتوى الفقيه، حيث دلت الادلة الخاصة على اعتبارها للجاهل.

لانا نقول : الرجوع الى فتوى الفقيه انما يجب على غير البصير لا على الفاضل المتدرب الذي يقطع بفساد مبنى الفقيه الآخر من دعوى انفتاح باب العلم والعلمى، وهذا واضح.

و اما الطريق الثالث من الطرق للامتثال القطعى اعنى اتيان محتملات الوجوب وترك محتملات الحرمة فقد يقال بعدم وجوبه بل بعدم جوازه لاختلال النظام بذلك، لكثرة ما يحتمل وجوبه، خصوصاً في ابواب الطهارة والصلاة، قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في تقريب ذلك : لو بني العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه اجماع قطعی او خبر متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع اموره يوماً وليلة لوجد صدق ما ادعينا، هذا كله بالنسبة الى نفس العمل بالاحتياط، واما تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلديه، وتعلم المقلد موارد الاحتياطات الشخصية، وعلاج تعارض الاحتياطات، وترجيح الاحتياط الناشي عن الاحتمال القوى على الاحتياط الناشي عن الاحتمال الضعيف، فهو مستغرق لاوقات المجتهد والمقلد، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلمها في حرج يخل بنظام معاشهم ومعادهم «انتهى» (1).

اقول : لا يخفى ان العلم الاجمالى انما يكون بين موارد الامارات المثبتة للتكليف، لا بينها وبين ما لا يكون عليه امارة اصلا فحينئد نقول: لا يلزم من الاحتياط في تمام مواردها حرج بحيث يوجب اختلال النظام، بل لا يكون حرجاً لا يتحمل عادة بالنسبة الى كثير من المكلفين الذين ليس محل ابتلائهم الا

ص: 402


1- الفرائد: ذيل المقدمة الثالثة، ص118.طبع رحمة اللّه.

القليل من التكاليف واتفاق الحرج في بعض الموارد لبعض الاشخاص يوجب دفع الاحتياط عنه لا عن عامة المكلفين فمقتضى القاعدة الاحتياط في الدين الا في موارد خاصة، مثل ان يوجب اختلال النظام، او كان مما لا يتحمل عادة، او لم يكن الاحتياط ممكناً، كما اذا دار الامر بين المحذورين، او وقع التعارض بين احتياطين او يوجب الاحتياط المخالفة القطعية لواجب قطعى آخر، فيجب العمل بالظن، لانه لا طريق للمكلف اقوى منه، والحاصل ان دعوى الحرج لا سيما الموجب لاختلال النظام بالنسبة الى آحاد المكلفين الموجب لسقوط الامتثال القطعى عن الكل في غاية الاشكال.

و مما يدل على ما ذكرنا أن بناء سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي «قدس اللّه نفسه الزكية» كان على أرجاع مقلديه الى الاحتياط، وق_ل ما اتفق منه اظهار الفتوى والمخالفة للاحتياط، وكان مرجع تمام افراد الشيعة مدة متمادية، ومع ذلك ما اختل نظام العالم بواسطة الرجوع الى الاحتياط، وما كان تحمل هذا الاحتياط شاقاً. على المسلمين بحيث لا يتحمل عادة وكيف كان هذه الدعوى

محل نظر بل منع.

ثم لو سلمنا تحقق العسر والحرج في العمل بالاحتياط الكلى، فان كان بحيث يختل به النظام فالعقل حاكم بطرحه، ولا اشكال فيه، واما لو لم يكن بهذه المثابة فالتمسك في رفعه بالادلة السمعية الدالة على نفى الحرج في الدين محل تأمل، اذ يمكن ان يقال : ظاهرها عدم جعل الشارع تكليفاً يوجب الحرج بنفسه ولا اشكال في ان التكاليف المجعولة من قبل الشارع ليست بنفسها بحيث يوجب امتثالها الحرج والمشقة وانما جاء الحرج من قبل جهل المكلف في تعيينها، وبعد عروض هذا الجهل يحكم العقل بوجوب الاحتياط، وليس الاحتياط شرعياً حتى يلزم منه جعل الحرج، فما جعله الشارع ليس بحرجي، وما يكون حرجياً ليس بمجعول للشارع، هذا.

و لكن الاشكال في الكبرى ليس في محله بعد ملاحظة الانصاف وفهم

ص: 403

العرف، فان ما يفهم العرف من ادلة الحرج هو عدم تحقق الحرج على المكلف من ناحية الشارع، سواء كان بجعله ابتداء ام كان بجعل الاحكام الواقعنية واشتبه على المكلف فوقع في الكلفة بحكم العقل وامضاء الشارع.

نعم يمكن القول بعدم شمولها للموارد التى الزم المكلف على نفسه المشقة، كما لو آجر نفسه لعمل شاق لوجهين : احدهما ان القضية واردة في مقام المنة، ولا منة في هذه الموارد والثاني ان العمل بعد هذا الالتزام مستند الى نفس الملتزم لا الى الشارع.

و قد يورد على الاخذ بالاحتياط انه مخالف للاحتياط.

و هذا الايراد مبنى على اعتبار قصد الوجه وقد اشبعنا الكلام في الجواب عن ذلك في مبحث مقدمة الواجب، فراجع (1)، ونزيد هنا انا لو سلمنا ذلك فهو مخصوص بصورة قدرة المكلف على تحصيل العلم التفصيلي، واما في غيرها فلا، خصوصاً في ما اذا لم يقدر على تحصيل الطريق الشرعي ايضاً، كما هو المفروض في المقام لان الظن الذي لم يقم دليل شرعى على حجيته لا يجوز قصد الوجه به، وان اكتفى المدعي بقصد الوجه بالوجوب العقلى فهو ممكن بالنسبة الى الاحتياط اللازم بمقتضى حكم العقل في المقام، هذا.

و اما المقدمة الثالثة، وهي عدم جواز ترك التعرض لامتثال التكاليف بنحو من الانحاء، فيدل عليه اولا العلم الاجمالى بوجود الاحكام، وهو يوجب الموافقة القطعية، وبعد عدم التمكن او عدم الوجوب يسقط الموافقة القطعية، ولكن يبقى حرمة المخالفة القطعية بحالها، فان قبح المخالفة القطعية لا يمكن ان يرفع في حال من الاحوال، كما قرر ذلك في محله، وثانيا، الاجماع القطعي، فان اهمال معظم الاحكام وكون المكلفين بالنسبة اليها كالبهائم والأنعام مما يقطع بانه مرغوب عنه شرعاً، وهو الذي يعبر عنه في لسان العلماء بالخروج عن الدين،

ص: 404


1- ج 1، ذيل البحث عن تأسيس الاصل، ص ١٠٢.

فان من اقتصر على ما علم من الاحكام مع قلتها وترك المجهولات مع کثرتها يكادان لا يعد من الملتزمين بدين الاسلام.

و الحاصل ان بطلان هذه الطريقة اوضح من ان يخفى على العوام فضلاً عن الخواص.

و اما المقدمة الرابعة وهي ترجيح الظن في مقام الامتثال على غيره بعد التنزل عن العلم، فان تمسكنا في المقدمة الثالثة بالعلم الاجمالي فوجهه واضح، فانه موجب للموافقة القطعية بحسب اقتضائه الاولى، فاذا لم يجب الموافقة فلا يسقط عن تنجيز الواقعيات راساً كيف وحرمة المخالفة القطعية من آثار هذا عقلا، واذا لم يسقط عن التنجيز فاللازم مراعاته بقدر الامكان، وهو العلم منحصر بالاخذ بالظن.

و أما لو لم نقل بتأثير العلم الاجمالي وتمسكنا لحرمة مخالفة الاحكام المجعولة في المقام بالاجماع فيشكل الحكم ب_ت_ق_ديم الظ_ن ع_ق_لاً، لان الاجماع انكان منعقداً على مجرد حرمة المخالفة القطعية لتلك الاحكام فيكفي في عدم مخالفة هذا الاجماع الاتيان بالمشكوكات والموهومات، وان كان على وجوب الاخذ بالظن فتعين الظن حينئذٍ شرعى لا عقلى، الا ان يقال بان الاجماع منعقد على امرين: احدهما حرمة المخالفة القطعية، والثاني عدم جواز الاكتفاء بالشك او الوهم، فنتيجة هذين الاجماعين ان الشارع إما جعل طريقاً خاصاً للواقعيات، أو يكون الظن عنده حجة، ولما كان الطريق الآخر مشكوكاً والقابل للسلوك الى الواقع في هذه الحال منحصراً في الظن، يتعين بالعقل اعتباره، هذا. و لكن لا يخفى ان هذا البيان يرجع الى حجية الظ_ن ش_رع_اً من باب الكشف وسيجيء توضيح ذلك ان شاء اللّه.

و ينبغي التنبيه على أمور:

هل نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ مطلقاً أم لا؟

احدها انه بعد صحة مقدمات الانسداد هل النتيجة اعتبار الظن مطلقاً،

ص: 405

بمعنى جواز الاكتفاء بالمظنونات ورفع اليد عن المشكوكات والموهومات، او اعتبار الظن الاطميناني لوكان بين الظنون تفاوت والا فمطلق الظن، او يحكم بوجوب العمل بالظن بمقدار العلم بالتكليف فان كان بين الظنون ترجيح من حيث القوة يؤخذ ذلك المقدار من الظن القوى والا يتخير او يحكم بالاخذ بالظنون النافية للتكليف بمقدار يرفع به الحرج، ويقدم القوى منها على الضعيف، ويحتاط في الباقي، سواء كان من موارد الظنون المثبتة ام غيرها وجوه :

والذي تقتضيه ال_قاع_دة ه_و الاخير، وفاق_الشي_خ_ن_ا المرتضى «قدّس سرُّه» ثم الثالث، بيان ذلك انه لا اشكال في ان للمعلومات الاجمالية مقداراً متيقناً بحسب العدد، وهذا لا شبهة فيه، وانما الاشكال في ان الامتثال في الخارج بمقدار ما علم اجمالاً يكفى في خروج المكلف عن عهدة العلم الاجمالى وان لم يعلم به ام لا؟ مثال ذلك لو علم بوجود النجاسة في احد الاناثين واحتمل نجاسة كليهما ايضاً، فترك أحدهما وشرب الآخر وكانا نجسين في نفس الأمر، فهل يكفي في رفع العقاب عنه اجتناب احدهما الذي كان نجساً في نفس الامر، نظراً الى ان العلم الاجمالي ليس متعلقاً بازيد من تكليف واحد، وقد امتثل بحكم الفرض وان لم يعلم بذلك، او يصح العقوبة عليه بمجرد ارتكابه شرب الآخر، نظراً الى ان العلم الاجمالي بوجود احد النجسين بين الاناثين يصحح العقوبة على ارتكاب شرب ما هو نجس بينهما، الاقوى الثاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة والعصيان بعدم معذورية المكلف المفروض في ارتكاب شرب ما هو نجس واقعاً.

لا يقال : فعلى هذا يلزم ثبوت العقابين في محل الفرض على من شرب كلا الانائين، وهو باطل، ضرورة ان العلم بتكليف واحد لا يصحح العقابين إذ الآخر مشكوك، وليس العقاب عليه الا عقاباً بلا بيان.

لانا نقول: ان العلم الاجمالي بثبوت احد التكليفين يوجب عقاباً واحداً على المخالفة المتحققة بينهما، فلو شرب الانائين في محل الفرض يستحق عقوبة واحدة،

ص: 406

وكذا لوشرب اناء واحداً، لاشتراك الفرضين في تحقق المخالفة الواحدة التي كانت محرمة بحكم العقل.

اذا عرفت هذا فنقول : ان مقتضى العلم الاجمالي في المقام ان يحتاط في تمام الاطراف توصلاً الى الموافقة القطعية، واجتناباً عن المخالفة الواقعية، فاذا دل الدليل على الترخيص في بعض الاطراف - وهو المقدار الذي يرفع الحرج بترك الاحتياط فيه - فالمقدار المعلوم بالاجمال لو كان في الباقي يوجب مخالفته العقوبة، فيجب الاحتياط في غير مورد الترخيص، تفصيا عن المخالفة الموجبة للعقاب، هذا.

و اما ان قلنا بكفاية الامتثال بالمقدار المعلوم بالاجمال، في نفس الامر فيقتصر على العمل بالظنون المثبتة للتكليف بالمقدار المعلوم بالاجمال، لان العلم الاجمالي بمقدار خاص يوجب الاتيان به علما وان لم يمكن فالواجب الاتيان به ظنا، ولا دليل على الاتيان بازيد من ذلك، وحينئذٍ فلو تمكن من تحصيل الاطمينان بالمقدار المذكور اقتصر عليه وان تساوت الظنون يتخير في اخذ المقدار المذكور من بينها، هذا مقتضى التأمل في نتيجة دليل الانسداد واللّه الهادى الى الرشاد.

هل قضية دليل الانسداد حجّية الظن بالواقع أو الطريق أو بهما

الامر الثاني : ان قضية المقدمات المذكورة على تقدير سلامتها هل هي حجية الظن بالواقع او الطريق، أو بهما معاً ؟ فقد ذهب الى كل فريق.

و اختار شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» الثالث وحاصل ما افاده في وجهه للمكلف تحصيل برائة الذمة عن الواقعيات فان تمكن من ذلك على ان المهم سبيل العلم تعين عليه، وان انسد باب القطع الى ذلك يتنزل الى الظن بذلك، ولا اشكال في ان العلم بالبرائة كما انه يحصل باحد أمرين: إما تحصيل العلم بالواقع واتيانه، وإما تحصيل ما هو طريق قطعى اليه، وليس بينهما تفاوت عند العقل، كذلك الظن بالبرائة يحصل باحد الامرين اما تحصيل الظن بنفس الواقع، واما تحصيل الظن بما هو طريق مجعول اليه شرعاً، فاذا انسد باب تحصيل

ص: 407

العلم بالمبرء وآل امر المكلف الى التنزل الى الظن بذلك فلا يعقل الفرق بين الظنين، لما قلنا : ان المهم عند العقل في مقام الامتثال ليس ادراك الواقعيات بل الخروج عن عهدة ما صار منجزاً على المكلف باي نحو كان هذا(1).

اقول : لا اشكال في الكبرى التي افادها في المقام وهو ان العقل بعد انسداد باب تحصيل العلم بالمبرء يعين الظن به باى وجه كان، انما الاشكال في ان العمل بما ظن كونه طريقاً وان لم يفد بنفسه ظنا بالواقع ظن بالابراء، ومحصل الاشكال أن بدلية مفاد الطرق عن الواقع لو كانت تابعة لحجيتها واقعاً وان لم يعلم بها كان الامر كما افاده «قدّس سرُّه»، لكن هذا خلاف التحقيق، فان من علم اجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة مثلاً فترك الجمعة واتى بالظهر وكان ما تركه هو الواجب في نفس الامر واتفق مقارنة تركه الواجب طريقاً شرعياً دالاً على عدم الوجوب لا يوجب الثبوت الواقعى لذلك الطريق رفع استحقاقه العقوبة بحكم العقل، فاسقاط عقوبة الواقع في صورة العمل بالطريق انما يكون من لوازم العلم بحجيته، لا من لوازم ثبوته في الواقع.

لا يقال: ثبوته بالحجة كثبوته بالعلم والمفروض حجية مطلق الظن في حال الانسداد.

لانا نقول: اعتبار الظن هنا موقوف على تعلقه بالمبرء، فان كان الابراء بواسطة اعتبار الظن لزم الدور.

والحاصل ان تعميم الظن للظن بالطريق بمجرد العلم الاجمالي بالواقعيات في غاية الاشكال، لما مر، نعم يمكن دعوى اعتبار الظن في الطريق، بواسطة دعوى العلم الاجمالي الآخر المتعلق به، كما يأتي تقريبه ان شاء اللّه.

حجة من ذهب الى الاختصاص بالظن بالطريق امران

احدهما ما ذكره صاحب الفصول قده قال : انا كما نقطع ب_ان_ا مكلفون في

ص: 408


1- الفرائد التنبيه الأول، ص128...

زماننا هذا تكليفا فعليا باحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان الى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه او قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بان الشارع قد جعل لنا الى تلك الاحوال طريقاً مخصوصاً وكلفنا تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث انه لا سبيل غالباً الى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص او قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل انما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق الى الظن الفعلى الذي لا دليل على حجيته، لانه اقرب الى العلم والى اصابة الواقع مما عداه «انتهى».

و فيه بعد تسليم هذا العلم الاجمالى ان اللازم الاخذ بالقدر المتيقن ان كان، والا الاحتياط في اخذ مضامين تمام الطرق التي تكون اطرافاً للعلم، لعدم كون الاحتياط في الطرق حرجياً، وان قلنا بكونه كذلك في اطراف تمام المحتملات ولازم ذلك ان يأتى بمؤدى كل واحد من الطرق المثبتة ان لم يكن له معارض، وفي غير هذه الصورة ان كان المعارض نافياً للتكليف، وكان من غير نوعه، فالعمل على طبق الامارة المثبتة، وان كان نافياً وكان فرداً آخر من نوعه فالعمل على الاصل في غير الخبر مطلقاً، وفي الخبر على التخييران لم يكن للمثبت مرجح، والا يتعين العمل به، هذا اذا كان المعارض نافياً للتكليف، واما اذا كان مثبتاً لتكليف مضاد للآخر فالعمل على الاصل في غير صورة كونهما فردين من الخبر، وفيهما التخيير مع عدم

المرجح، وتعيين احدهما مع المرجح، ويظهر وجه ما ذكرنا كله بالتامل.

ثم انه على فرض كون العمل بالاحتياط فيما بايدينا من الطرق موجباً للعسر والحرج، فهل المتعين العمل بالظن بالطريق اولا يتعين ذلك ؟ ومبنى ذلك ان الطرق المجعولة بعد العلم بها هل هي مثل العلم في انحلال التكاليف المعلومة بالاجمال اولا؟ غاية الامر الاتيان بمؤداها يجب بدلا عن اتيان الواقع.

و توضيح ذلك : انه لو علم بوجوب عمل معين بعد كونه من اطراف العلم

ص: 409

الاجمالي ينحل العلم الاجمالى بالعلم التفصيلى والشك البدوي، واللازم عليه بحكم العقل الاتيان بما علم تفصيلاً، وباقى الاطراف مورد لاصالة البرائة، ولوفرض الخطاء في ع_ل_م_ه ب_ان لم يكن ما قط_ع ب_وج_وب_ه واج__ب_اً في نفس الامر، وكان الواجب ذاك الطرف الآخر الذي صار محكوما بالبرائة، لم يكن عليه شيء وان لم يأت باحدهما، فان ما هو واجب صار مورداً للبرائة بحكم العقل، وما قطع بوجوبه ما كان واجباً واقعاً، فلا يضر مخالفته، نعم ان قلنا بايجاب التجري للعقوبة يستحقها في الفرض من قبل التجرى، وكذا الحال في ما اذا كان الواجب المعلوم مردداً بين ازيد من طرفين اولا ثم علم بوجوده بين الطرفين منها، فان الواجب بحكم العقل الاحتياط في الطرفين، وباقى الاطراف التي كانت طرفا للعلم اوّ لا مورد للبرائة، والوجه في ذلك واضح.

هذا فيما تحقق العلم التفصيلي بعد العلم الاجمالي.

و اما اذا قام طريق معتبر على احد الاطراف تفصيلاً او اجمالاً في بعض اطرافه فهل يحكم بالبرائة فيما لم يقم عليه طريق بمجرد قيام الطريق على بعض الاطراف وان لم يعمل به عصياناً، او ان الحكم بالبرائة في الطرف الخالى عن الطريق موقوف على العمل بمؤدى الطريق؟ مثلاً لو فرضنا قيام طريق معتبر على وجوب الظهر بعد العلم الاجمالى بوجوب الظهر او الجمعة، فهل يحكم بالبرائة عن الجمعة وعدم صحة العقاب عليها وان لم يأت بالظهر عصياناً، او ان الحكم بالبرائة عن التكليف بالجمعة موقوف على اتيانه بالظهر الذي كان واجباً قتضى الطريق ؟

و تظهر الثمرة فيما لو لم يات بالظهر واتفق كون الواجب هو الجمعة ولم يات بها ايضاً، فعلى الاول لا يستحق العقاب اصلاً، أما على ترك الجمعة فلكون وجوبها مورداً للبرائة، وأما على الظهر فلعدم كونه واجباً في الواقع، وقد تحقق في محله ان مخالفته لا توجب العقوبة الا على تقدير مصادفتها لمخالفة الواقع، والمفروض عدمها في المقام، وعلى الثاني يستحق العقوبة على ترك الواجب

ص: 410

لان المفروض ان جريان البرائة في مورده يتوقف على اتيان مؤدى الواقعي، الطريق ولم يأت به.

الاقوى هو الثاني، لان قيام الطريق لا يوجب انحلال ال_ع_ل_م الاجمالي حقيقة، بداهة ان الاجمال باق في النفس بعد، فلا يرتفع اثره عند العقل، غاية الامر انه لما نزل الشارع مؤدى الطريق منزلة الواقع يجب بحكم العقل قيامه في مقام الامتثال مقام الواقع، فلو ادى الى وجوب الظهر بعد العلم الاجمالي بوجوب الظهر او الجمعة فاتيانه بمنزلة اتيان الواجب الواقعي، فلوكان واجباً واقعاً فهو، والا يكون بدلاً عنه في مرحلة الامتثال فيكفي في مقام لزوم امتثال الواجب الاتيان بمؤدي الطريق، وأما لو لم يأت بمؤدى الطريق ولا بالواقع فيستحق العقاب، لانه لم يأت بالواقع المنجز عليه بسبب العلم الاجمالي لا اصلاً ولابد لا، ومن هنا اتضح ان اثر العلم الاجمالي لا يرتفع بمحض قيام الطريق على بعض اطرافه بل يكون الاتيان بمؤداه بدلا عن الواقع في مرحلة الامتثال فيتخير المكلف بين اتيان الاصل واتيان البدل.

اذا عرفت ذلك ظهر لك ان لازم ما ذكرنا كون العمل بالطرق مساوياً للعمل بالواقع في مقام الامتثال عقلاً، فاذا تمكن من العلم يتخير بين تحصيل العلم بالواقع والعلم بالطريق، وعند عدم التمكن من العلم يقوم الظن في كل منهما مقام العلم.

الوجه الثاني ما افاده بعض المحققين (1) ومحصل كلامه «قدّس سرُّه» يتضح في ضمن مقدمات الاولى العلم بكوننا مكلفين بالاحكام الشرعية اجمالاً وانه لم يسقط عنا التكليف بواسطة الجهل بخصوصياته، الثانية ان كل ما يجب العلم به في زمان الانفتاح يجب الظن به عند الانسداد الثالثة انه في حال الانفتاح يجب العلم ببرائة الذمة في حكم الشارع دون العلم باتيان الواقع، الرابعة بعد

ص: 411


1- و هو المحقق الشيخ محمد تقى «قدّس سرُّه» في حاشيته «هداية المسترشدين» ص391.

لزوم تحصيل الظن بالبرائة في حكم الشارع في حال الانسداد ان الظن بالواقع لا يلازم الظن بالبرائة في نظر الشارع بخلاف الظن بالطريق فينحصر الحجة في زمان الانسداد بالظن بالطريق.

و الاوليان بمكان من الوضوح والدليل على الثالثة على ما افاده «قدّس سرُّه» في مقدمات هذا المطلب هو ان المناط في وجوب الاخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو تحصيل اليقين بمصادفة الاحكام الواقعية الاولية الا ان يقوم الدليل على الاكتفاء بغيره او ان الواجب اولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الاحكام واداء الاعمال على وجه اراد الشارع منافي الظاهر وحكم معه قطعاً بتفريغ الذمة بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول اليها، سواء علم بمطابقة الواقع اوظن ذلك، اولم يحصل به شيء منهما ؟ وجهان، الذي يقتضيه التحقيق هو الثاني، فانه القدر الذي يحكم العقل بوجوبه ودلت الادلة المتقدمة على اعتباره، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل قطعاً بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع، ولم يرد شيء من الادلة الشرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك، بل الادلة الشرعية قائمة على خلاف ذلك، اذ لم يبن الشريعة من اول الامر على وجوب تحصيل كل من الاحكام الواقعية على سبيل القطع واليقين، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع، وفي ملاحظة طريق السلف من زمن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) كفاية في ذلك، اذ لم يوجب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الاحكام، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة الى آحاد الاحكام، او قيام القرينة القاطعة على عدم تعمد الكذب او الغلط في الفهم او في سماع اللفظ،

بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به «انتهى كلامه رفع مقامه»(1).

ص: 412


1- هداية المسترشدين، ص ٣٨٤.

و حاصل ما افاده قدّس سرّه ان الواجب بحكم العقل تحصيل العلم بالبرائة في حكم الشارع في حال الانفتاح ولما كان الواجب في حال الانسداد تحصيل الظن بما كان يجب تحصيل العلم به حال الانفتاح يلزم تحصيل الظن بالبرائة في حكم الشارع.

و اما الدليل على ان العمل بالظن بالطريق يوجب الظن بالبرائة في حكم الشارع دون العمل بالظن بالواقع فهو ما اشار اليه في طى كلماته من ان الظن بالعمل بالواقع قد يجامع مع القطع بعدم البرائة عند الشارع كالظن القياسي، فتعين العمل بالظن بالطريق فانه ملازم للظن بالمبرء.

و الجواب او لا بالنقض بما قام الظن القياسي، على حجية طريق، فانه ليس بمعتبر قطعاً، فان كان عدم اعتبار ظن من الظنون موجباً لعدم الاعتماد بالباقي فاللازم عدم الاخذ بالظن بالطريق ايضاً.

و ثانياً ان ما أسسه من لزوم تحصيل العلم بالبرائة في حكم المكلف لا وجه له لانه ليس من وظيفة الآمر الحكم بالبرائة، وانما يحكم بها العقل سواء أتى بنفس الواقع على وجه الجزم ام أتى بمؤدى الطريق المجعول اما في الاول فواضح، لانه ليست برائة الذمة مستندة الى حكم الشارع عند العمل بالقطع، بل القاطع يقطع ببرائة ذمته عن الواقع من دون ملاحظة حكم من الشرع، واما في الثاني فلان العقل يحكم ايضاً بان الاتيان بمؤدى الطريق الذي هو واقع ثانوى منزل في لسان الادلة بمنزلة الواقع الأولى، مبرء للذمة عن الواقع الاولى، بمعنى عدم صحة العقاب عليه لو كان غير مؤدى الطريق.

وكيف كان فالحكم بالبرائة عما كلفنا الشارع من العقل، وهو يلزمنا تحصيل العلم بها في نفس الامر، ولا شك في ان البرائة اليقينية عند الانفتاح يحصل باحد أمرين : إما إتيان نفس الواقع، وإما إتيان ما هو مؤدى الطريق المعتبر، فاللازم عند الانسداد الظن بالبرائة في نفس الامبر، وهو ايضاً لا يختص باتيان ما هو مؤدى الطرق المظنونة، فالقول بان العمل بالظن بالواقع لا يوجب

ص: 413

الظن بالبرائة بخلاف العمل بالظن بالطريق تحكّم، هذا فيما اذا علم بنصب الطريق اجمالا، واما مع قطع النظر عن ذلك كما هو مبنى كلام المستدل فلنا ان نمنع جواز العمل بالظن بالطريق اصلا كما عرفت مما ذكرنا سابقاً(1)، فراجع.

هل نتيجة مقدمات دليل الانسداد اعتبار الظن من باب حكومة العقل، أو الكشف عن حكم الشرع

الامر الثالث: هل المقدمات المذكورة على تقدير تماميتها تنتج اعتبار الظن على نحو حكومة العقل، او موجبة لكشف العقل عن اعتبار الظن شرعاً؟ الحق هو الأول، فان العلم الاجمالي بوجود واجبات ومحرمات يوجب وجوب الامتثال بحكم العقل، فان تمكن من ذلك ولم يكن له مانع تعين عليه الامتثال القطعي، وان لم يتمكن او اسقط عنه الشارع الامتثال القطعي يجب التنزل الى الظن، لانه اقرب الى الواقع المنجز عليه بمقتضى العلم من الشك والوهم، ولا يجوز العقل بعد وجود مراتب متفاوتة للامتثال المصير الى المرتبة النازلة، الا بعد عدم التمكن من مافوقها او سقوطه بالاذن الشرعي، وبعد وجود هذا الحكم القطعي من العقل لا يجب على الشارع جعل الطريق.

فان قلت: الامر كما تقول فيما اذا كان رفع اليد عن المرتبة العليا بواسطة عدم التمكن عقلا، واما اذا كان بواسطة اذن الشارع فيكشف عن عدم فعلية الاحكام على تقدير تحققها في البعض المرخص فيه، لامتناع اجتماع الحكمين الفعليين في مورد واحد، ووجودها في البعض الآخر غير معلوم، فاذن ينتفى اثر العلم الاجمالي بالمرة، فللقائل باعتبار الظن من باب الكشف ان يقول : لم يبق لنا الا الاجماع على عدم جواز ترك التعرض للاحكام الواقعية بوجه من الوجوه، واجماع آخر على عدم جواز الاقتصار على مجرد اتيان المشكوكات او الموهومات فيثبت بذينك الاجماعين جعل طريق من الشارع، اذ لولا ذلك لما صح عقلاً العقاب على ترك التعرض للاحكام، فان ما كان منجزاً وهو العلم الاجمالي قد ارتفع اثره، ولما كان الطريق القابل للسلوك في نظر المكلف في الحال التي هو

ص: 414


1- ص ٤٠٨.

عليها منحصراً بالظن يكشف عن اعتباره.

قلت: رفع اثر العلم الاجمالي مطلقاً بواسطة الاذن في بعض الاطراف ممنوع، اما بناء على عدم المنافاة بين فعلية الاحكام الواقعية والترخيص الوارد من الشرع في مورد الشك فواضح، لان العلم بوجود الاحكام الفعلية باق على حاله هذا الترخيص، فيجب على المكلف امتثال تلك الاحكام المعلومة، إما قطعاً اذا لم يكن له مانع، والا ينزل الى الظن بحكم العقل، وأم_ا بن_اء على منافاة الاذن في بعض الاطراف مع فعلية الواقع فلعدم الملازمة بين الترخيص ورفع الفعلية على الاطلاق بل غاية ما يلزم الترخيص رفع الفعلية بمقدار يقتضى الموافقة القطعية.

هذا اذا قلنا بوجوب امتثال الاحكام الواقعية من جهة ثبوت العلم الاجمالي كما هو الحق.

و اما بناء على عدم تنجيز العلم الاجمالي والتمسك لعدم جواز ترك التعرض للاحكام الواقعية المجهولة بالاجماع فيمكن ان يقال: ان لازم هذا المبنى التزام جعل الظن من قبل الشارع توضيح المقام أن صاحب هذا المبنى يحكم بالبرائة في تمام اطراف العلم الاجمالي لانه كالشك البدوي عنده بحسب الفرض، غاية الأمر تحقق الاجماع في المقام على عدم البرائة في تمام الاطراف، فان اقتصر على دع_وى ه_ذا الاجماع لا يجب عليه عقلا الا الاتيان ببعض الاطراف وان كان من موارد المشكوكات او الموهومات وهذا ايضاً لم يقل به احد، فيتحقق اجماع آخر على عدم جواز الاقتصار باتيان المشكوكات او الموهومات، فينتج الاجماعان اعتبار طريق من الشارع، ولما لم يكن ما يقبل السلوك بحسب حال المكلف الا الظن يكشف عن اعتباره من بين الطرق، هذا.

ولكن يمكن ان يقال: ان المستكشف من الاجماع اهتمام الشارع بالواقعيات، وهذا يكفى في حكم العقل بالاطاعة بمقدار الممكن ولا يلزم جعل الطريق، فانا لو احرزنا من الشارع الاهتمام بامر تحكم بلزوم مراعاته وان كان

ص: 415

من موارد الشكوك البدوية، ومن هذا الباب حكمهم بلزوم الاحتياط في باب الاعراض والدماء والاموال، ومن هنا ظهر عدم الاحتياج الى دعوى الأجماع الثاني، فانه بعد انعقاد الاجماع على عدم جواز الرجوع الى البرائة في التكاليف المجهولة يستكشف اهتمام الشارع بالواقعيات وبعد هذا الاستكشاف يحكم العقل بلزوم مراعاته بقدر الامكان.

والحاصل ان القطع بجعل الطريق من قبل الشارع بواسطة مقدمات الانسداد مما لا وجه له بعد وجود الطريق العقلائي للامتثال الذي يحكم العقل بوجوب الاخذ به في مقام الاطاعة، وليس هذا من الاحكام العقلية التي يستكشف منها الحكم الشرعي من باب الملازمة، لان الحكم في باب الاطاعة والعصيان ليس من وظيفة المولى، ولو صدر من قبله حكم في هذا الباب يحمل على الارشاد، هذا.

هل نتيجة مقدمات دليل الانسداد اعتبار الظنّ مطلقاً أو الظنّ الخاص

الامر الرابع: هل المقدمات تنتج اعتبار الظن على نحو الاطلاق، او على نحو التقييد بظن خاص او تنتج اعتباره على نحو الاهمال ؟ ثم الاطلاق والتقييد قد يعتبران بالنسبة الى الاسباب وقد يعتبران بالنسبة الى مراتب الظن، وقد يعتبران بالنسبة الى الموارد.

و تحقيق المقام ان يقال : انه لا وجه للالتزام باهمال النتيجة بحيث تبقى الحجة مرددة بين ابعاض الظنون او بينها وساير الطرق الآخر، بيان ذلك انا لو بنينا على حكومة العقل، فلا يخلو إما ان نقول بحرمة المخالفة في المقدار المعلوم بالاجمال الا بمقدار العسر والحرج وإما ان نقول ان الحرج اوجب سقوط الموافقة القطعية وقام الموافقة الظنية في المقدار المعلوم بالاجمال مقام الموافقة العلمية، فعلى الاول لا يجوز ترك الاحتياط الا في مقدار يكون حرجاً على المكلف، فان ارتفع الحرج بترك الاحتياط في موارد الاطمينان على عدم التكليف يجب الاقتصار عليه والا يتعدى في ترك الاحتياط الى باقي الظنون النافية للتكليف وهكذا وعلى الثاني يجب الرجوع الى الظنون الاطمينانية المثبتة

ص: 416

للتكليف لو كانت وافية بالمقدار المعلوم بالاجمال والا يتممها من باقي الظنون، ويعمل في الزائد بالاصل.

ولا فرق فيما ذكرنا على القولين بين اسباب الظن، كما انه في حال الانفتاح لا فرق بين اسباب حصول العلم في لزوم اتباعه عقلا، وكذا لا فرق بين الموارد لان المعيار عند العقل هنا العلم بالتكليف، نعم يمكن ان يقال: بناء على الاول الظن الاطميناني بعدم التكليف لا يؤخذ به في الموارد التي عرف اهتمام الشارع بها، كالدماء والفروج والاموال وامثال ذلك، بل يحتاط فيها، كما انه بناء على الثاني لا تكون هذه الموارد مجرى للبرائة وان كانت خارجة عن مورد الظن الاطميناني. هذا بناء على حكومة العقل.

و اما بناء على الكشف فالذي ذهب اليه صاحب هذا القول ان العقل يكشف. عن حجية طريق واصل الينا دون الطريق الواقعي الذي يبقى مجهولاً عندنا، فان وجه اعتبار الطريق في هذه الحال رفع تحير المكلف من الواقعيات المشكوك فيها، فلا معنى لجعل طريق واقعي يكون المكلف متحيراً فيه، ومقتضى هذا القول ان يؤخذ بالقدر المتيقن ولو في حال الانسداد ان كان في البين وكان وافياً في الفقه والا فان كان لبعض الظنون ترجيح في نظرنا ويمكن الاكتفاء به في الفقه نقتصر عليه والا نأخذ بمطلق الظن، هذا.

ثم انه على تقدير القول بحجيّة الطرق الواقعية فاللازم الاحتياط باخذ الجميع لو لم يكن له محذور والا فاللازم ترتيب مقدمات الانسداد في الطريق الى ان ينتهى الى مقدار من الظن لا يكون زائداً على قدر الكفاية في الفقه، او لم يكن في الاحتياط فيه محذور، والدليل على ذلك ان الطرق احكام ثانوية شرعية، فكما ان انسداد باب العلم بالنسبة الى الاحكام الواقعية مع ساير المقدمات يقتضي جعل الشارع طريقاً اليها كذلك حال انسداد باب العلم بالنسبة الى الاحكام الثانوية، من غير تفاوت اصلاً.

و مما ذكرنا يظهر لك انه لا وجه لتوهم انه على تقدير اشتباه الطرق الواقعية

ص: 417

المجهولة وعدم لزوم الاحتياط لابد من الانتهاء الى حكومة العقل، فان القائل بهذا المبنى ليس قائلاً بحكومة العقل والا لم يقل بالطرق الشرعية المجعولة حال الانسداد هذا.

حول المظنّ القياسي على الحكومة

الامر الخامس: بناء على حجية الظن من باب الحكومة، قد استشكل في الظن القياسي، وملخص الاشكال فيه :انه ان قلنا بحجية الظن القياسي في حال الانسداد كباقي الظنون فهو مخالف للاخبار المتواترة، بل اجماع الشيعة على الخلاف، وان قلنا بعدم حجيته فلا يخلو إما ان يقال بعدم ملاك الحجية فيه، وإما ان يقال بوجود الملاك فيه والاول باطل لان ملاك الحجية عقلاً في حال الانسداد ليس الا الظن، والثاني موجب للتخصيص في حكم العقل وهو محال. فان قيل : انا نلتزم بعدم حجيته ونختار الشق الاول ونقول : بان الملاك عند العقل هو الظن الذي لم يمنع عنه الشارع، فاذا منع الشارع عن ظن يخرج عن موضوع حكم العقل، فخروج الظن تخصص لا تخصيص.

قلت: هذا موقوف على صحة منع الشارع عن العمل بالظن في حال الانسداد، ولا يمكن ذلك، اذ لوصح لما قطع العقل بحجية ساير الظنون ايضاً، لاحتمال منع الشارع عن العمل بها، ولا دافع للاحتمال المذكور الا حكم العقل بقبح المنع من الشارع.

ولا يخفى ان هذا الاشكال لا يبتنى على القول بحجية الظن، بل يأتى على القول بالتبعيض في الاحتياط ايضاً، نعم مورد الاشكال على الاول هو الظن القياسي المثبت للتكليف وعلى الثاني هو الظن القياسي النافي له كما يظهر وجهه بادنى تأمل.

و الجواب عن الاشكال انا نلتزم بان المعتبر بحكم العقل في حال الانسداد هو الظن الذي لم يعلم منعه من قبل الشارع، فاذا علم المنع يخرج عن موضوع حكم العقل وهذه الدعوى مشتملة على دعاو ثلاث:

احداها ان المعتبر عند العقل ليس مطلق الظن.

ص: 418

والثانية ان الخصوصية المعتبرة في الموضوع هو عدم العلم بمنع الشارع، لا عدم منع الشارع واقعاً.

والثالثة جواز منع الشارع عن العمل بظن في حال الانسداد.

اما الدليل على الاولى: فهو ان وجه الزام العقل العمل بالظن انما هو تنجز الواقعيات بواسطة قيام الحجة عليها من العلم الاجمالى وانه مع هذا الوصف لا يأمن المكلف عن العقاب لو ترك العمل بما يظن كونه حكماً واقعياً، وبعد منع الشارع عن العمل بظن يقطع بعدم العقاب على مؤدى ذلك الظن، وان كان حكماً واقعياً.

و اما الدليل على الثانية: فهو ان احتمال منع الشارع عن العمل بظن في حال الانسداد راجع الى احتمال برائة ذمة المكلف عن مؤداه، لو كان حكماً واقعياً، وبعد قيام الحجة اعنى العلم الاجمالي لا يعتنى بهذا الاحتمال، وهل هذا الا كاحتمال حجية ظن في حال الانفتاح، فكما انه هنا لك لا يجوز الاكتفاء بالاحتمال المذكور في قبال الامتثال العلمى، كذلك لا يجوز هنا الاعتماد عليه في قبال الامتثال الظني، وهذا واضح جداً.

و اما الدليل على الثالثة : فهو ان وجه عدم الجواز منحصر في امرين: احدهما اجتماع الحكمين المتضادين في موضوع واحد، والثاني تفويت المصلحة. والجواب عن الاول ان اختلاف مرتبة الحكم الظاهري والواقعي يصحح وجودهما بدون تناف وتضاد اصلاً، وعن الثاني ان تفويت المصلحة قبيح لولم تكن تلك المصلحة مزاحمة مع مصلحة اخرى، إما في الجعل وإما في متعلقه، وقد ذكرنا نظير ما ذكرهنا في رد اشكال جعل الطريق في حال الانفتاح مستقصى (1)فراجع فان المقامين من واد واحد اشكالاً وجواباً.

الكلام في الظنّ المانع و الممنوع، بناء على اعتبار الظنّ المطلق

الامر السادس: لو قام فرد من افراد مطلق الظن على حرمة العمل ببعضها

ص: 419


1- ص ٣٥٤-٣٥١، الوجه الأول والثاني.

فهل يجب الاخذ بالظن المانع، أو الممنوع او يحكم بالتخيير، او يسقط كلاهما عن الاعتبار؟

اقول : قد عرفت مما ذكرنا سابقاً في تعيين نتيجة دليل الانسداد ان مقتضى القاعدة احد :امرين اما التبعيض في الاحتياط، وهو تركه في الموارد التي يطمئن بعدم ثبوت التكليف واتيان الباقي اذا ارتفع الحرج بذلك، والا يتعدى الى مطلق الظن النافى واما الظنون المثبتة فحالها عند هذا القائل حال الشك، يحتاط فيها، لانها من اطراف العلم، لا من جهة انها ظنون، واما وجوب العمل على طبق الظنون الاطمينانية المثبتة للتكليف بمقدار المعلوم بالاجمال، وأما الظنون النافية حالها عند هذا القائل حال الشك، في الاخذ بمقتضى الاصل فعدم الاحتياط فيها ليس من جهة الظن بعدم التكليف، بل لان مواردها مجرى الاصل.

و على كلا الحالين لا اشكال في المقام حتى يحتاج الى الدفع.

اما على الاول: فالظن الممنوع ان كان مثبتاً للتكليف فيجب عليه ان يحتاط في مورده لا لانه ظن، بل لانه من موارد الاحتمال، فلا يضر هذا المدعى الظن بعدم حجية الظن المفروض، بل لو قطع بعدم حجيته ايضاً يحتاط في مورده، لانه من أطراف العلم والحاصل ان المدعي لهذا القول لا يأخذ الظن المذكور حجة حتى يمنعه الظن المانع، وان كان نافياً له وكان من الظنون الاطمينانية او بنينا على التعدى منها الى غيرها من الظنون لعدم ارتفاع الحرج بترك الاحتياط في خصوص الظنون الاطمينانية، فلو كان المرجع في عدم حجيته الى مجرد أن الشارع لم يجعله حجة فلا اشكال في ان الظن بعدم الحجية بهذا المعنى لا يضر بترك الاحتياط، بمقدار رفع الحرج، بمقتضى الظنون النافية للتكليف بداهة ان تارك الاحتياط في المقدار المذكور في موارد الظنون النافية وان كان بعضها مما ظن عدم اعتباره لا يخرج من انه ظان ببرائة ذمته مما كان عليه، والعقل لا يحكم عليه ازيد مما ذكر، ولو كان المرجع الى حرمة العمل

ص: 420

بالظن المفروض، بحيث كان المظنون ان العمل به محرم في هذا الحال، فلا اشكال في تقديم الظن المانع، فان ترك الاحتياط حينئذ يظن انه من المحرمات، فاللازم طرح هذا الظن المتعلق بنفى التكليف الأولى وجعل المورد كالموارد التي لا ظن فيه اصلاً.

هذا مقتضى القول الأول اعنى التبعيض في الاحتياط.

و اما على الثاني: فالظنون النافية للتكليف باسرها لا يتفاوت حالها بين ان يظن عدم حجيتها اولا لان العمل بمقتضى تلك الظنون ليس من باب انها ظنون بل لاجراء الاصل في مواردها واما الظنون المثبتة له فان كان عنده من الظنون الإطمينانية ما يفي بمقدار التكليف المعلوم، وما ظن عدم حجيته كان من الظنون الضعيفة، فلا اشكال ايضاً، فان ما يجب اخذه لا مانع فيه، وما فيه المانع لا يجب اخذه، وان كان ما يظن عدم حجيته من الظنون الاطمينانية او من غيرها بناء على عدم كفاية تلك الظنون فنقول : ان كان مرجع عدم الحجية الى مجرد أن الشارع لم يجعله حجة فلا مانع من العمل بالظنون المفروضة، فان العامل بها في حال الانسداد لا يخرج من انه وافق المقدار المعلوم من التكاليف بالظن الاطميناني او بمطلق الظن، على اختلاف حال الاشخاص، والعقل لا يلزم ازيد من ذلك، على المبنى الذي ذكرناه سابقاً، وان كان المرجع الى أن الشارع جعل العمل به محرماً فلا اشكال في أن الاتيان بمؤدى الظن الممنوع لا يعد من الموافقة الظنية، فان مقتضى حرمة العمل بالظن المفروض في هذه الحال عدم فعلية الواقع المتعلق للظن الممنوع، فان الظن بحرمة العمل بظن فعلاً يلازم، الظن بان التكاليف الواقعية التى فرض كونها معلومة فعلا في غير مؤدى الظن المفروض، فلا يعد العمل بالظن المفروض من الاطاعة الظنية للتكليف الفعلى حتى يحكم بوجوبه.

هذا ما يقتضيه النظر.

و اما لوقيل بحجية الظن في حال الانسداد اثباتاً ونفياً، بمعنى وجوب الاخذ

ص: 421

بمؤداه على كل حال في الواقعيات وفي الطرق بحيث كان ملاك الحجية في الظنون المتعلقة بالواقع موجوداً مطلقاً وكذا في الظنون المتعلقة بالطرق، وبعبارة اخرى كان حال الظن حال الانسداد حال العلم حال الانفتاح فيشكل الامر في المقام من حيث ان ملاك الاعتبار موجود في كليهما، والاخذ باحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح.

و قد يقال في المقام بتقديم الظن المانع، فانه بمؤداه يمنع عن الظن الممنوع بخلاف الممنوع، فانه لا ينفى المانع بمؤداه، بل ينفيه بواسطة المنافاة وعدم امکان الاجتماع في الحجية، فخروج الظن الممنوع من باب التخصص، لانه من الظنون التي اقيم الدليل على عدم اعتبارها وقلنا بان موضوع الحجية عند العقل. الظن الذي لم يقم دليل على عدم اعتباره بخلاف الظن المانع، فانه ان خرج فانما هو من باب التخصيص، ثم قاس هذا القائل المقام بمسألة الشك السبي والمسببي، فان الوجه في تقديم الشك السببي ان دخوله تحت ال_دل_ي_ل ي_وجب خروج الشك المسببى موضوعاً، بخلاف الشك المسببي، فانه لا يوجب خروج الشك السبي موضوعاً، بل يوجب خروجه حكماً من باب المنافاة، فيقدم الاول لتقدم التخصص على التخصيص هذا.

و فيه، ان قياس المقام بمسألة وجود الشك السبي والمسبى فاسد من وجوه: احدها: ان الامر في ذلك المقام دائر بين التخصيص والتخصص، بخلاف مقامنا فان اجراء الحكم على كل من الظنين يوجب خروج الآخر عن الموضوع، لان المفروض أن الموضوع مقيد بعدم قيام الدليل على عدم حجيته، والدليل على حجية شيء تلازم عدم حجية شيء آخر دليل على عدم حجية ذلك الشيء الآخر.

وثانيها: لو سلمنا أن الامر في ذلك المقام ايضاً لم يكن دائراً بين التخصيص والتخصص، بل يكون كالمقام دائراً بين التخصصين، كما اذا قلنا بحجية الاستصحاب من باب الطريقية فيلزم منه القول بانه اذا اجرى في الشك المسببي يزول الشك في السبب كالعكس من باب لزوم الاخذ بلوازم

ص: 422

الطريق، ولكن يمكن القول بتقديم الشك السببي من جهة تقدم وجوده على الشك المسبى رتبة، فيرتب عليه حكمه من دون مزاحم في مرتبته، حيث إن الشك المسببي الذي هو معلوله ليس موجوداً في مرتبة العلة، بخلاف مقامنا هذا، لعدم الترتب بين الظنين في مرتبة الوجود.

و ثالثها: لو فرضنا كون الامر دائراً بين التخصيص والتخصص في المقام فلا وجه ايضاً لتقديم الظن المانع.

توضيح ذلك : ان تقدم التخصص على التخصيص في مقام الدوران انما يكون في العمومات اللفظية من جهة لزوم الاخذ بظاهرها حتى يدل دليل على الخلاف، فما دام فرد العام موجوداً لا يجوز رف_ع ال__ي__د ع_ن الح_ك_م المستفاد من القضية الا بواسطة ال_دل__ي__ل المخرج، وأما اذا انتفى الفرد عن الفردية فليس رفع اليد عن حكمه خلافاً للقاعدة، وأما فيما نحن فيه فان موضوع حكم العقل مع قطع النظر عن وروده على المانع او الممنوع متحقق في كلا الفردين لان كلا منهما ظن لم يقم دليل على عدم اعتباره، ومن الواضح ان مجرد لزوم التخصيص على تقدير والتخصص على تق_دي_ر آخر لا يوجب الترجيح في حكم العقل، فان مسألة الترجيح بالتخصص انما هي في مقام الاثبات والاستفادة، دون مقام اللب والثبوت، فلابد في اجراء حكم العقل على احدهما دون الآخر من خصوصية واقعية توجب ترجيح احدهما على الآخر عند العقل فتدبر جيداً.

و مما ذكرنا ظهر لك ما في ما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في توجيه هذا الكلام بقوله: ان القطع بحجية المانع عين القطع بعدم حجية الممنوع، لان معنى حجية كل شيء وجوب الاخذ بمؤداه، لكن القطع بحجية الممنوع التي هي نقيض مؤدى المانع مستلزم للقطع بعدم حجية المانع، فدخول المانع لا يستلزم خروج الممنوع، وانما هو عين خروجه، فلا ترجيح ولا تخصيص، بخلاف دخول الم_م_ن_وع فانه يستلزم خروج المانع فيصير ت_رج_ي_ح_اً م_ن غير مرجح

ص: 423

«انتهی» (1).

و انت خبير بما فيه لانه مع قطع النظر عن الحكم الذي جاء من قبل ذليل الانسداد لم يكن بين الظنين تفاوت فما الذي اوجب جريانه في الظن المانع دون الممنوع.

و الاولى في الجواب منع المبنى، بانا لا نسلم وجود ملاك الاعتبار في كل ظن لم يقم على عدم اعتباره دليل بل الملاك إما الظن بعدم حصول المخالفة بمقدار ما علم اجمالا، او الظن بحصول الموافقة بالمقدار المذكور، والظن الذي فرض كونه ممنوعاً اذا انسلخ منه ذلك العنوانان لم يؤخذ به، لعدم وجود الملاك فيه، والا فلا مانع من اخذه ومع كون ملاك الاعتبار ما ذكرنا لا يمكن وقوع التعارض بين فردين من الظن فليتأمل جيداً.

قال شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في الكفاية في هذا المقام: ان التحقيق بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد انه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل المنع منه، فضلاً عما اذا ظن كما اشرنا اليه في الفصل السابق، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فان كفى، والا فبضميمة ما لم يظن المنع عنه، وان احتمل مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وان انسد باب هذا الاحتمال معها كما لا يخفى، وذلك ضرورة عدم الاحتمال مع الاستقلال حسب الفرض، ومنه انقدح انه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الاصول او في الفروع او فيهما «انتهى». (2)

اقول: احتمال منع الشارع في حال الانسداد عن ظن كاحتمال جعل الشارع ظناً في حال الانفتاح، فكما ان الاحتمال الثاني لا ينافي استقلال العقل بعدم الحجية كذلك الاحتمال الاول لاينافي استقلال العقل بالحجية،

ص: 424


1- الفرائد، ذيل المقام الثاني من التنبيه الثاني في الانسداد، ص ١٦٣ طبع رحمة اللّه.
2- ، ج 2، ص ١٤٧ (طبعة المشكيني).

والسر في ذلك ان الجعل الواقعي للطريق اثباتاً ونفياً لا يترتب عليه اثر الحجية ما لم يثبت بعلم او علمى فاذاً لامنافاة بين احتمال منع الشارع عن اتباع ظن واستقلال العقل بحجيته لعدم ثبوت ذلك المنع بطريق معتبر من العلم او العلمي، وكذا لا منافاة بين الظن بذلك واقعاً واستقلال العقل بحجية الظن الممنوع، لتحقق الملاك في الظن الممنوع دون المانع فتدبر جيداً.

ص: 425

المبحث الثالث، في مسائل الشك

في أصالة البراءة في الشك في التكليف

وفيه مقاصد

المقصد الأول في اصالة البرائة

اعلم ان من وضع عليه قلم التكليف اذا التفت الى الحكم الشرعي في الواقعة فاما ان يكون قاطعاً اولا وعلى الثاني اما ان يكون له طريق معتبر اولا.

ولا اشكال في ان مرجع القاطع الى قطعه كما انه لا اشكال في ان مرجع من جعل له طريق معتبر الى الطريق المجعول له.

و اما الاخير فمرجعه الى القواعد المقررة للشاك وهي منحصرة في اربع، لان الشك اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة اولا فالاول مجرى الاستصحاب والثاني اما ان يكون الشك فيه في جنس التكليف اولا، والاول مجرى اصالة البرائة، والثاني اما ان يمكن فيه الاحتياط اولا فالاول مورد الاحتياط، والثاني مجرى التخيير، وانما عدلنا عما ذكره شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» من التقسيم الى ما ذكرنا لانه لا يخلو عن مناقشة واختلال.

ثم انك قد عرفت ان الشاك موضوع للقواعد الاربع، والمقصود بالبحث في هذه الرسالة التعرض لتلك القواعد تفصيلاً.

فههنا اربع مسائل:

المسألة الأولى

في حكم الشاك في جنس التكليف ولم يلاحظ له حالة سابقة، وان حكمه بعد الفحص عن الدليل واليأس عنه هل هو البرائة او الاحتياط ؟ سواء كان الامر دائراً بين الحرمة وغير الوجوب او الوجوب وغير الحرمة، وسواء كان

ص: 426

الشك من جهة عدم النص أو من جهة اجمال النص أو من جهة تعارض النصين لان المقصود بيان الاصل في الشبهات البدوية، والصور المذكورة لا تفاوت بينها بحسبه وان اختص بعض منها بحكم آخر لدليل خارجي.

اذا عرفت هذا فنقول - وباللّه التوفيق :- الاقوى ان مقتضى القاعدة في الشبهات المذكورة هو البرائة وعدم لزوم الاحتياط، لنا على ذلك حكم العقل بقبح العقاب من دون حجة وبيان وهذه قاعدة مسلمة عند العدلية، ولا شبهة لاحد فيها، الا ان ما يمكن ان يكون رافعاً لموضوعها بزعم الخصم امور (1) نتكلم فيها حتى يتضح الحال ان شاء اللّه.

ادلة القول بالاحتياط

احدها وجوب دفع الضرر المحتمل عقلا، وهذه ايضاً قاعدة عقلية يجب العمل بها، فاذا كان الفعل محتمل الحرمة يحتمل في ايجاده الضرر، وكذا اذا كان محتمل الوجوب يحتمل في تركه الضرر، والعقل حاكم بوجوب دفع الضرر، فيجب بحكم العقل ترك الاول وايجاد الثاني، وبعد ثبوت هذا الحكم من العقل يرتفع موضوع تلك القاعدة.

و الجواب: ان الضرر المأخوذ في موضوع القاعدة الثانية ان كان الضرر

ص: 427


1- منها : بيانية نفس الاحتمال بتقريب ان العبد كما يحتاط في موارد احتمال الارادة الفاعلية لنفسه مالم يزاحم بجهة اخرى من حرج ونحوه يجب ان يحتاط في موارد احتمال الارادات الآمرية لمولاه، والا كان ذلك نقصاً في مقام عبوديته حيث لم يجعل نفسه بمنزلة جوارح المولى، وفيه ان المطلوب في حق الفاعل ليس الانيل اغراضه، فلهذا يحتاط في مورد الاحتمال واما العبد فليس المهم في حقه الا اقامة الحجة في جواب المولى، ولا شبهة في ان عدم العلم حجة مقبولة من العبد.[ م. ع. مدظله.آية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمد على العراقي «الاراكي» مدظله].

الاخروى فلا يكون محتملاً حتى يجب دفعه لان المفروض عدم البيان غير هذه القاعدة، وهي لا تكون بيانا الا على وجه دائر لان جريانها يتوقف على الموضوع، والموضوع يتوقف على جريانها وان كان الضرر ما يكون لازماً لفعل كل حرام وترك كل واجب كما يقول به العدلية فاحتماله وان كان ملازماً لاحتمال التكليف ولم يكن محتاجاً إلى البيان الا ان حكم العقل بوجوب دفعه ليس الا لاجل الخوف من الوقوع فيه ولا يترتب على مخالفته سوى الوقوع في المفسدة الذاتية على تقدير الثبوت، ولا يكفى هذا الحكم في اثبات العقاب من المولى، لان عقاب المولى لا يصح الا مع المخالفة، ولا يتصور هنا مخالفة الا على تقدير الالتزام بان القاء النفس في المفسدة المحتملة من الافعال القبيحة عند العقل على أي حال، سواء كان في الواقع مفسدة ام لا، حتى يستكشف بقاعدة الملازمة تعلق نهى الشارع بهذا العنوان ويصير اتيانه مخالفة للنهى، وليس الامر كذلك، للزوم ان يكون محتمل المفسدة مقطوع المفسدة عند العقل، وهذا واضح البطلان، والحاصل انه ليس في المقام الا ارشاد العقل بالتجنب عن المفسدة المحتملة، ولا يترتب عليه الا نفس تلك المفسدة على تقدير الثبوت.

وقد يجاب ايضاً بان الشبهة في المفسدة من الشبهات الموضوعية التي لا يجب فيها الاحتياط اتفاقاً، ولكنه مخدوش بعدم ثبوت الاتفاق على البرائة حتى في مثل : هذه الشبهة، كيف والخصم يستدل على دعواه بوجوب دفع المفسدة المحتملة، والمتيقن من مورد الاتفاق انما هو الشبهات التي لم يكن كشفها وظيفة الشارع، مثل كون هذا المايع بولا او خمراً ونحو ذلك، ف_الع_م_دة في الجواب ما ذكرنا فلا تغفل.

حول الاستدلال بالآيات للاحتياط في الشك في التكليف

الامر الثاني من الامور التى يمكن ان يكون بياناً وحجة على العقاب بزعم الخصم الآيات والاخبار.

اما الآيات: فهي على صنفين:

ص: 428

احدهما : ما دل على النهي عن القول بغير العلم.

و الجواب عنه واضح، لانا لا نقول بان الواقعة المشكوكة محكومة بالحلية في نفس الامر حتى يكون قولاً بغير علم، بل نقول بان اتيان محتمل الحرمة بعد الفحص عن الدليل لا يوجب عقاباً وكذا ترك محتمل الوجوب، وهذا ليس قولاً بغير علم، بل هو مقتضى حكم العقل القطعى بقبح العقاب من دون بيان.

الثاني: ما دل بظاهره على لزوم الاحتياط والتورع والاتقاء مثل قوله تعالى: «اتقوا اللّه حق تقاته» (1)، «وجاهدوا في اللّه حق جهاده»(2) وقوله تعالى : «فاتقوا اللّه ما استطعتم»(3) وكذا «لا تلقوا بايديكم الى التهلكة» (4).

و الجواب عما عدا الاخير ان الاتقاء يشمل فعل المندوبات وترك المكروهات، ولا اشكال في عدم وجوههما، فيدور الامر بين تقييد المادة بغيرهما وبين التصرف في هيئة الطلب بحملها على ارادة مطلق الرجحان حتى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه، ولا اشكال في عدم اولوية الاول ان لم نقل باولوية الثاني من جهة كثرة استعما لها في غير الوجوب حتى قيل انه صار من المجازات الراجحة المساوى احتمالها مع الحقيقة.

و اما عن آية التهلكة فبان الهلاك بمعنى العقاب معلوم العدم، لعدم البيان عليه، وبدونه قبيح، ولا يمكن ان يكون هذا النهى بيانا، اذ موضوعه التهلكة، ولا يمكن ان يتحقق الموضوع بواسطة حكمه، واما الهلاك بمعنى المفاسد المترتبة على فعل الحرام وترك الواجب فالحق ان الآية لا تشملها، لانها مما لم يقل به الا الاوحدى من الناس بالبرهان العقلى، حتى ان بغضاً من العدلية لا يلتزمون

ص: 429


1- سورة آل عمران الآية 102.
2- سورة الحج، الآية ٧٨.
3- سورة التغابن الآية ١٦.
4- سورة البقرة، الآية ١٩٥.

بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلق بل يكتفون بوجود المصلحة في التكليف، فكيف يحمل الخطابات المنزلة على فهم العرف على هذا المعنى الدقيق الذي لا يعرفه الا البعض بمقتضى البرهان العقلي.

و يمكن ان يقال على فرض شمولها للمفاسد الذاتية لا تدل على دعوى الخصم، لانها تدل على حرمة القاء النفس في الهلكة الواقعية، ولا دلالة لها على حكم حال الشك.

و فيه ان الظاهر ان القاء النفس في التهلكة اعم من الاقدام على الهلكة اليقينية والمحتملة عرفاً، ولا اقل من شمولها لموارد الظن بالتهلكة، وان كان غير معتبر، فيلحق به الشك لعدم القول بالفصل فالاولى في الجواب ما ذكرنا.

احتجاج القائلين بالاحتياط بالأخبار

و اما الاخبار فهي على اصناف:

احدها ما دل على حرمة القول بغير علم ؛ وقد مر الجواب عنه.

الثاني: ما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، وهذا الصنف مختص بالشبهة التحريمية بقرينة التوقف الذي يكون عبارة عن عدم المضى والحركة الى جانب الفعل.

والثالث: الاخبار الدالة على وجوب الاحتياط، وهي اع_م م_ورداً من السابق لانها تشمل الشبهة التحريمية والوجوبية.

اما ما دل منها على التوقف فهو اكثر من ان يحصى، وتقريب الاستدلال به ان الظاهر من هذه الاخبار الكثيرة ان عدم التوقف والحركة الى ناحية الفعل المحتمل حرمته موجب للاقتحام في الهلكة، والظاهر من الهلكة العقاب الاخروى، فمحصل هذه الاخبار ان الاقدام على فعل ما احتمل حرمته موجب لثبوت العقاب على تقدير كون الفعل المأتى به محرماً في محرماً في الواقع.

لا يقال: ان الاوامر المتعلقة بالتوقف لا يمكن ان تكون بياناً لثبوت العقاب لانها انما جاءت من جهة الهلكة كما هو مقتضى التعليل في الاخبار والحكم الذي جاء من جهة الهلكة لا يعقل ان يكون منشأ لثبوتها، للزوم الدور،

ص: 430

فمورد هذه الاخبار مختص بالشبهة التى قامت الحجة في موردها على الواقع على تقدير ثبوته، كالشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ونحو ذلك، واما الشبهات البدوية بعد الفحص عن الدليل فليس مرتكبها مقتحماً في الهلكة حتى يجب عليه التوقف، للقطع بعدم الهلكة فيها من جهة قبح العقاب من دون بيان.

لانا نقول : اذا تعلق حكم بطبيعة و علل بعلة وكان المتكلم في مقام البيان فالظاهر ان تلك الطبيعة في اي فرد وجدت محكومة بذلك الحكم وان العلة سارية في جميع افراد تلك الطبيعة، ولا فرق فيما قلنا بين ان يكون الحكم المذكور في القضية مولويا وبين ان يكون ارشادياً، الا ترى ان الطبيب لو قال للمريض كل الرمان لانه مزيل للصفراء يفهم منه ان ازالة الصفراء سارية في تمام افراده وان هذه الطبيعة من دون تقييدها بشيء تصلح لذلك المريض.

و الحاصل انه لا اشكال في ظهور ما قلنا وان الاخبار تدل على ان مطلق الشبهة يجب فيها التوقف، لان عدم التوقف فيها موجب للاقتحام في الهلكة، فيجب الجمع بين هذا الاطلاق والقاعدة العقلية التي مرت سابقاً من قبح العقاب من دون بيان بان يستكشف من هذه الادلة ان الشارع قد كان اوجب الاحتياط على المخاطبين بالخطاب المدلول عليه بهذه الاخبار، والا لم يصح التعليل المذكور في الاخبار، فاذا ثبت وجوب الاحتياط على المخاطبين بهذه الخطابات ثبت وجوبه علينا ايضاً، للقطع بالاشتراك في التكليف.

هذه غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال بهذه الاخبار.

و الجواب اولا بانا نمنع ظهور المشتبه في كل محتمل، بل قد يطلق على فعل يحتمل فيه الخطر، وبعد احتمال ذلك في اللفظ لا يتعين المعنى الاول، بل يتعين الثاني بقرينة التعليل، فلا ربط حينئذ لتلك الاخبار بمذهب المدعى.

و ثانياً: على فرض ظهور هذه الاخبار في العموم لا مناص من حملها على ارادة مطلق الرجحان وحمل الهلكة فيها على الاعم من العقاب وغيره من المفاسد، لانه من الموارد التى اديت بهذه العبارة في الاخبار على سبيل التعليل

ص: 431

النكاح في الشبهة وقد فسره الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقوله: «اذا بلغك انك رضعت من لبنها او انها لك محرمة وما أشبه ذلك»(1) ولا اشكال في ان مثل هذا النكاح لا يجب الاجتناب عنه ولا يوجب عقاباً وان صادف المحرم الواقعي، فان مثل هذه الشبهة من الشبهات الموضوعية التي يتمسك فيها بالاصل اتفاقاً، مضافاً الى قيام الاجماع ايضاً فيها والحاصل ان قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في «الهلكة اجرى في موارد وجوب التوقف وفي موارد عدم وجوب التوقف، فاللازم ان نحمله على ارادة مطلق الرجحان حتى يلايم كليهما.

و ثالثاً مع قطع النظر عن بعض موارد تلك الاخبار نعلم من الخارج عدم وجوب التوقف في بعض من الشبهات التحريمية كالشبهات الموضوعية باعتراف الخصم، فيدور الامر بين تخصيص الموضوع بغيرها او حمل الهيأة على مطلق الرجحان، ولا ريب في عدم رجحان الاول ان لم نقل بالعكس، فيسقط عن الدلالة على ما ادعاه الخصم.

و اما الصنف الثالث من الاوامر التي دلت بظاهرها على وجوب الاحتياط فهي كثيرة:

منها صحيحة عبدالرحمن ابن الحجاج قال سألت ابا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجلين اصابا صيداً وهما محرمان الجزاء بينهما او على كل واحد منهما جزاء فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لا، بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد، قلت ان بعض اصحابنا سألني عن ذلك فلم ادر ما عليه، فقال: اذا اصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا (2).

و منها موثقة عبداللّه بن وضاح قال كتبت الى العبد الصالح (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 432


1- الوسائل الباب ٥٧ من ابواب مقدمات النكاح الحديث ٢.
2- الوسائل الباب 18 من ابواب كفارات الصيد الحديث.

يتوارى القرص ويقبل الليل ثمّ يزيد الليل ارتفاعاً وتستترعنا الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، أفاصلى حينئذ وافطران كنت صائما ؟ او انتظر حتى يذهب الحمرة التى فوق الجبل ؟ فكتب الى: أرى لك ان تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك، الخبر(1).

و منها خبر التثليث المروى عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والوصى وعن بعض الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ففي مقبولة ابن حنظلة الواردة في الخبرين المتعارضين بعد الأمر باخذ المشهور منها وترك الشاذ النادر معللاً بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فان المجمع عليه لا ريب فيه قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انما الامور ثلثة امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيّه فيجتنب وامر مشك_ل ي_رد حكمه الى اللّه ورسوله، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): حلال بين، وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم(2).

و منها ساير الاخبار الآمرة بالاحتياط في الدين، مثل ماورد من قول امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لكميل ابن زیاد رضی اللّه عنه»: اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت(3) وامثال ذلك.

و الجواب اما عن الصحيحة فبان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اذا اصبتم بمثل هذا» يحتمل ان يكون اشارة الى السؤال يعنى اذا سئلتم عن مثل هذه الواقعة من الوقائع المشكوك فيها ولم تدروا حكمها فعليكم بالاحتياط، ويحتمل ان يكون اشارة الى نفس الواقعة يعنى اذا ابتليتم بالوقائع المشكوك فيها فع_ل_ي_ك_م بالاحتياط، وعلى الاول يحتمل ان يكون المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فعليكم

ص: 433


1- الوسائل الباب ١٦ من ابواب المواقيت الحديث ١٤.
2- الوسائل، الباب 12 من ابواب صفات القاضي، الحديث 9.
3- الوسائل الباب 12 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٤١.

بالاحتياط» ايجاب التوقف وترك القول بما لا يعلم، وان يكون المراد ايجاب الافتاء بالاحتياط، والاخير بعيد جداً، وعلى الثاني يمكن ان يكون المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «بمثل هذا» جميع الوقايع المشكوك فيها، وان يكون المراد ما كان مماثلاً لواقعة جزاء الصيد في كونه مردداً بين الاقل والاكثر، واستدلال الاخباريين مبنى على حمل الرواية على المعنى الاول بالوجه الثاني الذي قلنا بانه بعيد جداً، أو على المعنى الثاني، بالوجه الاول، اما الاول منهما ففي غاية البعد، واما الثاني فيلزم عليهم الحكم بالاحتياط في الشبهات الوجوبية البدوية، ولم يلتزم اكثرهم بذلك، مضافاً الى عدم ترجيح هذا الاحتمال، فيسقط الخبر عن صحة الاستدلال.

و اما عن الموثق فبانه مع اضطرا به لا يدل على المطلوب لانه ان حمل على كفاية استتار القرص ووجوب الانتظار حتى يحصل القطع بتحققه، فمع بعده عن ظاهر الخبر - كما لا يخفى - لا يدل الاعلى انه في امثال المقام - مما اشتغلت ذمة المكلف بتكليف يجب عليه ان يحتاط حتى يحصل له اليقين بالبرائة، وان حمل على عدم كفاية استتار القرص فيشكل حكم الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالاحتياط، ان المورد من الشبهات الحكمية التى تكون وظيفة الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) رفع مع الشبهة فيها، فلابد ان يحمل هذا البيان منه على التقية، بمعنى أنه أرى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ان قوله بالانتظار ليس من اجل عدم كفاية الاستتار، بل من جهة حصول القطع بتحققه لمكان الاحتياط اللازم في المورد، بل يمكن أن يقال إن الظاهر من قوله علیه السلام «ارى لك» استحباب الانتظار احتياطاً فيكون هذا ايضاً شاهداً على التقية، ويمكن قريباً ان يكون قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وتأخذ بالحائطة لدينك» متمما للفقرة الاولى لا تعليلاً لها، فالمراد على هذا انه يجب عليك الانتظار على نحو الاحتياط من دون ان يلتفت الى مذهبك احد.

و اما عن خبر التثليث فينبغى اولا ذکر موارد الاستدلال به ثم الجواب عنه وهي ثلاثة :

ص: 434

احدها: ايجابه الاخذ بالمشهور وطرح الشاذ النادر معللاً بان المجمع عليه لا ريب فيه فيستفاد من التعليل ان الوجه في وجوب طرح الشاذ كونه مما فيه ريب، وبمقتضى عموم هذه العلة يجب رفع اليد عن كل مافيه الريب وطرحه والاخذ بما لا ريب فيه، وهذا مفاد قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) في بعض الاخبار: «دع ما يريبك الى ما لا يريبك»(1) فشرب التتن مثلاً مما فيه ريب، وتركه مما لا ريب فيه، ومقتضى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجوب طرح الاول والاخذ بالثاني.

الثاني تقسيم الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الامور على ثلاثة اقسام، والحكم بوجوب رد الشبهات الى اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

الثالث: النبوي الذي استشهد به الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو قوله: «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم».

والجواب اما عن الاول فبان السؤال انما يكون عن الخبرين المتعارضين وانه بايهما يجب الاخذ على انه طريق وحجة، فيستفاد من الجواب بملاحظة عموم التعليل ان الاخذ بكل مافيه الريب بعنوان انه حجة بينه وبين اللّه غير جايز، ولا شك في ذلك ولا دخل له بما نحن بصدده من لزوم الاحتياط في مقام العمل وعدمه.

و اما عن الثاني فبان حكم الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) برد الشبهات الى اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ظاهره عدم القول بما لا يعلم، ولا اشكال ايضاً في ذلك، ولا يدفع ما ندعيه، كما لا يخفى.

و اما النبوي فان كان المراد من الهلكة فيه العقاب كما هو الظاهر فاللازم حمله على الارشاد وتخصيصه بموارد ثبوت الحجة على الواقع، وان كان ما يعم المفاسد الذاتية فاللازم حمل الطلب فيه على مطلق الرجحان، ويمكن ان يقال:

ص: 435


1- الوسائل الباب 12 من ابواب صفات القاضي، الحديث 38.

ان المحرمات الواقعية التي لا دليل على ثبوتها ليست داخلة في هذا التقسيم، بل هو ناظر الى المحرمات المنجزة والمحللات والشبهات بين الحرام المنجز والحلال كالشبهات في اطراف العلم الاجمالي ولا اشكال في وجوب الاحتياط فيها(1).

و اما عن ساير الاخبار الآمرة بالاحتياط فبأن الامر فيها دائر بين التصرف في المأمور به بحمله على غير الشبهات الموضوعية التى ليس الاحتياط فيها واجباً اتفاقاً، وبين التصرف في الهيأة بحملها على ارادة مطلق الرجحان، ولا اقل من عدم ترجيح الاول ان لم يكن الثاني اولى كما هو واضح، مضافاً الى ان الظاهر من كلها او جلها الاستحباب كما لا يخفى على من راجعها.

الاحتجاج للاحتياط بالعلم الاجمالي بوجود الأحكام

الأمر الرابع: (2)من الامور التي تمسك بها الخصم العلم الاجمالي بوجود احكام كثيرة، وهذا العلم حاصل لكل من علم ببعث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولا طريق الى انكاره الا المكابرة، ومقتضى هذا العلم الاحتياط في

ص: 436


1- فان قلت بعد حمل الفقرة الاولى على مقام التعبد، والثانية على الفتوى، والثالثة على العمل الخارجي، فكيف يمكن تطبيقها على المورد، وهو الأخذ بالرواية الشاذة. ان التعبد بالمشكوك فضلاً عن الفتوى به داخل في البين الغي والحرام البين، وظاهر الرواية جعل المقام من مصاديق المشكل والشبهة. قلت: اما كون المقام من مصاديق المشكل والشبهة فبملاحظة نفس الرواية الشاذة، والعمل بها بقرينة المقام محمول على التعبد والفتوى لا العمل الخارجي، ووجه كونها مشتبهة انه بعد القطع بصدور الرواية المشهورة - كما هو مقتضى مادة الشهرة لغة - يصير ذلك سبباً للقطع بعدم جواز الاخذ بالمضمون الظاهري للرواية الشاذة ؛ اما للخلل في صدورها او في جهتها او في دلالتها بان كانت هناك قرينة متصلة فسقطت من البين، فالرواية الشاذة امر مشكل لا يسوغ لنا التعرض لتعيين حالها من بين تلك الجهات، بل يرد حكمه الى اللّه تعالى. (م. ع. مدظله).
2- كذا في نسخة الاصل، ولعلّه مبنى على عد كلّ من الآيات والاخبار امراً مستقلا، والا فقتضي السياق ان يقال : الامر الثالث (المصحح).

كل شبهة وجوبية أو تحريمية لان الاشتغال اليقيني بالتكاليف يقتضى البرائة اليقينية منها بحكم العقل، غاية الامر انه ان ثبت عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية بالدليل نقول بمقتضاه في خصوص تلك الشبهة وتبقى الشبهات التحريمية باقية على مقتضى العلم الاجمالي.

لا يقال : ان هذا العلم انما يكون قبل مراجعة الادلة، واما بعد ها فالمعلوم اشتغال الذمة بمقتضى مداليل الادلة والزايد مشكوك فيه، وبعبارة اخرى بعد مراجعة الادلة ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي والشك البدوى.

لانا نقول : ان كان المراد ان الادلة توجب القطع بالاحكام الواقعية فكل منصف يقطع بخلاف ذلك، وان كان المراد انه مع كون الادلة لا تفيد القطع يجرى الاصل في الموارد الخالية عنها فالجواب بانه لا وجه لذلك، فان مقتضى دليل حجية الامارات وجوب الاخذ بمؤداها لا حصر التكاليف الواقعية بمواردها وحينئذٍ لا منافاة بين وجوب الاخذ بمؤدى الامارات بمقتضى دليل اعتبارها ووجوب الاخذ بمقتضى العلم الاجمالي الموجود فعلا بالاحتياط في الاطراف الخالية عن الامارة، هذا.

و الجواب عنه بوجوه : احدها ان العلم الاجمالى بالتكاليف لا يقتضى الا الاتيان بالمقدار المعلوم اما حقيقة كما لو علم بالمقدار المعلوم تفصيلاً واتى به، وإما حكما، كما لواتى بمؤديات الطرق التي نزلها الشارع منزلة الواقع فالآتى بها كالآتي بنفس الواقعيات ولا شيء عليه سوى ذلك.

ويمكن الخدشة في هذا الجواب بان العلم الاجمالي يقتضى عدم المخالفة بالمقدار المعلوم اجمالاً (1) لا المطابقة بذلك المقدار كما سبق في مبحث دليل

ص: 437


1- لا ينافي هذا مع ما قويناه اخيراً من جواز قناعة الآمر في مقام الامتثال بالمصداق البدلي، فان ما قلناه هناك في ما جعل بدلاً للمعلوم بالاجمال بالخصوص، ومعناه انه لو فرض وجوده في الطرف الذي ارتكبه كان هذا الطرف الآخر بدلا عنه، لا في مثل المقام مما جعل شيئاً بدلاً عن الواقع بلا نظر الى خصوص المعلوم الاجمالي.(م. ع. مدظله).

الانسداد وجعلناه مبنى القول بالتجزي في الاحتياط.

الوجه الثاني: انه بعد قيام الادلة على الواجبات والمحرمات بالمقدار المعلوم بالاجمال ينحل العلم الاجمالي الى العلم التفصيلي والشك البدوي(1)، لان الاتيان بما دلت الادلة على وجوبه واجب وكذا ترك مادلت على تحريمه، ولا يكون لنا علم بالتكليف سوى ما علم تفصيلاً لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل.

فان قلت: هذا لو اطلع على الادلة قبل العلم الاجمالي او مقارناً له صحيح، لماذكر من عدم العلم بازيد مما علم تفصيلاً بمجرد احتمال التطبيق، واما لو اطلع على الادلة بعد العلم الاجمالي فلا يكفى مجرد احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على مداليل الادلة، لتنجز الواقعيات بواسطة العلم، ويجب بحكم العقل الامتثال القطعي.

قلت: يشترط في بقاء اثر العلم الاجمالي كونه باقياً، بمعنى ان يكون عالماً في الزمان الثاني اجمالاً بوجود التكليف في الزمن الاول، وان لم يكن عالماً به بملاحظة الزمن الثاني من جهة انعدام بعض الاطراف او خروجه عن محل الابتلاء او غير ذلك، ولهذا لوشك في الزمان الثاني في ثبوت التكليف في الزمن الأول لم يكن اثر للعلم الأول بلا اشكال فحينئذ نقول: العلم الاجمالي وان

ص: 438


1- فيه انه لو كان للمعلوم الاجمالي عنوان ولم يحرز ذلك العنوان في المعلوم التفصيلي فلا يحصل الانحلال وفي مقامنا الامر بهذا المنوال، فان المعلوم بالاجمال هو التكاليف المتعلقة بالعناوين الأولية للاشياء، والتكاليف الطرقية التي هي المعلوم التفصيلي وان كانت منطبقة لباً في صورة المصادفة مع تلك التكاليف وليست تكاليف آخر بقبالها الا ان المؤاخذة والمسؤلية لا اشكال في كونها مترتبة على مخالفة نفسها، والمسؤل عنه مثلاً نفس تصديق العادل لا صلاة الجمعة التي اخبر بها، فالمعلوم الاجمالي شيء والتفصيلي شيء آخر، غاية الامر احتمال انطباقهما على مصداق واحد ومثل هذا لا يؤثر في الانحلال، وعلى هذا فيتعين طريق الانحلال في الوجه الاخير.(م. ع. مدظله).

كان موجوداً في الزمن الاول لكن الامارات الدالة على الاحكام لما دلت على ثبوتها من اول الامر وكان الواجب عليه البناء على مضمونها ففي زمان الاطلاع على هذه الامارات لم يكن اجمال في البين بملاحظة الحالة السابقة لانه يعلم في الحال بثبوت التكليف في موارد الامارات من اول الامر ويشك في الزايد كذلك، وبعبارة اخرى الظفر بالامارات بعد العلم الاجمالي من قبيل العلم بالتكاليف الواقعية من أول الأمر، فكما انه يوجب انحلال الع_ل_م الاجمالي كذلك الظفر بالامارات الشرعية، لانها تكشف عن وجود تكاليف قطعية على طبق مقتضاها من اول الامر هذا.

ولا يخفى ان الجواب المذكور وان كان نافعاً في الم_ق_ام، فان كلامنا في الشبهات الحكمية، والادلة القائمة على التكاليف ثابتة في الواقع مقدمة على العلم الاجمالي، غاية الامر عدم اطلاع المكلف عليها، وبعد اطلاعه عليها يكشف عن ثبوت تكاليف قطعية من اول الامر كما عرفت، ولكنه غير نافع في الشبهة الموضوعية كما لو قامت البينة على بعض اطراف العلم الاجمالي متأخرة عن العلم، لانها لا تكشف عن التكليف القطعي ضرورة ان التكليف القطعي الذي يكون عبارة عن وجوب متابعة البينة لا يمكن ان يكون سابقاً على نفس البينة، فلا يبقى في البين الا لسان البينة بكون هذا موضوعاً للحكم سابقاً، ومجرد هذا اللسان لا يجدى في الانحلال الوجداني نعم الجواب الاول ان تم فهو نافع مطلقاً حتى في موارد قيام البينة.

الوجه الثالث ان العلم يعتبر في موضوع حكم العقل من حيث انه طريق قاطع للعذر لا من حيث انه صفة خاصة، ولذا تقوم الامارات مقامه، وقد بينا الفرق بينهما في مبحث حجية القطع، وعلى هذا لو قامت امارة معتبرة او طريق معتبر على بعض الاطراف مفصلا فالمعلوم بصفة انه معلوم وان كان بعد مردداً، ولكن ماقام عليه الطريق القاطع للعذر ليس مردداً، فما يكون ملاك حكم العقل بوجوب الامتثال مفصل ومابقى على اجماله ليس ملاكا لحكم العقل،

ص: 439

ولا تفاوت في الانحلال على هذا الوجه بين ان يكون الطريق مقارناً للعلم او سابقاً عليه اولا حقاً له، وكذا لا تفاوت بين الشبهة في الحكم وبين الشبهة في الموضوع، هذا.

و تلخص مما ذكرنا عدم نهوض الادلة التي استدل بها اصحابنا الاخباريون على ايجاب الاحتياط، فيكفي لنا حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

أدلة القول بالبراءة، ومنها حديث الرفع

و ها انا اشرع في ذكر الادلة الشرعية الدالة على عدم البأس في ارتكاب الشبهات الحكمية البدوية بعون اللّه تعالى وحسن توفيقه :

منها الخبر المروى عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بسند صحيح في الخصال كما عن التوحيد: رفع عن امتى تسعة اشياء: الخطاء، والنسيان، وما استكرهوا عليه، وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا اليه «الخبر»(1) تقريب الاستدلال به واضح.

و استشكل شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه)(2) في شموله للشبهات الحكمية التي هي محل النزاع بوجهين احدهما ان السياق يقتضى ان يكون المراد من الموصول في قوله «ما لا يعلمون» هو الموضوع، اذ المراد في قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما لا يطيقون وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه» ليس الا الافعال، اذ لا معنى للاضطرار الى الحكم او الاكراه عليه، فيكون المراد من الموصول في قوله مالا يعلمون ايضاً الافعال المجهولة العنوان لظهور اتحاد السياق، والثاني ان الظاهر ان المراد من الرفع هو رفع المؤاخذة، فلابد من التقدير في قوله: «ما لا يطيقون وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه» والمقدر هو المؤاخذة

ص: 440


1- الوسائل الباب ٥٦ من ابواب جهاد النفس الحديث.
2- الفرائد، ذيل الخبر، ص ١٩٥ (طبع رحمة اللّه).

على نفس المذكورات ولو قلنا بشمول الموصول في «ما لا يعلمون» الحكم ايضاً لا يمكن مثل هذا التقدير فيه اذ لا معنى للمؤاخذة على الحكم.

و زاد شيخنا الاستاذ (1) اشكالاً آخر، وهو ان اسناد الرفع الى الحكم اسناد الى ماهو له، اذ وظيفة الشارع رفع الحكم، ووضعه، واسناده الى الموضوع اسناد الى غير ما هو له، فيكون اسناداً مجازياً، فارادة الحكم والموضوع من الموصول لا تجوز، الا ان يراد كل منهما مستقلاً كما في استعمال اللفظ في المعنيين هذا.

و لكن الانصاف عدم ورود شيء مما ذكر :

اما قضية السياق فلان عدم تحقق الاضطرار في الاحكام وكذا الاكراه لا يوجب التخصيص في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «مالا يعلمون» ولا يقتضى السياق ذلك، فان عموم الموصول انما يكون بملاحظة سعة متعلقه وضيقه، فقوله «صلى اللّه عليه وآله وسلّم: «ما اضطروا اليه اريد منه كل ما اضطر اليه في الخارج، غاية الامر لم يتحقق الاضطرار بالنسبة الى الحكم، فيقتضى اتحاد السياق ان يراد من قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما لا يعلمون» ايضاً كل فرد من افراد هذا العنوان الا ترى أنه اذا قيل: «ما يؤكل وما يرى» في قضية واحدة لا يوجب انحصار افراد الاول في الخارج ببعض الاشياء تخصيص الثاني ايضاً بذلك البعض، وهذا واضح جداً.

و اما ما ذكر «قدّس سرُّه» من الوجه الثاني فالتحقيق فيه انه لا يحتاج الى التقدير في القضية اصلاً، وتوضيح ذلك : انه تارة نلتزم بان الاحكام الواقعية في حال الجهل لابد وان تكون باقية على فعليتها، وأخرى لا نلتزم بذلك، وعلى اى حال نقول: اسند الرفع الى نفس ما لا يعلمون بنحو من المسامحة، فعلى الاول المجهول سواء كان حكماً او موضوعاً ليس مرفوعاً حقيقة، اما الثاني فواضح، واما الاول فلان المفروض بقاء الاحكام الواقعية على فعليتها في حال الجهل، فلابد

ص: 441


1- تعليقة الفرائد «هنا» ص108.

من احدى المسامحتين: إما جعل المجهولات مما يقبل الرفع ادعاء، وإما حمل النسبة على التجوز، وعلى الثاني ان كان المجهول حكماً يمكن رفعه حقيقة، بمعنى رفع فعليته في حال الجهل، واما ان كان موضوعاً فلا يقبل الرفع، فالمتعين جعل ما لا يقبل الرفع مما يقبل الرفع ادعاء ثم نسبة الرفع الى الجميع حقيقة.

و مما ذكرنا يظهر ما فيما افاده شيخنا الاستاذ ايضاً فلا تغفل.

و بالجملة الانصاف انه لا وجه لرفع اليد عن عموم قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «ما لا يعلمون» للشبهات الحكمية.

ثم انك بعد ما عرفت ان نسبة الرفع الى ما لا يعلمون واخواته تحتاج الى وجه من المسامحة اعلم ان المصحح لهذه المسامحة إما ان يكون رفع جميع الاثار، وإما خصوص المؤاخذة في الجميع، وإما الاثر المناسب لكل من المذكورات وان قلنا بالاول فلو كان للشيء آثار متعددة يرتفع عند الجهل او النسيان او الاضطرار كلها مثل ما لو اضطر الى لبس الحرير الذي له الحرمة النفسية والمانعية للصلاة، وكذا لو جهل بكونه حريراً، أو جهل بكون الحرير محرماً ومانعاً من الصلاة، وان قلنا بان الثاني مورد الرفع، فينحصر فيما له خصوص الأثر المذكور، اعنى المؤاخذة، وما لم يكن له ذلك خارج عن مورد الرواية، وان قلنا بالثالث يشمل غير المؤاخذة ايضاً، لكن الفرق بينه وبين الأول أنه على الاول لو كان للشيء آثار متعددة يرتفع الكل، بخلاف الاخير، فانه يلاحظ ماهو انسب بالنسبة الى ذلك الشيء.

اذا عرفت هذا فنقول : لو خليتنا وانفسنا لقلنا بان الظاهران نسبة الرفع الى المذكورات انما تكون بملاحظة رفع المؤاخذة، لكن ينافيه(1) ماروى عن الصفوان

ص: 442


1- يمكن ان يقال بعدم المنافاة لان نفس الحلف بالامور الثلاثة محرم شرعاً، فمن القريب جداً ان يكون المراد من قوله «أيلزمه ذلك لزوم عصيان ذلك الحلف، كما في قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): من رضى بفعل قوم لزمه ذلك فالاشارة راجعة الى الحلف بملاحظة اثره وهو العقاب، كما تكون راجعة في المثال المذكور الى الفعل بملاحظة اثره من الحسن والقبح، فتلخص أن المراد من الرفع في مقامنا رفع خصوص المؤاخذة، وهووان امكن ان يكون بنحو التصرف الشرعي اعني اخذ التجريد في موضوع الحكم الواقعي لكن الظاهر بقرينة اطلاقات الادلة الواقعية كونه تقريراً لحكم العقل اعنى قبح العقاب بلا بيان (م. ع. مدظله).

والبزنطي عن ابي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) بطريق صحيح، في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك ؟ فقال : لا، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «وضع عن امتى ما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما اخطأوا «الخبر»(1) فان الحلف على ماذكر وان كان باطلاً مطلقاً، الا ان استشهاد الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على عدم لزومها مع الاكراه على الحلف بها.يدل على عدم اختصاص الرفع برفع المؤاخذة، فعلى هذا يدور الامر بين الاحتمالين الاخيرين: أحدهما جميع الآثار، والثاني الاثر المناسب، لكن الثاني مستلزم لملاحظات عديدة، فيتعين الاول.

