حرب صفين نظرة تحليلة جديدة

هوية الكتاب

حرب صفين

نظرة تحليلة جديدة

نجم الدين الطبسي

قِسمُ الشُؤُونُ الدنيَةُ شَعَةُ البُحُوثُ الدِراسات

مصدرالفهرست: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم التصنیف DS97 .T33 2021 ;LC

المؤلف الشخصي: الطبسي ،نجم الدين، 1255للهجرةمؤلف

العنوان: حرب صفين : نظرة تحليلة جديدة

بيان المسؤولية : نجم الدين الطبسي

بيانات الطبع: الطبعة الأولى

بيانات النشر :كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الدينية ،شعبة البحوث والدراسات 2021 / 1442 للهجرة

الوصف المادي : 448 صفحة ؛ 24 سم

سلسلة النشر: ( العتبة الحسينية المقدسة ؛ 930)

سلسلة النشر : (قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات ؛)

تبصرة ببليوجرافية : يتضمن هوامش، لائحة المصادر( الصفحات 424-412)

موضوع شخصی: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة، 40 للهجرة – سياسته وحكمه

موضوع شخصي :علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول ،23 قبل الهجرة ،40 للهجرة - حروب

موضوع شخصي: معاوية بن أبي سفيان، خليفة أموي، 20 قبل الهجرة، 60 للهجرة - شبهات التاريخ الإسلامي - عصر صدر الإسلام، 610-661

مصطلح موضوعي: حرب صفين، 37 للهجرة - تاريخ

مصطلح موضوعي :الفتن والملاحم (الاسلام) - دراسة وتحليل

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق، قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات ،جهة مصدرة

تمت الفهرسة قبل النشر في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة تصميم واخراج: محمد المعمار

محرر الرقمي: زهراء شريفي گرم درة

ص: 1

اشارة

قِسمُ الشُؤُونُ الدنيَةُ شَعَةُ البُحُوثُ الدِراسات

مصدرالفهرست: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم التصنیف DS97 .T33 2021 ;LC

المؤلف الشخصي: الطبسي ،نجم الدين، 1255للهجرةمؤلف

العنوان: حرب صفين : نظرة تحليلة جديدة

بيان المسؤولية : نجم الدين الطبسي

بيانات الطبع: الطبعة الأولى

بيانات النشر :كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، قسم الشؤون الدينية ،شعبة البحوث والدراسات 2021 / 1442 للهجرة

الوصف المادي : 448 صفحة ؛ 24 سم

سلسلة النشر: ( العتبة الحسينية المقدسة ؛ 930)

سلسلة النشر : (قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات ؛)

تبصرة ببليوجرافية : يتضمن هوامش، لائحة المصادر( الصفحات 424-412)

موضوع شخصی: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة، 40 للهجرة – سياسته وحكمه

موضوع شخصي :علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول ،23 قبل الهجرة ،40 للهجرة - حروب

موضوع شخصي: معاوية بن أبي سفيان، خليفة أموي، 20 قبل الهجرة، 60 للهجرة - شبهات التاريخ الإسلامي - عصر صدر الإسلام، 610-661

مصطلح موضوعي: حرب صفين، 37 للهجرة - تاريخ

مصطلح موضوعي :الفتن والملاحم (الاسلام) - دراسة وتحليل

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق، قسم الشؤون الدينية، شعبة البحوث والدراسات ،جهة مصدرة

تمت الفهرسة قبل النشر في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة تصميم واخراج: محمد المعمار

ص: 2

الاشاره:

( بسم اللّه الرحمن الرحیم)

لم يكن علي(علیه السلام) رجلا من الرجال.. بل كتاب الله الناطق والرسالة الالهية المجسدة، كما أنبأ هذا رسول الله (صلی اللبه علیعه وآله) و أشار في مواضع شتى وروايات أكثر من أن تحصى وأثبت من ان يطعن في صحتها..

لقد أراد النبي الاكرم (صلی اللّه علیه وآله) أن يترك عليا(علیه السلام) للناس من بعده، علما هاديا يقيهم مغبة الفتنة والاختلاف. سواء اجتمعوا على محبته وولايته ، كما هو المطلوب منهم، فيهديهم الى الطريق القويم ويحملهم على المحجة البيضاء. أو عصوا أمر اللّه فيه بأنه الخليفة والوصي والامام مفترض الطاعة، كما حدث. ولم تقتصر رغبة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) تلک على الجليل الاسلامي الذي عاصر الرسالة وأحداث الفتنة التي تمت أبان انقلاب السقيفة أبان انقلاب السقيفة وانحراف الخلافة، بل للاجيال البشرية كافة. فالحق في قوله (صلی اللّه علیه وآله)(علي مع الحق والحق مع علي) يتجاوز في معناه أحقية الامام علي (علیه سلام) في الخلافة الى الحق المحض المطلق الذي هو كائن ما كانت الحياة في صراعها الازلي بين الخير والشر، وكما قال (صلی اللّه علیه وآله) (علي (علیه السلام)خير البشر... )

لهذا حظيت الاحاطة بتراث علي (علیه السلام) وتاريخه المجيد .. فكرا وسيرة، بأهمية قصوى، حيث يبقى ذلك التراث مشعلا ينير طريق الانسانية ويبيّن له مواضع الخير والفلاح. ومن سيرته وتاريخه الثر، تطالعنا ملحمة صفين التي دارت بينه (علیه السلام) وبين معاوية كنقطة مفصلية هامة، تتجاوز حدود الحدث التاريخي الذي عادة ما يعنى به المؤرخون وكتاب السير، الى البعد المعنوي المتعلق بصراع الحق والباطل وما يجب ان يكون من فاصل واضح بينهما. سيما أننا مازلنا - حتى يومنا هذا - نعاني من جهات مغرضة حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن الامويين. فراحوا يصورون الخلاف بين علي (علیه السلام) ومعاوية بصور شتى لاحظ لها في اية مقوم منطقي أو فكري رصين. وأن كليهما في جانب واحد من الحق.. تدليسا وخيانة للحقيقة.. كل هذا لانهم بحاجة الى تبيض صورة النموذج الاموي وشرعنة سياسته المنحرفة .. بعد ان اتخذوا من تلك السياسة منهجا لتقويم سلطانهم وإقامة دولتهم الحديثة.

ص: 3

كما عودت شعبة البحوث والدراسات القارئ الكريم على مده بكل ما هو ثر ومؤثر من المؤلفات الاسلامية، فإنها تعمد اليوم الى المشاركة الفعالة في إطلاع الجمهور المسلم على تلك الملحمة الهامة ببعديها التاريخي والفكري.. من خلال السفر القيم الذي نهض بمهمة تأليفه علم من اعلام البحث العلمي المعاصر سماحة الشيخ الطبسي والمعنون (صفين)

وإن مما يدفعنا الى القول بثقة بالغة في أن الكتاب قد غطى الملحمة ببعديها التاريخي والفكري، هو ما سيجده القارئ من جهد علمي فذ في تناول مفردات الحدث التاريخي متنا وسندا.. وما يبرع به المؤلف في تناول الاشكالات والمداخلات النقدية والفكرية، حتى ليغدو المؤلف سجلا قيما في تخليد حدث صفين وبيان حقائقه التاريخية بأدق صورة ورسالة فكرية حفظت لصراع على(علیه السلام) مع معاوية جانبه الرسالي العميق..

نسال اللّه( تعالى) ان يجعل عمله هذا في ميزان حسناته وان يحفظ وجوده ذخراً للامة انه هو السميع العليم.

شعبة البحوث والدراسات

قسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

المقدمة:

الحمد لله الذي أنقذنا من شفا جرف الهلكات بمتابعة أمثل الأديان، وأرشدنا إلى سبيل ارتقاء مدارج أعلى الغرفات باقتفاء أفضل الإنس والجان، وأوضح محجتنا في ظلم الشبه والجهالة بإضاءة مصابيح آيات القران ، وأفصح حجتنا في مهاوي الشكوك الفاسدة والأوهام الكاسدة ببيان أهل العصمة وتبيان مهابط التنزيل والفرقان (صلى اللّه عليه وعليهم وعلى الأصحاب المرضيين صلاة تبلغنا إلى منتهى الرضوان) وتسكننا منازل القدس وبحابيح الجنان.

من أهم الحوادث التي شهدها حكم أمير المؤمنين(علیه السلام) معركة صفين التي أثقلت عاتق الدولة الإسلامية بجسيم الحوادث و التكاليف, وكبدتها بأفدح الخسائر. وفيها استشهد عدد كبير من خيرة البشر وأشرف أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام) ، وأظهر العدو نواياه الباطلة فجاهر بمعاداة الإسلام والدولة الإسلامية بقيادة أمير المؤمنين (علیه السلام)لم إلى إحياء سنن الجاهلية وأفكارها النخرة ملبساً إياها ثوب الإسلام الظاهري.

يقول رشيد رضا, وهو من مفسري العامة, عن إنجازات الأمويين وما قدموه من خدمات جليلة للاسلام: "قال أحد كبار علماء الألمان في الأستانة لبعض المسلمين وفيهم أحد شرفاء مكة: إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالاً من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا من عاصمتنا برلين. قيل له (سأله أحد المسلمين كان حاضراً المجلس): لماذا؟ قال: لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي قاعدته الديمقراطية إلى عصبية الغلب ولولا ذلك لعمّ الإسلام العالم كله ولكنا نحن الألمان وسائر شعوب أوربا عرباً مسلمين (1)

نعم، هؤلاء هم القاسطون الذين ألحقوا بالإسلام وبشخص أمير المؤمنين(علیه السلام) وجميع المسلمين بل وجميع البشر ظلماً لا يُدفع إلى يوم القيامة، ومنعوا وصول الحق إلى الأمم، وفسروا الإسلام على هواهم، واستغلوا التعاليم الإسلامية لتبرير تصرفاتهم المخالفة للشرع.

ص: 5


1- تفسير المنار، ج11، ص 222, ذيل تفسير الآيات الأول من سورة يونس, المقصد الرابع من مقاصد القران الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثمان.

لا تخفى سيرة الشجرة الملعونة السوداء والفتن التي أثارها الأمويون في تاريخ الإسلام على أحد. فما انفكوا يوقدون نيران الحرب على الرسول (صلی اللّه علیه وآله) ويتحالفون مع المشركين ويتضامنون مع يهود بني قريظة ضد الإسلام ويمارسون شتى السياسات الشيطانية حتى جاء فتح مكة فتواروا خلف أقنعة النفاق.

بعد وفاة النبي(صلی اللّه علیه وآله)، أسندت بعض المناصب الحكومية في عهدي الخليفتين الأول والثاني إلى بني أمية، الأمر الذي أنعش آمالهم في التسلط على المجتمع الإسلامي. وارتفعت وتيرة هذا التوجه في خلافة عثمان حيث استحوذ الأمويون على الكثير من المناصب الحكومية استغلوها في توجيه الكثير الطعنات إلى هيكل الإسلام. فتم إيذاء شخصيات إسلامية بارزة وإبعادها أمثال عمار وأبي ذر. وبتدبير من الشجرة الفاسدة نفسها تم تمهيد الأرضية لقتل الخليفة الثالث وتنفيذ القتل فيه واتخاذه وسيلة لبسط سلطتهم على الدولة بذريعة الاقتصاص من قتلته.

لقد نشر الأمويون ، في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) ، الفوضى وانعدام الأمن في ربوع البلاد الإسلامية وهيّأوا أهل الشام للتمرد والعصيان. فاندلعت حرب صفين بدعوى المطالبة بدم عثمان وإظهار أمير المؤمنين (علیه السلام) بمظهر القاتل، فقُتل خيرة أصحابه (علیهم السلام) وفيهم صحابة الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وتابعون. وكان من بين الشهداء عمار بن ياسر الذي عرّفه النبي (صلی اللّه علیه وآله) بأنه مؤشر اتباع الحق وختم بالتأييد على تمسكه، الذي لا ينفصم ، بالحق. أما الأمويون فقد بلغ بهم الإجرام اللاإنساني درجة أن اللّه على قلوبهم السود بالظلم والعدوان ومجانبة الحق.

لم يصمد القاسطون أمام بأس أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) الشديد فتلقوا ضربات قاصمة منهم. فلجأوا إلى فتنة رفع المصاحف على الرماح فافتتن بها من فتن من ضعاف الإيمان من المحاربين في جيش الإمام (علیه السلام) ، وهكذا قلبوا الأمور لصالحهم. لقد نجحوا ، من خلال بث الفرقة والانقسام في المعسكر العراقي، أن يدفعوا عن أنفسهم الهزيمة ليتهيأوا الجولة جديدة من التآمر الدموي. وبذلك أصابوا الأمة الإسلامية بطعنات لازالت تئن من وقعها حتى اليوم ، وليست بوكوحرام وداعش وجبهة النصرة وباقي التنظيمات المتطرفة التي ترتكب أفظع الجرائم بحق المسلمين باسم الإسلام إلّا امتداداً لبقايا أحزاب الخندق. ومما يؤسف له أن التاريخ وكتابته كانا خلال تلك الفترة في قبضة

ص: 6

الأمويين وأنصارهم، فلم يألوا جهداً في تحريف الحقائق وتصويرها بالشكل الذي يناسبهم. فسعوا إما إلى تصوير الفريقين بالمحق أو تصويرهما بالمبطلين وتحميل حكم أمير المؤمنين (علیه السلام) التي وقعت، وإطلاق أكاذيب بحق الإمام علي (علیه السلام) تدّعي أنه عبّر عن أسفه وندمه على وقوع الحرب وأنه دعا لقتلى جيش الشام، محاولةً منهم لمحو حقائق تلك المرحلة من أجل تغييبها عن الأجيال اللاحقة لكى لا تتوصل إلى رؤوس الفتنة الحقيقيين.

وهذا الكتاب، علاوة على الاستفادة من أبحاث مختلف الباحثين، يلقي نظرة تحليلة جديدة على هذه الواقعة سعياً من مؤلفه إلى تبيان حقائقها وإزالة الإبهام الذي يكتنفها.

الكتب المؤلفة حول صفين :

1- صفين، تأليف أبان بن تغلب وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق (علیه السلام)

2-صفين، لإبراهيم بن محمد بن سعید (م283ھ)

3 -صفين، لإبراهيم بن ديزيل الهمداني الذي أخذ منه نصر بن مزاحم بعض منقولاته

4- صفين، لجابر بن يزيد الجعفي (م128ه)

5-صفين، لأبي أحمد الجلودي

6 - صفين، للشيخ عبداللّه الحميري

7- صفين، لأبي مخنف

8- صفين، لمحمد بن زكريا (م298ه). له كتابان صفين الصغير" و"صفين الكبير".

9- صفين، لمحمد بن عمر الواقدي (م207ه)

10 صفين، لابن أبي الجهم القابوسي

11- صفين، لهشام بن محمد السائب الكلبي ( م 205ه-)

ص: 7

12- صفين، لنصر بن مزاحم المنقري، وهو أقدم كتاب وصل عن حرب صفين ألفه بعنوان "وقعة صفين" وترجم إلى الفارسية. وبالرغم من أن نسبة ملحوظة من وثائق حرب صفين تعود إلى نصر بن مزاحم، فإن كتب التاريخ الأخرى تورد تقارير تستند إلى وثائق سابقة للمنقري تكشف عن زوايا من هذه الموقعة غابت عنه. في كتابه "وقعة صفين" ينقل المنقري عن الرواة ويكاد يخلو كتابه من آرائه الشخصية. كما أن الترجمة الفارسية لهذا الكتاب تفتقر إلى الانسيابية ويبدو أنه لابد من إعادة ترجمة الكتاب مع تنقيته من الزوائد.

هذا وقد تناولت مؤلفات حديثة موضوع حرب صفين الذي حظي باهتمام العديد من المؤلفين وقد صدرت بعض الكتب لهم، منها:

1- الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه السلام) " للعلامة السيد جعفر مرتضى العاملي وهو موسوعة من 53 جزءاً باللغة العربية تتناول بالتفصيل والتحليل حياة أمير المؤمنين (علیه السلام) ولاشك أنه من أقوى المؤلفات التاريخية التي تتناول الإمام علياً (علیه السلام). وقد خصص العاملي نحواً من عشرة أجزاء من كتابه هذا لهذا الموضوع واجتهد في قبول النصوص الواردة فيه أو ردها مسلطاً الضوء على الزوايا المبهمة منه. ويكتسب الكتاب أهمية خاصة وامتيازاً من جهة سعته وشموليته للمصادر وأسلوبه التحليلي والنقدي حتى لا يكاد يستغني عنه باحث في التاريخ. وبالرغم من القيمة العلمية العالية للكتاب فإنه يبدو أن مؤلفه أغفل بعض النصوص ولم يلتفت إليها.

2 - "موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في الكتاب والسنة وهو كتاب قيّم آخر يتناول الحوادث التي وقعت في حياة الإمام علي(علیه السلام) ، يقع في 12 جزءاً قام بتأليفه جماعة من الباحثين بإشراف حجة الإسلام والمسلمين ري شهري . يعتبر الكتاب دائرة معارف عن حياة أمير المؤمنين(علیه السلام) وقد تمت ترجمته إلى الفارسية. ويتطرق إلى مختلف أبعاد حياة الإمام(علیه السلام) ويشتمل على مختلف النصوص وقد خصص جزء واحد تقريباً لحرب صفين. من أبرز مزايا الكتاب طريقة تبويبه وتوزيع مواضيعه. إلّا أنه نظراً إلى أن الكتاب استهدف بالدرجة الأولى جمع النصوص المتصلة بمواضيعه فإنه يتسم بضعف في الجانب التحليلي والتقييمي للمنعطفات التاريخية، فضلاً عن عدم احتوائه لجميع النصوص المتعلقة.

ص: 8

"موسوعة الإمام علي(علیه السلام) وهو سلسلة من 10 أجزاء تم تأليفها باللغة الفارسية بإشراف حجة الإسلام والمسلمين علي أكبر رشاد . يتناول الكتاب شخصية أمير المؤمنين (علیه سلام) مختلف أبعادها ويخصص نحو 200 صفحة لحرب صفين.

4- "نور الولاية" تأليف آية اللّه جعفر سبحاني يتناول حياة أمير المؤمنين بالتحليل، وتشغل حرب صفين مساحة كبيرة منه.

5- "موسوعة التاريخ الإسلامي" للعلّامة محمد هادي يوسفي الغروي. يتبع المؤلف في هذا الكتاب منهج نقل التقارير التاريخية بأسلوب واضح بعيد عن التقارير غير الواقعية والأغراض الشخصية بالاستناد إلى المصادر عالية الاعتبار، من مدرسة أهل البيت خاصة. يسرد الكتاب وقائع الحرب بنظام وترتيب. ويمتاز بمناقشة التقارير وتحليلها عبر مقاطعتها مع التقارير الأخرى وترجيح بعض النصوص، والتنويه بالنصوص المحرفة في المصادر الأخرى، والإشارة إلى مصادر الروايات المختلفة ،وترجمة العبارات المستغلقة في الروايات والتقارير، ونقل أسانيد المنقولات، والتعريف بالمنازل ومواقع حدوث المعارك وشرح دلالات الأمثال.

6- "موسوعة سيرة أهل البيت" للمرحوم العلّامة باقر شريف القرشي.

هذا الكتاب الواقع في أربعين جزءاً يعتبر دورة كاملة لسير المعصومين الأربعة عشر. يخصص المؤلف خمسة أجزاء منه لسيرة الإمام علي(علیه السلام) . يستعرض المرحوم القرشي التقارير التاريخية الخاصة بحرب صفين بدون إضافة أية تحاليل أو تصورات شخصية إليها ويمر عليها باختصار. ويتضح من عدد الصفحات التي خصصها المؤلف لحرب صفين أن غايته كانت تقتصر على المرور السريع على حروب الإمام (علیه السلام) علم دون التعرض للروايات والتقارير المتعلقة بها بالنقد والتحليل والمناقشة.

7-خدعة الرماح: كتبه غلامرضا آبروي وتم طبعه بواسطة "بوستان كتاب" سنة 1397ش. ويتناول الخدع التي مارسها جيش معاوية في معركة صفين.

ص: 9

8-"الجغرافيا التاريخية لمسير الإمام علي (علیه السلام ) في (به) صفين" لأحمد خامه يار الذي قامت دار "مشعر" بنشره عام 1394ش ويتناول التعريف بالمسار الذي سار عليه جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) من الكوفة إلى صفين.

الرسائل والأطاريح المؤلفة حول صفين:

1- أسباب الحروب الداخلية في عهد الامام علي (علیه السلام) وجذورها " لمحمد علي مقدم، رسالة ماجستير، جامعة خوارزمي، 1397ش.

2- تحليل (أو: بحث) فقهي لحروب الجمل وصفين والنهروان من وجهة نظر الفريقين" للسيد محمد صادق، أطروحة دكتوراه، جامعة المصطفى العالمية، 1396ش.

3- "الاصطفافات السياسية من حرب صفين حتى وفاة معاوية بن أبي سفيان، منصورة آذرشب، رسالة ماجستير، جامعة سيستان وبلوچستان، 1396ش.

4- "القيم الأخلاقية للإمام علي(علیه السلام) في الحرب "، محمد عبدالرضا كشكول جبار الأسدي، رسالة ماجستير، جامعة المصطفى العالمية، 1396ش.

5- "دراسة ايارات الناكثين والقاسطين استناداً إلى نهج البلاغة"، أمين اللّه جعفري، أطروحة دكتوراه، جامعة آية اللّه حائري، ميبد، 1396ش.

6- "واقعه صفين، أسباب، واقعیات، نتایج در کلام وسيره أمير المؤمنين (عليه السلام)"، السيد تنوير حسين نقوي، رسالة ماجستير، جامعة المصطفى العالمية، 1396ش.

7-بحث تداعيات حرب صفين على حكم الإمام علي(علیه السلام) "، عبدالرضا حاتمیان، رسالة ماجستير، جامعة آزاد إسلامي فرع طهران الأوسط، 1393ش.

8-"أسس العمليات النفسية في السيرة العلوية وأساليبها، مع التركيز على حروب (أو: معارك) صفين ، جمل ونهروان"، حسین همازاده ابيانه، جامعة إمام صادق، 1391ش.

ص: 10

9- " تحليل الحروب الداخلية للمسلمين في القرن الهجري الأول ومناقشتها "، حسين عطاران، رسالة ماجستير، جامعة آزاد إسلامى، فرع طهران الأوسط، 1391ش.

10 -أسباب حرب صفين وخلفياتها وتداعياتها. نبي اللّه باقري زادگنجي ، رسالة ماجستير، جامعة تربیت" معلم طهران، 1384ش.

المقالات المكتوبة حول صفين:

1- بحث في مسير الإمام علي(علیه السلام) إلى صفين وموقع حرب صفين، أحمد خامه یار ، "پژوهش نامه علوى"، 1390ش، العدد الأول.

2 -" صفين من زاوية ثلاثة مصادر تاريخية "، علي ناظميان فرد، مجلة "كتاب ماه تاريخ وجغرافيا"، 1379ش، العدد 41.

3۔ "تاریخ حرب صفين ؛ نهاية عهد وبداية مرحلة ، حسن ،زين مجلة العرفان، 1407ه-، العدد 75.

4-"دروس فقهية من حرب الجمل، صفين ونهروان"، محمد مهدي الآصفي، مجلة فقه أهل البيت سنة 1380ش، العدد 28

5-"نهاية حرب صفين"، السيد أحمد خاتمي، مجلة "پاسدار اسلام"، السنة 1380ش، العدد 235

6- " في مسير صفين"، السيد أحمد خاتمي، مجلة "پاسدار اسلام"، السنة 1379ش، العدد 224.

7- دورقادة جيش أمير المؤمنين(علیه السلام ) في مصير معركة (أو :حرب) صفين: مقارنة حالات ومواقف: مالك اشتر واشعث بن قيس"، مجلة" تاريخ اسلام، شتاء 1395ش، العدد 68.

8- "موقدا نار صفين"، السيد أحمد خاتمي، مجلة "پاسدار اسلام"، خرداد 1379ش، العدد 229.

9- "دور عمار في حرب صفين"، حوراء سادات موسوي، مجله" نامه جامعه،" العدد 89.

10- "دزر المرأة في الميدان السياسي لصفين"، معصومة ريعان، مجلة "بانوان شيعه"، شتاء 1384ش وربيع 1385ش، الأعداد 6 و7.

..... المقدمة

ص: 11

11- "الفتنة في صفين"، طيبة فلاح زاده مجلة "فقه وحقوق"، صیف 1377ش، العدد10

-12 شبهات القاسطين في فتنة صفين"، محمدرضا أحمدي ندوشن، مجلة "معرفت"، مهر 1381ش، العدد 58 .

13-" صفين في سرد ابن أبي الحديد للتاريخ، علي ناظميان فرد، مجلة "تاریخ نگری و تاریخ نگاری" (الرؤية التاريخية وكتابة التاريخ) ، ربيع وصيف سنة 1394 شمسية، العدد 15.

14 - "ستراتيجية أمير المؤمنين (علیه السلام) في مواجهة المعارضين في حرب صفين"، علي خلجي والسيد قاسم مير خليلي، مجلة "معرفت، "آبان 1395ش، العدد 227.

اما هذا الكتاب فهو محصلة الدروس التي ألقيت عبر سنوات في قم المقدسة في مدرسة آية اللّه گلپایگانی تحت عنوان "بحوث خارج الكلام"، التي سعينا من خلالها إلى بيان الحقائق وكشف المسكوت عنه وتحليل القضايا وإزالة الغموض الذي يكتنف بعض جوانب حرب صفين. ولعل شأن مطالعة متأنية لمحتويات الكتاب أن تسلح القارئ بقراءة جديدة للتاريخ لاسيما الحوادث والوقائع التي شهدتها حرب صفين، وأن تزوده بمعرفة دقيقة بالجذور والدوافع والدروس والعبر من المتعلقة بها.

في الختام، لا يفوتني أن أتقدم بوافر الشكر لولدنا العزيز حجة الإسلام حضرة الموقر مجيد شاهوردي وهو من فضلاء دروسنا خارج الفقه والأصول، وخارج الكلام، ودروس أسلوب التحقيق. وهو والحمد للّه من الباحثين وأصحاب القلم والفكر النيّر والسعي الحثيث. وقد بذل جهداً كبيراً في تعزيز هذا الكتاب بالتحقيق والبحث في المصادر والتنظيم والتدوين. ولا يفوتني أيضاً أن أشكر المحقق الفاضل جناب الموقر الشيخ حسن بلقان آبادي الذي راجع محتويات الكتاب بدقة متناهية ورفده بالتدقيق والتصحيح العلمي، وأن أدعو الله لهما بدوام التوفيق.

أسأل اللّه أن يتقبل من العبد الفقير هذا الجهد العلمي المتواضع وينزله منزلة الرضا من نبيه الأكرم (صلی اللّه علیه وآله) و اهل بيت العصمة والطهارة، وأن يبعث بثوابه إلى روح والدي المرحوم آية اللّه العظمى الحاج الشيخ محمدرضا الطبسي، إنه سميع مجيب.

ص: 12

نجم الدين الطبسي

قم المقدسة/ ذكرى ولادة السيدة فاطمة المعصومة (علیها سلام)ومطلع عشرية الكرامة

الأول من ذي القعدة 1440ه- الموافق 1398/4/13ش

مؤسسة ولاء الصديقة

ص: 13

ص: 14

الفصل الاول

اشارة

ص: 15

ص: 16

بداية حكم امير المؤمنين (علیه السلام) وصراع عزل معاوية

في الثامن عشر من ذي الحجة سنة 35 هجرية لقي عثمان بن عفان مصرعه مقتولاً بأيدي المسلمين وأصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، خاصة، نتيجةً لأسباب كثيرة منها ممارسة الظلم والفساد والتمييز من قبله ومن قبل عمّاله ، وإسناد المناصب الحيوية إلى الأقرباء والمقربين، وإهمال مطالیب الناس في تغيير عمّال الولايات، وتعيين المجرمين في مناصب الدولة، والإسراف في تبذير المال العام على الهدايا والهبات لأقربائه من بني أمية بغير حساب، والقسوة على المعارضين.

بعد مقتل عثمان ، أقبل الناس من أطراف البلاد الإسلامية على أمير المؤمنين (علیه السلام) واختاروه خليفة للمسلمين بإلحاح وإصرار. وكانت تلك الواقعة الوحيدة في التاريخ الإسلامي التي اختار فيها المسلمون خليفتهم بحريّة. وقد بلغت كثرة المتجمهرين لمبايعة علي (علیه السلام) ما وصفها الإمام بقوله: ثم تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب (1)

تلك البيعة التي تمت برضا الجميع كانت تنبئ بأن المجتمع الذي تعرض إلى التفكك والانقسام في حكم عثمان سيستعيد وحدته في ظل حكم علي(علیه سلام) وستزول المشاكل التي كان يواجهها الواحدة تلو الأخرى. غير أن أصحاب المال والسلطة الذين لم يرق لهم عدل أمير المؤمنين(علیه سلام) اختلقوا ذرائع لإيقاد نار الفرقة مرة أخرى بين الناس.

من أهم الإجراءات التي اتخذها أمير المؤمنين(علیه السلام) بعد توليه الحكم أنه قام بعزل أغلب المسؤولين الفاسدين الذين كان نصبهم عثمان. وكان من بينهم معاوية الذي كان قد تولى حكم الشام من جانب عثمان فتم عزله. فما كان من بعض الانتهازيين أمثال المغيرة بن شعبة (2)إلّا أن

ص: 17


1- نهج البلاغة الخطبة 229.
2- كان المغيرة بن شعبة ممن شارك في الهجوم على بيت فاطمة مع عمر بن الخطاب وأزلامه. تفسير العياشي، ج2، ص 66، عليها ذيل الآية 61 من سورة الأنفال ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 28، ص 227 ، الحديث 14 ؛ كتاب سليم بن قيس، ج 2، ص 587 ، الحديث الرابع حسب شهادة الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام) فإن المغيرة بن شعبة ضرب فاطمة (عليها السلام). الاحتجاج على أهل اللجاج، ج1، ص413، احتجاج الحسن بن علي بن أبي طالب(علیهما السلام) على جماعة من المنكرين لفضله. وحين تولى عمر بن الخطاب الحكم كافأ المغيرة بأن أسند إليه حكم البصرة. ثم لما وقعت جريمة الزنا من المغيرة في البصرة لم يقم عليه الحد وعزله من البصرة وأسند إليه ولاية الكوفة. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج 18، ص308، ترجمة المغيرة، الرقم 6726. ولما آل الحكم إلى الإمام علي (علیه السلام) ام لم يبايعه المغيرة بن شعبة. تاريخ الطبري، ج 2، ص 698 ، السنة 35، ذكر الخبر عن البيعة. ولم يحضر حرب الجمل ولا صفين، وبعد التحكيم التحق بمعاوية. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج18، ص108، ترجمة المغيرة، رقم 6726 . بعد صلح الإمام الحسن (علیه السلام)عام مع معاوية، عيّن معاوية المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج 18، ص108 ، ترجمة المغيرة، رقم 6726 .

وقفوا موقفاً معارضاً لسياسة أمير المؤمنين (علیه سلام) ونهوه عن عزل معاوية. فذهب المغيرة إلى الإمام(علیه السلام) علم وأصر عليه بالعدول عن موقفه. فطلب منه في البداية الإبقاء على جميع الولاة المعينين من النظام السابق في مناصبهم قائلاً له: (إني لا أريد بك إلّا خيراً وأرجو منك أن لا تعزل عمال عثمان. أبق عليهم في مناصبهم حتى إذا بايعوك واستتب لك الأمر فاعزل من شئت منهم وأثبت من شئت).

فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام): إني لا أتسامح في أمور ديني ولا أعمل بالمكر والحيلة في تنصيب العمال وعزلهم ثم أعاد المغيرة الكرّة في اليوم التالي ليكشف عن نواياه بشكل واضح وشفاف هذه المرّة فقال:

اعزل من شئت أما معاوية فأثبته في منصبه فهو رجل قوي جريء وأهل الشام يطيعونه.

ثم تفتق خياله عن عذر شرعي للإبقاء على معاوية فقال: إن معاوية نصبه عمر ولا ينبغي عزله. فردّ عليه الإمام قائلاً: واللّه لن أمهل معاوية يومين يتسلط فيها على الناس ويحكمهم، بعد المغيرة عرض ابن عباس (1)المقترح نفسه على أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال له: أما أول ما أشار به المغيرة عليك

ص: 18


1- ولد عبد اللّه بن عباس ابن عم النبي (صلی اللّه علیه وآله) قبل الهجرة بثلاث سنوات في شعب أبي طالب وكان ملازماً للنبي (صلی اللّه علیه وآله). ويحتلو منزلة رفيعة لدى أهل السنة لكثرة رواياته في الصحيحين وباقي الكتب الروائية، وله يد طولى في تفسير القرآن. وقد قال النبي (صلی اللّه علیه وآله) فیه: لكل شيء فارس وفارس التفسير عبد اللّه بن عباس. ودعا له النبي (صلی اللّه علیه وآله) لعل و بالقول: اللهم فقهه في الدين وعلمه تأويل القرآن. سير أعلام النبلاء، ج3، ص332، ترجمة عبد اللّه بن عباس، الرقم 51. وكان عبد اللّه بن عباس من خاصة أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) علم وتلاميذه ومحبيه وكان من جلالة القدر بما لا يخفى شهرة. خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، ص190، الرقم 568 . ومحبة ابن عباس لأهل بيت النبي معروفة في حوادث التاريخ رأى مدرك بن [ابن أو أبي] زياد ابن عباس وهو يمسك الركاب للإمام الحسن والإمام الحسين (علیهما السلام) فقال له مستنكرا: أتمسك لهما الركاب وأنت في هذا السن؟ فقال ابن عباس: أتعرف منزلة هذين أيها الأحمق ؟ إنهما ابنا رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أوليست نعمة من أنعم اللّه علي أن يوفقني لخدمتهما وإمساك ركابهما؟ مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 400 ، فصل في مكارم أخلاقهما عليهما السلام. ولقد أدى طول بكائه على أمير المؤمنين (علیه السلام) والحسنين (علیهما السلام)إلى أن يفقد بصره. وكان بعد أن فقد بصره ينشد قائلاً [ما معناه]: لئن أخذ اللّه مني نورعيني فقد جعل نور أهل البيت في قلبي وعلى لساني مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص121، وفاة عبد اللّه بن عباس. وكان عبد اللّه بن عباس من الذين حضروا مع أمير المؤمنين( علیه السلام) جميع حروبه في الجمل وصفين والنهروان وكان أحد قادة عسكره في الحروب وواليه في مدينة البصرة. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص291، ترجمة عبد اللّه بن عباس، الرقم 3037. لقد دفعت منزلة ابن عباس الرفيعة أعداء أهل البيت إلى اللجوء إلى الكذب والاختلاق لإلصاق تهمة سرقة أموال البصرة واختلاسها به. في حين كان لكثير من كبار علماء الشيعة أمثال السيّد المرتضى موقف من هذه الاتهامات حيث عدوها كذباً عليه وافتراء. الأمالي، ج1، ص 123، المجلس الثاني عشر. بعد استشهاد أمير المؤمنين (علیه السلام) بايع عبد اللّه بن عباس الإمام الحسن (علیهما السلام). الفتوح، ج 4، ص 285، ذكر کتاب عبد الله بن عباس من البصرة إلى الحسن بن على(علیهما السلام) . يقول ابن الأثير وابن حجر عاد جماعة من شيوخ وكبراء الطائف عبد اللّه عباس في مرضه الذي توفي منه فجرى حديث بينهم فقال ابن عباس لأحدهم وهو في ساعات- -حياته الأخيرة: خذ بيدي واذهب بي إلى فناء الدار. ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهمّ إني أتقرب إليك بمحمد(صلی اللّه علیه وآله) ، اللهمّ إني أتقرب إليك اللَّهُمَّ بعلي بن أبي طالب (علیه السلام). فمازال يقول ذلك ويعيده حتى سقط على الأرض ومات. كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، ص22، ما جاء عن عبد اللّه بن عباس عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله). و مات ابن عباس عن نحو سبعين عاماً. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 294، ترجمة عبد الله بن عباس، الرقم 3037.

فقد نصحك وأما الآخر فقد غشك وأنا أشير عليك أن تُثبت معاوية فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله(1)

أما نصيحة المغيرة فلاشك في سوء نيته فيها، أما نصيحة ابن عباس فلنا عليها الملاحظات

التالية:

ص: 19


1- قال ابن عباس: أتيت علياً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: إن لك حق الطاعة والنصيحة وأنت بقية الناس وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد وإن الضياع اليوم يضيّع به ما في غد أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة وهو في أهل الشام يستمع منه ولك حجة في إثباته، كان عمر بن- الخطاب قد ولاه الشام. فقلت: لا واللّه لا أستعمل معاوية يومين ... فقلت له: أمّا أول ..... من منزله". الكامل في التاريخ، ج2، ص306، حوادث سنة 35 هجرية، ذكر بيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ج2، ص392، المغيرة بن شعبة ينصح علياً ثم يرجع.

الملاحظة الأولى : أن ابن عباس لم يكن يعرف معاوية وأهدافه حق المعرفة. في حين أن هناك الكثير من القرائن والشواهد على أن معاوية منذ حكم عثمان وفي فترة محاصرته من قبل معارضيه كان يخطط للاستحواذ على حكم المسلمين ولم يكن قانعاً بحكم الشام. وكان ذلك جلياً من خلال خذلانه لعثمان كما يشير بعض الكتاب ومنهم البلاذري إذ يفسر عدم نجدته له بأنه كان يرغب في أن يُقتل عثمان ليتخذ مقتله منصة للانطلاق نحو الحكم (1) لهذا نعتقد بأنه حتى لو أن أمير المؤمنين (علیه السلام)كان أقرّ حكم معاوية على الشام فإن معاوية ما كان مع هذا ليكف عن التآمر والدس، فقد كان يخطط لتحقيق هدف أكبر ولم يكن ليهدأ له بال قبل أن يحققه.

الملاحظة الثانية: اقتراح ابن عباس يتعارض تماماً مع الطريقة الحقة التي كان ينتهجها أمير المؤمنين (علیه السلام) التي جعلت الناس يلتفون حوله لأن الإبقاء على معاوية يعني الإقرار بكل ما قام به منافياً للإسلام في زمن الخلفاء والحال أن الإمام (علیه السلام) كان يعمل من أجل الحق ولا يختار إلا طريقة الحق في سبيل أهدافه المقدسة.

ص: 20


1- روى البلاذري قال: لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده بعث يزيد بن أبي أسد القسري جد خالد بن عبد اللّه بن يزيد أمير العراق وقال له: إذا أتيت ذاخشب فاقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان فاستقدمه حينئذٍ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان ارسل معه وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه". شرح نهج البلاغة، ج 16 ، ص 154 ، ذيل الكتاب السابع والثلاثين، من كتاب له (علیه السلام) إلى معاوية.

نهایة حرب الجمل و فتنةالجزیرة

نهایة حرب الجمل و فتنةالجزیرة(1)

بعد أن وضعت حرب الجمل أوزارها ورجع أمير المؤمنين (علیه السلام) من البصرة إلى الكوفة، وصلته منطقة الجزيرة تفيد بأن أهالي تلك المنطقة عثمانيو الهوى وقد بايعوا معاوية بن أبي سفيان. فبعث أمير المؤمنين (علیه السلام) جيشاً بقيادة مالك الأشتر. فاستعد الضحاك بن قيس الفهري(2)، وكان حاكماً عليها من قبل معاوية، لمواجهة مالك الأشتر بأن بعث بجيش لمقابلته. فوقعت معركة بين الجيشين انتهت بانتصار جيش مالك الأشتر رغم التعزيزات التي دفع بها معاوية إلى الضحاك أكثر من مرة، وسيطر مالك الأشتر على الجزيرة.

بعد حوادث الجزيرة خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) في الناس فبيّن لهم فتنة معاوية وقال: أيها الناس! إن اللّه تبارك وتعالى هو خالق الخلق ولن يرضى من أحد من خلقه إلّا بالحق ولن يزال أمرنا هذا متمسكاً ولم يشتم آخرنا أولنا، فإذا فعلوا ذلك فقد هلكوا وأهلكوا ألا وإني مخبركم أن معاوية بن أبي سفيان قد جهز أهل الشام وزعم لهم أني أنا الذي قتلت عثمان بن عفان وقد حارب عاملي ويوشك أنه سينازعني حقي ويدفعني عنه بجموع أهل الشام. ألا وإني قد عزمت على الكتاب إليه،

ص: 21


1- منطقة بين دجلة والفرات. معجم ما استعجم، ج2، ص 25.
2- الضحاك بن قيس الفهري من أهل الحجاز ولد قبل ارتحال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بست سنوات تقريباً. حضر فتح الشام ودمشق في عهد عمر بن الخطاب ثم سكن الشام حتى وفاته. حضر صفين إلى جانب معاوية وحارب خليفة المسلمين الإمام علياً (علیه السلام) وكان من أصحاب معاوية المقربين ومن قادة جيشه. سيطر الضحاك على دمشق بعد وفاة يزيد ودعا الناس في البداية إلى مبايعة عبد اللّه بن الزبير، ولكنه ما لبث أن دعا لنفسه. قتل حوالي سنة 64 ه- في مواجهة وقعت بينه وبين مروان بن الحكم عرفت بيوم "مرج راهط". تهذيب التهذيب، ج 4، ص 394، ترجمة الضحاك بن قيس الرقم 791 تولى الضحاك بن قيس قيادة قلب جيش معاوية في حرب صفين. مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 169، فصل في حرب صفين. على أن ابن الأثير الجزري يعتقد أن بن قيس، كان في حرب صفين القائد العام لقوات معاوية. الكامل في التاريخ، ج2، ص371، حوادث سنة 37 هجرية. ويقول محمد بن جرير الطبري وابن أبي الحديد: كان الإمام علي (علیه السلام) في قنوت صلاة الفجر والمغرب يلعن معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وأبا الأعور والضحاك بن قيس وبسر بن أرطاة وحبيب بن مسلمة وأباموسى الأشعري وعبدالرحمن بن خالد ومروان بن الحكم. وكان هؤلاء يلعنون علياً(علیه السلام) في صلواتهم. تاريخ الطبري، ج 3، ص113، حوادث سنة 37 هجرية، اجتماع الحكمين في دومة الجندل ؛ شرح نهج البلاغة، ج 4، ص79، ذيل الخطبة 54، فصل في ذكر المنحرفين عن علي(علیه السلام)

فماذا عندكم من رأي؟ قال: فضج المسلمون من كل ناحية فقالوا: يا أمير المؤمنين(علیه السلام) : افعل في ذلك ما أحببت وأمرنا بأمرك، فأمرك فينا سمعاً وطاعة، وما طاعتك فينا إلا طاعة لا النبي (صلی اللّه علیه وآله).(1)

ص: 22


1- فقام في الناس بالكوفة خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس!... إلاكطاعة النبي(صلی اللّه علیه وآله) " الفتوح، المجلد الأول، ص500، وقعة أهل الجزيرة مع الأشتر قبل وقعة صفين.

إرسال أول سفير إلى الشام

كان أمير المؤمنين(علیه السلام) سلام منذ بداية حكمه عازماً على عزل معاوية، غير أن حرب الجمل أجبرته على تأجيل تنفيذ عزله. وبعد انتهاء فتنة الجزيرة وقطع أيدي مثيريها كتب الإمام إلى معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم (من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر. أما بعد! فإن بيعتي لزمتك وأنا بالمدينة وأنت بالشام وذلك أنه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، فليس للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وأما عثمان فقد كان أمره مشكلاً على الناس، المخبر عنه كالأعمى والسامع كالأصم وقد عابه قوم فلم يقبلوه، وأحبه قوم فلم ينصروه، وكذبوا الشاهد واتهموا الغائب، وقد بايعني الناس بیعة عامة ، من رغب عنها مرق، ومن تأخر عنها محق. فاقبل العافية

الناس بيعة عامة - واعمل على حسب ما كتبت به والسلام.)

قال ثم طوى الكتاب ودفعه إلى الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري (1)ووجهه إلى الشام إلى معاوية. فلما ورد كتابه على معاوية فقرأه ورفع رأسه إلى الرسول وقال: أظنك ممن قتل عثمان بن عفان! فقال الأنصاري :وأنا أظنك يا معاوية ممن استنصره عثمان فلم ينصره ولكن خذله وقعد عنه قال فغضب معاوية من ذلك وقال: ارجع إذن إلى صاحبك بغير جواب فإن رسولي في أثرك إن شاء اللّه تعالى(2)

هذا الكتاب وتلك المحادثة التي جرت بين معاوية والحجاج ، لنا عليها الملاحظات التالية:

ص: 23


1- الحجاج بن غزية الأنصاري من صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وهو من أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام) ، حضر صفين. بلغ من الوفاء، للإمام علي(علیه السلام) أنه كان يحرض الجنود ويصعّد حماسهم أثناء القتال قائلاً: أتريدون أن تقولوا لربكم يوم القيامة ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا؟ انصروا أمير المؤمنين(علیه السلام) كما نصرتم رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) من قبل . قاموس الرجال، ج3، ص117،ترجمة الحجاج بن غزية، الرقم 1786.
2- الفتوح، المجلد الأول، ص 501 ، ذكر كتاب علي (علیه السلام) إلى معاوية.

الأولى: خاطب أمير المؤمنين (علیه السلام) معاوية بالخطاب الذي يُلزمه لإثبات مشروعية خلافته بقوله: بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان. فإذا كان لبيعة الناس مشروعية فإن بيعتي أكمل وأشمل من بيعة الخلفاء الذين سبقوني فلا حجة للمخالفين عليّ. .

الثانية: إن بعض أقرباء عثمان أمثال معاوية كانوا راضين بقتله فلم ينصروه ولم يتصدوا للثائرين عليه فلا يحق لهم المطالبة بدم الخليفة بعد قتله ؛ فلو كانوا صادقين في دعواهم لكانوا نصروه في حياته.

الثالثة: كان استنجاد عثمان بمعاوية وخذلان معاوية له من الوضوح والانتشار على ألسن الناس بحيث عيّر به الحجاج معاوية وسخر منه لادعائه حق المطالبة بدم عثمان.

ص: 24

إرسال معاوية ممثلاً له إلى الكوفة

بعد أن امتنع معاوية عن الرد على كتاب أمير المؤمنين(علیه السلام)، أمر بضم من العرائض التحريرية إلى بعضها وجعلها طوماراً واحداً طويلاً لا يحتوي إلّا على البسملة وعبارة "من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب". ثم دفع الطومار إلى رجل من عبس كان معروفاً بين الناس بجودة الخطابة. دخل العبسي على أمير المؤمنين (علیه السلام) وسلّم عليه ثم التفت إلى الناس قبل أن يسلمه الطومار وقال لهم: أيها الناس! هل فيكم رجل من عبس؟ قالوا: نعم. قال: فاسمعوا ما أقول. لقد رأيت في الشام خمسين ألف رجل لما رأوا قميص عثمان تخضبت محاسنهم بدموعهم وحملوا القميص على الرماح وأقسموا على أن لا يغمدوا سيوفهم إلا أن يقتلوا قتلة عثمان أو يُقتلوا. إن الآباء يوصون الأبناء بأخذ الثار لعثمان . والبدو هاجروا إلى المدن ، والأمهات يلقنّ أولادهن المطالبة بدم عثمان فيكبرون على ذلك. لقد كان الناس قبل قتل عثمان يلعنون الشيطان، والآن يلعنون قاتليه.

فسأل أمير المؤمنين (علیه السلام) مبعوث معاوية: فمن يتهم أهل الشام بدم عثمان؟ فقال: أهل الشام جميعاً يتهمونك أنت بقتله.

فقام رجل من عبس اسمه صلة بن زفر فقال له: لست رسولاً جيداً من أهل الشام. أتخيف المهاجرين والأنصار من الباكين على قميص عثمان؟ فلا ذلك القميص قميص يوسف ولا البكاء بكاء يعقوب. فلئن أصبحوا يبكونه في الشام اليوم فقد خذلوه في الحجاز بالأمس.

بعد هذا الحوار قام الناس وهموا بقتل رسول معاوية، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اتركوه فهو رسول. فأخذ الناس الكتاب منه وأعطوه لأمير المؤمنين(علیه السلام) ففتحه ووجد أن معاوية بعث إليه بكتاب خال فأدرك أنه يريد الحرب ولا يرضى بغير الحرب.

عندما لاحظ مبعوث معاوية نبل أمير المؤمنين(علیه السلام) وورعه أدرك أنه على حق فقال له: يا أمير المؤمنين! واللّه لقد أقبلت وأنا أشد الناس عليك حنقاً لما أخبرني عنك أهل الشام وقد واللّه أبصرت

ص: 25

الآن ما فيه أهل الشام من الضلال وما أنت فيه من الهدى ولا واللّه ما كنت بالذي أفارقك أبداً ولا أموت إلّا تحت ركابك. ثم إنه كتب إلى معاوية أبياتاً:

كدت أهل العراق بالبلد الشام *** شفاهاً وكان كيدي ضعيفا

قال فلما انتهى شعره إلى معاوية ونظر إليه عجب لذلك ثم أقبل على من بحضرته وقال: قاتله اللّه! لقد قال وأبلغ ويله، إنما بعثناه رسولاً فصار علينا محرّضاً (1)

نتيجة تمهيد معاوية الأجواء للحرب بإرسال كتاب فارغ ورسائل تهديد على يد العبسي، أدرك الناس أنه لا يريد إلّا الحرب. وأصبح واضحاً أن الانتهازيين الذين طالبوا بالإبقاء على معاوية لم يفهموا حقيقة نواياه الشريرة وأهدافه الدنيوية وتخطيطه للاستيلاء على الخلافة. من هنا فلم يكن

ص: 26


1- "ثم إنه انتخب رجلاً من بني عبس له لسان طلق ومنطق ذلق وشعر لا يبالي ما قال وما يخرج من فيه، ثم دعا بطومارين فوصل أحدهما إلى الآخر فكتب في الطومارين: بسم الله الرحمن الرحيم لا أقل ولا أكثر. ثم طواهما وختمهما وعنونهما ودفعهما إلى العبسي وأرسله إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام). فخرج العبسي إلى الكوفة حتى دخل على علي(علیه السلام) وعنده وجوه المهاجرين والأنصار، فسلّم ثم التفت يميناً وشمالاً فقال: ههنا أحد من بني عبس أو من أبناء قيس عيلان؟ فقيل له: نعم، هات ما عندك! فقال العبسي: عندي والله من الخبر أني قد تركت بالشام خمسين ألف شيخ خاضبين لحاهم بدموع أعينهم على قميص عثمان وإنهم قد عاهدوا الله عزّ وجلّ أنهم لا يشيمون سيوفهم في أغمادهم أبداً حتى يقتلوا من قتل عثمان، يوصي به الميت الحي، ويرثه الحي عن الميت، حتى واللّه لقد شبّ عليه الصغير وهاجر عليه الأعرابي، نعم واللّه وحتى أن الناس قد كانوا يقولون: تعس الشيطان والآن فهم يقولون: تعس قاتل عثمان بن عفان! قال: فقال له علي: ويحك يا أخا بني عبس! فيريدون بذلك ماذا؟ فقال العبسي يريدون واللّه خيط رقبتك فقال له علي (علیه السلام) : تربت يداك وجدب فوك! قال: ثم وثب إليه رجل يقال له صلة بن زفر العبسي وهو صاحب حذيفة بن اليمان فقال له: بئس الوافد أنت يا أخي لأهل الشام وبئس العون لمعاوية! أتخوف المهاجرين والأنصار ببكاء الرجال على قميص عثمان؟ فواللّه ما قميص عثمان بقميص يوسف ولا بكاؤهم عليه كبكاء يعقوب. ولئن بكوا عليه بالشام فقد خذلوه بالحجاز. وأما قتالهم أمير المؤمنين علياً فإن الله عزّ وجلّ يصنع في ذلك ما يحب ويرضى. قال: وهم الناس بالعبسي وقاموا إليه بالسيوف، فقال علي (علیه السلام): دعوه فإنه رسول ولكن خذوا منه الكتاب. قال: فأخذ الكتاب- - "من يده ودفع إلى علي، فلما فضه لم ير فيه شيئاً أكثر من "بسم اللّه الرحمن الرحيم" قال: فعلم أن معاوية يحاربه وأنه لن يجيبه إلى شيء، فقال: لا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم، حسبي اللّه ونعم الوكيل. فأنشأ قيس بن سعد بن عبادة وهو يرتجز ويقول شعراً. قال: ثم إن العبسي رسول معاوية قام إلى علي(علیه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين (علیه السلام) ! واللّه لقد أقبلت... محرضاً". الفتوح، المجلد الأول، ص 504 ، خبر الوليد بن عقبة بن أبي معيط وسبب عداوته مع علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

قرار أمير المؤمنين (علیه السلام) علام بعزل معاوية موافقاً للشرع فحسب، بل كان مؤشراً على تشخيصه الدقيق النواياه وأهدافه.

النقطة الأخرى المهمة في هذا السياق هي أنه بالرغم من ضخامة الإعلام المعادي لأمير المؤمنين(علیه السلام) الذي قام به معاوية في الشام فإن معاملة الإمام(علیه السلام) الرسول معاوية أفشلت كل تلك الشبهات وحولته إلى رجل على استعداد للتضحية بنفسه من أجل الإمام.

ص: 27

رسائل الامام علی (علیه السلام)

بعد هذه الحوادث كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) لم رسالة إلى عدد من الولاة منهم الاشعث ابن قیس (1)والي آذربايجان وجرير بن عبدالله البجلي حاكم همدان أعلن فيها عزلهما ونيته الحرب على معاوية وأمرهما بتجهيز جيش وإرساله إلى الكوفة. وكان موقف جرير من رسالة أمير المؤمنين (علیه سلام) مختلفاً عن موقف الأشعث. فعندما استلم الرسالة جمع الناس في مسجد المدينة وخطب فيهم مادحاً أمير المؤمنين فقال: أيها الناس! هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السلام) وهو المأمون على الدين والدنيا وقد كان من أمره وأمر عدوه ما حمد اللّه عليه وقد بايعه المهاجرون والأنصار وأنتم التابعون بإحسان ولو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين لكان أحق الناس بهذا الأمر لمصاهرته وقرابته

ص: 28


1- ) الأشعث بن قيس الكندي ولد في كندة في الجاهلية وكان رئيسا مطاعا في قبيلته ومن صحابة النبي(صلی اللّه علیه واله) و الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص220، ترجمة الأشعث بن قيس، الرقم 135 للأشعث في تاريخ الإسلام شخصية متلونة وداكنة فقد ارتد بعد وفاة النبي يا (صلی اللّه علیه وآله) فعفا عنه أبوبكر وزوجه أخته. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج2، ص288، ترجمة الأشعث قيس، الرقم 525 ؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج2، ص 287، ترجمة أشعث بن قيس، الرقم 525. كان الأشعث في زمن عثمان واليا على آذربايجان وكان عثمان يهبه كل سنة مئة ألف درهم من خراجها. الغارات، ج1، ص365، خبر بني ناجية ؛ وقعة صفين، ص20، مبايعة جرير لعلي (عليه السلام). وبالرغم من أنه كان في جيش الإمام علي (علیه السلام) إلّا أنه كان من الذين يعترضون على قراراته ويعملون على تأزيم أوضاع الجيش بحيث تنسب إليه جميع جذور الخلافات في جيش أميرالمؤمنين(علیه السلام) ، ولولاه لما وقعت حرب النهروان. شرح نهج البلاغة، ج2، ص279، ذيل الخطبة 36 أخبار الخوارج. وفي مقارنة طريفة يشبهه ابن أبي الحديد المعتزلي بعبد اللّه بن أبي ويقول: كان منافقا بين أصحاب علي كما كان عبد اللّه بن أبي في أصحاب النبي(صلى اللّه علیه وآله) وكان كلاهما رأس النفاق في زمانه نفسه، ص 297 . في إحدى خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) اعترض الأشعث بن قيس عليه فوبخه بشدة وقال عليك لعنة اللّه ولعنة اللاعنين. أيها الكذاب بن الكذاب أيها المنافق بن الكافر والله لقد وقعت في الأسر وأنت كافر مرة وأنت مسلم مرة ولم تشفع لك أموالك ولا منزلتك. نهج البلاغة ، الخطبة 19 . يقول ابن شهر آشوب إن الأشعث بن قيس أعان ابن ملجم ووردان في قتل الإمام علي(علیه السلام) وأشار إلى ابن ملجم أن يُسرع في تنفيذ الجريمة. مناقب آل أبي طالب، ج3، ص312، في مقتله (عليه السلام). كانت ابنة الأشعث بن قيس زوجاً للإمام الحسن (علیه السلام) وهي التي قتلته بالسم. أما ابنه محمد بن الأشعث فكان المسؤول عن القبض على مسلم بن عقيل بعد أن أعطاه الأمان الكاذب ثم لم يف به. مات الأشعث في سنة 40 هجرية بعد استشهاد الإمام علي بأربعين يوماً تقريباً. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص221، ترجمة الأشعث بن قيس، الرقم 135 ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج1، ص 251، ترجمة الأشعث بن قيس، الرقم 185 ؛ الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد 13 ص251، ج 2، ص 57، إرسال ابن زياد الرجال للقبض على مسلم.

وخدمته وشجاعته وهجرته، غير أن البقاء في الجماعة والعناء في الفرقة وعلي حاملكم على الحق ما استقمتم، فإن ملتم أقام ميلكم .فهاتوا ما عندكم من الرأي !فقال الناس: سمعنا وأطعنا وبايعنا أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) (1).

أما الأشعث بن قيس، فرغم أنه لما قرأ كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) متوجه إلى المسجد وأعلن أن بيعة علي واجبة، إلّا أن ما فعله كان نفاقاً من أجل أن يجد وسيلة للهرب واللجوء إلى معاوية. لذا، قال لجماعة من أقربائه بعد أن فرغ من خطبته: إن كتاب علي جاءني وقد أوحشني وهو آخذي بمال آذربايجان وأنا لاحق بمعاوية. فقال القوم: الموت خير لك من ذلك، أتدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنباً لأهل الشام (2)؟

أخيراً دخل جرير بن عبدالله البجلي والأشعث بن قيس الكوفة مع جندهما. في تلك الفترة كان رؤساء القبائل قد وفدوا على الإمام علي(علیه السلام) ، وكان بينهم الأحنف بن قيس أخو الأشعث بن قيس. فجاء الإمام(علیه السلام) وقال له : يا أمير المؤمنين! إنه إن تك سعد لم تنصرك يوم الجمل فإنها لم تنصر عليك، وقد عجبوا أمس ممن نصرك وعجبوا اليوم ممن خذلك، لأنهم شكوا في طلحة والزبير ولم يشكوا في معاوية. وعشيرتنا بالبصرة، فلو بعثتنا إليهم فقدموا إلينا فقاتلنا بهم العدو وانتصفنا بهم وأدركوا اليوم ما فاتهم أمس (3)

ثم بعث إليهم بكتاب بإذن أمير المؤمنين(علیه السلام) لم يحثهم فيه إلى المجيء إلى الكوفة؛ وهکذا دخلت قبيلة بني سعدأيضاً الكوفة (4)

ص: 29


1- "فوثب جرير وأخذ كتاب علي في يده، ثم خرج إلى الناس فنادى فيهم فاجتمعوا، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس!... أمير المؤمنين علياً [عليه السلام] .الفتوح، المجلد الأول، ص 509 ، ذكر كتاب علي إلى جرير بن عبد الله البجلي ؛ وقعة صفين، ص 16 ، كتبه إلى العمال.
2- "فقام الأشعث بن قيس خطيباً فقال: أيها الناس! إن عثمان رحمه اللّه ولآني آذربايجان وهلك وهي في يدي وقد بايع الناس علياً وطاعتنا له لازمة وقد كان من أمره وأمر عدوه ما قد بلغكم وهو المأمون على ما غاب عنا وعنكم من ذلك. قال: وذكروا أن الأشعث إلى منزله، فدعا أهل ثقته من أصحابه، فقال لهم: إن كتاب علي جاءنی............ . لأهل الشام". وقعة صفين، ص21، كتابه (عليه السلام) إلى عماله ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 512، كتاب علي عليه السلام] إلى الأشعث بن قيس.
3- فتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين.. أمس". وقعة صفين، ص 24، وفود القوم على علي (علیه السلام).
4- المصدر نفسه، ص 25.

إثر توافد القبائل المختلفة ،لبست الكوفة ثوباً حربياً وتهيأ كل شيء لمواجهة معاوية. غير أن أمير المؤمنين(علیه السلام) قرر إرسال سفير آخر إلى الشام إتماماً للحجة عليهم عسى أن يمنع ذلك وقوع الحرب.

ص: 30

ارسال السفیر الثانی الی الشام

كان بين جرير بن عبداللّه البجلي (1)ومعاوية صداقة سابقة وكان على علاقة قرابة مع جماعة من أهل الشام. لذا اقترح أن يكون هو حامل رسالة الإمام (علیه السلام) إلى معاوية (2)

فوافق الإمام (علیه السلام) على مقترحه ولكن مالكاً الأشتر ارتاب في أمره إذ كان يحسب هواه مع بني أمية. ولم يكن ارتياب مالك الأشتر بدون أساس، حيث يقول ابن الجوزي إنه لما عزله أمير المؤمنين (علیه سلام) عن ولاية همدان حقد عليه (3).

ولكنّ مصلحة كان يعلمها علي (علیه السلام)- سنبينها لاحقاً - جعلته يرسله سفيراً إلى الشام. ولما وصل جرير إلى الشام توجه إلى معاوية فقال له: أما بعد يا معاوية! فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز وأهل اليمن وأهل مصر وأهل العروض وعمان وأهل البحرين واليمامة،

ص: 31


1- كان جرير بن عبد اللّه البجلي رئيس قبيلة بجيلة. يقول أنه أسلم قبل وفاة النبي(صلی اللّه علیه واله) بأربعين يوماً. وهناك اختلاف حول سنة وفاته، بين 51 و 54 للهجرة. يقول عنه ابن أبي الحديد كان جرير والأشعث يبغضان أمير المؤمنين (علیه السلام) ويعاديانه وكان الإمام (علیه السلام) قد هدم دار جرير. كما يقول إسماعيل بن جرير: هدم علي (علیه السلام) دارنا مرتين. وللنبي تنبؤ طريف عن إسلامه يبين سوء عاقبته. ينقل الحارث بن الحصين أن النبي (صلی اللّه علیه وآله) أعطاه زوجاً من أحذيته وقال له: احفظ هذا فإذا ضيعته ضاع دينك. ففقد فردة من الحذاء في حرب الجمل وفقد الأخرى عندما بعث به أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى الشام. وعندما عاد من الشام ترك أمير المؤمنين(علیه السلام) ولم يحضر صفين. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص308، ترجمة جرير بن عبد اللّه البجلي، الرقم 326 ؛ شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 117 ، ذيل الخطبة 43 ، نسب جرير وبعض أخباره وج4، ص 74 ، ذيل الخطبة 57، فصل في ذكر المنحرفين عن علي (علیه السلام).
2- أراد علي أن يبعث إلى معاوية رسولاً فقال له جرير: ابعثني إلى معاوية، فإنه لم يزل لي مستنصحاً ووداً، فآتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر ويجامعك على الحق، على أن يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة اللّه واتبع ما في كتاب اللّه وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك وجلهم قومي وأهل بلادي وقد رجوت أن لا يعصوني". نفسه، ص27.
3- "وكان كما قال الأشتر، لأنّ جريراً كان ممن يضمر الغش لعلي (علیه السلام) وسببه أنه لما قتل عثمان كان جرير والياً على همدان، فعزله علي(علیه السلام) عنها، فأثر في قلبه". تذكرة الخواص، ج1، ص397، الباب الثالث، حديث بعض وقعاته بصفين.

فلم يبق إلاّ أهل هذه الحصون التي أنت فيها، لو سال عليها سيل من أوديتها غرق وقد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك ويهديك إلى مبايعة هذا الرجل .(1)

بعد أن قال جرير هذا سلّم معاوية كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي كتب فيه:

(بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبدالله على أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر. أما بعد يا معاوية! فقد علمت أن الشورى للمهاجرين والأنصار دون غيرهم، فإذا اجتمعوا على رجل فسموه إماماً كان للّه عزّ وجلّ رضا، فإن خرج من أمرهم خارج ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين. وقد علمت بما كان بالبصرة مما لا يخفى عليك، فجاهدتهم حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون. وبعد فإني أراك قد أكثرت في قتل عثمان ،فادخل فيما دخل فيه المسلمون من بيعتي، ثم حاكم القوم إلي أحملهم وإياك على كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنة نبيه محمد(صلی اللّه علیه وآله) . وأما التي تريدها فإنها خدعة صبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك لعلمت أني أبرأ الناس من دم عثمان! وقد علمت أنك من أبناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة وقد وجهت إليك بجرير بن عبدالله البجلي وهو من أهل الإيمان والهجرة. وأحب الأشياء إلي فيك العافية إلّا أن تتعرض للبلاء، فإن تعرضت قابلتك واستعنت اللّه عليك ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم)(2).

إن هذا الكتاب يكشف لنا أن الإمام(علیه السلام) خاطب ، مرة أخرى، معاوية وفق الأدبيات والقناعات التي يحملها وأثبت له أحقيته بالخلافة بالمنطق الذي يرتضيه. نحن نعتقد أن الإمام منصوب من اللّه ولا دور للناس في منح حكمه الشرعية أو سلبها منه، ولكنه يطرح موضوع الشورى وانحصارها في المهاجرين والأنصار إلزاماً لمعاوية بما يلزم به نفسه من اعتقاد لم يألُ الإمام

ص: 32


1- "فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد! ... هذا الرجل". وقعة صفين، ص 28، نزول جرير على معاوية.
2- الفتوح، المجلد الأول، ص 515 ، ذكر كتاب علي إلى معاوية.

علي (علیه السلام) جهداً في درء الفتنة والمواجهات داخل المجتمع. لذا تفيد الشواهد التاريخية بأنه أمضى سبعة عشر شهراً يكاتب فيها معاوية وعمرو بن العاص ويتلقى منهم الرسائل(1).

ولهذا السبب نفسه أيضاً بعث بجرير بن عبدالله إلى الشام عسى أن يأخذ بيعة أهلها بالطرق

السلمية.

ص: 33


1- "أن علياً قدم من البصرة مستهل رجب الكوفة وأقام بها سبعة عشر شهراً يجري الكتب فيما بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص". وقعة صفين، ص80، مدة المكاتبة بين علي ومعاوية وعمرو ؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص539، حوادث سنة 37 هجرية.

خطبة جرير في الناس

بعد أن سلّم الكتاب إلى معاوية، ومن أجل أن يقنع الناس بمبايعة أمير المؤمنين (علیه السلام)، ذهب جرير في صبيحة اليوم التالي إلى المسجد الأعظم وخاطب الناس بحضور معاوية وقال: أيها الناس! إن هذا الدين لا يحتمل الفتن وإن الناس قد بايعوا عليا (علیه السلام) غير واتر ولا موتور . وقد كانت البصرة أمس ملحمة لم يسمع بمثلها. وقد بايعنا علي بن أبي طالب (علیه السلام) على ما بايعه المهاجرون والأنصار. ولو ملكنا أمورنا لم نختر للخلافة أحداً سواه. فاتق اللّه يا معاوية واحذر في نفسك، فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فادخل فيما دخل فيه الناس. فإن قلت بأن عثمان بن عفان استعملني ولم يعزلني، فإن الأمر لو جاز كما قلت لم يقم للّه دين وكان لكل امرئ ما في يديه. ولكن قد جعل اللّه تبارك وتعالى للآخر من الولاء مثل حق الأول(1).

من الحجج التي احتج بها معاوية ليبرر بها مخالفته لأمير المؤمنين(علیه السلام) تعيينه من قبل عمر على الشام، لذا فلا حق لعلي (علیه السلام ) أن يخالف سيرة الخلفاء. وكانت حجة واهية جرير بسهولة. فلكل خليفة ،كما للخلفاء السابقين له، الحق في عزل الولاة وتعيينهم.

ص: 34


1- فلما أصبح جرير أقبل إلى المسجد الأعظم فاجتمع إليه الناس وحضر معاوية، فجعل جرير يعظهم ويدعوهم إلى بيعة علي(علیه السلام) ثم قال: أيها الناس !... حق الأول". الفتوح، المجلد الأول، ص 518 ، ذكر كتاب علي (علیه السلام) إلى معاوية.

خطبة معاوية في المسجد

بعد جرير، ارتقى معاوية المنبر فخطب قائلاً: الحمد للّه الذي جعل الدعائم للإسلام أركاناً والشرائع للإيمان برهاناً، يتوقد قبسه في الأرض المقدسة التي جعلها اللّه محل الأنبياء والصالحين من عباده، فأحلها أهل الشام ورضيهم لها ورضيها لهم، لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره والذابين عن دينه وحرماته. ثم جعلهم لهذه الأمة نظاماً وفي سبيل الخيرات أعلاماً، يردع اللّه بهم الناكثين ويجمع بهم ألفة المؤمنين. واللّه نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام وتباعد بعد القرب اللّهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ويخيفون آمننا ويريدون هراقة دمائنا وإخافة سبيلنا. وقد يعلم اللّه أنا لم نرد بهم عقاباً ولا نهتك لهم حجاباً ولا نوطئهم زلقاً غير أن اللّه الحميد كسانا من الكرامة ثوباً لن ننزعه طوعاً ما جاوب الصدى وسقط الندى وعرف الهدى. حملهم على خلافنا البغي والحسد، فاللّه نستعين عليهم. أيها الناس! قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم، وأني لم أقم رجلاً منكم على خزاية قط، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما واللّه يقول (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان.

فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان وبايعوه على ذلك وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره أو يفني اللّه أرواحهم .(1)

ولنا على خطبة معاوية الملاحظات التالية:

الأولى: من أساليب معاوية في خداع أهل الشام أن جهازه الإعلامي يكرر دائماً روايات موضوعة في تمجيد منطقة الشام (1) واعتبارها وأهلها مقدسين وجعلها قطباً مقابلاً لمكة والمدينة لصرف أنظار

ص: 35


1- وقعة صفین، ص31، نزول جرير على معاوية ؛ شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 77، ذيل الخطبة 43 ، دعوة علي معاوية إلى البيعة والطاعة وردّ معاوية.

الناس عن مهبط الوحي ومكان مولد النبي (صلی اللّه علیه وآله). وفي خطبته هذه اتبع معاوية الأسلوب ذاته فسمّى الشام بالأرض المقدسة ونعت أهلها بأنهم مثال الطيبات والمحاسن.

الثانية: عمل معاوية، طول فترة حكمه للشام والبلاد الإسلامية، على تبرير أفعاله بنظرية الجبر. فكان يلقي في أذهان الناس أن كل ما يحدث هو بإرادة اللّه ورضاه، وأنه لا يملك شيئاً حيال ذلك. لذا فلا حق لأحد في الاعتراض على طريقته في إدارة الأمور واتبع هذا الأسلوب أيضاً في إثبات شرعية تمسكه بالحكم فوصف إمارته على الشام بالثوب الذي ألبسه إياه اللّه، بحيث لا يحق له هو أن يخلعه عن نفسه. إذن، فعزل أمير المؤمنين (علیه السلام) مخالف لإرادة اللّه ومشيئته. وهكذا خدع الناس بأسلوبه الماكر وأعدّهم لمواجهة الإمام (علیه السلام).

الثالثة: ادّعى معاوية أن السبب الوحيد الذي من أجله عزله أمير المؤمنين(علیه السلام) هو الحسد وحب الرئاسة، وحاول أن يلبس القضية ثوباً شخصياً.

الرابعة: من أسباب قوة بني أمية أن الخلفاء أسندوا إليهم الحكم وأطلقوا لهم الحرية لعمل ما يشاؤون. لذا يعتبر معاوية أن شرعية حكمه للشام متأتية من تولية عمر وعثمان له ويعتبر عزل أمير المؤمنين(علیه سلام) فاقداً للوجه الشرعي.

الخامسة: نظراً إلى أن معاوية لم يكن يجد مقومات مواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام) مهيأة، فإنه لم يوجه الاتهام إليه بقتل عثمان واكتفى بأن أعلن نفسه ولي دم القتيل. الجزء الأول من تاريخ دمشق يعرض مثالاً لهذا النوع من الروايات.

ص: 36

كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص

خلال فترة إقامته في الشام، حاول جرير أكثر من مرة إقناع معاوية بمبايعة الإمام علي(علیه سلام )؛ ولكنه كان في كل مرة يتهرب من الإجابة الصريحة ويقول له بأنه يطلب منه أمراً صعباً لا يريد التسرع فيه. ذلك من أجل كسب الوقت لتوفير الاستعدادات الكافية لمواجهة أمير المؤمنين(علیه سلام) ولم تكن المواجهة سهلة بحيث يستطيع أن يتدبرها بمفرده. لذا أرسل كتاباً خاصاً إلى عمرو بن العاص الذي كان يسكن فلسطين حينئذ يطلب منه المساعدة، وأرسل إليه كتاباً آخر يرغبه بالتوجه إلى الشام، جاء فيه: أما بعد، فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك. فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة وقدم علي جرير بن عبداللّه في بيعة علي وحبست نفسي عليك حتى تأتيني. فأقدم على بركة الله تعالى.(1)

الكتاب يفيض بمكر معاوية وخداعه. فبالرغم من أنه كان قد عزم على مواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام) واتخذ قراره النهائي في ذلك ، إلّا أنه يتظاهر بأنه لا يقرر شيئاً ولا يفعله إلّا بالتشاور مع عمرو بن العاص وبعد موافقته.

ص: 37


1- وقعة صفين، ص 34 ، استشارة عمرو ولديه ؛ الإمامة ،والسياسة، ج1، ص 86 ، مشورة معاوية أهل ثقته، كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص، ما سأل معاوية من علي من الإقرار بالشام ومصر ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص520، ذكر كتاب علي (علیه السلام) إلى معاوية.

كما أرسل معاوية كتاباً مشابها إلى شرحبيل بن السمط (1)و فيه أيضا تظاهر بالتصاغر وإكبارمخاطبه (2)لكي يجتذبه إلى جانبه تمهيداً لتشكيل جبهة قوية ضد عسكر العراق.

ص: 38


1- هناك اختلاف حول كون شرحبيل صحابياً. فقد شارك في معركة القادسية وهو الذي فتح مدينة حمص وكان والياً عليها من قبل معاوية نحو عشرين سنة. وهناك اختلاف في زمن وفاته بين سنة 40 و 42 هجرية. وفي زمن عمر بن الخطاب كان حاكماً على المدائن فترة من الزمن. ولكنه عاد الى الشام بناءً على طلب أبيه الذي ما كان يطيق فراقه فأصبح والياً للشام عشرين سنة. مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ، ج 6، ص 112، السنة 36 هجرية، شرحبيل بن السمط ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج3، ص266، ترجمة شرحبيل بن السمط ، الرقم 3889 ؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال ، ج 8، ص308، ترجمة شرحبيل بن السمط، الرقم 2699 ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج 24، ص 392، ترجمة شرحبيل بن السمط، الرقم 2810.
2- "فإننا نريد أن نستشيرك في أمرنا وقد حبسنا عليك أنفسنا وعلى مشورتك". الفتوح، ج1، ص530، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب ( علیه سلام) إلى جرير بن عبد اللّه.

حالة عمرو بن العاص بعد قتل عثمان

حمل عمرو بن العاص في قلبه كرهاً لعثمان إثر عزله عن ولاية مصر فصار يؤلب الناس عليه. وعندما حاصر الناس عثمان، وكان عمرو بن العاص حاقداً عليه، فخرج من المدينة مع ولديه فذهبوا إلى فلسطين ليتابع تطورات الأحداث من هناك. وكما فعل معاوية، كان يراقب الأوضاع لينتهز أول فرصة سانحة. ولما سمع بمقتل عثمان قال: أنا أبوعبدالله يكون حرب من حك فيها قرحة نكأها .(1)

وقال مبيناً موقفه ممن يخلف عثمان: إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً وإن يله ابن أبي طالب (علیه السلام) فلا أراه إلا سيستنظف الحق وهو أكره من يليه .(2)

الملاحظة المهمة في كلام عمرو بن العاص هي أنه على الرغم من معرفته بحقانية أمير المؤمنين (علیه السلام) فإنه وقف بوجهه بسبب تعارض تلك الحقانية مع مطامعه الدنيوية. لذا، غضب لما علام سمع بمبايعة الناس لعلي (علیه السلام) وأخذ يتربص به ويتطلع لظهور قطب معارض له. وطار فرحاً لما سمع بتمرد معاوية على الدولة المركزية ومطالبته بدم عثمان ورجّحه على علي (علیه سلام) حتى أنه بعد أن عزم على الوقوف إلى جانب معاوية، قال لأبنائه: أما علي فلا خير عنده وهو رجل يدل بسابقته وهو غير مشركي في شيء من أمره .(3)

ص: 39


1- قال عمرو: أنا أبو عبد اللّه ... نكأها". تاريخ الطبري، ج 3، ص 69 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية.
2- تاريخ الطبري، ج 3، ص 69 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية
3- "فقال له قائل: إن معاوية بالشام لا يريد يبايع لعلي [عليه السلام] فلو قارنت معاوية. فكان معاوية . أحب إليه من علي بن أبي طالب(علیه السلام). وقيل له: إن معاوية يعظم شأن قتل عثمان بن عفان ويحرض على الطلب بدمه، فقال عمرو: ادعوا لي محمداً وعبد اللّه. فدعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان وبيعة الناس لعلي وما يرصد معاوية من مخالفة علي. وقال: ما تريان، أمّا علي.. أمره". تاريخ الطبري، ج 3، ص 69 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية.

تشاور عمرو بن العاص مع أبنائه

قبل توجهه إلى الشام، أطلع عمرو بن العاص ابنيه على كتاب معاوية وطلب رأيهما. فقال له عبداللّه وكان معارضاً للذهاب: أرى أن نبي اللّ(صلی اللّه علیه وآله) القبض وهو عنك راض والخليفتان من بعده وقتل عثمان وأنت عنه غائب. فقر في منزلك فلست مجعولاً خليفة ولا تريد أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشك أن تهلك فتشقى فيها.

على أن مراجعة أقوال النبي(صلی اللّه علیه وآله) تبين أن كلام عبدالله لا نصيب الحقيقة، و أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لو لم يكن غير راض عن أبيه فحسب، بل لعنه أكثر من مرة على أفعاله الدنيئة. حيث يروى أن عمرو بن العاص كان ذات مرة يشرب الخمر مع الوليد بن عقبة وينشدان شعراً في هجاء شهداء أحد ، فسمعهما النبي اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فغضب وقال : اللّهُمَّ العنهما وأركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما إلى النار دعّا . (1)

وروي أيضاً أن الإمام الحسن (علیه السلام) قال لعمرو بن العاص وكان معاوية حاضراً: إنك هجوت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بسبعين بيتاً من الشعر ، فقال رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) : اللّهُمَّ إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهُمَّ العنه بكل حرف ألف لعنة (2).

وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها وإن تصم هذا الأمر وأنت فيه خامل تصاغر أمرك. فالحق بجماعة أهل الشام فكن يداً من أياديها واطلب بدم عثمان، فإنك قد استنمت فيه إلى بني أمية.

ص: 40


1- قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و لما مر بعمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط وهما في حائط يشربان ويغنيان بهذا البيت في حمزة بن عبد المطلب حين قتل كم من حواري تلوح عظامه وراء الحرب عند ان يجر فيقبرا (هكذا:م) فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم): اللّه.. دعا". بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج20، ص76، الباب 12: غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد
2- شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 291، ذيل الخطبة ،82، مفاخرة بين الحسن بن علي عليه السلام] ورجالات من قريش.

فقال عمرو بعد أن سمع مقالتي ولديه المتضادتين: أما أنت يا عبداللّه فأمرتني بما هو خير لي في ديني. وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي. (1)

ص: 41


1- وقعة صفين، ص 34 ، استشارة عمرو ولديه ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص 358 ، حوادث سنة 36 هجرية.

نصيحة وردان غلام عمرو بن العاص

متأثراً برأيي ابنيه المتضاربين، تملك عمرو بن العاص ترديد شديد بشأن الذهاب إلى الشام. وفي اليوم التالي استدعى غلامه وردان وكان يأمره بأوامر متعارضة. فيأمره بتجهيز عدة السفر، ثم ما يلبث أن يأمره بإنزالها.

تعجب وردان من اضطراب عمرو بن العاص فقال له: لقد خلطت أباعبداللّه، فإن شئت أخبرتك بما في نفسك. قال (عمرو) هات! قال (وردان): اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك فقلت: علي معه آخرة بلا دنيا ومعاوية معه دنيا بلا آخرة وليس في الدنيا عوض من الآخرة، فلست تدري أيهما تختار. قال (عمرو) اللّه درك ما أخطأت مما في نفسي شيئاً، فما الرأي يا وردان؟ قال (وردان): الرأي أن تقيم في منزلك، فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغن عنك (1)

قال (عمرو): الآن وقد شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية، ارحل يا وردان. ثم أنشد عمرو وهو يسير: فاخترت من طمعي دنيا على بصر .... وما معي بالذي أختار برهان(2).

ص: 42


1- "فلما أصبح دعا وردان مولاه فقال له: أرحل يا وردان. ثم قال: حط يا وردان، فحط ورحل ثلاث مرات. فقال وردان: لقد خلطت... أرحل يا وردان". تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 185، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه السلام] ؛ وقعة صفين، ص36، حديث عمرو مع وردان ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 63 ، أمر عمرو بن العاص ؛ الإمامة والسياسة، ج1، ص96، استشارة عمرو بن العاص ابنيه ومواليه.
2- وقعة صفين، ص 36، حديث عمرو مع وردان ؛ شرح نهج البلاغة ، ج2، ص63، أمر عمرو بن العاص

دخوله على معاوية وعدم اعتنائه

ثم توجه إلى الشام لينضم إلى بؤرة النفاق. وبالرغم من أن ذهاب عمرو بن العاص إلى الشام جاء استجابة لطلب معاوية، كما تقدم، فإن بعض النصوص التاريخية تفيد بأنه لما دخل عمرو الشام، لم يعتن معاوية به. فغضب عمرو وقال لمعاوية: واللّه لعجب لك أني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني أما واللّه إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنما أردنا هذه الدنيا.

عند ذاك أدرك معاوية أن عمرو بن العاص يوافقه المبدأ والموقف فالتفت إليه وشمله بلطفه.(1) وهكذا التحق عمرو بن العاص بمعاوية لكي يقدم ما في وسعه في مواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام) مدفوعاً بأطماعه الدنيوية من أجل الحصول على المنصب. ولاشك في أنه لو لم يقتل عثمان لفتش هذان عن ذريعة أخرى للتخلص من العدل العلوي. وشاهدنا على ذلك أن عمرو بن العاص واجه عائشة ذات فقال لها: وددت وددت أنك قتلت في حرب الجمل. فقالت له: لماذا لا أبا لك؟ فقال عمرو بن العاص :

لكان مصيرك الجنة حسب التقدير الإلهي ولكنا اتخذنا موتك ذريعة كبرى لتقويض جبهة علي. (2)

ص: 43


1- ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، وقال عمرو: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إليه. فقال لعمرو ابناه: ألا ترى معاوية لا يلتفت إليك؟ فانصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال له: واللّه لعجب لك.. فصالحه معاوية وعطف عليه". الكامل في التاريخ، ج2، ص358، حوادث سنة 36 هجرية.
2- قال لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل. قالت: ولم لا أبا لك؟ قال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب" شرح نهج البلاغة، ج6، ص 322، ذيل الخطبة 83، نبذ من كلام عمرو بن العاص.

الاستشارة الأولى لعمرو بن العاص

تزامن مع وصول عمرو بن العاص إلى الشام وقوع ثلاث حوادث شغلت معاوية ؛ فطرحها عليه جميعاً يطلب رأيه في كيفية مواجهتها.

الحادثة الأولى: قيام محمد بن أبي حذيفة(1) بكسر باب باب سجن مصر والهروب منه مع مجموعة من السجناء.

الحادثة الثانية: تهيؤ قيصر الروم للهجوم بجيشه على الشام.

الحادثة الثالثة: وصول الإمام علي (علیه السلام) إلى الكوفة بعد انتصاره في حرب الجمل وتخطيطه للهجوم على الشام.

فقال عمرو بن العاص كل ذلك عظيم، أما محمد بن أبي حذيفة فتبعث إليه بالخيل، فإما أن يُقتل وإما أن يهرب ،ولن يضرك هربه. وأما ملك الروم فتهدي إليه الهدايا من أواني الذهب والفضة وغير ذلك من أنواع الهدايا من طرائف الشام وتسأله الموادعة، فإنه يجيبك إلى ذلك . وأما علي بن أبي طالب(علیه السلام) فلا واللّه لا تخالفه ولا تقاتله. قال معاوية: ما قد قطع الرحم وفتن الأمة وشق العصا وقتل الخليفة وعصى ربه وقتل ونقض ما كان في عنقه من بيعة أمير المؤمنين عثمان بن عفان. فقال عمرو: مهلاً يا معاوية !

فإن علياً أوحد الناس في الفضائل وليس لك مثل هجرته ولا سابقته ولا صهارته ولا قرابته ولا قدمته ولا شجاعته، وإن له في الحرب حظاً سنياً ليس لأحد مثله، وإن له جداً وحداً وحظوة في العرب وبلاءً من اللّه ورسوله حسناً جميلاً. فقال معاوية: صدقت يا أباعبد

ص: 44


1- عد الشيخ الطوسي محمد بن أبي حذيفة من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام). وكان حذيفة ابن أخت معاوية ولكنه لم يكن لام. يشبه خاله في شيء بل كان فوق ذلك، يعاديه ويناصر أمير المؤمنين (عليه السلام). سجنه معاوية مدة من الزمن ثم أمر من حوله بجلبه من السجن ليعلن الندم عما سلف منه وينال من علي عليه السلام ليطلق سراحه. ولما أحضر محمد عند معاوية، تكلم في قتل عثمان ثم التفت إلى معاوية فقال: لم يتغير خلقك ولم تتبدل طباعك منذ عرفتك في الجاهلية وبعد أن أسلمت ولم يزدك الإسلام شيئاً ولا زلت باقياً على كفرك... لن أترك حب علي [عليه السلام] ما دمت حياً ولن أكف عن عداوتك. رجال الكشي، ص144، الحديث 126.

اللّه هو كذلك ولكنّا نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه دم عثمان بن عفان. فضحك ثم قال: واعجباه لهذا الكلام الذي أسمعه منك يا معاوية! إنه قد يجب على وعليك أن لا نذكر شيئاً من أمر عثمان. أما أنت فخذلته حين استغاث بك وهو محصور بالمدينة فلم تنصره. وأما أنا فإني تركته عياناً وذهبت إلى فلسطين (1)

عمرو بن العاص، الذي كان يعلم جيداً أن معاوية دعاه إلى الشام ليعينه على مواجهة أمير المؤمنين(علیه السلام) وأنه بمسيس الحاجة إليه، تظاهر في البداية بأنه مخالف للحرب لكي يفرض شروط سلام تسليمه حكم مصر. وهذا الذي جعله يسهب في تعداد فضائل الإمام علي(علیه السلام) علام ويؤكد على أنه خصم قوي وأن مواجهته تتطلب استثماراً ضخماً على معاوية أن يتحمله إذا كان يريد المواجهة، وأن يستجيب لطلباته.

كما أن عمرو بن العاص سبق له في كلام أكثر أهمية، أن ذكر فضائل لأمير المؤمنين (علیه السلام) ينتقص من أهميتها نية قائلها في ابتزاز معاوية، وذلك لأنها صادرة من عدو.

تفيد بعض المصادر التاريخية بأنه لما بعث معاوية بكتابه إلى عمرو بن العاص يطلب فيه مساعدته، ردّ عليه عمرو بن العاص بكتاب ذكر فيه نقاطاً مهمة تتعلق بفضائل الإمام علي ( علیه السلام). يروي سبط بن الجوزي الكتاب بهذا النص: أما بعد فإني قرأت كتابك وفهمته، فأمّا ما دعوتني إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقي والتهور معك في الضلالة وإعانتي إياك على الباطل واختراط السيف في وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو أخو رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) و وصيه ووارثه وقاضي دينه ومنجز وعده وصهره على ابنته سيدة نساء العالمين وأبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة. وأما قولك أنك خليفة عثمان، فقد عزلت بموته وزالت خلافتك. أما قولك إن أمير المؤمنين (علیه سلام) أشلى الصحابة على قتل عثمان فهو كذب وزور وغواية. ويحك يا معاوية! أما علمت أن أبا الحسن(علیه السلام)

ص: 45


1- قال: وسار عمرو حتى قدم على معاوية، فقربه وأدناه ورفع مجلسه، ثم قال: يا أباعبد اللّه إنه قد طرقتنا من هذه الليلة أخبار ليس منها ورد ولا صدر. فقال عمرو: وما ذلك يا معاوية؟ فقال معاوية: أما أحد الأخبار فإن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج منه وخرج معه أصحابه وقد علمت أنه من آفات الدين، والخبر الثاني أن قيصر ملك الروم قد زحف بخيله ورجله ليغلب على الشام والخبر الثالث أن علي بن أبي طالب نزل الكوفة فتهيأ للمسير إلى ما قبلنا، فهات ما عندك! فقال عمرو: كل ذلك عظيم... وذهبت إلى فلسطين". الفتوح، المجلد الأول، ص523 ، ذكر كتاب علي [عليه السلام] إلى معاوية.

بذل نفسه اللّه تعالى وبات على فراش رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وقال فيه: "من كنت مولاه فعلي مولاه"؟ فكتابك لا يخدع ذا عقل وذا دين . (1)

من النقاط التي ذكر بها عمرو بن العاص معاوية أن معاوية ليس له من الماضي المشرّف ما يؤهله لمواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام). على أن كلام عمرو بن العاص هذا، وإن كان حقيقة واقعة، إلّا أنه لا يمثل إلّا جزءاً يسيراً من الحقيقة ؛ لأن معاوية لم يكن جديراً بالمقارنة بما هو أدنى شأناً من أمير المؤمنين(علیه السلام) بكثير. وهذا ما تكشف عنه مراجعة سيرته التي منها:

ص: 46


1- فكتب إليه عمرو: أما بعد... وذا دين تذكرة الخواص، ج 1، ص 404، الباب الثالث: خلافة أمير المؤمنين [عليه السلام]، حديث بعض وقعاته مع معاوية بصفين.

سيرة معاوية وشخصيته

ولد معاوية بن أبي سفيان في مكة قبل البعثة النبوية بخمس سنوات(1) وعند ولادته ادّعى أبوته أربعة أشخاص قال كلّ منهم أنه ابنه .(2)

وقد أشار زياد بن أبيه إلى هذه النقطة في جواب رسالة معاوية حيث قال: إن كنت ابن سمية فاعلم أنك ابن الجماعة (3).

هناك ترديد قوي في انتساب معاوية إلى أبي سفيان، لأن رجلاً اسمه مسافر بن عمرو كان مغرماً بهند فواقعها .فلما شاع الخبر، هرب مسافر بن عمرو إلى الحيرة. فدعا عتبة أبو هند أباسفيان ووعده بمال كثير على أن يتزوج بهند ستراً لفضيحتها. فوافق أبوسفيان، وبعد زواجه بها بثلاثة أشهر، وُلد معاوية.(4) كانت هند من النساء الفاحشات وكانت مشهورة بالفاحشة (5). وكانت بالإضافة إلى

ص: 47


1- الإصابة في تمييز الصحابة، ج6، ص 120، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 8087.
2- تذكرة الخواص، ج2، ص 32، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام ؛ ربيع الأبرار، ج 4 ، ص 275 ، باب القرابات والأنساب، الرقم 99
3- شرح نهج البلاغة ، ج 16، ص 183 ، ذيل الرسالة رقم 44، نسب زياد بن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه.
4- أن مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس كان ذا جمال وسخاء، عشق هنداً وجامعها سفاحاً، فاشتهر ذلك في قريش وحملت هند فلما ظهر السفاح هرب مسافر من أبيها عتبة إلى الحيرة وكان فيها سلطان العرب عمرو بن هند. وطلب عتبة أباسفيان ووعده بمال كثير وزوجه ابنته هند فوضعت بعد ثلاثة أشهر معاوية. ثم ورد أبوسفيان على عمرو بن هند أمير العرب فسأله مسافر عن حال هند فقال: إني تزوجتها. فمرض ومات". نهج الحق وكشف الصدق، ص314، نماذج أخرى من نسب معاوية وأنسابه وهم الشجرة الملعونة ؛ بحار الأنوار لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 33، ص 198، الباب السابع عشر: باب ما ورد في معاوية وعمرو بن العاص.
5- "كانت هند تذكر في مكة بفجور وعهر". شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 336، ذيل الخطبة ،24، نسب معاوية وبعض أخباره

فجورها وعهرها قاسية القلب وحشية، وهذا ما ظهر منها جلياً في معركة أحد. فبعد استشهاد حمزة سيد الشهداء عمدت إليه انتقاماً فبقرت بطنه سواستخرجت كبده وشوته وأكلته .(1)

لقد مثّلت هند بأجساد الشهداء في معركة أحد فقطعت آذانهم وأنوفهم وشفاههم وصنعت منها قلادة وخلخالاً وضعتهما في رقبتها وساقها، وكافأت وحشي قاتل حمزة بأن أهدته عقودها وأقراطها هي وجواريها(2).

أسلم معاوية يوم فتح مكة (3)ولكن إسلامه كان إسلام نفاق ظاهرياً ولم يسلم حقيقة أبداً. يقول ابن أبي الحديد في دينه: قد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ولم يقتصروا على تفسيقه وقالوا عنها ( هكذا : م ) إنه كان ملحداً الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص474، ترجمة هند بنت عتبة، الرقم 3548.

لا يعتقد بالنبوة .(4)

وقد قال للمغيرة بن شعبة مرة أنه لن يقر له قرار حتى يدفن اسم النبي وذكره.(5)

لقد بلغ عداؤه لأهل بيت النبي (صلی اللّه علیه وآله) أن كان يتمنى أن لا يبقى من بني هاشم أحد حياً .(6)

ص: 48


1- فزرقه وحشي الحبشي فقتله وأخذ كبده فأتى بها هند بنت عتبة فمضغتها ثم لفظتها، وجاءت فمثلت به واتخذت مما قطعت منه مسكين ومعضدتين وخدمتين. وأعطت وحشياً حلياً كان عليها من ورق وجزع ظفار، وظفار جبل باليمن يؤتى منه بهذه الحجارة، وأعطته خواتيم ورق كانت في أصابيع رجلها". أنساب الأشراف، ج1، ص393، غزوة أحد.
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة، جه، ص 201، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 4984.
3- "... ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك". شرح نهج البلاغة، جه ، ص129، شرح الخطبة 60، أخبار متفرقة عن أحوال معاوية.
4- شرح نهج البلاغة، ج3، ص 129 و 131 ، ذيل الخطبة 60 ، أخبار متفرقة عن معاوية.
5- "منها قوله عليه السلام لودّ معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة". شرح نهج البلاغة، ج19، ص139، نبذ من غريب كلام الإمام علي (عليه السلام) وشرحه لابن قتيبة.
6- شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 73، ذيل الخطبة 56 ، فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذمّ علي (عليه السلام).

وكان عداؤه لأمير المؤمنين(علیه السلام) مضاعفاً ؛ فقد هلك الكثير من أقربائه على(عليه سلام) في مختلف المعارك. فكان يلاحق كل من يروي شيئاً من فضائل الإمام ويعاقبه بقسوة(1)

وبلغ بغضه وبغض أنصاره لعلي (علیه السلام) أن كانوا يتمنون أن يمحى اسمه تماماً وأن لا يسمي أحد مولوداً له باسمه ؛ فكان بنو أمية يقتلون كل من يتسمى باسمه. وحين سمّى رباح ابنه علياً قال لأزلام بني أمية: إن اسمه "عُلَي .(2)

قال قوم لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل! فقال: لا واللّه حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً. (3)

وقتل معاوية كثيراً من الشيعة لحبهم لعلى(علیه السلام) ، وفعل عمّاله مثل ما فعل.(4)

ولم يكن يعادي الدين والشريعة في قرارة نفسه فحسب، بل كان يجاهر بعدواته. فحين حدث جدال بین عبدالرحمن بن خالد ونصر بن الحجاج على ابن ادّعى كل واحد منهما أنه له، حكم معاوية بالولد لعبدالرحمن بن خالد وفق حديث النبي فاعترض نصر بن الحجاج على حكم معاوية وقال له: فلم لم تحكم بالحكم نفسه في قضية زياد ابن أبيه؟ فقال معاوية: "ذاك حكم معاوية وهذا حكم رسول اللّه .(5)

ص: 49


1- "كانت بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً فقال: هو عُلَيَّ وكان يغضب من علي ويجرح من سماه به". تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج13، ص 266 ، ترجمة علي بن رباح، الرقم 4651.
2- روى أبو عثمان أيضاً أن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين... ذاكر فضلاً". شرح نهج البلاغة، ج4، ص57، ذيل الخطبة 56 ، فصل في ما ورد من سب معاوية وحزبه لعلي.
3- "دعا بسر بن أرطاة وكان قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة، فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم وأنك محیط بهم. ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة لي. فمن أبى فاقتله واقتل شيعة علي حيث كانوا". شرح نهج البلاغة، ج2، ص6، ذيل الخطبة ،25، بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن.
4- العقد الفريد، ج 6 ، ص 133 ، كتاب المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن.
5- مسند أحمد بن حنبل، جه ، ص 347، حديث بريدة الأسلمي.

يقول عبداللّه بن بريدة: نزلت مع أبي ضيوفاً على معاوية. بعد تناول الغداء شرب معاوية خمراً ودعانا إلى الشرب، فقال له أبي: لم أشربها بعد أن حرّمها رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله). (1)

أرسل عبدالرحمن بن سهل إلى الشام في عهد عثمان للمشاركة في الحرب. فمرّت أمامه قافلة محمّلة بالخمر، فغضب عبدالرحمن بن سهل فعمد إلى قراب الخمر فبقرها بسهم. فبلغ الخبر معاوية فقال: دعوا عبدالرحمن بن سهل فقد هرم وذهب عقله .(2)

لقد بلغ عداء معاوية للدين والشرع أن كان يأتي بالأصنام إلى الشام. يقول أبووائل: كنت مع مسروق في منطقة السلسلة فمرت بنا سفن محمّلة بالأصنام والتماثيل النحاسية. فسألنا البضاعة فقيل: الأصنام والتماثيل بعث بها معاوية إلى أرض السند والهند تباع له فقال مسروق: لو أعلم أنهم يقتلونني لغرّقتها ولكني أخاف أن يعذبوني ثم يفتنوني. واللّه ما أدري أي الرجلين معاوية، أرجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع من الدنيا أم رجلٌ زُيّن له سوء عمله (3)

ص: 50


1- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص 454، الرقم 3328.
2- "عن أبي وائل قال: كنت مع مسروق بالسلسلة فمرّت به سفائن فيها أصنام من صفر تماثيل الرجال، فسألهم عنها فقالوا: بعث بها معاوية... سوء عمله". أنساب الأشراف، جه ، ص137، معاوية بن أبي سفيان.
3- " أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لو قال لمعاوية لتتخذن... عظيم". شرح نهج البلاغة، ج4، ص 79 ، شرح الخطبة 56، فصل في ذكر المنحرفين عن علي [عليه السلام]

وكان النبي (صلی اللّه علیه وآله) قد تنبأ بمثل تلك الأيام وقال لمعاوية في حياته: لتتخذن يا معاوية البدعة سنة، والقبح حسناً، أكلك كثير وظلمك عظيم (1)وكان لبس الذهب والحرير (2) وأكل الربا (3)وغيرها من بين مخالفات معاوية الصريحة للشرع المقدس.

ولقد كان أمير المؤمنين(علیه السلام) يعرف حقيقة شخصية معاوية وماضيه. فبعد تراخي جنده في حرب صفين واستسلامهم لفتنة التحكيم أشار(علیه السلام) بصراحة إلى كفر معاوية وأصحابه فقال: عباد اللّه امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمرواً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً، فكانوا شر أطفال وشر رجال .(4)

ص: 51


1- قال: وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الأسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية للمقدام: أعلمت أن الحسن بن علي توفي؟ فرجع المقدام. فقال له رجل أتراها مصيبة؟ قال له: ولم لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) في حجره فقال: هذا مني وحسين من علي ؟؟ فقال الأسدي جمرة أطفأها اللّه عزّ وجلّ. قال: فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره. ثم قال: يا معاوية! إن أنا صدقت فصدقني وإن أنا كذبت فكذبني. قال: أفعل. قال: فأنشدك باللّه هل تعلم أن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم. قال: فأنشدك باللّه، هل سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ينهى عن لبس الحرير؟ قال: نعم. قال: فأنشدك باللّه هل تعلم أن رسول الله [صلى الله عليه وآله وسلم] نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال: نعم. قال: فواللّه لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية". سنن أبي داود، ج4، ص 68، كتاب اللباس، باب في جلود النمور، الحديث 4131.
2- أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ينهى لا عن مثل هذا إلّا مثلاً بمثل. فقال له معاوية ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وهو يخبرني عن رأيه . الموطأ ، ج 2، ص 634، كتاب البيوع، الحديث 33.
3- قال لهم علي: عباد اللّه!... وشر رجال". الكامل في التاريخ، ج3، ص 386، حوادث سنة 36 هجرية، رفع المصاحف والدعوة إلى الحكومة.
4- "عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صفين قال رجل لعمار: يا أبا اليقظان! ألم يقل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قاتلوا الناس حتى يسلموا، فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم؟ قال: بلى ولكن واللّه ما أسلموا... عليه أعواناً". وقعة صفين، ص215، القول في إيمان أهل الشام.

أما عمار بن ياسر، الذي قال عنه رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) لو أنه مع الحق دائماً ولا يقول إلّا الحق، فحین نال منه أحد جنود معاوية في حرب صفين، قال له: واللّه ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً.(1)

كذلك، يستند ابن أبي الحديد على أحاديث نبوية في الحكم على معاوية بالكفر. يقول: قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون سمعوا من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يلعن معاوية بعد إسلامه ويقول: إنه منافق كافر وإنه من أهل النار، والأخبار في ذلك مشهورة .(2)

ويقول ابن أبي الحديد أيضاً: وقد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية ولم يقتصروا على تفسيقه وقالوا عنه إنه كان ملحداً لا يعتقد النبوة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدل على ذلك (3) كان معاوية ذا قدرة عجيبة في تضليل الناس وخداع الرأي العام وقد تمكن من تحريف أفكار الكثير من الشاميين وشراء دينهم ويقول عنه أمير المؤمنين(علیه السلام) : إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.(4)

وكان النبي(صلی اللّه علیه وآله) يعرف معاوية حق المعرفة ويعلم أن المجتمع سيأخذ مساراً انحرافياً في المستقبل أمثال معاوية منابر الوعظ . لذا قال: إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على المنبر بحيث يرتقي فاضربوا عنقه.(5)

ص: 52


1- شرح نهج البلاغة، ج 18، ص 65 ، ذيل الخطبة 73
2- شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 129، ذيل الخطبة 60، أخبار متفرقة عن معاوية.
3- شرح نهج البلاغة، ج 16 ، ص 182 ، ذيل الخطبة ،44، نسب زياد بن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه.
4- "عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) : إذا رأيتم... عنقه". أنساب الأشراف، جه ، ص137، معاوية بن أبي سفيان.
5- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 5، ص 202 ، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 4984.

عين معاوية حاكماً على الشام في عهد الخليفة الثاني بعد أخيه يزيد بن أبي سفيان (1)فسلك فيها سلوك الملوك والسلاطين (2)استمر حكمه للشام أربعين سنة عشرين سنة منها كان والياً وعشرين سنة خليفة .(3)

لقد لعن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) معاوية أكثر من مرة. منها لما بعث في طلبه أكثر من مرة وكان يأكل فلم يعتن و بطلب النب(صلی اللّه علیه وآله) فلعنه النبي وقال : لا أشبع اللّه بطنه (4) فكان يأكل فلا يشبع (5) حتى أن ابن كثير ذكر أنه كان يأكل في اليوم سبع مرات يجلب له فيها صنوف الطعام واللحوم والفواكه فكان يأكل ثم يقول: ما شبعت ولكن كلّت أسناني.(6)

ورأى النبی (صلی اللّه علیه وآله) أبا سفيان يوماً راكباً دابة ومعاوية يقودها ويزيد بن أبي سفيان يسوقها فقال: لعن اللّه الراكب والقائد والسائق .(7)

وفي رواية أخرى ينقلها عبداللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه( صلى اللّه عليه وسلم) قال عن عاقبة معاوية بصراحة إن معاوية يموت كافراً. وقال عبداللّه بن عمرو بن العاص: كنت عند النبي( صلى اللّه عليه وسلم) فقال: يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت على غير ملتي. قال: وكنت تركت أبي قد وضع له وضوء، فكنت كحابس البول مخافة أن يجيء. قال: فطلع معاوية ، فقال النبي (صلی اللّه علیه وآله)هو هذا .(8)

ص: 53


1- سير أعلام النبلاء، ج3، ص 134، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25.
2- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج5، ص203، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 4984.
3- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 5 ، ص 202، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 4984.
4- سير أعلام النبلاء، ج3، ص123، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25.
5- البداية والنهاية، ج 8، ص123 ، حوادث سنة 60 هجرية، ترجمة معاوية.
6- "ومما ورد من ذلك في السنة ورواه ثقات الأمة قول رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم) فيه وقد رآه مقبلاً على حمار ومعاوية يقوده ويزيد يسوقه: لعن اللّه الراكب والقائد والسائق". شرح نهج البلاغة، ج 15، ص175، ذيل الخطبة 27، كتاب المعتضد باللّه.
7- أنساب الأشراف، ج 5، ص 134، معاوية بن أبي سفيان.
8- "عن ابن عباس قال: سمع النبي... دعا". مجمع الزوائد، ج8، ص121، باب ما جاء في الشعر والشعراء ؛ مصنف بن أبي شيبة، ج 8 ، ص 695 ، ما ذكر في عثمان، الحديث 67 ؛ المعجم الكبير، ج11، ص 32 ، الحدیث 10970 ؛ سير أعلام النبلاء، ج6، ص 131، ترجمة يزيد بن أبي زياد، الرقم 41.