قال شيخنا الاستاذ في تعليقاته ان ما يظهر من الخبر لا ينافي تقدير خصوص المؤاخذة. مع تعميمها الى ماكانت مترتبة عليها بالواسطة كما في الطلاق والصدقة والعتاق فانها مستتبعة لها بواسطة ما يلزمها من حرمة الوطى في المطلقة ومطلق التصرف في الصدقة او العتق وبالجملة لو كان المقدر هو خصوص المؤاخذة الناشية من قبلها بلا واسطة او معها لا ينافيه ظاهرا الخبر «انتهى كلامه» (2).

اقول: اسناد الرفع الى شيء لا يرتفع بنفسه ينصرف الى الاثر المترتب على ذلك الشيء من دون واسطة، فان قلنا بتمام الآثار فهو تمام الآثار المترتبة على الشيء من دون واسطة، وان قلنا بالمؤاخدة خاصة فهو ايضاً من باب أنها اظهر الآثار للمذكورات ولو في خصوص المقام وعلى اي حال لا يشمل الآثار المترتبة على الشيء بواسطة او وسايط كما أن أخبار الاستصحاب الدالة على

ص: 443


1- الوسائل الباب 12 من كتاب الايمان الحديث 12.
2- تعليقة الفرائد، «هنا» ص 109.

وجوب إبقاء ما كان تنصرف إلى ابقاء الآثار بلا واسطة، وكيف كان دلالة الخبر المذكور على كون المرفوع أعم من المؤاخذة غير قابلة للخدشة.

بقى الكلام في امور:

بيان حدود ما يستفاد من حديث الرفع

احدها: ان المراد بالرفع في هذا الخبر الشريف هو الدفع او الاعم منه ومن الرفع، لا معناه الحقيقي الذي هو عبارة عن ازالة الشيء بعد ثبوته، اذ هو غير واقع في بعض العناوين المذكورة قطعاً.

الثاني: أن الاثر المرفوع انما هو الاثر الشرعي المرتب على هذه المذكورات بلا واسطة، فالآثار العقلية او الشرعية المترتبة عليها بواسطة او وسايط خارجة عنه.

فان قلت: فعلى هذا الشبهات الحكمية خارجة عن مورد الرواية، لان الحرمة المجهولة مثلاً ليس لها أثر شرعاً، بل اثرها المؤاخذة، وهي غير قابلة للتصرف الشرعي، وهكذا الوجوب المجهول.

قلت: المؤاخذة وان لم تكن قابلة للرفع والوضع بنفسها، لكنها قابلة لهما بواسطة منشأها، فانه للشارع ان يثبت المؤاخذة بايجاب الاحتياط في حال الجهل، فاذا لم يوجب الاحتياط يرتفع المؤاخذة، فيصح اسناد رفعها الى الشارع، مضافاً الى امكان القول بان نسبة الرفع الى الشبهات الحكمية ليست بملاحظة الآثار، بل بملاحظة نفسها لان الحكم بنفسه مما تناله يد الجعل.

الثالث: انه لا اشكال في قبح مؤاخذة الناسى والعاجز والمخطى عقلا، وعلى هذا يستشكل في الرواية من جهتين :

احداهما عدم اختصاص رفع المؤاخذة عن هذه المذكورات بالامة المرحومة.

والثانية ان الرواية في مقام المنة، واى معنى للمنة في رفع ما هو قبيح عند العقل.

ثم لا يخفى انه لا يرتفع الاشكال بجعل المرفوع تمام الآثار، اذ منها المؤاخذة، فانضمام الآثار التي يصح رفعها امتنانا الى ما لا يصح كذلك غير صحيح،

ص: 444

وهذا التوجيه نظير ما قيل في ان الرفع انما هو بملاحظة : مجموع التسعة، فما اورده شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه)(1) على التوجيه الثاني من انه شطط من الكلام وارد على الاول ايضاً بعينه، فلا تغفل..

وكيف كان فالاولى أن يقال - كما افاده شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) (2)اخيراً بان النسيان وكذا الخطأ قد يكون من جهة مسامحة المكلف. وعدم المبالاة في الحفظ، وقد يكون غير مستند اليه والقبيح مؤاخذة الناسي والمخطى مثلاً اذا لم يكونا مستندين اليه وأمّا في صورة الاستناد اليه فليست المؤاخذة قبيحة، فيصح ان يرفع الشارع المؤاخذة عن الناسى ومثله، بان لا يوجب عليهم التحفظ اولا.

الرابع: ان بنينا على أن المرفوع تمام الآثار فيمكن ان يقال: لونسي جزء من اجزاء الصلاة واتى بالباقي كانت مجزية، ولا يجب عليه الاعادة بعد الالتفات اذ من الآثار الجزئية، فهي مرفوعة في حال النسيان، فيدل الخبر على ان المكلف به للناسى هي الصلاة من دون ذلك الجزء المنسى.

و الاشكال بأن الجزئية غير قابلة للرفع لانها من الآثار الوضعية التي قلنا بعدم الجعل فيها، مدفوع، بما مر في رفع المؤاخذة، من أنها وان كانت غير قابلة للجعل بنفسها، الا أنها قابلة له من جهة منشأ انتزاعها، هذا.

و لكن ما قلنا انما هو مبنى على صحة اختصاص الناسي بالتكليف، كما هو التحقيق والمحقق في محله واما على مذهب شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» من عدم امکانه فلا يصح الاستدلال، كما لا يخفى.

حول التمسك بحديث الرفع، لوشك في مانعية شيء في الصلاة

الخامس: لو شك في مانعية شيء للصلاة فالحديث بناء على حمله على تمام الآثار ينفع لصحة صلاته مادام شاكاً، واذا قطع بكونه مانعاً يجب عليه اعادة تلك الصلاة في الوقت وقضاؤها في خارجه، كما هو مقتضى القاعدة في

ص: 445


1- الفرائد ذيل البحث عن الخبر - ص ١٩٦. ر
2- الفرائد ذيل البحث عن الخبر - ص ١٩٦.

الاحكام الظاهرية، واما لو شك في انطباق عنوان ما هو مانع على شيء فلا يبعد ان يقال بالاجزاء (1) وان علم بعد الفعل بالانطباق، كما لو صلى مع لباس شك في أنه مأكول اللحم او غيره، مثلاً، اذ مقتضی رفع هذا الآثار عن المشكوك تخصيص المانع بما علم انه من غير المأكول، ولا يمكن هذا القول في الاول، اذ يستحيل تخصيص المانع بما اذا علم ما نعيته فتدبر جيداً.

ومن جملة ما استدل به على البرائة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، فيمن تزوج امرأة في عدتها قال اذا كان بجهالة فليزوجها بعد ما تنقضى عدتها، فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو اعظم من ذلك، قلت: بای الجهالتين اعذر؟ بجهالته ان ذلك محرم عليه ام بجهالته انها في العدة؟ قال: احدى الجهالتين اهون من الاخرى، الجهالة بان اللّه حرم عليه ذلك، وذلك لانه لا يقدر معه على الاحتياط، قلت: فهو في الاخرى معذور؟ قال: نعم، اذا انقضت عدتها فهو معذور، فله ان يزوجها(2).

تقريب الاستدلال أنه حكم بكونه معذوراً لانه جاهل، فجعل الجهل موجباً للعذر، سواء كان متعلقاً بالحكم ام بالموضوع ويؤيده سئوال الراوى بعد ذلك : «بأي الجهالتين اعذر».

ص: 446


1- بل يبعد القول به فان رفع المانعية عن الجاهل بالموضوع وان لم يستلزم محالاً ولا تصويباً الا انه خلاف الظاهر، فان الظاهر من تعليق الحكم بالشك في الموضوع ان يكون بلحاظ ما يلازمه من الشك في الحكم الجزئي، وان يكون حكماً عذرياً في طول ذلك الحكم، بمعنى ان لا يكون مغيراً لمصلحته، ولازم ذلك عدم الاجزاء، كما ان رفع المانعية عن الجاهل بالحكم وان كان ممكنا بناء على ما تصورناه من اخذ التجريد الا انه ايضاً ليس على وجه العرضية للحكم الواقعي كالمسافر والحاضر بل حكم عذري في طوله مع بقاء المصلحة بحالها ولازمه عدم الاجزاء ايضاً.(م. ع. متظله).
2- الوسائل الباب.17 من ابواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها الحديث. راجعه فان بعض الفاظ الحديث مغاير لما في المتن.

و يشكل بان الجهل المفروض في الرواية على فرض كون المراد منه الشك إن كان متعلقاً بالحكم الشرعي فالمعذورية يتوقف على الفحص، اذ الجاهل بالحكم قبل الفحص ليس بمعذور اجماعاً، ولو حملنا الرواية على ما بعد الفحص فيبعد بقاء الجهل مع وضوح الحكم بين المسلمين، وإن كان المراد الجهل بالموضوع فيصح الحكم بالمعذورية اذا لم يعلم بكونها في العدة اصلا، واما اذا علم بكونها في العدة سابقاً ولم يدر انقضائها فمقتضى استصحاب بقاء العدة عدم معذوريته، وبالجملة الحكم بمعذورية الجاهل مطلقاً لا يطابق القواعد المسلمة الا ان يحمل الجهالة على الغفلة، فيستقيم الحكم بالمعذورية، او كان المراد من المعذورية المعذورية بالنسبة الى الحكم الوضعى (1) اعنى الحرمة الابدية.

و ايضاً هنا اشكال آخر في حكمه بكون الجهالة بأن اللّه تعالى حرم عليه ذلك اهون من الأخرى معللاً بعدم قدرته على الاحتياط معها، وحاصل الاشكال انه لا فرق بين الجهالتين في هذه العلة لانها ان كانت بمعنى الغفلة فلا اشكال في عدم قدرته على الاحتياط فيهما، والتفكيك بين الجهالتين بان يجعل الجهالة بالحكم بمعنى الغفلة والاخرى بمعنى الشك في غاية البعد.

قال شيخنا الاستاذ: غاية ما يمكن ان يقال في دفعه هو ان ارادة الغفلة في

ص: 447


1- و ذلك اما بان يقال بان الجاهل المردد وان كان مقصراً من حيث التكليف، معذور من حيث الوضع لمدخلية وصف الجهل في رفع الوضع واما بان يقال بان الحكم في هذه المسألة مبني على تخصيص الاستصحاب مع الحمل على الشبهة الموضوعية. وفيه ان سياق الرواية يشهد بان الجاهل في هذا الباب جار على قاعدته في سائر الابواب من غير خصوصية لوصف الجهل ولا تخصيص لقاعدته، لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فقد يعذر الناس في الجهالة بماهو اعظم من ذلك» : فالحق في الجواب ما ذكر اخيراً في المتن من حمل الجهالة في الموضعين على معنى الغفلة ويعلم منه حكم الجاهل المردد اذا كان معذوراً، اذ الظاهر من الرواية كون الحكم في الغافل معللاً بكونه معذوراً.(م. ع. متظله).

احد الموضعين والشك في الآخر لا توجب التفكيك في الجهالة بحسب المعنى فيهما، فانه من الجايز بل المتعين استعماله في كلا الموضعين في المعنى العام الشامل للغفلة والشك، لكن لما كان الغالب في الجهل بالحكم هو الغفلة، اذ مع وضوح هذا الحكم بين المسلمين قلّما يتفق مع الالتفات اليه الشك فيه بخلاف الجهل بكونها في العدة، فانه يتحقق غالباً مع الالتفات، لكثرة اسبابه، اذ المتعارف - بحيث قل ان يتخلف التفتيش من حال المرأة التي يريد ان يزوجها، ومعه من المستحيل عادة ان لا يصادف بما يورث التفاته الى أنها في العدة ام لا، كما لا يخفى - خص- الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) الجاهل بالتحريم بالاعذرية، معللاً بكونه غير قادر على الاحتياط، نظراً الى ان الغالب فيه الغفلة، بخلاف الجاهل بالعدة، من دون التفات منه بما يتفق نادراً في الموضعين، فاذاً لا تفكيك بحسب المعنى بين الموضعين انتهى كلامه(1).

قلت: كما ان وضوح الحكم بين المسلمين يوجب عدم الشك مع الالتفات كذلك غلبة التفتيش عن حال المرأة توجب عدم بقاء الشك بحاله، فالتعرض لحكم الشك في الشبهة في العدة ايضاً تعرض للفرد النادر، فتأمل (2).

و يمكن دفع الاشكالات الواردة على الرواية باجمعها، بحمل الجهالة على الغفلة في كلتا الصورتين وحمل قول السائل: «بجهالة أن اللّه حرم عليه ذلك» على الجهالة في الحكم التكليفي، وقوله «ام بجهالته أنها في العادة» على جهالته بان العدة موضوعة للامر الوضعى أعنى الحرمة الابديه، وحينئذ وجه قدرته على الاحتياط في الثاني انه بعد الالتفات يتمكن من رفع اليد عن الزوجة، بخلاف الاول، فانه عمل بالفعل المحرم شرعاً، ولا يتمكن عن تداركه بعد الالتفات

ص: 448


1- تعليقة المحقق الخراساني، هنا - ص ١١٤.
2- اشارة الى انه لو كانت القضية متعرضة لبيان خصوص حكم الفرد النادر كما فيما نحن فيه. فلا تضره الندرة كذا قال الاستاذ دام ظله في مجلس الدرس (عباس الهمداني).

فافهم (1).

الاستدلال للبراءة بحديث الحل

و مما استدلوا به على البرائة قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه (2)بحمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيه حلال وحرام على صلاحيتهما واحتمالهما، فيصير الحاصل أن كل شيء يصلح لان يكون حراماً ولان يكون حلالاً، ويصح ان يقال فيه: إما حرام وإما حلال، فهو لك حلال، سواء كانت الشبهة في الحلية والحرمة من جهة الشك في اندارجه تحت كلى علم حكمه ام لا.

و اورد شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»(3) على المستدل بان القضية ظاهرة في الانقسام الفعلى إمّا خارجاً، مثل ان يكون هناك شيء مشتمل على الحلال والحرام في الخارج، وإما،ذهناً، كما اذا كان هناك شيء تحته عنوانان: احدهما محرم، والآخر محلل، وان لم يوجد افراد احدهما او كليهما في الخارج، وعلى اي حال حمل القضية على الترديد خلاف الظاهر. فعلى هذا يختص بالشبهات الموضوعية.

لا يقال: انا نحمل القضية على الانقسام الفعلى ولا ينافي شمولها للشبهات الحكمية ايضاً، كما اذا فرضنا شيئاً فيه حرام وحلال كذلك ويكون قسم من ذلك الشيء مشتبه الحكم، كمطلق اللحم، حيث ان فيه حلالاً كلحم الغنم، وحراماً كلحم الخنزير، وفيه قسم آخر مشتبه بين الحلال والحرام، فيدل الرواية

ص: 449


1- يمكن ان يكون اشارة الى ان هذا مبنى على القول بجريان الاستصحاب في الاعدام الازلية، كما سيجيء تحقيقه ان شاء اللّه تعالى، واما على القول بعدم الجريان بدعوى ان المستصحب لابد اما ان يكون حكماً او ذا حكم مجعول والعدم الازلي ليس بحكم ولا موضوعاً له، فالحاجة الى الرواية بعد جريان الاستصحاب في مقامنا واضحة، اذ يثبت نفس الموضوع وهو عدم النهي بالاستصحاب ويثبت اثره - وهو الاطلاق بالرواية.(م. ع. مدظله.(
2- الوسائل الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به الحدیث 1 راجعه.
3- الفرائد - ذيل البحث عن الخبر - ص ٢٠١.

على حلية ذلك المشتبه، وبعد شمول الرواية لهذا المورد يلحق به ما بقى من الشبهات الحكمية بعدم القول بالفصل.

لانا نقول: «قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيه حلال و حرام» انما جيء به لبيان منشأ الاشتباه، والا فالقيد الذي لا دخل له في الحكم ولا في تحقق الموضوع يكون لغواً، لا ينبغى صدوره من المتكلم، سيما الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولا اشكال في ان حلية لحم الغنم وحرمة لحم الخنزير مما لا دخل له في حلية لحم الحمير المشتبه، ولا يكون ايضاً منشأ للاشتباه، اذ منشأ الاشتباه فيه انما هو عدم النص، بخلاف ما لو حملناه على الشبهة الموضوعية فان هذا القيد يكون بياناً لمنشأ الاشتباه، حيث ان وجود القسم الحلال والقسم الحرام يكون منشأ للشبهة في ذلك الامر الخارجي الذي لم يعلم اندارجه في احد القسمين، مضافاً الى انه يلزم على ما ذكره هذا القائل ان يكون العلم بكون لحم الخنزير حراماً غاية لحلية لحم الحمير، هذا محصل ما افاده «قدّس سرُّه».

اقول يمكن دفع هذين الاشكالين عن القائل : أما الاول فبانه يكفي في عدم لغوية القيد انه لو علم كون مطلق اللحم حراماً او حلالاً لم يبق شك في لحم الحمير، فوجود القسمين في اللحم صار منشأ للشك في لحم الحمير.

و أما الثاني فبان معرفة الحرام غاية للحكم على المطلق او على ذلك الشيء الذي عرف حرمته، ولولا ذلك للزم الاشكال على تقدير الاختصاص بالشبهة الموضوعية ايضاً، اذ بعد معرفة فرد من افراد الغير المذكى يصدق انه عرف الحزام، فيلزم ارتفاع الحكم عن الشبهات ايضاً، فتد بر جيداً.

و من جملة ما استدلوا به على البرائة قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المرسلة «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهی» (1) وهذا كبعض ما سلف لو تم دلالته لدل على البرائة في الشبهة التحريمية.

ص: 450


1- الوسائل الباب 12 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٦٠.

و ادعى شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) (1)كونها اوضح دلالة من الكل.

وفيه أن الاستدلال بها على المطلوب يبتنى على حمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «حتى يرد فيه نهى» على الثبوت عند المكلف، والا فلو حمل على الورود في نفس الامر - كما انه لم يكن ببعيد فلا تدل الا على إباحة الاشياء قبل تعلق النهى بها واقعاً، فما شك في تعلق النهى به وعدمه من الشبهات لا يجوز لنا التمسك بالعام فيها الا ان يتمسك باستصحاب عدم النهى لاحراز الموضوع وعلى هذا لا يحتاج الى الرواية في الحكم بالاطلاق، لانه لو صح الاستصحاب لثبت به ذلك فافهم.

هذه عمدة الادلة في الباب، وقد عرفت ما ينفع منها، والادلة الآخر التي ذكروها في المقام من الآيات والاخبار لعدم كونها نافعة ما تعرضتها رعاية للاختصار.

حول أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية

بقى هنا امر ان الأوّل: بعد ما عرفت حال الشبهة الحكمية في اصل التكليف من الوجوبية والتحريمية ينبغى التكلم في الموضوعية من هذا القسم ايضاً.

فنقول : مجمل القول فيها ان التكاليف المتعلقة بالطبيعة على انحاء:

احدها: ان تتعلق بها باعتبار صرف الوجود اعنى المقابل للعدم المطلق.

و الثاني : ان تتعلق بها باعتبار الوجودات الخاصة.

و الثالث: ان تتعلق بها باعتبار مجموع الوجودات من حيث المجموع. (2)

ص: 451


1- الفرائد ص 199.
2- وجه الفرق بين هذا الوجه وكذا الوجه الأول حيث قلنا فيهما بالاشتغال وبين اعتبار الوجود السارى الذي قلنا فيه بالبرائة ان وجود الطبيعة في الوجه الاول وكذا مجموع الوجود في الوجه الثالث لوحظ امراً مغايراً للافراد، ولذا صح الحمل بينها وبين الافراد، والحكم انما تعلق بهما في هذا اللحاظ، فاذا شك في الافراد بين الاقل والاكثر او المتبائنين فهذا الشك اجنبي عما وقع مورداً للتكليف، ومورد التكليف شيء اجنبي عن الافراد، وهذا بخلاف الحال في الوجه الثاني، فان الحكم هناك انما تعلق بالطبيعة في لحاظ اتحادها مع الفرد وعدم لحاظهما اثنين، فالشك المتعلق بالفرد متعلق بمورد التكليف لا محالة، ولا يتوهم انه بناء على الوجهين الآخرين يمكن التمسك بحديث الرفع بناء على حمله على الجعل الشرعي، بعدما عرفت من ان الشك في ذينك الوجهين غير مربوط بما هو موضوع الاثر، نع_م ق_د يتمسك فيما اذا تعلق النهي باحد الوجهين باستصحاب بقاء كونه تاركاً للصرف او لمجموع الوجود بعد اتيان الفرد المشكوك او الانتهاء عنه والاتيان بما عداه كما يستصحب الطهارة او الحدث بعد الصلاة فيما اذا كان غافلاً حينها، ووجه الصحة في المقامين ان مقام تقبل المصداق قابل للجعل الشرعي كمقام التصرف في المأمور به قبل الاتيان به باسقاط شيء عنه او الحاقه به.(م. ع. متظله).

فلو تعلق التكليف على النحو الاول، فلا مجال لاصالة البرائة في الشبهة الموضوعية، سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة على النحو المذكور أمراً او نهياً، لان الامر بالطبيعة على هذا النحو يقتضى ايجاد فردما منها، فما لم يوجد قطعاً او يشك في ايجاده يجب عليه الاتيان بحكم العقل من دون شك، فاذا قطع بايجاده فليس عليه شيء آخر قطعاً، وكيف كان لا مجال لاصالة البرائة، والنهي بها على هذا النحو يقتضى ترك جميع الافراد لان الطبيعة لا تترك الا بترك جميع الافراد، فمتى شك في شيء أنه من افراد الطبيعة المنهى عنها يجب عليه تركه، لان اشتغال الذمة بترك ايجاد الطبيعة معلوم، ولا يتيقن بالبرائة الا بالقطع بترك جميع افرادها في نفس الامر.

ولو تعلق التكليف بالطبيعة على النحو الثاني فلا اشكال في انه ينحل الى تكاليف عديدة، وان كل فرد يتعلق به تكليف مستقلاً، نظير العام الاستغراقي، فمتى شك في شيء أنه من افراد الطبيعة المكلف بها فالاصل فيه البرائة، سواء كان التكليف المتعلق بالطبيعة امراً او نهياً، اذ كل ما ذكرنا في الشبهة الحكمية من حكم العقل والادلة الشرعية جار هنا ايضاً ومجرد العلم بالكبرى التي شك في وجود صغريها كما هو المفروض لا يصحح العقاب على هذا المشكوك فيه، ولعمرى ان هذا واضح جداً.

ولو كان التكليف بالطبيعة على النحو الثالث، فان كان امراً يقتضى

ص: 452

اتيان مجموع الافراد فيجب الاتيان بما يحتمل ان يكون فرداً للطبيعة، تحصيلاً للبرائة اليقينية، وان كان نهياً يكفى ترك الفرد الواحد، فيجب القطع بترك الواحد ولا شيء عليه بعده.

اذا عرفت هذا تعرف ان مورد اجراء اصالة البرائة ينحصر فيما اذا كان التكليف بالطبيعة باعتبار وجودها السارى في كل من الأفراد، بحيث ينحل الى تكاليف متعددة، فلا يحسن القول بالبرائة في الشبهة الموضوعية على نحو الاطلاق، ولا بعدمها كذلك فلا تغفل.

شرط جريان أصالة البراءة

الثاني: مورد اصالة البرائة في الشبهة ما لم يكن هناك اصل وارد او حاكم عليها، فمثل المرأة المرددة بين الزوجة والاجنبية واللحم المردد بين ان يكون مذکی او غیر مذکی خارج عنه اما الاول فلاستصحاب عدم تحقق علقة الزوجية واما الثاني فلاستصحاب عدم التذكية(1) .

ص: 453


1- و لكن ليعلم ان مورد هذا الاصل ما اذا كان الحيوان مشكوك الحال، واما اذا كان حيوان معلوم التذكية وآخر معلوم العدم وشك في اللحم انه من ايهما اخذ فلا مجرى له، اما بناء على كون التذكية عبارة عن الفري الخاص فواضح، واما بناء على كونه متحصلاً منه وسارياً الى اجزاء الحيوان فلان اللحم المذكور وان كان مشكوك الحال حينئذ، لكنه شبهة مصداقية لنقض اليقين بالشك، اذ على تقدير كونه مأخوذاً من الحيوان المعين المعلوم التذكية فهو بصورته التفصيلية مورد للقطع بانتقاض الحالة السابقة بالخلاف. فان قلت: مع الشك في الحيوان ايضاً لا مجرى للاصل لان احراز العدم الازلي بالاصل ثم الحكم بان زهاق الروح من الحيوان او اللحم كان متلبسا بهذا العدم من الاصل المثبت. قلت: هذا مسلم لو اعتبر التذكية في الدليل وصفاً للزهاق واما لو اعتبر وصفاً للحيوان فلا والظاهر الثاني فان الاول مبني على كون قوله تعالى: «الا ما ذكيتم» استثناء منقطعاً، فكانه قيل يحرم هذه الاصناف من الزواهق الروح الا ما زهق روحه بالتذكية، والظاهر بشهادة ماورد في تفسيره أنه استثناء متصل وكانه قيل يحرم كذا وكذا الا ما ادركتموه قبل زهاق روحه فاورد تم عليه التذكية. ثم هذا كله لو كان الشك في الحيوان من جهة الشك في وقوع الفرى بشرائطه مع احراز القابلية، واما لو شك في القابلية، بناء على عدم عموم مثبت لها في كل حيوان الا ما خرج او فرض الشبهة موضوعية، كما لو شك في ان هذا الحيوان غنم او كلب، فهل يجرى اصالة الحل الذاتي او الطهر كذلك في نفس الحيوان ويجعل ذلك حاكماً على اصالة عدم التذكية، بناء على كون القابلية عبارة عن الحلية او الطهارة المذكورتين اولا ؟ قد يقال بالثاني؛ نظراً الى ان الحل او الطهر الواقع قيداً للتذكية هو الواقعي لا الاعم منه ومما ثبت بالاصل، ولكن لقائل ان يقول : اي فرق بين هذا وبين اثبات الطهر في المصلّي او لباسه بالاصل ؟ فكما تقولون هناك باحراز الصلاة مع الطهارة بضم التعبد الى الوجدان فلم لا تقولون هنا باحراز التذكية مع الحل او الطهارة كذلك.(م. ع. مدظله)

لا يقال : كما ان الحلية في بعض الادلة علّقت على التذكيه كذلك الحرمة في البعض الآخر علقت على الميتة فاستصحاب. عدم التذكية معارض باستصحاب عدم كونه ميتة، فيتساقطان فيرجع الى اصالة البرائة.

لانا نقول : ليست الميتة خصوص ما مات حتف انفه، بل هي عبارة عن غير المذكى، لان الحيوان ان ازهق روحه مع تحقق امور اعتبرها الشارع، من التسمية والاستقبال وفرى الأوداج الاربعة ونحوها فقد حل لحمه، ومع عدم تلك الامور كلا او بعضاً يكون ميتة شرعاً، واما المال المردد بين مال الغير ومال نفسه، فان كان مسبوقاً بكونه مال الغير فلا شبهة في كونه مورد اللاستصحاب، وان لم يكن له حالة سابقة معلومة فيمكن القول بالحرمة فيه، من جهة ان قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لا يحل مال الا من حيث ما احله اللّه (1)، يدل على ان الحلية معلقة على امور وجودية اعتبرها الشارع، فاذا شككنا في تحقق ما هو موجب للحلية يستصحب عدمه، وكذلك الكلام في مال الغير الذي نشك في طيب نفس صاحبه، فان حلية التصرف في الدليل معلقة على طيب النفس، وعند الشك يستصحب عدمه.

ص: 454


1- الوسائل، الباب ٣ من ابواب الانفال، الحديث ٢. ولفظ الحديث هكذا : لا يحل مال إلا من وجه أحله اللّه.

هذا تمام الكلام في المسألة الاولى وهى الشك في التكليف من الشبهة الحكمية والموضوعية، بحسب الاصل العقلى والنقلى، وقد قلنا ان مقتضاهما البرائة، فلا ينافي ما ذكرنا عدم اعتبارها في مورد تعارض النصين لوجوب الرجوع الى المرجحات هناك _ لو كانت - والا فالتخيير، كما هو التحقيق، لان ما ذكرنا هنا انما كان مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في علاج الخبرين فلا تغفل.

ص: 455

في الشك في المكلف به، ووجوب الاحتياط عند العلم الاجمالي

المسألة الثانية : ما اذا كان شاكاً في متعلق التكليف مع كون المكلف قادراً على الاحتياط.

فنقول وباللّه الاستعانة الشك في متعلق التكليف بعد احراز اصله، تارة يكون في نوع التكليف مع احراز جنسه كما اذا علم بوجوب هذا وحرمة ذاك، واخرى يكون في الفعل الذي تعلّق التكليف المعلوم جنساً ونوعاً به كما اذا علم اجمالاً بوجوب هذا أو ذاك او علم بحرمة هذا او ذاك، وعلى كلا التقديرين اما ان يكون الشبهة حكمية، بمعنى ان رفعها من وظيفة الشارع، او تكون موضوعية بمعنى ان رفعها ليس من وظيفته انما وظيفته جعل الحكم للشاك، وعلى التقدير الاول، تارة تكون الشبهة ناشئة من عدم النص، واخرى من اجمال النص وثالثة من تعارض النصين.

و المقصود هنا الكلام في حكم هذه الشبهة باقسامها من الاصل العقلى والنقلى، اذ حكم جميع الاقسام من حيث الشبهة واحد، وان اختص بعض افرادها بحكم خاص، كالشبهة الناشئة من تعارض النصين، والحاصل أن المقصود ان المكلف المحرز لتكليف المولى في الجملة مع تمكنه من الاحتياط حكمه ماذا ؟

فنقول : الاقوى وجوب الاحتياط عليه باتيان جميع المحتملات، فيما اذا كان الواجب مردداً بين امور، وبترك جميع المحتملات، فما اذا كان الحرام كذلك، وباتيان هذا وترك ذاك، فيما اذا كان الالزام المعلوم مردداً بين وجوب

ص: 456

فعل هذا وترك ذاك.

لنا أن المقتضى للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض، والشك في تعيين المكلف به ليس بمانع عند العقل وهل يجوز العقل المخالفة القطعية للتكليف المقطوع مع تمكن المكلف من الامتثال، بمجرد الشك في التعيين ؟! حاشاه من ذلك، فان الملاك المتحقق في مخالفة العلم التفصيلي موجود هنا بعينه، ومن هنا يظهر ان العقل يوجب الموافقة القطعية، لان العلم بالواقع اوجب تنجزه على المكلف، فليس له حجة في عدم اتيانه كما هو ظاهر.

فان قلت إن الاصل العقلى وان كان كذلك، الا ان الاخبار الدالة على الترخيص في موارد الشك باطلاقها او عمومها شاملة للمقام، فيحكم بالاباحة بمقتضى الاخبار، لا بمقتضى حكم العقل.

قلت: ما ننكر شمول الاخبار للمقام كما ذكرت، وما ذكر في نفى شمولها من كون العلم المأخوذ غاية أعم من العلم الاجمالي والتفصيلي، والاول حاصل في المقام، مدفوع بان الغاية صيرورة المشكوك معلوماً، وهنا ليس كذلك، كما هو واضح فموضوع ادلة الاصول باق على حاله الا ان الاخذ بمؤدى الاصول في تمام اطراف العلم الاجمالى يوجب الاذن في المخالفة القطعية، وهو مما يحكم العقل بقبحه على الحكيم تعالى فان المفروض تحقق العلم بخطاب فعلى عن الشارع، وحينئذ ترخيصه في تمام اطراف العلم يرجع الى ترخيصه في المعصية، ولو جاز ترخيصه في المعصية هنا جاز في العلم التفصيلي ايضاً، لانهما من واد واحد كما لا يخفى.

نعم يمكن ان يرخص في بعض الاطراف اما تعييناً واما على البدلية، لان الاذن في البعض ليس اذنا في المعصية (1) ولا يكون منافياً للتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال، لما ذكرنا في محله من اختلاف مرتبة الحكمين، فحينئذ فالعمدة

ص: 457


1- فيه اشكال نبهنا عليه فيما علقناه على مبحث القطع، فراجع (م. ع. مدظله).

اثبات دلالة هذه الاخبار على الاذن في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن دلالتها الاولية بحكم العقل.

فنقول : ما يمكن ان يقال في المقام في اثبات المرام وجوه :

الاول : ان مقتضى عموم الادلة الترخيص في كل من الاطراف غاية ما هنا وجوب التخصيص بحكم العقل بمقدار لا يلزم منه الاذن في المعصية، وحيث لا ترجيح لاخراج واحد معين من عموم الادلة نحكم بخروج البعض لا بعينه، وبقاء الباقى كذلك، حفظاً لاصالة ال_ع_م_وم فيما لم يدل دليل على التخصيص.

و فيه: ان البعض الغير المعين لا يكون موضوعاً ل_ل_ع_ام من اول الامر حتى يحفظ العموم بالنسبة اليه لان موضوعه هو المعينات، فالحكم بالترخيص في البعض المبهم يحتاج الى دليل آخر.

الثاني: ان يقال ان الدليل اللفظي وان لم يدل على الترخيص في البعض الغير المعين، الا انه يمكن استكشاف هذا الترخيص من الدليل اللفظي بضميمة حكم العقل، وبيانه ان القضيّة المشتملة على حكم متعلق بعنوان من العناوين على سبيل الاطلاق او العموم يفهم منها :امران: احدهما ثبوت ذلك الحكم لتمام افراد عنوان الموضوع ؛ والثاني وجود ملاك الحكم في كل فرد منها، ثم ان ثبت قيد يرجع الى مادة القضية فقضية ذلك التقييد تضييق دائرة ذلك الحكم وملاكه معاً، وان ثبت قيد يرجع الى الطلب فقضيته رفع ال_ي_د ع_ن اطلاق الطلب، دون المادة، كما اذا ورد خطاب دال على وجوب انقاذ الغريق ثم وجد المغريقان، فان ذلك الخطاب وان كان غير شامل لهما بحكم العقل، لقبح التكليف بما لا يطاق، الا انه يحكم باطلاق المادة بوجود ملاك الوجوب في كليهما، ولهذا يستكشف العقل وجوباً تخييرياً، ان لم يكن احدهما اهم، وخطاباً تعيينياً متعلقاً بالاهم ان كان كذلك، وقد مضى شطر من هذا الكلام في البحث عن مقدمة الواجب فراجع.

ص: 458

اذا عرفت هذا فنقول : ان الادلة المرخصة هنا وان اختص حكمها بغير صورة العلم الاجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الاذن في المعصية، الا ان اقتضاء كل مشكوك للاباحة يستكشف من اطلاق المادة، وبعد تعذر الجرى على مقتضى كل من الاطراف يستكشف ان البعض على سبيل التخيير مرخص فيه، حيث لا ترجيح للبعض المعين، هذا.

وفيه: ان هذا الحكم من العقل انما يكون فيما يقطع بان الجرى على طبق احد الاقتضائين لا مانع فيه كما في مثال الغريقين، واما فيما نحن فيه فكما ان الشك يقتضي الترخيص كذلك العلم الاجمالي يقتضى الاحتياط (1)ولعل اقتضاء العلم يكون اقوى في نظر الشارع فلا وجه لقطع العقل بالترخيص.

الثالث: ان يقال: إن مقتضى اطلاق الحكم في الادلة المرخصة ثبوت الاذن في كل واحد من الاطراف في حال ارتكاب الباقي وفي حال عدمه، وهذا الاطلاق قد قيد بحكم العقل، في حال ارتكاب الباقي، فيما كان العلم الاجمالي متعلقاً بحرمة احد الامور، وفي حال ترك الباقي، فيما كان المعلوم وجوب احد الامور، فنأخذ بمقتضى الاطلاق في غير الصورتين، ونقول بثبوت الاذن في الصورة الاولى في حال عدم ارتكاب الباقي، وفي الثانية في غير حال ترك الباقي، حفظاً لاطلاق الحكم فيما لم يدل دليل على خلافه، وهذا البيان يمكن اثبات الخطابين فيما اذا اجتمع غريقان لا يقدر على انقاذهما، بان يقال: ان مقتضى القاعدة رفع اليد عن اطلاق كليهما وجعل كل منهما مشروطاً بترك الآخر.

لا يقال : لازم ذلك ثبوت الخطابين في حال ترك كليهما، لثبوت شرط كل منهما، فيلزم التكليف بما لا يطاق في الحالالمفروض في مسألة الغريقين، وكذا

ص: 459


1- فان قلت كما انه يقتضي الاحتياط فالشك يقتضي ضده ولا مرجح في البين فلا موجب للاشتغال، قلت: يكفي في الاشتغال احتمال رجحان مقتضى الاحتياط واقعاً، لانه مساوق مع احتمال صحة العقوبة كالشبهة البدوية قبل الفحص (م. ع. مدّظلّه).

يلزم الاذن في المعصية في تلك الحال في الشبهة المحصورة.

لانا نقول ان الاطلاق لا يقتضى ايجاد الفعل في حال تركه حتى يلزم المحذور المذكور، فافهم.

لا يقال: ان لازم ما ذكر اجتماع اللحاظين المتنافيين في الادلة المرخصة، لان الاذن فيها مطلق بالنسبة الى الشبهات البدوية ومشروط بالنسبة الى الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فيلزم في انشاء واحد أن يلاحظ ذلك الانشاء مطلقاً ومشروطاً.

لانا نقول: هذا المحذور انما يرد إن قلنا بان القيد الوارد على المطلق كاشف عن ارادة المقيد في مقام الاستعمال، وأما ان قلنا ان المطلق في مقام الالقاء اريد منه ما هو ظاهره وان القيد كاشف عن عدم الارادة في مقام اللب، فلا محذور كما لا يخفى هذا.

و لكن الادلة الدالة على ان العالم يحتج عليه بما علم، وانه في غير سعة من معلوماته، تقتضى الاحتياط بحكم العقل، وتنافي الترخيص الذي استكشفناه من الاطلاق، هذا، مضافاً الى منع اطلاق الادلة المرخصة، بل هي متعرضة لحكم الشك من حيث انه شك.

ثم ان ما ذكرنا انما يصح على ما هو التحقيق عندنا من كون الاحكام الواقعية فعلية، وان الترخيص في مورد الشك لا ينا في فعلية الحكم الواقعي واما على ماذهب اليه شيخنا الاستاذ من ثبوت المراتب للاحكام فقد يقال بوجوب الاخذ بعمومات الادلة المرخصة في اطراف العلم والجمع بينها وبين الحكم الواقعي المعلوم بالشأنية والفعلية، كما هو الحال في الشبهات البدوية.

لكنه مدفوع بانه كما ان عمومات الادلة المرخصة تقتضي الترخيص كذلك عموم ادلة اعتبار العلم يقتضى الفعلية، فيتعارضان فلا طريق للحكم بالترخيص.

فان قلت: هب، ولكن لا طريق ايضاً للحكم بفعلية المعلوم بعد التعارض.

ص: 460

قلنا : يكفى في الحكم بالفعلية ظهور ادلة الاحكام، لانها ظاهرة بنفسها في الحكم الفعلى، والحمل على الشأنى انما كان من جهة الجمع بينها وبين الادلة المثبتة للاحكام الظاهرية، وحيث لم يكن حكم ظاهرى لا وجه لرفع اليد عن ظهورها.

وينبغي التنبيه على امور:

حكم الاحتياط في الأطراف التدريجية الوجود

الأول: لو كان اطراف المعلوم بالاجمال مما لم يوجد الا تدريجاً، كما اذا كان زوجة الرجل مضطربة في حيضها بان تنسى وقتها وان حفظت عددها، فعلم اجمالاً أنها حايض في الشهر ثلاثة ايام مثلاً فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر، ويجب على الزوجة ايضاً الامساك عن قراءة العزيمة واللبث في المسجد، مثلاً، ام لا؟

قد يقال : بعدم تنجز التكليف، لا على الزوج، ولا على الزوجة، لان المعلوم عندهما خطاب مردد بين المطلق والمشروط لان الزوج يعلم بحرمة الوطى في هذه القطعة من الزمان او في القطعة الآتية، ولو كانت الحرمة في القطعة الآتية فالخطاب مشروط بتحقق تلك القطعة، فلم يعلم بتوجه الخطاب المطلق اليه، ومقتضى الاصل البرائة، وهكذا الكلام في الزوجة.

و فيه انه ليس حال الزوجة كالزوج، لانها في كل يوم تعلم بتوجه خطاب مطلق اليها إما متعلق بافعال المستحاضة وإما متعلق بتروك الحايض، فلا وجه للعمل بالبرائة بالنسبة اليها، وأما الزوج فالذي ينبغي ان يقال، أن من يرى بثبوت الوجوب التعليق وانه قسم من الواجب المطلق يجب ان يلاحظ الدليل الدال على وجوب ترك وطى الحايض في وقت حيضها، فان استظهر منه ان هذا الوجوب مشروط بالزمان يحكم بالبرائة في كل قطعة من الزمان، في الصورة المفروضة، لعدم تحقق العلم بالتكليف المطلق في وقت من الاوقات، وان استظهر أنه مطلق وأن زمان الواجب قد انفك عن زمان الوجوب يحكم

ص: 461

بوجوب الاحتياط.

و على هذا المبنى يمكن الفرق بين الصورة المفروضة وبين ما اذا نذر او حلف على ترك وطى امرأته في ليلة خاصة ثم اشتبهت بين ليلتين او ازید، بان يقال : ان في الاول خطاب الزوج مشروط بتحقق الحيض ولم يعلم بتحققه بخلاف الثاني، لان الخطاب ليس له شرط اصلا بل الزمان ظرف لتحقق الفعل.

و أما بناء على ما قلنا في مبحث مقدمة الواجب اخذاً عن سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» من انقسام الواجب الى المطلق والمشروط، وعدم ثالث لهما، وأن المقدمات الوجودية للواجب المشروط بعد العلم بتحقق ما هو شرط الواجب في محله وان لم يتحقق بعد محكومة بالوجوب كما اشبعنا الكلام فيه، فاللازم الحكم بالاحتياط في المثال مطلقاً، فان حكم الواجب المشروط بعد العلم بتحقق شرط الوجوب في محله وان لم يتحقق بعد حكم الواجب المطلق على هذا المبنى.

الثاني: يشترط في تنجز المعلوم بالاجمال ان يكون الخطاب المعلوم بحيث يصبح تعلقه فعلا بالمكلف على أي حال، بمعنى أن كل طرف فرض كونه فيه من الاطراف كان الخطاب بالنسبة اليه صحيحاً، فانه لو لم يكن على بعض التقادير صحيحاً لم يعلم بتوجه الخطاب فعلا، وهذا واضح، ويتفرع على ما ذكر مسائل:

احداها : انه لو اضطر الى ارتكاب احد الاطراف التي علم بوجود النجاسة او الخمر فيها م_ع_ي_ن_اً فلو كان هذا الاضطرار سابقاً على العلم لم يؤثر ذلك العلم شيئاً (1)وكذا لو كان مقارناً له، ووجهه واضح، اما لو كان الاضطرار لا حقاً

ص: 462


1- ظاهر العبارة جريان البرائة فيما علم في يوم السبت مثلاً بنجاسة احد الاناثين في يوم الخميس، وقد حصل الاضطرار في يوم الجمعة، وهذا مبنى على ان معيار الاشتغال هو العلم بتوجه التكليف الجامع لشرائط العقلية في جزء من الزمان الى المكلف، وفي المثال لا يعلم بتوجه التكليف على النحو المذكور في شيء من الزمانين السابق واللاحق، واما بناء على كون المعيار هو العلم بالجعل الشرعي ولو لم يعلم اقترانه بالشرط العقلي - كما هو الحق فلا محيص عن القول بالاشتغال في المثال كما في الشك في القدرة فعلى المبنى المذكور يكون المثال من افراد الاضطرار الطاريء لا السابق فينحصر مورد الاضطرار السابق فيما حصل الاضطرار سابقاً على الملاقاة المعلومة بالاجمال. فان قلت: يمكن القول بالبرائة مع الاضطرار الطارىء ايضاً، وذلك لان المعلوم بالاجمال محدود شرعاً بالاضطرار فلا علم به من الابتداء الا الى هذه الغاية، وبعدها يصير شكاً بدوياً. قلت لا يخلو اما ان نقول بان خطاب لا تشرب الخمر مثلاً ناظر الى اجزاء الزمان بالعموم الفردي، او نقول بسريان الحكم اليها بمقدمات الحكمة، فعلى الاول نعلم في مورد العلم الاجمالي بخمرية احد الاناثين مع حصول الاضطرار الى احدهما المعين بعد ساعة بوجود عدة خطابات بمقدار الساعة في الاناء المضطر اليه او ازيد منها في الاناء الآخر، وعلى الثاني نعلم اما بوجود خطاب واحد مستمر الى ساعة فيه او الى ازيد منها في الآخر، وعلى التقديرين يجب الاجتناب كما هو واضح.(م. ع. مدظله).

ومسبوقاً بتحقق العلم الاجمالي فلا يرفع الاثر الحاصل للعلم، لان الذمة قد اشتغلت بامتثال التكليف الواقعي في حال العلم، فيجب بحكم العقل تحصيل اليقين بالبرائة.

حكم الاضطرار الى ارتكاب بعض الأطراف

الثانية: لو اضطر الى ارتكاب البعض الغير المعين فلا يكون مانعاً من تنجز الخطاب في كل من الاطراف فعلاً، لعدم الاضطرار الى ارتكاب طرف معين، وبعبارة اخرى شرايط الخطاب بالنسبة الى الواقع موجودة، ولذا لو علم به تعين عليه دفع اضطراره بالطرف الآخر، غاية الامر أن جهل المكلف هنا اوجب سقوط الامتثال القطعي عنه، وهذا نظير حال الانسداد حيث إن عدم القدرة على امتثال الاحكام الواقعية على سبيل القطع او كونه حرجاً عليه لا يوجب سقوط الاحكام الواقعية، بل يوجب سقوط الامتثال القطعي عنه.

نعم من ذهب الى عدم امكان اجتماع الحكم الواقعي الفعلى والترخيص

ص: 463

في حال الشك كذلك يجب عليه ان يفضّل هنا بين ان يكون الترخيص في بعض الاطراف شرعيا، فيرتفع العلم الاجمالي بثبوت التكليف، او عقلياً، فيبقى العلم بحاله، كما انه لابد له من هذا التفصيل في مسألة دليل الانسداد، بان يقول: ان كان الحرج اللازم على تقدير الاحتياط ع_ق_ل_ي_اً، كما اذا لزم من الاحتياط اختلال النظام، فلا ينافي بقاء الاحكام الواقعية، وان كان شرعياً، فالترخيص الشرعي ينافي بقاء العلم الاجمالي، فلا يكون اتيان المظنونات واجباً عقلاً، اللّهم الا ان يدعى العلم الاجمالي في خصوص المظنونات.

حكم خروج بعض أطراف العلم عن محل الابتلاء

الثالثة: لو كان احد الاطراف خارجاً عن محل الابتلاء قبل تحقق العلم الاجمالي او خرج عنه مقارنا معه فلا يكون العلم الاجمالى منجزاً، لعدم كونه. علماً بالتكليف الفعلى (1) والخروج عن محل الابتلاء إما بان يكون غير مقدور للمكلف، وإما بان يكون بحيث يرغب عنه الناس عادة ويكون دواعيهم مصروفة عنه نوعاً، والميزان استهجان العقلاء للخطاب المتعلق به، والخروج من محل الابتلاء بعد تحقق العلم الاجمالي حاله حال الاضطرار الطارى، وقد سبق ان الأصل فيه لزوم الاحتياط ولا اشكال في شيء مما ذكرنا.

ص: 464


1- فان قلت بعد كون معيار الاشتغال على ما قويته سابقاً هو العلم بالجعل الشرعي ولو لم يقترن بالعلم بالشرط العقلي لا محيص عن القول بالاشتغال في المقام لكونه من مصاديقه في الشك في القدرة، وقد اختار «قدّس سرُّه الاشتغال في الشبهة المفهومية في الخروج عن محل الابتلاء مستنداً الى هذا الوجه، ولا يعلم بين المقامين فرق. قلت: يمكن اختيار البرائة في كلا المقامين بدعوى عدم صحة اصل الجعل الشرعي مع الخروج عن محل الابتلاء، ولو مشروطاً باتفاق دخوله في محل الابتلاء، فكما لا يصح الخطاب الى الجماد مشروطاً بصيرورته انساناً فكذلك بالنسبة الى الخارج عن محل الابتلاء لا يصح الخطاب ولو مشروطاً بصيرورته داخلاً، فما ذكر من تقريب الاشتغال مبنى على جعل معيار الخروج استهجان الخطاب المطلق لا المشروط، واما بناء على جعل المعيار استهجان الخطاب ولو مشروطاً فلا علم باصل الجعل ايضاً مع الخروج السابق او المقارن.(م. ع. متظله).

موارد انحلال العلم الاجمالي

انما الاشكال في حكم موارد الشك في كون الطرف خارجاً عن محل الابتلاء او داخلاً فيه لا من جهة الامور الخارجية، بل من جهة اجمال ما هو خارج عن موارد التكليف الفعلى، فهل يكون المقام مما يتمسك باصالة البرائة او الاحتياط او اطلاق الادلة، بملاحظة ان التقييد بالمجمل المردد بين الاقل والاكثر يوجب الاقتصار فيه على المتيقن، وهنا كذلك، لان الخارج ليس عنواناً مبينا فيشك في الانطباق حتى يصير المقام من التمسك بالعام او المطلق في الشبهة المصداقية، كما لا يخفى.

و الحق عدم جواز التمسك بالدليل اللفظى في امثال المقام مما يكون الشك فيه راجعاً الى حسن الخطاب وعدمه لوجهين احدهما ان الادلة الشرعية ليست ناظرة الى هذه الجهات الثاني انه لا يمكن القطع بحكم ظاهري بواسطة اصالة الاطلاق او العموم، لان المفروض الشك في ان خطاب الشرع في هذا المورد حسن ام لا، ولا تفاوت بين الخطاب الواقعي والظاهري.

و على هذا فهل القاعدة تقتضى البرائة او الاحتياط ؟ التحقيق الثاني، لان البيان المصحح للعقاب عند العقل، وهو العلم بوجود مبغوض المولى بين امور، حاصل، وان شك في الخطاب الفعلى من جهة الشك في حسن التكليف وعدمه، وهذا المقدار يكفى حجة عليه، نظير ما اذا شك في قدرته على اتيان المأمور به وعدمها بعد احراز كون ذلك الفعل موافقاً لغرض المولى ومطلوباً له ذاتاً، وهل له ان لا يقدم على الفعل بمجرد الشك في الخطاب الفعلى الناشي من الشك في قدرته، والحاصل ان العقل بعد احراز المطلوب الواقعي للمولى او مبغوضه لا يرى عذراً للعبد في ترك الامتثال هذا.

الثالث: لو تحقق العلم التفصيلي بالمقدار المعلوم بالاجمال، ولم يكن له عنوان زايد لا يعلم انطباقه على ما علم تفصيلاً(1) فلا اشكال في انحلال العلم

ص: 465


1- قد يمنع الانحلال في تمام الصور، بدعوى ان المعلوم بالاجمال واجد لا محالة الخصوصية واقعية، والمعلوم بالتفصيل غير معلوم الانطباق على تلك الخصوصية، والجواب ان وجود الخصوصية واقعاً غير صيرورتها جزء لمعلومنا، فالمعلوم الاجمالي ليس الا مفهوم الاحد المبهم النجس، نعم لو فرض وجود الخصوصية في معلومنا كما لو رأينا قطرة معينة من البول مثلاً ولم نعلم وقوعها في أتي الا نائين ثم علمنا تفصيلاً بنجاسة احدهما فالاجمال بملاحظة تلك القطرة المعينة باق في النفس ولازمه القول بالاشتغال وان اختار في المتن البرائة، ووجه الاشتغال ان تلك الخصوصية معرفة لحصة خاصة من التكليف، والاجتناب عن المعلوم التفصيلي فقط لا يعلم كونه خروجاً عن عهدة تلك الحصة.(م. ع. متظله).

الاجمالي قهراً، اذا كشف العلم التفصيلي عن كون الخطاب سابقاً، اما لو علم تفصيلاً بشيء لا يعلم انطباق المعلوم الاجمالي عليه، كما اذا علم اجمالاً بوجود شاة متصفة بصفة كذا موطوئة فيما بين الشياة ثم علم تفصيلاً بكون الشاة المعينة

موطوئة ولم يعلم باتصافها بتلك الصفة، فهل يوجب الانحلال ام يجب الاحتياط حتى يقطع باجتناب الشاة المتصفة بالوصف المعلوم؟

الاقوى الاول لانه بعد احتمال انطباق المعلوم بالاجمال على ما علم تفصيلاً لم يبق له علم بتكليف آخر سوى المعلوم بالتفصيل، نعم يشترط في الانحلال ان يعلم بكون الشاة المخصوصة موطوثة في الزمن الذي علم اجمالاً بوجود شاة موطونة بملاحظة ذلك الزمان، اذ لو علم تفصيلاً بكون شاة موطوئة واحتمل حدوث الوطى لم ينحل العلم الاجمالي السابق، بل هو باق على اجماله.

فان قلت: ان كان الاعتبار بوجود العلم الاجمالي في زمان فاللازم الاحتياط في كلا المثالين لاشتراكهما في تحقق العلم الاجمالي في زمن، وان كان الاثر دايراً مدار وجوده فيلزم عدم وجوب الاحتياط فيهما، اذ بعد العلم التفصيلي يكون الطرف المعين محرماً لا يبقى التردد والاجمال في ان الحرام هل هو هذا او الآخر، سواء علم تفصيلاً بكونه حراماً من قبل، ام لم يعلم بذلك، بل احتمل حدوث سبب الحرمة.

قلت: الاعتبار بوجود العلم الاجمالى وبقائه بملاحظة الزمن السابق، لا بقائه

ص: 466

بملاحظة الزمن اللاحق، وبعبارة اخرى يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي في الازمنة المتأخرة ان يعلم انه في السابق كان عليه تكليف مردد بين اطراف وان لم يعلم بملاحظة الحال، واما اذا علم الآن بان هذا المورد كان متعلقاً لتكليفه في السابق وشك في الطرف الآخر من اول الامر فلا اثر للعلم الاجمالي الموجود سابقاً، كما لوشك في اصل تحقق التكليف من اول الامر بعدما علم اجمالاً بثبوته او لا بل ولو تفصيلاً، ولو كان مجرد تحقق العلم في زمن مؤثراً لوجب الحكم بوجود الاثر وان صار شكاً سارياً، وهذا مما لا يقول به ذو مسكة.

ان هذا الذي ذكرنا من الانحلال فيما اذا لم يعلم بانحصار التكليف، كما في المقدار الذي علم تفصيلاً، واما اذا علم بالانحصار فالامر فيه اوضح، هذاحال العلم التفصيلي.

ولو قام طريق معتبر شرعى مثبت للتكليف في بعض الاطراف بحيث لو علم مؤدى ذلك الطريق لانحل العلم الاجمالي فهل يحكم بالانحلال ويجرى الاصل النافي للتكليف في الباقي اولا يجرى بل الاحتياط في باقى الاطراف ايضاً؟

و محل الكلام ما لم يعين الطريق مورد العلم الاجمالي، كما اذا علم اجمالاً بكون شاة موطوئة من انسان خاص ثم قامت البينة على ان الشاة الموطوئة من ذلك الشخص هي هذه، فانه في هذه الصورة لا اشكال في جريان الاصل في الطرف الآخر، وكذا لو علم بحصر المعلوم في واحد، مثلاً، فان من لوازم صدق البينة عدم كون الباقي موطونة وتعيين المعلوم بالاجمال فيما قام عليه البينة، وقد حقق في محله وجوب الاخذ بلوازم الطرق وان لم تكن شرعية، وبهذا تفارق الاصول العملية.

و الحاصل ان محل الكلام فيما اذا علم بوجود حرام او واجب فيما بين امور واحتمل كون التكليف زايداً على المعلوم في نفس الامر ولم يعين الطريق المعلوم بالاجمال في مورده، كما اذا علم بكون شاة واحدة موطونة بين الشياة واحتمل

ص: 467

الزيادة ثم قامت البينة على ان الشاة المخصوصة موطوثة، وكذا لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة ثم قام الطريق المعتبر على وجوب الظهر.

و مجمل الكلام في المقام (1) انه لو كان قيام الطري_ق س_ابق_اً على العلم الاجمالى او مقارناً له فلا اشكال في جريان الاصول الشرعية النافية للتكليف، فان الاصل في مورد الطريق محكوم عليه، فيبقى الاصول الجارية في الاطراف الخالية عن الطريق سليمة عن المعارض، ولو كان بعد تحقق العلم الاجمالي فان كان المقام من الشبهات الحكمية وكان عدم وصوله اليه من جهة عدم الفحص فلا اشكال ايضاً في خلو الاصول في باقي الاطراف عن المعارض، لان قيام الطريق يكشف عن عدم كون مورده مجرى للاصل من اول الامر فيبقى الباقي خالياً عن المزاحم، وان لم يكن من الشبهات الحكمية او كان ولكن تفحص بقدر الوسع فلم يجد الطريق ابتداء ثم التفت الى طريق على خلاف العادة مثلا فيشكل اجراء الاصول الشرعية في باقي الاطراف لسقوطها ابتداء بواسطة المعارضة، وقد عرفت ان سقوط المعارض بعد العلم الاجمالى والتساقط لا يوجب كون الطرف الموجود مورداً للاصل.

و الذي ينبغي ان يقال ان قيام الطريق يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي السابق في الاحتياط عقلاً، وقد قررنا وجهه سابقاً في الجواب عن الاخباريين

ص: 468


1- هذا الكلام بناء على القول بالترتب في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، وعدم الحاجة الى جعل البدل في جريان الاصل في بعض اطراف العلم الاجمالي، ووجود المعارضة بين الاصول في اطراف العلم، فتفصيل المتن بتمامه تام على هذه المباني الثلاثة واما لو اخترنا القول بالترتب والحاجة الى جعل البدل فلا بد من التفصيل بين صورة كون الانحصار مأخوذاً في المعلوم الاجمالي او في مؤدى الطريق أو تعيين الطريق للمعلوم الاجمالي في مورده فيقال بالبرائة، وبين غير هذه الصور فيختار الاشتغال الا مع ملاحظة تقريب الانحلال باحد الوجوه السابقة، ولو اخترنا التجريد في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فلا محيص عن تقريب الانحلال في جميع الصور من غير فرق بينها.(م. ع. مدظله).

المتمسكين بالعلم الاجمالي لرفع البرائة (1) فلا نطيل المقام باعادته.

حول جريان الاصول في أطراف العلم

الامر الرابع:سقوط الاصول في اطراف العلم انما يكون اذا كانت نافية للتكليف، واما اذا كانت مثبتة فلو احتمل مطابقة الكل للواقع كما في صورة عدم العلم بالانحصار فلا اشكال في وجوب الاخذ بها، لعدم المانع لا عقلاً ولا شرعاً، اما اذا لم يحتمل ذلك كما اذا علم بنجاسة احد الانائين وطهارة الآخر وكان كل منها مسبوقاً بالنجاسة فهل يحكم بجريان الاستصحاب في كليهما اولا؟ وجهان، مبنيان على ان العلم المجعول في الاخبار غاية هل هو اعم من العلم التفصيلي والاجمالي ؟ او هو مخصوص بالعلم التفصيلي؟ ان قلنا بالاول فلا يجرى الاصل، وان قلنا بالثاني فلا مانع لجريان الاصلين كليهما، أما بحسب الدليل الشرعي فلان المفروض ثبوت الدليل العام ووجود الموضوع لذلك الدليل، واما بحسب حكم العقل فلان اجراء الاصل في كليهما لا يوجب المخالفة العملية، وقد عرفت ما هو الاقوى، ويظهر الثمرة في ملاقي احد الاناثين بالخصوص(2)فانه على تقدير جريان الاستصحاب في الملاقي بالفتح محكوم

ص: 469


1- ص ٤٣٩، الوجه الثالث.
2- فائدة لا اشكال في جريان البرائة في ملاقي احد المشتبهين بالنجس اذا حدث الملاقاة بعد العلم الاجمالي، واما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم بالملاقاة فقد يقال بلزوم الاجتناب عن الملاقي ايضاً، نظراً الى العلم الاجمالي بين الثلاثة، ويمكن ان يقال بالبرائة في هذه الصورة ايضاً، نظراً الى محفوظية العلم الاجمالي بين الملاقي بالفتح والطرف وعدم زواله عن النفس لتعلقه بالنجاسة الثابتة في الرتبة الاولى، فالمعلوم الاجمالي بين الاثنين معنون بعنوان زائد يشار اليه بالثبوت في الرتبة الأولى، وهذا العنوان غير محرز في المعلوم الاجمالي بين الثلاثة، لتعلقه بالاعم من الرتبة الاولى والثانية، ومع محفوظية العلم الاجمالي الصغير واحتمال انطباقه على المعلوم الاجمالي الكبير لا ينعقد في النفس الاجمال في الدائرة الكبيرة، بل المتحقق هو العلم الاجمالي في الدائرة الصغيرة والشك البدوي فيا زاد عنها. و منه يظهر الحال فيما لو حصل العلم الاجمالي بين ذات الملاقي وشيء ثم حصل العلم بالملاقاة وكذا فيما لو حصل العلم بالملاقاة اولا ثم حصل العلم الاجمالي ولكن كان الملاقي بالفتح - خارجاً عن محل الابتلاء ثم عاد، فان ما ذكرنا جار في هاتين الصورتين ايضاً، فينقلب العلم الاجمالي بين الملاقي - بالكسر والطرف الى العلم الاجمالي بين الملاقي - بالفتح وذلك الطرف ويصير الملاقي - بالكسر- شبهة بدوية في جميع الصور.(م. ع. متظله).

بالنجاسة، وعلى التقدير الآخر محكوم بالطهارة.

حكم الشبهة الغير المحصورة

الامر الخامس: قد عرفت في طي المسائل ان الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي انما يجب فيها الاحتياط بشروط:

منها كون الاطراف كلها مورداً للابتلاء، بحيث لا يكون التكليف بالنسبة الى بعضها مستهجنا.

و منها عدم الاضطرار الى بعض الاطراف اما م_ع_ي_ن_ا واما غير معين، فانهما مشتركان في عدم وجوب الاحتياط كما لا يخفى.

و منها عدم كون الاحتياط في جميع الاطراف حرجياً، ولو كان كذلك لم يجب الاحتياط.

اذا عرفت ذلك فنقول : قد اشتهر ان الشبهة الغير المحصورة لا يجب فيها الاحتياط، بل ادعى عليه الاجماع بل الضرورة، فلابد ان يفرض الشبهة على نحو لو فرض كونها محصورة لوجب فيها الاحتياط، لكونها جامعة للشرايط المعتبرة في تنجزها، اذ لو فقد بعض ما ذكر فعدم وجوب الاحتياط انما يكون من جهة عدم الشرط، لا من جهة كونها غير محصورة، فلنفرض الكلام فيما اذا علمنا بحرمة شيء مردد بين امور كثيرة، ولم يكن الاجتناب عن الجميع حرجياً، وكذا لم يكن بعضها خارجاً عن تحل الابتلاء، ولم يكن المكلف مضطراً الى ارتكاب البعض، فماقيل في وجه عدم وجوب الاحتياط فيها من عدم ابتلاء المكلف بالنسبة الى جميع الاطراف اوكون الاحتياط فيها حرجياً، وامثال ذلك اجنبى عن المقام.

ص: 470

اذا عرفت موضع البحث، فنقول: غاية ما يمكن ان يقال في وجه عدم وجوب الاحتياط هو ان كثرة الاطراف توجب ضعف احتمال كون الحرام مثلاً في طرف خاص، بحيث لا يعتنى به العقلاء ويجعلونه كالشك البدوي، فيكون في كل طرف يقدم الفاعل على الارتكاب طريق عقلائى على عدم كون الحرام فيه.

و هذا التقريب احسن مما افاده شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) (1) من ان وجه عدم وجوب الاحتياط كون الضرر موهوماً، فان جواز الاقدام على الضرر

الاخروى الموهوم لو سلم لا يوجب القطع بكونه غير معاقب كما لا يخفى، هذا. و لكن فيما ذكرنا ايضاً تأمل، فان الاطمينان بعدم الحرام في كل واحد واحد بالخصوص كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها وعدم خروجه عنها، وهل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئية مع الظن بالسلب الكلى(2)فحينئذ،

ص: 471


1- الفرائد ذيل الوجه الخامس، ص 259.
2- فيه انه انما يحصل الظن بالسلب الكلي اذا كان هناك ظنون بعدد الآحاد وتعلق كل واحد من تلك الظنون بواحد من تلك الآحاد تعيينا، واما اذا كانت الظنون دائرة بين كدوران النكرة بين الآحاد وصادقاً على كل واحد واحد على وجه التبادل فلا يلزم منها الظن بالسلب الكلي، فان مرجع الظن بالعدم في واحد من الآحاد بهذا الوجه الى الظن بالاثبات فيما عداه، وهكذا في كل واحد واحد، ولو كان مثل هذا راجعاً الى الظن بالنفي الكلي لزم ان يكون احتمال العدم في كل واحد من طرفي الشبهة المحصورة ايضاً راجعاً الى احتمال النفي الكلي، وهو ايضاً لا يجتمع مع العلم بالايجاب الجزئي، لكن لازم هذا التقريب عدم جواز التعدي في مقام الارتكاب عن العدد الذي حصل فيه الاطمينان بالعدم، بحيث لوزاد عليه ارتفع الاطمينان. و ظهر مما ذكرنا ان يعامل مع العلم الاجمالي معاملة العلم بالعدم لا معاملة الشك البدوي، فلو فرض العلم الاجمالي باضافة الماء في افراد غير محصورة جاز التوضي بواحد منها كسائر استعمالاته، ولو كان كالشك البدوي جاز الشرب ولم يجز استعماله في رفع الحدث والخبث.(م. ع. مدظله).

فان تم الاجماع في المسألة، والا فالقول بعدم وجوب الاحتياط مشكل، لعين ما ذكر في الشبهة المحصورة من دون تفاوت.

ولا يبعد ان يكون حكمهم بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الغير المحصورة من جهة مقارنتها غالباً مع فقد بعض شروط التنجيز، وعلى هذا لا خصوصية لها في الحكم المذكور.

هذا حكم الشبهة في متعلق الحكم بعد احراز اصله، وقد ذكرنا ان الشبهة ان كانت في اصل التكليف فالقاعدة تقتضى البراءة وان كانت في متعلقه بعد احراز اصله فالقاعدة تقتضى الاحتياط.

وقد وقع الاختلاف بين اصحابنا في بعض من الشبهات، فذهب جماعة الى كونه مورداً للبرائة، والاخرى الى كونه مورداً للاشتغال، ومبنى الخلاف انه هل هي من افراد الشبهة في اصل التكليف او في متعلقه.

مباحث الأقل و الاكثر الارتباطيين، وتقريب الاشتغال العقلي فيهما

و من تلك الموارد الشك في جزئية شيء للمامور به وان التكليف هل هو متعلق بالمركب الاقل او الاكثر.

و التكلم فيه يقع في مقامين :احدهما في اقتضاء الاصل العقلى، والثاني في اقتضاء الاصل الشرعي، والمركب الواجب تارة يفرض توصلياً لا يشترط فيه قصد القربة، واخرى تعبدياً.

و لنقدم الكلام في الواجب التوصلى بحسب اقتضاء الاصل العقلى، فنقول : احتج على لزوم الاحتياط بثبوت العلم الاجمالي بالتكليف المتعلق بالاقل او الاكثر، ومقتضى اشتغال الذمة بالتكليف وجوب الفراغ منه يقينا، وهو لا يحصل الا باتيان الاكثر. لا يقال: ان الاقل معلوم الوجوب على كل حال، لانه اما واجب نفساً واما مقدمة الحصول الاكثر، وبعد العلم بوجوب الاقل تفصيلاً ينحل العلم

ص: 472

الاجمالي الى علم تفصيلي وشك بدوي.

لانا نقول : التكليف المعلوم تفصيلاً لو كان غيرياً في الواقع لا يترتب عليه اثر عقلاً، لما حقق في محله والتكليف النفسي غير معلوم تفصيلاً في طرف خاص، فيبقى العلم الاجمالي بالتكليف النفسي موجباً للاحتياط.

فان قلت: نفى الاثر عن التكليف الغيري مطلقاً لا وجه له، فان المنفى بحكم العقل استحقاق العقوبة على مخالفته كالتكليف النفسي، وأما كون مخالفته منشأ للعقاب على ذي المقدمة فلا ينفيه العقل، بل هو لازم له عند العلم به، فحينئذ يقال : ان التكليف بالاقل معلوم، ومخالفته توجب استحقاق العبد للعقوبة، إما على ترك نفسه، وإما على ترك ما هو مسبب عن تركه، ولا ع_ل_م ل_ه بتكليف آخر غير هذا المعلوم.

قلت: المفروض على هذا القول عدم تنجز الاكثر، فكيف يصير ترك الاقل المعلوم موجباً للعقوبة عليه، والحاصل أن احتمال كون الوجوب المعلوم غير ياهل يوجب تنجز الاكثر اولا ؟ فعلى الاول لا معنى للقول بالبراءة فيه، وعلى الثاني لا معنى للقول بان مخالفته توجب العقوبة عليه.

فان قلت ترك الاكثر قد يكون مستنداً الى ترك الاجزاء المعلومة، وقد يكون مستنداً الى ترك الجزء المشكوك، والمراد من ان مخالفة التكليف الغيري توجب العقوبة على ذي المقدمة انه لو ترك مستنداً الى ترك الاجزاء المعلوم وجوبها لاستحق عليه العقاب دون ما اذا ترك مستنداً الى غيرها.

قلت لازم ما ذكرت عدم صحة العقوبة على الاكثر لو ترك مجموع الاجزاء من المعلومة وغيرها فان الترك حينئذ ليس مستندا الى خصوص ترك الاجزاء المعلومة، كما هو واضح فيرجع الامر الى ان مخالفة هذا الامر المعلوم ليس له اثر على كل تقدير.

هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب الاستدلال للقائل بالاشتغال.

ص: 473

و فيه ان الضابط في انحلال العلم الاجمالي (1)ليس العلم التفصيلي بالتكليف الذي يوجب مخالفته العقوبة على كل حال، كيف ولو كان كذلك ماصح القول بالانحلال فيما اذا قام طريق معتبر شرعي مثبت في بعض الاطراف، فانه لا يصح العقوبة على مخالفة التكليف الطريق على كل تقدير، بل هو موجب لصحة العقوبة لو كان مصادفاً للواقع، انما الضابط هو العلم التفصيلي بالتكليف الذي يجب امتثاله عقلاً وان كان من جهة صحة العقوبة على بعض التقادير.

نقد تقريب الاشتغال

فنقول فيما نحن فيه : ان العلم بالتكليف المتعلق بالاقل لما لم يعلم كونه مقدمياً او نفسياً يجب عند العقل موافقته لانه لو كان نفسياً لم يكن له عذر في ترکه، كما في التكاليف الطريقية، حيث ان وجوب امتثالها عند العقل من جهة احتمال مصادفتها للواقع وان المكلف على هذا التقدير لم يكن معذوراً، فعلى هذا نقول : نعلم تفصيلاً بتكليف من الشرع يجب بحكم العقل متابعته، ونشك في تكليف آخر وراء ذلك، لاحتمال وحدة مورد العلم الاجمالي مع التفصيلي، والعجب ممن جزم في التكاليف الطريقية بانها موجبة للانحلال مع جزمه هنا بالاشتغال محتجا بان التكليف المعلوم ليس له اثر على كل تقدير، وكيف كان فالاقوى في النظر البرائة وفاقاً لسيدنا الاستاذ «طاب ثراه» لما ذكر من الوجه. فان قلت ان مقتضى قواعد العدلية كون الاوامر مسببة عن مصالح في المأمور به وان غرض الشارع وصول العبد اليها فاذا اتى بالاقل لم يعلم بحصول

ص: 474


1- ولا يخفى ان ما قلنا في مسألة الملاقي من كون المعلوم واقعاً في الرتبة الاولى مع عدم احراز ذلك في المعلوم التفصيلي غير متأت هنا، من جهة ان الخصوصية هناك كانت لمتعلق التكليف وهنا لنفسه، بمعنى ان التكليف في الرتبة الاولى - اعنى رتبة الوجوب النفسي - مردد بين الاقل والاكثر، ولكن لا يحصل من ناحيته خصوصية في المتعلق، وليس حال الرتبة كالزمان حتى يقال بعدم سريان العلم التفصيلي الى تلك الرتبة، وذلك لان الرتبة غير قابلة للتنجز والعهدة بمجردها مع وحدة الزمان.(م. ع. مدظله).

الغرض اصلاً، لاحتمال حصوله باتيان الاكثر، والعقل يحكم بوجوب اتيان المأمور به على نحو يسقط به الغرض، بل ليس هذا الكلام م_ب_ن_ي_اً على قواعد العدلية القائلين بوجود المصلحة والمفسدة، لوضوح ان لكل آمر غرضاً في اتيان المأمور به، وان كان جزافاً، ويلزم على العبد اتيان المأمور به على نحو يحصل به غرض المولى.

قلت: لزوم اتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض عقلاً، تارة من جهة ان الثابت عليه بحكم العقل اسقاط الامر وهو لا يسقط الا باسقاط الغرض، واخرى من جهة ان اللازم بحكم العقل تحصيل غرض المولى مستقلاً من دون ملاحظة كونه سبباً لسقوط الامر، وعلى الثاني تارة يقال: ان اصل الواجب في باب الاطاعة ينحصر في تحصيل الغرض والامر انما يكون حجة على الغرض من دون ان يكون موضوعاً لحكم العقل بوجوب الامتثال، واخرى يقال: بان الواجب كل منهما بحكم العقل فلو انفرد الغرض عن الامر يجب تحصيله وكذا لو انفرد الأمر عن الغرض كما لو كان المصلحة في نفس التكليف.

فان كان نظر القائل الى الاول نقول : لا يعقل بقاء الامر مع اتيان متعلقه، الى طلب الحاصل(1).

لانه يرجع و ان كان نظره الى اول الوجهين من الثاني فنقول: هذا خلاف ما نجده من انفسنا، لوضوح انه لو فرضنا امر المولى جدياً ولم يكن له غرض في الفعل بل انما امر جداً لغرض ومصلحة في الطلب الجدي يجب بحك_م ال_ع_ق_ل اطاعته، ويصح عند العقلاء ان يؤاخذ العبد على المخالفة (2)ولا يسمع عذر العبد بان هذا

ص: 475


1- في العبارة قصور والصواب ان يقال ان بقاء الأمر لبقاء الغرض في مقامنا عند تعلقه بالاكثر واتيان الاقل وان كان لا يستلزم طلب الحاصل الا انه ليس اللازم في مقام الامتثال اسقاط الأمر، بل الحركة بمقدار الحجية بعد قبح العقاب بلا بيان وحسنه معه.(م. ع. متظله).
2- و اما عدم العقاب في الاوامر الطرقية عند عدم الاصابة مع كونها جدية مطلقاً - كما هو الحق - فلاجل عدم فوت غرض بواسطة عدم الاتيان لا بالعنوان الاولى ولا بالعنوان الثانوي، فالمدعى كون الامر الجدي مصححاً للعقوبة في مورد وجود الداعي اليها ولو كان هو فوت الغرض في الفعل ولو بالعنوان الثانوي الناشيء من الامر كعنوان الاطاعة، فاذا كان هذا الامر مصححاً دل على كونه تمام الموضوع، اذ لا يعقل دخل ما هو مترتب على عنوان الاطاعة في حصولها.(م. ع. مدظله).

الامر لم يكن لتحصيل غرض في المأمور به.

و ان كان نظره الى الوجه الاخير فنقول : لو علم بان غرض المولى لا يحصل باتيان متعلق الامر المعلوم يحكم العقل باتيان ما هو موجب الحصول غرضه (1)واما اذا لم يعلم ذلك واحتمل انطباق غرضه على ما علم وجوبه كما فيما نحن فيه فلا يحكم العقل بوجوب شيء زايد على ما علم وجوبه، فان امتثال هذا الامر المعلوم واجب، ولا يعلم ببقاء غرض للمولى بعد اتيان الفعل المفروض.

تقريب آخر للبراءة العقلية في المقام

ويمكن ان يستدل على البرائة بوجه آخر وهو ان يقال: ان الاقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسى لان المركب باللحاظ الاول الذي يجعله الحاكم موضوعاً للحكم ملحوظ بلحاظ واحد وموجود في الذهن بوجود واحد ولا جزء له بهذه الملاحظة انما يعتبر الجزئية بملاحظة ثانوية وهي ملاحظة كل جزء منه مستقلاً، فالجزء إن لوحظ مستقلاً فهى مقدمة للكل، وان لوحظ طريقاً الى

ص: 476


1- في العبارة قصور، و الاولى ان يقال : الغرض الذي ليس المولى في مقام استيفائه من العبد فالعلم به غير مؤثر في الامتثال قطعاً، واما الذي صار بصدد استيفائه فتارة يجعل محصله على عهدة العبد، كما لو علم بانه تعلق غرضه باسهال الصفراء كذلك فلا محيص حينئذ عن الامتثال ولزوم الاحتياط عند الشك في المحصل، لكن ليس هذا من موضوعية الغرض للامتثال، بل لكشفه عن الطلب الباطني، فالموضوع في الحقيقة هو ذلك الطلب، لا الغرض الصرف، واخرى يتكفل نفس المولى لشخص المحصل، ويجعل على عهدة العبد الحركة على طبق امره بذلك المحصل الذي شخصه نفسه، وحينئذٍ فليس على العبد الا الحركة على طبق الامر بمقدار حجيته العقلية، فلو شك في بقاء غرضه مع ذلك فليس من جهة تقصير منه، بل جهته قصور حجية الامر، فلو أمره في المثال بشرب السكنجبين وعلم ان غرضه اسهال الصفراء وشك في حصوله بجرعة واحدة أو جرعتين فليس عليه ازيد من جرعة واحدة.(م. ع. مدظله).

الملاحظة الاولية للحاكم على نحو الطبيعة المهملة فهو عين الكل، اذ ليس للاجزاء بهذا الاعتبار وجود على حدة.

اذا عرفت هذا فنقول: بعد العلم بتعلق الوجوب اما بالاقل او بالاكثر نعلم بتعلقه بذات الاقل مع قطع النظر عن كونه محدوداً باحد الحدين، ونشك في تعلقه بشيء آخر، فمقتضى الاصل البرائة.

فان قلت ان الطبيعة المهملة من احد الحدين لا تكون موضوعة لحكم الحاكم قطعاً، ضرورة انه إما تعلق غرضه بالمركب الاقل او الاكثر، فالقدر المشترك بينهما المجرد عن اعتبار الوصفين شيء انتزع عن تكليف الآمر باحد العنوانين على جهة الخصوصية، ولا اثر لهذا الامر الانتزاعى، وما هو واقع لا يعلم به الا اجمالاً.

قلت: ليس حكم العقل بوجوب الامتثال مخصوصاً بما اذا علم عنوان المكلف به مفصلاً، بل متى علم بشيء ولو كان ذلك الشيء وجهاً من وجوه المكلف به لزم عليه الامتثال بحكم العقل، ولذا قلنا في مبحث العلم الاجمالي : انه باقسامه موجب للاحتياط، ولو لم يكن العنوان الواقعي للمكلف به معلوماً، كما اذا علم بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال او بحرمة شرب التتن.

فان قلت: نعم، لكن ليس العلم بوجوب المهملة مقتضياً لا تيانها في ضمن ای فرد،كان الا ترى انه لو كان الواجب عتق الرقبة المؤمنة لا يصح امتثاله بعتق الرقبة الكافرة وان كانت نسبة الوجوب الى عتق الرقبة بنحو الاهمال صحيحة، من جهة وجود المهملة في المقيد ايضاً، فمقتضى العلم بتعلق الوجوب بالطبيعة المهملة امتثاله على نحو يقتضيه في الواقع، ولا يقطع بالبرائة من مقتضى هذا المعلوم الا بالاتيان بالاكثر.

قلت: إن علم تعلق التكليف بالمقيد فلا يصح امتثاله في الفرد الفاقد للقيد لان التكليف بالمقيد تكليف واحد وان صح نسبته الى المهملة من جهة

اتحادها مع المقيد، فذمته مشغولة باتيان ذلك المقيد، بخلاف ما نحن فيه، فان

ص: 477

ذمته لم تشتغل بازيد من هذه الطبيعة الجامعة.

فان قلت: فعلى هذا لزم عليك ان تقول في صورة العلم بوجوب احد المتباينين بعدم وجوب الاحتياط، لانه لا يعلم الا بوجوب احدهما، فلا يجب عليه الا اتيان احدهما، لانه المقدار المعلوم له.

قلت: وجه الاحتياط في المتباينين أنه يعلم بوجوب عنوان خاص في نفس الأمر، وذلك العنوان خصوصية زايدة على عنوان احدهما، لان هذا العنوان الاجمالي صادق على كل منهما، وذلك لا ينطبق الا على واحد بعينه، والمنجز عقلاً هو ذلك العنوان الخاص، لا العنوان الاعم الاجمالي، واما في مقامنا مما يكون الامر دائراً بين الزايد والناقص او المطلق والمقيد فلا علم للمكلف بلزوم خصوصية زايدة على المقدار المعلوم، فان.كون الناقص او المطلق مطلوباً مرجع الى عدم مدخلية خصوصية زايدة على تلك الطبيعة لا الى مدخلية خصوصية زائدة، وهي النقص او الاطلاق، فتدبر في المقام.

و مما ذكرنا عرفت وجه اصالة البرائة في الشك في القيد فلا نطيل بذكره الكلام.

هذا حال الاصل العقلي في الاجزاء والقيود المشكوكة في الواجبات التوصلية.

تقریب آخر للاشتغال عقلاً في التعبديات و الجواب عنه

و اما الواجبات التعبدية، فيستظهر القائل بالاحتياط بجهة اخرى سوى ما ذكره في وجه الاحتياط في التوصليات وهي أن الواجب فيها قصد التقرب، ولا يحصل الا بقصد اتيان ما هو تكليف نفسي للمولى، اذ في الواجبات الغيرية على ما حقق في محله - لا يتأتى قصد القربة، فيجب من جهة حصول هذا المعنى المبين اتيان الاكثر وقصد التقرب باتيان ما هو واجب في الواقع.

و فيه ان قصد القربة ان جعلناه من الاغراض المترتبة على الامر بان قلنا لا يمكن ادراجه في المأمور به فمعلوم ان تنجزه تابع لتنجز الامر، اذ لا يعقل عدم تنجز الامر الذي هو سبب لتنجز الغرض وتنجزه، فكما أن العقل يحكم في

ص: 478

الشبهات البدوية بعدم تنجز الغرض المترتب على الأمر على المكلف كذلك هنا على القول بالبراءة، نعم، لو كان التكليف متعلقاً بالاقل يجب على المكلف امتثاله على نحو يسقط به الغرض، اذ الحجة قد قامت عليه، والمفروض انه يأتى بالاقل المعلوم، بقصد الاطاعة، لا باغراض اخر.

فان قلت: كيف يتمشى قصد القربة فيا دار امره بين ان يكون واجباً نفسياً او مقدمياً، والمفروض عدم حصول القرب في امتثال التكليف المقدمي.

قلت: المقدار المسلم اعتباره في العبادات ان توجد على نحو يعد فاعله من المنقادين للمولى، ومن المعلوم حصوله هنا كيف ولو كان المعتبر ازيد من ذلك لانسد باب الاحتياط في العبادات في موارد الشبهة في اصل التكليف اذ لا يعلم العبد أن ما يأتى به لغو او مطلوب للمولى، فكيف يقصد القربة.

و من هنا ظهر الجواب عن هذا الاشكال على تقدير القول يكون قصد القربة داخلاً في المأمور به فانه يصير حينئذ كالاجزاء المعلومة في لزوم المراعاة باتيانها متقرباً على نحو ما ذكرناه.

هذا تمام الكلام في الاصل العقلي.

تقريب الأصل الشرعي في الأقل و الأكثر الارتباطيين

و اما الاصل الشرعي فنقول : ان الدليل العمدة في المقام هو حديث الحجب وحديث الرفع، ومفادهما بالنسبة الى مورد الشك واحد، وتقريب الاستدلال على مبنى القائل بالبرائة عقلاً واضح، فان مقتضاهما رفع الحكم المتعلق بالاكثر، لانه مما حجب اللّه علمه عن العباد ومما لا يعلمون، ولا يعارضه كون تعلق الحكم بالنسبة الى الاقل مشكوكاً ايضاً، فان التكليف النفسي وان كان كذلك الا انه بعد العلم باصل الوجوب وكون هذا الحكم المعلوم لازم الامتثال بحكم العقل - كما هو مبنى القائل بالبرائة - لا يكون مورداً للرفع، لان ما هو ملاك للاثر عند العقل معلوم غير قابل للرفع، والخصوصية المشكوكة ليس كلفة زايدة على العبد، كما هو واضح ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بهما على نفى القيد المشكوك.

ص: 479

و اما على مبنى القائل بالاحتياط فيشكل التمسك بهما على المطلوب، من جهة انه على المبنى المذكور العلم بالوجوب الاعم من النفسي والغيري ليس له اثر عقلاً، وانما المؤثر هو العلم بالتكليف النفسي اما اجمالاً او تفصيلاً، فعلى هذا كما ان تعلق التكليف بالاكثر مشكوك فيشمله الحديث كذلك تعلقه بالاقل ايضاً فيتعارضان.

اللّهم الا ان يقال بعد تعارضهما يبقى الاصل الجاري في الوجوب الغيري للجزء المشكوك فيه سليماً عن المعارض، لان الشك فيه انما يكون مسبباً عن الشك في تعلق التكليف بالاكثر، وليس في مرتبة المتعارضين حتى يسقط بالتعارض.

و لكن يمكن المناقشة فيه ايضاً بان مجرد نفي الوجوب الغيري عن الجزء المشكوك لا يثبت كون الواجب هو الاقل الا بالاصل المثبت الذي لا تقول به. اللّهم الا ان يدعى ان رفع الوجوب عن جزء المركب بعد فرض وجوب الباقي يفهم منه عرفاً ان الباقي واجب نفسي، ويؤيد ذلك قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خبر عبد الاعلى: يعرف هذا واشباهه من كتاب اللّه، ما جعل عليكم في الدين من حرج، امسح على المرارة(1) حيث إن الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) دلنا

على ان المدلول العرفي للقضية رفع ما يكون حرجاً، وهو مباشرة اليد الماسحة للبشرة الممسوحة واثبات الباقي وهو اصل المسح، وهنا نقول ايضاً بان المجهول مرفوع والتكليف ثابت في الباقي بمدلول قضية رفع ما لا يعلمون وحديث الحجب.

و من هنا يظهر وجه التمسك بهما لنفى القيد المشكوك، فان التكليف بالمقيد وان كان تكليفاً واحداً لكن يصح تحليله عند العقل، ويقال ان تعلق التكليف. باصل الطبيعة معلوم، والخصوصية الزايدة غير معلومة، فتنفى بمقتضى الخبرين

ص: 480


1- الوسائل الباب ٣٩ من ابواب الوضوء، الحديثه. وفيه: امسح عليه.

ويثبت الباقي (1)كما ذكرنا هذا.

وينبغي التنبيه على أمور:

دوران الأمر بين التعيين و التخيير

الأول: اذا دار الامر بين التعيين والتخيير بان يكون تعلق الوجوب على موضوع معلوماً، وشك في انه على نحو التعيين او التخيير، فهل الاصل يقتضى ايهما؟ فيه وجهان وجه الاول ان تعلق التكليف بهذا الموضوع معلوم، ويشك في انه هل يسقط باتيان شيء آخر ام لا، فمقتضى الاشتغال بالحكم الثابت فراغه عن عهدة التكليف يقيناً، ووجه الثاني ان الشك في المقام راجع الى الشك في الاطلاق والتقييد، ووجهه ان الشيئين اذا اتحدا في الاثر فاللازم عند العقل ان يكون ذلك الاثر مستنداً الى القدر الجامع، فحينئذ مرجع الشك في التعيين والتخيير الى ان التكليف هل هو متعلق بالجامع بين الفردين او بخصوص ذلك الفرد، ولما قلنا بالبرائة هناك نقول بها هنا ايضاً.

و الحق هو الاول لان التخيير وان كان راجعاً الى تعلق الحكم بالجامع عقلاً وفي عالم اللب ولكن لو كان مراد المولى ذلك العنوان الخاص الذي جعله مورداً للتكليف على وجه التعيين لم يكن للعبد عذر، وليست المؤاخذة عليه مؤاخذة من دون حجة وبيان حيث انه يعلم توجه الخطاب بالنسبة الى العنوان المخصوص.

و من هنا تعرف الفرق بين المقام و بين دوران الامر بين المطلق والمقيد حيث إنه في الثاني لا يعلم بتوجه الخطاب بالمقيد فيؤخذ بالمتيقن ويدفع القيد بالبرائة، بخلاف ما نحن فيه حيث ان المفروض العلم بصدور الخطاب المتعلق

ص: 481


1- فيه ان هذا تقريب الانحلال، والمفروض التكلم على مذاق القائل بالعدم، فالصواب التمسك بناء على هذا المذاق بجريان الحديث في الشك في القيدية والشرطية، بناء على عمومه الجميع الآثار، ثم التمسك لاثبات وضع الباقي بالبيان المتقدم.(م. ع. مدظله).

بالعنوان المخصوص فلا تغفل.

حكم الشبهات الموضوعية

الثاني: لما فرغنا عن الشك في الجزئية والقيدية في الشبهة الحكمية فاللان التكلم في الموضوعية منها مفصلاً، لكون بعض مصاديقها محلا للابتلاء، ومورداً لأنظار العلماء.

فنقول وباللّه المستعان: انّ جعل طبيعة جزءاً للمأمور به يتصور على انحاء: منها، جعلها باعتبار صرف الوجود اعنى الوجود اللا بشرط من جميع الخصوصيات الذي يكون نقيضاً للعدم المطلق وبعبارة اخرى: الذي ينتقض به العدم، فيكتفى باتيانه في ضمن فرد واحد، ضرورة تحقق ذلك المعنى اللا بشرط في ضمن فرد واحد.

و منها، جعلها باعتبار وجودها الساري في جميع الافراد.

و منها، جعلها باعتبار مجموع الوجود بحيث يكون مجموع افراد الطبيعة جزءاً واحداً للمأمور به.

و الاقسام المذكورة كلها متصورة بالنسبة الى الشرط والمانع.

اذا عرفت هذا فنقول : ان جعل شيء جزءاً او شرطاً للمأمور به بالاعتبار الاول فلا ريب في وجوب احرازه وعدم جواز الاكتفاء بالمشكوك، لان الاشتغال بالمركب من اجزاء معلومة او المشروط بالشرط المعلوم معلوم بالفرض ولا يتحقق البرائة الا باتيان ما يعلم انطباقه عليه، وهذا في الوضوح والبداهة بمكان.

و ان جعل جزءاً او شرطاً بالاعتبار الثاني فلا اشكال في ان مرجع هذا النحو من الجعل الى جعل كل واحد من أفراد الطبيعة جزء مستقلاً او شرطاً كذلك، وان القضية الدالة على ذلك تنحل الى قضايا متعددة، فهل يحكم في الفرد المشكوك كونه جزءاً وشرطاً من جهة الشك في انطباق المفهوم المعلوم كونه جزءاً وشرطاً عليه بالبرائة او الاحتياط، وجهان تعرف الحال بعد بسط المقال في الشك في المانع ايضاً.

ص: 482

و كذا الحال فيما اذا جعل بالاعتبار الثالث.

و إن جعل شيء مانعاً بالاعتبار الثالث أعنى اعتبار مجموع الوجود، فيرجع الى اشتراط ترك واحد من افراد ما جعل مانعاً، ولا اشكال في وجوب احراز ذلك الترك، لان اصل الاشتراط معلوم فاللازم العلم بوجود الشرط، وهذا ايضاً واضح.

حكم اللباس المشكوك

و ان جعل مانعاً باحد الاعتبارين الاولين اعنى اعتبار صرف الوجود او الوجود السارى، فلو شك في كون شيء مصداقاً للمفهوم الذي جعل مانعاً فهل الاصل يقتضى الاحتياط والاجتناب عن ذلك الشيء المشكوك كونه فرداً او البرائة، مثال ذلك : اذا علمنا ان الشارع جعل لبس الجلد او الصوف او الوبر لغير ما يؤكل لحمه من الحيوان مانعاً للصلاة، وشككنا في ان اللباس المخصوص هل هو مأخوذ من ما يؤكل لحمه او من غيره المشهور - كما قيل - على الاحتياط، وذهب بعض الاساطين الى البرائة وعدم وجوب الاحتياط منهم سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي في اواخر عمره، وهذا هو الاقوى.

و توضيح المقام على نحو يكشف الستر عن وجه المرام ان جعل اجزاء ما لا يؤكل لحمه مانعاً في الصلاة بعد القطع بعدم كون المانع هو مجموع وجودات تلك الطبيعة لا يخلو من امرين:

إما جعله على نحو السريان، فالمجعول مانعاً على هذا كل فرد من افراد تلك الطبيعة، والمفروض ان لتلك الطبيعة افراداً معلومة قد علم تقييد الصلوة بعدم كل واحد منها، فمرجع الشك هنا الى ان المأمور به هل قيد بعدم هذا الفرد زايداً على ما علم اعتباره فيه اولا ؟ وبعبارة اخرى مرجع هذه الشبهة الى الشبهة في اشتراط امر آخر سوى الامور المعلومة غاية الامر أن هذه الشبهة نشأت من امور خارجية.

و حينئذٍ نقول : ان لهذه الشبهة :جهتين احديهما انها من مصاديق الشبهة في الاقل والاكثر. والثانية انها من مصاديق الشبهة الموضوعية.

ص: 483

فان كان المانع من اجراء البرائة فيها الجهة الاولى فقد فرغنا عنها، وان الحق فيها من هذه الجهة البرائة، وكل ما اقمناه حجة هناك جار هنا، فلا نطيل الكلام باعادته.

و ان كان المانع الجهة الثانية فقد مر ايضاً الكلام فيه، وأن ما يشك كونه محرماً من جهة الشك في انطباق العنوان عليه حكمه حكم ما يشك كونه محرماً من جهة الشبهة الحكمية.

و الحاصل انه بعد ما فرضنا قبح المؤاخذة على ارتكاب المحرم المجهول فلا فرق في ذلك بين ان يكون المرتكب جاهلاً بالصغرى وان هذا خمر مثلا وبين ان يكون جاهلاً بالكبرى بان لا يعلم حرمتها، فالقائل بوجوب الاحتياط ان كان نظره الى ان هذا المورد مما دار الامر فيه بين الاقل والاكثر، فقد اجبنا عن اشكاله في الشبهة الحكمية وان كان نظره الى كون المقام من الشبهات الموضوعية، فقد اجبنا عن اشكاله في الشبهة الموضوعية، ولا يعقل ان يحدث اجتماع الجهتين اللتين ليست واحدة منهما موجبة للاحتياط ايجاب الاحتياط، هذا ان حملنا دليل المانع على الوجود السارى كما هو ظاهر النواهي الشرعية عرفاً سواء كانت نفسية او غيرية.

و ان حملناه على صرف الوجود فقد يتوهم ان مقتضى القاعدة الاحتياط، بعدم تلك الحقيقة معلوم، وهو تقييد واحد سواء كثرت

حيث ان تقييد الصلاة افرادها ام قلت، ولا يتحقق ذلك العدم الا بعدم جميع الافراد، كما اذا قيدت الصلاة بالطهارة عن الحدث ولم يعلم بانه هل يتحقق بالمركب من الغسلتين والمسحتين او به وبشيء آخر، والحاصل انه لو كان التكليف بشيء واحد معلوم_اً ودار الامر في محصل ذلك الشيء بين الاقل والاكثر فلا شك في لزوم الاحتياط، والسر في ذلك أن محط التكليف ليس هذا المركب حتى يؤخذ فيه بالقدر المتيقن ويكون الشك في الباقي شكاً في اصل التكليف، بل التكليف متعلق بذلك المعنى الواحد، فالذمة مشغولة به يجب الفراغ عنه.

ص: 484

لكن التحقيق يقتضى عدم الفرق بين الصورتين، ومقايسة ذلك بالطهارة ومحصلها ليست في محلها، وتوضيح ذلك : انه قد يكون التكليف متعلقاً بالعنوان المتولد من السبب الخارجي ويشك في ان سبب حصول ذلك العنوان المكلف به هل هو الاقل او الاكثر، فيجب حينئذٍ الاحتياط باتيان الاكثر، حتى يعلم تحقق ذلك العنوان والامر بالطهارة من هذا القبيل لانها امر معنوى يتحصل من افعال خارجية، وكذلك لو امرنا بالتأديب ولم نعلم انه يحصل بضربة او بضربتين مثلاً، وهكذا، وقد يكون التكليف متعلقاً بما هو عين الخارج، لا أنه يتحصل به كما فيما نحن فيه فان صرف الوجود الذي جعلناه متعلقاً للنهى الغيري هو عين الوجودات الخارجية، والنهى المتعلق ب_ه في الحقيقة راجع الى النهي عن تلك التحصلات الخارجية، فحينئذٍ يقال : انا نعلم من جهة ذلك النهي تقييد الصلاة بعدم تلك التحصلات المعلومة، ونشك في تقييدها بالزايد ومقتضى الاصل البرائة والفرق بين هذا الفرض وسابقه انه في السابق كانت الشبهة من مصاديق الشبهة في الاقل والاكثر من حيثية واحدة، وفي هذا الفرض من حيثيتين: احديهما من جهة ارتباط القيد بالصلاة والثانيه من جهة الارتباط الموجود في نفس القيد، ولا ضير بعد ما لم تكن هذه الجهة منشأ للاحتياط، هذا ما استفدنا من سيدنا الاستاذ طاب ثراه في بيان الاصل العقلى(1) نقلاً عن سيد

ص: 485


1- هذا. ويمكن ان يقال تارة نجعل الطبيعة اشارة الى الافراد ويكون بمنزلة هؤلاء، فلا شك حينئذٍ ان الدوران في الافراد بين الاقل والاكثر يكون في نفس الموضوع، واخرى نجعل الموضوع نفسها بما هي شيء بحيال الافراد وحينئذ فان جعلت موضوعاً بلحاظ صرف الوجود فلا محيص عن الاشتغال عند دوران امر الافراد بين الاقل والاكثر، لان ما هو الموضوع وهو صرف الوجود الذي يستوي فيه القليل والكثير غير مشكوك، وما هو المشكوك غير موضوع، وان جعلت باعتبار الوجود السارى موضوعاً فاللازم القول باليراثة عند الدوران المذكور، لان مرجع هذا النحو من الاعتبار الى قضايا تعليقية بعدد الافراد فقوله لا تشرب الخمر في قوة قوله كل مالووجد في الخارج وكان خمراً فهو على تقدير وجوده حرام، ومن المعلوم ان الحكم التعليقي لا يصير منجزاً الا بعد احراز المعلق عليه، واما بناء على اعتبار صرف الوجود فيكفي وجود خمر في الدنيا. مع صيرورته محلا لا بتلائنا في تنجز الحكم حتى في الافراد المشكوكة. و من هنا يعرف الحال فيما لو جعل الطبيعة شرطاً أو جزء باعتبار الوجود الساري، فان الحق فيه البرائة لعين التقريب المتقدم. و لو جعلت كذلك باعتبار مجموع الوجود، فتارة يجعل الجامع بمنزلة هؤلاء ويكون حال الافراد كاجزاء الصلاة، حيث لا وحدة ملحوظة بينها الا في مجرد اسم الصلاة، فحينئذ يجري النزاع المتقدم في مبحث الاقل والاكثر، واخرى يجعل بما هو شيء في نفسه بالاعتبار المذكور، فحينئذ لا محيص عن الاشتغال لعين ما تقدم من التقريب في صرف الوجود. و قد انقدح مما ذكرنا انه لو جعل عدم كون اللباس ممّا لا يؤكل قيداً في الصلاة باعتبار الوجود السارى فاللازم القول بالبرانة، سواء جعل كونه مما لا يؤكل مانعاً في الصلاة، ام عدم كونه مما لا يؤكل شرطاً في اللباس على تقدير كونه حيوانياً، لاشتراك ما قدمنا من التقريب بينهما، وان كان ظاهر المتن خلافه.(م. ع. مدظله).

مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدّس سرُّه).

فان قلت ان ما ذكرته صحيح على تقدير جعل لبس غير مأكول اللحم مانعاً في الصلاة، واما لو جعل اللباس على تقدير كونه من اجزاء الحيوان شرطاً سواء كان ذلك الشرط كونه من مأكول اللحم ام عدم كونه من غير مأكول اللحم فالقاعدة تقتضى الاحتياط، فانه بعد حصول التقدير _ وهو ما اذا لبس المصلى شيئاً من اجزاء الحيوان - اشترط هذا اللباس الخاص بشيء معلوم، وهو كونه مما يؤكل او عدم كونه مما لا يؤكل، والشك انما هو في وجود الشرط، وليس هنا قدر متيقن حتى يؤخذ به ويصير الشك في الزايد شكاً في اصل الاشتراط، كما لا يخفى على المتأمل، وحينئذٍ نقول : ان موثقة ابن بكير(1) التي هي الاصل في عدم جواز لبس غير مأكول اللحم في الصلوة وان كان صدرها ظاهراً في مانعية لبس غير مأكول اللحم في الصلاة، ولكن بعض فقراتها يدل على خلاف ذلك وهو قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يقبل اللّه تلك الصلاة حتى تصلى في غيره مما

ص: 486


1- لوسائل الباب ٢ من ابواب لباس المصلى، الحديث.

احل اللّه اكله»، لان هذه الفقرة بعد القطع بعدم كون ظاهرها مراداً، كما هو واضح، يلزم ان يحمل على الشرطية التقديرية، والمعنى على هذا: «لا يقبل اللّه تلك الصلاة على تقدير لبسك شيئاً من الحيوان حتى تصلى فيما احل اللّه اكله» فحينئذ لا يجوز الاكتفاء بالصلاة في اللباس المشكوك.

قلت: لا يخفى على العارف باسلوب الكلام أن هذه الفقرة ليست بما تفيد مطلباً آخر سوى ما استفدنا من صدر الرواية، لان قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) هذا تفريع على ما مر منه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صدر الرواية، ومحصل المعنى: «أنه لما كانت الصلاة في اجزاء ما لا يؤكل فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة حتى يصلى في غيره» وانما ذكر ما احله اللّه من جهة كون الصلاة فيه احد مصاديق الصلاة المقرونة بعدم المانع.

ثم على تقدير تسليم كونه في مقام بيان الاشتراط نقول: الظاهر منه توقف صحة الصلاة على كونها في مأكول اللحم، وبعد القطع بعدم اشتراط ذلك بقول مطلق فاللازم حمله على الاشتراط المعلق يعنى ان المصلى على تقدير لبسه شيئاً من اجزاء الحيوان فلا تصح صلاته الا ان يصلى فيما احله اللّه، وحينئذ نقول يكفي في صدق هذا الشرط ان يكون معه لباس مما احله اللّه يقينا، وان كان معه ايضاً ما يشك كونه كذلك، فانه بعد احراز الشرط المستفاد من ذيل الرواية على الفرض ليس لنا شك الا من جهة مانعية اللباس الآخر للصلاة، وقد قلنا انه من تلك الجهة مورد للاصل.

اللّهم الا ان يدعى انه على تقدير القول بان ذيل الرواية تفيد الشرطية ليس معناه مجرد اشتراط الصلاة فيها احله اللّه، بل المراد ان المصلى على تقدير لبسه جزء من الحيوان يشترط كون ذلك الجزء الملبوس مما يؤكل، ففي الجزء المشكوك اصل الاشتراط معلوم وانما الشك في وجود الشرط، واللازم في مثله الاحتياط.

و كيف كان نحن في سعة مما ذكر لما قلنا من وضوح ان العمدة مفاد صدر الرواية وان الذيل لا يفيد شيئاً الا التفريع على ماذكر، هذا تمام الكلام في

ص: 487

الاصل العقلي.

الاستدلال بالأصل الشرعي و الأدلة الخاصّة في الشبهة الموضوعية

و اما الاصل النقلى (1)فيدل على المقصود كل ما دل على البرائة في الشبهة

ص: 488


1- و قد يتمسك للجواز باستصحاب عدم كون الصلاة الصادرة من الشخص واقعة في ما لا يؤكل، للقطع بذلك قبل لبس المشكوك، كاستصحاب عدم مضرية الصوم الحاصل في اليوم للقطع بذلك في اليوم السابق. وفيه ان الجواز هناك متعلق بالامر التعليقي اعني كون الصوم بحيث لو وجد لم يكن مضراً، وهنا اعتبر مفهوم الصلاة مقيداً بعدم كونها في ما يؤكل ثم وقع هذا المقيد تحت الامر، فالقيد هناك عدم اضرار الصوم بنحو التعليق، وهنا عدم وقوع الصلاة فيما لا يؤكل بنحو الفعلية واثبات الفعلية في الموضوع بعد استصحابه بنحو التعليق مبنى على الاصل المثبت وليس كالاستصحاب التعليقي في نفس الحكم الذي قرر في محله عدم مثبتيته. الا ان يجاب بان هذا مبني على ارجاع التعليق في القضايا الاخبارية التعليقية الى المخبر عنه وفي الانشائية الى المنشأ، وقد تقرر في محله خلاف ذلك، وانه راجع في الاولى الى الاخبار، وفي الثانية الى الانشاء، مع كون المخبر عنه والمنشأ فعلياً مطلقاً، وعلى هذا فالتقريب الذي ذكر لعدم مثبتية الاستصحاب التعليقي في نفس الحكم جار في الاستصحاب التعليقي في الموضوع، حرفاً بحرف. الا ان يفرق بين المقامين بان التعليق اذا كان في حكم الشرع فاليقين من المكلف بهذا الحكم التعليقي فعلي واما اذا كان في الموضوع فاليقين تعليقي لا محالة، ويمكن دعوى انصراف ادلة الاستصحاب عن اليقين التقديري. و يمكن ان يقال بعدم ارجاع المقام الى الاستصحاب التعليقي، بدعوى ان المقام حاله كحال القضايا الحقيقية، فان الحكم فيها وان كان معلقاً على الافراد المقدرة الوجود، لكنها مع ذلك حملية وليست بشرطية للفرق بين الحكم على الماهية باشراب الوجود، والحكم عليها بتقديره، فيقال في المقام صلاة هذا الشخص كانت في السابق صلاة غير واقعة في ما لا يؤكل، كما يقال عقد هذا الشخص كان عقداً صادراً من غير البالغ. وقد يجاب عن اصل الاشكال بمنع اعتبار تقيد الصلاة بهذا الامر العدمي، فان الظاهر من الادلة كون الوقوع في ما لا يؤكل مانعاً، لا كون عدمه شرطاً، وشأن المانع تخريب اثر المقتضي لا شرطية عدمه في تاثيره؛ وفيه انه وان كان الامر بحسب اللب كذلك لكن في مقام الاثبات لابد من درج. هذا العدم في المامور به اما بنحو التركيب واما بنحو التقييد، وحيث ان الاول مقطوع الخلاف في المقام لانا نقطع بان اجزاء الصلاة امور وج_ودي_ة اولها التكبير وآخرها التسليم، فيتعين الثاني، اذ لا يعقل عدم لحاظ شيء في المأمور به بنحو من الوجهين، ومع ذلك يحكم بعدم الاجزاء لعدم مراعاته.(م. ع. مدظله).

الحكمية بالتقريب الذي مربيانه هناك فلا نطيل الكلام باعادته.

مضافاً الى امكان ان يقال : ان مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام من_ه بع_ي_نه»(1) ايضاً يدل على المقصود، وتقريبه ان الحل والحرمة كما يطلقان على النفسيين كذلك يطلقان على الغيريين، وقد شاع استعمالهما في هذا المعنى في الاخبار.

مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية عبداللّه بن سنان كل ما كان عليك او معك مما لا يجوز فيه الصلاة منفرداً الخ.(2)

و كذا قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا تجوز الصلاة في شيء من الحديد(3).

و في رواية ابراهيم بن محمد الهمداني لا يجوز الصلاة فيه (4).

وفي صحيحة محمد بن عبد الجبار لا تحل الصلاة في الحرير المحض(5).

و في صحيحة اخرى له لا تحل الصلاة في حرير محض (6).

و في صحيحة على بن مهزيار هل تجوز الصلاة في وبر الارنب الى ان قال فكتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا تجوز الصلاة (7).

ص: 489


1- الوسائل الباب ٤ من ابواب ما يكتسب به الحديث ١.
2- الوسائل الباب 31 من ابواب النجاسات الحديث 5.
3- الوسائل الباب 32 من ابواب لباس المصلى الحديث ٦.
4- الوسائل الباب،٢ من ابواب لباس المصلى الحديث ٤.
5- الوسائل الباب ١٤ من ابواب لباس المصلى، الحديث 4.
6- الوسائل الباب ١٤ من ابواب لباس المصلى، الحديث 2.
7- الوسائل الباب ٧ من ابواب لباس المصلى، الحديث 3.

و في رواية الحلبي كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده(1).

الى غير ذلك من الموارد التي يقف عليها المتتبع.

و الحاصل ان الحل والحرمة في لسان الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) اعم من النفسى والغيرى كما يشهد به ما ذكرنا من الاخبار وحينئذ نقول مقتضى ظاهر الحديث جواز الصلاة في المشكوك فانه شيء لا يعلم ايحل الصلاة فيه ام لا ؟ (2)

هل الأصل في الجزء هو الركنية ؟

وقد قال كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال وللجلود والاصواف قسم تحل فيه الصلاة وقسم لا تحل فيه الصلاة فيحكم في المشكوك بالحل بمقتضى ظاهر الحديث هذا محصل الكلام في المقام وفقنا اللّه واخواننا المؤمنين لمراضيه بحق محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) خير الانام.

الثالث: اذا ثبت جزئية شيء في الجملة وشك في ان نقصه سهواً يوجب بطلان الصلاة ام لا فهل الاصل العقلى يوجب الاعادة او الاكتفاء بالناقص ؟ وجهان: اختار اولهما شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»(3) واحتج على ذلك بما حاصله

ص: 490


1- الوسائل الباب ١٤ من ابواب لباس المصلى، الحديث ٢.
2- قد يقال لازم ذلك جواز التمسك بالخبر في موارد الشك في وجود الشرط او وجود الموضوع، فلو شككنا في ماء انه مطلق او لا نقول انه شيء لا يعلم ايحل الوضوء منه أو لا، ومقتضى الحديث جوازه، وكذا مقتضى حديث الرفع ارتفاع شرطية الاطلاق. وقد يجاب عن الثاني بان مقتضى اجراء حديث الرفع في الشك في وجود الشرط هو الحكم بعدمه، وهو خلاف المنة، بخلاف الشك في وجود المانع. وفيه ان المرفوع في الاول احتياج العمل الى تحصيل جديد للشرط، وهو موافق للمنة. فالاولى ان يقال بمنع شمول الحديث لرفع الآثار الوضعية، واما الخبر الاول فاما ان يقال باختصاصه بموارد دوران الامر بين الحل والحرمة كما في الشك في المانع، لا بين الحل والعدم، فلا يجري في الشك في وجود الشرط، أو يقال باختصاصه بالحل والحرمة التكليفيين، ولا ينافيه الاستعمال في الوضعيين بقرينة، فلا يجري في شيء من المقامين.(م. ع. متظله).
3- الفرائد المسألة الأولى من التنبيه الاول «هنا» ص ٢٨٦.

ان ما كان جزء حال العمد كان جزء حال الغفلة، فلو لم يأت به نسياناً لم يأت بالمركب المامور به والدليل على ما قلنا انه لو كانت جزئية الجزء المغفول عنه مختصة بحال العمد لزم تخصيص الغافل بخطاب خاص، وهو غير معقول، لعدم امكان انبعاث الغافل بالخطاب المتوجه الى عنوانه، لان انبعاثه يتوقف على التفاته الى انه داخل في العنوان الذي تعلق عليه الخطاب، ولا يعقل التفاته الى ذلك، لانه مناف للغفلة، فمتى التفت يخرج عن كونه غافلاً، فينتفى الخطاب المتعلق بهذا العنوان لعدم موضوعه وما لم يلتفت لم يعقل انبعاثه بذلك الخطاب، فالخطاب المتوجه اليه لغو مطلقاً، نعم يمكن ان يسقط الشارع الاعادة عن المكلف الآتى بالناقص، كما نقول به في بعض اجزاء الصلاة بواسطة القاعدة المستفادة من الشرع، لكن الكلام في الاصل العقلى مع قطع النظر عما استفدنا من الشرع، ولا شك في أن الاصل الع_ق_ل_ى ل_زوم الاح_ت_ي_اط وعدم الاكتفاء بالمركب الناقص هذا محصل ما افاده «قدّس سرُّه» في المقام.

و اورد عليه (1)سيدنا الاستاذ نقلاً عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي «قدّس سرُّه» بوجهين:

احدهما انه على تقدير تسليم قبح اختصاص الغافل بخطاب لا يلازم کونه مشاركاً للعامد في الخطاب لجواز ان لا يكون له خطاب اصلاً. حين الغفلة، لا بالتام المغفول عنه ولا بالناقص المأتى به، بل هو كذلك، لانه غير قادر على المغفول عنه وغير قابل للخطاب بالناقص، فتوجه الخطاب اليه لغو، وان اريد

ص: 491


1- وقد يجاب ايضاً بتخصيص الخطاب بالعنوان الملازم للناسي. وفيه انه انما يدفع الاشكال في الاوامر الشخصية دون النوعية، اذ ليس هناك عنوان ملازم مع افراد الناسي دائماً، كما ان توجيه الخطاب بالناقص الى عامة المكلفين وتخصيص الذاكر بخطاب الجزء الزائد لا يدفع الاشكال ايضاً بعد تنويع الخطاب العام بواسطة ورود الخاص بصيرورته خطاباً ضمنياً بالنسبة الى الذاكر، واستقلالياً بالنسبة الى الناسي في اللب وان كان الاستقلال محفوظاً فيهما صورة.(م. ع. متظله).

من الخطاب مجرد الاقتضاء والمصلحة فنسبة الامكان الى الناقص والتام سواء.

فان قلت: بعد الاجماع على ان لكل احد خطاباً كان خطاب الغافل كخطاب الذاكر، لعدم امکان اختصاصه بخطاب، غاية الامر ان الخطاب عام، والمكلف مادام غافلاً لم يتنجز عليه، كالشاك بعد الفحص.

قلت : دعوى الاجماع بالنسبة الى الغافل بالموضوع كما هو محل الكلام ممنوعة نعم، الغفلة عن الحكم لا توجب اختلاف الحكم والا لزم التصويب.

و ملخص الكلام انا نشك بعد ارتفاع العذر ان الغافل صار مكلفاً بغير المركب الناقص الذي أتى به والاصل عدمه وثبوت الاقتضاء بالنسبة الى الجزء الفائت لا دليل عليه، فالاصل البرائة عنه كما هو الشان في كل مورد دار الامر فيه بين الاقل والاكثر. لا يقال : انا نستصحب بقاء الارادة الذاتية التى كانت ثابتة في حال الغفله.

لانا نقول : المعلوم منها - وهي المتعلق بالقدر المشترك بين الاقل والاكثر -مقطوع الامتثال والزايد مشكوك الحدوث، فالاصل البرائة منه.

الوجه الثاني انه يمكن تصور اختصاص الغافل وامثاله بخطاب، مثل ان يخاطب في ضمن مطلق الانسان بالصلاة ويشرح له الاجزاء والشرايط على ما هو عليه من العموم والاختصاص بالذاكر، وحينئذ فان لم يلتفت من اول الامر الى جزء فلا محالة ينوى الاجزاء المطلقة المفصلة في ذهنه بعنوان أنها عين الصلاة وان التفت الى ان من تلك الاجزاء ما يختص بالذاكر ينوى الاتيان بالعبادة بحسب ما يجب عليه على حسب حالته الطارية عليه، فيكون داعيه المرتكز في ذهنه الامر الواقعي الذي تصوره بالعنوان الاجمالي، واعتقاد انه لا يعرض عليه النسيان لا يضر بالنية، كما لا يخفى هذا ما سمعنا منه «طاب ثراه» ونقلنا في هذه الرسالة عباراته في الرسالة التي صنفها في الخلل شكر اللّه سعيه واجزل مثوبته.

ص: 492

هذا حال نقص الجزء الذي ثبت جزئيته في الجملة سهواً.

مقتضى الأدلة في الشك في ركنية أجزاء الصلاة

و لو زاد فمقتضى القاعدة الاولية مع قطع النظر عن ادلة ابطال الزيادة عدم بطلان العمل بها ولو كانت عن عمد لان الزيادة في العمل المأمور به لا يمكن ان تكون مبطلة، الا ان يشترط عدمها، فيرجع الى النقيصة، فالشك في بطلان العمل بالزيادة يرجع الى الشك في اعتبار عدمها أو عدمه، والمرجع البرائة لانه من مصاديق الشك في التقييد.

نعم لو دل دليل على بطلان العمل بها في الجملة فعلى ما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» لابد من القول بالبطلان بها بحسب الاصل العقلى في حال العمد والسهو، لعدم امكان اختصاص الساهي بخطاب خاص على ما نقلناه منه «قدّس سرُّه»، واما على ما ذكرنا فلو لم يكن للادلة الدالة على ابطال الزيادة اطلاق يشمل حال السهو لم تكن في تلك الحالة مضرة بالعمل، لما ذكر من الوجه.

هذا تمام الكلام فيما يقتضيه الاصل العقلي.

فتلخص مما ذكرنا ان مقتضى الاصل العقلى عدم بطلان العمل بنقص الجزء سهواً فيما لم يدل دليل على جزئيته حتى في حال السهو، كما ان مقتضى الاصل عدم البطلان اذا زاد على المركب المامور به مالم يدل دليل على ابطال الزيادة، ولو دل دليل على ذلك ولم يكن له اطلاق يشمل حال السهو فالاصل عدم البطلان بزيادة في حال السهو.

بقي الكلام في الاصل المستفاد من الشرع في خصوص باب الصلاة فنقول : روی محمد بن على بن الحسين باسناده عن زرارة قال: قال ابو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لا تعاد الصلاة الا من خمسة الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود (1).

ص: 493


1- الوسائل، الباب 29 من ابواب القرائة في الصلاة، الحديثه.

والتكلم فيه يقع في مواقع :

احدها : أن الظاهر بمقتضى العموم المستفاد من الخبر عدم التفاوت بين اسباب الخلل وأن وقوعه في غير الخمسة المستثناة لا يوجب الاعادة، سواء كان منشأه السهوعن الحكم اوعن موضوعه اوالنسيان كذلك اوالجهل كذلك، نعم ليس الخلل الواقع عن علم بالحكم والموضوع داخلاً في نفي الاع_ادة، لمنافاة ذلك الجزئية او الشرطية الثابتتين بحسب الفرض، هذا.

و لكن كلمات الاصحاب لا تلائم ما ذكرنا من العموم (1)فلاحظ.

الثاني: الظاهر من الاعادة هو الاتيان ثانياً بعد تمام العمل فلا يعم اللفظ بظاهره الاستيناف في الاثناء، ولكن استعماله في الاعم شايع في الاخبار وفي لسان المتشرعة، مضافاً الى شهادة تعليل عدم الاعادة في الخبربان «القرائة سنة والتشهد سنة ولا تنقض السنة الفريضة» فانه ظاهر في ان تركه سهواً لكونه سنة لا تنقض الفريضة حين حصوله لا انه مراعى باتمام العمل.

الثالث: هل يعم الخبر الزيادة الواقعة في الصلاة عن سهو او يختص مدلوله بالنقيصة وجهان من أن الزيادة ايضاً راجعة الى النقيصة لكون عدمها معتبراً في الصلاة، والا لم يعقل كونها موجبة للبطلان فعلى هذا مقتضى العموم عدم الاعادة بكل نقص حصل في الصلاة، سواء كان بترك ما اعتبر وجوده ام بايجاد ما اعتبر تركه ومن انه ظاهر من حيث الانصراف في الوجوديات، واما العدميات المعتبرة في الصلاة فلا يشملها. و هو الاقوى وعلى هذا ان ثبت عموم يدل على ابطال الزياده مطلقا لم تكن الرواية حاكمة عليه.

و على الاول هل يدل على بطلان العمل بزيادة الركوع والسجود اولا؟

ص: 494


1- قد بين (رحمه اللّه) وجه التوفيق بين مفاد الحديث وكلمات الاصحاب في صلاته في مبحث الخلل.(م. ع. متظله).

يمكن ان يقال: ان زيادتها داخلة في المستثنى منه، فان مدلول الخبر على هذا عدم الاعادة من النقص الحاصل في الصلاة، سواء كان بترك شيء معتبر وجوده ام بايجاد شيء معتبر عدمه الا من نقص الركوع والسجود مثلا، فيكون زیادتهما داخلة في المستثنى منه ويمكن ان يقال: ان الزيادة صفة مضافة الى الجزء كما ان النقيصة ايضاً كذلك فهما اعتباران متواردان عليه، وان كانت الزيادة عدمها معتبراً في الصلاة فهي من جهة الاعتبار الأول تدخل في المستثنى، ويصير حاصل مدلول الخبر على هذا «لا تعاد الصلاة بفوت شيء من الأمور المعتبرة فيها سواء كانت وجودية ام عدمية الا اذا نشأ الخلل الواقع فيها من جهة الركوع والسجود مثلاً والخلل الواقع فيها من جهتهما على قسمين احدهما تركهما في الصلاة والثاني زيادتهما فيها»، هذا.

و لكن الانصاف ان ظهور الرواية فيما قلنا مشكل، والاظهر ما قلنا اولا من عدم شمولها للعدميات المعتبرة في الصلاة.

الرابع: لو شك في ان سبب النقص عمدا وسهو فالتمسك بالعموم مبنى على الاخذ بالعمومات في الشبهة المصداقية، الا ان يقال ان التخصيص هنا عقلى، والمتيقن منه هو المعلوم كونه عن عمد، وهو غير بعيد.

هذا بعض الكلام في الحديث الشريف، وقد عرفت عدم تعرضه للزيادة، فلو فرض ما يدل على ابطال الزيادة مطلقاً لم يكن منافياً له.

ثم لو فرضنا شموله للزيادة كالنقيصة فالنسبة بينه وبين الاخبار الدالة على ابطال الزيادة مطلقاً وان كان عموماً من وجه الا ان الظاهر حكومة هذه القاعدة عليها(1) كما لا يخفى

و كذا الحال فيما اذا دل دليل على بطلان الصلاة بالزيادة في خصوص

ص: 495


1- قد استشكل في حكومة الحديث على دليل الزيادة في مبحث الخلل من الصلاة فليراجع.(م. ع. مدظله).

حال السهو مثل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اذا استيقن انه زاد في المكتوبة استقبل الصلاة» (1) لان الدليل المذكور وان كان مختصاً بحال السهو، لكنه من حيث الزيادة يعم الركوع والسجود وغيرهما، والقاعدة تدل على عدم لزوم الاعادة في غير الركوع والسجود، فمورد التعارض غيرهما، ومقتضى حكومة القاعدة اخراج مورد التعارض عن ذلك الدليل ويتعين مورده في الركوع والسجود فما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»(2) من كون الدليل المذكور اخص من القاعدة لا وجه له فتدبر جيداً.

اذا شك في اعتبار جزء أو قيد مطلقاً، أو في حال القدرة

الأمر الرابع: اذا ثبت جزئية شيء او شرطيته في الجملة فهل يقتضى الاصل جزئيته او شرطيته مطلقاً، بحيث لو تعذرا سقط التكليف، او اختصاص اعتبارهما بحال التمكن فلو تعذرا لم يسقط التكليف بالمقدور؟ وجهان.

و ينبغى تعيين محل الكلام ثم التكلم بما يقتضيه القاعدة فيه.

فنقول: محل الكلام ما اذا لم يكن للدليل الدال على الجزئية او الشرطية اطلاق، اذ لو كان كذلك لا اشكال في سقوط التكليف حال تعذرهما، وكذا لم يكن للدليل الدال على وجوب المركب او المقيد اطلاق يشمل حال العجز عنهما، اذ لو كان كذلك يتمسك بالاطلاق في بقاء التكليف.

ثم انه قد يفرض طرق العجز مع كونه قادراً قبل ذلك، وقد يفرض كونه عاجزاً من اول الامر، كما اذا كان في اول زمن التكليف عاجزا عن اتيان تمام المأمور به.

ثم ان القدرة والعجز تارة يفرضان في واقعة واحدة كما اذا كان في اول الظهر قادراً على اتيان الصلاة مع تمام ماله دخل فيها فصار عاجزاً عن اتيان شيء منه في الوقت، واخرى في واقعتين كما اذا كان قادراً في الايام السابقة

ص: 496


1- الوسائل الباب 19 من ابواب الخلل الحديث والحديث منقول بالمعنى.
2- الفرائد في المسالة الثالثة من التنبيه الاول «هنا»، ص 293 (طب_ع_ة رحمة اللّه).

فطرأ عليه العجز في يومه.

فلو كان عاجزاً من اول الامر لم تجر في حقه الا قاعدة البراءة(1) اذ قاعدتا

ص: 497


1- لا يخفى ان جريان البرائة العقلية في المقام مبنى على احتمال كون القدرة شرعية بمعنى كون العاجز عن التام خارجاً عن التكليف وعن مصلحته رأساً، وهو خلاف الظاهر في عامة التكاليف، فليس القدرة والعجز كالحضر والسفر بمنوعين للتكليف، وعلى هذا فالعلم حاصل بثبوت الارادة الذاتية للمولى في حق العاجز، اما منفكاً عن الفعلية لو كانت متعلقة بالتام، واما مقرونة بها لو كانت متعلقة بالناقص والحكم في مثله الاشتغال عقلاً كما في مورد الشك في القدرة. فان قلت: فرق بين صورة الشك في القدرة على فعل نعلم بكونه متعلق_اً للارادة الذاتية وبين المقام الذي تردد امر الارادة الذاتية بين التعلق بالمقدور او التام المعجوز عنه، اذ في الثاني نعلم بانفكاكها عن الفعلية لو كانت متعلقة بالتام واما احتمال تعلقها بالناقص المقدور فمدفوع باستصحاب عدم تعلق الارادة الفعلية به. قلت: الفعلية ليست امراً وراء حكم العقل بلزوم الامتثال، وقد تقرر في محله عدم قبوله للتصرف الشرعي، والقابل انما هو ذات الارادة دون وصفها واستصحاب عدمها في طرف الناقص معارض باستصحاب عدمها في التام، ولا يتوهم عدم الاثر للثاني، وذلك لترتب سقوط القضاء عليه وان قلنا بان القضاء معلق على الفوت، اذ كما يكفي في صدق الفوت مطلق الوجوب ولو ظاهرياً كذلك يكفى في صدق عدمه عدم الوجوب كذلك، نعم ما ذكرنا لايتم في صورة العجز الطارئ، فان استصحاب عدم الارادة في طرف الناقص غير معارض بالمثل في طرف التام اذ الجاري فيه استصحاب الثبوت الذي يترتب عليه القضاء، نعم يمكن ان يقال هناك بلزوم الاتيان بالناقص مع لزوم القضاء عليه بعد التمكن، اما لزوم القضاء فللاستصحاب المذكور واما لزوم الناقص فلقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حديث الرفع: «رفع ما لا يطيقون» بناء على شموله للعجز العقلي، اذ يستفاد من رفع ما لا يطاق وضع غيره، كما استفاد الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية عبد الاعلى من رفع المباشرة بقاء اصل المسح. لا يقال : فعلى هذا لابد في صورة العجز عن المسح على راسه من القول بلزوم المسح على رأس غيره وهو مما لا يمكن التفوه به. لانا نقول : فرق بين ايجاب الشيء مستقلاً و ايجاب قيده بانشاء آخر وبين ايجابها بانشاء واحد، ففي الصورة الاولى اذا حصل العجز عن القيد نقول بان المتفاهم عرفاً من حديث الرفع بقاء وجوب اصل الشيء، وفي الصورة الثانية لا يتفاهم ذلك عرفاً، وهو الوجه في عدم التفاهم فيما ذكرته من المثال اذ لم يتعلق الامر اوّلا بمسح الراس ثم بانشاء آخر بكونه رأس نفسه.(م. ع. متظله).

الاستصحاب والميسور اللتان يتمسك بهما في المسألة الآتية لا تجريان في حقه، ضرورة توقفهما على الثبوت في الزمان السابق، اللّهم الا ان يكتفى في تحقق قاعدة الميسور بتحقق مقتضى الثبوت.

الاستدلال لاختصاصه بحال القدرة

و لو كان العجز طارياً عليه في واقعة واحدة فالحق وجوب الاتيان بالمقدور عقلا، لانه يعلم بتوجه التكليف اليه (1) فان لم يأت بالمقدور لزم المخالفة القطعية. فالمقصود بالبحث هنا صورة طرو العجز في واقعة اخرى ولم يكن للدليل الدال على المركب او المقيد اطلاق وكذلك لم يكن للدليل الدال على الجزئية او القيدية اطلاق. اذا عرفت هذا فنقول : لا اشكال في ان مقتضى الاصل الاولى البرائة(2) للشك في ثبوت اصل التكليف، لكن هنا امور تقدم على قاعدة البرائة:

منها استصحاب بقاء التكليف على المقدور، إما من جهة المسامحة في المستصحب بمعنى ان التكليف المتعلق بالمقدور في الزمن السابق وان كان

ص: 498


1- فهذا نظير ما لو علم في اثناء اليوم مثلاً بتوجه الامر باكرام زيد من اول الصبح توصلياً ولكنه يحتمل صدور الاكرام منه فيما مضى من اليوم مع غفلته عن الامر، فهو في حالته الفعلية غير عالم بالتكليف الفعلي، لكنه غير مستريح عقلاً، فليس المعيار في الاشتغال العلم بالتكليف مع تحقق شرائط الفعلية في زمان واحد بل يكفى العلم به في زمان مع : تحقق الشرائط في الزمان المتأخر عن المعلوم المقارن مع العلم.(م. ع. متظله).
2- مقتضى ما قدمناه في العجز الابتدائي كون الاصل الاولى هنا ايضاً الاشتغال لا البرائة، فقد تلخص من جميع ما ذكرنا في المواقع الثلاثة ان حكم العقل في جميعها هو الاشتغال، غاية الامر ان له في صورة العجز الطارئ في واقعة واحدة تقريبين، على سبيل منع الخلو، وفي الصورتين الاخريين تقريباً واحداً.(م. ع. مدظله).

غيرياً وقد انتفى قطعاً، وهذا التكليف المشكوك نفسي على تقدير ثبوته، لكن العرف لا يرى الغيرية والنفسية معددة للتكليف واما من جهة المسامحة في الموضوع ؛ بان يقال: ان المستصحب هو التكليف النفسي، والمركب التام والناقص بجزء واحد وكذا المقيد والفاقد للقيد ليسا بموضوعين عند العرف، بل هما شيء واحد، وهذا الاختلاف نظير الاختلاف في حالات موضوع واحد، نظير استصحاب الكرية مع ان موضوع الكرية لم يكن هذا الماء الموجود عقلاً.

و كل منهما صحيح(1) ولكن الثمرة بينهما انه على الاول يجرى الاستصحاب في المقدار المقدور، سواء كان قليلا ام كثيراً، وبعبارة اخرى سواء كان المعجوز عنه بالنسبة الى المقدور قليلاً بحيث يفرض كالمعدوم ام لا، وعلى الثاني لا يجرى

ص: 499


1- بل الحق عدم صحة شيء منهما، اما الاول فلانا اذا راجعنا وجداننا فيما اذا تبدل حالة طلبنا لشراء السلّم مثلاً لنفسه الى حالة طلبه مقدمة للغير لا نرى ان العرف يحكمون ببقاء شخص الحالة الاولية في النفس وانما المتبدل وصف من اوصافها، بل نراهم يعدونه من التبدل الفردي، كما في صورة تبدل موضوع الحب بموضوع آخر، واما الثاني فلان تبدل بعض الاوصاف العارضية في الموضوع الشخصي وان كان غير موجب لتبدل الموضوع بنظر العرف لكن اذا اخذ عين ذلك التبدل في المفهوم الكلي فلا اشكال انهم يرونه موجباً لتعدد المفهوم، مثلاً الموضوع الشخصي اذا تبدل بياضه الى السواد لا يرونه من تعدد الموضوع قطعاً، ومع ذلك و مفهوم الابيض مع مفهوم الاسود مفهومان متقابلان، ولا شك ان موضوع الامر هو المفهوم الكلي قبل تشخصه بالوجود الخارجي، فكيف يكون مفهوم الواجد مع مفهوم الفاقد او مفهوم التام مع مفهوم الناقص واحداً. و هنا تقريب آخر للاستصحاب، وهو استصحاب جامع الطلب بوصف الفعلية في جامع الموضوع، بناء على جريان استصحاب القسم الثالث من استصحاب الكلي، كما هو الحق لكن فيه انه معارض باستصحاب عدم الفرد المحتمل الحدوث. و انت خبير بان هذه التقريبات الثلاثة باسرها جارية في قاعدة الميسور مع اجوبتها، غير ما ذكر اخيراً جواباً عن استصحاب الجامع، فانه غير وارد هناك، والوجه ان القاعدة دليل اجتهادي فلا يعارض بالاستصحاب.(م. ع. متظله).

الا اذا كان المقدور بمقدار يصح اطلاق اسم التام عليه بالمسامحة العرفية.

و ايضاً الاستصحاب على الوجه الاول يختص بصورة فقدان الجزء ولا يجرى في صورة فقدان القيد، لان المطلق لا يكون مكلفاً به بالتكليف الغيرى في ضمن المقيد، لعدم كونه مقدمة له، بخلاف الاجزاء بالنسبة الى الكل، فالاستصحاب في صورة فقدان القيد مختص بالوجه الثاني.

و لكن لا يخفى انه ليس كل قيد بحيث يكون فقدانه غير قادح في جريان الاستصحاب، بل القيود مختلفة في ذلك، فرب قيد لا يكون عدمه.، مغيراً للموضوع في نظر العرف كالطهارة بالنسبة الى الصلاة، فانها مع الطهارة ليست امراً مباينا لها مع عدمها، بخلاف الايمان بالنسبة الى الرقبة، فان الرقبة المؤمنة والرقبة الغير المؤمنة متباينان بنظر العرف ومجرى الاستصحاب في صورة العجز عن القيد هو القسم الاول كما لا يخفى.

و منها النبوى الذي في غوالى اللئالي: «اذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم». (1)

الاستدلال بقاعدة الميسور

و منها العلوى الميسور لا يسقط بالمعسور (2)، وما لا يدرك كله لا يترك کله (3)وضعف اسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين العلماء في الكتب الفقهية.

تقريب الدلالة في النبوى ان كلمة من ظاهرة في التبعيض لا التبيين لان كونها بيانية فيما اذا كان لسابقها اجمال يرتفع بسبب متعلقها، كما في قولك خاتم من فضة وكونها بمعنى الباء خلاف الظاهر مطلقاً، وحينئذ كلمة ما موصولة، لا مصدرية زمانية، فيصير المعنى: «اذا أمرتكم بمجموع مركب من اجزاء ولم تقدروا على اتيان الكل فأتوا بالبعض الذي استطعتم» هذا.

و لكن هذا المعنى وان كان ظاهراً من الرواية الا انه مستلزم لتخصيص

ص: 500


1- غوالي اللئالى : ج ٤، ص ٥٨ مع اختلاف يسير.
2- غوالى اللئالى : ج ٤، ص ٥٨.
3- غوالى اللئالى : ج ٤، ص ٥٨.

كثير، بل الخارج منها اكثر من الباقي بمراتب، فحملها على هذا المعنى المستلزم لهذا التخصيص المستبشع لا يجوز، فيدور الامر بين استكشاف تقييد متصل بالكلام مجهول عندنا فلا يجوز التمسك بها في الموارد الا بعد احراز كونها من مصاديق العنوان المذكور في الدليل من الخارج وبين حملها على معنى آخر، وان كان خلافاً لظاهرها ابتداء، وعلى أي حال لا يجوز التمسك بها لما نحن بصدده.

و الانصاف انه بعد ملاحظة خروج الاكثر لو حملناه على ظاهرها فالاقرب جعل كلمة من فيها زائدة او بمعنى الباء، وكلمة ما مصدرية زمانية، فيكون مفادها تخصيص اوامر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بزمان الاستطاعة ويصير موافقاً لادلة نفي الحرج في الدين(1)، هذا.

و اما تقريب الدلالة في العلوى الاول فهو ان يقال: ان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «لا يسقط» انما هو في مقام توهم السقوط، وهو وان كان فرع الثبوت الا انه يكفى في صدق الثبوت وعدم السقوط ثبوت التكليف الغيري المتعلق بالميسور سابقاً، لما ذكرنا في تصحيح الاستصحاب من اتحاد التكليف الغيري والنفسي عرفاً، او يقال: ان التكليف النفسي كان ثابتاً في الموضوع الميسور، لمسامحة العرف في الموضوع، كما مضى في الاستصحاب ايضاً، والثمرة بينهما كالثمرة المذكورة في الاستصحاب بالطريقين هذا.

و لكن الاشكال الوارد في الرواية السابقة من لزوم خروج الأكثر جار هنا ايضاً، فلابد من حمله على ما لا يستلزم ذلك، والاولى حمله على الارشاد والموعظة لمن اراد اتيان شيء بالوجه الاكمل او الانتهاء الى اقصى درجات الكمال فلم يتمكن، فان النفس قد تنصرف عن الاقدام على الميسور ايضاً وان كان حسناً كما هو المشاهد المعلوم.

ص: 501


1- ويعين هذا المعنى عدم مناسبة المعنى الأول لمورد الرواية، فانه ورد جواباً عن سؤال تكرار الحج في كل عام فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) هذا الكلام في مقام نفي التكرار (م. ع. مدظله).

و من هنا يظهر الكلام في العلوى الثاني ايضأ (1).

ص: 502


1- توضيحه ان لفظة الكل الواقع في الصدر والذيل اما محمول على العموم الاستغراقي او على المجموعي، وعلى الأول اما يلحظ الاستغراق بالنسبة الى الافراد او بالنسبة الى الاجزاء وفي كل من تقديري الاستغراق اما يلحظ سلب العموم واما يلحظ عموم السلب، هذا بحسب مقام الثبوت، واما بحسب مقام الاثبات فالصحيح منها احتمالان؛ الاول ملاحظة الكل في الصدر مجموع_ي_اً وفي الذيل استغراقياً بملاحظة الاجزاء مع اعتبار سلب العموم، فعلى هذا الاحتمال يناسب المقام، والثاني كون الكل في الصدر استغراقياً مع ملاحظة سلب العموم وكونه في الذيل ايضاً بهذا المعنى، وعلى هذا يصير اجنبياً عن المقام، وبقية الاحتمالات يختل المعنى معها، كما لا يخفى على المتأمل.(م. ع. مدظله).

في أصالة التخيير

فيما اذا علم جنس التكليف ولم يتمكن من الاحتياط، سواء كان عالماً بالنوع، كما اذا علم بوجوب الظهر أو الجمعة ولم يقدر على الجمع بينهما، أو لم يكن كذلك، كما اذا علم باصل الالزام ولم يعلم تعلقه بفعل شيء مخصوص اوتركه.

و مجمل الكلام في المقام أنه تارة تفرض هذه الحالة في واقعة واحدة، واخرى في وقايع متعددة، والاول لا يفرض غالباً الا في الشبهات الموضوعية، كمن علم بوجوب وطى احدى امرئتيه بالنذر في زمان خاص غير قابل للجمع، او علم بوجوب وطى امرئة خاصة او حرمته من جهة العلم بانه إما حلف على الوطى او على تركه، والثاني يفرض في الشبهات الحكمية ايضاً، كمن علم بوجوب الجمعة دائماً او حرمته كذلك مثلاً.

اما الفرض الاول فلا يمكن في حقه مخالفة قطعية ولا موافقة قطعية، ان كان التكليف توصليا، والموافقة الاحتمالية والمخالفة كذلك حاصلتان قهراً، وحيث لا معين لاختيار خصوص الفعل او الترك في مقام العمل يحكم العقل بالتخيير.

و اما الفرض الثاني فالموافقة القطعية لما لم تكن متصورة فيه فلا اثر للعلم الاجمالي فيها، واما المخالفة القطعية فلا وجه لاهمال العلم بالنسبة اليها.

لا يقال : الوقائع المتأخرة لما لم يكن التكليف بالنسبة اليها الا مشروطاً بتحقق الزمان لا ربط لها بالمكلف، فالتكليف الثابت المتعلق عليه منحصر فيما تعلق بالواقعة الشخصية الفعلية، ولا اشكال في أن المخالفة القطعية غير ممكنة

ص: 503

فيها كالموافقة القطعية.

لانا نقول : التكاليف المشروطة بشرط متحقق الحصول فيما بعد حالها حال التكاليف المطلقة في وجوب مقدماتها الوجودية والعلمية، وقد مضى الكلام في ذلك في مبحث مقدمة الواجب مستوفى(1)ومن اراد فليراجع. و الحاصل ان العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين ما اذا كان التكليف مطلقاً او مشروطاً بشرط يعلم حصوله.

خاتمة في شرائط جريان أصل البراءة

و من هنا يعلم حال الواقعة الواحدة اذا كان احد طرفي المعلوم بالاجمال او كلاهما تعبدياً(2)

ص: 504


1- عند البحث عن الواجب المعلق: ج1، ص108-111.
2- هذا الكلام مبني على تمشي المخالفة القطعية في هذا الفرض باخلال قصد القربة في الطرف الذي فرض كون التكليف على تقدير ثبوته فيه تعبدياً، ويمكن ان يقال اذا دار امر الفعل بين محبوبية المولى ومبغوضيته وكان كل من الاحتمالين والمحتملين مساوياً مع الآخر فلا يتمشى هنا قصد الرجاء المصحح للعبادية، ويكون حاله كالفعل المقطوع اباحته، وعلى هذا فيصير حال الفرض كالتوصليين بلا فرق. يعتبر في اجراء البرائة عقلية كانت او نقلية الفحص عن الدليل في مظانه بالمقدار المتعارف واليأس عنه، والدليل عليه اما في العقلية فلعدم احراز الموضوع وهو عدم البيان بدونه، اذ يكفى في رفع القبح وجود البيان بحيث لو تفحص عنه بالمقدار المتعارف لظفر به، كما هو واضح بمراجعة الوجدان، فما قبل الفحص يكون من الشبهة المصداقية، واما في النقلية فلدعوى انصراف ادلتها عما قبل الفحص، بمعنى ان لفظة لا يدري ونحوها منصرفة عن المتمكن من الفحص بسهولة وان كان لا يصدق عليه عنوان العالم ايضاً، لكن يكفى عدم صدق عنوان غير العالم في اندراجه تحت قاعدة الاشتغال بعد عدم اناطتها بعنوان العالم، لما عرفت من كفاية وجود البيان بحيث لو فحص عنه لظفر به هذا حاصل الكلام في اصل لزوم الفحص. و اما الكلام في تبعة تركه، فاعلم ان الاستحقاق منوط بصدور المخالفة مع وجود البيان بالكيفية المذكورة، فلو فرض صدورها مع عدم البيان المذكور فلا استحقاق، وان كان يظهر خلافه من كلمات شيخنا المرتضى «رحمه اللّه» ومجرد احتماله صحة العقاب على تقدير لا يصحح عقابه على تقدير آخر يستقل العقل بالقبح على ذلك التقدير. اذا عرفت ذلك فنقول : تارة يفرض التكليف مطلقاً غير مشروط بشيء ومتوجهاً الى ذات المكلف غير معلق على عنوان فلا اشكال حينئذٍ في استحقاق العقاب على التقدير الذي ذكرنا. و اخرى يفرض مشروطاً بشيء مع توجهه الى ذات المكلف فحينئذ قد يستشكل في استحقاقه العقاب لو أذى ترك التعلم قبل حصول الشرط الى صدور المخالفة منه بعد حصوله بلا اختيار، لعدم وجوب مقدمة الواجب المشروط قبل حصول شرطه، فكيف يحسن العقاب في الفرض المذكور، ومن هنا التجأ بعضهم الى جعل الخطاب من قسم الوجوب المعلق لا المشروط، وبعض آخر الى جعل التعلم واجباً نفسياً تهيئياً، والحق ثبوت الاستحقاق في هذا القسم كالفرض الاول، بلاحاجة الى شيء من الوجهين لما تقرر في محله من ان الوجوب المشروط بعد العلم بحصول شرطه كالمطلق في وجوب المقدمات الوجودية والعلمية. و ثالثة يفرض كونه متوجهاً الى المكلف مع ملاحظة كونه معنوناً بعنوان من العناوين، كعامة التكاليف المتوجهة الى عنوان البالغ والحق في هذا القسم عدم الاستحقاق لو فرض ترك التعلم قبل حصول العنوان وتعذره بعده، وذلك لان المستظهر من امثال هذه الخطابات كون القدرة الخاصة اعني الحاصلة في زمان تحقق العنوان شرطاً شرعياً، كنفس العنوان، فكما لا يضر المنع عن حصول العنوان اختياراً فكذلك لا يضر المنع عن تحقق القدرة في زمن حصول العنوان. واما الكلام في الاحكام فلا اشكال في لزوم الاعادة في الوقت والقضاء خارجه على الجاهل العامل بالبرائة قبل الفحص الا في مسألتي الاتمام في موضع القصر والاجهار او الاخفات في موضع الآخر، فان الظاهر اتفاقهم على الصحة فيهما مع استحقاق العقاب في الجاهل المقصر، ووجهه بعضهم بانه من باب الضدين المامور بهما على وجه الترتب، واشكل آخر بمنع صحة الترتب، وانت خبير بان ذلك انما يتم في مسألة الاتمام في موضع القصر، اذ كل منهما مقيد بقيد يضاة الآخر، واما المسألة الاخرى فليست من الباب المذكور، بل هي من باب المطلق والمقيد وصحة الامرين فيه غير مبتنية على صحة الترتب كما هو واضح. ثم انه ذكر لاصل البرائة شرطان آخران: احدهما ان لا يكون مثبتاً لحكم آخر، والثاني ان لا يكون موجباً للضرر. اما الاول فالظاهر عدم ارادته حقيقة الاشتراط بحيث يدور مداره الحكم بالبرائة وجوداً وعدماً، وذلك لاستقلال العقل بالقبح في صورة الفحص وعدم الظفر من دون اشتراطه بشيء، بل المراد ان عدم التكليف في مورد لو كان ملازماً او موضوعاً لثبوت حكم في مورد آخر فلا يكون اجراء البرائة في الاول مثبتاً لذلك في الثاني، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه، وان كان باطلاقه ممنوعاً، اذ لو كان ذلك الحكم الآخر ملازماً أو أثراً لعدم ف_ع_ل_ي_ة التكليف الأول في مورده كصحة الصلاة الملازمة لعدم فعلية التكليف بالازالة فلا اشكال في صحة اثباته باصل البراثة، عقلية كانت ام نقلية، نعم لو كان من آثار اباحة المورد الاول او عدم التكليف فيه واقعاً، او ملازماً كذلك، فلا يمكن اثباته باصل البرائة العقلية، وكذا بالنقلية لو قلنا بان مفادها حتى مثل قوله : «كل شيء حلال الخ» تقرير البرائة العقلية، واما لو قلنا بان مفادها جعل الاباحة ظاهراً أو نفي التكليف كذلك فقد يقال ايضاً بعدم امكان اثبات ذلك الحكم المترتب على الاباحة، الا اذا كان الموضوع الاعم من الاباحة الواقعية والظاهرية، فلو فرض ان جواز الصلاة من آثار الحلية الذاتية للحيوان، لا الاعم منها ومن الثابتة بالعنوان الطارئ كالاضطرار والشك، فاصالة الحل في لحم الحيوان المشكوك لا تصحح الصلاة في وبره. وفيه انه انما يتم في الحلية الثابتة بالاضطرار دون الثابتة بقاعدة الحل، حيث ان مفادها تنزيل الحل الظاهري بمنزلة الواقعي، ولازمه توسيع موضوع الحكم، فاللازم المعاملة معها معاملة الحلية الواقعية. و اما الشرط الثاني فليس بشرط حقيقة لانتفاء الموضوع بوجود مثل قاعدة لا ضرر التي لها الحكومة على الادلة الاجتهادية، فضلاً عن الاصل العملي، ولا بأس بصرف عنان الكلام الى بيان مقدار دلالة القاعدة، ونسبتها مع سائر الادلة وحينئذ فنقول : الظاهر انه ليس المراد نفي الحقيقة ادعاء بلحاظ نفي الآثار، اذ نفي آثار نفس الضرر غير مقصود، ونفي آثار المعنون خلاف الظاهر بملاحظة نظائره، ولا نفيها حقيقة، بملاحظة اسنادها الى الشارع، اذ لا شاهد في العبارة على تلك الملاحظة، وكلمة «في الاسلام» مثلها في قولنا : اول مولود ولد في الاسلام بل المراد نفيها ادعاء بملاحظة نفي علة وجودها، كما في «لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»، بمعنى سد ابواب تلك الامور شرعاً، وكذا سد ابواب الضرر، سواء كان حكم الشرع ام اضرار بعض الناس بعضا، بعدم جعل الأول، وتحريم الثاني وايجاب التدارك على فرض العصيان. و اما النسبة بينها وبين سائر الادلة فالظاهر انها الحكومة لا بمعنى شرحها بمعادها اللفظي لمفادها، بل بمعنى كون مفاد تلك حكما على الموضوع ومفاد هذه حكماً على الحكم، لما عرفت من اشتمالها على نفي الحكم الضرري، وكلّما تحقق ذلك بين دليلين فالمقدم هو الثاني، لانه بمفاده يفيد خلاف ما افاده الاصل العقلائي في الآخر، حيث انه يدل على ثبوت الارادة اللبية الاستعمالية، وهذا يدل على الانفكاك، وليس وجه التقديم كون مفاد الادلة حكماً حيثياً ومفاد هذه فعلياً، بعد ثبوت اطلاق الادلة المورد الضرر، فكيف يحكم بكونها حيثياً. و لو فرض تعارض فردين من الضرر أو الضرر والحرج، فالظاهر انه من باب التزاحم لاحراز الملاك في الطرفين وعلى هذا فلابد من ملاحظة مراتب الضرر قلة وكثرة وترجيح جانب الاقل، فلو كان ضرر صاحب الدار على تقدير ترك حفر البئر اقل من ضرر الجار على تقدير الحفر فلابد من منعه عنه، ولو كان العكس يحكم بالجواز مع ضمانه لضرر الجار، ولكن لا يساعد مع ما ذكرنا كلمات الاصحاب حيث صرحوا بتقديم جانب صاحب الدار، من دون ملاحظة مراتب الضرر ولا الحكم بالضمان فان كان نظرهم الى تساقط الضررين بعد التعارض ثم الرجوع الى قاعدة السلطنة، ففيه اولا انه ليس من باب التعارض بل من باب التزاحم كما عرفت، وثانياً انه لا يصح الرجوع الى قاعدة السلطنة، بعد عدم كونها مشرعة كما قرر في محله. بقي الكلام فيما تعرضوا له في المقام من عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير، ومن عدم جواز اضرار الغير لدفعه عن النفس. اما الاول فيمكن دعوى عدم استفادة وجوب صرف الضرر عن الغير من القاعدة مطلقاً. ولو لم يكن بتوجيهه الى النفس. و اما الثاني فيمكن ان يكون وجهه ان تجويز الشارع لاضزار الغير يكون بنفسه عدم المانع من علة ضرر الغير وتحريمه له يكون علة لعدم المانع من ضرر النفس، وارتكاب علة عدم المانع من المبغوض اهون من ارتكاب نفس عدم المانع.(م. ع. متظله).

ص: 505

ص: 506

ص: 507

هذا حال الاصول الثلاثة اعنى البرائة والاحتياط والتخيير، وقد تم فيها الكلام بعون اللّه الملك العلام ونتبعها الكلام في الاستصحاب مستعيناً باللّه العزيز الوهاب.

ص: 508

المسألة الرابعة في الاستصحاب

في تعريف الاستصحاب

و قد عرف بتعاريف غير خالية عن المناقشة، وامتنها تعريفه بابقاء ما كان لان المراد بالابقاء بشهادة المقام هو الابقاء العملى، لا الحقيقي.

و ذكر ما كان مع كونه مأخوذاً في مفهوم الابقاء يدل على مدخلية الكون السابق في الابقاء العملى، فيخرج ما اذا كان الابقاء للعلم بالبقاء او لدليل خارجي عليه.

و ايضاً يعلم اعتبار الشك واليقين من هذه العبارة لانه لو كان للكون السابق دخل في الابقاء فلابد من احرازه، وكذا لو لم يكن شاكاً في البقاء لم يكن ابقائه مستنداً الى الكون السابق، فلا يرد عليه الاشكال باخلال اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب.

هل مبحث الاستصحاب مسألة أصوليّة؟

و ايضاً الاستصحاب على ما يظهر من مشتقاته هو فعل المكلف لا حكم الشارع بناء على اعتباره من باب الاخبار ولا حكم العقل، او بناء العقلاء، بناء على عدم اخذه من الاخبار، فلا يرد على التعريف المذكور ما اورده شيخنا الاستاذ : «من ان الاستصحاب يختلف باختلاف جهة اعتباره»(1)اذ هو كما عرفت عبارة عن البناء على الحالة السابقة بحسب العمل، غاية الامر أن وجه هذا البناء يختلف باختلاف الآراء، فعند بعض حصول الظن النوعي او الشخصي من الكون السابق وعدم ما يدل على ارتفاعه، وعند آخر الاخبار

ص: 509


1- التعليقة، ص ١٦٢.

الدالة على وجوب البناء على الحالة السابقة، وهكذا، ولا يوجب هذا الاختلاف تفاوتاً في حقيقة الاستصحاب كما لا يخفى.

ثم اعلم ان الاستصحاب ان اخذ من باب الظن فتارة يبحث عن وجود هذا الظن، واخرى عن حجيته، لا اشكال في ان النزاع الثاني نزاع في المسألة الاصولية، كالنزاع في حجية خبر الواحد وامثال ذلك، بناء على عدم اخذ عنوان الدليلية في موضوع علم الاصول واما الاول فادخاله في المسألة الاصولية مبنى على جعل محل الكلام ثبوت الملازمة بين الكون السابق والبقاء، لان موضوع البحث حينئذ هو حكم العقل وهو ادراكه الملازمة ظنا، وان احتيج بعد الفراغ عن هذا الحكم العقلى الى حكم شرعي يدل على حجية هذا الظن، فموضوع البحث ذات الدليل العقلي وان لم يفرغ عن دليليته.

و اما اذا اخذناه من الاخبار فادراجه في المسائل الاصولية مع الالتزام يكون موضوع علم الاصول هو الادلة الاربعة، لاغير مشكل، بل غير ممكن، لان المبحوث فيه ليس الا ثبوت حكم الشارع بوجوب المضى على ما كان، ومن الواضح عدم كون حكم الشارع الذي هو محل البحث في المقام من الادلة الاربعة، بل هو مدلول الاخبار بعد احراز حجيتها وحجية ظواهرها، وتميز ظاهرها عن غيرة وغير ذلك مما جعل لكل واحد بحث مستقل، والحاصل انه ليس النزاع في حكم الشارع في المقام الا مثل النزاع في حكم الشارع بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وامثاله من المسائل الفقهية. فما افاده المحقق القمي «قدّس سرُّه» في القوانين من أن الاستصحاب ان اخذ من العقل كان داخلاً في الدليل العقلي، وان اخذ من الاخبار فيدخل في السنة، صحيح في الشق الاول، ولكنه محل نظر في الشق الثاني.

و يظهر من كلام شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» هنا (1) دخوله في المسائل

ص: 510


1- الفرائد، ص 320.

الاصولية، من جهة ان اجرائه في موارده مختص بالمجتهد وليس وظيفة للمقلد ومراده «قدّس سرُّه» انه بعد الاستظهار من ادلة الباب هذا الحكم من الشارع لا ينفع الا للمجتهد، اذ مجراه تيقن الحكم في السابق وعدم طريق في اللاحق يدل على ارتفاعه، ومن الواضح ان تشخيص المورد المذكور ليس شأن المقلد وهذا ميزان المسائل الاصولية بخلاف ما اذا استظهر من الادلة نجاسة الغسالة مثلاً، فان هذا الحكم بعد استظهاره من الادلة ينفع للمقلد، وهو ميزان المسائل الفقهية، وعلى هذا يدخل مسألة الاستصحاب _ ولو على تقدير اخذه من الاخبار في المسائل الاصولية، ولا يخفى ان هذا الكلام يدل على عدم التزامه يكون موضوع علم الاصول خصوص الادلة.

و لكن يرد على ما افاده «قدّس سرُّه» ان لازم ما ذكره كون بعض المسائل الفقهية داخلاً في المسائل الاصولية، من قبيل قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وعكس هذه القاعدة، لوضوح ان تشخيص مجاريهما لا يكون وظيفة للعامي، بل ينتقض بكل حكم شرعى متعلق بالموضوعات التي لا يكون تشخيص مصاديقها الا وظيفة للمجتهد من قبيل الصلاة والغنا والوطن وامثال ذلك مما لا يحصى، فتأمل.

اعتبار فعلية الشك و اليقين ومافرع عليه

و اوثق كلام في المقام ان يقال كل قاعدة اسست لملاحظة لاحكام الواقعية الاولية،- سواء كانت من الطرق اليها او من الاحكام المتعلقة بالشك من دون ملاحظة الكشف عن الواقع- تسمى قاعدة اصولية، وسواء كانت منجزة للاحكام الواقعية او مسقطة لها، فيخرج ما ذكر في مقام النقض عن تحت القاعدة المذكورة، فان الاحكام المذكورة ليست مجعولة بملاحظة حكم آخر، بل هي احکام مجعولة المتعلقاتها من جهة اقتضاء كان ثابتاً فيها ويدخل مسألة الاستصحاب ونظائرها في المسائل الاصولية ل_دخ_وله_ا تحت القاعدة المذكورة.

ثم ان المعتبر في اليقين والشك الماخوذين في موضوع الاستصحاب تحققها

ص: 511

فعلاً، ولا يكفى وجودهما الشأنى، بمعنى كون المكلف بحيث لو التفت لكان متيقناً للحدوث وشاكاً في البقاء، أما بناء على اخذه من الاخبار فواضح، لان المعتبر فيها وجودهما الظاهر في الفعلية، وأما بناء على اخذه من باب الطريقية فلان طريقية الكون السابق للبقاء انما هي في صورة الالتفات، واما في حال الغفلة فلا يكون مفيداً للظن النوعى حتى يكون طريقاً، والظاهر إن هذا لا اشكال فيه.

اذا عرفت هذا فنقول : قد فرع شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» على ذلك مسئلتين :

احداهما ان المتيقن للحدث اذا التفت الى حاله في اللاحق فشك جرى الاستصحاب في حقه، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته، لسبق الامر بالطهارة، ولا يجرى في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل، لان مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل.

الثانية لو غفل المتيقن للحدث عن حاله وصلى ثم التفت وشك في كونه محدثاً حال الصلاة او متطهراً جرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ، لحدوث الشك بعد العمل وعدم وجوده قبله حتى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول في الصلاة بدونها.

ثم قال «قدّس سرُّه» نعم هذا الشك اللاحق ي_وج_ب الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ عل_ي_ه انتهى کلامه (قدّس سرُّه)(1).

اقول و للنظر فيها افاده «قدّس سرُّه» مجال لان المصلى في الفرض الاول كالثاني ليس محكوماً بحكم الاستصحاب، لان المفروض انه غفل في حال صلاته عن الحالة السابقة ولم يكن شاكاً في تلك الحالة، فكيف يمكن ان يحكم

ص: 512


1- الفرائد ذيل الامر الخامس، ص 321- 322.

عليه في تلك الحالة بعدم جواز نقض اليقين بالشك، نعم، كان محكوماً بهذا الحكم قبل الصلاة في حال التفاته، ولكنه رفع بواسطة رفع موضوعه، واما بعد الصلاة فإن قلنا بان الشك الحاصل له هنا من افراد الشكوك الحادثة بعد الفراغ عن العمل لان الشك الموجود قبل العمل قد انتفى وهذا الشك الموجود بعده شك آخر حدث بعد الفراغ، يجرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ، على احتمال يأتى في المسألة الثانية، وإن قلنا بانه هو الشك الموجود قبل العمل عرفاً، فليس من افراد الشكوك التي تجرى فيها القاعدة المذكورة، فاللازم الاخذ باستصحاب الحدث، والحكم ببطلان الصلاة، بملاحظة هذا الشك الموجود بعد الفراغ، بالتقريب الذي يأتي بيانه في المسألة الثانية.

و اما المسألة الثانية فالاخذ بقاعدة الشك بعد الفراغ فيها مبنى على كونها من الاصول العملية واما على كونها من الطرق من جهة ملاحظة التعليل الوارد في بعض الاخبار من انه حين العمل اذكر فلا تكون مشمولة لها، للعلم بانه حين العمل ليس اذكر منه بعده، فحينئذٍ ان قلنا بالاول يؤخذ بالقاعدة، وتقدم على الاستصحاب لا من جهة الحكومة، بل من جهة انه لولاه لزم كون القاعدة لغوا، لورودها مورد الاستصحاب غالباً، اما موافقة له او مخالفة، وان قلنا بالثاني فتقديمها عليه في موارد جريانها من جهة الحكومة، نظير تقديم ساير الادلة والامارات عليه، ولكن الدليل غير شامل للشك المفروض، لعدم صدق التعليل المقتضى للطريقية.

و من هنا يعلم ما في ما افاده «قدّس سرّه» من ان هذا الشك اللاحق يوجب الاعادة بحكم الاستصحاب لو لا حكومة قاعدة الشك بعد الفراغ، لانه لو اخذ بالقاعدة من باب الطريقية بملاحظة التعليل المذكور، فلا تجرى في الفرع المزبور اصلا حتى تكون مقدمة على الاستصحاب وان اخذ بها من باب التعبد فتقدمها ليس من باب الحكومة، كما لا يخفى ولعله اشار الى ما ذكرنا او بعضه بقوله: «فافهم».

ص: 513

***

ثم ان الاستصحاب ينقسم باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه في السابق والشك في بقائه في اللاحق إلى اقسام عديدة لا يهمنا التعرض لذكرها لقلة الجدوى.

وانما المهم هنا بيان امور:

هل يمكن الاستصحاب في الأحكام العقلية؟

احدها: ان الدليل الدال على وجود المستصحب في السابق ان كان هو العقل فهل يمكن الاستصحاب ام لا ؟ ذهب شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» الى الثاني، وذهب جمع من مشايخنا الى الاول تبعاً لسيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدّس سرُّه) وهو الحق.

و توضیح.ذلك يتوقف على بيان مرام الشيخ «قدّس سرُّه» اولا فنقول : حاصل ما يستفاد من كلامه في وجه منع جريان الاستصحاب أن العقل لا يحكم بحكم الا بعد احراز موضوعه بقيوده وحدوده، حتى عدم المانع والرافع، فحينئذ اذا حكم العقل بالحسن او القبح على موضوع محدود بحدوده فما دام ذلك الموضوع على حاله لا يعقل الشك في حكمه، والشك في الحكم إما من جهة القطع بزوال قيد او جزء من ذلك الموضوع واحتمال ان يكون ملاك ذلك الحكم في المجرد عنهما ايضاً، وإما من جهة الشك في انطباق الموضوع العقلى على أمر خارجي، ولا يمكن الاستصحاب في كل من الصورتين : اما الاولى فللقطع بزوال الموضوع، واما الثانية فللشك في بقاء الموضوع، ومن جملة شرايط الاستصحاب احراز الموضوع.

فان قلت: لو بنينا على احراز الموضوع في الاستصحاب بالدقة العقلية لانسد بابه في الاحكام الشرعية ايضاً، ضرورة عدم امكان الشك فيها الا من جهة الشك في الموضوع، ومن المعلوم عدم الاشكال هنا من هذه الجهة، لان الميزان صدق نقض اليقين بالشك عرفاً، وهو يقتضى بقاء ما هو الموضوع عندهم.

ص: 514

قلت: الفرق بين المقامين أنه في القضايا الملقاة من الشرع يرى العرف موضوعاً وحكماً وشيئاً آخر يكون من حالات الموضوع وواسطة في ثبوت الحكم

لذلك الموضوع، وان كان عند العقل لا تكون القضية الا مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة وليس هناك شيء آخر يكون ظرفاً او حالا لثبوت الحكم للموضوع، مثلاً، اذا قال الشارع : الماء نجس اذا تغير، فموضوع هذه القضية عند العرف هو الماء والتغيّر واسطة لثبوت النجاسة للماء، فحينئذ لو شك بعد زوال التغير من قبل نفسه في النجاسة من جهة الشك في ان التغير في زمان سبب لنجاسة الماء مطلقاً ولو زال بعد ذلك أو أنه سبب لها حدوثاً وبقاء، او من جهة الشك في انه بعد زوال التغير هل قام مقامه ملاك آخر اولا، يصدق ان ما كان موضوعاً للنجاسة في الزمن السابق باق بعينه، والشك في النجاسة شك في بقائها، فيشمله ادلة الاستصحاب، واما القضية الملقاة من العقل فليست مشتملة على شيء آخر خارج عن الموضوع يسمى ظرفاً او حالاً وواسطة في ثبوت الحكم كما كان في القضية الملقاة من الشرع، فحينئذ متى زال قيد او جزء من الموضوع العقلى فالباقي موضوع آخر مغاير لما كان اولا، فلا يفرض الشك في الحكم العقلى مع بقاء موضوعه، ومن هنا يظهر عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بالعقل ايضاً، هذه خلاصة ما افاده (قدّس سرُّه) في المقام(1).

اقول وتحقيق الحال ان يقال : ان عدم الاجمال في موضوع حكم العقل بمعنى ادراكه واذعانه الفعلى مسلم لعدم امكان ان يذعن بحسن شيء اوقبحه ولم يتعين عنده موردهما، فاذا حكم بحسن شيء مركب او مقيد او قبحه فجميع خصوصيات ذلك له دخل في حكمه، بحيث لوزال بعض الخصوصيات وتغير عما

ص: 515


1- الفرائد في الوجه الثاني من تقسيم الاستصحاب بحسب دليل المستصحب، ص 325، وفي التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب، ص 378.(طبعة رحمة اللّه).

كان عليه اولا يرتفع حكمه قطعاً، ولكن يمكن ان لا يكون لبعض تلك الخصوصيات دخل فيما هو ملاك لحكمه، اعنى الحسن والقبح الواقعيين، بان يعتقد العقل حسن شيء او قبحه على سبيل الاهمال والاجمال، إما بان يرى ذلك في مركب او مقيد مثلاً من دون ان يعلم مدخلية الخصوصية او جزء معين في الحسن والقبح، أو يرى ان المطلق مثلاً مقتض للحسن او القبح ولكن يحتمل ان يكون وجوده في خصوصية خاصة رافعاً لما يقتضيه المقتضى، فالقدر المتيقن عند العقل حينئذ هو المقيد بغير القيد المفروض، احتمال ان يكون الملاك في المطلق، أو بان يعتقد ان الملاك قائم بالمجموع المركب او المقيد ولكن يحتمل وجود ملاك آخر في فاقد الجزء او القيد، ففي جميع الصور المفروضة اذا تغير موضوعه الاولى بزوال القيد المفروض او الجزء المفروض يشك في ثبوت الملاك في الباقي.

اذا عرفت هذا فنقول : لا ينبغى الاشكال في عدم جواز استصحاب نفس حكم العقل، ضرورة عدم تصور الشك في بقائه كمالا ينبغي الاشكال في عدم جواز استصحاب ملاك حكمه لان الشك وان كان متصورا فيه ولكنه ليس موضوعاً لا ثر من الآثار الشرعية، ولكن استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بقاعدة الملازمة بمكان من الامكان لعدم المانع فيه الا الشك في الموضوع بحسب الدقة، ولو كان هذا مانعاً لانسد باب الاستصحاب في الاحكام الكلية والجزئية، لكون الشك فيها راجعاً الى الشك في الموضوع يقيناً، وما هو الجواب في باقي موارد الاستصحاب هو الجواب هنا من دون تفاوت اصلاً، وستطلع على تحقيق وجوب اخذ الموضوع من العرف في محله ان شاء اللّه.

حول الأدلة الّتي أقامها الشيخ لاختصاص الاستصحاب بالشك بالرافع

الأمر الثاني في بيان حال الادلة الدالة على وجوب ال_ب_ن_اء على الحالة السابقة، وانها هل تدل عليه مطلقاً او تختص ببعض الموارد ؟

ص: 516

فنقول: ذهب شيخنا المرتضى (قدّس سرّه) الى الثاني وذكر من الادلة

الدالة على الاستصحاب اموراً كلها مختصة بصورة الشك في الرافع مع احراز المقتضى على ما افاده «قدّس سرُّه».

احدها: ظهور كلمات جماعة في الاتفاق عليه.

ثانيها : انا تتبعنا موارد الشك في بقاء الحكم السابق المشكوك من جهة الرافع، فلم نجد من اول الفقه الى آخره مورداً الا وحكم الشارع فيه بالبقاء، الا مع امارة توجب الظن بالخلاف كالحكم بنجاسة الخارج قبل الاستبراء، فان الحكم بها ليس لعدم اعتبار الحالة السابقة، والا لوجب الحكم بالطهارة لقاعدة الطهارة، بل لغلبة بقاء جزء من البول او المنى في المخرج، فرجح هذا الظاهر على الاصل - الى ان قال «قدّس سرُّه» والانصاف ان هذا الاستقراء يكاد يفيد القطع وهو اولى من الاستقراء الذي ذكره غير واحد كالمحقق البهبهاني وصاحب الرياض انه المستند في حجية شهادة العدلين على الاطلاق.

ثالثها الاخبار المستفيضة فذكر اخبار الباب عموماً وخصوصاً ثم قال «قدّس سرُّه» بعد التكلم فيها نقضاً وابراما : إن اختصاص الاخبار الخاصة بالقول المختار واضح، واما الاخبار العامة فالمعروف بين المتأخرين الاستدلال بها على حجية الاستصحاب مطلقاً، وفيه تأمل قد فتح بابه المحقق الخوانساري «قدّس سرُّه» في شرح الدروس توضيحه ان حقيقة النقض هي رفع الهيأة الاتصالية، كما في نقض الحبل، والاقرب اليه على تقدير مجازيته هو رفع الامر الثابت، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضى له بعد ان كان آخذاً به، فالمراد من النقض عدم الاستمرار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده، اذا عرفت هذا فنقول ان الامر يدور بين ان يراد بالنقض مطلق ترك العمل وترتيب الاثر، وهو المعنى الثالث، ويبقى المنقوض عاماً لكل يقين، وبين ان يراد من النقض ظاهره، وهو المعنى الثاني، فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار المختص بالموارد التي يوجد فيها هذا المعنى، والظاهر رجحان هذا على

ص: 517

الاول، لان الفعل الخاص يصير مخصصاً المتعلقه العام، كما في قول القائل: لا تضرب احداً، فان الضرب قرينة على اختصاص العام بالاحياء، ولا يكون عمومه للاموات قرينة على ارادة مطلق الضرب عليه كساير الجمادات «انتهى ما اردنا نقله من كلامه، رفع مقامه» (1).

اقول اما الاتفاق فلا يتحقق المحصل منه الكاشف عن رأى المعصوم قطعاً، والمنقول منه ليس بحجة مع ما يرى من الاختلاف وذهاب جمع الى عدم حجية الاستصحاب مطلقاً.

و اما التتبع الذي ذكره «قدّس سرُّه» فان كان الدليل في كل مورد غير ادلة الاستصحاب فالانصاف انه يفيد الاطمينان التام بوجوب الجرى على طبق المقتضى للبقاء، أما ان هذا الحكم هل هو من جهة ملاحظة الحالة السابقة مع وجود المقتضى للبقاء او من جهتها من دون اعتبار المقتضى او من جهته من دون اعتبار الحالة السابقة فلا يعلم وان كان الدليل على ذلك ادلة الاستصحاب فليس بدليل مستقل، فليتكلم فيها.

و اما الاخبار فالانصاف ان ظهورها في حجية الاستصحاب غير قابل للانكار، وأما اختصاص مواردها بما اختاره «قدّس سرُّه» فمحل منع، بل الحقيق شمولها للشك في المقتضى ايضاً، وتحقيق الحال فيها يتوقف على ذكر كل واحد منها :

فنقول : ان الاخبار الواردة في المقام بين عامة وخاصة:

في أن الأخبار تدلّ على حجّية الاستصحاب مطلقاً، ومنها صحيحة زرارة

فمن الاولى صحيحة زرارة، ولا يضرها الاضمار لان زرارة اجل شأنا من ان يسأل غير الامام، فالمسئول اما ابو جعفر واما ابوعبداللّه عليهما الصلوة والسلام لانه يروى عن كليهما، قال قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء، قال: يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن

ص: 518


1- الفرائد ص ٣٢٩ و ٣٣٦ و ٥٧٤.

فاذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء، قلت: فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم، قال: لا، حتى يستيقن انه قد نام حتى يجىء من ذلك أمر بين، والا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبداً بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر(1).

وفقه الحديث أن الظاهر من الفقرة الاولى ان شبهة السائل كانت حكمية، أعنى أنه كان شاكاً في ان مفهوم النوم الذي جعل ناقضاً للوضوء هل يشمل مثل الخفقة والحفقتين ام لا ؟ فسأل عن ذلك فاجابه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بما حاصله : «ان النوم الموجب للوضوء لا يتحقق بذلك، بل الملاك نوم العين والاذن» والفقرة الثانية سئوال عن الشبهة الموضوعية اعنى بعد م_ا عل_م زرارة ما هو الملاك في النوم الناقض سأل عن الشك في تحقق ذلك، فاجابه بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجىء من ذلك امربين، والا فانه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدأ بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».

ثم إن قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فانه على يقين من وضوئه» يحتمل بعيداً ان يكون هو الجزاء للشرط ويصير المفاد : «وان لم يجيء من ذلك امر بين فانه يجرى على يقين من وضوئه» والظاهر ان جواب الشرط محذوف قامت العل_ة مقامه، كما وقع نظيره في الكتاب العزيز مثل قوله تعالى ان تكفروا فان اللّه غنى عنكم (2) ومثل قوله تعالى: ومن كفر فان ربى غنى كريم (3)، ومن كفر فان اللّه غنى عن العالمين (4) وامثال ذلك مما لا يحصى، وحينئذٍ هذه القضية تكون صغرى لقوله «ولا ينقض اليقين الخ».

و الظاهر ان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «من وضوئه» لمجرد كونه متعلقاً لليقين في

ص: 519


1- الوسائل الباب ١ من ابواب نواقض الوضوء الحديث 1.
2- سورة الزمر، الآية ٧.
3- سورة النمل، الآية ٤٠.
4- سورة آل عمران الآية ٩٧.

المورد لا لمدخليته في الحكم، لان المناسبات المقترنة بالكلام كما انها قد توجب التقييد وان لم يكن القيد مذكوراً كما في قوله: «اذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (1) الظاهر من جهة فهم العرف المستند إلى المناسبة المقامية انه لم ينجسه شيء بالملاقاة كذلك قد توجب الغاء القيد المذكور في الكلام، كما فيما نحن فيه، فان المناسب لعدم النقض هو جنس اليقين في قبال الشك، فاندفع ما يقال في المقام :ان استظهار العموم من الخبر مبنى على كون اللام للجنس، وظهوره فيه ممنوع بعد سبق الخصوصية، لما عرفت من ان المناسبة في المقام توجب الغاء الخصوصية بنظر العرف.

ثم اعلم ان هذه الصحيحة انفع للمقام من الاخبار العامة الآتية، لكونها نصاً في وجوب الجرى على الحالة السابقة المتيقنة في حال الشك، بخلاف الاخبار العامة فانها تحتمل افادتها لقاعدة الشك السارى كما يأتى، نعم لیست الصحيحة نصاً في العموم لكنها ظاهرة فيه كما اشرنا اليه.

بقى الكلام في ان الصحيحة وامثالها مما يدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك هل تعم الشك في المقتضى او تختص بالشك في الرافع بعد احراز المقتضى ؟.

و الاقوى الاول توضيح ذلك ان النقض بحسب اللغة ضد الابرام، فلابد ان يتعلق بماله اجزاء مبرمة كما في قوله تعالى: نقضت غزلها من بعد قوة انکاثا (2)كما ان متعلق الابرام لابد ان يكون ذا اجزاء متفاسخة، وقد يستعار لمثل العهود والايمان مما شأنه الاستحكام والاتقان، لكونها شبيهة بماله اجزاء ذات ابرام واليقين حاله حال العهد واليمين، وانتقاضه عبارة عن انفساخ تلك

ص: 520


1- الوسائل، الباب ٩ من ابواب الماء المطلق، الحديث ١ و ٢ و٥ و٦ والعبارة هكذا: «اذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».
2- سورة النحل، الآية ٩٢.

الحالة الجزمية وتحقق الترديد في النفس، فعلى هذا نسبة مادة النقض الى اليقين لها مناسبة تامة لا تحتاج الى صرف النسبة الى المتيقن ثم تخصيصه بما اذا كان له مقتض للبقاء، بل ليس مجرد وجود المقتضى للبقاء في شيء مصححاً لنسبة النقض اليه لما عرفت من اعتبار كون متعلقه ممّا له اجزاء مبرمة.

فان قلت: نعم، لكن النهى في القضية لا يصح تعلقه ينقض اليقين، حيث ان انتقاض اليقين بالشك قهرى.

قلت: كما أنه لا يجوز تعلق النهى بنقض اليقين كذلك لا يجوز تعلقه بنقض المتيقن ايضاً، لانه ايضاً في حال الشك اما باق واقعاً واما مرتفع، وعلى اى حال ليس اختياره بيد المكلف، كما هو واضح، فالنهي في القضية يجب ان يكون متعلقاً بالنقض من حيث العمل، وعلى هذا كما أنه يصح ان يقال : يجب عليك معاملة بقاء المتيقن من حيث الآثار، كذلك يصح ان يقال : يجب عليك معاملة بقاء اليقين كذلك.

فان قلت: نعم، لكن على الثاني تفيد القضية وجوب ترتيب اثر نفس اليقين وهو غير مقصود.

قلت: اليقين في القضية ملحوظ طريقاً الى متعلقه(1)، فيرجع محصل مفاد

ص: 521


1- لا يخفى انه بعد طريقية اليقين للمتيقن لابد من ملاحظة المناسبة بين مادة النقض وبين المتيقن، لاحتياج ملاحظتها مع نفس اليقين الى اللحاظ الاستقلالي، وكيف يجتمع هو مع الطريقي الآلي، فالصواب في الجواب ان يقال: مفاد قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تنقض» المعاملة حال الشك معاملة اليقين السابق، ولا شك انه حال اليقين بحياة زيد مثلاً يرتب في الخارج اثر الحياة بتأثير اليقين من دون مدخلية للمتيقن، ولهذا لو كان جهلاً مركباً لكان مؤثراً ايضاً، فنحن متعبدون شرعاً بترتيب هذا الاثر الطبغى في حال الشك، لا بترتيب الاثر الشرعي الثابت للمتيقن، حتى يلزم جعل اليقين في العبارة طريقاً الى المتعلق، ولا بترتيب الاثر الثابت لليقين، حتى يرد النقض بما اذا رتب الاثر شرعاً على نفس صفة اليقين، بل نقول: ان اليقين في العبارة اخذ جامعاً لليقينات الطريقية، فالطريقية وصف لأفراده، لا لنفسه، فالتعبد انما هو بالاثر الطبعي، ولا ريب ان التأثير الطبيعي لليقين في تحريك الجوارح انما يكون بالنسبة الى الآثار الشرعية لمتعلقه، لا بالنسبة الى الاثر الشرعي لنفسه، وانما هو من خاصية يقين آخر متعلق باليقين الاول.(م. ع. متظله).

القضية الى وجوب معاملة بقاء اليقين من حيث كونه طريقاً الى متعلقه، فيندفع المحذور.

هذا مما افاده سيدنا الاستاذ «طاب ثراه» نقلاً عن سيد مشايخنا الميرزا الشيرازي (قدّس سرُّه) ولعمرى ان المتأمل المنصف يشهد بان هذا الالتفات والتنبه انما يصدر ممن ينبغي ان يشد اليه الرحال فجزاه اللّه عن الاسلام واهله احسن الجزاء.

الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية

ومنها: صحيحة اخرى لزرارة ايضاً، قال: قلت له (عَلَيهِ السَّلَامُ) : اصاب ثوبی دم رعاف او غيره او شيء من المنى فعلمت اثره الى ان اصيب له الماء، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئاً وصليت ثم انى ذكرت بعد ذلك، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): تعيد الصلاة وتغسله، قال: قلت: فان لم اكن رأيت موضعه وعلمت انه اصابه فطلبته ولم اقدر عليه فلما صليت وجدته، قال : تغسله وتعيد، قلت: فان ظننت انه اصابه ولم اتيقن ذلك، فنظرت ولم ار شيئاً، فصليت فيه، فرأيت فيه، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك قال : لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابداً قلت فانى قد علمت انه قد اصابه، ولم ادر اين هو فاغسله، قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد اصابها حتى تكون على يقين من طهارتك، قلت : فهل على ان شككت انه اصابه شيء ان انظر فيه؟ قال: لا، ولكنك انما تريد ان تذهب بالشك الذي وقع من نفسك، قلت: ان رأيته في ثوبى وانا في الصلاة، قال تنقض الصلاة وتعيد اذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وان لم تشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على

ص: 522

الصلاة، لانك لا تدرى لعله شيء اوقع عليك، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك (الحديث) (1).

تقريب الاستدلال كما في الصحيحة الاولى.