أمّا أشد لعنات النبي لمعاوية فهي التي لعنه بها حين سمعه يغني مع عمرو بن العاص استهزاءً بشهداء أحد. يقول ابن عباس: سمع النبي(صلی اللّه علیه وآله) صوت رجلين وهما يتغنيان وهما يقولان: لايزال حواري نزول عظامه (هكذا : (م) روى الحرب عنه أن تجن ويقبرا

فسأل عنهما فقيل له: معاوية وعمرو بن أبي ( هكذا : م) العاص، فقال: اللّهمَّ أركسهما

في الفتنة ركساً ودعهما إلى النار دعا.(1)

أوقد معاوية نيران حروب عديدة على أمير المؤمنين والإمام الحسن (علیهما السلام) بذرائع مختلفة وتسبب في قتل الآلاف من الناس ومن صحابة النبي (صلی اللّه علیه وآله). وكان دافعه من وراء إيقاد تلك النيران الحربية إشباع شغفه بالسلطان والحكم. فبعد أن عقد الصلح مع الإمام الحسن( علیه السلام) واطمأن على وجود السلطة ، بيده، صرّح بغايته الحقيقية من الحكم فقال: واللّه إني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.(2)

إن ملف عهد معاوية مليء بجرائم قتل المسلمين ونهب أموالهم. فقد قتل الإمام الحسن (علیه سلام )على يد زوجته جعدة بتشجيع من معاوية وبالسم الذي أرسله إليها (3) كما قتل حجر بن عدي(4) وعمرو بن الحمق(5) وهما من كبار صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و أصحاب الإمام علي (علیه السلام) بأمر معاوية. مات معاوية سنة 80 هجرية عن 87 سنة.(6)

ص: 54


1- عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة، ثم خطبنا فقال: واللّه إني.. وأنتم كارهون". مصنف بن أبي شيبة، ج 7، ص 251 ، كتاب الأمراء، ما ذكر من حديث الأمراء والدخول عليهم، الحديث 23.
2- تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج 4، ص 393، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 1230 ؛ سير أعلام النبلاء، ج3، ص 274، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 47 ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج 14، ص 106 ، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 1558.
3- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص391، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 505.
4- تاريخ الطبري، ج 3، ص 127، حوادث سنة 38 هجرية.
5- أسد الغابة في معرفة الصحابة، جه ، ص 203، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 4984 ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج6، ص122، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 8087.
6- شرح نهج البلاغة ، ج 16 ، ص 160 ، ذيل الخطبة 39

يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة :فأما قوله ( يعني علياً (علیه السلام) في معاوية: "ظاهرٌ غيه"، فلا ريب في ظهور ضلاله وبغیه ،وكل باغ غاو. أما "مهتوك سترة" فإنه كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمّار. ومعاوية لم يتوقر ولم يلزم قانون الرياسة إلاّ منذ خرج على أمير المؤمنين واحتاج إلى الناموس والسكينة. وإلّا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك موسوماً بكل قبيح. وكان في أيام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه. إلا أنه كان يلبس الحرير والديباج ويشرب في آنية الذهب والفضة ويركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها وعليها جلال الديباج والوشي وكان حينئذ شاباً وعنده نزق الصبا وأثر الشبيبة وسكر السلطان. ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام وأما بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه، فقيل: إنه شرب الخمر في ستر، وقيل: إنه لم يشربه. ولا خلاف في أنه سمع الغناء وطرب عليه.

بهذا الماضي المخزي وهذه السيرة المشينة، واعتماداً على الثقة التي أولاها إياه الخلفاء، حكم معاوية الشام على مدى عشرين سنة كانت كافية لتنامي قدرته لدرجة أن يواجه أمير المؤمنين (علیه السلام) بكل ما يحمله من سابقة وشجاعة، ويتسبب في مقتل أشرف الناس، ثم يستولي على حكم البلاد الإسلامية بأسرها عشرين سنة أخرى، ويعمل على تحريف الحقائق الإسلامية ويترك موروثاً مشؤوماً للأجيال القادمة ،ولو لم يمنحه الخلفاء السلطة لما وقعت مثل تلك الحوادث الكارثية في العالم الإسلامي.

ص: 55

شرط حكم مصر

تفيد بعض المصادر الأخرى أن معاوية بعد أن سمع كلام عمرو بن العاص قال له: يا أباعبداللّه! إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرّق الجماعة وقطع الرحم. قال عمرو: إلى من؟ قال: إلى جهاد علي. فقال عمرو: واللّه يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير، ما لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه وعلمه واللّه إن له مع ذلك حداً وجداً وحظاً وحظوة وبلاءً من اللّه حسناً. فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال: حكمك. قال: مصر طعمة. فتلكأ معاوية ثم وافقه على طلبه .(1)

يوضح الجاحظ سبب اهتمام عمرو بن العاص بمصر وشغفه بحكمها بقوله: كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر. فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمناً من دينه. وهذا معنى قوله: وإني بذا الممنوع (عليك) قدماً لمولع .(2)

وكان معاوية يعرف قيمة مصر حق معرفتها، حتى قال لعمرو بن العاص مرة: يا أباعبداللّه! أما تعلم أن مصر مثل العراق (3)؟ لذلك لم يُجب عمرو بن العاص لطلبه إلّا بعد تلكؤ ومحاولات للتملص منه. يقول بعض المؤرخين :قال له معاوية: يا أباعبداللّه ! إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا. قال (عمرو) : دعني عنك. قال معاوية: إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لا لعمر اللّه، ما مثلي يُخدع. لأنا أكيس من ذلك. قال له

ص: 56


1- وقعة صفين، ص 37 و 38 ، مسير عمرو إلى معاوية وحديثه معه
2- شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 66 ، ذيل الخطبة 26، أمر عمرو بن العاص.
3- نفسه.

معاوية: أدن منى برأسك أسارك! فدنا منه عمرو يساره، فعضّ معاوية أذنه وقال: هذه خدعة، هل ترى في بيتك أحداً غيري وغيرك؟ (فلماذا أهمس في أذنك) (1)؟

يروي ابن أبي الحديد ملاحظة هامة حول عبارة "دعني عنك عن أستاذه أبي القاسم البلخي. يقول ابن أبي الحديد قال شيخنا أبوالقاسم البلخي: قول عمرو له "دعني عنك" كناية عن الإلحاد، بل تصريح به ؛ أي: دع هذا الكلام، لا أصل له، فإن اعتقاد الآخرة أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات. وقال (أبو القاسم البلخي)(رحمة اللّه علیه) : ومازال عمرو بن العاص ملحداً ما تردد قط في الإلحاد والزندقة، وكان معاوية مثله.(2)

مهما يكن من أمر فقد تملص معاوية في ذلك المجلس من إعطاء مصر لعمرو بن العاص بسبب أهميتها البالغة لديه. ولكنه تشاور في اليوم التالي مع أخيه عتبة بن أبي سفيان حول الموضوع. وكان عتبة يدرك أن انتصار معاوية على جيش العراق يتوقف على تعاون عمرو بن العاص معه، فقال له: أعطه ما سألك! ( واشتر بذلك ذمته وحزه إلى صفك). بعد ذلك بأيام، وافق معاوية على إعطاء مصر لعمرو .(3)

ص: 57


1- قال نصر: وفي حديث غير عمر قال: قال له معاوية... وغيرك؟". وقعة صفين، ص 38 مسير عمرو إلى معاوية وحديثه معه ؛ الأخبار الطوال، ص 229، حديث عمرو مع معاوية ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 523 ، ذكر كتاب علي [عليه السلام] إلى معاوية.
2- "قلت: قال شيخنا... مثله". شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 65 ، ذيل الخطبة 26، أمر عمرو بن العاص.
3- قال: فلما أصبح معاوية أقبل إليه أخوه عتبة فقال: أخبرني عنك! ألا ترضى أن يأخذ عمرو بن العاص مصر وقد عزم أن يبيعك خيط رقبته؟ أعطه ما سألك! فإنك في وقتك هذا لا مصر في يدك ولا غيرها. ثم أنشأ في ذلك يقول شعراً. قال: فلما معاوية شعر أخيه عتبة بعث إلى عمرو فدعاه وأعطاه مصر". الفتوح، المجلد الأول، ص 524 ، ذكر كتاب علي [عليه السلام] إلى سمع معاوية.

حكم عمرو بن العاص مصر

نشب خلاف بين معاوية وعمرو بن العاص حول حكم مصر بعد انتهاء حرب صفين. أما

معاوية فكان يستعظم تسليم مصر لعمرو بن العاص بكل ثرواتها الهائلة. وأما عمرو بن العاص فكان يرى أن معاوية لم يكن ليكسب الحرب لولا تدبيره وأن حصوله على مصر أجر استحقه على ذلك. بل كان يتوقع أن يهبه معاوية جزءاً من الشام علاوة على مصر. وهكذا نشب نزاع بين الرجلين أدى إلى القطيعة بينهما. ولكن معاوية بن حديج توسط بينهما فتصالحا، فوهب معاوية مصر لعمرو بن العاص سبع سنين ابتداءً من سنة 39 هجرية. ولكن عمرو بن العاص مات بعد ثلاث سنوات تقريبا.(1)

لم يضيع عمرو بن العاص وقتاً في انتهاز الفرصة التي انتظرها طويلاً فعمل على حلب ثروات مصر واستطاع أن يكدس ثروة طائلة في فترة حكمه القصيرة. حتى قال الذهبي أنه، بعد موته خلّف أموالاً كثيرة وعبيداً وعقاراً، يقال: خلّف من الذهب (في هذه المدة الوجيزة ) سبعين رقبة جمل مملوءة ذهباً(2) غير أن أمواله الطائلة وثروته الكبيرة لم تورثه إلا الحسرة والغم، حتى طلب في أواخر أيامه أن توزن فوزنت فكانت 52 مدّاً (3) فلما رأى كثرتها قال وهو مهموم يا ليته كان بعراً (4) لأنه كان يعلم أنها لن تجديه نفعاً وأنه تارك الدنيا حاملاً أوزاراً ثقالاً.

ص: 58


1- "لما صار الأمر في يد معاوية استكثر مصر طعمة لعمرو ما عاش ورأى عمرو أن الأمر كله قد صلح به وبتدبيره وظن أن معاوية سيزيده الشام، فلم يفعل، فتنكر له عمرو، فاختلفا وتغالظا، فأصلح بينهما معاوية بن حديج، وكتب بينهما كتاب بأن لعمرو ولاية مصر سبع سنين وأشهد عليهما شهوداً وسار عمرو إلى مصر سنة تسع وثلاثين، فمكث نحو ثلاث سنين ومات". سير أعلام النبلاء، ج3، ص73 ، ترجمة عمرو بن العاص، الرقم 15.
2- سير أعلام النبلاء، ج3، ص 77 ، ترجمة عمرو بن العاص، الرقم 15.
3- المدّ يعادل 750 غراماً . وبهذا يكون وزن المسكوكات التي كان يملكها 39 كيلوغراماً!
4- "لما احتضر عمرو بن العاص قال: كيلوا مالي، فكالوه، فوجدوه اثنين وخمسين مداً، فقال: من يأخذه بما فيه؟ ياليته كان بعراً". سير أعلام النبلاء، ج3، ص 74 ، ترجمة عمرو بن العاص، الرقم 15.

مخادعات معاوية وعمرو بن العاص

لما كان كل من معاوية وعمرو بن العاص يعرف أحدهما الآخر ولا يثق به فقد دوّنا ما اتفقا عليه على ورق ووقّعا عليه. ولكن الطريف في هذا الاتفاق أن كلاً منهما أضاف بنداً يخدع فيه الطرف الآخر. أما القيد الذي أضافه معاوية فكان - أن الاتفاق نافذ ما لم يتضمن شرطاً يناقض طاعة معاوية - أي أن على عمرو بن العاص أن يطيع معاوية بلا قيد أو شرط وكتب عمرو بن العاص تحت العقد أنه نافذ ما لم يتضمن طاعة تناقض الشرط ؛ أي أنني مطيع لك ما لم تنقض شرطاً من شروط .(1)

يقول ابن أبي الحديد في سبب كتابة هذين الشرطين :... أن معاوية قال للكاتب: اكتب "على أن لا ينقض شرط طاعة" يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشيء. وهذه مكايدة له ؛ لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر، لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقاً سواءً أكانت مصر مسلمة إليه أم لا. فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك، وقال: بل اكتب "على أن لا تنقض طاعة شرطاً" يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه وهذا أيضاً مكايدة من عمرو لمعاوية ومنع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر .(2)

هذا العقد يبين أنه كم كان كل واحد من هذين الرجلين، اللذين طالما كانا معاً، متوجساً من كيد صاحبه ويعرف قرارة نفسه ولا يثق به.

نصيحة ابن عمه

ص: 59


1- فأعطاه مصر، ولما كتب معاوية لعمرو بمصر كتب في أسفل الكتاب : ولا ينقض شرط طاعةً. وكتب عمرو: ولا تنقض طاعة شرطاً . الإمامة والسياسة، ج1، ص97، قدوم عمرو على معاوية.
2- "قلت: قد ذكر هذا اللفظ "على أن لا تنقض طاعة شرطاً" فكايد كل منهما صاحبه... وتفسيره أن معاوية.. من مصر". شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 67 ، ذيل الخطبة 26، أمر عمرو بن العاص.

نصيحة ابن أخيه ( هكذا، وفي الهامش ابن عمه : م عمرو بن العاص عاد عمرو بن العاص إلى بيته مسروراً بعد أن اطمأن باله من جهة حكم مصر. فجاءه ابن عمه ( هكذا: م) وكان رجلاً عاقلاً بعيد النظر، وقد علم بالاتفاق المبرم بينه وبين معاوية، وقال له: ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش، أعطيت دينك ومنيت دنيا غيرك؟ أترى أهل مصر، وهم قتلة عثمان، يدفعونها إلى معاوية وعليٌ حي، وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب؟ فقال عمرو: يا ابن الأخ! إن الأمر للّه دون علي ومعاوية. فقال عمرو: يا ابن أخي! لو كنت مع علي وسعني بيتي، ولكني الآن مع معاوية. فقال له الفتى (ابن عمه): إنك إن لم ترد معاوية لم يردك، ولكنك تريد دنياه وهو يريد دينك. وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي (علیه السلام).(1)

من مجمل أقوال عمرو بن العاص ومواقفه نستنتج أنه لم يكن له مثقال ذرة من دين وإيمان، وأنه لم يكن سوى محب للسلطان شغوف بالدنيا لا يتورع أن يشتريها بدينه.

ومن نهي ابنه وغلامه وابن أخيه له عن الالتحاق بمعاوية، وكذلك شرود ذهنه في هذا الأمر أحياناً ، نفهم أن حقانية الإمام علي (عليه السلام) وشرعية دولته كانتا من الوضوح بحيث أنه كان مخالفته بيعاً لدينه بدنيا غيره. ولكنه في الوقت نفسه، كان مع ذلك، مخادعاً لدرجة أن يقلب هذه الحقيقة رأساً على عقب بين الناس. ولم يكن لأحد سواه إمكانية إنقاذ معاوية من مأزق الهزيمة في معركة صفين وتحويله إلى نجاح.

ص: 60


1- كان" عمرو ابن عم له فتى شاب وكان داهياً حليماً. فلما جاء عمرو بالكتاب مسروراً عجب الفتى وقال: ألا تخبرني.. مع فلحق بعلي". وقعة صفين، ص41، عمرو وابن عمه ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 524 ، ذكر كتاب علي [عليه السلام] إلى معاوية.

سبب تعاون معاوية مع عمرو بن العاص

لم يكن من السهل أمام الرأي العام معارضة رجل له سوابق لامعة وكثيرة في الإسلام. وليت راية المعارضة كان يحملها رجل كفؤ لا رجل، ليس فقط لا يملك مؤهلات أن يكون كفؤاً لصاحب الحق فحسب بل إن عار ماضيه لا ينفك يلاحقه وصدى "أنتم الطلقاء" لا زال يتردد على ألسنة الناس بحقه.

كان معاوية وعمرو بن العاص سيواجهان رجلاً قال فيه النبي (صلی اللّه علیه وآله) لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين" وقال فيه أنت مني بمنزلة هارون من "موسى" وقال "علي مع الحق والحق مع علي" وقال "أنا مدينة العلم وعلي بابها" وآلاف الأمثلة التي تطرق الأسماع وتتغلغل في العقول.

ولم يكن معاوية ليدعو عمرو بن العاص ولا ليعطيه مصر بكل سعتها وغناها ولا ليتخذه

وزيراً مستشاراً له إلّا ليتمكن من الانتصار على الإمام علي (علیه السلام) والتفوق عليه وعلى جيشه.

ص: 61

التشاور الثاني بين عمرو بن العاص ومعاوية

بعد أن سلّم معاوية كتاب ولاية مصر لعمرو بن العاص واشترى بذلك ذمته بالكامل، عقد معه اجتماعاً تشاورياً ثانياً. كان موضوع الاجتماع كيفية مواجهة جرير بن عبداللّه. فقال عمرو بن العاص لمعاوية : ... رأس أهل الشام اليوم شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير، فأرسل إليه (ابعث له كتاباً في حمص) وعبّ له رجالاً من ثقاتك يشهدون بأن علياً قتل عثمان. وليكن الشهود أهل الرضا فإنها كلمة جامعة. فإن علقت الشهادة بقلبه لا يخرجها شيء أبداً. (وهكذا تستفيد في تعبئة الناس ضد علي.(1)

يقول ابن عبدالبر في هذا فقيل لمعاوية إن جريراً قد ردّ بصائر أهل الشام وأقنعهم أن علياً ما قتل عثمان ولابّد لك من رجل يناقضه في ذلك ممن له صحبة ومنزلة ولا نعلمه إلّا شرحبيل بن السمط، فإنه عدوٌ لجرير. (2)

ص: 62


1- ثم دعا عمرو بن العاص فقال: أباعبد اللّه ! هات الآن ما ترى في علي بن أبي طالب. فقال عمرو: أرى فيه خيراً، إنه قد أتاك هذا خير أهل العراق جرير من عند خير الناس علي بن أبي طالب، وردّ هذه البيعة خطر شديد وأمر عظيم. ورأس أهل الشام اليوم .. أبداً". الفتوح، المجلد الأول، ص530، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى جرير بن عبد اللّه البجلي ؛ وقعة صفين، ص 44 ، مشورة عمرو لمعاوية.
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص 256، ترجمة شرحبيل بن السمط، الرقم 1173.

دعوة شرحبيل ومؤامرة معاوية

بعد ذلك الاجتماع التشاوري ، بعث معاوية كتاباً إلى شرحبيل قال له فيه: أما بعد فإن جريراً قدم علينا من عند علي بن أبي طالب (علیه السلام) بأمر فظيع، فاقدم إلينا رحمك اللّه فإننا نريد أن نستشيرك في أمرنا وقد حبسنا عليك أنفسنا وعلى مشورتك .(1)

ثم، عملاً بمشورة عمرو بن العاص، قال معاوية لجماعة من ثقاته أمثال يزيد بن أسد وبسر بن أبي أرطاة ومخارق بن الحارث وحمزة بن مالك وحابس بن سعد (2) وأبي الأعور السلمي والضحاك بن قيس وذي الكلاع والحصين بن نمير وحوشب ذي ظليم (3) وكانوا من كبار أهل الشام ومن شرحبيل: قد عزمت أن أكتب إليه ( يعني شرحبيل بن السمط ) ليصير إلي. فإذا قدم علي أخبرته أن علياً قتل الخليفة عثمان بن عفان، فإن طلب مني شهادة كنتم أنتم الشهود لي على ذلك. (4)

لما وصل كتاب معاوية إلى شرحبيل استشار عبدالرحمن بن غنم الأزدي وكان من الوجوه المعروفة في الشام، فقال له عبدالرحمن: ويحك يا شرحبيل! إن الله تعالى لم يزل يريد بك خيراً مذ هاجرت إلى وقتك هذا. وإنه لم ينقطع المزيد من اللّه حتى ينقطع الشكر من الناس، ولا يغير ما بقوم حتى

ص: 63


1- "فعندها كتب إليه معاوية وشرحبيل يومئذ بمدينة حمص: أما بعد!... مشورتك". الفتوح، المجلد الأول، ص530، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب [عليه السلام] إلى جرير بن عبد اللّه.
2- حابس بن سعد الطائي كان أحد صحابة النبي الأكرم (صلى اللّه عليه وآله وسلم )وأخا زوجة عدي بن حاتم. تم تعيينه قاضياً لمدينة حمص في خلافة عمر بن الخطاب. وكان مع معاوية في حرب صفين إذ كان حامل لواء قبيلة طي، وقتل فيها. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص389، ترجمة حابس بن سعد الطائي، الرقم 389؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج 4، ص 3، ترجمة حابس بن سعد، الرقم 973 .
3- يعتبر أهل السنة حوشب من صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) لو وكان مطاعاً متبوعاً من أهل اليمن قتل في صفين على يد سليمان بن والروستام صرد الخزاعي ، قاموس الرجال، ج 4، ص80، ترجمة حوشب بن طخية، الرقم 2508.
4- "فدعا معاوية يزيد بن أسد وبسر بن [أبي] أرطاة ومخارق بن الحارث وحمزة بن مالك وحابس بن سعد الطائي وأباالأعور السلمي والضحاك بن قيس الفهري وذا الكلاع الحميري والحصين بن نمير السكوني وحوشب ذا الظلم، وهؤلاء رؤساء الشام يومئذ فجمعهم معاوية ثم قال: أتدرون لماذا جمعتكم؟ قالوا: لا علم لنا بذلك. فقال: إن شرحبيل بن السمط سيد من سادات قومه وهو عدو لجرير بن عبد الله البجلي وقد عزمت .... فقال القوم: كفئت يا معاوية فوجه إليه". الفتوح، المجلد الأول، ص530، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى جرير بن عبد اللّه.

يغيروا ما بأنفسهم. وأنت رجل من خيار كندة، وإن القالة قد فشت في الناس أن علياً قتل عثمان. ولو كان علي قتله لما بايعه المهاجرون والأنصار وهم أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و الحكام على الناس. وإنما معاوية يدعوك إلى نفسه ليأخذ من دينك ويعطيك من دنياه كما فعل بعمرو بن العاص. فإن كان ولابد أن تكون أميراً، فسر إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام)، فإنه أحق الناس بهذا الأمر من معاوية وغير معاوية .(1)

واضح من كلام عبدالرحمن أنه كان على علم بخطة معاوية وأنه كان يعرف شرحبيل حق معرفته ويعلم كم كان محباً للدنيا والسلطان وأنه ما مال إلى معاوية دفاعاً عن الحق. كما يتضح أن زهده كان متصنَعاً وأنه كان يخادع الناس . به لهذا لم يلتفت إلى كلام عبد الرحمن الناصح له وحججه المنطقية القوية، وتوجه إلى الشام واضعاً وجاهته الاجتماعية تحت تصرف معاوية، مقوياً بذلك جبهة الباطل.

ص: 64


1- "فلما ورد كتاب معاوية على شرحبيل وقرأه أقبل إلى عبدالرحمن بن غنم الأزدي، وهو صاحب معاذ بن جبل وكان أفقه أهل الشام، فاستشاره في المسير إلى معاوية. فقال عبدالرحمن: ويحك يا معاوية! ... وغير معاوية". الفتوح، المجلد الأول، ص530، ذكر کتاب آخر من علي بن أبي طالب [عليه السلام] إلى جرير بن عبد اللّه.

قدوم شرحبيل على معاوية

حسم شرحبيل أمره في نهاية المطاف وذهب إلى الشام .ودخل على معاوية بعد أن استقبله أهل الشام بحفاوة بالغة. فقال له معاوية على طريقته المخادعة للرأي العام: يا شرحبيل! إن جرير بن عبداللّه يدعونا إلى بيعة علي وعليٌ (علیه السلام) خير الناس لولا أنه قتل عثمان بن عفان. وقد حبست نفسي عليك، وإنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا.(1)

نظراً للمنزلة الاجتماعية التي كانت لشرحبيل بين أهل الشام فقد اتبع معاوية في كلامه معه أساليب عدة:

-1- بدأ كلامه بذكر اسم جرير وهو من منافسي شرحبيل.

2- امتدح الإمام علياً (علیه السلام) لم ثم اتهمه بقتل عثمان.

3- حاول تعظيم شرحبيل بأن ادّعى أنه لن يردّ على كتاب علي(علیه السلام)قبل التشاور معه.

4- تظاهر بالتصاغر والتماهي مع الرأي العام وزعم بأن الرأي العام أهم لديه من رأيه الشخصي وهو تابع له.

5-عمل على تلقين الرأي العام الشامي قبل استقبال شرحبيل بأن الإمام علياً (علیه السلام)هو قاتل عثمان، تثبت الفكرة لدى شرحبيل.

بعد أن سمع شرحبيل مقالة معاوية، استمهله ليرى رأيه. ولكن ما إن خرج من المجلس حتى حف به المتآمرون ،بتخطيط مسبق من معاوية، وأخبروه بأن علياً(علیه السلام) هو الذي قتل عثمان. ومازالوا به حتى اقتنع تماماً بأن علياً (علیه السلام) هو قاتل عثمان، فرجع إلى مجلس معاوية وهو يتميز

ص: 65


1- "لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه ودخل على معاوية فتكلم معاوية فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: يا شرحبيل! ... ما كرهوا". وقعة صفين، ص 46 و 47، مصانعة معاوية لشرحبيل ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 532، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب (علیه سلام) إلى جرير بن عبد اللّه.

غضباً فقال له يا معاوية أبى الناس إلاّ أن علياً قتل عثمان ، وواللّه لئن بايعتَ له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك. (1)

حرب صفين

ص: 66


1- فقال شرحبيل: أخرج فأنظر. فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له، فكلهم يخبره بأن علياً قتل عثمان بن عفان. فخرج مغضباً إلى معاوية فقال: يا معاوية! أبى الناس إلّا أن علياً قتل عثمان، وواللّه لئن بايعت له لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك. قال معاوية: ما كنت لأخالف عليكم، وما أنا إلّا رجل من أهل الشام. قال: فردّ هذا الرجل إذن! قال: فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق وأن الشام كله مع شرحبيل". وقعة صفین، ص47، لقاء جرير لشرحبيل.

المقابلة بين جرير وشرحبيل

بعد أن حقق معاوية غايته، بعث بشرحبيل إلى جرير لمقابلته. وكان شرحبيل يعادي جريراً، وكان مقتنعاً بأن علياً (عليه السلام) هو قاتل عثمان لذا التفت إلى جرير مغضباً فقال له: يا جرير! أتيتنا بأمر ملفف لتلقينا في لهوات الأسد، وأردت أن تخلط الشام بالعراق، وأطرأت علياً وهو قاتل عثمان، واللّه سائلك عما قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال: يا شرحبيل! أما قولك أني جئت بأمر ملفف، فكيف يكون أمراً ملففاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار وقوتل على رده طلحة والزبير؟ وأما قولك أني ألقيتك في لهوات الأسد، ففي لهواتها ألقيت نفسك. وأما خلط العراق بالشام، فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل. وأما قولك إن علياً قتل عثمان، فواللّه ما في يديك من ذلك إلّا القذف بالغيب من مكان بعيد. ولكنك ملت إلى الدنيا وشيءٌ كان في نفسك (مني) على زمن سعد بن أبي وقاص.(1)

ص: 67


1- فتكلم شرحبيل فقال: يا جريرا! ... أبي وقاص". وقعة صفين، ص47، لقاء جرير لشرحبيل.

شك شرحبيل وتردده

افترق جرير وشرحبيل بعد هذا اللقاء. ثم سعى جرير لإتمام الحجة على شرحبيل فأرسل إليه أبياتاً من الشعر يحذره فيها من عاقبة أمره، منها:

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى ... فما لك في الدنيا من الدين من بدل

وقل لابن حرب ما لك اليوم حرمة ... تروم بها ما رمت، فاقطع له الأمل(1)

فکّر شرحبيل بكلام جرير واستيقظ من نوم الغفلة نوعاً ما، فقال: هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. لا واللّه لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة. (2)

وقوع شرحبيل في الفخ سعياً منه إلى عدم فقدان شرحبيل، أخذ معاوية يبعث بالوفود من رجاله ليؤكدوا له أن عثمان بن عفان قتله علي (علیه السلام)، ويقدموا لهالأدلة والمستندات على ذلك. ومازالوا به حتى تيقن أن ما يدّعونه هو الحقيقة .(3)

كان معاوية يدرك جيداً قيمة شرحبيل فلم يكن على استعداد للتفريط به بسهولة، فبذل جهوداً مضنية للاحتفاظ به إلى جانبه. وفي الوقت نفسه، لم يكن استقطاب رجل مثل شرحبيل بالأمر الهين، فقد كان من كبراء حمص وزهادها. لذا وجد أن عليه:

- أن يلجأ إلى المكر والاحتيال للحصول عليه. فكان لابد من ترتيب استقبال ضخم له يوم وصوله إلى دمشق.

حرب صفين.

ص: 68


1- "كتب جرير إلى شرحبيل: شرحبيل يا ابن السمط ... الأمل". وقعة صفين، ص 48، وقع كتاب جرير إلى شرحبيل.
2- "لما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر وفكر وقال: هذه نصيحة ... حاجة". وقعة صفين، ص 49، كتاب جرير إلى شرحبيل.
3- "الفف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به علياً، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة، حتى أعادوا إليه رأيه وشحذوا عزمه". وقعة صفین، ص 49 ، كتاب جرير إلى شرحبيل.

- ثم يبعث إليه بفريق من المعتمدين لديه، بتدبير مسبق، ليشهدوا عنده أن علياً (علیه السلام) هو الذي قتل عثمان.

- ثم يضع بين يديه الوثائق والمستندات التي تحول شكه إلى يقين.

- وأن يتظاهر أمامه بأنه ليس له رأي مستقل عن رأي العامة، وأنه يلتزم بما يقرره الناس.

ومازال معاوية وجماعته يكيدون ويخططون حتى تحول شرحبيل إلى داعية لإعلان الحرب والثأر لدم عثمان، بعد أن كان في بداية الأمر فريسة شك قوي في تورط الإمام(علیه السلام) بدم عثمان ، أنه استمهل معاوية في أول لقاء بينهما للنظر في القضية وقال له: "أخرج فأنظر". إلى أن صار يخاطب معاوية بخلافة المسلمين بعد عثمان. فقد قال لمعاوية: أنت عامل أمير المؤمنين وابن عمه، ونحن المؤمنون. فإن كنت رجلاً تجاهد عليا وقتلة عثمان حتى ندرك بثأرنا أو تفنى أرواحنا، استعملناك علينا وإلّا عزلناك واستعملنا غيرك ممن نريد، ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك. (1)

ص: 69


1- "أن شرحبيل بن السمط بن جبلة الكندي دخل على معاوية فقال: أنت عامل ... نهلك". وقعة صفين، ص51، مبتدأ حديث عمرو بن العاص، دخول شرحبيل على معاوية.

آخر ما قاله معاوية لجرير

بعد حصوله على مستشار ماكر هو عمرو بن العاص واستقطاب شخصية مؤثرة هو شرحبيل بن السمط، وجد معاوية الأجواء مناسبة لإعلان التمرد على السلطة المركزية وألفى نفسه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق غايته الكبرى وهي حكم الشام. فلم يكن يفصله عن هدفه النهائي إلّا خطوة واحدة كان أمامه طريقان لقطعها ؛ إما المواجهة المسلحة أو التفاوض . وكان في الوقت نفسه يدرك أن الحل العسكري محفوف بصعوبات جمة وينطوي على تكاليف باهظة. ومن جانب آخر، لم يكن يرى أية جدوى في التفاوض مع أمير المؤمنين(علیه السلام)، لأنه كان يعلم أنه يواجه رجلاً أقسم باللّه عندما آلت إليه الخلافة، أن لا يمهله يومين (1)لذا عمل في غاية الحذر فقال لمبعوث الإمام (علیه السلام) في اجتماع خاص: اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي وأسلم له هذا الأمر وأكتب إليه بالخلافة. فقال جرير: اكتب بما أردت (لأحمله برسالة إلى علي(علیه السلام)) .(2)

يُفهم من كلام معاوية أمور:

الأول: أنه كان يستهدف الحصول على حكم ذاتي يمكنه من ذاتي يمكنه من الانفصال عن الدولة الإسلامية ويسمح له بأن يفعل ما يشاء.

الثاني: كل ما قاله من كلام حول الثأر لعثمان لم يكن سوى لعبة سياسية الغاية منها تضليل الرأي العام لتحقيق غاياته الدنيوية في ظل شعارات مخادعة.

ص: 70


1- "لا واللّه لا أستعمل معاوية يومين". الكامل في التاريخ، ج2، ص 306، حوادث سنة 35 هجرية، ذكر بيعة أمير المؤمنين(علیه السلام)
2- "كان معاوية أتى جريراً في منزله فقال: يا جرير! إني قد رأيت رأياً. قال: هاته. قال: اكتب إلى صاحبك ... فقال جرير: اكتب بما أردت وأكتب معك. فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب ..... وقعة صفين، ص 52، معاوية وجرير.

كتاب أمير المؤمنين إلى جرير

عندما استلم الإمام علي (علیه السلام) كتاب جرير، كتب إليه يقول: أما بعد! فإنما أراد بمعاوية (هكذا، وربما: معاوية) ألا يكون لي في عنقه بيعة وأن يختار من أمره ما أحب، وأراد أن يريثك حتى يذوق أهل الشام. وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار على (هكذا، وربما :علي) أن أستعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة فأبيت ذلك عليه. ولم يكن اللّه ليراني أتخذ المضلين عضداً. فإن بايعك الرجل وإلاّ فأقبل .(1)

بيّن جواب أمير المؤمنين(علیه السلام) أنه كان عارفاً بخطة معاوية معرفة كاملة، وكان يعلم أن غايته من تلك المكاتبات لم تكن إلّا لكسب الوقت من أجل القيام بالاستعدادات العسكرية للهجوم على العراق.

ص: 71


1- وقعة صفين، ص 52، معاوية وجرير ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 526 ، ذكر جواب علي ا لجرير بن عبد اللّه.

تحريض الناس بواسطة شرحبيل

أدرك معاوية، من جواب الإمام علي(علیه السلام) لجرير، أنه لا يستطيع أن يبلغ مراده بالطرق السلمية التفاوضية، وأنه لا يملك إلا الحل العسكري. وأدرك أيضاً أن هذا الحل المعقد يستلزم جملة المقدمات والتمهيدات ،فعليه ،قبل كل شيء، أن يحرّف الحقائق في أذهان الناس لكي يسهل عليه تأليبهم على رجل له من العظمة والحقانية كالشمس وضوحاً للجميع. لهذا، استدعى شرحبيل وقال له: إنه كان من إجابتك الحق وما وقع فيه أجرك على اللّه وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت. وإن هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتم إلّا برضا العامة.

فسر في مدائن الشام وناد فيهم بأن علياً قتل عثمان وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه. فسار فبدأ بأهل حمص، فقام خطيباً وكان مأموناً في أهل الشام ناسكاً متألها، فقال: يا أيها الناس! إن علياً قتل عثمان بن عفان وقد غضب له قوم فقتلهم وهزم الجميع وغلب على الأرض فلم يبق إلّا الشام وهو واضع سيفه على عاتقه ثم خائض به غمار الموت حتى يأتيكم أو يحدث اللّه أمراً. ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية، فجدّوا وانهضوا. فأجابه الناس إلّا نساك أهل حمص فإنهم قاموا إليه فقالوا: بيوتنا قبورنا ومساجدنا، وأنت أعلم بما ترى. وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها لا يأتي على قوم إلّا قبلوا ما أتاهم. (1)

ص: 72


1- "بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط فقال: إنه كان ... ما أتاهم". وقعة صفين، ص50، وقع كتاب جرير إلى شرحبيل.

تقرير جرير عن أوضاع الشام

في تلك الأوضاع، ولما تيقن جرير من عزم معاوية على (علیه السلام)مواجهة الإمام علي ام غادر محل إقامته لغرض التجسس واستطلاع الأوضاع في الشام. فاتفق أن صادف صبياً كان ينشد شعراً في مظلومية عثمان وذم قاتليه وعلى رأسهم الإمام علي(علیه السلام) . فسارع إلى كتابة الأبيات وإرسالها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). (1)

في تلك الأيام جاء النعمان بن بشير بقميص عثمان وأصابع زوجته نائلة المبتورة إلى الشام، فأمر معاوية بأخذ القميص إلى مسجد الشام لاستغلاله في أغراضه السياسية. فوضعه على المنبر بحيث يراه الجميع. ثم اجتمع الناس في المسجد، فلما رأوا القميص ضجوا بالبكاء والعويل. وبلغ بهم التأثر أن أقسموا أن لا يؤويهم فراش قبل أن يقتصوا من قتلة عثمان. (2)

لقد استغل معاوية قميص عثمان المخضوب أكمل استغلال في الإستفزاز. وهكذا عمل على تقوية دوافع أهل الشام لمحاربة أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول سبط بن الجوزي: علّق القميص والأصابع على المنبر سنة ينتابه الناس من كل مكان. (3)وبكاه أهل الشام لمدة سنة.

ص: 73


1- "فخرج جرير يتجسس الأخبار فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له وهو يقول: حكيم وعمار الشجا ومحمد *** وأشتر والمكشوح جروا الدواهيا وقد كان فيها للزبير عجاجة *** وصاحبه الأدنى أشاب النواصيا قال جرير: يا ابن أخي! من أنت؟ قال: أنا غلام من قريش وأصلي من ثقيف، أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق، قتل أبي مع عثمان يوم الدار. فعجب جرير من قوله وكتب بشعره إلى علي". وقعة صفين، ص 54، شعر ولد المغيرة بن الأخنس.
2- "فسار جرير إلى معاوية فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمر (هكذا، وربما عمرو) فأشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم. ففعل معاوية ذلك. وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيه مخضوباً بالدم بأصابع زوجته نائلة إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام وضع معاوية القميص على المنبر وجمع الأجناد إليه فبكوا على القميص مدة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه. وأقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه". الكامل في التاريخ، ج2، ص 359 ، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر ابتداء وقعة صفين ؛ سير أعلام النبلاء، ج3، ص139، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25.
3- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ج6، ص 112، حوادث سنة 35 هجرية، ذكر إرسال قميص عثمان إلى الشام.

سبب تأخر جرير في العودة من الشام

بعد وصول جرير إلى الشام، قام معاوية بحبسه بضعة أشهر ولم يأذن له بالعودة. وقد أدى طول مكوثه في الشام وتأخر عودته منها إلى أن ينتاب القلق بعض الناس ويظنوا أن معاوية قد خدعه. أما أمير المؤمنين(علیه السلام) فقد قال في ذلك: وقّتُ لرسولي وقتاً لا يقيم بعده إلّا مخدوعاً أو عاصياً. (1)

أما ابن عبدالبر فيرى أن جريراً لم يتعمد التأخر في العودة من الشام وأن معاوية كان قد حبسه. يقول: فلما قدم جرير على معاوية رسولاً من عند علي حبسه أشهراً يتحيّر ويتردد في أمره. (2)

غير أن كلام أمير المؤمنين(علیه السلام) يبين أن جريراً لم يبق في الشام مكرهاً.

فإذا كان محبوساً من قبل معاوية فلا يكون خائناً ولا مخدوعاً. والدليل الآخر الذي يمكن أن ينهض على تقصير جرير أنه حين عاد من الشام ولامه مالك الأشتر واتهمه بالخيانة لم يقل أنه كان مكرهاً في البقاء في الشام. والشاهد الآخر على صحة قول الإمام (علیه السلام) فيه هروبه إلى قرقيسيا. وذلك يبين أنه خلال فترة بقائه في الشام، ليس فقط لم يفعل شيئاً لصالح الجبهة العلوية بل إنه بإضاعته الفرصة، وفّر لمعاوية الوقت الكافي للاستعداد لقتال أمير المؤمنين (علیه سلام).

ص: 74


1- أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس وقال علي: وقتُ .. عاصياً. وأبطأ على علي حتى أيس منه". وقعة صفين، صهه، إبطاء جرير عند معاوية.
2- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص 256 ، ترجمة شرحبيل بن السمط، الرقم 1173.

سبب اختيار جرير سفيراً

السؤال الذي لابد من الإجابة عليه هنا هو : لماذا اختار أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل هذا الشخص ليكون سفيره إلى الشام؟ لماذا اختار رجلاً أضاع الفرص ووفر لمعاوية نحواً من أربعة أشهر؟ ألم يكن أمير المؤمنين (علیه السلام) على معرفة كافية به؟

جواباً لابد من القول بأن الإمام (علیه السلام)كان يعرفه حق معرفته، ويعلم أنه كان مناصراً لبني أمية ولم يكن ذا سيرة مشرّفة. وهذا ما جعله يعزله عن إمارة همدان .ولو كان جديراً بها لما عزله عنها. إذن فالإمام ( علیه السلام) كان يعرف جريراً خيراً مما كان مالك الأشتر يعرفه. ولكن مصلحة اقتضت أن يذهب في سفارة الشام لم يكن مالك الأشتر يعلمها.

المصلحة التي كان أمير المؤمنين (علیه السلام) ناظراً إليها هي أنه (علیه السلام)كان يريد أن يبعث إلى الشام رجلاً يحظى بثقتهم لأنه منهم لكي تتم الحجة عليهم. فقد كان جرير أموي الهوى عثماني المذهب، فإذا اقتنع ببراءة الإمام علي (علیه السلام) من دم عثمان، جرّد الطرف المقابل له من سلاح التذرع بالحجج. لذا فإن النشاط الأولي الذي قام به والكلمات التي ألقاها في الشام تدل على أن الهدف الأولي لسفارته قد تحقق.

كما أن أمير المؤمنين(علیه السلام) كان يعلم ، في الوقت نفسه، أن معاوية ليس ممن يخضع للحق وأنه يعدّ العدّة لتشكيل جيش لقتاله. وبما أن الإمام علي(علیه السلام) كان مدركاً لضلال أهل الشام وجهلهم فقد سلك جميع الطرق التي قد تؤدي إلى توعيتهم وتنويرهم إتماماً للحجة عليهم. وهذا ما جعله يكاتب معاوية أكثر من مرة ويرسل إليه أكثر من سفير. بل حتى في ساحة الحرب، لم يشأ أن يكون هو البادئ للقتال عسى أن يهتدي المزيد من الناس.

ص: 75

كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى جرير

بعد أن طال مكوث جرير في الشام ،بعث الإمام (عليه السلام) إليه بكتاب يطلب فيه منه أن يعلمه بموقف معاوية الصريح وما يميل إليه من حرب أو سلام. كتب (علیه السلام) في كتابه: أما بعد! فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل وخذه بالأمر الجزم. ثم خيّره بين حرب مجلية أو سلم محظية. فإن اختار الحرب فانبذ له (حذره من نقض العهد) وإن اختار السلم فخذ بيعته.

فلما بايع معاويةَ أهلُ الشام وذاقهم، قال: يا جرير الحق بصاحبك . وكتب إليه بالحرب، وكتب في أسفل كتابه بقول كعب بن جعيل :

أرى الشام تكره ملك العراق *** وأهل العراق لنا كارهونا. (1)

ص: 76


1- كتب علي إلى جرير بعد ذلك: أما بعد! ... كارهونا". وقعة صفين، ص 55 ، إبطاء جرير عند معاوية ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج 62، ص94، ترجمة معاوية، الرقم 7662 ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص527 ، ذكر كتاب آخر من علي بن أبي طالب (علیه السلام) إلى جرير بن عبد اللّه ؛ العقد الفريد، ج3، ص 332، أخبار علي الام ومعاوية.

كتاب آخر من معاوية

بعد مغادرة جرير للشام بعث معاوية كتاباً آخر إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)هدده فيها مرة أخرى بالحرب. وهذا نص كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين (علیه السلام): أما بعد! فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان كنت كأبي بكر وعمر وعثمان. ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل وقوي بك الضعيف. وقد أبى أهل الشام إلاّ قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان. فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين. وقد كان أهل الحجاز الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام. ولعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة ولا حجتك على طلحة والزبير[ ربما هنا عبارة مفقودة قد تكون: كحجتك علي]. لأن أهل البصرة بايعوك ولم يبايعك أحد من أهل الشام. وإن طلحة والزبير بايعاك ولم أبايعك. وأما فضلك في الإسلام وقرابتك من النبي(صلی اللّه علیه وآله) فالعمري ما أدفعه ولا أنكره. (1)

كلمات الرسالة هذه تقطر تحايلاً وتلاعباً سياسياً مفضوحاً من معاوية. فهو لا يدّعي لنفسه الريادة والتحكم في كل شيء، بل ينسب إلى أهل الشام أنهم أولياء دم عثمان وأنه مجرد تابع لرأيهم العام ومنفّذ لتطلعاتهم.

إنه يتصيد الذرائع للتحلل من البيعة العامة غير المسبوقة التي حصل عليها أمير المؤمنين (علیه السلام)، فيقول مخاطباً الإمام علياً (علیه السلام) أن حكمه لن يكون شرعياً حتى وإن سلّم قتلة عثمان، بل إن الأمر يعود إلى الشورى. وكان عبداللّه بن عباس قد تنبأ بمثل تلك الأيام وسبق له أن قال للإمام علي (علیه سلام): معاوية وأصحابه أهل دنيا. فمتى تثبتهم لا يبالوا من ولي هذا الأمر ومتى تعزلهم يقولون (هكذا، وربما يقولوا) أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا. (2)

ص: 77


1- "قال: وذكروا أن معاوية كتب إلى علي: أما بعد ... ولا أنكره". الإمامة والسياسة، ج1، ص 101، كتاب معاوية إلى علي (علیه سلام) ؛ العقد الفريد، ج 4، ص333، كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم، أخبار علي ومعاوية.
2- "قال ابن عباس : ... معاوية وأصحابه ... صاحبنا". الكامل في التاريخ، ج2، ص 306، حوادث سنة 35 هجرية، ذكر بيعة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام)

جواب أمير المؤمنين(علیه السلام) لمعاوية

كتب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية رداً على كتابه. قال: أتاني كتاب امرئ ليس له نظر يهديه ولا قائد پرشده، دعاه الهوى فأجابه وقاده فاتبعه. زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان. ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا. وما كان اللّه ليجمعهم على ضلالة ولا ليضربهم بالعمى. وما أمرت فيلزمني خطيئة الأمر ولا قتلت فيجب علي القصاص. وأما قولك إن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز فهات رجلاً من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة. فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون والأنصار، وإلّا أتيتك به من قريش الحجاز. وأما قولك: ادفع إلينا قتلة عثمان، فما أنت وعثمان؟ إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إلى (هكذا، ربما إلي (م) أحملك وإياهم على المحجة. وأما تمييزك بين الشام والبصرة وبين طلحة والزبير، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا واحد لأنها بيعة عامة لا يثنى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار. وأما ولوعك بي في أمر عثمان، فما قلت ذلك عن حق العيان ولا يقين الخبر. وأما فضلي في الإسلام و قرابتي من النبي (صلی اللّه علیه وآله)و شرفي في قريش ، فلعمري لو استطعتَ دفع ذلك لدفعتَه. (1)

ص: 78


1- "من علي إلى معاوية بن صخر. أما بعد! ... لدفعته". وقعة صفين، ص57، إبطاء جرير عند معاوية ؛ العقد الفريد، ج3، ص333، كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم، أخبار علي (علیه السلام)ومعاوية.

عودة جرير بن عبداللّه من الشام

مكث جرير في الشام بضعة أشهر. وهذا كان سبباً لضياع الفرص ولتمكن معاوية من كسب الوقت والتهيؤ لمواجهة الإمام(علیه السلام) ، خاصة بعد التحاق عمرو بن العاص وشرحبيل بجيش الشام. واعترض مالك الأشتر بعد عودة جرير وقال لأمير المؤمنين (علیه السلام) لم : أما واللّه يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيراً لك من هذا الذي أرخى من خناقه وأقام [عنده] حتى لم يدع باباً يرجو روحه إلاّ فتحه أو يخاف غمه إلاّ سده. فقال جرير (مدافعاً عن نفسه): واللّه لو أتيتهم لقتلوك. وخوّفه بعمرو وذي الكلاع وحوشب ذي ظليم وقد زعموا أنك من قتلة عثمان. فقال الأشتر: لو أتيته واللّه يا جرير لم يعيني جوابها ولم يثقل عليّ محملها، ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر. قال (جرير) فأتهم إذن! قال (مالك): الآن وقد أفسدتهم ووقع بينهم الشر؟ وأقبل (مالك الأشتر) إلى جرير يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة! إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان. واللّه ما أنت بأهل أن تمشى فوق الأرض حياً. إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يداً بمسيرك إليهم، ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم وأنت واللّه منهم ولا أرى سعيك إلّا لهم، ولئن أطاعني أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه، حتى تستبين هذه الأمور ويهلك اللّه الظالمين ).

(1) "لما رجع جرير إلى علي كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية. فاجتمع جرير والأشتر عند علي فقال الأشتر: أما واللّه ... بينهم الشر؟" "اجتمع جرير والأشتر عند علي فقال :الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريراً وأخبرتك بعداوته وغشه؟ وأقبل الأشتر يشتمه ويقول: يا أخا بجيلة! ... الظالمين". وقعة صفين، ص 59، تهمة جرير ودفاعه ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص535، ذكر تسريح معاوية جرير بن عبد اللّه إلى علي (علیه السلام).

ص: 79

فرار جرير إلى قرقيسيا

لما أدرك جرير وخامة وضعه ونظرة أنصار الإمام ا(علیه السلام) إليه ، فرّ إلى قرقيسيا والتحق به جماعة من الناس. فقام أمير المؤمنين (علیه سلام )بإحراق بيته وبيت رفيقه المسمى ثوير بن عامر.(1)

أثبت هروب جرير إلى قرقيسيا أن جميع الاتهامات الموجهة إليه كانت صحيحة. لقد ظهر جرير على حقيقته بعد أن هرب إلى قرقيسيا وأثبت أنه كان من البداية على هوى بني أمية. لذا قال في سبب هروبه: لا نقيم في بلدة يعاب فيها عثمان (2) وبعد هروبه إلى قرقيسيا، كاتب جرير معاوية فطلب منه معاوية أن يلتحق به في الشام. (3)

ص: 80


1- "فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا ولحق به أناس من قسر من قومه ولم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر، ولكن أحمس شهدها منهم سبعمائة رجل. وخرج علي إلى دار جرير فشعث منها وحرق مجلسه وخرج أبوزرعة بن عمر بن جرير فقال: أصلحك اللّه! إن فيها أرضاً لغير جرير. فخرج علي منها إلى دار ثوير بن عامر فحرقها وهدم منها، وكان ثوير رجلاً شريفاً وكان قد لحق بجرير". وقعة صفين، ص 59، تهمة جرير ودفاعه ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 535 ، ذكر تسريح معاوية جرير بن عبد اللّه إلى على(علیه سلام).
2- ممن فارقه [عليه السلام] حنظلة الكاتب، خرج هو وجرير بن عبد اللّه البجلي من الكوفة إلى قرقيسيا وقالا: لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان". شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 93 ، ذيل الخطبة 56 ، فصل في ذكر المنحرفين عن علي
3- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ج 6، ص 185، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر إرسال جرير إلى معاوية.

سبب هدم دار جریر بن عبداللّه

لا شك في أن جريراً خان أمير المؤمنين (علیه السلام) وأضعف جبهته في العراق بهروبه إلى قرقيسيا مع جماعة. ولكن السؤال الذي لا مفر من إيجاد جواب عليه هنا هو: لماذا أحرق أمير المؤمنين (علیه السلام) داره في الكوفة؟

نظراً إلى أن جرير بن عبداللّه كان رئيس قبيلة بجيلة" ،(1) عبداللّه كان رئيس قبيلة بجيلة"، (1) فإن بعض المحللين يورد عدة أوجه في تفسير ما فعله أمير المؤمنين (علیه سلام) ،معه ، نستعرض بعضها فيما يلي بإيجاز:

أ - كان هدم الدور من العقوبات المتعارف عليها في ذلك الزمان وتحمل مفهوماً ودلالة محددة. لقد كان رئيس القبيلة في الماضي قطب رحى العشيرة وملاذ أفرادها. وكان الناس يراجعونه في بيته ليقضي لهم حوائجهم. ومن الطبيعي أن أفراد القبيلة أعرضوا عن جرير لما رأوا شدة غضب الخليفة عليه لدرجة أن أحرق داره. وكان مجرى التطورات يصب في اندفاع الناس لتقديم الدعم للخليفة لتعزيز قدراته لمواجهة أعدائه.

ب - التفسير الثاني هو أن أمير المؤمنين(علیه السلام)، بإحراقه دار جرير، منع تزلزل الناس. فقد دلّ هدمه لدار جرير على أن التراجع عن الحق والركون إلى الباطل لا يمكن أن يكون بدون ثمن وأنه لا يحق لأي كان أن يُضعف جبهة الحق.

ص: 81


1- قال ابن إسحق : جرير بن عبد اللّه البجلي سيد قبيلته، يعني بجيلة". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص308، ترجمة جرير بن عبد اللّه، الرقم 326.

تصرفات جرير في ميزان التقييم

كان جرير بن عبداللّه من أنصار الخليفة الثالث وأعوانه وعامله عمله علی "همدان ". ومع أنه وقف موقفاً حسناً في المسجد، عندما عزله أمير المؤمنين(علیه السلام) ، والتحق بالإمام(علیه السلام) في الكوفة، وأنه تكلم بكلام جيد في مقابلاته الأولى لمعاوية وفي الخطب التي ألقاها في الشام، فإن سوء ظن مالك الأشتر به عندما قرر أمير المؤمنين(علیه السلام) إرساله سفيراً إلى الشام، وإهداره الفرص في الشام، والكلام الذي تبادله مع مالك بعد عودته من الشام، وعدم تحمله ذكر عيوب عثمان، وهروبه إلى قرقيسيا، وهدم أمير المؤمنين (علیه السلام) داره، وبغضه وعداءه لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، كل هذا يدل على أنه كان خائناً وكان له تأثير كبير في تجهيز جيش الشام لمواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 82

إرسال ثالث سفير للسلام إلى الشام

لغرض التوسط من أجل منع وقوع الحرب، اقترح عدي بن حاتم على أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: يا أمير المؤمنين! إن عندي رجلاً من قومي لا يجاري (هكذا: (م) به وهو يريد أن يزور ابن عم له حابس بن سعد الطائي بالشام. فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام. فقال له علي(علیه السلام) : نعم، فمره بذلك. وكان اسم الرجل خفاف بن عبداللّه، فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام، وكان حابس سيد طيئ. فحدث خفاف حابساً أنه شهد عثمان بالمدينة وسار مع علي(علیه السلام) إلى الكوفة. وكان الخفاف لسان وهيئة وشعر، فغدا حابس وخفاف إلى معاوية، فقال حابس: هذا ابن عمي قدم الكوفة مع علي(علیه السلام) وشهد عثمان بالمدينة وهو ثقة. فقال له معاوية: هات يا أخا طيئ، حدثنا عن عثمان. قال: حصره المكشوح، وحكم فيه حكيم، ووليه محمد وعمار، وتجرد في أمره ثلاثة نفر عدي بن حاتم والأشتر النخعي وعمرو بن الحمق، وجد في أمره رجلان طلحة والزبير، وأبرأ الناس منه علي قال: ثم مه؟ قال: ثم تهافت الناس على علي (علیه السلام) بالبيعة تهافت الفراش حتى ضلت النعل وسقط الرداء ووطئ الشيخ ولم يذكر عثمان ولم يذكر له. ثم تهيأ للمسير وخف معه المهاجرون والأنصار وكره القتال معه ثلاثة نفر سعد بن مالك وعبداللّه بن عمر ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحداً واستغنى بمن خف معه عمن ثقل . ثم سار حتى أتى جبل طيئ فأتاه منا جماعة كان ضارباً بهم مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة حتى إذا كان في بعض الطريق أ فسرح رجالاً إلى الكوفة فأجابوا دعوته. فسار إلى البصرة فهي في كفه. ثم قدم إلى الكوفة فحمل إليه الصبي ودبت إليه العجوز وخرجت إليه العروس فرحاً به وشوقاً إليه. فتركته وليس همه إلاّ الشام. سمع معاوية قصيدة خفاف فذعر معاوية من قوله وقال حابس: أيها الأمير! لقد أسمعني شعراً غيّر به حالي في عثمان وعظّم به علياً(علیه السلام) عندي. قال معاوية: أسمعنيه يا خفاف! فأسمعه

ص: 83

قوله شعراً. (ارتياب معاوية في خفاف وإعجابه به) فانكسر معاوية وقال: يا حابس! إني لا أظن هذا إلّا عيناً لعلي(علیه السلام) أخرجه عنك لا يفسد أهل الشام! (1)

ص: 84


1- قام عدي بن حاتم إلى علي(علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين! ... فأسمعه قوله شعراً. ارتياب معاوية في خفاف وإعجابه به (هكذا جاءت هذه العبارة في سياق الاقتباس: م) فانكسر معاوية ... أهل الشام". وقعة صفين، ص 64 إلى 68 ، إرسال عدي إلى معاوية الفتوح، ج 1، ص 506، خبر الطائي مع معاوية.

مكاتبات معاوية

يشهد التاريخ أن الإمام علياً (علیه السلام) حاول بشتى الوسائل أن يطفئ فتنة معاوية بالطرق السلمية وأن يخمد تمرده ويقصر يد ظلمه للناس. ولكن معاوية لم يستجب لذلك بل سعى سعياً حثيثاً إلى زعزعة النظام العام وأمن البلاد الإسلامية، محاولاً أن يُلبس محاولاته ثوباً شرعياً وقانونياً تحقيقاً لمطامعه.

فی البداية، كتب معاوية إلى أهل المدينة لغرض استغلال إمكانياتهم في مواجهة الإمام علي(علیه السلام) وكتب أيضاً إلى ثلاث شخصيات سياسية ليستغل وجاهتهم الاجتماعية في إضفاء الشرعية على حركته. وكانت غايته من تلك المراسلات أن يستقطبهم إلى جانبه إن أمكنه ذلك، أو أن يتقي مخالفتهم على أقل تقدير.

وكانت رسالته الأخرى إلى عبداللّه بن عمر بن الخطاب، وكان ذا منزلة مرموقة في الناس، فكان بمقدوره أن يستغله في التحريض على الإمام (علیه السلام).

وكتب أيضاً إلى سعد بن أبي وقاص الذي كان قد فتح العراق وكان ضمن لجنة الشورى السداسية التي عينها عمر. أما الثالث فكان محمد بن مسلمة.

ص: 85

التشاور مع عمرو بن العاص

تشاور معاوية مع وزيره المستشار حول الكتب التي يرسلها. فأعمل عمرو فكره جيداً ثم حذر معاوية من أن تلك المراسلات لن تجديه نفعاً. قال: إنما نكتب إلى ثلاثة نفر: راض بعلي فلا يزيده ذلك إلاّ بصيرة، أو رجل يهوى عثمان فلن نزيده على ما هو عليه، أو رجل معتزل فلست بأوثق في نفسه من علي فلن تنفع هذه الكتب في شيء. (1)

أ - كتاب معاوية إلى أهل المدينة

أصرّ معاوية على الكتابة رغم مخالفة عمرو بن العاص، فكتب أولاً رسالة إلى أهل المدينة يحرضهم فيها على علي(علیه السلام) بدعوى الاقتصاص لدم عثمان. كتب في رسالته المفتوحة: أما بعد! فإنه مهما غابت عنا من الأمور فلن يغيب عنا أن علياً قتل عثمان، والدليل على ذلك مكان قتلته منه. وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب اللّه. فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه وجعلناها شورى بين المسلمين على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب. وأما الخلافة فلسنا نطلبها، فأعينونا على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم، فإن أيدينا وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد هاب على (هكذا، وربما علي : م) ما هو فيه، (وحققنا المراد). (2)

جواب أهل المدينة

كان أهل المدينة يعرفون جيداً ما يضع معاوية من خطط مشؤومة ولا يغيب عنهم وماضي عمرو بن العاص. فبعد أن اطلعوا على كتاب معاوية ردوا عليه رداً عنيفاً وآيسوه من

ص: 86


1- "لما أراد معاوية المسير إلى صفين قال لعمرو بن العاص إني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة وأهل المدينة كتاباً نذكر لهم فيه أمر عثمان ، فإما أن ندرك حاجتنا وإما أن يكف القوم عنا. قال عمرو: إنما نكتب ... من علي". وقعة صفين، ص 62 ، استشارة معاوية عمرواً قبل المسير إلى صفين.
2- () "فكتب: أما بعد! ... ما هو فيه". الفتوح، المجلد الأول، ص 542 ، ذكر كتاب معاوية إلى أهل المدينة يستنصرهم.

مساندتهم. كتبوا له يقولون: أما بعد! فإنكما ( يعنونه وعمرواً) أخطأتما موضع النصرة وتاولتماها من مكان بعيد. يا ابن هند و يا ابن العاص !ما أنتما والمكاتبة والمشورة؟ وما أنتما والخلافة والشورى؟ أما أنت يا معاوية فطليق العين. وأما أنت يا عمرو فخائن في الدين. فكفا عن المكاتبة فليس لكما المكاتبة لأهل المدينة ولي ولا نصير ولا معين ولا ظهير .(1)

بعد أن اطلع معاوية على ردّ أهل المدينة ذهب إلى عمرو بن العاص وقال له بعد أن شتم أهل المدينة: لقد أخطأنا بالكتابة إلى أوباش المدينة. وكان ينبغي أن نكتب إلى عبداللّه بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة. فعارضه عمرو مرة أخرى وقال له: أخشى أن يردوا عليك بما لا ترضی (2)

ب - كتاب معاوية إلى عبداللّه بن عمر(3)

كان عبداللّه بن عمر من معارضي عثمان والمحرضين عليه. ولكي يدفعه معاوية إلى الوقوف بوجه أمير المؤمنين (علیه سلام)، وعده بأن يسلمه الخلافة. فكتب إليه يقول له: أما بعد! فإنه لم يكن أحد من

ص: 87


1- "فلما قرئ كتاب معاوية على أهل المدينة اجتمعوا فكتبوا إلى معاوية وعمرو بن العاص جميعاً: أما بعد! ... ولا ظهير. ثم كتب رجل من الأنصار أبياتاً من الشعر مطلعها: معاوي إن الحق أبلج واضح ... وليس كما ربصت أنت ولا عمرو" الفتوح، المجلد الأول، ص 542 ، ذكر كتاب معاوية إلى أهل المدينة يستنصرهم.
2- الفتوح، المجلد الأول، ص 542 ، ذكر كتاب معاوية إلى أهل المدينة يستنصرهم.
3- كان عبد اللّه بن عمر بن الخطاب في العاشرة من عمره تقريباً في السنة التي هاجر فيها النبي (صلی اللّه علیه وآله) إلى المدينة. شارك في اليرموك والقادسية وجلولاء وباقي حروب العرب ضد الإيرانيين. وشارك أيضاً في فتح مصر. وكان في الثانية والعشرين عند وفاة النبي (صلی اللّه علیه وآله). يقول المؤرخون من أهل السنة: لم يبايع عبد الله بن عمر أحداً بعد مقتل عثمان وفي فترة الفتنة ولم يشارك مع عائشة وطلحة والزبير ومعاوية والخوارج في حروبهم على الإمام علي(علیه السلام) . عمل على الإفتاء في المسلمين نحواً من ستين سنة وروى عن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) روايات كثيرة. توفي سنة 74 هجرية عن ست وثمانين سنة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 80 - 83، ترجمة عبد اللّه بن عمر، الرقم 1630 ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 336 - 341، ترجمة عبد اللّه بن عمر، الرقم 3082. يقول محمد بن جرير الطبري بايع جميع الأنصار وأهل المدينة علياً (علیه السلام) إلّا سبعة هم: سعد بن أبي وقاص وعبد اللّه بن عمر وصهيب بن سنان وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وسلمة بن وقش وأسامة بن زيد. تاريخ الطبري، ج2، ص 699، حوادث سنة 35 هجرية، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) . عندما تراجع أهل المدينة عن بيعتهم ليزيد وخلعوه من الخلافة، تأثر عبد اللّه بن عمر فجمع أهل بن عمر فجمع أهل بيته وقال: سمعت رسول الله يقول أنه في يوم القيامة يرفع لكل ناكث عهد ومخادع علم يعرف به. وقد بايعنا يزيد وإن الرجوع عن بيعته وخلعه من الخلافة وإعلان الحرب عليه من أكبر الذنوب. فمن رجع منكم عن بيعته ليزيد وبايع غيره قطعت صلتي به صحيح البخاري، ص 1396 ، كتاب الفتن الباب ،21، باب إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه، الحديث 7111. يقول ابن أبي الحديد: إن عبد الله بن عمر لم يبايع علياً (علیه السلام). ولكي لا يشمله قول النبي (صلی اللّه علیه وآله) من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية"، ذهب ليلاً إلى بيت الحجاج بن يوسف الثقفي ليبايع عبدالملك بن مروان. فما كان من الحجاج إلّا أن أخرج رجله من الغطاء ومدها إليه وقال له: امسح عليها إذا كنت تريد مبايعة عبدالملك بن مروان، استهانة بعبد اللّه وتحقيراً له. شرح نهج البلاغة، ج13، ص 242، ذيل الخطبة 238، القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما.

قريش أحب إلي أن يجتمع عليه الأمة بعد قتل عثمان منك. ثم ذكرت خذلك إياه وطعنك على أنصاره، فتغيرت لك. وقد هوّن ذلك علىّ خلافك على علي، ومحا عنك بعض ما كان منك. فأعنّا رحمك اللّه على حق هذا الخليفة المظلوم، فإني لست أريد الإمارة عليك، لكني أريدها لك. فإن أبيتّ كانت شورى بين المسلمين.(1)

ص: 88


1- أما بعد! ... بين المسلمين". وقعة صفين، ص 71، ج2، كتاب معاوية إلى ابن عمر.

رد عبدالله بن عمر على كتاب معاوية

كان عبداللّه بن عمر يعرف جيداً ما يخطط له معاوية، ويعلم أنه إنما يريد أن يتخذه جسراً للعبور إلى مصالحه وأطماعه. لذا أشار إلى فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) في رده عليه وقال: أما بعد! فإن الرأي الذي أطمعك في هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك إليه، أني تركت علياً في المهاجرين والأنصار وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين واتبعتك. أما زعمك أني طعنت على علي، فلعمري ما أنا كعلي في الإيمان والهجرة ومكانه من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وكايته في المشركين. ولكن حدث أمر لم يكن من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) اليّ فيه عهده ففزعت فيه إلى الوقوف وقلت: إن كان هدىً ففضلٌ تركته، وإن كان ضلالة فشرٌ نجوت منه. فأغن عنا نفسك .(1)

ج - كتاب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص (2)

لغرض استدراج سعد بن أبي وقاص إلى جانبه، لجأ معاوية إلى التباهي بما فعله نظائره من أعضاء الشورى، فكتب إليه يقول: أما بعد فإن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش الذين أثبتوا حقه واختاروه على غيره. وقد نصره طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر ونظيراك في

ص: 89


1- وقعة صفين، ص72، ارتياب معاوية في خفاف وإعجابه به (ربما العبارة الأخيرة في غير محلها :م).
2- سعد بن أبي وقاص من صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ولو كان هواه مع عثمان. ورغم أنه روى روايات كثيرة في فضائل الإمام علي وأهل البيت (علیهم السلام) ومناقبهم، ومعرفته بمقامهم ومنزلتهم، إلّا أنه لم يبايع الإمام علياً(علیه السلام) حين بايعه جميع المسلمين بعد مقتل عثمان. وكان من الذين حققوا ثروات وأموالاً طائلة في ظل خلافة عثمان، حتى قال الذهبي إن تركة سعد حين مات بلغت 250000 درهم ولم يبايع أميرالمؤمنين (علیه السلام) بعد مقتل عثمان. تاريخ الطبري، ج2، ص 699 ، حوادث سنة 35 هجرية، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. في معرض روايته التي ينقلها عن جانب من حوادث السقيفة وما جرى بعد وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و يشير الشيخ الصدوق إلى دور سعد ويقول: بقي أبوبكر في بيته ثلاثة أيام ولم يحضر في المسجد. وفي اليوم الثالث ذهب إليه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبوعبيدة الجراح ومع كل واحد منهم عشرة رجال مسلحين من عشيرته فأخذوه إلى المسجد وأجلسوه على المنبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) الخصال، ص 507، أبواب الاثني عشر، الذين أنكروا على أبي بكر جلوسه في الخلافة وتقدمه على علي بن أبي طالب اثنا عشر، الحديث الرابع و (هكذا: م). استناداً إلى ما ينقله الشيخ الصدوق فإن سعد بن أبي وقاص كان أحد أصحاب العقبة الذين هموا بقتل النبي و في أثناء غزوة تبوك وذلك بإفزاع الناقة التي كان يركبها وإسقاطه معها في الوادي. الخصال، ص 544 - 545، أبواب أربعة عشر رجلاً، الحديث السادس.

الإسلام، وخفت لذلك أم المؤمنين. فلا تكرهن ما رضوا ولا تردن ما قبلوا، فإنا نردها شورى بين المسلمين .(1)

ص: 90


1- وقعة صفين، ص 74 ، كتاب معاوية إلى سعد.

جواب الكتاب

لم يختلف ردّ سعد على كتاب معاوية عن ردّ عبداللّه بن عمر. فقد تضمن اعترافاً بأحقية على بن أبي طالب (علیه السلام) وأفضليته. كما تضمن تعريضاً بعدم كفاءة معاوية وعدم أهليته للخلافة. فقد كتب سعد إلى معاوية يقول: أما بعد! فإن عمر لم يُدخل في الشورى إلّا من يحل له الخلافة من قريش. فلم يكن أحد منا أحق بها من صاحبه [إلّا] باجتماعنا عليه .غير أن علياً قد كان فيه ما فينا ولم يك فينا ما فيه. وهذا أمر قد كرهنا أوله وكرهنا آخره. فأما طلحة والزبير فلو لزما بيوتهما كان خيراً لهما. واللّه يغفر لأُم المؤمنين ما أتت.(1)

د - كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة (2)

كان معاوية يعلم أن محمد بن مسلمة لم يكن على علاقة طيبة مع أمير المؤمنين (علیه السلام)، بل كان محسوباً على أعدائه. لذا كتب إليه كتاباً رجاءَ أن يستميله إلى جانبه لأنه كان أحد صحابة النبي

ص: 91


1- وقعة صفين، ص 74 ، إجابة سعد لمعاوية.
2- محمد بن مسلمة الأنصاري من صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لو كان من أعضاء الحزب المعارض لأمير المؤمنين وأهل البيت(علیهم السلام) ومن أعدائهم. ولد قبل الهجرة باثنتين وعشرين سنة. حضر جميع حروب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لها في صفوف المشركين. بعثه رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) بأكثر من المهمة، بعد وفاة النبي (صلی اللبه علیه وآله)كان ملازماً لأبي بكر وعمر وعثمان ومعاونيهم وموضع ثقتهم، وشغل مناصب مختلفة في خلافتهم مكنته من تحقيق أموال طائلة. لم يبايع أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد مقتل عثمان على يد الصحابة، كما أنه لم يشهد الجمل وصفين. توفي في المدينة حوالي سنة 42 هجرية فصلى عليه مروان بن الحكم. وهناك رأي بأنه ترك المدينة بعد مقتل عثمان وذهب إلى الربذة ومات فيها. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 433 - 434 ، ترجمة محمد بن مسلمة، الرقم 2372 ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج5، ص106 - 108، ترجمة محمد بن مسلمة، الرقم 4768 ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج6، ص 28 - 29، ترجمة محمد بن مسلمة، الرقم 7832 وكان من مبغضي أمير المؤمنين (علیه السلام) ومعاديه. ولما لم يبايع عبد اللّه بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة أمير المؤمنين(علیه السلام) قال (علیه السلام) العمار: اتركوا هؤلاء الثلاثة، فأما عبد اللّه بن عمر فضعيف في دينه، وأما سعد بن أبي وقاص فهو امرؤ حسود، وأما محمد بن مسلمه فحق له أن لا يبايعني لأني قتلت أخاه مرحب اليهودي في خيبر. الإمامة والسياسة، ج1، ص 54، اعتزال عبد اللّه بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهدة علي وحروبه. كان محمد بن مسلمة من الستة الذين سماهم آباؤهم بهذا الاسم رجاء أن يكونوا النبي الموعود. الوافي بالوفيات، ج1، ص55 ، ترجمة والنبي(صلی اللّه علیه آله) السيرة النبوية، ج1، ص197 ، لم يسم أحد قبله أحمد ولم يسم قبله محمد إلّا ستة. ويكفي لإثبات عداوة محمد بن مسلمة لأمير المؤمنين وأهل البيت (علیهم السلام) أنه كان من رجال أبي بكر وعمر وحزب السقيفة، وكان ممن شارك في الهجوم على بيت فاطمة الزهراء (سلام اللّه علیه). كافأه عمر بن الخطاب في فترة خلافته بأن أسند إليه مهمة شؤون العمال. وكان له مكانة مرموقة في خلافة عثمان. يعتبر محمد بن مسلمة من الأنصار القلائل الذين لم يبايعوا علياً (علیه السلام) بعد مقتل عثمان - بيد الصحابة ومبايعة الناس لعلي (علیه السلام). فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج 13، ص 68 ، کتاب الفتن، باب قول النبي(صلی اللّه علیه وآله) للحسن بن علي(علیه السلام): إن ابني هذا السيد، ولعل اللّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين، الحديث 7109 - 7110. شارك في الهجوم على بيت الزهراء و علي(علیها السلام) وكان يرافق عمر بن الخطاب. يقول إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف: كان أبي عبدالرحمن بن عوف ومحمد بن وعلي مسلمة مع عمر بن الخطاب عند الهجوم على بيت فاطمة الزهراء(سلام عليها) وقد كسر محمد بن مسلمة سيف الزبير. المستدرك على الصحيحين، ج3، ص70، كتاب معرفة الصحابة، أبوبكر بن أبي قحافة، الحديث [الرقم غير واضح المترجم].

(صلی اللّه علیه وآله) وكانت له منزلة مرموقة في عهد الخلفاء وشغل مناصب عديدة. لذا اعتقد أنه لو استطاع أن يقنعه بالانضمام إليه فإنه سيضمن دعم شريحة من أهل المدينة كانوا يتبعونه، فكتب إليه يقول: أما بعد! فإني لم أكتب إليك وأنا أرجو متابعتك. ولكني أردت أن أذكرك النعمة التي خرجت منها والشك الذي صرت إليه. إنك فارس الأنصار وعدة المهاجرين، ادعيت على رسول اللّه( صلى الله عليه وسلم) أمراً لم تستطع إلّا أن تمضي عليه فهذا نهاك عن قتال أهل الصلاة، فهلا نهيت أهل الصلاة بعضهم بعضاً وقد كان عليك أن تكره لهم ما كره لك رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أو لم تر أن عثمان وأهل الدار من أهل الصلاة؟ فأما قومك فقد عصوا اللّه وخذلوا عثمان واللّه سائلك وسائلهم عن الذي كان يوم القيامة (1)

ص: 92


1- وقعة صفين، ص 76 ، كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة.

ردّ محمد بن مسلمة على كتاب معاوية

كان محمد بن مسلمة يعرف شخصية معاوية بجميع أبعادها، ويعلم أن غايته من كل تلك المساعي والمراسلات تحقيق غايات دنيوية. لذا صدّه برد قوي، ولم ينس أن يعرّض بخذلانه عثمان، فكتب إليه يقول: أما بعد! فقد اعتزل هذا الأمر من ليس في يده من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) مثل الذي في يدي. فقد أخبرني رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بما هو كائن قبل أن يكون، فلما كان كسرت سيفي وجلست في بيتي واتهمت الرأي على الدين، إذ لم يصح معروف آمر به ولا منكر أنهى عنه. وأما أنت فلعمري ما طلبت إلا الدنيا ولا اتبعت إلاّ الهوى. فإن تنصر عثمان ميتاً فقد خذلته حياً. فما أخرجني اللّه من نعمة ولا صيّرني إلى شك. إن كنت أبصرت خلاف ما تحبني به ومن قبلنا من المهاجرين والأنصار فنحن أولى بالصواب منك .(1)

يمكن استنتاج أكثر من ملاحظة من أجوبة هؤلاء الثلاثة:

الأولى: هي أن أياً من هؤلاء الثلاثة، وجميعهم صحابة، لم يُعن عثمان . بل إن عبدالله بن عمر اشترك قتله بشكل من الأشكال، إذ تسبب في تضعيف موقعه الاجتماعي من خلال الطعن بأنصاره.

الثانية أن عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص يصرحان بأن علي بن أبي طالب (علیه السلام) أفضل منهما وأجدر (بالخلافة (م) رغم أنهما لم يبايعاه ولم ينصراه في حروبه.

الثالثة: أن أياً من هؤلاء الثلاثة لم يتلق نداء معاوية بالترحاب، ولم يعتبروه جديراً حتى بالمطالبة بدم عثمان.

الرابعة: أن سعد بن أبي وقاص عدّ مشعلي نار حرب الجمل مذنبين وأنه ما كان لهم أن يجردوا سيوفهم بوجه أمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 93


1- وقعة صفين، ص76، جواب محمد.

مشورة أبي مسلم الخولاني

مشورة أبي مسلم الخولاني(1)

بعد العديد من المراسلات بين الفريقين، دخل الساحة أشخاص آخرون مثل أبي مسلم الخولاني للتوسط للمصالحة بين الطرفين المتخاصمين. فذهب أبو مسلم إلى معاوية وكان عنده عدد كبير من قرّاء الشام، وقال له على ما تقاتل علياً وليس لك مثل سابقته وقرابته وهجرته؟ فقال معاوية: ما أقاتله وأنا أدعي في الإسلام مثل الذي ذكرت أنه له، ولكن ليدفع إلينا قتلة عثمان فنقتلهم به. فإن فعل فلا قتال بيننا وبينه (2)

ص: 94


1- أدرك أبو مسلم الخولاني الجاهلية وأسلم قبل وفاة النبي (ثلی اللّه علیه وآله) لكنها لحين وصول المدينة كان النبي قد توفي فلم يره. كان من أهل اليمن ولكنه سكن الشام وصاحب معاوية، لذا عُدّ من رواة الشام. وتزخر مصادر التراجم والرجال السنية بالكرامات الموضوعة لأبي مسلم الخولاني ؛ من قبيل مشيه على الماء، وانشقاق النهر له وللمسلمين، وعدم الاحتراق بالنار، ونزول الغيث بدعائه، وإصابة امرأة بالعمى بدعائه، وتوقف الغزال بدعائه، ونزول الطعام من السماء له ولرفاق سفره، وعدم تأثير السم فيه. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 4، ص 319 - 320 ، ترجمة أبي مسلم الخولاني، الرقم 3208 ؛ المعارف، ص 439، ترجمة أبي مسلم الخولاني ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج29، ص 129 - 158، ترجمة عبد الله بن ثوب، الرقم 3294 ؛ المنتظم في تواريخ الملوك والأمم، ج 4، ص 147 - 148، حوادث سنة 60 هجرية. يقول ابن جبير في رحلته قبر أبي مسلم الخولاني في قرية داريا على بعد أربعة أميال غرب دمشق وعليه قبة ومزار. رحلة ابن جبير، ص219، مدينة دمشق. كان أبو مسلم الخولاني، كما كان أكثر أهل الشام، عثماني الهوى تاريخ المدينة المنورة، ج 4، ص 1252 - 1253 . بعد أن ينقل العلامة الأميني بعض الكرامات التي تنسبها كتب أهل السنة لأبي مسلم الخولاني، يقول: أتعلمون لماذا توضع مثل هذه الكرامات لأبي مسلم؟ أتصدقون أن في فئة معاوية والشام الباغية الطاغية رجل مؤمن ؟ فضلاً عن أن يكون رجلاً إلهياً يحوي كل تلك الفضائل والمناقب؟ هل من المعقول أن يكون في الشام في زمن معاوية رجل يعرف اللّه ولم يخطئ في تمييز الحق من الباطل ولم ينحرف عن الحق؟ إن سبب نسج جميع تلك الفضائل والكرامات لأبي مسلم الخولاني هو أنه لازم بني أمية وساندهم وأنه كان معادياً لأهل البيت (علیه السلام) كان أبو مسلم الخولاني من أنصار عثمان والأمويين، وقاتل تحت رايتهم ضد إمام زمانه. وهو الذي اتهم أهل المدينة بأجمعهم بقتل عثمان والمشاركة فيه وقال إنهم شر من قوم ثمود، وجاء مبعوثاً من معاوية إلى الإمام علي(علیه السلام) ، وأنشد شعراً في صفين يعلن فيه عن طاعته لمعاوية ودعمه له. فهل لمن له هذا التاريخ الأسود أن تكون له تلك الكرامات البيض؟ إن الإسلام وتعاليمه والعقل والمنطق كلها تشهد بأن جميع الكرامات والفضائل المنسوبة إلى أبي مسلم الخولاني موضوعة وكاذبة. إن التعصب الأعمى واتباع الهوى توصل الإنسان إلى درجة أن يعتبر أبا مسلم الخولاني الشامي الخارجي الباغي المحارب لإمام زمانه، زاهداً عابداً ناسكاً صاحب كرامات ومقامات وفضائل. الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج 11، ص 145 - 147، الغلو الفاحش أو قصص الخرافة في فضائل الأولياء.
2- أنساب الأشراف، ج3، ص 66، أمر صفين ؛ سير أعلام النبلاء، ج3، ص 140، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25.

لقد كان تفوق أمير المؤمنين (علیه السلام) على معاوية من الوضوح بحيث يصرّح به حتى المقربون من معاوية، ولا يملك معاوية نفسه إلاّ الإذعان له. فلما حمل أبو مسلم كتابساً من معاوية إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، قال له(علیه السلام) : اغد عليّ غداً فخذ جواب كتابك. ولم يعلم الناس بما جاء في الكتاب، فتجمعوا في اليوم التالي في المسجد فهتفوا: كلنا قتل ابن عفان فقال أمير المؤمنين (علیه السلام) لأبي مسلم:

واللّه ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين (1).

ص: 95


1- قام أبو مسلم خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإنك قد قمت بأمر وتوليته واللّه ما أحب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك. إن عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً، فادفع إلينا قتلته وأنت أميرنا. فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة وألسنتنا لك شاهدة، وكنت ذا عذر وحجة. فقال له علي اغد علي غداً فخذ جواب كتابك. فانصرف ثم رجع من ليأخذ جواب كتابه فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد وأخذوا ينادون: كلنا قتل ابن عفان [وأكثروا من النداء بذلك]. وأذن لأبي مسلم فدخل على علي أميرالمؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية، فقال له أبومسلم: قد رأيت قوماً ما لك معهم أمر. قال: وما ذاك؟ قال: بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا واجتمعوا ولبسوا السلاح وزعموا أنهم كلهم قتلة عثمان. فقال علي: واللّه ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين. لقد ضربت هذا الأمر أنفه وعينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك". وقعة صفين، ص 85، قدوم أبي مسلم الخولاني على معاوية.

کتابان تحريضيان من معاوية

بعث معاوية برسالتين تحريضيتين متشابهتي المضمون إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) بيد أبي مسلم الخولاني وأبي الدرداء. وكانت غايته من تلك الرسائل، التي بعثها بتوصية من عمرو بن العاص، أن يثير الإمام (علیه السلام) ضد الخلفاء السابقين ليستغل ردّه في تعبئة الناس ضده.

يتحدث ابن أبي الحديد عن مكر معاوية وفتنه نقلاً عن أبي جعفر النقيب فيقول: كان معاوية يتسقط علياً وينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر وأنهما غصباه حقه. ولايزال يكيده بالكتاب يكتبه والرسالة يبعثها يطلب غرته لينفث بما في صدره من حال أبي بكر وعمر، إما مكاتبة أو مراسلة، فيجعل ذلك حجة عليه عند أهل الشام ويضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم. فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان ومالاً على قتله وأنه قتل طلحة والزبير وأسر عائشة وأراق دماء أهل البصرة. وبقيت خصلة واحدة وهو (هكذا، والأرجح وهي: م) أن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر وعمر وينسبهما إلى الظلم ومخالفة الرسول في أمر الخلافة وأنهما وثبا عليها غلبة وغصباه إياها. فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه، بل وأهل العراق الذين هم جنده وبطانته وأنصاره لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين، إلّا القليل الشاذ من خواص الشيعة. فلما كتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني قصد أن يغضب علياً ويحرجه ويحوجه إذا قرأ ذكر أبي بكر وأنه أفضل المسلمين إلى أن يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعناً في أبي بكر. فكان الجواب مجمجماً غير بيّن، ليس فيه تصريح بالتظليم لهما ولا التصريح ببراءتهما، وتارة يترحم عليهما وتارة يقول أخذا حقي وقد تركته لهما. فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتاباً ثانياً مناسباً للكتاب الأول ليستفزا فيه علياً ويستخفاه ويحمله الغضب منه أن يكتب كلاماً يتعلقان به في تقبيح حاله وتهجين مذهبه. وقال له عمرو: إن علياً رجل نزق تيّاه، وما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر وعمر، فاكتب. فكتب كتاباً أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلي وهو من الصحابة، بعد أن عزم على بعثته مع أبي الدرداء ونسخة الكتاب: من عبدالله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام). أما بعد! فإن اللّه تعالى جده اصطفى محمد اً (صلی اللّه علیه وآله) لرساله واختصه بوحيه وتأدية شريعته. فأنقذ به من العماية وهدى به من

ص: 96

الغواية. ثم قبضه إليه رشيداً حميداً، قد بلغ الشرع ومحق الشرك وأخمد نار الإفك. فأحسن اللّه جزاءه وضاعف عليه نعمه وآلاءه. ثم إن اللّه سبحانه اختص محمداً بأصحاب أيدوه وآزروه ونصروه، وكانوا كما قال اللّه سبحانه لهم ((أشداء على الكفار رحماء بينهم)). فكان أفضلهم مرتبة وأعلاهم عند اللّه والمسلمين منزلة ،الخليفة الأول الذي جمع الكلمة ولم الدعوة وقاتل أهل الردة. ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومصّر الأمصار وأذل رقاب المشركين. ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة وطبق الآفاق بالكلمة الحنيفية. فلما استوثق الإسلام وضرب بجرانه، عدوت عليه فبغيته الغوائل ونصبت له المكائد وضربت له بطن الأمر وظهره ودسست عليه وأغريت به وقعدت حيث استنصرك عن نصره وسألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته، وما يوم المسلمين منك بواحد. لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت إفساد أمره وقعدت في بيتك واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته. ثم كرهت خلافة عمر وحسدته واستطلت مدته وسررت بقتله وأظهرت الشماتة بمصابه، حتى أنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه. ثم لم تكن أشد منك حسداً لابن عمك عثمان، نشرت مقابحه وطويت محاسنه وطعنت في فقهه ثم في دينه ثم في سيرته ثم في عقله، وأغريت به السفهاء من أصحابك وشيعتك، حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان ولا يد. وما من هؤلاء إلّا من بغيت عليه وتلكأت في بيعته ،حتى حملت إليه قهراً، تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش. ثم نهضت الآن تطلب الخلافة وقتلة عثمان خلصاؤك وسجراؤك والمحدقون بك. وتلك من أماني النفوس وضلالات الأهواء. فدع اللجاج والعبث جانباً وادفع إلينا قتلة عثمان، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ليتفقوا على من هو اللّه رضا. فلا بيعة لك في أعناقنا ولا طاعة لك علينا ولا عتبي لك عندنا. وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف. والذي لا إله إلّا هو لأطلبن قتلة عثمان أين كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم أو تلتحق روحي باللّه. فأما ما لاتزال تمن به من سابقتك وجهادك فإني وجدت اللّه سبحانه يقول ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) (1) ولو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الأنفس امتناناً على اللّه بعملها. وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على اللّه يبطل أجر الجهاد ويجعله (كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ

ص: 97


1- الحجرات: 17.

فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا واللّه لا يهدي القوم الكافرين (1)(2) تتضمن رواية ابن أبي الحديد عن أبي جعفر النقيب بضع نقاط:

الأولى:يعتقد بعض المثقفين المعاصرين أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يعتبر الخلافة حقاً له مغصوباً، ولا يؤمنون [أو ولا يؤمن: م] بالنص على إمامته، وأن الطريقة الوحيدة لاختيار الخليفة هي الشورى. ويورد هؤلاء، لإثبات صحة رأيهم، نصوصاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام) يذكر فيها الشورى واختيار الناس وسيلة لتعيين الخليفة. في حين أن كلام أمير المؤمنين(علیه السلام) الذي يستندون إليه جاء في مخاطبة معاوية وهو من باب إلزام الخصم بما ألزم به نفسه. فقد وصل (علیه السلام) إلى الحكم بإجماع الناس عليه. وكان حكمه شرعياً حتى بمقياس مخالفيه. غير أن الإمام (علیه السلام)كان يرى الخلافة حقاً إلهياً له، لذا لم يمد يد البيعة للخليفة الأول. لذلك قال أبوجعفر النقيب: كان معاوية يتسقط علياً وينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر وعمر وأنهما غصباه حقه. وهذا يدل على أنه حتى أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) كانوا يعلمون أنه كان يرى الخلافة حقه والخلفاء غاصبين لها، ولم يبايعهم إلاّ بالإكراه وباستعمال العنف معه ولم تكن بيعته لأبي بكر طوعاً. لذا قال معاوية في كتابه: "وتلكأت في بيعته حتى حملت إليه قهراً تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش".

الثانية: بيّنت رسالة معاوية أن ادّعاء بعض المتثيقفين أن علاقة أمير المؤمنين(علیه السلام) مع الخلفاء كانت طيبة ادّعاء باطل. وكان ذلك من الوضوح بحيث يعرفها معاوية وعمرو بن العاص ويحاولان استفزاز الإمام (علیه السلام) من خلال تذكيره بها ليدفعاه إلى إخراج ما يعتمل في قلبه منها.

الثالثة: تروج فكرة في الوقت الحاضر مؤداها أن الإمام الحسين (علیه السلام) قتل بيد أهل الكوفة وكانوا شيعة لأمير المؤمنين (علیه السلام)، باعتبار أهل العراق وقتئذ كانوا شيعة لأمير المؤمنين (علیه السلام). غير أن هذا النص التاريخي يبين بجلاء أن أغلب أهل العراق، عدا قلة قليلة منهم، كانوا يؤمنون بصحة خلافة الشيخين. حتى أصبح الطعن بالخلفاء سبباً في مخالفة أمير المؤمنين(علیه السلام).

ص: 98


1- البقرة: 264.
2- شرح نهج البلاغة، ج 15 ، ص 185، ذيل الكتاب الثامن والعشرين، كتاب لمعاوية إلى علي علام مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 165 ، في حرب صفين.

الرابعة :يعيدنا مكر معاوية في تلك الأحداث إلى قول أمير المؤمنين (علیه السلام) فيه: إن معاوية كالشيطان الرجيم يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعنشماله .(1)

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة ، ج 16، ص 182، ذيل الخطبة 44 ، نسب زياد بن أبيه وذكر بعض أخباره وكتبه وخطبه.

ردّ أمير المؤمنين(علیه السلام)على كتاب معاوية

كتب أمير المؤمنين(علیه السلام) جواباً على كتاب معاوية: أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء اللّه محمد(صلی اللّه علیه وآله) الهلال الهلال الدين له و وتأييده إياه بمن أيده من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجباً إذ طفقت والروستام تخبرنا ببلاء اللّه عندنا ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر أو داعي مسدده إلى النضال. وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله وإن نقص لم تلحقك ثلمته، وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حن قدح ليس منها وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك وتعرف قصور ذرعك وتتأخر حيث أخرك القدر، فما عليك غلبة المغلوب ولا لك ظفر الظافر. وإنك لذهاب في التيه رواغ عن القصد. ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة اللّه أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين ولكل فضل. حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء(علیه السلام) وخصه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه. أو لا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل اللّه ولكل فضل. حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطيار في الجنة وذوالجناحين (1) ولولا ما نهى اللّه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين. فدع من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا. لم يمنعنا قديم عزنا ولا عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا وأنكحنا (2)فعل الأكفاء ولستم هناك. وأنى يكون ذلك كذلك ومنا النبي ومنكم المكذب ومنا أسد اللّه ومنكم أسد الأحلاف(3) ومنا سيد شباب أهل الجنة الحسن والحسين(علیهما السلام) ومنكم صبية النار(4) ومنا خير نساء العالمين ومنكم حمالة

ص: 100


1- كلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا إشارة إلى استشهاد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة.
2- إشارة إلى زواج أبي لهب بأم جميل أخت أبي سفيان
3- أسد الأحلاف هو أبوسفيان الذي كان يعبئ القبائل لقتال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وكان يحلّفهم على ذلك.
4- "قوله : ومنكم صبية النار هي الكلمة التي قالها النبي(صلی اللّه علیه وآله) العقبة بن أبي معيط حين قتله صبراً يوم بدر وقد قال كالمستعطف له: من للصبية يا محمد؟ قال: النار". عقبة من آل عبد شمس شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 197، ذيل الخطبة 28، مناكحات بني هاشم وبني عبد شمس.

الحطب (زوجة أبي لهب ) (1)في كثير مما لنا وعليكم. فإسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا تدفع وكتاب اللّه يجمع لنا ما شذ عنا وهو قوله ﴿ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولَى بَعْضٍ فِي كِتب اللّه وقوله تعالى ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة. ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله)و الجلوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم، وزعمت أني لكل الخلفاء حسدت وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. وقلت أني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر اللّه لقد أردت أن تذم فمدحت وأن تفضح فافتضحت. وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه. وهذه حجتي إلى من غيرك قصدها ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها. ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان. فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه، أمن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه؟ كلا واللّه، لقد علم اللّه المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلّا قليلا. وما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له فرب ملوم لا ذنب له وقد يستفيد الظنة المتنصح، وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكلت. وذكرت أنه ليس لي ولأصحابي إلّا السيف ،فلقد أضحكت بعد استعبار. متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين وبالسيوف مخوفين؟ لبث قليلاً يلحق الهيجا خمل، فسيطلبك من تطلب ويقرب منك ما تستبعد. وأنا مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان شدید زحامهم ساطع قتامهم ،متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم ،قد صحبتهم ذرية بدرية وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك. وما هي من الظالمين ببعيد.

يد. (2)

ص: 101


1- أم جميل بنت حرب بن أمية.
2- نهج البلاغة الكتاب الثامن والعشرون يختلف نص كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية في وقعة صفين قليلاً عن النص الموجود في نهج البلاغة.

ينطوي جواب أمير المؤمنين(علیه السلام) على كتاب معاوية على ملاحظات هامة نشير إلى بعضها فيما يلي: الأولى : لقد تفادى أمير المؤمنين(علیه السلام) بذكائه المعهود الطعن في الخلفاء في جواب معاوية لكي يحرمه من فرصة استغلال الفرصة لتحريض الناس عليه.

الثانية: مع أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يطعن في الخلفاء بشكل مباشر، فقد أيد ما أورده معاوية من مظلوميته في زمن الخلفاء وبيعته الإجبارية للخليفة الأول.

الثالثة: ذكر أمير المؤمنين ہعلیه السلام) يا معاوية بماضي بني أمية العدائي تجاه الإسلام والمسلمين. ورغم أن معاوية حاول استفزاز الإمام(علیه السسلام) واستدراجه إلى رد الفعل، فقد أصبح هو نفسه في موقف ضعيف. وببيانه لماضي بني أمية المشين، قوّض أمير المؤمنين (علیه السلام) جدارة لمعاوية بالخلافة واجتثها من الأساس.

الرابعة: أعلن الإمام علي(علیه السلام) بصراحة أنه هو صاحب الحق في خلافة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله). فقد احتج المهاجرون بالقربى من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) لإثبات حقهم في خلافته. فإذا كانت القربى حجة لاستحقاق الخلافة، فإنه (عليه السلام) أقربهم من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) فهو، إذن ، أحق منهم جميعاً بخلافته. على أن هذا الاحتجاج من أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يأت إلا جدلاً أراد به قطع خصمه بما ألزم به نفسه من. حجة. وإلّا فإن حقه في الخلافة أقره له النص الإلهي وتصريح رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) به. وهذا ما بلغ 103 الروايات حد التواتر.

الخامسة: أدحض أمير المؤمنين(علیه السلام) ادّعاء معاوية بحق المطالبة بدم عثمان واعتبره أحد المساهمين في قتله، حيث خذله حين استنجد به.

السادسة: أشار(علیه السلام) إلى الحضور الضخم للمهاجرين والأنصار في معسكره. وبهذا عمل على إضعاف خصمه الذي لم يكن في معسكره إلّا القليل جداً من الصحابة، وهم على أية حال من أصحاب السوابق المخزية.

السابعة: ثم أشار(علیه السلام) إلى بطولاته في غزوة بدر التي قتل فيها عدداً من أقرباء معاوية. لقد أعاد الإمام (علیه السلام) إلى ذهن معاوية ذكريات تلك الأيام فأدخل في قلبه الفزع من الناحية النفسية.

ص: 102

اسباب عدم تسلیم قتلة عثمان الی معاویه

من أهم المشاكل في عهد أمير المؤمنين(علیه السلام) كان مقتل عثمان. فقد أشعل أعداء الإمام (علیه السلام) نار الحروب عليه بحجة المطالبة بدم عثمان، واتهموه أحياناً بالقتل، وحاربوه بسبب عدم تسليمه القتلة. ولقد سبق أن أوردنا بعض النقاط حول عدم تدخل الإمام (علیه السلام) ( في الثورة على عثمان: م) وحتى تقديم النصح وطلب العافية له ؛ ونحاول في هذا الباب الإشارة إلى بعض النقاط المتعلقة بأسباب

، عدم تسليم الإمام (علیه السلام) قتلة عثمان لمعاوية.

الأولى: إن الذين طالبوا بدم عثمان كانوا من الذين شاركوا بدور بارز في قتله. فإذا كان لابد من محاكمة أحد بتهمة قتل عثمان فإن عمرو بن العاص ومعاوية سيكونان على رأس قائمة الاتهام بقتله.

الثانية: المطالبة بالدم من حق أولياء دم القتيل الشرعيين، وهو بالدرجة الأولى لأبنائه. فإن لم يكن له أبناء، ينتقل الحق إلى حاكم المجتمع الإسلامي، كما سنوضح في الأبواب القادمة. لذا اقترح أمير المؤمنين(علیه السلام) على سفراء معاوية أن يأتي أبناء عثمان وعائلته ليتم الفصل بينهم وبين القاتلين على كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه علیه وآله) .

الثالثة: اشترك في دم عثمان الكثير من الصحابة والناس العاديين ولم يكن ممكناً تسليمهم. ويورد ابن حجر الهيتمي في هذا المجال الاحتمالات التالية:

الاحتمال الأول أن الذين اشتركوا في قتل عثمان كانوا كثيرين، حتى أن بعض المؤرخين يقدر عدد المصريين وحدهم ممن شارك في محاصرته بما بين 5000 و 10000 رجلاً، بالإضافة إلى من كان حضر من الكوفة والبصرة. فما كان ممكناً الاقتصاص من هذا العدد الكبير.

الاحتمال الثاني أن أمير المؤمنين(علیه السلام) رأى أن قتلة عثمان كانوا جماعة من المتمردين الظلمة قتلوه باجتهادهم الخاطئ. فقد أخذوا عليه إعادة مروان بن الحكم طريد رسول صلى (اللّه عليه وآله وسلم )إلى المدينة وتعيينه

ص: 103

كاتباً له، وإسناد عثمان السلطات إلى أقربائه وأخطاء أخرى صدرت منه فحكموا بإهدار دمه وقتلوه. والباغي لا يؤاخذ على أفعاله التي صدرت منه في زمن سابق إذا أذعن للإمام العادل.

إرتضى الشافعي وجماعة آخرون من العلماء بهذا الاحتمال، أما نحن فنرجح الاحتمال الأول رغم إمكان الاحتمال الثاني على أن الكثير من العلماء لا يعتبرون قتلة عثمان باغين بل ظالمين دفعهم عدم الاعتناء بمطاليبهم إلى ارتكاب هذا الفعل (1)وعلى أساس احتمال ابن حجر الأول أشار أمير المؤمنين (علیه السلام) في رده على شرحبيل الذي طالبه بتسليم قتلة عثمان، حيث قال : إني لا أستطيع ذلك وهم زهاء عشرين ألف رجل (2)

يمكن القول، بشكل عام، إن جميع النقاط المذكورة عدا الاحتمال الثاني لابن حجر هي أسباب عدم تسليم الإمام (عليه السلام) لقتلة عثمان. مع أن الاحتمال الثاني لابن حجر يمكن أن يكون سبباً وفق مبناهم.

ص: 104


1- فالذين تمالأوا على قتل عثمان كانوا جموعاً كثيرة كما علم مما قدمته في قصة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم ؛ جمع من أهل مصر قيل سبعمائة وقيل ألف وقيل خمسمائة، وجمع من الكوفة وجمع من البصرة وغيرهم قدموا كلهم المدينة وجرى منهم ما جرى. بل ورد أنهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف. فهذا هو الحامل لعلي (علیه السلام)على الكف عن تسليمهم لتعذره كما عرفت. ويحتمل أن علياً(علیه السلام) رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويل فاسد استحلوا به دمه عنه لإنكارهم عليه أموراً كجعله مروان ابن عمه كاتباً له، وردّه إلى المدينة بعد أن طرده النبي منها، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال، وقضية محمد بن أبي بكر السابقة في مبحث خلافة عثمان مفصلة ظنوا أنها مبيحة لما فعلوه جهلاً منهم وخطأ. والباغي إذا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دماً كان أو مالاً، كما هو المرجح من قول الشافعي وبه قال جماعة آخرون من العلماء. وهذا الاحتمال، وإن أمكن لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه فإن الذي ذهب إليه كثيرون من العلماء أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة وإنما كانوا ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبههم". الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، ص 266 ، الباب الحادي عشر، في فضائل أهل البيت النبوي.
2- "فقال شرحبيل: أفلا تسلّم إلينا قتلة عثمان؟ قال علي(علیه السلام) : إني ... رجل". الأخبار الطوال، ص251، رسل معاوية إلى الإمام.

تشاور الإمام علي (علیه السلام) مع كبار أصحابه ومعاهدتهم له بالوفاء

بعد سبعة أشهر من المراسلات والوساطات التي قام بها جماعة من الأشخا لمنع وقوع الحرب، طلب أمير المؤمنين(علیه السلام) لم آراء كبار المهاجرين والأنصار ، فكانوا على رأي واحد تقريباً وهو الحرب. وأظهر أصحاب الإمام (علیه السلام) استعدادهم لقتال معاوية.

وتكلم هاشم بن عتبة (1) بكلام كشف عن عمق بصيرته في إدراكه لدوافع معسكر الشام إلى القتال، فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فأنا بالقوم جد خبير . هم لك ولأشياعك أعداء، وهم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء. وهم مقاتلوك ومجاهدوك لا يبقون جهداً، مشاحة على الدنيا وضناً بما في أيديهم منها. وليس لهم إربة غيرها إلا ما يخدعون به الجهال من الطلب بدم عثمان بن عفان. كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ولكن الدنيا يطلبون. فسر بنا إليهم، فإن أجابوا إلى الحق فليس بعد

ص: 105


1- كان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص من خواص صحابة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام). أسلم يوم فتح مكة، وهو الذي فتح جلولاء. شهد معركة الجمل، وكان من أبرز قادة جيش أميرالمؤمنين(علیه السلام) في معركة صفين. وقال معاوية فيه: إن ما يقلقني المقام الذي عليه بعض قادة جيش علي ومنهم هاشم المرقال. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص 107، ترجمة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، الرقم 2729 ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج5 ، ص 353، ترجمة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، الرقم5328 ؛ وقعة صفين، ص426، تآمر معاوية وصحبه على بعض أصحاب علي (علیه السلام). هاشم المرقال ابن أخي سعد بن أبي وقاص ولم يكن يشبهه في شيء. لقب بالمرقال لأنه كان يندفع في الحرب مسرعاً ولا يتردد لحظة في القتال. شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 55، ذيل الخطبة 67 ، هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ونسبه ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج6، ص 404، ترجمة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، الرقم 8934 . قال أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد استشهاد محمد بن أبي بكر: أردت أن أجعل هاشم بن عتبة على مصر. وواللّه لو كان هاشم على مصر لما تركها لعمرو بن العاص وجماعته أبداً ولم يقتل إلا وسيفه بيده. وليس قولي هذا انتقاصاً من محمد فقد حمل نفسه أقصى ما تحتمل وأدى ما عليه. شرح نهج البلاغة، ج 6، ص92، ذيل الخطبة 67، هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ونسبه. قاتل في صفين ببسالة حتى استشهد. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص 108، ترجمة عتبة بن أبي وقاص، الرقم 2729 شجاعة هاشم المرقال ورثها عنه ابنه عبد اللّه. فقد أمر معاوية، بعد تسلمه الحكم، بالقبض على عبد الله المرقال. ولما سيق إليه مكبلاً مصفداً شتم عمرو بن العاص وقال له: "يا ابن الأبترا هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين ونحن ندعوك إلى البراز وتلوذ بشمائل الخيل كالأمة السوداء والنعجة القوداء؟". وبلغت شجاعة عبد اللّه المرقال أنه لما هدده معاوية بالقتل، ردّ عليه قائلاً : "يا ابن هند أتقول لي هذا ؟؟ واللّه لئن شئت لأعرقن جبينك ولأقيمنك وبين عينيك يلين له أخدعاك (الأصبنّ عليك عاراً تلين له أوداجك). أبأكثر من الموت تخوفني؟". شرح نهج البلاغة، ج 8، ص33، ذيل الخطبة 124، عود إلى أخبار صفين.