لكن فيها اشكال من جهة اخرى وهو أن الظاهر من السؤال في قوله: «فان ظننت انه قد اصابه الخ» أنه بعد الصلاة تبين ان ثوبه كان نجساً من اول الامر، وحينئذ عدم اعادة الصلاة لا يمكن ان يكون مستنداً الى تلك القاعدة اعنى عدم جواز نقض اليقين بالشك، لان الاعادة على هذا نقض اليقين بيقين مثله وبعبارة اخرى الظاهر من تلك الفقرة أن الاعادة نقض اليقين بالشك، ولعدم صلاحية ذلك لا يصلح الاعادة، ولا يمكن حفظ هذا الظهور فيما نحن فيه، فان الطهارة من الخبث ان كانت من الشروط الواقعية فالاعادة ليست من مصاديق نقض اليقين بالشك، كما هو واضح، وان كان الشرط احرازها ولو بالاصل فالاجزاء وعدم الاعادة مستندان الى حكم الاستصحاب حين الصلاة بضميمة الادلة الدالة على كفاية نفس الاحراز حين الصلاة، وعلى اي حال قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «وليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك» لا ينتج عدم الاعادة، كما هو واضح.

اذا عرفت هذا يظهر لك عدم ارتفاع هذا الاشكال بما تخيله بعض من استناد عدم الاعادة الى اقتضاء الامر الظاهرى للاجزاء، ولا بما افاده شيخنا الاستاذ «دام ب_ق_اه» (2) من جعل الشرط هو نفس الاحراز ول_و ب_اص_ل من الاصول، اذ كل ذلك اجنبى عن ظاهر الرواية، كما لا يخفى، فيلزم التصرف في

ص: 523


1- الوسائل الباب ٤٢ من ابواب النجاسات الحديث 2 والباب ٤١، الحديث ١ والباب ٤٤، الحديث 1، التهذيب، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات الحديث 8 (ج 1، ط الآخوندي، ص ٢-٤٢١).
2- تعليقة الفرائد ص 172.

ظاهرها إما على نحو تخيله المتخيل، وإما على نحو وجهها شيخنا الاستاذ «دام بقاه»، والتوجيهان مشتركان في ان الصحة وعدم الاعادة انما يكون مستنداً الى كبرى مسلمة عند السائل، وأن قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «ليس ينبغي لك الخ» اشارة الى تحقق صغرى لتلك الكبرى المسلمة غاية الامر أنه على ما تخيله المتخيل الكبرى المفروضة كون الامر الظاهري مفيداً للاج_زاء، وعلى ما افاده «دام ظله»كون الشرط نفس الاحراز فلا تغفل والعجب منه «دام بقاه» انه استضعف كلام المتخيل ثم وجّه الرواية بما هو مماثل لما استضعفه.

هذا اذا كان المراد من الرواية ما ذكرنا واما ان كان المراد رؤية النجاسة بعد الصلاة مع احتمال وقوعها بعدها كما هو احد الاحتمالين فيها فلا اشكال في اقتضاء قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) «لا تنقض اليقين بالشك» عدم اعادة الصلاة والاكتفاء بما اتى به لانه واجد للشرط تعبداً ولا كاشف للخلاف كما هو المفروض.

فان قلت: عدم الاعادة ليس اثراً شرعياً حتى يترتب على استصحاب الطهارة.

قلنا: ليس المجعول بقضية لا تنقض عدم وجوب الاعادة حتى يقال: انه عقلى ليس قابلاً للجعل، بل المجعول بها التصرف في شرط الواجب والتوسعة في موضوع الوجوب، ولازم ذلك عدم وجوب الاعادة، فعدم وجوب الاعادة من اللوازم العقلية المترتبة على نفس الاستصحاب لا على المستصحب.

حول الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة

ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة واذا لم يدر في ثلاث هو او في اربع، وقد احرز الثلاث قام فاضاف اليها أخرى، ولا شيء ع_ل_ي_ه، ولا ينقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط احدهما بالآخر، ولكنه ينقض الشك باليقين، فيتم على اليقين، فيبنى عليه، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات(1).

ص: 524


1- الوسائل الباب 10 من ابواب الخلل الحديث 3.

وقد تمسك بها في الوافية وتبعه جماعة ممن تأخر عنه.

وكيف كان هذه الصحيحة مع قطع النظر عما فيها من الاجمال لا تفيد قاعدة كلية ينتفع بها في ساير الموارد لظهور أن قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «ولا ينقض اليقين بالشك» تأكيد لقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «قام فاضاف اليها اخرى» لا علة له حتى يستفاد منه الكلية.

اللّهم الا ان يستفاد العموم من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «ولا يعتد بالشك في حال من الحالات».

ثم ان جعل هذا المورد من مصاديق حرمة نقض اليقين بالشك يحتمل امرین:

احدهما كونه من جهة التقية موافقة للعامة الزاعمين لكون مقتضى البناء على اليقين هو البناء على الاقل وضم الركعة المشكوكة.

و يوهن هذا الاحتمال ظهور صدر الرواية في عدم الصدور على جهة التقية، حيث انه امر في جواب السائل عن الشك بين الاثنين والاربع بان يركع ركعتين واربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب، وهذا الكلام ظاهر في وجوب ركعتين منفصلتين، من جهة ظهور تعيين الفاتحة وهذا مخالف لمذهب العامة.

و الثاني ان يقال ان المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قام فاضاف اليها ركعة» القيام للركعة المنفصلة كما هو المذهب الحق والوجه لجعل هذا من صغريات القاعدة المزبورة - مع اقتضائها بحسب الظاهر اتيان الركعة المتصلة- ان الصلاة في نفس الامر يعتبر فيها :امران احدهما تحقق الركعات، والثاني تقييدها بعدم الزايد، ومقتضى قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «لا تنقض اليقين بالشك» البناء على عدم تحقق الركعة المشكوكة، ولا يثبت بهذا تحقق ذلك التقييد المعتبر لو اتي بالركعة المشكوكة موصولة، فالجمع بين مفاد القاعدة المزبورة ومراعاة ذلك التقييد لا يمكن الا باتيان الركعة منفصلة فليتأمل جيداً.

و هذا التوجيه اوجه من حمل الرواية على ايجاب تحصيل اليقين بالاحتياط

ص: 525

كما فعله شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه)(1)، لظهور اتحاد مفاد هذه القضية في جميع الموارد، وقد عرفت كونها ناصة في الاستصحاب في الصحيحة الاولى.

الاستدلال بأخبار أخرى للاستصحاب

و ما قد يتوهم من امكان الجمع بين الاستصحاب وايجاب تحصيل اليقين فلا ينافي تطبيق القضية تارة على الاستصحاب كما في الصحيحة الاولى - واخرى على ايجاب الاحتياط - كما في الصحيحة الثالثة- مدفوع بانه على تقدير ارادة الاستصحاب يجب ان يراد من اليقين المفروض في القضية الموجود الثابت، وعلى تقدير ارادة ايجاب الاحتياط يجب ان يفرض عدمه حتى يصح الامر بتحصيله، وهما ملاحظتان غير قابلتين للجمع كما هو واضح.

و منها موثقة عمار عن ابى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : اذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا اصل ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : نعم (2).

اقول ان جعلنا مورد الرواية خصوص ركعات الصلاة كما أن الاصحاب يذكرونها في طى ادلة تلك المسألة فالمراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فابن على اليقين» اما تحصيل اليقين بالبناء على الاكثر واتيان ما يحتمل نقصه منفصلاً ولا دخل لها بما نحن بصدده واما محمول على التقية واما على الاستصحاب، بالتوجيه الذي ذكرناه في الصحيحة السابقة وان لم نقل باختصاصها بشكوك الصلاة فلا يبعد دعوى ظهورها في الاستصحاب، حيث ان الظاهر من لفظ اليقين هو اليقين الموجود حين البناء عليه، لا الماضي، حتى ينطبق على قاعدة الشك السارى ولا المستقبل، حتى يكون المراد وجوب تحصيله وينطبق على الاحتياط.

فما ذكره شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»(3)، من ان الموثقة على تقدير عدم

ص: 526


1- الفرائد ذيل الصحيحة، ص ٣٣٢.
2- الوسائل الباب ٨ من ابواب الخلل الحديث ٢.
3- الفرائد ص 333.

اختصاص موردها بشكوك الصلاة اضعف دلالة من الروايات الآتية، حيث انه لم يبين فيها ان المراد اليقين السابق على الشك، ولا انه المتيقن السابق على المشكوك، بخلاف الروايات الآتية، حيث انها ليست خارجة عن هذين الاحتمالين، مبنى على عدم كون ظهور الموثقة في الاستصحاب اقوى من بين الاحتمالات، وقد عرفت خلافه.

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال قال امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : من كان على يقين فشك فليمض على يقينه، فان الشك لا ينقض اليقين(1) وفي رواية اخرى عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) من كان على يقين فاصا به شك فليمض على يقينه، فان اليقين لا يدفع بالشك (2).

اقول : ظهور الروايتين في اتحاد متعلق اليقين والشك مما لا يقبل الانكار، وحينئذ إما ان يلاحظ المتيقن مقيداً بالزمان فالشك فيه معناه الشك السارى، وإما ان يجرد عنه وعلى الثاني إما ان يكون القضية مهملة من حيث الزمان وإما ان يكون ملحوظاً فيها على نحو الظرفية، والاخير منطبق على المدعى، وسيجيء ان الجمع بين القاعدة والاستصحاب غير ممكن في هذه القضية ان شاء اللّه.

اذا عرفت هذا فنقول : ان القضية وان كانت في حد نفسها غير ظاهرة في المدعى، لكن بملاحظة تكرارها في موارد يعلم ارادة الاستصحاب منها تصير ظاهرة في المدعى، لظهور اتحاد المراد في تمام الموارد.

لا يقال: إن ذكرهما في عداد ادلة الباب غير صحيح، لان العمدة الادلة المتقدمة، اذ لولاها لكانت هذه مجملة او ظاهرة في غير المدعى.

ص: 527


1- الوسائل الباب ١ من نواقص الوضوء، الحديث ٦.
2- المستدرك، الباب ١ من نواقض الوضوء، الحديث 4. والحديث منقول عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرسلاً.

لانا نقول : فائدة هاتين الروايتين استفادة الكلية، بعد ما حملناهما على الاستصحاب، اذ ليس فيهما ما يمنع ذلك، كما كان في الأدلة السابقة، هذا.

و لكن الاشكال في سند الرواية من حيث ان فيها قاسم بن يحيى، وقد ضعفه العلامة «قدّس سرُّه» في الخلاصة، وتضعيفه وان كان مستنداً الى تضعيف ابن الغضايري وقد قيل انه لا يعبأ به الا انه ما وجد في علم الرجال توثيقه، فلو اغمضنا عن هذا التضعيف لكان من المجاهيل، وعلى أي حال لا يجوز جعل الرواية مدركاً لشيء، اللّهم الا ان يوثق برواية الأجلة عنه، مثل احمد بن ابي عبداللّه واحمد بن محمد بن عيسى فليتأمل جيداً.

و منها : مكاتبة على بن محمد القاساني قال كتبت اليه وانا بالمدينة اسأله عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب (عَلَيهِ السَّلَامُ) : اليقين لا يدخله [ لايدخل فيه.ئل] الشك صم للرؤية وافطر للرؤية(1).

و دلالتها على المدعى بملاحظة تفريع الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ظاهرة.

هذه اخبار عامة واردة في المقام.

وقد يؤيد بالاخبار الواردة في الموارد المخصوصة

مثل رواية عبد اللّه بن سنان فيمن يعير ثوبه الذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: فهل على ان اغسله؟ فقال: لا، لانك اعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه(2).

و في تعليل الحكم بانه طاهر حين الاعارة دلالة واضحة على ان المستند هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها.

و مثل موثقة عمار : كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر(3).

ص: 528


1- الوسائل الباب ٣ من ابواب احكام شهر رمضان، الحديث 13.
2- الوسائل الباب ٧٤ من ابواب النجاسات الحديث 1، واللفظ كالمنقول بالمعنى.
3- الوسائل الباب ٣٧ من ابواب النجاسات الحديث 4. ولفظه : «كلّ شيء نظيف حتى تعلم انه قذر».

بناء على كونها في مقام بيان استمرار الطهارة المفروغ عنها، لا في مقام جعل الطهارة في موضوع لم يعلم نجاسته.

في أنّ الظاهر من كلّ شيء طاهر قاعدة الطهارة لا الاستصحاب

و لكن الظاهر من القضية المعنى الثاني كما هو واضح، فلا دخل لها بالمدعى، ولا يمكن الجمع بين المعنيين اعنى قاعدة الطهارة واستصحابها، فان الثاني مبنى على كونها مفروضة الوجود والاول مبنى على عدم كونها كذلك، وملاحظة شيء واحد مفروض الوجود وغيره جمع بين المتنافيين، كما لا يخفى.

و العجب من شيخنا الاستاذ «دام بقاه» حيث زعم امكان الجمع بينهما في القضية المذكورة والنظر في كلامه يتوقف على نقل ما افاده:

حول كلام صاحب الكفاية من إمكان ارادة القاعدتين من الحديث، والجواب عنه

قال «دام بقاه» في حاشيته على رسالة الاستصحاب، عند قول المصنف «قدّس سرُّه» : نعم ارادة القاعدة والاستصحاب معاً توجب استعمال اللفظ في معنيين «الخ» ما لفظه ارادتهما انما توجب ذلك لو كان كما افاده «قدّس سرُّه» بان يراد من المحمول فيها تارة اصل،ثبوته واخرى استمراره يحيث كان اصل ثبوته مفروغاً عنه، وكذلك الحال في الغاية، فجعلت غاية للحكم بثبوته مرة، وللحكم باستمراره أخرى، وأما اذا اريد احدهما من المغيى والآخر من الغاية فلا توضيح ذلك ان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): ««كل شيء طاهر» مع قطع النظر عن الغاية بعمومه يدل على طهارة الاشياء بعناوينها الواقعية، كالماء والتراب وغيرهما، فيكون دليلا اجتهادياً على طهارة الاشياء، وباطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة الحكمية او الموضوعية تدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته كذلك وان أبيت الا عن عدم شمول اطلاقه لمثل هذه الحالة التي في الحقيقة ليست من حالاته بل من حالات المكلف وان كانت لها اضافة اليه فهو بعمومه لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا ينفك عنه ابداً _ كما في بعض الشبهات الحكمية والموضوعية - يدل بضميمة عدم الفصل بينه وبين ساير المشتبهات على طهارتها كلها، والا يلزم تخصيصه بلا مخصص ضرورة صدق عنوان الشيء على هذا

ص: 529

المشتبه كساير الاشياء بلا تفاوت اصلا كما لا يخفى، وليس التمسك به فيما اشتبه طهارته موضوعاً تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية، لان التمسك به انما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم المشكوك على ما عرفت لا لاجل دلالته على حكم الشيء بعنوانه الواقعي، كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثية بنجاسة بعض العناوين او بعض الحالات، ولا منافاة بين جواز التمسك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة وعدم جوازه من جهة اخرى، كما لا يخفى.

ولا ضير في اختلاف الحكم بالنسبة الى افراد العام وصيرورته ظاهرياً بالنسبة الى بعضها وواقعياً بالاضافة الى بعضها الآخر، لان الاختلاف بذلك انما هو من اختلاف افراد الموضوع لا من جهة الاختلاف في معنى المحكوم به، بل هو بالمعنى الواحد والمفهوم الفارد يحمل على ما هو واحد يعم تلك الافراد على اختلافها، كما هواوضح من ان يخفى فلا مجال لتوهم لزوم استعمال اللفظ في المعنيين من ذلك اصلاً.

فعلى ذلك يكون دليلاً بعمومه على طهارة الاشياء بما هي بعناوينها، وبما هي مشتبه حكمها مطلقاً بضميمة عدم الفصل في المشتبهات بين ما يلزمه الاشتباه وبين مالا يلزمه الاشتباه.

فلا حاجة في دلالته على قاعدة الطهارة الى ملاحظة غاية.

نعم بملاحظتها يدل على الاستصحاب بيانه ان قضية جعل العلم بالقذارة التي ينافي الطهارة غاية لها في الرواية هي بقائها واستمرارها ما لم يعلم بالقذارة، كما هو الشأن في كل غاية غاية الامران قضيتها لو كانت من الامور الواقعية هو استمرار المغيى وبقائه واقعاً الى زمان تحققها، ويكون الدليل عليها دليلاً اجتهادياً على البقاء، ولو كانت هي العلم بانتفاء المغي_ى ه_و بقاؤه واستمراره تعبداً الى زمان حصولها كما هو الحال في الغاية هيهنا، فيكون بملاحظتها دليلاً على استمرار الطهارة تعبداً ما لم يعلم بانتفائها، ولا نعنى بالاستصحاب الا ذلك، كما لا يخفى.

ص: 530

فدل بما فيه من الغاية والمغيى على ثبوت الطهارة واقعاً وظاهراً - على ما عرفت على اختلاف افراد العام وعلى بقائها تعبداً عند الشك في البقاء، من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في المعنيين اذ منشأ توهم لزومه ليس الا توهم أن ارادة ذلك من قوله : «كل شيء طاهر» لا يكاد ان يكون إلا بإرادة الحكم على كل شيء بثبوت اصل الطهارة ما لم يعلم قذارته، والحكم باستمرار طهارته المفروغ عنها ايضاً ما لم يعلم قذارته باستعمال لفظ طاهر وارادة كلا الحكمين منه، وقد عرفت ان استفادة مفاد القاعدة من اطلاقه او عمومه بضميمة عدم الفصل من غير حاجة الى ملاحظة الغاية، واستفادة مفاد الاستصحاب من الغاية من جهة دلالتها على استمرار المغيى كما هو شأن كل غاية، إلا انها لما كانت هو العلم بانتفاء المعيى كان مفاده استمراره تعبداً، كما هو الشأن في كل مقام جعل ذلك غاية للحكم، من غير حاجة في استفادته الى ارادته من اللفظ الدال على المغيى، والا يلزم ذلك في كل غاية ومغيى، كما لا يخفى مثلاً، الماء طاهر حتى يلاقي النجس لابد ان يراد منها على هذا طاهر بمعنى ثبوت الطهارة، ومعنى استمرارها،كليهما مع انه ليس بلازم، لاستفادة الاستمرار من نفس الغاية، كما لا يخفى، فلم لا يكون الحال في هذه الغاية على هذا المنوال «انتهى موضع الحاجة من كلامه دام بقاه» (1).

اقول و فيه اولا ان الجمع بين الحكم بطهارة الاشياء بعناوينها الاولية وعنوان كونها مشكوكة الطهارة لا يمكن في انشاء واحد، ضرورة تأخر رتبة الثاني عن الاول، ولا يمكن ملاحظة موضوع الحكم الثاني في عرض موضوع الحكم الاول، وهذا واضح.

و ايضاً على فرض تسليم الجمع يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك لغوا، لان هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت الى المكلف يرتفع شكه،

ص: 531


1- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد - عند الكلام على موثقة عمار -ص ٨-١٧٦.

من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الاشياء بعناوينها الأولية، فلا يبقى له الشك حتى يحتاج الى العمل بالحكم الوارد على الشك.

اللّهم الا ان تحمل القضية على الاخبار والحكاية عن الواقع دون الانشاء، وعلى هذا يرتفع الاشكالان لانه اذا فرض ان الشارع حكم على بعض الاشياء بعناوينها الاولية بالطهارة، وعلى بعض آخر بعنوان انه مشكوك بها ايضاً يصح ان يقول واحد في مقام الحكاية «كل شيء طاهر عند الشرع أما بالطهارة الواقعية واما بالطهارة الظاهرية» هذا.

و لكنه لا يدل على ان المحكوم بالطهارة ما هو حتى يكون دليلاً اجتهادياً على طهارة الاشياء بعناوينها الاولية كما نص عليه كلامه المحكى، فيظهران ما قلناه في مقام التوجيه لا ينطبق على المستفاد من كلامه «دام بقاؤه».

و ثانياً بأن مقتضى الغاية المذكورة في القضية أن الحكم فيها انما هو ثابت في ما قبل الغاية، وهو زمان عدم العلم بالقذارة وهذا الحكم الثابت للاشياء في زمان عدم العلم بالقذارة عبارة عن قاعدة الطهارة، فاين حكم الاستصحاب الذي هو عبارة عن ابقاء الشيء الموجود سابقاً في حال طرو الشك، والشيء الذي فرضناه موجوداً بهذه الرواية هو طهارة الاشياء في حال عدم العلم، وهو حال الشك، وبقائها ببقاء الشك ليس استصحاباً قطعاً، لان مقتضى الحكم المعلق على موضوع بقاؤه ببقائه، ومن الموضوعات الشك، واذا اريد افادة الاستصحاب فاللازم فرض شك آخر طار على هذا الحكم المتعلق بموضوع الشك والحكم ببقائه في حال ذلك الشك الطارى، كما اذا شك في ان هذا الحكم المتعلق بالشك هل نسخ ام لا؟ مثلاً.

و الحاصل انه لا ينبغي الشك في عدم امكان الجمع بين القاعدة والاستصحاب في قضية واحدة بعد ملاحظة ما ذكرنا، وعليك بالتأمل والتدبر لئلا يشتبه عليك الحال.

ص: 532

في استصحاب الكلي و بيان أقسامه

الامر الثالث: ان المتيقن السابق قد يكون جزئيا، وقد يكون كلياً، والشك في بقاء الكلى : تارة من جهة الشك في بقاء الفرد الذي علم. تحققه فيه، وأخرى من جهة الشك في تعيين الفرد المتحقق فيه ذلك الكلى وتردده بين ما هو باق جزماً وبين ما هو مرتفع، وثالثة من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الفرد المتيقن اوّلا او مقارناً لارتفاعه، بحيث يحتمل عدم ارتفاع الكلى.

فان كان الشك في بقاء الكلى من جهة الشك في بقاء الفرد المعين كالمثال الاول فلا اشكال في جواز استصحاب الكلى ان كان ذا اثر شرعي، ولا يغنى عن استصحاب الفرد وان كان بقاؤه مستلزماً لبقاء ذلك الفرد، فلو كان الفرد ذا اثر شرعى يجرى فيه الاستصحاب مستقلاً وهل يغنى استصحابه عن استصحاب الكلى بحيث يترتب على الاستصحاب الجارى في الفرد اثر الفرد والكلى أم لا؟ وجهان، من حيث ان الفرد عين الكلى في الخارج(1) والاثر المترتب على الكلى سار في الفرد من جهة الاتحاد والعينية، فالفرد مجمع لاثرين احدهما من جهة الكلى، والثاني من جهة نفسه، ومن حيث تغايره مع الكلى عند التعقل، ولكل منهما أثر يمكن سلبه عن الآخر، وان كانا متحدين في الخارج، مثلا لو فرض ان وجود الانسان في الدار يكون موضوعاً لوجوب الصلاة ركعتين، ووجود زيد يكون موضوعاً لوجوب التصدق بدرهم، يصح ان

ص: 533


1- الحق ان يقال بالفرق بين ما اذا كان الكلي الموضوع للاثر مأخوذاً باعتبار صرف الوجود المقابل للعدم المطلق، وما اذا كان مأخوذاً باعتبار الوجود الساري، فيقال في الاول الكفاية، نظراً الى صحة سلب الاثر عن الفرد في هذا القسم، لما بين الكلي بهذا الاعتبار وفرده من البينونة، كما حقق في مبحث اجتماع الامر والنهي وهذا بخلاف الحال فيما لو اعتبر بالنحو الثاني اذ يسرى الاثر حينئذ منه الى فرده فيكون الفرد ايضاً موضوعاً لذلك الاثر. (م. ع. متظله).

يقال ان وجوب الصلاة ليس اثراً لزيد، بل هو اثر لوجود الانسان، وكذلك يصح ان يقال ان وجوب التصدق ليس اثراً للانسان، بل هو اثر لوجود زيد، وحينئذ نقول : ان اجراء الاستصحاب بالنسبة الى زيد لو شك في بقائه لا يوجب الا ترتب الاثر المختص بزيد لا ما هو مترتب على حقيقة الانسان، كما في العكس.

الحق جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلي

و ان كان الشك من جهة الشك في تعيين الفرد فهو على قسمين: لان الشك فيه إما راجع الى الشك في المقتضى، كما لو كان الموجود اولا حيواناً مردداً بين ما يعيش ثلاثة ايام او سنة، فاذا مضى ثلاثة ايام يشك في بقاء ذلك الحيوان، وإما راجع الى الشك في الرافع، كما لو خرج منه رطوبة مرددة بين البول والمنى، ثم توضأ فيشك في بقاء حدثه او ارتفاعه بواسطة الوضوء، هذا ان قلنا بان الحدث الجامع بين الاكبر والاصغر موضوع لا ثر شرعى وهو عدم جواز الدخول في الصلاة، وأمّا ان قلنا ان الموضوع للاثر خصوص الحالتين اللتين توجدان مع البول والمنى ؛ احداهما توجب المنع من الدخول في الصلاة الا بالوضوء، والاخرى توجب المنع الا بالغسل فالمثال الذي ذكرنا اخيراً ليس من موارد استصحاب الكلى.

وكيف كان فالحق جواز استصحاب الكلى في كلا القسمين ان كان له اثر شرعاً، لعدم المانع إلا على مذاق من يذهب باختصاص مورده بالشك في الرافع فمنع جريانه في القسم الاول، وقد عرفت ان التحقيق خلافه.

نقل منع بعض الأعلام من جريان الاستصحاب في القسم الثاني، ونقده

نعم منع بعض علماء العصر (دام ظله)(1) جريان هذا النحو من الاستصحاب مطلقاً في حاشيته التي علقها على مكاسب شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» وحاصل ما افاده هناك ان الشك في بقاء الكلى مسبب عن

ص: 534


1- هو العلامة السيد محمد كاظم اليزدي «قدّس سرُّه»، في تعليقته على المكاسب بحث المعاطاة، وان الاصل فيها اللزوم.

الشك في وجود الفرد الطويل، وحيث ان مقتضى الاصل عدمه فلا يبقى شك في بقاء الكلى، ثم اورد على نفسه بان اصالة عدم وجود الفرد الطويل معارض باصالة عدم وجود الفرد القصير، واجاب بانه ليس في طرف القصير اصل حتى يعارض ذلك الاصل، لعدم الاثر الشرعي للاصل الجاري في طرف القصير، هذا.

و فيه اولا ان تقدم الاصل الجاري في السبب على المسبب انما يكون فيما اذا كان الترتب شرعياً، كالاصل الجاري في الماء بالنسبة الى الثوب المغسول به، فان غسل الثوب بالماء الطاهر شرعاً يوجب طهارة الثوب شرعاً، بخلاف ترتب عدم الكلى على عدم الكلى على عدم الفرد في المثال (1)فانه من جهة العلم بانحصار الموجود في فرد واحد وانه على تقدير عدم وجود الطويل وجد القصير وارتفع.

و ثانياً : ان عدم جريان الاصل في القصير مطلقاً لا وجه له، لانه ان كان المراد انه مقطوع العدم في زمان الشك في بقاء الكلى فلا يقدح هذا القطع، لان

ص: 535


1- يمكن ان يقال بالفرق بين الكلي الذي بيان محققاته خارج عن وظيفة الشرع. وبين ما كان بيان ذلك من وظيفته كالحدث والخبث والملكية والزوجية وامثال ذلك، ففي القسم الاول الحكم بعدم الكلي بعدم افراده عقلي محض بل يمكن منع الترتب عقلاً ايضاً، لمكان العينية بين الكلي والفرد واما في القسم الثاني فالمفروض ان الشارع حكم بترتب الكلي عقيب المحقق الكذائي، كترتب الحدث والخبث عقيب خروج البول، فكما ان ترتيب وجود الكلي على الاصل المنقح لما جعله الشارع محققاً ليس من الاصل المثبت، كذلك ترتيب عدمه على الاصل المنقح لعدم ذلك المحقق، فلو فرض ان الشارع جعل اسباب الحدث محصورة في عدة امور ونحن نقطع بعدم بعضها، وعدم الباقي مورد للاستصحاب، فالحكم بعدم جامع الحدث بسبب هذا الاستصحاب ليس من الاصل المثبت، فلو توضّأ المحدث بالاصغر المحتمل لخروج المني فاستصحاب عدم الجنابة حاكم في حقه بعدم الحدث، اذ كما ان بيان ما به يتحقق الحدث وجوداً من وظيفة الشرع لا العقل كذلك بيان انه بم ينتفي، فلولا بيان الشارع انتفاء جامع الحدث بانتفاء موجبات الحدث الاصغر والاكبر لما كان للعقل حكم بالانتفاء، ويحتمل انه يحصل بالمذي ايضاً.(م. ع. متظله).

ملاك المعارضة وجود الاصلين المتعارضين في زمان وان انتفى مورد احدهما فيما بعد ذلك، كما لو خرج احد اطراف الشبهة المحصورة بعد تعارض الاصلين عن محل الابتلاء، وان كان المراد عدم جريان الاصل في القصير اصلا فهو لا يصح على الاطلاق، وانما يصح فيما اذا كان اثر الفرد القصير اقل من اثر الفرد الطويل، كما اذا لم يعلم ان الثوب تنجس بالدم او بالبول وقلنا انه في الاول يكفى الغسل مرة وفي الثاني يجب مرتين فان وجوب الغسل مرة مما يقطع به، فلا يجوز استصحاب عدم تنجسه بالدم لنفى اثره، وأما اذا لم يكن كذلك كما لو كانا متباينين في الاثر فلا وجه للقول بعدم جريان الاستصحاب في الفرد القصير، فليتدبر جيداً.

حول استصحاب الكلي في القسم الثالث

ثم انك قد عرفت ان اجراء الاصل في الكلى لا يثبت الفرد وان كان ملازماً له، لان هذه الملازمة ليست بشرعية، وحينئذ فلو كان للفرد اثر خاص ينفي بالاصل الا اذا كان للفرد الآخر ايضاً اثر خاص، فيتعارض الاصلان وكذا لو علم ان الحكم ببقاء الكلى في الاثر والحكم بعدم الفرد كذلك مما لا يجتمعان في مرحلة الظاهر ايضاً.

و ان كان الشك من جهة وجود الفرد الآخر مع المتيقن او مقارناً لارتفاعه ففي جريان الاستصحاب في الجامع بين الفردين المحتمل بقاؤه بقيام الفرد الآخر مقام المتيقن وجوه ثالثها التفصيل بين القسمين المذكورين، فيجرى في الاول منهما، نظراً الى احتمال بقاء الكلى بعين ما وجد اولا، دون الثاني، للقطع بعدم بقائه كذلك، كما ذهب اليه شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) (1).

و اختار شيخنا الاستاذ «دام بقاه» عدم الجريان مطلقاً، قال في تقريب ذلك : ان وجود الطبيعي وان كان بوجود فرده الا ان وجوده في ضمن افراد متعددة ليس نحو وجود واحد له بل وجود كل فرد منه نحو وجود له عقلاً

ص: 536


1- الفرائد التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب، ص 372.

وعرفاً، فاذا شك انه في الزمان الاول كان موجوداً بوجود واحد او اثنين وفي ضمن فرد او فردين لم يكن الشك في نحو وجوده، بل الشك في وجوده بنحو آخر غير ما علم من نحو وجوده، فما علم من وجوده فقد علم ارتفاعه، وما شك فيه فقد شك في اصل حدوثه فاختل احد ركنى الاستصحاب فيه على كل حال، ومنه يظهر الحال في القسم الثاني بل الامرفيه اظهر «انتهى كلامه دام بقاه» (1).

اقول: لو جعلت الطبيعة باعتبار صرف الوجود مع قطع النظر عن خصوصياته الشخصية موضوعاً للحكم، كما اوضحنا ذلك في مسألة اجتماع الامر والنهي، فلا اشكال في ان هذا المعنى لا يرتفع الا بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الازمنة اللاحقة لانه في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق هذا العدم الا بعد انعدام تمام الوجودات وحينئذٍ لو شك في وجود الفرد الآخر مع ذلك الموجود المتيقن واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المعلوم فمورد استصحاب الجامع بملاحظة صرف الوجود متحقق من دون اختلال احد رکنیه، فان اليقين بصرف وجود الطبيعة غير قابل للانكار، وكذلك الشك في بقاء هذا المعنى، لان لازم الشك في كون فرد في الآن اللاحق الشك في تحقق صرف الوجود فيه وهو على تقدير تحققه في نفس الامر بقاء لا حدوث، لان هذا المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق، فحدوثه فيما اذا كان مسبوقاً بالعدم المطلق، والمفروض انه ليس كذلك، فعلى تقدير تحققه بقاء، فالشك فيه شك في البقاء (2)نعم لو اريد استصحاب وجود الخاص فهو غير جايز، لان المتيقن سابقاً

ص: 537


1- تعليقة المحقق الخراساني «قدّس سرُّه» هنا، ص ١٩٤.
2- هذا بناء على لزوم تعلق الشك بعنوان البقاء في الاستصحاب، واما على ما هو الحق من عدم لزوم ذلك وكفاية وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة - ولهذا نقول بجريان الاستصحاب في التدريجيات. فالظاهر جريان الاستصحاب في هذا القسم، حتى فيما لو كان الكلي مأخوذاً باعتبار الوجود السارى، اذ المفروض ان الموضوع للاثر نفس وجود الطبيعة، من غير ملاحظة خصوصية من الخصوصيات ومن غير ملاحظة الحدوث والبقاء في ذلك، والحق ايضاً وجود الطبيعي في الخارج بوجود افراده والذي لا يوجد انما هو وصف الكلية، كما ان الحق ايضاً ان الوجود مشترك معنوي، وليس وجود فرد مع وجود فرد آخر متباينين بالكنه، وعلى هذا فلو قطعنا بوجود فرد وزواله واحتملنا وجود فرد آخر مقارناً لوجود الفرد الاول او لزواله فالقطع والشك وان لم يتعلقا باعتبار الفرد بشيء واحد ولكن باعتبار اضافة جامع الوجود الى جامع الطبيعة قد تعلقا بامر واحد بلا اختلاف فيه اصلاً، وان لم يتعلق الشك بعنوان البقاء.(م. ع. متظله).

مقطوع الارتفاع، والمشكوك لا حقاً غير متيقن سابقاً، فاختل احد ركنى الاستصحاب.

و مما ذكرنا يظهر حال القسم الآخر، وهو ما لو شك في وجود فرد آخر مقارناً لارتفاع الموجود من دون تفاوت اصلاً.

استصحاب التدريجيات

الامر الرابع: المستفاد من اخبار الباب أن مجرى الاستصحاب ما شك في تحققه لاحقاً مع القطع بتحققه سابقاً، فحينئذٍ لافرق بين ما يكون قاراً بالذات وما يكون تدريجياً، كالزمان والزمانيات كالتكلم والحركة وامثالهما، ضرورة انها مالم تنقطع وجود واحد حقيقى، وان كان نحو وجودها ان يتصرم شيئاً فشيئا، وحينئذ فلوشك في تحقق الحركة مثلا او نفس الزمان بعد ما علم بتحققه سابقاً فقد شك في تحقق عين ماكان محققاً سابقا، فلا يحتاج في التمسك بالاخبار الى المسامحة العرفية، نعم لو كان محل الاستصحاب الشك في البقاء امكن ان يقال : ان مثل الزمان والزمانيات خارج عن العنوان المذكور، لعدم تصور البقاء لها الا بالمسامحة العرفية، لكن ليس هذا العنوان في الادلة وبعبارة اخرى المعتبر في الادلة صدق نقض اليقين بالشك، ولا تفاوت في ذلك بين التدريجيات وغيرها.

ص: 538

قال شيخنا المرتضى «قدس سرّه» في الامر الثاني من الأمور التي نبه عليها في باب الاستصحاب ما هذا لفظه : قد علم من تعريف الاستصحاب وادلته ان مورده الشك في البقاء، وهو وجود ماكان موجوداً في الزمان السابق، ويترتب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ولا في الزماني الذي لا استقرار لوجوده بل يتجدد شيئاً فشيئاً على التدريج، وكذا في المستقر الذي يؤخذ قيداً له، الا انه يظهر من كلمات جماعة جريان الاستصحاب في الزمان، فيجرى في القسمين الاخيرين بالطريق الاولى. انتهى كلامه رفع مقامه(1).

و قد عرفت صحة استصحاب نفس الزمان والزمانيات من دون الاحتياج الى مسامحة، نعم لو انقطع الزماني بما لا يعتد به عرفاً ثم وجد فعده شيئاً واحداً يحتاج الى المسامحة والا فبحسب العقل قد انصرم وحدته.

و يمكن ان يقال: ان الزمان ان لوحظ امراً محدوداً.كما يقال : إن الليل وكذا النهار عبارتان عن القطعة الخاصة المحدودة بالحدين المفروضين فلا معنى للعلم به الا بعد احراز مجموع تلك القطعة وبعد احراز وجود تمام تلك القطعة لا يبقى الشك فيه، فلا يتحقق فيه ما هو ملاك جريان الاستصحاب، نعم لو قلنا بان الليل والنهار عبارتان عن الآن السيال بين الحدين المفروضين يمكن تحقق اليقين والشك فيه، وهكذا حال الحركة ان كان المقصود الحركة المحدودة المسماة بالحركة القطعية فلا يجتمع فيها اليقين والشك، وان كان المقصود الحركة التوسطية وهي كون الجسم بين الحدين فيمكن كونها متعلقة لليقين والشك، كما هو ظاهر.

فالاولى في المقام ان يقال: ان كان موضوع الاثر الذي اريد استصحابه هو الزمان المحدود او الزماني كذلك فاستصحابه يحتاج الى المسامحة التي افادها شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» من جعل المجموع موجوداً فعليا لوجود جزئه، وان

ص: 539


1- الفرائد ص ٣٧٤.

كان القسم الآخر فلا يحتاج في الاستصحاب الى تلك المسامحة.

حول الاستصحاب في المستقر المقيد بالزمان

و أما المستقر الذي اخذ الزمان قيداً له فان اريد استصحابه في حال الشك في انقضاء الزمان الماخوذ قيداً _ كما هو ظاهر كلامه «قدّس سرُّه» هنا - فحاله حال استصحاب نفس الزمان كمن وجب عليه الجلوس في النهار مثلاً فجلس الى ان شك في انقضاء النهار او بقائه، اذ يصح ان يقال: ان جلوسه كان سابقاً جلوساً في النهار والآن كما كان(1) فيترتب حكمه اعنى الوجوب.

لا يقال ان الجلوس في هذه القطعة من الزمان ليس له حالة سابقة، ضرورة كونه مردداً من اول الامر بين وقوعه في الليل او النهار.

لانا نقول : المفروض عدم ملاحظة الجلوس في القطعات من النهار موضوعاً مستقلاً، بل اعتبر حقيقة الجلوس المتحقق في النهار موضوعاً واحداً للوجوب، وهذا واضح.

و ان اريد استصحاب الموضوع المقيد بالزمان او حكمه بعد انقضاء الزمان المأخوذ قيداً _ كما هو ظاهر كلامه «قدّس سرُّه» بعد ذلك عند التعرض للقسم الثالث، وهو ما كان مقيداً بالنهار فلا شك في عدم جريان الاستصحاب ضرورة ان الجلوس المقيد بالنهار وكذا حكمه لا يبقى بعد انقضائه.

ص: 540


1- لا يقال : هذا داخل في الاستصحاب التعليقي في الموضوع، وهو محل الاشكال، كما قرر في محله اذ تقريبه ان هذا الجلوس لو كان متحققاً سابقاً لكان جلوساً في النهار، والآن كما كان. لانا نقول: اولا يمكن تقرير الاستصحاب على نحو القضية الحقيقية، وهي من القضايا الحملية لا الشرطية، فيقال طبيعة جلوس هذا الشخص كان سابقاً في النهار، والآن كما كان. وثانياً سلمنا كونه من القضية الشخصية لكن نقول التعليق فيها غير مضر اذا كان الحكم مرتباً على الموضوع بوجه التعليق كما هو الحال في مقامنا، فان الوجوب حكم للجلوس الذي لو تحقق كان في النهار، لا للجلوس المقيد بذلك فعلاً، لعدم دخول القيد تحت قدرة المكلف.(م. ع. متظله).

حول كلام المحقّق النراقى «قدّس سرّه»

اذا عرفت ما ذكرنا فنقول : ان مراده «قدّس سرُّه» ان كان ماذكر اولا فلا وجه للقطع بعدم جريان الاستصحاب - كما افاد ذلك عند تعرضه للقسم الثالث - حيث يقول : واما القسم الثالث وهو ما كان مقيداً بالزمان فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه «الخ»، بل ينبغي القطع بصحة الاستصحاب فيه، كما لا يخفى وان كان مراده «قدّس سرُّه»، ماذكرنا اخيراً فلا وجه لجعل الاستصحاب فيه اولى منه في نفس الزمان هذا.

و كيف كان الظاهر عدم الاشكال في صحة الاستصحاب في الاقسام الثلاثة اذا كان الاثر مترتباً على نفس بقائها من دون ان يحمل ويطبق على جزئى في الخارج، واما لو اريد مع تطبيقه كذلك، كما اذا اريد ان يحكم باستصحاب الزمان يكون هذا الزمان المشكوك فيه نهاراً مثلاً، فلا يصح إلا بالاصل المثبت.

و بعبارة اخرى : ان كان الحكم مرتباً على تحقق النهار ففي الآن الثاني يحكم به بالاستصحاب ويترتب عليه ذلك الحكم، وان كان مرتباً على كون الزمان المشكوك فيه نهاراً فلا يثبت بذلك الاستصحاب، لان كون الزمان المشكوك فيه نهاراً امر آخر يلازم بقاء النهار عقلاً، اللّهم الا ان يعد من اللوازم الخفية التي لا يراها العرف واسطة فلا يضركما ياتى ان شاء اللّه.

ثم نقل «قدّس سرُّه» عن بعض معاصريه انه في صورة تعلق الحكم بالموضوع المعتبر فيه الزمان لو شك بعد انقضاء ذلك الزمان في بقاء الحكم فهناك استصحابان احدهما وجودى، والآخر عدمى، فيتعارض احدهما مع الآخر، مثلا لو علمنا بوجوب الجلوس في يوم الجمعة الى الزوال، ثم شككنا بعد الزوال، فههنا :اصلان احدهما استصحاب وجوب الجلوس، والآخر استصحاب عدمه، ورد عليه «قدّس سرُّه» بان الزمان ان اخذ قيداً فليس هناك الا استصحاب العدم، لان الجلوس المقيد بما بعد الزوال لم يكن واجباً قطعاً، وان اخذ ظرفاً فليس هناك الا استصحاب الوجود، لان عدم الوجوب انقطع بنقيضه، فلا

ص: 541

يجرى فيه الاستصحاب بخلاف الوجوب، فانه كان ثابتاً قبل الزوال فيشك في بقائه بعده «انتهى ملخصاً». (1)

اقول يمكن ان يوجه كلام المعاصر المذكور على نحو يسلم عما أورد عليه، بان نختار الشق الاول ونقول : بان الزمان وان اخذ قيداً في الموضوع الذي تعلق به الوجوب إلا ان نسبة الوجوب الى المهملة عن اعتبار الزمان صحيحة لاتحاد المهملة مع الاقسام، كما بينا ذلك في محله، وبنينا على ذلك صحة اجراء اصالة البرائة في القيد المشكوك، فراجع مسألة الاقل والاكثر(2)، وعلى هذا نقول : لو وجب الجلوس المقيد بما قبل الزوال فبعد انقضاء الزوال يمكن ان يقال ذات الجلوس كان واجباً قبل الزوال ونشك في بقائه، فيحكم ببركة الاستصحاب ببقاء الوجوب لاصل الجلوس فيما بعد الزوال ويعارض باستصحاب عدم

وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال لانه بهذا القيد مشكوك الوجوب.

او نختار الشق الثاني ونقول : ان الزمان وان اعتبر ظرفاً في الدليل الذي دل على ثبوت الحكم على الموضوع لكن بعد انقضاء ذلك الزمان كما انه يصح ان يلاحظ ذلك الفعل ويقال : انه كان واجباً في السابق ونشك في بقاء وجوبه، كذلك يصح ان يلاحظ مقيدا ويقال : إنّ هذا الموضوع المقيد لم يكن واجباً في السابق والآن كما كان فيتعارض الاصلان في طرف الوجود والعدم.

و فيه ان الشق الأول وان امكن تصوره لليقين السابق بوجوب حقيقة الجلوس على سبيل الاهمال والشك اللاحق كذلك، لكنه راجع الى استصحاب القسم الثالث من الكلى، وقد سبق من شيخنا المرتضی «قدّس سرُّه» اختیار عدم جريانه، ونحن وان قلنا بصحته لكنه في المقام محكوم، لان الشك فيه مسبب عن الشك في وجوب فرد آخر من الجلوس (3)، والاصل عدمه، وعلى كل

ص: 542


1- الفرائد ص ٧-٣٧٦.
2- ص 8 – 477.
3- قد سبق الاشكال في ترتب عدم الكلي على الاصل المثبت لعدم الفرد، وعلى هذا فالحق في هذا القسم تسليم المعارضة، نعم يمكن منعها في القسم الآخر والقول بان استصحاب الوجود في مطلق الجلوس حاكم على استصحاب العدم في الجلوس المقيد بما بعد الغاية، توضيح ذلك ان تعلق الوجوب بالجلوس المقيد تارة يكون بالاصالة وهذا في المقام اما مقطوع العدم واما مستصحبه، ولكن لا منافاة بينه وبين استصحاب الوجود في الجلوس المطلق، واخرى يكون بالتبع لاجل سراية الحكم من الجلوس الكلي الى الجلوسات المقيده، وهذا هو الذي ينافي استصحاب عدمه في الفرد مع استصحاب الوجود في الكلي، ولا يرفع هذه المنافاة بما ذكر في المتن. اذ فيه اولا انه متأت فيما اذا أتى دليلان اجتهاديان مؤدى هذين الاستصحابين، فكان مفاد احدهما ان كلي الجلوس واجب الى ما بعد الغاية، ومفاد الآخر ان هذا الجلوس الشخصي المقيد بما بعدها غير واجب، فلا شك ان العرف يحكم بالمعارضة بينهما. وثانياً مفاد استصحاب الوجوب الى ما بعد الغاية وان كان ملاحظة الزمان ظرفاً للوجوب لكن الواجب ايضاً مقيد لباً بذلك الظرف كما هو المشاهد في الامثلة العرفية، واذاً فالمنافاة اوضح. والذي ينبغي ان يقال في دفعها ان الشك في الوجوب التبعي للفرد ناش عن الشك في الوجوب الاصلي للكلي، فاذا حكم بثبوت الوجوب للكلي كان من اثره ثبوت الوجوب التبعي للفرد، وليس من اثر عدم الثبوت للفرد عدم الثبوت للكلي، وان كانا متلازمين حتى في مرحلة الظاهر، اذ لا يجتمع عدم وجوب الفرد ولو في الظاهر مع وجوب الكلي ولو ظاهراً. فان قلت: ثبوت الوجوب للفرد اذا كان ثابتاً للكلي انما بحكم العقل، وليس الترتب شرعياً كما في ترتب طهارة الثوب على طهارة الماء والمعتبر في الحكومة المصطلحة ذلك. قلت: کلا، بل الحاكم بالترتب هو الشرع، وشأن العقل انما هو ادراك ما حكم به الشرع، فالشرع يحكم على الكلي، وحكمه يسري الى الفرد والعقل يدرك ذلك، واذاً فاستصحاب الوجوب للكلي مثبت للوجوب في الفرد بعنوان الواقع واستصحاب العدم في الفرد لا يثبته في الكلي بهذا العنوان، بل بعنوان الشك، لمكان الملازمة بينهما حتى في الظاهر.(م. ع. مدظله).

حال لا يصح القول بالتعارض هذا في الشق الأول.

و اما الشق الثاني فاستصحاب الوجوب ليس له معارض، فان مقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بالزمان الخاص ان هذا المقيد ليس مورداً للوجوب على نحو لوحظ الزمان قيداً، ولا ينافي وجوب الجلوس في ذلك

ص: 543

الزمان الخاص(1) على نحو لوحظ الزمان ظرفاً للوجوب.

في الاستصحاب التعليقي

الامر الخامس: قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب التقديري والتعليقي، وهو ان يثبت الحكم المشروط بشيء المتعلق بموضوع في الآن السابق المشكوك بقائه لذلك الموضوع لاختلاف حال من حالاته، مثل ان العنب كان حكمه النجاسة المعلقة على الغليان وبعد ما صار زبيبا - والمفروض عدم صيرورته بواسطة الجفاف موضوعاً آخر عند العرف يشك في أن النجاسة المعلقة على الغليان التي كانت ثابتة لهذا الموضوع حال كونه عنباً هل هي : باقية بعد

ص: 544


1- اقول : كيف لا ينافيه بعد رجوع ظرفية الزمان للوجوب الى تقيد الجلوس به لباً ؟ ألا ترى انه لو قيل: اجلس في الغد فلا يراد منه تعلق الوجوب بالاعم من الجلوس فيه او فيا بعده، فالصواب في الجواب هو القول بحكومة الاصل الجاري في حكم الكلي على الجاري في حكم الفرد، وبيانه ان الكلى والفرد وان كانا متحدين وجوداً وعرضاً، فلا سببية بينهما لا بحسب الوجود ولا بحسب الحكم، لكن مع ذلك يفترق قولنا اكرم العلماء مثلا مع قولنا اكرم هؤلاء، في ان الاول مفيد لعلية جهة العالمية في وجوب اكرام كل فرد فرد، وعلى هذا فاستصحاب حكم اكرم العلماء حيث انه مفيد لبقاء العلية حاكم على استصحاب عدم وجوب اكرام،زيد ولعل هذا هو السر في استصحاب عدم نسخ حكم الكلي وتقدمه على استصحاب النفي في الافراد الحادثة، وهذا البيان تقدر على اثبات حكومة الاستصحاب التعليقي على التنجيزي المخالف، فانا نقول : قضية «العصير اذا على يحرم» وان كان متحداً مع الحرمة الفعلية بعد الغليان ولكن الاول مفيد لعلية الغليان، فاستصحابه رافع للشك في بقاء عليته، وكما ان الاصل الحاكم بوجود العلية الشرعية حاكم على الاصل الجاري في طرف المعلول، كذلك الاصل المفيد لبقاء وصف العلية الشرعية في ذات العلة. نعم ما ذكرناه انما يجري فيما اذا يسرى الحكم من الكلي الى الفرد واما في صورة العكس فلا مساغ لاثبات حكومة احد الاصلين على الآخر، كماهو واضح فما في المتن من اثبات الحكومة في هذه الصورة محل منع.(م. ع. متظله).

صيرورته زبيبا ام لا ؟

لا اشكال في صحة هذا الاستصحاب لعدم الفرق في شمول ادلة الباب بين ما يكون الحكم المتيقن في السابق مطلقاً او مشروطاً، ولا.يتوهم ان الحكم المشروط قبل تحقق شرطه ليس بشيء، اذ قد تقرر في محله تحققه ووجوده قبل وجود شرطه، وكما ان وظيفة الشارع جعل الشيء حراماً مطلقاً مثلاً كذلك وظيفته جعله حراماً على تقدير كذا، فاذا شك في بقاء الحرمة المعلقة في الآن الثاني يصح ان يجعل حرمة ظاهرية معلقة على ذلك الشرط، واذا صح ذلك فشمول ادلة الاستصحاب مما لا ينبغي ان ينكر، وهذا واضح.

في تعارض الاستصحاب التعليقي مع الفعلي

و إنما الاشكال في تعارضه مع استصحاب الحكم الفعلي، مثلاً الزبيب اذا على فهناك حالتان في السابق يصح استصحاب كل منهما، احداهما الحرمة على تقدير الغليان والثانية الاباحة الفعلية الثابتة قبل الغليان، فهل يكون لاحدهما تقدم على الآخر ام لا ؟ قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» ان استصحاب الحكم التعليقي مقدم لحكومته على استصحاب الحكم الفعلى (1).

اقول : عندى فيما افاده قدّس سرّه نظر فان الشك في بقاء الاباحة الفعلية وان كان مسبباً عن الشك في جعل الحرمة التعليقية، إلا ان ترتب عدم الاباحة من جهة ان العقل يحكم بثبوت الحرمة الفعلية عند تحقق الشرط وهي تضاد الاباحة، وهذا الحكم العقلى وان كان من لوازم الحكم التعليقي سواء كان ظاهر يا ام واقعيا - نظير الحكم بلزوم الامتثال - لكنه يصحح الاخذ بهذا اللازم، وانه ليس قولا بالاصل المثبت، ولا يصحح الحكومة، لما عرفت من ان عدم الاباحة حينئذ من جهة عدم امكان الجمع بينهما، وكما يترتب على الاستصحاب التعليقى عدم الاباحة بحكم العقل كذلك يترتب على استصحاب الحكم الفعلى عدم الحكم التعليق بحكم العقل، اذ لا يجتمع الاباحة ولو ظاهراً مع ما يكون

ص: 545


1- الفرائد التنبيه الرابع، ص 3/80.

علة لضدها.

و بعبارة أخرى ليس العصير بعد الغليان محكوماً بالحرمة بحسب الدليل شرعاً مع قطع النظر عن الشك حتى يكون حاكماً على ما يقتضى اباحته بملاحظة الشك، بل الحكم بالحرمة انما جاء من حكم العقل بفعلية الحكم المعلق عند تحقق ما علق عليه (1)، والمفروض ان الحكم المعلق ايضاً حكم مجعول للشاك، فيصير فعلياً للشاك ايضاً بحكم العقل، فتدبر.

و مما ذكرنا يظهر ما في كلام شيخنا الاستاذ «دام بقاه»(2) من تصحيح الحكومة بكون اللازم من اللوازم العقلية للاعم من الواقعي والظاهري.

نعم لو قلنا بتقديم الاصل في الشك في السبب من جهة تقدمه على الشك في المسبب طبعاً وان لم يكن من آثار الاصل الجاري في السبب رفع الشك عن المسبب شرعاً صحت الحكومة هنا، وسيجيء ان شاء اللّه عند ذكر تعارض الاصلين زيادة توضيح للمطلب، فانتظر.

في استصحاب أحكام الشريعة السابقة

الامر السادس: لوشك في بقاء الحكم الثابت في الشريعة السابقة فهل يحكم

ص: 546


1- يمكن منع كونه من حكم العقل وانما نشأ من حكم الشرع، بمعنى ان الارادة التعليقية اذا انقدحت في نفس الآمر او الفاعل وان كانت على المختار قبل حصول المعلق عليه متصفة بالوجود الفعلي، لكنها عارية عن وصف الفاعلية ومحركية العضلات، وانما يتحقق فيها هذه الصفة بعد حصوله، فهذه الصفة امر نفساني لها واقع محفوظ يدركه العقل، وليس من انشاءات العقل وعلى هذا فنقول : الاصل المثبت للحكم التعليقي مثبت لوصف الفاعلية بعد المعلق عليه بلسان الدليلية، والاصل النافي لوصف الفاعلية لا ينفى الحكم التعليقي بذلك. اللسان، بل بلسان التخصيص ورفع الحكم الاستصحابي عن موضوعه الذي هو الشك، فلهذا يكون الاصل المثبت في مقامنا مقدماً على النافي من باب تقدم التخصص على التخصيص.(م. ع. مدظله).
2- تعليقة الفرائد، هنا، ص ٢٠٠.

بالبقاء بواسطة الاستصحاب ام لا؟ توضيح المقام ان هذا الشك : تارة يفرض بعد القطع بنسخ اصل الشريعة السابقة، واخرى يفرض بواسطة الشك في ذلك.

أما الاول فالحق جواز اجراء الاستصحاب والحكم ببقاء الحكم المشكوك فيه في هذه الشريعة فان المقتضى - اعنى عمومات الادلة - موجود، وليس في المقام ما يصلح للمانعية عدا امور توهم كونها مانعة:

منها، ان الحكم الثابت لجماعة لا يمكن اثباته في حق آخرين، لتغاير الموضوع، فان ما ثبت في حقهم مثله لانفسه.

والجواب: اولا بالنقض باستصحاب عدم النسخ، فان الحكم المفروض كان ثابتاً لجماعة وثبت بالاستصحاب في حق الآخرين، وثانياً بالحل، وهو ان المستصحب كان حكماً ثابتاً للعنوان الباقي ولو بتبدل الاشخاص، لانفس الاشخاص ليلزم تعدد الموضوع، فالموضوع هيهنا كالموضوع في الوقف على العناوين كالفقراء والطلبة وغيرهما هذا ملخص ما اجاب به شیخنا المرتضى (قدّس سرُّه) (1)، وهو كلام متين.

و اجاب ايضاً نانا نفرض الشخص الواحد مدركاً للشريعتين، فاذا ثبت في حقه حكم في الشريعة السابقة وشك في بقائه في اللاحقة يجرى في حقه الاستصحاب، ويكون هذا حكم الشخص المفروض، وبعد وجود المعدومين في

عصره يسرى الحكم المذكور اليهم، لقيام الضرورة على اتحاد حكم اهل العصر الواحد(2).

و هذا بظاهره مخدوش كما افاد شيخنا الاستاذ في حاشيته(3)، لان قضية الاشتراك تقتضى كون الاستصحاب حكماً كليا ثابتاً في حق كل من كان

ص: 547


1- الفرائد التنبيه الخامس، ص381.
2- الفرائد التنبيه الخامس، ص381.
3- تعليقة الفرائد ص 200.

على يقين من شيء فشك، دون من لم يكن كذلك، فتسرية الحكم الثابت بالاستصحاب في حق من كان موضوعاً له الى من لم يكن موضوعاً له، مما لا وجه له اصلا.

و يمكن ان يكون نظره الى ان المعدوم الذي يوجد في زمن المدرك للشريعتين متيقن الحكم ذلك المدرك في الشريعة الاولى وشاك في حكمه ايضاً في هذه الشريعة، فيحكم بادلة الاستصحاب ببقاء ذلك الحكم للشخص المدرك للشريعتين، ثم يحكم بثبوته لنفسه بواسطة الملازمة الثابتة بالشرع، وبعبارة أخرى الحكم الثابت للمدرك للشريعتين بمنزلة الموضوع لحكمه، وهذا الاستصحاب في حق المعدوم الذي وجد في عصره من الاصول الجارية في الموضوع، فافهم.

و منها: ان هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرايع، فلا يجوز الحكم بالبقاء.

وفيه: ان نسخ جميع الاحكام غير معلوم، ونسخ البعض غير قادح.

لا يقال : انا نعلم بنسخ كثير من الاحكام السابقة، والمعلوم تفصيلاً ليس بالمقدار المعلوم اجمالاً حتى ينحل.

لانا نقول: الافعال التي تعلق بها حكم الشرع بين ما علم تفصيلاً بنسخ حكمه الثابت له في الشريعة السابقة وبين مالم يعلم بذلك، والثاني على ضربين لانه إما ان يعلم حكمه الشرعي الثابت له في هذه الشريعة، وإما لا، والثاني على ضربين: لانه إما لم يعلم حكمه في الشريعة السابقة ايضاً، وإما يعلم ذلك، ومجرى الاستصحاب هو القسم الاخير فقط، وقد تقرر جواز اجراء الاصل في بعض اطراف العلم ان كان سليما من المعارض، ودعوى العلم الاجمالي بوقوع النسخ في القسم الاخير مما لا يصغى اليه لانه في غاية الندرة كمالا يخفى.

ومنها: ما حكى عن المحقق القمى «قدّس سرُّه» من ان جريان الاستصحاب مبنى على القول يكون حسن الاشياء ذاتياً، وهو ممنوع، بل

ص: 548

التحقيق انه بالوجوه والاعتبار.

استصحاب نبوة النبي السابق

و الظاهر ان مراده «قدّس سرُّه» بكون حسن الاشياء ذاتياً الذي جعله مبنى لصحة الاستصحاب ليس كونها علة تامة للحسن، والا لكان النسخ محالا، ولم يقع موردا للشك حتى يثبت عدمه بالاستصحاب، بل مراده «قدّس سرُّه»، كونها مقتضية، وحاصل مرامه على هذا أن صحة استصحاب عدم النسخ مبنية على القول بان الفعل الذي كان حسناً في السابق كان من جهة اقتضائه لذلك، حتى يرجع الشك في نسخه الى الشك في وجود المانع، وأما ان قلنا بالوجوه والاعتبار فلا يجرى الاستصحاب لاحتمال ان يكون للزمان دخل في حسن ذلك الفعل، فمقتضى بقاء الحسن غير محرز هذا غاية توجيه كلامه «قدّس سرُّه».

و فيه اولا: انه على هذا المبنى لا يصح استصحاب عدم نسخ حكم الشريعة اللاحقة ايضاً لو شك في ارتفاعه لعين ماذكر.

و ثانياً : انا قلنا فيما مضى انه لا فرق على القول باخذ الاستصحاب من الاخبار بين ان يكون الشك في المانع او في المقتضى، فراجع.

و اما الثاني: اعنى صورة كون الشك في بقاء الاحكام السابقة من جهة الشك في نسخ اصل الشرع، فنقول : انه لو فرض بقاء هذا الشك بعد التفحص الذي هو شرط للعمل بالاستصحاب فجواز التمسك به لهذا الشاك يبتنى على احد أمرين : إما ان يعلم ان هذا الحكم الاستصحابي حكم في كل من الشريعتين، واما ان يعلم بان هذا الحكم ثابت في الشريعة اللاحقة، لانه على الاول يعلم ان هذا الحكم غير منسوخ وعلى الثاني يعلم بان المجعول في حقه مثلاً البقاء على الحكم السابق، إما لكونه حكماً واقعياً له، وإما لكونه حكماً ظاهرياً.

فائدة

حكى عن بعض السادة أنه ابتلى بمخاصمة وقعت بينه وبين بعض علماء

ص: 549

اليهود، فتمسك العالم اليهودي لاثبات دينه باستصحاب نبوة موسى على نبينا وآله و(عَلَيهِ السَّلَامُ)، لاعتراف المسلمين على اصل ثبوتها وحقيتها، قال: فعلى المسلمين اقامة الدليل على ارتفاعها وانقطاعها، وهذه الشبهة قد اشار اليها الجائليق لاثبات نبوة عيسى على نبينا وآله و(عَلَيهِ السَّلَامُ) في مجلس المأمون، فاجابه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بانى مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به امته وما اقرت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكتابه ولم يبشر به امته(1) فاجابه الفاضل المذكور على حسب ذلك بانا نقول بنبوة موسى الذي اقر بنبوة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، ولا نقول بنبوة كل موسى لم يقر بنبوة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ)، فاعترض عليه اليهودي بان موسى بن عمران حاله معهود و شخصه معروف قد ادعى النبوة وجاء بدين وشريعة، وانتم تعرفون صحتها ولا يتفاوت ثبوت ذلك بين ان يقول بنبوة محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) اولا يقول بها، فنحن نقول بنبوة ذاك الشخص المعهود وبقائها بحكم الاستصحاب، فعليكم بابطاله «انتهى حكاية المخاصمة بين اليهودى وبعض السادة».

و قد اجابوا عن اشكال اليهودى باجوبة لا يهمنا ذكرها.

والحق في الجواب ان اليهودى المذكور تارة يريد ان يتمسك بالاستصحاب لتكليف نفسه فيما بينه وبين ربه واخرى يريد الزام الخصم.

فان كان غرضه تكليف نفسه فنقول : بقاء نبوة موسى على نبينا وآله و(عَلَيهِ السَّلَامُ) الراجع الى بقاء احكامه في نفس الامر ملزوم لامرين: احدهما وجوب الاعتقاد والعلم بذلك الذي هو مقتضى الايمان والثاني وجوب العمل بتلك الاحكام.

فان اراد اثبات اللازم الاول بالاستصحاب فهو غير معقول، لانه حكم

ص: 550


1- توحيد الصدوق، باب ذكر مجلس الرضا ص ٤٢٠ (طبعة الصدوق).

مجعول للشاك بوصف انه شاك، ولا يمكن الايجاب على الشاك في امر مع وصف انه كذلك - تحصيل الاعتقاد والعلم بذلك الامر، نعم يمكن ان يجب على الشخص في حال الشك تحصيل العلم كما انه يجب على العباد تحصيل العلم بالمبدأ والوسائط والمعاد، ولكن هذا التكليف راجع الى ايجاب ازالة تلك الحالة اعنى الشك، لا انه تكليف متعلق بالموضوع الشاك، والاول امر ممكن واقع، والثاني محال لرجوعه الى اجتماع النقيضين.

و ان اراد اثبات اللازم الثاني فهو ممكن، الا انه عرفت ان التمسك بالاستصحاب مشروط بالفحص، ولو تفحص اليهودي ورفع اليد عن العصبية وما اخذ من آبائه تقليداً لظهر له حقية مذهب الاسلام، لوضوح الادلة والبراهين القائمة على صدقه، بحيث لم يبق له حيرة ولا شك، حتى يحتاج الى التمسك بالاستصحاب، وهذا امر مقطوع لا ريب فيه اصلا، نعم لو فرض محالا بقاء الشك له بعد الفحص فالتمسك بالاستصحاب لعمل نفسه بالاحكام السابقة، ان كان الحكم الاستصحابي مجعولاً في الشريعتين، أو الجرى على التكاليف الثابتة في شريعة موسى من جهة انه اما تكليف واقعي له او ظاهري، مما لا مانع له، ولا يضر ذلك اجداً، ولا ربط له في ابطال مذهب الخصم وحقية مذهبه كما هو ظاهر هذا اذا كان غرضه اثبات تكليف نفسه.

و اما ان كان غرضه الزام الخصم كما هو ظاهر قوله: فعليكم اقامة الدليل «الخ» فنقول : من الامور المعتبرة في الاستصحاب المجعول في حقنا اليقين بامر في الزمن السابق، والشك في ذلك الامر في الزمن اللاحق، ونحن لو قطعنا النظر عن اخبار نبينا وكتابه الذي اخبر بنبوة موسى لا نعلم بوجود موسى فضلاً ملاحظة نبوة محمَّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكتابه واخباره بنبوة

عن نبوته، ومع موسى على نبينا وآله و(عَلَيهِ السَّلَامُ) نعلم بنبوته ونعلم بنسخه ايضاً، فكيف تلزم ايها اليهودي بالاستصحاب جماعة ليس لهم علم بالامر السابق على تقدير

وليس لهم شك في انقطاع ذلك الامر على تقدير آخر.

ص: 551

في الاصل المثبت

الامر السابع: نقض اليقين بالشك ليس امراً اختيارياً للمكلف حتى يقع مورداً للتكليف، فالقضية بعد القطع بعدم كون ظاهرها مراداً محمولة بحكم العرف على النهى عن النقض عملاً، فيحصل المعنى حرمة نقض اليقين ووجوب الابقاء في حال الشك من حيث العمل، فيختص مورد التكليف بما اذا كان لليقين السابق على فرض بقائه عمل يصح للشارع ان يجعله مورداً للتكليف، وحيث ان هذه القضية وردت لرفع تحير المكلف من جهة تكليفه الواقعي لزم ان يكون لليقين السابق على تقدير بقائه عمل متعلق للتكليف الشرعي، وان لم يكن في السابق كذلك، فخرج اليقين الذي لم يكن له على تقدير بقائه عمل اصلا، وكذا ما لم يكن له عمل متعلق للتكليف الشرعي.

في أنّ الاستصحاب مختص بالأحكام الشرعية أو موضوع ذي حكم شرعي

اذا عرفت هذا فنقول : ان كان المتيقن في السابق حكماً من الاحكام الشرعية متعلقاً بموضوع من الموضوعات او موضوعاً خارجياً تعلق به الحكم الشرعي من دون واسطة فدخوله في مورد الاخبار مما لا اشكال فيه لان اليقين بالحكم له عمل، وهو الاتيان بموضوع متعلق للحكم الشرعي، وكذا اليقين بموضوع مورد للتكليف بلا واسطة مثلاً لو تيقن بكون مايع خيراً فعمل هذا اليقين من حيث الطريقية ترك شرب ذلك المايع، وابقاء عمل اليقين في الحالة الثانية ترك شربه ايضاً، فيرجع قوله : «لا تنقض اليقين بالشك» فيما لوكان المتيقن وجوب الصلاة، مثلاً الى ايجاب الصلاة، وفيما لو كان كون المايع خمراً فشك الى حرمة شربه، لان ترك الصلاة في الاول نقض لليقين بالوجوب عملاً، وكذا شرب ذلك المايع في الثاني.

و من هنا عرفت معنى ما هو المعروف من ان الاستصحاب في الاحكام الشرعية عبارة عن جعل الحكم المماثل للمتيقن وفي الموضوعات عبارة عن جعل آثارها، مع وحدة الدليل الدال على ذلك، فاضبط.

ص: 552

ثم ان ما قلنا من انه لابد ان يكون لليقين عمل ليس المراد كون ذلك العمل متعلقاً للتكليف الشرعي مستقلاً، بل المراد اعم منه ومن ان يكون له دخل وربط بالموضوع المتعلق للحكم بنحو من انحاء الربط، كالقيد والشرط، فالميزان ان يكون لليقين عمل بواسطة الشرع سواء كان من جهة كون شيء موضوعاً للتكليف مستقلاً، أو من جهة دخله في الموضوع بنحو من الانحاء، ضرورة ان تقييد مورد الادلة بالصورة الاولى مما لاوجه له اصلا، لان مقتضى العموم عدم جواز نقض كل يقين له عمل يصح للشارع ان يحكم به.

حول عدم حجّية مثبتات الاستصحاب و بیان مواردها خفاء و وضوحاً

و اما ان لم يكن المتيقن في السابق حكماً من الاحكام الشرعية ولا موضوعاً رتب عليه الحكم شرعاً بلا واسطة فهو على انحاء: احدها ما لا ينتهى الى أثر شرعی اصلا، والثاني ما ينتهى اليه بنحو من الانحاء، لا اشكال في خروج الاول من الادلة، واما الثاني فهو على اقسام وكلها يسمى بالاصول المثبتة. لكن يختلف بعضها مع بعض في الخروج عن مورد الادلة وضوحاً وخفاءاً:

احدها ما ينتهى بواسطة اللوازم العادية او العقلية الى اثر شرعى.

و الثاني ماينتهي بواسطة الملازمة بينه وبين شيء آخر؛ إما عقلا، وإما عادة، واما اتفاقاً الى اثر شرعى.

و الثالث ما يكون ملزومه اثراً شرعياً او موضوعاً لا ثر شرعى.

و الرابع ان يكون لازمه اثراً شرعياً، ولكن لم يكن ترتبه على ذلك الموضوع بشرعي، كما لو احرز مقتضى الوجوب وشك في المانع، فاصالة عدم المانع وان كان يترتب عليها الوجوب وهو حكم شرعى، لكن ترتب هذا الحكم على وجود المقتضى وعدم المانع ترتب عقلى كمالا يخفى.

و الخامس ان يكون المستصحب او اثره من الامور الانتزاعية التي منشأ انتزاعها بيد الشرع، كاستصحاب الشرطية أو عدمها، أو المانعية، أو عدمها، بناء على عدم كونها من الامور المجعولة في حد ذاتها، كما هو التحقيق.

اما خروج الثاني والثالث عن مورد الادلة فظاهر، فان الابقاء العملى

ص: 553

للشيء ليس اخذاً بملازمه او اثر ملازمه في الوجود، او ملزومه.

و اما الرابع فقد يتوهم شمول دليل الاستصحاب له، من جهة ان الحكم الشرعي وان كان ترتبه بحسب الواقع عقلياً، الا انه يمكن ان يرنبه الشارع عند الشك، فان العقل غير حاكم بترتب الأثر عند الشك في المانع، فالحكم به في حال الشك ليس خارجاً عن وظيفة الشارع.

و فيه أن عنوان عدم المانع ووجوده كالمقتضى بعنوانه وكذا العلة ليس له اثر حتى عقلا، فان مثل تلك العناوين انما ينتزع من تأثير شيء بعنوانه الخاص في شيء، لا ان الآثار تتحقق بها، وهذا واضح جداً.

و اما الخامس فلا يبعد دخوله في الادلة حيث ان الحكم ببقاء ما هو من قبيله بجعل منشأ انتزاعه فهو مما تناله يد التصرف، وليس خارجاً عن وظيفة الشارع ودعوى انصراف الاخبار عن مثله ليس لها وجه، والمسألة محل تأمل(1).

و اما القسم الاول فالتحقيق فيه عدم دخوله في الاخبار وعدم شمولها له، لان الابقاء العملى للشيء ينصرف الى اتيان ما يقتضيه ذلك الشيء بلا واسطة.

فان قلت: لو تيقن بشيء ليس له اثر الا بواسطة الوسايط فمقتضى اصالة الاطلاق في لفظ اليقين الحكم بدخول هذا المتيقن ايضاً، فيحكم بوجوب ترتيب الآثار مع الواسطة، لانحصار الاثر فيها بالفرض، واذا صح في ذلك يتم في غيره لعدم القول بالفصل.

ص: 554


1- ولا يتوهم انه بناء على مامر - من تفسير عدم نقض اليقين بمعاملة الشاك عمل المتيقن -لا يصح اجراء الاستصحاب في الشك في الجزئية واخواتها اذ لا عمل لليقين بهذه الأمور، لاستناد العمل الى اليقين بالتكليف الذي هو منشأ انتزاعها فانه يجاب بان مقامنا ليس باسوأ حالاً من الاستصحاب الجاري في الموضوع مع ان العمل مستند الى اليقين بالحكم المرتب على ذلك الموضوع، فكما يصح اسناد العمل الى اليقين بالموضوع مسامحة كذلك يجري نظير هذه المسامحة في مقامنا ايضاً.(م. ع. متظله).

قلت: قد قلنا بان المراد من نقض اليقين في القضية هو النقض العملي، فكما تصرف بحكم دلالة الاقتضاء الى ذلك تصرف بحكم الانصراف الى ما يكون نقضاً عملياً لنفس المتيقن ابتداء، لا بواسطة الوسائط، فاليقين بامر ليس له أثر شرعاً بل ينتهى بالوسائط الى اثر شرعى ليس له نقض عملى، على نحوما ينصرف اليه القضية، فلا تشمله.

و من هنا يظهر انه لا يتفاوت الامر بين ان يكون هناك لفظ يدل على عموم افراد اليقين وضعا او لا يكون الا اطلاق لفظ اليقين، اذ الدعوى المذكورة تتعلق بانصراف المادة، فلو كانت مدخولة للفظ الكل ايضاً لما دل الا على احاطة افراد ما دلت عليه المادة.

فان قلت: فعلى ما ذكرت لا يمكن اثبات اللوازم الشرعية الثابتة مع الواسطة في صورة قيام الامارة او الطريق على شيء، فان معنى قول الشارع «صدق العادل» او «اعمل بالبينة» ليس الا جعل المؤدى بمنزلة الواقع فيما يترتب عليه، واذا لم يكن لما اخبر به العادل اثر شرعاً بل ينتهى بتوسط اللوازم العادية او العقلية الى اثر شرعى فمقتضى ما ذكرت في دليل الاستصحاب ان لا يشمله دليل الحجية هنا ايضاً لان العمل بالاثر الشرعي المفروض ليس أخذاً بمفاد خبر العادل ابتداء.

حول حجّية مثبتات لأمارات و الطرق

قلت: الوجه في ذلك ان الطرق والامارات انما اعتبرت من جهة كشفها عن الواقع وافادتها الظن النوعى به ولا اشكال في ان ما يكشف عن الملزوم يكشف عن اللازم بعد العلم بالملازمة، فالظن النوعى المتعلق باللازم ظن حاصل من تلك الامارة ودليل حجيتها دل على اعتبار الظن النوعى الحاصل منها، فهنا فردان من الكشف الحاصل منها، فان كان كل منهما قابلاً للاعتبار يشملهما دليل الحجية وان كان احدهما دون الآخر يدخل هو تحت دليل الحجية دونه.

و بهذا يظهر انه لو كان مفاد الامارة ابتداء امراً لم يكن شرعياً ولا موضوعاً

ص: 555

للاثر الشرعي ولكن ينتهى الى أثر شرعي بالف واسطة يثبت ذلك الاثر الشرعي، لان الامارة تكشف عن وجود ذلك الاثر ويصير مظنوناً بالظن النوعي الحاصل من تلك، ولا يتوقف اثبات هذا الأثر الشرعي على اعتبار الامارة في الوسايط حتى يستشكل بانها ليست قابلة لان يعتبر فيها الامارة، بل دليل الحجية يشمل الكشف الحاصل من تلك الامارة عن الاثر الشرعي ابتداء.

و من هنا يظهر الجواب عن شبهة ربما يتوهم ورودها على الحكم بنفى الثالث بالخبرين اللذين تعارض مدلولهما وحاصل الشبهة ان دلالة كل منهما على نفى الثالث دلالة التزامية وبعد سقوطهما في المدلول المطابقي وعدم حجيتهما فعلاً فيه كيف يؤخذ بمدلولهما الالتزامي الذي تبع لمدلولهما المطابق، وحاصل الجواب على ما عرفت هنا ان كشف كل منهما عن المعنى الالتزامى وان كان تبعاً للكشف عن المطابقى في الوجود ولكن ليس تبعاً له في الاعتبار والحجية، لان كلا منهما کشف حاصل من الخبر فسقوط الكشف الاول عن الحجية بواسطة المعارض لا يلازم سقوط الثاني.

و من هنا يعل_م وج_ه اخذ ما يلازم مفاد الامارة في الوجود سواء كانت الملازمة عادية او عقلية او اتفاقية.

و من هنا يعلم انه لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن لم يكن مناص من القول بالاصل المثبت لعدم انفكاك الظن بالملزوم عن الظن باللازم والظن باحد المتلازمين عن الظن بالآخر، اللّهم الا ان يقال بان بناء العقلاء على اعتبار الظن بالبقاء الحاصل من الكون السابق لا الظن بحدوث امر يلازم بقاء ذلك الشيء، وعلى هذا يحمل عدم ذهابهم الى حجية الاصل المثبت مع ان بناء المعظم على حجيته من باب الظن.

وكيف كان بناء على التحقيق من اخذ الاستصحاب من الاخبار يجب ان يقتصر في مورده على ما اذا كان المستصحب حكماً شرعياً او موضوعاً لحكم

ص: 556

شرعى من دون واسطة امر عادى او عقلي.

استثناء ما كانت الواسطة خفية

نعم يستثنى من ذلك ما اذا كانت الواسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفية والسرفي ذلك ان العرف لايرى ترتب الحكم الشرعي على تلك الواسطة بل يراه مرتباً على نفس المستصحب، وخطاب لا تنقض اليقين بالشك كساير الخطابات تعلق بالعنوان باعتبار مصاديقه العرفية لا الواقعية العقلية، ولذا لا يحكم بواسطة دليل نجاسة الدم بنجاسة اللون الباقي منه بعد زوال العين، مع انه من افراد الدم بنظر العقل والدقة بواسطة استحالة انتقال العرض، فما يتوهم من ان المسامحة العرفية بعد العلم بخطائهم لا يجوز الاعتماد عليها وان المقام من هذا القبيل ناش عن عدم التامل(1)، فان المدعى ان مورد الحكم بحسب الدقة هو المصاديق العرفية، نعم لو ترتب حكم على عنوان باعتبار ما هو مصداقه بحسب الواقع لا يجوز الاعتماد على ما يراه العرف مصداقاً من باب المسامحة، وهذا واضح جداً.

و استثنى شيخنا الاستاذ «دام بقاه» ايضاً ما اذا كانت الملازمة بين الشيئين جلية بحيث يستلزم التنزيل في احدهما التنزيل في الآخر، كالابوة

ص: 557


1- هذا بناء على ما هو الحق من عدم اختصاص المرجعية للعرف في تعيين مفاهيم الخطاب، بل يعم ذلك وتعيين المصاديق بعد تبين المفاهيم، لا بمعنى تقييد الخطاب بهذا القيد حتى يكون مستهجنا بل بمعنى ان المتكلم مع العرف يجعل نفسه كواحد منهم فما يراه العرف مصداقاً يكون موضوع حكمه بحسب الدقة حتى عند من يعلم بخطأ نظر العرف، واما بناء على الاختصاص ولزوم تشخيص المصداق بنظر العقل - نعم من ينكشف عنده خطأ العرف فهو معذور مادام جاهلاً - فيشكل الحال في مثل مقامنا مما يتمحض الاختلاف في تشخيص المصداق، لوضوح عدم الاختلاف بين العرف والعقل لا في الفاظ اليقين والشك والنقض ولا في هيئة تركيبها، فكيف يصح اجراء الاستصحاب في مورد علم بخطأ ن_ظ_ر العرف في الحكم بمصداقيته، كما في مورد خفاء الواسطة، وكما في تبدل الاوصاف العرضية للموضوع، فيما ياتي من مسألة اعتبار بقاء الموضوع بنظر العرف.(م. ع. متظله).

والبنوة، وهو كلام في غاية المتانة، ولا يجب ان يكون لكل منهما اثر حتى يصح بلحاظه التنزيل، بل وضوح الملازمة بينهما صار بحيث يعد اثر كل واحد منهما اثراً للآخر كما لا يخفى.

الموارد الّتي توهم أنها من الاصول المثبتة

ثم انه لا باس بالاشارة الى بعض الموارد التي ت_وه_م كونه من الاصول المثبتة، وقد ذكره شيخنا الاستاذ دام بقاه واجاب عنها : منها: لو نذر التصدق بدرهم مادام ولده حياً، حيث توهم ان استصحاب حياته في يوم شك فيها لاثبات وجوب التصدق بدرهم مثبت، لعدم ترتب الاثر الشرعي على حياة الولد في دليل من الادلة، بل موضوع الوجوب هو الوفاء بالنذر، وحياة الولد توجب ان يكون الدرهم المتصدق به وفاء للنذر، ومثل هذا الاشكال جار في استصحاب حياة زيد لاثبات وجوب الانفاق من ماله على زوجته لان حياة زيد ليست موضوعة في الدليل بل الحكم مرتب على الزوج، وزيد على تقدير حياته يوجب تحقق عنوان الزوجية، وهو موضوع لوجوب الانفاق، وامثال ذلك مما لا يسع لذكره المجال كثيرة.

و قد اجاب عنه «دام بقاه» بقوله : والتحقيق في دفع هذه الغائلة ان يقال : ان مثل الولد في المثال وان لم يترتب على حياته اثر شرعي في خصوص خطاب، الا ان وجوب التصدق قد رتب عليه لعموم الخطاب الدال على وجوب الوفاء بالنذر، فانه يدل على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصياته، فانه لا يكون وفاء لنذره الا ذلك، وبالجملة انما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشايع، وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس الا ما التزم به بعنوانه بخصوصياته فيكون وجوب التصدق بالدرهم مادام الولد حياً فى المثال مدلولا عليه بالخطاب، لاجل كون التصدق به كذلك وفاء لنذره فاستصحاب حياة الولد لاثبات وجوب التصدق غير مثبت ووجه ذلك اى سريان الحكم من عنوان الوفاء بالوعد او العقد او النذر وشبهه من الخلف والعهد الى تلك العناوين الخاصة المتعلق بها احد هذه الامور

ص: 558

حقيقة هو ان الوفاء ليس الا امراً منتزعاً عنها، وتحققه يكون بتحققها، وانما اخذ في موضوع الخطاب ذلك دونها، لانه جامع لها مع شتاتها وعدم انضباطها بحيث لا يكاد ان تندرج تحت ميزان او يحكى عنها بعنوان غيره كان جامعاً ومانعاً كما لا يخفى، وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها كالمقدمية والضدية ونحوهما، ولاجل ذلك يكون النهى المتعلق بالضد بناء على اقتضاء الامر بالشيء له من باب النهى في المعاملة او العبادة لا من باب اجتماع الأمر والنهي.

لا يقال: ان الغصب مثلاً له عنوان منتزع، فكيف اذا اجتمع مع الصلاة يكون من باب اجتماع الامر والنهي لا النهي في العبادات والمعاملات. لانا نقول: ان الغصب وان كان منتزعاً الا انه ليس بمنتزع عن الافعال بماهي صلاة بل بما هي حركات وسكنات كما ينتزع عنها عنوان الصلاة ايضاً، وهذا بخلاف عنوان الضد، فانه منتزع عن الصلاة بما هي صلاة فيما اذا زاحمت هي كذلك واجباً مضيقاً، فاذا اقتضى الامر به النهي عن ضده يكون النهي متعلقاً بالصلاة فاحفظ ذلك فانه ينفعك «انتهى ما افاده دام بقاه

بالفاظه» (1).

اقول : ان اراد ان عنوان الوفاء ب_ال_ن_ذر ليس له دخل في المط_ل_وب_ي_ة بل المطلوب في نفس الامر هو العناوين الخاصة بخصوصياتها، وانما جيء بهذا العنوان لمجرد الاحتواء على المطلوبات الخاصة نظير هؤلاء في قولك : «اكرم هؤلاء» كما هو ظاهر كلامه ففيه انه من المعلوم ان اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد انما وجب لكونه مصداقاً للوفاء بالنذر لا لخصوصية فيه مع قطع النظر عن هذا العنوان، وان اراد ان الحكم المتعلق بهذا العنوان يسرى الى مصاديقه التي منها اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد فهو حق لا ريب فيه، الا انه لا

ص: 559


1- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد، التنبيه السادس من تنبيهات الاستصحاب، ص ٦- ٢٠٥.

اختصاص لهذا الكلام بالعناوين المذكورة في كلامه من الوفاء بالنذر والعهد وامثال ذلك، بل الاحكام المتعلقة بكل عنوان تسرى الى مصاديقه وان كان من العناوين التي يضاف الوجود اليها في الخارج كالانسان مثلاً.

و الأولى في الجواب ان يقال: ان الوفاء بالنذر كساير العناوين اذا تعلق به الحكم يسرى الى مصاديقه في الخارج، ومن مصاديقه اعطاء الدرهم على تقدير حياة الولد بعد الالتزام بذلك، فاعطاء الفقير الدرهم على تقدير حياة الولد متعلق للتكليف الشرعي من حيث كونه مصداقاً للنذر، فاذا شك في حياة الولد تستصحب ويترتب عليها الحكم من دون التوسط.

و منها: استصحاب وجود شرط شيء او عدم مانعه او بالعكس، اذ يتخيل انه لا اثر شرعاً يترتب على وجود احدهما، أو عدمه والشرطية والمانعية من الاحكام الوضعية، وهي على التحقيق غير مجعولة، وجواز الدخول في المشروط والممنوع وعدم جوازه ليسا بشرعيين، بل عقليان لاستقلال العقل بهما(1).

و الجواب انه ان اراد استصحاب مصداق الشرط و المانع، اعنى ما جعله الشارع شرطاً او مانعاً، سواء اعتبر في المكلف به مثل الطهارة والحدث ام في التكليف كالزوال ومثله فلا اشكال في صحة الاستصحاب، بل مورد بعض اخبار الباب هو استصحاب الطهارة، اذ كما ان تقييد موضوع الحكم بالطهارة وظيفة للشارع كذلك الاكتفاء بالطهارة المشكوكة او عدم الاكتفاء بها. وكذلك جعل الحكم المشروط بشرط لم يعلم تحققه عند اقتضاء الاستصحاب تحققه او عدم جعله عند اقتضاء الاستصحاب عدم تحققه، والحاصل انه كما ان ايجاب الصلاة المقيدة بالطهارة وظيفة للشارع كذلك الاكتفاء بالصلاة مع الطهارة المشكوكة التى علم بتحققها سابقاً ايضاً وظيفة له، وكما ان ايجاب اكرام العالم بشرط العدالة وظيفة للشارع كذلك ايجاب اكرام العالم المشكوك

ص: 560


1- تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد، التنبيه السادس من تنبيهات الاستصحاب، ص ٦- ٢٠٥.

عدالته بعد ما علم سابقاً بها ايضاً وظيفة له ولا اشكال في شيء من ذلك. وان اراد استصحاب عنوان الشرطية والمانعية أو عدمهما فله وجه من حيث ان هذه العناوين ليست بمجعولة في حد انفسها، ولا تكون موضوعة لا ثر شرعى، مع امكان ان يقال بصحة الاستصحاب فيما ذكر ايضاً، لانه وان كان غير مجعول ولا موضوع لا ثر شرعى الا انه يكفى في شمول ادلة الاستصحاب لشيء كونه بحيث تناله يد التصرف من قبل الشرع، ولو بان يجعل ما هو منشأ لانتزاعه، وعلى هذا ايضاً لا فرق في صحة الاستصحاب بين ان لوحظت هذه العناوين في المكلف به اوفى التكليف.

و عبارة شيخنا الاستاذ دام بقاه في المقام لا تخلو من اضطراب فراجع (1).

ومنها: الاستصحاب في الموضوعات الخارجية بتوهم انه لا اثر لها شرعاً الا بواسطة انطباق العناوين الكلية عليها ضرورة ان الاحكام الشرعية لها لا للموضوعات الخارجية الشخصية، فيكون اثباتها بملاحظة تلك الاحكام مثبتاً، وهذا الايراد نقله شيخنا الاستاذ في تعليقته عن بعض الاعاظم من معاصريه(2).

اقول: يحتمل ان يكون مراده ان الجزئى الخارجي لم يترتب عليه حكم في الشرع بل انما يسرى الحكم اليه عقلاً للانطباق، فترتب الحكم على الجزئى الخارجي عقلى لا شرعى ويحتمل ان يكون مراده ان الاعيان الخارجية كالخمر ونحوها ليست بنفسها موضوعة للحكم التكليفى ضرورة ان موضوع التكليف انما هو فعل المكلف، فالحرام شرب الخمر مثلاً لا نفسها، فكون المايع المخصوص خمراً لا يترتب عليه شيء الا كون شربه شرب الخمر، وهو موضوع للحرمة، فاستصحاب خمرية شيء لاثبات ان شربه شرب الخمر من الاصول المثبتة. والجواب ان كون المايع الخارجي خمراً موجب لصيرورته حراماً بنفس الحرمة المجعولة المتعلقة بشرب الخمر، لان الحكم المتعلق بالعناوين الكلية عين الحكم

ص: 561


1- المصدر المذكور، ص ٧-٢٠٦.
2- المصدر المذكور، ص ٧-٢٠٦.

المتعلق بجزئياتها، فالمايع الخارجي على تقدير كونه خمراً يكون شربه حراماً، لاتحاد شربه مع شرب الخمر وهو واضح. هذا تمام الكلام في المقام.

أصالة تأخر الحادث و الاستصحاب عند الشك في تأخر الحادثين

الأمر الثامن: لا فرق في المستصحب بين ان يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللاحق رأساً وبين ان يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء، وهو الذي يعبر عنه بأصالة تاخر الحادث، والمقصود ان الحادث الذي نقطع بوجوده في زمان ونشك في مبدء وجوده فمقتضى الاستصحاب عدم تحققه في الازمنة التي يشك فيها، فيرتب عليه آثار عدمه في تلك الازمنة وان لم يترتب عليه آثار حدوثه فيما بعد تلك الازمنة، لان حدوثه فيه لازم عقلى للعدم في تلك الازمنة، ومطلق وجوده الم_ع_ل_وم بالفرض، الا ان يقال ان الحدوث في زمان خاص ليس عنواناً بسيطاً متحققاً من اصل وجوده فيه وعدمه فما قبل، بل هو عبارة - ولو عند العرف- من الوجود في ذلك الزمان مقيداً بعدمه في الازمنة السابقة، فيصير كساير الموضوعات المقيدة التي يمكن احراز قيدها بواسطة الاصل وكيف كان فلا اشكال في اثبات الآثار الشرعية المترتبة على عدم الحادث المفروض في الازمنة المشكوك فيها ان كان لعدم ذلك اثر شرعي.

هذا حال الحادث المعلوم وجوده في زمن وشك في مبدء وجوده بالنسبة الى نفسه.

و اما حاله بالنسبة الى حادث آخر كما اذا علم بحدوث حادثين وشك في تقدم اجدهما على الآخر؛ فاما أن يجهل تاريخهما او يعلم تاريخ احدهما، واما لو علم تاريخ حدوث كل منهما فلا يبقى للشك مجال، فهو خارج عن محل الكلام.

اما في صورة الجهل بتاريخ كليهما فاصالة عدم كل منهما في الازمنة المشكوكة التي منها زمان حدوث الآخر وان كانت جارية في حد ذاتها، الا انها معارضة

ص: 562

بالمثل ان كان لعدم كل منهما في زمن حدوث الآخر اثر شرعي، وان كان الاثر لعدم احدهما بالخصوص فتجرى فيه بلا معارض.

و اما اذا كان تاريخ احدهما معلوماً والآخر مشكوكاً فيجرى الاصل في مجهول التاريخ ويحكم بعدمه في الازمنة المشكوكة التي منها زمن وجود معلوم التاريخ ان كان لذلك العدم في زمنه اثر شرعي، ولا يجرى الاصل في طرف معلوم التاريخ للعلم بعدمه قبل ذلك الزمان المعين الذي قطع بوجوده، والعلم بانقطاع ذلك العدم في ذلك الزمان فليس له زمان شك في بقاء عدمه نعم وجوده الخاص اعنى وجوده المقارن لوجود ذاك مشكوك فيه فيمكن استصحاب عدمه بنحو ليس التامة، لانه مسبوق بالعدم الازلى فيترتب عليه الاثر ان كان له اثر بهذا النحو من الوجود واما ان كان الاثر لعدمه في مورد الوجود المفروض للآخر بنحو ليس الناقصة فليس له حالة سابقة، لان اصل وجوده معلوم في زمان معلوم، واما كون هذا الوجود في زمان وجود الآخر فلا يعلم نفياً واثباتاً، مثاله لو علم بحدوث ملاقاة النجس الماء المعين في يوم الخميس وعلم بصيرورته كراً لكن لا يعلم تاريخ كري_ته فيحتمل كونه كراً في يوم الخميس ويحتمل صيرورته كراً في يوم الجمعة، فاستصحاب عدم الكرية في زمن الشك اعنى يوم الخميس الذي هو زمان حدوث الملاقاة لا اشكال فيه فيكون في يوم الخميس ملاقاة النجاسة للماء الذي لم يكن كراً محرزة اما ملاقاته فبالوجدان واما عدم كريته في زمن الملاقاة اعنى يوم الخميس فبالاصل، فيعامل مع هذا الماء معاملة الماء الذي لاقى نجسا ولم يكن كراً في زمن الملاقاة.

و اما استصحاب عدم الملاقاة فان اريد استصحابه من دون اضافة الى الآخر فهو باطل قطعاً، اذ ليس لها زمان شك في وجودها وعدمها، لان المفروض ان مبدء وجودها وانقطاع عدمها معلوم، وان اريد استصحابه مع الاضافة الى الآخر بان يلاحظ الملاقاة المتحققة في زمن الكرية ويستصحب عدمها - لان الوجود الخاص غير معلوم وان كان مطلق الوجود معلوماً - فهو مبنى

ص: 563

على كون الاثر مرتباً على المجود الخاص على نحو كان التامة، واما اذا كان الاثر مرتباً عليه على نحو الوجود الربطى بمعنى ان الملاقاة لها اثر شرعى اذا وقعت في زمن وقوع الكرية المفروض وجودها وكذا عدم. الملاقاة فليس للملاقاة على هذا النحو ولا لعدمها حالة سابقة لعدم العلم بانه في زمن الكرية وقع الملاقاة او لم تقع، بخلاف مجهول التاريخ مثل الكرية في المثال، فانه يمكن اثبات عدمها وان كان الاثر مرتباً على العدم المرتبط بالوجود الآخر على نحوليس الناقصة، لان الكرية بهذا النحو وان لم تكن مسبوقة بالعدم بحيث يمكن ان يكون المستصحب هو عدم الكرية بهذا النحو، الا ان استصحاب عدم الكرية مع قطع النظر عن اضافتها الى الملاقاة يكفي في اثبات عدمها الربطى، لان مقتضاه عدمها في يوم الخميس الذي هو احد الازمنة المشكوكة، وهو ايضاً زمن الملاقاة بالمفرض فيصح ان يقال: انه في يوم الخميس وقع الملاقاة وهو غير كر وهذا واضح لاسترة عليه.

و لشيخنا الاستاذ دام بقاه في المقام رداً على شيحنا المرتضى «قدّس سرُّه» كلام لا بأس بذكره والنظر فيه، قال «دام بقاه» عند قول شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في مجهولى التاريخ: «ان اصالة عدم احدهما في زمان حدوث الآخر معارضة بالمثل» ما هذا لفظه : لا يخفى انه لا مجال لاصالة عدم احدهما في زمان حدوث الآخر في نفسها مع قطع النظر عن المعارضة بها في الآخر، للمقطع بوجود كل منهما في زمان واما انه كان في زمان الآخر وان كان مشكوكاً الا انه غير مسبوق بالعدم، فانه حدث اما فيه او في غيره من زمان سبقه او لحقه، وبالجملة ما ذكره في دفع جريان الاصل في طرف المعلوم ومعارضته في طرف المجهول به من قوله «قدّس سرُّه»: ويندفع «الخ» جارههنا في الطرفين.

و التحقيق حسبما يساعد عليه التدقيق ان الغرض ان كان متعلقاً بمجرد احدهما في زمان الآخر فالاصل في نفسه يجرى في الطرفين مطلقاً ولو كان عدم احدهما معلوم التاريخ، ضرورة ان وجودهما الخاص وهو الوجود في زمان الآخرالاستصحاب عند الشك في تأخر الحادثين.

ص: 564

مشكوك الحدوث لاحتمال ان لا يوجدا به وان علم تحققهما بوجود ما فيكون مسبوقاً بالعدم فيستصحب لمكان اركان الاستصحاب بلا ارتياب حتى فيما علم زمان حدوث احدهما، وكون وجود كل منهما معلوماً لا ينا في الشك في تحققه بوجود خاص وهو الوجود في زمان الآخر المسبوق بنقيضه وهو سلب هذا الوجود الخاص ونفيه في الازل فليتعبد به باستصحابه مالم يعلم بانقلابه وان علم بانقلاب ع_دم_ه في الجملة، الى ان قال وان كان الغرض متعلقاً بانه لم يكن وجوده الثابت في زمان معلوم او مجهول في زمان الآخر او كان ملا مجال للاصل اصلا، فان الوجود المحقق في كل واحد منهما المشكوك كونه في زمان الآخر غير مسبوق بعدم كونه فيه بل اما حدث مسبوقاً او ملحوقاً أو فيه، واما سبق وجود مجهول التاريخ في زمان معلومه بالعدم فهو ايضاً بالنسبة الى اصل تحققه لا بالنسبة الى وجوده المعلوم، فانه اما كان في زمان معلوم التاريخ او في زمان آخر فلم يكديكون مسبوقاً بعدم كونه في زمانه ثم شك في انه على ما كان فيستصحب العدم وانما يصح استصحاب عدم وجوده الخاص وهو وجوده فيه کمامر، وبالجملة لاحالة سابقة في البين لوشك في انه متى كان وجود احد الحادثين اللذين كان كل منهما مجهول التاريخ او كان احدهما وتعلق الغرض بتعيين ذلك وانه كان في زمان الآخر او في زمان آخر، فلا استصحاب، والحالة السابقة انما تكون لو شك في انه هل تحقق بوجود خاص وهو وجوده في زمان الآخر الذي هو مفاد كان التامة، من دون نظر الى وجوده المحقق وانه متى كان؟ الذي هو مفاد كان الناقصة، لما عرفت من احتمالعدم تحققة به وان تحقق بوجود آخر، فلا مانع من استصحابها في احدهما الا استصحابها في الآخر، فيجرى لولا هذه المعارضة «انتهى ما اردنا من نقل كلامه دام بقاه»(1).

اقول: المقصود في المقام كون الحادثين على نخو لو فرض عدم وجود كل منهما

ص: 565


1- تعليقة المحقق الخراساني، ص9-208.

في زمان الثبوت المفروض للآخر يترتب عليه اثر، وعلى هذا لو فرضنا كليهما مجهول التاريخ يتعارض الاصل في كل منهما، ولو فرض احدهما معلوم التاريخ دون الآخر يجرى الاصل في مجهول التاريخ اعنى يستصحب عدمه الى زمن وجود هذا المعلوم، ففي كلا القسمين مجرى الاستصحاب محقق(1)، من جهة تحقق اليقين في السابق والشك في اللاحق الا انه في القسم الأول معارض بالمثل وفي الثاني لا معارضة.

اما بيان ان مجرى الاصل محقق في كلا القسمين. مع ان الاثر مرتب على عدم كل منهما في زمان الثبوت الخارجي المفروض للآخر، ولا حالة سابقة لعدم واحد منهما على هذا النحو، لان اصل الوجود للآخر معلوم، واما كونه مقارناً مع عدم الآخر او وجوده فليس مما له حالة سابقة - فبان المستصحب ليس العدم في زمان وجود الآخر بلحاظ هذا المجموع حتى يقال بعدم الحالة السابقة لهذه السالبة، بل المستصحب نفس عدم ذلك الحادث، فيحكم ببقائه الى زمان

ص: 566


1- الحق عدم المجرى له في القسم الاول لكونه شبهة مصداقية لنقض اليقين بالشك، بیيانه انا لو فرضنا القطع بوجود كل من الملاقاة والكرية في اول النهار مثلاً، ولكن نشك انه هل هو زمان حدوث كل منهما او بقائه أو حدوث احدهما وبقاء الآخر فنحن اذا استصحبنا عدم كل منهما الى الزمان الواقعي لحدوث الآخر نحتمل ان يكون ذلك الزمان هو أول النهار الذي قطعنا بوجود كل منهما فيه فيكون نقض اليقين بالعدم حينئذ باليقين بالوجود لأ بالشك، هذا كله في الحادثين الممكن اجتماعهما، واما في الحالتين المتضادتين فلتقريب عدم المجرى وجه آخر وهو انا لو فرضنا امتداد كل من الطهارة والحدث في ساعة واحدة مثلاً، لا ازيد ولا انقص، فاستصحاب كل منهما الى الساعة الثانية لا يقيد الا تعيين تلك الساعة التي فرضناها ظرف امتداد الطهارة في الساعة الثانية وهذا اعني تعيين زمان الامتداد المتيقن للمستصحب وتطبيقه على زمان خارجي ليس من مفاد الاستصحاب، بل مفاده اضافة الامتداد المشكوك الى الامتداد المقطوع، وان شئت قلت ليس لنا زمان يشك فيه بين الارتفاع والبقاء، فان الساعة الثالثة اما زمان البقاء للطهارة مثلاً واما انه ارتفعت من اول الساعة الثانية.(م. ع. مدظله).

الثبوت الخارجي لحادث آخر، ففي زمان الثبوت الخارجي للآخر تحقق ماهو الموضوع للاثر الشرعي وهو وجود حادث في حال عدم الآخر، الاول منهما وجداناً والآخر تعبداً، مثلاً لو فرضنا ترتب الاثر على ملاقاة النجس للماء في حال عدم كونه كراً فلو تيقن بتحقق الملاقاة وشك في الكرية مع العلم بعدمها في السابق فلا اشكال في اثبات عدم الكرية حال الملاقاة بالاصل وان لم يكن عدم الكرية بهذا العنوان اعنى حال الملاقاة له حالة سابقة، لان المستصحب نفس عدم الكرية المعلوم سابقاً فتتم باستصحاب بقاء ذلك العدم الى زمان الملاقاة اجزاء الموضوع للحكم الشرعي، بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد، فظهر ان مجرى الاستصحاب محقق في كلا القسمين.

و اما التفصيل الذي قلنا بان الاصلين يتعارضان في مجهولى التاريخ بخلاف ما اذا كان احدهما معلوم التاريخ فيجرى الاصل في مجهوله فبيانه انه بعد فرض ان لكل من الحادثين اثراً في حال عدم الآخر ففي مجهولي التاريخ يحتمل انتقاض عدم كل منهما قبل الآخر وبعده، ففي حال وجود كل منهما يحتمل بقاء عدم صاحبه وعدم انتقاضه بالوجود، فيتعارض الاصلان، واما لو كان احدهما معلوم التاريخ كما لو علم بحدوث الملاقاة في اول يوم الجمعة وشك في ان الكرية هل حدثت قبله او بعده مثلاً فاستصحاب عدم الكرية الى اول يوم الجمعة الذي هو زمان ثبوت الملاقاة الخارجي لا مانع منه، واما الاستصحاب في طرف الملاقاة المعلوم مبدء حدوثها فلا يمكن لعدم زمان شك في بقاء عدمها، لانها قبل يوم الجمعة كانت معدومة قطعاً وفي اول يوم الجمعة انتقض عدمها بالوجود قطعاً، فلم يبق في البين زمان يشك بقاءعدم الملاقاة حتى يستصحب، نعم كون الملاقاة في زمن الكرية مشكوك، الا انها على هذا النحو ليس لها حالة سابقة ان اريد اثباتها أو نفيها على نحو الربط، وان لم يرد على النحو الربطى فيمكن استصحاب عدم هذا الوجود الخاص اعنى الملاقاة في زمن الكرية، الا ان هذا الاستصحاب محكوم لان منشأ الشك في وجود هذا

ص: 567

الخاص هو ان اول يوم الجمعة الذي هو مبدء وجود الملاقاة هل كان كراً اولا؟ فلو كان الاصل جارياً في الخصوصية يتعين حال هذه الملاقاة باحراز اصلها وجداناً وقيدها تعبداً.

و لعمرى ان ما قلنا واضح وان اشتبه على من لا يليق لمثله هذا الاشتباه، وكأنه «دام بقاه» توهم من عبارة الشيخ «قدّس سرُّه» في بيان تساقط الاصلين في مجهولى التاريخ: «و اما اصالة عدم احدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل» ان المقصود اجراء الاصل في عدم احدهما في زمن الآخر، ملاحظا كونه في زمن الآخر جزء للمستصحب، لكنه من الواضح ان مراده «قدّس سرُّه» ليس ذلك بل هو ما ذكرنا، فتأمل في المقام تجد صدق ما ادعيناه، هذا.

هل المرجع في الفرد المخصص في زمان بعد ذلك الزمان، عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص؟

الأمر التاسع: ان الدليل الدال على الحكم لو دل عليه في الزمان الثاني اثباتاً او نفياً فلا اشكال في عدم جريان الاستصحاب، لان مورده عدم وجود الدليل الاجتهادي، انما الكلام في انه لوكان لنا عام يدل على ثبوت الحكم لافراده ثم خرج منه فرد في زمان ففي ما بعد ذلك الزمان هل يرجع الى استصحاب حكم المخصص؟ او الى عموم العام؟ مثلاً، لو قال: اكرم العلماء، ثم علمنا بالاجماع عدم وجوب اكرام زيد في يوم، ففي ما بعد ذلك اليوم هل يرجع الى استصحاب عدم وجوب الاكرام؟ او الى عموم اكرام العلماء.

و ملخص الكلام في المقام انه ان لاحظ المتكلم بالقضية قطعات الازمنة افراداً كما لو قال: اكرم العلماء في كل زمان فلا شبهة في انه اذا خرج فرد في زمان يحكم بدخوله في حكم العام فيما بعد ذلك الزمان، سواء جعل تلك القطعات بحسب اعتبار الدليل قيد اللفعل المأمور به ام ظرفاً للنسبة الحكمية، فانه على الفرض الاول يصير الاكرام بالنسبة الى كل فرد من افراد العام متعدداً

ص: 568

بالنسبة الى الازمنة فاكرام زيد في يوم الجمعة فرد من افراد العام، وفي يوم السبت فرد آخر، وهكذا، وعلى الثاني يصير نفس القضية متعددة بتعدد افراد الزمان، فكأنّ المتكلم في كل زمان تكلم بهذه القضية.

ولا شبهة في ان خروج زيد يوم الجمعة لا يوجب سقوط القضية عن الحجية فيما بعده على التقديرين، فانه على الاول اكرام زيد في يوم الجمعة فرد من الاكرام، واكرامه في يوم السبت فرد آخر خرج من العموم فرد، فيتمسك في الباقي بأصالة العموم. وعلى الثاني: القضية في حكم القضايا المتعددة، فكأنه صدرت من المتكلم قضية في يوم الجمعة، فخرج منها زيد، وايضاً صدرت منه تلك القضية في يوم السبت ولم يعلم بخروجه من تلك القضية الثانية، والحاصل ان المقام مقام الاخذ بالعموم دون الاستصحاب. بل قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» انه في هذا المورد لم يجز التمسك بالاستصحاب، وان لم يتمسك بعموم العام ايضاً(1).

لكن فيما افاده نظر لان المانع من الاخذ بالاستصحاب مع قطع النظر عن العموم ليس الا عدم اتحاد الموضوع، والموضوع في الاستصحاب بعد عدم اخذه من العقل - كما سيجيء- إما مأخوذ من الدليل، وإما من العرف، فان اعتبرنا الاول فالمعيار هو الموضوع المأخوذ في دليل حكم المستصحب، وربما يكون الزمان قيداً بحسب الدليل الدال على العموم وظرفاً للحكم بحسب الدليل الدال على المخصص، وان اعتبرنا الثاني فالامر اوضح فانه قد يكون الزمان بالنسبة الى دليل حكم المستصحب ايضاً قيداً، لكن العرف يراه ظرفاً للحكم، مع ما عرفت من عدم ملازمة ملاحظة الازمنة افراداً مع كونها قيداً للمأمور به، لما

مضى من وجه آخر ايضاً.

هذا على تقدير ملاحظة الازمنة أفراداً.

ص: 569


1- الفرائد التنبيه العاشر، ص ٣٩٥.

و اما على تقدير عدم ملاحظة ذلك فالظاهر ان الحكم في القضية المفروضة يتعلق بكل فرد ويستمر ذلك دائماً، حيث انه لم يحدده بحد خاص ولم يقيده بزمان خاص بالفرض، فاذا خرج الفرد من تحت العام في زمان لم يكن العام دليلاً على دخوله في الزمان الآتى لان دلالة العام على استمرار الحكم المتعلق بالفرد فرع دلالته على نفس الفرد، فاذا خرج الفرد من تحته يوم الجمعة فأنى لنا بالعموم الذي يشمل ذلك الفرد يوم السبت، حتى يشمله الحكم ونحكم باستمرار ذلك الحكم ايضاً من اول يوم السبت.

و الحاصل انه على الفرض الاول كان الفرد الخارج يوم الجمعة فرداً، والفرد الذي يتمسك بالعموم له في السبت فرداً آخر، أو كان لنا في اليوم الجمعة قضية عامة خرج منها فرد وفي يوم السبت ايضاً قضية عامة كذلك نشك في خروج الفرد منها، ولا اشكال في كلا الاعتبارين في التمسك بالعموم في المشكوك، لان الفرد المفروض على تقدير عدم دخوله تحت العام يستلزم تخصيصاً آخر زايداً على التخصيص المعلوم، وهذا واضح، بخلاف الفرض الثاني، فان الفرد المفروض خروجه يوم الجمعة لو كان خارجاً دائماً لم يستلزم الا مخالفة ظاهر واحد، وهو ظهور وجوب اكرامه دائماً.

فان قلت: كيف يتمسك بالاطلاقات بعد العلم بالتقييد، ويقتصر في عدم التمسك بها على المقدار الذي علم بخروجه والحال أن مفادها واحد، وبعد العلم بالتقييد يعلم انه ليس بمراد مثلا لو فرضنا ورود الدليل على وجوب عتق الرقبة وعلمنا بالدليل المنفصل أن الرقبة الكافرة عتقها غير واجب، فيلزم ان لا يكون الموضوع في الدليل الاول المفهوم من اللفظ المذكور فيه، وبعد ما لم يكن هذا المعنى مراداً منه لا يتفاوت في كونه خلاف الظاهر، بين ان يكون المراد منه الرقبة المؤمنة، أو مع كونها عادلة، وليست مخالفة الظاهر على تقدير ارادة المفهوم الثاني من اللفظ اكثر، حتى يحمل اللفظ بواسطة لزوم حفظ مراتب الظهور بقدر الإمكان على الاول، اذ ليس في البين الا تقييد واحد، كثرت

ص: 570

دائرته او قلت، والمفروض انا نرى ان ديدن العلماء «قدّس سرُّهم» على التمسك بالاطلاق في المثال المذكور، والحكم ببقاء الرقبة المؤمنة سواء كانت عادلة ام فاسقة تحت الاطلاق.

قلت: الفرق بين المطلق وما نحن فيه أن المطلق يشمل ماتحته من الجزئيات في عرض واحد، والحكم انما تعلق به بلحاظ الخارج، فظهور القضية استقر في الحكم على كل ما يدخل تحت المطلق بدلا او على سبيل الاستغراق، على اختلاف المقامات، فاذا خرج بالتقييد المنفصل شيء بقى الباقي بنفس ذلك الظهور الذي استقر فيه اوّلا، وهذا بخلاف مانحن فيه، فان الزمان في حد ذاته أمر واحد مستمر ليس جامعاً لافراد كثيرة متباينة، الا ان يقطع بالملاحظة وجعل كل من قطعاته ملحوظاً في القضية كما في قولنا : اكرم العلماء في كل زمان واما اذا لم يلاحظ على هذا النحو كما في قولنا: اكرم العلماء، ومقتضى الاطلاق ان هذا الحكم غير مقيد بزمان خاص، فلازمه الاستمرار من اول وجود الفرد الى آخره، فاذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة مثلاً، فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت، اذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق، كما هو واضح(1).

ص: 571


1- لكن مع ذلك قد يستشكل في المقام بانه بعد البناء على اجراء المقدمات في المراد الاستعمالى وصيرورة مفادها في خصوص المقام هو معنى الدوام والبقاء، وبعد البناء على ان التقييد المنفصل لا يوجب تصرفاً في المراد الاستعمالي، فيصير معنى الدوام المستفاد بسبب المقدمات بعد التقيد المذكور كالدوام المصرح به في الملفظ المتعقب بالاستثناء بكلمة الا ونحوها، فكما لو قال هذا الحكم دائم بدوام الفرد الا انه خرج يوم الجمعة نقول ان هذا تصرف في اللب مع محفوظية المعنى الاستعمالي لكلمة الدوام فهكذا نقول في معنى الدوام المستفاد في مقامنا ببركة المقدمات وبعد محفوظية المراد الاستعمالي يقتصر في الخروج عن مطابقته مع اللب على المقدار المتيقن. و يمكن الجواب عن ذلك بانا نمنع محفوظية المراد الاستعمالي مع التعقب بكلمة إلا، ألا ترى انه لو قال: استمر المرض من الصبح الى الغروب الاساعة الزوال، فلا بد من حمله على التجوز، ولا يقال هنا بمثل ما يقال في ما لو قال: تحقق المرض في جميع ساعات اليوم الاساعة الزوال، من سلامة الكلام عن التجوز، فاذا فرضنا ان مفاد المقدمات معنى الاستمرار في خصوص المقام فلا يتمشى حفظه بعد الانقطاع من الوسط.(م. ع. مدظله).

هذا كله فيما اذا خرج فرد من العام في الاثناء.

و اما اذا علم بخروجه من اول الامر الى زمان معين، فمقتضى القاعدة الحكم بشمول العام له بعد ذلك الزمان لان اصالة عموم الافراد تقتضى دخول الفرد المفروض في حكم العام في الجملة، وبعد العلم بعدم دخوله من اول الوجود الى زمن معين يجب تقييده بما بعد ذلك الزمان، بخلاف ما اذا خرج في الاثناء فان العموم الافرادي قد عمل به.

هذا غاية ما يمكن ان يقال او قيل في الفرق بين المنقطع الوسط والابتداء وعندي فيه نظر لان اصالة العموم بالنسبة الى الافراد لا تقتضى الا دخول الفرد في الجملة، واما استمرار الحكم المتعلق به فانما هو من جهة اطلاق الزمان، والمفروض كونه معنى واحدا و هو استمرار الحكم من اول وجود الفرد الى آخره(1)ولا فرق في ارتفاع هذا المعنى بين ان يخرج الفرد في الاثناء او من اول الوجود، فانه في كلا الحالين الحكم في القضية ما استمر بالنسبة الى هذا الفرد من اول وجوده الى آخره وتقييد الفرد بغير الزمان المقطوع خروجه

ص: 572


1- فيه ان استمرار الحكم باستمرار الزمان وان كان مستفاداً من المقدمات لكن ليس من مفادها تعيين مبدء هذا الاستمرار ولا منتهاه في زمان من الازمنة، وانما يتعينان بوجود المانع وعدمه، فاذا تحقق المانع في اليوم الاول دون اليوم الثاني من ازمنة وجود الفرد تعين المبدء قهراً في اليوم الثاني، واذا تحقق في اليوم الاخير من أزمنة وجوده تعين المنتهى قهراً في اليوم السابق، وهذا بخلاف الحال فيما لو انقطع من الوسط فان الاستمرار المذكور قد عمل بمقتضاه فيما قبل وجود المانع، وليس ثبوت الحكم فيا بعده استمراراً للحكم السابق (م. ع. مدظله).

مبنى على ظهور الدليل في كل واحد من الازمنة، حتى يقتصر في الخارج على القدر المتيقن، وهذا خلاف المفروض على انه لوصح هذا التقيد فيما خرج في الابتداء لصح فيما اذا خرج في الاثناء ايضاً بان يقال: بعد العلم بخروج زيد مثلاً يوم الجمعة عن عموم اكرم العلماء إن الواجب هو الاكرام في غير يوم الجمعة، فيوم السبت فرد من هذا العنوان المقيد كما ان اليوم السابق على يوم الجمعة ايضاً فرد له.

و الحاصل ان الامر دائر بين تخصيص العام بالنسبة الى الفرد او التصرف في ظهور الاطلاق الذي يقتضى استمرار الحكم، ولو فرضنا ان الثاني متعين من جهة انه ظهور اطلاقي يرفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي، فلا يجوز ان يقيد موضوع الحكم بما بعد ذلك الزمان الخارج ويقال بثبوت الحكم لذلك الموضوع دائماً، لان ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة الى الازمان، حتى تحفظ فيما لم يعلم بالخروج والمفروض خلافه، بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم. فافهم.

اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب

الأمر العاشر: يشترط في استصحاب كل شيء بقاء موضوعه على نحو ماكان في القضية المتيقنة.

فان كان الموضوع فيها الشيء المفروض وجوده فاللازم ان تكون القضية هي ثبوت العرض لذلك الشيء المفروض وجوده، وان كان الموضوع المشكوكة ذات الشيء اعنى الطبيعة المقررة، كما اذا تيقن بوجود زيد، فاللازم ان يكون في القضية المشكوكة ايضاً كذلك، مثلا لو تيقن بقيام زيد في السابق ثم شك في ذلك، فتارة يشك في القيام مع اليقين بوجود زيد في الخارج، وأخرى مع الشك، والثاني على قسمين: لان الشك تارة يستند الى الشك في وجود زيد، واخرى لا يستند اليه، بل يشك في كل من وجوده وقيامه مستقلاً. هذه اقسام

ص: 573

الشك المنصورة في قيام زيد ثانياً.

و القضية الموضوعة للحكم الشرعي في نحوقيام زيد يمكن تصورها على قسمين احدهما ان يكون الموضوع ثبوت هذا المفهوم، كما اذا قال اذا تحقق قيام زيد في الخارج فافعل كذا، وثانيهما ان يكون الموضوع ثبوت القيام لزيد على فرض وجوده في الخارج، كماهو مفاد قولك : ان كان زيد قائماً فافعل كذا.

اذا عرفت هذا فنقول :

ان كان موضوع الحكم الشرعي القيام على النحو الاول ف_لا اشكال في جريان الاستصحاب اذا شك في ذلك في الآن الثاني، سواء كان الشك في القيام وحده او فيه مع المحل، وسواء كان الشك في القيام ناشياً عن الشك في وجود المحل ام لا، لان جميع تلك الصور شك في قيام زيد، والمفروض ان موضوع الحكم تحققه في الخارج، فيحكم بالاستصحاب بتحققه.

و ان كان موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد على النحو الثاني فلو شك في القيام مع اليقين بوجود زيد فاستصحاب القيام لا اشكال فيه، لوحدة موضوع القضية المتيقنة والمشكوكة، وهو زيد، مع الفراغ عن وجوده، وأما لوشك في قيام زيد مع الشك في وجوده، سواء كان الشك في قيامه مستنداً الى الشك في وجوده ام لا، فلا يمكن استصحاب القيام لعدم احراز موضوعه(1)، نعم لو كان الاثر مرتباً على وجوده وقيامه على تقدير الوجود يمكن اجراء استصحابين لاحراز جزئى الموضوع فيما كان كل منهما مشكوكاً مستقلاً، ولا يكفى استصحاب وجود المحل(2)فيما اذا كان الشك في

ص: 574


1- نعم يمكن في بعض الصور استصحاب عدم قضية «زيد قائم» اذا كان المقصود رفع الاثر المرتب عليها لا اثبات ما رتب على نقيضها اعني قضية زيد ليس بقائم فلو كان لهذا النقيض ايضاً اثر يجرى استصحاب عدم هذه القضية ايضاً، فيتعارض الاستصحابان لوكان هناك مخالفة عملية.(م. ع. متظله).
2- هذا راجع الى ماقبل قوله : نعم لو كان الامر اعني ما اذا اعتبر الموضوع ثبوت القيام لزيد المفروغ الوجود، فان استصحاب الوجود حينئذ غير كاف لرفع الشك عن القيام بعدم التسبب الشرعي في البين واستصحاب القيام على تقدير الوجود منضما الى استصحاب الوجود مبنى على صحة الاستصحاب التعليقي في الموضوع وهو محل اشكال، وهذا بخلاف ما لو اعتبر الموضوع وجود زيد وقيامه على تقدير الوجود، فان استصحاب قيامه بصورة التعليق حينئذ خال عن الاشكال لوقوعه بهذه الصورة مورداً للاثر لا بصورة الفعلية كما في الفرض الاول.(م. ع. متظله).

القيام مسبباً عن الشك فيه، فان احراز المسبب بواسطة اجراء الاصل في طرف السبب يكون فيما كان المسبب من الآثار الشرعية، دون مثل القيام وامثاله. هذا حاصل مرادنا من بقاء الموضوع في الاستصحاب.

و يظهر من كلام شيخنا الاستاذ، «دام بقاه» (1)جواز استصحاب قيام زيد، وان كان الشك فيه مسبباً عن الشك في وجود زيد مطلقاً، على اى نحو فرض موضوع الحكم الشرعي. و انت خبير بان الموضوع لو كان القيام لزيد بعد ملاحظة الوجود لم يكن في المثال مشكوكاً حتى يستصحب، والذي هو مشكوك لم يكن له اثر شرعي، كما هو المفروض.

و كيف كان: دليلنا على اعتبار بقاء الموضوع على النحو الذي قلنا أن الملاك في شمول ادلة الاستصحاب الشك في بقاء ما كان متحققاً سابقاً، بشرط ان يكون هذا المشكوك على تقدير بقائه إما حكماً شرعياً، أو موضوعاً لحكم شرعي، فلو كان المشكوك قيام عمرو والمتيقن سابقاً قيام زيد فليس هذا الشك شكا في البقاء، ولو كان المشكوك قيام زيد وكان الشك مستنداً إلى الشك في وجود زيد، فان كان موضوع الحكم الشرعي تحقق هذا المفهوم، اعنى قيام زيد، يصدق انه شك في بقاء ما هو موضوع لحكم الشارع، وان كان في هذه الصورة موضوع الحكم الشرعي ثبوت القيام لزيد بعد تحققه فهذا المعنى ليس مشكوكاً فيه للعلم بقيامه بعد تحققه والمعنى المشكوك فيه اعنى قيام زيد

ص: 575


1- في تعليقته على الفرائد على مسألة اعتبار بقاء الموضوع، ص221

ليس بموضوع للحكم الشرعي.

و انت اذا امعنت النظر فيما ذكرنا تعرف بان المدعى لا يحتاج في اثباته الى مزید برهان وان تكلف به شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»، قال في هذا المقام: الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح لانه لو لم يعلم تحققه لاحقاً فاذا اريد ابقاء المستصحب العارض له المتقوم به، فاما ان يبقى في غير محل وموضوع وهو محال، واما ان يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم ان هذا ليس ابقاء لنفس ذلك العارض، وانما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد، فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقاً بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده، وبعبارة اخرى بقاء المستصحب لا في موضوع محال، وكذا في موضوع آخر، اما لاستحالة انتقال العرض، واما لان المتيقن سابقاً وجوده في الموضوع السابق، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضاً للمتيقن السابق «انتهى كلامه «قدّس سرُّه»»(1).

و اعترض عليه شيخنا الاستاد «دام بقاه» بان المحال انما هو الانتقال والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة، لا بحسب وجوده تعبداً، كما هو قضية الاستصحاب، ولا حقيقة لوجوده كذلك الا ترتيب آثاره الشرعية واحكامه العملية، ومن المعلوم ان مؤنة هذا الوجود خفيفة، مع انه اخص من المدعى، فان المستصحب ليس دائماً من مقولات الاعراض، بل ربما يكون هو الوجود، وليس هو من احدى المقولات العشر فلا جوهر بالذات ولا عرض وان كان بالعرض.

ان قلت: نعم لكنه مما يعرض على الماهية كالغرض.

قلت: نعم الا ان تشخصه ليس بمعروضه، فيستحيل بقائه مع تبدله، بل تكون القضية بالعكس ويكون تشخص معروضه به كما حقق في محله، بحيث

ص: 576


1- فرائد الاصول الامر الاول من خاتمة الاستصحاب، ص..،

لا ينثلم وحدته وتشخصه بتعدد الموجود وتبدله من نوع الى نوع آخر، فينتزع من وجود واحد شخصی ماهیات مختلفة حسب اختلافه نقصاً وكمالاً وضعفاً وشدة، فصح استصحاب هذا الوجود عند الشك في بقائه وارتفاعه ولو مع القطع بتبدل ما انتزع عنه سابقاً من المهية الى غيرما ينتزع. عنه الآن لو كان هذا «انتهى كلامه دام بقاه»(1).

اقول : ظاهر كلام الشيخ و ان كان يوهم ما يرد عليه الاعتراض، الا انه يمكن توجيه كلامه على نحو يسلم من المناقشة، وتوضيح ذلك : يحتاج الى بيان مقدمة، وهي ان القضايا الصادرة من المتكلم سواء كانت من سنخ انشاء الاحكام ام من قبيل الاخبار مشتملة على نسب ربطية متقومة بالموضوعات الخاصة، مثلاً قولنا اكرم زيداً مشتمل على ارادة ايقاعية مرتبطة باكرام زيد، وكذا قولنا زيد قائم مشتمل على نسبة تصديقية حاكية متقومة بهذا المحمول الخاص والموضوع كذلك، وحال هذه النسب في الذهن حال الاعراض في الخارج في الاحتياج الى الغير في التحقق، وكذا في عدم امکان انتقالها من محل الى آخر وهذا واضح.

اذا عرفت ما بينا لك فنقول : لو فرضنا ان المتيقن في السابق هو وجوب الصلاة فالجاعل للحكم في الزمان الثاني إما ان يجعل الوجوب للصلاة وهو المطلوب هنا، من لزوم اتحاد الموضوع، وإما ان ينشئ هذه الارادة الحتمية الربطية من دون موضوع، وهو محال ضرورة تقومها في النفس بموضوع خاص، وإما ان ينشئ لغير الصلاة، وحينئذ اما ان ينشئ تلك الارادة المتقومة بموضوع الصلاة لغيرها، واما أن ينشئ ارادة مستقلة، والاول محال ايضاً، لاستحالة انتقال العرض، وقد عرفت ان حالها في النفس حال الاعراض في الخارج، والثاني ممكن، لكنه ليس بابقاء، لما سبق.

ص: 577


1- تعليقة المحقق الخراساني «قدّس سرُّه» في محل الكلام، ص ٢ - ٢٢١.

هذا في الشبهة الحكمية.

و اما تقريب هذا الكلام في الشبهة الموضوعية فلنفرض ان المتيقن في السابق خمرية هذا المايع الخاص، ففي الثاني لو اوقع تلك النسبة التصديقية المرتبطة بالخمرية وهذا المايع تعبداً فان كان طرف النسبة المذكورة هذا المايع فقد ثبت المطلوب والا فان لم يكن لها طرف يلزم تحقق العرض اعنى هذه النسبة الربطية في النفس من دون محل، وهو مجال، وان كان لها طرف فان اوقع تلك النسبة المتقومة بطرف خاص لمحل آخر فهو محال ايضاً، للزوم انتقال العرض، وان اوقعها لمحل آخر فهو ممكن، ولكنه ليس بابقاء للحالة السابقة، كما هو واضح وعلى هذا ينبغى ان يحمل كلام شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه».

و من ما ذكرنا تعرف عدم الفرق بين كون المستصحب عرضاً خارجياً او وجوداً.

في تعيين المرجع لتشخيص بقاء الموضوع

و اما ما افاده «دام بقاه» في ذيل :كلامه من عدم انثلام وحدة الوجود مع انتزاع ماهيات مختلفة بحسب المراتب ضعفا وشدة، لعدم تشخصه بها، بل الامر بالعكس، فيصح استصحاب هذا الوجود اذا شك في بقائه وارتفاعه مع القطع بتبدل ما انتزع. عنه سابقاً الى غيره ففيه ان الوجود وان لم يتشخص بالماهية ولكنه يتشخص بحدوداته الخاصة، لان وجود زيد و وجود عمرو وجودان متعددان قطعاً، وحينئذ لو انتزع عنوان السواد الضعيف من حد خاص من وجود السواد وعنوان السواد الشديد من حده الآخر يكشف ذلك عن اختلاف الوجودين اللذين انتزع العنوانان المختلفان منهما، اذ لا يعقل اختلاف العنوان المنتزع من دون الاختلاف في منشأ الانتزاع.

فان قلت: كيف ينتزع من وجود زيد مثلاً ضارب تارة، وغير ضارب اخرى، وجالس تارة، وقائم اخرى، مع بقائه على الوحدة.

قلت: العناوين المذكورة لا تنتزع عن مرتبة الذات بل هي منتزعة من امر خارج عنها، وثبوت ذلك الامر الخارج عن الذات يختلف، قد يكون الذات

ص: 578

متصفة بعرض وقد تكون متصفة بضده، بخلاف مثل السواد الضعيف والشديد، فانهما منتزعان من حد خاص من الوجود من دون دخل امر خارجي، فحينئذ لو لم يتعدد الوجود الذي هو منشأ لانتزاع كل من المفهومين فكيف يختلف المعنى المنتزع، ومن هنا ظهران استصحاب بقاء السواد فيما قطع بتبدله على تقدير البقاء مبنى على احد امرین اما جواز استصحاب الكلى الذي يكون من القسم الثالث واما القول بوحدة هذين الوجودين بنظر العرف، وان كانا متعددين في نظر العقل، فاحفظ ذلك.

ثم بعد ما علمت من لزوم اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة؛ هل الحاكم بالاتحاد هو العقل؟ او الدليل ؟ او ال_ع_رف ؟ والفرق بين الاول والاخيرين غير محتاج الى البيان والفرق بين الثاني والثالث أنه بناء على الثاني ينظر فيما جعل موضوعاً للقضية عند العرف فان اخذ فيها الشيء المقيد فبارتفاع القيد يختلف ذلك الشيء ويصير موضوعاً آخر، وان اخذ فيها ذات الشيء وجعل امر آخر شرطاً للحكم فالموضوع هو تلك الذات، ولا يختلف بارتفاع ذلك الامر الذي جعل شرطاً فيها للحكم، مثلاً الموضوع في قضية «الماء المتغير نجس» هو الماء المتغير، دون قضية «الماء نجس اذا تغير» فان الموضوع بفهم العرف هو الماء والتغير علة لثبوت النجاسة للماء، واذا زال التغير وشك في ارتفاع النجاسة او بقائها من جهة الشك في أن حدوثه علة للنجاسة حدوثاً وبقاء او أن الحكم دائر مداره فلا مانع لاستصحابه واما بناء على الاخير يلاحظ المناسبة بين الحكم الوارد من الشارع وموضوعه، فربما يكون الموضوع في القضية اللفظية هو المقيد، كالماء المتغير، لكن العرف بواسطة المناسبة بين الحكم والموضوع يرى ان موضوع النجاسة هو الماء، وان التغير خارج منه وعلة لثبوت الحكم، وربما يكون الامر بالعكس.

و كيف كان فالحق هو الاخير لان الاحكام المتعلقة بالعناوين تتعلق بها بلحاظ مصاديقها العرفية لان الشارع انما يتكلم بلسان العرف، وهو حين

ص: 579

التكلم كاحد من العرف، فاذا قال احد من اهل العرف لآخر: لا تنقض اليقين بالشك، يحمل كلامه على ما هو نقض عند اهل العرف، وكذلك حال الشارع في التكلم مع اهل العرف وحينئذ فبعد كون الموضوع في قضية الماء المتغير نجس هو الماء، فلو زال التغير يحكم العرف بان هذا الماء ان كان نجساً فقد بقيت نجاسته السابقة، والا فقدار تفعت فمعاملة النجاسة مع هذا الماء ابقاء للحالة السابقة عملا، وعدمها نقض لها كذلك.

و من هنا ظهر ان توهم عدم جواز كون العرف مرجعاً عند العلم بخطائه ناش عن الغفلة، اذبناء على ما قلنا ليس موضوع الحكم واقعاً وبالدقة العقلية الا ما هو مصداق للعناوين بنظر العرف، وهذا واضح جداً.

ثم بعد ما علمت ان موضوع الحكم ماخوذ من الع_رف : فاعلم انه قد يرد الحكم في الدليل على عنوان ولكن العرف يحكم بان الموضوع اعم مما يصدق عليه ذلك العنوان، بحيث لوزال العنوان عنه واطلق عليه عنوان آخر يرى ان هذا الباقي في كلا الحالين هو الذي كان موضوعاً للحكم، وقد يحكم بان زوال العنوان موجب لزوال الموضوع الاول وحدوث موضوع آخر، والاول على قسمين، احدهما انه لا يحتاج في حكمه ببقاء الحكم الاول الى وجود دليل آخر مثل الاستصحاب، بل يحكم بالبقاء بمقتضى نفس الدليل الاول، والثاني انه يحتاج في ذلك الى دليل آخر، ووجه الاحتياج مع فرض انه أحرز ان الموضوع هو الموجود في الحالين احتمال ان يكون الحكم في القضية دائراً مدار وجود اسم العنوان، بحيث يكون هو الواسطة في ثبوت حكمها لموضوعها حدوثاً وبقاء، فلا ينا في بقاء الموضوع عدم الحكم، وغالب الاحكام المستفادة من القضايا من قبيل الثاني، اعنى لوزال العنوان الذي كان الموضوع متصفابه لم يكن الدليل الاول كافياً في اثبات الحكم، ولعل ما اشتهر في السنتهم من ان الاحكام تدور مدار الاسماء محمول على الغالب في مقام الاثبات، بمعنى ان الادلة المثبتة لحكم لمسمى باسم يجوز التمسك بها لاثبات ذلك الحكم مادام الاسم باقياً، وبعد

ص: 580

زواله لا يجوز التمسك بها.

ذكر ما هو كالتفريع لاشتراط بقاء الموضوع

حكى عن بعض المتأخرين انه فرق بين استحالة نجس العين والمتنجس، فحكم بطهارة الاول لزوال الموضوع دون الثاني لان موضوع النجاسة فيه ليس عنوان المستحيل، اعنى الخشب مثلاً، وانما هو الجسم، ولم يزل بالاستحالة.

قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» بعد نقل هذا الكلام وهو حسن في بادى النظر الا إن دقيق النظر يقتضى خلافه، اذ لم يعلم ان النجاسة في المتنجسات محمولة على الصورة الجنسية، وهي الجسم، وان اشتهر في الفتاوى ومعاقد الاجماعات أن كل جسم لاقى نجساً مع رطوبة احدهما فهو نجس، الا انه لا يخفى على المتأمل ان التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع الاجسام الملاقية من حيث سببية الملاقاة للتنجس لا لبيان اناطة الحكم بالجسمية، وبتقرير آخر: الحكم ثابت لاشخاص الجسم، فلا ينا في ثبوته لكل واحد منها من حيث نوعه او صنفه المتقوم به عند الملاقاة، فقولهم : كل جسم لاقى نجساً فهو نجس، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرض للمحل الذي يتقوم به، كما اذا قال القائل: ان كل جسم له خاصية وتأثير، مع كون الخواص والتأثيرات من عوارض الانواع وان ابيت الا عن ظهور معقد الاجماع في تقوم النجاسة بالجسم فنقول : لا شك ان مستند هذا العموم هي الادلة الخاصة الواردة في الاشخاص الخاصة، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك، فاستنباط القضية الكلية المذكورة منها ليس الا من حيث عنوان حدوث النجاسة، لاما يتقوم به والا فاللازم اناطة النجاسة في كل مورد بالعنوان المذكور في دليله، ودعوى ان ثبوت الحكم لكل عنوان خاص من حيث كونه جسماً، ليست باولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضية العامة من حيث عموم ما يحدث فيه النجاسة بالملاقاة لا من حيث تقوم النجاسة بالجسم «انتهى

ص: 581

کلامه، رفع في الخلد مقامه»(1).

اقول : الظاهر من الادلة في الموارد الخاصة ان الخصوصيات النوعية والصنفية لا دخل لها في التنجس بالملاقاة كيف ولو لم يكن كذلك لماصح الحكم بنجاسة مالاق نجساً ولم يذكر في الادلة لاحتمال اختصاص الحكم بالمذكورات في الادلة فاستكشاف قضية عامة وهي قولهم كل جسم لاقى نجساً فهو نجس مبنى على العلم بالغاء الخصوصيات في الموارد المخصوصية.

فالاولى في الجواب ان يقال انه ان اراد القائل ببقاء النجاسة في المتنجسات بعد الاستحالة الحكم ببقائها من دون حاجة الى التمسك بالاستصحاب فهو فاسد لان الدليل الدال على نجاسة شيء بالملاقاة لا يدل على عدم تطهره بعد ذلك فاذا احتملنا ان عروض صورة اخرى على ذلك الشيء اوجب تطهره فلا يرفع هذا الاحتمال بالدليل الاول الدال على حدوث النجاسة فيه بالملاقاة (2) وان اراد الحكم ببقاء النجاسة فيها بضميمة الاستصحاب فهو تابع لبقاء الموضوع عند العرف اعنى موضوع المستصحب ولا ينا في كون موضوع النجاسة هو الجسم عدم بقائه عند العرف لان حكم الجسم لتشخصه في نوع خاص قبل الاستحالة سرى في ذلك النوع وبعد استحالته وصيرورته عند العرف موضوعاً آخر لا يصح الاستصحاب لانه لو كان نجساً لم تكن تلك النجاسة بقاء النجاسة السابقة.

ص: 582


1- الفرائد ذيل الامر الأوّل من الخاتمة، ص ٤٠٢ (طبع رحمة اللّه).
2- فيه ان من المسلم فيما بينهم ان الاستحالة ليست من المطهرات مع بقاء الموضوع، بل الحكم بالطهارة عندها بسبب ارتفاع موضوع النجس، وأن الحادث موضوع جديد، فالاولى ان يقال: ان الموضوع وان كان مطلق الجسم وهو محفوظ مع تغير الصورة النوعية، لكن لا يصدق على الصورة المستحال اليها عرفاً انه شيء لاقى نجساً، بل يقال: انه جسم لم يلاق في ازمنة وجوده شيئاً من النجاسات فاسراء النجاسة اليها لا يمكن لا بالدليل، لعدم صدق الملاقاة، ولا بالاستصحاب لعدم بقاء الموضوع عند العرف.(م. ع. مدظله).

و نظير ذلك لو فرضنا تعلق حكم بالحيوان من دون مدخلية الخصوصية فانه يسرى الى جميع انواعه وكل نوع منه يتعلق به حكم مستقل غير الحكم الذي تعلق بنوع آخر وان كان اصل الحكم من حيث تعلقه بالحيوان واحداً هذا.

حول عدم إمكان إرادة القاعدتين من أخبار الباب

الحادي عشر: المعتبر في الاستصحاب ان يكون شاكاً في البقاء بعد الفراغ عن اصل وجوده حين الشك في بقائه، فلوشك في اصل وجوده وهو الذي يعبرون عنه بالشك السارى لا يكون مورداً للاستصحاب، نعم لو دل دليل على عدم الاعتناء بالشك في اصل الحدوث اخذنا به ويصير هذه قاعدة اخرى.

و قد يتخيل امکان شمول الادلة المذكورة في باب الاستصحاب للقاعدتين.

و تقريب ذلك على نحواتم هو ان يقال انه في قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «من كان على يقين فشك» جعل الزمان السابق ظرفاً لليقين والزمان اللاحق ظرفاً للشك واما المتيقن والمشكوك فلو حظا مجردين عن اعتبار الزمان لا على نحو الظرفية ولا على نحو القيدية، فحينئذٍ المراد باليقين بالشيء هو اليقين بذات الشيء مهملة عن اعتبار الزمان والمراد بالشك ايضاً كذلك، ولا شك ان الشك في ذات الشيء يصدق على الشك في اصل وجوده وعلى الشك في بقائه، لان بقاء الشيء ليس امراً آخر وراء ذلك الشيء، فاذا اشتمل كلا الشكين فوجوب المضى على اليقين يوجب الغاء كليهما، والغاء كل شك بحسبه، فالشك في اصل الوجود الغائه بان يحكم باصل الوجود، والشك في البقاء الغائه بان يحكم بالبقاء، هذا غاية تقريب كلام المتخيل.

اقول: والذي يخطر بالبال في دفع هذا المقال ان يقال: ان المتيقن بعدالة زيد في يوم الجمعة مثلا يصح ان يقال في حقه انه متيقن بالعدالة مقيدة بكونها يوم الجمعة، وان يقال انه متيقن بالعدالة بملاحظة اعتبار ذلك الزمان ظرفاً

ص: 583

لها، وان يقال: انه متيقن بعدالة زيد مع اهمال الزمان قيداً وظرفاً، فان المتيقن بالمقيد متيقن بالمهملة.

اذا عرفت هذا فنقول: المتكلم بقضية «اذا تيقنت بشيء ثم شككت فيه الخ» اما لاحظ الشيء المتيقن مقيداً بالزمان واما لاحظ الزمان ظرفاً للمتيقن، واما اهمل ملاحظة الزمان راساً، ولا تخلو القضيه عن تلك الحالات الثلاث، اما على الاول فلا بد ان يكون المراد من قوله «شككت فيه» الشك في نفس ذلك الشيء مقيداً بالزمان السابق، ولا يكون هذا الا الشك السارى، وكذا على الثالث لان المراد من قوله «شككت فيه» على هذا هو الشك في تحقق ذات ذلك الشيء مهملة عن الزمان، ولا يصدق هذا الشك الاعلى الشك في وجوده من رأس، اذ على تقدير اليقين بوجوده في زمان لا يصدق انه مشكوك تحققه مجرداً عن الزمان، فان الشيء اذا كان له انحاء من الوجود لا يصدق انه مشكوك الوجود الا اذا شك في تمام انحاء وجوده، واما على الثاني فيمكن تطبيقه على الاستصحاب بان يلاحظ الشيء الواحد باعتبار الزمان السابق متيقنا، وباعتبار الزمان اللاحق مشكوكا، فعلم ان تطبيق القضية على الاستصحاب يتوقف على ملاحظة الزمان السابق ظرفاً للمتيقن، واللاحق ظرفاً للمشكوك، وهذه الملاحظة لا تجتمع مع ملاحظة ال_زم__ان الاول قيداً كما في الصورة الاولى، وعدم ملاحظة الزمان اصلاً كما في الصورة الثالثة هذا.

و اعلم ان تخيل عموم الاخبار لقاعدتين من جهتين:

اخديهما ما مضى الكلام فيه.

و الثانية ان المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «تيقنت بشيء» الشيء المقيد بالزمان والمراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ثم شككت فيه» الشك في حدوث ذلك الشيء من اول الامر الا ان المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فليمض على يقينه» او «لا تنقض اليقين الا بيقين مثله» هو البناء على ذلك الشيء حدوثاً وبقاء، وهذا التخيل نظير ما وقع عن بعض في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «كل شيء طاهر حتى تعلم

ص: 584

انه قذر من انه يشمل الاستصحاب وقاعدة طهارة الاشياء، وقد وافق شيخنا الاستاذ «دام بقاه» هذا المتخيل واصر في الاعتراض على من انكر ذلك.

حول عدم إمكان إرادة القاعدتين من أخبار الباب

و نحن قد بينا هناك امکان(1) عدم الجمع بين القاعدتين في تلك القضية على نحو لا اظن ان يشتبه على احد بعد المراجعة ومن اراد فليراجع.

و زاد «دام بقاه» في المقام بانه لا يبعد ان يكون الامر هيهنا اوضح فان الشك المتعلق بما كان اليقين متعلقاً به على قسمين احدهما ما يتعلق بعدالة زيد يوم الجمعة مثلاً وكان اليقين متعلقاً بها مع القطع بعدالته بعد اليوم او فسقه ثانيهما ما يتعلق بعدالته فيه وفيما بعده فالنهي عن نقض اليقين بالشك يعم باطلاقه النقض بكل من الشكين وقضية عدم نقضه بالثاني المعاملة. مشکوکه معاملة المتيقن بترتيب آثار العدالة عليه وربما ايد ذلك بالاستدراك بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولكن تنقضه بيقين آخر «انتهی» (2).

وفيه ان الشك في الحدوث والشك في البقاء شكان مستقلان ومعاملة اليقين مع احدهما لا تلازم معاملة اليقين. مع الآخر والاستدراك بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولكن تنقضه بيقين آخر بعد تسليم ان القضية متعرضة للشك في الحدوث لا يدل الا على عدم رفع اليد عن اليقين بالحدوث الذي كان في الزمان الاول الا بيقين آخر بعدم الحدوث كذلك ولا يدل على الحكم بالبقاء كما لا يخفى هذا.

قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في هذا المقام، ثم لو سلمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية لانه اذا شك فيما تيقن سابقاً اعنى عدالة زيد في يوم الجمعة فهذا الشك معارض لفردين من اليقين: احدهما

ص: 585


1- ص ٢-٥٣١.
2- تعليقته «قدّس سرُّه» ص ٢٢٦.

اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة، الثاني اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة، فتدل بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة، فكل من طرفى الشك معارض لفرد من اليقين ودعوى ان اليقين السابق على الجمعة قد انتقض باليقين في الجمعة والقاعدة الثانية تثبت وجوب اعتبار هذا اليقين الناقض لليقين السابق مدفوعة بان الشك الطارى في عدالة زيد يوم الجمعة وعدمها عين الشك في انتقاض ذلك اليقين السابق، واحتمال انتقاضه وعدمه معارضان لليقين بالعدالة وعدمها، فلا يجوز لنا الحكم بالانتقاض ولا بعدمه «انتهى كلامه رفع مقامه» (1).

اقول : الظاهر من كلامه «قدّس سرُّه» ان هذه المعارضة دائمية، وليس كذلك، لامكان عدم احراز الحالة السابقة قبل يوم الجمعة، نعم العدم الازلى متيقن، لكن انما يصح ان يكون مجرى للاستصحاب ان كان له اثر شرعى، واما ان كان موضوع الاثر عدم العدالة للمحل المفروض وجوده فلا يلزم ان يكون ذلك العدم متيقنا دائماً حتى يعارض الاستصحاب مع القاعدة، كما لا يخفى.

و اعترض شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بان التعارض انما يلزم لو كان كل واحد من نقض اليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة بشك ونقض اليقين بالعدالة المقيدة ثبوتها بذلك في مثل المثال في عرض الآخر، ولم يكن بينهما السببية والمسببية، والا لا يعم العام الا ما هو السبب منهما، كما سيأتى الكلام فيه ان شاء اللّه تعالى، وليس كذلك، فان كون نقض اليقين بعدم هذا الشك نقضاً بالشك يتوقف على عدم شمول النهي لنقض اليقين بالعدالة

ص: 586


1- الفرائد الامر الثاني من الخاتمة، ص ٦- ٤٠٥.

المقيدة، وهذا بخلاف نقض اليقين بالعدالة المقيدة مع هذا الشك، فانه نقض بالشك على كل حال من غير توقف على عدم شمول النهي لنقض اليقين بعدم العدالة المطلقة، بل ولو شمله غاية الامر معه لا يمكن ان يشمله ايضاً، وكان نقض اليقين بهذا الشك جايزاً، فان النهي عن نقض اليقين بعدم العدالة بهذا الشك يلازم تجويز نقض اليقين بالعدالة المقيدة بالشك، لا انه موجب لكونه نقضاً. بغیر الشك «انتهى» (1).

اقول: لا يخفى ان في المثال لنا شكاً واحداً، وهو الشك في عدالة زيد يوم الجمعة، ويقينين احدهما اليقين بعدم عدالته قبل يوم الجمعة، والثاني اليقين بعدالته المقيدة بيوم الجمعة، ومقتضى الاخذ بالاستصحاب تنزيل الشك في العدالة يوم الجمعة بمنزلة العلم بعدمها، ومقتضى اجراء حكم القاعدة تنزيل هذا الشك بمنزلة العلم بثبوتها، فاين حكومة القاعدة على الاستصحاب.

و لعل نظره «دام بقاه» في هذا الكلام الى ان اليقين المتحقق في يوم الجمعة صار ناقضاً لليقين بعدم العدالة قبل يوم الجمعة، ومقتضى عدم جواز نقص هذا اليقين بالشك الطارى ان يجعل ذلك الشك بمنزلة اليقين، حتى في كونه ناقضاً لليقين بعدم العدالة السابقة، فيكون اجراء القاعدة دليلاً على ان نقض اليقين بعدم العدالة بهذا الشك بمنزلة نقضه باليقين، لان هذا الشك بمنزلة اليقين بالعدالة الذي كان ناقضا لليقين بعدمها، وهذا بخلاف الاستصحاب، فان اليقين فيه وهو اليقين بعدم العدالة سابقاً لم يكن ناقضاً لليقين الآخر حتى يترتب على الشك اللاحق هذا الاثر.

و انت خبير بان ناقضية اليقين السابق ليست من اللوازم الشرعية حتى تترتب على الشك اللاحق المنزل منزلته، وانما هي من آثاره العقلية سواء لوحظ طريقاً ام صفة، لان العقل يحكم بان قيام الطريق الحجة على خلاف الحالة

ص: 587


1- تعليقة المحقق الخراساني (قدّس سرُّه) ، ص ٢٢٦.

السابقة اوخصوص العلم كذلك يوجب رفع اليد عنها، والشك اللاحق منزل منزلة العلم في الآثار المترتبة على المعلوم لا في لوازم العلم بحكم العقل، سواء في ذلك الاستصحاب والقاعدة، ومن المعلوم عدم حكومة احدهما على الآخر في هذا المدلول، كما هو واضح.

ثم بعد ما بينا عدم شمول الادلة المذكورة في الباب للقاعدتين يتعين الاستصحاب، لورود بعضها في الشك في البقاء وظهور اتحاد مفاد الباقي معه.

بقي الكلام في وجود مدرك آخر لقاعدة الشك الساري وعدمه، وما يمكن ان يكون مدركاً لها في الجملة الاخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن الشيء فلابد من ذكر الاخبار الواردة في المقام ثم التكلم فيها.

الكلام في قاعدة التجاوز و الفراغ

فنقول مستعينا باللّه العزيز العلام ومتوسلاً باوليائه الكرام:

1 - انه روى محمد بن الحسن، باسناده عن احمد بن محمد، عن احمد بن محمد بن ابي نصر، عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبداللّه، عن زرارة قال: قلت لابی عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجل شك في الاذان وقد دخل في الاقامة؟ قال يمضى قلت رجل شك في الاذان والاقامة وقد كبر؟ قال: يمضى، قلت: رجل شك في التكبير وقد قرأ :قال يمضى، قلت: شك في القرائة وقد ركع ؟ قال : يمضى، قلت: شك في الركوع وقد سجد؟ قال: يمضى على صلاته، ثم قال: يازرارة اذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي(1).

٢ _ و باسناده عن سعد عن احمد بن محمد عن ابيه، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن اسماعيل بن جابر قال قال ابوجعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض، وان شك في السجود بعد ماقام فليمض، كل شيء شك

ص: 588


1- الوسائل الباب 23 من ابواب الخلل في الصلاة، الحديث ١ و٣.

فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه «الخبر»(1).

٣ - و عن عبد اللّه بن ابي ي_ع_ف_ور عن ابي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء، انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه «الخبر»(2).

٤ _ و في موثقة اخرى : كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو(3).

و الكلام فيها يقع في مقامات:

هل قضية أخبار الباب جعل قاعدة واحدة أو تكون مختلفة

احدها: ان مضمون هذه الاخبار هل هو جعل قاعدة واحدة او تكون مختلفة ؟ قال شيخنا الاستاذ «دام بقاه»: ان مقتضى التأمل في الروايات انها مفيدة لقاعدتين، احديهما القاعدة المضروبة للشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله مطلقاً او في خصوص اجزاء الصلاة وما بحكمها من الاذان والاقامة، وثانيهما القاعدة المضروبة للشك في صحة الشيء لاجل الشك في الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطراً او شرطاً بعد الفراغ عنه، ثم جعل «دام بقاه» الصحيحة الاولى والرواية الثانية ظاهرتين في القاعدة الاولى والموثقة الاخيرة مضافة الى مؤيدات اخر ظاهرة في الثانية، ثم قال «دام بقاه» في تقريب هذا المدعى: «لا يخفى ان ارجاع احدى الطائفتين الى الاخرى بحسب المفاد او ارجاعهما الى ما يعمها او ما يعم القاعدتين» من كل منهما لا يخلو من تكلف وتعسف، بلا وجه موجب له اصلا ما مع يرد عليه من الاشكال الآتى في خروج افعال الطهارات الثلاث من القاعدة، مع التمحل في اندفاعه وعدم وروده على ما استفدناه من القاعدتين استظهر مما جعله دليلاً على القاعدة الثانية العموم لجميع موارد الفقه من ابواب العبادات والمعاملات ومما جعله دليلاً على القاعدة الاولى اختصاصه

ص: 589


1- الوسائل، الباب 13 من ابواب الركوع، الحديث 4.
2- الوسائل الباب ٤٢ من ابواب الوضوء، الحديث ٢.
3- الوسائل الباب 23 من ابواب الخلل في الصلاة، الحديث ١و٣.

باجزاء الصلاة وما يحسب منها كالاذان والاقامة، وعلل اختصاص ذلك باجزاء الصلاة وما بحكمها بان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اذا خرجت من شيء» في صحيحة زرارة، وقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية ابن :جابر: «كل شيء شك فيه» لو لم يكن ظاهراً في خصوص شيء من افعال الصلاة بقرينة السؤال عن الشك فيها في صدر كل واحد منهما فلا اقل من عدم الظهور في العموم لغيرها، فان تكرار السؤال من خصوص افعال الصلاة يمنع من اطلاق الشيء لغيرها، ثم اعترض على نفسه بانه لو سلم ذلك فانما هو في الصحيحة لان ال_ع_م__وم فيها بالاطلاق، دون الرواية فان العموم فيها بالوضع فاجاب بما حاصله ان لفظ الشيء الذي وقع عقيب الكل لو لم يكن مطلقاً بمقدمات الحكمة فلا يدل الكل على استيعاب تمام افراده لانه انما يدل على استيعاب تمام افراد مايراد من مدخوله، وقد عرفت ان المتيقن من مدخوله في المقام خصوص افعال الصلاة فاذا اريد بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «كل شيء شك فيه الخ» كل فعل من افعال الصلاة لا يلزم خلاف اصل في اللفظ الدال على العموم «انتهى كلامه دام بقاه»(1).

اقول: و في كلامه مواقع للنظر:

التحقيق أن مفاد الأخبار قاعدة واحدة عامة

منها، استظهار قاعدتين من الاخبار مع وحدة مضامينها بحسب الصورة، فان المضمون الوارد في الصحيحة اعنى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) اذا خرجت من شيء «الى آخره» وكذا الوارد في الرواية «كل شيء شك فيه» وقد جاوز «الخ» مما استظهر منه قاعدة الشك بعد المحل متحد مع ماورد في الموثقتين، ومن البعيد جداً ان يراد من هذا المضمون في مقام غير ما اريد به في الآخر، كما مر نظير ذلك في قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ): «لا تنقض اليقين بالشك».

و منها، ما افاده من انه بناء على ما ذكر لا يرد عليه خروج افعال

ص: 590


1- تعليقة المحقق الخراساني، ص30-229.

الطهارات، ولا يحتاج الى ما تكلف به شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في دفع الاشكال، فان هذا التكلف محتاج اليه على كل حال، سواء جعلنا مفاد الكلى واحداً ام لا، فان من شك في غسل المرفق بعد الفراغ عن غسل اليد يصدق انه شك في صحة شيء بعد الفراغ. عنه، وتشمله الكلية المذكورة في ذيل الموثقة، وهي قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه» مع وجوب الاعتناء بهذا الشك بالاجماع والاخبار، فلابد من القول بان الوضوء امر واحد في نظر الشارع حتى يدفع الاشكال، كما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه».

و منها؛ ما افاده من ان وجود القدر المتيقن في المطلقات مانع من الاخذ باطلاقها، لان المتكلم ان احرز كونه في مقام بيان ما هو مراده في اللب واظهر في مقام الاظهار لفظاً مطلقاً ولم يكن منصرفاً الى شيء من الخصوصيات يحكم العرف بان مراده في اللب هو المطلق والا لم يعلمنا ارادته الواقعية، وهو خلاف كونه في مقام اظهار ذلك، نعم يمكن ان يقال في بعض الموارد: ان المتيقن من كونه في مقام البيان هذا المقدار اعنى المقدار المتيقن في مقام التخاطب، لكن ليس هذا في مثل المقام الذي صار بصدد اعطاء القاعدة الكلية كما لا يخفى.

و منها، ما افاده من ان افادة الكل استيعاب تمام افراد الشيء تابعة لوجود مقدمات الحكمة فيه، فان الكل عند العرف يدل على استيعاب افراد ما يتلوه في القضية اللفظية، لا افراد ما يكون مراداً في اللب، وبعبارة اخرى: الاطلاق والعموم يردان على الشيء في عرض واحد لا ان العموم يرد عليه بعد احراز الاطلاق، ولعمرى هذا واضح عند العرف والعقلاء، وقد سمعنا ذلك مراراً من سيدنا الاستاذ «طاب ثراه».

و الذي يظهر لي اتحاد مفاد الاخبار، وان المستفاد منها الاعم من الشك في وجود الشيء بعد انقضاء المحل والشك في صحته كذلك، فهنا دعويان:

لنا للاولى ما سبق من اتحاد القضايا الواردة في هذا الباب بحسب الصورة والعرف يفهم منها اتحاد المفاد كما مر نظيره في النهى عن نقض اليقين بالشك.

ص: 591

و للثانية عموم الادلة او إطلاقها، مضافاً الى ان المستفاد ان ملاك عدم الاعتناء هو التجاوز عن المحل وان الفاعل حين العمل اذكر.

فان قلت : لا يمكن ان يراد من القضية كلا الشكين من وجهين احدهما ان ارادة الشك في الصحة مبنية على ملاحظة وجود نفس الشيء، لان هذا الشك انما يكون بعد الفراغ عن اصل وجود الشيء، وارادة الشك في الوجود انما تتصور فيا لم يكن وجود الشيء مفروغاً عنه، والشيء الذي فرض متعلقاً للشك لا يمكن ان يفرض محقق الوجود ولا يفرض كذلك، لانه من الجمع بين اللحاظين المتنافيين والثاني انه ان اريد من الشك الشك في الوجود فلابد من الالتزام بان المراد من الخروج عن الشيء في الاخبار الخروج عن محله، وان اريد منه الشك في الصحة لا يلزم منه ذلك، فان التجاوز حينئذ يلاحظ بالنسبة الى نفس ذلك الشيء، فيلزم تقدير المحل وعدم تقديره في قضية واحدة.

قلت: اما الجواب عن الاول فبان الشك في وجود الشيء له تعلق به، وكذا الشك في صحته، فيمكن ان يلاحظ جامع هذين التعلقين معنى حرفياً ويعبر عنه بلفظ الشك في الشيء، كما استعمل في بعض الاخبار في معنى جامع بين الظرفية وغيرها، كما في موثقة ابن بكير فالصلاة في وبره وشعره وجلده وروثه والبانه «الخبر» (1) واما الجواب عن الثاني فبالالتزام بتقدير المحل، فان من فرغ عن نفس الشيء فرغ عن محل وجوده الخارجي، نعم المحل بالنسبة الى الشك في الوجود ليس محلا للوجود الخارجي المحقق لانه غير محرز بالفرض، بل هو عبارة عن المكان الذي ينبغي ان يوجد فيه اما شرعاً واما الاعم منه ومن غيره، ولا مانع من تقدير مفهوم جامع يعم المعنيين، هذا بل يمكن ان يقدر المحل بالمعنى الذي يقدر في الشك في الوجود، اعنى المحل الذي اعتبر لشيء شرعاً، فان محل الحمد مثلاً شرعاً قبل السورة، سواء أتى به ام لا، فكما انه لو شك في وجوده بعد

ص: 592


1- الوسائل الباب 2 من ابواب لباس المصلى، الحديث ١.

الدخول في السورة يكون من الشك فيه بعد المحل كذلك لو شك في صحته. بعد الدخول في السورة يكون من الشك فيه بعد المحل، لان ما اعتبر مشكوكاً هو الحمد مثلاً ومحله قبل السورة، سواء كان الشك في وجوده او في صحته فليتدبر، هذا.

و لكن الانصاف عدم ظهور الاخبار في المعنى الاعم، وان لم يكن ارادته محالة، فالاولى حمل الاخبار على الشك في التحقق لتشمل الشك في وجود شيء والشك في صحته، لانه راجع الى الشك في تحقق امر وجودي او عدمي اعتبر في الشيء شطراً او شرطاً.

وقد يقال : ان الشك في الصحة راجع الى الشك في وجود الشيء الصح__ي__ح ف_ي_ش__م__ل__ه الاخبار من هذه الجهة، والمراد منه ليس هو عنوان الصحيح حتى يدفع بان الظاهر ان الشيء كناية عن العناوين الأولية لا ما يعرضها بملاحظة بعض الامور الخارجية مثل الصحة، بل المراد ما يصدق عليه الصحيح بالحمل الشايع كالصلاة مع الطهارة والحمد عن جهر مثلا، ويظهر الثمرة بينه وبين ما ذكرنا انه لو شك في الكيفية المعتبرة في الفعل بعد تحقق ذلك الفعل وقبل الدخول في غيره المترتب عليه فعلى ماذكرنا لا اعتبار به لانقضاء محلها، فان محلها نفس ذلك الفعل المأتى به، وعلى ماذكر هيهنا يجب الاعادة لعدم انقضاء محل المفيد.

وفيه ان الظاهر من الشيء الذي نسب الشك اليه في الاخبار هو المشكوك الابتدائى، والمشكوك الابتدائى في الصلاة مع الطهارة هو الطهارة مثلا وان صح من جهته نسبة الشك الى الصلاة المقيدة، لكن لا ينصرف لفظ الشك في الشيء الا الى ما شك فيه ابتداء(1).

ص: 593


1- فيه انه يلزم على هذا انصراف ادلة الاصول عن الشكوك المسببة باسرها، مع ان بنائهم على عمومها لها وللشكوك السببية غاية الامر حكومة الأصل الجاري في السبب على الجاري في المسبب فالحق في المقام ان الشك في المقيد ايضاً مشمول للقاعدة، لكن حيث انه مسبب عن الشك في القيد كان الاصل الجاري في الثاني حاكماً على الاول.(م. ع. متظله).

المقام الثاني: هل المحل الذي اعتبر التجاوز عنه في الاخبار هو خصوص المحل الذي جعل للشيء شرعاً او يكون اعم من ذلك وما صار محلا للشيء بمقتضى العادة الشخصية او النوعية ؟ والذي يظهر في بادى النظر هو الاخير دون الاول والثاني، اما الاول فلعدم التقييد في دليل من الادلة، واما الثاني فلان اضافة المحل الى الشيء بقول مطلق لا تصح بمجرد تحقق العادة لشخص خاص، بخلاف ما لو كانت العادة بملاحظة النوع، مثلاً يصح ان يقال: «ان محل غسل الطرف الايسر قبل تخلل فصل معتد به بينه وبين غسل الايمن» لبناء النوع في الغسل الترتيبى على الموالاة بين الغسلات بخلاف العادة الشخصية نعم يصح ان يضاف المحل في هذه الصورة الى فعل خصوص ذلك الشخص، لكن ظاهر الاخبار اعتبار مضى محل الشيء من دون اضافة الى شخص خاص، فتدبر جيداً.

لكن قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»: ان فتح هذا الباب بالنسبة الى العادة يوجب مخالفة اطلاقات كثيرة، فمن اعتاد الصلاة في اول وقته او مع الجماعة فشك في فعلها بعد ذلك فلا يجب عليه الفعل، وكذا من اعتاد فعل شيء بعد الفراغ عن الصلاة فرأى نفسه فيه وشك في فعل الصلاة، وكذا من اعتاد الوضوء بعد الحدث بلا فصل يعتد به او قبل دخول الوقت للتهيؤ فشك بعد ذكر ذلك في الوضوء، الى غير ذلك من الفروع التي يبعد التزام الفقيه بها، نعم.جماعة من الاصحاب مسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة اذا شك في الجزء الاخير، انتهى ما اردنا من نقل كلامه «قدّس سرُّه» (1).

و انت خبير بان ما ذكره «قدّس سرُّه» من الامثلة كلها من قبيل العادة الشخصية الا الاخير، وقد قال جماعة بعدم اعتبار الشك فيه مستدلاً بالاخبار، وهو موافق لما قوينا، نعم لازم ماذكرنا ان من صلى صلاة الظهر أو المغرب ثم

ص: 594


1- فرائد الاصول، قسم الاستصحاب، بحث اصالة الصحة الموضع الثاني، ص ٤١١.

شك بعد قيامه عن المصلى أنه هل صلى صلاة العصر او العشاء ام لا مع بقاء الوقت لا يعتنى بشكه لتحقق العادة نوعاً باتيان الصلاتين في مجلس واحد، والالتزام به مشکل جداً، واما ما افاده من المخالفة للاطلاقات ففيه ان الاطلاقات لا تدل الا على وجوب اتيان الفعل واما لو شك في انه هل وجد ام لا فلا تدل على عدم الايجاد كما لا تدل على الايجاد، ن_ع_م ق_اعدة الاشتغال تقتضى وجوب الاتيان حتى يقطع بالامتثال، وكذا استصحاب عدم الاتيان، وعلى فرض تمامية ادلة الباب لا تعارض بينها وبين قاعدة الاشتغال لورودها عليها، كما لا تعارض بينها وبين الاستصحاب اما من جهة حكومتها عليه واما من جهة خلوها عن المورد لو اخذ بالاستصحاب ورفع اليد عنها كما يأتى ان شاء اللّه.

اعتبار التجاوز و المراد منه

المقام الثالث: الدخول في الغيران كان محققاً للتجاوز فلا اشكال في اعتباره والا ففى اعتباره وعدمه وجهان منشأ هما اختلاف اخبار الباب ويظهر من الصحيحة ورواية ابن جابر اعتباره ومن بعض الاخبار الاخر عدم اعتباره، فهل اللازم تقييد ذلك البعض بما دل على اعتباره، كما ذهب اليه شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» او الاخذ بالاطلاق كما ذهب اليه بعض، ثم على التقدير الاول هل الغير الذي اعتبر دخوله فيه يعم كل شيء، او يكون مختصاً بالاشياء الخاصة؟.

و الذي يظهر لي هو عدم اعتبار الدخول في الغير مطلقاً لاطلاق الموثقة «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» وكذا ذيل موثقة ابن أبي يعفور «انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه».

فان قلت: لا وجه للاخذ بالاطلاق مع وجود الاخبار الدالة على القيد، وايضاً الموثقة وان كان ذيلها مطلقاً ولكن ظاهر صدرها اعتبار الدخول في الغير، فكيف يمكن الاخذ باطلاق الذيل مع ما ذكر من القيد في الصدر؟

قلت: ما ذكر فيه الدخول في الغير ليس ظاهراً في القيدية، لامكان وروده

ص: 595

مورد الغالب والقيد الذي يصح وروده مورد الغالب لا يوجب التصرف في ظاهر المطلق الذي استقر ظهوره، نعم لو قلنا بان وجود القدر المتيقن في الخطاب مانع من الاخذ بالاطلاق، كما ذهب اليه شيخنا الاستاذ «دام بقاه» لا يمكن التمسك بموثقة ابن ابي يعفور لان المتيقن من موردها هو الدخول في الغير لما ذكر في الصدر، ولكن هذا خلاف التحقيق عندى ما لم يصل الى حد الانصراف، وعلى فرض القول بذلك يكفينا اطلاق الموثقة السابقة.

فان قلت: ان الظاهر من رواية ابن جابر: «ان شك في الركوع بعدما سجد، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض» أن ذكر الدخول في الغير ليس المجرد كونه محققاً للتجاوز غالباً، اذ لو كان من هذه الجهة لماصح تعيين ذلك الغير في السجود والقيام لوجود امر آخر يتحقق به التجاوز سابقاً عليها، كالهوى والنهوض للقيام، فالتحديد في الرواية مضافاً الى دلالته على عدم " كفاية مجرد التجاوز يدل على عدم كفاية الدخول في كل امر هو غير المشكوك، بل يعتبر كون ذلك الامر مما اعتبر في المركب بعنوانه الخاص، فلا يكفي مثل الهوى الذي هو مقدمة للسجود، والنهوض الذي هو مقدمة للقيام.

قلت :ان الهوى و النهوض وان كانا يتحقق بهما التجاوز لكن لا يتحقق الشك في الركوع في حال الهوى غالباً، وكذا في السجود في حال النهوض، لقربهما بالمشكوك، فيمكن ان يكون ذكر السجود والقيام في الرواية من جهة كونهما اوّل حال يتحقق فيه الشك للغالب في الجزء السابق، لا ان الحكم منوط بالدخول في مثلهما، فتدبر جيداً.

خروج الوضوء عن القاعدة أحياناً

المقام الرابع: قد خرج من الكلية المذكورة الشك في بعض افعال الوضوء قبل الفراغ عن اصل العمل كما لو شك في غسل الوجه وهو مشغول بغسل اليد اليمنى او شك في غسل اليد اليمنى وهو مشغول باليسرى وهكذا وهذا من جهة الاخبار والاجماع بل والحق بعضهم بالوضوء الغسل والتيمم وكيف كان حكم الوضوء مما لا اشكال فيه انما الاشكال في ان موثقة ابن ابي يعفور وهي قوله

ص: 596

(عَلَيهِ السَّلَامُ) :«اذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء انما الشك اذا كنت في شيء لم تجزه»(1) تدل على ان الوضوء باق تحت القاعدة المذكورة، بناء على عود ضمير غيره الى الوضوء، لئلا يخالف الاجماع، وحينئذ يستشكل بان اجراء حكم القاعدة على الوضوء ودخوله تحتها ليس منوطاً بالدخول في غير الوضوء، لتحقق بعض جزئيات تلك القاعدة قبل الدخول في غير الوضوء ايضاً، فمقتضى القاعدة المذكورة في ذيل الموثقة عدم الاعتناء ببعض الشكوك، وان كان قيل الانتقال عن الوضوء الى غيره، كما لو شك في غسل جزء من الوجه بعد الدخول في غسل اليد مثلاً، أو شك في اصل غسل الوجه بعد الدخول في غسل اليد لانه شك في الشيء بعد التجاوز.

و قد تفصى شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» عما ذكر بان الوضوء بتمامه في نظر الشارع امر واحد بملاحظة وحدة اثره، وهي الطهارة، فلا يلاحظ كل فعل بحياله فعلى هذا لا يصدق التجاوز الا بالانتقال عن اصل العمل الى غيره(2).

و ناقش في ذلك شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بان وحدة الاثر لوكانت موجبة لذلك يلزم ان يكون الشك في جزء كل عمل قبل الفراغ عن العمل شكافيه قبل التجاوز عن ذلك الجزء، بيان الملازمة أن ساير الاعمال يشارك الطهارات في وحدة الاثر وبساطته مثل ان اثر الصلاة هو الانتهاء عن الفحشاء، فلو كانت الوحدة في الاثر توجب كون السبب فعلاً واحداً في نظر الشرع فلم لا توجب في ساير الافعال، هذا(3).

اقول: الظاهر انه «قدّس سرُّه» لم يرد بان كل فعل له اثر واحد هو واحد في نظر الشارع حتى يرد عليه ما افاده «دام بقاه» بل المرادان المكلف به في الوضوء

ص: 597


1- الوسائل الباب ٤٢ من ابواب الوضوء، الحديث.2 فيه: «فليس شكك بشيء».
2- لفرائد الموضع الرابع من مباحث اصالة الصحة، ص ١٣-٤١٢.
3- تعليقة المحقق الخراساني (قدّس سرُّه)، ص 232.

لكونه هي الطهارة في الحقيقة والافعال الخارجية محصلة لها صح ان يلاحظ الشارع تلك الافعال امراً واحداً من جهة وحدة ما يراد منها، وبهذه الملاحظة ليس لها اجزاء حتى يكون الشك في السابق منها بعد الدخول في اللاحق من افراد الشك بعد التجاوز، والدليل على هذه الملاحظة تطبيق هذه الكلية في الموثقة على الشك في جزء من اجزاء الوضوء بعد الفراغ من الوضوء.

و الحاصل انه بعد الاستفادة من الاخبار ان الشك في جزء من الوضوء ان كان بعد الوضوء فلا يعتنى به لكونه من الشك في الشيء بعد التجاوز وان كان قبل الفراغ منه يعتنى به لكونه من افراد الشك في الشيء قبل التجاوز نستكشف ان افعال الوضوء كلها في نظر الشارع بمنزلة فعل واحد، والمصحح لهذه الملاحظة مع كونها متعددة في الخارج هو وحدة المسبب، وهي الطهارة التي هي المكلف به في الحقيقة هذا.

ثم تفصى «دام بقاه» عن اصل الاشكال بما مر سابقاً في المقام الاول، وحاصله ان المستفاد من الاخبار قاعدتان: الاولى قاعدة الشك بعد المحل، والثانية قاعدة الشك بعد التجاوز والفراغ والاولى مختصة باجزاء الصلاة وما بحكمها، والثانية اعم منها ومن ساير الابواب والمذكور في ذيل الموثقة هي القاعدة الثانية فلا اشكال واما شمول ذيل الموثقة للشك في صحة بعض الاجزاء بعد الفراغ عنه والانتقال الى جزء آخر كما اذا شك في غسل جزء من الوجه بعد الشروع بغسل اليد مثلاً فيلزم التهافت اذ كما يصح اعتبار انه شك في الشيء قبل المضى، لانه شك في شيء من الوضوء قبل الانتقال عنه الى حال اخرى فيجب الالتفات اليه صح اعتبار انه شك في الشيء بعد المضى عنه، لانه شك في شيء من عسل الوجه مع التجاوز عنه فيجب عدم الالتفات اليه، فيجاب عنه او لا بانه لا اختصاص لهذا الاشكال بالطهارات بل يعم ساير المركبات مما كان له اجزاء مركبة أو مقيدة من العبادات والمعاملات مثل ما اذا شك في جزء من الفاتحة بعد الفراغ عنها، وقبل الفراغ من الصلاة،

ص: 598

والتفصى عن الكل بان المراد من الشيء في ذيل الموثقة وغيرها هو مثل الوضوء والغسل والصلاة مما له عنوان شرعاً وعرفاً بالاستقلال يقيناً وبلا اشكال، كماً يشهد به صحيحة زرارة في الوضوء ومثل خبر «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك» وغيرهما من الاخبار ومعه لا يمكن ان يراد من العموم والاطلاق في الموثقتين الاجزاء المركبة كي يلزم التهافت «انتهى ما اردنا من كلامه ملخصاً «دام بقاه»(1).

اقول و انت خبير بان وحدة مضمون الاخبار الواردة في المقام تابى عن الحمل على القاعدتين، فانها بين ما رتب عدم الاعتناء فيها على الشك في الشيء بعد الخروج عنه، وما رتب عليه بعد المضى عنه، وما رتب عليه بعد التجاوز، ولا شك في وحدة هذه الالفاظ الثلاثة بحسب المعنى، فحمل بعضها على الشك في الوجود بعد المحل والآخر على الشك في الصحة بعد التجاوز عن العمل مما لا يساعد عليه فهم العرف وحيث إن المراد في بعض الاخبار هو الشك في الوجود كما في صحيحة زرارة ورواية ابن جابر من جهة الامثلة المذكورة فيهما - تعين حمل الباقي عليه، هذا مضافاً الى ان المشكوك في موثقة ابن ابي يعفور انما هو شيء من الوضوء، لا نفسه باعتبار جزء منه او قيد فالشك المذكور في الكبرى لابد وان يحمل على الشك في الجزء او القيد حتى تصير كبرى لما ذكر في الصدر، وحينئذ فيرجع ضمير قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لم تجزه» الى ذلك الشيء المفروض ولا ينطبق هذا الا على الشك في الشيء بعد المحل، فتدبر.

نعم يمكن ان يقال ان قاعدة الشك بعد الفراغ قاعدة اخرى تستفاد من بعض الاخبار في خصوص الوضوء والصلاة مثل صحيحة زرارة في باب الوضوء (2)ومثل ما روى محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) كل ما

ص: 599


1- تعليقة المحقق الخراساني (قدّس سرُّه) ص 2-231.
2- الوسائل الباب ٤٢ من ابواب الوضوء، الحديث 1.

شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض (1) وامثال ذلك من الروايات(2).

فحينئذ فكل شك ينطبق عليه القاعدتان يلغى من جهتهما، وكل ما ينطبق عليه احداهما يلغى ايضاً من جهتها ولا يعارضها مفهوم الاخرى، لان المفهوم في كل من القاعدتين بيان عدم المقتضى لالغاء الشك وان الرجوع الى المشكوك من باب القاعدة، مع امكان ان يقال بعدم المفهوم للدليل المفيد لقاعدة الشك بعد الفراغ في باب الصلاة، لانه لم يجعل الموضوع فيه الشك والفراغ شرطاً خارجاً عنه كما هو شأن كل قضية شرطية سيقت لبيان المفهوم، بل جعل الشك بعد الفراغ موضوعاً للحكم واداة الشرط الموجودة في بعضها انما جيء بها لبيان تحقق الموضوع، كما لا يخفى على المتامل، ولو سلمنا ثبوت المفهوم لكل منهما فلا يقبل المعارضة مع المنطوق، كما لو قال الشارع اذا بلت فتوضأ مثلا، ثم قال ادا نمت فتوضأ، فانه لا ينبغى توهم ان منطوق احدهما معارض مع مفهوم الآخر فتدبر.

فان قلت: الشك في المركب بعد الفراغ مسبب عن الشك في الجزء او القيد، والشك في السبب يشمله الاخبار الدالة على عدم الاعتناء بالشك بعد المحل، وقد تحقق ان القاعدة الجارية في الشك السببي مقدمة على القاعدة الجارية في الشك المسبى، وحينئذ لا يبقى للشك بعد الفراغ مورد الا نادراً، كما لو شك في الجزء الاخير وقد فرغ عن العمل بواسطة الاشتغال بامر آخر مغاير له، ولا يحسن اعطاء قاعدة كلية لاجل مورد نادر.

قلت: هذا انما يصح اذا اعتبر المشكوك في القاعدة بعد الفراغ عن مجموع العمل بلحاظ الخلل في بعض ما اعتبر فيه واما اذا اعتبر نفس ما اعتبر فيه من القيد او الجزء كما في قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «كلّ ما شككت فيه بعد ما تفرغ من

ص: 600


1- الوسائل، الباب 27 من ابواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث ٢.
2- الوسائل، الباب 27 و 23 من ابواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث ٣ و...

صلاتك الخ» فليس هناك شكان حتى يكون احدهما مسبباً عن الآخر، بل علق الحكم في احدى القاعدتين على الشك في الجزء او القيد بعد انقضاء المحل، وعلق في الاخرى عليه ايضاً بعد الفراغ عن مجموع العمل.

و اما تطبيق القاعدة على الشك في بعض افعال الوضوء كما في الموثقة فتصحيحه إما بما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرّه»، وقد عرفت عدم ورود ما اورده عليه شيخنا الاستاذ «دام بقاه»، وإما بان يقال: ان المستفاد من الموثقة ان الشك في شيء من الوضوء بعد الوضوء لا يعتنى به من جهة انه من افراد الشك في الشيء بعد التجاوز، ولا يستفاد منها ومن غيرها ان الشك في شيء من الوضوء قبل الفراغ عن اصل الوضوء يعتنى به من جهة انه شك في الشيء قبل التجاوز، بل يمكن ان يكون الشك قبل تمام الوضوء مع كونه من افراد الشك بعد المحل يعتنى به لكون هذه القاعدة مخصصة بالنسبة اليه، اذ لا منافاة بين بقاء فرد من افراد الشك بعد المحل في باب الوضوء تحت القاعدة، وخروج الباقي، وحينئذٍ نقول : ذكر القاعدة في الموثقة إنما هو من جهة الاجراء على الفرد الباقي، لا انها تدل على ان الشك في باب الوضوء داخل تحت القاعدة من دون تخصيص اصلاً.

و الحاصل انه لم يظهر من الاخبار أن الاعتناء بالشك في جزء من الوضوء مادام مشتغلاً به من حيث كونه داخلاً في افراد الشك قبل التجاوز، وأن الشك بعد التجاوز في باب الوضوء منحصر بالشك بعد تمام العمل، حتى يحتاج في التوجيه الى ما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»، او الى ما افاده شيخنا الاستاذ «دام بقاه»، غاية الامر ان الموثقة السابقة تدل على ان الشك في شيء من الوضوء بعد الفراغ عنه لا يعتنى به لكونه من جزئيات الشك في الشيء بعد المحل، ولو لا الاجماع والاخبار الصحيحة بوجوب الاعتناء بالشك مادام مشتغلاً بالوضوء لقلنا بمقتضى القاعدة: ان الشك في غسل اليد اليمنى بعد الشروع في اليسرى، وكذا الشك في جزء منها بعد الفراغ عنها، لا يعتنى به،

ص: 601

لكن الاخبار والاجماع يخصصان القاعدة في الشكوك المتعلقة باجزاء الوضوء بعد المحل غير الشك الذي يكون كذلك بعد الوضوء هذا.

حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء

المقام الخامس : قد عرفت مما ذكرنا سابقاً أن الشك في الشرط حكمه حكم الشك في الجزء، لان الشرط ايضاً امريشك في وجوده، وله محل خاص، فلو تجاوز محله يشمله العمومات والكلام هنا في أنه ان احرز الشرط بهذه القاعدة بواسطة مضى محله هل يكفى للمشروط الآخر الذي محله باق بالنسبة اليه اولا؟ مثلاً لو شك بعد صلاة الظهر في انها كانت مقرونة بالطهارة ام لا، فلا شبهة في مضى محل الطهارة بالنسبة الى صلاة الظهر، فتشمله العمومات، فهل يكون المكلف بمقتضى تلك الادلة واجداً للطهارة حتى يجوز له الدخول في العصر من دون تحصيل الطهارة ام لا ندل الا على صحة صلاة الظهر، لان محل الطهارة مضى بالنسبة اليها، واما بالنسبة الى صلاة العصر فمحلها باق، فيدخل بالنسبة اليها في الشك في الشيء قبل انقضاء المحل.

و يمكن تفريع هذا المطلب على ان الادلة هل يستفاد منها الطريقية بمعنى أن الشاك في شيء بعد التجاوز جعل له طريق الى احراز الواقع، اولا يستفاد منها الا حكم الشك، كساير القواعد المقررة للشاك، نظير اص_ال_ة ال_ب_رائ_ة والاستصحاب وغير ذلك ؟ فان قلنا بالاول فيكتفى به المشروط آخر ايضاً، لان الشخص المفروض واجد للشرط واقعاً بحكم الطريق الشرعي، والمفروض انه ما ارتفع على تقدير وجوده ويستلزم وجوده اولا بقاءه ومثل هذا اللازم يؤخذ به في الطرق الشرعية واما ان قلنا بالثاني فلا يكتفى به المشروط آخر لان الشرط من هذه الجهة ليس مما تجاوز محله، وهذا ظاهر.

و لما كان المطلب متفرعاً على طريقية القاعدة وعدمها فليتكلم في ذلك :

و نقول ان ظاهر الاخبار المذكورة فى صدر المبحث كونها من القواعد المقررة للشاك. نعم ما يوهم كونها معتبرة من باب الطريقية تعليل الحكم في بعض الاخبار بكونه حين العمل اذكر مثل رواية بكير بن اعين في الرجل

ص: 602

يشك بعد ما يتوضأ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك (1) فان الظاهر منه أن الوجه في الغاء الشك وقوع المشكوك فيه في محله بموجب العادة والغلبة.

دفع توهم في الأخبار

و فيه منع اذ فرق واضح بين جعل الظن الحاصل من العادة معتبراً، كما هو مفاد الطريق، أو كونها علة لتشريع الحكم للشاك، ولا يستفاد من الخبر الاول، فيبقى ظهور الاخبار السابقة من كون هذا الحكم من الاحكام المقررة للشاك بحاله، فليتدبر(2).

المقام السادس: قديترائى في بادى النظر لزوم التهافت في الاخبار السابقة، اذ لفظ الشيء كما انه يصدق على جزء المركب كذلك يصدق على مجموعه، فحينئذ لو شك في جزء من المركب بعد الفراغ م_ منه فذلك الجزء مشكوك فيه ومجموع المركب ايضاً مشكوك فيه اد الشك في الجزء يستلزم الشك في الكل،

ص: 603


1- الوسائل الباب ٤٢ من ابواب الوضوء، الحديث7.
2- هذا هو الكلام في الشك في الطهارة الحدثية بعد الفراغ عن العمل، ولو فرض هذا الشك في الاثناء فهل يجري القاعدة لاحرازها بالنسبة الى الاجزاء اللاحقة اولا؟ الظاهر ابتناء المسألة على اختصاص قاعدة التجاوز بخصوص باب الصلاة اوعمومها لسائر الابواب ايضاً ان قلنا بالاول. فحيث ان المشكوك الراجع الى الصلاة في باب الشروط انما هو التقيد بها، ومحله بالنسبة الى كل جزء مقارن لذلك الجزء، فحل تقييد الاجزاء اللاحقة بالطهارة الحدثية باق. وان قلنا بالثاني فلنا اجرائها في الوضوء بناء على استفادة المحل الشرعي من قوله تعالى: «اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» دون كونه مسوقاً لبيان الشرطية فقط، اذ حينئذٍ نفول: محل الوضوء حتى بالنسبة الى الاجزاء اللاحقة جعل شرعاً قبل الصلاة وقد انقضي، فاذا حكم بمقتضى القاعدة بتحقق الوضوء ترتب عليه اثره الشرعي وهو الطهارة وهذا التقرير يمكن القول بجواز الدخول في عمل آخر مشروط بالطهارة، اذ بعد الحكم بتحقق الوضوء بمقتضى القاعدة لعمل بواسطة انقضاء محله بالنسبة الى ذلك العمل يترتب عليه اثره الشرعي - وهو الطهارة - ولو للعمل الذي لم ينقض المحل بالنسبة اليه، لان أثر الوضوء ولو كان لغاية مخصوصة هو الطهارة مطلقاً ولو لغير تلك الغاية.(م. ع. مدظله).

فههنا فردان من الشك : احدهما الشك في الجزء، والآخر الشك في الكل والاول داخل في الشك في الشيء بعد تجاوز محله والثاني داخل في الشك في الشيء، قبل تجاوز محله وبالاعتبار الثاني يجب الاعتناء به دون الاول.

و الجواب ان الظاهر من الشك في الشيء هو ان يكون الشك متعلقاً به ابتداء لا ان يكون مشكوكاً بواسطة امر آخر وما شك فيه ابتداء هو الجزء، وان كان يصدق نسبة الشك الى الكل من جهة استلزام الاول للثاني.

و ان ابيت فنقول : لزوم الاعتناء بالشك اذا كان قبل الخروج المستفاد من الاخبار ليس حكماً تعبدياً حتى يقع التعارض في مدلول الاخبار، بل انما هو على طبق القاعدة العقلية المقتضية لوجوب اتيان كل ما شك فيه مما اعتبر في المأمور به غاية الامر خروج ما شك فيه بعد انقضاء المحل، واما المشكوك فيه قبل انقضاء محله فلزوم الاتيان به من باب القاعدة الاولية، وحينئذ نقول: الشك المفروض من حيث انه شك في الجزء لو شمله الدليل الدال على عدم لزوم الاعتناء به فليس في البين ما يعارضه لان الشك في الكل وان كان شكاً في الشيء قبل انقضاء محله، لكن عرفت ان الحكم بالاعادة فيه من باب قاعدة الاشتغال، وبعد ما حكم الشارع بالغاء الجزء المشكوك فيه _ كما هو مفاد اجراء الدليل في الشك في الجزء- لا يبقى محل لحكم العقل كما هو ظاهر.

مجرى القاعدة هو الشك الحادث

المقام السابع: لا أشكال في ان المراد بالشك الوارد في الاخبار هو الشك الحادث بعد التجاوز لا الاعم منه ومن الباقي من اول الامر، فلو شك من حين الدخول في الصلاة في كونه متطهراً فلا يجوز له الدخول فيها، بملاحظة ان هذا الشك يصير بعد انقضاء العمل شكاً في الشيء بعد تجاوز المحل، وهذا واضح.

و هذا الشك الحادث بعد العمل على اقسام احدها ان يكون المكلف غافلاً عن صورة العمل بمعنى انه لا يعلم الان هل حرك خاتمه حين غسل اليدام لا وهذا على قسمين احدهما انه يعلم انه على تقدير عدم تحريكه الخاتم كان هذا مستنداً إلى السهو، والثاني انه يعلم انه على هذا التقدير كان مستنده العمد،

ص: 604

وهنا قسم ثالث وهو انه على هذا التقدير لا يعلم انه مستند الى السهوا و العمد، لكن حكم هذا القسم يعلم بعد بيان القسمين الأولين، والقسم الثالث ان يعلم كيفية العمل مثل انه يعلم بان كيفية غسل يده كانت بارتم_اس يده في الماء وانه لم يحرك خاتمه قطعاً وانه كان غافلاً حين العمل ولكن شك الآن في ان ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس ام لا؟

اذا عرفت هذا فنقول : اما القسم الاول فدخوله في الادلة مما لا اشكال فيه.

و اما القسم الثاني فشمول الاخبار المطلقة له مما لا اشكال فيه ايضاً، واما تطبيق ما علل فيه بكونه حين العمل اذكر فتقريبه أن قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هو حين يتوضأ اذكر بمنزلة الصغرى للكبرى المطوية، فكانه قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هو حين يتوضأ اذكر»، وكل من كان متذكراً حين العمل فلا يتركه عمداً، فعلى هذا تنفع هذه القضية لمن احتمل ترك الشيء سهواً، وكذا لمن احتمل تركه عمداً، كما لا يخفى.

و فيه : ان الظاهر من التعليل المذكور عدم الاعتناء بترك الشيء سهواً، لكون الانسان متذكراً حين العمل غالباً، واما عدم تركه عمداً فهو مفروغ عنه في الأسئلة والاجوبة الواردة في الاخبار.

و من هنا يظهر الاشكال في القسم الآخر الذي ذكرن_ا ان_ه يعلم حكمه، والحاصل ان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) هو حين يتوضأ «الخ» ليس م_ت_ع_رضاً لالغاء احتمال التعمد.

و اما القسم الثالث ففي شمول الادلة له وعدمه وجهان: من الاطلاق وظهور التعليل المذكور فيما اذا احتمل التذكر حين العمل.

و يمكن ان يقال: ان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «هو حين يتوضأ الخ» ليس من قبيل العلة بحيث يكون الحكم دائراً مداره بل هو من قبيل الحكمة لاصل تشريع الحكم للشك بعد الفراغ بنحو الاطلاق، والدليل على ذلك امران:

ص: 605

احدهما خلو ساير الاخبار المطلقة مع كونها في مقام البيان عن ذكر تلك العلة.

والثاني: ما رواه ثقة الاسلام عن العدة عن احمد بن محمد، عن على بن الحكم، عن الحسين بن ابى العلا، قال: سألت ابا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن الخاتم اذا اغتسلت، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): حوّله من مكانه، وقال في الوضوء تديره، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة(1). واحتمال ان يكون السؤال عن الخاتم الوسيع الذي يصل الماء تحته قطعاً وانما ام_ره بالتحويل والادارة استحباباً، أو حمل النسيان على الغفلة بعد العمل عن الادارة وعدمها حينه بعيد في الغاية.

و على هذا يمكن قويا الاخذ باطلاقات الاخبار، وحمل التعليل المذكور على الحكمة، والحكم بان الشك الحادث بعد التجاوز مطلقاً، سواء كان غافلاً عن صورة العمل ام كان ملتفتاً اليها، وسواء كان احتمال تركه مستنداً الى السهوام كان مستنداً الى العمد، لا اعتبار به. هذا تمام الكلام في المقام وعليك بالتأمل التام.

في أصالة الصحة في فعل الغير وأدلتها

و بقى الكلام في اصالة الصحة في فعل الغير وبيان مدركها، وقد استدل عليها بالادلة الاربعة.

اما الكتاب فمنه آيات:

منها قوله تعالى: «وقولوا للناس حسناً»(2) ومبنى الاستدلال على ان المراد من القول هو الظن والاعتقاد، ووجه الدلالة على هذا ان التكليف المتعلق بالاعتقاد لكونه امراً غير اختياري راجع الى ترتيب الاثر، فيجب على المكلفين

ص: 606


1- الوسائل الباب ٤١ من ابواب الوضوء، الحديث ٢.
2- سورة البقرة، الآية ٨٣.

ان يعاملوا مع الناس في افعالهم معاملة الفعل الصحيح.

لا يقال : تحصيل الاعتقاد امر اختياري اذا كانت مقدماته اختيارية.

لانا نقول : نعم قد يكون كذلك، وقد يحصل قهراً، بل في غالب الاحوال يكون كذلك، فلا يمكن جعله موضوعاً للالزام بنحو الاطلاق.

و منها قوله تعالى: «فاجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن اثم» (1) تقريب الاستدلال أن ظن الخير ليس اثماً قطعاً، فالظن الذي يكون اثما ومهياً عنه هو ظن السوء، والنهي عنه راجع في الحقيقة الى النهى عن ترتيب الاثر السوء حين الظن به لما مضى من عدم قابلية الظن للالزام، فيجب ترتيب آثار الحسن والصحة لعدم الواسط.

و منها قوله تعالى : «اوفوا بالعقود»(2) بناء على ان الخارج من عمومه ليس الا ما علم فساده لانه المتيقن.

و منها قوله تعالى: «الا ان تكون تجارة عن تراض»(3) بالتقريب المقدم.

و انت خبير بما في المجموع من الضعف: اما الآية الاولى، فلان الظاهر منها مطلوبية قول حسن في مقام المعاشرة، ولا ربط لها بترتيب آثار الصحة على فعل الغير وهي نظير قوله تعالى في توصية موسى وهرون على نبينا وآله و(عَلَيهِمَا السَّلَامُ): «فق_ولا له قولا لينا لعله يتذكر اوبخشی»(4).

و اما الثانية فلان عدم الواسطة بين السوء والحسن او الصحة والفساد لا يلازم عدم الواسطة في المعاملة وترتيب الاثر اذرب عقد لا يعامل معه

ص: 607


1- سورة الحجرات، الآية ١٢.
2- سورة المائدة، الآية ١.
3- سورة النساء، الآية ٢٩.
4- سورة طه الآية ٤٤.

الانسان لا معاملة الصحة ولا معاملة الفساد وان كان في الواقع لا يخلو من احدهما.

و اما الآيتان الاخيرتان مضافاً الى عدم شمولهما لتمام المدعى اذهي ليست خصوص العقود فالاستدلال بهما مبنى على جواز التمسك بعموم العام في الشبهات المصداقية، وهو خلاف المشهور.

و اما السنة فمنها ما في الكافي عن امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) «ضع أمر اخيك على احسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا تظنّن بكلمة خرجت من اخيك سوء وانت تجد لها في الخير سبيلا»(1).

و منها قول الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمحمد بن الفضل: «يا محمد كذب سمعك و بصرك عن اخيك، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال وقال لم اقل فصدقه وكذبهم» (2).

و منها ما ورد مستفيضاً «ان المؤمن لا يتهم اخاه»(3) وانه اذا«اتهم اخاه انمات الايمان في قلبه كانميات الملح في الماء» (4)وان «من اتهم اخاه فلا حرمة بينهما» (5) وان «من اتهم اخاه فهو ملعون»(6) الى غير ذلك من الاخبار. ولا يخفى ما في الكل، خصوصاً رواية ابن الفضل، فان رد شهادة خمسين قسامة في مقابل انكار الاخ المؤمن وتصديقه فيما يترتب عليه الحكم الشرعي مما يقطع بخلافه، فان القسامة هي البينة العادلة، والاولى حملها على مورد لم يكن

ص: 608


1- اصول الكافي، ج 2، باب التهمة وسوء الظن، الحديث ٣، ص ٣٦٢.
2- الوسائل، الباب ١٥٧ من احكام العشرة الحديث. وفيه «عن محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)» مع اختلاف بسير.
3- الظاهر أنه مستفيض معنى راجع بحار الأنوارج ٧٥ ص ١٩٤، الحديث4 نقلاً بالمضمون.
4- الوسائل، الباب ١٦١ من احكام العشرة، الحديث ١ و ٢.
5- الوسائل، الباب ١٦١ من احكام العشرة، الحديث ١ و ٢.
6- الوسائل، الباب 130 من احكام العشرة، الحديثه.

لما يشهد به القسامة اثر شرعى، فتكون هذه الرواية واردة في مقام آداب المعاشرة، ومحصل مفادها على ماذكرنا انه اذا رأيت او سمعت ولو من خمسين قسامة صدور قول أو فعل من اخيك لا ينبغى صدوره في مقام المعاشرة فلا ترتب الاثر على ذلك، واجعل المعاملة بينك وبينه كما لم يصدر منه شيء.

و اما الاجماع القولى : فيظهر لمن تصفح فتاوى الفقهاء، فانهم لا يختلفون في ان قول مدعى الصحة مطابق للاصل.

و الاجماع العملى يعرف من ان سيرة المسلمين في جميع الاعصار على حمل الاعمال على الصحيح وترتيب آثار الصحة في عباداتهم ومعاملاتهم، وهذا واضح من دون سترة.

و الظاهر بناء العقلاء على ذلك من دون اختصاص بالمسلمين، ويستكشف رضاء الشرع بضميمة عدم الردع.

ويمكن ان يكون هذا ايضاً مدركاً للفتاوى، لا انهم اطلعوا على ما لم نطلع عليه.

في أن أصالة الصحة دليل الصحة الواقعية

و كيف كان اعتبار اصالة الصحة في فعل الغير اجمالاً اظهر من ان يحتاج الى تكلف الاستدلال.

ولا يخفى ان بناء العقلاء والسيرة المستمرة على ان المحمول عليه هو الصحة الواقعية دون الصحة عند الفاعل، وهذا واضح عند من نظر الى حالهم في المعاملات والعبادات ولكن الحمل على الصحة الواقعية في بعض الصور مشكل، وتفصيل الصور: أن الشاك في الفعل الصادر من غيره، إما ان يعلم بعلم الفاعل بصحيح الفعل وفاسده واقعاً، وإما ان يعلم بجهله بذلك، وإما ان لا يعلم حاله اصلا والصورة الثانية على اقسام لانه إما ان يعلم باستناد جهله الى خطائه في الاجتهاد المعذور فيه او التقليد كذلك، وإما أن يعلم بكونه عن تقصير، وإما ان يجهل ذلك، وحيث انه ليس في البين دليل لفظي ينظر فيه من حيث العموم والاطلاق فلابد من ان يؤخذ بالمقدار المتيقن من السيرة، ولا اشكال في تحققها في الصورة الاولى، والظاهر تحققها في الصورة الاخيرة ايضاً،

ص: 609

وأما تحققها في الوسطى بتمام اقسامها ففي غاية الاشكال، وعليك بالتتبع في هذا المجال.

خاتمة : في تعارض الاستصحاب مع ساير القواعد المقررة للشاك وفي تعارض الاستصحابين

في تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز

ويذكر ذلك في ضمن مقالات

الاولى: في تعارضه مع القاعدة المقتضية لعدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز: و مجمل القول في ذلك : انه ان قلنا باعتبار القاعدة من باب الطريقية فوجه تقديمها على الاستصحاب واضح وان قلنا به من باب التعبد فمقتضى تقديمه على ساير الاصول وان كان تقديمه عليها ايضاً الا انه لو قل_ن_ا ب_ه لزم لغوية القاعدة، اذ قل ما يتفق عدم استصحاب في موردها مخالفاً كان او موافقاً، ولو بنى على تقديم الاستصحاب على القاعدة كتقديمه على ساير الاصول لم يبق لها مورد الا نادراً غاية الندرة(1) فاللازم تقديمها عليه من هذه الجهة.

ص: 610


1- و ذلك لان الشك اما واقع في القيد او واقع في الجزء، والثاني ب_اس_ره م_ورد للاستصحاب، والقيد اما راجع الى الفاعل او الى الفعل والاول ايضاً مع الحالة السابقة مورد للاستصحاب، نعم في الثاني حيث ان التقيد محتاج اليه، ولا يمكن اثباته بالاستصحاب المثبت للقيد، كان الجاري هو القاعدة، كما في الاول مع عدم الحالة السابقة، ولا يبعد ندرة هذين الموردين في جنب غيرهما، ولكن الاشكال في ان ندرة المورد لا يوجب الاستهجان واللغوية في مقامنا كما يوجبه في سائر المقامات، وذلك لان تقديم الامارة او الاستصحاب على قاعدة ظاهرية اخرى ليس من باب التخصيص او الحكومة المصطلحة، لعدم التنافي المدلولي بينهما وبين تلك القاعدة، اذ كل وجه يختار للجمع بين الحكم الواقعي والظاهري آت في الحكم الظاهري المقدم على مثله، فلو فرض ندرة المورد من جهة كثرة الامارات الدالة على الواقع لم يكن هذا من التخصيص المستبشع في القاعدة المجعولة للشاك المنقطع اليد عن الامارات الواقعية، لكن العمدة في المقام تطبيق قاعدة التجاوز والفراغ في الاخبار على خصوص مورد الاستصحاب، وكفى بذلك وجهاً للتقديم.(م. ع. مدظله).

الثانية: في تعارضه مع اصالة الصحة في فعل الغير:

و مجمل القول في ذلك : ان الشك في صحة الفعل الذي وقع في الخارج ناش من الشك في اخلال ما اعتبر فيه شرطاً او شطراً، وهذا على قسمين: احدهما ما يكون مجرى الاستصحاب كالبلوغ واعتبار المبيع بالرؤية او الكيل او الوزن والثاني ما لا يكون كذلك، كما اذا شك في الصحة لاجل الشك في تحقق ما اعتبر قيداً للعقد، كالعربية مثلا اذ لا يكون له حالة سابقة، كما لا يخفى.

اما القسم الثاني فمجرى الاستصحاب فيه هو المجموع الملتئم من ما اعتبر فيه، اذ هو مسبوق بالعدم، ولكن الشك في بقاء ذلك على العدم مستند الى الشك في أن هذا الموجود هل هو مصداق لما رتب عل_ي_ه الاث_ر شرعاً ام لا؟ ومقتضى اصالة الصحة كونه مصداقاً له، فهي حاكمة على الاستصحاب.

في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحة في فعل الغير

و اما القسم الاول: فان قلنا باعتبار اصالة الصحة من باب الطريقية فتقدمها عليه واضح، وأما ان قلنا بكونها من الاصول العملية فتقدمها عليه مشکل، لانه كما ان مقتضاها كون الواقع جامعاً لتمام ما اعتبر فيه كذلك مقتضاه عدم تحقق الشرط الكذائى مثلاً.

ولا يتوهم ان الاستصحاب حاكم على القاعدة، من حيث ان الشك في الصحة مستند الى الشك في تحقق ما اعتبر فيه ومقتضى الاستصحاب عدمه، كما هو المفروض، لان ما يصح بالقاعدة ليس عنوان الصحة حتى يقال: ان الشك فيها ناش من الشك فيما اعتبر في الموضوع، بل مفادها تحقق ما يكون مصداقاً للصحيح في الخارج، مثلا لو شك في صحة عقد وقع في الخارج من لوشك و جهة الشك في بلوغ العاقد فمقتضى اصالة الصحة صدوره من البالغ، ومقتضى الاستصحاب عدم بلوغ العاقد، ومن المعلوم عدم حكومة احدهما على الآخر.

و يمكن ان يقال بحكومة الاستصحاب من جهة ان مجراه نفس القيد المشكوك فيه ومجرى أصالة الصحة هو العقد من حيث تقيده بما اعتبر فيه، ومن

ص: 611

المعلوم ان الشك في تقيد العقد بكونه صادراً من البالغ ناش من الشك في بلوغ العاقد.

و قد يتوهم تقدم القاعدة على الاستصحاب من جهة أن أصالة عدم بلوغ العاقد لا تثبت الا ان هذا العقد صدر من غير البالغ، وعدم الاثر انما هو مستند الى عدم وقوع العقد الصادر من البالغ اصلا، وهذا الاصل لا يثبت ذلك الاعلى القول بالاصل المثبت، اذ المفروض انحصار الكلى في الفرد الموجود الذي حكم عليه بمقتضى الاستصحاب انه من غير البالغ، وحيث لا نقول بالاصل المثبت ولا نحكم بعدم صدور العقد الصادر من البالغ مطلقاً فان اقتضت القاعدة وقوع ما هو سبب مؤثر اعنى العقد الصادر من البالغ فلا يعارضه شيء.

وفيه: أن استصحاب عدم البلوغ يقتضى عدم حصول النقل بواسطة العقد الموجود، والمفروض عدم عقد آخر مؤثر في النقل، فيصح الحكم بعدم النقل مطلقاً، لان أسبابه بين مقطوع العدم وما هو بمنزلة العدم. لا يقال : ترتب عدم الكلى على عدم الافراد ترتب عقلى، فلا يمكن المصير اليه الا بالاصل المثبت.

لانا نقول : لا نحتاج في الحكم بعدم النقل الى الحكم بعدم الجامع بين الخصوصيات، بل يكفى في ذلك عدم الوجودات الخاصة، اذ ليس المؤثر الا تلك، نعم لو كان المؤثر هو الجامع من دون ملاحظة الخصوصيات ماصح الحكم بعدمه باجراء الاصل في الافراد الا على القول بالاصل المثبت.

و الحاصل تنافي مقتضى الاصلين واضح ومقتضى ما قلنا سابقاً حكومة الاستصحاب على القاعدة الا ان يقال بتقدم اصالة الصحة، من جهة ورودها غالباً في موارد الاستصحابات الموضوعية، ولولم نقل بذلك تصيركا اللغو (1).

ص: 612


1- لا يخفى انا ولو سلمنا ذلك لقاعدتي التجاوز والفراغ واغمضنا عن الاشكال السابق لكنه في المقام محل منع بملاحظة ان الدليل في المقام المتقدم لفظي فيجري فيه التخصيص المستبشع لو قلنا بتقديم الاستصحاب، واما في المقام فعمدة الدليل هو بناء العقلاء وارتكازهم، ولو قيل بتقدم الاستصحاب فلا يلزم الا الردع في البناء المذكور، ولا محذور فيه، فالصواب في وجه تقدم اصالة الصحة عدم كفاية اطلاقات الاستصحاب للردع.(م. ع. متظله)

في تعارض الاستصحاب مع أدلة القرعة

الثالثة في تعارضه مع ادلة القرعة(1).

و مجمل القول في ذلك ان موضوع القرعة جعل في بعض الاخبار الامر المشكل(2)، وفي آخر المجهول والمشتبه(3) فان اخذنا بمف_اد الاول فتقدم الاستصحاب عليها واضح لارتفاع الاشكال فيما اذا ورد حكم من الشرع ولو ظاهراً، وان اخذنا بالثاني فنقول بتقدم الاستصحاب ايضاً، لا عمية دليلها منه، فلابد من تخصيص دليلها بدليله.

و من هنا يعرف حالها مع ساير الاصول العملية التي كان مدركها تعبد الشارع بها، اذ ما قلنا في تقديم الاستصحاب عليها جار في الكل، نعم ان كان مدركها العقل فالقرعة واردة عليها، لكن بشرط الانجبار بعمل الاصحاب، لان كثرة التخصيص اوجبت وهنا في عموم ادلتها.

فان قلت: كثرة التخصيص ان وصلت الى حد الاستهجان فلا يجوز العمل به اصلا، للعلم بعدم كون العام المفروض على الصورة التي وصلت بايدينا، بل كان محفوفاً بقرينة حالية او مقالية لم يلزم بملاحظتها هذا المحذور، فيصير اللفظ

ص: 613


1- لا يخفى ان ما قلنا من عدم لزوم التخصيص المستبشع فيما تقدم غير جار هنا، فيما كان من ادلة القرعة بلسان انها لكل امر مجهول او مشتبه، وذلك لان الاصول الموضوعية او الحكمية التي مفادها ان المشكوك حكمه ك_ذا لو قي_ل ب_ت_ق_دم_ه_ا على القرعة مع كثرة مواردها يلزم التخصيص المستبشع، نعم ما كان بلسان أن القرعة لكل امر مشكل سالم عن هذا المحذور، بناء على ارتفاع الاشكال بواسطة وجود حكم في البين ولو كان ظاهرياً عقلياً، لعدم العلم بالتخصيص في هذا العنوان في غير مورد الدرهم الودعي، فلو عمل بها في غير هذا المورد يمكن القول بعدم الحاجة الى الجبر بعمل الاصحاب.(م. ع. مدظله).
2- المستدرك، الباب 11 من ابواب كيفية الحكم، الحديث1.
3- الوسائل، الباب ١٣ من ابواب كيفية الحكم، الحديث ١١و١٨.

مجملاً بالنسبة الينا، لعدم علمنا بتلك القرينة تفصيلا. وان لم تصل الى الحد المذكور فهى ان لم توجب قوة الظهور لا توجب وهنا فيه، فلا يحتاج الى عمل الاصحاب به، بل يحتج به على من لم يعمل به.

قلت : نختار الشق الأول ونقول : إنّ عمل الاصحاب يكشف عن ان اللفظ المفروض مع تلك الضميمة التي كانت معه يشمل المقام، كما ان إعراضهم عنه كونه نصب اعينهم يكشف عن عدم شموله للمقام كذلك. ولنا ان نختار الشق الثاني ونقول : ان كثرة التخصيص على هذا وان لم تكن موجبة للوهن بنفسها، لكنها لا توجب الوهن اذا علم تفصيلا موارد التخصيص بالمقدار الذي علم اجمالاً به، واما اذا لم يعلم ذلك المقدار فلا يجوز العمل بالعام الا اذا احرزان مورد العمل ليس من اطراف العلم الاجمالي، وعمل الاصحاب يوجب ذلك كما لا يخفى، فلو احتملنا تخصيص المورد المفروض ايضاً بعد خروجه عن اطراف العلم الاجمالي كان احتمالاً بدوياً غير مانع من الاخذ باصالة العموم.

تعارض الاستصحاب وقاعدة اليد

الرابعة: في تعارضه مع اليد:

إعلم ان مقتضى التامل ان اعتبار اليد من باب الطريقية لبناء العرف والعقلاء على معاملة الملكية مع ما في ايدى من يدعى الملكية ويحتمل في حقه ذلك، ومعلوم أن ذلك ليس من جهة التعبد، كما في ساير الطرق المعمولة فيما بينهم ولا اختصاص لذلك بيد المسلم ايضاً، كما هو ظاهر.

و يشهد لما قلنا «رواية حفص بن غياث عن ابى عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: قال له (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجل : اذا رأيت شيئاً في يدى رجل يجوز لى ان اشهد انه له ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): نعم، قال الرجل: اشهد انه في يده ولا اشهد انه له، فلعله لغيره، فقال ابو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) افیحل الشراء منه ؟ قال : نعم ابو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): فلعله لغيره، فمن این جاز لك ان تشتريه ويصير ملكاً لك ثم تقول بعد الملك : هو لى، وتحلف عليه، ولا يجوز ان تنسبه الى من صار ملكه من قبله اليك ؟ ثم قال ابو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ): لو لم يجز هذا لم يقم

ص: 614

للمسلمين سوق»(1).

فان الظاهر أن السؤال عن جواز الشهادة على انه مالك واقعاً، اذ السائل عالم بالملكية الظاهرية بمقتضى اليد، ولذا قال : نعم، في جواب قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ): ««افيحل الشراء منه» ؟ وجواز الشهادة على الملكية واقعاً لا يمكن الا مع كون اليد معتبرة على نحو يعامل معها معاملة العلم، ولا ينافي ما قلنا قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذيل الخبر: «لولم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» فان الظاهران هذا المطلب صار سبباً لامضاء الشارع ما هو مرسوم بين الناس من جعل اليد طريقاً الى الملكية، وعلى هذا تقدمها على الاستصحاب واضح، كما انه يقدم كل أمارة اعتبرت من جهة كشفها عن الواقع، وسياتى الوجه في تقديم الامارات على الاستصحاب ان شاء اللّه، هذا.

مع انه لو قلنا باعتبارها من باب التعبد لزم ايضاً تقديمها لورودها مورداً يقتضى الاستصحاب خلاف مقتضاها غالباً، فلو بنى على العمل بالاستصحاب في تلك الموارد الكثيرة لما قام للمسلمين سوق، وهذه العلة هي التي صارت موجبة لاعتبار اليد كما في الخبر.

فان قلت: مقتضى كون اليد أمارة انه لو علم بانحصار سبب الملك في امر خاص حكم بواسطة تلك الامارة بوقوع ذلك السبب، لان من شأن الامارة الاخذ بلوازمها وملزوماتها وملازماتها، مع أن المشهور حكموا بانه لو اعترف ذو اليد بكونه سابقاً ملكاً للمدعى ينتزع منه العين وعليه ان يقيم البينة على انتقالها اليه، ومقتضى أمارية اليد على الملكية أماريتها على موجبها، وهو الانتقال من الخصم اليه، فدعوى ذي اليد الانتقال مطابقة للامارة، فكيف ينتزع منه العين ويطالب بالبينة؟

قلت: إن الوجه في ذلك أن الشارع جعل في باب المخاصمة اقامة البينة على

ص: 615


1- الوسائل الباب ٢٥ من ابواب كيفية الحكم، الحديث ٢.

المدعى، والحلف على المنكر، وحصر فصل الخصومة بذلك، وفهم مصاديق هذين المفهومين موكول الى العرف اذ ليس لهما حقيقة شرعية كما هو الحق، وعلى هذا نقول: إن كل من صدق عليه عنوان المدعى عرفاً يطالب بالبينة، سواء طابق قوله ظاهراً من الظواهر واصلاً من الاصول ام خالف، وكل من صدق عليه عنوان المنكر فعليه اليمين كذلك، وتعريف الفقهاء «رضوان اللّه تعالى عليهم» بان المدعى : هو الذي لوترك ترك، او الذي يدعى خلاف الاصل، او الذي يدعى امرا خفيا محمول على بيان الافراد الغالبية، وتميزه عن المنكر في الجملة اذا عرفت هذا فنقول ان كان مال تحت يداحد يعامل معه معاملة الملكية فادعى الغيرانه ماله فهذا الغير مدع عرفا، لانه هو الذي انشأ الخصومة، واما لو اقر ذو اليد باستناد يده الى انتقال العين اليه من الخصم فيصير مصب الدعوى هو الانتقال ويصير ذو اليد بذلك مدعياً، لانه لانزاع بينهما الا دعوى ذي اليد الانتقال، وهذه خصومة انشأها بكلامه، وليس طريق فصل الخصومة الا اقامة البينة منه او الاستحلاف لمن ينكر الانتقال (1)نعم لو لم تكن في البين خصومة وادعى ذو اليد ملكية ما في يده بسبب خاص يقبل منه بواسطة اليد.

تنبيه: اعلم ان ما قلنا من ان طريق رفع الخصومة في باب القضاء منحصر بالبيئة والايمان، انما هو فيما اذا كان المنكر في مقابل المدعى، واما اذا لم يكن في مقابله منكر، بان يقول الخصم لا ادرى صدق ما تقول او كذبه، كالدعوى على المورث مع اظهار الورثة الجهل بذلك، وتصديق المدعى لهم، فان كانت

ص: 616


1- فيه ان هذا البيان وان كان وافياً لسقوط اليد عن مقام فصل الخصومة، لكنه غير واف بسقوطها عن الحجية راساً، فلا يجوز لاحد التصرف في المال بغير اذن ذي اليد قبل فصل الخصومة، فكيف ينطبق على هذا البيان قولهم بانتزاع العين من ذي اليد ولو بغير رضاه. فالصواب ان يقال بان الاعتراف المذكور من ذي اليد موجب لسقوط يده عن الحجية راساً، وأن هذا من خاصية اعترافه اللساني، فلو علم من الخارج ذلك لم يقدح في حجية يده، لعدم احراز بناء العقلاء على حجيتها مع هذا الاعتراف.(م. ع. متظله).

البينة للمدعى على ما يقول يؤخذ بها، والا فلا مانع من الاخذ بساير القواعد الموجودة من قبيل الاستصحاب او اليد ويتفرع على ذلك ان العين لو كانت في يد المدعى ويدعى انتقالها من الميت في حال حياته اليه ولا ينكر ذلك الورثة جزما يحكم بكونها ملكاً لذى اليد، اذ لا منكر في قباله حتى يقال: ان طريق توصل المدعى الى المال منحصر في اقامة البينة والادلة الدالة على ذلك موردها وجود المنكر في قباله وفي غيره يعمل على القواعد.

و مما ذكرنا يعلم وجه محاجّة امير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع ابي بكر المروية في الاحتجاج(1) فان دعوى سيدة النساء عليها السّلام ان فدك اعطاها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حياته لم ينكرها احد على سبيل الجزم حتى يلزم عليها عليها السلام اقامة البينة، فانتزاع فدك منها مع كون يدها ثابتة عليها ليس له وجه الا العناد.

حال الاستصحاب مع الطرق المعتبرة شرعاً

الخامسة: في حاله مع الطرق المعتبرة شرعاً، اعنى ما اعتبر من جهة كشفه عن الواقع، وتسمى في الاحكام أدلة اجتهادية، وفي الموضوعات أمارة:

ولو ورد في مورد الاستصحاب دليل معتبر او أماره معتبرة على خلاف الحالة السابقة فلا اشكال في انه يترك الاستصحاب ويعمل بمقتضى ذلك الدليل او تلك الامارة، إنما الكلام في وجه ذلك، وقد قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في غير مورد من :كلامه ان تقديم الادلة او الامارات على الاستصحاب انما هو من باب الحكومة لا التخصيص ولا التخصص وهي على ما فسرها في مبحث التعادل والتراجيح(2) «ان ينظر دليل بمدلوله اللفظى الى دليل آخر ويكون مبينا لمقدار مدلوله، مسوقا لبيان حاله نظير الدليل على أنه لا حكم لكثير الشك او للشك في النافلة وامثال ذلك بالنسبة الى الادلة الدالة على حكم الشك في عدد

ص: 617


1- الوسائل، الباب ٢٥ من ابواب كيفية الحكم، الحديث ٣.
2- الصفحة الثانية منه، ص ٤٣٢.

ركعات الصلاة». وعلى هذا فبيان حكومة الادلة والامارات على الاستصحاب انه في مورد هما وان كان الشك موجوداً ولم يقطع بخلاف الحالة السابقة وعموم لا تنقض يشمله لفظاً الا ان دليل اعتبارهما قد جعل مؤداهما واقعاً اوليا بالتنزيل، ولازم ذلك جعل الشك فيه ملغى بحسب الآثار، فصار مفاد قول الشارع: «صدق الع_ادل فيما أخبرك به» او «صدق الامارة فيما حكته» ان شكك في المورد المفروض بمنزلة العدم، ومعنى كونه بمنزلة العدم انه لا يترتب عليه ما يترتب على الشك، نظير ما اذا ورد حكم على عنوان العالم ودل دليل على عدم كون النحوى عالماً، فان مرجع. هذا الدليل الى ان ما جعلنا للعالم في ذلك الدليل لا يترتب على النحوى هذا.

ويشكل بان الضابط المذكور لا ينطبق على دليل حجية الامارات والادلة ولا على ساير الموارد التى جعل تقديمها من باب الحكومة، كدليل لا ضرر ولا ضرار، ولا شك لكثير الشك، ودليل نفى الحرج، وامثال ذلك، اذ ليس واحد منها بمدلوله اللفظى ناظراً الى مدلول دليل آخر، بل يحكى كل واحد منها عن الواقع، ولذالو لم يكن في البين الا هذه القواعد التى جعلت حاكمة على ساير القواعد لم يلزم كونها بلا مورد ولو كانت مبينة لمقدار مدلول قاعدة اخرى للزم كونها لغوا وبلا مورد عند عدم تلك القاعدة، لان الدليل الحاكم على ماذكره «قدّس سرُّه» بمنزلة قول القائل: اعنى ولا يكون هذا صحيحاً الا مع كلام آخر يكون هذا شارحاً له، ونحن نرى انه لو لم يكن الشك موضوعاً للحكم الشرعي اصلا، وكذا لو لم يدل دليل على حكم الشك في عدد ركعات الصلاة، وكذا لو لم يكن العمومات أو الاطلاقات تقتضى ثبوت الحكم الضررى والحرجي، ما كان حجية الامارات والادلة وكذاقول الشارع لا حكم لكثير الشك، ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام وما جعل عليكم في الدين من حرج، لغواً، وبلا مورد، كما هو واضح، فعلم ان ما ذكر ليس بمدلوله اللفظى متعرضاً لحال الدليل الآخر، هذا.

ص: 618

في بيان ضابط الحكومة

و لنقدم الكلام في بيان ضابط الحكومة بما عندنا، ثم نتعرض لوجه تقديم الامارات والادلة على الاستصحاب وعلى ساير الاصول التعبدية، وانه هل هو من جهة الحكومة او الورود ؟ وما توفيق الا باللّه.

اعلم أن المراد من قولنا دليل كذا حاكم على كذا، انه يقدم عليه من دون ملاحظة الاخصية والاظهرية، بل يقدم بواسطة أدنى ظهور انعقد له.

اذا عرفت هذا فنقول : ان كل دليل يكون متعرضاً للحكم المستفاد من الدليل الآخر وان لم يكن متعرضاً له بعنوان انه مدلول ذلك الدليل، سواء كان تعرضه لذلك الحكم ابتداء ام كان بلسان تنزيل الموضوع فهو مقدم عليه عند العرف، وان لم يكن اخص بل كانت النسبة بينهما عموماً من وجه، كما اذا قال المتكلم: اكرم العلماء، ثم قال في مجلس آخر: ما حكمت، اولا أحكم باكرام الفاسق قط، فانا نرى ان اهل العرف يجعلون الكلام الثاني قرينة على الأول، ويحكمون ان المراد من العلماء، العدول منهم مع كون النسبة بين الكلامين عموماً من وجه وان لم يكن الثاني بمدلوله اللفظي شارحاً للكلام الاول، ولذا لو لم يكن الاول ايضاً لكان الثاني تاما في مفاده، ولعل السر في ذلك أن مدلول قول المتكلم : اكرم العلماء ليس الاجعل ايجاب متعلق باكرام العلماء(1) واما ان وجوب اكرام كل فرد منهم مراد للمتكلم فهو مفهوم آخر غير

ص: 619


1- و بتقريب آخر الدليل الحاكم اما مساوق مع الاصل العقلائي في المحكوم، وهو فيما اذا كان مفاد احد الدليلين اثبات حكم لموضوع مثلاً ومفاد الآخر الحكم بنفي ذلك الحكم الأول من بعض افراد الموضوع او مع الحكم العقلي الجاري في المحكوم، وهو ما اذا كان الحاكم نافياً لللازم العقلي للحكم في بعض الافراد مثلاً دليل جزئية السورة مثبت للجزئية في حالتي العمد والسهو، ودليل لا تعاد اما حاكم بنفي الحكم بالجزئية عنها في حال السهو، لكن بنحو التعبير عن هذا المعنى بلازمه وهو عدم لزوم الاعادة بناء على غير مبنى الشيخ«رحمه اللّه». واما حاكم بنفي لازمه العقلي بناء على مبناه «قدّس سرُّه».(م. ع. مدظله).

المفهوم الاولى من القضية، نعم يحكم السامع بملاحظة عموم اللفظ وعدم صدور شيء من ناحية المتكلم يدل على عدم كون فرد خاص مورداً للايجاب بان وجوب اكرام ذلك الفرد مراد ايضاً وبعد ما صدر من ناحيته لفظ يدل بمدلوله المطابقي على عدم صدور هذا الحكم منه - وان لم يكن هذا اللفظ شارحاً لللفظ الأول بل يكون حاكياً عن نفس الامر -فلا يبقى مجال للاخذ باصالة العموم في الكلام الاول.

نعم لو كان الكلام الثاني غير متعرض للحكم بمدلوله الاولى، بل يدل على جعل الحكم المنافي، كقول المتكلم : لا تكرم الفساق» فلابد من التعارض بين الكلامين في مورد الاجتماع لانه كما ان كون اكرام العالم الفاسق مراداً للمتكلم ليس مدلولاً اولياً لقضية اكرم العلماء، بل يحكم السامع بذلك من جهة القاعدة المسلمة، كذلك كونه مراداً له من قضية لا تكرم الفساق، فيقع التعارض، فيحتاج الى ملاحظة الاظهرية ان كانت في البين، والا فيحكم بالتساقط، ويرجع الى قاعدة اخرى.

و بعبارة اخرى: في القسم الاول لا يقع التعارض بين الكلامين في ذهن العرف حتى يحتاج الى الترجيح بالاقوائية، ولذا قلنا فيه بانه يكفي انعقاد اول ظهور للكلام، بخلاف القسم الثاني.

و يحتمل ان يكون هذا ايضاً مراد شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» لكنه قد قال في مبحث التعادل والتراجيح في ذيل بيان الضابط للحكومة ما ينافي ما ذكرنا هذا.

و اما وجه تقديم الادلة والامارات على الاستصحاب وساير الاصول العملية، فكونه من باب الحكومة يبتنى على ان يكون دليل حجيتها متعرضاً لحكم الشك، بمعنى ان قول الشارع : صدق العادل او اعمل بالبينة يرجع الى

ص: 620

ان هذا الشك ليس شكاً عندى وما جعلت له حكم الشك، والانصاف انه لم، يدل دليل الحجية الاعلى جعل مدلول الخبر واقعاً وايجاب معاملة الواقع معه(1) واما ان حكم الشك لا يترتب على الشك الموجود فليس بمدلول لدليل الحجية، نعم لازم حجية الخبر المنافي للاستصحاب او ساير الاصول عدم ترتب حكم الشك عليه، كما ان لازم ترتب حكم الشك عدم حجية الامارة الدالة على الخلاف، وهذا معنى التعارض.

الحق ورود الأدلة و الأمارات على الاستصحاب وسائر الاصول

و الاقوى وفاقاً لسيدنا الاستاذ «طاب ثراه» ورود الادلة والامارات على الاستصحاب وساير الاصول التعبدية :

و توضيح ذلك : انك عرفت في مبحث حجية القطع ان العلم اذا اخذ في الموضوع، فتارة يعتبر على نحو الطريقية، واخرى على نحو الصفتية، والمراد من اعتباره على نحو الطريقية ان المعتبر هو الجامع بينه وبين الطرق المعتبرة، كما ان المراد من اعتباره على نحو الصفتية ملاحظة خصوصيته المختصة به دون ساير الطرق، وهو الكشف التام المانع عن النقيض ونقول هنا: ان الشك في مقابل

ص: 621


1- هذا بحسب مقام الاثبات واما بحسب مقام الثبوت فيرد عليه اشكال الجمع بين اللحاظين في دليل الحجية اما لحاظ تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وإما تنزيل الشك منزلة العدم. و يمكن الجواب اما عن الثاني. فبرفع الاستحالة مع طولية احد اللحاظين للآخر، بان سيق اللفظ الدال على احد المعنيين بالمطابقة لافادة السامع المعنى الآخر بالالتزام، فمعنى قول الشارع خذ ب_ق_ول الثقة وان كان ترتيب آثار الواقع مطابقة لكن يدل بالالتزام العرفي على عدم الاعتناء بالشك الموجود معه بمعنى عدم ترتيب آثار الشك عليه. و اما عن الاول فبانه لا يبعد دعوى ان المخبر الحقيقي يكون بحسب الغالب بصدد رفع جهل المخاطب وتبديله بالعلم حقيقة، وهذا المقصود مدلول التزامي للفظه عرفاً، وحيث ان دليل الحجية يكون بلسان الاخبار عن الواقع تعبداً فيجيء فيه ايضاً هذا المدلول الالتزامي بنحو التعبد، وسيشير المصنف الى ذلك بعيد هذا.(م. ع. متظله).

العلم، اعنى كما ان العلم المأخوذ في الموضوع تارة يلاحظ على وجه الطريقية، واخرى على وجه الصفتية، كذلك الشك قد يلاحظ بمعنى انه عدم الطريق، وقد يلاحظ بمعنى صفة التردد القائمة بالنفس، اذا لشك بمعنى عدم العلم، فان لوحظ العلم طريقاً فمعنى الشك الذي في قباله هو عدم الطريق، وان لوحظ صفة فكذلك.

اذا عرفت هذا فنقول ان ظاهر الادلة الدالة على الاستصحاب وساير الاصول ان العلم المأخوذ فيها اخذ طريقاً، وعلى هذا مفاد قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) : «لا تنقض اليقين بالشك» انه في صورة عدم الطريق الى الواقع يجب ابقاء ما كان ثابتاً بالطريق، وهكذا كل مادل على ثبوت الحكم على الشك فمفاده دوران الحكم المذكور مدار عدم الطريق، فاذا ورد دليل علم حجيته او امارة كذلك يرتفع موضوع الحكم الذي كان معلقاً على عدم الطريق.

والذي يدل على ذلك - مضافاً الى انه لا يبعد دعوى ظهور العلم المأخوذ في الموضوع في كونه على نحو الطريقية عند العرف ان الاصول العملية والطرق المعتبرة تشتركان في كونهما احكاماً ظاهرية للشاك في الواقع، اذ لا يعقل جعل الطريق الى الواقع للقاطع به سواء كان قطعه موافقاً لمؤدى الطريق ام مخالفاً، فالاحكام الظاهرية سواء كانت من سنخ الطرق ام من سنخ الاصول مجعولة مادام المكلف شاكاً، وحينئذ نقول : ان تعليق الشارع الحكم على الشك وجعله مادام كونه باقياً فيما يسمى بالاصول العملية وعدمه كذلك فيما يسمى بالطرق كونها ايضاً احكاماً متعلقة بالشك ودائمة بدوامه دليل على ان الشك المذكور في الاصول العملية غير الشك اللازم عقلا في الاحكام الظاهرية، ومغايرتهما بان يراد من الشك المأخوذ في الاصول عدم الطريق، ويكون الشك اللازم في الطرق الشرعية عقلاً ولم يذكر في الدليل هو صفة التردد، فليتأمل.

فان قلت هب ذلك لكن ورود الطريق على الاصول موقوف على شمول دليل الحجية لمواردها، واى ترجيح لشمول دليل الحجية على شمول ادلة

ص: 622

الاصول، مع كون المورد قابلاً لهما في اول الامر.

قلت شمول ادلة الطريق لا مانع منه اصلاً، لوجود موضوعها مطلقاً وعدم شيء يدل على التخصيص، بخلاف شمول ادلة الاصول، فان موضوعها يبتنى على عدم شمول دليل حجية الطرق، ولا وجه له بعد وجود الموضوع مطلقاً وعدم ما يدل على التخصيص، وبعبارة اخرى الامر دائر بين التخصيص والتخصص والاول خلاف الاصل دون الثاني.

والعجب(1)من شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» حيث انه بعد ما نقل كون العمل بالادلة في مقابل الاستصحاب من التخصص بناء على ان المراد من الشك عدم الدليل والطريق والتحير في العمل استشكل بانه لا يرفع التحير في خصوص مورد الاستصحاب الا بعد اثبات كون مؤداه حاكماً على مؤدى الاستصحاب، والا امكن ان يقال: ان مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها سواء كانت هناك الأمارة الفلانية ام لا، ومؤدى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤداها خالف الحالة السابقة ام لا، ولا يندفع هذه المغالطة الا بما ذكرنا من طريق الحكومة «انتهى»(2).

ص: 623


1- و الانصاف ان ما ذكره رحمه اللّه حق لا محيص عنه اذ المعتبر في كل من الأمارة والاصل اما الشك الصفتي واما عدم الطريق، فعلى الاول لا محيص عن الحكومة، كما هو واضح، وعلى الثاني وان كان لو قدم كل من الأمرين يلزم الورود بالنسبة الى الآخر، الا أنه مع ذلك يتعين تقديم الامارة بواسطة لسان الحكومة، وهذه حكومة نتيجتها الورود، واما احتمال كون الموضوع في الأمارة هو الشك الصفتي وفي الاصل عدم الطريق - كما هو مبنى اشكال المتن ففي غاية الضعف، اذ كما لا يحتاج واجد الطريق الى الواقع الى جعل دستور ظاهري لاجل الواقع بلسان الاصل كذلك لا يحتاج الى ذلك بلسان الامارة، من غير فرق بينهما، ويظهر الثمرة بين الوجهين الاولين انه على الاول لا مورد للاصل مع وجود الامارة واقعاً لو لم يطلع عليه المكلف بعد الفحص، فيكون حال الامارة اعلى من الواقع الاولي. وعلى الثاني يكون له مورد في الصورة المفروضة.(م. ع. متظله).
2- الفرائد الامر الثالث من الخاتمة، ص ٨-٤٠٧.

و انت خبير بانه بعد ما فرض ان المراد من الشك المأخوذ في الاستصحاب هو عدم الدليل والتحير لا يمكن ان يقال ان مؤداه وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها، سواء كانت الامارة الفلانية ام لا، اذ مع الامارة الفلانية المفروض كونها حجة لا يبقى للاستصحاب موضوع على الفرض المذكور، مع ان هذا الكلام يجرى على تقدير القول بالحكومة ايضاً، بان يقال: ان مؤدى الاستصحاب وجوب العمل على طبق الحالة السابقة، سواء كانت الامارة الفلانية ام لا، وكون الامارة على تقدير وجودها حاكمة ليس اقوى من كونها واردة وكيف كان هو «قدّس سرُّه» اعلم بما افاده

و مما ذكرنا يظهر انه لا فرق في تقدم الطرق على الاصول العملية بين ما يكون مخالفاً لها او موافقاً، وكذلك لافرق على ما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه»، لان وجود الطريق موجب لارتفاع موضوع الاصول بناء على ما قلنا، وارتفاع حكمه بناء على ما افاده «قدّس سرُّه».

و يمكن ان يقرر الحكومة بان حجية الخبر والطرق وان قلنا بانها حكم تعبدى من الشارع الا ان ادلة وجوب الاخذ بها تدل عليه بلسان الارشاد الى الواقع، فكما ان المرشد حقيقة يكون غرضه رفع الشك من المسترشد، كذلك المتعبد بلسان الارشاد يفهم منه العرف ان غرضه رفع الشك تعبداً، وهو راجع الى رفع آثاره.

تقريب المحقّق الخراساني للورود

و ذهب شيخنا الاستاذ «دام بقائه» في المقام الى القول بورود الطرق على الاستصحاب وس_اي_ر الاصول العملية بتقريب آخر، قال في مبحث الاستصحاب ان مجرد الدليل على خلاف الحالة السابقة وان لم يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب الا انه يخرجه حقيقة عما تعلق به النهى في اخبار الباب من النقض بالشك، فانه لا يكون معه نقضاً بالشك بل بالدليل، فلا يعمه النهى فيها، وليس افراد العام ههنا هو افراد الشك واليقين كي يقال: ان الدليل العلمى انما يكون مزيلا للشك بوجوده بل افراده افراد نقض اليقين

ص: 624

بالشك، والدليل المعتبر - وان لم يكن علمياً - يكون موجباً لثلا يكون النقض بالشك، بل بالدليل، الى ان قال : لا يقال : قضية قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بعض الاخبار: «ولكن ينقضه بيقين آخر» هو النهى عن النقض بغير اليقين، والدليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقاً، فكيف يقدم كذلك ؟ لانا نقول : لا محالة يكون الدليل موجباً لليقين غاية الامر لا بالعناوين الأولية للاشياء، بل بعناوينها الطارية الثانوية، مثل كونه قام على وجوبه او حرمته خبر العدل او قامت البينة على ملكيته او نجاسته بالملاقاة الى غير ذلك من العناوين المنتزعة «انتهى ما اردنا من نقل كلامه دام بقاه»(1).

ولا يخفى ان جعل اليقين الذي جعل غاية للاستصحاب عبارة عن اليقين بالحكم بوجه من الوجوه - وان كان من الوجوه الظاهرية يلازم جعل الشك الموضوع فيه عبارة عن عدم العلم بالحكم بوجه من الوجوه كذلك، وعلى هذا فبعد قيام الدليل المعتبر ليس الشك بهذا المعنى موجوداً، وحينئذ فلا حاجة الى تسليم ان الدليل المعتبر لا يوجب خروج المورد عن مورد الاستصحاب، ولكن يخرجه عما تعلق به النهى من النقض بالشك، وكيف كان ففي ما افاده «دام بقاه» مواقع للنظر

: احدها: ان وجود الدليل المعتبر على خلاف الحالة السابقة بعد مالم يكن موجباً للعلم لا يخرج المورد عن صدق نقض اليقين بالشك، لان المفروض بقاء الشك بحاله، ولا نعنى بنقض اليقين بالشك الا رفع اليد عن الحالة السابقة في حال الشك، نعم هو نقض اليقين بالشك بواسطة الدليل.

وثانيها: ان جعل اليقين الذي هو غاية للاستصحاب عبارة عن اليقين بالحكم بوجه من الوجوه حتى يكون العلم بالحكم بعنوان انه قام عليه خبر العدل مصداقاً له حقيقة لا ينفع في البينة القائمة على الموضوع الخارجي على خلاف الاستصحاب في ذلك الموضوع، ضرورة ان البينة لا توجب العلم بمؤداها بوجه،

ص: 625


1- تعليقه المحقق الخراساني «قدّس سرُّه» على الفرائد [في الامر الثالث]، ص٧-٢٢٦.

لان الموضوع غير قابل للجعل، وبعبارة اخرى لوقام الدليل على حرمة شرب التتن في قبال استصحاب اباحته، مثلاً، يمكن ان يقال : ان شرب التتن حرام يقيناً بعنوان انه قام على حرمته الدليل المعتبر، وأما اذا قامت البينة على موت زيد في قبال استصحاب حياته فلا يمكن ان يقال: انه ميت يقيناً بعنوان قيام البينة على موته، فحياة زيد في المثال مما علم سابقاً، ولم يعلم عدمه لا حقاً بوجه من الوجوه، فالعمل على طبق البينة نقض لحياته سابقاً بغير اليقين بالخلاف.

و منها : أن الوجوه المذكورة ليست عناوين للاحكام بمعنى تعلق الاحكام بها بعناوينها، بل انما لوحظت طريقا الى الواقع ومقتضى تلك الملاحظة ان يجعل الحكم الثانوي للعنوان الذي يكون موضوعاً للحكم الاولى، مثلاً لو قام الدليل على حرمة شرب التتن فمقتضى طريقية ذلك الدليل أن يصير شرب التتن بهذا العنوان محرماً، اذلولوحظ عنوان قيام خبر العدل في موضوع هذا الحكم كالغصب وساير العناوين الموضوعة للاحكام الخرج الدليل عن كونه طريقاً معتبراً، من جهة حكايته عن الواقع واذا فرض ان مقتضى الدليل كون شرب التتن محرماً بالحرمة الثانوية فنقول : ان مقتضى الاستصحاب كونه مباحاً بالاباحة الثانوية، فاى مزية ل_ه عليه الا ان يلتزم بان غاية الاستصحاب هو العلم بالحكم الفعلى وان لم يكن متعلقاً بوجه من الوجوه سوى الوجوه الواقعية، ونحن علمنا حرمة شرب التتن بواسطه الدليل القائم عليها مثلاً، فتحقق العلم الذي هو غاية للاستصحاب.

فان قلت: لم لا نأخذ بمفاد الاستصحاب، ونعلم انه غير حرام فعلا، حتى لا يحتاج الى الاخذ بالدليل الدال على الحرمة ؟

قلت: لان ذلك موجب لرفع اليد عن الدليل من دون موجب، بخلاف العكس، فانه يوجب التخصيص في دليل الاستصحاب، والوجه في ذلك ان ايجاب الاخذ بالطرق الشرعية ليس مغيا بالعلم بالحكم الفعلى حتى يمكن الاخذ بمفاد الاستصحاب وجعله غاية له كما في العكس، بل الدليل على وجوبه

ص: 626

مطلق.

نعم لما علم انه حكم ظاهرى للتوصل الى الواقع علم انه ليس مجعولاً للعالم باصل الواقع، لا انه مقيد بعدم العلم بالحكم الفعلى، وان كان مدلولا لدليل او اصل آخر.

و بعبارة اخرى: دليل الاستصحاب جعل الحكم معلقاً على الشك الظاهر في الشك في الحكم الفعلى، و اوجب النقض بيقين آخر، وهو ظاهر ايضاً في اليقين بالحكم الفعلى وان كان مستفاداً من الادلة المعتبرة، بخلاف دليل اعتبار الطرق، فانه اعتبرها مطلقاً، غاية الامر هو مقيد عقلا بما اذا لم يعلم اصل الواقع، وحينئذ فالاخذ بالطرق رافع لموضوع الاستصحاب حقيقة بخلاف العكس.

و كيف كان فلا ارى بداً مما سبق من ان الشك المأخوذ في الاستصحاب وساير الاصول بمعنى عدم الطريق فيرتفع هذا الموضوع بوجود كل ما اعتبر طريقاً على نحو الاطلاق، هذا.

تنبيه: لا ندعى أن لفظ اليقين في الخبر استعمل في معنى الطريق المعتبر مطلقاً، ولا ان الشك استعمل في عدم الطريق كذلك، حتى يلزم المجاز في الكلمة، بل نقول : ان الظاهر أن الخصوصية المذكورة ملغاة في موضوع الحكم، وهو غير عزيز في القضايا، كمالا يخفى.

في تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول

السادسة: تعارضه مع ساير الاصول العملية مثل البرائة والاحتباطوالتخيير.

و محصل الكلام في المقام: ان كل ما كان مما ذكر مدركه العقل فلا اشكال في ورود الاستصحاب عليه، لارتفاع موضوعه بسببه، لان حكم العقل بالبرائة معلق على عدم بيان من جانب الشرع، وحكمه بالاحتياط معلق على عدم وجود المؤمن، وحكمه بالتخيير معلق على عدم ما يرفع به التحير من قبل الشارع، ولا فرق فيما ذكر بين الاحكام الواقعية والظاهرية، وهذا واضح.

ص: 627

و اما ما كان منها ماخوذاً من الادلة الشرعية كاصالة البرائة المأخوذة من قوله: «رفع ما لا يعلمون» وقوله «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» وكذا أصالة الطهارة ففي تقديم الاستصحاب عليها اشكال، من جهة ان كلا من قاعدة الاستصحاب والقاعدتين المذكورتين حكم مجعول من الشارع في موضوع الشك، ولا وجه لتقديم احدى القاعدتين على الاخرى، سواء جعلنا الشك الموضوع فيها بمعنى التردد في النفس، ام جعلناه بمعنى عدم الطريق، اذ على الثاني كل ماقدم من القاعدتين يكون رافعاً لموضوع صاحبه.

و استراح شيخنا الاستاذ «دام بقاه» في هذا المقام بما افاده سابقاً من وجه تقدم الامارات على الاستصحاب، وحاصله ان الشك المأخوذ في الاصول هو الشك من جميع الجهات، فاذا علم الحكم بوجه من الوجوه ارتفع ذلك الموضوع، وقد علمنا الحكم بعنوان نقض اليقين بالشك، فلا مجال للاخذ بالحكم المعلق على عدم العلم بوجه من الوجوه (1).

اقول : ليت شعرى ما الفرق بين البناء على الحالة السابقة الذي هو حكم الشك في باب الاستصحاب، والبناء على الاباحة الذي هو ايضاً حكم الشك في باب البرائة؟، وهكذا البناء على الطهارة الذي هو مفاد قاعدة الطهارة، وما الذي رجعالاستصحاب حتى صار منشأ للحكم بهذا الوجه وارتفع به موضوع الاصل المخالف له ؟

و قال شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في وجه تقدم الاستصحاب على اصالة البرائة ما لفظه: ان دليل الاستصحاب بمنزلة معمم للنهي السابق بالنسبة الى الزمان اللاحق، فقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا تنقض اليقين بالشك» يدل على ان النهي الوارد لابد من ابقائه وفرض عمومه وفرض الشيء في الزمان اللاحق مما ورد فيه النهى ايضاً، فمجموع الرواية المذكورة _ والمراد بها كل شيء مطلق-

ص: 628


1- تعليقة الفرائد، ص227.

ودليل الاستصحاب بمنزلة ان يقول : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه النهي، وكل نهى ورد في شيء فلابد من تعميمه لجميع أزمنة» احتماله فيكون الرخصة في الشيء واطلاقه مغيا بورود النهى المحكوم عليه بالدوام وعموم الازمان، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الاصل الآخر في مورد الشك لولا النهي، وهذا معنى الحكومة كما سيجيء في باب التعارض «انتهى كلامه رفع مقامه»(1).

اقول : لا اشكال في ان التعميم المستفاد من قضية لا تنقض انما هو الحكم المرتب على الشك، وليست حاكية عن عموم التحريم بحسب الواقع، وحينئذ فما الفرق بين ما يدل على ان الحكم الشرعي في حال الشك من سنخ ماكان موجوداً في السابق، وهو التحريم مثلا، أو هو الترخيص، واى وجه لتقديم الاول على الثاني.

و كيفكان فالذي يمكن ان يقال ان مدلول ادلة الاستصحاب هو الحكم بابقاء اليقين والغاء الشك، لا جعل الحكم المطابق للسابق، وان كانت بدلالة الاقتضاء يرجع الى ذلك، حيث ان اليقين لا يقبل لان يحكم عليه بالابقاء، وحينئذ نقول: ان جعلنا المراد من الشك الذي هو موضوع الاصول المعنى الظاهر منه، اعنى حالة الترديد في النفس، فقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): ««لا تنقض اليقين بالشك» يكون حاكماً عليها، لانه يدل على وجوب معاملة اليقين مع هذا الشك، فموضوع اصالة البرائة وسائر الاصول التى في حكمها منتف شرعاً، وان كان باقياً عقلاً، وان جعلنا المراد منه عدم الطريق - كما اسلفنا سابقاً- والمراد من اليقين الذي هو غاية للاصول ومعتبر في الاستصحاب ابتداءاً وغاية الطريق المعتبر فوجه تقديم الاستصحاب على اصالة البرائة وما شابهها وروده عليها، لان مفاد ادلته كون المكلف واجداً للطريق في حال الشك، فلا يبقى لساير الاصول

ص: 629


1- فرائد الاصول، ذيل الامر الثالث من الخاتمة [المقام الثالث]، ص ٤٢٣.

التي مفادها الحكم لفاقد الطريق موضوع.

فان قلت ان اردت من الطريق الذي يرتفع به موضوع الاصول ما يحكى عن الواقع الأولى فلا اشكال في عدم كون الاستصحاب كذلك، وان اردت منه مطلق الاحكام الظاهرية التي جعلت بملاحظة الاحكام الواقعية من دون ملاحظة انفسها فلا اشكال في اشتراك الاحكام المجعولة في ساير الاصول معه في ذلك، وحينئذ فاى واحد من الاستصحاب والاصل الآخر يقدم يرفع موضوع صاحبه، اذ كما يصدق بعد مجيء الحكم بالاستصحاب أنه واجد للطريق الى الحرمة مثلاً، بالمعنى الذي ذكرنا، يصدق بعد مجيء الترخيص بادلة البرائة أنه واجد للطريق الى الترخيص كذلك.

قلت: نعم كون المكلف ذا طريق الى الترخيص (1)بالمعنى الذي ذكرنا انما هو بعد جعل الترخيص الظاهرى الذي هو مفاد ادلة البرائة، واما كونه ذا طريق الى الحرمة المحققة في الزمن السابق فبالمدلول الاولى من ادلة الاستصحاب، لانها حاكمة ببقاء الطريق في حال الشك ايضاً، فواجدية المكلف الطريق الى الحرمة السابقة بمقتضى ادلة الاستصحاب مقدمة على واجديته الطريق الى الترخيص بمقتضى دليل البرائة اذ هي في مرتبة الترخيص الملزوم لا نجعال الطريق، وبعبارة اخرى بعد تحقق موضوع الاستصحاب واصالة البرائة مع قطع النظر عن دليلهما دليل الاستصحاب متصد لرفع موضوع اصالة البرائة اولا واما دليل البرائة لا يتصدى لذلك اولا، بل هو لازم للحكم المستفاد منه، فموضوع الاستصحاب باق في رتبة الحكم المستفاد من دليل

ص: 630


1- لا يخفى ان لسان «لا تعتن بشكك» كما هو مفاد دليل الاستصحاب حاكم على لسان «حكم شكك» كذا من غير فرق بين اخذ الشك فيها صفة او بمعنى عدم الطريق، كما ان لسان «لا ينبغي لك ان تشك» كما هو مفاد دليل حجية الامارة حاكم على الاولين من غير فرق بين الصورتين غاية الامر انه لو جعل الشك بمعنى عدم الطريق يصير نتيجة هذه الحكومة هو الورود.(م. ع. مدظله).

البرائة، بخلاف موضوع البرائة، فانه ينتفى بورود الحكم المستفاد من دليل الاستصحاب.

هذا كله في الاستصحابات الجارية في الاحكام، واما الشبهات الموضوعية فتقدم الاستصحابات الجارية فيها على اصالة البرائة اوضح، لان الشك فيها في الحكم مسبب عن الشك في الموضوع، وياتى تقدم الاصل في السبب على الاصل الجاري في المسبب مطلقاً ان شاء اللّه.

في تعارض الاستصحابين وفي تقدم الاستصحاب السببي على المسببي

السابعة في تعارض الاستصحابين: و محصل الكلام في المقام أن الشك في احدهما إما ان يكون مسبباً عن الشك في الآخر، واما ان يكون الشك فيها مسبباً عن ثالث، وأما كون الشك في كل منهما مسبباً عن الشك في الآخر فغير معقول، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين :

الاول ما اذا كان الشك في أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر، وحكمه تقديم الاستصحاب الجارى في الشك السببى ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر، مثاله لو غسل ثوب نجس بماء كان طاهراً قبل وشك في بقاء طهارته حين غسل الثوب به فالثوب بعد الغسل بالماء يشك في طهارته ونجاسته، ولكن هذا الشك انما نشأ من الشك في طهارة الماء حين غسل الثوب به، اذ لو علم طهارة الماء حين الغسل لكان طهارة الثوب قطعية.

و الوجه في تقدم الاستصحاب الجارى في الشك السببي امر ان:

احدهما ما اسلفنا سابقاً في وجه تقدم الطرق المعتبرة على الاصول، وحاصله ان الشك المأخوذ في موضوعها بمعنى عدم الطريق، فاذا ورد طريق معتبر يرتفع موضوعها، وفي المقام نقول ايضاً ان دليل اعتبار الاستصحاب بملاحظة شموله للشك السببي لم يبق للاستصحاب في المسبب موضوعاً، لانه بعد حكم الشارع بطهارة الماء الذي غسل به الثوب يحصل لنا طريق الى طهارة الثوب ايضاً، ولا عكس، بمعنى انه لو فرض شموله للشك في الثوب لا يترتب

ص: 631

عليه نجاسة الماء، لان نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب، لان المفروض العلم بان الماء لم يتنجس بالثوب، نعم لو علم ببقاء نجاسة الثوب يكشف عن نجاسة الماء، وحينئذ فالامر دائر بين التخصيص والتخصص والاول مخالف للقاعدة بخلاف الثاني.

الثاني تقدم الشك السبي على المسببي طبعاً (1)، لان الثاني معلول للاول، ففي رتبة وجود الاول لم يكن الثاني موجوداً، وانما هو في رتبة الحكم المرتب على الاول، فالاول في مرتبة وجوده ليس له معارض اصلاً، فيحرز الحكم من دون معارض، واذا ثبت الحكم في الاول لم يبق للثاني موضوع، وبهذا البيان الثاني تعرف وجه تقدم الاستصحاب الجاري في السبب وان قلنا بالاصول المثبتة.

توضيح المقال : أنه بناء على ذلك وان كان يترتب على الاستصحاب الجارى في الثوب نجاسة الماء، ويرتفع به موضوع الاستصحاب في الماء، وليس على هذا من قبيل دوران الامر بين التخصيص والتخصص، الا ان التقدم الطبعي للشك السبي اوجب احراز الحكم وارتفع موضوع الآخر، من دون عكس، ومن هنا يعلم ان الاستصحاب ان قلنا باعتباره من باب الظن ايضاً لكان المقدم الاستصحاب في السبب.

و يظهر ايضاً من جميع ما ذكرنا ان هذا الحكم ليس مختصاً بالاستصحاب، بل كل اصل جار في الشك السبي مقدم على كل اصل جار في الشك المسببي، حتى انه في المثال المذكور لو احرز طهارة الماء باصالة الطهارة نحكم بطهارة

ص: 632


1- الا ان يقال بالفرق بين باب المؤثرات الطبيعية، فالتقدم الطبعي مرجح فيما اذا توارد فردان منها على محل واحد وبين باب الالفاظ حيث نرى اهل العرف يتوقفون فيما اذا سمعوا كلامين متنافيين بينهما ترتب طبعي، بل وكذا الحال في سائر الأمارات العرفية، الا ترى انه لو أخبر ثقة بان هذا الرجل ابن زيد، وثقة آخر بأن زيداً لا يقتل ابنه، فرأينا زيداً قتل هذا الرجل لا يحكمون بتعين الكذب في الاخبار الثاني مع مابينه وبين الاول من الطولية.(م. ع. مدظله).

الثوب ونرفع اليد عن الحالة السابقة فيه مع ان الاستصحاب مقدم على قاعدة الطهارة اذا كانا في مورد واحد.

في تعارض الاستصحابين المسبيين

القسم الثاني: ما اذا كان الشك في كليهما ناشياً عن امر ثالث، ومثاله لو علم اجمالاً بنقض الحالة السابقة في احد المستصحبين.

و محصل القول في ذلك أن العمل بالاستصحابين، تارة يوجب مخالفة عملية قطعية لذلك العلم الاجمالي، واخرى لا يوجب ذلك، الاول كما لو علم بنجاسة احد الانائين الطاهرين في السابق والثاني كما لو توضأ غاف_لاً بمايع مردد بين الماء والبول، فان بقاء طهارة البدن والحدث وان كان مخالفاً للقطع ولكن لا يلزم من البناء عليهما بمقتضى الاستصحابين مخالفة عملية.

اما القسم الاول فالتحقيق فيه ان عموم ادلة الاستصحاب يشمل كلا من طرفى العلم الاجمالي (1) لان الموضوع فيها اليقين بامر في السابق والشك في بقاء ذلك الامر في اللاحق، وهذا المعنى محقق في كل واحد منهما، لكن لما كان العمل بعموم الدليل المذكور في المقام موجباً لمخالفة قطعية عملية ولا يجوز ع_ن_د العقل تجويز ذلك فلا بد من رفع اليد عنه في مجموع الطرفين، نعم الترخيص في البعض لا باس به، لكن اخراج بعض معين وابقاء الآخر كذلك ترجيح بلا مرجح اذ نسبة الدليل الى كل من الطرفين على حد سواء، وابقاء واحد منهما على نحو التخيير غير مدلول الدليل، لان موضوعه الآحاد المعينة، ومقتضى ذلك التساقط والرجوع الى مقتضى العلم الاجمالى بالتكليف، وهو موجب للامتثال

ص: 633


1- الا ان يقال باختصاص ادلته بالشك في الوجود وانصرافها عن الشك في تعيين الموجود، كما هو المتحقق في المقام او يقال بان متعلق النهي انما هو نقض اليقين بالشك من حيث هو، فلا ينافي جوار نقضه بالعلم الاجمالي المقرون معه، وقد مر ذلك مشروحاً في مبحث حجية القطع، كما انه مر الاشكال في تصوير مجيىء الترخيص في احد اطراف العلم والتفكيك بينه وبين ترخيص الطرفين، باستحالة الثاني وامكان الاول، فراجع.(م. ع. مدظله).

القطعي.

فان قلت: ترخيص احد الطرفين وان لم يكن مدلول الدليل، الا انه يجب الحكم بالترخيص من جهة العقل، لان مقتضى الترخيص في كل منهما موجود بمقتضى عموم الاذلة، والمانع انما منع عن الجمع، فالمقتضى في احدهما يكون بلا مانع، فيجب تأثيره بحكم العقل، ونظير هذا يقال فيما اذا تزاحم الغريقان، ولم يقدر المكلف على انقاذهما، ولم يكن لاحدهما مرجح.

قلت: هذا في مثال تزاحم الغريقين صحيح والوجه فيه ان مقتضى الانقاذ في احدهما موجود ولا يكون له مانع يقيناً، بخلاف ما نحن فيه، لانا لا نقطع بعدم المانع، اذلعل العلم الاجمالي الذي يقتضى الاحتياط يمنع عن تأثير مقتضى الترخيص. مطلقاً في نظر الشارع، اللّهم الا ان يقال بالترخيص في احدهما لا من جهة ما ذكر بل من جهة الاخذ باطلاق دليل الترخيص في كل من الطرفين، وتقييد كل منهما بمقدار الضرورة بيان ذلك ان مقتضى عموم الدليل الترخيص في كل من الانانين المشتبهين مطلقاً، اعنى مع ارتكاب الآخر وعدمه، والمانع العقلى انما يمنع. هذا الاطلاق، ولا ينافي بقاء الترخيص في كل واحد منهما بشرط عدم ارتكاب الآخر. فان قلت: لازم ذلك أن من لم يرتكب شيئا منهما يكون مرخصاً في ارتكاب كليهما، وهذا اذن في المخالفة القطعية.

قلت: الاحكام لا تشمل حال وجود متعلقاتها ولا حال عدمها، لان الشيء المفروض الوجود ليس قابلاً لان يتعلق به حكم من الاحكام، وكذا الشيء المفروض العدم.

مثلاً بعد فرض الوجود الخارجي لشرب التتن لا يصح الام_ر ب_ه ولا النهي عنه ولا الترخيص لانه بعد هذا ال_ف_رض خ_ارج ع_ن تح_ت قدرة المكلف، وكذا بعد فرض عدمه الخارجي، فالدليل المذكور لا يمكن شموله للترخيص حتى في صورة فرض عدم ارتكاب متعلقه، حتى يكون ترخيصاً في

ص: 634

المخالفة القطعية، هذا وقد اشرنا الى ذلك في الشبهة المحصورة (1)، فراجع وتامل.

و اما القسم الثاني فهو على قسمين: احدهما ان يكون مقتضى الاستصحاب في احد الطرفين ثبوت التكليف وفي الآخر عدمه، ونحن نعلم بعدم التفكيك بينهما، والثاني ان يكون مقتضاه في الطرفين ثبوت التكليف ونحن نعلم بعدمه في احدهما :

اما الاول: فلا مانع فيه من الاخذ بمقتضى كلا الاصلين، لعدم المخالفة القطعية العملية التى كانت مانعة في المثال السابق ومجرد العلم بان مقتضى احد الاستصحابين مخالف للواقع لا يؤثر شيئاً، نعم لو علمنا بعدم التفكيك حتى في مرحلة الظاهر يقع التعارض بينهما، كما انه قد يقال في الماء النجس المتمم كرا بماء طاهر بقيام الاجماع على اتحاد المائين في الحكم حتى بملاحظة الظاهر، فحينئذ مقتضى استصحاب نجاسة المتمم – بالفتح - بضميمة الاجماع المدعى على الملازمة نجاسة الكل، ومقتضى استصحاب طهارة المتمم – بالكسر- بضميمة الاجماع المذكور طهارة الكل، فيقع التعارض بينهما، ويحصل التساقط، فاللازم في المثال الرجوع الى قاعدة الطهارة.

و اما الثاني: فالاخذ بالاستصحاب فيه وان لم يكن مخالفاً لتكليف واقعي معلوم، كما هو المفروض، لكن لما كان الاستصحاب حكماً ظاهرياً وليس له فائدة الا تنجيز الواقع على تقدير الوجود فيما اذا كان مثبتاً للتكليف، واسقاطه كذلك فيما اذا كان نافياً له، لا يمكن جعل الاستصحابين في المثال، للقطع بعدم ثبوت الواقعين، فيكون احدهما لغواً، نعم لو فرض لهما اثر آخر غير تنجيز الواقع يمكن الاخذ بكل منهما لترتب ذلك الاثر، كما في استصحاب نجاسة كل من الطرفين لاثبات نجاسة ملاقي كل واحد من المشتبهين، اذ لولا ذلك لكان الملاقي محكوماً بالطهارة، الا اذا حصل العلم الاجمالي في الملاقي، كما اذا لاقي

ص: 635


1- راجع ص ٦٠ - ٤٥٩ من هذا الكتاب.

شيء احد الطرفين وآخر الطرف الآخر.

هذا ما عندنا في هذا المقام وعليك بالتأمل التام وقد تم الكلام في احكام الشك باسرها مع مراعاة الاختصار والاجتناب عن الزوايد والتكرار ونسأل اللّه ان يصلح نياتنا وتجاوز عن زلاتنا، انه عزيز غفار.

و يتلوها الكلام في التعادل والتراجيح ان شاء اللّه تعالى.

ص: 636

بسم اللّه الرحمن الرحيم و عليه توکلی

في التعادل والترجيح

الكلام في بيان حقيقة التعارض

و هو عبارة عن تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن صدق كليهما بحسب الواقع.

و من هنا يعلم انه لا تعارض بين مفاد الدليل الحاكى عن الواقع والدليل الدال على حكم الشك وان كان على خلاف الواقع، لا مكان صدق كليهما، مثلاً يمكن ان يكون شرب التتن حراماً، ومع الشك في ح_رم_ت_ه حلالاً، لاختلاف رتبتيهما، وقد اوضحنا ذلك في مبحث حجية الظن عند تعرض كلام ابن قبة، فلا نطيل الكلام بتكراره، فراجع (1)

.ثم انه لو كان الدليل الدال على الواقع مفيدا للقطع فلا اشكال، والا يقع التعارض بحسب الصورة بين دليل حجية ذلك الدليل وبين مايدل على حكم الشك، لان مقتضى دليل حجية الخبر الحاكى عن الواقع وجوب الاخذ بمؤداه في الحال التي عليها المكلف، وهى حال الشك في الواقع، ومفاد ذلك الخبر حرمة شرب التتن مثلاً، ومقتضى الدليل الدال على حكم الشك في هذه الحال حليته، وليس بينها اختلاف الرتبة كما كان بين الحكم الواقعي والحكم المتعلق بالشك، لان كلا منهما حكم ثانوى مجعول للمكلف في حال الشك في الواقع الاولى، هذا.

و قد فرغنا فيما تقدم ايضاً عن ورود ادلة حجية الطريق على الاصول العملية، فلا نعيدو من اراد فليراجع(2).

ص: 637


1- ص ٥٤-٣٥١.
2- ص ٢٢-٦٢١.

و اما العام والخاص المطلق فالتعارض بين مدلوليها واضح، لعدم امکان صدق كليهما.

حول تعارض العام والخاص، وتقديم الخاص على العام

و مجمل الكلام فيهما انهما على اقسام :لانهما إما ان يكونا قطعي السند، او يكونا ظنيين، او يكون العام قطعى السند دون الخاص، او بالعكس، وعلى اي حال : إما ان يكون الخاص قطعياً من حيث الدلالة ومن حيث جهة الصدور، او يكون ظنياً من هاتين الجهتين اومن احداهما، فهنا اقسام لابد من تعرضها :

القسم الاول: اذا كان العام مقطوع الصدور والخاص ايضاً مقطوع الصدور والجهة والدلالة فلا اشكال في تقديم الخاص المذكور على هذا العام، لان حجية ظهور العام موقوفة على عدم العلم بالخلاف والخاص المفروض يوجب العلم بالخلاف، كما هو واضح.

القسم الثاني : اذا كان العام مقطوع الصدور والخاص ظني الصدور فقد اختلف العلماء في ذلك، ومن جملة مصاديق هذا القسم تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهم بين قائل بتخصيص العام به وقائل بالعكس، ومتوقف، لان لكل منهما جهة رجحان.

و قال شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه) في وجه التخصيص المذكور ما محصله ان دليل اعتبار السند حاكم على اصالة العموم ان بنينا على ان اعتبار الظهور انما هو من حيث اصالة عدم القرينة، فان مقتضى دليل اعتبار السند جعل هذا الخاص المفروض كونه نصا بمنزلة النص الصادر القطعي، فالشك في تحقق القرينة الذي كان موضوعاً للاصل المذكور بمنزلة العدم، بحكم دليل اعتبار السند، وأما إن قلنا بان اعتباره من جهة الظن النوعى بارادة الحقيقة الحاصل من الغلبة او غيرها فالظاهر ان النص وارد عليه مطلقاً وان كان ظنياً، لان الظاهر ان دليل حجية الظن الحاصل من ارادة الحقيقة الذي هو مستند اصالة الظهور مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه، ويكشف عن ذلك انا لم نجد ولا نجد من انفسنا مورداً يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص، وان فرض كونه

ص: 638

اضعف الظنون المعتبرة «انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه»(1).

اقول: و فيما ذكره «قدّس سرُّه» نظر أمّا او لا فلانه بناء على اعتبار العموم من باب اصالة عدم القرينة ايضاً لو قدمنا الخاص فلا يكون وجه تقدمه الا الورود، لعدم تعقل الحكومة في اللبيات كما لا يمكن القول بالتخصيص فيها، فلابد ان يلتزم القائل بتقدم الخاص الظني السند على العام في هذا الفرض بان اصالة عدم القرينة معتبرة مالم يكن في البين دليل معتبر على القرينة وان كان غير علمي.

و ثانياً انه «قدّس سرُّه» وان اصاب فيما افاد من انه لا نجد من انفسنا مورداً يقدم فيه العام من حيث هو على الخاص وان كان اضعف الظنون المعتبرة، ولكنا ايضاً لا نجد من انفسنا كون حجية الظواهر بحسب الشأن والاقتضاء مقيدة بعدم وجود ظن معتبر على خلافها، نعم ترفع اليد عنها في بعض الموارد وان لم يعلم بالقرينة، لكن ليس ذلك من جهة قصورها في الحجية، بل من جهة تقديم ما هو اقوى منها.

وجه تقديم الخاص الظنّي على العام

و الحاصل ان تقديم الخاص الظنى على العام وان كان نجده من انفسنا كما افاده «قدّس سرُّه»، ولكن وجهه ليس ما افاده «قدّس سرُّه»، كما انه مما نجده من انفسنا ايضاً.

و الذي يخطر بالبال في المقام في وجه التقديم: ان دليل اعتبار السند يجعل ظهور العموم في الخاص بمنزلة معلوم الخلاف فان الاخذ بسند الخاص الذي لا احتمال فيه بعد الاخذ بالسند سوى المعنى الخاص الذي هو في مقابل العام يكون معناه جعل هذا المضمون بمنزلة المعلوم، فيحصل غاية حجية الظواهر بنفس دلیل اعتبار السند بخلاف دليل حجية الظاهر، فانه ليس معناه ابتداء جعل الغاية لحجية الخبر الواحد بل مقتضاه ابتداء هو العمل بالظاهر وانه مراد

ص: 639


1- الفرائد، اوائل بحث التعادل والترجيح، ص ٣٣ - ٤٣٢.

من العام، نعم لازم كونه مراداً من العام عدم كون الخبر الدال على خلافه صادراً من الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، اذ المفروض كونه نصاً من جميع الجهات، فدليل

حجية السند موضوعه محقق في رتبة تعلقها به بخلاف دليل حجية الظاهر، فانه يرد معه ما يرفع موضوع الحجية، ومعلوم انه اذا كان مع الحكم مديرتفع به موضوعه لا يصح تحقق ذلك الحكم.

و بعبارة اخرى: يرفع دليل حجية السند موضوع حجية الظاهر بنفس وجوده، بخلاف العكس، فان دليل حجية الظاهر لا يرفع موضوع حجية السند بنفس وجوده، اذ من الواضح انه ليس معنى جعل الظاهر مراداً واقعياً. هو عدم صدور ذلك الخاص من الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) نعم يرفع موضوع حجية السند في الرتبة المتأخرة عن مجىء الحكم ففي المرتبة الاولى لا مانع من مجيء دليل اعتبار السندر(1) لتحقق موضوعه في هذه الرتبة فاذا جاء هذا الدليل لتحقق موضوعه يرتفع به موضوع ذلك الدليل، فليتدبر جيداً.

و مما ذكرنا يظهر وجه تقدم الخاص الذي يكون نصاً في المدلول الاستعمالى ولم يكن مقطوعاً به من حيث وجه الصدور، فان ما ذكرنا في تقدم الخاص الظني السند جارفيه ايضاً، نعم لو كان الخاص ظن_ي_اً م_ن ج_هة المدلول الاستعمالي لم يجر فيه ما قلناه، ضرورة كون اصالة الظهور في كل من العام والخاص في عرض واحد.

فتحصل مما ذكرنا أن الخاص اذا كان نصاً في مدلوله الاستعمالي فهو مقدم

ص: 640


1- قد تقدم الاشكال في مرجحية صرف التقدم الرتبي بين مفادي الدليلين المتعارضين، فالصواب هنا ايضاً ما يشير اليه المصنف في الفرض اللاحق اعني ما اذا كان الخاص اظهر من العام من كون نسبة الخاص الى العام في حق من جرى عادته على تفريق كلماته في مجالس عديدة كنسبة يرمي الى الاسد، فلا يعد منه ذلك على خلاف قانون المحاورة، بخلاف تقديم ظهور العام على سند الخاص، فانه لا يعد من هذا القبيل، فيكون خارجاً عن قانون المحاورة، لعدم دلالته لا مطابقة ولا التزاماً على تخصيص دليل السند.(م. ع. مدظله).

على العام، سواء كان مقطوعاً من ساير الجهات او مظنونا، او مختلفاً، وسواء كان العام قطعي الصدور، ام لا.

فيبقى الكلام في الخاص الظني بحسب الدلالة اللفظية، فنقول : ان كانا متساويين في الظهور فلا اشكال في التوقف لان اصالة ظهور كل منهما معارضة بمثلها، وان كان احدهما اظهر ففي تقديم الاظهر وجعله قرينة على صرف الظاهر او التوقف كالمتساويين اشكال وما يمكن ان يكون وجهاً للاول احد أمرين الخلو:

على سبيل منع احدهما ان يدعى ان بناء العرف على تقديم الاقوى عند التعارض، فلا يكون متحيراً عند تعارض الامارتين بعد اقوائية احداهما، خصوصاً اذا كان منشأ الاقوائية ما يكون بنفسه حجة، كما فيما نحن فيه، فان منشأ الاقوائية اضافة ظهور هو حجة الى ظهور اخر، وليس ذلك ببعيد، ولكنه يحتاج الى التامل. الثاني: ان يقال ان المتكلم اذا احرزنا انه من عادته ذكر القرائن منفصلة عن كلامه، بمعنى انه كثيراً ما يفعل كذلك كما هو كذلك في كلمات الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، تصير كلماته المنفصلة المنافي بعضها مع بعض بمنزلة المتصل، فكما ان اللفظ الذي يكون اظهر دلالة على معناه من لفظ آخر اذا وقع متصلاً بالكلام يكون قرينة صارفة كما في لفظ يرمى بالنسبة الى الاسد، كذلك هذا اللفظ اذا وقع منفصلاً، إذفهمنا بالفرض أن من عادته ان يؤخر ما يكون صالحاً للقرينية في الكلام، نعم فرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة من جهة اخرى، وهي ان الأولى تمنع عن انعقاد الظهور ويسرى اجمالها لو كان في الكلام بخلاف الثانية هذا.