الحق إلّا الضلال وإن أبوا إلّا الشقاق فذلك الظن بهم. واللّه ما أراهم يبايعون وفيهم أحد ممن يطاع إذا نهى و[لا] يسمع إذا أمر.(1)

أما عمار بن ياسر فقد كان على علم باستعدادات العدو وتجهزه للحرب، لذا دعا أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى أن يغتنم الفرصة، وقال: يا أمير المؤمنين(علیه السلام)! إن استطعت أن لا تقيم يوماً واحداً فافعل، شخص بنا قبل استعار نار الفجرة واجتماع رأيهم على الصدور والفرقة. وادعهم إلى رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا وإن أبوا إلا حربنا، فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم لقربة عند اللّه وهو كرامة منه.(2)

النقطة المهمة في كلام عمار وهاشم هي أنهما لم يراودهما أي شبهة أو شك في قتال أهل الشام وأنهما يعتبرانه قربة إلى اللّه.

بعد ذلك تكلم قيس بن سعد (3)وبيّن استعداده للقتال. وأشار في كلامه إلى نقطة لم يلتفت إليها جماعة من الناس. وذلك باعتباره الحرب مع أهل الشام أهم من محاربة كفار الروم. قال: يا أمير

ص: 106


1- "فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعدا .. إذا أمر". وقعة صفين، ص92، رأي هاشم بن عتبة.
2- "أن عمار بن ياسر قام فذكر اللّه بما هو أهله وحمده وقال: يا أمير المؤمنين! .. كرامة منه". وقعة صفين، ص92، رأي عمار بن ياسر ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 559، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي (علیه سلام).
3- قيس بن سعد بن عبادة رئيس الخزرج ومن كبار الأنصار. كان من صحابة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وله منزلة رفيعة بين المسلمين عموماً. وكان قيس من أنصار أميرالمؤمنين الأوفياء وشهد جميع حروبه ولم يتخل عنه أبداً. عينه علام أميرالمؤمنين (علیه السلام) والياً على مصر مدة. توفي حوالي سنة 60 هجرية. كان شديد الفطنة واعتبر من سياسي العرب. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 350، ترجمة قيس بن سعد، الرقم 2158. وكان من خصائصه الزهد والعبودية. فقد ظهرت أفعى ضخمة ج3، ص350، على مصلاه وهو يهوي إلى السجود فلم يلتفت إليها وهوى ساجداً والأفعى إلى جانبه دون أن يرتعد أو ينتابه خوف حتى عندما التفت الأفعى حول رقبته. فأكمل صلاته ثم أبعد الأفعى عن رقبته ورماها بعيداً عنه مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص21، من مناقب قيس بن سعد. ومن خصاله الجود والبذل الكثير. يروى أنه ذهب في حياة النبي (صلی اللّه علیه وآله) في مهمة على رأس جماعة فنحر لهم تسعة جمال. فسمع النبي (صلی اللّه علیهد وآله) بالقصة لما عاد قيس من مهمته فقال مادحاً إياه: إن الجود والكرم في طينة هذا البيت. وروي في موضع آخر أن قيس بن سعد مرض مرة فلم يعده أحد رغم كل قدمه للناس من الطيبات. فسأل عن السبب فقيل له جميع الناس مدينون لك بالمال ويستحيون من زيارتك. فأمر بأن ينادى في المدينة بأنه عفا عن كل من له دين برقبته. بعد ذلك عاده خلق كثير. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 350، ترجمة قيس بن سعد، الرقم 2158. وفي إحدى --السرايا في عهد النبي (صلی اللّه علیه وآله) وكان أبو بكر وعمر حاضرين، كان قيس يستقرض ويطعم الناس. فقال أبوبكر وعمر للناس: لو ترك هذا الفتى لأفنى أموال أبيه. فسمع سعد بن عبادة فقال: من يريحني من هذين، أيحضانه على البخل في مالي؟ وروي في موضع آخر أن عجوزاً شكت إلى قيس عدم الفئران في بيتها كناية عن قلة الطعام فيه. فأعجب بعبارتها فأمر بأن يملأ بيتها طعاماً ومؤونة. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 4، ص 404 ، ترجمة قيس بن سعد، الرقم 4354.

المؤمنين! اكمش بنا إلى عدونا ولا تعرد. فوالله لجهادهم أحبّ إليّ من جهاد الترك والروم، لإدهانهم في دين اللّه واستذلالهم أولياء اللّه من أصحاب محمد (صلی اللّه علیه وآله) من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان. إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال ونحن لهم فيما يزعمون قطعين. (قال): يعني رقيق. فقال أشياخ الأنصار منهم خزيمة بن ثابت وأبوأيوب الأنصاري وغيرهما: لمّ تقدمتّ أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟ فقال: أما إني عارف بفضلكم معظم لشأنكم ، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب (1)

ص: 107


1- "ثم قام قيس بن سعد بن عبادة فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين .. الأحزاب". الفتوح، المجلد الأول، ص 559، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي (علیه السلام)

قمة الموالاة

أما قمة الموالاة فظهرت في كلام سهل بن حنيف (1) قال سهل مخاطباً أمير المؤمنين (علیه السلام): يا أمير المؤمنين! نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت ورأينا رأيك ونحن كف يمينك. وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة فتأمرهم بالشخوص وتخبرهم بما صنع اللّه لهم في ذلك من الفضل، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس ، فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب. وأما نحن فليس عليك منا خلاف، متى دعوتنا أجبناك ومتى أمرتنا أطعناك (2) وممن كانوا أوفياء لأمير المؤمنين (علیه السلام) عبداللّه بن بديل الخزاعي(3) الذي تكلم بكلام نمّ عن دقة معرفته بالعدو. فقد لخص أسباب معارضة زعماء الشام لأمير المؤمنين(علیه السلام) بالكره وحب الدنيا. قال مخاطباً الإمام (علیه السلام): يا أمير

ص: 108


1- كان سهل بن حنيف من أفضل أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) يا وأوفاهم الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص223، ترجمة سهل بن حنيف، الرقم 1089 ؛ رجال الطوسي، ص 43، أصحاب علي ام، باب السين، الرقم 3. حضر جميع حروب النبی (صلی اللّه علیه وآله). و كان من أوائل العائدين إلى الميدان بعد أن تفرق المسلمون عن النبي(صلی اللّه علیه وآله) في أحد ، في حين فرّ بعضهم ومنهم الخليفة الثالث حتى ابتعد عن الميدان كثيراً ولم يعودوا إلّا بعد انتهاء المعركة بثلاثة أيام. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج2، ص 573، ترجمة سهل بن حنيف الرقم 2289. تاريخ الطبري، ج 2، ص 69 ، حوادث السنة الثالثة الهجرية، غزوة أحد. بعد هجرة النبي(صلی اللّه علیه وآله) بايعه جماعة بيعة ظاهرية وكانوا يبطنون الكفر ولم يسلموا. فكان سهل يقوم في الليل ويكسر أصنامهم التي كانوا يصنعونها من الخشب ويحملها إلى أرملة أنصارية فقيرة ويقول لها: اتخذيها حطباً. لما سمع الإمام علي(علیه السلام) بذلك امتدحه. وبعد وفاته، كان الإمام(علیه السلام) يذكر تلك الحادثة كلما ذكر سهل. تاريخ الطبري، ج1، ص 571 ، تاريخ ما قبل الهجرة ؛ البداية والنهاية، ج 3، ص 195 - 196، في دخوله (صلی اللّه علیه وآله) المدينة وأين استقر منزله. وقال عنه الإمام الصادق(علیه السلام) أيضاً: كان سهل من النقباء. فقيل له: هل كان من النقباء الاثني عشر الذين عينهم النبي (صلی اللّه علیه وآله)؟ قال: نعم. كان من السبعين الذين اختير منهم اثناعشر نقيباً. الأصول الستة عشر من الأصول الأولبة، ص 258 ، أصل محمد بن المثنى بن القسم الحضري. توفي سهل بن حنيف في الكوفة بعد عودته من صفين، وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يحبه أكثر من غيره. نهج البلاغة، ص 462 ، الحكمة 111.
2- وقعة صفين، ص 93، رأي سهل بن حنيف.
3- عبد اللّه بن بديل الورقاعي ( هكذا ، وربما بن ورقاء كما في هامش ص 175 م الخزاعي كان من صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله). أسلم مع أبيه قبل فتح مكة وشهد حنيناً والطائف وتبوك. كان رئيس قبيلة خزاعة وأحد قادة جيش أميرالمؤمنين (علیه السلام) البارزين. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص9، ترجمة عبد اللّه بن بديل الرقم 1489 . وكان ممن شاركوا في الثورة على عثمان وكان من المقربين إلى الإمام علي (علیه السلام) بعد مقتل عثمان. شهد الجمل وصفين. أفزعت شجاعته معاوية حتى أظهر سروراً بالغاً باستشهاده في صفين. الأخبار الطوال [ ربما الأخبار الطوال المترجم]، ص 261 ، حملة عبد اللّه بن بديل على أهل الشام ؛ وقعة صفين، ص 246 ، مصرع عبد اللّه بن بديل.

المؤمنين! إن أهل الشام لو كانوا اللّه (عزّ وجلّ) يقاتلون وإياه يريدون لما خالفونا. ولكنهم يقاتلون على دنياهم التي في أيديهم وعلى إحن واتراث (هكذا، وربما وترات :م ) وعداوة يجدونها في صدورهم ويضمرونها في أنفسهم. ثم قال: أيها الناس !وكيف يبايع معاوية علياً وقد قتل أخاه وخاله وجده وعم أمه في يوم بدر؟ واللّه ما أظن أنهم يبايعون علياً أبداً وتقطع هاماتهم بالسيوف وتكسى حواجبهم بعمد الحديد.(1)

بعد عبداللّه بن بديل، تكلم عدي بن حاتم وزيد بن حصين الطائي (2) وأبوزينب بن عوف (3) ويزيد بن قيس وزياد بن النضر، وكانوا زعماء قومهم، وأعربوا عن استعدادهم للتحرك صوب الشام.

كان الجو الغالب على الكوفة في تلك الأيام لا يحتمل معارضة الحرب. بحيث لما اعترض رجل اسمه أربد الفزاري وقال: أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم؟ كلا، هالله إذن لا نفعل. فقام الأشتر فقال: من لهذا أيها الناس؟ وهرب الفزاري واشتد الناس على أثره، فلحق بمكان من السوق تباع فيه البراذين، فوطأوه بأرجلهم

ص: 109


1- "ثم وثب عبد اللّه بن بدیل بن ورقاء الخزاعي فقال: يا أمير المؤمنين! ... الحديد". الفتوح، المجلد الأول، ص 562، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لهرب علي (علیه السلام).
2- كان زيد بن حصين أحد الأتقياء وكان له قبعة عالية من تلك التي كان يعتمرها الأتقياء في ذلك الزمان. كان من أصحاب الإمام علي(علیه السلام) ولكنه اعتزله بعد التحكيم وأصبح من زعماء الخوارج، فقتل في النهروان على يد أحد رجال أميرالمؤمنين (علیه السلام) . الكامل في التاريخ، ج3، ص 386 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص117 - 122، حوادث سنة 37 هجرية ؛ شرح نهج البلاغة ، ج3، ص178، ذيل الخطبة 46.
3- كان أبوزينب في بداية معركة صفين في شك من حقانية أمير المؤمنين، فذهب إليه وقال له: يا أمير المؤمنين! إن كنا على الحق كنتَ أهدى وأكثر أجراً. وإن لم نكن على حق وكنا على ضلال كان وزرك أثقل الأوزار وذنبك أكبر الذنوب. لقد أمرتنا بالتوجه إلى العدو، فقطعنا حبال المودة مع أهل الشام بأمرك وأظهرنا لهم العداوة. واللّه يعلم أننا لا نبغي إلّا طاعتك. أوليس ما نحن عليه هو الحق الصراح البيّن؟ أوليس ما عليه أعداؤنا إثماً عظيماً ؟ فقال علي(علیه السلام) : نعم، أشهد أنك لو نصرتنا بنية صادقة و قطعت مودتك عنهم كما تقول وأظهرت لهم العداوة فلاشك أنك من ذوي مودة اللّه والرافلين في رضوانه والساعين في طاعته. ثم قال له عمار بن ياسر: يا أبازينب! اثبت واستقم ولا يدخل الشك قلبك في أمر أعداء اللّه و رسوله (صلی اللّه علیه وآله). فقال أبوزينب: لا أجد شهوداً أحب إلي في هذا الأمر الذي يشغلني وقد أدخلتم الطمأنينة على قلبي بتبيان حقانية ما نحن عليه. كانت عاقبة أبي زينب خيراً وتحققت فيه بشرى أمير المؤمنين(علیه السلام) له حيث استشهد في صفين. وقعة صفين، ص 263، أزد العراق وأزد الشام ؛ شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 178 ، ذيل الخطبة ،46 ، كلامه (علیه السلام) لأصحابه وكتبه إلى عماله

وضربوه بأيديهم ونعال سيوفهم حتى قُتل (1) فأتي علي(علیه السلام) فقيل: يا أمير المؤمنين! قُتل الرجل. قال: ومن قتله ؟ قالوا قتلته همدان وفيهم شوبة من الناس. فقال: قتيل عمية لا يدرى من قتله، ديته من بيت مال المسلمين.

ولكن كلام أربد بذر بذرة التردد في قلوب بعض قصار النظر. وهذا ما دفع مالك الأشتر إلى أن يتكلم بكلام ينم عن بطولة تُحتذى، لإعادة التماسك واليقين إلى المجتمع. قال: يا أمير المؤمنين! لا يهدنك ما رأيت ولا يؤيسنك من نصرنا ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن. جميع من ترى من الناس شيعتك وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ولا يحبون بقاء بعدك. فإن شئت فسر بنا إلى عدوك. واللّه ما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطي (هكذا، والأرجح يعطى: م) البقاء من أحبه، وما يعيش بالآمال إلا شقي. وإنا لعلى بينة من ربنا أن نفساً لن تموت حتى يأتي أجلها. فكيف لا نقاتل قوماً هم كما وصف أمير المؤمنين، وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من[ بالأمس] فأسخطوا اللّه وأظلمت بأعمالهم الأرض وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير.(2)

المسلمين

ص: 110


1- "قام رجل من بني فزارة يقال له أربد فقال: أتريد .. المسلمين". وقعة صفين، ص 94، رأي أربد الفزاري والأشتر ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص77، أمر صفين.
2- "قام الأشتر فحمد اللّه وأثنى عليه فقال: يا أمير المؤمنين! .... يسير". وقعة صفين، ص95، مقتل أربد الفزاري.

قمة الاخلاص والائتمار

ألقى هاشم المرقال كلمة أخرى، قبل تحرك الجيش، كشفت عن نفاذ بصيرته ومعرفته الدقيقة بالعدو وطاعته. فقد خاطب أمير المؤمنين (علیه السلام)قائلاً: سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم الذين نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم وعملوا في عباد اللّه بغير رضا اللّه، فأحلوا حرامه وحرّموا حلاله واستولاهم الشيطان ووعدهم الأباطيل ومناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى وقصد بهم قصد الردى وحبّب إليهم الدنيا. فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة إنجاز موعود ربنا. وأنت يا أمير المؤمنين أقرب الناس من رسول اللّه رحماً وأفضل الناس سبقة وقدماً. وهم يا أمير المؤمنين [ ربما علموا :م] منك مثل الذي علمنا. ولكن كتب عليهم الشقاء ومالت بهم الأهواء وكانوا ظالمين. فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة، وأنفسنا تنصرك جذلة على من خالفك وتولى الأمر دونك. واللّه ما أحب أن لي ما في الأرض مما أقلت، وما تحت السماء مما أظلت، وأني واليت عدواً لك أو عاديت ولياً لك). (1)

ص: 111


1- وقعة صفين، ص112، حديث زياد بن النضر وعبد الله بن بديل.

معارضو الحرب

اشارة

عدا أربد الفزاري الذي عبّر عن معارضته للحرب بشكل علني حاقد، كان هناك جماعة آخرون معارضون للحرب ولكنهم عبّروا عن معارضتهم بكلام ليّن مبطّن. على أن أهداف كل واحد من المعارضين للحرب كانت مختلفة. فكان لحنظلة بن الربيع (1) وعبدالله بن المعتم هدف مشترك. وبالنظر إلى ما فعلاه فيما بعد، لا يُستبعد أنهما كانا جاسوسين. وكان هناك جماعة آخرون عرفوا بأصحاب عبداللّه بن مسعود فقد توقفوا واستمهَلوا بسبب ضعف معرفتهم بأمير المؤمنين(علیه السلام). ولعل تحليل كلام هؤلاء يكشف عن طريقتهم في التفكير.

أ - المندسون:

لما أمر أمير المؤمنين(علیه السلام) رجاله بالتحرك صوب الشام، دخل عليه عبدالله بن المعتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي مع جمع كثير من غطفان وبني تميم. فقال له حنظلة بن ربيع: يا أمير المؤمنين! إنا قد مشينا إليك بنصيحة، فاقبلها منا، ورأينا لك رأياً فلا ترده علينا. فإنا نظرنا لك ولمن معك. أقم وكاتب هذا الرجل ولا تعجل إلى قتال أهل الشام، فإني واللّه ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة وعلى من تكون الدبرة

بعد ذلك تكلم عبدالله بن المعتم بكلام شديد فقال: أما بعد فإن اللّه وارث العباد والبلاد ورب السماوات السبع والأرضين السبع وإليه ترجعون يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز "أن اللّه عبد بن المعتم العبسي وحنظلة بن الربيع التميمي لما أمر علي(علیه السلام) الناس بالمسير إلى الشام دخلا في رجال كثيرة ام غطفان وبني تميم على أمير المؤمنين، فقال له التميمي يا أمير المؤمنين .. الدبرة". وقعة صفين، ص95، رأي حنظلة بن الربيع

؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 560 ، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي (علیه السلام).

ص: 112


1- حنظلة بن الربيع من الصحابة النبي(صلی اللّه علیه وآله) وكان كاتب كتبه، فسمي ، فسمي حنظلة الكاتب. وكان على هوى عثمان. وبعد مقتله فرّ مع جرير بن عبداللّه وعبد الله بن المعتعم من الكوفة إلى معاوية واستقروا في قرقيسيا. ولم يشهدوا صفين. كان هو وجرير يقولان: لا نسكن في بلد يعاب فيه عثمان. تاريخ دمشق الكبير، ج 17، ص 230 - 234، ترجمة حنظلة بن الربيع، الرقم 1808 ؛ قاموس الرجال، ج 4، ص 79 ، ترجمة حنظلة بن الربيع، الرقم 2506.

من يشاء ويذل من يشاء. أما الدورة فإنها على [الضالين] العاصين ،ظفروا أو ظفر بهم. وأيم اللّه إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يريدون أن يعرفوا معروفاً ولا ينكروا منكرً .(1)

بعد كلام حنظلة وعبدالله، حضر عدد من الأشخاص عند أمير المؤمنين (عليه السلام) واتهموهما بالتجسس لمعاوية، وقالوا: هذان لهما مكاتبات مع معاوية ولا يريدان الخير.

ولم يلبث الرجلان أن كشفا عن حقيقة أهدافهما فهربا ليلاً إلى الشام والتحقا بمعاوية. فتبين أن لمعاوية مندسين بين أهل الكوفة يعملون لا همّ لهم إلّا إضعاف جيش أمير المؤمنين (علیه السلام). أما أمير المؤمنين(علیه السلام) فقد عامل حنظلة كما عامل جرير بن عبدالله حيث أمر بهدم داره؟.(2)

ب - أصحاب عبدالله بن مسعود

قالت جماعة من أصحاب عبدالله بن مسعود لأمير المؤمنين(علیه السلام) وكان في قلوبهم شك وترديد: إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له أو بدا منه بغي، كنا عليه. فقال على (علیه السلام): مرحباً وأهلاً، هذا علام مرحباً ،وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين والعلم بالسنة من لم يرض بهذا فهو جائر خائن. (3)

ص: 113


1- وقعة صفين، ص96، الطعن في حنظلة بن الربيع وعبد اللّه بن المعتم ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص560، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين الحرب (على السلام).
2- وقعة صفين، ص97، مصير حنظلة بن الربيع وعبد اللّه بن المعتم.
3- فأجاب علياً إلى السير والجهاد جل الناس إلا أن أصحاب عبد اللّه بن مسعود أتوه وفيهم عبيدة السلماني وأصحابه فقالوا له إنا نخرج ... خائن". وقعة صفین، ص 115 ، اختلاف الناس في السير مع علی (علیه السلام)

رفض أمير المؤمنين(علیه السلام) سب أهل الشام

قبل انطلاق العسكر إلى النخيلة، قام حجر بن عدي(1) وعمرو بن الحمق بلعن أهل الشام بصوت عال بين الناس. فلما سمع الإمام (علیه السلام) بذلك أحضرهما ومنعهما من ذلك. فتعجبا فسألاه (علیه السلام): أليس أهل الشام على باطل؟ فلم تنهانا عن لعنهم؟ فقال(علیه السلام) لأني أكره لكم أن تكونوا لعانين شتامين. ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم كذا لكان ذلك أصوب في القول وأبلغ في الرأي. ولو قلتم : اللَّهُمَّ احقن دماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، لكان ذلك أحبّ إلي لكم (2)

ص: 114


1- حجر بن عدي من صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وشيعي من خواص أميرالمؤمنين والإمام الحسن(علیهما السلام) . شهد الجمل وصفين والنهروان إلى جانب أمير المؤمنين. وكان في صفين والنهروان أحد قادة جيش الإمام ألقي القبض عليه في حكم زياد بن أبيه للكوفة وتم نفيه إلى الشام حيث قتل بأمر معاوية سنة 51 هجرية. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص389، ترجمة حجر بن عدي ،الرقم 505 ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص32، ترجمة حجر بن عدي، الرقم 1634. كان حجر مستجاب الدعوة لشدة عبوديته. يروى أنه لما قبض عليه أزلام معاوية وأخذوه إلى الشام، احتاج إلى الغسل في الطريق فطلب الماء من الحراس فلم يعطوه، فرفع يده إلى السماء فما لبث أن ظهرت سحابة في السماء وأمطرت. فقال له أصحابه: ادع اللّه أن ينقذنا من أيدي هؤلاء الحراس. فرفع حجريده إلى السماء وقال: اللّهُمَ اكتب لنا ما فيه خيرنا. الإصابة في تمييز الصحابة، نفسه. لقد تمثلت قمة عبودية حجر في دعائه، إذ لم يكن مع استجابة دعائه يدعو الخلاصه من سجانيه بل كان مستسلماً لقضاء اللّه وقدره ولم يطلب من اللّه إلّا ما هو خير. يقول الإمام الحسين(علیه السلام) لمعاوية عن استشهاد حجر بن عدي: ألست قاتل حجر بن عدي عام وأصحابه الصالحين العابدين الذين أنكروا الظلم واستعظموا خطر المنكرات والبدع وقدموا حكم كتاب اللّه على ما سواه ولم تأخذهم في اللّه لومة لائم؟ الاحتجاج على أهل اللجاج، ج2، ص90، احتجاجه (علیه السلام)على معاوية توبيخاً له على قتل حجر وأصحابه. كان لحجر بن عدي منزلة رفيعة بين الجميع وأدى قتله إلى ظهور انتقادات كثيرة لمعاوية. فقد قالت عائشة لمعاوية معترضة: ما الذي حملك على قتل حجر وأصحابه؟ قال: لقد قتلتهم من أجل صلاح الأمة وبسبب الفساد الذي أفسدوه. فقالت عائشة: سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) : يقتل في مرج عذرا جماعة يغضب اللّه لقتلهم وأهل السماء. إعلام الورى، ص 33 ، إخباره(علیه السلام) بما سيحدث ؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص 32 ، ترجمة حجر بن عدي، الرقم 1634 . كما غضب أقرباء معاوية لقتل حجر وأصحابه. فإن عامل معاوية على خراسان ربيع بن زياد، لما سمع بمقتل حجر على يد معاوية رفع يديه إلى السماء وقال: الهي إن كان من خير لك في نفسي فاقبضني إليك عاجلاً. فاستجاب اللّه دعاء ربيع فمات في مجلسه ذاك. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص389 ، ترجمة حجر بن عدي، الرقم 505.
2- "قال: فعندها خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي فجعلا يظهران البراءة من أهل الشام واللعنة لهم، فأرسل إليهما علي أن كفا عما يبلغني عنكما فأقبلا إلى علي وقالا يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قالا: فلم تمنعنا عن شتمهم ولعنهم؟ فقال: لأني أكره ... لكم". الفتوح، المجلد الأول، ص 562 ، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب على [عليه السلام]

لعل رفض أمير المؤمنين (علیه السلام) للعن أهل الشام وشتمهم مردّه إلى أن أغلبهم كانوا جاهلين راحوا ضحية الحرب النفسية التي قام بها معاوية، لذا فقد تراجع عن متابعة معاوية الذين عرفوا الحقيقة. ولما كان الإمام (علیه السلام) يدرك أن الحجة لم تكن قد تمت بعد على جماعة منهم، فقد رفض لعنهم بشكل عام. غير أن الإمام كان يتعامل مع زعماء الشام بشكل مختلف فكان يلعن بعضهم في الصلاة لأنهم وقفوا بوجه الحق وهم يعلمون أنه الحق، وأضلوا الناس سعياً وراء مطامعهم الدنيوية.

وللقارئ أن يقارن بين موقفهم هذا وبين موقفه(علیه السلام) حكام بني أمية الذين كتبوا إلى جميع الأمصار التابعة لهم بأن يلعنوه (1)الأمر الذي أدى إلى ظهور النواصب الذين ملأوا التاريخ جرائم بقتلهم الكثير من الشيعة، وهو ما استمر تأثيره حتى اليوم.

ص: 115


1- الاحتجاج على أهل اللجاج، ج2، ص83، علل اشتهار الأحاديث الباطلة ومتروكية الأحاديث الحقة ؛ شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 57، ذيل الخطبة 56 ، فصل في ما روي من سب معاوية وحزبه لعلي [عليه السلام].

وددت أن في جندي مائة مثلك

كان عمرو بن الحمق الخزاعي في منتهى الإخلاص في بيعته للإمام علي (علیه سلام). ولما تكلم عبّر عن ولائه المطلق لأمير المؤمنين (علیه السلام) وكشف عن عمق إيمانه، قال: يا أمير المؤمنين! واللّه ما أحببتك وبايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا لأن عندك مالاً تعطينه، ولا التماس سلطان يرفع ذكري. ولكني أحببتك بخصال خمس: لقدمك وسابقتك وقرابتك وشجاعتك وعلمك. فلو أني كلفت ثقل الجبال الرواسي، ونزوح البحار الطوامي في أمر أقوّي به وليك وأوهن به عدوك، لما رأيت أني أديت فيه بعض الذي يجب علي من حقك. (1)

شتان بين كلام عمرو بن الحمق هذا وبيعة طلحة والزبير اللذين ما إن يئسا من الحصول على المناصب والامتيازات من الإمام علي (علیه السلام)حتى تمردا وأعلنا العصيان والثورة عليه، ثم تسببا في قتل آلاف المسلمين.

هذه الكلمات النامّة نفاذ بصيرة عمرو بن الحمق جعلت أمير المؤمنين (علیه سلام) يقلده أفخر وسام بقوله (علیه السلام) : اللّهُمَ نوّر قلبه بالتقى واهده إلى صراطك المستقيم .يا عمرو! لوددت أن في جندي مائة رجل مثلك. (2)

ص: 116


1- "قال: ثم أقبل عليه عمرو بن الحمق فقال : يا أمير المؤمنين! ... حقك". الفتوح، ج1، ص 563 ، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي(علیه السلام)، وقعة صفين، ص103 ، نصيحة علي لحجر بن عدي وعمرو بن الحمق.
2- "فقال علي(علیه السلام): اللّهُمَ ... مثلك." الفتوح، المجلد الأول، ص 563، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علی (علیه السلام)وقعة صفین، ص103، نصيحة علي الحجر بن عدي وعمرو بن الحمق.

تنبؤ أمير المؤمنين(علیه السلام) عن مصير عمرو بن الحمق

كان الأمويون يعرفون جيداً منزلة هذا النصير المخلص لدى أمير المؤمنين(علیه السلام) . لذا ما إن استشهد الإمام (علیه السلام) حتى أخذوا يلاحقونه إلى أن قتلوه. وكان عمرو من أصحاب الإمام (علیه السلام) المخلصين الذين أخبرهم بمصيرهم. جاء في بعض المصادر أن الإمام (علیه السلام) سأل عمرواً يوماً: ألك دار؟ قال: نعم. قال: بعها واجعلها في أزد فإني في غد لو غبت عنكم لطلبت منكم الأزد (سيطاردونك ويطالبونهم بك) حتى تخرج من الكوفة متوجهاً إلى الموصل فتمر برجل نصراني فتقعد عنده وتستسقيه الماء ويسقيك [ في الكتاب: أنت تسقيه الماء] ويسألك عن شأنك فتخبره وتصادفه مقعداً فادعه إلى الإسلام فإنه يسلم. فإذا أسلم فمرّ يدك على ركبتيه فإنه ينهض صحيحاً سليماً ويتبعك. وتمر برجل سليم محجوب ( أعمى) جالس على الجادة فتستسقيه الماء فيسقيك ويسألك عن قصتك وما الذي أخافك وعن من تتوقى. فحدثه بأن معاوية طلبك ليقتلك ويمثل بك لإيمان باللّه ورسوله اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وطاعتك وإخلاصك في ولايتي ونصحك اللّه تعالى في دينك. وادعه إلى الإسلام فإنه يسلم. ومريدك على عينيه فإنه يرجع بصيراً بإذن اللّه تعالى فيتابعك ويكونان معك وهما اللذان يواريان جسدك في الأرض. ثم تصير إلى دير على نهر يدعى بالدجلة فإن فيه صديقاً عنده من علم المسيح فاتخذه لك أعون الأعوان على سرك وما ذلك إلا ليهديه اللّه بك. فإذا أحس بك شرطة ابن أم حكم وهو خليفة معاوية بالجزيرة ويكون مسكنه بالموصل فاقصد إلى الصديق الذي في الدير في أعلى الموصل فناده فإنه يمتنع عليك فاذكر اسم اللّه الذي علمتك إياه فإن الدير يتواضع لك حتى تصير في ذروته. فإذا رآك الراهب الصديق قال لتلميذ معه: ليس هذا من أوان المسيح، هذا شخص كريم ومحمد قد توفاه اللّه ووصيه قد استشهد بالكوفة، وهذا من حواريه. ثم يأتيك ذليلاً خاشعاً فيقول لك ،ايها الشخص العظيم! لقد أهلتني لما أستحقه فبم تأمرني؟ فتقول له استر تلميذي هذين عندك وتشرف على ديرك هذا ، فانظر ماذا ترى. فإذا قاله (هكذا: م) لك: إني أرى خيلاً عابرة نحونا، فخلف تلميذك عنده وانزل واركب فرسك واقصد نحو غار على شاطئ الدجلة فاستتر فيه فإنه لابد أن يسترك وفيه فسقة من الجن والإنس. فاذا استتر فيه عرفك فاسق من مردة الجن يظهر لك بصورة تنين أسود فينهشك نهشاً يبالغ في إضعافك ويفر فرسك فيبتدر بك الخيل

ص: 117

فيقولون: هذا فرس عمرو، ويقصون أثره. فإذا أحسست بهم دون الغار فابرز إليهم بين الدجلة والجادة، فقف لهم في تلك البقعة، فإن اللّه تعالى جعلها حفرتك وحرمك، فالقهم بسيفك فاقتل ما استطعت حتى يأتيك أمر اللّه. فإذا غلبوك حزوا رأسك وشهروه على قناة إلى معاوية. ورأسك أول رأس يشهر في الإسلام من بلد إلى بلد. وبكى أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: بنفسي ريحانة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وهو ثمرة فؤاده وقرة عينه ولدي الحسين، فإني رأيته يسير وذراريه بعدك يا عمرو من كربلاء بقرب الفرات إلى يزيد بن معاوية. ثم ينزل صاحباك المحبوب ( هكذا، وربما المحجوب: م) والمقعد فيواريان جسدك في موضع مصرعك وهو من دير الموصل على مائة وخمسين خطوة (1)

ص: 118


1- "فبينما على أميرالمؤمنين (علیه السلام)جالس وعمرو بين يديه إذ قال: يا عمرو! ألك دار؟ ...خطوة". إرشاد القلوب،ج2،ص119، في بيان أحوال عمرو بن الحمق الخزاعي

كتاب أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى معاوية وإتمام الحجة عليه

بعد أن تكلم أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) بالكلام الدال عن وفائهم، واصل الإمام (علیه السلام) جهوده الرامية إلى حقن دماء المسلمين ومنع وقوع الحرب بينهم. فبعث بكتاب آخر إلى معاوية قبل أن يتوجه إلى صفين قال فيه بعد الحمد للّه والثناء عليه :واعلم يا معاوية أنك قد ادعيت أمراً لست من أهله لا في القدم ولا في الولاية. ولست تقول فيه بأمر بين تعرف لك به أثرة ولا لك عليه من كتاب اللّه ولا عهد تدعيه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا أبهجت بزينتها وركنت إلى لذتها وخلى (هكذا، وربما خلي:م )فيها بينك وبين عدو جاهد ملح، مع ما عرض في نفسك من دنيا قد دعتك فأجبتها وقادتك فاتبعتها وأمرتك فأطعتها. فاقعس عن هذا الأمر وخذ أهبة الحساب، فإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا يجنك منه مجن. ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية أو ولاة لأمر هذه الأمة، بغير قدم حسن ولا شرف سابق على قومكم؟ فشمر لما قد نزل بك، ولا تمكن الشيطان من بغيته فيك، مع أني أعرف أن اللّه ورسوله صادقان. فأعوذ باللّه من لزوم سابق الشقاء. وإلّا تفعل أعلمك ما أغفلك نفسك، فإنك مترف قد أخذ منك الشيطان مأخذه، فجرى منك مجرى الدم في العروق. واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدونا وامتنوا به علينا، ولكنه قضاء ممن امتن به علينا على لسان نبيه الصادق المصدق. لا أفلح من شك بعد العرفان والبيئة. اللّهُمَ احكم بيننا وبين عدونا بالحق وأنت خير الحاكمين. (1)

ومما يلفت النظر في هذه الرسالة أن أمير المؤمنين(علیه سلام) يؤكد فيها على المصدر الهي لشرعية حكمه. أن مضامين الرسائل السابقة جاءت على سبيل مجادلة أشخاص، كمعاوية، لا يعترفون بمنزلة أهل البيت وكون مصدر الإمامة إلهياً. فبعد أن استفرغ الإمام (علیه السلام) الحجج على معاوية ولم تؤثر

ص: 119


1- وقعة صفين، ص10 ، كتابه (عليه السلام) إلى معاوية.

فيه، لجأ إلى بيان حقيقة الأمر وهي أن الإمامة عهد من اللّه لا دور لأحد فيه حتى الرسول اللّه إلّا التبليغ.(1)

ص: 120


1- وقعة صفين، ص10، كتابه(علیه السلام) إلى معاوية.

جواب معاوية البغيض على كتاب أمير المؤمنين (علیه سلام)

رداً على كتاب أمير المؤمنين الداعي إلى الخير والصلاح، كتب معاوية إلى الإمام (علیه السلام) يتهمه بالحسد وينسب إلى نفسه، في غاية الوقاحة، منزلة يتوهم أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يحسده عليها ويبرر مخالفته له بقوله: أما بعد! فدع الحسد فإنك طالما لم تنتفع به، ولا تفسد سابقة قدمك بشره نخوتك، فإن الأعمال بخواتيمها. ولا تمحق سابقتك في حق من لا حق لك في حقه. فإنك إن تفعل لا تضر بذلك إلّا نفسك ولا تمحق إلاّ عملك ولا تبطل إلّا حجتك. ولعمري ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقاً لما اجترأت عليه من سفك الدماء وخلاف أهل الحق. فاقرأ سورة الفلق وتعوذ باللّه من شر نفسك، فإنك الحاسد إذا حسد. (1)

من هوان الدنيا على اللّه أن يقف عبد من عبيد الدنيا، مثل معاوية، بمنتهى الوقاحة والصلف، موقف الناصح الواعظ لأمير المؤمنين(علیه السلام) فعلى أية منقبة أو فضيلة يحسد الإمام(علیه السلام) معاوية؟ أعلى كرهه للإسلام وعداوته له في أيام رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ؟ أم على ريائه ونفاقه وتزويره ونقضه العهد؟

ص: 121


1- "من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. أما بعد! فدع الحسد ... حسد" وقعة صفين، ص110، جواب معاوية ؛ شرح نهج البلاغة، ج 15، ص88، شرح الكتاب العاشر [أو الرسالة العاشرة: م].

السفير الرابع لأمير المؤمنين(علیه السلام) إلى معاوية

تفيد بعض المصادر التاريخية بأن أمير المؤمنين(علیه السلام)، قبل أن ينطلق من النخيلة إلى صفين، بعث برسالة أخرى إلى معاوية بيد الأصبغ بن نباتة وجّه إليه فيها تهديداً شديد اللهجة.

دخل الأصبغ بن نباتة، حاملاً كتاب أمير المؤمنين(علیه السلام) ، على معاوية وعنده جميع مستشاريه وقادته أمثال عمرو بن العاص وذي الكلاع وعبدالله بن عامر وعتبة بن أبي سفيان وعبدالرحمن بن بن الوليد وشرحبيل بن السمط وأبي هريرة والنعمان بن بشير وأبي أمامة الباهلي. يصف الأصبغ بن نباته تسليمه الكتاب إلى معاوية بقوله : فدخلت على معاوية وعن يمينه عمرو بن العاص وعن يساره ذوالكلاع وحوله عبداللّه بن عامر بن كريز وأخوه عتبة بن أبي سفيان وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط، وبين يديه أبوهريرة والنعمان بن بشير وأبوأمامة الباهلي. قال: فناولته الكتاب فقرأ وقال: إن علياً لا يدفع إلينا قتلة عثمان. قال: فقلت له: يا معاوية! لا تتعلل عثمان، فإنك واللّه لا تطلب إلّا الملك. ولو أردت نصرة عثمان حياً لفعلت، ولكنك تربصت به لما أرسل يستصرخ بك وأخفيت كتابه وتقاعدت عليه حتى قتل لتجد سبيلاً إلى ما في نفسك

(1) ذكر الشيخ الطوسي أن الأصبغ بن نباتة كان من أصحاب أمير المؤمنين و الإمام الحسن(علیهما السلام) . بلغ ولاؤه لأمير المؤمنين درجة الله بحيث كان إذا سُئل عن منزلته بينهم ،قال: إن سيوفنا تنتظر إشارة منه لتضرب عنق من يريد. يقول نصر بن مزاحم عنه: كان شيخاً عابداً ناسكاً ومن ذخائر أمير المؤمنين الذين استقاموا على بيعته. وكان من الفرسان المهرة في جيش الإمام (علیه السلام)، حتى أن الإمام مصاريضن به على ميدان القتال حرصاً عليه. وكان من شرطة الخميس الذين تعاهدوا على ملازمة أمير المؤمنين (علیه سلام) حتى الموت، وقد ضمن الإمام (علیه السلام) لهم الجنة. يتراوح عددهم بين خمسة آلاف وعشرة آلاف رجل. وينقسم جيش الخميس إلى خمسة أقسام: الميسرة والميمنة والقلب والمقدمة والوسط. يُنقل أن أميرالمؤمنين(علیه السلام) قال لعبيدالله بن أبي رافع يوماً: ادع لي عشرة رجال من ثقاتي ليأتوا إلى هنا. فسأله أبورافع: من هم ثقاتك؟ قال: الأصبغ بن نباتة وأبوالطفيل عامر بن واثلة الكناني وزر بن حبيش الأسدي وجويرية بن مسهر العبدي وخندق بن زهير الأسدي وحارثة بن مضرب الهمداني والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ومصابيح النخعي وعلقمة بن قيس وكميل بن زياد وعمير بن زرارة. فهرست كتب الشيعة وأصولهم، ص88 ، الرقم 119 ؛ اختيار معرفة الرجال، ص 66 ، الحديث 8 - 11 ؛ وقعة صفين، ص 442 ، نداء الأشتر ومفاجأة أثال بن حجل لأبيه ؛ تنقيح المقال في علم الرجال، ج1، ص150، ترجمة الأصبغ بن نباتة، الرقم 1008 ؛ قاموس الرجال، ج2، ص 162، ترجمة الأصبغ بن نباتة، الرقم 940 ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج42، ص 151 ، تاريخ أميرالمؤمنين وأحوال سائر الصحابة.

ص: 122

بقتله. قال: فاستشاط غضباً، فأردت أن أزيده فقلت: يا أبا هريرة! (1) أنت صاحب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) أقسم عليك باللّه الذي لا إله إلا هو، هل سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ قال: إي واللّه، سمعته يقول ذلك يوم غدير خمّ. قال: فقلت: فأنت يا أبا هريرة واليت عدوه وعاديت وليه فتنفس أبوهريرة واسترجع.(2)

ص: 123


1- رغم أن أباهريرة أسلم في السنة السابعة للهجرة ويعترف أنه لم يصاحب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) إلّا لحوالي ثلاث سنوات فقط، فإن عدد الروايات المروية عنه يفوق عدد الروايات المروية عن باقي الصحابة. فقد نقلت عنه المصادر الروائية والحديثية السنية نحو 5374 حديثاً. بل إنه يقول أن ما رواه لا يمثل إلا نصف الأحاديث التي سمعها من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ولم ير النصف الآخر. وقد بلغ عدد الروايات التي يرويها أبو هريرة عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) من عمل الكثرة واللامعقولية ما أثار اعتراض عائشة ومروان بن الحكم عليه. فقد قالت له عائشة: إنك تروي الكثير من الروايات عن رسول اللّه! فقال: حين كنت مشغولة أمام المرآة بالتزين والاكتحال والادهان، كنت أنا أستمع إلى أحاديث رسول اللّه وأحفظها. ويقول الإمام الصادق(علیه السلام) : ثلاثة كانوا يضعون الأخبار على رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) أحدهم أبو هريرة. كما أن كبار علماء أهل السنة يرتابون برواياته. يقول ابن أبي الحديد: لم يكن أبوحنيفة يأخذ برواياته. كان أبوهريرة من عناصر بني أمية الذين كانوا ينسبون أخباراً قبيحة إلى الإمام علي(علیه السلام)، يختلقونها بأمر معاوية. بالمقابل، كان يضع روايات كثيرة في مناقب الخلفاء، وقد اعترف هو بنفسه بذلك. يقول مخاطباً عائشة: يا عائشة! كفي عني، فقد غيّرت سبعمائة حديث الرسول اللّه(صلی اللّه علیه واله) لصالح ذينك الرجلين. ولم تذهب الخدمات التي قدمها أبوهريرة لمعاوية سدى. فقد حصل منه على إمارة المدينة. ينقل العلامة المجلسي رواية تفيد بأن أبا هريرة كان واحداً من أصحاب العقبة الذين همّوا بقتل النبي (صلی اللّه علیه وآله) في غزوة تبوك عن طريق إفزاع ناقته لإسقاطها معه في الوادي. شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج1، ص63، حوادث سنة 54 هجرية ؛ سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 586 و 589 و 596 و 597 و 598 و 604 ،و 632 ، ترجمة عبدالرحمن بن صخر المعروف بأبي هريرة، الرقم 126 ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 28، ص100، کتاب الفتن والمحن، الباب الثالث، الحديث الثالث ؛ قاموس الرجال، ج 6، ص233، الرقم 4187، ترجمة أبي هريرة، وج11، ص 553، ترجمة أبي هريرة، الرقم 976 ؛ تحفة الأبرار، ص 245 ؛ شرح نهج البلاغة، ج4، ص63، ذيل الخطبة 56.
2- "كتب أمير المؤمنين قبل رحيله من النخيلة إلى معاوية كتاباً يتهدده فيه، أبرق فيه وأرعد ووعد وأوعد وخوّف وهدد ودعا بالأصبغ بن نباتة التميمي فقال: اذهب به إليه. قال الأصبغ فدخلت على معاوية .. واسترجع". مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ج 6 ، ص198، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر مسير أمير المؤمنين إلى صفين.

کتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية

كان محمد بن أبي بكر أحد أنصار الإمام علي (علیه السلام) الأوفياء. كتب إلى معاوية كتاباً مهماً قبل التوجه إلى صفين أشار فيه إلى فضائل أمير المؤمنين(علیه السلام) التي لا تعد ولا تحصى وإلى عدم إمكان مقارنة سائر الصحابة به. قال في الكتاب مخاطباً معاوية من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي بن صخر. سلام على أهل طاعة اللّه ممن هو مسلم لأهل ولاية اللّه. أما بعد! فإن اللّه بجلاله وعظمته وسلطانه وقدرته خلق خلقاً بلا عنت ولا ضعف في قوته ولا حاجة به إلى خلقهم، ولكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم شقياً وسعيداً وغوياً ورشيداً. ثم اختارهم على علمه، فاصطفى وانتخب منهم محمداً فاختصه برسالته واختاره لوحيه وائتمنه على أمره وبعثه رسولاً مصدقاً لما بين يديه من الكتب ودليلاً على الشرائع. فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فكان أول من أجاب وأناب وصدق ووافق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب (علیه السلام) فصدقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم، فوقاه كل هول وواساه بنفسه في كل خوف. فحارب حربه وسالم سلمه، فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الأزل ومقامات الروع حتى برز سابقاً لا نظير له في جهاده ولا مقارب له في فعله وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو المبرز السابق في كل خير ،أول الناس إسلاماً وأصدق الناس نية وأطيب الناس ذرية وأفضل الناس زوجة وخير الناس ابن عم، وأنت اللعين بن اللعين. ثم لم تزل أنت وأبوك تبغيان الغوائل لدين اللّه وتجهدان على إطفاء نور اللّه وتجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتخالفان فيه القبائل. على ذلك مات أبوك وعلى ذلك خلفته، والشاهد عليك بذلك من يأوي ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤوس النفاق والشقاق لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله سلم) والشاهد لعلي مع فضله المبين وسبقه القديم أنصاره الذين ذكروا بفضلهم في القرآن (1) فأثنى اللّه عليهم من المهاجرين والأنصار. فهم معه عصائب وكتائب حوله، يجالدون بأسيافهم ويهريقون دماءهم دونه، يرون الفضل في اتباعه والشقاء في خلافه. فكيف - يا لك الويل - تعدل نفسك بعلي وهو وارث

ص: 124


1- وقعة صفین، ص118، كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية ؛ شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 188، ذيل الخطبة 46، كتاب محمد ن أبي بكر إلى معاوية وجوابه عليه ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص13، بين معاوية ومحمد بن أبي بكر ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص 165، أمر مصر في خلافة علي.

رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و وصيه وأبو ولده وأول الناس له اتباعاً وآخرهم به عهداً، يخبره بسره ويشركه في أمره، وأنت عدوه وابن عدوه؟ فتمتع ما استطعت بباطلك وليمدد لك ابن العاص في غوايتك. فكأن أجلك قد انقضى وكيدك قد وهى. وسوف يستبين لمن تكون العاقبة العليا. واعلم أنك [إنما] تكايد ربك الذي قد أمنت كيده وأيست من روحه وهو لك بالمرصاد وأنت منه في غرور وبالله وأهل رسوله عنك الغناء والسلام على من اتبع الهدى.

ص: 125

جواب معاوية لكتاب محمد بن أبي بكر

هذه الرسالة بالغة الأهمية اعترف معاوية بحقانية الإمام علي (علیه السلام) في الحكم بعد وفاة النبي(صلی اللّه علیه وآله) وحمّل الخليفة الأول مسؤولية ما وقع من المواجهات. كتب معاوية إلى محمد بن أبي بكر يذمه ويقول: من معاوية بن أبي سفيان إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر. سلام على أهل طاعة اللّه. بعد! فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما اللّه أهله في قدرته وسلطانه وما أصفى به نبيه، مع كلام ووضعته لرأيك فيه تضعيف ولأبيك فيه تعنيف. ذكرت حق ابن أبي طالب وقديم سوابقه وقرابته من نبي اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ونصرته له ومواساته إياه في كل خوف وهول ، واحتجاجك على بفضل غيرك لا بفضلك. فأحمد إلهاً صرف الفضل عنك وجعله لغيرك. وقد كنا وأبوك معنا في حياة من نبينا(صلی اللّه علیه وآله) نرى حق ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مبرزاً علينا. فلما اختار اللّه لنبيه(صلی اللّه علیه وآله) ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر دعوته وأفلج حجته قبضه اللّه إليه، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه. على ذلك اتفقا واتسقا، ثم دعواه إلى أنفسهم فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم ،فبايع وسلم لهما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرهما، حتى قبضا وانقضى أمرهما. ثم قام بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي. وبطنتما له وأظهرتما، [وكشفتما] عداوتكما وغلكما حتى بلغتما منه مناكما. فخذ حذرك يا ابن أبي بكر، فسترى وبال أمرك، وقس شبرك بفترك تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه ولا تلين على قسر قناته ولا يدرك ذو أناته. أبوك مهد مهاده وبنى ملكه وشاده. فإن يكن ما نحن فيه صواباً فأبوك أوله. وإن يك جوراً فأبوك أسسه ونحن شركاؤه وبهديه أخذنا وبفعله اقتدينا. ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له. ولكنا رأينا أباك فعل ذلك فاحتذينا بمثاله واقتدينا بفعاله. فعب أباك ما بدا لك، أو دع! والسلام على من أناب ورجع عن غوايته وتاب.(1)

ص: 126


1- وقعة صفین، ص119، کتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر ؛ شرح نهج البلاغة، ج3، ص189، ذيل الخطبة 46، كتاب محمد ن أبي بكر إلى معاوية وجوابه عليه ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص15، بين معاوية ومحمد بن أبي بكر ؛ أنساب الأشراف، ج 3، ص 166، أمر مصر في خلافة علي (علیه السلام).

نقاط مهمة في كتاب معاوية

تضمن جواب معاوية على رسالة محمد بن أبي بكر(1) نقاطاً هامة، منها:

الأولى: أن معاوية يعترف بأنه وأبابكر كانا في حياة رسول اللّه( صلى اللّه عليه وآله سلم) يعترفان بحق أمير المؤمنين (علیه سلام) وأفضليته عليهما بوضوح وإعلان.

الثانية أهم ما في كتاب معاوية اعترافه بأن خلافة رسول اللّه(صلی اللّه علیه واله) و بعد وفاته كانت حقاً لأمير المؤمنين(علیه السلام) ، وأن الخليفتين الأولين غصباه إياه.

ص: 127


1- ولد محمد بن أبي بكر سنة 11 هجرية. أبوه أبوبكر وأمه أسماء بنت عميس التي تزوجت من أميرالمؤمنين(علیه السلام) بعد وفاة أبي بكر، فتولى تربيته في طفولته .الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 422، ترجمة محمد بن أبي بكر، الرقم 2348 ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، جه، ص97، ترجمة محمد بن أبي بكر، الرقم 4751. تشرّب حب الإمام علي (علیه السلام) وموالاته لدرجة أنه كان يعتبره وحده أباه. ولم يعترف بفضيلة لغيره. يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) فيه: محمد ابني من صلب أبي بكر. شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 53 ، ذيل الخطبة 67 ، ذكر محمد بن أبي بكر وذكر ولده. كان محمد بن أبي بكر من حواريي أمير المؤمنين (عليه السلام) وخاصة أصحابه. من فضائله أنه كان، كعمار بن ياسر ، لا يرضى بارتكاب المعاصي. كان مبالغاً في العبودية للّه وعبادته حتى عُدّ من عباد قريش رجال الكشي، ص71، الحديث 20، وص 136 ، الحديث 112 ؛ شرح نهج البلاغة، ج6، ص54، ذيل الخطبة 67 ، ذكر محمد بن أبي بكر وذكر ولده. قال محمد لأمير المؤمنين (علیه سلام) يوماً : امدد يدك أبايعك. فمدّ الإمام(علیه السلام) يده فبايعه محمد بن أبي بكر قائلاً: أشهد أنك إمام مفترض الطاعة وأن أبي في النار. يقول الإمام الصادق(علیه السلام) : عفة محمد بن أبي بكر من جهة أمه لا من جهة أبيه رجال الكشي، ص 136، الحديث 113. وكان ممن شارك في قتل عثمان. سير أعلام النبلاء، ج3، ص 482، ترجمة محمد بن أبي بكر ، الرقم 104. وكان من قادة جيش الإمام علي(علیه السلام) في معركتي الجمل وصفين. وبعد معركة صفين عيّنه الإمام (علیه السلام) والياً لمصر، وفيها قتله أزلام معاوية سنة 38 هجرية. وكان استشهاده بطريقة فظيعة فقد وضعه عمرو بن العاص وأزلام معاوية في جوف حمار وأضرموا فيه النار. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 422 ، ترجمة محمد بن أبي بكر، الرقم 2348. لما وصل خبر استشهاد محمد بن أبي بكر إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) قال: إن حزننا على فقده كسرور أهل الشام، فقد نقص منهم عدو ومنا صديق. نهج البلاغة، الحكمة 325. في كتاب بعثه أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى عبد اللّه بن عباس عن مقتل محمد بن أبي بكر قال: أحتسب أجر مصيبته عند اللّه. كان ابناً باراً وعاملاً كادحاً وسيفاً قاطعاً وركناً ركيناً للحكم. نهج البلاغة، الكتاب الخامس والثلاثون.

الثالثة: أن مبايعة أمير المؤمنين (علیه السلام) لأبي بكر كانت بالإكراه، كما هو وارد في الاحتجاج للطبرسي وإثبات الوصية وغيرهما. فقد فتحوا بالقوة قبضة يده التي كان يضمها ووضعوها على يد أبي بكر ثم صاحوا في المسجد: بايع أبوالحسن. (1)

الرابعة: أن معاوية يرى أن منبع جميع الحروب والخلافات مع أمير المؤمنين(علیه السلام) يعود إلى غصب الخلافة في يوم السق

يفة، وأن الخليفة الأول هو مؤسس المعارضة لأمير المؤمنين(علیه السلام) وهو المسؤول الأول عن المشاكل التي استمرت حتى عهده(علیه السلام).

الخامسة: أن أبابكر وعمر وعثمان لم يكونوا يشركون الإمام علياً (علیه السلام) في شؤون البلاد، وأنه لم يتدخل في قرارات الخليفتين.

السادسة: من الأمور المهمة المتعلقة بهذه المراسلة [بين محمد بن أبي بكر ومعاوية: م] أن بعض المؤرخين أهملوها في كتبهم بذرائع مختلفة. كما حذفها الطبري، واكتفى في تبرير الحذف بكلام من أبي مخنف الذي يقول نقلاً عن يزيد بن ظبيان الهمداني: جرت بين محمد بن أبي بكر ومعاوية مراسلات أكره أن أذكرها لاحتوائها على أمور لا ينبغي أن يطلع عليها العامة (2) لاشك أن العامة يجب أن لا يعلموا أن الخلافة كانت حقاً لأمير المؤمنين (علیه السلام) وأن أهل السقيفة غصبوه حقه رغم عرفتهم به، وأنهم أضلوا الناس بأكاذيبهم. ولو علمت العامة أن عدو أمير المؤمنين (عليه السلام)، معاوية، كان ينظر إليه هذه النظرة ويتهم الشيخين بغصب حقه في الخلافة لما خضعت لحكمهم الغاصب. إذن، لابد من كتمان الحقائق وتزييف التاريخ.

ص: 128


1- "ثم مدوا يده وهو يقبضها حتى وضعوها فوق يد أبي بكر وقلوا بايع بايع، وصيح في المسجد: بايع بايع أبوالحسن". الاحتجاج على أهل اللجاج، ج1، ص 215، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.
2- "حدثني يزيد بن ظبيان الهمداني أن محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما ولي ؛ فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة". تاريخ الطبري، ج 3، ص 68 ، حوادث سنة 36 هجرية، ولاية محمد بن أبي كر مصر.

جذورإرهاصات حرب صفین

قبل الدخول في موضوع تحرك جيشي أمير المؤمنين(علیه السلام) ومعاوية صوب صفين، لابد من تسليط لام الضوء على بعض ما يتعلق بأسباب وقوع حرب صفين من أجل الإحاطة بها من جميع جوانبها.

وقعت حرب صفين بادّعاء معاوية وحلفائه المطالبة بدم عثمان. فمع أن معاوية كان قد خذل عثمان عندما كان محاصراً واستنجد به، فقد استغل قتله أقصى درجات الاستغلال. ونجح، من خلال حملة إعلامية واسعة، في أن يُدخل في روع الرأي العام الشامي أن علياً (علیه السلام) وأنصاره هم من قتلوا بن عفان فما كان من أهل الشام، الذين كانوا منذ بداية دخولهم في الإسلام واقعين تحت مؤثرات معاوية التربوية، إلا أن تعبأوا لمحاربة من ظنوا أنهم أعداء الإسلام. يقول الذهبي في أحوال أهل الشام في ذلك الوقت: وخلف معاوية خلقٌ كثيرٌ يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه ؛ إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد وُلدوا في الشام على حبه وترى أولادهم على ذلك. وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب (لأهل البيت). (1)

أهم سبب قدّمه قادة الشام لمعارضة أمير المؤمنين (علیه السلام) كان المطالبة بدم عثمان. غير أن الأسباب الحقيقية كانت كامنة وراء هذا السبب الظاهري، وهي كما يلي:

ص: 129


1- سير أعلام النبلاء، ج3، ص 128، ترجمة معاوية، الرقم 25.

1-المطالبة بدم عثمان

وكانت الذريعة الأساسية بيد أهل الشام لمخالفة أمير المؤمنين (علیه السلام) ووقوع حرب صفين. فقد كانوا يطالبون الإمام (علیه السلام) بدم عثمان بصفته المقصّر الأساسي في مقتله. ورغم أن المطالبة بدم عثمان كانت الذريعة الوحيدة لدى رجال السياسة في الشام لمعارضة حكم الإمام(علیه سلام)، وكانوا يستغلونها في إثارة الناس على الإمام (علیه السلام) وتعبئتهم لحربه، فقد كانت في رأي عامة أهل الشام، نتيجة الضخ الإعلامي الواسع، أهم دافع للنضال والمواجهة. ويبين تقرير جرير بن عبدالله عن أحوال أهل الشام أنهم كانوا على أعلى درجات الاستعداد للقتال بحيث أقسموا على أن لا تؤويهم المخادع ما لم يقتلوا قتلة عثمان. وهذا ما جعلهم يعاهدون معاوية على نصرته حتى الموت. (1)

من عجائب الزمان أن مقتل عثمان صوروا أنفسهم بأنهم أولياء دمه، وانخدع عامة

مسببي الناس بخدعتهم. إلى هذا يشير عبدالله بن عباس في حديثه مع معاوية وعمرو بن العاص إذ يقول: وإن أحق الناس أن لا يتكلم في أمر عثمان لأنتما. أما أنت يا معاوية، فزينت له ما كان يصنع. حتى إذا حصر طلب نصرك، فأبطأت عنه وأحببت قتله وتربصت به. وأما أنت يا عمرو، فأضرمت عليه المدينة وهربت إلى فلسطين تسأل عن أنبائه. فلما أتاك قتله أضافتك عداوة علي أن لحقت بمعاوية فبعت دينك بمصر. (2)

فرغم أنهم كانوا يعلمون أنهم هم المقصرون في قتل عثمان، فقد ذهبوا لقتال أمير المؤمنين(علیه السلام). وهذا ما يتضح من حوار جرى بين عمرو بن العاص ومعاوية. فقد قال عمرو بن العاص لمعاوية بمسمع من حاضرين أعجب الأشياء غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه. فقال معاوية: أعجب من ذلك إعطاء من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة .(3)

ص: 130


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص 70 ، حوادث سنة 36 هجرية، توجيه علي بن أبي طالب جرير بن عبد اللّه البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في طاعته ؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص452، حوادث سنة 35 هجرية.
2- سير أعلام النبلاء، ج3، ص 73 ، ترجمة عمرو بن العاص، الرقم 15.
3- قال عمرو بن العاص أعجب الأشياء ... من غير غلبة. وإنما عرّض عمرو بمعاوية وعرّض معاوية بعمرو في أمر مصر". أنساب الأشراف، جه ، ص84، معاوية بن أبي سفيان.

اتهام أمير المؤمنين (علیه سلام) بقتل عثمان

رغم كل ما بذله الإمام علي (علیه السلام) من جهد لمنع قتل عثمان، فقد نجحت الماكنة الإعلامية الأموية تلقين أهل الشام بأنه هو المتهم الرئيس في قتل عثمان. كل تلك الاتهامات جاءت بسبب إقبال الناس على علي (علیه السلام) واختياره خليفة لهم. يقول محمد بن سيرين ما علمت أن علياً (علیه السلام) اتهم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس (1)

أن براءة أمير المؤمنين(علیه السلام) كانت معلومة لدى أهل المدينة وكانوا يشهدون عليها. فهذا بن عبداللّه الذي سافر إلى الشام لزيارة أقربائه يقول لمعاوية الذي طلب منه أن يقص ما جرى في قتل عثمان حصره المكشوح، وحكم فيه حكيم، ووليه (نفذ الحكم فيه) محمد وعمار، وتجرد في أمره ثلاثة نفر عدي بن حاتم والأشتر النخعي وعمرو بن الحمق، وجدّ في أمره (قتله) رجلان طلحة والزبير، وأبرأ الناس منه علي. (2)

لقد بذل الإمام علي(علیه السلام) كل ما في وسعه لمنع وقوع الفتنة. وما أكثر ما تغاضى المعترضون عن أخطاء عثمان بوساطته(علیه السلام) غير أن عثمان، ليس فقط لم يصحح أخطاءه بل عمل على التآمر على المعترضين، حتى فقد الدفاع فقد الدفاع عنه مبرره الشرعي لأن الناس بدأوا يسيئون الظن بالإمام نفسه. لذا كتب الإمام (علیه السلام)كتاباً إلى ابن عباس قال له فيه: واللّه لقد دفعت عنه (عن عثمان) حتى خشيت أن أكون آثماً. (3)

ص: 131


1- "جرير بن حازم عن محمد بن سيرين قال: ما علمت ... الناس". العقد الفريد تبري علي (علیه سلام) من دم عثمان.
2- فقال له معاوية: هات يا أخا طي حدثنا عن عثمان قال: حصره ... علي". وقعة صفين، ص 65 ، خفاف بن عبد الله ومعاوية ؛ شرح نهج البلاغة، ج3، ص111، شرح الخطبة 43، أخبار متفرقة.
3- نهج البلاغة، الخطبة 240.

أما مروان بن الحكم الذي شهد حوادث قتل عثمان عن قرب، فقد قال في أيام إمارته على المدينة للإمام علي بن الحسين (علیه السلام): ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم، [يعني علياً] عن عثمان. قال: فقلت: ما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم الأمر إلّا بذلك . (1)

كانت براءة أمير المؤمنين(علیه السلام) معلومة حتى لدى زعماء الحزب الأموي ؛ إذ أنه لما دعا معاوية عمرو بن العاص إلى الشام لمساعدته في تشكيل جبهة لمواجهة الإمام (علیه السلام) وتحشيد الناس ضده، قال لعمرو: نقاتله على ما في أيدينا ونلزمه دم عثمان بن عفان. فضحك عمرو من ذلك ثم قال: واعجباه لهذا الكلام الذي أسمعه منك يا معاوية. قد يجب عليّ وعليك أن لا نذكر شيئاً من أمر عثمان ؛ أما أنت فخذلته حين استغاث بك وهو محصور بالمدينة فلم تنصره. وأما أنا فإني تركته عياناً وذهبت إلى فلسطين.(2)

ص: 132


1- "قال مروان: ما كان ... بذلك". تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص 460 ؛ شرح نهج البلاغة، ج13، ص220، ذيل الخطبة 238، القول في إسلام أبي بكر وعلي وخصائص كل منهما.
2- "فقال معاوية: ... لكننا نقاتله .. فلسطين". الفتوح، المجلد الأول، ص 523 ، ذكر كتاب علي(علیه السلام) إلى معاوية.

دور معاوية في قتل عثمان

كان الخلفاء (الثلاثة الأول: م) يحبون بني أمية، ومعاوية خاصة، لذا جعلوا تحت تصرفه واحدة أهم المناطق في البلاد الإسلامية لمدة عشرين سنة. وقدموا له كل ما يحتاجه من دعم لا محدود لتقوية مركزه فيها. وهذا ما جرأه على أن يستطيل بعنقه ليطمع في حكم البلاد الإسلامية بأسرها. ولكنه واجه عقبتين تسدان طريقه إلى تحقيق مطامعه .

1- خلافة عثمان .

2 - أمير المؤمنين (علیه السلام).

ولم يكن الناس راضين عن سلوك عثمان، فعارضوه بشدة جعلت معاوية يوقن أن حكمه لا يدوم وسرعان ما يسقطه الناس. لذا استغل هذه الفرصة أمثل استغلال وفكر في التخلص من العقبتين معاً. فلم يسعف عثمان رغم أنه كان يملك جيشاً قوياً لكي يُقتل على أيدي الناس. ثم ألقى بتهمة قتله على أمير المؤمنين(علیه السلام) لكي يضرب عصفورين بحجر واحد ويوجه الأوضاع الوجهة التي تصب في مصلحته. يقول البلاذري، وهو من مؤرخي القرن الثالث، في هذا: لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده ( وهو محاصر) بعث يزيد بن أسد القسري جد خالد بن عبدالله بن يزيد أمير العراق وقال له: إذا أتيت ذاخشب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان فاستقدمه حينئذ معاوية فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه. (1)

أما اليعقوبي فيقول: فكتب (عثمان) إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، توجه إليه في اثني عشر ألفاً، ثم قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره. فأتى

ص: 133


1- روى البلاذري قال: لما أرسل ... نفسه". شرح نهج البلاغة، ج16، ص154، ذيل الخطبة 37.

عثمان فسأله عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا واللّه ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. (1)

ويقول النميري: قدم المسور بن مخرمة على معاوية، فدخل عليه وعنده أهل الشام، فقال معاوية: يا أهل الشام! هذا من قتلة عثمان. فقال المسور: إني واللّه ما قتلت عثمان، ولكن قتله سيرة أبي بكر وعمر (بمخالفته لها) وكتب يستمدك بالجند فحبستهم عنه حتى قتل وهم بالزرقاء.(2)

ولا يقتصر هذا النوع من الاحتجاجات على معاوية على هذا النفر من الرجال. فقد واجهه بمثل هذا الكلام أمثال عبداللّه بن عباس (3) ومحمد بن أبي حذيفة (4) وعامر بن واثلة(5) وأبوأيوب

ص: 134


1- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 175 ، أيام عثمان بن عفان.
2- حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثني غسان بن عبد الحميد قال: قدم ... بالزرقاء". تاريخ المدينة المنورة، ج4، ص 1289، معاوية قصر لحاجة في نفسه عن نصرة عثمان.
3- فكتب إليه ابن عباس جواباً طويلاً يقول فيه: وأما قولك إني من الساعين على عثمان والخاذلين له والسافكين دمه وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني، فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله والمحب لهلاكه والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة أمره. ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأجرة، أنت تعلم أنهم لن يتركوه حتى يقتل. فقتل كما كنت أردت . ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك، فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه وتقول: قتل مظلوماً. فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين. ثم لم تزل مصوباً ومصعداً وجاثماً ورابضاً، تستغوي الجهال وتنازعنا حقنا بالسفهاء، حتى أدركت ما طلبت [حروف وأشكال غير مفهومة: م]. شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 155، ذيل الخطبة 36
4- قال: فوالله الذي لا إله غيره، ما أعلم أحداً شرك في دم عثمان وألّب الناس عليه غيرك، لما استعملك ومن كان مثلك، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى، ففعلوا به ما بلغك .وواللّه ما أحد اشترك في قتله بدءاً وأخيراً إلّا طلحة والزبير وعائشة، فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة وألبوا عليه الناس .... معجم رجال الحديث، ج 14 ، ص236، ترجمة محمد بن أبي حذيفة، الرقم 9973.
5- "فقدم أبوالطفيل الشام يزور ابن أخ له من رجال معاوية، فأخبر معاوية بقدومه، فأرسل إليه، فأتاه وهو شيخ كبير. فلما دخل عليه قال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال معاوية: أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن ممن شهده فلم ينصره. قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار . فقال معاوية: أما واللّه إنّ نصرته كانت عليهم وعليك حقاً واجباً وفرضاً لازماً، فإذ ضيعتموه فقد فعل اللّه بكم ما أنتم أهله وأصاركم إلى ما رأيتم. فقال أبوالطفيل: فما منعك يا أمير المؤمنين، إذ تربصت به ريب المنون، أن تنصره ومعك أهل الشام؟ قال معاوية: أوما ترى طلبي لدمه؟ فضحك أبو الطفيل وقال: بلى، ولكني وإياك كما قال عبيد بن الأبرص: لا أعرفنك بعد الموت تندبني ..... وفي حياتي ما زودتني زادي الإمامة والسياسة، ج1، ص 165 ، قدوم أبي الطفيل على معاوية ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج 28، ص 81، الرقم 3064، ترجمة عامر بن واثلة ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 143، الرقم 2747 ، ترجمة عامر بن واثلة ؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص 1697 ، الرقم 3054، ترجمة عامر بن واثلة.

الأنصاري (1) وشبث بن ربعي(2) وهناك الكثير من الشواهد التاريخية الدالة على أن تعمد معاوية عدم نصرة عثمان كان أمراً بيناً يعرفه الكثير من الناس.

وقد اعترف عمرو بن العاص ومعاوية في حواراتهما الخاصة بتقصيرهما بحق عثمان ودورهما في قتله. فقد قال عمرو بن العاص لمعاوية في أحد تلك الحوارات :إن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لأنا وأنت. قال معاوية : ولم؟ فقال عمرو: أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام، واستغاثك فأبطأت عليه. وأما أنا فتركته عياناً وهربت إلى فلسطين.(3)

ص: 135


1- "كتب أبوأيوب إلى معاوية [أما بعد فإنك كتبت إلي]: لا تنسى الشيباء وقال في هذا الحديث: الشيباء: الشمطاء ثكل ولدها ولا أبا عذرتها، فضربتها مثلاً بقتل عثمان. وما نحن وقتل عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام في نصرته لأنت. وإن الذين قتلوه لغير الأنصار". وقعة صفين، ص368، جواب أبي أيوب.
2- فبدره شبث فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: يا معاوية! قد فهمت ما رددت على ابن محصن إنه لا يخفى علينا ما تقرب وما تطلب. إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلّا أن قلت لهم: قتل إمامكم مظلوماً، فهلموا نطلب بدمه. فاستجاب لك سفهاء طغام رذال. وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب. وربّ مبتغ أمراً وطالبه يحول اللّه دونه. وربما أوتي المتمني أمنيته، وربما لم يؤتها. وواللّه ما لك في واحدة منها خير. واللّه لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالاً. ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار. فاتق اللّه يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله وقعة صفين، ص187 ، كلام شبث بن ربعي ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص77، حوادث سنة 36 هجرية، القتال على الماء ؛ الكامل في التاريخ، ج 3، ص 365 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر ابتداء وقعة صفين.
3- قال عمرو: واسوأتاه! إن أحق ... فلسطين". الإمامة والسياسة، ج1، ص96، مشورة معاوية عمرواً ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص 523 ، ذكر كتاب على [عليه السلام] إلى معاوية.

دور عمرو بن العاص في قتل عثمان

كان عمرو بن العاص في البداية عامل عثمان على مصر. وبعد مدة عزله عن جباية الخراج وكلفه بالصلاة وحوّل صلاحياته إلى عبدالله بن سعد. ثم سحب منه صلاحيات إمامة الجماعة وأسندها إلى عبدالله. لهذا حمل عمرو في قلبه كرهاً لعثمان. فبعد عزله ذهب إلى المدينة وأخذ يذكر عثمان بسوء ويحرض الناس عليه وعلى حكمه.

وبلغت معارضة عمرو بن العاص حداً جعل عثمان يستدعيه ويقول له في مجلس خاص: يا ابن النابغة! ما أسرع ما قمل جربان جبتك! إنما عهدك بالعمل عاماً أول. أتطعن عليّ وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر؟ واللّه لولا أكلة ما فعلت ذلك (لولا ولاية مصر التي أعطيتك إياها). فقال عمرو: إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل. فاتق اللّه يا أمير المؤمنين! فقال عثمان: واللّه لقد استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك ... فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، يأتي علياً مرة فيؤلبه على عثمان ، ويأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلبه عثمان، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان. فلما كان حصر عثمان الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع، فنزل في قصر له يقال له العجلان وهو يقول: العجب ما يأتينا عن ابن عفان [قال]: فبينا هو جالس في قصره ذلك ومعه. ابناه محمد وعبدالله وسلامة بن روح الجذامي إذ مرّ بهم راكب فناداه عمرو: من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة قال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان. قال: تركته محصوراً شديد الحصار. قال عمرو: أنا أبوعبدالله، قد يضرط العير والمكواة في النار. فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مرّ به راكب آخر فناداه عمرو: ما فعل الرجل؟ینی عثمان. قال: قتل، قال: أنا أبو عبدالله، إذا حككت قرحة نكأتها. إن كنت لأحرض عليه

ص: 136

الراعي في غنمه في رأس الجبل(1). يقول غسان بن عبد الحميد: كان عمرو بن العاص من أشد الناس طعناً على عثمان وقال: واللّه لقد أبغضت عثمان وحرّضت عليه حتى الراعي في غنمه تحت قربتها (2).

ويقول الطبري: لما بلغ عمرواً قتل عثمان قال: أنا عبدالله قتلته وأنا بوادي السباع. من يلي هذا الأمر من بعده؟ إن يله طلحة فهو فتى العرب سيباً، (كرماً) وإن يليه (هكذا، وربما يله أو وليه م) ابن أبي طالب فلا أراه إلّا سيستنظف الحق وهو أكره من يليه إليّ. (3)

ص: 137


1- عبد اللّه بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور قال: كان عمرو بن العاص على مصر - عاملاً لعثمان فعزله عن الخراج واستعمله على الصلاة واستعمل عبد اللّه بن سعد على الخراج ثم جمعهما لعبد اللّه بن سعد فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان. فأرسل إليه يوماً عثمان خالياً به فقال: يا ابن النابغة! ... رأس الجبل". تاريخ الطبري، ج2، ص 656،حوادث سنة 35 هجرية، ذكر مسير من سار إلى ذي خشب من أهل مصر ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص 284، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر مسير من سار إلى حصر عثمان.
2- "حدثني غسان بن عبدالحميد قال كان عمرو .. قربتها". تاريخ المدينة المنورة، ج3، ص1089 ، رواية تقول على لسان عمرو: أبغضت عثمان وحرّضت عليه.
3- "حدثني موسى بن يعقوب عن عمه، قال: لما بلغ .... إليّ". تاريخ الطبري، ج 3، ص 69 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص 358 ، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية ومتابعته له.

دور باقي الصحابة في قتل عثمان

كان الصحابة في المدينة يرصدون أفعال عثمان ومخالفاته للشرع. وعندما تدفق الثوار على المدينة مختلف المدن وحاصروا قصر الخليفة، لم يكتف الصحابة بعدم الوقوف إلى جانب عثمان، بل اصطفوا إلى جانب الثوار وأخذوا زمام قيادة الثورة منهم. وهذا ما تصرح به المصادر والوثائق التاريخية عندهم. فعندما اتهم معاوية أبا الطفيل بقتل عثمان ،قال له أبو الطفيل دافعاً التهمة عن نفسه: لم ينصره المهاجرون والأنصار(1) أما الواقدي فيرى أن بعض صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله)كاتبوا مدناً أخرى وصحابة آخرين يحثونهم على الجهاد ضد عثمان، وحين قامت الثورة عليه لم يدافع عنه من الصحابة إلّا عدد قليل ولم ينكروا ما كان يقال عنه. (2)

ما ينقله الواقدي يتضمن أكثر من ملاحظة:

1- فضلاً عن عامة المسلمين، كان الصحابة أيضاً رافضين لتصرفات عثمان.

2- التصدي لتصرفات عثمان المخالفة للشرع اعتبر حينئذ عملاً مقدساً وجهاداً في سبيل اللّه.

3-احتجاجات عموم المسلمين على تصرفات عثمان المخالفة للشرع كانت تحظى بتأييد الصحابة، بدليل أنهم لم يدافعوا عنه ولم يعترضوا على احتجاجات عامة الناس.

ص: 138


1- قال له معاوية: أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة؟ قال: نعم. قال معاوية أكنت ممن قتل عثمان أمير المؤمنين؟ قال: لا ولكن ممن شهده فلم ينصره. قال: ولم؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار". الإمامة والسياسة، ج 1، ص 165، قدوم أبي الطفيل على معاوية ؛ تاريخ دمشق الكبير، ج 28، ص81، الرقم 3064، ترجمة عامر بن واثلة ؛ أنساب الأشراف، ج5، ص101، معاوية بن أبي سفيان ؛ تاريخ الخلفاء، ص 218، عهد بني أمية ،معاوية بن أبي سفيان، نبذ من أخباره. ص218،
2- "قال الواقدي: لما كانت سنة أربع وثلاثين كتب بعض أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله سلم) إلى بعض يتشاكون سيرة عثمان وتغييره وتبديله وما الناس فيه من عماله، ويكثرون عليه، ويسأل بعضهم بعضاً أن يقدموا المدينة إن كانوا يريدون الجهاد ولم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه يدفع عن عثمان ولا ينكر ما يقال فيه إلّا زيد بن ثابت وأبوأسيد الساعدي وكعب بن مالك بن أبي كعب من بني سلمة من الأنصار وحسّان بن ثابت الأنصاري". أنساب الأشراف، ج 6، ص 174، مسير أهل الأمصار إلى

4- لم يشارك الصحابة في الاحتجاج على حكم عثمان وفي قتله فحسب، بل إنهم بادروا إلى قتله وساهموا فيه مساهمة مباشرة.

يؤيد كلام أبي سعيد الخدري ما ذكره الواقدي لأنه حين سئل عما إذا كان الصحابة قد شاركوا في قتل عثمان قال: نعم، لقد شهده ثمانمائة . (1)

ص: 139


1- "عن غياث البكري قال: سألت أباسعيد الخدري عن قتل عثمان ،هل شهده، أحد من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله سلم) ؟ قال: نعم، شهده ثمانمائة". تاريخ المدينة المنورة، ج4، ص 1175، ابن سلام يدافع عن عثمان ويخطب في الناس محذراً ؛ شرح نهج البلاغة، ج 3، ص28، ذيل الخطبة ،43 ، ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها.

دور طلحة والزبير وعائشة في قتل عثمان

تفيد الوثائق الموجودة في مصادر أهل السنة بأن طلحة والزبير وعائشة لعبوا الدور الأهم في قتل

عثمان، وكانوا أكثر من حرّض الناس على الثورة عليه.

يقول اليعقوبي (المتوفى سنة 284 هجرية) : وكان أكثر من يؤلب عليه طلحة والزبير وعائشة. (1)

وربما كان ما فعله طلحة لا نظير له،(2) لأنه لم يكتف بتحريض الناس على الثورة على عثمان، بل منع وصول الماء إليه (3) ومنع من دفنه في مقبرة البقيع ثلاثة أيام بعد دفنه في مقبرة البقيع ثلاثة أيام بعد قتله. وحين أراد بعض أقربائه وأنصاره أن يدفنوه في مقبرة اليهود، أمر طلحة برشق جنازته بالحجارة. (4)

ص: 140


1- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص 175، أيام عثمان بن عفان.
2- "حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي عن عوف قال: كان أشد الصحابة على عثمان طلحة بن عبیدالله". تاريخ المدينة المنورة، ج4، ص 1169، ما روي من الاختلاف في من أعان عثمان أو أعان عليه من أصحاب النبي(صلی اللّه علیه وآله) و أزواجهّ أشد الصحابة على عثمان طلحة ؛ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص 87، ترجمة طلحة بن عبيدالله، الرقم 2627 ؛ المعارف، ص 228، أخبار طلحة بن عبيدالله.
3- "حدثنا هارون بن عمر قال: حدثنا أسد بن موسى قال: حدثنا جامع بن صبيح عن الكلبي قال: أرسل عثمان إلى علي(علیه السلام) يقرؤه السلام ويقول: إن فلاناً (يعني طلحة) قد قتلني بالعطش، والقتل بالسلاح أجمل من القتل بالعطش. فخرج (عليه السلام) يتوكأ على يد المسور بن مخرمة حتى دخل على ذلك الرجل وهو يترامى بالنبل عليه قميص هروي. فلما رآه تنحى عن صدر الفراش ورحّب به، فقال له علي(علیه السلام) : إن عثمان أرسل إليّ أنكم قد قتلتموه بالعطش، وإن ذلك ليس يحسن، وأنا أحب أن تدخل عليه الماء. فقال: لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ويشرب. فقال علي(علیه السلام) : ما كنت أرى أني أكلم أحداً من قريش في شيء فلا يفعل! فقال: واللّه لا أفعل، وما أنت في ذلك في شيء يا علي. فقام علي(علیه السلام) غضبان وقال: لتعلمن بعد قليل أكون من ذلك في شيء أم لا". تاريخ المدينة المنورة، ج 4، ص 1202، عثمان يستعين بعلي على طلحة فيلبيه علي(علیه سلام)
4- أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام ... فأقعد لهم طلحة في الطريق ناساً بالحجارة، فخرج له نفر يسير من أهله وهم يريدون حائطاً بالمدينة يعرف بحش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم. فلما صار هناك رجم سريره وهموا بطرحه ... وقد جعل طلحة ناساً هناك أكمنهم كميناً، فأخذتهم الحجارة وصاحوا: نعثل نعثل . فقالوا: الحائط الحائط. فدفن في حائط هناك". شرح نهج البلاغة ، ج10، ص67، ذيل الخطبة 175.

أما عائشة فكان دورها في قتل عثمان لا نظير له، فهي التي أصدرت فتوى قتله بعد أن اعتبرته كافراً مهدور الدم. (1)

كما أفتى الزبير بقتل عثمان، كما فعلت عائشة، لأنه غيّر أحكام الدين الإسلامي(2) وكان ممن منع وصول الماء إليه فكان يقول له كلما طلب الماء: "يا نعثل ( يا يهودي) لا واللّه لا تذوقه. (3)

من الحوادث التي استغلت على نطاق واسع، عطش عثمان في لحظات موته. تفيد بعض النصوص التاريخية بأن طلحة منع من وصول الماء إلى عثمان، أما أمير المؤمنين(علیه السلام) ، فرغم معارضته لتصرفات عثمان وتذكيره له بمخالفاته الشرعية، فقد كان في الوقت نفسه مخالفاً لموقف طلحة غير الإنساني منه. لذا قام بإيصال أواني الماء إليه، وعندما اعترضه طلحة، قام بكسر الحصار على عثمان بشكل من الأشكال وأنقذه من العطش . (4)

ص: 141


1- فواللّه إن أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلاً فقد كفر". الإمامة والسياسة، ج1، ص52، اعتزال عبد اللّه بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهد علي(علیه السلام) وحروبه ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص12، قول عائشة:واللّه لأطلبن بدم عثمان وخروجها وطلحة والزبير فيمن تبعهم إلى البصرة ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 6، ص215، ذيل الخطبة 79، أخبار عائشة في خروجها من مكة إلى البصرة بعد مقتل عثمان.
2- "اقتلوه فقد بدّل دينكم". شرح نهج البلاغة ، ج 9، ص 36، ذيل الخطبة 137، من كلام له في شأن طلحة والزبير.
3- " روى أبو إسحاق قال: لما اشتد الحصار بعثمان عمد بنو أمية على إخراجه ليلاً إلى مكة. وعرف الناس فجعلوا عليه حرساً. وكان على الحرس طلحة بن عبيدالله وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان، قال: وأطلع عثمان وقد اشتد به الحصار وظمئ من العطش فنادى: أيها الناس! اسقونا شربة من الماء وأطعمونا مما رزقكم الله. فناداه الزبير بن العوام: يا نعثل! لا واللّه لا تذوقه". الجمل، ص 146، موقف الزبير من عثمان.
4- "قال أبو مخنف وغيره: حرس القوم عثمان ومنعوا من أن يدخل عليه، وأشار عليه سعيد بن العاص بأن يحرم ويلتيّ ويخرج فيأتي مكة فلا يقدم عليه. فبلغهم قوله فقالوا: واللّه لئن خرج لا فارقناه حتى يحكم اللّه بيننا وبينه، واشتد عليه طلحة بن عبيدالله في الحصار ومنع من أن يدخل إليه الماء، حتى غضب علي بن أبي طالب من ذلك، فأدخلت عليه روايا الماء". أنساب الأشراف، ج6، ص188، مسير أهل الأمصار إلى عثمان ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج31، ص 287، نكير طلحة بن عبيدالله ؛ أمالي الطوسي، ص 715 ، خطبة علي (علیه السلام) لما بلغه مسير طلحة والزبير. قال سفيان: وحدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال كلم علي (علیه السلام) طلحة وعثمان في الدار محصور فقال: إنهم قد حيل بينهم وبين الماء، فقال طلحة: أما حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها فلا". تاريخ المدينة المنورة، ج4، ص 1169، ما روي من الاختلاف في من أعان عثمان أو أعان عليه من أصحاب النبي (صلی اللّه علیه وآله) وأزواجه ، علي يكلم طلحة في العفو عن عثمان فيأبى.

يقول البلاذري: فبعث إليه علي(علیه السلام) بثلاث قرب مملوءة ماءً فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصلت . (1)

غير أن ما يؤسف له أن القضية قدمت للناس بشكل محرّف تماماً، حتى تصوروا أن الإمام علياً (علیه السلام) وأصحابه هم الذين منعوا الماء من الوصول إلى عثمان. وقد استغل الأمويون قضية عطش عثمان استغلالاً سياسياً لتحريض الناس على أمير المؤمنين (علیه السلام) بأن ألقوا في أذهانهم أنه هو الذي حرم عثمان الماء.

عندما سمع معاوية بتحرك جيش العراق صوب الشام، سارع إلى التوجه بجيشه إلى صفين وسدّ طريق مشرعة الفرات وأحكم سيطرته على المنطقة. فسمع الإمام علي (علیه السلام) بسد الطريق إلى الفرات فنصح معاوية بأن يكفّ عن هذا الفعل، فلم يأخذ معاوية بنصيحته. فقال جماعة معاوية أمثال الوليد بن عقبة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح: إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان الماء أربعين يوماً وحصروه، فامنعهم (يا معاوية) إياه حتى يموتوا عطشاً . (2)

واستغلت حادثة عطش عثمان كذلك في واقعة الطف بكربلاء ذريعةً لقتال الحسين (علیه السلام) وتحريض الناس عليه. فقد كتب عبيدالله بن زياد إلى عمر بن سعد : أما بعد! فحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. (3)

ص: 142


1- "فحاصر الناس عثمان ومنعوه الماء، فأشرف على الناس فقال: أفيكم علي؟ فقالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ فقالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحد يُبَلِّغ فيسقينا ماءً؟ فبلغ ذلك علياً فبعث وصلت". أنساب الأشراف، ج6، ص185، مسير أهل الأمصار إلى عثمان.
2- فقال الوليد بن عقبة: يا معاوية! إن هؤلاء حتى يموتوا عطشاً واقتلهم قاتلهم اللّه أنى يؤفكون. قال: ثم تكلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال: لقد صدق الوليد في قوله، فامنعهم الماء، منعهم اللّه إياه يوم القيامة". الفتوح، المجلد الثاني، ص4، ذكر وقعة الماء وهي أول وقعة صفين.
3- "حدثني سليمان بن أبي راشد عن حميد بن مسلم الأزدي قال: جاء من عبيدالله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد! ... عفان". تاريخ الطبري، ج3، ص311، حوادث سنة 61 هجرية.

حب الدنيا

أشعل معاوية حرب صفين بذريعة المطالبة بدم عثمان، فأعد الآلاف من أهل الشام لقتال أمير المؤمنين(علیه السلام). غير أن هناك الكثير من الروايات والوثائق تزخر بها مصادر أهل السنة تؤكد أن المطالبة بدم عثمان لم تكن إلّا ذريعة. أما الدافع الأصلي لحرب معاوية على الإمام علي(علیه السلام) فكان حب الدنيا والسلطة على الشام. يقول معاوية في مواجهته لسفير أمير المؤمنين (علیه السلام) جرير بن عبدالله البجلي: اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام وأنا أبايع له ما عاش. (1)

يقول جويرية في سبب عدم نصرة معاوية لعثمان إن معاوية تعمّد عدم إغاثة عثمان وتركه يقتل

لكي يستغل مقتله في الحصول على حكم الشام. (2)

ويشير البلاذري أيضاً إلى خطة معاوية فيقول إن سبب عدم إغاثة معاوية لعثمان هو أن يُقتل

فيخلفه لما كان بينهما من قرابة . (3)

بعد أن تم لمعاوية صلح الإمام الحسن (علیه السلام) واستولى على الحكم، كشف بكل صراحة عن دوافعه وخططه التي أنتجت تلك الصراعات والحروب. فقال مخاطباً أهل العراق: واللّه إني ما

ص: 143


1- أن معاوية قال لجرير البجلي لما قدم عليه رسولاً، بعد محاورة طويلة: اكتب .. ما عاش". سير أعلام النبلاء، ج3، ص140،الرقم 25، ترجمة معاوية بن أبي سفيان ؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص 539، حوادث سنة 37 هجرية.
2- "حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا جويرية قال: أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، فبعث معاوية يزيد بن أسد جد خالد القسري وقال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، قال: أنا الشاهد وأنت الغائب. فأقام بذي خشب حتى قتل. فقلت لجويرية: لم صنع هذا؟ قال: صنعه عمداً ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه". تاريخ المدينة المنورة، ج4، ص 1289.
3- "لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده، بعث يزيد بن أسد القسري جدّ خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق وقال له: إذا أتيت ذا خشب فأقم بها ولا تتجاوزها ولا تقل: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال: فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان. فاستقدمه حيمئذ معاوية، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه. شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 154، ذيل الخطبة 37.

قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم كارهون . (1)

كما أن صفة حب الدنيا والسلطان تصبغ أصحاب معاوية المقربين أمثال عمرو بن العاص كذلك. فعندما دعا معاوية عمرو بن العاص للوقوف إلى جانبه، اشترط عمرو لذلك أن يعطيه

معاوية حكم مصر. (2)

كما يُنقل كلام آخر عن عمرو بن العاص في هذا المجال يبيّن بوضوح وشفافية أن حب الدنيا كان الدافع الوحيد لمخالفة أمير المؤمنين (علیه السلام) ومحاربته. فقد ذهب عمرو بن العاص بعد مقتل عثمان إلى الشام وسمع معاوية يحدث أهلها بمقتل عثمان ويحرضهم على المطالبة بدمه. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا معاوية قد أحرقت كبدي بقصصك. أترى إن خالفنا علياً لفضل منا عليه؟ لا واللّه، إن هي إلّا الدنيا نتكالب عليها. أما واللّه لتقطعن لي من دنياك أو لأنابذنك. فوعده معاوية بولاية مصر. (3)

كان معاوية وعمرو بن العاص يفتشان عن أرضية تمهد لهم طريق آمالهم وأحلامهم، فلم يجدا أفضل من دم عثمان. ونجحا في ركوب موجة المطالبة بدم عثمان والتحرك صوب تحقيق غاياتهما. وبما أنهما كانا مدفوعين بالدافع نفسه، وهو حب الدنيا والسلطان، فإنهما لم يتورعا في سلوك أي طريق من أجل الوصول إليه. ولو لم يُقتل عثمان لبحثا عن ذريعة أخرى لمحاربة الإمام علي (علیه السلام) لذا

ص: 144


1- "روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة، ثم خطبنا فقال: واللّه إني ... كارهون". مصنف بن أبي شيبة، ج 7، ص 251، كتاب الأمراء، ما ذكر من حديث الأمراء والدخول عليهم ؛ شرح نهج البلاغة، ج 16، ص46 ، ذيل ترجمة الحسن بن علي (علیه السلام) وذكر بعض أخباره.
2- "قال معاوية لعمرو: يا أباعبد اللّه إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة، أظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم . قال عمرو: إلى من؟ قال: إلى جهاد علي. قال: فقال عمرو: واللّه يا معاوية، ما أنت وعلي بعكمي بعير. ما لك هجرته ولا سابقته ولا صحبته ولا جهاده ولا فقهه وعلمه. واللّه إن له مع ذلك حداً وجداً وحظاً وحظوة وبلاء من الله حسناً. فما تجعل لي إن شايعتك على حربه وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال: حكمك. قال: مصر طعمة. قال: فتلكأ معاوية". وقعة صفين، ص 37 و 38 ، مسير عمرو إلى معاوية وحديثه معه.
3- فأتى معاوية فوجده يقص ويذكر أهل الشام في دم الشهيد. فقال له: يا معاوية! ... لأنا بذنك". سير أعلام النبلاء، ج3، ص72، ترجمة عمرو بن العاص، الرقم 15.

يقول عمرو بن العاص لعائشة: لوددت أنك قتلت يوم الجمل. فسألته عائشة: ولمّ، لا أبا لك؟ فقال: كنت تموتين بأجلك وتدخلين الجنة ونجعلك أكبر التشنيع على علي بن أبي طالب. (1)

وكان الإمام علي(علیه السلام) يعرف احتيالات ومؤامرات عمرو بن العاص الدنيئة جيداً، فقد خاطبه في رسالة وجهها إليه ذاماً تهافته على الدنيا قائلاً: فإنك جعلت دينك تبعاً لدنيا امري ظاهر غيه مهتوك ستره، يشين الكريم بمجلسه ويسفه الحليم بخلطته فاتبعت أثره وطلبت فضله اتباع الكلب للضرغام يلوذ إلى مخالبه وينتظر ما يلقى إليه من فضل. (2)

ويشير الإمام (علیه السلام)في موضع آخر إلى حب عمرو للدنيا وسبب تعاونه مع معاوية، ويقول: ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا. (3)

أما عتبة بن أبي سفيان فيقول شعراً يكشف فيه عن سريرة عمرو بن العاص وسبب وقوفه إلى جانب معاوية. يقول مخاطباً معاوية: أعط عمرواً إن عمرواً باذلٌ ... دينه اليوم لدنيا لم تحز. (4)وهذا يزيد بن قيس(5) يحفز المحاربين في حرب صفين بقوله خاطباً فيهم: إن هؤلاء القوم واللّه ما إن يقاتلونا على إقامة دين رأونا ضيعناه ولا إحياء عدل رأونا أمتناه ولا يقاتلونا إلّا على إقامة الدنيا ليكونوا جبابرة فيها ملوكاً .

ص: 145


1- "قال لعائشة : ... بن أبي طالب. شرح نهج البلاغة ، ج 6، ص 322، ذيل الخطبة 83 ، نبذ من كلام عمرو بن العاص.
2- نهج البلاغة، الرسالة 39.
3- نهج البلاغة، الخطبة 26.
4- أنساب الأشراف، ج2، ص 288، قدوم عمرو بن العاص على معاوية وطلبه عنه مصر رشوة.
5- كان يزيد بن قيس على فترات مختلفة، والياً عن أمير المؤمنين (علیه السلام)على الري وهمدان والمدائن وإصفهان. شهد مع الإمام (علیه السلام) الجمل وصفين والنهروان، ولكنه مال إلى الخوارج بعد صفين ولكن أمير المؤمنين(علیه السلام) أعاده إلى جادة الصواب فقاتلهم في النهروان ، تاريخ الطبري، ج3، ص110، حوادث سنة 37 هجرية، اعتزال الخوارج علياً (علیه السلام) وأصحابه ورجوعهم بعد ذلك؛ قاموس الرجال، ج11، ص110 ، ترجمة يزيد بن قيس، الرقم 8449.

ومروان بن الحكم، لما أمره معاوية بالخروج إلى مالك الأشتر في صفين، كشف عن نيته ولم يمتثل لمعاوية وطلب منه، بدلاً من ذلك، أن يأمر عمرو بن العاص بمقابلة مالك الأشتر، بعد أن وهبه مصر. ولأنه لم يهب مصر له فلم يجد سبباً يدفعه إلى القتال. (1)

ص: 146


1- أن معاوية دعا مروان بن الحكم فقال: يا مروان إن الأشتر قد غمني [ أو أقلقني]، فاخرج بهذه الخيل في كلاع ويحصب فالقه فقاتل بها. فقال له :مروان ادع لها عمرواً فإنه شعارك دون دثارك. قال: وأنت نفسي دون وريدي. قال: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء أو ألحقته بي في الحرمان. ولكنك أعطيته ما في يديك ومنيته ما في يدي غيرك. فإن غلبت طاب له المقام، وإن غُلبت خفّ عليه الهرب". وقعة صفين، ص 439 ، معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص.

كلام ابن تيمية ونقده

المناسب هنا أن نتطرق إلى شبهة يثيرها ابن تيمية حول حروب أمير المؤمنين (علیه السلام) ونرد عليها. يقول ابن تيمية إن الإمام (علیه السلام)كان - والعياذ باللّه - يطلب الدنيا في قتاله الناكثين والقاسطين والمارقين: وعلي يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال، فكيف يجعل هذا قتالاً على الدين؟ (1)

ويقول في موضع آخر: وقتل النفوس فساد، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريداً للعلوّ في

الأرض والفساد ولم يكن من أهل السعادة في الآخرة . (2)

ص: 147


1- منهاج السنة النبوية، ج4، ص 569، فصل: قال الرافضي: الفصل السادس في نسخ حججهم على إمامة أبي بكر.
2- منهاج السنة النبوية، ج3، ص 143 ، عود الرافضي - إلى الكلام عن معاوية.

نقد كلام ابن تيمية

طلب معاوية ،في بداية الأمر، من أمير المؤمنين(علیه السلام) أن يعطيه حكم الشام ليبايعه. فكيف كان لأمير المؤمنين (علیه السلام) أن يمنح حكماً على واحدة من أكبر ولايات الدولة الإسلامية لعدو من أعداء الإسلام ونبيه (صلی اللّه علیه وآله) و يشرب الخمر(1) ويأكل الربا (2) ويتاجر بالأصنام(3) ويبذل كل ما يملك من أجل تحريف الحقائق الدينية ومحو اسم النبي(صلی اللّه علیه وآله)(4) ويضع تحت تصرفه أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم؟ فإذا كان قد فعل ذلك من كان قبله من الخلفاء، فيجب أن يُسألوا :بأية حجة جعلتم هذا الرجل الفاسد والياً على الشام؟

هل إن محاربة رجل ينشر الفرقة بين المسلمين ويؤلب الناس على أمير المؤمنين بحجة دم عثمان، من حب الدنيا في شيء؟ كيف كان يمكن أن يتعامل أمير المؤمنين (علیه السلام) مع شخص كهذا؟ مع هذا، فقد صرف أشهراً في مكاتبته وبعث السفراء إليه... دون جدوى.

ص: 148


1- "روى محمد بن كعب القرظي قال: غزا عبدالرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ومعاوية أمير على الشأم (هكذا: م) فمرت به روايا تحمل الخمر فقام إليها عبدالرحمن فشقها برمحه فمانعه الغلمان فبلغ الخبر معاوية فقال: دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله. فقال: واللّه ما ذهب عقلي ولكن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) نهانا أن تدخل بطوننا وأسقيتنا". أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص 454 ، ترجمة عبدالرحمن بن سهل بن زيد، الرقم 3328.
2- "أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ينهى عن مثل هذا إلّا مثلاً بمثل. فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول (صلی اللّه علیه وآله) ويخبرني عن رأيه. لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن لا تبيع ذلك إلا مثلاً بمثل، وزناً بوزن". الموّطأ ، ج 2، ص 634، كتاب البيوع، الحديث 33.
3- " عن أبي وائل قال: كنت مع مسروق بالسلسلة فمرّت به سفائن فيها أصنام من صفر تماثيل الرجال، فسألهم عنها فقالوا: بعث بها معاوية إلى أرض السند والهند تباع له. فقال مسروق: لو أعلم أنهم يقتلونني لغرّقتها ولكني أخاف أن يعذبوني ثم يفتنوني، واللّه ما أدري أي الرجلين معاوية ؛ أرجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع من الدنيا أم رجل زيّن لو سوء عمله". أنساب الأشراف، ج 5، ص 137، معاوية بن أبي سفيان.
4- شرح نهج البلاغة، ج5، ص 129 و 131، شرح الخطبة 60، أخبار متفرقة عن معاوية.

ألم ير ابن تيمية النصوص المتواترة عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه واله) في كتب أهل السنة المصرحة بقوله"علی(علیه السلام) مع الحق والحق مع علي(علیه السلام)؟ هل يجتمع طلب الحق مع طلب الدنيا؟

وإذا تنزلنا واكتفينا بما اتفق عليه أهل السنة من أن الإمام علياً(علیه السلام) أحد العشرة المبشرة

بالجنة، فكيف يحكم ابن تيمية بأنه ليس من أهل السعادة في الآخرة.

كيف يصف حروب الإمام علي (علیه السلام) بأنها مدفوعة بحب الدنيا وهي التي ما حدثت إلاّ بأمر النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بالتصدي للقاسطين (1) وقد حث (صلی اللّه علیه وآله) أصحابه على الوقوف في صف الإمام (علیه السلام) ؟

هل حذا ابن تيمية حذو من سبقه في الاجتهاد مقابل النص ومعارضة رأي رسول اللّه ب برأيهم ؟ أم أنه لم يكن إلّا من بقايا الشجرة الأموية الملعونة؟

إذا كان قادة القاسطين أمثال معاوية وعمرو بن العاص يعترفون بأنفسهم بحب الدنيا ويقرون

بأنهم الفئة الباغية، فكيف سوّغ ابن تيمية لنفسه وصف محاربتهم بالإفساد في الأرض؟

ثم إن علماء أهل السنة وكبرائهم يخالفون رأي ابن تيمية. يقول عبدالقاهر الجرجاني في كتاب "الإمامة": أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أن علياً مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له. (2)

ويقول العالم السني ابن عربي، فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن علياً(علیه السلام) كان إماماً وأن كل من خرج عليه باغ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح. (3)

ص: 149


1- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 7، ص238، کتاب الفتن، باب في ما كان بينهم يوم صفين.
2- "أجمع ... ظالمون له لكن لا يكفرون ببغيهم". فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، ج6، ص477.
3- أحكام القرآن، ج8، ص 449 - 450 ، تفسير الآية 9 من سورة الحجرات.

الجهل والغفلة

تعود بعض جذور عداء أهل الشام لأهل البيت (علیهم السلام) إلى الجهل وعدم المعرفة بمنزلتهم. ولو كانوا يعرفون قليلاً من فضائل الإمام (علیه السلام)، لما نجح معاوية في جذبهم إلى صفه للقتال في معركة صفين. فقد كان إسلام أهل الشام ظاهرياً ولم يكن لهم أية معرفة أولية بالأمور الدينية.

يروي المؤرخ المسعودي حكايات رائعة عن جهل أهل الشام ،فينقل عن الجاحظ: سمعت رجلاً من العامة وهو حاج وقد ذكر له البيت (بيت اللّه) يقول : إذا أتيته من يكلمني؟ وأنه أخبره صديق له أنه قال له رجل منهم من أهل الشام) وقد سمعه يصلي على محمد(صلی اللّه علیه وآله) : ما تقول في محمد(صلی اللّه علیه وآله) هذا؟ أربنا هو؟ (1)

ويضيف المسعودي نقلاً عن أحد أصحابه: أخبرني رجل من إخواننا من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر وعلي (علیه السلام) ومعاوية ونذكر ما يذكره أهل العلم وكان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا. فقال لي ذات يوم بعضهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية: كم تطنبون في علي (علیه السلام) ومعاوية وفلان وفلان؟ فقلت له: فما تقول أنت في ذلك؟ قال: من تريد؟ قلت: علي (علیه السلام)، ما تقول فيه؟ قال: أليس هو أبو فاطمة؟ قلت: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بنت عائشة أخت معاوية. قلت : فما كانت قصة على (علیه السلام) ؟ قال: قتل في غزاة الحنين مع النبي (صلی اللّه علیه وآله) (2)

فإذا كان هذا حال عالم من علماء أهل الشام، فيمكن حدس ما كانت عليه عامة أهل الشام. لقد بلغ جهلهم أن رجلاً من أهل الكوفة دخل دمشق على بعير عندما كان أهل الشام عائدين من صفين، فانتزع رجل دمشقي الجمل منه وقال له: هذه ناقتي وقد سرقتها مني في صفين. فتخاصم الرجلان لدى معاوية. فجاء الدمشقي بخمسين رجلاً يشهدون أن الناقة له. فحكم معاوية لصالح الدمشقي وأمر بتسليمه الجمل. فقال الكوفي : أصلحك اللّه ! إن هذا الجمل ليس ناقة وإن أهل دمشق شهدوا على أن الناقة للرجل. فقال معاوية: أصدرنا حكمنا وقضي الأمر.

ص: 150


1- حكى الجاحظ قال: سمعت ... هو؟" مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص 40، من غفلة أهل الشام والعراق.
2- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص41، من غفلة أهل الشام والعراق.

وبعد تفرق الناس دعا معاوية الرجل الكوفي سراً فسأله عن ثمن جمله وأعطاه ضعفه وقال له:

قل لعلي أنني أقاتله بمائة ألف رجل ليس فيهم من يميز الناقة من الجمل.

بل بلغ اتباع الشاميين الأعمى لمعاوية أن صلى بهم صلاة الجمعة في يوم أربعاء وهم في طريقهم إلى صفين، وعاهدوه على أن يبذلوا أنفسهم في نصرته، وشجعوه على القتال ووثقوا بكلام عمرو بن العاص حين قال: علي هو قاتل عمار بن ياسر لأنه هو من جاء به إلى الحرب.

كما أن طاعتهم العمياء لمعاوية هي التي سوّغت لهم لعن الإمام علي (علیه السلام)وجعلها سنة بأمره، حتى كبر عليها الصغار وشاخ ومات الكبا. (1)

كان معاوية وحكام بني أمية عموماً يتحكمون في إيصال العلوم الدينية للناس ويحجبون الحقائق عنهم ،لأنهم كانوا يدركون أن السيطرة على المجتمع الجاهل أسهل. يقول الإمام الصادق (علیه السلام) في هذا : إن بني أمية أطلقوا للناس تعليم الإيمان ولم يطلقوا تعليم الشرك لكي إذا حملوهم عليه لم يعرفوه.(2)

للعلامة المجلسي توضيح رائع للشرك يكشف لنا سبب اتباع بني أمية تلك السياسة التعليمية والثقافية ( عدم تعليم الناس الشرك)، يقول: أن آيات الشرك ظاهرها في الأصنام الظاهرة وباطنها في خلفاء الجور الذين أشركوا مع أئمة الحق ونصبوا مكانهم. (3)

ص: 151


1- وبلغ من إحكامه للسياسة وإتقانه لها واجتذاب قلوب خواصه وعوامه أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي ، أخذت مني بصفين. فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينة يشهدون أنها ناقته. فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه. فقال الكوفي: أصلحك الله ! إنه جمل وليس بناقة. فقال معاوية: هذا حكم قد مضى. ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً(علیه السلام) أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل. وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياً هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته. ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته أن جعلوا لعن علي سنة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص39، من دهاء معاوية.
2- "أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال : إن بني أمية ... يعرفوه". الكافي، ج 2، ص 415 ، كتاب الإيمان والكفر، باب أدنى ما يكون فيه العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاً.
3- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 48، ص 96، تاريخ الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام) ، باب معجزاته.

وكان حكام بني أمية يدركون جيداً أن الناس إذا عرفوا معنى الشرك الحقيقي لم يطيعوهم ولم

يتبعوهم، لأن إطاعة حكام الجور مشوبة بالشرك.

( في معركة صفين) خرج عليهم ( على أهل العراق) شاب (شامي) وهو يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان *** والدائن اليوم بدين عثمان

نبأنا قرّاؤنا بما كان *** أن علياً قتل ابن عفان

ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن. فقال له هاشم (المرقال): يا هذا ! إن هذا الكلام بعده الخصام وإن هذا القتال بعده الحساب. فاتق اللّه فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي وأنتم لا تصلون وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله. فقال له هاشم: ما أنت وعثمان؟ قتله أصحاب رسول الله (صلی اللّه علیه وآله) وأبناء أصحابه وقرّاء الناس، وهم أهل الدين والعلم، وما أهملوا أمر هذا الدين طرفة عين. وأما قولك أن صاحبنا لا يصلي، فإنه أول من صلى وأفقه خلق اللّه في دين الله وأولى بالرسول (صلی اللّه علیه وآله) وأما كل من ترى معي، فكلهم قارئ لكتاب اللّه لا ينام الليل تهجداً. فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء. فقال الفتى: فهل لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى اللّه يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فرجع الفتى، فقال له أهل الشام: خدعك العراقي. فقال : كلا، ولكن نصح لي(1) ثم التحق الشاب الشامي بمعسكر الإمام(علیه السلام) وقاتل بين يدي أمير المؤمنين (علیه السلام).

لقد بلغ جهل أهل الشام أنه بعد سقوط دولة الأمويين ذهب عدد من رؤساء الأسرة الأموية إلى الخليفة العباسي أبي العباس السفاح وأقسموا عنده أنهم لم يكونوا يعرفون قرابة الرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) غير بني أمية. (2)

ص: 152


1- الكامل في التاريخ، ج 2، ص 384 ، حوادث سنة 37 هجرية.
2- "وجه إلى أبي العباس أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة من سائر أجناد الشام فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا الرسول اللّه(صلی اللّه علیه واله) لها قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص41، من غفلة أهل الشام والعراق.

معاداة أمير المؤمنين (علیه السلام)

دخل جيش الشام الحرب على أمير المؤمنين(علیه السلام) بحجة المطالبة بدم عثمان، وشنوا حملة إعلامية واسعة في هذا المجال. ولكن الحقيقة كانت شيئاً آخر، وكانت لهم دوافع عديدة أخرى لإشعال تلك الحرب. وكان من مصلحتهم أن لا يعرف الشاميون بحقيقة تلك الدوافع. بل إنهم سعوا إلى إدخال الشك والترديد في صفوف جيش الإمام بنشر الإشاعات الكاذبة.

بالمقابل، عمل أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنصاره على كشف الحقائق وتنوير الجنود وإطلاعهم على حقيقة نوايا قادتهم. فقد خطب أمير المؤمنين(علیه السلام) في صفين وقال: ألا إنها إحن بدرية وضغائن أحدية وأحقاد جاهلية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليذكر بها ثارات بني عبد شمس .(1)

ولعل من أجمل الخطب التي ألقيت قبل التحرك إلى صفين، ما خطب به القائد في جيش الإمام (علیه السلام)، عبدالله بن بديل. لقد كشفت خطبته بوضوح عن عمق بصيرته. إذ تطرق إلى جذور أسباب الحرب التي أشعلها الشاميون، وقدمت تحليلاً شاملاً لنوايا قادة جيش القاسطين. وحددت أسباب مخالفتهم لأمير المؤمنين(علیه السلام) بالتهرب من العدالة وحب السلطان والأحقاد الدفينة والثارات وحب الدنيا. وبيّن عبدالله بن بديل في خطبته أن الصلح مع القاسطين من المحال لأن جذور الفتنة ضاربة في أعماقهم بحيث لا يمكن اجتثاثها إلّا بالسيف. لذا خاطب عبدالله بن بديل أمير المؤمنين (علیه سلام) قائلاً: يا أمير المؤمنين! إن القوم لو كانوا اللّه يريدون أو اللّه يعملون ما خالفونا، ولكن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة وحباً للأثرة وضناً بسلطانهم وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم وعلى إحن في أنفسهم وعداوة يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ص: 153


1- الفتوح، المجلد الثاني، ص172 ، ذكر الواقعة الخميسية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها وصفة ليلة الهرير.

ثم التفت إلى الناس فقال: فكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه حنظلة وخاله الوليد وجده عتبة في موقف واحد؟ واللّه ما أظن أن يفعلوا ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران

وتقطع على هامهم السيوف وتنثر حواجبهم بعمد الحديد وتكون أمور جمة بين الفريقين. (1)

إن سيف أمير المؤمنين (علیه السلام) طالما ذبّ عن الحق ولم تمنعه ذلك أية مصلحة. وهذا ما أطاح برؤوس الكثير من زعماء قريش وكبرائهم الذين جابهوا الإسلام. وهذا أيضاً ما زرع البغض والحقد في قلوب أخلافهم الذين أظهروا الإسلام في فتح مكة وأضمروا ضغائنهم على المسلمين الحقيقيين وعلى رأسهم الإمام علي(علیه السلام) فكانوا يتحينون الفرص للانتقام منه ومن أهل بيته. وكان قادة القاسطين أكثر الناس طلباً للثارات من أمير المؤمنين(علیه السلام) لأنهم أصحاب الحظ الأوفر من حصاد سيفه بما قتل بدر وأحد. لذا اتخذوا من حرب صفين جسراً إلى الثأر منه. ففي حين كانوا يتذرعون بالمطالبة بدم عثمان، كانوا في الحقيقة يثأرون لمن قتل من آبائهم وأجدادهم.

اجتمع عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبدالله بن عامر(2) وابن طلحة الطلحات في يوم من أيام صفين. فالتفت عقبة إلى الحاضرين وقال: إن أمرنا مع علي لعجيب. لقد ظلمنا علي جميعنا ولدى كل منا دافع لقتاله. أما أنا فقد قتل جدي وشرك في دماء أعمامي في بدر. وأما أنت يا وليد فقد قتل أباك في الجمل وأيتم إخوتك. وأما أنت يا مروان فكما قال امرؤالقيس

ص: 154


1- "ثم قام عبد اللّه بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال: يا أمير المؤمنين ... الفريقين". وقعة صفين، ص 102، رأي عبد اللّه بن بدیل.
2- عُين عبد اللّه بن عامر بن كريز في زمن عثمان والياً على البصرة وفارس وخراسان، حقق ثروة طائلة في حروب عثمان وفتوحاته، فكانت له مزارع وبساتين كثيرة في العراق والشام والحجاز. وكان له حضور فعال في حرب الجمل فقد موّلها من أمواله التي حصل عليها بالسرقة. يقول ابن الأثير : اشترى عبد اللّه بن عامر منازل كثيرة في البصرة وحوّلها إلى أسواق ومراكز تجارية. وبعد وصول الخلافة إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) هرب عبد اللّه إلى مكة وزود الناكثين بمليون درهم ومائة جمل ليخرجوا على أمير المؤمنين(علیه السلام). أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 289 ، ترجمة عبد اللّه بن عامر بن كريز، الرقم 3033 ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 394، ذكر الأخبار عن يوم الجمل وبدئه وما كان فيه من الحرب وغير ذلك ؛ قاموس الرجال، ج6، ص 417، ترجمة عبد اللّه بن عامر بن كريز، الرقم 4382.

[بيت شعر يعني: لقد أثكلت علباء (قاتلة أبي أو قاتل أبي) زوجه وأبناءه حتى أنهم إذا لقوه (أو

لقوها) سفكوا دمه (أو دمها) في الحال .(1)

الحادثة نفسها مذكورة في مناقب الخوارزمي بشكل آخر: يروى في يوم السادس والعشرين من حروب صفين [أنه] اجتمع عند معاوية الملأ من قومه، فذكروا شجاعة علي وشجاعة الأشتر. فقال عتبة بن أبي سفيان: إن كان الأشتر شجاعاً لكن علياً لا نظير له في شجاعته وصولته وقوته. قال معاوية: ما منا أحد إلّا وقد قتل علي أباه أو أخاه أو ولده قتل يوم بدر أباك يا وليد وقتل عمك يا أبا الأعور يوم أحد وقتل يا ابن طلحة الطلحات (2) أباك يوم الجمل، فإذا اجتمعتم عليه أدركتم تأركم منه وشفيتم صدوركم . (3)

لقد بلغ حقد هؤلاء على أمير المؤمنين(علیه السلام) أن غيّروا السنن الإسلامية بسببه. فقد دفع على الإمام علي(علیه السلام) معاوية إلى أن يقطع التلبية في أيام الحج، ويمنع الناس من أدائها في أيام الحج، فاستجابوا له خوفاً منه. ولما رأى ابن عباس ذلك سأل سعيد بن جبير عن السبب فقال له سعيد: يخافون معاوية. فخرج ابن عباس من فسطاطه فقال : لبيك اللهُّمَ لبّيك وإن رغم أنف معاوية ، اللهُمَّ العنهم فقد تركوا السنة من بغض علي.

قال السندي في التعليق عليه هو يعني علياً(علیه السلام) كان يتقيد بالسنن فهؤلاء تركوها بغضاً له). (4)

وكان مما نشره معاوية من بغض لأمير المؤمنين(علیه السلام) بين أهل الشام أن صار النصب والعداء له ثقافة متجذرة لدرجة أنهم لم يكونوا يسمون أولادهم بأسماء علي أو حسن أو حسين. ينقل أبوالحسن المدائني عن رجل قوله: كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحداً يسمي أحداً أو يناديه: يا علي

ص: 155


1- وقعة صفین، ص 417 ، اجتماع بعض الرؤساء عند معاوية.
2- طلحة الطلحات لقب طلحة بن عبد اللّه خلف الخزاعي الذي قتل في الجمل وكان مع عائشة.
3- المناقب، ص 234 ، الفصل الثالث في بيان قتال أهل الشام أيام صفين وهم القاسطون.
4- أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنبأ عبد اللّه بن محمد بن الحسين بن الشرقي ثنا علي بن سعيد النسوي ثنا خالد بن مخلد ثنا علي بن صالح عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو بن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس بعرفة فقال: يا سعيد ما لي لا أسمع الناس يلبون؟ فقلت: يخافون معاوية ... بغضاً له". السنن الكبرى للبيهقي، ج5، ص 245، الحديث 9530 ؛ سنن النسائي، ج 5، ص 253، التلبية بعرفة.

أو يا حسن أو يا حسين، وإنما أسمع: معاوية والوليد ويزيد، حتى مررت برجل فاستسقيته ماءً فجعل ينادي: يا علي ،يا حسن، يا حسين. فقلت: يا هذا ! إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء. قال: صدقت، إنهم يسمون أبناءهم بأسماء الخلفاء وأنا سميت أولادي بأسماء أعداء اللّه، فإذا شتمت أحدهم أو لعنته فإنما ألعن أعداء اللّه(1).

هكذا غيرت الماكنة الإعلامية الأموية الحقائق لدى أهل الشام حتى حسبوا أحب الخلق إلى اللّه وأقربهم إليه "أعداء اللّه. وهذا ما جعلهم يستميتون في صفين ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويتقربون إلى اللّه، ويحلفون أن لا يجمعهم بنسائهم فراش حتى يحققوا النصر.

كان سب أمير المؤمنين(علیه السلام) ولعنه والتبرئ منه على المنابر(2) ومنع تسمية الأبناء يأسماء الإمام علي(علیه السلام)(3) وتقتيل محبيهم وشيعتهم(4) وغيرها من الجرائم، بعض الصحيفة السوداء لحكم بني أمية علم للعالم الإسلامي. وما أوردنا ليس إلّا بعض أسباب مخالفة أمير المؤمنين(علیه السلام) ويبدو أن جذور جميع أسباب المخالفة تمتد في أعماق حب الدنيا وفساد زعماء أهل الشام، وأنه لم يكن أمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلّا مواجهتهم.

ص: 156


1- روى أبو الحسن المدائني قال: حدثني رجل قال: كنت بالشام ... أعداء اللّه". شرح نهج البلاغة، ج7، ص159، ذيل الخطبة 104، أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس.
2- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، ج 10، ص 265 ، لعن معاوية وعماله علياً(علیه السلام).
3- "كانت بنوامية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه، فبلغ ذلك رباحاً، فقال: هو عُلَيّ. وكان يغضب من علي ويجرح من سماه به". تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج13، ص 266 ، ترجمة علي بن رباح، الرقم 4067.
4- تاريخ الطبري، ج 3، ص 127 ، حوادث سنة 38 هجرية ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 6 ، ذيل الخطبة 25، بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن.

ص: 157

ص: 158

الفصل الثاني

اشارة

ص: 159

ص: 160

التحرك إلى صفين

بعد سلسلة من المشاورات والمكاتبات، ألقى الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين(علیهم السلام) خطباً في الناس يحرضونهم على القتال. وتوجه ابن عباس مع جماعة من أشياخ البصرة وأهلها إلى الكوفة والتحقوا بمعسكر أمير المؤمنين(علیه السلام) بعد استكمال الاستعدادات لتحرك الجيش إلى الشام، دعا أمير المؤمنين(علیه السلام) عقبة بن عمرو الأنصاري (1)واستخلفه على الكوفة(2) وأمر الناس بالتجمع في النخيلة.(3)

ص: 161


1- شهد عقبة بن عمرو، المعروف بأبي مسعود الأنصاري، بيعة العقبة الثانية التي حضرها سبعون من زعماء الأوس والخزرج وعاهدوا النبي صلى (اللّه عليه وآله سلم) فيها على المساندة. وهو من صحابة النبي(صلی اللّه علیه وآله) وقد شهد بدراً واحداً وغيرها من حروبه. هناك اختلاف في وفاته بين سنة 40 وسنة 42 هجرية. وفي شخصيته أقوال. فابن أبي الحديد يعده فيمن انحرف عن أمير المؤمنين علام، ويورد شواهد على أنه لم يكن يعرف أمير المؤمنين(علیه السلام) حق معرفته ، وأنه كان يفتي بحضور الإمام(علیه السلام) وبدون إذنه، وأن كانت فتاواه خاطئة حتى أن الإمام (علیه السلام)كان يوبخه عليها. أما العلامة المامقاني فله رأي مختلف عن رأي ابن أبي الحديد، ويراه ثقة ويقول عنه: إن إسناد أمير المؤمنين (عليه السلام) إمارة الكوفة له عند خروجه منها يكفي دليلاً على ثقة الإمام(علیه السلام) علم به وعلى عدالته. لأن من غير المعقول أن يسلّم الإمام(علیه السلام) زمام أمور المسلمين لرجل غير عادل، على أن هناك أقوالاً عنه تدعم رأي المامقاني فيه. فمثلاً، ينقل ابن أبي الحديد أن أبا مسعود الأنصاري كتب إلى سليمان في أثناء حرب صفين يدعوه إلى الثبات على نصرة أمير المؤمنين(علیه السلام) على القاسطين. كما جاء في تاريخ اليعقوبي أن أبا مسعود قال مادحاً أمير المؤمنين(علیه السلام) بعد وصول الخلافة إليه: من له يوم كيوم علي(علیه السلام) في العقبة وبيعة الرضوان، وأي إمام أهدى من علي(علیه السلام) علم الذي لا يخاف منه ظلم، ومن أعلم منه لا يُخشى عليه جهل؟ الإصابة في تمييز الصحابة، ج 4، ص 432، ترجمة عقبة بن عمرو، الرقم 5622 ؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج13، ص133، ترجمة عقبة بن عمرو، الرقم 4568؛ شرح نهج البلاغة، ج 4 ، ص76 ، ذيل الخطبة ،56 ، فصل في ذكر المنحرفين عن علي (علیه السلام) و ج 5 ، ص 247، ذيل الخطبة ،65 ، من أخبار يوم صفين ؛ تنقيح المقال في علم الرجال، ج 2، ص255، ترجمة عقبة بن عمرو، الرقم 7976 ؛ تاريخ اليعقوبي، ج2، ص179، خلافة أمير المؤمنين(علیه السلام).
2- "دعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة وكان أصغر أصحاب العقبة السبعين". وقعة صفین، ص121، كتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر.
3- النخيلة كانت مقر عسكر الكوفة.

تحريض أهل الشام من قبل معاوية

لما وصلت معاوية أنباء استعداد الإمام(علیه السلام) للزحف بجيشه، قام بنشر قميص عثمان المخضب بالدم على منبر مسجد دمشق لتهييج الناس وتحريك مشاعرهم. وقد نجح في استثارتهم حتى اجتمع الكثير من شيوخ الشام حول قميص عثمان وبكوا لمظلوميته. فانتهز معاوية حالة الناس المهتاجة وعاد إلى تعليق تهمة قتل عثمان في عنق الإمام علي (علیه السلام) وسط بكاء الناس. وأكد مرة أخرى على المطالبة بدم عثمان وهيأ الناس للزحف .

(1)

لقد بذل معاوية جهداً إعلامياً كبيراً في تلك الفترة لتلقين الناس بأن الإمام علياً(علیه السلام) هو الذي قتل عثمان. وهذا ما دفع جماعة من أهل الشام إلى أن يحلفوا أن لا يؤويهم مخدع مع نسائهم ما لم ينتقموا لعثمان. ونجحت الخطة الإعلامية في خداع الرأي العام نجاحاً كبيراً بحيث يقول خريم الأسدي في أثناء حرب صفين:

إلى رجب أو غرة الشهر بعده *** يصبحكم حمر المنايا وسودها

ثمانين ألفاً دين عثمان دينهم *** كتائب فيها جبرئيل يقودها

فمن عاش عبداً عاش فينا ومن يمت *** ففي الناريسقى مهلها وصديدها(2)

ص: 162


1- "لما بلغ معاوية بن أبي سفيان مكان علي بالنخيلة ومعسكره بها، ومعاوية بدمشق قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان وهو مخضب بالدم وحول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون [ حوله ] لا تجف دموعهم على عثمان، خطب معاوية أهل الشام فقال: يا أهل الشام! قد كنتم تكذبوني في علي، وقد استبان لكم أمره. واللّه ما قتل خليفتكم غيره وهو أمر بقتله وألب الناس عليه وآوى قتلته وهم جنده وأنصاره وأعوانه. وقد خرج بهم قاصداً بلادكم [ودياركم] لإبادتكم. يا أهل الشام الله الله في عثمان، فأنا ولي عثمان وأحق من طلب بدمه وقد جعل الله لولي المظلوم سلطاناً. فانصروا خليفتكم [المظلوم] فقد صنع به القوم ما تعلمون ؛ قتلوه ظلماً وبغياً، وقد أمر الله بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر اللّه". وقعة صفين، ص 12، خطبة معاوية في أهل الشام.
2- فأجابه خريم الأسدي: إلى رجب .. وصديدها". وقعة صفين، ص 555، إجابة خريم الأسدي.

وقت تحرك جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى صفين

أخيراً، انطلق جيش الإمام (علیه السلام)

صوب صفين في يوم الأربعاء الخامس من شوال سنة 36 هحرية. يقول ياقوت الحموي عن الموضع الذي تقاتل فيها جيشا الشام والعراق: تقع صفين بين الرقة وبالس (1)ويقدم سبط بن الجوزي وصفاً أوسع لمنطقة صفين إذ يقول: صفين قرية من قرى الروم على شاطئ الفرات مما يليها غياض ملتفة بمقدار فرسخ أو فرسخين وليس لها طريق إلى الماء إلا من مكان واحد. قلت: وعبرت بالمشهد الذي عند صفين وسمعت أهله تقول: هذا مشهد الصفّين ؛ يعنون صف أمير المؤمنين وصف معاوية. (2)

ص: 163


1- بالس منطقة بين حلب والرقة. معجم البلدان، ج1، ص328 . "صفّين: بكسرتين وتشديد الفاء وحالها في الإعراب حال صريفين وقد ذكرت في هذا الباب أنها تعرب إعراب الجموع وإعراب ما لا ينصرف وقيل لأبي وائل شقيق بن سلمة: أشهدت صفيّن؟ فقال: نعم وبئست الصفون: وهو موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس". معجم البلدان، ج3، ص 414.
2- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ج 6، ص 279، حوادث سنة 37 هجرية.

المرور بكربلاء

مرّ الجيش العراقي في طريقه إلى صفين بكربلاء وصلى الجنود فيها. بعد الصلاة، أخذ الإمام(علیه السلام) قبضة من التراب وشمها ثم قال: واهاً لك أيتها التربة! ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب. فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته وهي جرداء بنت سمير وكانت شيعة لعلي، فقال لها زوجها هرثمة: ألا أعجبك من صديقك أبي الحسن؟ لما نزلنا كربلاء رفع إليه من تربتها فشمها وقال: واهاً لك يا تربة ! ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وما علمه بالغيب؟ فقالت: دعنا منك أيها الرجل، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلّا حقاً. فلما بعث عبيدالله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن علي وأصحابه، قال: كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم، فلما انتهيت إلى القوم وحسين(علیه السلام) وأصحابه عرفت المنزل الذي نزل علي فيه والبقعة التي رفع إليه من ترابها والقول الذي ،قاله ،فكرهت مسيري، فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين(علیه السلام) فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل. فقال الحسين(علیه السلام) : معنا أنت أو علينا؟ فقلت: يا ابن رسول اللّه ! لا معك ولا عليك، تركت أهلي وولدي أخاف عليهم من ابن زياد. فقال الحسين: فول هرباً حتى لا ترى لنا مقتلاً فوالذي نفس محمد بيده ،لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله اللّه النار(1) قال: فأقبلت في الأرض هارباً حتى خفي عليّ مقتله.

يتضح من هذه الحادثة أن الإمام الحسين(علیه السلام) لم يمنعه خذلان هر ثمة له من أن يفكر في نجاته من المصير إلى جهنم بسبب ذلك الخذلان. كما تكشف الحادثة، من جانب آخر، عن عمق ضلالة هر ثمة الذي خذل الإمام الحسين (علیه السلام) رغم سماعه لما بشّر به أمير المؤمنين(علیه السلام) الدال على حقانية من يستشهد مع الحسين (علیه السلام) ودخوله الجنة بغير حساب.

ص: 164


1- عن أبي عبيدة عن هرثمة بن سليم قال: غزونا مع علي بن أبي طالب(علیه السلام) غزوة صفين، فلما نزلنا بكربلاء صلى بنا صلاته، فلما سلّم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال: واها لك ... مقتله". وقعة صفين، ص 140، هرثمة بن سليم والحسين بن علي(علیه السلام) شرح نهج البلاغة ، ج 3، ص 169 ، ذيل الخطبة ،43 كلام علي(علیه السلام) حين نزل بكربلاء.

المرور بالمدائن و الانبار

مرّ الجيش العراقي، في طريقه إلى صفين، بالمدائن حيث التحق به نحو 1200 رجل. وحين وصل الأنبار، ترجل دهاقينها من رواحلهم احتراماً، كما جرت العادة وقتئذ، وهرولوا في ركاب الإمام(علیه السلام) ولكن أمير المؤمنين(علیه السلام) نهاهم عن ذلك وقال لهم: أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون الأمراء، فوالله ما ينفع هذا الأمراء وإنكم لتشقون به على أنفسكم وأبدانكم، فلا تعودوا له. وأما دوابكم هذه فإن أحببتم أن نأخذها منكم فنحسبها من خراجكم أخذناها منكم. وأما طعامكم الذي صنعتم لنا فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئاً إلا بثمن. قال: إذا لا تقومونه قیمته، نحن نكتفي بما دونه. قالوا: يا أمير المؤمنين! فإن لنا من العرب موالي ومعارف، فتمنعنا أن نهدي لهم وتمنعهم أن يقبلوا منا؟ قال: كل العرب لكم موال (أصدقاء). وليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم. وإن غصبكم أحد فأعلمونا. قالوا: يا أمير المؤمنين! إنا نحب أن تقبل هديتنا وكرامتنا. قال لهم ويحكم ،نحن أغنى منكم (1)فتركهم ثم سار.

ص: 165


1- "جاء علي حتى مرّ بالأنبار، فاستقبله بنوخشنوشك دهاقنتها. قال سليمان: خش: طيب. نوشك: راض. يعني بني الراضي، بالفارسية. فلما استقبلوه نزلوا ثم جاؤوا يشتدون معه. قال: ما هذه الدواب التي معكم؟ وما أردتم بهذا الذي صنعتم؟ قالوا: أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء. وأما هذه البراذين فهدية لكم، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاماً وهيأنا لدوابكم علفاً كثيراً. قال: أما هذا الذي زعمتم ... ثم سار". وقعة صفين، ص 144، خبر ماء الدير ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص575، ذكر خروج علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى صفين لمحاربة معاوية.

مقارنة بين تعامل أمير المؤمنين (علیه السلام) وباقي الخلفاء للأعاجم

بهذه الطريقة من التعامل، وبهذه السياسة التي سار عليها أمير المؤمنين(علیه السلام) أبطل الأسلوب القومي الغير العادل الذي اختطه الخلفاء السابقون له في معاملة العجم. فقد رفض أن يأخذ من كدّ أيديهم رغم أنهم كانوا راغبين في تقديمه لجيشه ؛ لأنه ربما كان ذلك منهم خوفاً من بطش الحاكم. لقد تجنب الإمام(علیه السلام)، في كل سياساته، التمييز القومي. فحين جاءته امرأتان إحداهما عربية والأخرى أعجمية لأخذ حصتهما من العطاء، أعطى كل واحدة منهما خمساً وعشرين درهماً وشيئاً من الطعام. فاعترضت عليه العربية لأنه ساواها بالأعجمية فقال(علیه السلام) : واللّه لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق. (1)

إن هذه النظرة والمطالبة بالزيادة والتفضيل تعودان إلى تصرفات الخلفاء السابقين التي اصطبغت بالتمييز العنصري الذي جعل العرب يحسبون أنفسهم أفضل من سائر الأمم. ولابد هنا، للمقارنة بين ما كان يفعله الخلفاء وما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) من إيراد بعض الشواهد النامة

التمييز الذي مارسه الخليفة الثاني:

أ ما كان لابن الأعجمية أن يرث أباه ما لم يكن مولوداً بين العرب (2).

ب - للعربي أن يرث الأعجمي وليس للأعجمي أن يرث العربي. (3)

ص: 166


1- "إن امرأتين أتنا علياً (علیه السلام) عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكراً من طعام، فقالت العربية: يا أميرالمؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم! فقال علي(علیه السلام) : [إني] واللّه لا أجد ... إسحاق". الغارات، ج1، ص70 ، سيرة علي(علیه السلام) في المال ؛ شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 201 ، ذيل الخطبة 34، مناقب علي وذكر طرف من أخباره في عدله وزهده.
2- الموطأ، ج2، ص 520 ، كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الملل، الحديث الرابع عشر.
3- " أن ترثهم العرب ولا يرثوهم . كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 740، الحديث الثالث والعشرون.

ج - ما كان للأعجمي أن يؤم العرب في الصلاة ولا أن يصلي في الصف الأول. (1)

د - كانوا، في الحروب، يرسلون العجم في الخطوط الأمامية ليمهدوا الطريق للعرب. (2)

ه- لم يكن يحق للعجم تولي مناصب قضائية أو حكومية في الدولة الإسلامية. (3)

و - لم يكن لغير العرب الحق في الاستيطان في المدينة. (4)

ز - لم يكن للرجال من غير العرب أن يتزوجوا العربيات، وكان للعرب أن يتزوجوا الأعجميات. (5)

ح - يدفع النصارى العرب الزكاة بدلاً من الجزية كالمسلمين، ويدفع النصارى العجم الجزية. (6)

ص: 167


1- لا يؤم أحد منهم العرب في صلاة ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا حضرت العرب إلا أن يتموا الصف". كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 740 ، الحديث الثالث والعشرون.
2- "أن يقدموا في المغازي يصلحون الطريق ويقطعون الشجر " . كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص740، الحديث الثالث والعشرون
3- "لا تول أحداً منهم ثغراً من ثغور المسلمين ولا مصراً من أمصارهم ولا يلي أحد منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم، فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته". كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 740 ، الحديث الثالث والعشرون.
4- "كان عمر لا يترك أحداً من العجم يدخل المدينة. فكتب إليه المغيرة بن شعبة: إن عندي غلاماً نقاشاً نجاراً حداداً فيه منافع لأهل المدينة، فإن رأيت أن تأذن لي في الإرسال به فعلت. فأذن له وقد كان المغيرة جعل عليه كل يوم درهمين وكان يدعى أبالؤلؤة وكان مجوسياً من أهل نهاوند". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، ص 352، ذكر خلافة عمر بن الخطاب، أبولؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة.
5- " أن تنكح العرب فيهم ولا ينكحوهم". كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 740، الحديث الثالث والعشرون.
6- أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الله بن كثير عن شعبة عن الحكم بن عتيبة قال: سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن زياد بن حدير، وكان زياد يومئذ حياً، أن عمر بعثه مصدقاً، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى العرب نصف العشر"، المصنف، ج6، ص99، صدقة أهل الكتاب، الحديث 10125 .

ط - كان من القبيح على العربي، مع وجود الغلمان من العجم، أن يتخذ غلاماً عربياً (1)حتى أن الخليفة الثاني كان قد أوصى بعتق العبيد العرب من بيت المال. (2)

كانت سياسة عمر مع العجم، بشكل عام، سياسة إذلال، وهذا ما يشير إليه معاوية في كتابه إلى

زياد بن أبيه. (3)

ص: 168


1- "لما ولي عمر بن الخطاب قال: إنه لقبيح بالعرب أن يملك بعضهم بعضاً وقد وسع الله عزّ وجلّ وفتح الأعاجم". الكامل في التاريخ، ج 2، ص 50، حوادث سنة 11 هجرية، ذكر ردة حضرموت وكندة.
2- "كان في وصية عمر بن الخطاب أن يعتق كل عربي في مال الله". المصنف، ج8، ص381، باب الشرط على المكاتب، الحديث15613
3- انظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب. فإن في ذلك خزيهم وذلهم". كتاب سليم بن قيس ،الهلالي، ج 2، ص 740 ، الحديث الثالث والعشرون.

قصة راهب بليخ

بعد اجتياز مختلف المدن، وصل جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى الرقة وكان أهلها على هوى عثمان يناصرون معاوية، فأغلقوا أبواب المدينة بوجه الإمام(علیه السلام) فعسكر الجيش على ساحل الفرات في موضع يقال له "بليخ". وخلال فترة إقامته في بليخ جاء راهب إلى الإمام(علیه السلام) وقال له: إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم، أعرضه عليك. قال علي (علیه السلام): نعم، فما هو؟ قال الراهب: بسم اللّه الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما سطر أنه باعث في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل اللّه لا فظ ولا غليظ ولا صحّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمّادون الذين يحمدون اللّه على كل نشر وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير [ والتسبيح]، وينصره اللّه على كل من ناواه. فإذا توفاه اللّه اختلفت أمته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء اللّه ثم اختلفت. فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق ولا يرتشي في الحكم. الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت [به] الريح، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء، يخاف اللّه في السر وينصح له في العلانية، ولا يخاف في اللّه لومة لائم. من أدرك ذلك النبي (صلی اللّه علیه وآله) من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة. ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره، فإن القتل معه شهادة. [ثم قال له]: فأنا مصاحبك غير مفارقك حتى يصيبني ما أصابك. قال: فبكى علي ثم قال: الحمد للّه الذي لم يجعلني عنده منسياً، الحمد لله الذي ذكرني في كتب الأبرار. مضى الراهب معه وكان، فيما ذكروا، يتغدى مع علي(علیه السلام) ويتعشى حتى أصيب يوم صفين. فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال علي(علیه السلام) : اطلبوه !فلما وجدوه صلى عليه ودفنه وقال: هذا منا أهل البيت. واستغفر له مرارا.

(1)

ص: 169


1- "لما نزل علي الرقة [نزلنا] بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات فنزل راهب [ هناك] من صومعته فقال لعلي (علیه السلام): إن عندنا ... مراراً". وقعة صفين، ص147، حديث راهب بليخ ؛ الفتوح، المجلد الأول، ص 577 ، خبر الراهب ونزوله من صومعته إليه ؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 265 ، حوادث سنة 36 هجرية، في وقعة صفين.

كتاب الإمام إلى معاوية وجوابه عليه

عندما كان الإمام(علیه السلام) في الرقة طلب منه جماعة من أنصاره أن يكتب إلى معاوية منعاً لسفك الدماء، فأرسل (علیه السلام) إليه كتاباً قال فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى معاوية وإلى من قبله من قريش، سلام عليكم. فإني أحمد اللّه إليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو. أما بعد! فإن اللّه عباداً آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل وفقهوا في الدين وبيّن اللّه فضلهم في القرآن الحكيم وأنتم في ذلك الزمان أعداء لرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) لا تكذبون بالكتاب مجمعون على حرب المسلمين، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه. حتى أراد اللّه إعزاز دينه وإظهار رسوله ودخلت العرب في دينه أفواجاً وأسلمت [له] هذه الأمة طوعاً وكرهاً. وكنتم ممن دخل في هذا الدين إما رغبة وإما رهبة. على حين فاز أهل السبق بسبقهم وفاز المهاجرون الأولون بفضلهم. فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ولا فضائلهم في الإسلام أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به، فيحوب بظلم. ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ولا أن يعدو طوره ولا أن يشقي نفسه بالتماس ما ليس له. ثم إن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديماً وحديثاً أقربها من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين وأولها إسلاماً وأفضلها جهاداً وأشدها بما تحمله الرعية من أمورها اضطلاعاً. فاتقوا اللّه الذي إليه ترجعون [حروف وأشكال مبهمة ربما لقوله تعالى: ولا تلبسوا الحق بالبطل وأنتم تعلمون :م]. واعلموا أن خيار عباد اللّه الذين يعملون بما يعلمون ، وأن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم. فإن للعالم بعلمه فضلاً، وإن الجاهل لن يزداد بمنازعة العالم إلاّ جهلاً . ألا وإني أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنة نبيه(صلی اللّه علیه وآله) وحقن دماء هذه الأمة. فإن قبلتم أصبتم رشدكم واهتديتم لحظكم. وإن أبيتم إلّا الفرقة وشق عصا هذه الأمة فلن تزدادوا من اللّه إلّا بعداً ولن يزداد الرب عليكم إلّا سخطاً. والسلام.

فكتب إليه معاوية أما بعد، فإنه:

ليس بيني وبين قيس عتاب ... غير طعن الكلى وضرب الرقاب (1).

ص: 170


1- وقعة صفين، ص 150 ، كتاب علي سلام إلى معاوية.

ص: 171

ص: 172

الفصل الثالث

اشارة

ص: 173

ص: 174

التحام الجنود

كما أسلفنا، فإن أهل الرقة كانوا عثمانيين يبسط عليهم معاوية حمايته. لذا ما إن وصل الجيش العراقي حتى سدوا أبواب مدينتهم ليمنعوه من الوصول إلى صفين ومن نصب جسور طوارئ للعبور. فأرسل أمير المؤمنين(علیه السلام) إليهم مالك الأشتر، فهددهم بالهجوم على مدينتهم ما لم يفتحوا الطريق للجيش. فخافوا وسارعوا إلى نصب جسر لعبور الجيش صوب الشام. وبعد أن اجتاز الجيش العراقي الرقة اصطدمت طلائعه بجيش الشام بقيادة أبي الأعور السلمي(1) فبعث الإمام(علیه السلام) كتاباً إلى مالك ا الأشتر يوصيه بالتحرك صوبه ويؤكد على أن لا يبدأهم بالقتال وأن يدعوهم مراراً إلى البيعة وقبول الحق وأن يتم الحجة عليهم وأن لا يتقدم نحوهم بهيأة القاصد للقتال وأن لا يوليهم دبره من الحرب، وينتظر وصوله(علیه السلام). (2)

ص: 175


1- عمرو بن سفيان المعروف بأبي الأعور السلمي، كان كأبيه سفيان بن عبدشمس من ألد أعداء رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) والإمام علي وأهل البيت(علیهم السلام) . يرى بعضٌ أن أمه كانت نصرانية. تاريخ دمشق الكبير، ج49، ص 41، ترجمة عمرو بن سفيان، الرقم 5461. كان أبو الأعور السلمي من حلفاء أبي سفيان وكان مع مشركي قريش ويهود خيبر في معركة الخندق. الجامع لأحكام القرآن، ج7، ص 335، ذيل الآية 10 من سورة الأحزاب. وكان في غزوة حنين في صف المشركين المواجه لرسول اللّه(علیه السلام) والمسلمين. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج4، ص 163، ترجمة أبي الأعور السلمي، الرقم 2878. بعض الروايات الشيعية عدّت عمرو بن سفيان في أصحاب العقبة الذين هموا بقتل النبي(صلی اللّه علیه وآله) في غزوة تبوك عن طريق إفزاع ناقته وإسقاطها في الوادي. الخصال، ص544 - 545، أبواب الأربعة عشر رجلاً، الحديث السادس. تفيد الوثائق الروائية والتاريخية السنية بأن النبي(صلی اللّه علیه وآله) لعن أبا الأعور السلمي ودعا عليه لشدة عداوته وأذاه له. كنز الأعمال في سنن الأقوال والأفعال، ج8، ص 82، الحديث 21990. لقد اضطر في فتح مكة لأن يتظاهر بالإسلام، وشهد معركة اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب وكان يقود جانباً من الجيش. تاريخ دمشق الكبير، ج 49، ص38، ترجمة عمرو بن سفيان، الرقم 5461. وهو الذي قام بقتل حجر بن عدي الذي كان من أوفى أصحاب الإمام علي(علیه السلام) بعد القبض عليه بأمر معاوية. سؤالات الآجري، ج1، ص331. كذلك هو الذي قام بقتل محمد بن أبي بكر بمساعدة عمرو بن العاص بأمر معاوية سنة 38 هجرية. الثقات، ج2، ص 297 ، فلما دخلت السنة الثامنة والثلاثون. تفيد بعض المستندات التاريخية بأن أبا الأعور السلمي أصبح، بعد وفاة معاوية، من أصحاب مروان بن الحكم وأعوانه، دخل معه مصر سنة 65 هجرية. الإصابة في تمييز الصحابة، ج4، ص 530، ترجمة عمرو بن سفيان، الرقم 5867 .
2- "فبعث إليهم علي(علیه السلام) الأشتر النخعي أميراً وعلى ميمنته زياد وعلى ميسرته شريح، وأمره أن لا يتقدم إليهم حتى يبدأوه بالقتال، ولكن ليدعهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوك ( هكذا :م) ولا يقرب منهم قرب من بريد الحرب ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال، ولكن صابرهم حتى آتينك فأنا حثيث السير وراءك إن شاء اللّه". البداية والنهاية، ج 7، ص 266 ، حوادث سنة 36 هجرية، في وقعة صفين.

لم يلبث أن تقابل مالك الأشتر ومعه الجيش العراقي مع الشاميين، وأتم مالك الأشتر الحجة عليهم كما أمره الإمام، ولكن دون جدوى. حتى قام جيش الشام بقيادة أبي الأعور السلمي بالهجوم، فاقتتلوا ساعات ثم افترقوا بعد توقف القتال بعث مالك الأشتر برسالة إلى أبي الأعور السلمي يدعوه فيها إلى البراز. ولكن أبا الأعور رفض القتال الفردي لما كان يعلمه من الأشتر. وفي الليل أمر أبو الأعور جيش الشام بمغادرة المنطقة خلسة والتسلل إلى منابع الفرات في صفين ليكون في موقف استراتيجي أفضل. (1)

ص: 176


1- وقعة صفين، ص154، المعركة الأولى.

الوصول إلى صفين وسدّ الماء

لما سمع معاوية بتحرك الجيش العراقي وأمير المؤمنين(علیه السلام) ، انطلق مسرعاً بجيشه صوب صفين والتحق بجيش أبي الأعور وسدّ الطريق إلى مشرعة الفرات بوجه الجيش العراقي. ثم وصل جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى تلك المنطقة متأخراً.

هناك أقوال عدة في موعد وصول جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى صفين. فقيل سنة 36 هجرية (1) و 37 و 38(2) ولكن المشهور أنه كان في سنة 37 هجرية (3) كما أن هناك اختلافاً في الشهر الذي وصل فيه ؛ فقيل ربيع الأول وقيل ربيع الآخر ومحرم وصفر.(4)

سمع أمير المؤمنين(علیه السلام) بغلق طريق الفرات، فنصح معاوية بالتراجع عن ذلك حقناً للدماء. وكان في جيش معاوية من يعارض فتح طريق المشرعة أمثال الوليد بن عقبة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وكانوا يقولون بدافع الانتقام يا معاوية! إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان الماء أربعين يوماً وحصروه، فامنعهم إياه حتى يموتوا عطشاً. (5)

وكان عبدالله بن سعد بن أبي سرح، كذلك، معارضاً لفتح طريق الماء لجيش العراق. ولكن

دافعه كان شيئاً آخر. فقد قال لمعاوية : امنعهم من الماء إلى الليل فلعلهم يرجعون إلى بلادهم. (6)

ص: 177


1- الكامل في التاريخ، ج2، ص 362، حوادث سنة 36 هجرية ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص82، أمر صفين.
2- الفتوح، المجلد الثاني، ص590 ، ذكر ذواق لأهل الشام من حرب أصحاب علي (علیه السلام).
3- تاريخ الطبري، ج 3، ص79 ، حوادث سنة 37 هجرية ؛ تاريخ خليفة بن الخياط، ص 115 ، حوادث سنة 37 هجرية ؛ الصحيح من سيرة الإمام علي (علیه سلام)، ج 38، ص291.
4- تاريخ الطبري، ج 3، ص 79، حوادث سنة 37 هجرية ؛ ، ص 104 ، تعبئة معاوية أهل الشام لقتال علي ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص 82 ، أمر صفين ؛ الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام)، ج38، ص291.
5- "فقال الوليد بن عقبة: يا معاوية ... عطشاً". الفتوح، المجلد الثاني، ص4، ذكر وقعة الماء وهي أول وقع
6- قال عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح امنعهم .. بلادهم". البداية والنهاية، ج 7، ص 267 ، حوادث سنة 36 هجرية، في وقعة صفین

أما عمرو بن العاص فقد عارض سد طريق الماء، وقال لمعاوية: خلّ بينهم وبين الماء، فإن علياً لم يكن ليظمأ وأنت ريان وفي يده أعنة الخيل وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت. وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق ومعه أهل العراق وأهل الحجاز. وقد سمعت أنا وأنت وهو يقول: لو استمكنت من أربعين رجلاً، فذكر أمراً، يعني لو أن معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت يعني بيت فاطمة. (1)

كما كان هناك آخرون في جيش معاوية ساءهم ما فعل معاوية من منع الماء، وعبروا عن معارضتهم له. ومن هؤلاء المعراء بن الأقبل الذي قال لمعاوية :ويحك يا معاوية! واللّه لو سبقك علي إلى الماء فنزل عليه من قبلك إذن لما منعك منه أبداً. ولكن أخبرني عنك أنك إذ أنت منعته الماء هذا الموضع، ألا تعلم أنه يرحل من موضعه هذا وينزل على مشرعة أخرى فيشرب منه ثم يحاربك على ما صنعت؟ ألا تعلم أن فيهم العبيد والإماء والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا واللّه أول البغي والفجور! واللّه لقد حملت من لا يريد قتالك على قتالك ويمنعك هذا الماء. فإن شئت فاغضب وإن شئت فارض، فإني لا أدع القول بالحق، ساءك أم سرك. فأمر معاوية بقتل هذا الرجل، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه، فوهبه لهم. فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب فصار معه. (2)

أصر معاوية على سد طريق الماء فبرز جماعة من جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) وقالوا أنهم مستعدون لفتح الطريق فقال الأشعث بن قيس الكندي، زعيم كندة، لأمير المؤمنين(علیه السلام) : يا أمير المؤمنين!

سلام أيمنعنا القوم ماء الفرات وأنت فينا وسيوفنا في رقابنا؟ خلّ عني وعن الناس، فوالله لا رجعت عن الماء دون أن أرده أو أموت دونه. [قال]: وتابعه الأشتر بمثل هذا الكلام. فقال علي (علیه السلام) : ذلك إليكم فافعلوا ما أحببتم. [قال]: فخرج الأشعث من عند علي(علیه السلام) وذلك في وقت السحر، ثم نادى في :الناس: ألا من كان يريد الموت فإن ميعادنا الصبح، فإني ناهضٌ إلى الماء إن شاء اللّه. [قال]: فأجابه نيف من عشرة آلاف، وأجاب الأشتر خلق كثير من بني عمه وبني مذحج.. وأقبل الأشعث بن قيس

ص: 178


1- قال عمرو: خلّ ... فاطمة". وقعة صفين، ص 163، رأي عمرو في ذلك.
2- فوثب رجل من أهل الشام يقال له المعراء بن الأقبل بن الأهول فقال: ويحك ... فصار معه. الفتوح، المجلد الثاني، صه، ذكر وقعة الماء وهي أول وقعة صفين.

على صاحب رايته واسمه الحارث بن حجر الكندي فقال له: ابن حجر! اللّه ما النخع بخير من كندة ولا الأشتر بخير مني. فتقدم فداك أبي وأمي بالراية (1)

كان ذلك المشهد أول مؤشر على حب الجاه لدى الأشعث بن قيس الذي سعى، بأي شكل من الأشكال، إلى أن يحقق لنفسه موقعاً متميزاً في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام).

في نهاية المطاف، هجم جنود أمير المؤمنين (علیه السلام) على جيش معاوية عند الصبح فوقع اشتباك عنيف بين الجانبين قتل فيه عدد كبير من جنود الشام، ثم سيطر أمير المؤمنين(علیه سلام) على المشرعة.(2)

لما وقعت المشرعة وماء الفرات بيد الإمام(علیه السلام) ، حاول بعض رجاله معاملة عدوهم بالمثل ومنعه الماء. ولكن الإمام(علیه السلام) رفض ذلك وفتح طريق الماء لأهل الشام رغم موقفهم الخسيس منه. (3)

ص: 179


1- الفتوح المجلد الثاني، ص10، ذكر وقعة الماء وهي أول وقعة صفين.
2- الفتوح، المجلد الثاني، ص7، ذكر وقعة الماء وهي أول وقعة صفين
3- مناقب آل أبي طالب، ج 3، ص 168، في حرب صفين ؛ الأخبار الطوال، ص 248، غلبة الإمام سلام على الماء.

وقف القتال لإتمام الحجة

سمح أمير المؤمنين (علیه السلام)لأهل الشام بالاستفادة من ماء الفرات أن سيطر عليه. بعد ذلك، توقف القتال بضعة أيام. فاعترض بعض جنود الجيش العراقي على الإمام(علیه السلام) لأنه لم يأذن لهم ببدء القتال والأخذ بثأرهم من جيش الشام، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! خلّفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطناً؟ ائذن لنا في القتال فإن الناس قد قالوا. قال لهم(علیه السلام) : ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت وإن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام . فقال(علیه السلام) : ومتى كنت كارهاً للحرب قط؟ إن من العجب حبي لها غلاماً ويفعاً وكراهيتي لها شيخاً بعد نفاد العمر وقرب الوقت وأما شكي في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة. واللّه لقد ضربت هذا الأمر ظهراً وبطناً فما وجدت يسعني إلّا القتال أو أن أعصي اللّه رسوله(صلی اللّه علیه وآله) ولكني أستأني بالقوم عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة. فإن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) قال لي يوم خيبر لأن يهدي اللّه بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس.(1)

ص: 180


1- شبث بن ربعي التميمي أحد المنافقين الذين غيّروا جلدهم أكثر من مرة وبدّل موقفه حسب الظروف والمصالح الخاصة. فقد أسلم بعد أن كان مؤذناً لسجاح التي ادعت النبوة. ثم كان له دور فعال في قتل عثمان. بعد ذلك انضم إلى الإمام علي (علیه السلام) وهو الذي قام بهدم دار حنظلة بن الربيع. ووقف موقفاً معارضاً لمعاوية. ثم التحق بالخوارج ثم عاد وتاب. ثم شارك في واقعة كربلاء إلى جانب عبيدالله بن زياد وارتكب الكثير من الجرائم فيها. ثم كان من الذين ناصروا المختار في الثأر للحسين (علیه السلام) كان رئيس شرطته! ثم شارك في قتل المختار. وفي النهاية مات بالكوفة عن نحو ثمانين سنة. على أن المحقق الشوشتري (التستري: م) يقول أنه لم يثبت لديه أن شبث بن ربعي شارك في قتل عثمان وأنه كان في شرطة المختار. كان شبث من الأربعة الذين بنوا مساجد أو جددوا بناءها في الكوفة ابتهاجاً بمقتل الحسين (عليه السلام)، وسميت بالمساجد الملعونة. قاموس الرجال، ج5، ص388 ترجمة شبث بن ربعي الرقم 3522.

الإمام يرسل سفراء إلى معاوية

بعد أن نجح الجيش العراقي في استعادة السيطرة على ماء الفرات وتوقف القتال بضعة أيام، أمر أمير المؤمنين (علیه سلام) عدداً من قادة جيشه بالذهاب إلى معاوية ودعوته إلى البيعة، منعاً للحرب وحقناً للدماء. فتوجه سعيد بن قيس الهمداني وأبو عمرة الأنصاري وشبث بن ربعي(1) وعدي بن حاتم الطائي ويزيد بن قيس وزياد بن خصفة(2) إلى معاوية لهذا الغرض. (3)

ذهب وفد الإمام(علیه السلام) إلى معاوية، ونصحه أبو عمرة الأنصاري(4) فأعاد معاوية كلامه السابق وقال أنه لا يتنازل عن دم عثمان. فغضب شبث بن ربعي من كلامه فقال له: يا معاوية! قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه لا يخفى علينا ما تقرب وما تطلب. إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم: قتل إمامكم مظلوماً فهلموا نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال. وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب. وربّ مبتغ أمراً وطالبه يحول اللّه دونه، وربما أوتي المتمني أمنيته وربما لم يؤتها. وواللّه ما لك في واحدة منها خير. واللّه لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالاً، ولئن

ص: 181


1- زياد بن خصفة من أخلص أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن(علیها السلام) مدحه أمير المؤمنين(علیه السلام) علم وقال في كتاب بعثه إلى ابن عباس: مر زياداً يفعل، فما أطيبه وأطيب عشيرته لقد أثبت زياد وفاءه لأمير المؤمنين(علیه السلام) لهم في ظروف مختلفة. ولم يبع نفسه بدنيا معاوية، شأنه في ذلك شأن بعض جنود أمير المؤمنين(علیه السلام) . أرسله أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى معاوية لإتمام الحجة عليه، فحاول معاوية شراء ذمته بتطميعه ولكنه جوبه منه بجواب مزلزل إذ قال له: إن لي في متابعة علي(علیه السلام) بينة وحجة، فلا أتركه. ومن أجل هذه النعمة التي أنعم الله بها علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين. قاموس الرجال، ج 4، ص 499، ترجمة زياد بن خصفة، الرقم2994
2- أنساب الأشراف، ج3، ص 84، أمر صفين.
3- كان أبوعمرة الأنصاري أحد أخلص وأوفى أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام)ومن صحابة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) . استشهد في صفين فتأثر أمير المؤمنين (علیه السلام) لفقده تأثراً كبيراً فكان ينوح عليه. وكانت منزلته في جيش أمير المؤمنين (علیه سلام) من الأهمية بحيث أن جنود الشام كانوا يتفاخرون بقتله. ولما ناشد أمير المؤمنين(علیه السلام) في الرحبة من سمع خطبة الغدير، قال ومعه أحد عشر رجلاً: نشهد أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) قال : ألا إن اللّه عزّ وجلّ ولي وأنا ولي المؤمنين. ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهُمَ وال من والاه وعاد من عاداه وأحبّ من أحبَّه وأبغض من أبغضه". وقعة صفين، ص 357 - 359، أثر مصرع هاشم.
4- وقعة صفين، ص187، كلام شبث بن ربعي

أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلي النار. فاتق اللّه يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع

الأمر أهله !(1)

کلام شبث بن ربعي كان تأكيداً على ما سبق وهو أن معاوية هو المتهم الأول في قتل عثمان، وأنه استغل قتله للوصول إلى الحكم من خلال تضليل الرأي العام واستقطاب الناس وتعبئتهم لمواجهة أمير المؤمنين(علیه السلام) علم الحقيقة أن ما قاله شبث بن ربعي هو نفسه ما كان قاله عثمان لمعاوية(2) وهذا يؤكد أن مكر معاوية كان مكشوفاً لجيش الإمام علي (علیه السلام).

غضب معاوية غضباً شديداً من كلام شبث بن ربعي فشتمه وودعه وهو يهدده بأن لا شيء بينهم إلّا السيف. (3)

يقول نصر بن مزاحم (4) فتراسلوا ثلاثة أشهر ربيع الآخر ،وجماديين، فيفزعون الفزعة فيما بين ذلك فيزحف بعضهم إلى بعض وتحجز القراء بينهم. ففزعوا في ثلاثة أشهر خمسة (هكذا، ربما خمساً :م) وثمانين فزعة ،كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض ويحجز القراء بينهم ولا يكون بينهم قتال. (5)

ص: 182


1- "يا معاوية! ... أهله". وقعة صفين، ص187، كلام شبث بن ربعي.
2- "فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه توجه إليه في اثني عشر ألفاً، ثم قال: كونوا بمكانكم في أوائل الشام حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره. فأتى عثمان فسأله عن المدة، فقال: قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. قال: لا والله ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا ولي الثأر. تاريخ اليعقوبي، ج2، ص175، أيام عثمان بن عفان.
3- وقعة صفين، ص188 ، موقف القراء.
4- نصر بن مزاحم المتوفى سنة 212 هجرية صاحب كتاب وقعة صفين وهو أقدم كتاب عن معركة صفين. عده الشيخ الطوسي في أصحاب الإمام الباقر(علیه السلام) أما العلامة التستري فيقول إن هناك اختلافاً بين العلماء حول تشيعه أو تسننه. يعتبره أبوالفرج الإصفهاني وابن أبي الحديد سنياً. فيما يراه الخطيب البغدادي والحموي شيعياً. ويقول العلامة التستري في النهاية إن ابن مزاحم سني يميل إلى الشيعة وهناك مؤشرات في كتاب وقعة صفين على كونه من العامة أو من الزيدية. قاموس الرجال، ج10، ص 358، ترجمة نصر بن مزاحم، الرقم 7966 .
5- وقعة صفين، ص190، تراسل علي ومعاوية.

كلنا قتلة عثمان

كان أبو الدرداء(1) وأبو أمامة (2) مثالين آخرين لوسطاء السلم ذهب هذان الرجلان إلى معاوية وكانا من أنصاره وقالا له: يا معاوية! علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله لهو أقدم منك سلماً وأحق بهذا الأمر منك وأقرب إلى النبي(صلی اللّه علیه وآله) فعلام تقاتله؟ فقال: أقاتله على دم عثمان وأنه آوى قتلته، فقولوا له قتلته، فأنا أول من بايعه من أهل الشام. فانطلقوا إلى على فأخبروه بقول معاوية، فقال: هم الذين ترون. [يعني قتلة عثمان: م] فخرج عشرون ألفاً أو أكثر مسربلين في الحديد لا يرى منهم إلاّ الحدق فقالوا: كلنا قتلة عثمان، فإن شاؤوا فلير وموا ذلك منا. (3)

ص: 183


1- هو عويمر بن عامر الخزرجي المعروف بأبي الدرداء، من أصحاب النبي(صلی اللّه علیه وآله) يا ليل يا عينه عثمان قاضياً لدمشق. العقل النبي(صلی اللّه علیه وآله) عقد الأخوّة بينه وبين سلمان. وقال له في إحدى المناسبات: فيك آثار من الجاهلية. فسأله أبوالدرداء: جاهلية الكفر الإسلام؟ فقال(صلی اللّه علیه وآله) : جاهلية الكفر. توفي سنة 33 هجرية قبل مقتل عثمان بسنتين. قاموس الرجال، ج11، ص318، ترجمة أبي الدرداء، الرقم 332. أما المرحوم المامقاني فيرى أن وفاته حصلت سنة 34 هجرية نقلاً عن البخاري. ويرى ابن عبدالبر وفاته في زمن خلافة عثمان. تنقيح المقال في علم الرجال، ج2، ص 355، ترجمة عويمر بن عامر، الرقم 9262. الاستيعاب، ج4، ص 211، ترجمة أبي الدرداء، الرقم 2970. على أن بعض المؤرخين يعتقدون أن وفاته حدثت بعد صفين، وهذا ما ورد في الاستيعاب في معرفة الأصحاب. نستنتج من هذه الأقوال أنه لم يشهد صفين وأن رسول معاوية كان شخصاً آخر.
2- هو صدى بن عجلان المعروف بأبي أمامة من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب أميرالمؤمنين(علیه سلام) وقال: جعل عليه معاوية في الشام حراساً ليمنعوه من الهروب إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) . ولكن المرحوم المامقاني يُشكل على الشيخ الطوسي بأن كلامه يفيد بأن أبا أمامة كان من شيعة الإمام(علیه السلام) ، في حين أنه الوحيد الذي يرى ذلك، ويعتبره بعض المؤرخين من المنحرفين عن أمير المؤمنين(علیه السلام) ، وأن الكتب التاريخية تذكر أنه كان في صف معاوية، بما في ذلك ذهابه إلى أمير المؤمنين (علیه سلام) رسولاً من جانب معاوية، وأنهم لم يتأثروا (هكذا، ربما لم يتأثر: م) بكلام الإمام (علیه السلام) ولم يقروا (هكذا) بحقانيته، واعتزلوا ( هكذا) الحرب. ولو كانوا يعتقدون (هكذا) بإمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) لقاتلوا ( هكذا) معه. كان يسكن الشام ومات فيها سنة 86 هجرية وكان آخر أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) في الشام. تنقيح المقال في علم الرجال، ج2، ص98، ترجمة صدى بن عجلان، الرقم 5761 ؛ قاموس الرجال، ج5، ص 490، ترجمة صدى بن عجلان، الرقم 3675.
3- "خرج أبوأمامة الباهلي وأبو الدرداء فدخلا على معاوية وكانا معه، فقالا: يا معاوية ... منا". وقعة صفين، ص190، عتاب علي للأشتر والأشعث.

ينقل ابن أعثم الكوفي حادثة مشابهة لهذه الحادثة، ولكنه يذكر أباهريرة بدل أبي أمامة في الوسطاء وأن عدد الناس [من أنصار الإمام(علیه السلام) الذين خرجوا مسربلين في الحديد كان عشرة آلاف رجل.(1)

يقول ابن قتيبة : إن أبا هريرة وأبا الدرداء انصرفا إلى منزلهما بحمص، فلما قدما حمص لقيهما عبدالرحمن بن عثمان فسألهما عن مسيرهما فقصا عليه القصة، فقال العجب منكما أنكما من صحابة رسول اللّه. أما واللّه لئن كففتما أيديكما ما كففتما ألسنتكما. أتأتيان علياً وتطلبان إليه قتلة عثمان وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو حرموا دم عثمان نصروه وبايعوا علياً على قتلته (اشترطوا عليه الاقتصاص له من قتلته) ، فهل فعلوا؟ وأعجب من ذلك رغبتكما عما صنعوا وقولكما لعلي اجعلها شورى واخلعها من عنقك، وإنكما لتعلمان أن من رضي بعلي خير ممن كرهه وأن من بايعه خير ممن لم يبايعه. ثم صرتما رسولي رجل من الطلقاء لا تحل له الخلافة. (2)

لقد أشار عبدالرحمن بن عثمان إلى نقاط هامة، لأنه لا أحد من الصحابة بما فيهم المهاجرون والأنصار الذين بايعوا أمير المؤمنين(علیه السلام) ، يطالب بدم عثمان رغم علمهم بأن خليفة المسلمين لا ، يصعب عليه أن يقتص لعثمان إن عدم مبالاة الصحابة بهذا الأمر يكشف عن درجة سخطهم من المخالفات التي ارتكبها عثمان وعماله وأنهم كانوا راضين بقتله.

وينقل سليم بن قيس هذه القضية بمزيد من التفصيل، ويذكر أبا أمامة بدل أبي هريرة سفيراً لمعاوية. ونظراً لأهمية ما قيل في هذه الحادثة فلابد من تقديم تقرير عنها. فقد توجه أبوالدرداء وأبوهريرة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) ونقلا إليه رسالة معاوية، وذلك قوله: واللّه إني لأعلم أنك أولى الناس بالخلافة وأحق بها مني لأنك من المهاجرين الأولين وأنا من الطلقاء وليس لي مثل سابقتك في الإسلام وقرابتك من رسول اللّه وعلمك بكتاب اللّه وسنة نبيه. ولقد بايعك المهاجرون

ص: 184


1- قال: فوقعت الصيحة في العسكر بهذا الخبر، فوثب من عسكر على أكثر من عشرة آلاف رجل في أيديهم السيوف وهم يقولون: نحن كلنا قتلنا عثمان. قال: فبقي أبوهريرة وأبو الدرداء متحيرين. الفتوح، المجلد الثاني، ص58، ثم رجعنا إلى الخبر ؛ الأخبار الطوال، ص 250، وساطة أبي أمامة وأبي الدرداء.
2- الإمامة والسياسة، ج1، ص108 ، قدوم أبي هريرة وأبي الدرداء على معاوية وعلي.

والأنصار بعد ما تشاوروا فيك قبل ثلاثة أيام، ثم أتوك فبايعوك طائعين غير مكرهين. وكان أول من بايعك طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتك وظلماك وطلبا ما ليس لهما .(1)

بعد أن تطرق معاوية إلى معركة الجمل ونقض البيعة من قبل طلحة والزبير وما ألحقاه من ظلم بالإمام علي(علیه السلام) ، عاد فتناول قتل عثمان فقال: أنا ابن عم عثمان ووليه والطالب بدمه. فإن كان الأمر كما قلت فأمكنا من قتلة عثمان وادفعهم إلينا نقتلهم بابن عمنا ونبايعك ونسلم إليك الأمر.

(2)قرأ أمير المؤمنين(علیه السلام) كتاب معاوية ثم قال لأبي هريرة وأبي الدرداء: قد أبلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا مني ثم أبلغاه عني كما أبلغتماني عنه وقولا له: إن عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين ؛ إما إمام هدىً حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته. فلا يخلو من إحدى الخصلتين. والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجهم وجمعتهم ويجبي صدقاتهم. ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلماً ويحاكمون قتلته إليه ليحكم بينهم بالحق.

فإن كان إمامهم قتل مظلوماً حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل ظالماً نظر كيف الحكم في ذلك. هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه أن يختاروا إماماً يجمع أمرهم، إن كانت الخيرة لهم، ويتابعوه ويطيعوه. وإن كانت الخيرة إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى رسوله فإن اللّه قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ورسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) قد رضي لهم إماماً وأمرهم بطاعته واتباعه، وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان ؛ بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام. وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا

ص: 185


1- "إن معاوية دعا أبا الدرداء ونحن مع أمير المؤمنين (لیه السلام) بصفين ودعا أبا هريرة فقال لهما : انطلقا إلى علي فاقرآه مني السلام وقولا له: واللّه .. لهما". كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 748 ، الحديث الخامس والعشرون.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج2، ص 749، الحديث الخامس والعشرون.

إمامتهم ولى ( هكذا :م) ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار. غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة، وإن بيعتي كانت بمشورة من العامة. فإن كان اللّه جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار اللّه ورسوله، وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته، فقد تشاوروا في واختاروني بإجماع منهم. وإن كان اللّه عزّ وجلّ هو الذي يختار له الخيرة، فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه، فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي. ولو أن عثمان قتل على عهد أبي بكر وعمر كان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب ؟ قال أبوهريرة وأبو الدرداء: لا. قال علي (علیه السلام): فكذلك أنا. فإن قال معاوية: نعم، فقولا : إذن يجوز لكل من ظلم بمظلمة أو قتل له قتيل أن يشق عصا المسلمين ويفرق جماعتهم ويدعو إلى نفسه ،مع أن ولد عثمان أولى بطلب دم أبيهم من معاوية. (قال): فسكت أبو الدرداء وأبوهريرة وقالا : لقد أنصفت من نفسك. قال علي(علیه السلام) : ولعمري لقد أنصفني معاوية إن تم على قوله وصدق ما أعطاني. فهؤلاء بنو عثمان رجال قد أدركوا ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم، فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة أبيهم. فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم وحربهم في خصومتهم وليقعدوا هم وخصائمهم بين يدي مقعد الخصوم إلى الإمام والوالي الذي يقرون بحكمه وينفذون قضاءه. وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم، فإن كان أبوهم قتل ظالماً حلال الدم أبطلت دمه، وإن كان مظلوماً حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم، فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا عفوا وإن شاؤوا قبلوا الدية. وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي عليهم ولهم. فليأتني ولد عثمان أو معاوية إن كان وليهم ووكيلهم فليخاصموا قتلته وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه علیه وآله) وإن كان معاوية إنما يتجنى ويطلب الأعاليل والأباطيل فليتجن ما بدا له، فسوف يعين اللّه عليه. قال أبو الدرداء وأبوهريرة: قد واللّه أنصفت نفسك وزدت على النصفة وأزحت علته وقطعت حجته وجئت بحجة قوية صادقة ما عليها لوم. ثم خرج أبوهريرة وأبو الدرداء فإذا نحو من عشرين ألف رجل مقنعين بالحديد فقالوا: نحن قتلة عثمان ونحن مقرون راضون بحكم علي(علیه السلام) علينا ولنا. فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) في دم أبيهم. فإن وجب علينا القود أو الدية اصطبرنا لحكمه وسلمنا. فقالا: قد

ص: 186

أنصفتم ولا يحل لعلي (علیه سلام) دفعكم ولا قتلكم حتى يحاكموكم إليه فيحكم بينكم وبين

صاحبكم بكتاب اللّه وسنة نبيه(صلی اللّه علیه وآله).(1)

هذه الحجة التي قدمها الإمام(علیه السلام) علم المبعوثي معاوية تبين أنه(علیه السلام) كان يتعامل مع قتل عثمان على مبانٍ شرعية وعقلية، وأن قتلة عثمان كانوا راضين بتلك المباني ومستعدين لقبول ما يحكم به أمير المؤمنين (علیه السلام) ، ولكن معاوية ومن حوله ما كانوا ليذعنوا لمثل هذا المنطق، لأنهم كانوا مخالفين الأصل خلافة أمير المؤمنين(علیه السلام) وكانوا يتخذون دم عثمان ذريعة لتحقيق مصالحهم الدنيوية التي تمكنهم من بلوغ غاياتهم القصوى وهي الوصول إلى الحكم.

ص: 187


1- فلما قرأ على(علیه السلام) كتاب معاوية وأبلغه أبو الدرداء وأبوهريرة رسالته ومقالته، قال على لأبي الدرداء قد أبلغتماني ... نبيه". كتاب سليم بن قيس الهلالي، ج 2، ص 752 - 755 ، الحديث الخامس والعشرون.

مكر معاوية

من الأساليب التي كان معاوية يلجأ إليها كثيراً في فترة حكمه وفي حروبه، تضليل الرأي العام وبث الإشاعات. وهو ما اتبعه في حرب صفين من أجل تحقيق الأفضلية التي كان يتمتع بها أمير المؤمنين (علیه السلام) من حيث السيطرة على ماء الفرات وإضعاف الروح المعنوي لدى جنود جيش الإمام (علیه السلام)، حيث قام برمي سهم صوب جيش الإمام(علیه السلام) مكتوب عليه أن معاوية يخطط لتوجيه ماء الفرات صوب معسكر الإمام(علیه السلام) ليغرق جنوده. وقد رمى بالفعل ذلك السهم وأدى فعله في تزلزل معنويات جيش الإمام(علیه السلام) رغم تنبيه الإمام لمقاتليه بأن القضية مجرد حرب نفسية كاذبة. ولكن تأثر الجنود واضطرابهم بلغا حداً جعل الإمام(علیه السلام) يغير مواضع العسكر. فاستغل معاوية ذلك التغيير فاندفع بجيشه إلى المواضع التي كان فيها جيش الإمام(علیه السلام) واستعاد السيطرة على ماء الفرات. يقول نصر بن مزاحم إن مالك الأشتر ، شأنه شأن الأشعث بن قيس، كان ممن تأثر بتلك الحرب النفسية التي قام بها معاوية، وهو ما أدى إلى شماتة أمير المؤمنين (علیه السلام) (1)على أنه بعد تلك الحادثة وانكشاف خدعة معاوية، عاد جيش الإمام (علیه السلام) إلى مواضعه السابقة بشجاعة مالك الأشتر(2).

هناك أكثر من نقطة أساسية جديرة بالتأمل في تقرير نصر بن مزاحم:

(2) "بيد الأشعث رمح له يلقيه على الأرض ويقول: امشوا قيس رمحي [هذ]، فيمشون. فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه ذلك ويمشون معه رجالة قد كسروا جفون سيوفهم حتى لقوا معاوية وسط بني سليم واقفاً على الماء وقد جاءه أدنى عسكره. فاقتتلوا قتالاً شديداً على الماء ساعة. وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق فحمل على معاوية حملة والأشعث يحارب في ناحية [أخرى]، فانحاز معاوية في بني سليم فردوا وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ". وقعة صفین، ص192، مخالفة الجيش لعلي (علیه السلام) .

ص: 188


1- "إن معاوية كتب في سهم من عبد الله الناصح، فإني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم. ثم رمى معاوية بالسهم في عسكر علي (علیه السلام)، فوقع السهم في يدي رجل من أهل الكوفة فقرأه ثم أقرأه صاحبه. فلما قرأه وأقرأه الناس أقرأه من أقبل وأدبر قالوا: هذا أخر (هكذا : م ) ناصح كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية ... ارتحل معاوية حتى نزل على معسكر علي الذي كان فيه. فدعا علي الأشتر فقال: ألم تغلبني على رأبي أنت والأشعث؟ فدونكما! فقال الأشعث: أنا أكفيك يا أمير المؤمنين سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك". وقعة صفين، ص190، حيلة معاوية.

الأولى: أن ادعاءه بعدم امتثال مالك الأشتر لأمير المؤمنين (علیه السلام) ليس صحيحاً ولا ينسجم مع سيرة مالك. فقد كان تابعاً لأمير المؤمنين (علیه السلام) طول حياته وما كان يفعل خلاف رأيه. لذا قال عنه الإمام (علیه السلام)حين استشهد رحم اللّه مالكاً، فلقد كان لي كما كنت لرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) (1)

نعم، لقد كان مالك تام الطاعة والإخلاص لأمير المؤمنين (علیه السلام) ، كما كان أمير المؤمنين عليه السلام للنبي (صلی اللّه علیه وآله) ولم يفعل ما يخالف رأي الإمام علي(علیه السلام) ، وقد أثبت ذلك مراراً في حرب صفين. وكان أمير المؤمنين(علیه السلام) يعرف ذلك عنه جيداً. لذا، بعد أن تم التحكيم وكتبت صحيفته وقال جماعة من المنافقين لعلى (علیه السلام): إن مالكاً لا يعبأ بعقدك مع معاوية ولا يرى إلّا القتال، أجاب (علیه السلام): إن كنت راضياً بالصلح فهو راض أيضاً (2) فهل يجوز على مثل هذا أن يخالف رأي أمير المؤمنين (علیه السلام)؟ حقيقة الأمر أن بعض زعماء العراق الآخرين، كالأشعث، خالفوا أمير المؤمنين(علیه السلام) في كثير من المواقف، وأرادوا أن يخففوا من أخطائهم بإسقاطها على أمثال الأشتر.

الثانية: أن بعض قادة جيش الإمام(علیه السلام) كشفوا عن حقيقتهم من بداية الحرب. فإنهم خالفوا تحذيرات أمير المؤمنين (علیه السلام) انطلاء من خدع معاوية عليهم، فكانت نتيجة تمردهم أن فقد الجيش أفضلية موقعه. وهذا يبين أن قضية التحكيم التي فُرضت فيما بعد على أمير المؤمنين (علیه السلام) لم تكن علام وليدة لحظتها. بل إنها حدثت من قبل أشخاص كانوا مرددين في موقف أمير المؤمنين منذ البداية، وكانوا يخالفون أوامره.

ص: 189


1- كان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائها، شديد التحقق بولاء أمير المؤمنين(علیه السلام) ونصره، وقال فيه بعد موته: رحم اللّه .. لرسول اللّه . شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 98 ، ذيل الكتاب الثاني عشر، فصل في نسب الأشتر وذكر بعض فضائله.
2- "قيل لعلي لما كتبت الصحيفة: إن الأشتر لم يرض بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم فقال علي: بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت". وقعة صفين، ص521، قول علي (علیه السلام)في الأشتر.

توقف القتال في محرم وتبادل السفراء

انقضی شهر ذي الحجة على اشتباكات متفرقة بين الجيشين، ولم يبد أي طرف رغبة في شن هجوم شامل على الطرف الآخر. حتى جاء شهر محرم فتوقف القتال تماماً وتجددت محاولات الجانبين للتوصل إلى مخرج.كان حبيب بن مسلمة (1) أحد سفراء معاوية الذين كانوا يتهمون الإمام علياً(علیه السلام) بالضلوع في الام قتل عثمان ويصرون على تسليم القتلة. فقال للإمام (علیه السلام): فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله، نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. (2) واضح من طلب حبيب بن مسلمة أن جبهة الشام كانت تستهدف ما هو أبعد من دم عثمان، وكانت لا تريد لأمير المؤمنين(علیه السلام) أن يبقى على مسند الحكم. لأن حكم علي ام لا ينسجم مع مصالحهم. وحتى لو سلّم الإمام(علیه السلام) قتلة عثمان وكان هناك فرصة للاقتصاص منهم لما كف الحزب الأموي عن البحث عن ذريعة أخرى لمعارضة أمير المؤمنين(علیه السلام) ، وما كانوا ليقنعوا بأقل من عزله عن الحكم.

ص: 190


1- اختير حبيب بن مسلمة في عهد عمر بن الخطاب والياً للجزيرة. ثم ولاه على أرمينيا وآذربايجان كذلك. كان أهل الشام يبجلونه ويعتبره بعضهم مستجاب الدعوة !!! بعد مقتل عثمان، حرص على ملازمة معاوية ومعاضدته في جميع حروبه. فاختاره معاوية والياً على أرمينيا وفيها مات سنة 42 هجرية. في حرب صفين واجهه الإمام الحسن (علیه السلام)فوجّه إليه كلاماً كشف فيه عن سريرته، فقد قال له: يا حبيب! كم سبيلاً في معصية اللّه سرت!؟ فقال حبيب ولكن السبيل الذي سرته نحو أبيك (حرب صفين) لم تكن منها. فقال(علیه السلام) : بلى واللّه ولكنك تبعت معاوية من أجل نعمة قليلة وهوى نفسك. ولئن عمر دنياك فقد أفنى آخرتك. فإن لم يكن لك من فعل جميل فليكن قولك جميلاً لعلك تكون من الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. ولكنك ممن ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. وكان حبيب ممن كان يلعنهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد الصلاة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص381، ترجمة حبيب بن مسلمة الفهري، الرقم 488 ؛ وقعة صفين، ص 522، ثأر زيد بن عدي لحابس بن سعد الطائي ولحاقه بمعاوية.
2- "أن معاوية بعث إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده فحمد اللّه حبيب وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب اللّه عزّ وجلّ وينيب إلى أمر اللّه تعالى فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع ... رأيهم". تاريخ الطبري، ج 3، ص80، حوادث سنة 37 هجرية.

أمير المؤمنين (علیه السلام) يتم الحجة على شرحبيل وينتقد الخلفاء

ردّ الإمام على(علیه السلام) حبيب بن مسلمة بردّ شديد اللهجة ولكنه تعامل بطريقة مختلفة مع شرحبيل الذي جاء للوساطة فقال له: أما بعد ، فإن الله يبعث النبي(صلی اللّه علیه وآله) فأنقذ به من الضلالة ونعش به من الهلكة وجمع به بعد الفرقة. ثم قبضه إليه وقد أدى ما عليه. ثم استخلف الناس أبابكر، ثم استخلف أبوبكر عمر... وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمر دوننا ونحن آل الرسول... ثم ولي أمر الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فسار إليه الناس فقتلوه. ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم فقالوا لي: بايع ! فأبيت عليهم. فقالوا لي بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتهم، فلم يرعني إلّا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية إياك الذي لم يجعل اللّه له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق وحزب من الأحزاب، لم يزل اللّه ولرسوله وللمسلمين عدواً هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين. فعجبنا لكم ولإجلا بكم معه وانقيادكم له وتدعون أهل بيت نبيكم (صلی اللّه علیه وآله) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم ولا أن تعدلوا بهم أحداً من الناس. إني أدعوكم إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنة نبيكم (صلی اللّه علیه وآله) وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين أقول قولي هذا وأستغفر اللّه لنا ولكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة (1). يتضمن كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) مع شرحبيل بن السمط نقاطاً هامة، نشير هنا إلى بعضها:

الأولى: أن أمير المؤمنين (علیه السلام) انتقد الخلفاء مرات لغصبهم الخلافة وحق أهل البيت.

الثانية: أنه عليه السلام يرى المخالفات التي ارتكبها عثمان السبب الرئيس في قتله، إذ بسببها ثار الناس عليه . ولم يلم الإمام (علیه السلام) الناس الذين ثاروا عليه. وهذا يبين أنه (علیه السلام) - على فرض - انه لم يكن راضياً عن قتل عثمان فإنه لم ينتقد الناس على ما فعلوا.

ص: 191


1- فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، ... ومسلمة". وقعة صفين، ص200، رسل معاوية إلى علي (علیه السلام)

الثالثة: أن معاوية وآباءه وأجداده كانوا منذ البداية معادين للإسلام، وأن دخولهم في الإسلام كان بالإكراه، فلم يسلموا حقيقة أبداً.

الرابعة: أن أهل البيت لم يكن يقاس بهم أحد ولا يعادلهم أحد في فضائلهم.

ص: 192

هل قتل عثمان مظلوماً؟

لم يؤثر كلام الحق الذي قاله أمير المؤمنين (علیه السلام) في شرحبيل. وبدلاً من أن يذعن للحق ويقر بأخطائه ويتراجع عن طريق الباطل، ردّ على أمير المؤمنين (علیه السلام) بأن قال: أتشهد أن عثمان قتل مظلوماً؟ فقال لهما (شرحبيل ومعن بن يزيد): إني لا أقول ذلك. قالا : فمن لم يشهد بأن عثمان قتل مظلوماً فنحن برآء منه. ثم قاما فانصرفا. (1)

النقطة الهامة التي في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) الشرحبيل هي أنه بالرغم من أن الإمام(علیه السلام) الم يشترك في قتل عثمان فإنه لا يراه قتل مظلوماً. لأنه (علیه السلام) طالما نبّه عثمان على ضرورة إصلاح تصرفاته، واعتبرها مخالفة للشرع وأنها هي المسؤولة عن قتله.

ص: 193


1- "قال له شرحبيل ومعن بن يزيد: أتشهد ... فانصرفا". تاريخ الطبري، ج3، ص81 ، حوادث سنة 37 هجرية ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 4، ص 24، من أخبار يوم صفين.

ص: 194

الفصل الرابع

اشارة

ص: 195

ص: 196

حرب شاملة

مع بداية شهر صفر من سنة 37 هجرية انتهى وقف القتال الذي استمر شهراً واحداً، واختار كل طرف قادته ووضع جيشه في وضع التأهب للقتال. (1)

خُلُق الجهاد

خطب أمير المؤمنين(علیه السلام) في جيشه وبيّن للمقاتلين أخلاق الجهاد، فقال لهم:

- أن لا يبدأوا أهل الشام بالقتال، لتتم عليهم الحجة.

- إذا تحقق لهم النصر فلا يقتلوا الهاربين ولا يجهزوا على الجرحى.

- أن لا يجردوا القتلى من ثيابهم ليغتنموها.

- أن لا يمثلوا بقتيل.

إذا تمكنوا من معسكر الأعداء فلا ينتهكوا حرماتهم ولا يدخلوا داراً إلّا بإذنه.

- أن لا يغتنموا إلاّ ما حصلوا عليه في ميدان الحرب

- أن لا يؤذوا امرأة حتى وإن شتمتهم وشتمت قادتهم أو صلحاءهم. (2)

ص: 197


1- وقعة صفين، ص 202، إعلان الحرب.
2- " أن علياً (علیه السلام) كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد اللّه على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم. فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً إلا بإذني ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم. ولا تهيجوا امرأة بأذىً وإن شتمن أعراضكم وتناولن أمراءكم وصلحاءكم". وقعة صفين، ص 203، خطبة علي عند كل لقاء للعدو.

قادة جيش أمير المؤمنين(علیه السلام)

يفيد مختلف الوثائق التاريخية بأن أمير المؤمنين (علیه السلام) نظم صفوف جيشه لمواجهة جيش الشام على النحو التالي:

جعل الإمام الحسن والإمام الحسين (علیها السلام) و عبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل(1) على الميمنة. عبدالله وجعل محمد بن الحنفية(2) ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال على الميسرة.

أما القلب فجعل عليه عبدالله بن عباس والعباس بن ربيعة بن الحارث (3) ومالك الأشتر والأشعث بن قيس. وعلى الجناح جعل سعيد بن قيس وعبدالله بن بديل ورفاعة بن شداد (4) وعدي بن حاتم.

ص: 198


1- مسلم بن عقيل من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسين (علیهم السلام). تزوج من رقية بنت الإمام علي (علیه السلام) فأنجبت له عبد الله ومحمداً استشهدا في سبيل الحسين .. بعث به الإمام الحسين(علیه السلام) سفيراً إلى الكوفة ولكن أهل الكوفة غدروا به وأسلموه فاستشهد على أيدي أزلام عبيدالله بن زياد يقول عنه السيد الخوئي: لا يمكن وصف عظمته بالكلمات. معجم رجال الحديث، ج 18، ص 149، ترجمة مسلم بن عقيل الرقم 12333 ؛ مستدركات علم رجال الحديث، ج 7، ص 413 ، ترجمة مسلم بن عقيل، الرقم 14912.
2- هو محمد بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقب بابن الحنفية. أمه خولة بنت جعفر بن قيس بن سلمة بن ثعلبة بن دول بن حنفية. كانت من أسرى اليمامة الذين أسروا بسبب موالاتهم لأمير المؤمنين (علیه السلام). أريد لها أن تباع ولكن أميرالمؤمنين(علیه السلام) تزوجها. لم يشهد محمد بن الحنفية واقعة كربلاء. ويرى بعض العلماء، أمثال العلامة الحلي، أن المرض منعه من تنقيح المقال في علم الرجال، ج3، ص111، ترجمة محمد بن الحنفية.
3- العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبدالملك أحد القادة المحاربين في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) وهو من بني هاشم. برز في معركة صفين وقتل الرجل الذي برز له بمنتهى الشجاعة. فدعاه أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال له: ألم أنهك والحسنين وعبد الله بن جعفر من المبارزة الفردية؟ قال: بلى، ولكن كيف لي أن أدعى إلى البراز فلا أجيب، جعلت فداك؟ فقال (علیه السلام) : طاعة الإمام أولى من الإجابة إلى مبارزة العدو. إن معاوية يود أن لا يبقى رجل من بني هاشم على وجه الأرض. استشهد في معركة صفين. قاموس الرجال، ج 6، ص11، ترجمة العباس بن ربيعة بن الحارث، الرقم 3891.
4- يعد الشيخ الطوسي رفاعة بن شداد من أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن (علیهما السلام) سجنه عبيدالله بن زياد في أيام عاشوراء فلم يتمكن من نصرة الإمام الحسين(علیه السلام) . كان من رؤساء التوابين الذين ثاروا مع المختار بعد استشهاد الإمام الحسين (علیه سلام). على أنه كان متردداً بشأن أهداف ثورة المختار وقاتل ضده إلى جانب عبيدالله بن زياد ولكن ما إن اتضحت له الصورة حتى التحق بالمختار وكانت عاقبته خيراً، إذ استشهد في سبيل الثأر لشهداء كربلاء. قاموس الرجال، ج 4، ص378، ترجمة رفاعة بن شداد، الرقم 2871 .

أما القوات الساندة الكامنة فكانت بقيادة عمار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة (1)وقبيصة بن جابر الأسدي.

ص: 199


1- يعد الشيخ الطوسي عامر بن واثلة من صحابة رسول اللّه (علیه السلام) ولد يوم غزوة أحد . كنيته أبو الطفيل. أدرك ثمانية أعوام من حياة النبي (علیه السلام) . وكان من خاصة أصحاب أمير المؤمنين والإمام الحسن (علیه السلام). قاتل في صفين قتالاً شديداً، ثم جاء إلى الإمام (علیه السلام) وقال له: يا أمير المؤمنين (علیه السلام) ! لقد أخبرتنا أن أشرف قتلة هي الشهادة وأنفع الأعمال الصبر والثبات. وها قد استشهد خلصاء أصحابنا وبقي الضعفاء. ولكن لنا ديناً لا يعتريه الهوى والشهوة، وإيماناً لا يعتريه الشك. فأيده الإمام(علیه السلام) وأثنى عليه. إن موقف أميرالمؤمنين (علیه السلام) المؤيد لكلام أبي الطفيل يدل على صدق إيمانه وإخلاصه وقال الإمام (علیه السلام) لأبي الطفيل في موضع آخر: لو أمرت الشيعة بما أعلم من كتاب اللّه بصفتي أميراً للمؤمنين لتفرقوا عني ولم يبق منهم إلّا القليل. فسأله أبوالطفيل: هل يبقى أمثالي على الوفاء أم نتفرق مع من يتفرق عنك؟ فقال (علیه السلام): بل تثبتون. كان أبو الطفيل يحب أميرالمؤمنين (علیه السلام) حباً خاصاً. فقد سأله معاوية بعد استشهاد الإمام (علیه السلام) : ما تحس نحو صاحبك أبي الحسن؟ فقال أبو الطفيل: إني أحزن لفراق علي (علیه السلام) كما حزنت أم موسى (عليه السلام) عند فراقه قاموس الرجال، ج5، ص 627 ، ترجمة عامر بن واثلة، الرقم 3873.

قادة جيش معاوية

لما رأى معاوية استعداد الإمام (علیه السلام)وجيشه للقتال، قام هو بتنظيم صفوف جيشه على النحو

التالي: على الميمنة جعل ذا الكلاع وحوشب، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة، وعلى وسط الجيش جعل الضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد. كما جعل بسر بن أرطاة(1) في مؤخرة العسكر، وعلى الجناح وجانب العسكر عبدالله بن مسعدة وهمام بن قبيصة (2)وأسند قيادة قوات الكمن إلى أبي الأعور السلمي وحابس بنسعد (3)

ص: 200


1- بسر بن أرطاة كان من أشد النواصب عداوة للإمام علي ولأهل البيت (علیه السلام) وهو من أنصار عثمان وقادة جيش معاوية. أصابته دعوة الإمام علي (علیه السلام) فذهب عقله. الطبقات الكبرى، ج 7، ص 409، ترجمة بسر بن أرطاة. اختلف علماء السنة حول تاريخ ولادته. ففي حين يرى أغلب علماء التراجم والرجال من أهل السنة أنه ولد قبل وفاة النبي (صلی اللّه علیه وآله) بسنتين، توجد وثائق تفيد بأنه ولد قبل ذلك بسنوات. يعتبره أبو الحسن الدارقطني من صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ولكنه يضعفه ويجرحه، فيقول: لم يستقم بسر بن أرطاة على السبيل الصحيح بعد وفاة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله). هو الذي قتل ابني عبيدالله بن عباس وهما صغيران. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص 241 و 242 ، ترجمة بسر بن أرطاة، الرقم 175 . كما أسلفنا، فإن بسر بن أرطاة كان من ألت أعداء الإمام علی (علیه السلام) عينه معاوية والياً على البصرة حوالي سنة 42 هجرية فشغل المنصب نحواً من ستة أشهر. صعد المنبر يوماً وشتم الإمام علياً (علیه السلام) بكلمات نابية ثم قال للحاضرين: أستحلفكم باللّه إن كان ما قلته في علي هو الحق. فقال له أبوبكرة: واللّه إن ما قلته في علي ليس حقاً بل كذب. فأمر بسر بضربه فضرب حتى غاب عن الوعي. الكامل في التاريخ، ج2، ص 452، حوادث سنة 41، ذكر ولاية بسر على البصرة ؛ المنتظم في تواريخ الملوك والأمم، ج 4، ص 8، سنة 41 وفي هذه السنة غلب حمران بن أبان على البصرة. ارتكب بسر بن أرطاة جرائم كثيرة في حياته وقتل الكثير من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ومحبيه في عهد معاوية، وهو ما سنتناوله في الفصل الأخير من الكتاب. يفيد العديد من التقارير التاريخية أن بسر بن أرطاة مات سنة 86 هجرية في عهد عبدالملك بن مروان تاركاً الدنيا حاملاً جبالاً من الجرائم والجنايات. الثقات، ج3، ص 36، ترجمة بسر بن أرطاة ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص216، غارة بسرين أبي أرطاة ؛ الطبقات الكبرى، ج 7، ص 409، ترجمة بسر بن أبي أرطاة ؛ تاريخ بغداد أو مدينة السلام، ج1، ص211، ترجمة بسر بن أرطاة، الرقم 49
2- كان همام بن قبيصة من قواد جيش معاوية في صفين. وكان يبغض أمير المؤمنين( علیه السلام) بشدة. وكان ممن يكثر من شتمه (علیه السلام)وقعة صفین، ص 397 ، حملة عدي بن حاتم.
3- "فجعل على ميمنته الحسن والحسين (علیها السلام) وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل، وعلى ميسرته محمد بن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال، وعلى القلب عبد الله بن العباس وعباس بن ربيعة بن الحارث والأشتر والأشعث، وعلى الجناح سعید بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ورفاعة بن شداد البجلي وعدي بن حاتم، وعلى الكمين عمار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن واثلة الكناني وقبيصة بن جابر الأسدي. وجعل معاوية على ميمنته ذا الكلاع الحميري وحوشب ذا الظليم، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة، وعلى القلب الضحاك بن قيس الفهري وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى الساقة بسر بن أرطاة الفهري وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاري وهمام بن قبيصة النمري، وعلى الكمين أبا الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي". مناقب آل أبي طالب، ج3، ص 168، في حرب صفين

أشهر ما امتاز به قادة معاوية الخوف والجبن. فلم يشترك أغلبهم في القتال واتخذوا من الجنود تروساً لهم قدر ما استطاعوا. وكان ذلك من الوضوح بحيث احتج أحد كبراء الشام على معاوية فقال له: يا معاوية! إنه قتل في هذا اليوم منا سبعمائة رجل من مقاتلة أهل الشام ولم يقتل من أصحاب علي إلاّ أقل من ذلك، وأنت الذي تفعل بنا ذلك، لأنك تولي علينا من لا يقاتل معنا، مثل عمرو بن العاص وبسر بن أبي ( هكذا:م) أرطاة وعبدالرحمن بن خالد وعتبة بن أبي سفيان. وكل واحد من هؤلاء إنما يقاتل ساعة ثم يخرج من الغبار. (1)

ص: 201


1- "أقبل إلى معاوية رجل من أجلاء أهل الشام حتى وقف بين يديه، فقال: يا معاوية! .. الغبار". الفتوح، المجلد الثاني، ص130، ذكر ما كان بعد ذلك من القتال.

معاوية يرشو معارضي الحرب

كما أسلفنا، فإن قادة جيش معاوية في صفين كانوا يفرون من القتال بمجرد أن يواجهوا أدنى خطر. وإذا كان هذا حال القادة فإن ذلك يؤثر بشدة على المقاتلين ويثبط عزيمتهم. لاحظ معاوية ذلك وأدرك أنه لن ينال النصر بهذه الحالة، فدعا جنده وقال لهم: يا أهل الشام! دعوا ما مضى. إني أريد منكم اليوم أن تجدوا في حربكم وتقدموا عزمكم وتفرغوا مجهودكم، وسلوني حوائجكم (قال): فوثب عك والأشعريون فقالوا: يا معاوية! إننا قد قاتلنا معك علي بن أبي طالب، ثم إن قلوبنا لتميل إليه لأننا لا نشك في حقه ولا نشك في باطلك. غير أننا قوم (أشعريون يمنيون) من أهل الشام، فلم تحب ( هكذا، ربما نحب :م) أن تخرج أيدينا من طاعتك وقد علمت أنه ليس لنا ضياع ولا قرى. إنما نحن أصحاب إبل وغنم، فنريد منك الفرض والقطائع والعقارات، وإلّا قلبنا أعنة الخيل إلى غيرك. فقال معاوية: نعم واللّه، وكرامة لكم، فهاتوا ما الذي تريدون؟ قالت عك: أما نحن فإننا نريد الفرض والعطاء. وقال الأشعريون: نريد منك أن تقطعنا حوران (1)والتثنية (هكذا: م) فيكون لنا ولعقبنا من بعدنا. فقال معاوية : فإني قد فعلت ذلك وكرامة لكم. (2)

ص: 202


1- حوران منطقة واسعة من دمشق تضم الكثير من القرى ذات الأراضي الخصبة. معجم البلدان، ج2، ص317، حوران.
2- "فلما كان من غد، وثب معاوية فعبأ أصحابه ثم قال: يا أهل الشام ... لكم". الفتوح، المجلد الثاني، ص131، ذكر ما كان بعد ذلك من القتال

خيانة بعض أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) وحبهم للدنيا

أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) بما بذله معاوية لقادة جيشه، فتحركت أطماع من في قلوبهم مرض والمشككين، فترك بعضهم الإمام (عليه السلام) والتحق بمعاوية، فيما تحيّن بعض آخر الفرصة لذلك. وشاعت هذه القضية في جيش الإمام (علیه السلام) .

لما رأى المنذر بن حفصة الهمداني، وكان من خلّص أصحاب الإمام (علیه السلام) وأنفذهم بصيرة، ما جرى، قال للإمام (علیه السلام) : يا أمير المؤمنين ! إن عكاً والأشعريين قد طلبوا من معاوية الفرض والعطاء والعقارات من حوران والثنية (هكذا :م) وغير ذلك. قد باعوا الدين بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى. ونحن قد رضينا بالآخرة من الدنيا وبالعراق من الشام وبك من معاوية. واللّه إننا لنعلم أن آخرتنا لأشرف من دنياهم وأن عراقنا لخير من شامهم وأن إمامنا لأهدى من إمامهم، فعليك بالصبر واحملنا على الموت. فها نحن بين يديك وتحت ركابك. فأدناه علي (علیه السلام) منه وقبل بين عينيه وقال: أبشروا! فإني أرجو من اللّه أن تكونوا ممن يجاور محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) غداً في جنة النعيم . (1)

ص: 203


1- بلغ أصحاب علي [عليه السلام] ذلك، فلم يبق خلق من أهل العراق ممن كان في قلبه مرض أو شك إلّا وطمع في معاوية وشخص ببصره نحوه أو همّ أن يصير إليه. حتى فشا ذلك في الناس. قال: فوثب المنذر بن حفصة الهمداني إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين! .. النعيم". الفتوح، المجلد الثاني، ص131، ذكر ما كان بعد ذلك من القتال.

حادثة راية عمرو بن العاص

اشارة

كان عمرو بن العاص في حرب صفين قد عقد قطعة قماش سوداء، قالوا إن النبي (صلی اللّه علیه وآله) أعطاه إياها، في رأس رمح ليتخذها مؤشراً على مشروعيته ومشروعية جيشه ليدخل الشك في قلب الجيش المواجه له. فلما سمع أمير المؤمنين (علیه السلام) بذلك قال: هل تدرون ما أمر هذا اللواء؟ إن عدو اللّه عمرو بن العاص أخرج له رسول اللّه (صلی اللبه علیه وآله) هذه الشقة فقال: من يأخذها بما فيها؟ فقال عمرو: وما فيها يا رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) قال : فيها أن لا تقاتل به مسلماً ولا تقربه من كافر، فأخذها. فقد واللّه قرّبه من المشركين وقاتل به اليوم المسلمين. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسّروا الكفر. فلما وجدوا أعواناً رجعوا إلى عدواتهم (هكذا :م ) منا، إلّا أنهم لم يدَعوا الصلاة (1)

أ - دعوة إلى المبارزة

شهد شهر صفر ذروة الاشتباكات بين الفريقين، وفي كل يوم كان يتقاتل فريقان. وفي واحد من تلك الأيام دعا أمير المؤمنين (علیه السلام) معاوية إلى البراز وقال له: ويحك !علام يقتتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضاً؟ ابرز إلي، فأينا قتل صاحبه فالأمر له. فالتفت معاوية إلى عمرو فقال: ما ترى يا أباعبدالله فيما هاهنا، أبارزه؟ فقال عمرو: لقد أنصفك الرجل، واعلم أنه إن نكلت عنه لم تزل سبة عليك وعلى عقبك ما بقي عربي. فقال معاوية: يا عمرو بن العاص ! ليس مثلي يخدع نفسه. واللّه ما بارز علي بن أبي طالب رجلاً قط إلا سقى الأرض من دمه.

(2)

ص: 204


1- "عن شيخ من بكر بن وائل قال: كنا مع علي بصفين، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح، فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول اللّه (صلی اللّه علیه واله) . فلم يزالوا كذلك حتى بلغ علياً، فقال: هل تدرون ... الصلاة". وقعة صفين، ص215، القول في إيمان أهل الشام.
2- "قام علي بين الصفين ثم نادى: يا معاوية يكررها. فقال معاوية اسألوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة. فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو وقال لمعاوية: ويحك! ... دمه". وقعة صفين، ص 274، طلب علي من معاوية أن يبارزه.

بعد حرب صفين، أعرب معاوية عن عتبه على عمرو بن العاص لتلك المشورة، الأمر الذي جعل معاوية يسيء الظن بعمرو بن العاص. وتذكر بعض المصادر أن معاوية، بعد ما سمع رأي عمرو بن العاص، قال له: طمعت فيها (يعني الخلافة) بعدي. (1)

الشيء الوحيد الذي جمع معاوية وعمرو بن العاص هو مواجهة أمير المؤمنين (علیه السلام) فقد كان أساس صداقتهما وتقاربهما المصالح الشخصية، وكان كل منهما على حذر من مكر صاحبه. لذا، فبعد أن تحقق لعمرو بن العاص ما أراد من حكم مصر، امتنع من إجابة معاوية إلى إرسال خراج مصر إليه، فهو لم يعد بحاجة إليه.

ب - ممانعة أخي معاوية

لما دعا أمير المؤمنين (علیه السلام) معاوية إلى المبارزة، منع عتبة بن أبي سفيان أخاه معاوية من البراز إليه، لعلمه الكامل بشجاعة علي بن أبي طالب (علیه السلام) بعد أن شاهدها بعينه في حروب صدر الإسلام، وقال لمعاوية: اله عن كلام علي حتى كأنك لم تسمعه. فإنك تعلم أنه قد قتل غلامك حريثاً وفضح عمرو بن العاص وليس أحد من العرب يقدم على مبارزة علي إلاّ وهو من نفسه آيس. فإياك ومبارزته! فإنه واللّه لئن برزت إليه لا شممت رائحة الحياة بعدها أبداً.(2)

ص: 205


1- نادى معاوية فقال: علام يقتتل الناس بيننا؟ هلم أحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفك. فقال له معاوية ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز له أحد إلا قتله. فقال له عمرو: ما يحسن بك ترك مبارزته. فقال له معاوية: طمعت فيها بعدي". الكامل في التاريخ، ج2، ص 382، حوادث سنة 37 هجرية ؛ الأخبار الطوال، ص 262، طلب علي (علیه السلام) من معاوية أن يبارزه.
2- "فسمع معاوية كلام علي (علیه السلام) فقال : واللّه لقد دعاني إلى النزال حتى لقد استحييت من قريش. قال: فقال له أخوه عتبة: الهُ .... أبداً". الفتوح، المجلد الثاني، ص103، ثم رجعنا إلى الخبر.

206

شجاعة أمير المؤمنين (علیه السلام)

في حرب صفين، تجنّب مبارزة أمير المؤمنين (علیه السلام) أولئك الذين كانوا على علم بشجاعته، لأنهم كانوا يعلمون أنهم ليسوا أكفاء له وأن احتمال فوزهم عليه صفر. ونقتبس هنا مقاطع من ابن أبي الحديد تبين بشكل جميل شجاعته (علیه السلام) في الحروب. يقول: وأما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ومحا اسم من يأتي بعده .ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. وهو الشجاع الذي ما فرّقط ولا ارتاع من كتيبة ولا يبارز أحداً إلا قتله ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية. وفي الحديث "كانت ضرباته وتراً". ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك. فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلّا اليوم. أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ؛ فأما قتلاه، فافتخار رهطهم بأنه (علیه السلام) قتلهم أظهر وأكثر. ( هكذا:م) قالت أخت عمرو بن عبدودّ ترثيه:

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** بكيته أبداً مادمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له *** وكان يدعى أبوه بيضة البلد

وانتبه يوماً معاوية فرأى عبدالله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبدالله يداعبه يا أمير المؤمنين ! لو شئت أن أفتك بك لفعلت. فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبابكر. قال: وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقعت في الصف إزاء علي بن أبي طالب! قال: لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها. وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي وباسمه ينادى في مشارق الأرض ومغاربها. وأما القوة والأيد فبه يضرب المثل فيهما. قال ابن قتيبة في المعارف: ما صارع أحداً قط إلّا صرعه، وهو الذي قلع باب خيبر واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه ، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة، (يوم فتح مكة) وكان عظيماً جداً، وألقاه إلى الأرض، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته بيده (علیه السلام) بعد

ص: 206

عجز الجيش كله عنها وأنبط الماء من (1)وعن شجاعته يقول نصر بن مزاحم أنه (علیه السلام) قتل في ليلة اسلام الهرير أكثر من خمسمائة من شجعان الشام ومعروفيها، وقاتل حتى انحنى سيفه حتى اضطر للخروج من ساحة القتال الصقل سيفه. (2)

ص: 207


1- شرح نهج البلاغة، ج1، ص 20، القول في نسب أمير المؤمنين (علیه السلام) وذكر لمع يسيرة من فضائله.
2- "إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من أعلام العرب، يخرج بسيفه منحنياً . وقعة صفين، ص477، دعاء علي يوم الهرير.