حول الدليلين المتباينين

و اما الدليلان المتباينان بحسب المدلول فهما على اقسام: احدها ان يكونا نصين في تمام مدلوليهما، والثاني ان يكونا ظاهرين وهو على قسمين: احدهما ان يكون لهما قدر متيقن بحيث لوفرض صدورهما تعين الاخذ به، والثاني ان لا يكون لهما قدر متيقن في البين اصلا والاول منهما على قسمين: احدهما ان القدر

ص: 641

المتيقن المفروض انما فهم من نفس الدليلين والثاني انه علم من الخارج، فهذه اربعة اقسام :

لا اشكال في عدم امكان الجمع اذا كانا نصين، كما انه لا اشكال في عدم امكان الجمع ايضاً اذا كانا ظاهرين في تمام مدلولها، فهذان القسمان داخلان في الخبرين المتعارضين ويعامل معهما معاملة التعارض، من ملاحظة الترجيح في السند او التخيير على التفصيل الذي ياتي ان شاء اللّه.

ولو كان كل منهما نصاً في مقدار من مدلولهما وظاهراً في الآخ_ر ف_قتضى ما ذكرنا في وجه تقديم الخاص المظنون السند على العام الاخذ بالنص في كلا الدليلين هنا والغاء الظاهر فيهما تحكيماً للنص في كل منها على الظاهر في الآخر.

ولا فرق في ذلك بين كونهما مقطوعى السند او مظنونى السند بالظن المعتبر، أو كان احدهما مقطوع السند والآخر مظنوناً بالظن المعتبر، اما في الاول فظاهر، واما في الثالث فلوقوع التعارض بين ظهور الخبر المقطوع الصدور وسند الآخر، وما ذكرنا من الوجه في تقديم الخاص المعتبر على العام جار هنا بعينه، واما في الثاني فلعدم كون المدلول مشمولاً لدليل الاعتبار الا بعد الفراغ عن اعتبار السند فيشمل دليل الاعتبار كلا السندين من دون معارض، لان ما يتوهم ان يكون معارضاً للسند دليل اعتبار الظهور في الآخر، وظاهر انه غير مشمول لدليل الحجية قبل الفراغ من اعتبار سنده، فالواجب ان يفرض السندان مقطوعى الصدور بمقتضى دليل الاعتبار الخالي عن المعارض، كما عرفت، ثم الاخذ بنص كل منهما وتحكيمه على ظاهر الآخر، وبعبارة اخرى: قبل الاخذ بالسندين ليس المدلولان مشمولين لدليل الاعتبار، وبعد الاخذ بهما لا مناص لاخذ نص كل منهما وطرح ظاهر الآخر.

و بهذا البيان تعرف الحال في القسم الأخير ايضاً، وهو ما اذا كان لكل منهما على فرض الصدور قدر متيقن علم من الخارج لا بحسب مدلول القضية،

ص: 642

فان ما ذكرنا في السابق جار هنا ايضاً.

و الحاصل ان ميزان الجمع ان يكون الدليلان بحيث لو فرض صدورهما لم يكن تحير في مدلولها.

وقد يقال : بالفرق بين القسمين الاخيرين بالالتزام بالجمع بين المدلولين في الاول ومعاملة المتعارضين في الثاني بملاحظة ان ثبوت المتيقن في كل من الدليلين من الخارج لا يخرجهما عن المتعارضين عرفاً، اذ ليس هذا الجمع هو الجمع المقبول عند العرف.

وفيه: ان المراد من الجمع العرفى ان كان ارتفاع التعارض بينهما عرفاً على فرض الصدور كما هو الحال في المخصص المتصل، فظاهر ان هذا المعنى في القسم الاول ايضاً مفقود، بل ليس ذلك في العموم والخصوص المطلق المنفصل ايضاً، اذ ليس حال المخصص المنفصل كالمتصل، في كونه موجباً لانعقاد ظهور آخر للكلام، وان كان المراد ان العرف بعد فرض صدور الدليلين لم يكن متخيراً في الاخذ بمدلولها فالقسمان متساويان في ذلك.

فثبت مما ذكرنا ان المتباينين لو كان لكل منهما على فرض الصدور مقدار متيقن ولو علم ذلك من خارج اللفظ لزم الاخذ بهما(1) باتباع المتيقن منهما

ص: 643


1- يمكن ان يقال مجرد عدم التحير عند القطع بصدورهما غير كاف في الجمع ما لم يكن في البين محمل يندرج به الدليلان تحت قانون المحاورة العرفية، ولا يخفى عدم تحقق ذلك في مثل اكرم العلماء ولا تكرم العلماء، فانه يعدان عند العرف من التناقض في المقال، وان فرض كون المتيقن من احدهما بحسب مقام التخاطب صنفاً خاصاً مغايراً لما هو المتيقن كذلك من الآخر، الا ان يقال: ان ذلك غير خارج عن قانون المحاورة بالنسبة الى من جرى عادته على جعل بعض قوانينه واقعياً وبعضها ظاهرياً، فيكون كل من الدليلين بالنسبة الى الصنف المتيقن حكماً واقعياً، وبالنسبة الى غيره حكماً ظاهرياً يعمل على طبقه مالم يقم طريق معتبر على خلافه، فاذا لم يصل المكلف الا الى احدهما فهو مورد للحكم الظاهري، وان وصل الى كليهما خرج عن موضوع الحكم الظاهري، لقيام الطريق على الحكم الواقعي.(م. ع. مدظله).

وطرح غيره في كليهما.

و قال شيخ اساتيدنا العظام شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في رسالة التعادل والتراجيح(1)بانحصار الجمع بين الدليلين فيما اذا كان الجمع مستلزماً للتصرف في احدهما كالعام والخاص والمطلق والمقيد دون ما كان مستلزماً للتصرف في كليهما وحاصل ما افاده «قدّس سرّه» في وجه ذلك : ان احد الدليلين مقطوع الاعتبار، فيقع التعارض بين ظاهره وبين سندا الآخر، ولا ترجيح لاخذ السند وطرح الظاهر.

اقول: بعد تسليم كون احد السندين مقطوع الاعتبار، فالوجه في تقديم سند الآخر على ظاهر ما فرض القطع باعتباره ما قلنا في تقديم سند الخاص على ظهور العام، مضافاً الى منع حجية احد السندين، لان حجيته في المدلول التعيني ترجيح بلا مرجح، وحجية الاحد المبهم لا معنى لها فيما لم يكن هناك ثالث، كما اذا قام الخبران على طرفى النقيضين.

فان قلت: ان احد الخبرين حجة بالاجماع لعدم القول بجواز طرحهما بين العلماء «قدّس سرُّهم» لانهم بين من يجمع بين المدلولين، ومن يأخذ بالترجيح لوكان والا فالتخيير، ومن يحكم بالتخيير مطلقاً.

قلت: مدارك الاقوال المذكورة معلومة فمن اختار احد المدارك المذكورة يلزمه حكمه، فلم يبق له مجال للقول بحجية احد الخبرين على سبيل الابهام وتعارض ظهوره سند الآخر، ومن لم يختر احد المدارك المذكورة فلا دليل له مع على حجية احد الخبرين في مقام التعارض لا تعييناً، ولا تخييراً، ولا على سبيل الابهام.

فان قلت: اذا منعت حجية الواحد على سبيل الابهام فيم تحكم بانتفاء الثالث فيما اذا كان لهما ثالث؟

ص: 644


1- عند البحث عن قاعدة الجمع مهما امكن اولى من الطرح ص ٣٥ - ٤٣٤.

قلت : نفى الثالث لا يتوقف على حجية احد الخبرين في المدلول المطابق، اذ كون دلالة اللفظ على اللازم متفرعة على دلالته على الملزوم لا يلازم كون حجية حكاية اللفظ عن اللازم متفرعة على حجية حكايته عن الملزوم، اذ هما فردان من الكشف الحاصل من نقل الثقة فيشملهما دليل الاعتبار في عرض واحد، ولو منع احدهما مانع ليس في الآخر فلا وجه لسقوط دليل الاعتبار بالنسبة الى ما ليس له مانع.

حول قاعدة الجمع أولى من الطرح

و مما ذكرنا يظهر ان ما اشتهر بينهم من «ان الجمع بين الدليلين مهما امكن اولى من الطرح» ان كان المراد الامكان العرفى فهو صحيح، وينحصر مورده فيما اذا لو فرض صدور كلا الدليلين لم يتحير العرف في المراد، سواء كانا من قبيل

العموم والخصوص ام غيره، كما عرفت، وان كان المراد غير ذلك فلا دليل عليه.

ثم ان الشهيد الثاني «قدّس سرُّه» على ما حكى عنه في تمهيده فرع على قضية اولوية الجمع الحكم بتنصيف دار تداع_ي_اه_ا وهي في يدهما اولا يد لاحدهما وأقاما بينة «انتهى».

و في كون اول المثالين من فروع القاعدة ما لا يخفى، لان بينة كل منهما انما هي معتبرة في النصف، سواء حكمنا بتقديم بينة الداخل او الخارج، فالحكم بالتنصيف مقتضى حجية بينة كل منهما في النصف، لا مقتضى الجمع، نعم يمكن ان يكون الثاني متفرعاً على القاعدة، وان كان للنظر فيه ايضاً مجال حيث انه يمكن ان يقال : ان الحكم بالتنصيف من جهة تساقط البينتين من الطرفين، كما اذا لم يكن بينة في البين وتحالفا او تناكلا.

و كيف كان: فالذي ينبغي ان يقال في المقام أن الجمع بين الدليلين في الاخبار الحاكية عن قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) يتصور على وجهين : احدهما التصرف في احد الدليلين او في كليهما على وجه يرتفع التنافي، والثاني الاخذ ببعض المفاد من كل منهما او من احدهما وذلك فيما لم يتطرق فيه التوجيه والحمل كالنصين.

ص: 645

و أما الجمع بين مفاد قولى الشاهدين فينحصر في الثاني، اما اذا كان القولان نصين فواضح، واما اذا كانا ظاهرين او احدهما ظاهراً والآخر نصاً، فلأن الجمع بهذا المعنى يتجه فيما اذا كان المتكلم واحداً او في حكم الواحد، واما في صورة تعدد المتكلم فلا وجه للتصرف في ظاهر كلام احدهما لنصوصية كلام الآخر او اظهريته.

اذا عرفت هذا فنقول : ان سلمنا كون القاعدة المعروفة مورداً للاجماع فلا محيص في امثال المقام من الاخذ بمفاد بعض قول كل منهما وطرح البعض الآخر، لان طريق الجمع منحصر في ذلك، ولابد من الجمع بحكم القاعدة المفروض كونها اجماعية وان لم نقل بذلك كما هو الحق وقلنا بعدم الدليل على ذلك الا في الدليلين اللذين لم يتحير العرف في استكشاف المراد منهما بعد فرض صدورهما فاللازم التمسك بدليل آخر في امثال المقام.

و الذي يمكن ان يكون وجهاً للحكم بالتنصيف في المسألة المذكورة ونظائرها انا نعلم بوجوب فصل الخصومة على الحاكم، ولا وجه لان يحكم لاحدهما على الآخر، فالحكم بالعدل عرفاً ان يحكم بالتنصيف، ويمكن ان يستظهر ذلك ايضاً من الرواية الواردة في الدرهم (1)الا ان يقال: ان الحكم الوارد في الدرهم قضية في واقعة ولا يستكشف منها عموم الحكم لكل مال مردد بين اثنين، والوجه الاول لا بأس به اذا لم يكن في البين طريق شرعي لتعيين الواقع، وقد جعل الشارع القرعة لكل امر مشكل، والمسألة محتاحة الى مزید تامل.

ثم انك قد عرفت مما مضى ان الجمع بين الدليلين فيما اذا لم يكن العرف متحيراً في المراد بعد فرض صدور كليهما اولى من طرح احدهما والتخيير بينهما، واما فيما اذا كان متحيراً على فرض الصدور فلا دليل على الجمع ولا يصح،

ص: 646


1- الوسائل الباب 9 من ابواب كتاب الصلح.

وعلى هذا لابد من التكلم فيما اذا تعارض الخبران ولا يمكن الجمع بينهما عرفاً على نحو ما ذكرنا.

و الكلام فيه يقع في مقامين: المقام الاول فيما اذا كان الخبران متكافئين ولا يكون لاحدهما ترجيح على الآخر، والثاني فيما اذا كان لاحدهما ترجيح على الآخر.

الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب القاعدة

اما الكلام في المقام الاول فيقع في مقامين ايضاً: احدهما فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في الباب، والثاني فيما يقتضيه الاخبار.

اما الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب ما يقتضيه القاعدة فمحصله ان حجية الخبر إما ان تكون من باب السببية واما من باب الطريقية، فان قلنا بالثاني فمقتضى القاعدة التوقف فيما يختص كل من الخبرين به من المضمون والاخذ بما يشتركان فيه مثلا لو قام دليل على وجوب صلاة الظهر، ودليل آخر على وجوب صلاة الجمعة، فمقتضى القاعدة التوقف في الحكم الخاص المدلول لكل منهما بالخصوص والحكم بثبوت احد المدلولين واقعاً وفائدته نفي الثالث.

فهنا دعويان احداهما لزوم التوقف في المدلول المختص لكل منهما، والثانية لزوم الحكم باحد المدلولين اللازم منه نفي الثالث.

و الدليل على الاولى منها :امران احدهما بناء العرف والعقلاء، فانانراهم متوقفين عند تعارض طرقهم المعمول بها عندهم فان من اراد الذهاب الى بغداد مثلاً واختلف قول الثقات في تعيين الطريق اليه يتوقف عند ذلك حتى يتبين له الامر، وهذا واضح من طريقتهم الثاني انه قد تحقق ان فائدة سلوك الطرق المجعولة تنجيز الواقع فيما لوكان هناك واقع مطابق لمؤداها واسقاطه فيما لو كان واقع هناك على خلاف مؤداها ففيما تعارض الخبران الخبر الدال على

ص: 647

الوجوب يقتضى تن_ج_ي_زه لو كان والخبر الدال على الاباحة يقتضى اسقاطه كذلك، وهكذا، ومقتضى ذلك سقوط كليهما عن الاثر، وهذا معنى سقوطهما عن الحجية.

هذا على تقدير القول بان ادلة حجية الخبر تدل على حجيته من حيث هو، مع قطع النظر عن حال التعارض، لا بمعنى تقييده بعدم التعارض حتى يخرج المقام عن تعارض الحجتين، بل بمعنى عدم ملاحظة حال التعارض، لا اطلاقاً ولا تقييداً، كما هو الظاهر من الادلة.

و اما ان قلنا باطلاق دليل الحجية لحال التعارض فلا وجه للتوقف، بل الوجه على هذا التخيير (1) لان جعل الخبرين حجة في حال التعارض لا معنى له الا التخيير ولا يتوهم أنه على هذا يلزم استعمال اللفظ في معنيين : حجية الخبر تعييناً في غير مورد التعارض وتخييراً فيه لان استفادة التخيير هنا ليست من المدلول اللفظى، بل هي من القرينة الخارجية، فلا تغفل، هذا. ولكن الذي اسهل الخطب عدم ظهور ادلة حجية الخبر في هذا الاطلاق، كما لا يخفى.

فان قلت: على تقدير تسليم عموم دليل الحجية لكل منهما يستكشف منه وجود المصلحة الطريقية في كل منهما تعييناً، وعلى هذا مقتضى القاعدة التخيير لا التوقف، كما هو الحال في الواجبين المتزاحمين الذين استكشف وجود المصلحة التامة في كل منهما تعييناً.

قلت: فرق بين المقام وبين تزاحم الواجبين، اذ في الثاني قد علمنا باشتمال كل منهما على غرض من الشارع لازم الحصول، وحيث لا يمكن الجمع فالعقل يحكم بوجوب تحصيل احدهما لانه مقدور، وفيما نحن فيه ليس كل من

ص: 648


1- الا ان يقال بعدم امكان الاخذ باطلاقها في مقابل ارتكازية التوقف عند العقلاء، لعدم صلاحية العموم والاطلاق لرادسية العرف عن الارتكازيات، كما تقرر في محله.(م. ع. مدظله).

الطريقين مشتملاً على غرض مستقل للشارع، بل المقصود الاصلي هو الواقع، ونعلم بمخالفة احدهما للواقع الذي هو مقصود اصلى للآمر، فما هو مخالف للواقع قطعاً ليس فيه المصلحة الطريقية اصلا، وحيث ان احدهما المقطوع مخالفته للواقع ليس فيه المصلحة الطريقية فلا سبيل الى الحكم بالحجية في المقام، لا تعيينا ولا تخييرا، مع قطع النظر عن الادلة الاخر المتكفلة لحال الخبرين المتعارضين، اما الاول فواضح لان حجية كليهما غير ممكن، وحجية احدهما المعين دون الآخر ترجيح من غير مرجح اذ المفروض اجتماع شرايط الحجية في كليهما من دون تفاوت وحجية احدهما على التخيير تحتاج الى دليل نقلى او عقلى، اما العقل فحكمه بالتخيير موقوف على وجود المصلحة في كل واحد منهما تعييناً حتى في حال التعارض، وقد عرفت عدم قابلية ما هو م_ع_ل_وم المخالفة للحجية، واما النقل فلا يدل على التخيير ايضاً لما عرفت من ان دليل حجية الاخبار متكفل لحجيتها على التعيين في حد ذاته، واما الادلة الواردة لعلاج المتعارضين فهي وان كانت تدل على التخيير، لكن الكلام هنا. مع قطع النظر عنها.

و اما الدليل على الثانية: فهو ان حجية الخبر انما هي من باب كشفه نوعاً عن الواقع، فالدليل المثبت لحجيته يوجب الاخذ بالكشف الحاصل منه، لا ان معناه وجوب الاخذ بمؤدى قول العادل مثلاً، ولو لم يكن كذلك لكان الواجب الاقتصار على ما كان مدلولاً لفظياً له، ولم يكن وجه للاخذ بلوازمه وملزوماته و ملازماته، كما كان الامر كذلك في الاصول العملية والوجه في الاخذ بها ليس الا ما ذكرنا وهو ان معنى حجية الطريق جعل الكشف الحاصل منه بمنزلة العلم، ولا ريب انه اذا قام طريق على ثبوت الملزوم يحصل به الكشف عن اللازم، كما حصل به الكشف عن ثبوت الملزوم، وكذا بالعكس، وهكذا اذا قام طريق على احد المتلازمين فالدليل الدال على حجية ذلك الكشف يدل على حجية الجميع في عرض واحد وان كان بعضه مرتباً على بعض في مرحلة

ص: 649

الوجود.

اذا عرفت ذلك فنقول : ان قام خبر على وجوب الظهر مثلاً فقد حصل منه الكشف عما دل عليه بالمطابقة، وهو وجوب صلاة الظهر، وحصل منه الكشف ايضاً عن لازمه الاعم، اعنى عدم برائة ذمة المكلف عن تكليف الزامي، وكذا إن قام خبر آخر على وجوب الجمعة فقد حصل منه كشفان: احدهما عن مدلوله المطابقي، والثاني عن اللازم الذي ذكرنا وهما و ان تعارضا في مدلولهما الخاص وسقطا عن الحجية ولكن الحجية ولكن بقي كشفهما عن اللازم المشترك، وهو ايضاً كشف حاصل من خبر العادل، وهووان كان تابعاً للكشف الأول في الوجود ولكنه ليس تابعاً له في الحجية لان دليل حجية الانكشاف الحاصل من خبر العادل يشمل تمام افراد الانكشاف الحاصل منه القابل للاعتبار في عرض واحد، وليس حجية انكشاف المعلول تابعة لحجية انكشاف العلة، كما مر في محله من وجوب الاخذ بالانكشاف الحاصل من الطرق وان كان بواسطة وسايط لم تكن قابلة للاعتبار، لخروجها عن وظيفة الشارع.

و ان شئت قلت في تعارض الخبرين كشف احدهما عن الواقع مقطوع الخلاف، أما كشف احدهما بلا عنوان فليس بمقطوع الخلاف، فلا مانع من حجيته بعد كونه كشفاً حاصلاً من الخبر الجامع للشرايط المعتبرة في الحجية، ولازم ذلك نفي الثالث، وحينئذ فلو اقتضى الاصل خلاف مقتضى الخبرين يطرح لانه في مقابل الدليل، لكن احدهما بلاعنوان ليس قابلاً للحجية، لعدم مدلول خاص له حتى يؤخذ به، وحجية مدلوله الالتزامى غير موقوفة على حجيته لانه من مصاديق الكشف الحاصل من الخبر، فيشمله دليل الحجية من دون البناء على شموله للمدلول المطابق. وان كان هذا الكشف مرتباً على الكشف من المدلول المطابقى وجوداً فليتدبر في المقام فانه من مزال الاقدام.

هذا ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في الباب واما بالنظر اليها فسيجيء الكلام في مدلول الاخبار العلاجية والنقض والابرام فيها

ص: 650

بعد ذلك ان شاء اللّه.

هذا كله على تقدير القول بحجية الاخبار من باب الطريقية.

و اما على تقدير اعتبارها من باب السببية فالذي صرح به شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» ان مقتضى الاصل التخيير لان المطلوبية المانعة عن النقيض في كل منهما موجودة، فيجب الامتثال بقدر الامكان، وحيث لا يمكن الجمع يجب امتثال احد التكليفين بحكم العقل على نحو التخيير، لعدم الاهمية في احدهما، كما هو المفروض (1)واليه ذهب شيخنا الاستاذ «دام بقاه» حيث قال في تعليقته على رسالة التعادل والتراجيح ما هذا لفظه فاعلم انه ان قلنا بحجية الاخبار من باب السببية فيكون حال المتعارضين من قبيل الواجبين المتزاحمين في ان الاصل فيهما هو التخيير، حيث ان كل واحد منهما حال التزاحم ايضاً على ما كان عليه من المصلحة التامة المقتضية للطلب الحتمي، ولا يصلح التزاحم الا للمنع عن تنجزهما جميعاً، لامتناع الجمع لاعن احدهما، لامكانه، وحيث كان تعينه بلا معين ترجيحاً بلا مرجح كان التخيير متعينا، نعم لو كان اهم او محتمل الاهمية يتعين على ماسنفصله انتهى ما اردنا من نقل كلامه «دام بقاه»(2).

و عندى في ذلك نظر: توضيحه أن جعل الامارات من باب السببية كما اوضح ذلك شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في مبحث ح_ج_ي_ة الظن يتصور على وجوه بعضها باطل عقلا وبعضها باطل شرعاً، والذي يمكن من الوجوه المذكورة وجهان احدهما ان يكون الحكم الفعلى تابعاً للامارة، بمعنى ان اللّه تعالى في كل واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل لو لا قيام الامارة على خلافه، بحيث يكون

ص: 651


1- الفرائد في البحث عن الاصل في المتكافئين، ص ٤٣٨.
2- تعليقة الفرائد هنا، ص ٢٥٦.

قيام الامارة المخالفة مانعاً عن فعلية ذلك الحكم، لكون مصلحة سلوك هذه الامارة غالبة على مصلحة الواقع، فالحكم الواقعي فعلى في حق غير الظان بخلافه، وشأنى في حقه بمعنى وجود المقتضى لذلك الحكم لولا الظن على خلافه.

و الوجه الثاني ان لا يكون للامارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الامارة حكمه، ولا تحدث فيه مصلحة الا ان العمل على طبق تلك الامارة والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المرتبة عليه واقعاً يشتمل على مصلحة فاوجبه الشارع، ومعنى ايجاب العمل على الامارة وجوب تطبيق العمل عليها لا وجوب ايجاد العمل على طبقها.

اذا عرفت ذلك فنقول : ان مقتضى السببية بالمعنى الاول انه اذا تعارض الخبران وعلم مطابقة احدهما للواقع لم يكن للخبر المطابق تأثير اصلاً، لما عرفت في الوجه الاول من ان المانع من الحكم الواقعي انما هو الظن بالخلاف دون ما يكون مطابقاً للواقع، فالخبر الموافق لم يؤثر شيئاً، والمخالف صار سبباً لانقلاب الحكم الواقعي، فالواجب الاخذ بمؤدى احدى الامارتين في الواقع، وهي الامارة المخالفة للواقع دون ما هو مطابق له، وحيث لم يتميز المخالف من الموافق يلزم التوقف والرجوع الى مقتضى الاصل، وهو يختلف بحسب المقامات، لان الخبرين ان كانا مثبتين للتكليف فان امكن الاختيار يجب، لان مضمون احدهما مجعول في حقه بمقتضى سببية الخبر المخالف للواقع، والا فالتخيير، وان لم يكونا مثبتين بل يكون احدهما مثبتاً والآخر نافياً فمقتضى الاصل البراءة، لاحتمال كون النافي مخالفاً للواقع، وصار موجباً لانقلاب للواقع.

الى مؤداه، هذا في صورة العلم بمطابقة احد الخبرين المتعارضين للواقع. و أما في صورة الجهل فالواقع لا يخلو إما ان يكون كذلك فالحكم ما عرفت، وإما ان يكون كلاهما مخالفاً للواقع فاللازم سقوط كليهما عن الاثر، مثلا لو كان حكم الواقعة الاباحة، فدل احد الخبرين على الوجوب والآخر على

ص: 652

الحرمة، فما دل على الوجوب يقتضى احداث مصلحة تامة في فعل ذلك الشيء، ومادل على الحرمة يقتضى ذلك في تركه، وحيث لا يمكن الجمع بين ايجاب شيء وتحريمه يلغو السببان هذا بناء على السببية بالمعنى الاول.

نعم على الوجه الثاني فالامر كما افاده «قدّس سرُّه» لان الواقع على هذا لا يتغير عما هو عليه، سواء كانت الامارة مطابقة ل_ه ام لا، بل المصلحة في الالتزام والتدين بما دلت عليه ولما كانت الامارتان في محل الفرض متعارضتين ولم يمكن الالتزام بمؤدى كلتيهما وجب ذلك في احداهما على سبيل التخيير لعدم الاهمية كما هو المفروض.

فان قلت: ليس الامر كذلك على الاطلاق في هذا الفرض ايضاً، لجواز التدين بمدلول الامارتين في بعض فروض التعارض كما اذا دل الدليل على وجوب الظهر والآخر على وجوب الجمعة مع العلم بعدم كليهما، فان الدليلين متعارضان لعدم جواز صدق كليهما مع العلم المفروض، مع انه يمكن الالتزام بمدلول كلا الدليلين، وحينئذ لا سبيل الى التخيير، لانه متفرع على عدم امکان الجمع، والمفروض خلافه.

قلت: قد حقق في محله أن اعتبار الامارات ليس مخصوصاً بمدال_ي_ل_ها المطابقية، بل يؤخذ بها وبما يلازمها، سواء كانت الملازمة بين الشيء ومداليلها بحسب الواقع ام لا، بل كانت بملاحظة علم المكلف، ولا يفرق في ذلك بين القول باعتبارها من باب الطريقية والسببية، كما هو واضح، وحينئذٍ نقول: بعد العلم بانحصار الواجب في احد الفعلين إمّا الظهر وإما الجمعة فالخبر الدال على وجوب الظهر مثلاً يدل على عدم وجوب الجمعة، وكذا الخبر الدال على وجوب الجمعة، ومقتضى التدين بالاول الالتزام بوجوب الظهر وعدم وجوب الجمعة، ومقتضى التدين بالثاني عكس ذلك، ولا يمكن الجمع بينهما فمقتضاه التخيير فافهم.

هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل مع قطع النظر عن الاخبار الواردة في

ص: 653

المقام.

الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب الأخبار و تقوية التخيير

و اما بالنظر اليها فهل يحكم بالتخيير او التوقف، او الاخذ بما يوافق الاحتياط او التفصيل بين ما لا بد فيه من العمل فالتخيير وبين غيره فالتوقف، كما حكى عن غوالى اللئالى او التفصيل بين دوران الامر بين محذورين فالتخيير وغيره فالتوقف او التفصيل بين حق اللّه فالتخيير وحق الناس فالتوقف كما نسب الى الوسائل ؟ وجوه ناشية من اختلاف الاخبار واختلاف الانظار فيالجمع بينها.

فنقول : المشهور الذي عليه جمهور المجتهدين الاول للاخبار المستفيضة الدالة عليه، ولكن يعارضها الاخبار الدالة على التوقف، وهي ايضاً في الكثرة لا تقصر من الاخبار الدالة على التخيير وكذا يعارضها مرفوعة زرارة المحكية عن غوالي اللئالى الآمرة بالاخذ بما فيه الاحتياط بعد فرض السائل تساوى الخبرين في جميع ما ذكر فيها من المرجحات(1).

اما معارضتها مع المرفوعة فقد اجاب عنها شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه)(2) بضعف سند المرفوعة فانه قد طعن في ذلك التأليف وفي مؤلفه المحدث البحراني «قدّس سرُّه» في مقدمات الحدائق(3).

و في ما افاده نظر لان المرفوعة وان كانت ضعيفة السند الا ان ضعفها مجبور بعمل الاصحاب، حيث استقرت سيرتهم في باب الترجيح على العمل بها، كما اعترف به «قدّس سرُّه» في موضع آخر من الرساله(4).

فالاولى ان يقال ان الاخذ بما يوافق الاحتياط في المرفوعة انما جعل في

ص: 654


1- المستدرك، الباب 9 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢.
2- الفرائد المسألة الثالثة من الشك في الحرمة، ص 220. وفي بحث التعادل والترجيح، ص ٤٣٩.
3- الحدائق الناضرة المقدمة السادسة، ج 1، ص 99.
4- الفرائد، بحث التعادل والترجيح، المقام الثاني الموضع الأول من البحث عن تعارض اخبار العلاج ص ٤٤٧.

عداد المرجحات، وحينئذٍ ان حملنا الادلة الدالة على الأخذ بالمرجحات على الاستحباب فالامر سهل والا فالمتعين حمل تلك الفقرة على الاستحباب لعدم قائل بوجوب الترجيح بالموافقة للاحتياط ظاهراً، فانهم بين قائل بالتوقف مطلقاً، وقائل بالتخيير كذلك ومفصل بين الموارد المذكورة، ولا ينا في ذلك كون المراد في باقي الفقرات الوجوب كما لا يخفى.

و اما معارضتها مع أخبار التوقف فقد اجاب عنه_ا ش_ي_خ_ن_ا المرتضى «قدّس سرُّه» ايضاً بانها محمولة على صورة التمك_ن ع_ن الوصول الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كما يظهر من بعضها، فيظهر منها ان المراد ترك العمل وارجاع الواقعة اليه (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

و فيه نظر: أما أو لا فلانه كما يوجد في الاخبار الدالة على التوقف ما يظهر منه التمكن من الوصول الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) من جهة كون الامر بالتوقف فيها مغيا بلقائه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، كذلك في الاخبار الدالة على التخيير ما يظهر منه ذلك لعين تلك الجهة كرواية حارث بن المغيرة عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اذا سمعت من اصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(2).

و اما ثانياً فلان مجرد دلالة بعض اخبار التوقف على التمكن من الوصول الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يوجب تقييد ساير الاخبار المطلقة، اذ لا منافاة بين وجوب التوقف مطلقاً سواء تمكن من الوصول الى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ام لا كما هو مفاد الاخبار المطلقة، وبين كون غاية التوقف الوصول اليه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما هو مفاد بعض الاخبار الاخر، فلا وجه للحمل كما لا يخفى.

وقد يقال: ان التحديد بلقاء الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) اعم من صورة التمكن،

ص: 655


1- الفرائد بحث التعادل والترجيح، المقام الاول، ص ٤٣٩.
2- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي الحديث ٤١.

لان كلمة حتى كما تدخل على الغاية الممكنة كذلك تدخل على الغاية الممتنعة، كما في قوله تعالى: «حتى يلج الجمل في رسم الخياط»(1) فالاخبار المحدودة بلقائه مطلقة من حيث التمكن من الوصول الى خدمته (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما ان اخبار التخيير ايضاً مطلقة، فتكونان متبائنتين، فيحتاج الجمع بينهما بحمل كل منهما على صورة معينة الى شاهد خارجي.

و فيه: ان كلمة حتى و ان كانت كذلك بحسب وضعها اللغوى لكنها تنصرف عند الاطلاق الى ان الغاية التى جعلت تلوها من الممكنات.

و كيف كان فالذي اظن في الجمع بين الاخباران اخبار التوقف ليست ناظرة الى ما يقابل الأخذ باحدهما على سبيل التخيير ولا على سبيل التعيين، بل هي ناظرة الى تعيين مدلول الخبرين المتعارضين بالمناسبات الظنية التي لا اعتبار بها شرعاً ولا عقلا، فيكون المعنى على هذا انه ليس له استكشاف الواقع والحكم بان الواقع كذا كما كان له ذلك فيما كان في البين ترجيح، ولا اشكال في ان المتحير من جهة الواقع لا بد له من قاعدة يرجع اليها في مقام العمل، فلو جعل التخيير مرجعاً له في مقام العمل لا ينافي وجوب التوقف، كما انه لو جعل المرجع في مقام العمل الاصل الموافق لاحد الخبرين لم يكن منافياً لذلك.

و الشاهد على ذلك في اخبار التوقف امران: احدهما أن التوقف من غير جهة المدلول امر مركوز في اذهان العرف أترى ان احداً من العقلاء يبنى في صورة تعارض الخبرين المتساويين من جميع الجهات على حجية احدهما المعين او على حجية احدهما على سبيل التخيير من دون دليل ؟! وحيث ان التوقف من هاتين الجهتين مرتكز في اذهانهم فلا يحتاج الى تلك الاوامر الكثيرة، وهذا بخلاف تعيين مدلول الخبرين المتعارضين بل مدلول كل خبر متشابه بالظنون والاعتبار، فان هذا امر مرسوم عندهم متعارف بينهم، وقد تصدى الشارع لسد

ص: 656


1- سورة الاعراف الآية ٤٠.

هذا الامر بحكمه بلزوم التوقف عند اشتباه مدلول الخبر إما بالتعارض او بغيره، والحاصل انا ندعى ان اخبار التوقف بملاحظة ما قلنا منصرفة الى حرمة القول بالرأى في تعيين مدلول كلام الشارع، فاذاورد دلیل دال على التخيير في مقام العمل فلا منافاة بينه وبين تلك الاخبار، والشاهد على ذلك ايضاً قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بعد الامر بالتوقف في بعض الاخبار «ولا تقولوا فيه بآرائكم»(1).

و ان ابيت عن الانصراف المذكور يمكن ان يقال ان مدلول اخبار التوقف اعم مطلقاً من مدلول اخبار التخيير، لان الاول يرجع الى النهي عن امور، منها القول بغير العلم في مدلول الخبرين، ومنها الاخذ بخبر خاص حجة على انه هو الحجة لاغير ومنها اخذ احدهما حجة على سبيل التخيير، واخبار التخيير تدل على جواز الأخير فيجب تقييد تلك الادلة بها.

و مما ذكرنا ظهر ما فيما افاده شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في الرسالة من دلالة اخبار التوقف على الاحتياط في العمل بالاستلزام(2)ووجه ذلك شيخنا الاستاذ دام بقاه بان الاحتياط في العمل لا يحتاج الى فتوى بشيء اصلا بخلاف العمل على البراءة، فانه لابد من الفتوى بها ثم ناقش في ذاك، بمنع الاستلزام، اذ يكفى في العمل بالبراءة حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بلا افتاء بالاباحة شرعاً، لا ظاهراً، ولا واقعاً، ثم قال «دام بق__اه»: فالاولى التمسك للاحتياط باطلاق اخبار التوقف اذ باطلاقها تدل على وجوب التوقف عن ارتكاب الشبهة مطلقاً وعدم جواز الاقتحام فيها اصلاً، عملاً كان او فتوى، بل دلالتها على وجوب التوقف في الفتوى ليست الا لانها عمل ايضاً لا بما هي فتوی «انتهی»(3).

ص: 657


1- الوسائل الباب 12 من ابواب صفات القاضي الحديث 31.
2- الفرائد المقام الاول في المتكافئين، ص ٤٣٩.
3- تعليقة الفرائد، هنا ص٢٥٨.

اقول : ومما ذكرنا يظهر النظر فيها افاده بقوله «فالاولى الج» لان التعبير عن الاحتياط في العمل بالتوقف انما يحسن في خصوص الشبهة التحريمية، لانها هي التي يحسن فيها التوقف، اعنى السكون وعدم الحركة الى الفعل، دون غيرها كما لا يخفى.

و هنا امور يجب التنبيه عليها

في تخيير الحاكم و المفتي و المقلّد في المتعارضين

احدها: ان التعارض ان وقع للحاكم في مدرك حكمه فهو يتخير احد الخبرين و يحكم على طبقه لان فصل الخصومة عمل القاضي، فالتخيير له لا للمترافعين، وان وقع للمفتى ففي عمل نفسه ايضاً يختار احدهما ويعمل على طبقه، واما في عمل المقلد فهل يختار احدهما ايضاً او يجب الافتاء بالتخيير وجهان:

الاقوى الثاني، لان الاحكام الظاهرية كالواقعية مجعولة للمجتهدين والمقلدين، وليس في ادلة الاحكام الظاهرية ما يظهر منه اختصاصها بالمجتهدين، والقول بان العمل باحد الخبرين عند التعارض او باقويهما ليس الا وظيفة للمستنبط، ولا معنى لثبوت ما يتعلق بالاستنباط من الاحكام للعامي الغير القادر على الاستنباط، مدفوع، بان ما هو وظيفة المستنبط فهم التعارض بين الخبرين، وتساوتهما، او كون احدهما اقوى واما العمل على طبق الاقوى او احدهما فليس بشيء يختص بالمجتهد، لان هذا العمل ليس الاكا لعمل باصل الواقعيات الاولية التي يشترك فيها جميع العباد، وان لم يكن للمقلد طريق اليها الافهم مجتهده.

والحاصل ان الاحكام المتعلقة بالموضوعات سواء كانت واقعية ام ظاهرية حال المجتهد والمقلد بالنسبة اليها سواء، والذي يختص بالمجتهد ولاحظ للمقلد فيه فهم تلك الاحكام وتشخيص مواردها من طريق النظر(1)، فلا تغفل.

ص: 658


1- نعم يمكن ان يقال بالخيار للمجتهد بين ان يأخذ بنفسه احد الخبرين ويفتي بمضمونه للمقلد، فان الافتاء ايضاً عمل للمجتهد مشمول للخطاب بالتخيير، ولهذا لو كان الخبران في احكام الحيض مثلاً يشمله الخطاب بالتخيير بملاحظة عمل الافتاء، وبين ان يحدث الموضوع في حق المقلد بعرض الخبرين ثم افتائه بالمسألة الاصولية، وهو يأخذ بايهما شاء ويعمل بمضمونه، وهكذا الحال في الاستصحاب، فللمجتهدان يوجد في حق المقلد اليقين السابق ويفتيه بعدم نقص اليقين بالشك، كما ان له الافتاء بالمسألة الفرعية ايضاً بملاحظة ان نفس الافتاء من الآثار العملية المشمولة لخطاب لا تنقض، فكما كان يفتي في السابق بمقتضى يقينه بالحكم العام لكل احد، فكذلك له ان يفتى بهذا العموم في الحال اللاحق.(م. ع. متظله).

هل التخيير بدوي أو استمراري

الثاني: ان التخيير هل هو على سبيل الاستمرار بمعنى انه هل يجوز للحاكم ان يحكم على طبق أمارة في واقعة ثم يحكم على طبق أمارة اخرى في واقعة اخرى ام لا، وكذا يجوز للمفتى ان يختار في عمل نفسه أمارة ويعمل على طبقها ثم يختار اخرى ويعمل عليها، وكذا يفتى للمقلد هذا النحو من الاختيار ام لا؟

الاقوى هو الأول، لاطلاق ادلة التخيير(1)خصوصاً بعد ملاحظة ماورد في بعض الاخبار من ان الاخذ باحد الخبرين انما هو من باب التسليم، ومن المعلوم أن مصلحة ذلك لا تختص بابتداء الحال وان أبي_ت ع_ن ذل_ك وقلت: ان الاخبار لم يكن لها تعرض الالبيان وظيفة المتحير في اول الامر، يكفي في اثبات

ص: 659


1- بل الاقوى هو الثاني، لمنع الاطلاق اوّلاً، ومنع الاستصحاب ثانياً، اما منع الاطلاق فلاستلزامه اجتماع اللحاظين لان ظاهر قوله خذ باحد الخبرين» هو احداث الأخذ، الا ترى انه لا يقال في حق من كان قائماً من السابق: «قم» مثلاً الا على سبيل التجوز، فكذا بالنسبة الى من كان آخذاً بخبر من السابق لا يقال: «خذ» الظاهر في امره باحداث الاخذ، ومن المعلوم أنه بعد ارادة التخيير في خصوص الاحداث لو اريد التخيير في الابقاء ايضاً كان مستلزماً للجمع بين اللحاظين المتنافيين ومن هنا يظهر منع الاستصحاب ايضاً لتعدد القضية المتيقنة والمشكوكة، اذ الأولى هو التخيير في الاحداث، والثانية هو التخيير في الابقاء، واما استصحاب الجامع بين التخييرين فمعارض باستصحاب نفي الفرد الثاني او محكوم له، على اختلاف القولين في تسبب الكلي من الفرد وعدمه.(م. ع. متظله).

استمرار التخيير استصحاب ذلك الحاكم على استصحاب الحكم المختار، والقول باختلاف الموضوع مدفوع بمامر في محله، من كفاية الوحدة العرفية.

الثالث: أنك عرفت ان الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين انما هو من باب التعبد بالاخبار الواردة في الباب وان مقتضى القاعدة بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية التوقف، وحينئذ فاللازم الاقتصار في ذلك على مورد الأخبار العلاجية، وهو صورة تعارض الخبرين، وحكم تعارض الامارتين القائمتين في غير الاحكام التوقف على حسب ما تقتضيه القاعدة، كماهو الظاهر.

المقام الثاني

فيا اذا كان لاحد الخبرين مزية على الآخر

والتكلم فيه يقع في امرين:

في وجوب ترجيح ذى المزية وحول تأسيس الأصل في المسألة

احدهما هل يجب الترجيح بواسطة وجود المزية في احد الخبرين ام لا، الثاني على فرض ذلك هل يقتصر على مزايا مخصوصة ام يتعدى الى كل مزية.

اما الامر الاول فالمشهور وجوب الترجيح، وقبل الشروع في الاستدلال لابد من تأسيس الاصل في المسألة.

فنقول: قد عرفت مقتضى الاصل الأولي في الخبرين المتعارضين بناء على الطريقية والسببية وانه على الاول التوقف وان كان لاحدهما مزية على الآخر، اذ مجرد المزي_ة لاحدهما على الآخر لا يصلح دل_ي_لاً على الخروج عن مقتضی أصالة عدم الحجية كمالا يخفى لكن كلامنا في هذا المقام بعد فرض حجية احد الخبرين من جهة التعبد بالاخبار انما الاشكال في ان الحجة خصوص ذي المزية او احد الخبرين على سبيل التخيير، فالمقام من دوران الامر بين التخيير والتعيين.

فنقول : بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية مقتضى الاصل التعيين،

ص: 660

لان ذا المزية حجة يقيناً وغيره مما لم يعلم حجيته، فيجب الاخذ بما يعلم حجيته، ولا يجوز الاخذ بما يشك في حجيته لانه تشريع.

و من هنا يظهر انه متى دار الامر بين التعيين والتخيير بين الطريقين فالاصل التعيين، وان قلنا في غير هذا المقام بالتخيير، لان اخذ الشيء طريقاً عبارة عن جعله مستندا للحكم الشرعي، ولا يجوز ذلك الا اذا علم بالحجية.

و اما ان قلنا باعتبار الاخبار من باب السببية فالمقام من قبيل المتزاحمين مع احتمال اهمية احدهما المعين، والذي يظهر من شيخنا المرتضى (قدّس سرُّه)(1) في مثل ذلك هو التعيين فان وجوب الاخذ بمحتمل الاهمية قطعي، لانه اما متعين في الواقع او يكون احد طرفي التخيير، بخلاف الطرف الآخر، فالاخذ بمحتمل الاهمية موجب لبرائة الذمة يقيناً، بخلاف الاخذ بالآخر وفصل شيخنا الاستاذ «دام بقاه» بين ان يكون منشأ الاهمية المحتملة اشدية المناط او اتحاده مع واجب اخر فان كان احتمالها ناشياً من الجهة الثانية فلا وجه لاستقلال العقل بوجوب ما كان منهما محتملا لها، بل العقل يستقل بالتخيير بعد الجزم بعدم العقاب على الواجب الآخر لو كان، فانه عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان ولو كان احتمالها ناشياً من الجهة الاولى فالظاهر استقلال العقل بالاشتغال وعدم الفراغ عن العهدة على سبيل الجزم الاباتيان مافيه الاحتمال، حيث ان التكليف به في الجملة ثابت قطعاً، وانما الشك في تعيينه : هل هو على سبيل التخيير او التعيين؟ وليست الجهة لو كانت تكليفاً آخر حتى يمكن نفيه باصالة البراءة، بل هي على تقديره من كيفيات ذلك التكليف المعلوم تعلقه به بداهة ان اقوائية جهة وجوب الاهم ليست جهة اخرى منضمة اليها كما لا يخفى انتهى كلامه «دام بقاه»(2).

ص: 661


1- الفرائد المقام الثاني في التراجيح، ص ٤٤٣.
2- تعليقة الفرائد هنا، ص ٢٦٠.

اقول : الاقوى عندى التخيير مطلقاً، لان التكليف الشرعي بمقتضى الدليل الاولى ثابت في كلا الطرفين، فالمقتضى للامتثال موجود فيها، وبعد عدم امكان الجمع ووجود المقتضى في كلا الطرفين تاما يحكم العقل بالتخيير، لان التعيين ترجيح بلا مرجح فان مقتضى الامتثال انما هو امر المولى، والعلم بان الواقع مطلوب للمولى من حيث هو وان احتمل عدم فعلية الطلب من جهة احتمال عروض عوارض اقتضت ذلك، وهو موجود في كلا الطرفين من دون تفاوت اصلا، نعم اشدية المناط توجب امراً آخر م_ن ق_ب_ل المولى على سبيل التعيين، بملاحظة حال التزاحم، وحيث لاسبيل الى العلم به، كما هو المفروض، فمقتضى الاصل البرائة.

و الحاصل انه فرق بين ما نحن فيه و بين دوران الامر الصادر من المولى بين التعيين والتخيير، فانه في الثاني لم يثبت امر من المولى متعلقاً بالطرف المشكوك، فالاتيان به لا يوجب البرائة من الامر المعلوم على سبيل الجزم، فيجب الاحتياط باتيان الطرف المعلوم، قضاء لاشتغال الذمة بالتكليف يقيناً، واما فيما نحن فيه فكل طرف اتى به يعلم انه متعلق للتكليف الثابت عليه اولا، نعم يحتمل ان يكون الآمر بواسطة الاهمية يرجح طرفاً معيناً(1) وحيث لم يثبت

ص: 662


1- ملخص المقام انه اما ان نقول في المتزاحمين بان كلاً من التخيير عند التساوي والتعيين عند الاهمية عقلي او بان الاول عقلي والثاني شرعي او بان كليهما شرعي، وقد عرفت الحال مما ذكره في المتن بناء على الاخيرين واما بناء على الاول فالحق ايضاً هو البرائه عن التعيين في صورة احتمال الاهمية فان التكليف بالاهم الواقعي في صورة عدم ابتلائه بالمهم كذلك، وان كان العلم به منجزاً له بمرتبته الواقعية واما مع ابتلائه بالمزاحم فلا نسلم ذلك، الا ترى انه لو علم بالمساواة او باهمية المزاحم فقدم ذلك المزاحم لا يكون معاقباً على ترك هذا الاهم الواقعي، مع انه في صورة عدم المزاحمة لو تركه بتخيل المرتبة الضعيفة من الوجوب لكان معاقباً، فيعلم من ذلك ان العلم بالتكليف في صورة المزاحمة منجز لاصله دون مرتبته.(م. ع. مدظله).

ذلك فالمؤاخذة عليه مؤاخذة بلا برهان فليتدبر.

و كيف كان فقد عرفت انه بناء على اعتبار الاخبار من باب الطريقية فمقتضى الاصل التعيين لانه مع دوران الامر بين الاخذ بما هو متيقن الحجية وما هو مشكوك الحجية فاللازم الاخذ بالاول فان جعل ماشك في اعتباره فعلاً مدركاً للحكم الشرعي تشريع محرم وحيث ان التحقيق اعتبار الاخبار من باب الطريقية فالاصل في المسألة التعيين. هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل في المقام.

في الاستدلال للترجيح بالاجماع

و اما الادلة التي اقاموها على الترجيح فامور نذكر بعضها، لعدم الفائدة في ذكر الجميع:

منها الاجماع، قال بعض الاساطين (قدّس سرُّه)(1) في طي امور استدل بها على المقصود ما لفظه :

الثاني: الاجماع بقسميه بل باقسامه من القولى والعملي المحقق والمنقول:

اما الاجماع المحقق القولى فطريق تحصيله مراجعة كتبهم خصوصاً الاصولية المعدة لذلك، فانهم ينادون باعلى صوتهم بوجوب العمل بارجح الدليلين، من غير خلاف محقق الاخلاف شاذ ممن عرفت فان الاطلاقات النادرة والاقوال الشاذة الصادرة عن بعض الآرا والاجتهادات في مق_اب_ل جمهور العلماء مما لا يعبأبه، والا لم يبق للاجماع في غير الضروريات من مسائل الفقه مورد ومحل، والحاصل ان هذا الاجماع كاحد الاجماعات الموجودة في المسائل الفقهية بل من اعلاها، فان كانت الاقوال الشاذة قادحة في الاجماعات فخلاف الجماعة قادح في هذا الاجماع، والا فلا.

و اما المنقول فقد ادعاه من اساطين الفن جمع كثير: ففي المبادى دعوى

ص: 663


1- هو المحقق الحاج الميرزا حبيب اللّه الرشتى «قدّس سرُّه» في بدايعه في مبحث التعادل والترجيح، ص ٤٣٠.

الاجماع على ترجيح بعض الاخبار على بعض، وعن النهاية ان الاجماع على العمل بالترجيح والمصير الى الراجح من الدليلين، وعن غاية المبادى اجماع الصحابة على العمل بالترجيح عند التعارض وعن غاية المأمول: «يجب العمل بالترجيح لان المعهود من العلماء كالصحابة ومن خلفهم من التابعين انه متى تعارض الامارات اعتمدوا على الراجح ورفضوا المرجوح»، وعن الاحكام ايضاً وجوب العمل بالدليل الراجح لما علم من اجماع الصحابة والسلف في الوقايع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنين، وعنه ايضاً في موضع آخر: «من تفتش عن احوالهم ونظر في وقايع اجتهاداتهم علم علماً لا يشوبه ريب انهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون اض_ع_ف_ها». وعن المختصر ما يقرب من ذلك ويمكن استفادة عدم الخلاف من المعالم وامثاله حيث قال «قدّس سرُّه» : ان التعادل يحصل من اليأس عن الترجيح بكل وجه، لوجوب المصير اليه او لا عند التعارض وعدم امكان الجمع (1)، وارسله ارسال المسلمات، ولم ينقل فيه خلافاً، وظاهره كما ترى اتفاق العلماء على ذلك، خصوصاً بعد تعرضه لخلاف بعض اهل الخلاف في التخيير مع التعادل وعدم تعرضه هنا.

والحاصل أن الوقوف في اثبات الاجماع محققاً ومنقولاً قولاً وفعلاً مبالغة في ايضاح الواضحات، خصوصاً العملى منه، نعم ليس في هذه الاجماعات ما يحكى عن فتوى الصحابة والعلماء، بل كلها حاكية عن عملهم، وهو يكفي في المقام، وليس دون الاجماع المنقول الاصطلاحي في الاستدلال هنا، انتهى موضع الحاجة من كلامه وانما خرجنا من وضع هذا الكتاب تيمنا بنقل كلماته الشريفة جزاه اللّه عن اهل الاسلام خيراً.

اقول : قد تحقق في محله ان الاجماع الذي هو احد من الادلة عبارة عن الاتفاق الكاشف عن قول الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) او فعله وتقريره (عَلَيهِ السَّلَامُ) كشفاً

ص: 664


1- المعالم خاتمة في التعادل والترجيح، ص ٢٥٠ طبع المؤسسة.

قطعياً، فلو حصلنا اتفاق الكل ولكن احتملنا ان يكون منشأ هذا القول منهم امرا لا يصح كونه مستنداً عندنا، فلم يتحقق عندنا اجماع محقق، كما لا يخفى، وفي المقام لما يمكن بل يظن ان مدرك فتوى القائلين بوجوب الترجيح بعض الوجوه الآتية فليس هذا الاتفاق بشيء، بل يرجع الى تلك الوجوه، هذا حال الاجماع المحصل الذي استدل به فكيف حال المنقول، مضافاً الى ان الناقلين لم ينقلوا الاجماع على وجوب الترجيح من الصحابة والعلماء، بل نقلوا عملهم على ذلك، وهو لا يكشف عن كونه واجباً عندهم.

الاستدلال لوجوب الترجيح بالعقل و الأخبار و الاشكال على دلالة الأخبار

ومنها ان العدول من الراجح الى المرجوح قبيح عقلاً بل ممتنع قطعاً، فيجب العمل بالراجح، لئلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح.

و فيه: انه ان اريد من الراجح ما هو كذلك بملاحظة الدواعي الشخصية للفاعل فترجيح المرجوح بهذا المعنى عليه محال، لكن ليس العمل بغير ذي المزية اختياراً للمرجوح، ضرورة انه مالم يترجح بحسب دواعيه الشخصية لم يعقل اختياره، وان اريد منه ما يكون كذلك عقلا فقد عرفت انه مع قطع النظر عن التعبد يحكم بالتوقف وعدم العمل بواحد منهما بالخصوص، فما دعت الى العمل باحد الخبرين عند التعارض الا الاخبار الواردة في الباب، فلابدان تلاحظ، فان دلت على التخيير مطلقاً حكم به، وان دلت على الترجيح حكم به ايضاً، وان قصرت دلالتها من هذه الجهة فلا بد من الرجوع الى الاصل الذي أسسناه.

وكيف كان التمسك بقبح ترجيح المرجوح على الراجح او امتناعه مما لا دخل له بالمقام.

و منها الاخبار الواردة من طرقنا المشتملة على جمع من وجوه الترجيح، وقد ذكرها شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في رسالة التعادل والترجيح، وهي العمدة في الباب عند مشايخنا «قدّس سرُّهم».

اقول : الانصاف ان اثبات وجوب الترجيح بهذه الاخبار مشكل من وجوه.

احدها اختلاف هذه الاخبار، حيث ذكر في بعضها موافقة الكتاب

ص: 665

والسنة، وفي بعضها مخالفة العامة واطلاق الاول يقتضى وجوب الاخذ بموافق الكتاب وان كان الآخر مخالفاً للعامة، وكذا اطلاق الثاني يقتضى وجوب الترجيح بمخالفة العامة وان كان الآخر موافقاً للكتاب، فاذا كان احد الخبرين موافقاً للكتاب والآخر مخالفاً للعامة فمقتضى اطلاق الاول الاخذ بالاول ومقتضى اطلاق الثاني الاخذ بالثاني.

و دعوى ان المقصود في المقام هو الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلى، ويحصل ذلك بواسطة دلالة تلك الاخبار في مورد الافتراق، مدفوعة، بان حمل كلام السائل في تلك الاخبار على خصوص مورد الافتراق في كمال البعد، كما لا يخفى، وحمل كلام الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ذلك - بعد فرض ان السائل لم ينظر خصوص هذا المورد بل سألعن مطلق تعارض ما ورد عنهم - يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو وان كان جايزاً ان اقتضت المصلحة ذلك، لكنه بعيد ايضاً.

فان :قلت هذا الاشكال جار بناء على حمل اخبار الترجيح على الاستحباب ايضاً، فلابد من حمل هذه الاخبار على خصوص مورد الافتراق على اى حال سواء قلنا بوجوب الترجيح او باستحبابه.

قلت: بناء على الحمل على الاستحباب يحمل على الحكم الحيثي، كغالب الاحكام المستحبة المتعلقة بالعناوين من حيث انها هي مع قطع النظر عن المزاحمات، بخلاف ما لو حملنا على الوجوب، فانه على هذا يصير كساير الاحكام الوجوبية المتعلقة بالعمل ظاهراً في الحكم الفعلي، فتامل(1)، وحملها

ص: 666


1- وجه الامر بالتأمل ان المقام ليس من قبيل الواجبين المتزاحمين كانقاذ الغريقين، حتى يقال ان فعلية الوجوب انما هو مع قطع النظر عن المزاحمات، وذلك لان التزاحم فرع ثبوت الملاك في كلا الطرفين، وهو مفقود في مقامنا بناء على الطريقية، مع ان الابتلاء بالمزاحم في مقامنا ليس نادراً كما في انقاذ الغريقين، فالحمل على الوجوب هيهنا ملازم مع النظر الى مادة الاجتماع، بخلاف الحمل على الاستحباب الشيوع الحكم الحبثي في ذلك الباب.(م. ع. مدظله).

على ان المراد مجرد الرجحان من اى وجه حصل ليس بأولى من حملها على ما ذكرنا.

ومنها : التعارض بين الخبرين المشتملين على جمع من وجوه الترجيح احدهما مقبولة عمر بن حنظلة (1)، والآخر مرفوعة زرارة (2)حيث انه مقتضى الأول منهما الاخذ برواية الاعدل والافقه وان كان الآخر اشهر، ومقتضى الثاني منها عكس ذلك، وايضاً بمقتضى الأول بعد فرض التساوى في الوجوه المذكورة فيه يجب التوقف حتى يلقى الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وبمقتضى الثاني يجب الاحتياط ان كان احدهما موافقاً له والا فالتخيير.

و منها : الاطلاقات الكثيرة الحاكمة بالتخيير من دون ذكر الترجيح اصلا، مع كونها في مقام البيان، وغلبة وجود احدى المرجحات في الخبرين المتعارضين، خصوصاً اذا تعدينا عن المنصوصة منها الى غيرها.

و الحاصل ان حمل تلك الاطلاقات الكثيرة على مورد تساوى الخبرين من جميع الجهات مع كونه نادراً بواسطة الامر بالترجيح في الاخبار الاخر ليس باولى من حمل الأخبار الدالة على الترجيح على الاستحباب، بل الاولى العكس، اذ ليس فيها الا الامر بالاخذ بذى المزية بصيغة أفعل، وهي وان قلنا انها حقيقة في الوجوب، لكن استعمالها في الشريعة في الاستحباب وصل الى حد انكر بعض اساطين الفن ظهورها في الوجوب لو لم تكن معها قرينة، وكيف تطمئن النفس بتقييد تلك الاطلاقات الواردة في مقام البيان بواسطة هذا الظهور الذي من كثرة خفائه صار مورداً للانكار، وان ابيت عن حمل الاخبار الواردة في الترجيح على الاستحباب فلا اقل من الاجمال لدوران الامر بين الظهورين: ظهور الاخبار المطلقة في التخيير، وظهور الاخبار الدالة على الترجيح فيه، فيعمل بالاصل في موارد وجود احدى المرجحات المنصوصة، وقد عرفت ان الاصل في

ص: 667


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ١.
2- المستدرك، الباب 9 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢.

المقام الترجيح بناء على حجية الاخبار من باب الطريقية، ويؤخذ باطلاق ادلة التخيير في غيرها.

فان قلت لا تعارض بين ظهور الاطلاق و ظهور الامر لان الثاني وضعى والاول مبنى على عدم البيان، وهو مفقود في المقام.

قلت: انعقاد ظهور الاطلاق موقوف على عدم وجود البيان المتصل بالكلام لا الاعم منه ومن المنفصل، ولذا لا يسرى اجمال القيد المنفصل الى الاطلاق بخلاف المتصل، ولو كان عدم القيد وان كان منفصلاً له دخل في انعقاد ظهور المطلق لكان اللازم عدم انعقاد ظهور الاطلاق فيما اذا وجد ما يمكن ان يكون قيداً منفصلاً عن الكلام والحاصل ان حكم المقيد المنفصل حكم المعارض مع الاطلاق، فاللازم الاخذ بما هو أقوى ظهوراً هذا.

ذكر أدلة التخيير لتحقيق المقام

و لكن الانصاف عدم ظهور للاخبار الدالة على التخيير، ولا بد من ذكر ما وقفنا عليه من تلك الاخبار:

فمنها : خبر سماعة عن ابي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه كلاهما يرويه احدهما يأمر باخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع ؟ قال يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعة حتى يلقاه(1).

و منها ما عن الحميرى عن الحجة روحى له الفداء الى ان قال: في الجواب عن ذلك حديثان الى ان قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) - وبايهما اخذت من باب التسليم كان صواباً(2).

و منها ما عن الحسن بن الجهم عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: قلت له: يجيئنا الاحاديث عنكم مختلفة، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ماجاءك عنا فقس على كتاب اللّه عزوجل واحاديثنا، فان كان يشبههما فهو منا، وان لم يكن يشبههما

ص: 668


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديثه 5.
2- الوسائل، الباب 9 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٣٩.

فليس منا، قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم ايهما الحق ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاذا لم تعلم فموسع عليك بايهما اخذت(1).

و منها ما عن الحرث بن المغيرة عن ابى عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: اذا سمعت من اصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترد اليه(2).

و منها ما عن على بن مهزیار :قال قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد الى ابى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) اختلف اصحابنا في روايتهم عن ابى عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم صلهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلهما الاعلى الارض، فوقع (عَلَيهِ السَّلَامُ) : موسع عليك باية عملت ((3).

و منها مرفوعة زرارة، وفيها بعد ذكر المرجحات إذن فتخير احدهما فتأخذ به، ودع الآخر(4).

هذا ما وقفنا عليه من الاخبار، ولا يخفى عدم ظهور لبعضها في التخيير بين الخبرين اصلاً كخبر سماعة، لقوة احتمال ان يكون المراد من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهو في سعة «الخ» (5)كون المكلف في سعة من الامر والنهي الواقعيين حتى يعلم

ص: 669


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٤٠.
2- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٤١.
3- الوسائل، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٤٤.
4- المستدرك، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢.
5- يمكن ان يقال بقرينة سائر الاخبار التي وردت في التوسعة في الأخذ بكون المراد من السعة في هذا الخبر ايضاً ذلك، فمقصوده (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الارجاء هو التوقف في مقام تعيين المدلول بالاستحسانات ومراده (عَلَيهِ السَّلَامُ) من السعة هو التخيير في الاخذ، فالانصاف تمامية دلالة هذه الرواية على الاطلاق كرواية حسن بن الجهم فان المذكور في ادلتها من مشابهة الكتاب والحديث وعدمها انما هو من باب تمييز الحجة عن اللاحجة، ولهذا فرض السائل بعد ذلك كون كلا الراويين ثقة حتى يكون من باب تعارض الحجتين، فجوابه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالتوسعة في هذا الفرض مطلق بالنسبة الى وجود المرجح وعدمه، كما ان رواية الحرث بن المغيرة بواسطة كون التوسعة فيها مغيّاة برواية الحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ) يبعد حملها على حجية قول الثقة من دون ملاحظة حال التعارض بل الظاهر بقرينة سائر الاخبار حملها على التخيير في الاخذ في صورة التعارض، فظهر مما ذكرنا ثبوت الاطلاق في الاخبار. ولا يخفى ان التصرف في هيئة المقيدات الدالة على الترجيح بحملها على الاستحباب حفظاً لاطلاق مادة هذه الاخبار الواردة في مقام البيان وان كان يساعده الاعتبار، لكن بناء المشايخ في مقام استدلالاتهم جرى على خلافه، وقد صار حمل المطلق على المقيد عندهم من المسلمات، ولا يخفى وجود ذلك في اخبار الترجيح ايضاً، بمعنى وجود المطلق والمقيد في نفس تلك الاخبار، ولو مع الغض عن اطلاق اخبار التخيير.(م. ع. مدظله).

حكم الواقعة، لا انه في سعة الاخذ باحد الخبرين، كما هو المدعى، وكخبر الحرث بن المغيرة لاحتمال ان يكون المراد حجية قول الثقة من دون ملاحظة حال التعارض، فهو على هذا من الادلة الدالة على حجية قول الثقة، فتأمل.

و أما التوقيع الشريف و خبر على بن مهزيار فهما وان كانا دالين على التخيير بين الخبرين في الجملة ولكن لورودهما في المستحبات لا اطلاق لهما بحيث يشملان موارد الالزاميات فلو قال قائل باختصاص التخيير بالمستحبات كما هو احد الاحتمالات فلا يدلان على خلافه، وكذا لورودهما في المورد الخاص اعنى تعارض الخبرين المخصوصين لا اطلاق لهما بحيث يشمل ثبوت التخيير حتى في مورد وجود المرجح، اذ لعل الحكم بالتخيير فيهما من جهة عدم وجود المرجح.

نعم خبر حسن بن الجهم لا اختصاص له بالمستحبات، وان كان يشترك معهما في عدم الدلالة على التخيير حتى في صورة وجود المرجح.

تحقيق المرجّحات المنصوصة

فظهر مما ذكرنا عدم ثبوت اطلاق لادلة التخيير حتى تشمل صورة وجود المرجح، فلو دل الدليل على ثبوت الترجيح يؤخذ به من دون تزاحم اصلاً، فلنشرع في بيان ادلة الترجيح :

إعلم ان الاخبار الدالة (1) على تقديم الخبر الموافق للكتاب والمخالف للقوم بالغة حد الاستفاضة، بل لا يبعد دعوى التواتر فيها، وان كان في القسم الاول

ص: 670


1- راجع الوسائل والمستدرك، الباب 9 من ابواب صفات القاضي.

مايدل على عدم حجية المخالف للكتاب، فالاخذ بموافق الكتاب من جهة حجيته وعدم حجية غيره، ولكن فيه ايضا ما يدل على كون موافقة الكتاب مرجحة فيما اذا تعارض الخبر ان الجامعان لشرايط الحجية، كما لا يخفى على الناظر في الاخبار.

ثم ان الادلة الدالة على الترجيح بهما وان كان بعضها مقتصراً على خصوص موافقة الكتاب والآخر مقتصراً على مخالفة القوم ولكن فيها مايدل على الترتيب بينهما وان الترجيح بمخالفة القوم مختص بما اذا لم يكن لاحد الخبرين شاهد من كتاب اللّه تعالى، فتلخص من جميع ما ذكرنا ان الترجيح بموافقة الكتاب لازم ثم بمخالفة القوم.

و اما الترجيحات الاخر المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة كأعدلية الراوى واو ثقيته واصدقيته، وكذا الشهرة بين الاصحاب، فيمكن ان يقال بعدم دلالتهما على الترجيح بماذكر في صورة تعارض الخبرين، كما هو مفروض البحث.

اما ما ذكر من الاعدلية ونظائرها في المقبولة فلأنها في مقام تقديم حكم احد الحكمين في مقام رفع الخصومة، ولا تدل على وجوب الترجيح في صورة تعارض الخبرين للمجتهد.

و اما ما ذكر منها في المرفوعة فان الظاهر بقرينة سؤال السائل بعد ذلك : «هما عدلان مرضیان» انه ليس المراد من الاعدل من كان هذا الوصف فيه اكثر واشد بعد اشتراكهما في اصل الصفة، بل المراد من كان منهما عادلاً، فهو من قبيل «اولوا الارحام بعضهم أولى ببعض وحاصله يرجع أولى ببعض» وحاصله يرجع الى وجوب الاخذ بخبر العادل لكونه حجة وطرح الآخر لكونه غير حجة.

و اما الشهرة فالظاهر بقرينة قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المقبولة: «فان المجمع عليه لا ريب فيه» وادراج الخبر المشتهر بين الاصحاب في جملة الامور التي رشدها بين أن الترجيح بها ليس من الترجيحات الظنية التي تعبدنا الشارع بها، بل تقديم

ص: 671

الخبر المشتهر بين الاصحاب من جهة انه مقطوع به وأن غيره مقطوع الخلاف(1) وحمل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) لاريب فيه على عدم الريب بالاضافة الى الآخر فيجب الاخذ به تعبداً ركيك جداً من دون داع الى هذا الحمل، لوضوح ان الخبر اذا صار مشتهراً بين الشيعة رواية وفتوى وعملاً كما هو الظاهر من الاشتهار بين الاصحاب يوجب القطع بصحته وأن مضمونه هو حكم الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ولازم ذلك صيرورة غيره مقطوع الخلاف، فليس تقديم الخبر المشتهر بين الاصحاب من جهة الترجيح الذي يتكلم فيه.

حول التعدي الى مرجّحات غير منصوصة

الامر الثاني : اذا بنينا على الترجيح فهل يقتصر على المرجحات المنصوصة ام لا.

ذهب شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» الى الثاني(2)واستفاد ذلك من أمور: احدها الترجيح بالاصدقية والاوثقية، فان اعتبارهاتين الصفتين ليس الا لترجيح الاقرب الى مطابقة الواقع في نظر الناظر وليس للسبب الخاص دخل، ومنها تعليله (عَلَيهِ السَّلَامُ) الاخذ بالمشهور بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فان المجمع عليه لا ريب فيه» فانه بعد القطع بان ما يرويه المشهور لا يضير مما لا ريب فيه واقعاً والا كان غيره مقطوع الخلاف ولم يمكن فرضهما مشهورين يجب ان يكون المراد من قوله «فان المجمع عليه لا ريب فيه» انه كذلك بالاضافة الى غيره، فيستفاد من التعليل المذكور قاعدة كلية: وهي ان كل خبر يكون مما لا ريب فيه بالاضافة الى معارضه يؤخذ به، ومنها تعليلهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لتقديم الخبر المخالف لمقوم بان «الحق والرشد في خلافهم» فانه يدل على وجوب ترجيح كل ما كان معه امارة

ص: 672


1- ولا ينا في ذلك فرض السائل بعد ذلك انها مشهوران، وذلك لان الامر دائر بين التصرف في هذه الفقرة بالحمل على المساواة في عدد المخبرين عدداً يوجب القطع لولا المزاحمة بالمثل، وبين التصرف في تلك الفقرات العديدة، ولا ريب ان الاول اهون واولى. (م. ع. مدظله).
2- الفرائد التعادل والترجيح المقام الثالث، ص ٥١ - ٤٥٠.

الحق والرشد هذا.

و في الكل نظر: لان الترجيح بالصفات قد عرفت حاله، وكذا الترجيح بالاشهرية، واما الترجيح بمخالفة القوم والتعليل بأن الرشد في خلافهم فلا يدل الا على ان الخبر الذي يكون معه هذا المرجح يؤخذ به لكونه معه اقرب الى الواقع واقعاً وفي نظر الشارع، لا لكونه اقرب في نظر الناظر، ولو جعل الشارع عند التعارض الخبر الذي يخالف القوم حجة لعلمه بانه غالب الوصول الى الواقع دون غيره فكيف يصح لنا التعدى منه الى كل خبر يكون معه شيء يرجح في نظرنا مطابقته للواقع، مع عدم العلم بالغلبة التي صارت موجبة لجعل الشارع هناك، مثلا اذا جعل الشارع خبر الثقة لنا حجة وان نقطع بان جهة حجيته كونه طريقاً الى الواقع وموصلاً اليه في الغالب لكن لا يصح لنا ان نعمل بكل ما يفيد الظن لنا، لان ملاك حجية خبر الثقة وان كان غلبة الوصول لكن وجوده في الظن الحاصل لنا من سبب آخر غير معلوم.

و من هنا يظهر أن الاقوى بناء على الاخذ بالمرجحات الرجوع فيما لم يكن هناك احدى المرجحات المنصوصة الى اطلاق التخيير إن تم دلالة الادلة الدالة على التخيير والا فالى الاصل.

***

بقى في المقام ما يجب تعرضه وهو بعض الاشكالات الواردة في بادى النظر على مقبولة عمر بن حنظلة، والاولى نقلها بتمامها ولعله من بركاتها يزول كل شبهة أوردت عليها.

اقول: روى المشايخ الثلاثة باسنادهم عن عمر بن حنظلة قال سألت اباعبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة ايحل ذلك ؟ قال: من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت، وما يحك_م ل_ه فانما يأخذه سحتاً، وان كان حقه ثابتاً، لانه اخذ بحكم الطاغوت، وانما امر اللّه ان يكفر

ص: 673

به، قال اللّه تعالى : «يريدون ان يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به» قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظر ان الى من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما، فانی قد جعلته عليكم حاكماً، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما بحكم اللّه استخف، وعلينا قد رد، والراد علينا الراد على اللّه، وهو على حد الشرك باللّه، قلت: فان كان كل رجل يختار رجلاً من اصحابنا فرضيا ان يكونا ناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): الحكم ما حكم به اعدلهما وافقهما واصدقهما في الحديث واورعهما، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر، قلت: فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمها، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند اصحابك، فان المجمع عليه لاريب فيه، وانما الامور ثلاثة امر بین رشده فيتبع وامر بين غيّه فيجتنب، وامر مشكل يرد حكمه الى اللّه، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات وم_ن أخ_ذ بالشبهات وقع في المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم قال: قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به، ويترك ماخالف الكتاب والسنة ووافق العامة، قلت: جعلت فداك ارايت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، فوجدنا احد الخبرين موافقاً للعامة، والآخر مخالفاً بأى الخبرين يؤخذ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت: جعلت فداك، فان وافقهم الخبران جميعاً ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينظر الى ما هم أميل اليه حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر، قلت: فان وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) اذا كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند

ص: 674

الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات(1)، هذا.

رفع بعض الشبهات عن مقبولة عمر بن حنظلة

و اما الاشكالات الواردة فهى من وجوه

احدها: ان قطع المخاصمات وفصل الخصومات لا يناسبه تعدد الحاكم والفاصل.

و الثاني: ان مقام الحكومة آب عن الغفلة عن معارض مدرك الحكم، فكيف يصح الحكمان ويرجح احدهما على الآخر.

و الثالث: ان اجتهاد المترافعين وتحريهما في مدرك حكم الحاكم لا يجوز اجماعاً.

الرابع: ان اللازم مع التعارض الاخذ باسبق الحكمين، اذ لا يبقى للمتاخر مورد، هذا ان كان احدهما سابقاً على الآخر، وان صدرا دفعة فاللازم التساقط دون الترجيح.

و الخامس: ان الامر في تعيين الحاكم انما هو بيد المدعى، فينفذ حكم من اختاره في الواقعة، وقد فرض في الرواية الامر بيدهما وتحريهما بعد اختلافهما في الحكم.

و حسم مادة الاشكال باحد وجهين :

إما بان يخرج الواقعة من المخالفة والمخاصمة وتحمل على السؤال عن المسألة المتعلقة بالاموال التى صارت منشأ للنزاع والحاصل ان المتنازعين لما كان منشأ نزاعهما الشبهة في حكم المسألة فيجب رجوعهما الى رواة الحديث ليعلما حكم الواقعة ويرتفع النزاع من بينهما، وحينئذ لا اشكال اصلاً.

و إما بحملها على مورد التداعى فيصح ان يختار كل منهما غير من يختاره الآخر، فينفذ حكم كل منهما على من اختاره دون الآخر، نعم يظهر من الرواية

ص: 675


1- الوسائل الباب 9 و 11 من ابواب صفات القاضي الحديث ١ والباب ١٢ منها، الحديث ٩. اصول الكافي، ج 1، باب اختلاف الحديث، الحديث ١٠، ص ٨-٦٧.

انه لو كان احدهما اعلم وافقه فليس لاحد اختيار غيره، ويمضى حكمه على الطرفين، وكيف كان فيرتفع ماذكر من الاشكالات:

أما اشكال تعدد الحكمين فلما مضى.

و أما إشكال غفلة كل منهما عن مدرك حكم الآخر فلامكان اطلاع كل منهما على ذلك، ولكن يعتقد عدم صحته، كما هو غير عزيز.

و أما اشكال لزوم الاخذ بالاسبق فلأنه فيما لو كان الحكم نافذاً على الطرفين، وما نحن فيه ليس كذلك، لان المفروض ان كل واحد اختار حكما غير من اختاره الآخر، فلا ينفذ حكم من اختار احدهما على الآخر وان كان سابقاً.

و اما اجتهاد المترافعين فلأنه بعد ما كانت الشبهة حكمية ولم ترتفع بالحكومة امرهما الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالنظر في ادلة نفس الواقعة واستنباط الحكم منها حتى يرتفع نزاعهما، والامر بترجيح احد الحكمين اذا كانت فيه احدى المرجحات المذكورة في الرواية من جهة ان حكمهم في الصدر الاول كان مطابقاً لمضمون الرواية واللّه العالم.

و ينبغي التنبيه على امور :

حول اعتبار الظنّ الشخصي في الترجيح

احدها: بناء على وجوب الترجيح لو بنينا على التعدى من المرجحات المنصوصة الى غيرها فهل يعتبر الظن الشخصى ؟ بمعنى ان الخبرين المتعارضين اذا كان مع احدهما أمارة توجب الظن الفعلى بكونه مطابقاً للواقع نأخذ به ونقدمه على الآخر والافحالهما سواء وان كان مع احدهما ما يوجب أقربيته الى الواقع نوعاً، أو أن المعتبر الظن النوعى وان لم يوجب الظن شخصاً، أو أن المعتبر ابعدية احدهما عن الخلاف بحيث لو فرض العلم بصدق احدهما وكذب الآخر كان احدهما ابعد عن الكذب واقرب الى الصدق؟

ص: 676

لا ينبغى الاشكال في عدم اعتبار الظن الشخصي، لان المرجحات المنصوصة في الاخبار كموافقة الكتاب ونظايرها لا تستلزم الظن الشخصي، مع وجوب الاخذ بها بناء على وجوب الترجيح، فالملاك المأخوذ من الاخبار ليس الظن الشخصى، لعدم اعتبار ذلك في الاصل، فيبقى الاخيران.

واستظهر شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» من تعليلهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لتقديم الخبر المخالف للعامة بان الحق والرشد في خلافهم، ومن تعليلهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لاخذ الخبر الموافق للمشهور بانه لا ريب فيه أن الملاك في الترجيح كون احدهما ابعد عن الباطل من الآخر وان لم يكن. معه امارة المطابقة (1) وتقريب ذلك أن قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) «ان المجمع عليه لا ريب فيه» بعد العلم بان المراد ليس نفي ال_ري_ب عنه حقيقة يراد منه انه لا ريب فيه بالاضافة الى الآخر، فيتحصل من هذا التعليل ان الملاك في الترجيح كون احد الخبرين بالاضافة الى الآخر اقرب الى الواقع وابعد عن الباطل وان لم يكن معه ما يوجب اقربيته الى الواقع على نحو الاطلاق، وكذا تعليلهم الاخذ بالخبر المخالف للقوم بان الحق والرشد في خلافهم.

اقول لا يظهر من الاخبار بعد فرض جواز التعدى ان الملاك ما افاده «قدّس سرُّه» لان قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فان المجمع عليه لا ريب فيه» بعد تعذر حمله على ظاهره يجب حمله على الرجحان الفعلى او النوعي، وكذا قولهم: «فان الحق والرشد في خلافهم» اذ الظاهر انه لوحظ كون خلافهم طريقاً الى الواقع، ويؤيد ذلك ما في بعض الاخبار من امرهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بالاستفتاء من فقيه البلد والعمل بخلاف ما يفتى(2)، ومن انهم ليسوا من الحنيفية على شيء(3) وغير

ص: 677


1- الفرائد بحث التعادل والترجيح، المقام الثالث، ص ٥١ - ٤٥٠.
2- الوسائل، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢٣.
3- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٣٢.

ذلك مما يوجد في الاخبار، وكيف كان بناء على التعدى فلا وجه لترجيح غير ما يكون مؤيداً بما يفيد الظن نوعاً.

الثاني: قد عرفت مما ذكرنا سابقاً ان تقديم النص الظني السند او الجهة او كليهما على الظاهر وان كان قطعى السند مما يحكم به العرف، ولازم ذلك عدم التوقف الذي هو الاصل الاولى في تعارض الخبرين فيما اذا كان احدهما عاماً والآخر خاصاً وامثال ذلك من النص والظاهر، وكذا الحكم في الاظهر والظاهر، وهل يكون مورد التخيير والترجيح ايضاً غير ماذكر او هو عام؟

وجهان:

اقصى ما يقال للاول ان مورد الاخبار الواردة في العلاج هو الخبران اللذان يتحير العرف فيهما دون ماله طريق جمع مرتكز في اذهانهم وجرى عليه ديدنهم.

هل تعمّ أخبار العلاج ما كان بينهما جمع عرفي ؟

اقول: قد ذكرنا سابقاً ان العرف يعاملون مع الخاص الظني معاملة الخاص القطعى في تقديمه على العام وتحكيمه عليه، ولكن لا اشكال في انه لم يكن منشأ لانعقاد ظهور آخر وصرف ظهور العام كالقرينة المتصلة حتى لا يبقى تعارض في البين ولا يحسن السؤال عن حكمهما ولا يشمله الاخبار الواردة في تعارض الخبرين.

و بعبارة اخرى: تارة يقال بان الخاص المنفصل كالمتصل في صرف ظهور العام وانعقاد ظهور آخر لمجموع الكلامين، واخرى يقال بان العام وان لم يصرف عن ظهوره المنعقد ل_ه بورود الخاص المنفصل ولكن في مقام تعارض الخاص المذكور مع العام العرف يقدمون الخاص عليه، والاول يكذبه وجدان كل احد، والثاني لا يستلزم حمل السؤالات الواردة في الأخبار على غير الموارد المذكورة (1) اذ

ص: 678


1- بل الظاهر انصراف الاخبار الى غير موارد الجمع العرفي، لعدم صدق التنافي بين الكلامين مع وجود الجمع المذكور، وعدم سراية الشك الى السند مع عدم التنافي، بل نقول وهكذا الكلام في العامين من وجه ايضاً، بمعنى انصراف الاخبار عن شمولهما، فان ادراج مادة الاجتماع في كل منهما لا يخرجهما عن قانون المحاورة غاية الامر عدم الدليل على اندراجه في ايهما معيناً، وعدم السبيل الى فهم المراد من الكلامين غير ورود الكلامين المتنافيين، نعم يبقى الاشكال فيما اذا انفصل الخاص عن العام بمدة مديدة، كما اذا صدر العام من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) والخاص من العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ)، اذ الامر حينئذٍ يدور بين امور كلها بعيدة، اما سهو الرواة عن نقل القرينة المتصلة مع العام، واما تعمدهم باسقاطها؛ واما وقوع النسخ في زمان الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بحيث كان مبدئه من زمانهم لا من زمان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) وكان الكشف عنه بلسان الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإما الالتزام بالتخصيص المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة بمدة، بل والاغراء بالجهل بسبب بيان الخلاف، وهو وان لم يكن علة تامة للقبح لكنه في البعد بمكان لا يقصر عما سبقه، ففي مثل ذلك قد يتوهم شمول الاخبار العلاجية، لكن الاقوى خلافه ايضاً لانه اذا جرى دأب المتكلم على تفريق كلماته في مجالس عديدة يندرج حمل عامه المنفصل على خاصه كذلك ولو بمدة تحت قانون المحاورة العرفية. (م. ع. مدظله).

المرتكزات العرفية لا يلزم ان يكون مشروحة ومفصلة عند كل احد حتى يرى السائل في هذه الاخبار عدم احتياجه الى السؤال عن حكم العام والخاص المنفصل وأمثاله، اذ ربّ نزاع بين العلماء يقع في الاحكام العرفية، مع انهم من اهل العرف، سلّمنا التفات كل الناس الى هذا الحكم حتى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الاخبار فمن الممكن السؤال ايضاً لاحتمال عدم

امضاء الشارع هذه الطريقة، وعلى هذا يجب ان يؤخذ باطلاق الاخبار.

ويؤيد عموم الاخبار ماورد في رواية الحميرى عن الحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ)، من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «في الجواب عن ذلك حديثان: اما احدهما فاذا انتقل من حالة الى اخرى فعليه التكبير واما الآخر فانه روى انه اذا رفع راسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير «الخ»(1) ولا شك ان الثاني اخص من الاول مطلقاً، أ، مع انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) امر بالتخيير بقوله في آخر الخبر: «وبايهما اخذت من باب التسليم كان صواباً».

و كذا ما رواه على بن مهزيار قال: قرات في كتاب لعبداللّه بن محمد الى

ص: 679


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٣٩.

ابى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): اختلف اصحابنا في رواياتهم عن ابي عبداللّه في ركعتى الفجر في السفر، فروى بعضهم صلهما في المحمل، وروى بعضهم لا تصلهما الا على وجه الارض «الخ»(1) وظاهر ان الروايتين من قبيل النص والظاهر، لان الاولى نص في الجواز والثانية ظاهرة في عدمه لامكان حملها على ان ايقاعها على الارض افضل، مع انه (عَلَيهِ السَّلَامُ) امر بالتخيير بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): ««موسع عليك باية عملت» ودعوى السيرة القطعية على التوفيق بين الخاص والعام والمطلق والمقيد من لدن زمان الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وعدم رجوع احد من العلماء الى المرجحات الاخر يمكن منعها، كيف ولو كانت لما خفيت على مثل شيخ الطايفه «قدّس سرُّه» فلا يظن بالسيرة، فضلاً عن القطع، بعد ذهاب مثله الى العمل بالمرجحات في تعارض النص والظاهر كما يظهر من عبارته المحكية عنه في الاستبصار والعدة، وقد نقل العبارتين شيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» في رسالة التعادل والترجيح(2) فلاحظ.

حول الموازين المذكورة لتشخيص الأظهر عند الاشتباه

الثالث: لو بنينا على تقديم الاظهر فمتى علم كون احد الدليلين اظهر من الآخر فلا اشكال ومتى اشتبه الحال فقد ذكروا لتشخيص الاظهر اموراً لا بأس بذكر بعضها :

منها : انه لو دار الامر بين التخصيص والتقييد فالثاني مقدم، نظراً الى ان الاطلاق ليس معنى وضعياً لللفظ، وانما حكم به من جهة مقدمات احداها عدم البيان على القيد ومتى ورد دليل يوجب التقييد وان كان من الالفاظ الدالة على العموم يقدم على الاطلاق لارتفاع موضوعه بذلك.

و فيه ان عدم البيان الذي اعتبر في تحقق الاطلاق هو عدم البيان المتصل، لا الاغم منه ومن المنفصل، كما لا يخفى.

ص: 680


1- الوسائل الباب 9 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٤٤.
2- الفرائد المقام الرابع (من بحث التعادل والترجيح)، ص ٤٥٢.

فالاولى في الدوران بين التخصيص والتقييد ملاحظة الخصوصيات الموجودة في المقام ان كانت.

و منها: انه لودار الامر بين النسخ والتخصيص فالثاني مقدم، نظراً الى قلة الاول وشيوع الثاني حتى اشتهر انه ما من عام الا وقد خص.

اقول : ندرة الاول وشيوع الثاني ان كانا مرتكزين في ذهن العرف بحيث يصيران كالقرائن المكتنفة بالكلام فهو والا فمجرد الظن لا ينفع ولا دليل على اتباعه.

نعم يمكن ان يقال في الخصوصيات الواردة في كلام الائمة بالنسبة الى عمومات الكتاب او السنة النبوية يتعين التخصيص، لان النسخ وان أمكن وقوعه عقلاً، بان كان الناسخ مودعا عندهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، لكن وقوعه ولو نادراً غير محقق، مضافاً الى ما ورد عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من ان حلال محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) حلال الى يوم القيامة، وكذا حرامه (عَلَيهِ السَّلَامُ) (1) الظاهر في ان جنس الحكم المودع عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) لا يتغير ولا يتبدل اصلاً، كما لا يخفى، مضافاً الى ارتكاز هذا المعنى في ذهن المسلمين.

حول انقلاب النسبة بعد التخصيص

فان قلت كيف يحمل على التخصيص ؟ مع حضور وقت العمل بتلك العمومات وهل هو الا تاخير البيان عن وقت الحاجة القبيح عقلاً!

قلت: قبح ذلك نظير قبح الكذب يمكن ان يرفع بالوجوه والاعتبار، فقد تقتضى المصلحة اخفاء القرينة على الحكم الواقعي، كما انه قد تقتضى عدم بيانه وايكال الناس الى العمل بحكم الشك، وبعبارة اخرى: تأخير البيان عن وقت العمل ليس علة تامة للقبح كالظلم حتى لا يمكن تخلفه عنه، واذا لم يكن كذلك فقبحه فعلاً منوط بعدم جهة محسنة تقتضى ذلك.

الرابع: تعيين النص والاظهر فيما لو كان التعارض بين المتعارضين لا

ص: 681


1- اصول الكافي باب البدع والرأى والمقاييس، الحديث ١٩ ج 1، ص ٥٨.

اشكال فيه واما اذا كان التعارض بين ازيد منهما فقد يشكل الأمر، من حيث ان ملاحظة علاج التعارض بين اثنين منهما قد توجب انقلاب النسبة مع الآخر، مثلا لو ورد اكرم العلماء وورد ايضاً لا تكرم الفساق من العلماء، ونعلم من الاجماع ونحوه عدم وجوب اكرام النحويين، فقد يتخيل ان العام بعد القطع بخروج النحويين منه يصير بمنزلة قولنا اكرم العلماء الغير النحويين، والنسبة بينه وبين الخاص الآخر اعنى: لا تكرم الفساق من العلماء، تكون عموماً من وجه.

و هذا فاسد من جهة أن ورود كل من الخاصين على العام انما يكون في مرتبة واحدة وان كان احدهما قطعياً والآخر دليلاً لفظياً قطعي الاعتبار.

نعم لو كان دليل التخصيص مكتنفا بالكلام، بحيث انعقد للكلام ظهور واحد، ودليل التخصيص الآخر منفصلاً عنه يجب ان يلاحظ نسبة ذلك المخصص المنفصل مع ذلك ال_ع_ام المخصص، لكن مع كونهما منفصلين لا وجه لملاحظة احدهما قبل الآخر وتخصيص العام به ثم ملاحظة الخاص الآخر مع العام المخصص، وهذا واضح.

وقال شيخنا الاستاذ «دام بقائه» في وجه عدم انقلاب النسبة: ان النسبة انما هي بملاحظة الظهورات، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعياً لا ينثلم به ظهوره وان انثلم به حجیته «انتهی»(1).

اقول : الذي لا ينثلم هو ظهوره في المعنى التصوري، اعنى الملقى في ذهن السامع حين سماعه، وأما ظهوره في ارادة المتكلم فلا شك في اختلافه بعد التخصيص بالمنفصل، اذ قبله ظاهر في ارادة الجميع على حد سواء، وبعده يقطع بعدم ارادة البعض المخرج ويصير ظهوره في ارادة الباقي اقوى، ولذا قد يصير كثرة التخصيص الى مرتبة يقطع بارادة الباقي.

ص: 682


1- كفاية الاصول مبحث التعادل والترجيح، ج ٢، (ص ٤٠٦، ط المشكيني).

و العمدة في عدم الانقلاب ما ذكرنا من كون الخصوصات في عرض واحد لا وجه لملاحظة بعضها قبل الآخر حتى يوجب انقلاب النسبة.