دور عمار بن ياسر المحوري في صفين

كان عمار بن ياسر من الوجوه البارزة في جيش أمير المؤمنين (علیه سلام) الذين يعرف العدو والصديق منزلته وفضائله. لقد كان وجوده مع أمير المؤمنين (علیه السلام) سبباً في اطمئنان الكثير ممن كانوا معه وزوال عن قلوبهم بأحقية أمير المؤمنين (علیه السلام) وسبباً، في الوقت نفسه، في دخول الشك والترديد في قلوب أهل الشام. وكان السوابقه الباهرة في حياة النبي (صلی اللّه علیه وآله) والأحاديث الكثيرة الصادرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) في حقه التي تفيد بأنه تقتله الفئة الباغية (1)، الأثر البالغ في هداية الكثير من الناس. فقد جاء رجل من جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وكان في قلبه شك، إلى عمار في صفين وقال له: إني خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم وأنهم على الباطل. فلم أزل على ذلك مستبصراً حتى كان ليلتي هذه صباح يومنا هذا، فتقدم منادينا فشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ونادى بالصلاة، فنادى مناديهم بمثل ذلك. ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة ودعونا دعوة واحدة وتلونا كتاباً واحداً ورسولنا واحد، فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبتّ بليلة لا يعلمها إلّا اللّه حتى أُصبحت، فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له فقال: هل لقيت عمار بن ياسر؟ قلت: لا. قال: فالقه فانظر ما يقول لك فاتبعه فجئتك لذلك. قال له عمار: هل تعرف صاحب الراية السوداء المقابلتي؟ فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ثلاث مرات وهذه الرابعة، ما هي بخيرهن ولا أبرهن، بل هي شرهن وأفجرهن. أشهدت بدراً وأحداً وحنيناً أو شهدها لك أب فيخبرك عنها ؟ قال : لا . قال : فإن مراكزنا على مراكز رايات رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين، وإن هؤلاء على مراكز رايات المشركين من الأحزاب. هل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ فوالله لوددت أن جميع من أقبل مع معاوية ممن يريد قتالنا مفارقاً

ص: 208


1- "إن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول بؤس ابن سمية تقتلك الفئة الباغية". صحیح مسلم، ج 8، ص 185، کتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء ؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص230 ، ترجمة عمار بن ياسر الرقم 1883 ؛ سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 142، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25

للذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته. واللّه لدماؤهم جميعاً أحل من دم عصفور. أفترى دم عصفور حراماً؟

قال: لا، بل حلال. قال: فإنهم كذلك حلال دماؤهم. أتراني بينت لك؟ قال: قد بيّنت لي. قال: فاختر أي ذلك أحببت. (قال): فانصرف الرجل ثم دعاه عمار بن ياسر فقال: أما إنهم سيضربوننا بأسيافهم حتى يرتاب المبطلون منكم فيقولون: لو لم يكونوا على حق ما ظهروا علينا. واللّه ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب. واللّه لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أنا على حق وهم على باطل. وأيم اللّه لا يكون سلماً سالماً أبداً حتى يبوء أحد الفريقين على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين وحتى يشهدوا على الفريق الآخر بأنهم على الحق وأن قتلاهم في الجنة وموتاهم. ولا ينصرم أيام الدنيا حتى يشهدوا بأن موتاهم وقتلاهم في الجنة وأن موتى أعدائهم وقتلاهم في النار وكان أحياؤهم على الباطل. (1)

يقول أحد أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) عن دور عمار بن ياسر المحوري: رأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا وادٍ من أودية صفين إلّا رأيت أصحاب محمد (صلی اللّه علیه وآله) يتبعونه كأنه علم لهم (2)انتاب أحد الأشخاص، في حرب صفين، شك في حقانية الحرب على أهل الشام فسأل عمار بن ياسر: يا أبا اليقظان ،ألم يقل رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) قاتلوا الناس حتى يسلموا، فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم؟ قال: بلى، ولكن واللّه ما أسلموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكفر حتى وجدوا عليه أعوان (3)إذن، كما يقول عمار ، فإن الإمام (علیه السلام) قاتل في صفين أناساً كانوا مسلمين في الظاهر وهم يضمرون الكفر ويسعون بكل جهدهم إلى إطفاء نور الإسلام.

ص: 209


1- عن أسماء بن الحكم الفزاري قال: كنا بصفين مع علي بن أبي طالب تحت راية عمار بن ياسر ارتفاع الضحى استظللنا برد أحمر إذ أقبل رجل يستقرئ الصف حتى انتهى إلينا فقال: أيكم عمار بن ياسر؟ فقال عمار بن ياسر: هذا عمار. قال: أبواليقظان؟ قال: نعم. قال: إن لي حاجة إليك فأنطق بها علانية أو سراً؟ قال: اختر لنفسك أي ذلك شئت. قال: لا، بل علانية. :قال فانطق قال: إني خرجت .. الباطل". وقعة صفين، ص 322 ، عمار والمستبصر.
2- "روى أعمش عن أبي عبد الله السلمي قال: شهدنا مع علي (علیه السلام) صفين فرأيت عمار ... علم لهم". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 229، ترجمة عمار بن ياسر، الرقم 1883.
3- "عن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صفين قال رجل لعمار: يا أبا اليقظان! ... أعواناً. وقعة صفين، ص215، القول في إيمان أهل الشام.

ينقل المرحوم الشيخ عباس القمي عن البيهقي ما يدل على أن معاوية تظاهر بالدخول في الإسلام ولكنه لم يؤمن أبداً بالإسلام ونبيه وكتابه. يقول الشيخ عباس القمي: قيل للبيهقي: إن معاوية خرج من الإيمان بمحاربة علي (علیه السلام)، قال : إن معاوية لم يدخل في الإيمان حتى يخرج منه، بل خرج من الكفر إلى النفاق في زمن الرسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ثم رجع إلى كفره الأصلي بعده. (1)

لقد شهد أبوذر ، الذي نفاه عثمان إلى الشام مدةً، تحقق نبوءة عمار. فإن له كلاماً في أهل الشام يبين ضلالتهم وتيههم. قال وهو يرى أوضاعهم الثقافية والعقائدية : واللّه لقد حدثت أعمال ما أعرفها واللّه ما هو في كتاب الله ولا سنة نبيه. واللّه إني لأرى حقاً يُطفأ وباطلاً يُحيي

(2)

ص: 210


1- "إن معاوية ... بعده" . الكنى والألقاب، ج2، ص 114، ترجمة البيهقي.
2- شرح نهج البلاغة ، ج 8، ص 256، ذيل الخطبة 130.

تحلیل تردد خزيمة بن ثابت

يدّعي بعض المؤرخين أن خزيمة بن ثابت كان ممن انتابه الشك في قتال أهل الشام وكان هو في جيش الإمام (علیه السلام) وقيل إنه تعرض للموقف نفسه في حرب الجمل فلم يشارك في قتال أهل الفتنة. كذلك فإنه لم ينزل إلى ميدان القتال في صفين، وكان يقول: لا أقاتل أبداً حتى يُقتل عمار فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ويقول : تقتله الفئة الباغية (قال): فلما قتل عمار قال خزيمة: قد أبانت الضلالة. ثم اقترب فقاتل حتى قتل. (1)

ولكن يبدو أن شك خزيمة بن ثابت وترديده لا صحة لهما ، لأنه كان من الثابتين على مناصرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وهناك روايات كثيرة تتحدث عن معرفته السامية بولاية الإمام (علیه السلام) وكان من الاثني عشر شخصاً الذين اعترضوا على غصب أبي بكر الخلافة، وكان يرى أنها حق لأمير المؤمنين (علیه السلام) (2) ويعده الإمام الرضا(علیه السلام) ، كما هو حال ،سلمان من الذين استقاموا على طريق الحق بعد وفاة النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ولم ينحرفوا عنه بل ثبتوا عليه. (3)

ص: 211


1- عن عمارة بن خزيمة بن ثابت :قال شهد خزيمة الجمل فلم يسلّ سيفاً، وشهد صفين فقال: لا أقاتل .. حتى قتل". أنساب الأشراف، ج3، ص92، مقتل عمار بن ياسر.
2- "عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد علي الناس في الرحبة من سمع النبي (صلی اللّه علیه وآله) یوم غدير خم ما قال إلّا قام، ولا يقوم إلّا من سمع رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يقول . فقام بضعة عشر رجلاً فيهم أبو أيوب الأنصاري وأبوعمرة بن عمرو بن محصن وأبوزينب وسهل بن حنيف وخزيمة بن ثابت وعبد الله بن ثابت الأنصاري وحبشي بن جنادة السلولي وعبيد بن عازب الأنصاري وعبدالرحمن بن عبدرب الأنصاري، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول (صلی اللّه علیه وآله) يقول : ألّا إن اللّه عزّ وجلّ ولبي وأنا ولي المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهُمَ وال من والاه وعاد من عاداه وأحبّ من أحبه وأبغض من أبغضه وأعن من أعانه". أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص 465 ، ترجمة عبد الرحمن بن عبدرب الأنصاري، الرقم 3347.
3- "الذين مضوا على منهاج نبيهم (صلی اللّه علیه وآله) ولم يغيروا ولم يبدلوا مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة اليماني وأبي الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبي أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين". عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ، ج2، ص 134، باب ما كتبه الرضا (علیه السلام) للمأمون في محض الإسلام وشرائع الدين وفيه حديثا، (هكذا: م) الرقم 35.

هذا وقد نُقلت عنه عنه أشعار في معركة الجمل تؤكد أنه لم يتعرض لأي شك أو ترديد في أحقية أمير المؤمنين (علیه السلام) ، حيث يقول:

لم يغضبوا الله إلا للجمل ... والموت خيرٌ من مقام في جمل

والموت أحرى من فرار وفشل ... والقول لا ينفع إلّا بالعمل (1)

وفي موضع آخر يخاطب عائشة قائلاً:

أعائش خلي عن علي وعيبه *** بما ليس فيه إنما أنت والدة

وصي رسول اللّه من دون أهله *** وأنت على ما كان من ذاك شاهدة

وحسبك منه بعض ما تعلمينه *** ويكفيك لو لم تعلمي غير واحدة

إذا قيل ماذا عبت منه رميته *** بخذل ابن عفان وما تلك آبدة

وليس سماء اللّه قاطرة دماً *** لذاك وما الأرض الفضاء بمائدة (يعني مقتل عثمان)(2)

فهل من المعقول أن يشك قائل مثل هذه الأشعار في حرب الجمل في حقانية أمير المؤمنين(علیه السلام) في صفين فلا يسل سيفاً فيها؟ كيف يمكن تصديق أن من يعتبر قادة حرب الجمل مستحقين للغضب الإلهي، يمكن أن يشك في ضلالة معاوية ومن معه؟

هذه الأشعار تدل على أنه كان راسخ القدم مع أمير المؤمنين (علیه السلام) وأن دوره في الجمل وصفين كان متميزاً. الحقيقة أنه كان من الصعب جداً على خصوم أمير المؤمنين (علیه السلام) تقبل وجود صحابي بدري جليل كخزيمة بن ثابت الذي اعتبر النبي (صلی اللّه علیه وآله) شهادته شهادتين فلقب بذي الشهادتين مع علي بن

ص: 212


1- قال خزيمة بن ثابت في يوم الجمل: لم يغضبوا ... بالعمل". مناقب آل أبي طالب، ج2، ص 345، فصل: فيما ظهر منه (علیه السلام) في حرب الجمل ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج32، ص181 ، الباب الثالث، باب ورود البصرة ووقعة الجمل.
2- "وقال خزيمة أيضاً في يوم الجمل: أعائش ... بمائدة". شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 146 ، ذيل الخطبة الثانية، ما ورد في الوصاية من الشعر.

أبي طالب (علیه السلام) لهذا شنوا عليه حملات إعلامية وصلت حد الزعم بأنه لم يكن مع الإمام (علیه السلام) بل مات في زمن عثمان. (1)

ص: 213


1- "عن الحكم قيل: أشهد خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين الجمل؟ فقال: ليس به ولكنه غيره من الأنصار ؛ مات ذوالشهادتين في زمن عثمان " . ، ج 18 ، ص 267 ، ترجمة خزيمة بن ثابت، الرقم 1946.

تنويرات عمار

دأب عمار بن ياسر على نشر الوعي في صفوف جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) فكان يبين للمقاتلين حقيقة العدو ويزيل الشك عن قلوبهم. ففي أحد أيام صفين خطب في الجنود خطبة كشف فيها عن الوجه الحقيقي لأهل الشام، فقال: امضوا [معي] عباد اللّه إلى قوم يطلبون، فيما يزعمون، بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد اللّه بغير ما في كتاب اللّه إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان، الأمرون بالإحسان، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم ولو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا: لإحداثه. فقالوا: إنه ما أحدث شيئاً. وذلك لأنه مكنهم من الدنيا فيهم (هكذا: م) يأكلونها ويرعونها ولا يبالون لو انهدت عليهم الجبال. واللّه ما أظنهم يطلبون دمه، إنهم ليعلمون أنه لظالم. ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروها وعلموا لو أن صاحب الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما يأكلون ويرعون فيه منها. ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: قتل إمامنا مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ولولا هي ما بايعهم من الناس رجلان. اللّهُمَ إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم. (1)

في موضع آخر تحدث عمار إلى القوة التي كانت تحت إمرته مشيراً إلى حادثة قتل عثمان فقال: .. هؤلاء القوم الذين يبغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوماً. واللّه إن كان إلّا ظالماً لنفسه، الحاكم بغير ما أنزل اللّه . (2)

يتضمن كلام عمار نقاطاً مهمة نشير إلى بعضها مثالاً :

الأولى: يبين كلام عمار أن أغلب اهل الشام كانوا من العوام ، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن مقتل عثمان ، وكانوا يظنون أن جماعة قتلته بغير سبب، فظنوا أنه قتل مظلوماً.

ص: 214


1- وقعة صفین، ص319 ، خطبة عمار بن ياسر.
2- "أن عمار بن ياسر نادى يومئذ : أين من يبغي رضوان ربه ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ قال: فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس! اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم .. اللّه". وقعة صفين، ص 326، نداء عمار بن ياسر. ص326،

الثانية: يقول عمار، وهو من كبار صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ، و إن عثمان كان مبدعاً وظالماً مخالفاً لأحكام اللّه وإن الصحابة قتلوه لهذه الأسباب.

الثالثة: إن قتلة عثمان لم يكونوا مجهولين ولا مغمورين بل كانوا أفراداً معروفين صالحين قتلوا عثمان بسبب انحرافه عن شرع اللّه وعدم تصحيح انحرافاته.

الرابعة: قتل عثمان، وتبعاً لذلك المطالبة بدمه، كان السبب الوحيد الذي بمقدوره جمع الناس حول معاوية. وإلّا فإن معاوية فاقد لأي أهلية أو كفاءة أو ميزة لقيادة الناس.

ص: 215

المتاعب التي سببها عمار بن ياسر لجيش معاوية

ذهب جماعة من أنصار معاوية، في أثناء حرب ،صفين، إلى عمرو بن العاص فقالوا له: ألست الذي رويت لنا أن النبي (صلی الله علیه وآله) قال : يدور الحق مع عمار حيثما دار؟ فقال عمرو: بلى، قد ذلك، رویت ولكنه يصير إلينا ويكون معنا. فقال له ذو الكلاع: هذا واللّه محال من الكلام. واللّه لقد أفحمك عمار حيث بقيت وأنت لا تقدر على إجابته. قال عمرو: صدقت، وربما كان كلام ليس له جواب.... فدعا معاوية عمرو بن العاص فقال: يا هذا ! إنك أفسدت أهل الشام عليّ ، أكلّ ما سمعت من رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) تقوله وترويه؟ ما أكثر ما سمعنا منه فلم نروه. فقال عمرو: يا هذا! واللّه لقد الحديث وأنا لا أظن أن صفين تكون، ولست أعلم الغيب. ولقد رويت أنت أيضاً في عمار مثل الذي رويت، فما ذنبي؟ (1)

تكشف هذه القصة التاريخية عن قمة الضلال والعناد اللذين كان عليهما قادة جيش الشام. لأن الدنيا تزينت لهم وملكت عقولهم وقلوبهم لدرجة أنهم تشبثوا بها وباعوا آخرتهم بها رغم يقينهم بأنهم على باطل وخصمهم على حق وأن عاقبتهم الخسران المبين، فحاربوا أهل الحق من أجل أطماعهم وشهواتهم.

يُنقل أن ذا الكلاع قُتل بعد استشهاد عمار بقليل. وفي لقاء جرى بين عمرو بن العاص ومعاوية، قال عمرو: واللّه يا معاوية! ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، واللّه لو بقي ذوالكلاع حتى يقتل عمار لمال بعامة قومه إلى علي ولأفسد علينا جندنا. (2)

ص: 216


1- الفتوح، المجلد الثاني، ص77، ذكر ما جرى من المناظرة بين أبي نوح وذي الكلاع الحميري.
2- "قد كان ذوالكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) العمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية وآخر شربة تشربها ضياح من لبن. فقال ذو الكلاع: ويحك ما هذا؟ قال عمرو: إنه سيرجع إلينا [ ويفارق أباتراب] ، وذلك قبل أن يصاب عمار. فأصيب عمار مع علي وأصيب ذو الكلاع مع معاوية، فقال عمرو: واللّه يا معاوية! .. جندنا". وقعة صفين، ص 341، مقتل ذي الكلاع ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص381، حوادث سنة 37 هجرية.

وجرى حديث آخر، في حرب صفين، بين عمرو بن العاص ومعاوية يفيد بأنهما كانا يعلمان بسوء عاقبتهما ولكن حبهما للدنيا منعهما من اتباع الحق.

في أثناء الحرب، أمر معاوية عمرو بن العاص بأن ينظم صفوف الجيش للقيام بهجوم. فقال له عمرو: على أن لي حكمي (تعطيني كل ما أريد) إن قتل اللّه ابن أبي طالب واستوسقت لك البلاد. قال: أليس حكمك في مصر ؟ قال : وهل مصر تكون عوضاً عن الجنة وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار الذي لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ؟ فقال معاوية: إن لك حكمك أباعبداللّه إن قتل ابن أبي طالب. (1)

نقل عمرو بن العاص الرواية الدالة على أن عمار بن ياسر يدور مع الحق تسبب في وقوع الشك في نفوس جماعة من أهل الشام من حقانية الحرب. وكان من هؤلاء عبدالله بن سويد الحميري الذي ذهب إلى ذي الكلاع وقال له: ما حديثُ سمعته من ابن العاص في عمار؟ فأخبره، فلما قتل عمار خرج عبدالله ليلاً يمشي فأصبح في عسكر علي (علیه السلام) وكان عبدالله من عبّاد أهل زمانه. وكاد أهل الشام أن يضطربوا لولا أن معاوية قال لهم: إن علياً قتل عماراً لأنه أخرجه إلى الفتنة .

(2)هناك حادثة أخرى يرويها أحد أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام) تبين التضليل الذي كان معاوية يمارسه مع الناس. قال عبدالرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا إلينا وتحدثوا (هكذا، ربما تحدثنا م) إليهم. فإذا معاوية وعمرو وأبوالأعور وعبدالله بن عمرو يتسايرون. فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون. فقال عبدالله لأبيه: يا أبت! هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) ما قال قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: ويحك يا ابن سمية، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر، وأنت ذلك تقتلك الفئة الباغية؟ فقال

ص: 217


1- "طلب معاوية إلى عمرو بن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام، فقال له عمرو: على أن لي .... طالب". شرح نهج البلاغة، جه، ص189، ذيل الخطبة 65 ، من أخبار يوم صفين ؛ وقعة صفین، ص 237 ، بين معاوية وعمرو بن العاص.
2- قد كان عبد الله بن سويد الحميري من آل ذي الكلاع قال لذي الكلاع ما حديث ... الفتنة". شرح نهج البلاغة، ج8، ص ،28 ، ذيل الخطبة ،124 ، عود إلى أخبار صفين.

عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبدالله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون إنما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم. (1)

ولكن إذا كان أهل الشام الجهلة صدقوا كلام معاوية، فإن عبدالله بن عمرو بن العاص (2)الذي كان يشك في حقانية الحرب منذ البداية التفت إلى معاوية وقال له: إذا كان الأمر كما تقول وأن عماراً قتله علي، كذلك حمزة بن عبد المطلب يوم أحد إنما قتله النبي (صلی الله علیه وآله) ولم يقتله وحشي. فقال معاوية لعمرو (مغضباً وقد أعياه الجواب) : نحّ عنا ابنك هذا الموسوس الذي لا يدري ما يقول .(3)

إن ما يؤسف له أن عبدالله بن عمرو بن العاص، مع اعترافه بحقانية أمير المؤمنين (علیه السلام) لدرجة أن يجادل معاوية فيها، تمنعه العصبية القبلية وحب الدنيا من اعتزال حزب معاوية.

ص: 218


1- الكامل في التاريخ، ج2، ص382، حوادث سنة 37 هجرية ؛ المنتظم في تواريخ الملوك والأمم، ج3، ص363، حوادث سنة 37 هجرية.
2- كان عبد اللّه بن عمرو بن العاص، كأبيه، من أعداء الإمام علي وأهل البيت (علیهم السلام). وكان على ميمنة جيش معاوية في صفين. تاريخ خليفة بن الخياط، ص118، حوادث [سنة] 38 هجرية، تفصيل خبر صفين. من المعروف في مصادر أهل السنة أن الفرق بين عمر عبد اللّه وعمر أبيه كان 11 سنة وأنه أسلم قبل أبيه، وحضر صفين عملاً بوصية الرسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) له أن: "أطع أباك". ولكنه لم يستل في الحرب سيفاً ولا رمى سهماً. هناك اختلاف في سنة وفاته بين 55 و 63 و 65 و 67 و73 هجرية". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 86 - 88، ترجمة عبد الله بن عمرو بن العاص، الرقم 1636 . ولكننا نعتقد أن من يتولى ميمنة جيش معاوية لا يمكنه أن لا يحمل سيفاً. بل إن ابن الأثير الجزري يقول إنه كان يحمل سيفين. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج3، ص 347، ترجمة عبد اللّه بن عمرو، الرقم 3092. أما الذهبي فيعده من الصحابة القليلين الذين شهدوا صفين مع معاوية إلى جانب عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وحبيب بن مسلمة وأبي الأعور السلمي وأبي غادية الجهني. العبر في خبر من غبر، ج1، ص30، سنة 37 هجرية.
3- فقال عبد الله بن عمرو: وكذلك ... ما يقول". الفتوح، المجلد الثاني، ص 157، ذكر مقتل عمار بن ياسر.

تنبؤ النبي(صلی اللّه علیه وآله) باستشهاد عمار

قال عمار بن ياسر: كنت مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) في بعض غزواته، وقتل علي(علیه السلام) أصحاب الألوية وفرّق جمعهم وقتل عمرو بن عبدالله الجمجمي وقتل شيبة بن نافع، أتيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) فقلت له: يا رسول اللّه إن علياً قد جاهد في اللّه حق جهاده فقال: لأنه مني وأنا منه وهو وارث علمي وقاضي ديني ومنجز وعدي والخليفة بعدي، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض، حربه حربي وحربي اللّه، وسلمه سلمي وسلمي سلم اللّه، ألا إنه أبو سبطيّ ، والأئمة من صلبه يخرج اللّه منه الأئمة الراشدين... يا عمار ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه، فإنه مع الحق والحق معه يا عمار! إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين؛ الناكثين والقاسطين، ثم تقتلك الفئة الباغية. قلت: يا رسول الله (صلى اللّه عليه وآله سلم) : أليس ذلك على رضا اللّه ورضاك؟ قال: نعم، على رضا اللّه ورضاي ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه . (1)

كان عمار، في حرب صفين، كلما طلب الإذن من أمير المؤمنين (علیه السلام) بالقتال لم يأذن له، فكرر ذلك ثلاثاً. وفي الثالثة بكى الإمام(علیه السلام) وقال : إنه اليوم الذي وصفه لي رسول اللّه. فنزل أمير المؤمنين عن بغلته وعانق عماراً وودعه. ثم قال: يا أبا اليقظان: جزاك اللّه عن نبيك خيراً، فنعم الأخ كنت ونعم الصاحب كنت! ثم بكى علام وبكى عمار ثم قال: واللّه يا أمير المؤمنين، ما تبعتك إلاّ ببصيرة. فإني سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يقول يوم خيبر: يا عمارا ستكون بعدي فتنة. فإذا كان ذاك فاتبع علياً وحزبه فإنه مع الحق والحق معه. وستقاتل الناكثين والقاسطين. فجزاك اللّه يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء، فلقد أديت وأبلغت ونصحت. ثم ركب وركب أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم برز إلى القتال ثم دعا بشربة من ماء، فقيل له: ما معنا ماء، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن ، فشربه ثم قال: هكذا عهد إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من لبن. ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً، فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه

ص: 219


1- "عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه عن جده عمار قال: كنت ... تشربه". كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، ص 120.

وقتل. فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين في القتلى فوجد عماراً ملقى بين القتلى فجعل رأسه على فخذه ثم بكى (علیه السلام) وأنشأ يقول:

ألا أيها الموت الذي لست تاركي *** أرحني فقد أفنيت كل خليل

أراك بصيراً بالذين أحبهم *** كأنك تمضي نحوهم بدليل (1)

جاء في موضع آخر أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم لما وقف على جثمان عمار المخضب بالدماء قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون. إن امرؤاً لم يدخل عليه مصيبة من قتل عمار فما هو من الإسلام في شيء. ثم قال علي (علیه السلام) : رحم اللّه عماراً يوم يبعث ورحم اللّه عماراً يوم يُسأل، فوالله لقد رأيت عمار بن ياسروما يذكر من أصحاب النبي (صلی اللّه علیه وآله) الثلاثة إلّا كان رابعاً، ولا أربعة إلا كان خامساً. إن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا موطنين ولا ثلاث (هكذا، ربما ثلاثة: م). فهنيئاً له الجنة! فقد قتل مع الحق والحق معه، ولقد كان الحق يدور منه حيث ما دار. فقاتل عمار وسالب عمار وشاتم عمار في النار. (2)

قال: فكان لا يزال رجل يجيء فيقول لمعاوية وعمرو بن العاص: أنا قتلت عماراً. فيقول له عمرو: فما سمعته يقول ؟ فيخلط (الرجل فلا يجيب بكلام واضح). حتى أقبل ابن جون فقال: أنا قتلت عماراً. فقال له عمرو: فما كان آخر منطقه؟ قال: سمعته يقول: اليوم ألقى الأحبة ... محمداً و حزبه .فقال له عمرو: صدقت ،أنت صاحبه، أما واللّه ما ظفرت يداك ولكن أسخطت ربك. (3)

ص: 220


1- فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال له: يا أخا رسول اللّه! أتأذن لي في القتال؟ قال: مهلاً رحمك الله. فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاد عليه ثالثاً فبكى أمير المؤمنين(علیه السلام) وقال : إنه اليوم ... بدليل". كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، ص120، ما جاء عن عمار بن ياسر من النصوص
2- "جاء علي بن أبي طالب حتى وقف على عمار وهو مزمل بدمه فقال: إنا للّه ... النار". الفتوح، المجلد الثاني، ص157، ذكر مقتل عمار بن ياسر.
3- وقعة صفين، ص 341 ، مقتل ذي الكلاع ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص 382، حوادث سنة 37 هجرية.

كلام عمرو بن العاص هذا مؤشر متكرر على خسة قادة الشام وخبث سرائرهم، وعلى شدة تعلقهم بالدنيا إلى درجة أنهم يعرفون أنهم على ضلال ومع هذا لا يكفون عن السير في الطريق الباطل ويصرون على المضي فيه.

ولابد من القول، إضافة إلى ذلك، بأن قاتل عمار لم ير الخير أبداً، ولم ينتفع في الدنيا، وكان موضع لوم دائم من قبل العدو والصديق.

يروى أن قاتل عمار أباالغادية دخل على الحجاج يوماً فقربه وأكرمه ثم قال له: أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عماراً، قال: نعم. قال الحجاج: من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية. ثم سأله أبو الغادية: حاجته فلم يجبه إليها فقال أبو الغادية: نوطئ لهم الدنيا ولا يعطونا ( هكذا :م) منها ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة! فقال الحجاج: أجل واللّه، كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل جبل ورقان ومجلسه مثل المدينة والربذة، إنه لعظيم الباع يوم القيامة. ولو أن عماراً قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار.(1)

ص: 221


1- "إن أباغادية قتل عماراً وعاش إلى زمن الحجاج ودخل عليه فأكرمه الحجاج وقال له: أنت ... النار". الكامل في التاريخ، ج2،ص 382 ، حوادث سنة 37 هجرية.

نقد ابن تيمية

بعد أن أوردنا روايات عن النبي (صلی اللّه علیه واله) في الأمر بقتال الناكثين والقاسطين إلى جانب أمير المؤمنين (علیه السلام) ، لابد من الرد على الشبهات التي يثيرها ابن تيمية حول مشروعية حروب أمير المؤمنين (علیه سلام). يقول ابن تيمية إن حروب أمير المؤمنين (علیه السلام) في الجمل وصفين لم تكن بأمر من الرسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) بل من اجتهاد شخصي من علي. (1)

نقول في الرد عليه: فما معنى أمر الرسول (صلی الّله علیه وآله) الصريح بالتصدي للناكثين والقاسطين؟ أولم يسمع ابن تيمية بقول النبي (صلی اللّه علیه وآله) العمار: تقتلك الفئة الباغية؟ فما معنى هذا الكلام؟ أليس أن العدو الذي وقف في الجهة المقابلة لعمار وقتله هو الفئة الباغية الصانعة للفتنة؟ فكيف معاملة ينبغي الفئة الباغية؟

هذه الرواية نقلها عمرو بن العاص وهو ألد أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وأيده عليها معاوية. ولكي يتخلص من ثقل مسؤوليتها، أشاع بين الناس أن مصداقها هو علي (علیه السلام) الذي أتى بعمار إلى مقتله. والسؤال المطروح هنا: هل إن عداوة ابن تيمية للإمام (علیه السلام) أشد من عداوة معاوية وعمرو بن له، بحيث لا ينقاد لمثل هذه الرواية؟ ألم ير ابن تيمية الرواية التي يقول فيها النبي (صلی اللّه علیه وآله) العلي (علیه السلام) : يا ستقاتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذٍ فليس مني؟ (2)

ألم تبلغه رواية أبي أيوب الأنصاري: إن رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) أمرنا بقتال ثلاثة مع علي، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين (3)؟ هل يريد أمراً أكثر صراحة من هذا؟

ص: 222


1- منهاج السنة النبوية، ج2، ص 231.
2- "قال رسول اللّه : يا علي ! ... مني". كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ج11، ص613، الحديث 32970.
3- "حدثنا إبراهيم عن علقمة والأسود قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين، فقلنا له: يا أبا أيوب! إن اللّه أكرمك بنزول محمد (صلی اللّه علیه وآله) وبمجيء ناقته تفضلاً من اللّه وإكراماً لك حتى أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على اللّه صال المالية عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا اللّه؟ فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله وإن رسول اللّه (صلی اللّه علیه و اله) أمرنا بقتال ثلاثة مع علی ، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ؛ فأما الناكثون فقد قابلناهم أهل الجمل طلحة والزبير، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم يعني معاوية وعمرواً، وأما المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات. واللّه ما

ألا يعتبر السلفيون فهم | للشريعة حجة؟ ألا يدل وجود العدد الكبير من الصحابة في

عسكر أمير المؤمنين (علیه سلام) على حقانيته؟

أدري أين هم ولكن لابد من قتالهم إن شاء اللّه. قال: وسمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) له يقول العمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية وأنتإذ ذاك مع الحق والحق معك. يا عمار بن ياسر! إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي، فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى يا عمار! من تقلد سيفاً أعان به علياً على عدوه قلده اللّه يوم القيامة وشاحين من در ومن تقلد سيفاً أعان به عدو علي عليه قلده اللّه يوم القيامة وشاحين من نار. قلنا: يا هذا حسبك رحمك اللّه، حسبك رحمك اللّه تاریخ بغداد، ج13، ص 186 ، ترجمة معلى بن عبدالرحمن الواسطي، الرقم 7165

ص: 223

عمار معيار الحق أما علي فليس كذلك!

كما أسلفنا، فإن عمار بن ياسر كان من الذين يعرف الناس بهم سبيل الحق، وقد توصل بسببه الكثير من الناس إلى حقانية الإمام علي (علیه السلام) والسؤال هنا: لماذا يجب أن ينظر الناس إلى موقف عمار ليستدلوا به على حقانية الإمام علي (علیه السلام) ؟ لماذا لا يؤدي سجل أمير المؤمنين (علیه السلام) اللامع وأحاديث النبي (صلی اللّه علیه و آله) المتواترة بحقه إلى زوال حيرة الناس والتوصل إلى حقانية الإمام (علیه السلام)؟

يجيب ابن أبي الحديد المعتزلي على هذا السؤال، فيقول عن عدم اهتمام الناس بعلي (علیه السلام): قلت: واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي (علیه السلام) ! ويستدلون على أن الحق مع أهل العراق بكون عمار بين أظهرهم ولا يعبأون بمكان علي (علیه السلام) ! ويحذرون من قول النبي (صلی اللّه علیه واله): تقتلك الفئة الباغية، ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله (صلی اللّه علیه وآله) في علي (علیه السلام) : اللّهُمَ وال من والاه وعاد من عاداه ،ولا لقوله: لا يحبك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق. وهذا يدلك على أن علياً (علیه السلام) اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله وتغطية خصائصه، حتى محي فضله ومرتبته من صدور الناس كافة إلّا قليلاً منهم (1) كتمان الحقائق هذا أدى ببعض الناس إلى أن يشكوا في صلاته، بل ينكرونها حتى ،ينقل ابن الأثير الجزري حادثة تشير إلى هذا، يقول: ( في صفين) خرج عليهم شاب وهو يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسان *** والدائن اليوم بدين عثمان

نبأنا قراؤنا بما كان *** أن علياً قتل ابن عفان

ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن، فقال له هاشم :يا هذا إن هذا الكلام بعده الخصام وإن هذا القتال بعده ،الحساب، فاتق اللّه فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي وأنتم لا تصلون، وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله. فقال له هشام: ما أنت وعثمان؟ قتله أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وأبناء أصحابه

ص: 224


1- شرح نهج البلاغة ، ج 8، ص 17، شرح الخطبة 124، عود إلى أخبار صفين. ص17،

وقراء الناس وهم أهل الدين والعلم وما أهملوا أمر هذا الدين طرفة عين. وأما قولك إن صاحبنا لا يصلي، فإنه أول من صلى وأفقه خلق اللّه في دين اللّه وأولى بالرسول (صلی اللّه علیه واله) وأما كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب اللّه لا ينام الليل تهجداً. فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء. فقال الفتى: فهل لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى اللّه يتب عليك، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات فرجع الفتى فقال له أهل الشام: خدعك العراقي. فقال: كلا، ولكن نصح لي. (1)

ص: 225


1- الكامل في التاريخ، ج2، ص 384 ، حوادث سنة 37 هجرية.

مقتل شخصيات معروفة في الجيشين

علاوة على عمار بن ياسر، قتل في صفين عدد من الأشخاص المعروفين أمثال هاشم بن عتبة وعبدالله بن بديل من جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وذو الكلاع وحوشب ذوالظليم وعبيدالله بن عمر بن الخطاب من جيش الشام. وهذا ما أدخل النياحة والعزاء في أهل الشام. فقال معاوية بن حديج، وكان شديد الحزن ، لجيشه :قبح اللّه العيش بعد حوشب وذي الكلاع. واللّه لو ظفرنا بأهل العراق بعد هلاكهما بغير مؤنة لما كان ظفراً.

ولما سمع معاوية بالحزن الذي عم جنوده، سعى إلى التخفيف عنهم، فأمر بجمع الجيش فقال له: يا أهل الشام ! إنكم لستم أحق بالجزع على قتلاكم من أهل العراق على قتلاهم. واللّه ما ذوالكلاع فيكم بأجل من عمار بن ياسر فيهم، ولا حوشب ذوالظليم فيكم بأعظم من هاشم بن عتبة، ولاعبد اللّه بن عمر بن الخطاب فيكم بأعظم من عبدالله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فيهم. وما الرجال إلّا أشباه، وما التمحيص إلّا من عند اللّه. فأبشروا، فإن اللّه تبارك وتعالى قد قتل من القوم ثلاثه وبقي ثلاثة قتل عمار بن ياسر وكان فارسهم وقتل هاشم بن عتبة وكان جمرتهم وقتل عبدالله بن بديل وكان فاعل الأفاعيل. وبقي الأشتر والأشعث وعدي بن حاتم، واللّه قاتلهم غداً إن شاء اللّه. (1)

ص: 226


1- جزع أهل الشام على قتلاهم جزعاً شديداً، فقال معاوية بن حديج الكندي: يا أهل الشام! قبح ... ظفراً... قال: وبلغ ذلك معاوية، فأرسل إلى وجوه أهل الشام فجمعهم ثم قال: يا أهل الشام ! ... إن شاء الله". الفتوح، المجلد الثاني، ص159، ذكر مقتل عمار بن ياسر.

إرسال وفد من قادة الشام إلى أمير المؤمنين(علیه السلام)

بعد أن تكبد جيش الشام خسائر ثقيلة، أرسل معاوية وفداً من قادة جيشه إلى أمير المؤمنين

(علیه السلام) لإخماد نار الحرب. ضم الوفد عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان وعبدالرحمن بن الوليد (1)وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس ، وكان يرافقهم جماعة من أهل الشام. فدنا الوفد من معسكر الإمام (علیه السلام) وطلب الإذن بمقابلته. فاستقبل الإمام ( علیه السلام) الوفد وكان عنده الكثير من المهاجرين والأنصار فطلب أمير المؤمنين (علیه السلام) من الوفد أن يقرأوا رسالة معاوية. فقال عمرو بن العاص للإمام علي (علیه السلام): بل أنت فتكلم يا أبا الحسن! فإنك أول من آمن بربنا وبقي حقك العظيم على الناس وأنت أول من صدق بنبينا محمد (صلی اللّه علیه وآله) وصلى إلى قبلتنا ووحّد اللّه قبلنا. فقال علي ام: إن أول كلامي أن اثني على الله ربي أحسن الثناء طول الحياة وبعد المماة، وأحمده على طول العافية وحسن البلاء وفي كل حال من شدة ورخاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد (صلی اللّه علیه وآله) عبده و رسوله، بعثه اللّه رحمة للعالمين وخاتماً للنبيين. فأدى عن اللّه ما أمره وعبد ربه أتاه اليقين، فصلى اللّه عليه كثيراً . ثم إن اللّه تبارك وتعالى قد ابتلانا أيتها الأمة بما ترون، والمستعان باللّه ولا قوة إلاّ باللّه، وبعد! فاللّه يعلم أني كنت كارهاً أن أتولى شيئاً من أمور أمة محمد (صلی اللّه علیه وآله) ولكن قوماً أنكروا على عثمان فاجتمعوا على قتله فقتلوه وأنا جالس في منزلي لا آمر ولا ناه. وإنما قتلوه وتذاكروا عني بالبيعة، فكرهت ذلك. ثم إن (هكذا، ربما إني: م) توكلت على اللّه وأحببت أن يكون بقية عمري في صلاح أمور الأمة، فبايعت القوم على العمل بكتاب اللّه وسنة نبيه محمد (صلی اللّه علیه وآله) ثم إن جماعة ممن بايعني غدر بي ونكث بيعتي، فقد حكم اللّه بيني وبين بعضهم،

ص: 227


1- ذكر عبدالرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي في الصحابة، ولكنه لم يرو رواية واحدة عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) . كان من فرسان قريش المعروفين. وكان من أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام) وبني هاشم. ولكن كان له أخ اسمه مهاجر يحب أميرالمؤمنين (علیه السلام) وقاتل معه في الجمل وصفين. حظي عبدالرحمن باهتمام أهل الشام وعندما أراد معاوية استخلاف يزيد، خطب في أهل الشام وقال: إني أريد أن أجعل عليكم خليفة من بعدي وأن أفعل ذلك بما يوافق رأيكم. فقالوا له: نحن نرضى بخلافة عبدالرحمن بن خالد. فلم يرق ذلك لمعاوية. ثم مضت فترة حتى مرض عبدالرحمن فدعا معاوية بطبيب يهودي ليسقيه سماً ويقضي عليه. ففعل الطبيب ذلك فهلك عبدالرحمن". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص372، ترجمة عبدالرحمن بن خالد المخزومي، الرقم 1410.

والله للباقين بالمرصاد. ألا وإني أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنة نبي اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فإن تجيبوا إلى ذلك للرشد أصبتم وللخير وفقتم، وإن تأبوا ذلك لم تروا من اللّه إلّا بعداً.(1)

يتميز هذا الاجتماع بالأهمية من عدة جهات وينطوي على نقاط هامة نشير فيما يلي إلى بعضها:

الأولى: اعتراف عمرو بن العاص بفضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) التي لا نظير لها ولا بديل وبأنه أول من آمن برسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) واعتنق الإسلام.

الثانية: قول أمير المؤمنين (علیه السلام) عن قتل عثمان أنا جالس في منزلي لا آمرً ولا ناهٍ، وهذا يؤكد أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن يرى عثمان رجلاً صالحاً ؛ لأن عثمان ارتكب انحرافات كثيرة ولم يحاول إصلاحها.

بعد كلام أمير المؤمنين (علیه السلام)، تكلم عمرو بن العاص فقال: أما بعد، فإن عثمان - وجعل ما أصابه كفارة لذنوبه - قد كان أفضل أصحاب ملا محمد (صلی اللّه علیه و آله) حسباً ونسباً وقدماً وصهراً. فاللّه حسيب قاتله وخاذله . وأيم اللّه إننا لنعلم أن علياً ومن معه من المهاجرين والأنصار قد كانت لهم سوابق قديمة عظيمة وفضل لا يجهل. وقد رأينا رأياً نسأل اللّه تعالى فيه التوفيق لما يحب ويرضى. ولعل اللّه تبارك وتعالى يحقن دماءنا ويصلح ذات البين. وهؤلاء أشرافنا من أهل الشام قد اجتمعوا لذلك، وكذلك أشراف أهل العراق مجتمعون. يا أبا الحسن! وأنتم يا معشر من حضر! فقال علي: تكلموا بما تريدون حتى ننظر ما الذي تطلبون. فتكلم شرحبيل بن السمط فقال: أما بعد، فيا معشر أهل العراق! إن اللّه تبارك وتعالى قد جعل بيننا حقوقاً عظاماً من الأرحام الماسة والأنساب القريبة والأصهار الشابكة. وقد علمنا، يا أبا الحسن، أن لك سابقة مع رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وصهراً وقرابة وفقها في الدين

رسول وبأساً وتجربة وشرفاً قديماً واللّه يعلم، وإنك لتعلم، أنا قد اقتتلنا لحمية الجاهلية بالسيوف الهندية،

ص: 228


1- "أصبح الناس عازمين على الحرب، فلم يعب معاوية أصحابه كما كان يعيبهم من قبل، لكنه وجه إلى علي(علیه السلام) بجماعة من قريش وغيرهم من أهل الشام يكلمونه منهم عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس وجماعة من عرب الشام، فأقبلوا حتى وقفوا قريباً من عسكر علي (علیه السلام). ثم بعثوا إليه يسألونه أن يأذن لهم في كلامه. فقال علي (علیه السلام) ما أمنعهم من ذلك. قال: فأقبلوا حتى دخلوا العسكر ، ثم صاروا إلى علي (علیه السلام) هو في خيمته. فسلموا فردّ عليهم السلام ومجلسه يومئذٍ غاص بالمهاجرين والأنصار، فقال: تكلموا بما أحببتم! فقال عمرو بن العاص بل أنت فتكلم ... إلّا بعدا". الفتوح، المجلد الثاني، ص 165، ذكر القوم الذين أنفذهم معاوية إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام).

لأنها جارات القرب وحصون الحومات وأنها بيضة الروم. وأما حرماتكم فإنها بيضة فارس وقد رأينا أن تنصرف عنا، يا أبا الحسن ، أنت ومن معك فنخلي بينكم وبين عراقكم وحجازكم وتخلونا بيننا وبين شامنا، ونحقن دماء المسلمين. واللّه يعلم أنني قد أتيت بغاية النصيحة، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب. فقال علي (علیه السلام) واللّه لقد نظرت في هذا الأمر فضربت ظهره وبطنه وأنفه وعينه حتى منعني النوم، فما وجدته يسعني إلّا قتالكم أو الكفر بما جاء به محمد (صلی اللّه علیه وآله) وأيم اللّه لوددت أنني فديت حقن دماء المسلمين بمهجتي، ولكن قولوا لصاحبكم هذا حتى يخرج إلى هذه الصحراء ثم إني أدعو اللّه ويدعو هو أيضاً أن يقتل المحق منا المبطل. ثم إني أبارزه، فأينا قتل صاحبه ملتم معه بأجمعكم. فواللّه لا يقاتل مع معاوية أحد إلّا أكبّه اللّه غداً في نار جهنم قال: فالتفت الشامي إلى أصحابه فقال: ما يقعدكم؟ انهضوا فلا والله ما عند هذا الرجل إلاّ السيف. (1)

ما يُفهم من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) هو أنه اعتبر الاستسلام للشاميين معادلاً للكفر بالإسلام. كان مطلب أهل الشام أن يُبقي الإمام علي (علیه سلام) على معاوية في منصبه. وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يعتبر معاوية فاسداً وإبقاءه على حكم الشام خلافاً للشرع وكان (علیه السلام) مصراً على موقفه لدرجة أنه رأى القتال هو الحل الوحيد. والنقطة المهمة هي أن الإمام (علیه السلام) قابل معاوية في غاية الصرامة في حين الخلفاء السابقين مكنوه من الشام رغم علمهم بعدم انسجام أفعاله مع الإسلام فلماذا فعلوا ذلك وأصروا على استمراره في منصبه؟ ألم يكونوا يعتبرون حكم معاوية معادلاً للكفر كما اعتبره أمير المؤمنين عليه السلام؟

ص: 229


1- "فلما فرغ علي (علیه السلام) من كلامه، تكلم عمرو بن العاص، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ... إلّا السيف". الفتوح، المجلد الثاني، ص 165 ، ذكر القوم الذين أنفذهم معاوية إلى علي بن أبي طالب (علیه السلام)

من الواضح أن عمر وعثمان كانا على علم بتصرفات معاوية وكانت تصلهما الانتقادات الموجهة إليه بل إن عمر أصر على إبقائه حاكماً للشام ودافع عنه ضد منتقديه رغم علمه بأن سياسته لا تمت إلى الإسلام بصلة، حتى أنه كان يسميه "كسرى العرب. (1)

ص: 230


1- قال المدائني : كان عمر إذا نظر إلى معاوية، قال: هذا كسرى العرب" سير أعلام النبلاء، ج 3، ص134، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 25. "ذُم معاوية عند عمر يوماً، فقال: دعونا من ذم فتى قريش من يضحك في الغضب ولا يُنال ما عنده إلا على الرضا ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 472، ترجمة معاوية بن أبي سفيان، الرقم 2464 ؛ كنز العمال، ج13، ص 587 ، الحدسث 37507.

عدم حياء قادة الشام في مبارزة الإمام علي(علیه السلام)

نزل عمرو بن العاص إلى ساحة القتال في أحد أيام صفين وأخذ يرتجز. فضربه أمير المؤمنين (علیه السلام) ضربة أسقطته من فرسه. فاستغل عمرو بن العاص حياء أمير المؤمنين (علیه السلام) فكشف عن عورته ليفر من أمامه. فطأطأ الإمام (علیه السلام) رأسه وانصرف عنه. (1)

على أن عمرو بن العاص لم يكن بدعاً في جيش الشام في اتباع هذه الطريقة المشينة للفرار من

أمام الإمام علي(علیه السلام) ، فقد سبقه إليها بس بن أرطاة . (2)

يقول ابن أعثم الكوفي: ثم خرج بسر بن أرطاة إلى علي وهو ساكت لا ينطق بشيء خوفاً من أن عرفه (هكذا: م) علي إذ هو تكلم قال ونظر إليه علي فحمل عليه فسقط بسر على قفاه ورفع رجليه فانكشفت عورته وصرف علي وجهه عنه.

(3)

ص: 231


1- فلما أصبحوا بدر عمرو حتى وقف بين الصفين... ثم نادى يا أبا الحسن! اخرج إليّ، أنا عمرو بن العاص. فخرج إليه علي(علیه السلام) فتطاعنا فلم يصنعا شيئاً فانتضى علي (علیه السلام) على سيف فحمل عليه . فلما أراد أن يجلله رمى بنفسه عن فرسه ورفع إحدى رجليه فبدرت عورته، فصرف علي (علیه السلام) وجهه وتركه". الأخبار الطوال، ص 263، حملة عمرو بن العاص.
2- فغدا على (علیه السلام) منقطعاً من خيله ومعه الأشتر وهو يريد التل ويقول: إني علي فاسألوا لتخبروا *** ثم ابرزوا إلى الوغى أو أدبروا سيفي حسام وسناني أزهر*** منا النبي الطيب المطهر وحمزة الخير ومنا جعفر*** له جناح في الجنان أخضر ذا أسد اللّه وفيه مفخر*** هذا وهذا وابن هند مجحر فاستقبله بسر قريباً من التل وهو مقنع في الحديد لا يعرف، فناداه ابرز إلي أبا الحسن! فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث. حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع فألقاه على الأرض ومنع الدرع السنان أن يصل إليه، فاتقاه بسر [بعورته] وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه، فانصرف عنه علي (علیه السلام) مستدبراً له، فعرفه الأشتر حين سقط فقال: يا أمير المؤمنين! هذا بسر بن أرطاة عدو اللّه وعدوك. فقال: دعه عليه لعنة اللّه". وقعة صفين، ص 460، مبارزة علي لبسر وفراره.
3- "قال: ثم خرج ... عنه". الفتوح، المجلد الثاني، ص104، ثم رجعنا إلى الخبر.

يقول ابن أبي الحديد: فكان بسر بعد ذلك اليوم إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية، وتحامى فرسان الشام بعدها علياً (علیه السلام. (1)

وقد تحول جبن هذين الشخصين، وشجاعة علي(علیه السلام)، إلى مادة في أشعار الشعراء الذين قالوا شعراً هزلياً في هجوهما. يقول الحارث بن نصر (نضر كما في الهامش: م) الخثعمي في هذا المجال:

أفي كل يوم فارس لك ينتهي *** وعورته وسط العجاجة بادية

يكف لها عنه علي سنانه *** ويضحك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه *** وعورة بسر مثلها حذو حاذية

فقولا لعمرو ثم بسر ألا انظرا *** لنفسكما لا تلقيا الليث ثانية . (2)

على أنه لابد من القول بأن هذين الشخصين تعلما كشف العورة أمام أمير المؤمنين (علیه السلام)، طلباً للنجاة، من أسلافهم. فقد لجأ إلى هذا الفعل القبيح قبل ذلك أبوسعد بن أبي طلحة في معركة أحد للنجاة من بطش علي بن أبي طالب (علیه السلام)، بعد أن نزل إلى الميدان، وكان صاحب لواء في جيش المشركين، فدعا إلى البراز. فخرج له الإمام علي (علیه السلام) وبارزه فضربه ضربه أوقعته على الأرض، ولكنه انصرف عنه ولم يقتله. فسأله الصحابة عن سبب عدم قتله فقال (علیه السلام): إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن اللّه (قد قتله) سيقتله. (3)

ص: 232


1- "قال: فكان بسر .. علياً . شرح نهج البلاغة، ج8، ص97، ذيل الخطبة 124.
2- "قال: وللشعراء فيهما أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب، منها فيما ذكر ابن الكلبي والمدائني قول الحارث بن نضر الخثعمي وكان عدواً لعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة: (الأبيات) شرح نهج البلاغة، ج 6، ص316، ذيل الخطبة 83، أمر بن العاص في صفين.
3- "لما اشتد القتال يوم أحد جلس رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) تحت راية الأنصار وأرسل إلى علي أن قدم الراية! فقدم علي وهو يقول: أنا أبو القصم. فناداه أبوسعد بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين: هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟ قال: نعم. فبرزا بين الصفين، فاختلفا ضربتين، فضربه علي، فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته، فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن اللّه قد قتله". البداية والنهاية، ج 4، ص4، حوادث السنة الثالثة الهجرية، غزوة أحد في شوال سنة ثلاث، مقتل حمزة.

الفرار من أمام علي ليس عاراً!

ما فعله عمرو بن العاص من فعل مشين مقابل أمير المؤمنين (علیه السلام) أصبح مادة للتندر منه يقول الواقدي: قال معاوية بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: يا أباعبدالله! لا أراك إلّا ويغلبني الضحك. قال : بماذا ؟ قال : أذكر يوم حمل عليك أبوتراب في صفين، فأزريت نفسك فرقاً من شبا سنانه وكشفت سوأتك له. فقال عمرو: أنا منك أشد ضحكاً، إني لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانتفخ سحرك وربا لسانك في فمك وغصصت بريقك وارتعدت فرائصك وبدا منك ما أكره ذكره لك. فقال معاوية: لم يكن هذا كله. وكيف يكون ودوني عك والأشعريون؟ قال: إنك لتعلم أن الذي وصفت دون ما أصابك. وقد نزل ذلك بك ودونك عك والأشعريون، فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقط الحرب؟ فقال: يا أباعبدالله! خض بنا الهزل إلى الجد إن الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما. (1)

لم يقتصر الخوف من أمير المؤمنين(علیه السلام) على هذين الشخصين، بل كان يشمل جميع قادة جيش معاوية ففي أحد أيام صفين دعا عبيدالله بن عمر بن الخطاب محمد بن الحنفية إلى البراز. فهمّ محمد بالخروج إلى الميدان ولكن الإمام علياً(علیه السلام) أعاده قبل أن يقابل عبيدالله، ونزل بنفسه إلى الساحة وقال العبيد الله: أنا أبارزك، فهلم إلي! قال عبيدالله: ليس لي في مبارزتك حاجة قال: فرجع ابن عمر وأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: منعتني من مبارزته، فوالله لرجوت أن أقتله. قال: يا بني! لو بارزته أنا لقتلته ولو بارزته أنت لرجوت أن تقتله وما كنت آمن أن يقتلك . (2)

ص: 233


1- شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 317، ذيل الخطبة 83 ، أمر عمرو بن العاص في صفين. [ربما كان هناك خطأ في المصدر لأن المؤلف ذكر أنه الواقدي والشرح لابن أبي الحديد: م]
2- "لما كان من الغد خرج محمد بن علي بن أبي طالب وخرج إليه عبيدالله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين فاقتتلوا كأشد القتال. ثم إن عبيدالله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية أن اخرج إلي أبارزك. قال له: نعم. ثم خرج إليه يمشي، فبصر به علي فقال: من هذان المتبارزان؟ فقيل له: ابن الحنفية وابن عمر. فحرك علي دابته ثم دعا محمداً فوقف له فقال: أمسك دابتي! فأمسكها له ثم مشى إليه فقال: أنا أبارزك ... يقتلك". شرح نهج البلاغة، جه، ص 179، ذيل الخطبة 65، من أخبار يوم صفين ؛ وقعة صفین، ص221، قتال ابن الحنفية وابن عمر ؛ الأخبار الطوال، ص 259، قتال ابن الحنفية وابن عمر.

اشتباك عنيف في السابع من صفر

في صفر بلغت حرب صفين ذروتها. فبعد تبادل الكتب والسفراء ،حدثت بعض الاشتباكات الصغيرة بين الجانبين. ومع حلول شهر صفر اتخذ الجيشان وضع اصطفاف عسكري، وكان في كل يوم يتقدم أحد قادة جيش الإمام (علیه السلام ) المبارزة جيش الشام. ولم تحقق هذه الاشتباكات الجزئية نتيجة تذكر. حتى جاء يوم السابع من صفر سنة 37 هجرية، فصلى الإمام (علیه السلام) علم ودعا بعدد من الأدعية ثم استعد لمقابلة جيش الشام.

كان السابع من صفر من أشد أيام صفين مخاطرة. ففي أوله برز حجر بن عدي الذي عرف بحجر الخير إلى ابن عمه حجر بن يزيد الذي عرف بحجر الشر. ثم اتسعت رقعة المواجهة بمشاركة رجال آخرين من الجيشين. ثم قُتل حجر الشر بسيف رفاعة . (1)

ثم برز عبدالله بن بديل الخزاعي فتقدم بشجاعة منقطعة النظير مع ميمنة جيش العراق حتى وصل مقر معاوية وأجبره على الفرار. ولم يكن لعبد الله من غاية إلا قتل معاوية، فتقدم حتى اقترب من معاوية. فأحس معاوية بالخطر الداهم فنادى بأصحابه: ويلكم الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح فأقبل أصحاب معاوية على عبدالله بن بديل يرضخونه بالصخر حتى أثخنوه وقُتل الرجل. (2)

ص: 234


1- "عن الشعبي: أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم وهو اليوم السابع من صفر، وكان من الأيام العظيمة في صفين ذا أهوال شديدة، حجر الخير وحجر الشر ابن عمه. وذلك أن حجر الشر دعا حجر بن عدي إلى المبارزة وكلاهما من كندة، فأجابه فأطعنا (هكذا، ربما فاطعنا: م) بر محيهما. ثم حجز بينهما امرؤ من بني أسد وكان مع معاوية، فضرب حجراً ضربة برمحه، وحمل أصحاب علي فقتلوا الأسدي وأفلتهم حجر بن يزيد [حجر ] الشر هارباً. وقعة صفين، ص 243، مبارزة حجر الخير وحجر الشر ؛ الأخبار الطوال، ص 260 ، مبارزة حجر بن عدي وحجر الشر.
2- فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية 1 والذين بايعوه على الموت، فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل. وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه. واختلط الناس واضطرم ،الفيلقان، ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام. وأقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدماً ] حتى أزال معاوية عن موقفه، وجعل ينادي: يا لثارات عثمان! يعني أخاً له قد قتل. وظن معاوية وأصحابه أنه إنما يعني عثمان بن عفان. [وتراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيراً وأشفق على نفسه. وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه. ويحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة العراق، فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل إلا نحو مائة إنسان من القراء. فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم ولجج ابن بديل في الناس وصمم على قتل معاوية، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه حتى انتهى إليه ] عبد الله بن عامر واقفاً [ فنادى معاوية بالناس: ويلكم ! ... الرجل". شرح نهج البلاغة، ج 5 ، ص 196، شرح الخطبة ،65 ، من أخبار يوم صفين ؛ الأخبار الطوال، ص 261 ، حملة عبد الله بن بديل على أهل الشام.

عندما رأى معاوية جسد عبدالله بن بديل قال بحقه ما يدل على شجاعته الفائقة والذعر الذي كان أدخله في قلوب أعدائه. قال معاوية في وصفه: هذا كبش القوم ورب الكعبة. اللّهُمَ أظفرني بالأشتر النخعي مالك والأشعث الكندي ابن قيس واللّه ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر:

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها *** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه *** قدى الشبر، يحمي الأنف أن يتأخرا

كليث هزبر كان يحمي ذماره *** رمته المنايا قصدها فتقطرا

مع أن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها فعلت (1)

ص: 235


1- فكشف [ابن عامر ] عن وجهه فقال معاوية: هذا ... فعلت". وقعة صفين، ص 246 ، مصرع عبد الله بن بديل.

فرار ميمنة جيش العراق

بعد هروب عدد كبير من جنود ميمنة جيش العراق، استطاع جنود جيش الشام أن يقتلوا عبدالله وأصحابه بمنتهى الخسة. ولما رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) فرارجنوده، نزل إلى الميدان حتى وصل إلى مالك الأشتر فقال له: يا مالك !قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ (1)

فصاح مالك الأشتر بالمقاتلين محرضاً: عضضتم بهن أبيكم ما أقبح واللّه ما قاتلتم اليوم يا أيها الناس! غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ واستقبلوا القوم بهامكم، ثم شدوا شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وإخوانهم حنقاً على عدوهم وقد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر. إن هؤلاء القوم واللّه لن يقارعوكم إلّا عن دينكم ليطفئوا السنة ويحيوا البدعة ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم اللّه منه بحسن البصيرة. فطيبوا عباد اللّه نفساً بدمائكم دون دينكم، فإن الفرار فيه سلب العز والغلبة على الفيء وذل المحيا والمماة وعار الدنيا والآخرة وسخط اللّه وأليم عقابه. (2)

ص: 236


1- "لما انهزمت ميمنة أهل العراق، أقبل علي (علیه السلام) يركض نحو الميسرة يستثيب الناس ويستوقفهم ويأمرهم بالرجوع نحو الفزع. حتى مر بالأشتر فقال له: يا مالك ... لكم". وقعة صفين، ص 250 ، علي وسعيد بن قيس والأشتر.
2- فقال: عضضتم ... عقابه". وقعة صفين، ص 250، علي وسعيد بن قيس والأشتر.

قيادة مالك الأشتر وانتصار جيش العراق

بعد ذلك، دعا مالك الأشتر قبيلة مذحج وعاتبهم وحثهم على الثبات في ميدان القتال. وكان لكلامه بالغ الأثر عليهم، فأعربوا عن استعدادهم لتصحيح أخطائهم. من جانب آخر، انضم نحو 800 رجل من قبيلة همدان إلى مالك تمهيداً لشن هجوم شامل، فقاتلوا قتالاً شديداً حتى استشهد (هكذا، وفي الهامش أُصيب :م) من همدان نحو 180 رجلاً (1)وكان مالك الأشتر يدعو جيش العراق إلى الثبات. فهجم جيش العراق هجمة شديدة هزموا فيها كل من واجههم من الشاميين وأجبروهم على التراجع. (2)

ص: 237


1- "يستقبله شباب من همدان وكانوا ثماني مائة مقاتل يومئذٍ وقد انهزموا آخر الناس، وكانوا قد صبروا في ميمنة علي عليه السلام حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيساً. وقعة صفين، ص252، مصارع الهمدانيين.
2- "زحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه أناس تراجعوا من أهل البصيرة والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها ولا لجمع إلاّ حازه ورده . وقعة صفين، ص 253، تراجع الناس إلى الأشتر.

شجاعة مالك الأشتر

إن جيشاً يقوده مالك الأشتر الذي ينزل إلى الميدان ويقاتل بنفسه قتالاً بطولياً، لابد أن يكون حليفه النصر. لقد رفع مالك الأشتر، بشجاعته وحسن أدائه، الروح المعنوي لجيشه ومكنه من تحويل هزيمته إلى نصر. وقيل في شجاعة مالك الأشتر في ذلك اليوم :كان يرتجز ويهز سيفه في الهواء ويخلب الأنظار ببريق سيفه (1) واستطاع وحده، بما أوتي من بسطة في الجسم، أن يعيد لجيش الإمام (علیه السلام)معنوياته. وقد قيل في وصفه: كان الأشتر من أعظم الرجال وأطوله (2) وقال منقذ لحمير: ما في العرب رجل مثل هذا، إن كان ما أرى من قتاله على نيته .(3)

لقد أدخل الأشتر، بشجاعته، الذعر في قلوب قادة جيش الشام. جاء في أحد المصادر التاريخية أنه في أحد أيام صفين، دعا عبيدالله بن عمر جيش الشام (هكذا، والأرجح العراق: م) إلى المبارزة، فخرج مالك الأشتر إلى الميدان وكان ملثماً. فسأله عبيدالله عمن يكون. فلما علم بأنه مالك الأشتر، تراجع وقال له: يا مالك! واللّه لو علمت أنك الداعي إلى البراز لما خرجت إليك. فإن رأيت أن أرجع عنك فعلت منعماً. فقال الأشتر: ألا تخاف العار أن ترجع عني وأنا رجل من اليمن وأنت فتى من قريش؟ فقال: لا واللّه ما أخاف العار إذا رجعت عن مثلك. (4)

يقول ابن أبي الحديد عن شجاعة مالك الأشتر: للّه أُم قامت عن الأشتر لو أن إنساناً يقسم أن اللّه ما خلق في العرب ولا في العجم أشجع منه إلّا أُستاذه ( يعني علياً (علیه السلام)) لما خشيت عليه الإثم وللّه در القائل وقد سئل عن الأشتر: ما أقول في رجل هزمت حياته أُهلَ الشام وهزم موتُه أهلَ العراق (5)

ص: 238


1- وقعة صفين، ص 253، تراجع الناس إلى الأشتر
2- وقعة صفين، ص 255 ، تحريض الأشتر أصحابه.
3- وقعة صفين، ص 255 ، تحريض الأشتر أصحابه.
4- ثم دنا الأشتر وليس يعرفه، فقال له: من أنت أيها الفارس؟ فإني لا أبارز إلا كفؤاً. قال: أنا مالك بن الحارث النخعي. قال: فصمت عبيدالله بن عمر ساعة ثم قال: يا مالك! ... مثلك". الفتوح، المجلد الثاني، ص 41، ذكر الوقعة الثانية بصفين.
5- شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 213 ، ذيل الخطبة ،35 ، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

مقابلة قبيلة خثعم بعضهم بعضاً

بعد الشجاعة التي أظهرتها قبيلتا مذحج وهمدان وما أفضت إليه من انهزام جيش الشام، وصل الدور إلى قبيلة خثعم ،هذه القبيلة كانت موزعة على جيشي العراق والشام، وكان الكثير منهم أقرباء لبعض. لذا اقترح أحد قادة جيش الشام، قبل اندلاع الاشتباكات، أن تعتزل القبيلة القتال وتنتظر حتى يتبين المنتصر فتكون معه. غير أن زعيم جيش خثعم العراقي، وكان مع أمير المؤمنين (علیه السلام) عن بصيرة ومعرفة به، رفض المقترح ،ولم يكن يداخله أي شك في حقانية الإمام (علیه السلام)، فلم يتردد في مقاتلة أبناء قبيلته، الأمر الذي نتج عنه مصرع عدد كبير من رجال القبيلة من الجانبين(1).

ص: 239


1- "عن عمر [قال: حدثنا] أبوعلقمة الخثعمي أن عبد اللّه بن حنش الخثعمي رأس خثعم مع معاوية أرسل إلى أبي كعب رأس خثعم مع علي أن لو شئت لتواقفنا فلم نقتتل، فإن ظهر صاحبك كنا معكم، وإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ولم يقتل بعضنا .بعضاً. فأبى أبوكعب ذلك. فلما التقت خثعم وخثعم وزحف الناس بعضهم إلى بعض قال رأس خثعم الشام لقومه يا معشر خثعم قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة الأرحامهم وحفظاً لحقهم فأبوا إلّا قتالنا. فقد بدأونا بالقطيعة، فكفوا أيديكم عنهم حفظاً لحقهم أبداً ما كفوا عنكم. فإذا قاتلوكم فقاتلوهم. فخرج رجل من أصحابه فقال: [إنهم] قد ردوا عليك رأيك وأقبلوا يقاتلونك. ثم برز فنادى: رجل لرجل يا أهل العراق. فغضب رأس خثعم من أهل الشام، فقال: اللّهُمَ قيض له وهب بن مسعود رجلاً من خثعم من أهل الكوفة وقد كانوا يعرفونه في الجاهلية لم يبارزه رجل قط إلا قتله. فخرج إليه وهب بن مسعود فحمل على الشامي فقتله. ثم اضطربوا [ساعة] فاقتتلوا أشد القتال، وأخذ أبوكعب يقول لأصحابه: يا معشر خثعم! خدموا. وأخذ صاحب الشام يقول: يا أباكعب [الكل] قومك فأنصف! فاشتد قتالهم، فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي من أهل الشام على أبي كعب رأس خثعم الكوفة فطعنه، فقتله. ثم انصرف يبكي ويقول: رحمك الله يا أباكعب، لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحماً منهم وأحب إلى أنفسنا منهم. ولكن والله ما أدري ما أقول ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا، ولا أرى قريشاً إلا قد لعبت بنا. ووثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه فأخذها ففقئت عينه وصرع ثم أخذها شريح بن مالك فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم ثمانون رجلاً وأصيب من خثعم الشام نحو منهم. ثم إن شريح بن مالك ردها بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب". وقعة صفين، ص 257 ، رأس خثعم الشام ورأس خثعم العراق.

مقابلة قبيلة الأزد بعضها بعضاً

تعرضت قبيلة أزد للموقف نفسه الذي تعرضت له قبيلة خثعم، إذ حدثت مواجهة بين أفرادها. فقبل المواجهة، خطب زعماء الطرفين برجالهم لتحريضهم على القتال. فألقى جندب بن زهير، زعيم أزد ،العراق، خطبة قلّ نظيرها دلت على عمق يقينه بحقانية أمير المؤمنين (علیه السلام)حيث قال للمقاتلين الذين تحت إمرته: واللّه لو كنا آباءهم ولدناهم أو كنا أبناءهم ولدونا، ثم خرجوا من جماعتنا وطعنوا على إمامنا وآزروا الظالمين والحاكمين بغير الحق على أهل ملتنا وذمتنا، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه ويدخلوا فيما ندعوهم إليه أو تكثر القتلى بيننا وبينهم.(1)

ولم تكن مثل هذه الحالة قليلة الوقوع في حرب صفين. فقد شهدت المعركة تقابل أخوين كانا مقنّعين، فأمسك العراقي بالشامي وصرعه أرضاً وجلس على صدره وهمّ بحز رأسه. ولكن القناع زال عن وجه أخيه فعرفه فانصرف عنه، وأخذه إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) لينظر في شأنه، فأمر(علیه السلام) بإخلاء سبيله، فعاد إلى معسكر معاوية.(2)

ص: 240


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص90 ، حوادث سنة 37 هجرية، تكتيب الكتاب وتعبئة الناس للقتال.
2- أصبحوا في اليوم الثامن من صفين والفيلقان متقابلان ، فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة. فخرج إليه رجل من أهل العراق، فاقتتلا بين الصفين قتالاً شديداً. ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعاً وغار الفرسان. ثم إن العراقي قهره، فجلس على صدره وكشف المغفر عنه يريد ذبحه، فإذا هو أخوه لأبيه وأمه. فصاح به أصحاب على (علیه السلام) : ويحك! أجهز عليه! قال: إنه أخي. قالوا: فاتركه! قال: لا واللّه حتى يأذن أمير المؤمنين. فأخبر علي (علیه السلام) بذلك، فأرسل إليه أن دعه، فتركه فقام فعاد إلى صف معاوية". شرح نهج البلاغة، ج 5،ص 214 ، ذيل الخطبة 65 ، من أخبار يوم صفين.

نشر مظلومية عثمان

استشهد رجل من جيش الإمام (علیه السلام) اسمه نعيم بن صهيب بن عليّة، فاستأذن ابن عمه نعيم بن الحارث معاوية، وكان معه، في أن يدفنه ،فرفض معاوية الإذن له بدفن ابن عمه، وذكر قتل عثمان محاولاً إظهاره بمظهر المظلوم لاستغلاله في تحريض جنده على القتال، فقال: لا تدفنهم، فليسوا أهلاً لذلك. فواللّه ما قدرنا على دفن عثمان معهم إلّا سراًّ .(1)

ص: 241


1- فأتى ابن عمه وسميه نعيم بن الحارث بن العلية معاوية، وكان معه، فقال: إن هذا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه. فقال: لا تدفنهم ... سرّاً". وقعة صفين، ص 259 ، صرعى بجيلة، قتال غطفان العراق.

خطبة عتبة بن جويرية الحماسية

في أيام اشتداد القتال وبلوغ حرب صفين الذروة، تكلم أصحاب الإمام علي (علیه السلام) الخلّص بكلام ينبئ عن يقينهم وإيمانهم من هؤلاء عتبة بن جويرية الذي خطب خطبة تفيض زهداً في الدنيا ورغبة بالشهادة وتقطر موالاة. فقد التفت إلى أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وقال: أيها الناس! إنكم قد ترون ما قتل من أصحاب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وإن مرعى الدنيا قد أصبح هشيماً وأصبح شجرها حصيداً وحلوها مرّ المذاق ألا وإني منبئكم بأمر صادق؛ إني قد سئمت من الدنيا وعزفت نفسي عنها وقد كنت أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وفي وقتي هذا، وقد طمعت أن لا أحرمها فما تنتظرون عباد اللّه في قتال أعداء اللّه؟ استبدلوا بالدنيا مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. (1)

إن خطبة جويرية عتبة بن جويرية، علاوة على دلالتها على إخلاصه في موالاته لأمير المؤمنين (علیه السلام)، تؤشر إلى حقيقة أخرى. إنه يعاتب جماعة من جند الإمام (علیه السلام) ويلومهم على تقاعسهم. وهذا يدل على أن جيش الإمام ا لم يكن متجانساً، بل كان يندس فيه بعض ضعاف الإيمان والمنافقين الذين يبحثون عن الذرائع للفرار من القتال وهو ما وجدوه عندما رفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح، فقلبوا نتيجة الحرب.

ص: 242


1- فتقدم عتبة بن جويرية فقال: أيها الناس! ... والصالحين". الفتوح، المجلد الثاني، ص144، خبر عرار بن الأدهم.

شمر بن ذي الجوشن في جيش الإمام (علیه سلام)!

من عجائب حرب صفين أن شخصاً مثل شمر بن ذي الجوشن يكون في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) ، يقاتل معاوية والشاميين جنباً إلى جنب الإمام الحسين (علیه السلام)، بل ويجرح كذلك! وهو الذي سيشهرالسيف، بعد سنوات، بوجه الإمام الحسين (علیه السلام) ويقتله بيده. يقول نصر بن مزاحم عن وجود شمر في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) خرج أدهم بن محرز، من أصحاب معاوية، بصفين إلى شمر بن ذي الجوشن فاختلفا ضربتين، فضربه أدهم على جبينه فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم. وضربه شمر فلم يصنع سيفه شيئاً، فرجع إلى عسكره، فشرب من الماء وأخذ رمحاً ثم أقبل يقول:

إني زعيم لأخي باهلة *** بطعنة إن لم أمت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة *** شبيهة بالقتل أو قاتلة

ثم حمل على أدهم وهو يعرف وجهه، وأدهم ثابت له لم ينصرف، فطعنه فوقع عن فرسه. وحال أصحابه دونه، فانصرف فقال :[شمر] هذه بتلك. (1)

ص: 243


1- وقعة صفين، ص 268، مبارزة سويد بن قيس وأبي العمر.

مندسون بين قادة جيش الإمام (علیه السلام)

جاء جماعة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) في أحد أيام الحرب فقالوا له: إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي إلّا قد كاتب معاوية، وقد خشينا أن يتابعه. فبعث إليه علي وإلى رجال من أشرافهم، فحمد اللّه ربه تبارك وتعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا معاشر ربيعة، فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حي في العرب في نفسي. ولقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم خالد بن المعمر، وقد أتيت به وقد جمعتكم له لأشهدكم عليه وتسمعوا أيضاً مني ومنه. ثم أقبل عليه فقال: يا خالد بن المعمر! إن كان ما بلغني عنك حقاً فإني أشهد اللّه ومن حضرني من المسلمين أنك آمن حتى تلحق بالعراق أو بالحجاز أو أرض لا سلطان لمعاوية فيها. وإن كنت مكذوباً عليك فأبر صدورنا بأيمان تطمئن إليها. فحلف له باللّه ما فعل. وقال رجال منا كثير (قال جماعة من زعماء القبيلة): واللّه لو نعلم أنه فعل لقتلناه.(1)

كان خالد بن المعمر صاحب راية ربيعة الكوفة والبصرة. ففي أثناء القتال، انسحب جماعة ربيعة، ومنهم خالد، فجأة فأضعفوا ميسرة جيش الإمام (علیه السلام)ولما عوتب فيما بعد على فعلته قال: لما رأيت رجالاً منا قد انهزموا، رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إليكم .(2)

يقول ابن أبي الحديد : لاريب عند علماء السير أن خالد بن المعمر كان له باطن سوء مع معاوية، وأنه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على علي (علیه السلام) ذكر ذلك الكلبي والواقدي وغيرهما. ويدل على باطنه هذا أنه لما استظهرت ربيعة على معاوية وعلى صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا، أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر أن: كف عني ولك إمارة خراسان ما بقيتَ (علموا أن معاوية كان يقبض على نبضه) فكف عنه، فرجع بربيعة وقد شارفوا أخذه من مضربه. (3)

ص: 244


1- "إن أناساً كانوا أتوا علياً قبل الوقعة في هذا اليوم فقالوا: إنا لا نرى ... لقتلناه". وقعة صفین، ص 287، استبراء خالد بن المعمر.
2- وقعة صفین، ص291، تضعضع رايات ربيعة بعد الهزيمة.
3- قلت: لاريب ... نبضه". شرح نهج البلاغة ، ج 5 ، ص ،228، شرح الخطبة 65، من أخبار يوم صفين.

كيفية تعامل الجيش مع أبناء الخلفاء

سبق أن ذكرنا أن العراقيين، رغم وقوفهم إلى جانب أمير المؤمنين (علیه السلام)، كانوا يعتقدون بمشروعية خلافة الشيخين. لم يكن العراقيون شيعة للإمام علي(علیه السلام) الحقيقيين. وهذا ما بينه أحد مشاهد حرب صفين.

فرّ عبیدالله بن عمر(1) ابن الخليفة الثاني إلى الشام في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) خوفاً من أن يقتص منه نظير الجرائم التي كان ارتكبها. وهذا ما أعطى زخماً لجيش الشام، لكونه ابن الخليفة الثاني، فكان جيش الشام يفتخر بوجوده فيه.

ص: 245


1- هو ابن الخليفة الثاني ولد في حياة النبّي (صلى اللّه عليه وآله وسلم). بعد مقتل أبيه، قام بقتل ابنة أبي لؤلؤة والهرمزان ورجل نصراني لأنه كان صديقاً لأبي لؤلؤة. فعفا عنه عثمان ولم يقتص منه. وبعد وصول الخلافة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فرّ عبيدالله إلى الشام خشية أن يجري الإمام (عليه السلام) القصاص، والتحق بمعاوية. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 132، ترجمة عبيدالله بن عمر بن الخطاب، الرقم 1737 ؛ أنساب الأشراف، ج3، ص78، أمر صفين. حمل عبيدالله كره الإيرانيين في قلبه بعد مقتل أبيه، فكان يهجم على من كان منهم في المدينة بسيفه كالحيوان المفترس. أنساب الأشراف، ج10، ص 434 ، عبیدالله بن عمر يقتل المتآمرين على قتل والده ؛ الطبقات الكبرى، ج 3، ص 357، ذكر استخلاف عمر. لما رأى رجال الدولة عبيدالله يفعل ذلك، قاموا باعتقاله وحبسه حتى يرى الخليفة الجديد رأيه فيه. إلّا أن عثمان بن عفان عفا عنه، بعد اختياره من قبل الشورى شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 54 ، ذيل الخطبة ،139 ، من أخبار يوم الشورى وتولية عثمان. ولكن الإمام علياً (عليه السلام) احتج على عثمان وقال له: اقتل هذا الفاسق الخبيث فقد قتل مسلماً بريئاً. شرح نهج البلاغة، ج3، ص61، ذيل الخطبة 43، ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها. جاء في بعض المصادر أن الإمام علياً (عليه السلام) قال لعثمان: ستُسأل يوم الحساب عن دم الهرمزان والله لئن رأيت عبيد الله لآخذن حق الله منه وإن رغمت أنوف. الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة، ص 176 ، ما نقموه من عثمان. بعد هذا التهديد من قبل الإمام (عليه السلام)، أرسل عثمان في طلب عبيدالله ليلاً فوهبه قرية قرب الكوفة سميت فيما بعد "كويفة ابن عمر." فهرب عبيد الله إليها في تلك الليلة وظل فيها حتى نهاية عهد عثمان شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 61، ذيل الخطبة 43 ، ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان والرد عليها. ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فرّ عبيد الله إلى الشام، خشية من أن ينزل الإمام (عليه السلام) به القصاص، والتحق بمعاوية. وكانت نهايته أن قتل في صفين. شرح نهج البلاغة، ج3، ص100، ذيل الخطبة 43، أخبار متفرقة.

بالمقابل، كان العراقيون يفخرون بوجود محمد بن أبي بكر معهم لأنه ابن الخليفة الأول. (1)

لو كان العراقيون شيعة حقيقيين لأمير المؤمنين (علیه السلام) لما افتخروا ببنوة الخليفة الأول. وصحيح أن محمد بن أبي بكر تربى في حجر أمير المؤمنين (علیه السلام) ولم يكن يؤمن بأبي بكر، ولكن كان ينبغي على أهل العراق التباهي بوجود الحسنين (علیه السلام) في جيش أمير المؤمنين ( علیه السلام).

ص: 246


1- "عن تميم قال: نادى منادي أهل الشام ألا إن معنا الطيب ابن الطيب عبيدالله بن عمر. فقال عمار بن ياسر: بل هو الخبيث [ابن الطيب]. ونادى منادي أهل العراق: ألّا إن معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر. فنادى منادي أهل الشام: بل هو الحبيث بن الطيب". وقعة صفين، ص 293، التفاخر بعبيدالله بن عمر ومحمد بن أبي بكر.

استغلال معاوية وجود عبيد الله بن عمر إعلامياً

عندما ذهب عبيدالله بن عمر بن الخطاب إلى الشام، كتب معاوية إلى عمرو بن العاص أن اللّه أحيى لك عمر بن الخطاب بمجيء عبيد اللّه إلى الشام وأريد أن أقنعه بأن يخطب في الناس ويشتم علياً ويشهد بأنه هو من قتل عثمان. فقال عمرو: نعم ما تصنع. فأرسل معاوية في طلب عبيدالله وقال له: يا ابن أخي! أريد منك أن تصعد المنبر وتنال من علي بأشد ما تقدر وتشتمه وتحمله مسؤولية قتل عثمان. فإن لكلامك تأثيراً بالغاً على أهل الشام.

فقال عبيداللّه بن عمر: كيف لي أن أشتمه وأبوه أبوطالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فما عساي أن أقول في حسبه ونسبه؟ أما في الشجاعة والبأس فهو شجاع قوي وأنت تعلم ذلك جيداً. أما تحمیله دم عثمان، فنعم.

قال عمرو بن العاص : وهذا يكفي وسيؤثر على الناس ويحرضهم على علي ولما خرج عبيداللّه، قال معاوية لعمرو بن العاص واللّه، لولا أنه قتل الهرمزان ويخشى من قصاص علي لما جاء إلينا ألا ترى كيف يمدح علياً؟ فقال عمرو بن العاص: إن لم تكن قادراً على الانتصار على العدو فلا أقل من خدشه يعني أنه يكفيه أن يخدش عبيدالله صورة علي بين الناس.

سمع عبيدالله بالحوار الذي جرى بين معاوية وعمرو بن العاص ولما قام ليخطب، تكلم بكلام كثير ولكنه لم يتطرق لعلي (علیه السلام) وبعد أن أنهى خطبته ، أرسل له معاوية رسالة أن: يا ابن أخي! إما أنك فقدت عقلك أو أنك خنت فلماذا لم تفعل ما وعدتنا به؟ فأرسل إليه عبيدالله أنه لا يحب أن يحمٌل مسؤولية قتل عثمان من لم يقتله. (1)

ص: 247


1- لما قدم عبيدالله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص : إن اللّه قد أحيى لك عمر بن الخطاب بالشام بقدوم عبيدالله بن عمر. وقد رأيت أن أقيمه خطيباً يشهد على على بقتل عثمان وينال منه. فقال: الرأي ما رأيت فبعث إليه، فأتاه، فقال له معاوية: يا ابن أخي! إن لك اسم أبيك، فانظر بملء عينيك وانطق بملء فيك، فأنت المأمون المصدق . فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه قتل عثمان. فقال: أيها الأمير! أما شتمه فإن أباه أبوطالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فما عسى أن أقول في حسبه؟ وأما بأسه فهو الشجاع المطرق. وأما أيامه فما قد عرفت. ولكني ملزمه دم عثمان. فقال عمرو بن العاص: إذن واللّه قد نكأت القرحة. فلما خرج عبيدالله بن عمر ، قال معاوية: أما واللّه، لولا قتله الهرمزان ومخافته علياً على نفسه ما أتانا أبداً. ألا ترى إلى تقريظه علياً؟ فقال عمرو: يا معاوية ! إن لم تغلب فاخلب. قال: وخرج حديثهما إلى عبيدالله، فلما قام خطيباً تكلم بحاجته. فلما انتهى إلى أمر علي أمسك ولم يقل شيئاً. فلما نزل، بعث إليه معاوية: يا ابن أخي! إنك بين عي وخيانة. فبعث إليه: إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان وعرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها". شرح نهج البلاغة، ج3، ص 100 ، ذيل الخطبة 43 أخبار متفرقة.

ص: 248

رفض نزول الحسنين (علیهما السلام) إلى ميدان القتال

من النقاط المهمة في حرب صفين أن الإمامين الحسن والحسين (علیهما السلام)، رغم مشاركتهما في جميع أمير المؤمنين (علیه السلام) إلّا أنه عليه السلام ما كان يأذن لهما بالنزول إلى الميدان. ويفسر ذلك بقوله: فعلمت أن هذين (يعني الحسنين (علیهما السلام)) إن هلكا انقطع نسل محمد (صلی اللّه علیه وآله) من هذه الأمة. فكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا، (وكنت سأحزن على محمد وعبدالله إن فقدتمها). وقد علمت أن لولا مكاني لم يستقدما ( يعني محمد بن علي وعبدالله بن جعفر) وأيم اللّه لئن لقيتهم بعد يومي الألقينهم وليس هما معي في عسكر ولا دار الهلكا. (1)

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يتقدم للمبارزة، كلما دعا إليها مقاتل من جيش معاوية، ولا يأذن لأحد ممن حوله، خاصة للحسنين (علیهما السلام) بالنزول إلى الميدان والحال كان على العكس منه في معسكر الشام فكلما كان الإمام (علیه السلام) يدعو معاوية إلى المبارزة، كان معاوية يدفع بجماعته إليها الأمر الذي أثار اعتراض قادته. فقد قال مروان بن الحكم في جلسة خاصة لمعاوية بنبرة معترضة: أما البراز فإن علياً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ولا لابن عباس وإخوته ويصلي بالحرب (هكذا: م) دونهم فلأيهم نبارز؟ (2)

على أن أمير المؤمنين (علیه السلام)، بالرغم من أنه لم يكن يأذن لمحمد بن الحنفية كذلك في كثير من الأحيان، إلّا أنه كان في بعض الأحيان يشجعه على ذلك حسب الظروف. وهذا ما حاول بعض المغرضين انتهازه في إيقاع الحسد بين محمد بن الحنفية والحسنين (علیهما السلام) يقول ابن أبي الحديد: قيل الحنفية: لم غرر بك أبوك في الحرب ولم لا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال: لأنهما عيناه وأنا يمينه. فهو يذب عن عينيه بيمينه. (3)

ص: 249


1- "ولقد هممت بالإقدام [على القوم] فنظرت إلى هذين قد ابتدراني يعني الحسن والحسين (علیهما السلام) ونظرت إلى هذين قد استقدماني، يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي، فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع ... ولا دار". وقعة صفين، ص530، مقدم علي (عليه السلام) من صفين إلى الكوفة.
2- فقال مروان أما البراز .... نبار رز؟". وقعة صفين، ص 462 ، حض معاوية قريش الشام
3- شرح نهج البلاغة ، ج 11، ص28، شرح الخطبة 200.

هذا الرد يكشف عن معرفة محمد بن الحنفية لمنزلة أهل البيت الرفيعة، ويبين أنه لم ينظر

للقضية نظرة انفعالية ولم تهتز موالاته لأمير المؤمنين (علیه السلام).

ص: 250

وصف شدة القتال

في خضم حرب صفين، بعث أمير المؤمنين (علیه السلام)رسالتين إلى معاوية دعاه فيهما إلى طريق الحق منعاً لسفك الدماء، ولكن رد معاوية عليه كان يشي بأنه لايزال يأمل بتحقيق النصر، وأنه لا يتنازل، بأي شكل من الأشكال، عن أمانيه الواهية.

بعد أن تلقى أمير المؤمنين (علیه السلام) ردود معاوية وتمت الحجة عليه ، قام (علیه السلام) بتهيئة جيشه لشن هجوم شامل، فقال: انهدوا إليهم وعليكم السكينة وسيما الصالحين ووقار الإسلام واللّه لأقرب قوم من الجهل باللّه عزّ وجلّ قوم قائدهم ومؤدبهم معاوية وابن النابغة وأبوالأعور السلمي وابن أبي معيط، شارب الحرام والمجلود حداً في الإسلام. وهؤلاء يقومون فيقصبونني ويشتمونني وقبل اليوم ما قاتلوني وشتموني (لم يجرؤوا على ذلك)، وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام . (1)

بعد هذه الخطبة وما تلاها من كلام لقادة الجيشين من حث وتشجيع للمقاتلين، تصاعدت الاشتباكات واشتد القتال. يصف زياد بن النضر الحارثي،(2) وهو من قادة جيش الإمام (علیه السلام)، الاشتباكات التي تصاعدت في شهر صفر بقوله: شهدت مع علي بصفين، فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفدت السهام. ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً. وقد قاتلت يومئذ بجميع السلاح، فلم يبق شيء من السلاح إلّا قاتلت به حتى تحاتينا بالتراب وتكادمنا بالأفواه (يعض بعضنا بعضاً بأسنانه) حتى صرنا قياماً ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع واحد من الفريقين ينهض إلى صاحبه ولا يقاتل. فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب علي (علیه السلام)

ص: 251


1- عن زيد بن وهب أن علياً مرّ على جماعة من أهل الشام بصفين فيهم الوليد بن عقبة وهم يشتمونه ويقصبونه فأخبروه بذلك، فوقف في ناس من أصحابه فقال: انهدوا ... الأصنام". وقعة صفین، ص391، خطبة علي في حثّ أصحابه.
2- يعد الشيخ الطوسي زياد بن النضر من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام). جعله الإمام (علیه السلام) على مقدمة جيشه عند مسيره إلى صفين وكان بإمرته اثنا عشر ألف مقاتل. وعندما بدأت حرب صفين جعله الإمام (علیه السلام) قائداً لمذحج والأشعريين. وقعة صفين، ص117، قدوم ابن عباس ؛ تنقيح المقال في علم الرجال، ج1، ترجمة زياد بن النضر، الرقم 4363.

على القتلى في تلك الليلة وأقبل على أصحاب محمد (صلی اللّه علیه وآله)وأصحابه فدفنهم، وقد قتل كثير منهم وقتل من أصحاب معاوية أكثر وقتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة وقتل عامة من أصحاب علي أغلبهم يومئذ. (1)

ص: 252


1- "عن زياد بن النضر الحارثي وكان على مقدمة علي، قال: شهدت .... يومئذ " . وقعة صفين، ص369، صفة معركة صفين.

تقابل الوالد والد

من ميزات حرب صفين أنها وضعت الأقرباء والأصحاب في مواجهة بعضهم. ولعل أعجب مواجهة حدثت في هذه الحرب تلك التي جمعت بين أب اسمه حجل وابن اسمه أثال بن حجل. فقد كان حجل مع معاوية، فيما كان ابنه أثال من أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام).

كان مالك الأشتر، في خضم الاشتباكات، يشجع جنوده على القتال فخرج أثال بن حجل إلى الميدان وطلب البراز فدعا معاوية حجلاً وأرسله إلى الميدان فتبادل الرجلان الضربات، ثم سأل أحدهما الآخر عن من يكون فأدرك حجل أنه إنما يصارع ابنه. فتعانقا وبكيا، ثم قال الوالد للولد : أي أثال! هلم إلى الدنيا. فرد عليه الغلام: يا أبه! هلم إلى الآخرة. واللّه يا أبه، لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني. واسوأتاه! فماذا أقول لعلي وللمؤمنين الصالحين؟ كن على ما أنت عليه وأنا أكون على ما أنا عليه. وانصرف حجل إلى أهل الشام وانصرف أثال إلى أهل العراق . (1)

ص: 253


1- فقال الأشتر: يا أهل العراق! أما من رجل يشري نفسه [للّه ]؟ فخرج أثال بن حجل فنادى بين العسكرين: هل من مبارز؟ فدعا معاوية حجلاً فقال: دونك الرجل. وكانا مستبصرين في رأيهما، فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه فبدره الشيخ بطعنة فطعنه الغلام، وانتمى فإذا هو ابنه. فنزلا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه وبكيا. فقال له الأب أي أثال! ... العراق". وقعة صفين، ص 443، نداء الأشتر مفاجأة أثال بن حجل لأبيه ؛ شرح نهج البلاغة، ج8، ص 83 ، ذيل الخطبة 124، عود إلى أخبار صفين.

محاولات معاوية لإيقاف القتال

اشارة

مع الاشتباكات الشاملة، تضاعف عدد قتلى عسكر الشام، وشمل القتل عدداً من قادته. وكان وضع جيش الشام يبعث التفاؤل لدى قادة جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) بالنصر يشير الأصبغ بن نباتة، وكان أحد قادة جيش الإمام (علیه السلام)، إلى هذا بقوله : يا أميرالمؤمنين (علیه السلام)! إنك جعلتني على شرطة الخميس وقدمتني في الثقة دون الناس، وإنك اليوم لا تفقد لي صبراً ولا نصراً. وأما أهل الشام فقد هدّهم ما أصبنا منهم ونحن ففينا بعض البقية فاطلب بنا أمرك . (1)

ص: 254


1- "فقام إليه الأصبغ بن نباتة التميمي فقال: يا أمير المؤمنين! ... أمرك". ، ص 406، كلام لمعاوية والأصبغ والأحنف.

أ - تشاور معاوية مع الأشعث بن قيس

بعد مقتل جماعة من أبرز قادة الجيشين، طلب معاوية من معاوية بن حديج (1) أن يكتب إلى الأشعث بن قيس ويطلب منه أن يسلم معاوية قتلة عثمان لينالوا جزاءهم وتتوقف الحرب. فكتب معاوية بن حديج إلى ابن عمه الأشعث، وكلاهما من كندة، رغم معرفته بعدم جدوى ذلك. جاء في الكتاب: أما بعد! فإنه لن يدخل في الإسلام من ملوك الجاهلية غيرك وغير ذي الكلاع. فأما أنت فنزلت العراق فكنت سيد أهلها. وأما ذو الكلاع فنزل الشام فساد أهلها. ثم وقع هذا البلاء، وأخذت أنت علياً وأخذ ذوالكلاع معاوية، فكان معه إلى أن وافاه أجله. واللّه ما أنت بالزاري على عثمان

ص: 255


1- بالرغم من أن اسم معاوية بن حديج السكوني الكندي المصري ورد في الكتب الخاصة بالصحابة، فإن علماء أهل السنة مختلفون في صحبته. فقد عده ابن سعد الواقدي في الصحابة، وعده ابن حبان وأحمد بن حنبل من التابعين. كان لفترة عاملاً لمعاوية على مصر، وقدم خدماته لمعاوية ولدولة الأمويين. يقول أكثر المؤرخين إنه مات في زمن معاوية سنة 52 هجرية، قبل عبد لله بن عمرو بن العاص بقليل. أما ابن حجر العسقلاني فيقول إنه عاش إلى زمن يزيد، وعينه حاكماً على مصر مدة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 468 - 469، ترجمة معاوية بن حديج. ويعده الذهبي، إلى جانب عمرو بن العاص وابنه الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وبسر بن أرطاة وحبيب بن مسلمة وأبي الأعور السلمي وأبي الغادية الجهني من الصحابة المعدودين في جيش معاوية. العبر في خبر من غبر، ج1، ص30 ، سنة سبع وثلاثين. كان من المبغضين للإمام علي (علیه السلام) بشدة وكان يشتمه كثيراً. المعجم الكبير، ج3، ص91 - 92، الحديث 2758 ؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص130، باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. يروي الطبراني عن أبي كبير حادثة تدل على أن الإمام الحسن (علیه السلام)كان يعتبر معاوية بن حديج كافراً ومنافقاً. يقول أبوكبير: كنت عند الإمام الحسن (علیه السلام)، فجاءه رجل وقال له: لقد سبّ معاوية بن حديج الإمام علياً (علیه السلام) في مجلس معاوية وأقذع في شتمه. فسأله الإمام الحسن (علیه السلام): هل تعرف معاوية بن حديج؟ إذا لقيته فجئني به! فاتفق ذات يوم أن رأى ذلك الرجل معاوية بن حديج قرب دار عمرو بن حريث فدلّ عليه الإمام الحسن (علیه السلام). فذهب إليه سلام. الإمام (علیه السلام) وسأله ثلاث مرات: هل أنت معاوية بن حديج؟ فسكت معاوية بن حديج ولم يرد عليه. فسأله الإمام الحسن (علیه السلام) : هل شتمت أبي عند ابن آكلة الأكباد هند (معاوية)؟ واللّه لئن أتيت أبي على حوض الكوثر ستجده مشمراً عن ساعديه يذود الكفار والمنافقين عن حوض رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) كما يذود صاحب الماء عنه الإبل الغريبة ويمنعها أن تشرب. المعجم الكبير، ج3، ص 81 - 82 ، الحديث 2727 ؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج 9، ص130، باب منه جامع فيمن يحبه ومن يبغضه. هذا وقد قتل ابن الخليفة الأول، محمد بن أبي بكر الذي كان من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) المخلصين، سنة 38 هجرية بأمر معاوية وبيد معاوية بن حديج وأبي الأعور السلمي وعمرو بن العاص. تاريخ خليفة، ص 116 ، سنة 38 هجرية، مقتل محمد بن أبي بكر.

ولا بالراضي عن علي. وإننا لا نسألك أن تأخذ الشام بالعراق ولا معاوية بعلي، لكن نسألك أن تسأل علياً أن يدفع إلينا قتلة عثمان. (1)

على هذا الكتاب ، لنا الملاحظات التالية:

الأولى: أن معاوية لم يدخر وسعاً ولم يفوت وسيلة للتغلغل في صفوف جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) لإضعاف معنويات المقاتلين. فلطالما استغل العلاقات القبلية والعرقية التي كانت بين أفراد جيشه وأفراد جيش العراق، ولكن عبثاً كانت غاية معاوية من مكاتبة الأشعث أن يدخل الترديد في قلبه حيال الحرب. فقد كان الأشعث صهر عثمان وعامله، ولاشك أنه لم يكن راضياً بقتله لذا طلب منه معاوية أن يتوسط لتسليم قتلة عثمان للاقتصاص منهم وإنهاء الحرب. وكان شأن هذا الطلب أن يزلزل الأشعث إلى حدٍ ما.

الثانية: كان قادة الشام يعلمون بأن الأشعث بن قيس ليس راسخاً في طاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) وأنه لم يكن راضياً عنه، لذا لم تنقطع اتصالات معاوية به لاستمالته إلى جانبه. وهذا ما تحقق له في نهاية الأمر إذ نجح في تغيير نتائج الحرب إلى مصلحته من خلال هذا العنصر المندس.

ص: 256


1- "ثم دعا معاوية بمعاوية بن حديج الكندي فقال: إن الأشعث بن قيس رجل من كندة، وهو ابن عمك. وقد أحببت أن تكتب إليه تسأله فيه أن يدفع إلينا قتلة عثمان حتى نقتلهم به ونقعد في منازلنا. فقد واللّه أهلكنا هذه الحروب. قال: فكتب معاوية بن حديج إلى الأشعث بن قيس: أما بعد ... عثمان". الفتوح، المجلد الثاني، ص 160، ذكر مقتل عمار بن ياسر.

جواب الأشعث على كتاب معاوية

بعد أن استلم الأشعث بن قيس كتاب معاوية، ردّ عليه بما يلي: أما بعد، فقد ذكرتني فقد ذكرتني من نعم اللّه تعالى علي ما أسأله المزيد. وأنا أذكرك من نعم اللّه عليك ما تعرف ذلك، وأسألك أهون ما تسألني. أنت المطاع في أهل الشام، فاركب وصر إلى من تخلف عن صاحبي وصاحبك من المهاجرين والأنصار فاسألهم عن الرجلين ،وإن كان علي أحق بهذا الأمر من معاوية اعتزلته وأعنتنا عليه. وإن كان معاوية أحق بهذا الأمر من على اعتزلته وأعنتكم عليه. وأما قولكم أني لست بالزاري على عثمان ولا بالراضي عن علي، فما أغناني عن عثمان وأرضاني عن علي. وإنما أنا قاتلك (هكذا، ربما أقاتلك :م) مع إمام هدىَّ قد بايعه المهاجرون والأنصار، وأنت تقاتلني مع رجل استخلفه أهل الشام ليس لهم نصيب في الخلافة ولا في الشورى. (1)

بعد وصول كتاب الأشعث بن قيس إلى معاوية، قال له أخوه عتبة بن أبي سفيان: لا يمكنك خداع الأشعث بالكتب. فإن شئت فأذن لي أن أكلمه وجهاً لوجه، فربما أثر فيه ذلك أكثر. فدنا عتبة من عسكر أمير المؤمنين (علیه السلام) وأخذ يمدح الأشعث ويطري عليه، فقال: أيها الرجل! إن معاوية لو كان لاقياً رجلاً غير علي للقيك. إنك رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن. وقد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر والعمل، ولست كأصحابك. أما الأشتر فقتل عثمان، وأما عدي فحرّض عليه، وأما سعيد (بن قيس) فقلد علياً دينه. وأما شريح وزحر بن قيس فلا يعرفان غيرالهوى.

وإنك حاميت عن أهل العراق تكرماً، ثم حاربت أهل الشام حمية. وقد بلغنا واللّه منك وبلغت منا ما أردت. وإنا لا ندعوك إلى ترك علي ونصر معاوية، ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك وصلاحنا. فتكلم الأشعث فقال: يا عتبة ! أما قولك إن معاوية لا يلقى إلّا علياً، فإن لقيني واللّه لما عظم عني ولا صغرت عنه. فإن أحب أن أجمع بينه وبين علي فعلت. وأما قولك إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن، فإن الرأس المتبع والسيد المطاع هو علي بن أبي طالب (علیه السلام) وأما ما سلف من عثمان إليّ، فوالله ما زادني صهره شرفاً ولا عمله عزاً. وأما عيبك أصحابي، فإن هذا لا يقربك مني

ص: 257


1- فكتب إليه الأشعث: أما بعد ... الشورى". الفتوح، المجلد الثاني، ص 161 ، ذكر مقتل عمار بن ياسر.

ولا يباعدني عنهم. وأما محاماتي عن أهل العراق، فمن نزل بيتاً حماه. وأما البقية (يعني الصلح) فلستم بأحوج إليها منا. وسنرى رأينا فيها إن شاء اللّه . (1)

كان الأشعث يعلم أن كل أقواله وأفعاله لا تغيب عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنه (عليه السلام) كانت تصله كل محادثاته مع زعماء الشام لذا حرص على أن لا يتفوه بكلام بعيد عن الحذر، فصور نفسه بصورة الثابت على عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) ولكنه ،في نهاية كلامه، أشار إلى نقطة غرست بذرة الأمل في قلب معاوية، وكشفت له أن الأشعث لم يكن رافضاً للصلح. وهذا ما استغله معاوية لاحقاً.

ب - تشاور معاوية مع عبدالله بن عباس

بعد سماع معاوية رأي الأشعث، استشار عمرو بن العاص وقال له: إن رأس الناس بعد علي هو عبدالله بن عباس. فلو ألقيت إليك كتاباً لعلك ترققه به، فإنه إن قال شيئاً لم يخرج علي منه. وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل [إلى] العراق إلاّ بهلاك أهل الشام. قال له عمرو: إن ابن عباس لا يخدع. ولو طمعت فيه طمعت في علي. فقال معاوية: على ذلك فاكتب إليه. فكتب إليه عمرو: أما بعد فإن الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء وساقته العافية. وأنت رأس هذا الجمع بعد علي، فانظر فيما بقي ودع ما مضى. فوالله ،ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياة ولا صبراً. واعلموا أن الشام لا تملك إلّا بهلاك العراق، وأن العراق لا تملك إلّا بهلاك الشام. وما خيرنا بعد هلاك أعدائنا منكم، وما خيركم بعد هلاك أعدائكم منا. ولسنا نقول ليت الحرب غارت، ولكنا نقول ليتها لم تكن. وإن فينا من يكره القتال كما أن فيكم من يكرهه فكتب ابن عباس إلى عمرو: أما بعد، فإني لا أعلم رجلاً من العرب أقل حياءً منك إنه مال بك معاوية إلى الهوى، وبعته دينك

ص: 258


1- "إن معاوية دعا أخاه عتبة بن أبي سفيان فقال: الق الأشعث بن قيس ،فإنه إن رضي رضيت العامة. وكان عتبة لا يطاق لسانه، فخرج عتبة فنادي الأشعث بن قيس، فقال الناس: يا أبا محمد! هذا الرجل يدعوك. فقال الأشعث: كما يكون الرجل فسلوه من هو؟ فقال: أنا عتبة بن أبي سفيان. فقال الأشعث بن قيس: غلام مترف ولابد من لقائه. [فخرج إليه] فقال: ما عندك يا عتبة؟ فقال: أيها الرجل! ... إن شاء اللّه". وقعة صفين، ص 408، إيفاد معاوية أخاه عتبة إلى الأشعث بن قيس ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص 162، ذكر مقتل عمار بن ياسر.

بالثمن اليسير. ثم خبطت بالناس في عشوة طمعاً في الملك. فلما لم تر شيئاً أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب وأظهرت فيها نزاهة أهل الورع. فإن كنت ترضى (هكذا، ربما ترضي: م) اللّه بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك. وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي ؛ ابتدأها علي بالحق وانتهى فيها إلى العذر. وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف. وليس أهل العراق فيها كأهل الشام ؛ بايع أهل العراق عليا وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خيرٌ منه. ولست أنا وأنت فيها بسواء ؛ أردت اللّه وأردت أنت مصر. وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أرى الشيء الذي قربك من معاوية. فإن ترد شراً لا نسبقك به، وإن ترد خيراً لا تسبقنا إليه. (1)

كان عمرو بن العاص يعلم منذ البداية أنه لا سبيل إلى خداع ابن عباس والتسلل من خلاله. لذا ذهب إلى معاوية مغضباً، بعد أن تلقى جواب ابن عباس شديد اللهجة، وقال: ما كان أغناني وإياك عن بني عبدالمطلب! فقال معاوية: صدقت أباعبدالله، ولكنك قد علمت ما مرّ علينا بالأمس من القتل والهلاك. وأظن علياً سيباكرنا الحرب غداً ويعمل على المناجزة. وقد رأيت أن أشغله أنا غداً عن الحرب بكتاب أكتبه إلى ابن عباس، فإن هو أجابني إلى ما أريد فذلك. وإلّا كتبت إلى علي وتحملت عليه بجميع من في عسكره (حرضت عليه جيشه). فإن أجاب، وإلّا صادمته وجعلتها واحدة لي أم عليَّ . فهذا رأيي، وإنما أريد بذلك أن أجم الحرب أياماً. فقد تعلم ما نزل بنا في هذه الأيام. وإن كان عندك رأي غير هذا فهات! (2)

ثم كتب معاوية إلى ابن عباس: أما بعد، فإنكم - معشر بني هاشم - لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار عثمان. فإن يك ذلك لسلطان بني أمية فقد ورثها عدي وتيم (فلماذا لم تقاتلوا بني عدي وبني تيم من أجل الخلافة؟). وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض حتى استوينا فيها. فما أطمعكم فينا (أطمعنا فيكم) وما أيأسكم منا أيأسنا منكم. وقد رجونا غير الذي كان ،وخشينا دون ما وقع. ولستم ملاقينا اليوم بأحدّ من حدكم أمس. وقد

ص: 259


1- قال: وإن معاوية لما يئس من جهة الأشعث، قال لعمرو بن العاص إن رأس ... إليه". وقعة صفين، ص410، معاوية وعمرو، ؛ أنساب الأشراف، ج 3، ص 87 ، أمر صفين ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص 146، ذكر ما جرى من الكتب بين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وبين معاوية وعمرو بن العاص وابن عباس.
2- الفتوح، المجلد الثاني ، ص 149، ذكر ما جرى من الكتب بين علي بن أبي طالب وبين معاوية وعمرو بن العاص وابن عباس.

منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق. فاتقوا اللّه في قريش، فما بقي من رجالها إلّا ستة: رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز. فأما اللذان بالحجاز فسعد وعبدالله بن عمر، وأما اللذان بالشام فأنا وعمرو، وأما اللذان بالعراق فعلي وأنت. ومن الستة رجلان ناصبان لك وآخران واقفان عليك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغداً. ولو بايع الناس لك بعد عثمان كنا أسرع إليك منا إلى على. (1)

ضحك ابن عباس لما قرأ كتاب معاوية وقال: حتى متى يخطب إليّ معاوية عقلي؟ وحتى متى أجمجم له عما في نفسي؟ (إلى متى يحاول ابن هند خداعي؟ وإلى متى أصبر على السكوت؟ فكتب إليه: أمابعد ، فقد جاءني كتابك. فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان لسلطان بني أمية، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك. لقد استنصرك فلم تنصره، حتى صرت إلى ما صرت إليه. وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة. وأما قولك إنه لم يبق من رجال قريش غير ستة، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها. وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلاّ خذلك. وأما إغراؤك إيانا بعدي وتيم، فأبوبكر وعمر كانا خيراً منك ومن عثمان، كما أن علياً خير منك. وأما قولك إنه لو بايعني الناس استقمت ،فقد بايعوا علياً وهو خير مني، فلم تستقم له. وإن الخلافة لا تصلح إلّا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة، وأنت طليق الإسلام وابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر. (2)

ص: 260


1- "ذكروا أن معاوية كتب إلى عبد اللّه بن عباس: أما بعد ... علي". الإمامة والسياسة، ج1، ص113، كتاب معاوية إلى ابن عباس جوابه.
2- "قال: وذكروا أنه لما أتى كتاب معاوية إلى ابن عباس ضحك ثم قال: حتى متى .... بدر" . الإمامة والسياسة، ج1، ص113، كتاب معاوية إلى ابن عباس جوابه.

حيرة قادة الشام

الردود الحادة التي تلقاها معاوية من الأشعث بن قيس وابن عباس جعلته يفكر عميقاً في طريقة أخرى لتغيير ظروف الحرب لصالحه، بعد أن تيقن أن الأمور تسير به نحو الهزيمة. لذا، جمع قادة جيشه وعقد معهم اجتماعاً. فاجتمع حوله عتبة بن أبي سفيان (1)والوليد بن عقبة (2)ومروان بن الحكم وعبدالله بن عامر وعبيدالله بن عمر وابن طلحة الطلحات وأدلى كل بدلوه. وكان عتبة بن أبي سفيان أول المتحدثين، فقال: إن أمرنا وأمر علي لعجب، ليس منا إلّا موتور محاج. أما أنا فقتل جدي واشترك في دم عمومتي يوم بدر . وأما أنت يا وليد فقتل أباك يوم الجمل وأيتم إخوتك. وأما أنت يا مروان، فكما قال الأول:

وأفلتهن علباء جريضاً *** ولو أدركنه صفر الوطاب

(يعني أن علياً ضربك ضربة مختلفة). قال معاوية: هذا الإقرار فأين الغير؟ (هذا الاعتراف بالهزيمة، فأين الغيرة والحمية؟ لماذا لا تذهبون لحربه وتقاتلونه؟) قال :مروان أي غير تريد؟ قال (معاوية): أريد أن يشجر بالرماح. فقال (مروان): واللّه إنك لهازل، ولقد ثقلنا عليك (سئمتنا وتريد التخلص منا بأن تدعونا لمقاتلة على بن أبي طالب. بعد أن انتهى كلام مروان، أنشد الوليد بن عقبة شعراً أشار

ص: 261


1- عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية تولى حكم مصر من قبله. دافع عن عثمان يوم قتل، وشهد معركة الجمل مع عائشة ضد أميرالمؤمنين (عبلیه السلام). ذكر أنه كان من متكلمي بني أمية المفوهين. مات سنة 44 هجرية. الأعلام، ج4، ص200.
2- الوليد بن عقبة أخو عثمان لأمه. عينه الخليفة الثالث والياً على الكوفة. عندما كان والياً للكوفة صلى ذات يوم صلاة الفجر أربع ركعات وهو سكران. فضاق بمخالفاته الشرعية أهل الكوفة ذرعاً فنزعوا منه خاتمه وهو سكران، ثم ذهبوا إلى عثمان وشهدوا عنده أن الوليد صلى وهو سكران، وأن السكر بلغ به أن نزعوا منه خاتمه وهو لا يحس. ولكن عثمان واجههم بشدة وطردهم من دار الخلافة. بعد ذلك تابع أمير المؤمنين (علیه السلام) القضية وشهد عليها شهود فتقرر إقامة الحد على الوليد. غير أنه لا أحد انبرى لتنفيذ الحد خشية من عثمان فنهض الإمام علي(علیه السلام) فجلده. وهذا ما ضاعف بغض الوليد لأميرالمؤمنين(علیه السلام). وكان من أفسق المقربين إلى معاوية. ويشهد على فسقه قول اللّه تعالى ((....... آيات قرآنية منضدة بأشكال مبهمة: م)). أرسله النبي(صلی اللّه علیه وآله) في مهمة إلى بني المصطلق. فلما عاد من مهمته شهد شهادة باطلة عليهم واتهمهم بالارتداد والامتناع عن دفع الزكاة. فنزلت فيه آيات من سورة النبأ. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 4، ص 114، ترجمة الوليد بن عقبة، الرقم 2750 ؛ الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 369 ، ذكر خلافة عثمان بن عفان.

فيه إلى شجاعة علي وسخر من ما فعله عمرو بن العاص عندما برز إليه. فقال في شعره ما معناه: أي سبع في قلب الصحراء يملك الشجاعة لأن يواجه الأسد الضرغام؟.. عدا عمرو بن العاص الذي أنقذته عورته ففر مذعوراً من ميدان النزال). فغضب عمرو وقال: إن كان الوليد صادقاً فليلق علياً، أو ليقف حيث يسمعه .(1)

ص: 262


1- "وذكروا أنه اجتمع عند معاوية تلك الليلة عتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعبد اللّه بن عامر وابن طلحة الطلحات، فقال عتبة: إن أمرنا ... يسمعه". وقعة صفین، ص417 ، اجتماع بعض الرؤساء عند معاوية.

عمليات قادة الشام

بعد تكبد جيش الشام بالخسائر الجسيمة، دعا معاوية يوماً عمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وعبيدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن خالد وهم كبار قادة جيشه فقال لهم: إن جماعة من قادة جيش علي أقضوا مضجعي ولابد من التخلص منهم، وهم سعيد بن قيس ومالك الأشتر وهاشم المرقال وعدي بن حاتم وقيس بن سعد. وقد عينت لكل واحد منهم رجلاً منكم يقاتله ويخرجه من الميدان. وبعد أن وافق الجميع على الفكرة، ابتدأ معاوية بنفسه ليسد باب الاعتراض عليه فقال: أنا أقاتل سعيد بن قيس، ويقاتل عمرو بن العاص هاشم المرقال، ويقاتل بسر بن أرطاة قيس بن سعد، ويقاتل عبيدالله بن عمر مالك الأشتر، ويقاتل عبدالرحمن بن خالد عدي بن حاتم. وأكد على أن تنفذ الخطة بشكل متتالي وفي غضون خمسة أيام.

ص: 263

تنفيذ خطة القادة

في اليوم التالي جمع معاوية فرسان جيشه واستعد بهم لمحاربة الهمدانيين وسعيد بن قيس. (1)

فاشتبكا وتقاتلا قتالاً شديداً. ثم عاد معاوية إلى مقره دون أن يحقق شيئاً.

في اليوم التالي خرج عمرو بن العاص لمقاتلة هاشم المرقال. وبعد قتال عنيف، لم يستطع أي من الطرفين التغلب على خصمه. فتوقف القتال تلقائياً وعاد عمرو بن العاص صفر اليدين، فانزعج معاوية. وفي اليوم الثالث خرج بسر بن أرطاة بعدد كبير من الفرسان لمواجهة قيس بن سعد. وبعد قتال شديد تفوق فيه قيس بن سعيد، توقف القتال تلقائياً. في اليوم الرابع تم تعبئة كل ما حوى معسكر الشام من فرسان تحت قيادة عبيد الله بن عمر الذي قاد جيشه لمحاربة مالك الأشتر. وبعد معركة طاحنة، قتل عبيدالله فانسحب جنوده بطريقة فاضحة، فزادوا معاوية كمداً.

في اليوم الخامس خرج عبدالرحمن بن خالد بكامل العدة والعدد، وكان معاوية يعول عليه كثيراً، إلى مقابلة عدي بن حاتم. وكان معاوية يحب عبدالرحمن كابنه. وكان مصيره هو الآخر الهزيمة

ص: 264


1- كان سعيد بن قيس من أوفي أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام). شهد معه الجمل وصفين، إذ كان فيهما قائد جيش الهمدانيين. الجمل، ص 319 ، في تأمير الأمراء وتكتيب الكتائب ؛ وقعة صفين، ص 205 ، عقد الألوية وتأمير الأمراء. خطبه الغراء في صفين دليل على نفاذ بصيرته ومعرفته لعدوه وموالاته لأمير المؤمنين(علیه السلام). وقعة صفين، ص 236 ، زحف عبد اللّه بن بديل. امتاز هو وقبيلته بالشجاعة والتفاني في ركاب أمير المؤمنين (علیه السلام). لقد أقضت شجاعة الهمدانيين مضجع معاوية وأشعلته غضباً حتى قال: ما لقيت من همدان وقعة صفین، ص 437، إعجاب علي (علیه السلام) بهم. كان سعيد بن قيس تام الإطاعة للإمام علي (علیه السلام) فحين كان أنصار معاوية يغيرون على الأنبار انبرى هو وحجر بن عدي فقالا: يا أمير المؤمنين مُرنا نطعك! واللّه إنا لا نحزن على ذهاب أموالنا وأهلينا في طاعتك الغارات، ج2، ص 481 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي على الأنبار. ويقول، في موضع آخر، لأمير المؤمنين(علیه السلام) : يا أميرالمؤمنين! لو أمرتني وقومي أن نذهب إلى القسطنطينية والروم مشياً حفاةً بلا زاد ولا راحلة، لما عصيناك. فقال له أميرالمؤمنين (علیه السلام) ، وقد خبر إخلاصه في الحروب: إني موقن بإخلاصكم، جزاكم اللّه خيراً. نفسه، ص637، غارة بسر وقدوم ابن عباس على علي(علیه السلام) . بلغت طاعته لأمير المؤمنين (علیه السلام) حداً عرفه حتى أعداؤه. فعندما واجه عتبة بن أبي سفيان الأشعث بن قيس في صفين حاول انتقاد أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام). وحين ذكر سعيد بن قيس قال: إنه في تدينه يتبع علياً. وقعة صفين، ص 408 ، إيفاد معاوية أخاه عتبة إلى الأشعث بن قيس.

كمصير من سبقه. فاستغل شدة الغبرة ففر من ساحة القتال. وهكذا باءت عمليات معاوية بمراحلها الخمس بالهزيمة والانكسار.(1)

ص: 265


1- "ولما تعاظمت الأمور على معاوية [قبل قتل عبيدالله بن الخطاب] دعا عمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وعبيدالله بن عمر الخطاب وعبدالرحمن بن خالد بن الوليد فقال لهم: إنه قد غمني رجال من أصحاب علي، منهم سعيد بن قيس في همدان والأشتر في قومه والمرقال وعدي بن حاتم وقيس بن سعد في الأنصار وقد وقتكم يمانيتكم بأنفسها [أياماً كثيرة] حتى لقد استحييت لكم وأنتم عدتهم من قريش. وقد أردت أن يعلم الناس أنكم أهل غناء. وقد عبأت لكل رجل منهم رجلاً منكم، فاجعلوا ذلك إلي. فقالوا: ذلك إليك. قال: فأنا أكفيكم سعيد بن قيس وقومه غداً، وأنت يا عمرو لأعور بني زهرة المرقال، وأنت يا بسر لقيس بن سعد، وأنت يا عبيدالله للأشتر النخعي، وأنت يا عبدالرحمن بن خالد لأعور طيء، يعني عدي بن حاتم. ثم ليرد كل رجل منكم عن حماة الخيل. فجعلها نوائب في خمسة أيام لكل رجل منهم يوم فأصبح معاوية، فلم يدع فارساً إلاّ حشده. ثم قصد الهمدان [بنفسه] وتقدم الخيل، فطعن في أعراض الخيل ملياً. ثم إن همدان تنادت بشعارها، وأقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية واشتد القتال وحجز بينهم الليل، فذكرت همدان أن معاوية فاتها ركضاً. فانصرف معاوية ولم يعمل شيئاً. وإن عمرو بن العاص غدا في اليوم الثاني في حماة الخيل فقصد المرقال، ومع المرقال لواء علي الأعظم في حماة الناس. وكان عمرو من فرسان قريش، فتقدم فطاعن عمرواً حتى رجع. واشتد القتال وانصرف الفريقان [بعد شدة القتال]، ولم يسر معاوية ذلك. وإن بسر بن أرطاة غدا في اليوم الثالث في حماة الخيل فلقي قيس بن سعد في كماة الأنصار. فاشتدت الحرب بينهما، وبرز قيس كأنه فنيق مقرم. ويطعن بسر قيساً فيضربه قيس بالسيف فرده على عقبه. ورجع القوم جميعاً ولقيس الفضل. إن عبيدالله بن عمر تقدم في اليوم الرابع ولم يترك فارساً مذكوراً، وجمع من استطاع، فقال له معاوية: إنك تلقى أفاعي أهل العراق فارفق واتئد. فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبداً. وكان الأشتر إذا أراد القتال أزبد وشدّ على الخيل خيل الشام فردها. فاستحى عبيدالله فبرز أمام الخيل وكان فارساً [شجاعاً] فحمل عليه الأشتر فطعنه واشتد الأمر وانصرف القوم وللأشتر الفضل، فغمّ ذلك معاوية. وإن عبدالرحمن بن خالد غدا في اليوم الخامس وكان أرجاهم عند معاوية أن ينال حاجته، فقواه معاوية بالخيل والسلاح، وكان معاوية يعده ولداً. فلقيه عدي بن حاتم في حماة مذحج وقضاعة. فبرز عبدالرحمن أمام الخيل ثم حمل فطعن الناس. فلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبدالرحمن في العجاج واستتر بأسنة أصحابه، واختلط القوم، ورجع عبدالرحمن إلى معاوية مقهوراً، وانكسر معاوية". وقعة صفين، ص 426، تآمر معاوية وصحبه على بعض أصحاب علي (علىه السلام) .

عصیان مروان بن الحكم أمر معاوية

عصیان مروان بن الحكم (1) أمر معاوية

بعد أن فشل معاوية في قطع ذراع أمير المؤمنين (علیه السلام)، دعا يوماً مروان بن الحكم وقال له: يا مروان! إن الأشتر قد غمني وأقلقني. فاخرج بهذه الخيل في كلاع ويحصب فالقه فقاتل بها. فقال له مروان: ادع لها عمرواً فإنه شعارك دون دثارك. قال: وأنت نفسي دون وريدي. قال: لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء أو ألحقته بي في الحرمان، ولكنك أعطيته ما في يديك ومنيته ما في يدي غيرك. فإن غلبت طاب له المقام، وإن غلبت خفّ عليه الهرب. فقال معاوية: يغني اللّه عنك. قال: أما اليوم، فلا. ودعا معاوية عمرواً (بعد أن يئس من مروان) وأمره بالخروج إلى الأشتر، فقال: إني لا أقول لك

ص: 266


1- ولد مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي بالمدينة في أوائل الهجرة. وحين توفي النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كان عمر مروان ثماني سنوات تقريباً. يقول الذهبي: لم ير مروان بن الحكم النبي (صلی اللّه علیه وآله) لأنه كان قد نُفي إلى الطائف بأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبيه الحكم بن أبي العاص وكان طفلاً. ولما تولى عثمان الخلافة، أعاده وأباه إلى المدينة .عمل مروان على تقوية مركزه في دولة الخلافة بالزواج من ابنة عثمان. وبالرغم من أنه كان كاتب عثمان والمتصرف في كل شؤونه، فقد زوّر باسمه كتاباً ونشره وخلق أرضية للثورة عليه ثم قتله. سير أعلام النبلاء، ج 3، ص 477، ترجمة مروان بن الحكم، الرقم 102. التحق مروان بطلحة والزبير بحجة المطالبة بدم عثمان، فأوقدوا نار حرب الجمل. قاتل مروان في يوم الجمل بكل ما أوتي من قوة، ولكن حين أحس بقرب الهزيمة، قام بقتل طلحة سير أعلام النبلاء، ج1، ص 35 و 36 و 40، ترجمة طلحة، الرقم 2. وفي موقعة الحرة، قام مروان بمرافقة مسلم بن عقبة القائد الذي كان أرسله يزيد على رأس جيش من الشام للهجوم على المدينة المنورة لقتل أهلها ونهب أموالهم وكان يحرضه على قتال الناس. سير أعلام النبلاء، ج3، ص 479 ، ترجمة مروان الرقم 102 ؛ تاريخ الإسلام ووفيات مشاهير الأعلام، ج5، ص 234، حوادث ووفيات 61 - 80 هجرية، ترجمة مروان بن الحكم، الرقم 97 بعد معاوية بن يزيد، ادّعى مروان الخلافة سنة 64 هجرية في الشام، فاجتمع له الأمويون كافة وساندوه، فقاتل الضحاك الفهري وقتله وسيطر على دمشق ومصر وأعلن نفسه خليفة المسلمين سير أعلام النبلاء، ج3، ص 477 ، ترجمة مروان بن الحكم، الرقم 102. مات مروان في شهر رمضان من سنة 65 هجرية في دمشق وكان عمره حوالي 62 سنة رجال صحيح البخاري، ج2، ص716، ترجمة مروان بن الرقم 1187 . كان مروان بن الحكم من النواصب المعادين لأهل البيت حتى أن الكثير من كتب أهل السنة تورد ما صدر عنه من إهانات وشتائم بحق الإمام علي والإمام الحسن و الإمام الحسين (علیهما السلام) بل بحق النبي (صلی اللّه علیه وآله) نفسه. عينه معاوية والياً للمدينة ، أكثر من مرة. وكان كلما تولى المدينة أسرف في سب أمير المؤمنين (علیه السلام) وشتمه الكامل في التاريخ، ج2، ص 647، حوادث سنة 65 هجرية، ذكر صفته ونسبه وأخباره. وهو الذي منع من دفن الإمام الحسن (علیه السلام) إلى جوار النبي كما أوصى، وذلك إرضاءً لمعاوية، وقال: واللّه لن أسمح بهذا مادام سيفي بيدي وكان سبباً في رمي جنازة الإمام (علیه السلام) بالنبال. سير أعلام النبلاء، ج2، ص605، ترجمة أبي هريرة ، الرقم 126 ، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 44 ، باب إمامة أبي محمد الحسن بن علي (علیه السلام) فصل في وفاته وزيارته ؛ مقاتل الطالبيين، ص 48 و 49 ، ترجمة الإمام الحسن (علیه السلام).

كما قال لك مروان. قال: ولم تقوله وقد قدمتك وأخرته، وأدخلتك وأخرجته؟ قال عمرو: أما واللّه لئن كنت فعلت، لقد قدمتني كافياً وأدخلتني ناصحاً. وقد أكثر القوم عليك في أمر مصر. وإن كان لا يرضيهم إلّا أخذها، فخذها. فخرج عمرو في تلك الخيل ف-لقيه الأشتر أمام الخيل - وقد علم أنه سيلقاه - وهو يرتجز ويقول:

يا ليت شعري كيف لي بعمرو *** ذاك الذي أوجبت في نذري

ذاك الذي أطلبه بوتري *** ذاك الذي فيه شفاء صدري

ذاك الذي إن ألقه بعمري *** تغلي به عند اللقاء قدري

فعرف عمرو أنه الأشتر، وفشل حيله وجبن. واستحيي أن يرجع، فأقبل نحو الصوت وهو يقول:

يا ليت شعري كيف لي بمالك *** كم كاهل جبيته وحارك

وفارس قتلته وفاتك *** ونابل فتكته وباتك

ومقدم آب بوجه حالك *** هذا وهذا عرضة المهالك

(قال): فلما غشيه الأشتر بالرمح زاغ عنه عمر عنه عمر فطعنه الأشتر في وجهه فلم يصنع الرمح شيئاً. وثقل عمرو ،فأمسك عنان فرسه وجعل يده على وجهه ورجع راكضاً إلى العسكر. ونادى غلام من يحصب: يا عمرو! عليك العفا ما هبت الصبا. يا أهل حمير! إنما لكم ما كان معكم، أبلغوني اللواء. فأخذه ثم مضى، وكان غلاماً شاباً، وهو يقول:

إن يك عمرو قد علاه الأشتر *** بأسمر فيه سنان أزهر

فذاك واللّه لعمري مفخر *** يا عمرو هيهات الجناب الأخضر

يا عمرو يكفيك الطعان حمير *** واليحصبي بالطعان أمهر

فنادى الأشتر إبراهيم ابنه: خذ اللواء فغلام لغلام. فتقدم وهو يقول:

ص: 267

يا أيها السائل عني لا ترع *** أقدم فإني من عرانين النخع

كيف ترى طعن العراقي الجذع *** أطير في يوم الوغى ولا أقع

ما ساءكم سر وما ضر نفع *** أعددت ذا اليوم لهول المطلع

ويحمل على الحميري، فالتقاه الحميري بلوائه ورمحه. ولم يبرحا يطعن كل منهما صاحبه حتى سقط الحميري قتيلاً. وشمت مروان بعمرو، وغضب القحطانيون على معاوية فقالوا: تولي علينا من لا يقاتل معنا؟ ولّ رجلاً منا، وإلّا فلا حاجة لنا فيك .(1)

ص: 268


1- أن معاوية دعا مروان بن الحكم فقال: يا مروان ... فيك". وقعة صفين، ص 439 - 441 ، معاوية ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص.

فزع معاوية من الأنصار وإقذاعه عليهم

دعا معاوية، يوماً، النعمان بن بشير الأنصاري ومسلمة بن مخلد ، ولم يكن غيرهما في جيشه من الأنصار، فقال لهما :يا هذان! لقد غمني ما لقيت من الأوس والخزرج. صاروا واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال، حتى واللّه جبنوا أصحابي الشجاع والجبان، وحتى واللّه ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلّا قالوا: قتلته الأنصار, أما واللّه لألقينهم بحدي وحديدي، ولأعبين لكل فارس منهم فارساً ينشب في حلقه، ثم لأرمينهم بأعدادهم من قريش رجال لم يغذهم التمر والطفيشل (1) يقولون : نحن الأنصار. قد واللّه آووا ونصروا، ولكن أفسدوا حقهم بباطلهم. فغضب النعمان فقال: يا معاوية ،لا تلومن الأنصار بسرعتهم في الحرب، فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية. فأما دعاؤهم اللّه فقد رأيتهم مع رسول اللّه (صلی الللّه علیه وآله) [يفعلون ذلك كثيراً]. وأما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش، فقد علمت ما لقيت قريش منهم [قديماً]. فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفاً فافعل. وأما التمر والطفيشل (2)فإن التمر كان لنا، فلما أن ذقتموه شاركتمونا فيه. وأما الطفيشل فكان لليهود، فلما أكلناه غلبناهم عليه، كما غلبت قريش على السخينة. (3) ثم تكلم مسلمة بن مخلد فقال: يا معاوية ! إن الأنصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها. وأما غمهم إياك فقد واللّه غمونا،

ولو رضينا ما فارقونا وما فارقنا جماعتهم، وإن في ذلك لما فيه من مباينة العشيرة ومباعدة الحجاز وحرب العراق. ولكن حملنا ذلك لك ورجونا منك عوضه. وأما التمر والطفيشل فإنهما يجران عليك نسب السخينة والخرنوب. وانتهى الكلام إلى الأنصار. (4)

ص: 269


1- يبدو أنه كان طعاماً متواضعاً حينئذ، لم يجد معاوية ما يعيب به الأنصار فأراد أن يعيرهم به، ليرد على ما أصاب قريشاً من بأسهم في الجاهلية وفي الإسلام
2- طعام يصنع من الدقيق والسمن أو من الدقيق والتمر.
3- "إن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما، فقال: يا هذان !... الأنصار." وقعة صفين، ص 445 ، دعوة معاوية للنعمان ومسلمة.
4- "فجمع قيس بن سعد الأنصاري الأنصار ثم قام خطيباً فيهم فقال: إن معاوية .. في ذلك". وقعة صفين، ص 445، دعوة معاوية للنعمان ومسلمة.

سمع قيس بن سعد الأنصاري بهذا الكلام، فجمع الأنصار فخطب فيهم قائلاً: إن معاوية قد قال ما بلغكم وأجاب عنكم صاحباكم. فلعمري لئن غظتم معاوية اليوم لقد غظتموه بالأمس، وإن وترتموه في الإسلام فقد وترتموه في الشرك. وما لكم إليه من ذنب [أعظم] من نصر هذا الدين الذي أنتم عليه. فجدوا اليوم جداً تنسونه [به] ما كان أمس، وجدوا غداً [جداً] تنسونه [به] ما كان اليوم. وأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب. وأما التمر فإنا لم نغرسه ولكن غلبنا عليه من غرسه. وأما الطفيشل، (العدس) فلو كان طعامنا لسمينا به اسماً كما سميت قريش السخينة. ثم قال قيس بن سعد في ذلك ... وقال: يا ابن هند! لا تحرض جنودك علينا، فإننا أولئك الذين أذاقوك ضرب سيوفهم. وإن شئت فجرب حظك واقترب منا في ساحة النزال، جماعات أو فرادى. جئ بأصحابك ونحن نأتيك بالخزرج، وسترانا نقاتل قتالاً يرفع رؤوس آبائنا. اختر ما شئت من هذين القتالين فلم يعد بيننا وشائج صداقة ولا مودة. ليت ما تتوعدنا به غداً يأتي سريعاً عسى أن يرزقنا اللّه نعمة الشهادة. نحن أولئك الذين شهدوا فتح مكة وخيبر وحنيناً وبدراً واحداً وصنعنا البطولات في حرب بني وشهدنا الأحزاب، والجميع يعلم ما فعلنا بكم. (1) فلما بلغ شعره (شعر قيس بن سعد) معاوية دعا عمرو بن العاص فقال: ما ترى في شتم الأنصار؟ قال: أرى أن توعد ولا تشتم، ما عسى أن تقول لهم؟ إذا أردت ذمهم فذم أبدانهم ولا تذم أحسابهم . قال معاوية: إن خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيباً، وهو واللّه يريد أن يفنينا غداً إن لم يحبسه عنا حابس الفيل (يعني اللّه)، فما الرأي؟ قال: الرأي التوكل والصبر. فأرسل معاوية إلى رجال من الأنصار فعاتبهم، منهم عقبة بن عمرو وأبو مسعود والبراء بن عازب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وخزيمة بن ثابت وزيد بن أرقم وعمرو بن عمير والحجاج بن غزية، وكان هؤلاء يلقون في تلك الحرب، فبعث معاوية بقوله: لتأتوا قيس بن سعد. فمشوا بأجمعهم إلى قيس، فقالوا: إن معاوية لا يريد شتماً فكف عن شتمه. فقال: إن مثلي لا يشتم ولكني لا أكف عن حربه حتى ألقى اللّه. وتحركت الخيل غدوة، فظن قيس بن سعد أن فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه فقنعه بالسيف، فإذا غير معاوية. وحمل الثانية [على آخر يشبهه] أيضاً فضربه، ثم انصرف وهو يقول:

ص: 270


1- وقعة صفين، ص 445 ، دعوة معاوية للنعمان ومسلمة.

قولوا لهذا الشاتمي معاوية *** إن كل ما وعدت ريح هاوية

خوفتنا أكلب قوم عاوية *** إليّ يا ابن الخاطئين الماضية (يا ابن المرأة الفاحشة)

ترقل إرقال العجوز الجارية *** في أثر الساري ليالي الشاتية. (1)

لما أدرك معاوية شدة عداوة قيس بن سعد له، وسمع ما قاله من شعر، استبد به الغضب فشتمه وشتم جميع الأنصار شتماً قبيحاً. فغضب النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد غضباً شديداً بعد أن تكرر شتم معاوية للأنصار، فعزما على ترك جيش معاوية والالتحاق بالأنصار. غير أن معاوية سارع إلى تطييب خاطرهما. ثم طلب معاوية من النعمان بن بشير أن يذهب إلى قيس بن سعد ويحثه على الصلح. (2)

ص: 271


1- "فلما تحاجز الفريقان، شتمه معاوية شتماً قبيحاً وشتم الأنصار. فغضب النعمان ومسلمة، فأرضاهمّا بعد أن همّا أن ينصرفا إلى قومهما. ثم أن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس فيعاتبه ويسأله السلم. "شرح نهج البلاغة، ج8، ص87، ذيل الخطبة 124، عود إلى أخبار صفين.
2- النعمان بن بشير الأنصاري كان أول مولود من الأنصار بعد وصول النبي (صلی اللّه علیه وآله) إلى المدينة. ولد في السنة الثانية للهجرة. وهو وصول النبي بو زوج المختار الثقفي. عند وفاة النبي (صلی اللّه علیه وآله) ، و كان عمره نحو ثماني سنوات. ورغم أن أغلب علماء أهل السنة يعدونه من الصحابة، فإن ابن عبدالبر القرطبي يقول إن بعض علمائهم لا يصححون صحبته ويعتبرون رواياته عن النبي (صلی اللّه علیه وآله) مرسلة. الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 4 ، ص 60، ترجمة النعمان بن بشير، الرقم 2643 .أمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن ج4، رواحة. أبوه بشير بن سعد هو أول من بايع أبابكر في حادثة السقيفة. الأغاني، ج16، ص 36، أخبار النعمان بن بشير ونسبه. بعد أن عزل معاوية عبدالرحمن بن أم حكم ( هكذا: م) عن الكوفة، عيّن النعمان بن بشير والياً عليها. كان النعمان بن بشير من أنصار عثمان، وكان يجاهر ببغضه للإمام علي (علیه السلام) ويذكره بسوء. أنساب الأشراف، ج3، ص369، المراسلات بين الحسين وأهل العراق. وكان ممن لم يبايع الإمام علياً (علیه السلام). الكامل في التاريخ، ج 2، ص303، حوادث سنة 35 هجرية، ذكر بيعة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب.

حوار النعمان بن بشير وقيس بن سعد

حوار النعمان بن بشير وقيس بن سعد (1)

كان النعمان بن بشير من الأنصار القليلين الذين وقفوا إلى جانب معاوية، فذهب إلى قيس بن سعد على أمل أن يقنعه بالمصالحة والمسالمة، فقال له: يا قيس ! أنا النعمان بن بشير. فقال قيس: هيه يا ابن بشير، فما حاجتك؟ فقال النعمان: يا قيس! إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه، ألستم - معشر الأنصار - تعلمون أنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار وقتلتم أنصاره يوم الجمل وأقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين؟ فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً، لكانت واحدة بواحدة. ولكنكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً. ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أعلمتم في الحرب ودعوتم إلى البراز. ثم لم ينزل بعلي أمر قط إلّا وهونتم عليه المصيبة ووعدتموه الظفر. وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم، فاتقوا اللّه في البقية. فضحك قيس ثم قال: ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذه المقالة. إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه. وأنت واللّه الغاش الضال المضل. أما ذكرك عثمان، فإن كانت الأخبار تكفيك، فخذها مني واحدة. قتل عثمان من لست خيراً منه، وخذله من هو خير منك. وأما أصحاب الجمل، فقد قاتلناهم على النكث. وأما معاوية، فوالله لو اجتمعت عليه العرب [قاطبة] لقاتلته الأنصار. وأما قولك إنا لسنا كالناس، فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول اللّه نتقي السيوف (صلی اللّه علیه وآله) بوجوهنا والرماح بنحورنا، حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون. ولكن انظر يا نعمان ، هل ترى مع معاوية إلّا طليقاً أو أعرابياً أو يمانياً مستدرجاً بغرور؟ انظر، أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان الذين رضي اللّه عنهم؟ ثم انظر، هل ترى مع معاوية غيرك وصو يحبك (مسلمة بن مخلد)، ولستما واللّه ببدريين [ولا عقبيين] ولا أحديين، ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن. (2)

في كلام قيس بن سعد نقاط هامة نشير هنا إلى بعضها مثالاً :

ص: 272


1- خرج النعمان حتى وقف بين الصفين، فقال: يا قيس ... القرآن". وقعة صفين، ص 449، رد قيس على النعمان.
2- "معاوية واقف على التل يبصر ويشاهد، فقال: تباً ... إلا قتله". وقعة صفين، ص459، تخوف القوم من علي (علیه السلام)

الأولى: أن لا أحد من الأنصار أعان عثمان، الأمر الذي جعل النعمان بن بشير يعترض على قيس. وهذا يدل على أن مخالفات عثمان للشرع بلغت حداً اعتقد الأنصار معه أن عثمان كان يستحق المعاقبة. وهو ما أكد عليه قيس بن سعد بقوله: قتل عثمان لست خيراً منه.

الثانية: أن قيس بن سعد كان على يقين تام بحقانية أمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول: فنحن في هذه الحرب كما كنا ( نقاتل) مع رسول اللّه (صلی الله علیه واله ) فهو يشبه جيش الشام بجيش المشركين الذين قاتلوا رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ولا يجعل فرقاً بينهم وبينهم.

الثالثة: أن قيساً يعرّض بأصحاب معاوية فيصفهم بالجهلة المغرر بهم الفاقدين للسابقة في الإسلام، وليس بينهم من المهاجرين والأنصار عدا النعمان ومسلمة اللذين لا يملكان سابقة طيبة.

ص: 273

رعب جيش معاوية من الإمام علي (علیه السلام)

كان معاوية، عند اشتداد القتال، يقف على تل يشرف على المعركة. ولما رأى الفوضى في صفوف مقاتليه، قال: تباً لهذه الرجال وقبحاً! أما فيهم من يقتل هذا (يعني علياً (علیه السلام)) مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع؟

فقال الوليد بن عقبة (وكان يقف إلى جانبه) : ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته! فقال: واللّه لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش. وإني واللّه لا أبرز إليه، ما جُعل العسكر بين يدي الرئيس إلّا وقاية له.

فقال عتبة بن أبي سفيان (وهو يعلم بشجاعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ويخشى أن يتأثر معاوية بكلام الآخرين): الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه! فقد علمتم أنه قتل حريثاً (غلام معاوية) وفضح عمرواً. ولا أرى أحداً يتحكك به إلّا قتله . (1)

ص: 274


1- "فقال معاوية لبسر بن أرطاة: أتقوم ... وعدوك". وقعة صفين، ص 461 ، مبارزة علي (علیه السلام) لبسر وفراره.

استعداد بسر المبارزة علي (علیه السلام)

بعد أن يئس معاوية من جميع قادة جيشه في مبارزة أمير المؤمنين (علیه السلام)، توجه إلى بسر بن أبي أرطاة وكان أحد قادته ومن المقربين إليه وقال له: أتقوم المبارزته؟ فقال: ما أحد أحق بها منك، وإذ أبيتموه فأنا له. فقال له معاوية: أما إنك ستلقاه في العجاجة غداً في أول الخيل. وكان عند بسر بن له قد قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسراً فقال له: إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز علياً. أما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة، ثم بعده محمد أخوه. وكل هؤلاء قرن لعلي، فما يدعوك إلى ما أرى؟ قال: الحياء. خرج مني كلام فأنا أستحيي أن أرجع عنه فضحک الغلام وقال في ذلك

تنازله يا بسر إن كنت مثله *** وإلا فإن الليث للضبع آكل

كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل *** بآثاره في الحرب أو متجاهل

معاوية الوالي وصنواه بعده *** وليس سواءً مستعار وثاكل

أولئك هم أولى به منك إنه *** على، فلا تقربه، أمك هابل

تلقه فالموت في رأس رمحه *** وفي سيفه شغل لنفسك شاغل

وما بعده في آخر الحرب عاطف *** ولا قبله في أول الخيل حامل

فقال بسر: هل هو إلّا الموت. لابد من لقاء اللّه تعالى.

فغدا علي (علیه السلام) منقطعاً من خيله ومعه الأشتر وهو يريد التل وهو يقول:

إني علي فاسألوا لتخبروا *** ثم ابرزوا إلى الوغى أو أدبروا

سيفي حسام وسناني أزهر *** منا النبي الطيب المطهر

وحمزة الخير ومنا جعفر *** له جناح في الجنان أخضر

ص: 275

ذا أسد اللّه وفيه مفخر *** هذا وهذا وابن هند مجحر

فاستقبله بسر قريباً من التل وهو مقنع في الحديد لا يُعرف، فناداه: ابرز إليّ أبا حسن! فانحدر إليه علي تؤدة دون اكتراث. حتى إذا قاربه طعنه وهو دارع، فألقاه على الأرض ومنع الدرع السنان أن يصل إليه. فاتقاه بسر [بعورته] وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه. فانصرف عنه علي (علیه السلام) مستدبراً له. فعرفه الأشتر حين سقط، فقال: يا أمير المؤمنين! هذا بسر بن أرطاة، عدو اللّه وعدوك،(اقتله فقال له أمير المؤمنين (علیه السلام) دعه، لعنه اللّه. هل أقتله و قد صنع ما صنع من الأمر المخزي!؟). (1)

بعد هذه الفضيحة كان بسر يفر كلما رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) في جيش أمامه. (2)

ص: 276


1- "فكان بسر بعد ذلك إذا لقي الخيل التي فيها علي تنحى ناحية". وقعة صفين، ص 462، مبارزة علي (علیه السلام) لبسر وفراره.
2- "ثم إن معاوية جمع كل قرشي بالشام فقال: العجب ... غداً". وقعة صفين، ص 462، حض معاوية قريش الشام.

توبیخ معاوية لقادة جيشه

بعد تكبده الهزائم المتتالية، دعا معاوية جميع القرشيين المشاركين في الحرب فوبخهم وقال لهم: العجب يا معشر قريش أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول به لسانه غداً، ماعدا عمرواً. فما بالكم وأين حمية قريش ؟ فغضب الوليد بن عقبة وقال: وأي فعال تريد؟ واللّه ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غناءنا باللسان ولا باليد. فقال معاوية: بل إن أولئك قد وقوا علياً بأنفسهم. قال الوليد: كلا، بل وقاهم علي بنفسه. قال: ويحكم! أما منكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة أو مفاخرة؟ فقال مروان: أما البراز، فإن علياً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمد بنيه فيه ولا لابن عباس وإخوته ويصلي (هكذا) بالحرب دونهم، فلأيهم نبارز؟ وأما المفاخرة، فبماذا نفاخرهم، أبالإسلام أم بالجاهلية؟ فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن (بما كان لهم من حضارة قديمة ) ... فغضب عتبة بن أبي سفيان فقال: الهوا عن هذا، فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة ... فقال مروان: أما واللّه، لولا ما كان مني يوم الدار مع عثمان ومشهدي بالبصرة لكان مني في علي رأي كان يكفي امراً ذا حسب ودين (كان موقف عبرت فيه عن رأيي بعلي)، ولكن ولعل. ونابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم، فأغلظ له الوليد. فقال معاوية: يا وليد! إنك إنما تجترئ عليّ بحق عثمان وقد ضربك حداً وعزلك عن الكوفة. ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا وأرضاهم معاوية من نفسه ووصلهم بأموال جليلة. وبعث معاوية إلى عتبة فقال: ما أنت صانع في جعدة؟ فقال: ألقاه اليوم وأقاتله غداً . (1)

ص: 277


1- أم جعدة بن هبيرة أم هاني بنت أبي طالب أخت أمير المؤمنين (علیه السلام). أدرك النبي (صلی اللّه علیه وآله) يوم فتح مكة. كان فارساً مغواراً بارعاً و کان فقیها.عینه أميرالمؤمنين مدةً والياً على خراسان على أن الشيخ الطوسي لا يعده من الصحابة. ولكن ابن عبدالبر وأبانعيم الإصبهاني وابن الأثير الجزري يعتبرونه صحابياً. شرح نهج البلاغة، ج10، ص 77، ذيل الخطبة ،183، نسب جعدة بن هبيرة. يقول العلامة المامقاني في: من يلاحظ عزمه وسعيه في حرب صفين إلى جانب أمير المؤمنين (علیه السلام)، ومناظراته ومواقفه حول معاوية، يدرك عمق إيمانه ونصرته لأهل البيت، ولا أقل من إدراك حسنه وكماله. بل يمكننا تأكيد وثاقته وعدالته من حيث تعيينه من قبل أمير المؤمنين والياً لخراسان قبل صفين، ومن شدة حب أمير المؤمنين (علیه السلام) له. لأنه من غير المعقول أن يأتمن أمير المؤمنين (علیه السلام) من هو غير ثقة على أموال الناس وأنفسهم. تنقيح المقال في علم الرجال، ج 14، ص345، ترجمة جعدة بن هبيرة، الرقم 160.

لقاء عتبة بن أبي سفيان وجعدة بن هبيرة

انطلق عتبة بن أبي سفيان نحو معسكر أمير المؤمنين(علیه السلام) وطلب مقابلة جعدة بن هبيرة (1)، وكان من وجوه قريش وذا بلاغة وفصاحة ومن أحب القادة في جيش الإمام علي(علیه السلام) . ولم يكن جعدة بن هبيرة ليفعل شيئاً دون إذن أمير المؤمنين (علیه السلام)، وقد سمح له الإمام (علیه السلام) باللقاء. فذهب للقاء عتبة، واجتمع الناس ليسمعوا كلامهما. فقال عتبة: يا جعدة! إنه واللّه ما أخرجك علينا إلاّ حب خالك وعمك ابن أبي سلمة عامل البحرين. ولانا واللّه ما نزعم أن معاوية أحق بالخلافة من علي لولا أمره في عثمان. ولكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به. فاعفوا لنا عنها، فوالله ما بالشام رجل به طرق (قوة) إلّا وهو أجدّ من معاوية في القتال، ولا بالعراق من له مثل جدّ على في الحرب. ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم. وما أقبح بعلي أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس، حتى أذا أصاب سلطاناً أفنى العرب. فقال جعدة: أما حبي خالي، فوالله أن لو كان لك خال مثله لنسيت أباك ... وأما فضل علي (علیه السلام) على معاوية، فهذا لا يختلف فيه اثنان. وأما رضاكم اليوم بالشام، فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل. وأما قولك إنه ليس بالشام من رجل إلّا وهو أجد من معاوية، وليس بالعراق لرجل مثل جد علي، فهكذا ينبغي أن يكون مضى بعلي(علیه السلام) يقينه، وقصر بمعاوية شكه. وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل. وأما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي، فوالله ما نسأله إن سكت ولا نرد عليه إن قال، وأما قتل العرب، فإن اللّه كتب القتل والقتال، فمن قتله الحق فإلى اللّه.

فغضب عتبة وفحش على جعدة، فلم يجبه وأعرض عنه، وانصرفا جميعاً مغضبين.

من الحوار الذي جرى بين عتبة بن أبي سفيان وجعدة بن هبيرة، يمكن استنتاج بعض النقاط:

ص: 278


1- "وبعث معاوية إلى عتبة فقال: ما أنت صانع في جعدة؟ فقال: ألقاه اليوم وأقاتله غداً. وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من أحب الناس إلى علي (علیه السلام). فغدا عليه عتبة فنادى: أبا جعدة أيا جعدة! فاستأذن علياً في الخروج إليه، فأذن له. واجتمع الناس لكلامهما، فقال عتبة: يا جعدة! إنا واللّه .. مغضبين". وقعة صفين، ص 463، رد القرشيين على معاوية.

الأولى: أن أفضلية أمير المؤمنين كانت من الوضوح بحيث لم يستطع إنكارها حتى أشد الأمويين بغضاً، وهو أخو معاوية، ويعترف بها أمام الناس.

الثانية: أنه كان في صفوف الإمام (علیه السلام) أشخاص ضعاف الإيمان لا يرغبون في الحرب، حسب ما قال عتبة بن أبي سفيان من أن جدية أمير المؤمنين (علیه السلام) وسعيه في الحرب أكبر من جدية جنوده وسعيهم فيها. وضعاف الإيمان هؤلاء انتهزوا ،لاحقاً، أول فرصة فرضوا بالتحكيم لأبسط الذرائع. وكان معاوية ومن حوله يدركون جيداً نقطة الضعف هذه [ في صفوف جيش الإمام (علیه السلام) فاستغلوها لصالحهم فيما بعد أوسع استغلال.

ص: 279

تقابل عتبة بن أبي سفيان وجعدة بن هبيرة

بعد أن فشل عتبة بن أبي سفيان في إقناع جعدة بن هبيرة بالجنوح إلى السلم، تقابل الرجلان في اليوم التالي كل والرجال الذين تحت إمرته. وبعد قتال شديد، فرّ عتبة بن أبي سفيان من ساحة القتال على نحو فاضح، إثر تكبد قوته الكثير من القتلى، وذهب إلى حيث معاوية. فسخر معاوية منه وقال له: لقد فضحك جعدة فضيحة لن تغسل عارها أبداً. فقال له وهو منكسر خجلاً: واللّه لن أعود للعب بالنار أبداً . (1)

ولكن، هل كانت فضائح جيش معاوية وهزائمه المخزية واحدة أو اثنتين!؟ وهل كان قادة الشام الوقحون يخجلون؟ فإذا كان اثنان من كبار قادتهم يلوذان بعورتيهما للنجاة من الموت، فما بالك بسائر جنود جيش معاوية؟

ص: 280


1- وقعة صفين، ص 464، عتبة ومعاوية.

معاوية يطلب والإمام علي (علیه السلام) يهدد

في تلك الأثناء أعلن أمير المؤمنين (علیه السلام) يوماً أنه سيحسم أمر الشاميين في اليوم التالي. فسمع الشاميون بذلك فدب اضطراب شديد بينهم. وحاول معاوية النجاة بنفسه من الخطر، فقال لمن حوله: قد رأيت أن أكتب إلى على كتاباً أسأله الشام، وهو الشيء الأول الذي ردني عنه، وأُلقي في نفسه الشك والريبة.

فضحك عمرو بن العاص ثم قال: أين أنت يا معاوية من خدعة علي؟ فقال (معاوية): ألسنا

عبدمناف؟ قال: بلى ولكن لهم النبوة دونك. وإن شئت أن تكتب.

فكتب معاوية إلى علي (علیه السلام)، مع رجل من السكاسك يقال له عبدالله بن عقبة وكان من ناقلة أهل العراق، يقول: أما بعد فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا، لم يجنها بعضنا على بعض. وإن كنا غلبنا على عقولنا، فقد بقي لنا ما نندم به على ما مضى، ونصلح به ما بقي. وقد كنت سألتك الشام على ألّا يلزمني لك طاعة ولا بيعة، فأبيت ذلك عليّ ، فأعطاني اللّه ما منعت. وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإني لا أرجو من البقاء إلّا ما ترجو، ولا أخاف من الموت إلّا ما تخاف. وقد واللّه رقت الأجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلّا فضل لا يستذل به عزيز ولا يسترقّ حربه والسلام. (1)

ص: 281


1- وقعة صفين، ص 470 ، رسالة معاوية إلى على (علیه السلام).

جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) لمعاوية

فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي (علیه السلام) قرأه ثم قال: العجب لمعاوية وكتابه! ثم دعا علي (علیه السلام) عبيدالله بن أبي رافع كاتبه فقال: اكتب إلى معاوية : أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أنك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض. فإنا وإياك منها في غاية لم تبلغها. وإني لو قتلت في ذات اللّه وحييت ثم قتلت ثم حييت سبعين مرة، لم أرجع عن الشدة في ذات اللّه والجهاد لأعداء اللّه. وأما قولك إنه قد بقي من عقولنا ما نندم به على ما مضى، فإني ما نقصت عقلي ولا ندمت على فعلي. فأما طلبك الشام، فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك منها (هكذا: م) أمس. وأما استواؤنا في الخوف والرجاء، فإنك لست أمضى على الشك مني على اليقين ،وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك إنا بنو عبدمناف ليس لبعضنا على بعض فضل، فلعمري إنا بنو أب واحد، ولكن ليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبوسفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا المحق كالمبطل. وفي أيدينا، بعد، فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز وأعززنا بها الذليل، والسلام. (1)

ص: 282


1- ص 470 ، رسالة معاوية إلى علي(علیه السلام)

هل كان الأمويون من العرب؟

جاء في نهج البلاغة وفي بعض كتب التاريخ عبارة "ولا الصريح كاللصيق" قالها أمير المؤمنين

(علیه السلام) لمعاوية يردّ على ادّعائه بأنه من بني عبدمناف وينكر كون بني أمية عرباً.

المشهور أن بني أمية، كبني هاشم، يرجعون إلى عبدمناف. وأن لعبدمناف خمسة أبناء ؛ هاشم وعبد شمس ومطلب ونوفل وأبوعمرو. وأن النبي (صلی اللّه علیه وآله) من نسل هاشم بن عبدمناف، وبني أمية من نسل عبد شمس بن عبدمناف. وكان أحد أبناء عبدشمس يسمى أمية الأكبر وإليه يعود بنو أمية (1). ولكن الصحيح أن بني أمية لم يكونوا قرشيين ولا عرباً.

يقول العلّامة المجلسي في شرح عبارة "ولا الصريح كاللصيق: قد ذكر بعض علمائنا في رسالة في الإمامة أن أمية لم يكن من صلب عبد شمس، وإنما هو عبد من الروم فاستلحقه عبدشمس ونسبه إلى نفسه. وكانت العرب في الجاهلية إذا كان لأحدهم عبد وأراد أن ينسبه إلى نفسه أعتقه وزوجه كريمة من العرب فيلحق بنسبه. (وهذا ما حصل مع أمية إذ ألحق بعبد شمس) (2)قال: وبمثل ذلك نسب العوام أبو الزبير إلى خويلد. فبنوا أمية قاطبة ليسوا من قريش، وإنما الحقوا ولصقوا بهم. قال : ويصدق ذلك قول أمير المؤمنين(علیه السلام ) جواباً عن كتابه وادعائه إنا بنو عبدمناف: ليس المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق. ولم يستطع معاوية إنكار ذلك.

ص: 283


1- المعارف، ص71، قريش.
2- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج33، ص107، الباب السادس عشر، باب كتبه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى معاوية.

اشتداد القتال

في يوم الخميس التاسع من صفر لبس الإمام علي (علیه السلام) قميص رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) و اعتمر عمامته (صلی اللّه علیه وآله) وتقلد وسيفه (صلی اللّه علیه وآله) ورکب و الجواد (صلی اللّه علیه وآله) ثم خاطب في الناس قائلاً : أيها الناس! من يبع نفسه يربح

ثم ذا اليوم. فإنه يوم له ما بعده من الأيام. أما واللّه ،أن لولا أن تعطل الحدود وتبطل الحقوق ويظهر الظالمون وتفوز كلمة الشيطان ،ما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه. ألا إن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير عواقب الأمور. ألا إنها إحن بدرية وضغائن أحدية وأحقاد جاهلية وثب بها معاوية حين الغفلة ليذكر بها ثارات بني عبدشمس [أشكال ورموز مبهمة ربما كانت آيات قرآنية ربما هي قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون): م] فقالت المهاجرون والأنصار: يا أمير المؤمنين ! إننا كنا نقاتل معك إلى الساعة عن بصيرة ويقين أنك على الحق الواضح. والآن فقد ازددنا بصيرة ويقيناً بعد إذ قتل بين يديك مثل عمار بن ياسر، فتقدم أمامنا وها نحن من ورائك. (قال): فتقدم علي (علیه السلام) ومعه نيف على عشرة آلاف من بني مذحج ممن يريد الموت قد وضعوا أسيافهم على عواتقهم ما يبين منهم إلّا الحدق، وعلي (علیه السلام) يقدمهم. ثم حمل علي (علیه السلام) في هؤلاء العشرة آلاف حملة رجل واحد، فما بقي لأهل الشام صف إلّا انتقض، وهمدت الناس واحمرت حوافر الخيل بالدماء.(1)

فجعل مالك الأشتر النخعي يحرض جنود قبيلته على القتال، فقال: يا آل مذحج! عضضتم بصم الجندل، فما أرضيتم ربكم ولا نكبتم له في عدوكم وأنتم أبناء العرب وأصحاب الغارات وفتيان

ص: 284


1- أصبح الناس وطلعت الشمس وذلك يوم الخميس. ودعا علي (علیه السلام) بدرع لرسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فلبسه وبسيف رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) : فتقلده وبعمامة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) اعتجر بها. ثم دعا بفرس رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فاستولى عليه وجعل يقول: أيها الناس! ... بالدماء". الفتوح، المجلد الثاني، ص171 - 172، ذكر الواقعة الخميسية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها.

الصياح وفرسان الطراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان. ثم حمل وحملت معه قبائل العرب مع مذحج، فتحيرت أهل الشام من فعالهم. (1)

وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يصيح: إن الفرار عن الحرب في مثل هذا اليوم إرداد عن الحق ورغبة عن دين الإسلام. أما سمعتم اللّه تبارك وتعالى يقول: [آيات قرآنية مشوهة الطباعة، ربما: ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)): م]؟ فما انتظاركم إن كنتم تريدون الجنة؟ (2)

في هذا اليوم، برز للقتال أبو الهيثم مالك بن التيهان (3) وخزيمة بن ثابت وجندب بن زهير وجماعة أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وقاتلوا وهم يرتجزون حتى استشهدوا بعد اشتباك طويل .

(4)

ص: 285


1- "التفت الأشتر إلى بني عمه فجعل يحرضهم وهو يقول: يا آل مذحج ... فعالهم". الفتوح، المجلد الثاني، ص173، ذكر الواقعة الخميسية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها.
2- "قال: وصاح علي (علیه السلام) بالمهاجرين والأنصار فقال: إن الفرار ... الجنة". الفتوح، المجلد الثاني، ص175، ذكر الواقعة الحسينية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها.
3- مالك بن التيهان من قبيلة مراد كان يبيع الكتان. وكان من كبار صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ولم يعبد الأصنام في الجاهلية. بايع النبي (صلی اللّه علیه وآله) في العقبتين الأولى والثانية. وكان من خواص أصحاب أمير المؤمنين (صلی اللّه علیه وآله)، استشهد في حرب صفين. كان يرافق رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) بصفته خبيراً في الزراعة. ولم يتعاون مع أبي بكر بعد وفاة النبي (صلی اللّه علیه وآله) بل كان ضمن الاثني عشر شخصاً الذين احتجوا على خلافته وشهدوا أن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) عيّن أمير المؤمنين (علیه السلام) في يوم الغدير خليفة له. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج22، ص200، كتاب الفتن والمحن، الباب الرابع. كان لأبي الهيثم منزلة خاصة عند أميرالمؤمنين (علیه السلام)، فبعد أن استشهد مع جماعة من أصحابه في صفين حزن الإمام(علیه السلام ) وقال: لم يخسر إخوتنا الذين سالت دماؤهم في صفين. فلو كانوا أحياءً اليوم لذاقوا مرارة الكمد. واللّه لقد ذهبوا إلى بارئهم ونالوا أجرهم وأسكنهم اللّه دار الأمن والأمان. أين إخوتنا الذين ركبوا السبيل وساروا مع الحق. أين عمار، أين ابن التيهان؟ أين ذوالشهادتين؟ أين أمثالهم الذين تعاهدوا مع الموت ابتغاء مرضاة اللّه وحملت رؤوسهم إلى الظالمين الفاجرين؟ ثم أمسك الإمام (علیه السلام) بلحيته وبكي، ثم قال: آه من فراق إخوتنا الذين قرأوا القرآن واستقاموا عليه، وتفكروا في أوامر اللّه وتمسكوا بها، أحيوا السنة وأماتوا البدعة. نهج البلاغة، الخطبة 181.
4- الفتوح، المجلد الثاني، ص 175 - 176 ، ذكر الواقعة الخميسية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها.

رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) مالك الأشتر يبكي، وقد شاهد مصارع رفاقه: ما يبكيك؟ لا أبكى اللّه عيناك ( هكذا ربما عينيك :م ) فقال : أبكي يا أمير المؤمنين لأني أرى الناس يقتلون بين يديك وأنا لا أرزق الشهادة فأفوز بها. فقال له على(علیه السلام) أبشر بالخير يا مالك (1)

بعد هذا الكلام، خرج مالك الأشتر وهو ملثم فقام بتسوية صفوف جيشه برمح كان يحمله. ثم خاطب الجيش قائلاً: الحمد للّه الذي جعل فينا ابن عم نبيه، أقدمهم هجرة وأولهم إسلاماً، سيف من سيوف اللّه صبّه على أعدائه. (قال) : ثم حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثم رجع. (2)

ص: 286


1- قال: وبكى الأشتر فقال له علي (علیه السلام): ما يبكيك؟ .... يا مالك". الفتوح، المجلد الثاني، ص177، ذكر الواقعة الخميسية وهي وقعة لم يكن بصفين أشد منها.
2- فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت ذنوب ، (علیه السلام) يرى منه إلّا عيناه وبيده الرمح. فجعل يضرب رؤوس بالقناة ويقول: سووا صفوفكم [رحمكم اللّه]. حتى إذا عدل الصفوف والرايات ،استقبلهم بوجهه وولى أهل الشام ظهره، ثم حمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: الحمد للّه ... ثم رجع، فإذا هو الأشتر". وقعة صفين، ص474، زحف علي.

مقتل عبيد اللّه بن عمر

أبرز من قتل من جيش العدو في هذا اليوم، كان عبيدالله بن عمر. وقصة مقتله ودفنه فيها نقاط هامة يشير المسعودي إلى تفاصيلها بقوله : كان عبيد الله إذا خرج إلى القتال قام إليه نساؤه فشددن عليه سلاحاً، ما خلا الشيبانية بنت هانئ بن قبيصة. فخرج في هذا اليوم وأقبل على الشيبانية وقال لها: إني قد عبّأت اليوم لقومك وأيم اللّه إني لأرجو أن أربط بكل طُنب من أطناب فسطاطي سيداً منهم فقالت له: ما أبغض إلّا أن تقاتلهم. قال: ولم؟ قالت: لأنه لم يتوجه إليهم صنديد في جاهلية ولا إسلام وفي رأسه صعر إلّا أبادوه، وأخاف أن يقتلوك. وكأني بك قتيلاً وقد أتيتهم أسألهم أن يهبوا لي جيفتك. فرماها بقوس فشجّها وقال لها: ستعلمين بمن آتيك من زعماء قومك. ثم توجه فحمل عليه حريث بن جابر الجعفي فطعنه فقتله. وقيل إن الأشتر النخعي هو الذي قتله. وقيل: إن علياً (علیه السلام) ضربه ضربة فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حشوة جوفه، وإن علياً (علیه السلام) قال حين هرب فطلبه ليقيد منه بالهرمزان: لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره. وكلم نساؤه معاوية في جيفته، فأمر أن تأتين ربيعة فتبذلن في جيفته عشرة آلاف ،ففعلن ذلك. فاستأمرت ربيعة علياً (علیه السلام) فقال لهم: إنما جيفته جيفة كلب لا يحل بيعها، ولكن قد أجبتم إلى ذلك، فاجعلوا

جيفته لبنت هانئ بن قبيصة الشيباني زوجته. فقالوا لنسوة عبيدالله: إن شئتن شددناه إلى ذنب بغل ثم ضربناه حتى يدخل إلى عسكر معاوية، فصرخن وقلن: هذا أشد علينا .وأخبرن معاوية بذلك، فقال لهن: ائتوا الشيبانية فسلوها أن تكلمهم في جيفته. ففعلن وأتت القوم وقالت: أنا بنت هانئ بن قبيصة وهذا زوجي القاطع الظالم، وقد حذرته ما صار إليه، فهبوا إليّ جيفته! ففعلوا، وألقت إليهم بمطرف خز فأدرجوه فيه ودفعوه إليها، فمضت به وكان قد شد في رجله إلى طنب فسطاط من فساطيطهم .(1)

ص: 287


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 427، مقتل عبيدالله بن عمر.

اشتداد القتال في ليلة الهرير

الاشتباكات المتقطعة التي اندلعت في مطلع شهر صفر، بلغت ذروتها يوم الخميس التاسع منه،(1) فهجم الجيشان على بعضهما وتبادلا الرمي حتى نفدت من الطرفين النبال.

"زحف الناس بعضهم إلى بعض فارتموا بالنبل [والحجارة] حتى فنيت. ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت واندقت . ثم مشى القوم بعضهم إلى بعض بالسيف وعمد الحديد، فلم يسمع السامع إلاّ وقع الحديد بعضه على بعض، لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضاً. (قال): وانكشفت الشمس [بالنقع] وثار القتام وضلت الألوية والرايات. (قال): و[أخذ] الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها. (قال): فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل، لم يصلوا اللّه صلاة (2). بل إنهم صلوا صلاة الخوف. ويقول ابن أعثم إن شدة القتال بلغت حداً جعلهم يكتفون من صلاتهم بتكبيرة واحدة أو إيماءة صوب القبلة . (3)

هرير الكلب: صوته دون نباحه من قلة صبره على البرد (4). فسميت تلك الليلة ليلة الهرير لشدة القتال فيها وكثرة القتلى وتصاعد صراخ المقاتلين من الفريقين وآهاتهم إلى عنان السماء.

يقول العلّامة المجلسي في هذا: اشتد صوت وقع السيوف على بعضها فسميت تلك الليلة ليلة

الهرير. (5)

ص: 288


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، ص 421، خروج علي (علیه السلام) للقتال.
2- وقعة صفين، ص 475 ، ليلة الهرير إذكاء الأشتر لنار القتال.
3- "ذهبت المواقيت (هكذا : م) الصلاة حتى ما كان في الفريقين أحد يصلي ذلك اليوم ولا سجد للّه سجدة ولا كانت الصلاة إلّا بالتكبير والإيماء نحو القبلة". الفتوح، المجلد الثاني، ص178، ذكر صفة ليلة الهرير.
4- مجمع البحرين، ج3، ص 518، هرر.
5- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 86 ، ص116، في كيفية صلاة الخوف.

في تلك الليلة، كان الإمام علي (علیه السلام) يقاتل في قلب العدو وابن عباس في الميسرة ومالك الأشتر في الميمنة، وكبدوا العدو خسائر جسيمة، وبلغ قتلى الجيشين نحو سبعين ألفاً. (1)

تواصلت المعركة في منتهى الشدة حتى منتصف الليلة الثانية، واستمرت حتى قرب الظهر. وكان لمالك الأشتر نصيب كبير منها، فكان الجيش الذي تحت إمرته يتقدم. وكان إذا لاحظ ضعفاً في جيشه، يقول: ألا من يشري نفسه اللّه ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق باللّه. فالتحق به المقاتلون جماعات جماعات ووجهوا ضربات قاتلة لجيش الشام. (2)

يقول العلّامة الحلي: وفي ليلة الهرير باشر (أمير المؤمنين (علیه السلام)) الحرب بنفسه خاصة. وكان كلما قتل قتيلاً كبّر، فعُدّ تكبيره فبلغ خمسمائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة. وعُدّ قتلى الفريقين في صبيحة تلك الليلة فبلغت ستة وثلاثين ألف قتيل . (3)

ص: 289


1- الفتوح المجلد الثاني، ص178، ذكر صفة ليلة الهرير.
2- "قال: وأخذ الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها. قال: فاجتلدوا بالسيوف وعمد الحديد من صلاة الغداة إلى نصف الليل لم يصلوا اللّه صلاة. فلم يزل يفعل ذلك الأشتر بالناس حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وافترقوا على سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وفي تلك الليلة وهي ليلة الهرير. وكان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون. ثم استمر القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى، والأشتر يقول لأصحابه وهو يزحف بهم نحو أهل الشام ازحفوا قيد رمحي هذا وإذا فعلوا قال: ازحفوا قاب هذا القوس. فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى ملّ أكثر الناس الإقدام فلما رأى ذلك قال: أعيذكم باللّه أن ترضعوا الغنم سائر اليوم. ثم دعا بفرسه وركز رايته، وكانت مع حيان بن هوذة النخعي، وخرج يسير في الكتائب ويقول: ألا من يشري نفسه اللّه ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق باللّه فلايزال الرجل من الناس يخرج إليه ويقاتل معه. نصر عن عمر بن سعد قال: حدثني أبوضرار عن عمار بن ربيعة قال: مرّبي واللّه الأشتر وأقبلت معه حتى رجع إلى المكان الذي كان به، فقام في أصحابه فقال: شدوا، فدئ لكم عمي وخالي شدة ترضون بها اللّه وتعزون بها الدين، فإذا شددت فشدوا. قال: ثم نزل وضرب وجه دابته ثم قال لصاحب رايته: أقدم! فأقدم بها، ثم اشتد على القوم وشد معه أصحابه يضرب أهل الشام حتى انتهى بهم إلى عسكرهم. ثم إنهم قاتلوا عند العسكر قتالاً شديداً. وقعة صفين، ص 475 و476، ليلة الهرير.
3- كشف اليقين، ص 158.

العدو في أنفاسه الأخيرة

بعد تكبيد جيش العدو الضربات القاصمة في ليلة الهرير، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) لمقاتلي جيشه: أيها الناس! قد بلغ بكم الأمر وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منه إلا آخر نفس. وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها. وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا. وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى اللّه عزّ وجلّ. (1)

يصف ابن أبي الحديد حالة جيش الشام بعد ليلة الهرير وصفاً رائعاً بقوله: لولا فساد أهل العراق برفع المصاحف لاستؤصل أهل الشام وخلص الأشتر إلى معاوية فأخذه بعنقه ولم يكن قد بقي من قوة الشام إلاّ كحركة ذنب الوزغة عند قتلها يضطرب يميناً وشمالاً. (2)

ويقول اليعقوبي: زحف أصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً حتى لصقوا به. فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه. فقال عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك؟ قال: لم يبق إلّا حيلة واحدة، أن ترفع المصاحفو (3)

ص: 290


1- وإن علياً قام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! .. عزّ وجلّ". وقعة صفين، ص476، خطبة لعلي (عليه السلام)
2- شرح نهج البلاغة، ج 11، ص29، ذيل الخطبة 201.
3- تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص188 ، خلافة أمير المؤمنين (علیه السلام).

كلام الأشعث بن قيس المنافق

بعد مقتل عدد كبير من الجيشين، وقف الأشعث بن قيس أمام أفراد قبيلته وقال ما أمل العدو أمير بالصلح. كان الأشعث مخالفاً لاستمرار الحرب بسبب كثرة الخسائر، لذا التفت إلى جيش المؤمنين (علیه السلام) وقال : قد رأيتم، يا معشر المسلمين، ما قد كان في يومكم هذا الماضي وما قد فني فيه من العرب. فواللّه، لقد بلغت من السن ما شاء اللّه أن أبلغ فما رأيت مثل هذا اليوم قط. ألا فليبلغ الشاهد الغائب، نحن تواقفنا غداً. إنه لفناء العرب وضيعة الحرمات. أما واللّه، ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحتف ،ولكني رجل مسن أخاف على [النساء و] الذراري غداً إذا فنينا. قال صعصعة: فانطلقت عيون معاوية إليه بخطبة الأشعث، (ففرح فرحاً شديداً وتجدد أمله في المصالحة) (1) فقال: أصاب ورب الكعبة. لئن نحن التقينا غداً لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا ولتميلن أهل فارس على نساء أهل العراق وذراريهم.

كان لكلام الأشعث بن قيس من التأثير على أهل الشام بحيث أنهم أصبحوا يعيدونه ويقولون: يا

أهل العراق! من لذرارينا إن قتلتمونا؟ ومن لذراريكم إن قتلناكم (2)؟ اللّه اللّه في البقية ! (3)

لو لم يكن الأشعث قال ما قال، فربما لم يفكر عمرو بن العاص بحيلة رفع المصاحف على

رؤوس الرماح، وربما أخذ التاريخ مساراً مغايراً.

ص: 291


1- وقعة صفين، ص480، يوم الهرير.
2- "ثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: يا أهل العراق .. البقية". وقعة صفين، ص 481، إشارة معاوية برفع المصاحف.
3- الفتوح، المجلد الثاني، ص179، ذكر رفع المصاحف على رؤوس الرماح ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص101، حوادث سنة 37 هجرية، مقتل عمار بن ياسر.

ص: 292

الفصل الخامس

اشارة

ص: 293

ص: 294

بداية المؤامرة

تكبد جيش الشام خسائر جسيمة على أيدي أبطال جيش أمير المؤمنين (علیه السلام). وأدرك أنه لم يعد قادراً على الصمود، وأن عليه الاستسلام نظراً لحجم الخسائر التي لحقت به. وفي تلك الظروف اليائسة، أدركهم عمرو بن العاص وأنقذهم من هزيمة نهائية بمقترح شيطاني.

ص: 295

رفع المصاحف على رؤوس الرماح

لما وصلت تقارير الحرب إلى معاوية، أحضر عمرو بن العاص وقال له مغضباً: اللّه ويحك أباعبدالله! أين حيلك التي كنت أعرفها منك ؟ فقال عمرو: تريد ماذا؟ قال: أريد أن تسكن هذه الحروب، فقد أبيد أهل الشام ، وإني لأعلم إن دام هذا الحرب يومنا هذا لم يبق بأرض الشام أحد يحمل سلاحنا. فقال عمرو: إن أحببت ذلك، فأمر بالمصاحف أن ترفع على رؤوس الرماح، ثم ادعهم إليها. فإنك إن فعلت ذلك لم يقاتل أحد أحداً. فهذه حيلتي ومكيدتي التي لم أزل أدخرها لك. (1)

حسب ما ينقله ابن مزاحم فإن عمرو بن العاص أشار إلى طبيعة الجيشين فقال لمعاوية: إن رجالك لا يقومون لرجاله، ولستَ مثله. هو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره. أنت تريد البقاء وهو يريد الفناء. وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم، وأهل الشام لا يخافون علياً إن ظفر بهم. ولكن ألق إلى القوم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردوه اختلفوا. ادعهم إلى كتاب اللّه حكماً فيما بينك وبينهم، فإنك بالغ به حاجتك في القوم. وإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه.(2) فعرف معاوية ذلك وقال له: صدق.

في كلام عمرو بن العاص نقاط غاية في الأهمية، نشير هنا إلى بعضها أمثلةً:

الأولى: أن عمرواً كان على اطلاع دقيق بطبيعة طرفي الحرب، ويعلم أن أمير المؤمنين (علیه السلام) لم يكن يحارب أهل الشام من أجل الرئاسة بل لإحقاق الحق.

الثانية: أن جيش الشام كان يعرف رأفة أمير المؤمنين (علیه السلام) ورحمته، ويعلم أنه لو تمكن منهم فسيعفو ويصفح ولا يعاقب. إن اعترافات عمرو بن العاص تبين أن أعداء أمير المؤمنين (علیه السلام)، أيضاً،

ص: 296


1- ، ص 477، دعاء علي (علیه السلام) يوم الهرير.
2- يقول ابن أعثم الكوفي إنهم حملوا مصحف عثمان، وكان كبيراً جداً، على أربعة رماح ووضعوه بين الجنود. الفتوح، المجلد الثاني، ص179 ، ذكر رفع المصاحف على رؤوس الرماح.

لم يكونوا يعتبرونه سفاحاً محباً للحرب، وأنهم كانوا يعتقدون بحقانيته، ولم يمنعهم من الإذعان له إلّا هوى أنفسهم.

الثالثة: أن مقترح عمرو بن العاص كان شيطانياً لدرجة أن يدخل الفرقة في صفوف جيش العراق في جميع الأحوال ؛ لأنه كان على علم كامل بنسيج جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)، ويعلم أن فيه اتجاهات مختلفة. لقد استطاع أن يستغل نقطة الضعف هذه أكمل استغلال في إنهاء الانسجام الظاهري الذي كان جيش الإمام يبدو عليه.

من أهم مزايا عمرو بن العاص أنه كان على علم جيد بالأشخاص والقبائل، لذا فإن معاوية كان كلما خالفه في رأيه. لقد اعترض عمرو بن العاص على بعض ما قام به معاوية قبل شروع الحرب، ثم ثبتت صحة موقفه النابع من دقة معرفته بالأشخاص. من ذلك، مثلاً، المكاتبات التي أجراها معاوية مع بعض الأشخاص. وكذلك في منع الماء عن جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)، فقد عارضه لمعرفته بشجاعة جيش الإمام. فقد انتهى معاوية إلى الإقرار بخطئه والاعتراف بصحة رأي عمرو. هذه الشواهد تدل على أن عمرو بن العاص كان على معرفة دقيقة بالرجال والقبائل. وعلى أساس هذه المعرفة اقترح رفع المصاحف على رؤوس الرماح لبث الفرقة في صفوف جيش الإمام (علیه السلام) وتحويل مسار الحرب لصالح معاوية.

تنفيذاً لمقترح عمرو بن العاص، قام جيش معاوية، في صبيحة ليلة الهرير، برفع حوالي خمسمائة مصحف على الرماح والتقدم بها صوب جيش الإسلام. وثمة روايات تفيد بأن الشاميين رفعوا مصحفاً كبيراً على رؤوس ثلاثة رماح (1). وكان المصحف من الثقل بحيث كان يحمله عشرة أشخاص. وبعد رفع المصاحف، وقف الطفيل بن أدهم مقابل الإمام علي (علیه السلام)، ووقف أبو شريح الجذامي مقابل أبوشريح ميمنة الجيش، وورقاء بن المعمر مقابل الميسرة، وقالوا: يا معشر العرب! اللّه اللّه في نسائكم وبناتكم، فمن للروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم؟ اللّه اللّه في دينكم، هذا كتاب اللّه بيننا

ص: 297


1- "قال أبوجعفر وأبوالطفيل: استقبلوا علياً بمائة مصحف ووضعوا في كل مجنبة مائتي مصحف وكان جميعها خمسمائة مصحف. قال أبوجعفر ثم قام الطفيل بن أدهم حيال علي وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة وقام ورقاء بن المعمر حيال الميسرة، ثم نادوا يا معشر العرب! .. المبين". وقعة صفين، ص 478 ، رفع المصاحف على أطراف الرماح.

وبينكم. فقال على (علیه السلام) : اللّهُمَ إنك تعلم أنهم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم إنك أنت الحكم الحق المبين. (1)

ص: 298


1- وقعة صفين، ص 478، رفع المصاحف على أطراف الرماح.

الفرقة في جيش الإمام (علي السلام)

انطلت حيلة عمرو بن العاص على عدد من ضعاف الصبر والبصيرة من أصحاب الإمام علي (علیه السلام)، فقال بعضهم: أما وقد أذعن معاوية وأهل الشام إلى حكم القرآن فلابد من إيقاف القتال، وما عاد جائزاً قتال أهل الشام. (1)

ص: 299


1- هو عدي بن حاتم الطائي من صحابة النبي (صلی اللّه علیه وآله)كان سيداً في قومه. جاء النبي (صلی اللّه علیه وآله) في شعبان من السنة العاشرة للهجرة وأسلم على . يديه. كانت له اليد الطولى في الخطابة والقدرة الفذة في المناظرة والجدال. وكان كريماً محسناً. طلب منه الأشعث بن قيس يوماً أن يعيره قدوره فملأها عدي طعاماً وأرسلها إليه. فقال الأشعث: إني أردتها خالية. فقال عدي بن حاتم: ليس من عادتنا أن نعطي أحداً قدوراً خالية. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج4، ص9، ترجمة عدي بن حاتم الرقم 3610 ؛ الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص168، ترجمة عدي بن حاتم، الرقم 1800. كان عدي، قبل أن يتشرف بالإسلام، نصرانياً فجذبته سيرة النبي (صلی اللّه علیه وآله) و فدخل في الإسلام. فقد جاء المدينة بتوصية من أخته وتوجه إلى النبي (صلی اللّه علیه وآله) و فدعاه النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى بيته. وفي الطريق استوقفت امرأة عجوز النبي (صلی اللّه علیه وآله) فكلمته وطال كلامها معا معه وكان النبي يستمع إليها باهتمام. فقال عدي في نفسه: إن هذا الرجل لا يطلب الحكم والرئاسة، لأن من يطلب الرئاسة لا هذا الوقت مع امرأة عجوز. يقول عدي بن حاتم لما وصلنا إلى البيت، فرش لي النبي (صلی اللّه علیه وآله) فراشاً لا يتسع إلّا لرجل واحد، وألح على أن أجلس عليه وجلس هو على الأرض. وكانت تلك علامة ثانية على بساطة النبي (صلی اللّه علیه وآله) و عدم مطالبه الجاه والسلطان. وبعد كلام قصير تشرفت باعتناق الإسلام تاريخ الطبري، ج2، ص188، حوادث السنة التاسعة للهجرة. شهد عدي بن حاتم الجمل وصفين والنهروان وقاتل تحت راية الإمام علي (علیه السلام) . وكان من المعترضين على المخالفات التي ارتكبها عثمان واشترك في قتله الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص 169 ، ترجمة عدي بن حاتم، الرقم 1800 ؛ وقعة صفین، ص 65 ، خفاف بن عبد الله ومعاوية. استشهد أولاده الثلاثة في معركة صفين وهم يقاتلون مع علي (علیه السلام)، فحاول معاوية استغلال استشهادهم في إثارة مشاعر عدي ضد أمير المؤمنين (علیه السلام). فقد سأله ذات يوم: أين الطرفات؟ ماذا حلّ بأبنائك الثلاثة طريف وطارف وطرفة؟ فقال عدي: استشهدوا في صفين بين يدي علي بن أبي طالب (علیه السلام). فقال معاوية: لم ينصفك علي ابن أبي طالب، فقد زجّ بأولادك في الحرب فقتلوا جميعاً، وادّخر أولاده. فردّ عليه عدي بحزم: بل أنا لم أنصف علياً، فقد قتل وبقيت أنا حياً أمالي السيد المرتضى، ج 1، ص 217 ، المجلس الحادي والعشرون كان من أثبت المقاتلين في صفوف أمير المؤمنين (علیه السلام)، ومن الذين ضحوا بكل وجودهم في سبيل موالاته. وكان الإمام علي (علیه السلام) معياره الوحيد للحق. وحين انحرف ابنه عن هذا المعيار لم يسامحه بل تولى معاقبته بنفسه. فقد كان له ابن اسمه زيد يميل إلى معاوية. ولما رأى زيد جثة خاله حابس بن سعد الطائي الذي كان من الطائي الذي كان من قادة جيش معاوية بين جثث القتلى قام بقتل قاتله وكان مع علي (علیه السلام)، فهجم عليه أبوه عدي ليقتله ولكنه تمكن من الفرار واللجوء إلى جيش معاوية. فصاح عدي بن حاتم: لست على دين محمد إن لم ألحقك بحابس بن سعد الطائي. ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن زيداً اعتزل المسلمين والتحق بالملحدين، فاجعله غرضاً لسهام بلائك التى لا تطيش. وبعد أن التحق زيد بمعاوية تكلم عنه بعض أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) بسوء- فذهب عدي بن حاتم إلى أمير المؤمنين وقال: واللّه لو وجدت زيداً لأقتلنه، ولو قتل ما حزنت عليه وقعة صفين، ص 522، ثأر زيد بن عدي لحابس بن سعد الطائي لحاقه بمعاوية. استقام عدي بن حاتم على الولاء بعد استشهاد الإمام علي (علیه السلام) فكان من أوفى أصحاب الإمام الحسن (علیه السلام). توفي في الكوفة سنة 67 أو 68 هجرية وكان عمره 120 سنة. الإصابة في تمييز الصحابة، ج4، ص 388، ترجمة عدي بن حاتم، الرقم 5491 ؛ شرح نهج البلاغة، ج 16، ص 38، شرح الكتاب الحادي والثلاثين، ترجمة الحسن بن علي (علیه السلام) وذكر بعض أخباره.

أرضية المؤامرة

ما كان لمؤامرة عمرو بن العاص أن تنجح في خلق الانقسام في جيش العراق لولا وجود أرضية لتلقيها بالقبول. ومن العوامل التي ساعدت على نجاح المؤامرة:

1- استطالة زمن الحرب وتحولها إلى حرب استنزاف 1-

2- معركة ليلة الهرير الطاحنة

3- خطبة الأشعث بن قيس التحريضية التي زودت المتآمرين بالمبررات اللازمة لمؤامرة رفع

المصاحف وفرض الصلح على الإمام علي (علیه السلام)

ص: 300

معارضو التحكيم في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)

بعد أن رُفعت المصاحف على رؤوس الرماح، وقف بعض أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) موقف الرفض للمؤامرة وهم يعلمون بأنها خطة لجأ إليها معاوية واضطر إليها أهل الشام بعد أن لاحت علائم هزيمتهم النهائية. من هؤلاء الرافضين لمؤامرة التحكيم:

-1- عدي بن حاتم (1) الذي نهض ، وهو مدرك لظروف الجيشين، من مكانه وقال: يا أمير المؤمنين! إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق، فإنه لم يصَب عصبة منا إلّا وقد أصيب مثلها منهم، وکّل مقروح. ولكنا أمثل بقية منهم، وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلّا ما تحب، فناجز القوم!

2- مالك الأشتر وكان من قادة جيش الإمام (علیه السلام). وكان يعلم أنه لا يفصلهم عن النصر النهائي إلاّ قليل، وأن اقتراح أهل الشام نابع من عجزهم ويأسهم. فالتفت إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) وقال: يا أمير المؤمنين! إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولك بحمد اللّه الخلف. ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك. فاقرع الحديد بالحديد واستعن باللّه الحميد. (2)

3-عمرو بن الحمق الذي سبق له أن أثبت ولاءه المطلق للإمام على(علیه السلام) علم مراراً وتكراراً، خاطب الإمام (علیه السلام) قائلاً : يا أمير المؤمنين !إنا واللّه ما أحببناك ولا نصرناك عصبية على الباطل، ولا أجبنا إلاّ اللّه عزّ وجلّ، ولا طلبنا إلاّ الحق. ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لاستشرى فيه اللجاج وطالت فيه النجوى. وقد بلغ الحق مقطعه وليس لنا معك رأي. (3)

ص: 301


1- أقبل عدي بن حاتم فقال: يا أمير المؤمنين! ... القوم". وقعة صفين، ص 482، كلمة عدي بن حاتم.
2- "فقام الأشتر النخعي فقال : يا أمير المؤمنين! ... الحميد". وقعة صفين، ص 482، القائلون باستمرار القتال.
3- "قام عمرو بن الحمق فقال: يا أمير المؤمنين! ... رأي". ، ص 482، كلمة عدي بن حاتم (هكذا، والصحيح: كلمة عمرو بن الحمق م)

إصرار الأشعث بن قيس على وقف القتال وقبول التحكيم

بعد أن نفخ كلامه المنافق الأمل في النجاة في نفوس أهل الشام بعد ليلة الهرير، واصل الأشعث بن قيس إصراره على المصالحة. فقد تابع بغضب شديد كلمات أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) الداعية إلى مواصلة القتال، ثم خاطب الإمام (علیه السلام) قائلاً وهو يتميز غضباً: يا أمير المؤمنين! إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوله. وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني. فأجب القوم إلى كتاب اللّه، فإنك أحق به منهم. وقد أحبّ الناس البقاء وكرهوا القتال. (1)

ص: 302


1- "فقام الأشعث بن قيس مغضباً فقال: يا أمير المؤمنين! ... القتال". وقعة صفين، ص 482، الأشعث بن قيس.

خطبة عبدالله بن عمرو بن العاص

كان معسكر الشام في فزع وذعر نظراً إلى أنهم لم يكونوا قد تلقوا بعد جواب أمير المؤمنين في وقف القتال، وأنهم كانوا يخشون عودته إلى الحملة عليهم ثانية. لذا، ذهبوا إلى معاوية وطلبوا منه أن يكرر مقترحه. على هذا دعا معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص وكلفه بلقاء أهل العراق والتفاوض معهم. فوقف ابن عمرو بن العاص بين الصفين وقال بصوت عال: يا أهل العراق ! أنا عبدالله بن عمرو بن العاص. إنها قد كانت بيننا وبينكم أمور للدين والدنيا. فإن تكن للدين، فقد واللّه أعذرنا وأعذرتم. وإن تكن للدنيا، فقد واللّه أسرفنا وأسرفتم. وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا إليه لأجبناكم. فإن يجمعنا وإياكم الرضا فذلك من اللّه. فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف وينسى فيها القتيل، فإن بقاء المهلك بعد الهالك قليل .(1)

ص: 303


1- "فدعا معاوية عبد اللّه بن عمرو بن العاص وأمره أن يكلم أهل العراق. فأقبل حتى إذا كان بين الصفين نادى: يا أهل العراق! .... قليل". وقعة صفين، ص483، الكلام في التحكيم.

ردّ سعيد بن قيس على كلام عبدالله بن عمرو بن العاص

فقال سعيد بن قيس رداً على كلام عبدالله بن عمرو بن العاص: يا أهل الشام! إنه قد كان بيننا وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا سميتموها غدراً وسرفاً. وقد دعوتمونا اليوم إلى ما قاتلناكم عليه بالأمس. ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ولا أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم بما أنزل اللّه. فالأمر بأيدينا دونكم. (1)

ص: 304


1- "فخرج سعيد بن قيس فقال: يا أهل الشام! .. دونكم". وقعة صفين، ص483، الكلام في التحكيم.

خطبة الإمام علي (علیه السلام)

فعلت حيلة عمرو بن العاص فعلها فأوقعت الشك في نفوس بعض قادة جيش أمير المؤمنين. ونشب خلاف شديد في معسكر العراق، وكانت الأغلبية فيه تميل إلى وقف القتال والأقلية إلى مواصلته.

عندما أدرك أمير المؤمنين (علیه السلام) أن أغلب جيش العراق يطالب بالتصالح، ألقى كلمة بينت قمة مظلوميته وضلال أغلب جيشه، فقال: أيها الناس! إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب حتى نهكتكم الحرب. وقد واللّه أخذت منكم ،وتركت، وهي لعدوكم أنهك. لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً . وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون. (1)

ص: 305


1- نهج البلاغة، الخطبة 199.

تحليل عقيدة جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)

لكي تتضح أسباب تفرق جيش الإمام علي (علیه السلام) بسبب رفع المصاحف على الرماح، لابد من التعرف على الأجواء الفكرية الحاكمة على المحاربين في ذلك الجيش. وينبغي تشخيص اعتقادهم بأمير المؤمنين (علیه السلام) للتوصل إلى سبب عدم تأثرهم بتحذيراته من خدعة أهل الشام وإصرارهم على كلامهم الباطل، ثم انبثاق تيار الخوارج من بينهم بعد وقوع التحكيم.

للتعرف على الجو الثقافي والعقائدي المهيمن على الناس في تلك الفترة، يكفي أن نستمع إلى إحدى خطب الإمام (علیه السلام) في أيام خلافته، حيث يشير إلى عقائد أهل الكوفة، فيقول بعد الحمد والثناء وبعض المقدمات: قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيرين لسنته. ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب اللّه عزّ وجلّ وسنة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) . و لقد أمرت الناس ألّا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام! غيرت سنة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري (1) ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار.

ثمة رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السلام) (هكذا، وفي الهامش عن أبي جعفر: م) تفيد بأن عدد الشيعة الحقيقيين لأمير المؤمنين (علیه السلام)كان ضئيلاً جداً . يقول الإمام الصادق (علیه السلام): كان علي بن أبي طالب (علیه السلام) عندكم بالعراق يقاتل عدوه وعنده أصحابه وما كان منهم خمسون رجلاً يعرفونه حق معرفته وحق معرفة إمامته. (2)

ص: 306


1- "عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد اللّه وأثنى عليه... قد عملت ... إلى النار". الكافي، ج8، ص 58، الحديث ،21، خطبة أمير المؤمنين (علیه السلام) ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج 34، ص 167، الباب 32، علة عدم تغيير أمير المؤمنين (علیه السلام) بعض البدع في زمانه.
2- "ذكر هشام عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: كان علي ... إمامته". اختيار معرفة الرجال، ص66، الحديث 11.

كما أن هناك وثائق أخرى، مثل قول أبي جعفر النقيب الذي سبقت الإشارة إليه، تفيد بأن أغلب أهل الكوفة كانوا يعتقدون بإمامة الشيخين ولا يرضون بانتقادهما. (1)

بالنظر إلى ما ذكرنا، لا مفر من القول بأن أغلب المقاتلين الذين كانوا يشكلون جيش الإمام (علیه السلام) لم يكن يعرف منزلة الإمام (علیه السلام)حق معرفتها. فلم يكونوا يعتبرونه إماماً معصوماً مفترض الطاعة. مثل هذا الجيش الذي لا يأخذ بكلام الإمام (علیه السلام)في الصلاة المستحبة، لاشك أن سيكون فريسة سهلة عند ظروف الفتن، فيتفرق عن الإمام ويتركه وحيداً.

بعد تبين حقيقة معتقدات جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)، لا بد من تسليط الضوء على تحليل ابن أبي الحديد للدوافع الحقيقية لأصحاب الإمام (علیه السلام) وأنصاره. يقسّم ابن أبي الحديد جنود الإمام (علیه السلام) إلى ثلاثة أقسام، فيقول: فمنهم من دخلت عليه الشبهة برفع المصاحف وغلب على ظنه أن أهل الشام لم يفعلوا ذلك خدعة وحيلة بل حقاً ودعاءً إلى الدين وموجب الكتاب، فرأى أن الاستسلام للحجة أولى من الإصرار على الحرب (وهم القسم الأول). ومنهم من كان قد ملّ الحرب وآثر السلم، فلما رأى شبهة ما يسوغ التعلق بها في رفض المحاربة وحب العافية أخلد إليهم (وهم القسم الثاني). ومنهم من كان يبغض علياً (علیه السلام) بباطنه ويطيعه بظاهره كما يطيع كثير من الناس السلطان في الظاهر ويبغضه بقلبه، فلما وجدوا طريقاً إلى خذلانه وترك نصرته أسرعوا نحوها (2) (وهم القسم الثالث).

ص: 307


1- لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة. شرح نهج البلاغة، ج 15، ص 185، ذيل الكتاب الثامن والعشرين، كتاب لمعاوية إلى علي(علیه السلام) ، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص165، في حرب صفين.
2- "أن أهل العراق، لما رفع عمرو بن العاص ومن معه المصاحف على وجه المكيدة حين أحس بالعطب وعلو كلمة أهل الحق، ألزموا أمير المؤمنين بوضع أوزار الحرب وكف الأيدي عن القتال. وكانوا في ذلك على أقسام: فمنهم ... نحوها". شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 30، ذيل الخطبة .201.

308

مواقف بعض رؤساء القبائل من التحكيم

بعد أن أبدى أمير المؤمنين (علیه السلام) وعدد من قادة جيشه رأيهم من مواصلة الحرب، وصل الدور إلى رؤساء القبائل ليدلي كل بدلوه في القضية.

كردوس بن هاني البكري وهو زعيم قبيلة ربيعة التي كانت تمثل الجزء الأكبر من جيش الإمام (علیه السلام). قال في الدفاع عن موقف أمير المؤمنين (علیه السلام) أيها الناس! إنا واللّه ما تولينا معاوية منذ تبرأنا منه، ولا تبرأنا من علي منذ توليناه. وإن قتلانا لشهداء، وإن أحياءنا لأبرار، وإن علياً لعلى بينة من ربه ما أحدث إلّا الإنصاف وكل محق منصف. فمن سلم له نجا ومن خالفه هلك . (1)

شقيق بن ثور البكري: نهض بعد كلام كردوس بن هانئ فقال كلاماً ينم عن سذاجة تفكيره عارض فيه رئيس قبيلته، فقال: يا أهل العراق! إنكم تعلمون أننا كنا دعونا أهل الشام إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ، فإن رددناه عليهم حلّ ، لهم منا ما حلّ لنا منهم. ولسنا نخاف أن يحيف اللّه علينا ولا رسوله (صلی اللّه علیه وآله) وأن العليا (علیه السلام) ليس بالراجع ولا بالناكص ولا الشاك الواقف في أمره، وهو اليوم على ما كان عليه أمس. وقد أكلتنا هذه الحروب، ولسنا نرى إلاّ البقاء في الموادعة. (2)

ثم قام حريث بن جابر البكري وتكلم بكلام ينم عن تبعية لأمير المؤمنين (علیه السلام) نابعة من وعي عميق وفهم للعدو واسع، فقال فيما قال: أيها الناس إن علياً (علیه السلام) لو كان خلفاً من هذا الأمر لكان المفزع إليه، فكيف وهو قائده وسائقه. وإنه، واللّه، ما قبل من القوم اليوم إلّا ما دعاهم إليه أمس. ولو ردّه عليهم كنتم له أعنت. ولا يلحد في هذا الأمر إلّا راجع على .عقبيه أو مستدرج بغرور. فما بيننا وبين من طغى علينا إلّا السيف. (3)

ص: 308


1- "فأما من ربيعة، وهي الجبهة العظمى، فقام كردوس بن هانئ البكري فقال: أيها الناس! ... هلك". وقعة صفين، ص 484، خطبة لعلي (علیه السلام).
2- "ثم وثب شقيق بن ثور البكري فقال: يا أهل العراق ... الموادعة". الفتوح، المجلد الثاني، ص181، ذكر امتناع القوم من القتال.
3- "قام حريث بن جابر البكري، فقال: أيها الناس! ... السيف". وقعة صفين، ص 485 ، كلام رؤساء القبائل ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص186، ثم رجعنا إلى الخبر.

أما الحضين بن المنذر وكان أصغر القوم سناً فقال ما دلّ على طاعته لأمير المؤمنين (علیه السلام) وموافقته لرأيه. قال: أيها الناس! إنما بني هذا الدين على التسليم ،فلا تعملوا فيه بالقياس ولا تهدموه بالشبهة.

وأمير المؤمنين فهو المصدق بما قال والمأمون على ما فعل. فإن قال: لا، قلنا: لا. وإن قال: نعم، قلنا:نعم. (1)

ص: 309


1- "ثم وثب الحضين بن المنذر، وكان أصغرهم سناً، فقال: أيها الناس! ... نعم". الفتوح، المجلد الثاني، ص181، ذكر امتناع القوم من القتال.

موقف أمير المؤمنين (علیه السلام) النهائي

لما رفع أهل الشام المصاحف ودبّ الخلاف والانقسام في جيش العراق، بذل أمير المؤمنين (علیه السلام)كل ما في وسعه لتوعية أصحابه وإيقاظ جنوده من رقدة الغفلة. فأشار إلى ماضي معاوية وأنصاره المشين وطعن في دينهم ليفهم المخدوعين بأن أهل الشام لا دين لهم ولا ينبغي التعامل معهم على أساس القرآن. ولغرض إتمام الحجة على الناس، خطب فيهم فقال فيما قال: عباد اللّه! امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرواً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال. ويحكم! واللّه ما رفعوها إلّا خديعة ووهناً ومكيدة... فإني إنما أقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنهم قد عصوا اللّه فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. (1)

ص: 310


1- "فقال لهم علي (علیه السلام): عباد اللّه ! ... كتابه". شرح نهج البلاغة، ج11، ص30، ذيل الخطبة 201 ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص 386، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين.

لحظة انبثاق الخوارج

بعد أن ألقى الإمام (علیه السلام)كلمته وبيّن موقفه النهائي من الدعوة إلى التحكيم، وهو مواصلة القتال، تقدم إليه نحو عشرين ألف مقاتل مدجج بالسلاح الكامل مجرد سيفه وعلى جبهته أثر السجود. وكان في مقدمتهم مسعر بن فدكي وزيد بن الحصين وجماعة من القراء، الذين أصبحوا فيما بعد من الخوارج، وأحاطوا بالإمام وهددوه قائلين: يا علي! أجب إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ إذ دعيت إليه، وإلاّ دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان . (1)

هذه الجماعة التي لم تكن تفقه من القرآن إلّا ظاهره ولا تفهم من باطنه وتفسيره شيئاً، هي محصلة تربية الخلفاء السابقين. ولو أن الحكام الذين تربعوا على مقعد رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) واكتسبوا الوجاهة من خلافته، لم يمنعوا رواية الأحاديث، فانكشف لهؤلاء الجماعة الأحاديث المفسرة للقرآن حق تفسيره، واطلعوا على منزلة أمير المؤمنين (علیه السلام) الحقيقية، لما تطاولوا عليه كما فعلوا ولما هددوه كما تجرأوا.

لقد بلغت جرأتهم على مقام الإمام علي (علیه السلام) الناجمة عن ضحالة عقولهم أنهم أسقطوا عن مخاطبته لقب "أمير المؤمنين" وخاطبوه باسمه في أثناء تهديدهم له. حتى ليبدو أنهم، في تلك اللحظات، حاكموا الإمام (علیه السلام) في محكمة ضمائرهم وحكموا عليه وجردوه من عنوان الإمارة. كانوا يقولون: نادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين .(2)

ص: 311


1- "فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي ... عفان". الكامل في التاريخ، ج 3، ص 386، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين.
2- "فجاءه زهاء عشرين ألفاً مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي! أجب القوم إلى كتاب اللّه إذ دعيت إليه وإلّا قتلناك كما قتلنا ابن عفان. فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم ". وقعة صفين، ص 489، معاوية ومصقلة ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص 182 ، ذكر امتناع القوم من القتال.

فلم يجد الإمام (علیه السلام) ابداً من أن يلجأ إلى نصحهم، فقال لهم: يا هؤلاء! إني أنا أول من دعا إلى کتاب اللّه وأول من أجاب إليه، ولا يحل لنا إلّا الإجابة إليه. (1)

غير أن عُميَ البصائر المتحجرين لم يأخذوا بشيء من كلام الإمام (علیه السلام) وألحوا عليه في أن يعيد مالك الأشتر من ميدان القتال إلى مقر القيادة، في الوقت الذي كان مالك الأشتر وجماعة من المحاربين قد قاموا بهجوم وصلوا فيه إلى مقر معاوية فلم يبق على سقوط المقر وهزيمة جيش الشام النهائية إلّا قليل.

فاضطر الإمام (علیه السلام) لأن يبعث ،على مضض، يزيد بن هاني إلى مالك الأشتر يأمره بالانسحاب. فقال له مالك: ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني [فيها] عن موقفي. إنني رجوت أن يفتح اللّه لي. فرجع يزيد فأخبره (أخبر الإمام(علیه السلام) ) وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر( تصاعدت صيحات الفتح والنصر من مالك الأشتر وأهل العراق)، فقالوا (يعني الخوارج): واللّه ما نراك إلّا أمرته أن يقاتل! فقال علي (علیه السلام): هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلّا واللّه اعتزلناك! فقال له (قال الإمام (علیه السلام) ليزيد بن هانئ): ويلك يا يزيد! قل له: أقبل إليّ فإن الفتنة قد وقعت . (2)

فأتاه فأخبره فقال له الأشتر: ألرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: أما واللّه لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع اختلافاً وفرقة. إنها من مشورة ابن النابغة (يعني عمرو بن العاص). (قال): ثم قال ليزيد: [ويحك] ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع اللّه لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ فقال له يزيد : أتحب أنك ظفرت هاهنا وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم

ص: 312


1- فنظر علي (علیه السلام) ساعة ثم قال: يا هؤلاء! ... إليه". الفتوح، المجلد الثاني، ص183 ، ذكر امتناع القوم من القتال.
2- "قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث علي (علیه السلام) يزيد بن هانئ إلى الأشتر يستدعيه. فقال الأشتر: ليست هذه الساعة... وقعت" . الكامل في التاريخ، ج 3، ص 386 ، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين.

إلى عدوه؟ قال: سبحان اللّه، [لا] واللّه ما أحب ذلك. قال: فإنهم قالوا: لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك [ بأسيافنا] كما قتلنا ،عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك . (1)

ص: 313


1- وقعة صفين، ص490، حكاية مصعب لما كان من أمر رفع المصاحف ؛ شرح نهج البلاغة، ج2، ص218، ذيل الخطبة 36، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص386، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين ؛ تاريخ الطبري، ج 3، ص101، حوادث سنة 37 هجرية، مقتل عمار بن ياسر.

عودة مالك الأشتر

بعد أن تلقى تلك التقارير المريرة، عاد مالك الأشتر إلى مقر قيادة الجيش فصاح مغضباً: يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون ورفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها!؟ وقد واللّه تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم. أمهلوني فواقاً! فإني قد أحسست بالفتح.

قالوا: لا. قال: فأمهلوني عدوة الفرس، فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم ، متى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون، أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون، فقتلاكم إذن الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيراً منكم في النار؟ قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في اللّه وندع قتالهم في اللّه. إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا. قال: خدعتم واللّه فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء اللّه. فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت. فقبحاً يا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.

فسبوه وسبهم وضربوا بسياطهم وجه دابته، وضرب بسوطه وجوه دوابهم فصاح بهم علي (علیه السلام) فكفوا. وقال الأشتر: يا أمير المؤمنين! احمل الصف على الصف يصرع القوم. فتصايحوا أن علياً أمير المؤمنين (علیه السلام) قد قبل الحكومة ورضي بحكم القرآن ولم يسعه إلّا ذلك.

قال الأشتر: إن كان أمير المؤمنين (علیه السلام) قد قبل ورضي بحكم القرآن، فقد رضيت بما رضي أمير المؤمنين (علیه السلام). فأقبل الناس يقولون: قد رضي أمير المؤمنين (علیه السلام) قد قبل أمير المؤمنين (علیه السلام)، وهو ساكت لا يبض بكلمة مطرق إلى الأرض.

(1)

ص: 314


1- قال: فأقبل الأشتر حتى انتهى إليهم فصاح فقال: يا أهل الذل ... الأرض". وقعة صفين، ص 491، حكاية مصعب لما كان من مر رفع المصاحف ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص 184 ، ذكر امتناع القوم من القتال ؛ مناقب آل أبي طالب، ج2، ص364، فصل في الحكمين والخوارج.

كتاب معاوية حول تعيين الحكم

اطمأن معاوية لكلام المنافقين في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)، وموقفهم، وأيقن أنه لن يتعرض لهجوم بعد ذلك. لذا وجد في نفسه الجرأة لأن يطلب من الإمام(علیه السلام) تعيين حكم ويوصيه بالتقوى، فكتب إليه يقول: إن الأمر قد طال بيننا وبينك ،وكل واحد منا يرى أنه على الحق في ما يطلب من صاحبه. ولن يعطي واحد منا الطاعة للآخر وقد قتل فيما بيننا بشر كثير. وأنا أتخوف أن يكون ما بقي أشد مما مضى. وإنا سوف نُسأل عن ذلك الموطن ولا يحاسب به غيري وغيرك. فهل لك في أمر لنا ولك فيه حياة وعذر وبراءة وصلاح للأمة وحقن للدماء وألفة للدين وذهاب للضغائن والفتن أن يحكم بيننا وبينك حكمان رضيان، أحدهما من أصحابي والآخر من أصحابك. فيحكمان بما في كتاب اللّه بيننا، فإنه خير لي ولك وأقطع لهذه الفتن. فاتق اللّه فيما دعيت له وارض بحكم القرآن إن كنت من أهله والسلام. (1)

ص: 315


1- وقعة صفين، ص 493، رسالة معاوية إلى علي.