و من هنا يظهر انه لو كان النسبة بين المتعارضين عموماً مطلقاً بعد تخصيص احدهما بخاص يعامل مع ذلك العام المخصص ومقابله معاملة العام والخاص المطلق، وان كان بينهما التباين قبل ذلك التخصيص (1)، كما لو ورد: ثمن العذرة سحت، وورد ايضاً ثمن العذرة لا بأس به، وورد ايضاً: ثمن عذرة المأكول اللحم لا باس به، يجب تخصيص الدليل الاول واخراج عذرة المأكول اللحم منه ثم ملاحظته مع الدليل الثاني اعنى قوله : ثمن العذرة لا بأس به، والسرفي ذلك انه ليس تعارض المقيد مع المطلق والمطلق الآخر معه على نسق واحد، فيجب تقييد المطلق بذلك المقيد، وبعد التقييد يصير في حكم المقيد، فيقيد اطلاق الآخر به، فليتأمل جيداً.

ثم انه في الفرض الاول اعنى صورة تعارض العام مع الخصوصات اذا بقى من العام بعد خروج تلك الخصوصات مقدار لم يكن ارادته منه بشيعة فالحكم ما ذكرنا، واما اذا لم يكن كذلك بان يكون الخصوصات مستوعبة لافراد العام، او لم يبق بعد اخراجها مقدار يصح حمل العام عليه، فيقع التعارض بين العام ومجموع الخصوصات، وحالهما حال المتباينين فحينئذ لا يخلو إما ان يكون كل من العام والخصوصات متساويين في السند وإما لا، وعلى الثاني إما ان يكون العام ارجح سنداً من جميع الخصوصات وإما بالعكس، وإما ان يكون راجحاً

ص: 683


1- قد عرفت في بعض الحواشي السابقة خروج المتباثنين عن قانون المحاورة العرفية وان كان بينها قدر متيقن ووجود الشاهد الخارجي لا يخرجهما عن ذلك وعلى هذا فلابد من الرجوع الى الاخبار العلاجية فيهما وجعل ذلك الخاص مرجحاً لما وافقه، فالمتعين التمثيل للمقام بالعامين من وجه مع الخاص المطلق، كما في اكرم العلماء، ويستحب اكرام العدول، ويحرم اكرام فساق العلماء، فانه بعد تخصيص الأول بالثالث يصير النسبة بينه وبين الثاني عموماً مطلقاً.(آية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمد علي الاراكي مدظله العالي).

بالاضافة الى بعض الخصوصات ومتساوياً بالاضافة الى الباقي، او مرجوحاً كذلك، وإما ان يكون مرجوحاً بالنسبة إلى بعض، ومساوياً بالنسبة الى الآخر.

ففي الصورة الاولى : يحكم بالتخيير، فان اخذنا بالخصوصات يطرح العام كلية، وان اختير العام فلا وجه لطرح الخصوصات رأساً، اذ التباين مع المجموع، لا مع كل واحد فحينئذ يطرح منها مقدار لم يكن للاخذ بالباقي محذور، فحينئذ يقع التعارض بين الخصوصات، فيحكم بالتخيير، لعدم الترجيح كما هو المفروض.

و في الصورة الثانية: يؤخذ بالعام، بناء على الاخذ بالترجيح، ويطرح من الخصوصات مالم يكن في الاخذ بالباقي محذور، فحينئذ يلاحظ الترجيح في الخصوصات ان كان والافالتخيير.

و في الثالثة: يؤخذ بجميع الخصوصات ويطرح العام.

و الصور الباقية متحدة في الحكم مع الصورة التي لم يوجد ترجيح في البين اصلاً، اذ التباين انما يكون بين العام والبعض المبهم من بين الخصوصات، وترجيح احد هذين المتباينين على الآخر لا يكون الا بترجيح العام على تمام الخصوصات او ترجيحها عليه، فليتدبر.

هل بين المزايا ترتيب أم لا؟

الخامس: لو بنينا على الترجيح و اقتصرنا على المرجحات المنصوصة مع ملاحظة الترتيب بينها فلا اشكال في وجوب الاخذ بالمزية الملحوظة سابقة وعدم الاعتناء بالاخرى الملحوظة لاحقة وان لم نقتصر عليها بل تعدينا الى كل ما يوجب الاقربية الى الواقع او الا بعدية عن الخلاف او قلنا بناء على الاقتصار: ان ادلة الترجيح انما تكون في بيان ذكر المرجحات دون الترتيب بينها، فمتى وجدت في احد المتعارضين احدى المزايا الموجبة لاحد المناطين بناء على الاول، ووجدت اخرى في الآخر كذلك، او وجدت احدى المزايا المنصوصة في احدهما، واخرى في الاخر يحكم بالتخيير سواء كانت المزيتان راجعتين الى الصدور او احداهما اليه والأخرى الى جهته.

ص: 684

و الوجه في ذلك بناء على التعدى ان ملاك الاخذ باحدهما معيناً كونه - لو فرض كذب احد المتعارضين وصدق الآخر- اولى بالمطابقة للواقع، او كونه منضماً الى شيء يوجب اقربيته الى الواقع على الاختلاف الذي ذكرناه سابقاً في فهم الملاك من الاخبار، وعلى كل حال مخالفة العامة عدت في الاخبار مما يتحقق به ملاك الترجيح كالاعدلية وامثالها، فلو كان احد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم وكان رواة المطابق لهم اعدل يحكم بالتخيير، لان ملاك الترجيح في كل منهما على نهج واحد لامزية لأحدهما على الآخر.

و هكذا الكلام على القول بالاقتصار على المرجحات المنصوصة، بناء على ان الاخبار ليست في بيان الترتيب، بل هي في مقام تعداد المرجحات، لانه كما ان الاعدلية عدت في الاخبار من المرجحات كذلك مخالفة العامة ايضاً عدت منها، فلا وجه لترجيح خبر الاعدل المطابق للعامة على غيره المخالف لهم، خلافاً لشيخنا المرتضى «قدّس سرُّه» حيث قدّم الخبر الارجح. سنداً المطابق للعامة على غيره المخالف لهم.

قال في باب التعادل والتراجيح ما لفظه اما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور، بان كان الارجح صدوراً موافقاً للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره وان كان مخالفاً لهم، بناءً على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق لان هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعاً كما في المتواترين او تعبداً كما في الخبرين بعد عدم امکان التعبد بصدور احدهما وترك التعبد بصدور الآخر، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى ادلة الترجيح من حيث الصدور.

فان قلت ان الاصل في الخبرين الصدور، فاذا تعبدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الخبر الموافق تقية، كما يقتضى ذلك الحكم بارادة خلاف الظاهر في اضعفهما دلالة، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدماً على الترجيح بحسب الصدور.

ص: 685

قلت: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل احدهما المعين على التقية، لانه الغاء لاحدهما في الحقيقة «انتهى موضع الحاجة من كلامه» «رفع مقامه» (1).

اقول: قوله «او تعبداً كما في الخبرين الخ» ان اراد كونهما حجة فعلاً فلا معنى له بعد وجوب الغاء احدهما المعين، كما صرح به «قدّس سرُّه» في جواب المستشكل، وإن اراد تساويهما بملاحظة دليل الحجية من دون ترجيح لاحدهما على الآخر بحيث يشمله الادلة الواردة في علاج المتعارضين فما نحن فيه من هذا القبيل، لان الخبر الصادر من الاعدل الموافق لهم مع الخبر الصادر من غيره المخالف لهم سيان بملاحظة دليل الحجية اما تساويهما بملاحظة الدليل الاول فواضح، لان المفروض كونها جامعين للشرائط المعتبرة في دليل الحجية، واما تساويهما بملاحظة دليل العلاج فلأن المفروض اشتمال كل منهما على مزية خاصة موجبة للترجيح، هذا.

و الحمد للّه على ما تيسر لى من تحرير هذه المسائل، واصلى واسلم على محمد وآله اشرف الاواخر والاوائل واللعنة الدائمة على اعدائهم ومخالفيهم ومبغضيهم ما تنافرت الاضداد والاماثل.

ص: 686


1- الفرائد المقام الرابع، ذيل البحث عن المرجحات الداخلية، الامر الخامس، ص ٤٦٨ (طبعة رحمة اللّه).

رسالة في الاجتهاد والتقلية

إشارة:

من إفادات

استاذ الاساسية العِظامِ وَمُوسِ الْخَورَةِ العِلمِيَّةِ آيَةِ اللّه الْعُظمى

أنحاج الشيخ عبد الكريم الحائري (قدّس سِرُّه)

لآية اللّه العظمى انتاج الشيخ محمد علي الأراكي

ص: 687

ص: 688

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، من الآن الى يوم الدين، وبعد فهذا ما كتبه العبد، محمد علي العراقي «عفى عنه وعن والديه» في مباحث الاجتهاد والتقليد، من إفادات آية اللّه في العالمين، الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي «أعلى اللّه مقامه، ورفع في الخلد أعلامه» متوسلاً بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة، صلوات اللّه عليهم أجمعين فإن جاء محموداً فمن بركاتهم، صلوات اللّه عليهم، وإلا فمن سوء

حظي وسقوطي عن درجة القبول ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.

ص: 689

خاتمة فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد

حول معنى الاجتهاد لغةً واصطلاحاً...690

الاجتهاد لغة تحمل المشقة واصطلاحاً عرف بتعريفين:

أحدهما انه استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي.

و الثاني انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعى عن الأصل فعلاً أو قوة قريبة.

و في كليهما نظر، لعدم صدقهما في موارد الاصول العقلية، وكذا في موارد الطرق الشرعية، بناء على القول بعدم جعل الحكم فيها.

فالعبارة الجامعة أن يقال : انه ملكة يقتدربها على تحصيل القطع بالوظيفة العملية، فالخبروية مثلاً في تشخيص الطرق الصحيحة الموصلة الى الظهور النفس الأمري للكلام عن الطرق السقيمة الموصلة الى ما هو صورة الظهور لا حقيقته، والمعرفة بصواب تلك الطرق عن خطائها وغثها عن سمينها، وكذا تشخيص المقدمات الصحيحة الموصلة الى الحكم النفس الأمري للعقل عن الطرق الفاسدة الموصلة الى ما هو صورة حكم العقل لا حقيقته، هو المسمى بالاجتهاد.

ولا وجه لمضايقة الاخباري عن الاجتهاد بالمعنى المذكور، لأنها إن كانت لأجل أن الظهور العرفي والحكم العقلي ليسا بأمرين واقعيين حتى يحتاج معرفة صحاح طرقهما عن غيرها الى البحث والتفتيش فهو بمكان من الفساد، وان كانت لأجل ورود المنع عن الخوض في مقدمات معرفتها مع كونهما أمرين واقعيين، فهو أيضاً محلّ المنع، وانما ورد المنع عن القول بالقياس والاستحسان والرأي، وبين ذلك ومقامنا بون بعيد وعدم البحث والتدوين في الصدر الأول

ص: 690

عن قواعد الاستنباط المذكورة في علم الاصول بواسطة كثرة امارات الواقع وسهولة امر الاستنباط في تلك الأعصار لا يوجب اندراج البحث والتدوين لها في مثل زماننا الذي مست الحاجة اليها في عنوان البدعة، كما هو الحال في تدوين الفقه والنحو والصرف.

تقسيم الاجتهاد الى المطلق و التجري

ينقسم الاجتهاد الى مطلق و تجز: فالاول ملكة الاقتدار على تعيين الوظيفة العملية بالنسبة الى جميع الاحكام والثاني ملكة ذلك بالنسبة الى بعضها.

ولا اشكال في إمكان الأول وحصوله للاعلام، وما يرى من كثرة الاختلاف بينهم في غالب المسائل غير مناف.إطلاق الملكة. مع وغير كاشف عن عدمه في بعضهم ببيان أن إطلاق الملكة يوجب قلة خطاء صاحبها، كقلة خطاء الحس في المحسوسات وجه عدم المنافاة ان كثيراً من هذه الاختلافات صورة اختلاف، وليس اختلافاً حقيقة، وذلك ما كان منها من قبيل الفتوى واللا فتوى، والجزم واللاجزم، إما بواسطة فحص أحدهما عن امارات الواقع بالمقدار المتعارف وعدم العثور، وعثور الآخر من جهة فحصه زائداً عن المتعارف أو من باب الاتفاق، وإما مع فحص كلّ منهما بالمقدار المتعارف لكن حصل القطع لاحدهما، ولم يحصل للآخر، مع عدم خروجهما عن المتعارف، كماهو أمر ممكن. وما كان منها من قبيل اختلاف الفتويين بحيث كان كل منهما مخطئاً لمدارك الآخر، فأولاً نمنع كثرة وقوع هذا الخطاء في شخص واحد، وإنما كثرته بكثرة الأشخاص، وثانياً نمنع مصريته اذا كان مما يليق بشان الفاضل، نعم لو كان خطاء فاحشاً لا يليق صدوره عن الفاضل فكثرة مثله عن شخص كاشف عن عدم اطلاق الملكة. وأما مقايسة قلة الخطأ في حدس المجتهد بقلة

ص: 691

الخطاء في الحس فممنوعة، وانما المسلّم إلغاء العقلاء احتمال خطائه وعدم اعتنائهم بشأنه لا عدم تحققه في أنفسهم وجداناً.

في الأحكام المترتبة على المجتهد المطلق

ثم إن التكلم في المجتهد المطلق في مقامات ثلاثة: الأول في جواز عمل نفسه بمقتضى اجتهاده، والثاني في جواز تقليد العامي له، والثالث في جواز قضائه وفصل خصومته.

أما الأول: فهو من صغريات حجية القطع في حق القاطع، حتى لو حصل لغير الأهل بمعرفة موازين الاستنباط ومن ليس له ملكته، غاية الأمر ان خوضه في مقدمات حصول القطع على هذا التقدير لو كان عن اختياره فهو غير معذور.

و أما الثاني: فإن كان كل من اصابة رأى المجتهد وصدقه في اخباره عن رأيه مقطوعين لدى العامي فهو أيضاً من صغريات حجية القطع، ولا ربط له بباب التقليد، ولا يفرق بين حال الحياة والممات، كما هو واضح، نعم لو كان أحد الامرين كلاهما غير معلوم لديه جاء حينئذٍ محل أدلة التقليد، والتقييد بحال الحياة دون الممات على ما يأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثم لو كان المجتهد قائلاً بالانفتاح فهو المتيقن من الأدلة.

حكم المجتهد المطلق القائل بالانسداد

و أما لو كان قائلاً بالانسداد فربما يقال ان تقليده محل إشكال، من جهة عدم كونه رجوعاً للجاهل الى العالم، بل الى الجاهل، هذا مع عدم انحصار المجتهد فيه، أو عدم تمكن العامي من رفع الاحتياط العسري كما هو المفروض، وأمّا الانحصار وتمكنه من ذلك بان كان متجزياً في تلك المسألة جاز حينئذ رجوعه إليه لا من باب التقليد، بل من باب أن ظنون ذلك المجتهد أقوى من الظنون الفعلية لذلك العامي هذا على فرض الحكومة، وأما على تقرير الكشف فالرجوع إليه وإن كان رجوعاً الى العالم لكونه عالماً إما بالحكم الواقعي تعبداً بناء على القول بجعل الحكم في موارد الطرق، أو بقيام الحجة الشرعية على الحكم الواقعي، بناء على العدم، كما هو الحال في المجتهد الانفتاحي، كما أن الرجوع في موارد الاصول العقلية من جهة كونه عالما بفقد الحجة والبيان

ص: 692

الشرعي، وأما حكم العقل فهوشيء يرجع الى عقل نفس العامي فهو المرجع له، وان كان على خلاف ماذهب اليه مجتهده، ولكن.ذلك في شمول أدلة التقليد له اشكال من جهة اختصاص حجية تلك الطرق بمن جرت في حقه المقدمات دون غيره. هذا حال تقليد الانسدادي.

و أما حكومته فمحل اشكال ايضاً بناء على الصحيح من الحكومة، نعم لو فرض عرفانه بجملة معتد بها من المسائل الاجماعيات والضروريات في المذهب أو الدين والمتواترات، بحيث صدق عليه عنوان أنه ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا - كما وقع في المقبولة -(1) جاز حينئذ حكومته، ولا ينافيه قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذيل المقبولة «فاذا حكم بحكمنا آه» حيث يظهر منه اعتبار عرفان_ه في الواقعة المتنازع فيها، وذلك لان الظاهر ان نسبة الحكم اليهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من باب كونه حكم من هو منصوب من قبلهم، لا اولا وبالذات، الا ترى ان الحكم في الوقائع الجزئية مثل ملكية دار لزيد وزوجية هند لعمرو لم يصدر منهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) قطعاً، ومع ذلك اسندوه الى انفسهم من جهة صدوره عمن هو منصوب من قبلهم هذا ما يقال. وفيه مواقع للنظر والاشكال :

اما أولاً فما ذكره من منع جريان المقدمات مع عدم انحصار المجتهد محلّ منع، الا اذا كان القائل بالانفتاح اعلم، اما مع اعلمية القائل بالانسداد وتخطئته للانفتاحي فللعامى طريق تعبدي تفصيلي الى خطأ القائل بالانفتاح، لتقليده في هذه المسألة القائل بالانسداد واما مع المساواة والتخطئة فالامر اوضح لتحقق الانسداد الوجداني حينئذ، وذلك لانه بعد تساقط القولين في هذه المسألة الاصولية لا يبقى قول الانفتاحي في الفروع المتفرعة على هذا الاصل تحت ملاك الحجية، فان قول الخبرة انما يكون حجة اذا كانت خبرويته دافعة لاحتمال

ص: 693


1- الوسائل، الباب 11 من ابواب صفات القاضي، الحديث ١.

الخلاف في شخص المسألة المستفتى عنها، واما اذا سقط عن هذا الشأن بواسطة التعارض في الاصل الذي ابتنى عليه المسألة فلا يبقى ل_ه ح_ج_ي_ة، وان صدق عليه عنوان الخبرة، هذا بناء على ما هو مقتضى القاعدة في صور المساواة مع قطع النظر عن التعبد الشرعي بالتخيير واما بملاحظته فالحال حينئذ هو الحال في صورة الاعلمية، حرفاً بحرف اذله اختيار القائل بالانسداد ليتحقق في حقه الانسداد التعبدي.

و اما ثانياً فما ذكره من عدم التمكن من رفع عسر الاحتياط الا بكون العامي متجزيّاً في هذه المسألة ممنوع، لان تقليد المجتهد الانسدادي إما وحده وإما مع الانفتاحي ايضاً سبيل، وكونها مسألة اصولية غير مانع.

واما ثالثاً فما ذكره من انه بعد تمامية المقدمات يرجع بناء على الحكومة الى ظنون المجتهد المذكور وان كان بالنسبة الى الظنون الفعلية الحاصلة للعامي من اعتبارات نفسه حقاً، ولكن بالنسبة الى ظنونه الفعلية الحاصلة له من قول الاموات الذين هم اوثق في نفسه من هذا الحي فمحل منع.

و اما رابعاً فما يستفاد من كلامه بناء على الكشف من رجوع العامي الى المجتهد الانسدادي - في تقدير جريان المقدمات في حقه - وانه من رجوع الجاهل الى العالم يمكن منعه والقول بان حال العامي حينئذٍ مع المجتهد المذكور حال المجتهد الآخر الانسدادي معه، معه، في ان تكليفه الرجوع الى الظنون الفعلية لنفسه، فلو كان ما يحصله من قول الاموات اوثق في نفسه واقوى من ظنون هذا المجتهد تعين اخذ تلك وطرح هذه.

و اما خامساً فما ذكره في موارد الطرق من تعيّن التقليد في المسألة الاصولية اعني قيام الحجة على الحكم الواقعي يمكن منعه لامكان التقليد في المسألة الفرعية، لصدق كونه عارفاً فيها ايضاً بالاحكام الواقعية، غاية الامر بالحجة التعبدية لا الوجدانية.

هذا بناء على ان الحجية وان كانت مجعولة بنفسها لكنها مستتبعة

ص: 694

للحكم الطريقي المولوي، واما بناء على عدم كونها كذلك كما ليست بمستتبعة - بالفتح - فلا مجال للاشكال اذ الحجيه الصرفة غير مستلزمة الجواز النسبة الى الشرع، كما هو واضح.

و اما سادساً فما ذكره من منع التقليد في المستقلات العقلية، ان كان في صورة كون العامي متجزياً في هذه المسألة العقلية فهو خروج عن الفرض من كونه عامياً، وان كان لاجل منع جريان ادلة التقليد في العقليات واختصاصها بالنقليات، ففيه انه لاوجه لذلك بعد اشتراك الكل في تعيين الوظيفة العملية التي هي المهم للعامي.

و اما سابعاً فما ذكره من جواز قضاء الانسدادي بناء على الحكومة اذا كان عارفاً بجملة معتد بها من موارد الاجماع والتواتر والضرورة مستنداً الى قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المقبولة : «انظروا الى رجل روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا الخ» عجيب، فانا كما لانفهم من قوله تعالى: «فاسئلوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون»(1) الا انه لابد من السئوال لكي يحصل العلم للسائل اما وجداناً واما تعبداً، كذلك لانفهم من قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المقبولة الا انه عند التنازع لابد من الترافع الى من هو عارف باحكامهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) وموازين قضائهم حتى يكون ما يصدر منه من القضاء في شخص الواقعة المتنازع فيها مطابقاً مع حكمهم وموازين قضائهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) بحيث نعلم ذلك منه اما وجداناً واما تعبداً.

و اما ثامناً فما ذكره في تاويل قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فاذا حكم بحكمنا الخ» مستشهداً بما اذا حكم بملكية دار لزيد وزوجية امرأة لعمرو غريب، لوضوح ان ما يصدر من الحاكم ابداً لا يخلو اما ان يكون بنفسه حكمهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما في الشبهة الحكمية، واما منطبقاً على موازينهم (عَلَيهِم السَّلَامُ)، كما في الشبهة

ص: 695


1- سورة النحل، الآية ٤٣ - سورة الانبياء، الآية.

الموضوعية.

هذا كله هو الكلام في الاجتهاد المطلق.

حكم المجتهد المتجري

و اما التجري فامكانه مما ينبغي القطع به وان وقع محلا للخلاف، بل يستحيل عادة حصول الملكة المطلقة الا مع سبق التجزي، لاستحالة الطفرة وبساطة الملكة وعدم قبولها للتجزية غير مانعة بعد وضوح اختلاف مدارك المسائل سهولة وصعوبة عقلية ونقلية، فربّ شخص ما هر في مدارك باب ليس له تلك المهارة في باب آخر واحتمال وجود مدرك للمسألة في باب آخر اجنبي بعد تبويب الفقه ليس محلا لاعتناء العقلاء.

ثم يقع الكلام في المتجزي ايضاً في مقامات ثلاثة: الاول في جواز عمل نفسه بمقتضى نظره، والثاني في جواز رجوع الغير اليه، والثالث في جواز قضائه.

اما الأول فان فرض كونه مجتهداً في مدارك المسألة الفقهية، اعني الاستظهار من الخبر مثلا، دون مداركها، اعني حجية السند والظهور، يتعين تقليده في المسألة الاصولية للمجتهد المطلق، فان افتاه بالحجية في حقة كما هو الحق رجع في المسألة الفقهية الى اجتهاد نفسه، وان خالف اجتهاد المجتهد المطلق، وان فرض كونه مجتهداً في مدارك المدارك ايضاً كان من صغري_ات ح_ج_ي_ة القطع في حق القاطع.

و امّا الثاني فحيث ان عمدة دليل التقليد هو الارتكاز و بناء العقلاء يمكن ان يقال: يشك في بنائهم في المقام، بمعنى صيرورة قول المتجزي عندهم بمثابة يدفع به لو خلّي وطبعه احتمال خلافه في اذهانهم، كما هو الشأن في الظنون الخاصة العقلائية، ومع الشك الاصل عدم الحجية.

و اما الثالث فحاله حال التقليد لانهما من واد واحد على ما عرفت، نعم بناء على كونه باباً مستقلاً بالتأسيس - كما عرفته من القائل المتقدم يمكن ان يقال: حاله اشكل من التقليد الا اذا عرف جملة معتداً بها من الاحكام بحيث صدق عنوان «من عرف احكامنا».

ص: 696

في التخطئة و التصويب

اختلفت الامة _ بعد اتفاقهم على التخطئة في العقليات - في الشرعيات فذهبت العامة الى التصويب والخاصة الى التخطئة. ومجمل الكلام ان للتصويب بحسب التصوّر ثلاثة وجوه، بعضها باطل عقلاً، وبعضها باطل شرعاً :

الاول ان يكون الحكم مطلقاً تابعاً لقيام الأمارة، وكان قيام الأمارة قطعا كانت او ظناً محدثاً للحكم، وهذا مستلزم للدور في نظر القاطع والظان.

الثاني ان يكون الحكم تابعاً لقيامها، لكن كان قيامها كاشفاً عن جعل الحكم سابقاً على قيامها وهذا وان كان سالماً عن الدور وعن محذور عقلي آخر، حتى في الظن، غاية الامر لزوم انقلابه في مرحلة البقاء علما، ولا محذور فيه، لكن انعقد اجماع الامامية على بطلانه.

الثالث ان يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل، لكن كان قيام الأمارة على الخلاف موجبا لشأنيته وانكسار مصلحته في جنب مصلحة هذا العنوان الطاري، وهذا ايضاً وان لم يستلزم محذور الدور؛ اما بالنسبة الى الحكم الواقعي فواضح، واما بالنسبة الى الحكم الثانوي المخالف فلأن الدور انما يلزم من اخذ العلم او الظن في موضوع شخص الحكم المتعلق لهما، لا في مثله، والمقام من الثاني

لكن قد ادعي الاجماع ايضاً على بطلانه، مضافاً إلى ك_ون_ه خ_لاف ظاهر الادلة من عدم ايراث الامر الظاهري مصلحة في متعلقه اصلا، وكونه ممحضا في الطريقية.

ثم بعد البناء على الطريقية فهنا ثلاثة وجوه :

ص: 697

الأول اختيار صاحب الكفاية «قدّس سرُّه»(1)، وهو القول بان المجعول في موارد الطرق إما الحجية الصرفة، وإما الحكم الطريقي الناشي عن المصلحة في مع عدم ارادة او كراهة في متعلقه وفي موارد الاصول هو الحكم الفعلي من جميع الجهات مع كون الحكم الواقعي فعلياً من غير جهة الشك. وباحد هذه الوجوه اجاب عن محذور منافاة الحكمين، مع السلامة عن التصويب باختيار الطريقية.

و فيه ان القول بجعل الحجية مبني على تعقل ما يقولون من الامور الاعتبارية التي لا واقعية ولا تحقق لها غير انشاء من يعتبر العقلاء بانشائه، وقد ناقشنا فيه محله، واما الامر الطريقي فان اريد صرف ما هو مدلول الصيغة الذي يعبرون عنه بالطلب الايقاعي فهو وان لم يكن منافياً مع الحكم الواقعي المخالف لكنه ليس موضوعاً لحكم العقل بلزوم الاطاعة، وان اريد به الحالة النفسانية الباعثة والزاجرة - وان انفكت عن الارادة والكراهة في المتعلق، بناء على ماهو التحقيق من كونه امراً اختيارياً يمكن ايجاده لاجل المصلحة في نفسه. فهو وان كان موضوعاً لحكم العقل، ولكن المنافاة بينه وبين الحكم الواقعي بحالها اولاً، ولا يوجب تنجيز عقوبة الواقع ثانياً، بل العقوبة على مخالفة نفسه، لكونه امراً مولوياً. واما تعدد المرتبة، ففيه انا لم نتعقل للحكم مرتبة غير مرتبة البعث والزجر.

الوجه الثاني ما اختاره في الدرر قديماً(2) وهو الالتزام بطولية رتبة الحكم الظاهري بالنسبة الى الواقعي.

وفيه ان اطلاق الذات للحكم الواقعي محفوظ في الرتبة الثانية، ومعه يبقى المنافاة بحالها.

ص: 698


1- الكفاية، في الامر الثاني من الامور التي قدمها على البحث عن الامارات، ج ٢ ص ٥٢-٤٤ ط المشكيني.
2- الدرر، ج ٢ ص ٨-٣٥٥.

فينحصر المخلص عن جميع الاشكالات في الوجه الثالث الذي اختاره في حواشي الدرر جديداً(1)، وهو القول باخذ التجريد عن الشك في موضوع الحكم الواقعي لحاظاً، لا قيداً، كأخذ التجريد عن الخصوصيات في موضوع الكلية. واما التصويب فيجاب عنه بان الحكم الظاهري ليس ناشياً عن مصلحة في متعلقه، حتى يوجب كسر مصلحة الواقع، بل عن مصلحة في نفسه، وهي تسهيل الامر على العباد ورفع كلفة تحصيل العلم والاحتياط الكلي عنهم، مع كون ظنونهم الفعلية غالب المخالفة وعدم ايتمارهم بارشاد الشارع اياهم الى ما يراه طريقاً، فعند ذلك اوجبت الحكمة جعل عدة اوامر مولوية بلسان الامارة، واخرى بلسان الاصل، ثم العقوبة في صورة المخالفة عند الاصابة تكون على مخالفة هذا الامر الظاهري، لكونه امراً مولوياً، لا على مخالفة الواقع، لانّ الفرض عدم تنجزه لا بالعلم ولا بطريق آخر يراه العبد طريقاً، وفي صورة عدم الاصابة لا عقوبة لأجل عدم فوت غرض من المولى.

في تبدل رأي المجتهد

لو تبدل رأى المجتهد الى رأى آخر فلا اشكال في لزوم اتباع الرأى الثاني في الوقائع اللاحقة، واما بالنسبة الى الوقائع السابقة فهل يرتب عليها اثر الصحة اولا ؟. لابد اوّلاً من تحرير محل النزاع فنقول :

هو ما اذا لم يكن مدرك الاجتهاد الاوّل هو القطع بالحكم الاولى ولا الظن الاجتهادي به وقد ظهر في الاجتهاد الثانوي خطاء نفس الاجتهاد، كما اذا تبين انه توهم ما ليس بظهور ظهوراً، اذ ليس في هاتين الصورتين امر ظاهري حتى

ص: 699


1- الدرر، ج 2، تعليقة ص 328.

يختلف في اجزائه وعدمه بل المتحقق في الاولى صرف المعذورية العقلية، وفي الثانية تخيل الامر، فحل الكلام ما اذا كان مدرك الاجتهاد الاوّل ظناً اجتهادياً لم يتبين خطائه في نفس الاجتهاد، وان تبين خطاء الطريق، كما اذا عمل بالعموم ب_ع_د ال_فحص عن مظان المخصص بالقدر المتعارف مع عدم الظفربه، ثم على خلاف المتعارف او على سبيل الاتفاق حصل العثور به فيتكلّم حينئذ في ان ذلك الامر الظاهري المتوجّه اليه قبل العثور، هل يجزي عن الواقع اولا؟. وحينئذ نقول : لا اشكال في ان مقتضى القاعدة الاولية عدم الاجزاء على مابين في مبحث الاجزاء والمقصود في المقام انما هو التعرض عن ثلاثة وجوه ربما يقال لاجلها بالاجزاء في بعض الصور :

الاول ما اختاره السيد الطباطبائي صاحب العروة الوثقى «قدّس سرُّه» (1) من التفصيل بين ما اذا تبين خطاء الطريق الاول علما فعدم الاجزاء اوظناً فالاجزاء، مستنداً الى انهما فردان من الظن في مشمولية دليل الحجية سيان، فلا وجه لترجيح الثاني على الاول.

و فيه ان الوجه مجيء غاية الحجية بالنسبة الى الظن الاولى، فالمقام اشبه شيء بما اذا تبدّل القطع بالقطع او الاطمينان بالاطمينان.

الثاني ما ربما يمكن ان يقال من التفصيل بين التكليفيات الصرفة كالصلاة بلا سورة، والامور الواقعية التي كشف عنها الشارع، كالطهارة والنجاسة، فعدم الاجزاء، وبين الامور التي لها اسباب خاصة عند العرف وقد امضاها الشرع، كالملكية والزوجية وامثالهما، ففي هذا القسم ان قلنا بان امضاء الشرع تصديق لنظر العرف فالحق ايضاً عدم الاجزاء، وان قلنا بانه كامضاء المالك المجازي تتميم للسبب فالحق هو الاجزاء، لان الحكم الظاهري في موطن ثبوته الذي لم ينكشف

ص: 700


1- في حاشية المكاسب على الفرع المعنون قبل بحث المضمون بالبيع «ص 90،89.»

بعد خطائه امضاء من الشارع، فاذا تم السبب فرفع المسبب يحتاج الى المزيل.

و فيه انه بحسب الثبوت وان كان وجهاً متينا، لكن بعد عدم الاثبات لا يثمر نتيجة، اذ القاعدة الاولية تقتضى عدم الاجزاء.

الثالث ما اختاره صاحب الكفاية «قدّس سرُّه» في مبحث الاجزاء (1) من التفصيل بين ما اذا قام الامارة او الطريق المعتبر على تنقيح ما هو شرط المكلف به او جزئه، كما اذا قامت البينة على طهارة بدن المصلّي او لباسه، اوقام خبر الثقة على طهارة الغسالة او عرق الجنب من الحرام، مع اصابة احدهما بدن المصلّي او لباسه، او على حلية لحم الحيوان المشكوك اللحم كالارنب الذي اتخذ من وبره لباس المصلي، فالحق عدم الاجزاء، وما اذا قام الاصل على تنقيح ذلك، كما اذا حكم بالطهارة في المثالين الاولين او بالحلية في الاخير، بقاعدة الطهارة او الحلية بل واستصحابهما في وجه قوى _ وهو كون مؤداه ترتيب الاثر في موضوع الشك كما هو مؤدى الاصول دون كونه ناظراً الى الواقع- كماهو مؤدى الامارة - فالحق الاجزاء ووجه هذا التفصيل ان التنزيل في دليل الاصل حيث انه عام لكلتاصورتي المطابقة واللامطابقة فيمكن جعله في ضورة اللامطابقة معمماً لدائرة الشرطية في الدليل الواقعي، واما دل_ي_ل الأم_ارة ف_ح_ي_ث انه بلسان تصديق الحاكي في حكايته والغاء احتمال الكذب فلا تنزيل فيه الصورة عدم المطابقة حتى يجيء فيه احتمال الاجزاء؛ هذا محصل ما افاده.

و فيه ان تنزيل الاصل وان شمل الصورتين الا انه يمكن بنحوين: الاول ان يكون في عرض الواقع، بان يكون المأخوذ في موضوعه الشك في الموضوع البحت، والثاني ان يكون في طول الواقع ودستوراً عملياً لاجل رعايته، بان يكون المأخوذ فيه الشك في الموضوع بلحاظ الانجرار الى الشك في الحكم؛ ولا شك ان اللازم في النحو الاوّل هو الاجزاء، وفي الثاني عدمه. ونحن ان لم

ص: 701


1- الكفاية، المقام الثاني من الموضع الثاني من مبحث الاجزاء ص٤ - ١٣.

نقل بظهور ادلة الاصول في النحو الثاني فلا اقل من تساوي الاحتمالين وحصول الاجمال، فيبقى مقتضى الادلة الاولية من عدم الاجزاء بحاله.

في مناط صحة عمل المقلد، ودليل جواز التقليد له

لا يخفى ان التقليد الذي هو مناط صحة العمل في العامي عبارة عن متابعة المجتهد في العمل بان يكون معتمداً على رأيه في العمل، ولا يترتب الاثر المطلوب من العمل من تفريغ الذمة الا بالعمل مع الاستناد المذكور، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ان يكون لفظ التقليد اسماً لخصوص الالتزام الحاصل باخذ الرسالة، اوله مع اخذ المسألة، او لكليهما مع العمل، اذ على كل حال ليس المفرغ للذمة الا العمل والاستناد المذكورين، لوضوح ان الالتزام الخالي غير مفرغ، وكذا مع الاخذ من دون عمل، وكذا العمل الخالي عن الاستناد، فلا يترتب في هذا المقام الذي يبحث فيه عما هو مناط صحة العمل اثر على البحث المذكور، نعم يترتب عليه في المبحث الآتي.

هذا بناء على اخذ التقليد من الارتكاز.

و اما بناء على اخذه من التعبد والاخبار كما ياتي بيانه ان شاء اللّه تعالى فلا يبعد ايضاً تفسيره بالعمل مع الاستناد كما يأتي ولا يتوهم ان تفسيره بالعمل بعد توقف صحة العمل على التقليد مستلزم للدور، اذ لزوم الدور مبني على قيام دليل على اشتراط العمل بوقوعه مسبوقاً بالتقليد بحيث صح ان يقال انه وقع عن تقليد، وهو في محلّ المنع، فلا محذور في كونه اسماً للكيفية المنتزعة من نفس العمل.

ثم الدليل على التقليد عند العامي لا يمكن ان يكون تعبدياً، من كتاب وسنة واجماع، لعدم قدرته على الاستفادة منه لا اجتهاداً، كما هو الفرض، ولا

ص: 702

تقليداً، لان التقليد في نفس مسألة التقليد اما دور او تسلسل، فلابد ان يكون دليله الارتكاز، والحق ثبوت الارتكاز وبناء العقلاء على رجوع الجاهل في كل باب الى العالم ب_ه وك_ون قول ذلك العالم ظناً خاصاً عندهم، وبضميمة عدم الردع الشرعي يصير ظناً خاصاً شرعياً، وبذلك يجاب عمن تمسك بمقدمات الانسداد في حق العامي كالمحقق القمي اعلى اللّه مقامه.

و اما الاخباريون فان كان مورد تشنيعهم جعل العامي المجتهد في عرض الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) او النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ) ذاحظ من التشريع، كما هو دأب العامة بالنسبة الى المتهم الاربعة، فهذا بمعزل عن مرام الاصوليين، فان مرامهم انه لما احتاج الاجتهاد بواسطة بعد العهد عن زمان المعصومين صلوات اللّه عليهم الى مقدمات صعبة، من اعمال القوة في تشخيص مداليل الالفاظ، ثم في الفحص عن المعارض، ثم في علاج التعارض والعامي ليس اهلاً لهذا الشأن، والاهل له هو المجتهد، فيرجع العامي اليه كما في سائر موارد الرجوع الى اهل الخبرة، فان اراد الاخباريون التشنيع على هذا المعنى فهو غير متوجه، لكونه امراً حقاً يدل عليه الارتكاز القطعي. مضافاً الى الادلة التعبدية المذكورة في محلها.

اشتراط الحياة في مرجع التقليد و حول مقتضى الأصل في المسألة

قد عرفت ان دليل العامي على اصل التقليد هو الارتكاز، واما في خصوصياته التي منها الاستواء بين الحي والميت او لزوم كونه حياً، فان جزم باحد الطرفين بواسطة ارتكازه ايضاً فلا كلام وان حصل له الترديد فلا محالة في هذه المسألة ايضاً يستريح بباب العالم، فالمقصود من عقد هذا الفصل بيان ان ما هو مقتضى القاعدة ماذا حتى يجيب به المجتهد عن هذا السؤال فنقول :

و ان كان مقتضى الاصل الاولى عدم الحجية عند الشك، الا انه قد

ص: 703

يتمسك للجواز باستصحاب حجية الرأي اما بان يقال: ان رأي هذا المجتهد كان في حياته حجة على كلّي المكلّف، فالآن كما كان، ثم تسريته الى الافراد لازم للاعم من الظاهري والواقعي واما بان يقال : هذا العامي على تقدير وجوده وبلوغه وعقله في زمن ذلك المجتهد كان محكوماً بحجية رأيه، فالآن ايضاً كما كان، وهذان التقريبان كما ترى جاريان في كل من قسمي التقليد البدوي والاستمراري.

و هنا تقريب ثالث جار ايضاً في كلا القسمين، وهو استصحاب نفس الاحكام الفرعية المتعلقة بهذا العامي في حياة المقلد، من نجاسة الغسالة والعصير وامثالهما مما ادى اليه رأى ذلك المجتهد هذا.

و قد يناقش في الاستصحاب بجميع تقريراته: اما على الاولين فلاجل الشك في ان الموضوع لحجية الرأي هل هو الرأي بوجوده الحدوثي، او هو بوجوده فان كان الاول كان باقياً، وان كان الثاني فهو بنظر العرف يزول

الفعلي، بالموت، لخراب البدن وقواها المدركة ومدركاتها جميعاً بالموت، ويكون الحشر في المعاد بنظرهم من اعادة المعدوم وان كان مقتضى الدقة خلاف ذلك، لبقاء النفس وتجردها، الا ان المدار في الاستصحاب على النظر العرفي، مضافاً الى امكان دعوى القطع بان الموضوع هو الوجود الفعلي، للاجماع على سقوط رأي المجتهد عن الحجية بالتبدل الى رأي آخر اوالى الشك او بزوال الملكة لهرم ونحوه، وذلك آية قطعية على كون العبرة بوجوده الفعلي.

و اما التقريب الاخير فجريانه مبني على جعل ظن المجتهد جهة تعليلية، بان كان النجاسة ثابتة للعصير بما هو بعلّة ظن المجتهد، وفيه انه من المحتمل لولا المقطوع كونه مقوّماً، بحيث يكون ارتفاع الحكم عند ارتفاعه من قبيل الارتفاع بارتفاع الموضوع، لا ارتفاعه عن الموضوع، مضافاً الى ان التحقيق عدم جعل الحكم في مورد الطرق والامارات التي منها ظن المجتهد، بل المجعول صرف الحجية والعذر، ولا حكم حتى يستصحب.

ص: 704

هذا ما يقال في المناقشة على تقريبات الاستصحاب(1).

وفيه منع الشك، بل الموضوع هو الظن بوجوده الحدوثي قطعاً، وذلك لان عمدة الادلة في باب التقليد هو الارتكاز الحاكم برجوع الجاهل الى العالم، وبعد القطع بان قطع العالم وظنه ليس بحجة عند العقلاء بملاك السببية، بل بملاك الطريقية، نقطع بان طريقيته قائمة بحدوثه من غير نظر الى بقائه بحيث يكون بقائه كضم الحجر، وكذا يكون نظر العقلاء في اعتمادهم ايضاً الى حدوثه، اما ان طريقيته قائمة بمحض الحدوث فلاجل انا نرى انهم يستفيدون الشهرة والاجماع من فتاوى الاموات وكذلك يؤيدون متعاهم في المسائل العلمية برأي شيخنا الانصاري «قدّس سرُّه» بعد موته وام_ا ك_ون_ه م_ورداً لاعتماد العقلاء فلاجل انا نراهم يرتبون الاثر على قول المعمار بعد موته كما في حال حياته بلا فرق.

و اما ما ذكرت من الاستشهاد بتبدّل الرأي وزوال الملكة على كون المعيار هو الظنّ الفعلي، ففيه ان التبدل موجب لزوال الكشف والطريقية، والمقصود اثبات الحجية للحدوث مع حفظها واما زوال الملكة بالهرم ونحوه فليس حاله الاكحال ملكة العدالة والذكورة والعقل، فكما ان اعتبار هذه الاخيرة لاينافي كون الموضوع حدوث الظن كذلك الأول بلا فرق.

ثم لو خلينا وانفسنا لم نفرق في حجية الرأي بين حالي الحياة والموت، لكن لما رأينا هذه القيود التعبدية من الشارع انقدح الشك في انه لعل منها ايضاً قيد الحياة فحينئذٍ نتمسك في دفعه بالاستصحاب.

و اما ما ذكره في دفع التقريب الثالث فبعد الغض عن الخدشة في مجعولية الحجية بنفسها يرد على ما ذكره على تقدير تسليم جعل الحكم ان نفسه صرّح

ص: 705


1- المناقشات لصاحب الكفاية «قدّس سرُّه» في بحث الاجتهاد والتقليد منها، ص ٤٤١ - ٤٤٥.

في حاشيه الاستصحاب من الكفاية (1)، فيما اذا قام الطريق المعتبر على ثبوت الحكم وقصر عن الدلالة على البقاء «بامكان الرجوع الى الاستصحاب، بتقريب انه من المحتمل اصابة ذلك الحكم الظاهري مع الواقع مع كون الواقع مما يبقى وحيث ان الظاهري متحد مع الواقعي في صورة الاصابة شخصاً فيمكن استصحاب شخص ذلك الحكم» فيتوجه عليه سؤال الفرق بين المقامين.

هذا تمام الكلام في مقتضى الاصل الاوّلى في المقام، وقد عرفت انه الجواز.

حول جواز تقليد الميت استمراراً

و حينئذ فلابد من التكلم في مقدار دلالة الدليل المانع حتى يرجع في المقدار الزائد الى مقتضى الاصل فنقول :

الدليل المانع هو الاجماع المحقق ظاهراً القائم على المنع عن الاخذ بفتوى الميت والرجوع اليه وتقليده، والمعلوم المتيقن من مورده هو الابتدائي، واما الاستمراري فيكون مشكوكاً فيرجع فيه الى مقتضى الاضل، وحينئذ نقول حيث ان التقليد - كمامر الاشارة اليه وسيأتي تفصيله ان شاء اللّه تعالى لا يبعدان يكون عبارة عن العمل، فلو التزم حال حياة المجتهد ومات المجتهد قبل اتفاق العمل لا يبعدان يكون عمله بعد الموت داخلاً في التقليد الابتدائي، نعم لو عمل في حياته ببعض المسائل مما ابتلى به مع الالتزام الاجمالي في سائر المسائل ثم مات المجتهد فلا يبعدان يكون عمله ولو في سائر المسائل خارجاً عن التقليد الابتدائي، وعلى هذا ففي صورة تحقق الالتزام حال الحياة من دون العمل اصلاً الاحوط الرجوع الى الحي، فانه مطابق للاحتياط على كل حال، ولا يحتاج في الحكم بجوازه الى اثبات الاجماع.

بيان ذلك يبتني على تعيين ان مفاد الاستصحاب هل هو ايجاب النقاء او

ص: 706


1- في الحاشية على التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب، ص310.

جوازه او التفصيل بين صورة اعلمية الميت فالايجاب ومساواته فالجواز؟ فان كان مفاده الجواز فالاحتياط بالرجوع الى الحي والا فباحوط القولين، والظاهر من الوجوه المذكورة هو الاخير:

اما في صورة المساواة فلأن تعيين ذلك الميت حال الحياة كان من باب عدم الدليل على جواز العدول الى صاحبه والمفروض انه بعد الممات وجد الدليل على الجواز، وهو الارتكاز القطعي.

و القول بانه انما جاز في هذه المسألة اعني مسألة البقاء و العدول خاصة دون المسائل الفرعية تحكم بارد، فهل خب_روی_ت_ه مخصوصة بالاولى دون الثانية ؟! او دليل حجية قوله خاص كذلك ؟ بل الحق انه بحكم الارتكاز الصحيح جاء الى باب هذا العالم، فاذا كان لهذا العالم في مقام تعيين الوظيفة فتويان فباي منهما افتاه كان واقعاً في المحل، وعلى هذا فالحجية المستصحبة لقول الميّت حجية ذاتية لا تعيينية، فيصير قوله بواسطة الاستصحاب مع قول الحي بواسطة الارتكاز كقول الحيين المتساويين، فيجي فيهما ما يجيء فيهما من التخيير البدوي او الاستمراري.

و اما في صورة اعلمية الميت فحيث ان تعيين قول الاعلم يكون من جهة الدليل التعبدي على ما يأتي ان شاء اللّه تعالى فالمستصحب حينئذ هو الحجية التعيينية.

فتحصل مما ذكرنا انه اذا اخذ الفتوى من الميت ومات المجتهد قبل العمل فالاحوط مع المساواة الرجوع الى الحي، ومع اعلمي_ة الميت الاخذ باحوط القولين.

و اما اذا اخذ الفتوى وعمل في مقدار من المسائل بانياً على ذلك في سائر المسائل عند الابتلاء ثم مات المجتهد فالاقوى مع المساواة جواز البقاء وجواز العدول مع كون الثاني احوط، ومع اعلمية الميت وجوب البقاء. واللّه تعالى هو العالم بحقيقة الحال.

ص: 707

تذييلات

إذا قلد مجتهداً، ثمّ مات مجتهدة، فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهداً آخر، ثمّ مات هذا المجتهد أيضاً فقلّد ثالثاً

الأول: اذا قلد مجتهداً ثم مات مجتهده فقلد في مسألة البقاء والعدول مجتهداً آخر ثم مات هذا المجتهد ايضاً فقلد ثالثاً في هذه المسالة، فان توافق رأيه مع رأي الثاني في المسألة المذكورة فلا كلام وكذا اذا كان رأي الثاني البقاء والثالث العدول اذ الحكم هو العدول من المسائل التي بقي عليها بحكم الثاني على فتاوى الاول الى الثالث انما الكلام في عكس هذه الصورة اعني ما اذا كان رأي الثاني العدول والثالث البقاء.

فقد يقال بان اللازم البقاء بحكم الثالث على فتوى الثاني في خصوص المسائل الفرعية، دون فتواه في مسألة العدول اذ لو قيل بالبقاء فيه يلزم من حجيته عدم حجيته، اذ كما ان مفاده عدم حجية الفتاوى الفرعية كذلك عدم حجية نفسه.

و قد يستشكل بان المحذور انما يلزم من اخذه في جميع مداليله، واما اذا اخرج : عنه هذا المدلول اعني عدم حجية نفسه بالتخصيص العقلي، واخذ بسائر مداليله اعني عدم حجية فتاواه الفرعية، فلا يلزم محذور، ويكون الاستصحاب في هذه الفتوى بالنسبة الى بقية المداليل حاكماً على الاستصحاب في الفتاوى الفرعية، وعلى هذا فاللازم العدول في الفروع التي عدل فيها من الاول الى الثاني الى الثالث ثانياً.

و فيه ان المفروض ان العامي استراح في مسألة البقاء والعدول الى باب هذا العالم الحي، ونحن ايضاً صوّبناه في هذا النظر، ولازم ذلك ان يكون ما يؤدى اليه نظر هذا العالم من حجية الفتاوي الفرعية مأخوذاً واستصحابه حجة لا محكوماً لاستصحاب حجية قول من خالفه في هذه المسألة، وعلى هذا فاللازم من جريان الاستصحاب في فتوى المجتهد الثاني في مسألة البقاء والعدول ولو

ص: 708

بالنسبة الى سائر المداليل هو الاداء الى خلاف مفاده از مفاده عدم حجية الفتاوى الفرعية لنفسه، فيلزم الرجوع قهراً الى الحي، والمفروض انه يفتيه

بالبقاء على فتاوى الميت في الفروع، فينجر الامر بالاخرة الى خلاف المفاد، وما يلزم من حجيته ذلك لا يمكن حجيته، هذا. مضافاً الى امكان ان يقال: ان حجية قول الميت في مسألة البقاء والعدول قد انتقضت حالتها السابقة بنقيضها، لاجل الارتكاز القطعي القائم بتعين المرجع فيها في الحي دون الميت، وانما الترديد في الفتاوى الفرعية.

رفع الإشكال عن التقليد للفتوى المستندة الى الاستصحاب

الثاني: هنا اشكال في عامة الموارد التي يكون مدرك فتوى الفقيه هو الاستصحاب، وحاصله انه لا يمكن ان يكون المجرى للاستصحاب هو العامي ولا الفقيه : اما الاول فلعدم تحقق الموضوع من اليقين السابق والشك اللاحق، اذا المعتبر من الشك هو ما كان بعد الفحص والعامي غير قادر عليه، ولم يجر دأب ارباب الفتوى ايضاً بالاخبار اولاً بالفحص وعدم الظفر ثم الفتوى بعدم نقض اليقين بالشك بل يفتون اولاً بالحكم الواقعي بتا. واما الثاني فلعدم صحة جعله مدركاً للفتوى بالنسبة الى العامي بعد عدم تحقق الموضوع في حقه وهل هو الا مثل ان يفتي الفقيه المستطيع العامّي الغير المستطيع بوجوب الحج، هذا. مضافاً الى عدم العمل في مقامنا بالنسبة الى المجتهد نفسه ايضاً.

و حاصل الجواب على وجه يصح به ما هو المرسوم بين ارباب الفتوى ان المجرى للاستصحاب هو الفقيه ولكن الاثر العملي الملحوظ ترتبه هو الاعم من الاركاني والقلبي الجناني اعني التجزم بالواقع المدلول عليه بالقضية الاخبارية، فكما كان يجب على الفقيه في حال اليقين التجزم بالواقع والافتاء به كذلك يجب في حال الشك، وكما كان في حال اليقين يفتي بان هذا حكم اللّه الواقعي في حق كل احد فكذلك في حال الشك، ثم بعد ذلك يأخذ به العامي، لكونه قولاً صادراً من اهل الخبرة.

الثالث: قد عرفت اعتبار قيد الحياة في جواز التقليد الابتدائي، فاعلم انه

ص: 709

يعتبر في جواز الابتدائي والاستمراري معاً وجود ملكة الاجتهاد وملكة العدالة، فلوزال احديهما لا يجوز التقليد لا ابتداء ولا استدامة ويدل عليه ظهور الدليل المعلق الجواز التقليد على العنوانين في دوران الحكم مدارهما ثبوتاً وبقاء، واما اعتبار البلوغ والعقل فالدليل عليه منحصر بالاجماع، كما يظهر من ارسالهم له ارسال المسلّم، والا فليس في الادلة اللفظية تعرض لهما مع صراحة دليل الارتكاز بعدم الاشتراط، كما ان هذا هو الحال في اعتبار الذكورة والحرية على ما ارسله بعضهم واما اضافة بعض زيادة على وصف العدالة اشتراط عدم الاقبال على الدنيا بجمع اموالها مستدلا بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رواية الاحتجاج:

«مخالفاً على هواه» (1).

ففيه ان الظاهر كما يشهد به سائر فقرات الرّواية ان المراد اعتبار العدالة في مقابل الفسق ومخالفة الهوى في مقابل الامر والنهي الشرعيين، الا ترى ان من يأكل الجبن عن متابعة الهوى لا يخرج بذلك عن اهلية الافتاء.

حول اشتراط الأعلمية في المرجع

اذا تعدد المجتهد الحي فاما ان يتفقا في الفتوى واما ان يختلفا، لا كلام على الاول، وعلى الثاني اما ان يتفاوتا في مرتبة العلم والفضيلة واما ان يتساويا، فالكلام هنا في مقامات ثلاثة:

الأول في حكم صورة التفاضل والثاني في حكم صورة التساوي، والثالث في حكم الشبهة الموضوعية وانه هل الاصل المرجع فيها ماذا ؟ وان_ه ه_ل يجب لفحص اولا؟

ص: 710


1- الوسائل، الباب 10 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢٠.

اما المقام الاول

فاعلم اولا ان تعيّن الرجوع الى الافضل في نفس مسألة تعين الافضل، فيما اذا حصل التردّد للعامي، حيث ان رجوعه الى المفضول فيها مستلزم للدور، خارج عمّا نحن فيه، فان كلاً منافي ان مقتضى الضوابط ماذا حتى يجيب به الافضل عن السؤال المذكور فنقول :

لا كلام في الحجية الشانية لكل واحد من المتفاضلين، بمعنى أنا لا نحتمل ان يكون قول المفضول بمثابة قول العامي، بل الكلام في الحجية الفعلية الناظرة بحال التعارض، فاطلاقات بعض الادلة الناظرة الى الحجية الذاتية كاطلاق

دليل الارتكاز غير مفيدة لما نحن بصدده، وحينئذ فنقول :

لا اشكال في ان مقتضى القاعدة الاولية مع قطع النظر عن ورود التعبد الشرعي بالتعيين او التخيير هو التساقط المقتضي للزوم الاخذ باحوط القولين كما انه لا اشكال ايضاً فيما لو قام التعبّد الشرعي على التخيير ولكن كان المتيقن منه غير صورة التفاضل في ان المتعيّن قول الافضل لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

انما الكلام في انه لو قام الدليل على التخيير بنحو الاطلاق فهل هنا دليل يدل على تقييده وتعيين الرجوع الى الافضل اولا ؟ وعلى فرض الوجود ما مقدار دلالته ؟ فالكلام في هذا المقام ممحض في بيان هذا الدليل، واما بيان الدليل على اصل التخيير فضلاً عن اطلاقه فموكول الى المقام الثاني كما يأتي ان شاء اللّه تعالى فنقول :

الدليل على التقييد المذكور مقبولة عمر بن حنظلة (1) المصرحة بتعين الرجوع الى الافقه عند معارضته مع غيره.

ص: 711


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث 1.

لكن قد يستشكل في دلالتها على المدعى في المقام، بانها واردة في مقام الحكومة، والترجيح في ذلك المقام - حيث إن الخصومة لا ترتفع الا به لا بالتخيير- لا يستلزم التخيير في مقام الفتوى.

و الجواب انك عرفت فيما تقدم ظهور صدرها في اعطاء منصب القضاء لمن كان عارفاً لا بما هو هذا العنوان وان لم يكف عرفانه لتميز الحق عن الباطل في

مورد التنازع، بل بما هو طريق للتميز في مورد النزاع، كما يشهد بذلك قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فاذا حكم بحكمنا» وحينئذ فنقول : الظاهر ان السئوال في الذيل راجع الى هذا الذي جعل موضوعاً في الصدر، فكانه قال: اذا اتحد الفرد لهذا العنوان فلا اشكال واما اذا اختلف الفردان منه فلا نعرف ان ايهما ميزان المعرفة الواقع حتى يكون هو المنصوب للقضاء؟ فاذا اجاب بتعين الافقه فهو في قوة انه هو الميزان لمعرفة الواقع، ويشهد لذلك قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الحكم ما حكم به افقههما - الى ان قال : -ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر «الخ»، فان المراد بالحكم هو الرأي والقول كما يشهد به سائر الفقرات.

فان قلت: هذه المقبولة لا تفيد المدعى، لان المدعى هو الترجيح بصرف الافقهية، ومفادها الترجيح بمجموع الامور الاربعة من الا فقهية واخواتها.

قلت: بل مفادها الترجيح بمطلق الرجحان الحاصل باحد من الامور المذكورة، كما يشهد به قول السائل بعده «لا يفضل واحد منهما على الآخر». نعم اللازم من هذا لزوم الترجيح بصرف الاورعية ولو مع المساواة في العلم، ولا بأس بالقول به.

فان قلت: الظاهر ان هذه الامور مرجحات الرواية كما هو المراد قطعاً في الفقرات المتأخرة، وذلك لعدم مناسبة الاصدقية لباب الفتوى، بل وكذا الافقهية مع اختلاف مدرك الفقيهين وكونه حديثين كما هو مورد الرواية، والمناسب لباب الفتوى هو الترجيح بالافقهية مع فرض كون المدرك لهما حديثاً واحداً وكان الاختلاف في فهم المراد.

ص: 712

قلت: اما مناسبة الاصدقية فهي عين مناسبة العدالة بمعنى ملكة الاجتناب عن مطلق الكبائر التي منها شرب الخمر، فكما اتفقت الكلمة على اعتبارها بهذا المعنى في اصل جواز التقليد فاتي مانع في اعتبار الاصدقية في مقام الترجيح. واما الا فقهية مع اختلاف الحديثين فلا يخفى مناسبتها للفتوى، اذ ربما اوجب الا فقهية طرح احدهما لخدشة في سنده اوجهته او دلالته وقد خفيت على الآخر. وبالجملة الظاهر عدم الخدشة في دلالة المقبولة على المدعى.

و اما مقدار دلالتها فاعلم ان غاية ما تدلّ عليه ترجيح الا فقه في صورة العلم بالاختلاف، إما تفصيلاً وإما اجمالاً على وجه الشبهة المحصورة، فيبقى صورة الشك البدوي والعلم الاجمالي المندرج في الشبهة الغير المحصورة باقية تحت اطلاقات التخيير المنفصلة عن هذه المقبولة، نعم في موضوع العلم بالاختلاف قد اعتبر الا فقهية الواقعية، وعلى هذا فيجب الفحص عن الاعلمية مع العلم بالاختلاف، ولا يجب الفحص لاعن الاختلاف ولا عن الاعلمية مع الشك فيه.

و بهذا يفترق المقام عن اخبار الثقة، حيث يجب الفحص هناك عن اصل وجود المعارض وكذا عن أقوائيته بعد فرض الفراغ عن وجوده، وجه الفرق ان دليل اصل حجية الخبر ناظر الى صورة عدم المعارضة الواقعية، ودليل العلاج مادل منه على التخيير علّقه على المعارضة الواقعية مع عدم الاقوائية كذلك، ومادل على الترجيح علقه على المعارضة الواقعية مع الأقوائية كذلك، فلا جرم يجب الفحص في كلّ من المقامين. واما في مقامنا فلم يرد الحكم بترجيح الافقه في صورة الاختلاف في كلام الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابتدائ_اً، بل فرض السائل اوّلاً اختلاف الفقيهين بعد مراجعة المترافعين ثم ورد الجواب بتعين الافقه ولا يمكن الاخذ باطلاق هذا الجواب بواسطة سبق السؤال المذكور، وليس هذا من باب مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب عن الاخذ بالاطلاق حتى يقال: انك لا تقول به بل من باب احتفاف الكلام بما يصلح

ص: 713

للقرينية، فليس المقام من قبيل ما اذا قيل في جواب السؤال عن حال زيد:

اكرم العالم، بل من قبيل ما اذا ورد الجواب عن سؤال الشرب عن الاناء المفضض بقوله : اعزل فمك عن موضع الفضة.

التخيير في الرجوع الى المتساويين

المقام الثاني : في حكم صورة التساوي والاقوى فيه التخيير، ويدل عليه طوائف ثلاث من الاخبار:

الاولى: المقبولة المتقدمة صدراً وذيلاً: اما صدرها فل_دلالته على اعتبار قول العارف بالاحكام مطلقاً من غير فرق بين وجود فرد آخر متصف ب_ال_ع_ن_وان المذكور في العالم وعدمه، وعلى الاول كان موافقاً معه في الرأي ام مخالفاً، وعلى الثاني كان مساوياً معه ام افضل خرج الصورة الاخيرة بحكم الذيل وبقى الباقي، والمقبولة بهذا الاعتبار داخلة في الطائفة الثالثة الآتية، فعدها في قبالها انما هو باعتبار الذيل. واما ذيلها فل_دلالته على الترجيح بالامور الاربعة مقتصراً عليها، فيدل على التخيير مع عدمها جميعاً اذ الترجيح فرع وجود الملاك في الطرف الآخر ايضاً.

الثانية: بعض الاخبار التي ذكرت في باب علاج الخبرين المتعارضين، ولكن بعض ذلك خاص بباب الفتوى وبعضه عام لكلا البابين :

اما الاول فموثقة سماعة المروية عن الكافي عن ابي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينه في امر كلاهما يرويه، احدهما يامره باخذه، والآخرينهاه، كيف يصنع ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): يرجيه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه(1)حيث ان الاختلاف انما يسند إلى الشخصين اذا كان لهما اعمال النظر، واما اذا كان شأنهما صرف نقل الالفاظ

ص: 714


1- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث 5.

فلا يسند الاختلاف الا الى الحديثين، ولا ينافي ذلك قوله: «كلاهما يرويه» اذ مفاده ان وجه اختلاف نظر هما اختلاف الرواية.

و اما الثاني فمرفوعة زرارة (1) الواردة في الخبرين او الحديثين المتعارضين الحاكمة بالتخيير بعد ذكر المرجّحات بقوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) :«اذن فتخيّر»: تقريب الاستدلال ان الصدر الاول كما كانوا يراجعون الى الرواة في مورد نقل الفاظ الامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) اما بعينها واما بالفاظ أخر مرادفة لها كما هو المعبّر عنه بالرواية المصطلحة، كذلك كانوا يراجعون اليهم في مورد نقل المضمون الذي حصلوه من عدة روايات متشتتة، مع ضم أمارات اخر عندهم، ونحن ان لم نقل بظهور قوله ارواحنا فداه في التوقيع الشريف(2) :«واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا» في القسم الاخير فلا اقل من التعميم وحينئدٍ فنقول : ما المانع من القول القول بتعميم الخبرين المتعارضين للفتويين المتعارضتين أيضاً. وان ابيت الا عن اختصاصه بالرواية المصطلحة نقول : لنا الاخذ بعموم التعليل المصرّح به في بعض اخبار التخيير من قولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) : «بایّهما اخذت من باب التسليم وسعك» (3)فان المجتهدين ايضاً ثقاتهم. وفتاويهم كاشفة عن آرائهم، فالتسليم والانقياد المتحقق في حق الرواة متحقق في حقهم ايضاً.

الثالثة: الاخبار الدالة على الارجاع الى العلماء، كصدر المقبولة المتقدمة، والتوقيع الشريف، بناء على اختصاصه بباب الفتوى كما لا يبعد، ورواية الاحتجاج(4)، والمحكي في البحار عن المحاسن (5)، فان اطلاق هذه الطائفة شاملة لحال المعارض سواء كان مساوياً ام افقه.

ص: 715


1- مستدرك الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢.
2- الوسائل، الباب 11 من ابواب صفات القاضي، الحديث9.
3- الوسائل الباب ٩ من ابواب صفات القاضي، الحديث ٦.
4- الوسائل الباب 10 من ابواب صفات القاضي، الحديث ٢٠.
5- البحار، الباب ١٤ من كتاب العلم الحديث ٥١ (ج2، ط جديد، ص98).

فان قلت: ما الفرق بين هذه الاخبار ومادلّ على حجية خبر الثقة؟ فكما قلتم ان تلك الاخبار غير ناظرة الى حال المعارضة فكذا هذه، وبعبارة اخرى: مفاد هذه الاخبار تقرير الارتكاز، ومن الواضح عدم وفاء الارتكاز في صورة المعارضة بحكم.

قلت: الفرق بين المقامين أن الحجية في ذلك المقام تعلقت بطبيعة الخبر باعتبار الوجود الساري اللازم منه تعلّق الحجية التعيينية بكل فرد من الخبر، ومن المعلوم عدم تمشيها في كلّ من المتعارضين ولا في احدهما، لانه ترجيح بلا مرجّح. واما هنا فالحجية متعلقة بطبيعة العالم باعتبار صرف الوجود الممكن التمشي في حال المعارضة: وجه الفرق ان كل فرد من الخبر غير كاف الالمسألة واحدة، دون غيرها من المسائل، واما هنا فكل فرد من العالم كاف من اوّل الفقه الى آخره.

نعم غاية ما يلزم من هذا البيان امكان الاطلاق، واما اثباته فلا، فلاحد ان يقول : ليس مفاد الاخبار الامفاد الارتكاز ولكن لنا اثبات الاطلاق ايضاً، بدعوى ان من المستبعد جداً اهمالهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لحال هذه المعارضات، مع كثرتها وكثرة ابتلاء العوام بها، خصوصاً في عصر الغيبة، وبهذا البيان تقدر على اثبات الاطلاق بالنسبة الى صورة التفاضل ايضاً، نظراً الى كثرة وقوعه بين علماء العصر في كل عصر غاية الامر تقييده بواسطة ذيل المقبولة بصورة العلم بالاختلاف، فيبقى الباقي تحت الاطلاق.

هل التخيير هنا بدوي أو استمراري؟

و هل التخيير بدوي او استمراري؟ الظاهر الاوّل، فانامتي اخذنا باحدى الفتويين لا يبقى في الزمان الثاني بالنسبة الى هذه الفتوى اخذ آخر حتى يقع موردا للتخيير، بل المتحقق بقاء الاخذ واما بالنسبة الى فتوى الفقيه الآخر فالاخذ وان كان يتحقق ولكنه خارج عن مفاد الدليل، لان مفاده على ما عرفت اما التخيير بين احداث الاخذ بهذا او احداثه بذاك وإما الاخذ بصرف الوجود المفروض تحققه بالاخذ بالفتوى الاولى، فلا يمكن تحققه ثانياً في

ص: 716

الثانية، فالمتحقق في الفتوى الثانية - لو كان إما التخيير بين احداث هذا وبقاء ذاك، واما تعيينه، بشخصه او بعنوان صرف الوجود ولكن مقيداً بالزمان الثاني، وكلاهما خارج عن مفاد الدليل.

و من هنا تعرف عدم جريان الاستصحاب ايضاً بعد مغايرة القضية المشكوكة مع المتيقنة، واما استصحاب الجامع فإما محكوم لاستصحاب عدم الفرد الثاني واما معارض له.

هذا بناء على تفسير الاخذ بالفتوى بصرف الالتزام.

و اما ان فسرناه بصرف العمل غاية الامر عن استناد الى القول، فاللازم التفصيل بين الواقعة الواحدة والواقعتين وفي الواقعة الواحدة بين صورة الالتزام المنفك عن العمل وبين الالتزام المقرون به بالقول بعدم جواز العدول في الاخيرة وجوازه في الاوليين، ووجهه واضح.

و حاصل الكلام ان الاخذ والتقليد الواقعين في اخبار المقام كالاخذ الواقع في اخبار حجية الخبر، سواء ماورد في اصل حجيّته او في علاج التعارض بقولهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) «بایهما اخذت من باب التسليم وسعك» بعد القطع بان المراد به التصديق العملى لا الجناني يدور الامر بين ان يراد بالتصديق العملي صرف الالتزام والبناء على العمل الخارجي، مع كون نفس العمل خارجاً عن مفهومه، وبين ان يراد به العمل الخارجي بالقول المتحقق بان يأتي بالعمل ويكون استناده حين العمل الى القول، ولا يبعد الذهاب الى الثاني بحكم التبادر.

فان قلت: بل لابد من تفسيره بالالتزام اذ يلزم في الخبرين او الفتويين المتعارضين الدال احدهما على الوجوب والآخر على الحرمة - بناء على التفسير بالعمل ان يكون التخيير بين الفعل والترك. وايضاً يلزم تعلق الحجية بالجامع المبهم بين المتعارضين، ولا معنى لحجيته بالنسبة الى المدلول المطابقي وأما ان فسرناه بالالتزام فالحجة حينئذ هو ما التزمه المكلف، وحجيته في المدلول المطابقي في غاية الوضوح.

ص: 717

قلت: اما ما ذكرت من لزوم التخيير بين الفعل والترك فغير وارد بعد اخذ قيد الاستناد في العمل، اذ التخيير حينئذٍ بين الفعل استناداً الى قول الوجوب، او الترك استناداً الى قول الحرمة ولا محذور فيه. واما ما ذكرت من قيام الحجّية بالجامع المهم، فلا مانع فيه، وهل هو الا كقيام الملكية بالكسر المشاع؟ فكما ان اختيار تعيين الكسر هناك بيد المكلف، فما المانع في المقام أيضاً من جریان مثله؟

وجوب الفحص عن الأعلم عندالشكّ

المقام الثالث

في حكم صورة الشك في اعلمية احد الفقيهين، سواء كان في ابتداء الأمرام حصل في الاثناء، بعد الفراغ عن مساواتهما في اول الامر، وسواء حصل في كلّ منهما على البدل ام في واحد معين دون صاحبه.

و هل يجري في جميع الصور استصحاب عدم الاعلمية او لا؟. قد يقال بالعدم، نظراً الى عدم الحالة السابقة لهذا العدم بما هو مفاد ليس الناقصة، اذ كما يعتبر فيه بهذا المعنى تحقق الموضوع المفروغ، كذلك يعتبر تحقق المفضل عليه المتصف بمبدأ العلم والجواب ان قولنا فلان افقه الرجلين، تارة يقال بمعنى ذلك الآخر، وهذا يعتبر فيه اتصاف ذلك الآخر بمبدأ الفقه افضليته من واخرى يقال بمعنى انه افقه الناس من بينهما، وعلى هذا التقدير لا يعتبر ذلك الآخر بالمبدأ، ومقامنا من القبيل الثاني.

ثم هل يشترط العمل بالاصل المذكور بالفحص اولا، نظراً الى ان الشبهة موضوعية؟ وجهان مبنيان على ان الشك الماخوذ موضوعاً في الاصول الشرعية هل هو اعم ممّا قبل الفحص وما بعده، غاية الامر الاجماع على عدم جريانها في الشبهات الحكمية قبل الفحص، فمقتضى القاعدة عدم الفحص الى ان يقوم الدليل على لزومه؟ او انه خصوص الشك الحاصل بعد الفحص، غاية الامرقام الاجماع على اجراء احكام الاصول في بعض الشبهات الموضوعية فيما قبل

ص: 718

الفحص، فمقتضى القاعدة على هذا هو الفحص الى ان يقوم الدليل على عدمه ؟. الذي قواه سيّد الاساتيذ العظام الميرزا الشيرازي عند بحثه عن لزوم التروّي في الشكوك الصّلاتيّة هو الثاني على ما نقله عنه شيخنا الاستاذ جزاهما اللّه تعالى عن الاسلام واهله خير الجزاء واللّه هو العالم بحقائق الاحكام.

و قد فرغ من تحريره مقرّره العبد محمَّد علي العراقي «عفي عنه وعن والديه» في الخامس من شهر جمادي الثانية من السنة السابعة والخمسين والثلاثمائة بعد الألف «١٣٥٧»

ص: 719

ص: 720

فهرس

فهرس الجزء الأوّل

من «در رالفوائد»

مقدّمة المؤسّسة...3

تعريف علم الاصول...31

دفع ما ربّما يتوهم من دخول بعض مسائل الاصول في الفقه...32

في موضوع علم الاصول... 33

في المقدمات

في بيان حقيقة الوضع و أقسامه... 35

بيان الحقّ في معاني الحروف و الهيئات...37

استعمال اللفظ في ما يناسبه... 40

هل الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة؟...41

في وضع المركبات... 43

علامات الحقيقة و المجاز...44

في الحقيقة الشرعية وبيان الاختلاف في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه...45

في بيان الثمرة بين القولين في المسألة...46

في الصحيح و الأعم...47

في عدم معقولية أخذ القدر الجامع بين أفراد الصحيحة...48

تصوير الجامع في الكفاية، وبيان الاشكال عليه...49

ص: 721

في تصوير الجامع على الأعم، وذكر أدلة الاعمي...50

أدلة القول بالصحيح و الجواب عنها...53

في بيان الثمرة بين القولين: في المسألة...54

في تصوير النزاع في أسامي المعاملات... 54

في استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد...55

الحق جواز الاستعمال...55

نقل كلام صاحب الكفاية في بيان استحالة العقلية والجواب عنها وتقوية الجواز...55

في المشتق، و تحرير محل النزاع...5958

في عدم دلالة الاسم على الزمان بخلاف الأفعال...59

في تفسير الحال في موضوع المسألة...61

في جريان الأصل في المسألة وعدم جريانه...61

في بيان الحقّ في المسألة وبيان دليلها...62

حجة القائل بأن المشتق موضوع للأعم من المتلبس...63

في بساطة مفهوم المشتق وتركبه...64

حول استدلال السيّد الشريف على البساطة...66

المقصد الأوّل في ما يتعلق بالأوامر

في تحقيق معنى صيغة افعل وما في معناها وتميز معناها عن معنى الجملة الخبرية...69

في الفرق بين الإنشاء و الإخبار...70

في الطلب والإرادة، وهل هما متحدان أم لا؟...72

هل الصيغة حقيقة في الوجوب أم لا؟...74

في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب...75

في المرة والتكرار و الفور و التراخي... 76

في الاجزاء...77

ص: 722

اجزاء الاضطراري عن الاختياري...78

اجزاء الظاهري عن الواقعي...81

المقصد الثاني في مقدمة الواجب

في مقدمة الواجب وكيفية شمول البحث المقدمات الحرام...84

حول اعتبار الاختيار و المباشرة في المأمور به...87

اعتبار الاختيار وقصد العنوان في المأمور به...89

حول اعتبار المباشرة في المأمور به...90

في التعبدي و التوصلي و بيان حقيقتها...93

في تأسيس الأصل في التعبدي و التوصلي... 100

الواجب المطلق و المشروط...103

في الواجب المعلق... 105

في المقدمة الموصلة...113

ذهاب بعض الأساطين الى اعتبار قيد الايصال في المقدمة...114

حول الاحتمالات المتصورة في مدخلية الايصال...114

هل الأمر المتعلّق بالمسبب يجب إرجاعه الى السبب، أو هو حقيقة متعلّق بالمسبب؟...119

في أن أجزاء المركبات وجوبها نفسي أو مقدمي...123

في ذكر أدلة القائلين بوجوب المقدمة...124

الدليل المحكي عن المحقّق السبزواري...127

في مقدمات الحرام...130

المقصد الثالث في الضد

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد؟...133

تأسيس الأصل عند الشك في مقدمية الضد... 134

ص: 723

في بيان أن الضد ليس مقدّمة للفعل والترك...135

حكم العبادة الّتي هي ضدّ للمأمور به...137

في مسألة الترتب و بيان مقدماتها...140

حجة المانع للترتب وجوابها...146

المقصد الرابع في جواز اجتماع الأمر والنهي

في تصوير محل النزاع في المسألة...148

عدم ابتناء المسألة على تعلق الأمر بالطبيعة...148

عدم ابتناء المسألة على أصالة الوجود...151

الفرق بين المسألة ومسألة اقتضاء النهي للفساد...152

أدلة المجوّزين للاجتماع...154

حكم من توسط أرضاً مغصوبة...160

مختار المصنف (رَحمهُ اللّه) في المسألة...161

في استدلال المجوّزين للاجتماع بالعبادات المكروهة، و الجواب عنها...165

تداخل الأسباب و المسببات...170

حول الاستدلال بتداخل الأسباب للجواز...175

في بيان أدلة المانعين للاجتماع...176

حكم العبادة المجمع للعناوين...180

في اقتضاء النهي للفساد و بيان الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة...183

هل المسألة عقلية أو لفظية ؟...184

في عدم الفرق بين النهي النفسى وغيره في المسألة...185

حول مسألة الأصل عند الشك في الاقتضاء...186

تحقيق الحقّ في المسألة...187

الاستدلال للاقتضاء بالحديث...189

ص: 724

في المفاهيم

في بيان المراد من المفهوم...190

في مفهوم الشرط و بيان ما يحتمل أن يكون مدلولاً للقضية الشرطية...191

في بيان أدلة القائلين بالمفهوم...191

حجة المنكرين للمفهوم حقيقة المفهوم انتفاء سنخ الحكم...192

في بيان شرائط المفهوم على القول به...194

حول مفهوم حديث اعتصام الكر...198

في مفهوم الوصف و بيان أن الوصف لا مفهوم له...200

رد أدلة القائلين بمفهوم الوصف...201

المقرر عند القائلين بمفهوم الوصف، أن لا يكون الوصف وارداً مورد الغالب...202

توضيح محل النزاع في مفهوم الوصف...202

في مفهوم الغاية و اختلاف الأقوال فيها و بيان الحقّ فيها...204

هل الغاية داخلة في المغتى أم لا ؟...205

في مفهوم الاستثناء و أنه يدل على الحصر...205

رفع إبهام عن كلمة التوحيد...207

هل دلالة الاستثناء على الحصر داخلة في المنطوق أو المفهوم... 207

هل كلمة «انما» تدل على الحصر أم لا؟...208

المقصد الخامس في العام والخاص

في أنّ العموم قد يستفاد من اللفظ و تارةً من القضية وأخرى من الاطلاق...210

في بيان الاشكال على ألفاظ العموم و دفعه...210

في أن العام المخصص حجّة في الباقي...212

ص: 725

التمسك بالعام في المخصص المجمل...214

التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص...216

في استصحاب العدم الأزلي...218

في عدم إمكان إحراز الموضوع من عموم العام...220

عدم جواز التمسك بالعام اذا شك لا من جهة تخصيصه...221

في استكشاف العلّة من التمسك بالعام في الموارد المشكوكة...222

التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص...223

هل الخطابات الشفاهية تختص بالمشافهين أم لا؟...224

في العام المتعقب بضمير البعض... 226

في تخصيص العام بالمفهوم المخالف...227

في تخصيص الكتاب بخبر الواحد...228

دوران الأمر بين النسخ و التخصيص...229

المقصد السادس فی المطلق والمقّید

في إسم الجنس...231

في علم الجنس و النكرة...232

في مقدمات الحكمة...233

المقصد السادس في المطلق والمقيد...236

كيفية الجمع بين المطلق و المقيد...238

التعليقات...

ص: 726

فهرس الجزء الثاني

من «درر الفوائد»

في بيان أقسام المكلف الملتفت الى الحكم الشرعي...323

عدم اختصاص مجاري الاصول بالمجتهد...324

المبحث الأوّل في القطع

في حجّية القطع و أنها نفسي...325

هل يمكن النهي عن العمل بالقطع ؟...325

هل يجوز ايجاب العمل بالقطع شرعاً ؟...329

في أقسام القطع الموضوعي...330

قيام الأمارات و الاصول مقام القطع...331

في مبحث التجري...334

في أنّ جهة المبحوث عنها في التجري تارةً كلامية وأخرى فقهية وثالثة أصوليّة... ٣٣٥

في العلم الاجمالي، وهل له أثر؟ أو حاله حال الشك ؟...340

في الاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي...343

هل المخالفة الالتزامية كالمخالفة العمليّة ام لا؟...344

المبحث الثاني في الظن

هل يمكن التعبد بالأمارات الغير العلميّة ام لا؟...349

في أدلة امتناع التعبد بالظن و الجواب عنها...350

ص: 727

في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي...351

الوجه الثاني و الثالث للجمع بين الحكمين...354

تأسيس الأصل في حجّية الظنّ عند الشك...356

في حجّية الظواهر...359

في حجّية ظواهر الكتاب و الجواب عن أدلة القائلين بعدم الحجّية...363

حول حجّية قول اللغوي...368

حول أصالة عدم القرينة...370

في تعريف الاجماع، و حول مستند حجّية الاجماع...371

حول حجّية الاجماع المنقول...373

الحق عدم حجّية الاجماع المنقول...375

التواتر المنقول و الشهرة...376

في حجّية الخبر الواحد...379

حول أدلة المانع عن حجّية الخبر الواحد و الجواب عنها...380

حول أدلة القائلين بحجّية الخبر الواحد، ومنها آية النبأ...381

الشبهات المذكورة للاستدلال بآية النبأ...384

شبهة الاخبار مع الواسطة...387

الاستدلال بآية النفر لحجّية الخبر الواحد...389

حول آية السؤال عن أهل الذكر و آية الأذن...391

الاستدلال الحجّية الخبر الواحد بالسنة...392

تقرير الاجماع على حجّية الخبر الواحد...393

تقريرات حكم العقل بحجّية الخبر الواحد...395

في الوجوه الّتي استدل بها على حجّية مطلق الظن...398

في الاستدلال لحجّية مطلق الظن بدليل الانسداد...399

نقد دليل الانسداد...400

ص: 728

هل نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ مطلقاً أم لا؟...405

هل قضية دليل الانسداد حجّية الظن بالواقع أو الطريق أو بهما...407

هل نتيجة مقدمات دليل الانسداد اعتبار الظن من باب حكومة العقل، أو الكشف عن حكم الشرع...414

هل نتيجة مقدمات دليل الانسداد اعتبار الظنّ مطلقاً أو الظنّ الخاص...416

حول المظنّ القياسي على الحكومة...418

الكلام في الظنّ المانع و الممنوع، بناء على اعتبار الظنّ المطلق...419

المبحث الثالث في الشك

في أصالة البراءة في الشك في التكليف...426

حول الاستدلال بالآيات للاحتياط في الشك في التكليف...428

احتجاج القائلين بالاحتياط بالأخبار...430

الاحتجاج للاحتياط بالعلم الاجمالي بوجود الأحكام...436

أدلة القول بالبراءة، ومنها حديث الرفع...440

بيان حدود ما يستفاد من حديث الرفع...444

حول التمسك بحديث الرفع، لوشك في مانعية شيء في الصلاة...445

الاستدلال للبراءة بصحيحة ابن الحجاج...446

الاستدلال للبراءة بحديث الحل...449

حول أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية...451

شرط جريان أصالة البراءة...453

في الشك في المكلف به، ووجوب الاحتياط عند العلم الاجمالي...456

حكم الاحتياط في الأطراف التدريجية الوجود...461

حكم الاضطرار الى ارتكاب بعض الأطراف...463

حكم خروج بعض أطراف العلم عن محل الابتلاء... 464

ص: 729

موارد انحلال العلم الاجمالي...465

حول جريان الاصول في أطراف العلم...469

حكم الشبهة الغير المحصورة...470

مباحث الأقل و الاكثر الارتباطيين، وتقريب الاشتغال العقلي فيهما...472

نقد تقريب الاشتغال...474

تقريب آخر للبراءة العقلية في المقام...476

تقریب آخر للاشتغال عقلاً في التعبديات و الجواب عنه...478

تقريب الأصل الشرعي في الأقل و الأكثر الارتباطيين...479

دوران الأمر بين التعيين و التخيير...481

حكم الشبهات الموضوعية...482

حكم اللباس المشكوك...483

الاستدلال بالأصل الشرعي و الأدلة الخاصّة في الشبهة الموضوعية...488

هل الأصل في الجزء هو الركنية ؟...490

مقتضى الأدلة في الشك في ركنية أجزاء الصلاة...493

اذا شك في اعتبار جزء أو قيد مطلقاً، أو في حال القدرة...496

الاستدلال لاختصاصه بحال القدرة...498

الاستدلال بقاعدة الميسور...500

في أصالة التخيير...503

خاتمة في شرائط جريان أصل البراءة...503

المسألة الرابعة في الاستصحاب

في تعريف الاستصحاب...509

هل مبحث الاستصحاب مسألة أصوليّة؟...510

اعتبار فعلية الشك و اليقين ومافرع عليه...511

ص: 730

هل يمكن الاستصحاب في الأحكام العقلية؟...514

حول الأدلة الّتي أقامها الشيخ لاختصاص الاستصحاب بالشك بالرافع...516

في أن الأخبار تدلّ على حجّية الاستصحاب مطلقاً، ومنها صحيحة زرارة...518

الاستدلال بصحيحة زرارة الثانية...522

حول الاستدلال بصحيحة زرارة الثالثة...524

الاستدلال بأخبار أخرى للاستصحاب...526

في أنّ الظاهر من كلّ شيء طاهر قاعدة الطهارة لا الاستصحاب... 529

حول كلام صاحب الكفاية من إمكان ارادة القاعدتين من الحديث، والجواب عنه... ٥٢٩

في استصحاب الكلي و بيان أقسامه...533

الحق جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام الكلي...534

نقل منع بعض الأعلام من جريان الاستصحاب في القسم الثاني، ونقده...534

حول استصحاب الكلي في القسم الثالث...536

استصحاب التدريجيات...538

حول الاستصحاب في المستقر المقيد بالزمان...540

حول كلام المحقّق النراقى «قدّس سرّه»...541

في الاستصحاب التعليقي...544

في تعارض الاستصحاب التعليقي مع الفعلي...545

في استصحاب أحكام الشريعة السابقة...546

استصحاب نبوة النبي السابق...549

في أنّ الاستصحاب مختص بالأحكام الشرعية أو موضوع ذي حكم شرعي...552

حول عدم حجّية مثبتات الاستصحاب و بیان مواردها خفاء و وضوحاً...553

حول حجّية مثبتات لأمارات و الطرق...555

استثناء ما كانت الواسطة خفية...557

الموارد الّتي توهم أنها من الاصول المثبتة...558

ص: 731

أصالة تأخر الحادث و الاستصحاب عند الشك في تأخر الحادثين...562

هل المرجع في الفرد المخصص في زمان بعد ذلك الزمان، عموم العام أو استصحاب حكم المخصّص؟...568

اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب... 573

في تعيين المرجع لتشخيص بقاء الموضوع...579

ذكر ما هو كالتفريع لاشتراط بقاء الموضوع... 581

الفرق بين قاعدة اليقين و الاستصحاب...583

حول عدم إمكان إرادة القاعدتين من أخبار الباب...585

الكلام في قاعدة التجاوز و الفراغ...588

هل قضية أخبار الباب جعل قاعدة واحدة أو تكون مختلفة...589

التحقيق أن مفاد الأخبار قاعدة واحدة عامة...590

اعتبار التجاوز و المراد منه...595

خروج الوضوء عن القاعدة أحياناً...596

حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء...602

دفع توهم في الأخبار...603

مجرى القاعدة هو الشك الحادث...604

في أصالة الصحة في فعل الغير وأدلتها...606

في أن أصالة الصحة دليل الصحة الواقعية...609

خاتمة في تعارض الاستصحاب مع سائر القواعد المقررة للشاك

في تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز...610

في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحة في فعل الغير...611

في تعارض الاستصحاب مع أدلة القرعة...613

ص: 732

تعارض الاستصحاب وقاعدة اليد...614

حال الاستصحاب مع الطرق المعتبرة شرعاً...617

في بيان ضابط الحكومة...619

الحق ورود الأدلة و الأمارات على الاستصحاب وسائر الاصول...621

تقريب المحقّق الخراساني للورود...624

في تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول...627

في تعارض الاستصحابين وفي تقدم الاستصحاب السببي على المسببي...631

في تعارض الاستصحابين المسبيين...633

في التعادل والترجيح

الكلام في بيان حقيقة التعارض... 637

حول تعارض العام والخاص، وتقديم الخاص على العام...638

وجه تقديم الخاص الظنّي على العام...639

حول الدليلين المتباينين...641

حول قاعدة الجمع أولى من الطرح...645

الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب القاعدة...647

الكلام في الخبرين المتكافئين على حسب الأخبار و تقوية التخيير...654

في تخيير الحاكم و المفتي و المقلّد في المتعارضين...658

هل التخيير بدوي أو استمراري...659

في وجوب ترجيح ذى المزية وحول تأسيس الأصل في المسألة...660

في الاستدلال للترجيح بالاجماع...663

الاستدلال لوجوب الترجيح بالعقل و الأخبار و الاشكال على دلالة الأخبار...665

ذكر أدلة التخيير لتحقيق المقام...668

تحقيق المرجّحات المنصوصة...670

ص: 733

حول التعدي الى مرجّحات غير منصوصة...672

رفع بعض الشبهات عن مقبولة عمر بن حنظلة...675

حول اعتبار الظنّ الشخصي في الترجيح...676

هل تعمّ أخبار العلاج ما كان بينهما جمع عرفي ؟...678

حول الموازين المذكورة لتشخيص الأظهر عند الاشتباه...680

حول انقلاب النسبة بعد التخصيص...681

هل بين المزايا ترتيب أم لا؟...684

ص: 734

فهرس رسالة الاجتهاد والتقليد

حول معنى الاجتهاد لغةً واصطلاحاً...690

تقسيم الاجتهاد الى المطلق و التجري...691

في الأحكام المترتبة على المجتهد المطلق...692

حكم المجتهد المطلق القائل بالانسداد...692

حكم المجتهد المتجري...696

في التخطئة و التصويب...697

في تبدل رأي المجتهد...699

في مناط صحة عمل المقلد، ودليل جواز التقليد له...702

اشتراط الحياة في مرجع التقليد و حول مقتضى الأصل في المسألة...703

حول جواز تقليد الميت استمراراً...706

إذا قلد مجتهداً، ثمّ مات مجتهدة، فقلّد في مسألة البقاء والعدول مجتهداً آخر، ثمّ

مات هذا المجتهد أيضاً فقلّد ثالثاً...708

رفع الإشكال عن التقليد للفتوى المستندة الى الاستصحاب...709

حول اشتراط الأعلمية في المرجع...710

التخيير في الرجوع الى المتساويين...714

هل التخيير هنا بدوي أو استمراري؟...716

وجوب الفحص عن الأعلم عندالشكّ...718

ص: 735

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.