جواب الإمام علي(علیه السلام) على كتاب معاوية

كتب الإمام (علیه السلام) إلى معاوية يقول: أما بعد، فإن أفضل ما يشتغل به المرء المسلم اتباع ما يحسن به ويستوجب فضله ويسلم من غيه. وإن البغي والباطل ليسعان بالموالي موارد الهلكة. واحذر الدنيا، يا معاوية، فإنه لا فرح في شيء وصلت إليه منها وقد علمت أنك غير مدرك ما قضى اللّه فوته. وقد رام قوم أمراً بغير حق فأكذبهم اللّه ومتعهم قليلاً ثم يضطرهم إلى عذابِ غليظ. فاحذر يوماً يغتبط فيه من حمد عاقبة أمله وعمله، ويندم من أمكن الشيطان من قياده. وأراك قد دعوتني إلى حكم القرآن، وقد علمت أنك لست من أهل القرآن ولا حكمَه أردت، واللّه المستعان. وقد أجبنا القرآن إلى حكمه ولسنا إياك أجبنا. فبيننا وبينك حكم القرآن. ومن لم يرض بالقرآن فقد ضل ضلالاً مبينا. والسلام على عباد اللّه الصالحين. (1)

ص: 316


1- قال: ثم كتب علي إلى معاوية: أما بعد ... الصالحين". الفتوح، المجلد الثاني، ص190 ، ذكر ما كان بعد ذلك بينهم من المكاتبة.

تبادل الرسائل من أجل التحكيم

جاء إلى الإمام(علیه السلام) لجماعة من جنوده الرافضين للتحكيم حاملين سيوفهم

فقالوا له: يا أمير المؤمنين! ما تنتظر بهؤلاء القوم أن نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم بالحق؟

فقال لهم (الإمام) علي : قد جعلنا حكم القرآن بيننا وبينهم، ولا يحل قتالهم حتى ننظر بم

يحكم القرآن .(1)

كان معاوية يتابع أخبار معسكر الإمام(علیه السلام) والتحولات الطارئة عليه، ويخشى أن يغيّر أمير المؤمنين(علیه السلام) موقفه بتأثير معارضي التحكيم، فيتراجع عن وقف القتال. لذا أخذ يبعث الرسائل إلى الإمام (علیه السلام) بلا انقطاع. وللمرة الثانية كتب إليه يقول : أما بعد، عافانا اللّه وإياك، فقد آن لك أن تجيب إلى ما فيه صلاحنا وألفة بيننا وقد فعلت وأنا أعرف حقي، ولكن اشتريت بالعفو صلاح الأمة. ولا أكثر فرحاً بشيء جاء ولا ذهب وإنما أدخلني في هذا الأمر القيام بالحق فيما بين الباغي والمبغي عليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فدعوت إلى كتاب اللّه فيما بيننا وبينك. فإنه لا يجمعنا وإياك إلّا هو نحيي ما أحيى القرآن ونميت ما أمات القرآن والسلام. (2)

ص: 317


1- "جاءت عصابة من القراء قد سلوا سيوفهم واضعيها على عواتقهم فقالوا: يا أميرالمؤمنين! ... القرآن". وقعة صفين، ص 497،
2- "كتب معاوية إلى علي (علیه السلام): أما بعد ، ... والسلام". وقعة صفين، ص497، قصة التحكيم.

كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى عمرو بن العاص

نظراً للدور الغادر والأساسي الذي لعبه عمرو بن العاص في وقف القتال، فقد نفذ إليه الإمام

(علیه السلام) باب النصيحة والإرشاد، فكتب إليه يقول: أما بعد، فإن الدنيا مشغلة

من عن غيرها. ولم يصب صاحبها منها شيئاً إلّا فتحت له حرصاً يزيده فيها رغبة. ولن يستغني صاحبها بما نال عما لم يبلغه، ومن وراء ذلك فراق ما جمع. والسعيد من وعظ بغيره، فلا تحبط أباعبدالله أجرك ولا تجار معاوية في باطله.(1)

ص: 318


1- كتب علي (علیه السلام) إلى عمرو بن العاص يعظه ويرشده: أما بعد، ... باطله". وقعة صفين،ص 498،كتاب علي إلى عمرو.

جواب عمرو بن العاص

كتب عمرو بن العاص إلى الإمام (علیه السلام) جواباً على كتابه: أما بعد، فإن ما فيه صلاحنا وألفتنا الإنابة إلى الحق. وقد جعلنا القرآن حكماً بيننا فأجبنا إليه وصبر الرجل منا نفسه على ما حكم عليه القرآن وعذره الناس بعد المحاجزة. والسلام. (1)

مفاوضات الأشعث مع معاوية

بعد سلسلة من التطورات السياسية في حرب صفين، جاء الأشعث بن قيس إلى الإمام (علیه السلام) وقال له: [ يا أمير المؤمنين ]! ما أرى الناس إلا وقد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن. فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد ونظرت ما الذي يسأل. قال: ائته إن شئت. فأتاه فسأله فقال: يا معاوية! لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر اللّه به في كتابه، فابعثوا منكم رجلاً، ترضون به ونبعث منا رجلاً، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب اللّه لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه. فقال الأشعث: هذا هو الحق. فانصرف إلى علي فأخبره بالذي قال، وقال الناس (المخدوعون والمعترضون تأييداً لكلام معاوية): قد رضينا وقبلنا. (2)

ص: 319


1- "فأجابه عمرو بن العاص أما بعد .. والسلام". وقعة صفين، ص 498 ، تراسل علي وعمرو بن العاص.
2- "جاء الأشعث بن قيس إلى على فقال: [ يا أمير المؤمنين] ... وقبلنا". وقعة صفين، ص 499 ، الأشعث ومعاوية رضا قراء الشام والعراق بحكم القرآن ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص387، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة صفين ؛ مروج الجوهر، ج2، ص 433، خدعة رفع المصاحف.

إصرار المنافقين على تحكيم أبي موسى الأشعري

اختار الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية، كل من أصحابه، جماعة من قراء العراق والشام للاجتماع والتداول لإيجاد حل. وبعد التداول والمناقشات اتفق الوفدان على الالتزام الدقيق بما يحكم به كلام اللّه. ثم اختار أهل الشام عمرو بن العاص ليكون حكماً عنهم، بينما اختار الأشعث وباقي قرّاء العراق - الذين أصبحوا فيما بعد الخوارج - أباموسى الأشعري لهذه المهمة.

نظراً إلى أن أمير المؤمنين(علیه السلام) كان يعلم بنتيجة اختيار أبي موسى الأشعري، فقد عارض اختياره بشدة منذ البداية وقال: إني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه. ولكنه جوبه بإصرار عنيد من جانب الأشعث بن قيس وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي وجماعة من قراء القرآن. فقد قالوا: إنا لا نرضى إلّا به، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه. (1)

وقف ابن الكواء مقابل الإمام (علیه السلام) وقال له: هذا عبدالله بن قيس (أبو موسى الأشعري) وافد أهل اليمن إلى رسول اللّه (ممثل رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) في اليمن وصاحب مقاسم أبي بكر (مقسم غنائمه) وعامل عمر وقد رضي به القوم .(2)

فقال الإمام (علیه السلام): فإنه ليس لي برضا، وقد فارقني وخذّل الناس عني، ثم هرب (خوفاً من أن أقيم عليه حكم الشرع) حتى آمنته بعد أشهر. ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك.

ص: 320


1- "فبعث علي قرّاء من أهل العراق وبعث معاوية قراء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف. فنظروا فيه وتدارسوه وأجمعوا على أن يُحيوا ما أحيى القرآن وأن يميتوا ما أمات القرآن. ثم رجع كل فريق إلى أصحابه وقال الناس: قد رضينا بحكم القرآن فقال أهل الشام: فإنا قد رضينا واخترنا عمرو بن العاص. وقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد: فإنا قد رضينا واخترنا أباموسى الأشعري. فقال لهم علي: إني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه. فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي في عصابة من القراء: إنا لا نرضى إلا به، فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه". وقعة صفين، ص499، الأشعث ومعاوية، رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص387، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة صفين ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 2، ص 433، خدعة رفع المصاحف.
2- ذكروا أن ابن الكواء قام إلى علي فقال: هذا ... القوم". وقعة صفين، ص 502، الأشعث ومعاوية، رضا قراء الشام والعراق بحكم القرآن.

فقالوا: واللّه لا فرق عندنا بينك وبين ابن عباس. إنكما على شاكلة واحدة من الفكر. ونحن

نريد رجلاً ينظر إليك وإلى معاوية نظرة واحدة.

فقال الإمام: إذن فأولي مالك الأشتر.

ولكن الأشعث كان يعلم أن اختيار مالك الأشتر سيحول دونه ودون ما يريد وأنه لن يخلصه من القتال. لذا ردّ على الإمام بشدة قائلاً: وهل أوقد نار الحرب غير مالك الأشتر؟ أليس الجيش تحت قيادته اليوم؟

فسأل الإمام: فلمَ لا ترضون بحكم مالك الأشتر؟

قالوا: إن وليت الأشتر أمر بمواصلة القتال كما تحبان أنت وهو.(1)

وفي بعض المصادر التاريخية أن سبب معارضات الأشعث للإمام (علیه السلام)كان عزله من إمارة آذربایجان. (2)

ص: 321


1- "قال علي: فإنه ليس لي برضا وقد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: واللّه ما نبالي أكنت أنت أو ابن عباس ، ولا نريد إلّا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء وليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر. قال علي: فإني أجعل الأشتر. قال الأشعث: وهل سعر الأرض علينا غير الأشتر؟ وهل نحن إلّا في حكم الأشتر؟ قال له علي: وما حكمه؟ قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد". وقعة صفين، ص499، الأشعث ومعاوية رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص387، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة صفين ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 433، خدعة رفع المصاحف. ص433،
2- "فقال له الأشتر: أنت إنما تقول هذا القول لأن أمير المؤمنين عزلك عن الرئاسة ولم يرك أهلاً لها". الفتوح، المجلد الثاني، ص194، ذكر الحكمين.

سبب عدم رضا الإمام (علیه السلام)بأبي موسى الاشعري

لما سمع أميرالمؤمنين (علیه السلام) بنقض الناكثين بيعته، بعث محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر إلى الكوفة لتعبئة أهلها. فلما وصلا إلى الكوفة أخذا يحثان الناس على نصرة أمير المؤمنين (علیه السلام). وعلى إثر هذه التعبئة العامة، ذهب بعض أهل الكوفة إلى أبي موسى الأشعري ليلاً وسألوه عما يجب عليهم فعله. فقال لهم: إن كنتم تريدون الآخرة فالزموا بيوتكم، وإن كنتم تريدون الدنيا فاذهبوا معهم. وبكلامه هذا، منع أبوموسى الأشعري الناس من نصرة أمير المؤمنين(علیه السلام) . ولما سمع محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بما قاله أبو موسى، غضبا غضباً شديداً. فقال لهما أبو موسى: واللّه إن بيعة عثمان في عنق علي وفي عنقي وعنقكما. وإذا كان لابد من القتال فقتال قتلة عثمان أولى. فخرجا من عنده وبعثا بخبره إلى الإمام علي (علیه السلام). يقول الشيخ المفيد، في سرد طويل، إن هاشم بن عتبة كان هو أول من بعثه الإمام (علیه السلام) إلى الكوفة، ويقول: بعد أن انطلق الإمام(علیه السلام) من المدينة، بعث إلى هاشم بن عتبة ثم أعطاه كتاباً وأرسله إلى الكوفة، وأمره أن يسلم الرسالة إلى أبي موسى ليقوم بتعبئة الناس إلى نصرة أمير المؤمنين (علیه السلام). ولكن حين سلّم هاشم بن عتبة رسالة الإمام (علیه السلام) إلى أبي موسى، قام أبو موسى بتمزيق الرسالة. ثم هدد هاشم بن عتبة بالحبس. فبعث هاشم بن عتبة تقريره إلى الإمام (علیه السلام) يصف فيه أباموسى بأنه عاص متشدد حاقد هدده بالحبس والقتل. هذا التصرف الذي صدر من أبي موسى تجاه رسول الإمام ورسالته يدل على أنه كان يبغض أمير المؤمنين (علیه السلام) بغضاً شديداً، وأن جميع المبررات التي ساقها لعدم المشاركة في الحرب كانت مجرد ذرائع كاذبة، وأن مخالفته الأمير المؤمنين كانت ناجمة عن بغضه وعداوته له. يروى في موضع آخر أن الإمام الحسن (علیه السلام) قال لأبي موسى بلحن اعتراضي: لمَ تُبعد الناس عنا؟ واللّه ما أردنا إلّا الإصلاح ولا ينبغي الخوف من مثل أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال أبو موسى: صدقت فداك أمي وأبي، ولكن المستشار أمين. لقد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) يقول : ستكون فتنة القاعد فيها خير من الواقف، والواقف فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب. لقد جعلنا اللّه إخوة وحرم علينا دماءنا وأموالنا وقال: ﴿ يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَلَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَرَةً عَن تَرَاضِ مِنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ وقال: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) فغضب

ص: 322

عمار من كلام أبي موسى فقام وقال: أيها الناس! إن النبي قال لأبي موسى خاصة: قعودك في وقت الفتنة خير من قيامك. ثم صعد أبو موسى الأشعري المنبر ووصف حرب الجمل بالفتنة ودعا الناس إلى اجتناب الدخول في هذه الحرب التي وصفها بأنها وسيلة لملء جيوب أناس قدموا من المدينة وأوقدوا نار الحرب. ثم طلب من الناس أن يأخذوا بكلامه من أجل صيانة دينهم ودنياهم. (1)

ص: 323


1- الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة، خطبة أبي موسى الأشعري ؛ شرح نهج البلاغة، ج14، ص9، ذيل الرسالة الأولى.

أخبار علي عند مسيره إلى البصرة ورسله إلى الكوفة

اضطرمت أجواء الكوفة نتيجة للخطب والكلمات التي ألقاها أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) والتي ألقاها أنصار أبي موسى الأشعري. وبعد العراقيل التي وضعها أبو موسى الأشعري في طريق التعبئة أبوموسى لأمير المؤمنين (علیه السلام) على يد الإمام الحسن (علیه السلام)، طلب عمار ومالك الأشتر من الإمام علي (علیه السلام)علم أن يأتي بنفسه إلى الكوفة لأن أهل الكوفة يطيعونه وهو قادر على تعبئتهم. وافق أمير المؤمنين على الطلب، فدخل مالك الأشتر الكوفة وأخذ يعبئ الناس وهو في طريقه إلى دار الإمارة. ثم اقتحم دار الإمارة بالقوة وبمساعدة الناس. فذهب أنصار أبي موسى إلى المسجد فوراً. وحين كان أبوموسى يخطب في الناس ويخذلهم عن نصرة أمير المؤمنين (علیه السلام)، وصلته أخبار اقتحام مالك الأشتر لدار الإمارة وضربه لأنصاره وطردهم من القصر. فنزل أبو موسى من المنبر ودخل القصر. فلما رآه مالك الأشتر صاح: اخرج من قصرنا لا أم لك! قتلك اللّه واللّه إنك من المنافقين منذ البداية. فاستمهله أبو موسى ليلة واحدة ليحزم أغراضه وأمتعته، فوافق مالك واشترط عليه أن يبقى خارج القصر. وهكذا تمت لملمة الفتنة في الكوفة والقضاء عليها وإنهاء ولاية أبي موسى الأشعري عليها بطريقة مذلة على يد مالك الأشتر. فتدفق الكثير من الناس يعلنون عن استعدادهم لنصرة أمير المؤمنين (علیه السلام). وتفيد التقارير التاريخية بأن جيشاً كبيراً تهيأ للتحرك صوب ذي قار لنصرة الإمام.(علیه السلام). (1)

ص: 324


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص 28، حوادث سنة 36 هجرية، ذكر الخبر عن مسير علي بن أبي طالب نحو البصرة.

تحذيرات الإمام (علیه السلام) وتوجهات الأشعث القبلية

عندما ضغط الناس على الإمام (علیه السلام) من أجل تعيين الحكم، قال (علیه السلام): إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص . وإنه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله، فعليكم بعبدالله بن عباس فارموه به فإن عمرواً لا يعقد عقدة إلاّ حلها عبدالله، ولا يحل عقدة إلّا عقدها، ولا يبرم أمراً إلّا نقضه، ولا ينقض أمراً إلّا أبرمه. فقال الأشعث: لا واللّه، لا يحكم فيها مضريان حتى تقوم الساعة. ولكن اجعله رجلاً من أهل اليمن إذ جعلوا رجلاً من مضر. فقال علي (علیه السلام) : إني أخاف أن يخدع يمنيّيكم. فإن عمرواً ليس من اللّه في شيء إذا كان له في أمر هوى. فقال الأشعث: واللّه لأن يحكما ببعض ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن، أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحب في حكمهما وهما مضريان . (1)

النقطة اللافتة للنظر في إصرار الأشعث هي روحه القبلي الذي استحوذ على فكره حتى لم يكن له من حجة على رفض اقتراح أمير المؤمنين (علیه السلام) إلّا كون عمرو بن العاص وعبدالله بن عباس من قبيلة واحدة، وأن الأفضل أن يكون كلٌ منهما من قبيلة ؛ أما ابن عباس، فلا يليق بالمهمة لأن وجهة نظره مطابقة لوجهة نظر الإمام (علیه السلام). يبدو أنه لم يكن للعقل والكفاءة مكان في حسابات هؤلاء الجهلة.

لقد حاول النبي (صلی اللّه علیه وآله) بكل جهده أن يفك عُقد الجمود الفكري من أذهان الناس، فنجح إلى حد كبير. ولكن ما إن ارتحل عن الدنيا حتى برزت التوجهات القبلية الموروثة من الجاهلية يعززها الأسلوب التربوي الخاطئ الذي اتبعه الخلفاء السابقون. لذا، عندما حاول أمير المؤمنين (علیه السلام) العمل وفق الكفاءات، تصدى لإصلاحاته أولئك الذين كانوا قد تربوا على مدرسة الحكام السابقين وتشربوا بها، فأصروا على إسناد المهمة إلى رجل لم يشم رائحة التدبير والسياسة، معرّضين مستقبل المجتمع الإسلامي إلى الخطر انطلاقاً من توجهاتهم القبلية وتعصباتهم العربية.

ص: 325


1- "لما أراد الناس علياً [ عليه السلام] على أن يضع حكمين، قال لهم علي (علیه السلام): إن معاوية ... مضريان". وقعة صفين، ص500، رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن.

لما رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) إصرار المخالفين، لم يجد أمامه إلّا أن يُشهد اللّه على ما يفعله وجماعة من جنوده وأن يتبرأ من تعيين أبي موسى حكماً، فقال (علیه السلام): أما وقد رفضتم تحكيم عبدالله بن عباس ومالك الأشتر فهل قد أبيتم إلّا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم. ثم قال: اللّهُمَ إنك تشهد أني بريء مما يعمل هؤلاء القوم ولا أرضى به. (1)

ص: 326


1- "قال علي: قد أبيتم ... أردتم". وقعة صفين، ص 500، رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص194، ذكر الجكمين.

مظلومية أمير المؤمنين (علیه السلام)

قمة مظلومية الإمام(علیه السلام) في أن يكون شخص كمعاوية، حراً تماماً في اختيار عمرو بن العاص من دون معارضة من أحد. في الوقت الذي يجد خليفة المسلمين بحقٍ نفسَه محروماً من حرية اختيار الحكم الذي يمثله، فضلاً عن رفض دعوته لمواصلة القتال، فيفرض عليه المنافقون والمندسون رجلاً يجاهر بعداوته له ولا يملك ما يؤهله للمهمة.

لقد أصر الإمام(علیه السلام) على موقفه واختيار ممثليه حتى اللحظة الأخيرة. ولكن إصرار مخالفيه أدى في النهاية إلى اختيار أبي موسى الأشعري ليكون حكماً.

كان أبوموسى، حينئذٍ، قد اعتزل حرب صفين وسكن مدينة بالشام اسمها "عُرض"، فتم

استدعاؤه إلى معسكر الإمام (علیه السلام) حسب رغبة الناس.

ص: 327

معارضة بعض القادة لتحكيم لأبي موسى

في تلك الأثناء جاء مالك الأشتر إلى الإمام (علیه السلام) مورجاه أن يبعثه حكماً ليتصدى لعمرو بن العاص، ولكن سبق السيف العذل ولم تجد توسلات مالك . (1)

وكان الأحنف بن قيس، خلافاً لأخيه الأشعث، معارضاً لتحكيم أبي موسى الأشعري. فجاء إلى الإمام (علیه السلام) وقال له : يا أمير المؤمنين! إنك قد رميت بحجر الأرض (ابتليت ببلاء شديد) ومن حارب اللّه ورسوله أنف الإسلام. وإني قد عجمت هذا الرجل، يعني أباموسى، وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر. وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلّا رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم منهم. فإن تجعلني حكماً فاجعلني، وإن أبيت أن تجعلني حكماً فاجعلني ثانياً أو ثالثاً. فإنه لا يعقد عقدة إلّا حللتها، ولن يحل عقدة إلّا عقدتها وعقدت لك أخرى أشد منها. فعرض ذلك على الناس (دون أن يقول للأحنف شيئاً) فأبوه (أباه أولئك المتحجرون أو الطابور الخامس الذين يبدو أنهم صاروا يتصرفون في الجيش كما يشاؤون) وقالوا: لا يكون إلّا أبا موسى. (2)

يقول نصر بن مزاحم: (أصرّ الأحنف بن قيس إصراراً شديداً على عدم ترشيح أبي موسى الأشعري وقال للإمام علي (علیه السلام): "فإن قلت إني لست من أصحاب الرسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فابعث رجلا من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) غیر عبدالله بن قيس (يعني أباموسى الأشعري) وابعثني معه. فقال علي: إن القوم أتوني بعبدالله بن قيس مبرنساً فقالوا: ابعث هذا فقد رضينا به واللّه بالغ أمره. وذكروا أن ابن الكوّاء

ص: 328


1- "فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل بأرض من أرض الشام يقال لها عرض واعتزل القتال. فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. قال: الحمد للّه رب العالمين. قال: وقد جعلوك حكماً . قال: إنا للّه وإنا إليه راجعون. فجاء أبو موسى حتى دخل عسكر علي وجاء الأشتر حتى أتى علياً (علیه السلام) فقال له: يا أمير المؤمنين! ألزني بعمرو بن العاص، فوالذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه". تاريخ الطبري، ج 2، ص 102، حوادث سنة 37 هجرية، ما روي من رفعهم المصاحف ودعائهم إلى الحكومة ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص387، حوادث سنة 37 هجرية، تتمة أمر صفين ؛ الأخبار الطوال، ص 286 ، تراسل علي وعمرو بن العاص.
2- "فجاء الأحنف بن قيس التميمي فقال: يا أمير المؤمنين! ... أبا موسى". وقعة صفین، ص 501، رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن ، ص 286، تراسل علي وعمرو بن العاص.

قام إلى علي فقال: هذا عبدالله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وصاحب مقاسم أبي بكر وعامل عمر، وقد رضي به القوم. وعرضنا على القوم عبدالله بن عباس فزعموا أنه قريب القرابة منك ظنون في أمرك .(1)

يمكن التوصل، من مجمل النصوص التاريخية، إلى أن أباموسى الأشعري لم يكن، بأي شكل من الأشكال، ممثلاً لأمير المؤمنين (علیه السلام)؛ فقد كان معادياً له ولا يؤمن به أبداً. لهذا السبب، كان البصيرون من أصحاب الإمام (علیه السلام) على يقين من الهزيمة الحتمية الجيش الإمام (علیه السلام) عبر التحكيم. ويؤكد أمير المؤمنين (علیه السلام) في بعض كلامه على هذه النقطة حيث يقول: ألا وإن القوم (الشاميين) اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبون ،وإنكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون. وإنما عهدكم بعبدالله بن قيس بالأمس يقول : إنها فتنة فقطعوا أوتاركم وشيموا سيوفكم. فإن كان صادقاً فقد أخطأ بسيره غير مستكره ، وإن كان كاذباً فقد لزمته التهمة. فادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبدالله بن العباس وخذوا مهل الأيام وحوطوا قواصي الإسلام. ألا ترون إلى بلادكم تُغزى وإلى صفاتكم (بيوتكم) ترمى(2)

ص: 329


1- فإن قلت: إني ... أمرك". وقعة صفين، ص 502، رضا قراء الشام والعراق بحكم القرآن.
2- نهج البلاغة الخطبة .238

ص: 330

الفصل السادس

اشارة

ص: 331

ص: 332

التحكيم

رأينا في الفصول السابقة كيف تعرض جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى التشتت والفرقة متأثراً بخدعة عمرو بن العاص، وكيف رضي بالتحكيم في الوقت الذي كان قاب قوسين أو أدنى من النصر النهائي على عدوه الذي تدرّع بالقرآن وهو لا يفقه منه شيئاً. وهكذا، فرض جيش العراق على أمير المؤمنين(علیه السلام) أباموسى الأشعري ليكون حكماً عنهم، بينما رشح جيش الشام عمرو بن العاص حكماًعنهم. فألقى الجنود السلاح واجتمع كبراء القوم من الطرفين في موضع ما.

ص: 333

تكرر التاريخ

بعد أن اجتمع الوفدان، تمت دعوة عبيدالله بن أبي رافع، مولى رسول اللّه(صلی الّه علیه وآله) وكاتب الإمام علي (علیه السلام) ليقوم بتدوين مقررات التحكيم. (1)

قال أمير المؤمنين (علیه السلام) العبيد اللّه بن أبي رافع: اكتب: هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.

لما رأى معاوية ذلك قال للأشعث بن قيس: بئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته. وقال عمرو (بن العاص): اكتب اسمه واسم أبيه. إنما هو أميركم، وأما أميرنا فلا . فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه.

(فلما واجه الإمام (علیه السلام) رفض أهل الشام، أمر بمحو عبارة "أمير المؤمنين" فاعترض بعض أصحاب الإمام(علیه السلام)) فقال الأحنف بن قيس (مخاطباً الإمام(علیه السلام)): لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك، فإني أتخوف إن محوتها ألّا ترجع إليك أبداً. لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ملياً النهار أن يمحوها. ثم إن الأشعث بن قيس جاء فقال (بشدة): امح هذا الاسم! فقال علي (علیه السلام): لا إله إلّا اللّه واللّه أكبر، سنة بسنة، أما واللّه لعلى يدي دار هذا يوم الحديبية حين كتبت الكتاب عن رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) : و هذا ما تصالح عليه محمد رسول اللّه وسهيل بن عمرو، فقال سهيل: لا أجيبك إلى كتاب تسمي (هكذا، ربما تسمى: م [فيه] رسول اللّه. ولو أعلم أنك رسول اللّه لم أقاتلك، إني إذن ظلمتك إن منعتك أن تطوف ببيت اللّه وأنت رسول اللّه، ولكن اكتب: محمد(صلی اللّه علیه وآله) أجبك. فقال محمد(صلی اللّه علیه وآله) : يا علي إني لرسول اللّه وإني لمحمد بن عبدالله، ولن يمحو عني الرسالة كتابي إليهم من محمد بن عبدالله فاكتب: محمد بن عبدالله. فراجعني المشركون في هذا إلى مدة.

ص: 334


1- الفتوح، المجلد الثاني، ص197، ذكر كتبة كتاب الصلح بينهم وما جرى في ذلك.

فاليوم أكتبها إلى أبنائهم كما كتبها رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) إلى آبائهم سنة ومثلاً. فقال عمرو بن العاص: سبحان اللّه، ومثل هذا شبهتنا بالكفار ونحن مؤمنون. (1)

فقال له الإمام (علیه السلام): يا ابن النابغة ! لو لم تكن للمشركين ولياً وللمؤمنين عدواً لم تكن في الضلالة رأساً وفي الإسلام ذنباً. أولست ممن قاتل محمد (صلی اللّه علیه وآله) و فتن امته من بعده؟ أولست الأبتر ابن الأبتر عدو اللّه و رسوله (صلی اللّه علیه وآله) و عدو أهل بيت رسول له ؟ قم من ههنا يا عدو اللّه! فليس هذا بموضع يحضره مثلك . (2)

فقال عمرو بن العاص : واللّه لا جمعنا مجلس بعد الآن. فقال الإمام (علیه السلام): أرجو أن يظهر اللّه عليك وعلى أصحابك ويغلب.

فخرج من جند العراق المسلحين فقالوا: يا أمير المؤمنين! ائذن لنا أن نفعل ذلك بهم! وقال ابن حنيف مخاطباً الناس: أيها الناس! اتهموا رأيكم (أعيدوا النظر في أفكاركم وآرائكم). فوالله، لقد كنا مع رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) يوم والحديبية ولا نرى قتالاً لقاتلنا وذلك في الصلح الذي صالح عليه النبي (صلی اللّه علیه وآله). فدعوا الحدة والانفعالات واقبلوا الصلح. (3)

ص: 335


1- "هذا ما تقاضى عليه .... ونحن مؤمنون". وقعة صفين، ص 508 ، الخلاف عند كتابة الوثيقة ؛ الكامل في التاريخ، ج2، ص 388، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر تتمة أمر صفين ؛ الفتوح، المجلد الثاني، ص197، ذكر كتبة كتاب الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
2- "قال: يا ابن النابغة! ... مثلك". الفتوح، المجلد الثاني، ص197، ذكر كتبة كتاب الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
3- فقال لهم ابن حنيف: ..... النبي". وقعة صفين، ص 509 ، الخلاف عند كتابة الوثيقة.

بعض أصحاب الإمام (علیه السلام)يعلنون وفاءهم

لطالما صرّح أمير المؤمنين (علیه السلام) وأصحابه في حرب صفين بكفر زعماء الشام في خطبهم، وبينوا أنهم خارجون من دائرة الإسلام.

نتيجة لكلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) وتصريحه بكفر قادة أهل الشام، دبت حركة جديدة في صفوف بعض أصحابه المخلصين، فأعلنوا استعدادهم لمحاربة الكفار. فقد خرج جماعة وأعربوا للإمام (علیه السلام) طاعتهم وتبعيتهم له. من هؤلاء:

1- عبدالله بن خباب وكان من الفرسان الأبطال وكان له فضل في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام). فقد قال له: يا أمير المؤمنين! إنك أمرتنا يوم الجمل بأمور مختلفة كانت عندنا أمراً واحداً، فقبلناها منك بالتسليم منا لأمرك. وهذه من تلك الأمور، ونحن اليوم أصحابك أمس، وأراك كارهاً لهذه القضية. وأيم اللّه ما المكثر المنكر بأعلم من المقتر المقل. وقد كانت الحرب أخذت بأنفاس هؤلاء القوم فلم يبق منهم إلّا رجاء ضعيف وصبر مستكره. فاستغاثوا بالمصاحف وفزعوا إليها من حر أسنتنا وحدّ سيوفنا، فأجبتهم إلى ما دعوك إليه. فأنت أولنا إيماناً وآخرنا عهداً بنبينا محمد(صلی اللّه علیه وآله) وإلا فهذه سيوفنا في رقابنا ورماحنا في أكفنا وقلوبنا في أجوافنا، وقد أعطيناك تبعتنا غير مستكرهين، والأمر إليك، والسلام. (1)

2. صعصعة بن صوحان: قام بعد عبدالله بن خباب وأعلن طاعته التامة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه قد شرحت الطاعة قلوبنا ونفدت (هكذا، ربما نفذت: م) في جهاد عدونا بصائرنا، وأنت الوالي المطاع ونحن الرعية الأتباع. وأنت أعلمنا بربنا وخيرنا في ديننا وأعظمنا حقاً فينا وسيدنا بعد نبينا (صلی اللّه علیه وآله) وأقاربنا منه قرابة. فصلى اللّه عليه ورضي عنك، فانفذ لرأيك نتبعه. وإن أبيت هذه القضية فلا ضيم عليك ولا خذل. ولو عصاك الناس كلهم لأطعناك.

ص: 336


1- "فقال عبد اللّه بن خباب .. والسلام". الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.

فإن أجبت إلى ما دعيت إليه فنحن لك على السمع والطاعة إلى ما أمرت. فاستخر اللّه واعزم على ما عزم عليه رأيك، والسلام.

(قال): فسر علي (علیه السلام) بقوله وأثنى عليه خيراً . (1)

3. المنذر بن الجارود العبدي :(2) وكان من أصحاب الإمام(علیه السلام). قال له: يا أمير المؤمنين! إننا قد سمعنا مقال معاوية وعمرو بن العاص، غير أنه إذا جاء أمر لا يدفع فامتثل الأمر فيه الرضا (وقع ما لابد من الرضا به). وقد كنا نرى أن ما زادنا من هؤلاء القوم نفعهم وما نفعنا ضرهم. وإن في ذلك أمرين ؛ تعجيل هوىً أو تأخير مساءة، إلى ( هكذا: م) أن ترى غير ذلك. فإن رأيته ففينا من البقية ما تفل له الحد وترد به الكلب، وليس لنا معك إصدار ولا إيراد، والسلام .(3)

4. الحارث بن مرة: وكان من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام). قام فأعلن عن وفائه له فقال: يا أمير المؤمنين! إن منا من يقول ما لا يفعل ومنا من يهوى ما لا يستطيع، وليس ينفعك إلّا من فعل واستطاع، وقد واللّه ذهب الفاعل وضعف المستطيع ولسنا نحرك من شيء إن كنت قاتلت معاوية اللّه وقاتلك للدنيا، فقد واللّه بلغ أهل الدين من الدنيا حاجتهم. وإن كانوا بلغوا منا دون ما بلغنا منهم. فإن كنت كرهت هذه القضية وأردت قتالهم، فمن مضى بمن مضى ومن بقي بما بقي (لا يهم ما مضى ونحن على استعداد للعودة إلى قتالهم)، والسلام.(4)

5. عبدالله بن سوار: خاطب الإمام(علیه السلام) قائلاً: يا أمير المؤمنين! واللّه إننا لنعلم أنك ما أوردت ولا أصدرت إلاّ ومعك من اللّه عزّ وجلّ برهان وحجة. ونحن ممن يأمر ولا يؤمر عليه، فإن كنت

ص: 337


1- "ثم وثب صعصعة بن صوحان العبدي فقال: يا أمير المؤمنين! ... والسلام". الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
2- المنذر بن الجارود العبدي كان من الذين ولاهم أمير المؤمنين بعض المناطق، ولكنه خانه للأسف الشديد. بعث الإمام (علیه السلام) ذمه فيها ومدح أباه الذي كان صالحاً. بسبب خيانته، عاقبه أمير المؤمنين (عليه السلام) بغرامة مقدارها ثلاثون ألف درهم أو دينار ثم سجنه. قاموس الرجال، ج 10، ص 242، ترجمة المنذر بن الجارود، الرقم 7734.
3- "ثم تكلم المنذر بن الجارود العبدي فقال: يا أميرالمؤمنين! ... والسلام" الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
4- "ثم وثب الحارث بن مرة فقال: يا أمير المؤمنين .. والسلام". الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.

عزمت لم تفل، وإن كنت لم تعزم فالمشورة اللّه رضا، وليس أول الأمر كآخره لأنه قد نكدر (هكذا، ربما تكدر: م) صفونا وقل جدنا وذهب أهل البصيرة والصبر منا وبقي أهل الشك والعلل. وفينا أئمة جور ورجال هدى وهم قليل، والأمر إليك. (1)

6 . مالك الأشتر : أزعجه كلام عبدالله بن سوار. فإنه بالرغم من احتوائه على الإشارة إلى بعض الحقائق الموجودة في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)، فقد كان - في الوقت نفسه - يحمل شحنة يأس من الانتصار على جيش الشام. فغضب وحاول إزالة الضعف من جيش العراق في مواجهة جيش الشام، فنهض قائلاً: يا ابن سوار! ما هذا الكلام الضعيف والرأي السخيف؟ اسكن ودعني أكلم أمير المؤمنين: إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولك عند اللّه الخلف. ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا نظرك، وقد بلغ الحق مقطعه. وليس لنا معك رأي، فإن أجبت إلى هذه القضية فأنت الإمام الرشيد والبطل المجيد. وإن أبيت ذلك فاقرع الحديد على الحديد واستعن باللّه العزيز الحميد.(2)

من الواضح أن عدد الرافضين للتحكيم والمدركين لخدعة معاوية في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) كان كبيراً. فأمثال عمرو بن الحمق الخزاعي وعدي بن حاتم ومالك الأشتر النخعي أعلنوا رفضهم اللحظات الأولى لرفع المصاحف. بينما أعلن آخرون استعدادهم لمواصلة القتال بعد أن انكشف لهم نفاق قادة جيش الشام. كما أن أشخاصاً آخرين أمثال شريك بن عبدالله الهمداني والأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي (3) انتقدوا التحكيم. غير أن الأهم في القضية أن جذور النفاق توغلت في أرضية جيش الإمام(علیه السلام) . وكان أصحاب تلك الجذور المؤيدون للتحكيم أقوياء مؤثرين. ونتيجة لكل هذه الأوضاع وجد الإمام (علیه السلام) نفسه مضطراً لقبول التحكيم.

ص: 338


1- "ثم أقبل عبد اللّه بن سوار على علي (علیه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين! ... والأمر إليك". الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
2- "فوثب الأشتر مغضباً ثم قال: يا ابن سوار! ... الحميد". الفتوح، المجلد الثاني، ص198، ذكر كتبة الصلح بينهم وما جرى في ذلك.
3- "سار علي (علیه السلام) في خمسين ومائة ألف من أهل العراق وقد خنست طائفة من أصحاب علي (علیه السلام) ". وقعة صفين، ص156، صفة الجيشين.

إحصائية عامة عن حرب صفين

قبل الدخول في تفاصيل التحكيم، لابد من عرض بعض البيانات الخاصة بحرب صفين.

تراوح عدد جنود جيش الإمام علي (علیه السلام)بين مائة وخمسين ألفاً (1)وخمسة وتسعين ألفا (2)وتسعین ألفا (3)وسبعین إلفا (4) . بينما تراوح جيش معاوية كذلك بين مائة وخمسين ألفاً (5) ومائة وعشرين ألفاً(6)وخمسة وثمانين ألفاً . (7)

أما الخسائر، فعليها اختلاف كبير بين المؤرخين. حيث تتراوح خسائر جيش العراق المقدرة بين عشرين ألفاً (8) وخمسة وعشرين ألفاً. أما خسائر جيش الشام فتتراوح في تقديرات المؤرخين بين خمسة وأربعين ألفاً (9)وتسعين ألفاً .(10) ويقول خليفة بن خياط إن مجموع قتلى الجيشين بلغ ستين

ص: 339


1- "خرج علي بن أبي طالب (علیه السلام)من الكوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين ألفاً. العقد الفريد، ج4، ص337، يوم صفين.
2- الفتوح، المجلد الأول، ص 564 ، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي (علیه السلام)
3- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 415، مسيره إلى صفين.
4- "نحن نذهب إلى أن عدد من حضر الحرب من أهل الشام بصفين أكثر مما قيل في هذا الباب وهو خمسون ومائة ألف مقاتل، سوى الخدم والأتباع". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، س437، عدد قتلى صفين.
5- اجتمعت إليه العساكر من أطراف البلاد فصار في عشرين ومائة ألف". الفتوح، المجلد الأول، ص 557، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي (علیه السلام).
6- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 415 ، مسيره إلى صفين ؛ العقد الفريد، ج 4، ص 337، يوم صفين. ويقول ابن أعثم إن عدد مقاتلي جيش معاوية كان ثلاثة وثمانين ألفاً.
7- ذكر أحمد بن الدورقي عن يحيى بن معين أن عدة من قتل بها من الفريقين في مائة يوم وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آلاف من الناس ؛ من أهل الشام تسعون ألفاً ومن أهل العراق عشرون ألفاً مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 436 ، عدد قتلى صفين.
8- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص388، قتلى صفين وأيامها.
9- نفسه، ص 436 ، عدد قتلى صفين.
10- تاريخ خليفة بن خياط، ص117 ، تفصيل خبر صفين ؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص 545، سنة سبع وثلاثين.

ألفاً، دون تحديد حصة كل جيش. (1)في حين يذكر يحيى بن معين أن مجموع القتلى زاد على مائة وعشرة آلاف. (2)

على أن الكثير من صحابة رسول اللّه( صلى اللّه عليه وآله) شهدوا هذه الحرب مع أمير المؤمنين (علیه السلام).

فإذا نظرنا إلى القضية من مبنى عدالة الصحابة، فإن وجود عدد كبير من الصحابة في الجبهة العلوية لابد أن يدل على حقانية الإمام (علیه السلام) في هذه الحرب، وعلى بطلان الجبهة الأموية وضلالتها. من أولئك الصحابة عمار بن ياسر الذي يعرف منزلته حتى معاوية ويتبرأ من عار قتله ويرمي به أمير المؤمنين (علیه السلام). كان معاوية يدرك أن عماراً ليس فرداً بل جيش بأكمله، يتبعه الصحابة أينما حلّ. (3) يقول خليفة بن خياط: شهد صفين مع الإمام علي (علیه السلام) ثمانمائة ممن بايع النبي (صلی اللّه علیه وآله) بيعة الرضوان استشهد منهم ثلاثةوستون. (4)

ويقول سعيد بن جبير: كان مع علي(علیه السلام) يومئذ ثمانمائة رجل من الأنصار وتسعمائة ممن بايع تحت الشجرة.

ص: 340


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص436، عدد قتلى صفين.
2- "روى الأعمش عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: شهدنا مع علي (علیه السلام)صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا وادٍ من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد يتبعونه (صلی اللّه علیه وآله)". الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص229، ترجمة عمار بن ياسر، الرقم 1883.
3- "عبدالرحمن بن أبزي عن أبيه قال: شهدنا مع علي ثمان مائة ممن بايع بيعة الرضوان ،قتل منا ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر". تاريخ خليفة بن خياط، ص118، تفصیل خبر صفين ؛ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص545، سنة سبع وثلاثين.
4- قال سعيد بن جبير .. الشجرة. قال الحكم بن عتيبة .. الشجرة. قال سليمان بن مهران الأعمش .... محمد". الفتوح، المجلد الأول، ص 564 ، ذكر خروج معاوية من الشام إلى صفين لحرب علي [عليه السلام].

ويقول الحكم بن عتيبة: شهد مع علي (علیه السلام) يومئذ ثمانون بدرياً وخمسون ومائتان ممن بايع تحت الشجرة. وقال سليمان بن مهران الأعمش : كان مع على(علیه السلام) يومئذٍ ثمانون بدرياً وثمانمائة من (1) أصحاب محمد (صلی اللّه علیه وآله)

شهد صفين أشخاص بارزون أمثال عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت (2)وأويس القرني(3) وأبوعمرة الأنصاري وعبدالله بن بديل وهاشم المرقال ومالك بن التيهان وجندب بن زهير، واستشهدوا فيها.

ص: 341


1- خزيمة بن ثابت أحد صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وأمير المؤمنين (علیه السلام) المخلصين. شهد بدراً والغزوات التي تلتها مع النبي (صلی اللّه علیه وآله) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص31، ترجمة خزيمة بن ثابت الرقم 663 . يقال في سبب تسميته بذي الشهادتين إن النبي (صلی اللّه علیه وآله) اشترى جواداً من أعرابي. ولما قبض الأعرابي ثمنه من النبي(صلی اللّه علیه وآله)، أنكر البيعة وقال : هل لك شاهد؟ ولم يكن قد شهد البيعة أحد. فنهض خزيمة وشهد على البيعة. فاعتبر النبي (صلی اللّه علیه وآله) و شهادته شهادتين وسماه ذاالشهادتين. قال النبي (صلی اللّه علیه وآله) الخزيمة: كيف شهدت على البيعة ولم تشهدها؟ فقال: لقد صدقناك في أمور السماء فكيف لا نصدقدك في أمور الأرض؟ كلامه هذا دليل على خالص إيمانه واعتقاده برسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) . الطبقات الكبرى، ج 4، ص 378 - 380 ، ترجمة خزيمة بن ثابت. شهد كذلك صفين. نزل إلى الميدان بعد استشهاد عمار بن ياسر فقاتل حتى استشهد الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج2، ص31، ترجمة خزيمة بن ثابت، الرقم 663. لما صعد الإمام علي (علیه السلام) المنبر وجاء الناس لمبايعته، وقف خزيمة إلى جوار المنبر وقال شعراً معناه: إنا لا نخشى الفتن. فإن وقعت فإننا نعلم أي طريق نسلك منها. إن الذي على المنبر الآن هو أولى بالناس من أنفسهم وأعلمهم بالكتاب والسنة. وهو أول من صلى. المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 124 ، كتاب معرفة الصحابة، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، الحديث 4595 ؛ الفتوح، ج 2، ص 451، ذكر وقعة الجمل. يقول اليعقوبي إنه بعد مقتل عثمان، لما جاء الناس يبايعون أمير المؤمنين، قام خزيمة فقال: إنا لا نرى أحداً أحق بها منك. فلو صدقنا أنفسنا وقلنا الحق فلابد من أن نقول إن أول الناس إيماناً وأعلمهم وأقربهم إلى رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله).هو أنت ،كل ما عندي هو أن فيك ما في الناس من فضائل وليس فيهم ما فيك . تاريخ اليعقوبي، ج2، ص179، خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. كان من بين الاثني عشر رجلاً شهدوا في الرحبة على بيعة الغدير. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 465، ترجمة عبدالرحمن بن عبد ربّ الأنصاري، الرقم 3347. يقول نوف البكالي: قال الإمام علي(علیه السلام) في أواخر أيامه سنة 40 للهجرة في الكوفة: أين إخوتنا الذين ساروا في طريق الحق وذهبوا من الدنيا على الحق؟ أين عمار؟ أين ابن التيهان؟ أين ذوالشهادتين؟ نهج البلاغة الخطبة 181.
2- روى الأصبغ بن نباتة: كنا في جيش علي (علیه السلام) في حرب صفين فبايعه تسعة وتسعون رجلاً ؛على الموت. فقال أميرالمؤمنين ل: فأين متمم المائة؟ لقد وعدني رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل. فلم يلبث أن دخل علينا رجل عليه ثياب صوف بسيطة يحمل سيفين فقال لأمير المؤمنين (علیه السلام): امدد يدك أبايعك! فقال أمير المؤمنين(علیه السلام) : علام تبايعني؟ فقال أويس: أبايعك على الموت. اختيار معرفة الرجال، ج1، ص 315 ، خزيمة بن ثابت وكيفية تلقبه بذي الشهادتين.
3- "كان ممن شهد صفين مع علي (علیه السلام) من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً ؛ منهم سبعة عشر من المهاجرين وسبعون من الأنصار. وشهد معه من الأنصار ممن بايع تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) تسعمائة . وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص389، قتلى صفين وأيامها.

يقول المسعودي أنه كان مع أمير المؤمنين ألفان وثمانمائة من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حين لم يكن في الجبهة المقابلة من الأنصار ، غير مسلمة بن مخلد والنعمان بن بشير. (1)

وعن فترة بقاء جيش العراق بصفين، يقول ياقوت الحموي إنها بلغت 110 يوماً. (2)

ص: 342


1- معجم البلدان، ج 3، ص 414 ، باب الصاد والفاء وما يليهما.
2- وقعة صفين، ص 505 - 506 ، وثيقة التحكيم ؛ الأخبار الطوال، ص 287 ، وثيقة التحكيم ؛ شرح نهج البلاغة، ج2، ص 234، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

وثيقة التحكيم

بعد محو عنوان "أمير المؤمنين من الوثيقة، توافق الفريقان على النص التالي: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب اللّه وسنة نبيه(صلی اللّه علیه وآله) قضية علي على أهل العراق ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب، وقضية معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعته من شاهد أو غائب:

- إنا رضينا أن ننزل عند حكم القرآن فيما حكم وأن نقف عند أمره فيما أمر، وإنه لا يجمع بيننا إلّا ذلك، وإنا جعلنا كتاب اللّه فيما بيننا حكماً فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. على ذلك تقاضينا وبه تراضينا.

- وإن علياً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبدالله بن قيس (أباموسى الأشعري) ناظراً ومحاكماً، ورضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظراً و محاكماً.

- على أنهما أخذوا عليهما عهد اللّه وميثاقه وأعظم ما أخذ اللّه على أحد من خلقه ليتخذان الكتاب إماماً فيما بعثا له لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وجداه فيه مسطوراً، وما لم يجداه مسمىٌ في الكتاب ردّاه إلى سنة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) الجامعة لا يتعمدان لها خلافاً ولا يتبعان في ذلك لهما هوىً ولا يدخلان في شبهة.

- وأخذ عبدالله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد اللّه وميثاقه بالرضا بما حكما به من كتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه علیه وآله) وليس العمل لهما أن ينقضا ذلك ولا يخالفاه إلى غيره.

- وإنهما (أباموسى وعمرواً) آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق، رضي بذلك راض أو أنكره منكر.

- وإن الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل.

ص: 343

فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة، فأمير شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلاً لا يألون على أهل المعدلة والإقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق والحكم بكتاب اللّه وسنة رسوله (صلی اللّه علیه وآله)، وله مثل شرط صاحبه.

- وإن مات أحد الأميرين ( علي ومعاوية) قبل القضاء، فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله.

- وقد وقعت القضية ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والسلام والموادعة.

- وعلى الحكمين عهد اللّه وميثاقه ألّا يألوا اجتهاداً ولا يتعمدا جوراً ولا يدخلا في شبهة ولا يعدوا حكم الكتاب وسنة رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله). فإن لم يفعلا برئت الأمة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة.

- وقد وجبت القضية على ما قد سمي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين والحكمين والفريقين، واللّه أقرب شهيداً وأدنى حفيظاً.

- (على علي ومعاوية التقيد بمفاد الوثيقة) والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل. والسلاح موضوع والسبل مخلاة (الطرق آمنة) والغائب والشاهد من الفريقين سواء في الأمن.

- وللحكمين أن ينزلا منزلاً عدلاً بين أهل العراق وأهل الشام ، ولا يحضرهما فيه إلّا من أحبا عن ملأ منهما وتراض.

- وإن المسلمين قد أجّلوا القاضيين إلى انسلاخ رمضان. فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له، عجّلاها. وإن أرادا تأخيرها بعد رمضان إلى انقضاء الموسم، فإن ذلك إليهما.

-فإن هما لم يحكما بكتاب اللّه وسنة نبيه (صلی اللّه علیه وآله) إلى انقضاء الموسم، فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب، ولا شرط بين واحد من الفريقين.

ص: 344

- وعلى الأمة عهد اللّه وميثاقه على التمام والوفاء بما في هذا الكتاب، وهم يد على من أراد فيه إلحاداً وظلماً أو حاول له نقضاً. ثم وقّع على الوثيقة نحو سبعة وعشرين رجلاً من أصحاب الإمام علي(علیه السلام) وثلاثة وثلاثين من أنصار معاوية .(1)

ص: 345


1- الفتوح المجلد الثاني، ص 202، ذكر أول من يسري من أصحاب علي بن أبي طالب [عليه السلام].

أول معارضة لنص الوثيقة

أول من عارض التحكيم ومحتوى الوثيقة وتبرأ من أمير المؤمنين(علیه السلام) ومعاوية، كان رجلاً من جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) من قبيلة "ربيعة". فقد قام وارتجز ووصف الجانبين بالضلال وعزل الإمام علياً (علیه السلام) ومعاوية من الخلافة وتبرأ منهما وأعلن أن التحكيم للّه وحده. ثم هاجم جيش العراق ثم جيش الشام حتى انتهى به الأمر قتيلاً . (1)

بعد التوقيع على وثيقة التحكيم، أخذها الأشعث بن قيس وقرأها على جنود الإمام علي(علیه السلام) وعلى جيش الشام، فوافق عليها أنصاره. غير أن رجلين من قبيلة "عنزة" المؤلفة من أربعة آلاف شخص اسم أحدهما معدان واسم الآخر جعد هتفا بشعار "لا حكم إلّا للّه" معربين عن معارضتهما للتحكيم ثم هاجما جيش معاوية فقتلا بعد قتال.

بعد ذلك، قرأ الأشعث بن قيس نص الوثيقة على قبيلة المراديين. فأنشد صالح بن شقيق، وكان

أحد رؤساء القبيلة ، في معارضة التحكيم شعراً قال فيه:

ما لعلي في الدماء قد حكم *** لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم

(لو أن علياً واصل الحرب يوماً آخر ولم يرضخ للتحكيم لما كان ظالماً). ثم هتف "لا حكم إلّا للّه" معبّراً عن معارضته.

ص: 346


1- "أن الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس ويعرضه عليهم ويمر به على صفوف أهل الشام وراياتهم، فرضوا بذلك. ثم مرّ به على صفوف أهل العراق وراياتهم يعرضه عليهم، حتى مرّ برايات عنزة وكان مع علي من عنزة بصفين أربعة آلاف مجفف. فلما مرّ بهم الأشعث فقرأه عليهم ، قال فَتَيان منهم: لا حكم إلّا للّه. ثم حملا على أهل الشام بسيوفهما [ فقاتلا] حتى قتلا على باب رواق معاوية. وهما أول من حكم واسماهما معدان وجعد أخوان. ثم مرّ بها على مراد، فقال صالح بن شقيق، وكان من رؤسائهم: ما لعلي في الدماء قد حكم ... لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم، لاحكم إلّا للّه ولو كره المشركون. ثم مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم فقالوا: لا حكم إلّا للّه، لا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين اللّه. ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم فقال رجل منهم: لا حكم إلّا اللّه، يقضي بالحق ...س. فنقتلهم". وقعة صفين، ص512، الخلاف في التحكيم.

وقرأ الأشعث بن قيس الوثيقة على التميميين، فقام رجل وقال: لا حكم إلّا للّه، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين. ثم قال عروة بن أديّة: أتحكّمون الرجال في أمر اللّه؟ لا حكم إلّا للّه. فأين قتلانا يا أشعث ؟ ثم شدّ بسيفه ليضرب به الأشعث فأخطأه وضرب به عجز دابته ضربة خفيفة، فاندفع به الدابة وصاح به الناس أن أمسك يدك فكفّ، ورجع الأشعث إلى قومه، فأتاه ناس كثير من أهل اليمن. فمشى إليه الأحنف بن قيس ومعقل بن قيس ومسعر بن فدكي ورجال من بني تميم، فتنصلوا إليه واعتذروا. فقبل منهما الأشعث فتركهم، وانطلق إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! قد عرضت الحكومة على صفوف أهل الشام وأهل العراق فقالوا جميعاً: قد رضينا. حتى مررت برايات بني راسب ونبذ من الناس سواهم، فقالوا: لا نرضى، لا حكم إلّا للّه. فلنحمل بأهل العراق وأهل الشام عليهم فنقتلهم.

ادّعى الأشعث، في تقريره، أن عدد معارضي التحكيم قليل لا يتعدى عدد الأصابع. ولكن ما لبث أن انتشر شعار "لا حكم إلّا للّه" الخلّاب في ظاهره، فرفعه عدد كبير من المقاتلين الذين اعتبروا أن الحكم للّه وحده ورفضوا التحكيم واعتقدوا أن اللّه أصدر حكمه في معاوية وأنصاره وأنه لابد من مقاتلتهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه.

هذه المجموعة، التي قبلت التحكيم منذ البداية وأجبرت الإمام على (علیه السلام) القبول به، كانت تعتقد أن الموافقة الأولية على التحكيم كانت نوعاً من الانسحاب من قبلهم وأنها قد خالفت الشرع بذلك ثم ندمت على فعلتها، وأن على الإمام (علیه السلام) أن يتوب من قبول التحكيم أيضاً.

أولئك هم الذين كانوا قد سلوا سيوفهم بوجه الإمام (علیه السلام) وأرغموه على وقف القتال. لقد خدعهم معاوية برفع المصاحف فهددوا بقتل الإمام (علیه السلام)كما قتل عثمان إن لم يستجب لمطلب أهل الشام. هم أنفسهم عادوا فأحاطوا بالإمام وطلبوا منه أن يتوب وينقض وقف القتال ويعلن الحرب مرة أخرى.

بالأمس كانوا يقولون للإمام: إن لم تستدع مالك الأشتر ولم تعلن وقف القتال، فسنقتلك. ولم تلق نداءات مالك الأشتر واستمهالهم ساعة واحدة منهم آذاناً صاغية. كما لم يأبهوا لتحذيرات الإمام عليه من مكر عمرو بن العاص وخدعة رفع المصاحف. ولم توقظ قلوبهم الميتة كلمة أمير

ص: 347

المؤمنين (علیه السلام) حين قال بحرقة: "لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً،" ولم تعدهم إلى الشعور بالمسؤولية. وهاهم اليوم يعودون إلى صنع الفتنة بطلبهم نقض وقف القتال ومواصلة الحرب على أهل الشام ومعاوية، معتبرين ذلك حكم اللّه وأمره في أهل الشام.

تحيّر الإمام (علیه السلام) في مواجهة الكلام المتضارب لعمي القلوب الأشقياء، فقال: هل يليق بنا أن ننقض الميثاق بعد إمضائه؟ أليس اللّه يوجب الوفاء بالعهد، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الْأَيْمَنَ بَعْدَ تَوَكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )؟(1) إن القواعد الأخلاقية والتعاليم القرآنية القاضية بوجوب الوفاء بالعهد هي التي منعت الإمام (علیه السلام) من نقض العهد. بالمقابل، طعن هؤلاء بالتحكيم واعتبروه خلافاً للشرع وتبرأوا من الإمام(علیه السلام).

ص: 348


1- النحل: 91.

ندم سعيد بن قيس على التحكيم

بعد أن خُدع الجيش العراقي بحيلة معاوية وعمرو بن العاص وطالبوا بوقف القتال، قال الإمام (علیه السلام): إنما فعلت ما فعلت لما بدا فيكم الخور والفشل، هما الضعف. فجمع سعيد بن قيس قومه ثم جاء في رجراجة من همدان كأنها ركن حصير، يعني جبلاً باليمن، فيهم عبدالرحمن غلام له ذؤابة. فقال سعيد (للإمام (علیه السلام)): ها أنذا وقومي، لا نرادك ولا نرد عليك، فمرنا بما شئت!

قال الإمام (علیه السلام): أما لو كان هذا قبل رفع المصاحف لأزلتهم عن عسكرهم أو تنفرد سالفتي قبل ذلك. ولكن انصرفوا راشدين، فلعمري ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس. (1)

ص: 349


1- "لما تداعى الناس إلى الصلح بعد رفع المصاحف، قال علي: إنما فعلت ... للناس". وقعة صفين، ص520، رفض علي ما عرضه سعيد بن قيس.

خطبة الإمام بعد وقف القتال

كان موقف الإمام (علیه السلام)واضحاً وحازماً قبل الصلح وبعده، ولم يغير موقفه من أهل الشام أبداً. وكان يعتقد دائماً بلزوم تخليص الإسلام والمسلمين من تلك الغدة السرطانية. فكان دائم التذكير بها والتحذير منها. ولعل أفضل شاهد على ذلك خطبته بعد وقوع الصلح، إذ قال: (أيها الناس!) إن هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ولا ليجيبوا إلى كلمة السواء حتى يرموا بالمناسر تتبعها العساكر، وحتى يُرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم وبأحناء مساربهم ومسارحهم، وحتى تُشن عليهم الغارات من كل فج، وحتى يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك هلك من من قتلاهم وموتاهم في سبيل اللّه إلاّ جداً في طاعة اللّه وحرصاً على لقاء اللّه. ولقد كنا مع رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ومضياً على أمضَ الألم، وجداً على جهاد العدو والاستقلال بمبارزة الأقران. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين يتخالسان أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا. فلما رأنا اللّه صبراً صدقاً، أنزل اللّه بعدونا الكبت ،وأنزل علينا النصر. ولعمري، لو كنا نأتي مثل الذين (هكذا، ربما الذي: م) أتيتم ما قام الدين ولا عزّ الإسلام. وأيم اللّه، لتحلبنّها دماً فاحفظوا ما أقول لكم يعني الخوارج. (1)

يُفهم من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه(علیه السلام) لم كان يرى أن محاربة العدو هي التي تجلب العزة، وأنه كان يعتبر مصالحة أهل الشام بمثابة الذلة، غير أن المنافقين المندسين في جيشه جرّوا المقاتلين إلى التفرق وفرضوا الصلح على الإمام.

ص: 350


1- "عن الشعبي أن علياً قال يوم صفين حين أقرّ الناس بالصلح: إن هؤلاء ... الخوارج". وقعة صفين، ص520 - 521، خطبة لعلي [عليه السلام] بعد الصلح.

ثقة أمير المؤمنين (علیه السلام) بمالك الأشتر

بعد كتابة وثيقة الصلح، تناهى لأمير المؤمنين(علیه السلام) أن مالك الأشتر يرفض مضمون المعاهدة ولا يرى إلّا الحرب إنهاء للفتنة. فقال(علیه السلام) : بلى إن الأشتر ليرضى إذا رضيت. وقد رضيت ورضيتم، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار، إلّا أن يُعصى اللّه ويُتعدى ما في كتابه. وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك وليس أتخوفه على ذلك. وليت فيكم مثله اثنين، بل ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوه مثل رأيه، إذن لخفت على مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم. وأما القضية، فقد استوثقنا لكم فيها. فقد طمعت ألّا تضلوا إن شاء اللّه ربُّ العالمين. (1)

ص: 351


1- "عن فضيل بن خديج قال: قيل لعلي لما كتبت الصحيفة: إن الأشتر لم يرض بما في هذه الصحيفة ولا يرى إلّا قتال القوم. فقال علي: بلى .... ربّ العالمين". وقعة صفين، ص521، قول علي [عليه السلام] في الأشتر.

العودة من صفين إلى الكوفة

كتبت المعاهدة في شهر صفر من سنة 37 هجرية، وتقرر أن يلتقي أبوموسى الأشعري وعمرو بن العاص بعد ثمانية أشهر ؛ أي في شهر رمضان، للفصل في شؤون الجيشين ومصير الخلاف بين الإمام(علیه السلام) ومعاوية . (1)لذا، عاد جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) أدراجه إلى الكوفة بعد كتابة الوثيق.

ص: 352


1- "كان الكتاب في صفر والأجل في شهر رمضان لثمانية أشهر يلتقي الحكمان". وقعة صفين، ص521، مقتل حابس بن سعد الطائي.

التحذير الأول لأبي موسى الأشعري

عندما عزم أبو موسى الأشعري على التوجه إلى دومة الجندل لإجراء التحكيم، ذهب إليه ابن عباس، ولم يكن راضياً بترشيحه وكان متيقناً تقريباً من هزيمته، وأوصاه ببعض الوصايا ونبهه إلى النقاط التي يحتاجها في التفاوض مع عمرو بن العاص. قال له: يا أباموسى! إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارَك فيه. وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك! ولكن أهل العراق أبوا إلّا أن يكون الحكم يمانياً ورأوا أن معظم أهل الشام يمان. وأيم اللّه، إني لأظن ذلك شراً لك ولنا. فإنه قد ضم إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلة يستحق بها الخلافة.

يا أباموسى! إن معاوية طليق الإسلام، وإن أباه رأس الأحزاب، وإنه يدّعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة. فإن زعم لك أن عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق. استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره (يمنعه ما يشتهي ويجبره على ما لا يشتهي). ثم استعمله عثمان برأي عمر. وما أكثر من استعملا ممن لم يدّع الخلافة. واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرك خبيئاً يسوؤك. ومهما نسيت فلا تنس أن علياً (علیه السلام) بايعه القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، وأنها بيعة هدى، وأنه لم يقاتل إلّا العاصين والناكثين.

فقال أبو موسى: رحمك اللّه! واللّه ما لي إمام غير على. وإني لواقف عند ما رأى، وإن حق اللّه أحبّ إليّ من رضا معاوية وأهل الشام. وما أنت وأنا إلّا باللّه .(1)

مما يثير الانتباه في كلام ابن عباس أنه كان يدرك أن تحكيم أبي موسى الأشعري ينذر بشرّ وسينتهي إلى ضررهم. إنه يلفت نظر أبي موسى إلى أنه ليس أولى الناس بالتفاوض، وأن الناس اختاروه بدوافع قبلية لكونه يمانياً ولكون أغلب جيش الشام يمانياً.

ص: 353


1- "لما أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كره من علي، أتاه عبد اللّه بن العباس وعنده وجوه الناس وأشرافهم، فقال له: يا أبا موسى! إن الناس ... باللّه". شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 246 ، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

كذلك فإن الأحنف بن قيس يشير، في كلامه مع أمير المؤمنين، إلى هذه النقطة بقوله: يا أمير المؤمنين! إن عبدالله بن قيس رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية. وهو رجل يمان وقومه مع معاوية. وهو ليس كفؤاً لهذه المهمة ولا يمكنه أن يكون حكماً ناجحاً من جانبنا. (1)

النقطة الأخرى في كلام ابن عباس هي أنه أراد أن يذكر أباموسى بمنزلة الإمام(عیه السلام) نظرته المنحرفة الخاطئة إليه. لأن أباموسى كان قد اعتزل حرب الجمل بحجة أن طرفيها أصحاب فتنة، وكان يخذل الناس عن الانخراط في جيش الإمام (علیه السلام) فيذكّره ابن عباس بأن الإمام(علیه السلام)، في معركة الجمل، إنما كان يقاتل الناكثين، وقاتل في صفين القاسطين الذين خرجوا بالسيف على الإمام الذي حاز الخلافة بالبيعة العامة.

في رواية أخرى، أن ابن عباس وجّه تحذيره الأخير لأبي موسى من مكر عمرو بن العاص وحيلته، وأخبره، بفراسة دقيقة، بما يخطط له عمرو بن العاص. غير أن أباموسى، للأسف الشديد، لدغ من حيث حذّره ابن عباس بالرغم من تأكيده عليه. فقد قال ابن عباس لأبي موسى: احذر عمرواً! فإنما يريد أن يقدمك ويقول: أنت صاحب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وأسنّ مني ، فتكلم حتى أتكلم. وإنما يريد أن يقدمك في الكلام لتخلع علياً، ليحقق أهدافه المشؤومة. (2)

ص: 354


1- "قام الأحنف بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! ... معاوية". وقعة صفين، ص 502، الأشعث ومعاوية، رضا قرّاء الشام والعراق بحكم القرآن.
2- قال ابن عباس لأبي موسى الأشعري: احذر ... علياً". تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، ج3، ص 548، حوادث سنة 37 هجرية، تحكيم الحكمين.

لماذا اختير أبو موسى؟

حسب ما تقدم، فإن هناك عدة وجوه محتملة لاختيار أبي موسى الأشعري من قبل بعض العراقيين ليكون حكماً وفرضه على أمير المؤمنين(علیه السلام).

الوجه الأول: أنه لم يشارك في الجمل ولا في صفين. وهذا ما جعل بعض ضعاف العقول وقصار النظر يظنون أنه لم يدخل في الفتنة فهو، لهذا السبب، أجدر من غيره في هذه المهمة. وبهذا المبرر رفض العراقيون ترشيح مالك الأشتر. ويبدو أن هذه الجماعة كانت تعتبر طاعة أمير المؤمنين(علیه السلام) ومحاربة بقايا المشركين والأحزاب مثلبة، واعتزال الحرب ميزة.

الوجه الثاني: أن جماعة من جيش الإمام (علیه السلام) كانوا يفضلون شخصاً محايداً لا مشكلة له مع أي من الطرفين المتخاصمين. في حين اختار أهل الشام عمرو بن العاص الذي كرّس نفسه لتحقيق النصر لمعاوية.

ولا يخفى أنه لا يمكن اعتبار أبي موسى الأشعري طرفاً محايداً نظراً لكونه يمانياً وأن ولاء قومه كان لمعاوية، وكذلك لتصرفاته ومواقفه اللاحقة المنحازة لمعاوية.

الوجه الثالث: وفضّل جماعة من جيش الإمام (علیه السلام) أبا موسى لأنه يماني ولأن أغلب جيش معاوية كان يمانيا، فرشحوه ليكون مقبولاً لديهم فتنتهي على يده الحرب. فإن أباموسى كان سيفضل وقف القتال صوناً لقومه على أقل تقدير. وهذه النقطة كانت فرصة لضعاف النفوس من جيش الإمام(علیه السلام) لإنهاء الحرب والعودة إلى ديارهم.

التحذير الثاني لأبي موسى

في الطريق إلى دومة الجندل، أمسك شريح بن هاني بيد أبي موسى الأشعري وقال له: أباموسى! إنك قد نصبت لأمر لا يجبر صدعه ولا يستقال عثرته. فاعلم أنك (إن: م) قلت شيئاً لك أم عليك لزمك حقه وزال عنك باطله. فاتق اللّه وانظر كيف تكون، فإنك قد رميت بعمرو بن العاص

ص: 355

وهو رجل لا دين له لأنه باع دينه بدنياه. فإياك أن يخدعك! فإنه خدّاع مكّار، والسلام. فقال أبوموسى (رداً على كلام شريح النابع من القلب، وقد انتفخ زهواً وغروراً): ما ينبغي لقوم اتهموني أن يبعثوني لكي أدفع عنهم باطلاً. واللّه إني لأرجو أن ينقضي هذا الأمر وأنا على رضا من الفريقين جميعاً إن شاء اللّه . (1)

لقد كانت النتائج الكارثية لتحكيم أبي موسى ماثلة، قبل حدوثها، أمام ذوي البصائر النافذة أمثال شريح بن هاني وابن عباس والأحنف بن قيس ومالك الأشتر. لذا كانوا ينصحونه باستمرار ويحذرونه من كيفية جريان التحكيم ونتائجه، كأنهم كانوا يعلمون من قبل أية كارثة سيأتي بها أبو موسى.

التحذير الثالث لأبي موسى

آخر من كلّم أباموسى وحذره نتيجة التحكيم كان الأحنف بن قيس. فقد كان على علم، شأنه جميع ذوي البصائر ، بالنتائج المشؤومة للتحكيم. قال لأبي موسى فيما قال: اعرف خطر هذا المسير فإن له ما بعد. واعلم بأنك إن ضيعت العراق فلا عراق. فاتق اللّه فإنه يجتمع لك أمر الدنيا والآخرة. وانظر إذا لقيت عمرو بن العاص فلا تبدأه بالسلام حتى يكون هو الذي يبدؤك. وإن سألك أن تقعد معه على فراشه فلا تفعل، فإن ذلك خديعة منه لك. وانظر لا يدخلك إلى بيت له مخدع ويكون قد عبّى لك فيه رجالاً يسمعون كلامك ويشهدون عليك وأنت لا تعلم.(2) وإن لم يستقم لك عمرو على ما تريد فخيّره من شاء غيرك يكلمه ولا تكلمه أنت.

ص: 356


1- "فأقبل عليه شريح فقال له: يا أباموسى! ... إن شاء اللّه". الفتوح، المجلد الثاني، ص 205، ذكر وصية القوم لأبي موسى بالاحتياط في أمره والحذر من دهاء خصمه ؛ شرح نهج البلاغة، ج2، ص245، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمرالخوارج.
2- "فقال له الأحنف: اعرف ... أنت". الفتوح، المجلد الثاني، ص206، ذكر وصية القوم لأبي موسى بالاحتياط في أمره والحذر من دهاء خصمه.

ثم قام الأحنف بن قيس باختبار أبي موسى من حيث رؤيته ونظرته للإمام(علیه السلام) ، إذ قال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فخيِّره أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا، فإنهم يولونا الخيار فنختار من نريد. وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش العراق من شاؤوا. فإن فعلوا كان الأمر فينا. قال أبوموسى: قد سمعت ما قلت. ولم يتحاش لقول الأحنف (لم يعترض على كلامه، إذ كيف يسمح لنفسه أن يقول في علي ما قال).

(قال): فرجع الأحنف فأتى علياً (علیه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين! أخرج، واللّه، أبو موسى زبدة سقائه في أول مخضة. لا أرانا إلّا بعثنا رجلاً لا ينكر خلعك (لم أبخل بكل ما أعلم ونصحت له، فوجدته لا أهلية له ولا دين). فقال علي: يا أحنف: (الأمر كما تقول إن اللّه غالب على أمره. (1)استناداً إلى الوثائق المتوفرة، يتضح أن الكثير من قادة جيش الإمام كانوا يعلمون أن التحكيم ستكون عواقبه وخيمة. كما أن أمير المؤمنين (علیه السلام) أعلن بشكل رسمي رفضه لتحكيم الهرم الجاهل. ولاحقاً، اتفقت أصوات سياسيي الجيش الإسلامي على معارضة ترشيح أبي موسى الأشعري، لأنهم كانوا يعلمون:

أولاً : أن هذا التحكيم سيحدد مصير الأمة الإسلامية، وسيتبين إن كان حكم الأمة الإسلامية سيؤول غداً إلى معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما من الكفار المتهتكين، أم سيبقى على مساره الأصلي وهو مسار الولاية والإمامة الحقة.

ثانياً: أنه لم يكن هناك أي تناسب بين أبي موسى وعمرو بن العاص. لأن عمرو بن العاص كان ماكراً محتالاً، أما أبو موسى فكان يبدو في الظاهر تقياً ورعاً ساذجاً لا قدرة له على مواجهة حيَل عمرو بن العاص.

ص: 357


1- ثم أراد أن يبور ما في نفسه لعلي فقال له: فإن لم يستقم ... أمره". وقعة صفين، ص536، توديع الأحنف ونصيحته لأبي موسى ؛ شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 249، شرح الخطبة ،35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

معارضة الخوارج للتحكيم

لما أراد أمير المؤمنين (علیه السلام)إرسال أبي موسى الأشعري إلى دومة الجندل(1) أتى رجلان من الخوارج، هما زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، إلى الإمام علي (عليه السلام) فقالا له: لا حكم إلّا للّه . فقال علي (علیه السلام): لا حكم إلّا للّه. فقال له حرقوص: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال لهم علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني. وقد كتبنا بيننا وبينهم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا. وقد قال اللّه عزّ وجلّ ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الْأَيْمَن بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه. فقال علي (علیه السلام): ما هو ذنبٌ، ولكنه عجز من الرأي وضعف من الفعل. وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه. فقال له زرعة بن البرج أما واللّه يا علي، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب اللّه عزّ وجلّ، قاتلتك أطلب بذلك وجه اللّه ورضوانه. (2)

ص: 358


1- دومة الجندل منطقة واقعة في شمال الجزيرة العربية عند الحد الفاصل بين العراق والشام والحجاز، ولاتزال موجودة لليوم. المسافة بينها وبين بغداد، حسب الخرائط الحالية، حوالي 700 كيلومتر، وبينها وبين دمشق حوالي 659 كيلومتراً، وبينها وبين المدينة نحو 800 كيلومتر.
2- أن علياً لما أراد أن يبعث أباموسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فدخلا عليه فقالا له: لا حكم ... ورضوانه". تاريخ الطبري، ج3، ص113، حوادث سنة 37 هجرية، ذكر ما كان من خبر الخوارج عند توجيه علي الحكم للحكومة.

انطلاق الوفدين إلى التحكيم

بما أن الإمام علياً (علیه السلام) لم يكن ليضحيّ بالحق من أجل أي شيء، ولا يرضى بنقض العهد تحت أية ظروف، فقد أرسل، في سنة 38 هجرية، وفداً مؤلفاً من أربعمائة شخص برئاسة شريح بن هاني وعبدالله بن العباس وحكمه أبي موسى الأشعري إلى دومة الجندل. بالمقابل، أرسل معاوية حكمه عمرو بن العاص ومعه أربعمائة شخص إلى الموضع المتفق عليه. (1)

طول فترة التفاوض بين الفريقين، كلما كان يصل كتاب من الإمام علي(علیه السلام) إلى رئاسة الوفد، كان أعضاء الوفد يطالبون فوراً بقراءة مضمونه ؛ في حين كانت الكتب التي يبعثها معاوية إلى عمرو بن العاص تبقى طي الكتمان حتى على أعضاء الوفد. فارتاب ابن عباس من تصرف أعضاء وفده فصاح بهم موتّخاً: إذا جاء رسول قلتم بأي شيء جاء؟ فإن كتمتكم قلتم: لم تكتمنا؟ (وإن أطلعتكم على مضمونه تناقلتم خبره وقلتم ) جاء بكذا وكذا، (فما أبقيتم لنا سراً ). (2)

ص: 359


1- وفي سنة ثمان وثلاثين كان التقاء الحكمين بدومة الجندل وقيل: بغيرها، على ما قدمنا من وصف التنازع في ذلك. وبعث علي بعبد اللّه بن العباس وشريح بن هانئ الهمداني في أربعمائة رجل فيهم أبو موسى الأشعري. وبعث معاوية بعمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن السمط في أربعمائة . مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، ص 438، التقاء الحكمين.
2- "قال: فكان إذا كتب على بشيء، أتاه أهل الكوفة فقالوا: ما الذي كتب به إليك أمير المؤمنين؟ فيكتمهم، فيقولون له: كتمتنا ما كتب به إليك، إنما كتب في كذا وكذا. ثم يجيء رسول معاوية إلى عمرو بن العاص فلا يدري في أي شيء جاء ولا في أي شيء ذهب ولا يسمعون حول صاحبهم لغطاً. فأنب ابن عباس أهل الكوفة بذاك وقال: إذا جاء ... وكذا". وقعة صفين، ص 534، بعوث علي [عليه السلام] ومعاوية.

نصيحة معاوية لعمرو بن العاص

دعا معاوية عمرو بن العاص قبل ذهابه إلى دومة الجندل وقال له: يا عمرو! إن أهل الكوفة أكرهوا علياً على أبي موسى وهو لا يريده، ونحن بك راضون، وقد ضم إليك رجل طويل اللسان كليل المدية ( يعني أباموسى)، وله بعد حظ من دين. فإذا قال فدعه يقل، ثم قل فأوجز واقطع المفصل ولا تلقه بكل رأيك. واعلم أن خبء الرأي زيادة في العقل. فإن خوفك بأهل العراق فخوّفه بأهل الشام. وإن خوّفك بعلي فخوّفه بمعاوية. وإن خوفك بمصر فخوّفه باليمن. وإن أتاك بالتفصيل فأته بالجمل. فقال له عمرو: يا معاوية! أنت وعلي رجلا قريش، ولم تنل في حربك ما رجوت، ولم تأمن ما خفت. ذكرت أن لعبدالله ديناً، وصاحب الدين منصور. وأيم اللّه، لأفنين عليه علله ولأستخرجن خبأه. ولكن إذا جاءني بالإيمان والهجرة ومناقب علي، ما عسيت أن أقول! قال (معاوية): قل ما ترى! فقال عمرو: وهل تدعني وما أرى؟ وخرج مغضباً كأنه كره أن يوصى ثقةً بنفسه، وقال لأصحابه حين خرج: إنما أراد معاوية أن يصغّر أمر أبي موسى، لأنه علم أني اخادعه غداً، فأحب أن يقول: إن عمرواً لم يخدع أريباً، فقد كدته بالخلاف عليه (سأثبت له العكس قريباً). (1)

في الحوار الذي دار بين معاوية وعمرو بن العاص نقاط مهمة نشير إلى اثنتين منها، مثالاً :

الأولى: أن المواضيع المنقولة تبين بوضوح مدى ما كان عليه معاوية وعمرو من التحايل والمكر، وكم كانا يسعيان لتنفيذ خطتهما بشتى الطرق. يوصي معاوية عمرو بن العاص بقلة الكلام لأنه يعلم أن كثرة الكلام قد تتسبب في تسريب شيء من خطتهما إلى الحاضرين. بالمقابل، يؤكد عمرو لمعاوية أنه لن يترك لأبي موسى طريقاً للهرب وأنه لن يكون قادراً على الكتمان وسيكشف أوراقه.

ص: 360


1- "دعا معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص ليبعثه حكماً، فجاء وهو متحزم عليه ثيابه وسيفه وحوله أخوه وناس من قريش. فقال له معاوية: يا عمرو! .... بالخلاف عليه. شرح نهج البلاغة ، ج2، ص 241 ، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج ؛ مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ج2، ص 439، التقاء الحكمين.

الثانية بتنويهه بتدين أبي موسى، حاول معاوية التعريض بعمرو بن العاص بوصفه فاقداً للتدين. بالمقابل، عّدد عمرو فضائل الإمام علي (علیه السلام) ليعيّر معاوية بعدم كونه كفؤاً له. لقد لجأ عمرو بن العاص إلى هذه الطريقة أكثر من مرة حيث عمد إلى الحط من قدر معاوية بتعداد فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام). ولم يكن في نية عمرو أن يفعل خيراً بحق أمير المؤمنين(علیه السلام) ، بل كانت غايته الانتقاص من معاوية وتذكيره بأنه لا يملك ما يؤهله للحكم وأنه ليس أفضل منه (من عمرو).

ص: 361

المغيرة بن شعبة والحكمين

كان المغيرة بن شعبة على هوى بني أمية. ويبدو أنه اعتزل الحرب، شأنه في ذلك شأن عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص، فأثار حنق معاوية عليه. فذهب (1) إلى معاوية لإرضائه وخطب وده فقال: يا معاوية! لو وسعني أن أنصرك لنصرتك، ولكن عليّ أن آتيك بأمر الرجلين (نوايا الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص).

ثم توجه المغيرة إلى دومة الجندل لهذا الغرض وذهب إلى أبي موسى الأشعري فسأله يا أباموسى! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: أولئك خير الناس، خفّت ظهورهم من دمائهم وخمصت بطونهم من أموالهم.

ثم أتى عمرواً فقال: يا أباعبدالله! ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء؟ قال: أولئك شرار الناس، لم يعرفوا حقاً ولم ينكروا باطلاً.

فرجع المغيرة إلى معاوية فقال له: قد ذقت الرجلين ؛ أما عبدالله بن قيس، فخالع صاحبه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر، وهواه في عبدالله بن عمر. وأما عمرو بن العاص فهو صاحب (هكذا: م) الذي تعرف. وقد ظن الناس أنه يرومها لنفسه وأنه لا يرى أنك أحق بهذا الأمر منه. (2)

دلّ كلام أبي موسى الأشعري على أنه لم يكن، بأي وجه من الوجوه ممثلاً لأهل العراق ؛ لأنه كان يرى أن الذين شاركوا في الحرب ضالون، وأن الذين اجتنبوها خير الناس. فكيف لرجل يفكر على هذا النحو أن يدافع عن حق أهل العراق؟ إنّ من يتهم أمير المؤمنين(علیه السلام)، لمشاركته في الحرب، بسفك دماء المسلمين وهدر أموالهم، لاشك أنه لا يعتقد بجدارته بالخلافة، وأنه سيخلعه منها. وعلى

ص: 362


1- يقول ابن أعثم إن معاوية لما سمع بأن عمرو بن العاص يريد خيانته في التحكيم ويقدّم نفسه خليفة، طلب من المغيرة بن شعبة أن يذهب إلى عمر و ليرى ما يخطط له. الفتوح، المجلد الثاني، ص208، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه
2- "وأتاه المغيرة بن شعبة، وكان مقيماً بالطائف لم يشهد الحرب، فقال له: يا مغيرة ما ترى؟ قال: يا معاوية! لو وسعني ... منه". وقعة صفين، ص 539 ، استدعاء معاوية بعض من لم يعنه من قريش.

هذا الأساس، اعتقد المغيرة أن الإمام علي (علیه السلام) سيخلع في التحكيم، وسيقوم أبوموسى بترشيح عبدالله بن عمر للخلافة لأنه اعتزل الحرب وهو ابن الخليفة الثاني.

ويدل كلام المغيرة، أيضاً، على أنه لم يكن يثق بعمرو بن العاص، وكان يتوقع أن يتصيد بالماء العكر لحيازة الحكم إلى نفسه. ومع أن المغيرة قال إن بعض الناس يظن أن عمرو بن العاص سيخلع معاوية ليحل محله، إلّا أنه هو نفسه خرج بالانطباع نفسه بعد لقائه، فكان يحتمل ذلك. لذا حاول تنبيه معاوية إلى ذلك الاحتمال ليكون على حذر من مكر عمرو بن العاص، مع أن معاوية لم يكن غافلاً عن هذا الأمر وكان قد قال لعمرو، في أثناء حرب صفين: إنك تريد التخلص مني والاستحواذ على الحكم.

ص: 363

اللقاء الأول بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري

عندما وصل أبوموسى إلى دومة الجندل، قام عمرو بن العاص واستقبله استقبالاً حاراً. فسلم عليه أبوموسى وصافحه بحرارة وقال له: يا أخاه! طال عهدي بك فقبّح اللّه أمراً فرق بيننا. (قال): ثم أقعده عمرو على فراشه وأقبل عليه يحدثه ساعة. ثم دعا عمرو بالطعام فأكلا جميعاً، وانصرف أبو موسى إلى رحله (دون أن يقولا شيئاً عن التحكيم ).(1) ثم لم يزالا يجتمعان في كل يوم فيتحدثان وينصر فان. فأقاما على ذلك أياماً كثيرة.

وجاء في موضع آخر أن عمرو بن العاص، تودد إلى أبي موسى، بأن أمر بأن يُجلب له ما أحب من الطعام.(2)

أما ابن ابي الحديد فيقدم المزيد من التفاصيل على التضليلات التي مارسها عمرو بن العاص، إذ يقول: أعطاه عمرو صدر المجلس وكان لا يتكلم قبله وأعطاه التقدم في الصلاة وفي الطعام لا يأكل حتى يأكل. وإذا خاطبه فإنما يخاطبه بأجلّ الأسماء ويقول له: يا صاحب رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، اطمأن إليه وظن أنه لا يغشه. (3)

اللافت للنظر في معاملة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري أن مالك الأشتر والأحنف بن قيس سبق أن نبّها أباموسى الأشعري بدقة بخطط عمرو بن العاص، ولكن أباموسى سقط في فخ عمرو رغم كل التحذيرات، وهذا مؤشر صارخ على سذاجته وغفلته وضلاله.

ص: 364


1- "فلما رآه عمرو استقبله، فسلم عليه أبو موسى ومدّ أبوموسى يده إلى عمرو فصافحه وحيّاه وضمّه إلى صدره، ثم قال: يا أخاه! ... كثيرة". الفتوح، المجلد الثاني، ص 207، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.
2- "أقبل إليه بأنواع طعام يشهّيه بها". العقد الفريد، ج4، ص 347، أمر الحكمين.
3- شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 255 ، ذيل الخطبة 35 ، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

مفاوضات عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري

قال أبو موسى الأشعري لعمرو بن العاص في أول اجتماع رسمي عقد بين الفريقين: يا عمرو! هل لك في أمر هو للأمة صلاح ولصلحاء الناس رضا؟ نولي هذا الأمر عبدالله بن عمر بن الخطاب الذي لم يدخل في شيء من هذه الفتنة ولا هذه الفرقة، وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن الزبير قريبان يسمعان هذا الكلام، فقال عمرو: فأين أنت عن معاوية؟ فأبى عليه أبو موسى(1).

بعد هذا المقترح من أبي موسى، قال عمرو بن العاص متسللاً من ثغرة الحيلة:

يا أباموسى! ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوماً؟ قال (أبو موسى): أشهد . قال (عمرو): ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه ؟ قال (أبوموسى) : بلى. قال (عمرو) : فإن اللّه عزّ وجلّ قال ((ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً))، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان يا أباموسى، وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن تخوفت أن يقول الناس : ولى معاوية وليست له سابقة، فإن لك بذلك حجة، تقول: إني وليّ عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة والحسن التدبير وهو أخو أم حبيبة زوجة النبي (صلی اللّه علیه وآله) وقد صحبه، فهو أحد الصحابة (أي: إني أرشح معاوية لأربعة أسباب:

1- أنه ولي دم عثمان

2- أنه صاحب سياسة وتدبير

3- أنه أخو زوجة النبي (صلی اللّه علیه وآله) يا أم حبيبة .

4 أنه من صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله).

ثم عرض له بالسلطان فقال: إن ولي أكرمك كرامة لم يكرمها خليفة قال أبوموسى (محتجاً على عمرو بن العاص): يا عمرو اتق اللّه عزّ وجلّ! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس

(1) "أقبل أبوموسى إلى عمرو فقال: يا عمرو! ... أبو موسى". وقعة صفين، ص 540، تداول أبي موسى وعمرو.

ص: 365

على الشرف يولاه أهله. ولو كان على الشرف لكان هذا الأمر لآل إبرهة بن الصباح. إنما هو لأهل الدين والفضل. مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً أعطيته علي بن أبي طالب. وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان، فوله هذا الأمر، فإني لم أكن لأوليه معاوية وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان، فواللّه لو خرج لي من سلطانه كله ما ولّيته، وما كنت لأرتشي في حكم اللّه عزّ وجلّ. ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب (وولينا الأمر ابنه عبدالله وخلعنا علياً ومعاوية جميعاً .(1)

فقال عمرو بن العاص مخالفاً رأي أبي موسى: إن هذا الأمر لا يصلحه إلّا رجل له ضرس ويطعم (ذو كفاءة)، وكانت في ابن عمرغفلة . (2)

ص: 366


1- "فقال عمرو بن العاص: يا أباموسى! .... الخطاب". تاريخ الطبري، ج3، ص111، حوادث سنة 38 هجرية، اجتماع بدومة الجندل.
2- قال عمرو بن العاص: إن هذا الأمر .... غفلة". تاريخ الطبري، ج 3، ص 112 ، حوادث سنة 38 هجرية، اجتماع الحكمين ص112، بدومة الجندل.

حوار عبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر

عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير مفاوضات أبي موسى وعمرو عن كثب، فقال ابن الزبير لابن عمر : اذهب (هذه الليلة) إلى عمرو بن العاص فارشه. فقال عبدالله بن عمر لا واللّه ما أرشو عليها أبداً ما عشت. ولكنه (مع هذا ذهب إلى عمرو بن العاص و) قال له: ويلك يا ابن العاص، إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف وتشاجرت بالرماح، فلا تردّهم إلى فتنة واتق اللّه

(1)

ص: 367


1- "فقال ابن الزبير لابن عمر: اذهب ... واتق اللّه". وقعة صفين، ص 542 ، تداول أبي موسى وعمرو الرأي ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص 112، حوادث سنة 38 هجرية، اجتماع الحكمين بدومة الجندل.

نصيحة أمير المؤمنين (علیه السلام) لعمرو بن العاص

كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يتابع مجريات التحكيم ويعلم أن عمرو بن العاص يخطط لخداع أبي موسی ،و مع علمه بعدم تأثير الموعظة في عمرو بن العاص، حاول إتمام الحجة عليه بأن بعث إليه رسالة بيد شريح بن هاني قال له فيها: إن أفضل الخلق عند اللّه من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه. وإن أبعد الخلق من اللّه من كان العمل بالباطل أحب إليه وإن زاده. واللّه يا عمرو! إنك لتعلم أين موضع الحق، فلمَ تتجاهل؟ أبأن أوتيت طمعاً يسيراً فكنت اللّه ولأوليائه عدواً؟ فكان، واللّه ما أوتيت قد زال عنك. فلا تكن للخائنين خصيماً ولا للظالمين ظهيراً. أما إني أعلم أن يومك الذي أنت فيه نادم هو يوم وفاتك، وسوف تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة.

قال شريح: فأبلغته ذلك فتمعر وجه عمرو وقال : متى كنت أقبل مشورة علي أو أنيب إلى أمره وأعتد برأيه؟ فقلت : وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم(صلی اللّه علیه وآله) مشورته؟ لقد كان من هو خير منك أبوبكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه. فقال: إن مثلي لا

ص: 368

يكلم مثلك. فقلت: بأي أبويك ترغب عن كلامي، بأبيك الوشيظ (1) ( عديم الأصل) أم بأمك النابغة (2)فقام من مكانه. (3)

رغم أن عمرو بن العاص اعترف أكثر من مرة، قبل صفين وبعدها، بحقانية أمير المؤمنين (علیه السلام)،

ولكن ابتلاءه بالغرور والاعتداد بالنفس منعه من أن يذعن لموعظة الإمام (علیه السلام).

استغل عمرو بن العاص فرصة الاجتماع فقال لأبي موسى بصراحة : ( ما دمت ذكرت عبدالله بن عمر) فما يمنعك من ابني وأنت تعلم فضله وصلاحه؟

فقال (أبوموسى): إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة . (4)

بعد أن انحرفت الخلافة عن مسارها الأصلي سقطت ،بالرغم من أهميتها وخطورتها، في قبضة الأهواء النفسية. فطمع فيها حتى من لا حظّ له من الكفاءة. فتارة يرشح لها ابن عمر الذي نعته عمرو بن العاص بتلك النعوت ،وتارة ابن عمرو بن العاص، وتارة معاوية بملفه الأسود الذي راكمه عن نفسه قبل الإسلام وبعد الإسلام.

ص: 369


1- كان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص، أحد الذين كانوا يستهزئون بالنبي (صلی اللّه علیه وآله) يجاهرون بالعداء له ويؤذونه. وقد نزل فيه وفي أصحابه قول اللّه تعالى ((إنا كفيناك المستهزئين)) كان العاص بن وائل يلقب في الإسلام بالأبتر لأنه قال لقريش إن هذا الأبتر ( يعني النبي (صلی اللّه علیه وآله) سيموت قريباً وسيمحى ذكره، لأن النبي (صلی اللّه علیه وآله) لم يعقب ذكراً يديم نسله فأنزل اللّه تعالى ((إن شانئك هو الأبتر)). شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص 281، ذيل الخطبة 83 ، نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره.
2- كانت النابغة، أم عمرو بن العاص، معروفة بالفاحشة لدرجة أن كل من أراد أن يعيب عمرو بن العاص كان يذكره بأمه. وفي موقف من المواقف، قالت أروى بنت الحارث لعمرو بن العاص يا ابن النابغة قد كانت أمك أشهر مغنية في مكة وكانت تأخذ أعلى أجر على البغاء، وقد ادعى بك خمسة رجال من قريش حتى سُئلت أمك عن ذلك فقال: لقد قاربوني جميعهم، فانظروا أشبه به فانسبوه له، فكنت أشبه بالعاص بن وائل فانتسبت إليه. العقد الفريد، ج2، ص 120، كتاب الجمانة في الوفود. ويروى أن أروى بنت الحارث قالت لعمرو بن العاص في مواجهة حدثت بينهما: ألست من ادعى بك ستة من قريش؟ لقد رأيت أمك في أيام منى تعاشر كل عبد فاجر حقير. بلاغات النساء، ص 28. يقول الزمخشري عن أم عمرو بن العاص: عندما ادعى خمسة رجال أنهم آباء عمرو، وكان العاص بن وائل أكثرهم اهتماماً بها من حيث المال، قالت: العاص هو أبوه. مع أنه كان أشبه بأبي سفيان. ربيع الأبرار في نصوص الأخبار، ج 4، ص 275، باب القرابات والأنساب، الرقم 98.
3- وقعة صفين، ص 542 ، تداول أبي موسى وعمرو الرأي.
4- "قال له عمرو: فما يمنعك .. الفتنة". الكامل في التاريخ، ج3، ص112، حوادث سنة 37 هجرية، اجتماع الحكمين بدومة الجندل ؛ الأخبار الطوال، ص 296، مصانعة عمرو لأبي موسى.

المؤلم المؤسف أن تنهار الموازين فيقتصر معيار الكفاءة على عدم المشاركة في جبهات القتال. ولأن الإمام علياً (علیه السلام) كان له حصة الأسد في تلك الحرب، فهو إذن فاقد لكفاءة الخلافة! ولو كان المعيار السابقة اللامعة في الإسلام فإن الإمام (علیه السلام)، باعتراف أبي موسى الأشعري نفسه، هو الأفضل.

ص: 370

الاجتماع التفاوضي الثالث

امتدت اجتماعات عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري واستطالت. فقد التقيا على مدى أيام كثيرة حتى تململ الناس وظهرت منهم بوادر الاحتجاج (1). لذا عقدا الاجتماع الأخير، وكان عمرو بن العاص هو المبادر فقال لأبي موسى: إنك لست بأنصح لأهل العراق مني لأهل الشام، ولا بأنصح لعلي مني لمعاوية، فالحق لا يشبهه شيء (لا تنتابه الشبهات). فإن قال قائل بأن معاوية من الطلقاء وكان أبوه من الأحزاب (من موقدي نارها)، فقد صدق. وإن قال قائل إن علياً أقر قتلة عثمان عنده وقتل أنصاره يوم الجمل، فقد صدق. ولكن هل لك (2) أن تخلع صاحبك علياً وأخلع أنا صاحبي معاوية ونجعل هذا الأمر في يد عبدالله بن عمر بن الخطاب، فإنه رجل زاهد عابد ولم يبسط في هذه الحروب لساناً ولا يداً؟

فقال أبو موسى: أحسنت رحمك اللّه وجزاك بنصيحتك خيراً! فنعم ما رأيت. قال عمرو: فمتى تحب أن يكون ذلك الأمر؟

فقال أبو موسى: ذاك إليك، إن شئت الساعة وإن شئت غداً فإنه يوم الاثنين وهذا يوم مبارك.

(قال): وانصرف عمرو إلى رحله. (وهيّأ شهوداً على كلام أبي موسى في اليوم التالي). (3)

ص: 371


1- الفتوح، المجلد الثاني، ص208 ، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.
2- يقول نصر بن مزاحم إن هذا الاقتراح قدّمه أبو موسى وقعة صفين، ص 544، مصانعة عمرو لأبي موسى.
3- "قال عمرو : صدقت أباموسى، ولكن قد علم الناس أنك لست ... رحله". الفتوح، المجلد الثاني، ص210، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.

القرار الأخير

كان أبوموسى في تمام الاطمئنان وراحة البال من جانب عمرو بن العاص غافلاً تماماً عن ما يضمره من مكيدة. فقد اختار يوم الاثنين بروح تقديس ساهياً عما ينتظره في ذلك اليوم من مفاجأة ماكرة من عمرو بن العاص. ولم يخطر بباله كيف يقبل عمرو بن العاص بتسليم عبدالله بن عمر أمر الخلافة وهو لا يثق به ويراه ضعيفاً؟؟

ولم يفكر كيف يخلع عمرو بن العاص معاوية وهو يعتبره ولي نعمته، بل يفضله على الإمام (علیه السلام)، ويعيد الأمر شورى بين الناس أو يسلّم الحكم لعبدالله بن عمر!؟

المؤلم المؤسف أن أباموسى لم يأخذ تحذيرات عبدالله بن عباس وشريح بن هانئ على محمل الجد ولم يعر كلامهما اهتماماً، فطعن جسد المجتمع الإسلامي طعنة قاتلة.

ص: 372

يوم التحكيم

في اليوم الثاني حضر الناس في المسجد للاطلاع على النتيجة النهائية للمفاوضات. أخذ عمرو بن العاص عصا المبادرة منذ البداية، فاستدرج أباموسى إلى اعترافات من شأنها التمهيد لخلع أمير المؤمنين(علیه السلام) وتسهيله فنادى بصوت عال: أبا موسى! أنشدك اللّه من أحق بهذا الأمر؟ من وفى أو علم من غدر؟ فقال أبو موسى: لا بل من وفى. قال: فما تقول في عثمان أقتل ظالماً أم مظلوماً؟ فقال أبو موسى: بل مظلوماً. قال: فما تقول في قاتله، أيقتل به أم لا؟ فقال أبوموسى: بل يقتل به. قال عمرو: فمن يقتله؟ قال: يقتله أولياء عثمان لأن اللّه عزّ وجلّ قال (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لوَلِيهِ سُلْطَنَا). قال عمرو: فهل تعلم أن معاوية من أولياء عثمان؟ فقال أبوموسى: نعم، هو من أولياء عثمان. قال عمرو أيها الناس! اشهدوا على مقالة أبي موسى! (تلك كانت أول نقطة ضعف أظهرها أبو موسى من نفسه أمام الحاضرين وأول نقطة تفوق حصل عليها عمرو بن العاص، لذا طلب من الناس أن يشهدوا على إقرار أبي موسى). قال أبو موسى: نعم، فاشهدوا ثم اشهدوا على ما أقول إن معاوية من أولياء عثمان، قم يا عمرو فاخلع صاحبك، فإننا على ما كنا عليه أمس. فقال عمرو: سبحان اللّه! أقوم أنا من قبلك وقد قدّمك اللّه عليّ في الإيمان والهجرة؟ لا بل قم أنت فتكلم بما أحببت وأقوم أنا من بعدك.(1)

تجاهل أبو موسى الأشعري التحذيرات المتكررة التي صدرت له من ابن عباس وشريح بن هانئ والأحنف بن قيس ، وأخذه كلام عمرو بن العاص الغادر فلم يتصور أنه في طريقه إلى السقوط في فخ مكيدة. لذا، قام من مكانه فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: إن رأبي ورأي (صديقي) عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح اللّه به شأن هذه الأمة فصاح عمرو بن العاص مؤيداً كلامه وقال: صدق أبو موسى. أكمل يا أبا موسى!

ص: 373


1- "لما كان من الغد أقبل إلى أبي موسى ومعه شهود قد أعدّهم للذي يريد أن يصنع . قال: فدخل على أبي موسى واجتمعت الناس لاستماع الكلام فقال عمرو أبا موسى! ... بعدك". الفتوح، المجلد الثاني، ص 210 ، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.

ولما أراد أبو موسى أن يقول آخر ما لديه صاح له ابن عباس: أمسك يا أباموسى! واللّه لقد خدعك ابن النابغة، حذار أن تسبقه بالكلام !(1)

كان ابن عباس يتابع تفاصيل ما يجري بدقة متناهية. يقول عبدالرحمن بن خالد بن الوليد وكان من أشد المتحمسين لمعاوية: حضرت الحكومة، فلما كان يوم الفصل جاء عبدالله بن عباس فقعد إلى جانب لابن (هكذا : م) أبي موسى وقد نشر أذنيه حتى كاد أن ينطق بهما. فعلمت أن الأمر لا يتم لنا مادام هناك، وأنه سيفسد على عمرو حيلته، فأعملت المكيدة في أمره، فجئت حتى قعدت عنده وقد شرع عمرو وأبوموسى في الكلام. فكلمت ابن عباس كلمة استطعمته جوابها، فلم يجب. فكلمته أخرى فلم يجب، فكلمته ثالثة فقال: إني لفي شغل عن حوارك الآن. فجبهته وقلت: يا بني هاشم، لا تتركون بأوكم وكبركم أبداً. أما واللّه، لولا مكان النبوة لكان لي ولك شأن. قال: فحمى وغضب واضطرب فكره ورأيه، وأسمعني كلاماً يسوء سماعه. فأعرضت عنه وقمت فقعدت إلى جانب عمرو بن العاص فقلت: قد كفيتك التقوالة، أني قد شغلت باله بما دار بيني وبينه، فأحكم أنت أمرك!

قال: فذهل واللّه ابن عباس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتى قام أبوموسى فخلع علياً.(2)

لم يعبأ أبوموسى بتحذيرات ابن عباس، نظراً لسذاجته وجهله وسابق عداوته لأمير المؤمنين (علیه السلام)، وقال: سأقول ما أعلم. ثم قال: أيها الناس! إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئاً هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من ألا تتباين أمورها. وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع علي ومعاوية،

ص: 374


1- "قدّم عمرو أباموسى إلى المنبر فلما رآه عبد اللّه بن عباس قام إلى عبد اللّه بن قيس فدنا منه فقال: إن كان عمرو فارقك على شيء فقدّمه قبلك، فإنه غدر". تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص190 ، خلافة أمير المؤمنين ؛ تاريخ الطبري، ج3، ص113، حوادث سنة 38 هجرية، اجتماع الحكمين بدومة الجندل.
2- "قال عبدالرحمن بن خالد بن الوليد: حضرت ... علياً. شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 261، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.

وأن يستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين يولون أمورهم من أحبوا. وإني خلعت علياً ومعاوية، فاستقبلوا أموركم وولوا من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً . (1)

يقول ابن أعثم الكوفي إن أباموسى الأشعري خلع خاتمه من إصبعه وقال: إني قد خلعت علياً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، والسلام. ثم تنحى إلى ركن ووقف ينتظر كلام عمرو بن العاص، كان يتوقع أن يقول عمرو ما اتفقا عليه. ولكن عمرواً قام فأشار إلى أبي موسى وقال: أيها الناس! هذا عبدالله بن قيس أبو موسى الأشعري وافد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) وعامل عمر بن الخطاب وحكم أهل العراق، وقد خلع صاحبه علياً من الخلافة كما زعم أنه خلع خاتمه من إصبعه. ألا وإني قد أثبتُ معاوية في الخلافة كما أثبت خاتمي هذا في إصبعي. (2)

ص: 375


1- فتكلم أبوموسى، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح اللّه به شأن هذه الأمة.. فتقدم أبوموسى، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! ... أهلاً . شرح نهج البلاغة، ج2، ص255، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.
2- "إني قد خلعت علياً من الخلافة كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، والسلام. وقام عمرو بن العاص، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: أيها الناس!... إصبعي". الفتوح، المجلد الثاني، ص211، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.

الاختلاف والاشتباك

لما انتبه أبو موسى إلى خدعة عمرو بن العاص، غضب فصاح ،ما لك لا وفقك اللّه، قد غدرت وفجرت. وإنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث إلى آخر الآية. فقال له عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً إلى آخر الآية.

ثم اشتد العراك بين الرجلين فشتم أحدهما الآخر وأمسك كل منهما بتلابيب الآخر ؛ ولكن سبق السيف العذل وانتهى التحكيم بفوز الباطل وانهزام الحق. (1)

بعد الاشتباك بين أبي موسى وعمرو بن العاص، قام سعيد بن قيس الهمداني وقال لهما: واللّه لو اجتمعتما على الهدى ما زدتمانا على ما نحن الآن عليه وما ضلالكما يلازمنا (ضلالكما في خلع الإمام علي(علیه السلام) غير ملزم لنا) وما رجعتما إلا بما بدأتما وإنا اليوم لعلى ما كنا عليه أمس (من موالاتنا لعلي (علیه السلام)). (2)

غير أن المؤسف المؤلم أن الحرب كانت قد فقدت حرارتها ولم يعد ممكناً إعادة تعبئة الجيش للقتال والإجهاز على جيش معاوية، فقد راح جيش العراق ضحية الاضمحلال والتراخي. بالمقابل، استعادت بقايا جيش معاوية الروح وما كان مستبعداً أن تأخذ زمام المبادرة. وهذا ما أثبتته الأحداث اللاحقة التي سنتناولها، المتمثلة بتعرضات الإزعاج والتحرشات التي قام بها جيش معاوية وأريقت بسببها دماء كثيرة من أناس عزّل قتلوا غدراً، وأموال ومساكن نهبت وقرى كثيرة هدمت.

واضطربت الأوضاع في المسجد بعد التحكيم، حيث اشتبك أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) وأهل الشام (3).وهجم شريح بن هانئ على عمرو بن العاص وضربه بالسوط. فانبرى له ابن عمرو بن

ص: 376


1- فقال له أبو موسى: ما لك ... الآية". وقعة صفين، ص 546، التسليم على معاوية بالخلافة ؛ العقد الفريد، ج4، ص 348، أمر الحكمين.
2- قام سعيد بن قيس الهمداني فقال: واللّه، .... أمس". وقعة صفین، ص547، كلام سعيد وكردوس.
3- "تشاتموا جميعاً وضج الناس وقالوا: هذه خديعة ونحن لا نرضى بها". الفتوح، المجلد الثاني، ص212، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.

العاص فضربه بالسوط، فقام جماعة وحجزوا بين الرجلين. فكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمت على شيء ندامتي ألا أكون ضربت عمرواً بالسيف بدل السوط أتى الدهر بما أتى (وليكن ما يكون) (1) وفتش أصحاب الإمام(علیه السلام) عن أبي موسى الذي كان قد فرّ هارباً إلى مكة على ظهر ناقة.

يقول ابن عباس: قبّح اللّه أباموسى! لقد حذرته وهديته إلى الرأي فما عقل. وكان أبوموسى يقول (معبراً عن ندمه على عدم الاستماع لتحذيرات ابن عباس): لقد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه وظننت أن لا يؤثر شيئاً على نصيحة الأمة . (2)

كان الإمام علي(علیه السلام) ، بعد حادثة التحكيم، يلعن، بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب معاوية وعمرو بن العاص وأباموسى الأشعري وحبيب بن مسلمة وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد بن عقبة. فلما سمع معاوية بذلك أخذ يلعن الإمام علياً والإمام الحسن والإمام الحسين (علیهما السلام) وابن عباس وقيس بن سعد بن عبادة ومالك الأشتر بعد الصلاة.

لما سمع أبو موسى بأن الإمام (علیه السلام) يلعنه، أرسل من مكة رسالة إليه جاء فيها: أما بعد، فإني قد بلغني أنك تلعنني في الصلاة ويؤمن خلفك الجاهلون. وإني أقول كما قال موسى(علیه السلام) : ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين. (3)

كلام أبي موسى يقطر خسة ونذالة. فرغم معرفته بأنه قد خُدع وأنه أضفى المشروعية على حكم بني أمية الظالمة بجهله وحماقته وسلطهم على أرواح المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وفتح باب الفتنة والاضطراب بين المسلمين، فإنه ليس فقط لا يعبر عن ندمه على ما صدر عنه بل ينعت أمير

ص: 377


1- "حمل شريح بن هانئ على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط وقام الناس فحجزوا بينهما. فكان شريح يقول بعد ذلك: ماندمت .. أتى به شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 256 ، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.
2- "التمس أصحاب علي (علیه السلام) أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة. وكان ابن عباس يقول: قبح اللّه ... الأمة". شرح نهج البلاغة ج 2، ص 256 ، ذيل الخطبة ،35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج.
3- "فكان علي (علیه السلام) بعد الحكومة إذا صلى الغداة والمغرب وفرغ من الصلاة وسلّم قال: اللّهُمَ العن معاوية وعمرواً وأباموسى وحبيب بن مسلمة وعبدالرحمن بن خالد والضحّاك بن قيس والوليد بن عقبة فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا صلّى لعن علياً- - وحسناً «وحسيناً وابن عباس وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر. وزاد ابن ديزيل في أصحاب معاوية أباالأعور السلمي. وروى ابن ديزيل أيضاً أن أباموسى كتب من مكة إلى علي(علیه السلام) : أما بعد ، ... للمجرمين". شرح نهج البلاغة، ج2، ص260، ذيل الخطبة 35، قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج

المؤمنين (علیه السلام) بالإجرام ، بكل ما اصطبغ به من وقاحة وصلف على أن ذوي البصائر في جيش الإمام (علیه السلام) كانوا على علم بتوجهات أبي موسى، ولكن المؤسف أن مصير التاريخ لم يكن بيدهم بل بأيدي الجهلة والضالين. حقاً، يجب أن يبكي الغيور دماً لحالة المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، إذ كتب تاريخه أمثال أبي موسى.

صمت الأشعث

ولكن الأشعث بن قيس، الذي كان زعيم معارضة مواصلة الحرب وأصرّ بشدة على سحب مالك الأشتر من ساحة القتال وعارض مرشحي الإمام (علیه السلام) للتحكيم وألح على ترشيح أبي موسى، لم يجد مقابل انفعالات الناس ومشاعرهم الملتهبة إلّا أن يلوذ بالصمت ولا ينبس ببنت شفة. (1)

غضب مالك الأشتر من سكوت الأشعث، وكان يعرف حقيقة توجهه ومخالفته لحكم أمير

المؤمنين(علیه السلام)، فقال له: أما واللّه يا أشعث ، إني لأعلم أنك راضٍ بهذا الحكم .(2)

خشي شداد بن أسد، وكان مع أهل الشام، أن يتجدد القتال بعد ما رأى من غضب جيش أمير المؤمنين(علیه السلام) من نتائج التحكيم، فخاطب جيش العراق قائلاً: يا أهل العراق! اتقوا اللّه ربكم، فإني أخاف أن نرجع إلى ما كنا عليه من الحرب. وقد علمتم أننا إن عدنا فهو، واللّه، الفناء. فاتقوا اللّه واحقنوا دماءنا ودماءكم. (3)

ص: 378


1- "أما الأشعث بن قيس فإنه سكت ولم ينطق". الفتوح، المجلد الثاني، ص 212 ، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.
2- "فقال له الأشتر : ... الحكم". الفتوح، المجلد الثاني، ص 212 ، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.
3- "وثب رجل من أصحاب معاوية يقال له شداد بن أسد البجلي فقال: يا أهل العراق! ... ودماءكم". الفتوح، المجلد الثاني، ص 212 ، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.

موقف أمير المؤمنين (علیه السلام)من التحكيم

وصلت أخبار التحكيم إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) ، وكان يتوقع ما حدث، فقال لأصحابه: أما أنا قد أخبرتكم الأمر قبل أن يكون. وقد جهدنا أن يكون الحكم غير أبي موسى فأبيتم عليّ وجئتموني به مبرنساً وقلتم قد رضينا به، فاتبعت رأيكم. والآن فلا سبيل إلى حرب القوم إلى انقضاء المدة التي كانت بيننا وبينهم (1) وفي موضع آخر، يوبخ أمير المؤمنين(علیه السلام) أصحابه العصاة قائلاً لهم: فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة. وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأيي لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم علىّ إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه وضنّ الزند بقدحه. فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... فلم تستبينوا الرشد إلّا ضحى الغد. (2)

إن التزام أمير المؤمنين (علیه السلام) بعهده، حتى لعدو لا دين له خدع جيشه بحمل المصاحف على الرماح وفرّقه وخدع ممثله في التحكيم، أباموسى، فخلعه من الحكم، هذا الالتزام يبين أنه (علیه السلام) ما كان ليضحي بالأخلاق من أجل الأمور السياسية في أي حال من الأحوال وتحت أي ظرف وأنه لم يكن يعترف بسياسة "الغاية تبرر الوسيلة". بل احترم عهده حتى مع الغدرة الفجرة أمثال معاوية وعمرو بن العاص.

ص: 379


1- "وبلغ ذلك علياً فقال: ... وبينهم". الفتوح، المجلد الثاني، ص 212، ذكر غرور عمرو بن العاص صاحبه.
2- نهج البلاغة الخطبة 35.

ص: 380

الفصل السابع

اشارة

ص: 381

ص: 382

غارات معاوية على المدن

اشارة

بعد نجاح خدعة عمرو بن العاص في صفين، استعاد جيش الشام حياته بعد أن كان على شفا الانهيار التام في صفين، وبدأ يحول هزيمته الوشيكة إلى نصر. أما العراقيون فكانوا يمرون بظروف مغايرة تماماً ؛ إذ دبّت فيهم الفرقة والانقسامات. فقد اتهم جماعة منهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بالكفر لقبوله التحكيم وخرجوا يعارضونه، فأحدثوا ثلمة في جيشه. ومن جانبه، استغل معاوية هذا التحول أقصى استغلال فشن عدة غارات على المناطق التابعة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وارتكبوا أفظع الجرائم فيها لإضعاف حكم الإمام وإسقاطه.

1- غارة الضحاك بن قيس

أول غارة شنها جيش الشام قادها رئيس شرطة الشام الضحاك بن قيس الفهري. فقد أرسله معاوية في ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من جنود الشام صوب العراق وأمره بأن يهجم على الكوفة ويخضعها لسلطانه.(1)

عندما بعث معاوية الضحاك صوب الكوفة أمره بما يلي: سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت. فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلاً فأغر عليهما. وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى. ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها (إذا سمعت بفرسان جاؤوا لقتالك فلا تتريث في التصدي لهم).

ص: 383


1- "لما كان من أمر صفين ما كان وحكم الحكمان ما حكما ورجع أهل الشام إلى الشام وأهل العراق إلى العراق واستقر علي بن أبي طالب(علیه السلام) بالكوفة وجاء معاوية برجل يقال له الضحاك بن قيس الفهري وهو صاحب شرطة معاوية، فضم إليه خيلاً عظيمة من خيل أهل الشام ووجّه به نحو أهل العراق وأمره أن يأخذ على طريق السماوة من بلاد بني كلب بن وبرة حتى ينقض على الكوفة وسوادها فيغير على ما قدر عليه. قال: فأقبل الضحاك في خيل أهل الشام حتى نزل الثعلبية، ثم صار منها إلى القطقطان. وبلغ ذلك علياً فدعا برجل من أصحابه يقال له حجر بن عدي الكندي فضم إليه ألف فارس وأمره بالمسير إلى الضحاك بن قيس". الفتوح، المجلد الثاني، ص 215، ابتداء ذكر الغارات بعد صفين.

غادر الضحاك الشام، فكان يقتل كل من يلقاه في الطريق من المخالفين لهم وينهب أموالهم. فلما وصل إلى الثعلبية هاجم قافلة الحج ونهب أموال الحجاج. ثم انطلق فصادف عمرو بن عميس ابن أخي عبدالله بن مسعود فقتله ومن معه. (1)

لما سمع أمير المؤمنين (علیه السلام) بما قام به الضحاك من قتل ونهب، جاء إلى مسجد الكوفة ليضع تدابيرمواجهة تحركات العدو وتهيئة أهل الكوفة للجهاد، فخطب في الناس وقال: يا أهل الكوفة! اخرجوا إلى العبد الصالح عمرو بن عميس وإلى جيوش لكم قد أصيب منها طرف! اخرجوا فقاتلوا عدوكم وامنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين!

(قال): فردّوا عليه رداً ضعيفاً ورأى منهم عجزاً وفشلاً، فقال: واللّه، لوددت أن لي بكل مائة منكم رجلاً منهم. ويحكم اخرجوا معي ثم فروا عني إن بدا لكم! فوالله ما أكره لقاء ربي على نيتي وبصيرتي وفي ذلك روح لي عظيم وفرج من مناجاتكم ومقاساتكم ومداراتكم مثل ما تدارى البكار العمدة ( يتجنب ركوب الإبل الصغيرة المفطورة السنام ويتحاشى تحميلها) والثياب المتهترة كلما خيطت من جانب تهتك على صاحبها من جانب آخر. (2)

ثم دعا الإمام (علیه السلام) حجر بن عدي وبعثه في أربعة آلاف إلى الضحاك بن قيس. فخرج حجر بن عدي من الكوفة واتجه صوب "السماوة" والتقى في أرض قبيلة بني كلب بامرئ القيس بن عدي الكلبي. فأطلعه امرؤ القيس على المسالك والطرق، فسار حتى لقي الضحاك الضحاك بن قيس فوقع قتال

ص: 384


1- "دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري وقال له: سر ... فتقاتلها . فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف جريدة خيل. قال: فأقبل الضحاك يأخذ الأموال ويقتل من لقي من الأعراب حتى مرّ بالثعلبية فأغار خيله على الحاج فأخذ أمتعتهم. ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي وهو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود صاحب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) فقتله في طريق الحاج عند القطقطانة وقتل معه ناساً من أصحابه". الغارات، ج2، ص 418 ، غارة الضحاك بن قيس وهزيمته.
2- قال أبوروق: فحدثني أبي أنه سمع علياً (علیه السلام) وقد خرج إلى الناس وهو يقول على المنبر: يا أهل الكوفة! ... آخر". الغارات، ج 2، ص 418 ، غارة الضحاك بن قيس وهزيمته.

شديد بين الجيشين انتهى بقتل تسعة عشر من رجال الضحاك واثنين من رجال حجر. ففرّ الضحاك من المعركة تحت جنح الليل. (1)

ص: 385


1- "دعا حجر بن عدي الكندي من خيله فعقد له ثم رايةً على أربعة آلاف ثم سرحه. فخرج حتى مر بالسماوة وهي أرض كلب، فلقي بها امرأ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم الكلبي أصهار الحسين بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) فكانوا أدلاءه على طريقه وعلى المياه. فلم يزل مغذاً في أثر الضحاك حتى لقيه بناحية فواقفه فاقتتلوا ساعة فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلاً وقتل من أصحاب حجر رجلان ؛ عبدالرحمن وعبد الله الغامدي. وحجز الليل بينهما فمضى الضحاك. فلما أصبحوا لم يجدوا له ولأصحابه أثراً". الغارات، ج2، ص 425 ، غارة الضحاك بن قيس وهزيمته.

- غارة سفيان بن عوف

بعد الضحاك بن قيس، دعا معاوية سفيان بن عوف الغامدي فقال له: إني باعثك في جيش كثيف [ذي أداة وجلاد] فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها. فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلّا فامض حتى تغير على الأنبار. فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تغير على المدائن. ثم أقبل إلي واتق أن تقرب الكوفة. واعلم أنك إن أغرت على [أهل] الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة. إن هذه الغارات، يا سفيان ،على أهل العراق ترهب قلوبهم وتجرئ كل من كان له فينا هوىً [منهم] ويرى فراقهم. وتدعو إلينا كل من كان يخاف الدوائر. وخرّب كل ما مررت به [من القرى] واقتل كل من لقيت ممن ليس هو على رأيك. واحرب الأموال (انهبها)، فإنه شبيه بالقتل وهو أوجع للقلوب. (1)

بعد أن تلقى التعليمات من معاوية، شرع سفيان بن عوف الغامدي في تجهيز الجيش واستطاع أن يجمع نحو ستة آلاف رجل ويُعدهم للقتال. ثم انطلق بجيشه بمحاذاة الفرات حتى وصل هيت. ثم توجه إلى صفوراء ففرّ أهلها. ووصل أخيراً إلى مدينة الأنبار فقام بمجزرة واسعة ونهب كبير للأموال فانبث الذعر في الناس. وبعد أن نشر الرعب بالغارات الليلية لإضعاف الروح المعنوية في أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) وحقق الأهداف التي حددها له معاوية، ترك سفيان بن عوف الأنبار وعاد أدراجه إلى الشام. فاستقبله معاوية استقبالاً حافلاً وخيّره في إمارة أية منطقة مدينة يحب، مكافأة له على الجرائم التي ارتكبها وتشجيعاً. (2)

صدى غارة الأنبار

وصلت أخبار جرائم ا إلى مسامع الإمام(علیه السلام) . فحزن وأمر الناس بالاستعداد للجهاد والتحرك صوب العدو. ولكن الناس لم يستجيبوا لندائه. فلما رأى الإمام (علیه السلام) تخاذل أهل الكوفة

ص: 386


1- "عن سفيان بن عوف الغامدي، قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك ... للقلوب". الغارات، ج2، ص464، غارة سفيان بن عوف الغامدي.
2- الغارات، ج 2، ص 467 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي.

والعراق سار بنفسه ماشياً إلى النخيلة. فجاءه جماعة من رؤساء القبائل وقالوا له: عد أنت إلى الكوفة وسنتكفل نحن بالمهمة. ولكن الإمام (علیه السلام) كان يعرف عدم التزامهم بالعهد، فقال لهم: إنكم لا تعينونني ولا تدفعون عن أنفسكم. ولكنه اضطر للعودة إلى داره بإلحاح منهم. وبما أنه لم يكن مسروراً بوعود رؤساء القبائل فقد دعا سعيد بن قيس وبعثه في ثمانية آلاف للتصدي لسفيان بن عوف. ولكن جيش سفيان كان قد فرّ من المنطقة قبل أن يصل إليها جيش سعيد بن قيس. (1)

ص: 387


1- "أن سفيان بن عوف لما أغار على الأنبار، قدم علج من أهلها على علي (علیه السلام) فأخبره الخبر. فصعد المنبر فقال: أيها الناس! إن أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار وهو معتز لا يخاف ما كان، فاختار ما عند اللّه على الدنيا. فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم. فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا. ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلموا أو يتكلم متكلم منهم بخير [فلم ينبس أحد منهم بكلمة]. فلما رأى صمتهم على ما في أنفسهم نزل فخرج يمشي راجلاً حتى أتى النخيلة [والناس يمشون أحاط به قوم من أشرافهم] فقالوا: ارجع يا أميرالمؤمنين، نحن نكفيك. فقال: ما تكفونني ولا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو واجم كئيب. ودعا سعيد بن قيس الهمداني فبعثه من النخيلة بثمانية آلاف. وذلك أنه أخبر أن القوم جاؤوا في جمع كثيف، فقال له: إني قد بعثتك في ثمانية آلاف. فاتبع هذا الجيش حتى تخرجه من أرض العراق. فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم. حتى إذا بلغ أداني أرض قنسرين وقد فاتوه، ثم انصرف". الغارات، ج2، ص 470، غارة سفيان بن عوف الغامدي.

شكوى أمير المؤمنين (علیه السلام) من أهل الكوفة

اشارة

عاد سعيد بن قيس من ساحة الحرب وأخبر أمير المؤمنين (علیه السلام) بما قام به. وكان الإمام (علیه السلام) يومئذ مريضاً لا يقوى على الحركة. فلما سمع كلام قيس بن سعد (هكذا، والصحيح سعيد بن قيس: م) كتب نصاً وسلمه إلى غلامه سعد ليقرأه على الناس. وذهب بنفسه إلى المسجد بمعية الحسنين (علیه السلام) وعبدالله بن جعفر(1) قرأ الكتاب بصوت قوي وكان أمير المؤمنين (علیه السلام) يستمع إليه في كتابه، قال الإمام(علیه السلام) بعد الحمد للّه والثناء عليه والصلاة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : بسم اللّه الرحمن الرحيم. من عبدالله علي إلى من قرئ عليه كتابي من المسلمين. سلام عليكم. أما بعد! فالحمد للّه رب العالمين وسلام على المرسلين ولا شريك للّه الأحد القيوم وصلوات اللّه على محمد والسلام عليه في العالمين. أما بعد، فإني قد عاتبتكم في رشدكم حتى سئمت. أرجعتموني بالهزء من قولكم حتى برمت هزء من القول لا يعاديه، وخطل لا يعز أهله. ولو وجدت بداً من خطابكم والعتاب إليكم ما فعلت. وهذا كتابي يُقرأ عليكم فردوا خيراً وافعلوه، وما أظن أن تفعلوا. فاللّه المستعان.

أيها الناس! إن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة [فتحه اللّه لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع اللّه الحصينة وجنته الوثيقة]. فمن ترك الجهاد في اللّه ألبسه اللّه ثوب ذلة وشمله البلاء وضرب على قلبه بالشبهات وديث بالصغار [والقماءة وأديل الحق منه بتضييع الجهاد] وسيم الخسف ومنع النصف.

ص: 388


1- هو عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب وأمه أسماء بنت عميس وهو زوج السيدة زينب الكبرى(سلام اللّه علیها) . وُلد في أيام هجرة المسلمين إلى الحبشة وتوفي بالمدينة سنة 80 للهجرة ودفن في البقيع. يصفه المرحوم نمازي بأوصاف عظيمة مثل جليل القدر ورفيع الشأن وآية من آيات الصبر والجود والكرم. قيل في صفاته إن أخلاقه كانت شبيهة بأخلاق النبي(صلی اللّه علیه وآله) . بلغ من السمو أن اتفق السنة والشيعة على مدحه. يقول فيه المرحوم الخوئي إن منزلته من الرفعة والسمو مما لا يحتاج إلى تعريف أو تمجيد. عبد اللّه من رواة حديث الغدير وكان من صحابة رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) وأمير المؤمنين والحسن والحسين (علیهم السلام) نصر الحسين (علیه السلام) في كربلاء بابنيه عون وجعفر اللذين استشهدا في الواقعة. يقول المرحوم المامقاني إن عبد الله كان معذوراً في عدم المشاركة في واقعة الطف فيبدو أنه كان ضريراً حينها. كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يمنعه مع الحسنين (علیهما السلام) والعباس بن ربيعة وعبد اللّه بن عباس من المبارزة الفردية في الحروب ليحفظ أرواحهم تنقيح المقال في علم الرجال، ج2، ص173، ترجمة عبد الله بن جعفر، الرقم 6784 ؛ مستدركات علم رجال الحديث، ج 4، ص 500، ترجمة عبد الله بن جعفر، الرقم 8151 ؛ معجم رجال الحديث، ج10، ص137، ترجمة عبد الله بن جعفر، الرقم 6751 ؛ قاموس الرجال، ج 6، ص 283 ، ترجمة عبد الله بن جعفر، الرقم 4238.

ألا وإني قد دعوتكم إلى جهاد عدوكم ليلاً ونهاراً وسراً وجهراً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلّا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم [وثقل عليكم قولي فعصيتم واتخذتموه وراءكم ظهرياً] حتى شُنت عليكم الغارات في بلادكم [وملكت عليكم الأوطان].

وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار فقتل بها أشرس بن حسان فأزال مسالحكم عن مواضعها وقتل منكم رجالاً صالحين. وقد بلغني أن الرجل من أعدائكم كان يدخل بيت المرأة المسلمة والمعاهدة فينتزع خلخالها من ساقها ورعثها من أذنها فلا تمتنع منه. ثم انصرفوا وافرين لم يكلم منهم رجل كلماً. فلو أن امراً [مسلماً] مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان عندي جديراً.

فيا عجباً عجباً واللّه يميت القلب ويجلب الهم ويسعر الأحزان من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم.

فقبحاً لكم وترحاً. لقد صيرتم أنفسكم غرضاً يُرمى ؛ يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تغزون، ويُعصى اللّه وترضون، ويقضى إليكم فلا تأنفون.

قد ندبتكم إلى جهاد عدوكم في الصيف فقلتم : هذه حمارة القيظ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر. [وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد.] فكل هذا فراراً من الحر والصر [فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون] فأنتم، واللّه ،من حرّ السيوف أفر. لا، والذي نفس ابن أبي طالب بيده، [عن] السيف تحيدون. فحتى متى ؟ وإلى متى؟

يا أشباه الرجال ولا رجال! ويا طغام الأحلام ؛ أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال! اللّه يعلم، لقد سئمت الحياة بين أظهركم. ولوددت أن اللّه يقبضني إلى رحمته من بينكم. وليتني لم أركم ولم أعرفكم ؛ معرفة، واللّه، جرت ندماً وأعقبت سدماً. أوغرتم، يعلم اللّه، صدري غيظاً وجرعتموني جرع التهمام أنفاساً وأفسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان ،حتى قالت قريش وغيرها: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب.

ص: 389

اللّه أبوهم! وهل كان منهم رجل أشدّ مقاساةً وتجربة ولا أطول لها مراساً مني ؟ فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، فها أنذا قد زرفت على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يطاع (1)في موضع آخر يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) مستشرفاً مستقبل أهل الكوفة: أما إنكم ستلقون بعدي أثرة يتخذها عليكم الضلال سنة، وفقراً يدخل بيوتكم، وسيفاً قاطعاً. وتتمنون عند ذلك أنكم رأيتموني وقاتلتم معي وقتلتم دوني وكأن قد ( ولكن بعد فوات الأوان.(2)

استناداً إلى العلم الذي تلقاه من رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) ، وكان الإمام(علیه السلام) يعلم أن بني أمية سيتسلطون على رقاب المسلمين وسيكون نصيب أهل الكوفة من ظلمهم النصيب الأكبر. يقول (علیه السلام) في خطبة أخرى: إني قد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم بطاعتهم إمامهم ومعصيتكم إمامكم، وبأدائهم الأمانة وخيانتكم، وبصلاحهم في أرضهم وفسادكم في أرضكم، وباجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، حتى تطول دولتهم وحتى لا يدَعوا اللّه محرماً إلّا استحلّوه، حتى لا يبقى بيت وبر ولا بيت مدر إلّا دخله جورهم وظلمهم حتى يقوم الباكيان ؛ باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه، وحتى لا يكون منكم إلّا نافعاً ( هكذا : م) لهم أو غير ضار بهم، وحتى يكون نصرة أحدكم منهم كنصرة العبد من سيده ؛ إذا شهده أطاعه وإذا غاب عنه سبّه. فإن أتاكم اللّه بالعافية فاقبلوا وإن ابتلاكم فاصبروا، فإن العاقبة للمتقين.(3)

بعد كلام الإمام(علیه السلام) أعلن الحارث بن عبدالله الهمداني الجهاد بأمر الإمام(علیه السلام) وأبلغ الراغبين بالجهاد بالتجمع في الرحبة. وفي اليوم التالي ذهب أمير المؤمنين(علیه السلام) الرحبة وانتظر أن يلتحق به الناس. ولكن لم يحضر سوى ثلاثمائة رجل. فتألم الإمام (علیه السلام)بشدة من تصرف أهل الكوفة واستمر حزنه أياماً وكان بادياً على وجهه وبعد أن تخلف أهل الكوفة أكثر من مرة عن إجابة دعوة الإمام (علیه السلام) إلى جهاد أهل الشام ، حضر(علیه السلام) في مسجد الكوفة مرة أخرى وقال: أما بعد أيها الناس! فوالله

ص: 390


1- فلبث علي(علیه السلام) تُرى فيه الكآبة والحزن حتى قدم عليه سعيد بن قيس. فكتب كتاباً وكان في تلك الأيام عليلاً فلم يطق على القيام في الناس بكل ما أراد من القول. فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ومعه الحسن والحسين (علیهما السلام)وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب. فدعا سعداً مولاه فدفع الكتاب إليه فأمره أن يقرأه على الناس. فقام سعد بحيث يسمع علي قراءته وما يرد عليه الناس، ثم قرأ الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم ... لا يطاع". الغارات، ج2، ص 472، غارة سفيان بن عوف الغامدي.
2- الغارات، ج 2، ص 483 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي.
3- "أنه قال: سمعت علياً (علیه السلام) يقول: إني ... للمتقين". الغارات، ج2، ص 483 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي.

لأهل مصركم في الأمصار أكثر من الأنصار في العرب، وما كانوا يوم أعطوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) أن يمنعوه ومن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلّا قبيلتين صغير مولدهما، وما هما بأقدم العرب ميلاداً ولا بأكثرهم عدداً. فلما أووا النبي (صلی اللّه علیه وآله) وأصحابه ونصروا اللّه ودينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة وتحالفت عليهم اليهود وغزتهم اليهود والقبائل قبيلة بعد قبيلة. فتجردوا لنصرة دين اللّه وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل وما بينهم وبين اليهود من العهود، ونصبوا لأهل نجد وتهامة وأهل مكة واليمامة وأهل الحزن والسهل. [ وأقاموا] قناة الدين وتصبروا تحت أحلاس الجلاد حتى دانت الرسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) و العرب ورأى فيهم قرة العين قبل أن يقبضه اللّه إليه. فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب.

فقام إليه رجل آدم طوال فقال: ما أنت بمحمد ولا نحن بأولئك الذين ذكرت، فلا تكلفنا ما لا طاقة لنا به! فقال له علي (علیه السلام): أحسن سمعاً تحسن إجابة! ثكلتكم الثواكل، ما تزيدونني إلاّ غماً. هل أخبرتكم أني محمد (صلی اللّه علیه وآله) وأنكم الأنصار؟ إنما ضربت لكم مثلاً، وإنما أرجو أن تأسوا بهم.

ثم قام رجل آخر فقال: ما أحوج أمير المؤمنين [اليوم] ومن معه إلى أصحاب النهروان! ثم تكلم الناس من كل ناحية ولغطوا، فقام رجل فنادى بأعلى صوته: استبان فقد الأشتر على أهل العراق. وأشهد أن لو كان حياً لقلّ اللغط ولعلم كل امرئ ما يقول.

فقال (صلی اللّه علیه وآله) لهم: هبلتكم الهوابل، لأنا أوجب عليكم حقاً من الأشتر. وهل للأشتر عليكم من الحق إلاّ حق المسلم على المسلم؟ فغضب ونزل. (1)

فقام حجر بن عدي وسعيد بن قيس الهمداني فقالا: لا يسؤك اللّه يا أمير المؤمنين. مرنا بأمرك نتبعه. فواللّه ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك. (2)

ص: 391


1- "ثم أمر الحارث [بن] الأعور الهمداني فنادى في الناس: أين من يشري نفسه لربه ويبيع دنياه بآخرته؟ أصبحوا غداً بالرحبة إن شاء اللّه ولا يحضرنا إلّا صادق النية في المسير معنا والجهاد لعدونا. فأصبح بالرحبة نحو من ثلاثمائة. فلما عرضهم قال: لو كانوا ألفاً كان لي فيهم رأي. قال: وأتاه قوم يعتذرون، وتخلف آخرون، فقال: وجاء المعذرون وتخلف المكذبون. قال: ومكث أمير المؤمنين أياماً بادياً حزنه شديد الكآبة. ثم إنه نادى في الناس فاجتمعوا، فقام خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد .... ونزل" . الغارات، ج2، ص 479 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي.
2- فقام .... في طاعتك. فقال لهم: تجهزوا للمسير إلى عدونا". الغارات، ج2، ص 481 ، غارة سفيان بن عوف الغامدي.

كلام أمير المؤمنين(علیه السلام) وأجوبة أهل الكوفة عليه يدل على نوعية الناس الذين كان الإمام (علیه السلام) يتعامل معهم وكم كانوا متمردين عليه. ولا يستبعد ممن تربى على ثقافة الحكام السابقين وشارك في الفتوحات بدوافع دنيوية مادية أن يتمرد على أمير المؤمنين (علیه السلام)الذي لم يسر بهم على سنة الحكام السابقين بل سار بهم على جادة الحق.

-1هجوم يزيد بن شجرة الرهاوي على مكة

دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي فقال له : إني مسرٌ إليك سراً فلا تطلعن على سري أحداً حتى تخرج من أرض الشام كلها. إني باعثك إلى أهل اللّه وإلى حرم اللّه وأهلي وعشيرتي وبيضتي التي انفلقت عني واليها رجل ممن قتل عثمان وسفك دمه و[في ذلك] شفاء لنا ولك وقربة إلى اللّه وزلفى. فسر على بركة اللّه حتى تنزل مكة، فإنك الآن تلاقي الناس هناك بالموسم. فادع الناس إلى طاعتنا واتباعنا، فإن أجابوك فاكفف عنهم واقبل منهم، وإن أدبروا عنك فانبذهم وناجزهم ولا تقاتلهم حتى تبلغهم أني قد أمرتك أن تبلغ عني. فإنهم الأصل والعشيرة وإني لاستبقائهم محب ولاستئصالهم كاره. (1)

بعد أن تلقى الأوامر من معاوية، غادر يزيد بن شجرة الشام وأرسل الحارث بن نمير التنوخي في مقدمة جيشه. وانطلق هو حتى وصل وادي القرى ثم دخل مكة عن طريق الجحفة في العشرة الأولى من ذي الحجة.

كان قثم بن العباس والي أمير المؤمنين(علیه السلام) على مكة، فسمع بتقدم جيش يزيد بن شجرة فخطب بالناس وطلب منهم الاستعداد للجهاد، فلم يستجب له أحد. فقال لهم: علمت من أفعالكم أنكم لستم أهل حرب وجهاد. ثم نزل من المنبر ومضى يهيئ أسباب سفره للهرب من مكة. فنصحه أبوسعيد الخدري وحذره من سوء السمعة والخوف من العدو.

ص: 392


1- الغارات، ج2، ص 504 ، إرسال معاوية يزيد بن شجرة إلى أهل مكة.

وكتب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى قثم بن العباس يوصيه بالثبات بوجه جيش الشام. فاقتنع قثم ،من كلام أبي سعيد الخدري وكتاب الإمام(علیه السلام) ، بالبقاء في مكة.

في تلك الأثناء وصل يزيد بن شجرة إلى مكة. ونادى مناديه بالناس أنهم آمنون وأنه لا شأن له بهم إلّا من تعرض له. فذهب جماعة من الحاج إلى قثم بن العباس ويزيد بن شجرة وطلبوا منهما أن يتصالحا. ولكن قثم رفض الفكرة لأنه لم يكن يحسن الظن بأصحابها وكان يعتقد أنها مجرد خدعة وحيلة. ومن جانبه، كان يزيد بن شجرة يتحاشى إراقة دماء المسلمين. فمكث يزيد في مكة زمناً ثم غادرها قبل وصول جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) إليها. فقام قائد جيش الإمام (علیه السلام) بملاحقتهم وأسر بعضهم ثم تم تبادل الأسرى، وهكذا انهزم يزيد بن شجرة فعاد أدراجه إلى الشام دون أن يحقق شيئاً. (1)

-2 هجوم بسر بن أرطاة

علم معاوية من جواسيسه أن أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) لا يطيعون إمامهم ولا رغبة لهم في القتال وأن التخاذل بلغ بهم حداً جعلهم يتقاعسون عن القتال حتى في أطراف العراق. فأدرك أن الظروف مواتية لتوجيه الضربة إلى المواضع الخاضعة للإمام(علیه السلام) . فدعا بسر بن أرطاة وأمره بالزحف الليالي صوب المدينة. فذهب بسر بجيشه إلى المدينة ودعا أهلها إلى بيعة معاوية فأجابوه إلى ذلك. ثم قام بإحراق بيوت الشيعة وأنصار أمير المؤمنين(علیه السلام) . ثم انطلق صوب مكة بعد أن أرعب الناس وحملهم على مبايعة معاوية. ومن مكة انطلق إلى اليمن وكان يقتل كل من وجده في طريقه من شيعة الإمام

علی (علیه السلام) ويستولي على أموالهم. (2)

ص: 393


1- الغارات، ج2، ص 506 ، إرسال معاوية يزيد بن شجرة إلى أهل مكة.
2- "لما بلغ معاوية تفرق أصحاب علي(علیه السلام) وتخاذلهم وتركهم إياه وأنه بلغ من أمرهم يندبهم إلى السواد فيأبون، أرسل بسر بن أرطاة إلى المدينة في جيش من أهل الشام. فسار حتى قدمهم فدعا الناس إلى البيعة فأجابوه. وحرق بها دوراً من دور الأنصار-- وغيرهم من شيعة علي. ثم سار إلى مكة. ثم توجه إلى اليمن لا يمر بقوم يرى أن لهم لعلي رأياً إلا قتلهم واستباح أموالهم". الغارات، ج 2، ص 554، خروج عدة من أصحاب علي (علیه السلام) والحوقهم بمعاوية.

أما توجهه نحو اليمن فسببه وجود بعض أنصار عثمان في صنعاء كانوا متألمين لمقتله. ورغم أنهم بايعوا علياً (علیه السلام)، في الظاهر، إلّا أنهم كانوا يتحينون الفرص لإظهار مخالفتهم له. ولما تمرد أصحاب أمير المؤمنين(علیه السلام) عليه في العراق واستشهد محمد بن أبي بكر وتصاعدت غارات أهل الشام، امتلك أنصار عثمان في صنعاء الجرأة للمطالبة بدمه. وكان عبيدالله بن عباس والياً على صنعاء من جانب الإمام (علیه السلام)، فقام بسجن بعض المخالفين. وهذا ما دفع بآخرين إلى الانضمام للمعارضين، فاتسعت رقعة معارضتهم وامتنعوا من دفع الضرائب إلى الدولة (1)بلغت أمير المؤمنين (علیه السلام) أنباء أهل اليمن فأرسل رسالة هدد فيها أهل صنعاء وهدد المتمردين بالقمع الشديد وبعث لهم جيشاً

بقيادة يزيد بن قيس. فلما سم سمع أنصار عثمان بزحف جيش أمير المؤمنين عليهم كتبوا إلى معاوية يطلبون منه المساعدة. فدعا بسر بن أرطاة وأمره بالتوجه إلى صنعاء عن طريق المدينة ومكة . (2)

يشير ابن عبدالبر إلى بعض الجرائم التي ارتكبها بسر بن أرطاة في اليمن، فيقول: أغار بسر بن أرطاة على همدان وقتل وسبى نساءهم، فكنّ أول مسلمات سُبين في الإسلام. وقتل أحياءً من بني سعد (3)ويقول أبورباب وأحد أصحابه إن أباذر صلى يوماً صلاة أطال فيها الركوع والسجود ودعا واستجار باللّه. وبعد أن فرغ منها، سألته: بم كنت تدعو؟ ومم كنت تستجير باللّه؟ فقال: استجرت باللّه من "يوم البلاء" و"يوم العورة". فقلت له: وما "يوم البلاء" وما "يوم العورة"؟ فقال أبوذر: أما يوم البلاء فتلتقي فتيان من المسلمين، فيقتل بعضهم بعضاً. وأما يوم العورة فإن نساء من المسلمين ليُسبين فيكشف عن سوقهن، فأيتهن كانت أعظم ساقاً اشتريت على عظم ساقها. فدعوت اللّه ألّا

ص: 394


1- "كان الذي هاج معاوية على تسريح بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن أن قوماً بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظمون قتله لم يكن لهم نظام ولا رأس فبايعوا لعلي على ما في أنفسهم، وعامل علي يومئذٍ على صنعاء عبيدالله بن العباس وعامله على الجند سعید بن نمران. فلما اختلف الناس على علي بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر وكثرت غارات أهل الشام تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان [ ومنعوا الصدقات وأظهروا الخلاف]. فبلغ ذلك عبيدالله بن العباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال: ها هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: إنا لم نزل ننكر قتل عثمان ونرى مجاهدة من سعى عليه. فحبسهم، فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند وأظهروا أمرهم. وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة". الغارات، ج2، ص 592، غارة بسر بن أبي أرطاة على المسلمين وعلى أهل الذمة.
2- الغارات، ج2، ص 594 ، غارة بسر بن أبي ( هكذا : م ) أرطاة على المسلمين وأهل الذمة.
3- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص 242 ، ترجمة بسر بن أرطاة، الرقم 175.

يدركني هذا الزمان، ولعلكما تدركانه. (قال): فقتل عثمان، ثم أرسل معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن، فسبى نساءً مسلمات، فأقمن في السوق (1) ويقول ابن أعثم الكوفي : وقد قتل (بسر بن أرطاة) من الناس بأرض اليمن وغيرها نيفاً عن ثلاثين ألفاً من شيعة علي بن أبي طالب(2) لما سمع أمير المؤمنين (علیه السلام) بالجرائم التي ارتكبها بسر بن أرطاة في اليمن وقتله طفلي عبيدالله بن عباس، لعنه وقال: اللَّهُمَّ إن بسراً باع دينه بالدنيا، فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك.

يقول المفسر السني محمد بن أحمد القرطبي: وكانت له أخبار سوء في جانب علي(علیه السلام) وأصحابه وهو الذي ذبح طفلين لعبدالله [ عبيد اللّه ]بن العباس... فدعا عليه علي(علیه السلام) أن يطيل اللّه ويذهب عقله، فكان كذلك (3).

وبقول الشيخ المفيد والبلاذري والمسعودي وابن الجوزي إن بسر بن أرطاة فقد عقله الإمام(علیه السلام) عليه. فكان يؤتى بسيف من خشب صُنع من أجله فما زال يضرب وسادته به حتى يُغمى عليه. وحين يعود إلى وعيه يطلب سيفه مرة أخرى ويضرب به الوسادة. (4)

أما المسعودي فيقول، إضافة إلى هذا: فخرف الشيخ (بسر بن أرطاة) حتى ذهل عقله واشتهر فكان لا يفارقه. فجُعل له سيف من خشب وجُعل بين يديه زقّ منفوخ يضربه. وكلما تخرق أبدل.

ص: 395


1- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج1، ص 243، ترجمة بسر بن أرطاة، الرقم 175 ؛ الوافي بالوفيات، ج10، ص130، ترجمة بسر بن أرطاة، الرقم 4590.
2- ، المجلد الثاني، ص 236 ، خبر بسر بن أبي : هكذا :م) أرطاة الفهري وما قتل من شيعة علي بن أبي طالب (علیه السلام) بأرض اليمن
3- الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 396، ذيل الآية 38 سورة المائدة.
4- اللّهُمَ إن بسراً باع دينه بالدنيا، فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك. فبقي بسر حتى اختلط، فكان يدعو بالسيف، فاتخذ له سيفٌ من خشب، فكان يضرب به حتى يُغشى عليه. فإذا أفاق قال: السيف السيف! فيدفع إليه، فيضرب به فلم يزل ذلك دأبه حتى مات" الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد، ج1، ص321 ، إخباره (علیه السلام) بالغائبات. "إن بسراً بعد ذلك وسوس وكان يهذي بالسيف، فجعل له سيف من خشب أو من عيدان. وكانت الوسادة تدنى إليه فيضربها حتى يُغشى عليه. وربما أدني إليه زقُ فيضربه. فلم يزل كذلك حتى مات في خلافة عبدالملك بن مروان". أنساب الأشراف، ج3، ص216، ص 216، غارة بسر بن أبي ( هكذا : م) أرطاة. فلما سمع أمير المؤمنين (علیه السلام) بقتلهما جزع جزعاً شديداً ودعا على بسر، فقال: اللّهُمَ اسلبه دينه وعقله! فأصابه ذلك وفقد عقله. فكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويُجعل بين يديه زقٌ منفوخ، فلا يزال يضربه. ولم يزل كذلك حتى مات. الكامل في التاريخ، ج2، ص 432، حوادث سنة 40، ذكر سرية بسر بن أبي (هكذا: م) أرطاة إلى الحجاز واليمن.

فلم يزل يضرب ذلك الزق بذلك السيف حتى مات ذاهل العقل يلعب بخرئه (غائطه)، وربما كان يتناول منه ثم يقبل على من يراه فيقول : انظروا كيف يطعمني هذان الغلامان ابنا عبيدالله. وكان ربما شُدت يداه إلى وراء منعاً من ذلك. فأنجى ذات يوم في مكانه ثم أهوى بفيه فتناول منه، فبادروا إلى منعه فقال: أنتم تمنعونني وعبدالرحمن وقثم يطعمانني

(1)

مهما يكن من أمر فإن الإمام (علیه السلام)، لما سمع بفظائع بسر بن أرطاة، توجه إلى مسجد الكوفة ووبخ الناس فقال: أما بعد، أيها الناس! فإن أول فرقتكم وبدء نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين كانوا يلقون فيصدقون ويقولون فيعدلون ويدعون فيجيبون. وأنا واللّه، قد دعوتكم عوداً وبدءاً وسراً وجهراً وفي الليل والنهار والغدو والآصال فما يزيدكم دعائي إلّا فراراً وإدباراً. أما تنفعكم العظة والدعاء إلى الهدى والحكمة؟ وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم. ولكني، واللّه لا أصلحكم بإفساد نفسي. ولكن أمهلوني قليلاً فكأنكم، واللّه، بامرئ قد جاءكم يحرمكم ويعذبكم فيعذبه اللّه كما يعذبكم.

إن من ذل المسلمين وهلاك الدين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجاب، وأدعوكم وأنتم الأفضلون الأخيار فتراوغون وتدافعون. ما هذا بفعل المتقين. إن بسر بن أبي أرطاة وجه إلى الحجاز، وما بسر!؟ لعنه اللّه لينتدب إليه منكم عصابة حتى تردوه عن شنته. فإنما خرج في ستمائة أو يزيدون.

(قال): فسكت الناس ملياً لا ينطقون. فقال: ما لكم، أمخرسون أنتم لا تتكلمون؟

فذكر عن الحارث بن حصيرة عن مسافر بن عفيف قال: قام أبو بردة بن عوف الأزدي فقال: إن سرت يا أمير المؤمنين سرنا معك. فقال: اللّهُمَّ ما لكم؟ لا سددتم لمقال الرشد! أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟ إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ترضون من فرسانكم وشجعانكم. ولا ينبغي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق الناس، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى في الفلوات وشعف الجبال. هذا، واللّه، الرأي السوء. واللّه، لولا رجائي

ص: 396


1- مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج3، ص200، ذكر أيام الوليد بن عبدالملك بن مروان، عبيدالله بن العباس وبسر بن أرطاة.

عند لقائهم لو قد حم لي لقاؤهم لقربت ركابي ثم لشخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال، فوالله ،إن [في] فراقكم لراحة للنفس والبدن.

فقام إليه جارية بن قدامة السعدي رحمه اللّه فقال: يا أمير المؤمنين لا أعدمنا اللّه نفسك ولا

أرانا اللّه فراقك. أنا لهؤلاء القوم، فسرحني إليهم!

قال(علیه السلام): فتجهز! فإنك ما علمت ميمون النقيبة.

وقام إليه وهب بن مسعود الخثعمي فقال: أنا أنتدب إليهم يا أمير المؤمنين؟ قال: فانتدب بارك اللّه فيك. ونزل. فدعا جارية بن قدامة فأمره أن يسير إلى البصرة. فخرج منها في ألفين. وندب مع الخثعمي من الكوفة ألفين فقال لهما: اخرجا في طلب بسر بن أبي أرطاة حتى تلحقاه. فأينما لحقتماه فناجزاه، فإذا التقيتما فجارية بن قدامة على الناس.

فخرجا في طلب بسر ، فخرج وهب بن مسعود من الكوفة ومضى جارية إلى البصرة، فخرج من أرض البصرة فالتقيا بأرض الحجاز فذهبا في طلب بسر. (1)

بعد انطلاق جارية بن قدامة، أرسل إليه الإمام (علیه السلام) رساله أوصاه فيها بالتقوى والالتزام بأخلاق الحرب، فقال: أما بعد، فإني بعثتك في وجهك الذي وجهت له وقد أوصيتك بتقوى اللّه. وتقوى ربنا جماع كل خير ورأس كل أمر. وتركت أن أسمي لك الأشياء بأعيانها، وإني أفسرها حتى تعرفها. سر على بركة اللّه حتى تلقى عدوك. ولا تحتقرن من خلق اللّه أحداً. ولا تسخرن بعيراً ولا حماراً، وإن ترجلت وحفيت .ولا تستأثرن أهل المياه بمياههم ولا تشربن من مياههم إلّا بطيب أنفسهم ولا تسب مسلماً ولا مسلمة ولا تظلم معاهداً ولا معاهدة. وصلّ الصلاة لوقتها، واذكر اللّه بالليل والنهار. واحملوا راجلكم وتأسوا على ذات أيديكم. وأغذ ر حتى تلحق بعدوك فتجليهم عن بلاد اليمن وتردهم صاغرين إن شاء اللّه. (2)

ص: 397


1- الغارات، ج 2، ص 624 ، قدوم جارية اليمن وإحراقه المرتدين باليمن.
2- الغارات، ج2، ص 628 ، كتاب علي [عليه السلام] إلى جارية بن قدامة.

انطلق جارية بن قدامة مسرعاً، عملاً بتوجيهات الإمام (علیه السلام)، ولم يتعرض لأية مدينة أو حصن، ولم يتوقف إلا أحياناً لتوفير المؤونة. وأوصى أصحابه بأن يعتني بعضهم ببعض، فإذا عجزت ناقة أحدهم عن السير فيعطيه رفاقه نوقهم ويتناوبون الركوب. ثم واصل جارية بن قدامة السير حتى وصل اليمن. ولما سمع أنصار عثمان بوصول جيش الإمام(علیه السلام) ، فروا من المدن ولاذوا بالجبال. فقام أصحاب الإمام (علیه السلام) بمحاصرتهم وقمعهم جميعاً بشدة. ولما سمع بسر بن أرطاة بحملة جارية بن قدامة، هرب من اليمن متوجهاً إلى مكة. وكان لقسوته وحدة مزاجه وإسرافه في سفك الدماء، كلما مرّ ببلدة فرّ أهلها. وقام جارية بن قدامة بمطاردته إلى مكة ولكنه كان قد فرّ من هناك أيضاً. فمكث جارية في مكة حتى استشهد أمير المؤمنين (علیه السلام). (1)

ص: 398


1- الغارات، ج2، ص 632 ، خروج جارية في أثر بسر وفرار بسر منه.

ص: 399

ص: 400

الفصل الثامن

اشارة

ص: 401

ص: 402

مصير أهل الكوفة

اشارة

تغيرت الأوضاع في الكوفة بعد حرب صفين بشدة، فتعرض أهلها إلى فتنة عظيمة، وتنامت الفرقة بينهم .فأصبحوا لا يطيعون أمير المؤمنين(علیه السلام) كما كانوا يفعلون. وصاروا يختلقون الذرائع للتهرب من محاربة جيش معاوية. وقد حذرهم الإمام (عليه السلام) مراراً وتكراراً من مغبّة التمرد وعدم القتال. والتاريخ يشهد أنه بعد استيلاء بني أمية على الحكم، تسلط على أهل العراق والكوفة حكام لا يملكون ذرة من دين أو إنسانية. فصبوا عليهم صنوفاً من البلاء يعجز القلم عن وصفها. ولكي نتعرف قليلاً على أحوال أهل الكوفة في عهد بني أمية، لابد من تناول خصوصيات بعض من حكموهم.

المغيرة بن شعبة الثقفي

تولى المغيرة بن شعبة حكم الكوفة بعد تصالح الإمام الحسن (علیه السلام)مع معاوية سنة أربعين للهجرة (1). وكان يبغض أمير المؤمنين (علیه السلام) بشدة، لذلك لم يأل جهداً أيام توليه حكم الكوفة في زرع الحقد والبغض للإمام علي(علیه السلام) في قلوب الناس.

يقول أبوجعفر الإسكافي: وكان المغيرة بن شعبة يلعن علياً (علیه السلام) لعناً صريحاً على منبر الكوفة. وكان بلغه عن علي (علیه السلام) في أيام عمر أنه قال: لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره، فكان يبغضه لذلك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه. (2)حتى اعترض عليه بعض الصحابة أمثال زيد بن أرقم. (3)

ص: 403


1- "فلما قتل علي وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة ولاه عليها". تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ج18، ص308، ترجمة المغيرة، الرقم 6726 .
2- شرح نهج البلاغة، ج4، ص 69 ، ذيل الخطبة 54، فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذمّ علي (علیه السلام).
3- "أن المغيرة بن شعبة سبّ علي بن أبي طالب، فقام إليه زيد بن أرقم فقال: يا مغيرة! ألم تعلم أن رسول اللّه نهى عن سبّ الأموات؟ فلم تسبّ علياً وقد مات؟". المستدرك على الصحيحين، ج1، ص 541 ، كتاب الجنائز، الحديث 1419 ؛ المسند، ج4، ص 369، حديث زيد بن أرقم.

وكان يشتم الإمام علياً (علیه السلام) في خطب صلاة الجمعة وصلاة العيد وفي جميع خطبه ويأمر الخطباء الذين عينهم بأن يسبوا الإمام. (1)

زياد بن أبيه

كان زياد بن أبيه من أقسى من حكم الكوفة وأكثرهم إجراماً، حكمها من سنة 49حتی سنة53 هجرية. ويكفي لتقريب درجة قسوته إلى ذهن القارئ أن نذكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي، المشهور بوحشيته وكثرة سفكه للدماء، كان يتخذه مثلاً أعلى، (2) وكانت قسوته تجاه شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) أضعاف قسوة الحجاج. فحال استلامه حكم الكوفة قام بقطع أيدي ثمانين شخصاً أهلها، وكان ينوي إرغام الناس على سبّ الإمام (علیه السلام) ولعنه وقتل من يخالفه في ذلك وهدم داره. لذا أمر فجمع الناس في مسجد الكوفة وحوله حتى امتلأ المسجد. ولكنه قبل أن ينفذ مجزرة أخرى في أهل الكوفة ، أصابه اللّه بالطاعون وأهلكه به. (3)

ص: 404


1- "كان المغيرة ينال في خطبته من علي. وأقام خطباء ينالون منه. سير أعلام النبلاء، ج3، ص31، ترجمة المغيرة، الرقم 7 ؛ المسند، ج1، ص188، مسند سعید بن زيد وج4، ص 369، حديث زيد بن أرقم.
2- "كان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها... إلّا أنه أسرف وتجاوز الحد وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر". وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج2، ص31، ترجمة الحجاج بن يوسف، الرقم 149.
3- "روى أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن الجوزي في كتاب المنتظم أن زياداً لما حصبه أهل الكوفة وهو يخطب على المنبر قطع أيدي ثمانين منهم وهمّ أن يخرب دورهم ويجمر نخلهم فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد والرحبة يعرضهم على البراءة من علي (علیه السلام)وعلم أنهم سيمتنعون فيحتج بذلك على استئصالهم وإخراب بلدهم. قال عبدالرحمن بن السائب الأنصاري: فإني لمع نفر من قومي والناس يومئذٍ في أمر عظيم، إذ هومت تهويمة، فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدر أهدل، فقلت: ما أنت؟ فقال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا. فأخبرتهم، وخرج علينا خارج من القصر، فقال: انصرفوا، فإن الأمير يقول لكم: إني عنكم اليوم مشغول. وإذا بالطاعون قد ضربه، فكان يقول: إني لأجد في النصف من جسدي حرّ النار، حتى مات شرح نهج البلاغة، ج3، ص199، ذيل الخطبة 47، من كلام لهم في ذكر الكوفة ؛ بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج33، ص 214، الباب السابع عشر، باب ما ورد في معاوية وعمرو بن العاص وأوليائهما وقد مضى بعضها في باب مثالب بني أمية.

روى ابن أبي الحديد عن ابن الجوزي أنه "كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته" (1) فانطلق المنادون في المدن يبلغون الناس بأن السلطة تحرم من حمايتها كل من روى فضيلة لعلي أو أحد من أهل بيته. (2)

وبعد ابلاغ المدن بهذا الأمر، واجه أهل الكوفة أشد المصائب ؛ لأن هذه المدينة كانت أكثر محبي أمير المؤمنين(علیه السلام)، وكان واليها القاسي السفاح زياد الذي كان يعرف شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام)جيداً لأنه سبق أن كان أحد عمال الإمام(علیه السلام) . لقد نفذ زياد عملية إبادة في الكوفة. إذ كان يسعى لتغيير الصبغة الثقافية للمنطقة عن طريق القضاء التام على محبي أمير المؤمنين(علیه السلام). لذا قام بملاحقة الشيعة تحت كل شجر ومدر والتعامل معهم بأشد ما أوتي من قسوة ؛ فكان يقطع أطرافهم ويفقأ عيونهم بالحديد المحمي ويصلبهم على جذوع النخل. ونجح في إفراغ العراق من شيعة أمير المؤمنين(علیه السلام) وتشريدهم بحيث لم يبق في العراق شيعي معروف (3)

وذاع صيت قسوة زياد ووحشيته بحيث انه لما ضمّ إليه معاوية ولاية المدينة، اجتمع أهل المدينة صغاراً وكباراً عند قبر رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله) ولاذوا به ثلاثة أيام يتوسلون إلى اللّه ضاجين بالبكاء ليدفع عنهم شر زياد ؛ لأنهم كانوا يعرفون جيداً أنه لو تسلط على المدينة فسيقمعهم بأشد ما يكون. فاستجاب اللّه دعاء أهل المدينة فأصاب زياداً ببثرة في يده حكها فسرت فمات من أثرها. (4)

ص: 405


1- شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 44، ذيل الخطبة 203.
2- الاحتجاج على أهل اللجاج، ج2، ص 83، علل اشتهار الأحاديث الباطلة ومتروكية الأحاديث الحقة.
3- "قدكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (علیه السلام). فاستعمل عليها زياد بن سمية وضم إليه البصرة. يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (علیه السلام) فقتلهم تحت كل شجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم. شرح نهج البلاغة، ج11، ص44، ذيل الخطبة 203.
4- "قد كان كتب إلى معاوية أنه قد ضبط العراق بيمينه وشماله فارغة. فجمع له الحجاز مع العراقين، واتصلت ولايته بأهل المدينة. فاجتمع الصغير والكبير بمسجد رسول اللّه(صلی اللّه علیه وآله) و نجوا إلى اللّه ولاذوا بقبر النبي (صلی اللّه علیه وآله) ثلاثة أيام لعلمهم بما هو عليه من الظلم والعسف. فخرجت في كفه بثرة ثم حكها ثم سرت واسودت فصارت أكلة سوداء، فهلك بذلك". مروج ومعادن الجوهر، ج3، ص32، موت زياد.

عبیدالله بن زیاد

كان عبيدالله بن زياد واحداً من أقسى وأظلم حكام الكوفة. يقول عنه الذهبي إنه كان، قبل أن يستولي، جباناً، وحين استولى ظالماً. وقال الحسن البصري: "قدم علينا عبيدالله، أمره معاوية، غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً". وقال في موضع آخر: وكان عبيدالله جباناً

(1)يعتبره الحسن البصري فاسداً فاسقاً ويقول عنه: لم نر أسوأ منه. أتي بأحد أشراف العرب فأدناه نفسه وأخذ يضربه بالعصا على وجهه حتى كسر أنفه وشق وجنتيه فتطاير لحم وجهه وكسر العصا على رأسه. كما يروى أن عبيدالله غضب على رجل فأمر بأن يبنى أحد أعمدة القصر عليه. كان يذبح النساء في مجلسه ويتلذذ بتقطيع أوصالهن. لقد عاش والعراقيون ساخطون عليه وأهل الحجاز يرونه ذليلاً. (2)

ص: 406


1- "عن الحسن قال: قدم .... جباناً". سير أعلام النبلاء، ج3، ص545، ترجمة عبیدالله بن زياد بن أبيه، الرقم 145.
2- الإمام الحسين في مكة المكرمة، ص141.

الحجاج بن يوسف الثقفي

كان الحجاج بن يوسف أحد حكام العراق الذين ذاعت أخبار إجرامهم حتى صارت حديث الناس. يقول الذهبي إنه حكم المنطقة عشرين سنة، وكان من الخسة بحيث قيل في لهوه وما كان يشتهي: "كان الحجاج لا يصبر عن سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته إراقته للدماء(1) فبعد أن تولى حكم العراق، دخل مسجد الكوفة فخاطب الناس قائلاً: واللّه يا أهل الكوفة والعراق! إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها. وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. (2) قتل الحجاج في فترة حكمه نحو 120000 شخصاً (3) وكانت سجونه مصممة بحيث يكون الرجال والنساء معاً، وكانت عارية من السقوف التي تقي السجناء البرد والحر وحرارة الشمس في الصيف والمطر في الشتاء. هذا وقد بلغ نزلاء سجونه في فترة حكمه 12000 سجين. (4)

خالد بن عبدالله القسري

كان خالد بن عبدالله القسري أحد عمال بني أمية وبني مروان، لم يتورع عن فعل أي شيء يقربه منهم ويكسبه رضاهم. عينه الوليد بن عبدالملك والياً على مكة سنة 89 هجرية. وفي سنة 106 هجرية أسند إليه هشام بن عبدالملك حكم العراق. خدم خالد هشاماً ودولته حتى سنة 125 هجرية.

ص: 407


1- حياة الحيوان، ج1، ص 194 ، باب تاء المثناة، التيس.
2- "قال: واللّه ... واللحى". وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج2، ص33، ترجمة الحجاج بن يوسف، الرقم 149.
3- معجم البلدان، ج5، ص 349 ، حرف الواو، باب الواو والألف وما يليهما ؛ حياة الحيوان، ج1، ص198، باب التيس.
4- "لم يكن لحبسه سقف يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر في الشتاء. بل كان حوشاً مبنياً بالرخام". حياة الحيوان، ج1، ص198، باب التيس.

قام خالد بن عبدالله ببناء كنيسة لأمه (1)، فكان ذلك دليلاً على عدم اعتقاده بنبي الإسلام (صلی اللّه علیه وآله)والدين الإسلامي المبين وتعاليمه السامية.

"ذكر المبرد في الكامل أن خالد بن عبدالله القسري لما كان أمير العراق في خلافة هشام كان يلعن علياً (علیه السلام)على المنبر، فيقول: اللّهُمَ العن علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم صهر رسول اللّه على ابنته وأبا الحسن والحسين، ثم يقبل على الناس فيقول: هل كنيت؟ (هل قلت بالكناية لا بالتصريح ؟)(2).

يقول الطبري وابن الأثير: "خالد الذي يهدم المساجد ويبني البيع والكنائس ويولّي المجوس على المسلمين وينكح أهل الذمة المسلمات.


1- كانت أم خالد رومية نصرانية، فبنى لها كنيسة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن، ضرب لها بالناقوس. وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم". الأغاني، ج22، ص20، أخبار خالد بن عبد الله القسري.
2- شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 57 ، ذيل الخطبة 56 ، فصل فيما روي من سب معاوية وحزبه لعلي(علیه السلام)

(1)

لم يتورع خالد بن عبدالله عن القيام بأي شيء من أجل إظهار الموالاة للمروانيين وخطب ودهم، حتی أنه كان على استعداد لهدم الكعبة ابتغاء مرضاتهم. فعندما لامه الناس على إلقاء القبض على صاحب رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله)سعيد بن جبير وإرساله إلى الحجاج، لم يُظهر الندم على فعلته بل قال للناس: كأنكم أنكرتم ما صنعت!؟ واللّه لو كتب إليّ أمير المؤمنين (عبدالملك بن مروان) لنقضتها حجراً حجراً، يعني الكعبة. (2)

ص: 408


1- تاريخ الطبري، ج 4 ، ص 176، حوادث سنة 119 هجرية ؛ الكامل في التاريخ، ج3، ص 360، حوادث سنة 119 هجرية، ذكر خبر الخوارج هذه السنة.
2- "لما أخذ خالد بن عبد اللّه سعيد بن جبير وطلق بن حبيب، خطب فقال: كأنكم ... الكعبة". سير أعلام النبلاء، جه، ص429، ترجمة خالد بن عبد اللّه، الرقم 191. "لو أمرني أمير المؤمنين نقضت الكعبة حجراً حجراً ونقلتها إلى الشام". الأغاني، ج 22، ص 22 و 23 ، خالد بن عبد اللّه القسري، أخبار عن زندقته. وخطب بمكة وقد أخذ بعض التابعين فحبسه في دور آل الحضرمي، فأعظم الناسُ ذلك وأنكروه، فقال: قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه! واللّه لو أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجراً حجراً لنقضتها. واللّه لأمير المؤمنين أكرم على اللّه من أنبيائه". الأغاني، ج22، ص23، خالد بن عبد اللّه القسري، تطاوله على الخلافة والنبوة.

يوسف بن عمر الثقفي

كان يوسف بن عمر أحد أمراء بني أمية، حكم الكوفة من سنة 121 إلى سنة 127 هجرية (1)

ويبدو أنه ورث القسوة والتوحش من قريبه الحجاج بن يوسف الثقفي.

يقول الزركلي أن يوسف بن عمر سار على نهج الحجاج في حكمه من حيث القسوة وسفك

الدماء. (2) يقول الذهبي: كان يوسف بن عمر جباراً ظالماً شديد الجور. (3)

وكان ظلمه في حق بني هاشم وشيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) أكثر من ظلمه لباقي الناس. وفي فترة حكمه للكوفة، كان يلاحق محبي بني هاشم وآل بيت رسول اللّه (صلی اللّه علیه وآله)و يسجنهم .(4)

بلغ حقد يوسف بن عمر لبني هاشم حداً دفعه إلى أن يحرّض هشام بن عبدالملك على زيد بن علي، فكتب إليه يقول: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً حتى كانت همة أحدهم قوت يومه. فلما ولي خالد (بن عبدالله القسري) العراق قوّاهم بالأموال حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة .(5)

بالرغم من أنه يبدو أن غاية يوسف بن عمر من هذه الرسالة التعريض بغريمه القديم في العراق خالد بن عبدالله القسري، بكلام لا تؤيده الشواهد التاريخية عن حسن معاملته لبني هاشم، فإنه مع ذلك كشف عن عداوته لبني هاشم.

هذا وقد وبلغ خبث يوسف بن عمر وقسوته الذروة في استشهاد زيد بن علي. فلما ثار زيد بن الأمويين في الكوفة، قام يوسف بن عمر بقمع ثورته وقتله، واستخرج جسده من قبره الذي

ص: 409


1- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج7، ص101، ترجمة يوسف بن عمر الثقفي، الرقم 843.
2- الأعلام، ج 2، ص 243 ، ترجمة يوسف بن عمر الثقفي.
3- سير أعلام النبلاء، ج 5 ، ص 442، ترجمة يوسف بن عمر الثقفي، الرقم 197.
4- "فكان يوسف بن عمر لا يدع أحداً يعرف بموالاة بني هاشم ومودة أهل بيت رسول اللّه إلّا بعث إليه فحبسه عنده بواسط". الأخبار الطوال، ص 492 ، أخبار هشام بن عبدالملك.
5- "قال الهيثم بن عدي: وخرج زيد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على يوسف بن عمر، فكتب يوسف إلى هشام إن أهل ... الخلافة". وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج7، ص106، الرقم 843.

دفن فيه سراً وأرسل رأسه إلى هشام بن عبد الملك وصلب جسده عارياً. وبعد فترة قام بحرق جسده بأمر هشام بن عبدالملك وذرو رماده في الرياح. (1)

يبدو أن جذور قسوة يوسف بن عمر تستقي من عقده النفسية وشعوره بالنقص. فنظراً إلى أنه كان بالغ النحافة قصير القامة، فقد كان دائم الشعور بالصغار والدونية. يقال إنه إذا قال له الخياط إن القماش الذي جلبه لا يكفي ولا يتناسب مع طوله، كان يكرمه ويحسن إليه. أما إذا قال الخياط إن القماش أطول من المطلوب ولابد من تقصيره، فإنه كان يغضب عليه. (2)

ص: 410


1- "حاربه يوسف بن عمر الثقفي، فلما قامت الحرب انهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة، فقاتلهم أشد قتال... حال المساء بين الفريقين فراح زيد مثخناً بالجراح وقد أصابه سهم في جبهته. فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموه أمره، فاستخرج النصل فمات من ساعته فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش وأجري الماء على ذلك. وحضر الحجام مواراته فعرف الموضع. فلما أصبح، مضى إلى يوسف متنصحاً فدله على موضع قبره. فاستخرجه يوسف وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام أن اصلبه عرياناً، فصلبه يوسف كذلك... وبنى تحت خشبته عموداً. ثم كتب هشام إلى يوسف يأمره بإحراقه وذروه في الرياح". مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 4 ، ص 252، ذكر أيام هشام بن عبدالملك، استشهاد زيد بن علي.
2- "كان الخياط إذا أراد أن يفصل ثيابه، فإن قال: يحتاج إلى زيادة ثوب آخر، أكرمه وحباه. وإن فضل شيء أهانه وأقصاه، لأنه يكون قد نبه على قصره ودمامته". وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج7، ص109 ، ترجمة يوسف بن عمر الثقفي، الرقم 843.

الظروف القاسية التي مر بها الشيعة في عصر الأمويين

يقول الإمام الباقر(علیه السلام) في وصف الظروف الصعبة في عصر بني أمية : ... لا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا. ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله ليبغضونا إلى الناس. وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (علیه السلام). فقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة. وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره. ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيدالله بن زياد قاتل الحسين (علیه السلام) ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتلة وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال شيعة علي، وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعاً صدوقاً يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة ولم يخلق اللّه تعالى شيئاً منها ولا كانت ولا وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع. (1)

بعد أن يقدم المدائني مقدمة حول أمر معاوية بسب أمير المؤمنين (علیه السلام) ووضع الروايات عن الخلفاء والتضييق على الشيعة، يقول عن الظروف التي كانت مهيمنة على الكوفة والعراق في عصر بني أمية: فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة. حتى أن الرجل من شيعة علي (علیه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه. ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمن عليه . فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ... فلم يزل الأمر كذلك حتى مات ( استشهد ) الحسن بن علي (علیه السلام) فازداد البلاء والفتنة. فلم يبق أحد من ام هذا القبيل إلّا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض . ثم تفاقم الأمر بعد مقتل الحسين (علیه السلام). وولي عبدالملك بن مروان فاشتد على الشيعة. وولّى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي (علیه السلام) وموالاة أعدائه وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه. فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم. وأكثروا من الغض من علي (علیه السلام) وعيبه والطعن

ص: 411


1- شرح نهج البلاغة، ج11، ص 43 ، ذيل الخطبة 203، ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى.

فيه والشنآن له. حتى أن إنساناً وقف للحجاج، ويقال أنه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب، فصاح به: يا أمير! إن أهلي عقّوني فسموني علياً، وإني فقير بائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به قد وليتك موضع كذا. (1)

ص: 412


1- شرح نهج البلاغة، ج11، ص 45 ،ذيل الخطبة ،203، ذكر بعض ما مني به آل البيت من الأذى والاضطهاد.

خلاصة واستنتاج

خلاصه و تعتبر حرب صفين من الحوادث المؤسفة التي غيّرت معالم الدولة الإسلامية. فقد أدت إلى استشهاد الكثير من خلّص أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) الذين كانوا يمثلون أقطاب الجيش العراقي. بينما رفض آخرون التحكيم، رغم أنهم هم الذين كانوا فرضوه على الإمام (علیه السلام)، واعتبروا القبول به ذنباً يستلزم التوبة. فوقفوا بوجه أمير المؤمنين (علیه السلام) وتسببوا في وقوع معركة النهروان التي أدت إلى هلاك أغلب الخوارج.

هذان العاملان نتج عنهما ضعف شديد أصاب جيش العراق بعد صفين. ولما رأى أمير المؤمنين (علیه السلام) أن التحكيم أدى إلى نتائج مخالفة للاتفاق بين الطرفين، دعا العراقيين إلى استئناف قتال أهل الشام. ولكن اللحمة الأساسية لجيشه كانت قد تفككت، فأصبح الإمام(علیه السلام) أمام أناس مفتونين متخاذلين يفتقر أغلبهم إلى الدافع إلى القتال. في الجانب الآخر، علم معاوية بتصدع أركان الدولة المركزية وتمرد الناس على إمامهم (علیه السلام)، فوجد الفرصة مواتية للتعرض لأطراف دولة أمير المؤمنين(علیه السلام) . فوقعت جرائم كبيرة على هذا الأساس في تلك الفترة من قبل أيادي معاوية. وكانت النتيجة أن أخذت الجبهة الأموية بالاستقواء يوماً بعد يوم، وتنامى أملها في بسط سلطتها على جميع البلدان الإسلامية. واستمرت التحولات حتى استشهاد أمير المؤمنين (علیه السلام) وبدء إمامة الإمام الحسن (علیه السلام). حينئذ قام معاوية بعملين متزامنين لتقوية جانبه على حساب الجانب الآخر. فمن ناحية، حاول بث الرعب في صفوف المحسوبين على أنصار الإمام الحسن (علیه السلام) من ضعاف الإرادة المتخاذلين. وحاول ،من ناحية أخرى، أن يوظف المال في استدراج بعض المقربين من الإمام(علیه السلام) . وكانت النتيحة أن لاحظ الإمام (علیه السلام) قلة ناصريه ، فاضطر إلى الموافقة على كتاب الصلح الذي كان بعثه إليه معاوية. لقد اضطر إلى ذلك صوناً لأرواح ما تبقى من الشيعة. غير أن معاوية لم يلتزم بأي بند من بنود المعاهدة.

لو كان العراقيون على بصيرة من أمرهم حين كان أمير المؤمنين (علیه السلام) حياً بينهم، ولم يُخدعوا بتلك السهولة بحيلة عمرو بن العاص ولا بالظاهر المخادع لأهل الشام، لما حدث أي من الحوادث المذكورة. ولكن المؤسف المؤلم أن مصير العالم الإسلامي كان بيد مجموعة من عبيد الدنيا ضعاف

ص: 413

النفوس المتمردين ... وهكذا حكمت الشجرة الملعونة المسلمين نحواً من قرن كامل فأراقوا ما استطاعوا من دمائهم وحرّفوا ما أرادوا من الحقائق والعلوم الإسلامية.

نجم الدين الطبسي

1 ذي القعدة 1440ه

قم المقدسة

مؤسسة ولاء الصديقة (سلام اللّه علیها) .

ص: 414

ص: 415

ص: 416

المصادر والمراجع

ص: 417

القرآن

ص: 418

المصادر والمراجع

قرآن

نهج البلاغة

-الاحتجاج، الطبرسي، أحمد بن علي (حوالي 520 ه ق) ، مطابع النعمان، مع تعليقات السيد محمدباقر الخرسان، 1386ه ق، النجف، العراق.

-أحكام القرآن، الجصاص، أحمد الرازي، دار الفكر، 1428ه-. ق، بيروت، لبنان.

الأخبار الطوال، الدينوري، أبوحنيفة أحمد بن داود ، (282 ه- ق)، تحقيق: د. عصام محمد الحاج علي، دار الكتب العلمية، ط2، 2012م، بيروت.

-الاختصاص، الشيخ المفيد، أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي، (413ه ق)، المحقق: علي أكبر غفاري والسيد محمود زرندي منشورات جامعه مدرسين، بدون تاريخ، قم، إيران.

-اختیار معرفة الرجال، المعروف بالكشي، أبوجعفر محمد بن حسن الطوسي، (460ه- ق)، المصحح: حسن مصطفوي مطبعة جامعة مشهد ، 1384ه ش، مشهد، إيران.

- إرشاد القلوب المنجي من عمل به من أليم العذاب ،الديلمي حسن ين أبي الحسن، (من أعلام القرن الثامن الهجري القمري)، تحقيق السيد هاشم الميلاني، منشورات أسوة، ط3، سنة 1426ه-ق، طهران، إيران.

-الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد، أبوعبدالله محمد بن النعمان، (416 ه ق)، تحقيق: مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث، دار المفيد، ط 2 ، سنة 1414ه ق، بيروت، لبنان.

ص: 419

-الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبدالبر، جمال الدين أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر عاصم النمري القرطبي المالكي، (463 ه- ق)، تحقيق وتعليق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، ط 1، 1415ه-.ق، بيروت لبنان.

-أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير الجزري الشافعي، عزالدين أبوالحسن علي بن أبي الكرم، (630 ه- ق)، تحقيق وتعليق: الشيخ علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبدالموجود، دار الكتب العلمية، ط 3 ، 1429ه- ق، بيروت، لبنان.

-الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني الشافعي، شهاب الدين أبوالفضل أحمد بن علي، (852ه- ق) ، المحقق: أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط4، 2010م، بيروت، لبنان.

- الأصول الستة عشر من الأصول الأولية، جليلي، نعمت اللّه، غلامعلي، مهدي، مؤسسة دار الحديث، 1381ش، قم، إيران.

-اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك المعروف برحلة ابن جبير، محمد بن أحمد بن جبير، (614ه- ق)، دار الكتب العلمية، المحقق: إبراهيم شمس الدين، ط 1، 1424ه- ق، بيروت، لبنان.

-إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، أمين الإسلام، مؤسسة آل البيت، 1417ه-. ق، قم، إيران.

-الأعلام، الزركلي، خير الدين، (1410ه- ق)، دار العلم للملايين، ط17، 2007م، بيروت، لبنان.

-الأغاني أبو الفرج الإصبهاني، علي بن حسين بن محمد، (356ه- ق)، المحقق: علي مهنّا وسمير جابر، دار الفكر، بدون تاریخ، بيروت، لبنان.

الأمالي السيد المرتضى، أبو أحمد الحسين، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، 1403ه-.ق، قم، إيران.

-الأمالي، الشيخ الطوسي، أبوجعفر محمد بن الحسن، (460 ه-.ق)، دار الثقافة، ط1، 1414ه- ق، قم، إيران.

ص: 420

- الإمامة والسياسة ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبدالله بن مسلم، (276ه- ق)، منشورات

الشريف الرضي، 1388ه- ق، قم، إيران.

-أنساب الأشراف، البلاذري، أبوجعفر أحمد بن يحيى بن جابر، (279 ه- ق)، المحقق: د. سهيل زكار ود. رياض الزركلي، دار الفكر، ط 1، 1417ه-ق، بيروت، لبنان.

-بخاری و ناصبی گری ،بلقان آبادی، حسن منشورات دليل ما ط1، 1397ه- ش، قم، إيران.

-البداية والنهاية، ابن كثير، عمادالدين أبوالفداء إسماعيل بن عمر الدمشقي الشافعي، (774ه- ق)، المحقق: أحمد أبوملحم وعلي نجيب عطوي وفؤاد السيد ومهدي ناصرالدين وعلي عبدالستار، دار الكتب العلمية، ط5 ، 1409ه- ق، بيروت، لبنان.

-تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، الذهبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد، (748ه- ق)، المحقق: د. عمر عبد السلام التدمري، دار الكتاب العربي، ط 2 ، 1410ه- ق، بيروت، لبنان.

-تاريخ الأمم والملوك، المعروف بتاريخ الطبري، أبوجعفر محمد بن جرير الطبري، (310ه- ق)، دار الكتب العلمية، ط 2 ، 1408ه-.ق، بيروت، لبنان.

- تاريخ الخلفاء، السيوطي الشافعي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر، (911ه- ق)، المحقق: د. محمد كمال الدين عزّالدين علي ،عالم الكتب، ط 1، 1423ه- ق، بيروت، لبنان.

-تاريخ المدينة المنورة، ابن شبّة، أبوزيد عمر بن شبّة النميري البصري، (262ه- ق)، المحقق: فهيم محمد شلتوت، دار الفكر، 1419ه-. ق، بيروت، لبنان.

-تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، (284 ه- ق)، دار صادر، بيروت لبنان.

-تاريخ بغداد أو مدينة السلام، الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، (463ه-.ق)، دار الكتب العلمية، بدون تاریخ، بيروت، لبنان.

تاريخ خليفة بن خياط ، ( 240 ه- ق) ، دار الكتب العلمية، المحقق: مصطفى نجيب فوّاز، ط 1، 1415ه- ق، بيروت، لبنان.

ص: 421

- تاریخ دمشق الكبير ابن عساكر، أبوالقاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الدمشقي الشافعي، (571ه- ، ق)، المحقق: علي عاشور الجنوبي، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1421ه- ق، بيروت، لبنان.

- تحفة الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار الطبري، عماد الدين ،ميراث مكتوب، 1376ش، طهران، إيران.

-تذكرة الخواص، سبط بن الجوزي، أبو مظفر يوسف بن قزعلي البغدادي، (654ه- ق)، مؤسسة أهل البيت، 1401ه-.ق، بيروت، لبنان.

-التعجب من أغلاط العامة في مسألة ،الإمامة ، الكراجكي ، أبوالفتح، (449ه- ق)، تحقيق: فارس حسون كريم[ برمجيات soft ware] مكتبة أهل البيت.

- تفسير القمي، القمي، علي بن إبراهيم، تصحيح: السيد طيب الموسوي الجزائري،منشورات مكتبة الهدى، 1387 ه ق، النجف العراق.

- تفسير العياشي، أبونصر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي، تحقيق: السيد هاشم رسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، إيران.

-التنبيه والإشراف ،المسعودي، علي بن الحسين، دار الصاوي، القاهرة، مصر.

- تنقيح المقال في علم الرجال، المامقاني، عبدالله، (1351ه- ق)، المطبعة المرتضوية، 1352ه-.ق، الطبعة الحجرية، النجف الأشرف، العراق.

- تنقيح المقال في علم الرجال المامقاني ،عبدالله (1351ه- ق) ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ط 1، 1426ه-.ق، قم، طهران.

- تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني الشافعي، شهاب الدين أبوالفضل أحمد بن علي، (852ه- ق، دار الفكر ، ط 1، 1404ه-. ق، بيروت، لبنان.

-تهذيب الكمال في أسماء الرجال المزّي، جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن عبدالرحمن الدمشقي، (742ه- ق)، المحقق: أحمد علي عبيد وحسن أحمد آغا، دار الفكر، 1414ه- ق، بيروت، لبنان.

ص: 422

-الثقات، ابن حبان، أبوحاتم محمد بن حبان بن أحمد، (354ه- ق)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1395ه- ق، بيروت، لبنان.

-الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، أبوعبدالله محمد بن أحمد، (671ه.ق)، المحقق: عبدالحميد الهنداوي، المكتبة العصرية ، 1427ه-ق، بيروت، لبنان.

-الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة ، الشيخ المفيد، أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان، (413 ه- ق) ، المحقق: السيد علي مير شريفي، دفتر تبليغات إسلامي، ط1، 1413ه- ق، قم، إيران.

- حياة الحيوان كمال الدين الدميري، محمد بن موسی (808ه- ق) ، دار الفكر، 1429ه- ق، بيروت، لبنان.

-الخصال، الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، (381ه- ق)، المترجم: مدرس گیلانی، مؤسسة جاويدان للطباعة والنشر،

- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الحلي، أبو منصور الحسن (ص642) بن يوسف بن مطهر، (726 ه- ق)، تحقيق: الشيخ جواد قيومي، مؤسسة نشر الفقاهة، ط1، 1417ه-.ق،

- دانشنامه إمام علي (علیه السلام)، رشاد، علي اکبر ، پژوهشگاه فرهنگ و انديشه، [مركز أبحاث الثقافة والفكر]، 1385ه- ش، طهران، إيران.

-الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آغا بزرك الطهراني، محمد محسن ، (1389ه- ق)، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، طهران.

- ربيع الأبرار ونصوص الأخبار الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، (538 ه- ق)، المحقق: عبدالأمير مهنا، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 1، 1412ه- ق، بيروت، لبنان.

-رجال صحيح البخاري، كلاباذي، أحمد بن محمد، (398 ه- ق)، دار المعرفة، ط1، 1407ه-.ق، بيروت، لبنان.

ص: 423

- سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، الشيخ عباس القمي، (1359 ه- ق)، دار الأسوة، ط1، 1414ه- ق.

- سنن أبي داود، أبوداود السجستاني، سليمان بن أشعث، (275 ه- ق)، المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، لبنان.

-السنن الكبرى، البيهقي، أبوبكر أحمد بن الحسين، (458ه- ق)، دار الفکر، ط 1، 1419ه-.ق، بيروت، لبنان.

- سنن النسائي، النسائي، أبوعبدالرحمن أحمد بن شعيب، (303ه- ق)، المحقق: الشيخ

المسعودي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

-سؤالات ،الآجري، أبوداود السجستاني، (275ه- ق)، دار الاستقامة، المحقق: عبدالعليم عبدالعظيم البستوي، ط1، 1418ه- ق ، مكة المكرمة ، العربية السعودية [برمجيات soft ware] مكتبة أهل البيت.

-سير أعلام النبلاء، الذهبي، محمد بن أحمد، (748 ه- ق)، المحقق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط11، 1417ه-. ق، بيروت، لبنان.

- السيرة النبوية، ابن كثير، إسماعيل بن عمر، (774 ه- ق) ، المحقق: صدقي جميل العطار، دار الفكر ط 1، 1425ه- ق، بيروت، لبنان.

- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن عماد، عبد الحي بن عماد، (1089ه- ق)، دار الفکر، 14148۔ ق، بيروت، لبنان.

-شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، أبوحامد عبدالحميد بن هبة اللّه، (656 ه- ق)، المحقق: محمد أبوالفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط2، 1385ه-. ق. (ص644)

-صحيح البخاري، أبوعبدالله محمد بن إسماعيل، (256 ه- ق)، المحقق: أحمد زهوة وأحمد عناية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

ص: 424

-صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، (261 ه- ق) ، المحقق: الشيخ خليل بن مأمون شيحا، دار المعرفة ، ط2 ، 1428ه-.ق، بيروت، لبنان.

-الصحيح من سيرة الإمام علي علام السيد جعفر مرتضى العاملي، دار الحديث، ط1، 1426ه-.ق، قم، إيران.

- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيثمي المكي، (974ه-.ق)، :المحقق عبدالوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة ، القاهرة، مصر.

-الطبقات الكبرى، ابن سعد، أبوعبدالله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، (230ه-. ق)، دار صادر، ط1، بيروت، لبنان.

- العبر في خبر من غبر، الذهبي، محمد بن أحمد (748 ه- ق) ، دار الكتب العلمية، المحقق: أبوهاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، بيروت، لبنان.

العقد الفريد، ابن عبدربه الأندلسي، أبوعمر أحمد بن محمد، (328ه- ق)، دار الكتاب العربي، ط 3، 1384ه- ق ، بيروت، لبنان.

الغارات، الثقفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، (283ه- ق)، المحقق: السيد عبدالزهراء الحسيني الخطيب، دار الأضواء، ط 1، 1407ه- ق، بيروت، لبنان.

-الغدير في الكتاب والسنة والأدب، العلامّة الأميني، عبدالحسين أحمد، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، ط1، 1416ه- ق، قم، إيران.

- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني الشافعي، أبوالفضل أحمد بن علي، (852 ه- ق)، دار الريان للتراث، ط 1، 1407ه-ق، القاهرة، مصر.

-الفتوح، أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي، (314ه- ق)، دار الكتب العلمية، ط1، 1406ه- ق، بيروت، لبنان.

-فروغ ولايت، السبحاني، جعفر، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، 1307ه- ش، قم، إيران.

ص: 425

-فهرست كتب الشيعة وأصولهم وأسماء المصنفين وأصحاب الأصول، الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن (460 ه- ق)، المحقق: السيد عبد العزيز الطباطبائي، مكتبة المحقق الطباطبائي، ط1، 1420ه-. ق، قم، إيران.

- فيض القدير شرح الجامع الصغير المناوي، محمد عبدالرؤوف المناوي، (ص646) (1031ه-.ق)، مكتبة مصر، ط2، 1424ه- ق، مصر.

-قاموس الرجال، العلّامة التستري، محمدتقي، دفتر انتشارات جامعه مدرسین حوزه علمیه قم، ط 2 ، 1410ه- ق، قم، إيران.

- الكافي الكليني، محمد بن يعقوب، (328 أو 329 ه-.ق) ، المحقق: على أكبر غفاري، دار الكتب 329ه-.ق)، الإسلامية، ط 3، 1388ه- ،ق، طهران، إيران.

-الكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، علي بن أبي الكرم (630 ه- ق)، دار إحياء التراث العربي، المحقق علي شيري 1408ه- ،ق، ط1، بيروت، لبنان.

-کتاب سلیم بن قيس الهلالي، أبوصادق سليم بن قيس، (76ه- ق)، المحقق: محمدباقر الأنصاري، انتشارات دليل ما، ط5، 1428ه- ق، قم، إيران.

- كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين(علیه السلام) العلّامة الحلي حسن بن يوسف بن مطهر (726ه- ق)، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، طهران، إيران.

-كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، خزاز القمي أبو القاسم علي بن محمد بن علي، (من أعلام القرن الرابع)، المحقق: السيد عبداللطيف الحسيني الكوه كمري، انتشارات بيدار، 1401ه- ق، قم، إيران.

-الكنى والألقاب، الشيخ عباس القمي، (1359 ه- ق)، مكتبة الصدر ، طه، 1409ه- ق، طهران، إيران.

-مجمع البحرين الطريحي ( 1085 ه- ق)، المكتبة المرتضوية، المحقق: السيد أحمد الحسيني، ط2، 1362 ه- ش، طهران، إيران.

ص: 426

-مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي الشافعي، أبو الحسن علي بن أبي بكر (807ه- ق)، دار الكتب العلمية ، 1408ه-. ق، بيروت، لبنان.

- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، سبط بن الجوزي، يوسف ( 654 ه- ق)، دار الرسالة العاملية، ط1، 1434ه-.ق، دمشق، سوريا.

- مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين (346ه- ق)، المحقق: د. مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، لبنان.

- مستدرك سفينة البحار، النمازي الشاهرودي، علي بن محمد (1405ه- ق)، مؤسسة بعثت، ط1، 1409ه- ق ، طهران، إيران.

-المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، أبوعبدالله محمد بن عبدالله (405ه- ق)، المحقق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط 2 ، 1422ه-.ق، بيروت، لبنان.

-مستدركات علم رجال الحديث ،النمازي الشاهرودي، علي بن محمد (1405ه- ق)، شفق، ط1، 1412ه- ق، طهران، إيران.

-المسند، أحمد بن محمد بن حنبل (241ه- ق)، دار صادر، بيروت.

-المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة ،عبدالله بن محمد (235 ه- ق)، دار الفكر، المحقق: سعيد محمد اللحام، ط 1، 1409ه-. ق، بيروت لبنان.

-المصنف ،عبدالرزاق الصنعاني، أبوبكر عبدالرزاق بن همام الصنعاني (211ه- ق)، المحقق: حبيب الرحمن أعظمي، منشورات المجلس العلمي، بيروت، لبنان.

- مع الركب الحسيني، الإمام الحسين في مكة المكرمة، الطبسي، نجم الدين، مركز الدراسات الإسلامية، 1421ه- ق، قم، إيران.

-المعارف، ابن قتيبة الدينوري، أبو محمد عبدالله بن مسلم (276ه- ق)، دار المعار....ف، ط2، 1969م، القاهرة، مصر.

ص: 427

- معجم الأدباء، الحموي، ياقوت بن عبدالله (626ه- ق)، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1430ه-.ق، بيروت، لبنان.

- معجم البلدان الحموي، أبوعبدالله ياقوت بن عبدالله (626 ه-.ق) ، دار إحياء التراث العربي، 1399 ه ق، بيروت، لبنان.

- المعجم الكبير ، الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (360 ه-.ق) ، المحقق: حمدي عبدالمجيد، دار إحياء التراث العربي، ط2.

- معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، الخوئي، السيد أبوالقاسم (1413ه-.ق)، منشورات مدينة العلم، قم، إيران.

-معجم ما استجم، الأندلسي، عبدالعزيز البكري، دار الكتب العلمية، 1418ه-.ق، بيروت، لبنان.

-مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الإصبهاني، علي بن الحسين بن محمد (356ه- ق)، المحقق: كاظم المظفر، منشورات الرضي، ط2، 1405ه- ق، قم، إيران.

-المنار، رشيد رضا محمد المكتبة التوفيقية، القاهرة، مصر.

-مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب المازندراني، أبوجعفر رشيدالدين محمد بن علي بن شهرآشوب (588 ه- ق)، مؤسسة انتشارات علّامة، قم، طهران.

-المناقب، الخوارزمي، موفق بن أحمد (568 ه- ق) ، المحقق: الشيخ مالك محمودي، انتشارات جامعه مدرسین حوزه علمیه قم ط5، 1425ه-. ق، قم، إيران.

-المنتظم في تواريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي، أبوالفرج عبدالرحمن بن علي (597ه- ق)، المحقق: د. سهيل زكار، دار الفكر ، 1415ه-. ق، بيروت، لبنان.

-منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية ابن تيمية، أبوالعباس تقي الدين أحمد بن

عبد الحليم (728 ه- ق) ، المحقق: د. محمد رشاد سالم دار الفضيلة، الرياض، السعودية.

ص: 428

-موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الري شهري، دار الحديث، ط1، 1421ه- ق، قم، إيران.

-موسوعة التاريخ الإسلامي، محمدهادي يوسفي الغروي، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1417ه-ق، قم، إيران.

- موسوعة سيرة أهل البيت ،القرشي، باقر ، دار المعروف، 1430ه- ق، قم، إيران.

- الموطأ مالك بن أنس (179 ه- ق) ، دار إحياء التراث العربي، المحقق: محمد فؤاد عبدالباقي، بدون تاريخ، بيروت، لبنان.

-ناگفته هایی از سقیفه ،الطبسي ،نجم الدين، انتشارات دليل ما، ط1، 1395ه- ش، قم، إيران.

-نهج الحق وكشف الصدق، العلّامة الحلي، الحسن بن يوسف بن مطهر (726ه- ق)، انتشارات دار الهجرة، 1421ه- ق، قم، إيران.

- الوافي بالوفيات، الصفدي، خليل بن أيبك (764 ه- ق)، ط2 ، 1411ه-.ق.

- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، أحمد بن محمد (681 ه- ق)، دار صادر، المحقق: إحسان عباس 1398 ه-.ق.

- وقعة صفين نصر بن مزاحم المنقري ( 212 ه-.ق)، المحقق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، ط 2 ، 1382ه- ش، قم، إيران.

ص: 429

ص: 430

الفهرس

المقدمة ... 5

الفصل الأول

بداية حكم امير المؤمنين (علیه السلام) وصراع عزل معاوية ... 17

نهاية حرب الجمل وفتنة الجزيرة... 21

إرسال أول سفير إلى الشام ...23...

إرسال معاوية ممثلاً له إلى الكوفة...25

رسائل الإمام علي (علیه السلام)إلى بعض الولاة ...28

إرسال السفير الثاني إلى الشام... 31

خطبة جرير في الناس...34

خطبة معاوية في المسجد...35

كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص...37

حالة عمرو بن العاص بعد قتل عثمان ...39

تشاور عمرو بن العاص مع أبنائه... 40

نصيحة وردان غلام عمرو بن العاص ...42

دخوله على معاوية وعدم اعتنائه به...43

الاستشارة الأولى لعمرو بن العاص ...44

سيرة معاوية وشخصيته...47

شرط حكم مصر... 56

حكم عمرو بن العاص مصر...58

مخادعات معاوية وعمرو بن العاص...59

سبب تعاون معاوية مع عمرو بن العاص ...61

التشاور الثاني بين عمرو بن العاص ومعاوية...62

دعوة شرحبيل ومؤامرة معاوية ...63

قدوم شرحبيل على معاوية...65

ص: 431

المقابلة بين جرير وشرحبيل...67

شك شرحبيل وتردده...68

آخر ما قاله معاوية الجرير...70

كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى جرير...71

تحريض الناس بواسطة شرحبيل...72

تقرير جرير عن أوضاع الشام...73

سبب تأخر جرير في العودة من الشام...74

سبب اختيار جرير سفيراً...75

كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام)إلى ...76

کتاب آخر من معاوية...77

جواب أمير المؤمنين (علیه السلام) لمعاوية ...78

عودة جرير بن عبدالله من الشام...79

فرار جرير إلى قرقيسيا...80

سبب هدم دار جرير بن عبدالله...81

تصرفات جرير في ميزان التقييم...82

إرسال ثالث سفير للسلام إلى الشام...83

مكاتبات معاوية...85

التشاور مع عمرو بن العاص ...86

أ- كتاب معاوية إلى أهل المدينة...86

ب - كتاب معاوية إلى عبدالله بن عمر...87

رد عبدالله بن عمر على كتاب معاوية...89

ج - كتاب معاوية إلى سعد بن أبي وقاص...89

جواب الكتاب... 91

د - كتاب معاوية إلى محمد بن مسلمة...91

ردّ محمد بن مسلمة على كتاب معاوية...93

مشورة أبي مسلم الخولاني...94

کتابان تحريضيان من معاوية...96

ص: 432

حرب صفين...433

رد أمير المؤمنين علالسلام على كتاب معاوية ...100

عدم تسليم قتلة عثمان إلى معاوية...103

تشاور الإمام علي(علیه السلام) مع كبار أصحابه ومعاهدتهم له بالوفاء...105

قمة الموالاة ...108

قمة الإخلاص والائتمار...111

معارضو الحرب...112

أ - المندسون ...112

ب - أصحاب عبدالله بن مسعود ...113

رفض أمير المؤمنين علسلام سب أهل الشام...114

وددت أن في جندي مائة مثلك... 116

تنبؤ أمير المؤمنين (علیه السلام) عن مصير عمرو بن الحمق...117

كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية وإتمام الحجة عليه...119

جواب معاوية البغيض على كتاب أمير المؤمنين (علیه السلام)...121

السفير الرابع لأمير المؤمنين (علیه السلام) إلى معاوية...122

کتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية...124

جواب معاوية لكتاب محمد بن أبي بكر ...126

نقاط مهمة في كتاب معاوية...127

جذور إرهاصات حرب صفين...129

1- المطالبة بدم عثمان...130

اتهام أمير المؤمنين (علیه السلام) بقتل عثمان...131

دور معاوية في قتل عثمان...133

دور عمرو بن العاص في قتل عثمان...136

دور باقي الصحابة في قتل عثمان...138

دور طلحة والزبير وعائشة في قتل عثمان...140

2- حب الدنيا... 143

كلام ابن تيمية ونقده...147

نقد كلام ابن تيمية... 148

ص: 433

3- الجهل والغفلة ...150

4 معاداة أمير المؤمنين (علیه السلام) ...153

الفصل الثانی

التحرك إلى صفين... 161

تحريض أهل الشام من قبل معاوية ...162

وقت تحرك جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى صفين...162

المرور بكربلاء ...164

المرور بالمدائن والأنبار...165

مقارنة بين تعامل أمير المؤمنين (علیه السلام) وباقي الخلفاء للأعاجم...166

قصة راهب بُليخ...169

كتاب الإمام إلى معاوية وجوابه عليه...170

فصل الثالث

التحام الجنود...175

الوصول إلى صفين وسدّ الماء...177

وقف القتال لإتمام الحجة...180

الإمام يرسل سفراء إلى معاوية...181

كلنا قتلة عثمان...183

مكر معاوية...188

توقف القتال في محرم وتبادل السفراء...190

أمير المؤمنين (علیه السلام) يتم الحجة على شرحبيل وينتقد الخلفاء...191

هل قتل عثمان مظلوماً...193

فصل الرابع

حرب شاملة...197

خُلُق الجهاد...

قادة جيش أمير المؤمنين (علیه السلام) ...198

قادة جيش معاوية...200

معاوية يرشو معارضي الحرب...202

ص: 434

خيانة بعض أنصار أمير المؤمنين (علیه السلام) وحبهم للدنيا...203

حادثة راية عمرو بن العاص...204

أ - دعوة إلى المبارزة ... 204

ب - ممانعة أخي معاوية...205

شجاعة أمير المؤمنين (علیه السلام)...206

دور عمار بن ياسر المحوري في صفين...208

تحلیل تردد خزيمة بن ثابت ...211

تنويرات عمار...214

المتاعب التي سببها عمار بن ياسر الجيش معاوية ...216

تنبؤ النبي النبي (صلی اللّه علیه وآله) با استشهاد عمار...219

نقد ابن تيمية ...222

عمار معيار الحق أما علي فليس كذلك ...224

مقتل شخصيات معروفة في الجيشين...226

إرسال وفد من قادة الشام إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)...227

عدم حياء قادة الشام في مبارزة الإمام علي (علیه السلام)...231

الفرار من أمام علي ليس عارا ...234

اشتباك عنيف في السابع من صفر...236

فرار ميمنة جيش العراق...237

قيادة مالك الأشتر وانتصار جيش العراق...237

شجاعة مالك الأشتر...238

مقابلة قبيلة خثعم بعضهم بعضا...239

مقابلة قبيلة الأزد بعضها بعضاً ...240

نشر مظلومية عثمان...241

خطبة عتبة بن جويرية الحماسية...242

شمر بن ذي الجوشن في جيش الإمام (علیه السلام)...243

مندسون بين قادة جيش الإمام (علیه السلام)...244

كيفية تعامل الجيش مع أبناء الخلفاء...245

ص: 435

استغلال معاوية وجود عبيد الله بن عمر إعلامياً...247

رفض نزول الحسنين (علیهما السلام) إلى ميدان القتال...249

وصف شدة القتال...251

تقابل الوالد والولد ...253

محاولات معاوية لإيقاف القتال...254

أ - تشاور معاوية مع الأشعث بن قيس ...255

جواب الأشعث على كتاب معاوية...257

ب - تشاور معاوية مع عبدالله بن عباس ...258

حيرة قادة الشام ...261

عمليات قادة الشام ...263

تنفيذ خطة القادة...264

عصیان مروان بن الحكم أمر معاوية...266

فزع معاوية من الأنصار وإقذاعه عليهم...269

حوار النعمان بن بشير وقيس بن سعد...272

رعب جيش معاوية من الإمام علي (علیه السلام)...274

استعداد بُسر المبارزة علي (علیه السلام)...275

توبيخ معاوية لقادة جيشه...277

لقاء عتبة بن أبي سفيان وجعدة بن هبيرة...278

تقابل عتبة بن أبي سفيان وجعدة بن هبيرة...280

معاوية يطلب والإمام علي السلام ... يهدد...281

جواب أمير المؤمنين علسلام لمعاوية... 282

هل كان الأمويون من العرب؟...283

اشتداد القتال...284

مقتل عبيد اللّه بن عمر...287

اشتداد القتال في ليلة الهرير...288

العدو في أنفاسه الأخيرة... 290

كلام الأشعث بن قيس المنافق...291

ص: 436

الفصل الخامس

بداية المؤامرة...295

رفع المصاحف على رؤوس الرماح...296

الفرقة في جيش الإمام علي (علیه السلام)...299

أرضية المؤامرة...300

معارضو التحكيم في جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)...301

إصرار الأشعث بن قيس على وقف القتال وقبول التحكيم...302

خطبة عبدالله بن عمرو بن العاص...303

ردّ سعيد بن قيس على كلام عبدالله بن عمرو بن العاص...304

خطبة الإمام علي (علیه السلام) ...305

تحليل عقيدة جيش أمير المؤمنين (علیه السلام)...306

مواقف بعض رؤساء القبائل من التحكيم... 308

موقف أمير المؤمنين (علیه السلام) النهائي...310

لحظة انبثاق الخوارج...311

عودة مالك الأشتر...314

کتاب معاوية حول تعيين الحكم ...315

جواب الإمام علي (علیه السلام) على كتاب معاوية ...316

تبادل الرسائل من أجل التحكيم ... 317

كتاب أمير المؤمنين(علیه السلام) إلى عمرو بن العاص ...318

جواب عمرو بن العاص...319

إصرار المنافقين على تحكيم أبي موسى الأشعري...320

سبب عدم رضا الإمام(علیه السلام) بأبي موسى الاشعري...322

أخبار علي عند مسيره إلى البصرة ورسله إلى الكوفة...324

تحذيرات الإمام (علیه السلام) وتوجهات الأشعث القَبَلية...325

مظلومية أمير المؤمنين (علیه السلام)...327

معارضة بعض القادة لتحكيم لأبي موسى ...328

ص: 437

الفصل السادس

التحكيم... 333

تكرر التاريخ...334

بعض أصحاب الإمام (علیه السلام) يعلنون وفاءهم ... 336

إحصائية عامة عن حرب صفين... 339

وثيقة التحكيم...343

أول معارضة لنص الوثيقة...346

ندم سعيد بن قيس على التحكيم...349

خطبة الإمام بعد وقف القتال...350

ثقة أمير المؤمنين (علیه السلام) بمالك الأشتر...351

العودة من صفين إلى الكوفة...352

التحذير الأول لأبي موسى الأشعري...355

لماذا اختير أبو موسى؟...355

التحذير الثاني لأبي موسى...355

التحذير الثالث لأبي موسی...356

معارضة الخوارج للتحكيم...358

انطلاق الوفدين إلى التحكيم...359

نصيحة معاوية لعمرو بن العاص...360

المغيرة بن شعبة والحكمين...362

اللقاء الأول بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري...364

مفاوضات عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري...365

حوار عبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر...367

نصيحة أمير المؤمنين (علیه السلام) لعمرو بن العاص ...368

الاجتماع التفاوضي الثالث...371

القرار الأخير...372

يوم التحكيم ...373

الاختلاف والاشتباك...376

ص: 438

صمت الأشعث ...378

موقف أمير المؤمنين(علیه السلام)من التحكيم...379

الفصل السابع

غارات معاوية على المدن...383

-1 غارة الضحاك بن قيس...383

-2 غارة سفيان بن عوف...386

صدى غارة الأنبار ...386

شكوى أمير المؤمنين (علیه السلام) من أهل الكوفة ...388

1 - هجوم يزيد بن شجرة الرهاوي على ...392

2 - هجوم بسر بن أرطاة ...393

الفصل الثامن

مصير أهل الكوفة...403

المغيرة بن شعبة الثقفي...403

زياد بن أبيه ...404

عبيدالله بن زياد...406

الحجاج بن يوسف الثقفي...407

خالد بن عبدالله القسري...407

يوسف بن عمر الثقفي ...409

الظروف القاسية التي مرّ بها الشيعة في عصر الأمويين...411

خلاصة واستنتاج ...413

المصادر والمراجع...419

الفهرس... 431

ص: 439

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.